كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

قال أبو البقاء : متعلق ب « يكون » . وهذا إنما يظهر إذا جعل « كان » تامة ، وأما إذا جعلها ناقصة ففي تعلُّق الظرف بها الخلاف المشهور .
فصل
روي أن عيسى - عليه السلام - لما ادَّعَى النبوةَ ، وأظهر المعجزات ، طالبوه بخَلْق خفاش فأخذ طيناً ، فصوَّره ، فنفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض .
قال وَهْبٌ : كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميِّتاً ، ليتميز فعلُ الخلْق من فعل الخالق .
قيل : خلق الخُفَّاش ، لأنه أكمل الطير خَلْقاً ، وأبلغ في القدرة؛ لأن لها ثَدْياً وأسْنَاناً وأذناً ، وهي تحيض وتطهر وتَلِد .
وقيل : إنما طالبوه بخلق خُفَّاش؛ لأنه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم ، يطير بغير ريش ويلد كما يَلِد الحيوان ، ولا يبيض كما يبيض سائر الطُّيور ، ويكون له الضرع يخرج منه اللبن ، ولا يُبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس سَاعةً ، وبعد طلوع الفجر سَاعةً - قبل أن يُسْفِر جِدًّا - ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة . قال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش . وقال آخرون : إنه خلق أنواعاً من الطّيْرِ .
فصل
قال بعض المتكلمين : دلت الآيةُ على أن الروح جسم رقيقٌ ، كأنه الريح؛ لأنه وصفها بالنفخ ، ثم هاهنا بحث ، وهو أنه هل يجوز أن يقال : إنه - تعالى - أودع في نفس عيسى - عليه السلام - خاصية ، بحيث إذا نفخ في شيء كانت نفخته فيه موجبة لصيرورة ذلك الشيء حَيًّا؟
ويقال : إن الله - تعالى - كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بصورته ، عند نفخ عيسى على سبيل إظهار المعجزات ، وهذا الثاني هو الحق؛ لقوله تعالى : { الذي خَلَقَ الموت والحياة } [ الملك : 2 ] وقال إبراهيمُ عليه السلام لمناظريه : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال . وقوله : { بِإِذْنِ الله } معناه : بتكوين الله وتخليقه؛ لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 145 ] أي بأن يُوجَِ اللهُ الموتَ .
فصل
القرآن دل على أنه - عليه السلام - إنما تولد من نفخ جبريل - عليه السلام - في مريم وجبريل روح محض وروحاني محض ، فكانت نفخة عيسى عليه السلام سبباً للحياة والروح .
قوله : « وأبرئ الأكمه » وأبرئ عطف على « أخْلُقُ » فهو داخل في خبر « أنِّي » . يقال : أبرأت زيد عن العاهة ومن الدِّيْن ، وبَرَّأتك من الدين - بالتضعيف . وبَرَأت من المرض أبْرأ وبَرِئْتُ - أيضاً - وأما برئت من الدَّيْنِ ومن الذَّنْب ، فبَرِئْتُ لا غَيْرُ .
وقال الأصمعيُّ : برئتُ من المرض لغةُ تَمِيم ، وبَرَأتُ لغَةُ الحجازِ .

قال الراغبُ : « بَرَأتُ من المرض وَبَرئْتُ ، وَبَرَأت من فلان » ، فالظاهرُ من هذا أنه لا يقال الوجهان - أعني فتح الراء وكسرها - إلا في البراءة من المرض ونحوه . وأما الدَّيْنُ والذَّنْبُ ونحوهما ، فالفتح ليس إلا .
والبراءة : التخلص من الشيء المكروه مجاورته؛ وكذلك التَّبَري والبراء .
فصل
من وُلِدَ أعْمَى ، يقال : كَمِه يَكْمَهُ فهو أكْمَه .
قال رؤبة : [ الرجز ]
1479- فَارْتَدَّ عَنْهَا كَارْتِدَادِ الأكْمَهِ ... يقال : كمهتها ، أي : أعميتها .
قال الزمخشريُّ والراغبُ وغيرُهما : « الأكمهُ : من وُلِدَ مطموس العينين » ، وهو قول ابنِ عباس وقتادة .
قال الزمخشري : « ولم يوجد في هذه الأمة أكمه غير قتادة صاحب التفسير » .
قال الراغب : « وقد يُقال لمن ذَهَبَتْ عينُه : أكمه » .
قال سُوَيد : [ الرمل ]
1480- كَمِهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى ابْيَضّتَا .. . . .
قال الحسنُ والسُّدِّيُّ : هو الأعمى .
وقال عكرمةُ : هو الأعمش .
وقال مجاهد : هو الذي يبصر بالنهار ولا يُبْصر بالليلز
والبرص : داء معروف ، وهو بياضٌ يَعْتَري الإنسانَ ، ولم تكن العربُ تنْفر من شيء نُفْرَتَها منه ، ويُقال : برص يبرص بَرَصاً ، أي : أصابه ذلك ، ويقال له : الوَضَح ، وفي الحديث : « وَكَانَ بِهَا وَضَحٌ » . والوضَّاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له : الأبرص . ويقال للقمر : أبْرَص؛ لشدة بياضِه .
وقال الراغب « وللنكتة التي عليه » وليس بِظَاهِرٍ ، فَإنَّ النُّكْتَةَ التي عليه سوداء ، والوزغ سامٌّ أبرص ، سُمِّيَ بذلك؛ تشبيهاً بالبرص ، والبريص : الذي يَلْمَع لمعان البرص ويقارب البصيص .
فصل
إنما خَصَّ هذين المرضَيْن لأنهما أعْيا الأطباء ، وكان الغالب في زمن عيسى - عليه السلام - الطبَّ ، فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك .
قال وَهَبٌ : رُبَّما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى - في اليوم الواحد - خَمْسُونَ ألفاً ، من أطاق منهم أن يبلغه بَلَغه ، ومن لم يُطِقُ مَشَى إليه عيسى ، وكان يداويهم بالدُّعاء - على شرط الإيمان - ويُحْيي الموتَى .
قال الكلبيُّ : كان عيسى يُحْيي الموتَى ب « يا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، أخي عَازَرَ » وكان صديقاً له ، ودعا سام من نوح من قبره فخرج حَيًّا ، ومرَّ على ابن عجوز ميت ، فدعا الله عيسى ، فنزل عن سريره حَيًّا ، ورجع إلى أهله وبقي ووُلِدَ لَهُ ، وبنت العاشر أحياها ، وولدت بعد ذلك . وأما العازر فإنه كان تُوُفِّي قبل ذلك بأيام فدعا الله ، فقام - بإذن الله - وَودَكُه يَقْطُر ، وعاش ، ووُلِدَ له . وأما ابنُ العجوزِ ، فإنه مر به محمولاً على سريره ، فدعا الله ، فقام ، ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه إلى أهله ، وأما ابنة العاشر فكان أتى عليها ليلة ، فدعا الله ، فعاشت بعد ذلك ، وولد لها . فلما رأوا ذلك قالوا : إنك تُحْيي من كان موتُه قريباً ، ولعله لم يمت ، بل أصابتهم سكتة فأَحْيِ لنا سام بن نوح ، فقال : دلوني على قبره ، فخرجوا وخرج معهم ، حتى انتهى إلى قبره ، فدعا الله ، فخرج من قبره ، قد شاب رأسُهُ ، فقال له عيسى : كيف شاب رأسُك ولم يكن في زمانكم شَيْبٌ؟ فقال : يا رُوحَ اللهِ ، إنك دعوتني ، فسمعت صوتاً يقول : أجِبْ رُوحَ اللهِ ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن هَوْل ذلك شاب رأسي .

فساله عن النزع ، فقال : يا روح الله ، إن مرارة النزع لم تَذْهَب من حنجرتي - وكان قد مر على وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنةٍ - ثم قال للقوم : صَدِّقُوه؛ فإنه نبيٌّ ، فآمن به بعضُهم ، وكذَّبه بعضُهم ، وقالوا : هذا سحرز
فصل
قَيَّد قوله : { أني أَخْلُقُ } بإذن الله؛ لأنه خارق عظيم ، فأتَى به؛ دفعاً لتوهُّم الإلهية ، ولم يأت فيه فيما عُطِف عليه في قوله : { وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص } ثم قيَّد الخارقَ الثالث - أيضاً - بإذن الله؛ لأنه خارق عظيم أيضاً - وعطف عليه قوله : { وَأُنَبِّئُكُم } من غير تقييد له ونبهه على عِظم ما قبلَه ، ودَفْعاً لوهم من يتوهم فيه الإلهيّة ، أو يكون قد حذف القيد من المعطوفين؛ اكتفاء به في الأول والأول أحسن .
قوله : { بِمَا تَأْكُلُونَ } يجوز في « ما » أن تكون موصولةً - اسميَّة أو حرفيَّة - و نكرة موصوفة . فعلى الأول والثالث تحتاج إلى عامل بخلاف الثاني - عند الجمهور - وكذلك « ما » في قوله : { وَمَا تَدَّخِرُونَ } محتملة لما ذكر . وأتى بهذه الخوارق الأربع بلفظ المضارع؛ دلالةً على تجدُّد ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه .
قوله : { تَدَّخِرُونَ } قراءة العامة بدال مشدَّدةٍ مهملةٍ ، وأصله : تَذتَخِرُونَ - تفتعلون - من الذخر ، وهو التخبية ، يقال : ذَخَر الشيء يَذْخَرُه ذَخْراً ، فهو ذاخرٌ ومذخورٌ - أي : خبَّأه .
قال الشاعر : [ البسيط ]
1481- لَهَا أشَارِيرُ مِنْ لَحْمٍ تُتَمِّرُهُ ... مِنَ الثَّعَالِبِي وَذُخْرٌ مِنْ أرَانِيها
الذخر : فُعْل بمعنى المذخور ، نحو الأكل بمعنى المأكول ، وبعض النحويين يصَحِّفُ هذا البيتَ فيقول : وَوخْزٌ - بالواو والزاي - وقوله : من الثَّعَالِي ، وأرانيها ، يريد : الثعالب ، وأرانبها ، فأبدل الباء الموحدة باثنتين من تحتها .
ولما كان أصله : تَذْتَخِرون ، اجتمعت الذال المعجمة مع تاء الافتعال ، فأبدِلَتْ تاء الافتعال دالاً مهملةً ، فالتقى بذلك متقاربان - الدال والذال - فأبدل الذال - المعجمة - دالاً ، وأدغمها في الذال المعجمة - فصال اللفظ : تَدَّخرون .
وقد قرأ السوسيُّ - في رواية عن أبي عمرو - تَذْدَخِرُون بقلب تاء الافتعال دالاً مهملة من غير إدغام ، وهذا وإن كان جائزاً إلا أن الإدْغامَ هو الفصيح .
وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السّمّال وأيوب السختياني « تَذْخَرُونَ » - بسكون الذَّال المعجمة ، وفَتح الخاء جاءوا به مجرداً على فَعَل ، يقال : ذَخَرته - أي : خبَّأته .
ومن العرب من يقلب تاء الافتعال - في هذا النحو - ذالاً معجمة ، فيقول : اذَّخَر يذخِر - بذال معجمة مشددة ، ومثله اذَّكَر فهو مذّكر .

وسيأتي إن شاء الله تعالى .
قال أبو البقاء : والأصل في « تَدَّخِرُونَ » تَذتَخِرون ، إلاَّ أنَّ الذالَ مجهورة ، والتاء مهموسة ، فلم يجتمعا ، فأبدلت التاء دالاً؛ لأنها من مَخْرَجِها؛ لتقرب من الذال ، ثم أبدِلت الذال دالاً ، وأدغمت . و « في بيوتكم » متعلق ب « تَدَّخِرُونَ » .
فصل
في الآية قولان :
أحدهما : قال السُّديُّ : كان عيسى عليه السلام في الكتّاب يُحَدِّثُ الغِلْمَانَ بما يصنع آباؤهم ، ويقول للغلام : انطلق فقد أكل أهلُك كذا وكذا ، ورفعوا لك كذا وكذا ، فينطلق الصبيُّ إلى أهله ، ويبكي لهم ، حتى يعطوه ذلك الشيءَ ، فيقولون مَنْ أخبرَك بهذا؟ فيقول : عيسى ، فحبسوا صبيانَهُمْ عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فجمعوهم في بيتٍ فجاء عيسى ، وطلبهم ، فقالوا : ليسوا هاهنا . فقال : ما في هذا البيت قالوا : خنازير ، قال عيسى : كذلك يكونون ، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير ، ففشا ذلك في بني إسرائيل ، فهمت به بنو إسرائيل ، فلما خافت عليه أمُّه ، حملته على حمارٍ لها ، وخرجت هاربةً به إلى مصر .
قال قتادةُ : إنما كان هذا في المائدةِ ، وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمَنِّ والسَّلْوَى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد ، فخانوا وخبّأوا ، فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما ادَّخروا ، فمسخهم اللهُ خنازيرَ .
وقال القرطبيُّ : إنه لمَّا أحيا لهم الموتى طلبوا منه آيةً أخرى ، وقالوا : أخبرنا بما نأكل في بيوتنا ، وبما ندخر للغد ، فأخبرهم ، فقال : يا فلان ، أكلتَ كذا وكذا ، وادَّخرت كذا وكذا ، وأنت يا فلان ، أكلت كذا وكذا وادَّخرت كذا وكذا .
فصل
اعلم أن الإخبار عن الغيب على هذا الوجه معجزة؛ وذلك لن المنجِّمين الذين يدعون استخراج الجنيِّ لا يُمكنهم ذلك إلا عن تقدم سؤال يستعينون عند ذلك بآلة ، ويتوصَّلون بها إلى معرفة أحوال الكواكبِ ، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً ، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة فلا يكون إلا بوحي من الله تعالى .
قوله : { إنَّ فِى ذَلِكَ } إشارة غلى جميع ما تقدم من الخوارق ، وأشِير إليها بلفظ الإفْرادِ - وإن كانت جمعاً في المعنى - بتأويل ما ذُكِر .
وقد تقدم أن مصحفَ عبدِ الله وقراءته « لآياتٍ » - بالجمع؛ مراعاةً لما ذكرنا من معنى الجمع ، وهذه الجملة يُحْتَمَل أن تكون من كلام عيسى ، وأن تكون من كلام الله تعالى .
قوله : { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ، أي : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية ، وتدبَّرتموها . وقدر بعضهم صفةً محذوفةً ل « آية » أي : لآية نافعة . قال ابو حيّان : « حتى يتَّجه التعلُّق بهذا الشرط » وفيه نظر؛ إذْ يَصِحّ التعلُّق بالشرط دون تقدير هذه الصفة .
قوله : { مُصَدِّقًا } نَسَقٌ على محل بآيةٍ ، لأن محل « بآيَةٍ » في محل نصبٍ على الحالِ؛ إذ التقدير وجئتكم متلبساً بآيةٍ ومصدقاً .

وقال الفراء والزَّجَّاجُ : نصب « مُصَدِّقاً » على الحال ، المعنى : وجئتكم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ ، وجاز إضمار « جئتكم » ، لدلالة أول الكلام عليه - وهو قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } - ومثله في الكلام : جئته بما يُحِبُّ ومُكْرِماً له .
قال الفراء : « ولا يجوز أن يكون » مُصَدِّقاً « معطوفاً على » وَجِيهاً « ؛ لأنه لو كان كذلك لقال : أو مصدقاً لما بين يديه ، يعني : أنه لو كان معطوفاً عليه؛ لأتى معه بضمير الغيبة ، لا بضمير التكلُّم » . وذكر غير الفرّاء ، ومنع - أيضاً - أن يكون منسوقاً على « رَسُولاً » قال : لأنه لو كان مردوداً عليه لقال : ومصدقاً لما بين يديك؛ لأنه خاطب بذلك مريم ، أو قال : بين يديه .
يعني أنه لو كان معطوفاً على « رَسُولاً » لكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير الخطاب؛ مراعاةً لمريم ، أو بضمير الخطاب مراعاةً للاسم الظاهر .
قال أبو حيّان : وقد ذكرنا أنه يجوز في « رَسُولاً » أن يكون منصوباً بإضمار فعل- أي : وأرسلت رسولاً - فعلى هذا التقدير يكون « مُصَدِّقاً » معطوفاً على « رَسُولاً » .
قوله : { مِنَ التوراة } فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من « ما » الموصولة ، أي : الذي بين يدي حال كونه من التوراةِ ، فالعامل فيه مصدقاً لأنه عامل في صاحب الحالِ .
الثاني : أنه حال من الضمير المُسْتَتِر في الظرف الواقع صِلَةً . والعامل فيه الاستقرارُ المُضْمَرُ في الظرف أو نفس الظرف؛ لقيامه مقامَ الفعل .
فصل
اعلم أنه يجب على كل نبيٍّ أن يكون مُصَدِّقاً لجميع الأنبياء؛ لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة ، فكل مَنْ حصلت له المعجزةُ ، وجب الاعترافُ بنبوته .
قوله : { وَلأُحِلَّ } فيه أوجُهٌ :
أحدها : أنه معطوف على معنى « مُصَدِّقاً » إذ المعنى : جئتكم لأصَدِّقَ ما بين يديَّ ولأحِلَّ لكم ، ومثله من الكلام : جئته مُعْتَذِراً إليه ولأجْتَلِبَ رِضاهُ - أي : دئت لأعتذر ولأجتلب - كذا قال الواحديُّ ، وفيه نظرٌ؛ لأن المعطوف عليه حال ، وهذا تعليلٌ .
قال أبو حيّان : - بعد أن ذكر هذا الوَجْهَ - : « وهذا هو العطف على التوهُّم وليس هذا منه؛ لأن معقولية الحال مخالفة لمعقوليَّة التعليلِ ، والعطف على التوهُّم لا بُدَّ أن يكون المعنى مُتَّحِداً في المعطوف والمعطوف عليه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض .
وكذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
1482- تَقِيٌّ نَقِيٌّ ، لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةً ... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
كيف اتخذ معنى النفي في قوله : لم يُكَثِّرْ ، وفي قوله : ولا بِحَقلَّدٍ ، أي : ليس بمكثر ولا بحقلدٍ .

وكذلك ما جاء منه « .
قال شهابُ الدّينِ : » ويمكن أن يريد هذا القائلُ أنه معطوف على معنى « مُصَدِّقاً » أي : بسبب دلالته على علةٍ محذوفةٍ ، هي موافقة له في اللفظ ، فنسب العطف على معناه ، باعتبار دلالته على العلة المحذوفة لأنها تشاركه في أصل معناه - أعني مدلول المادة - وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العقل « .
الثاني : انه معطوف على عِلَّةٍ مقدرة ، أي : جئتكم بآية ، ولأوسِّعَ عليكم ولأحِلَّ ، أو لأخفِّفَ عنكم ولأحِلَّ ، ونحو ذلك .
الثالث : أنه معمول لفعلٍ مُضْمَرٍ؛ لدلالة ما تقدم عليه ، أي : وجئتكم لأحِلَّ ، فحذف العامل بعد الواو .
والرابع : أنه متعلق بقوله : { وَأَطِيعُونِ } والمعنى اتبعوني لأحِلَّ لكم . وهذا بَعِيدٌ جداً أو مُمتنع .
الخامس : أن يكون { ولأُحِلَّ لَكُمْ } رداً على قوله : » بِآيةٍ « . قال الزمخشريُّ : { وَلأُحِلَّ } رَدٌّ على قوله { بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : جئتكم بآية من ربكم ولأحلَّ .
قال أبو حيان : » ولا يستقيم أن يكون { وَلأُحِلَّ لَكُم } راَّا على « بآيَةٍ » ، لأن « بِآيَةٍ » في موضع حال و « لأحل » تعليل ، ولا يَصِحُّ عطف التعليل على الحال؛ لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوفِ عليه ، فإن عطفت على مصدر ، أو مفعولٍ به ، أو ظرفٍ ، أو حالٍ ، أو تعليل وغير ذلك شارَكه في ذلك المعطوف « .
قال شهاب الدين : ويحتمل أن يكون جوابه ما تقدم من أنه أراد رداً على » بآية « من حيث دلالتها على عمل مقدر .
قوله : { بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } المراد ب » بَعْض « مدلوله في الأصل .
قال أبو عبيدة : إنها - هنا - بمعنى » كل « .
مستدلاًّ بقول لَبِيد : [ الكامل ]
1483- تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أرْضَهَا ... أوْ يَعْتَلِقُ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
يعني كلّ النفوس .
وقد يرد الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الزنا ، والسرقةَ ، والقَتْلَ؛ لأنها كانت محرَّمةً عليهم ، فلو كان المعنى : ولأحِلَّ لكم كُلَّ الذي حُرِّم عليكم لأحلَّ لهم ذلك كلَّه .
واستدل بعضهم على أن » بَعْضاً « بمعنى » كُلّ « بقول الآخر : [ الطويل ]
1484- أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
أي : أهون من كل شر .
واستدل ىخرون بقول الشَّاعِر : [ البسيط ]
1485- إنَّ الأمُورَ إذَا الأحْدَاثُ دَبَّرَهَا ... دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ
أي : في كلها خللاً ، ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن مدلوله مع إمكان صحة معناه؛ إذ مراد لبيد ب » بَعْضَ النُّفُوسِ « نفسه هو والتبعيض في البيت الآخر واضح؛ فإن الشر بعضه أهون من بعضٍ آخر لا من كُلِّه ، وكذلك ليس كل أمر دبره الأحداث كان خَلَلاً ، بل قد يأتي تدبيره خيراً من تدبير الشيخ .

وقرأ العامة : « حُرِّمَ » بالبناء للمفعول ، والفاعل هو الله . وقرأ عكرمة « حَرَّمَ » مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى ، أو الموصول في قوله : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } ؛ لأنه كتاب مُنزَّل ، أو موسى؛ لأنه هو صاحب التوراة ، فأضمر بالدلالة عليه بذكر كتابه .
وقرأ إبراهيم النّخْعِيُّ : « حَرُمَ » - بوزن شَرُفَ وظَرُفَ - ونُسِب الفعل إليه مجازاً للعلم بأن المُحَرِّم هو الله .
فإن قيل : هذه الآية مناقضةٌ للآية التي قبلَها؛ لأنها صريحة في أنه جاء ليُحِلَّ لهم بعض الذي كان محرماً عليهم في التوراة ، وهذا يقتضي أن يكون حكمُه بخلاف حكم التوراة ، وهذا يناقض قوله : { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } .
فالجوابُ : أنه لا مناقضة بين الكلام؛ لأن التصديق بالتوراة ، لا معنى له إلاَّ اعتقاد أن كلَّ ما فيه فهو حق وصواب ، فإذا لم يكن التأبيد مذكوراً في التوراة لم يكن حكمُ عيسَى بتحليل ما كان محرَّماً فيه مناقضاً لكونه مُصَدِّقاً بالتوراة ، كما يَرِدُ النسخُ في الشريعةِ الواحدةِ .
فصل
قال وَهَبٌ : كان عيسى على شريعة موسى ، يقرِّر السبتَ ، ويستقبل بيتَ المَقدِس ، ثم فَسَّرَ قوله : { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } بأمرين :
أحدهما : أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائعَ باطلةً ، ونسبوها إلى موسى ، فجاء عيسى ورفعها ، وأبْطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى - عليهما السلام- .
الثاني : أن الله - تعالى - كان قد حَرَّم عليهم بعضَ الأشياء؛ عقوبةً لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات ، كما قال : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ثم بَقِي ذلك التحريمُ مستمراً على اليهود ، فجاء عيسى ، ورفع عنهم تلك التشديداتِ .
وقال آخرون : إن عيسى رَفَعَ كثيراً من أحكام التوراةِ ، ولم يقدَحْ ذلك في كونه مُصَدِّقاً بالتوراة؛ لِمَأ بينا أن الناسخَ والمنسوخَ كلاهما حَقٌّ وصِدْقٌ ، فرفع السَّبْتَ ، وأقام الأحدَ مُقَامَه .
قوله : { وَجِئْتُكُمْ } هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيداً للأولَى؛ لتقدُّم معناها ولفظها قبل ذلك .
قال أبو البقاء : « هذا تكرير للتوكيد؛ لأنه قد سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها » .
ويحتمل أن تكون للتأسيس؛ لاختلاف متعلَّقها ومتعلَّق ما قبلها .
قال أبو حَيَّانَ : قوله : { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } للتأسيس ، لا للتوكيد لاختلاف متعلقها لقوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وتكون هذه الآية هي { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه } ، لأن هذا القولَ شاهدٌ على صحة رسالتِه؛ إذ جميعُ الرُّسُلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه ، وجعل هذا القولَ آيةَ وعلامةً؛ لأنه رسول كسائر الرُّسُلِ؛ حيث هداه للنظر في أدلَّةِ العقل والاستدلال قاله الزمخشريُّ ، [ وهو صحيح ] .
وقال : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } لأن طاعة الرسولِ من لوازم تَقْوَى اللهِ .
وقوله : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } قراءة العامة بكسر همزة « إنّ » على الإخبار المستأنف؛ وهذا ظاهر على قولنا : إن { جِئْتُكُمْ } تأكيد .

أما إذا جعلناه تأسيساً ، وجُعِلَت الآية هي قوله : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } - بالمعنى المذكور أولاً - فلا يصحُ الاستئناف ، بل يكون الكسر على إضمار القول ، وذلك القول بدلٌ من الآية ، كأن التقدير : وجئتكم بآية من ربكم قَوْلي : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } ، ف « قَوْلِي » بدلٌ من آية ، و « إنّ » وما في حَيِّزها معمول « قولي » ، ويكون قوله : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } اعتراضاً بين البدل والمُبْدَل منه .
وقرئ بفتح الهمزة ، وفيه أوجُهٌ :
أحدها : أنه بدل من « آية » ، كأن التقدير : وجئتكم بأن الله ربي وربكم ، أي : جئتكم بالتوحيد .
وقوله : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } اعتراضٌ أيضاً .
الثاني : أن ذلك على إضمار لام العلة ، ولام العلةِ متعلقة بما بعدها من قوله { فاعبدوه } ، والتقدير : فاعبدوه لأن الله ربي وربكم كقوله : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] إلى أن قال : { فَلْيَعْبُدُواْ } [ قريش : 3 ] إذ التقدير فليعبدوا ، لإيلاف قريش ، وهذا عند سيبويه وأتباعه - ممنوع؛ لأنه متى كان المعمول أنّ وصلتها يمتنع تقديمها على عاملها لا يجيزون : أنَّ زيداً منطق عرفت - تريد عرفت أن زيداً منطلقٌ - للفتح اللفظي ، إذْ تَصَدُّرُها - لفظاً يقتضي كسرها .
الثالث : أن يكون على إسقاط الْخَافِضِ - وهو على - و « على » يتعلق بآية بنفسها ، والتقدير : وجئتكم بآية على أن الله ، كأنه قيل : بعلامة ودلالة على توحيد الله - تعالى - قاله ابنُ عَطِيَّةَ ، وعلى هذا فالجملتان الأمْرِيَّتان اعتراض - أيضاً - وفيه بُعْدٌ .
قوله : { هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } « هذا » إشارة إلى التوحيد المدلول عليه بقوله { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } أو إلى نفس { إِنَّ الله } باعتبار هذا اللفظ هو الصراط المستقيم .

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

الإحساس : الإدراك ببعص الحواسّ الخمس وهي الذوق والشمُّ واللمس والسمع والبصر - يقال : أحسَسْتُ بالشيء وبالشيء وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به ، ويقال : حَسَيْت - بإبدال سينه الثانية ياءً - وأحست بحذف أول سِينيه- .
قال الشاعر : [ الوافر ]
1486- سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا ... أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ
قال سيبويه : ومما شَذَّ من المضاعف - يعني في الحَذْف - فشبيه بباب أقمت ، وليس وذلك قولهم أَحَسْتُ وأَحَسْنَ - يريدون : أحسست وأحسَسْنَ ، وكذلك تفعل به في كل بناء يبنى الفعل فيه ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت : لم أحس ، لم تحذف .
وقيل : الإحساس : الوجود والرؤية ، يقال : هل أحْسَسَْ صاحبَك - أي : وجدته ، أو رأيته؟
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ « الحِسّ » في القرآن على أربعة أضربٍ :
الأول : بمعنى الرؤية ، قال تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } [ آل عمران : 52 ] وقوله تعالى : { أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [ الأنبياء : 12 ] أي رأوه . وقوله { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } [ مريم : 98 ] أي : هل تَرَى منهم؟
الثاني : بمعنى القتل ، قال تعالى : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } [ آل عمران : 152 ] أي : تقتلونهم .
الثالث : بمعنى البحث ، قال تعالى : { فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } [ يوسف : 87 ] .
الرابع : بمعنى الصوت ، قال تعالى : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } [ الأنبياء : 102 ] أي : صَوْتَهَا .
قوله : { مِّنْهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب « أحَسَّ » و « مِنْ » لابتداء الغاية أي : ابتداء الإحساس من جهتهم .
الثاني : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه حال من الكفر ، أي : أحس الكفر حال كونه صادراً منهم .
فصل
في هذا الإحساس وجهان :
أحدهما : أنهم تكلَّمُوا كلمةَ الكُفْرِ فأحَسُّوا ذلك بإذنه .
والثاني : أن يُحْمَلَ على التأويل ، وهو أنه عرف منهم إصرارَهم على الكفر وعزمهم على قتله ، ولما كان ذلك العلم عِلْماً لا شُبْهَةَ فيه ، مثل العلم الحاصل من الحواس - لا جرم - عبر عنه بالإحساس ، واختلفوا في السبب الذي ظهر فيه كفرهم على وُجُوهٍ :
أحدها : قال السُّدِّيُّ : إنه - تعالى - لما بعثه إلى بني إسرائيل ، ودعاهم إلى دينِ اللهِ تعالى فتمردوا وعصوا ، فخافهم واختفى عنهم .
وقيل : نفوه وأخرجوه ، فخرج هو وأمُّه يَسِيحَانِ في الأرض ، فَنَزَلا في قرية على رجل ، فأضافهم ، وأحسن إليهم ، وكان بتلك المدينة ملك جَبَّار ، فجاء ذلك الرجل يوماً حَزِيناً ، مُهْتضمًّا ، ومريم عند امرأته ، فقالت مريم ما شأن زَوْجك؟ أراه كئيباص؟ قالت : لا تسأليني . فقالت : أخبريني ، لعل الله يفرِّج كرْبَتَه ، قالت : إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يطعمه ويطعم جنوده ، ويسقيهم الخمر ، فإن لم يفعل ، عاقبه ، واليوم نوبتنا ، وليس لذلك عندنا سَعَةٌ ، قالت : فقولي له : لا يهتم؛ فإني آمُرُ ابني فيدعو له ، فيُكفى ذلك . فقالت مريم لعيسى يا ولدي ادع الله أن يكفيه ذلك ، فقال : يا أمَّه ، إن فعلتُ ذلك كان فيه شر فقالت : قد احْسَنَ إلينا وأكرمنا ، فقال عيسى : قولي له إذا قَرُب مجيء الملك فاملأ قُدُورَك وجوابيَك [ ماءاً ] ثم أعْلِمْني .

ففعل ذلك ، فدعا الله تعالى - فتحوَّل ما في القدور طبيخاً ، وما في الجوابي خَمْراً ، لم يرى الناس مثلَه ، فلما جاء الملك أكل ، فلما شرب الخمرَ ، قال : من اين هذا الخمر؟ قال : من أرض كذا ، قال الملك : إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال : هذه من أرض أخرى ، فلما خلط على الملك ، واشتد عليه ، قال : أنا أُخْبِرُك ، عندي غلام لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً وكان للملك ابن يُريد أن يستخلفه ، فمات قبل ذلك بأيام - وكان أحبَّ الخلق إليه - فقال : إنه رجل دعا الله حتى جعل الماء خمراً ليُستجابَنَّ له حتى يُحْييَ ابني ، فدعا عيسى فكلمه في ذلك فقا لعيسى : لا تفعل فإنه إن عاش وقع الشر فقال : ما أبالي ما كان - إذا رأيته - قال عيسى : فإن أحيَيْتُهُ تتركني وأمي نذهب حيث شئنا؟ قال : نعم . فدعا الله تعالى - فعاش الغلامُ ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا ، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلفَ علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه؟ فاقتتلوا . وذهب عيسى وأمُّه فمروا بالحواريِّين - وهم يصطادون السمكَ - فقال ما تصنعون؟ قالوا : نصطاد السمك ، قال : أفلا تمشون حتى تصطادوا الناسَ؟ قالوا : مَنْ أنت؟ قال : عيسى ابن مريم ، عبد الله ورسوله ، { مَنْ أنصاري إِلَى الله } ؟ فآمنوا به وانطلقوا معه وصار أمر عيسى مشهوراً في الخلق ، فقصد اليهودُ قتلَه ، وأظهروا الطعن فيه .
وثانيها : أن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشَّر به في التوراة ، وأنه ينسخ دينَهم ، فكانوا هم أوَّل طاعنين فيه ، طالبين قَتْلَهُ ، فلما أظهر الدعوةَ ، اشتد غضبهُم ، وأخذوا في إيذائه وطلبوا قتله .
وثالثها : أن عيسى - عليه السلام - ظنّ من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به ، وأن دعوته لا تنجع فيهم ، فأحب أن يمتحنهم ، ليتحقق ما ظنه بهم ، فقال لهم : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } فما أجابه إلا الحواريُّونَ ، فعند ذلك أحس بأن مَنْ سِوَى الحواريين كافرون ، مصرون على إنكار دينه ، وطلب قتله .
قوله : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } ؟ « أنْصَار » جمع نصير نحو شريف وأشراف .
وقال قوم : هو جمع نَصْر المراد به المصدر ، ويحتاج إلى حذف مضاف أي مَنْ أصْحَابُ نُصْرَتي؟ و « إلى » على بابها ، وتتعلق بمحذوف؛ لنها حال ، تقديره : من أنصاري مضافين إلى الله ، كذا قدره أبو البقاء .
وقال قوم إن « إلَى » بمعنى مع أي : مع الله ، قال الفرَّاء : وهو وجه حسن . وإنما يجوز أن تجعل « إلَى » في موضع « مع » إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه ، كقول العرب : الذود إلى الذَّوْدِ إبل ، أي : مع الذود .

بخلاف قولك : قدم فلان ومعه مال كثير ، فإنه لا يصلح أن يقال : وإليه مال ، وكذا قوله : قدم فلان مع أهله ، ولو قلت إلى أهله لم يصح ، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .
وقد رد أبو البقاء كونَها بمعنى : « مع » فقال : [ وقيل : هي بمعنى : « مع » ] وليس بشيء؛ فإن « إلَى » لا تصلح أن تكون بمعنى « مع » ولا قياس يُعَضِّدُهُ .
وقيل : إن « إلَى » بمعنى اللام من أنصاري لله؟ كقوله : { يهدي إِلَى الحق } ، كذا قدره الفارسي .
وقيل : ضمَّن أنصاري معنى الإضافة ، أي : من يضيف نفسه إلى الله في نصرتي ، فيكون « إلَى الله » متعلقاً بنفس « أنصاري » .
وقيل : متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في « أنْصَارِي » أي : مَنْ أنصاري ذَاهِباً إلى الله ملتجِئاً إليه ، قاله الزمخشريُّ .
وقيل : التقدير : من أنصاري إلى أن أبَيِّن أمر الله ، وإلى أن أظهر دينه ، ويكون « إلَى » هاهنا غاية؛ كأنه أراد : من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ، ويظهر أمرُ الله؟
وقيل : المعنى : من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه؟
وفي الحديث : أنه - عليه السلام - كان يقول - إذا ضَحَّى- : « اللَّهُمَّ مِنْكَ وإلَيْكَ » أي تقرّبنا إليك .
وقيل : « إلى » بمعنى : « في » تقديره : من أنصاري في سبيل الله؟ قاله الحسنُ .
فصل
والحواريون ، جمع حواري ، وهو النّاصرُ ، وهو مصروفٌ - وإن ماثل « مفاعل » ؛ لأن ياء النسب فيه عارضة ومثله حَوَاليّ - وهو المحتال - وهذا بخلاف : قَمَارِيّ وَبخَاتِيّ ، فإنهما ممنوعان من الصرف ، والفرق أن الياء في حواريّ وحواليّ - عارضة ، بخلافها في قَمَاري وبخاتيّ فإنها موجودة - قبل جمعهما - في قولك قُمْريّ وبُخْتِيّ . والحواريّ : الناصر - كما تقدم - ويُسَمَّى كل من تبع نبياً ونصره : حوارياً؛ تسمية له باسم أولئك؛ تشبيهاً بهم ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم في الزبير : « ابن عمتي وحواريّ أمتي » وفيه أيضاً - « إنَّ لكل نبي حواريًّا وحواريي الزُّبَيْر » ، وقال معمر قال قتادة : إن الحواريّين كلهم من قريش : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحمزة ، وجعفر ، وأبو عبيدةِ بن الجراح ، وعثمان بن مَظْعُون وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وَقّاصِ وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوامِ - رضي الله عنهم أجمعين . وقيل : الحواريّ : هو صفوة الرجل وخالصته واشتقاقه من جِرتُ الثوب ، أي : أخلصت بياضَه بالغَسْل ، ومنه سُمِّي القَصَّار حوارياً؛ لتنظيفه الثياب ، وفي التفسير : إن أتباع عيسى كانوا قصارين .

قال أبو عبيدة : سمي اصحاب عيسى الحواريون للبياض وكانوا قصارين .
وقال الفرزدق : [ البسيط ]
1487- فَقُلْتُ : إنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ ... إذَا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلاَبِيْبِ
يعني النساء؛ لبياضهن وصفاء لونهن - ولا سيما المترفِّهات - يقال لهن : الحواريات ، ولذلك قال الزَّمَخْشَريُّ : وحواري الرَّجُلِ : صفوته وخالصته ، ومنه قيل للحضريات : الحواريات؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن .
[ وأنشد لأبي حلزة اليشكري ] : [ الطويل ]
1488- فَقُلْ للحَوَارِيَّاتِ : يبكين غيرَنا ... ولا تبكِنا إلا الكلابُ النوابحُ
ومنه سميت الحور العين؛ لبياضهن ونظافتهن ، والاشتقاق من الحور ، وهو تبيض الثياب وغيرها :
وقال الضّحّاكُ : هم الغَسَّالون وهم بلغة النبط - وهواري - بالهاء مكان الحاء- .
قال ابن الأنباري : فمن قال بهذا القول قال : هذا حرف اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبطِ وهو قول مقاتل بن سليمان إن الحواريين هم القصارون .
وقيل : « هم المجاهدون » كذا نقله ابنُ الأنباريّ .
وأنشد : [ الطويل ]
1489- وَنَحْنُ أُنَاسٌ تَمْلأُ البِيْضُ هَامُنَا ... وَنَحْنُ الحَوَارِيُّونَ يَوْمَ نُزَاحِفُ
جَمَاجِمُنَا يَوْمَ اللِّقَاءِ تُرُوسُنَا ... إلَى الْمَوْتِ نَمْشِي لَيْسَ فِينَا تَجَانُفُ
قال الواحديُّ : والمختار - من هذه الأقوال عند أهل اللغة - أن هذا الاسم لزمهم للبياض ثم ذكر ما تقدم عن أبي عبيدة .
وقال الراغبُ : حوَّرت الشيء : بيَّضت ودوَّرته ، ومنه الخبز الحُوَّارَى ، والحواريُّون : أنصار عيسى .
وقيل : اشتقاقه من حار يَحُور - أي : رَجَع . قال تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الانشقاق : 14 ] . أي لن يرجع ، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى حار يحور حَوَراً - أي : رجع - وحار يحور حَوَراً - إذا تردَّد في مكانه ومنه : حار الماء في القدر ، وحار في أمره ، وتحيَّر فيه ، وأصله تَحَيْوَرَ ، فقُلِبَت الواوُ ياءً ، فوزنه تَفَيْعَل ، لا تفعَّل؛ إذْ لو كان تفعّل لقيل : تحوَّر نحو تجوَّز ومنه قيل للعود الذي تُشَدُّ عليه البكرة : مِحْوَر؛ لتردُّدِهِ ، ومَحَارة الأذُنِ ، لظاهره المنقعر - تشبيهاً بمحارة الماء؛ لتردُّد الهواء بالصوت كتردُّد الماء في المحارة ، والقوم في حوارى أي : في تَرَدُّد إلى نقصان ، ومنه : « نعوذ بالله من الحور بعد الكور » وفيه تفسيران : أحدهما : نعوذ بالله من التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه والثاني : نعوذ بالله من النقصان والتردُّد في الحال بعد الزيادةِ فيها .
ويقال : حَارَ بعدما كان . والمحاورة : المرادَّة في [ الكلام ] ، وكذلك التحاورُ ، والحوار ، ومنه : { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } [ الكهف : 34 ] و { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } [ المجادلة : 1 ] ومنه أيضاً : كلمته فما رجع إليَّ حواراً وحَوِيراً ومَحُورة وما يعيش بحَوْر - أي : بعَقْل يرجع إليه . والحور : ظهور قَلِيلِ بَيَاض في العين من السواد ، وذلك نهاية الحُسْنِ في العينِ ، يقال - منه - : أحورت عينه ، والمذكر أحور ، والمؤنث حوراء والجمع فيهما حور - نحو حُمر في جمع أحمر وحمراء- .
وقيل : سُمِّيت الحوراءُ حوراء لذلك .
وقيل : اشتقاقهم من نقاء القلب وخلوصه وصدقه ، قاله أبو البقاء والضَّحَّاك ، وهو راجع للمعنى الأول من خلوص البياض ، فهو مجاز عن التنظيف من الآثام ، وما يشوب الدين .

قاله ابن المبارك : سُمُّوا بذلك؛ لما عليهم من أثر العبادة ونورها .
وقال رَوْحُ بن قَاسِم : سألت قتادةَ عن الحواريِّين ، فقال : هم الذين تَصْلُح لهم الخلافةُ ، وعنه أنه قال : الحواريون هم الوزراء .
والياء في « حواريّ وحواليّ » ليست للنسب ، بل زيادة كزيادتها في كُرْسِيٍّ ، وقرأ العامة « الْحَوَارِيُّونَ » بتشديد الياء في جميع القرآن ، وقرأ الثَّقَفِي والنخعيّ بتخفيفها في جميع القرأن ، قالوا : لأن التشديد ثقيل .
وكان قياس هذه القراءة أن يُقال فيها : الحوارون؛ وذلك أنه يستثقل الضمة على الياء المكسور ما قبلها ، فتنتقل ضمة الياءِ إلى ما قبلها ، فتَسْكُن الياء ، فيلتقي ساكنان ، فيحذفوا الياء؛ لالتقاء الساكنين ، وهذا نحو جا ءالقاضون ، الأصل : القاضيون ، فَفَعَلُوا به ما ذُكِر . قالوا : وإنما أقِرَّت ضمةُ الياء عليها؛ تنبيهاً على أن التشديد مُرادٌ؛ لأن التشديد يتحمل الضمة ، كما ذهب الأخفشُ في « يَسْتَهْزِيُونَ » إذ أبدل الهمزةَ ياءً مضمومةً ، وإنما بقيت الضمة؛ تنبيهاً على الهمزة .
فصل في المراد ب « الحواريين »
اختلفوا في الحواريين ، فقال مجاهد والسُّدِّيُّ : كانوا صيادين يصطادون السمك وسُمُّوا حواريين؛ لبياض ثيابهم ، وذلك أن عيسى لما خرج سائحاً مَرَّ بجماعة يصطادون السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويُوحَنَّا بني رودي وهم منه جملة الحواريين الاثني عشر ، فقال لهم عيسى : أنتم تصيدون السمك ، فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناسَ بحياة الأبد ، قالوا : ومن أنت؟ قال : عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجز ، وكان شمعون قد رَمَى شبكته تلك الليلة ، فما اصطاد شيئاً ، فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة ما كادت تتمزق ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا سفينتين ، فعند ذلك آمنوا بعيسى صلى الله عليه وسلم .
وقال الحسنُ : كانوا قصَّارين ، سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يحوِّرون الثيابَ ، أي يبيِّضونها .
وقيل : كانوا ملاَّحين وكانوا اثني عشر رجلاً ، اتَّبعوا عيسى ، وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روحَ الله جعلنا ، فيضرب بيده الأرضَ ، فيخرج لكل واحد رغيفانِ ، وإذا عطشوا قالوا : عطشنا ، فيضرب بيده الأرضَ فيخرج الماء ، فيشربون ، فقالوا : من أفضل منا؛ إذا شئنا أُطعِمْنَا ، وإذا شئنا استقينا ، وقد آمنا بك؟ فقال : أفضل منكم مَنْ يعمل بيده ، ويأكل من كَسْبه ، قال : فصاروا يَغْسِلُون الثيابَ بالكراء ، فسُمُّوا حَوَاريِّين .
وقيل : كانوا ملوكاً ، وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً ، وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلامُ على قصعة منها ، فكانت القصعة لا تنقص ، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك ، فقال : أتعرفونه؟ قالوا : نعم فذهبوا ، فجاءوا بعيسى ، فقال : من أنت؟ قال عيسى ابن مريم ، قال : وأنا أترك ملكي وأتبعك ، فتبعه ذلك الملك مع أقاربه ، فأولئك هم الحواريون .

وقيل : إن أمه سلَّمته إلى صَبَّاغ ، فكان إذا أراد أن يعلِّمَه شيئاً كان هو أعلم به منه ، فأراد الصباغ أن يغيب يوماً لبعض مُهمَّاتِه ، فقال له : هاهنا ثياب مختلفة ، وقد جعلت على كل واحد علامةً معينةً ، فاصبغها بتلك الألوان حتى يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب ، فطبخ عيسى صلى الله عليه وسلم جُبًّا واحداً ، وجعل الجميع فيه ، وقال : كوني بإذن الله كما أريد ، فرجع الصباغ ، وسأله ، فأخبره بما فعل ، فقال : أفسدت عليَّ الثيابَ ، قال : قم فانظر ، فكان يخرج ثوباً أخضر ، وثوباً أصفر ، وثوباً أحمر ، - كما كان يريد - إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به ، وهم الحواريُّونَ .
قال القفَّال : ويجوز أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السَّمكِ ، وبعضهم من القصَّارين ، وبعضهم من الصبَّاغين ، والكل سموا بالحواريين؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى - عليه السلام - وأعوانه ، والمخلصين في محبته وطاعته .
قوله : { قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله } أي : أنصار أنبيائه؛ لأن نُصْرَةَ اللهِ - في الحقيقة - محالٌ . { آمَنَّا بالله } هذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى : أنه يجب علينا أن نكون من أنصار الله؛ لأجل أن آمنا به؛ فإن الإيمان بالله يوجب نُصْرَةَ دينِ الله ، والذَّبَّ عن أوليائه ، والمحاربة لأعدائه ، ثم قالوا : { واشهد } يا عيسى { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لما تريد منا من نُصْرَتِك .
ويحتمل أن يكون ذلك إقراراً منهم بأن دينَهم الإسلام ، وأنه دين كلّ الأنبياء - عليهم السلام - ولما أشهدوا عيسى على إيمانهم تضرَّعوا غلى الله ، وقالوا : { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ واتبعنا الرسول } عيسى { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق .
وقال عطاء : مع النبيين؛ لأن كل نبي شاهد أمته ، وقد أجاب الله دعاءهم ، وجعلهم مثل الأنبياء والرسل وأحيوا الموتى كما صنع عيسى - عليه السلام- .
قال ابن عباس : مع محمد وأمته ، قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] .
وقيل : اجعلنا من تلك الفرقة الذين فرنتَ ذكرَهم بذكرِك في قولك : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } [ آل عمران : 18 ] . قوله : { مَعَ الشاهدين } حال من مفعول { فاكتبنا } وفي الكلام حذف ، أي : مع الشاهدين لك بالوحدانية . قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } من باب المقابلة ، أي : لا يجوز أن يوصف - تعالى - بالمكر إلاَّ لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به . هكذا قيل ، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم } [ الأعراف : 99 ] والمكر في اللغة أصله الستر ، يقال : مكر اللَّيْلُ ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه .
قال القرطبي : وأصل المكر في اللغة : الاحتيال والخِداع ، والمكر : خَدَالةُ الساق ، والمكر : ضَرْب من النبات ويقال : بل هو المَغْرَة ، حكاه ابنُ فارس ، قالوا : واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملقف ، تخيلوا منه أن المكر منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه ، وامرأة ممكورة الخَلْق ، أي : ملتفة الجسم ، وكذا ممكورة البَطْن .

ثم أطلق المكر على الخُبْث والخداع ، ولذلك عبر عنه بعض أهل اللغة بأنه السعيُ بالفساد ، قال الزّجّاجُ هو من مكر الليل وأمكر أي أظلم ، وعب ربعضهم عنه فقال هو صرف الغير عما يقصده بحيلةٍ ، وذلك ضربان : محمود ، وهو ان يتحرَّى به فِعْلَ جَميلٍ ، وعلى ذلك قوله : { والله خَيْرُ الماكرين } . ومذموم ، وهو أن يتحرَّى به فعل قبيح ، نحو : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] ٍ .
فصل
أمَّا مَكْرُهُمْ بعيسى - عليه السلام - فهو أن عيسى لما خرج عن قومه - هو وأمه - عاد إليهم مع الحواريين ، وصاح فيهم بالدعوة ، فَهَمُّوا بقتله ، فذلك مكرهم به . وأما مكرُ الله بهم ففيه وجوه :
أحدها : أن مكر الله استدرَاج العبد ، وأخذه بغتةً من حيث لا يعلم ، كما قال { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] .
وقال الزّجّاج : « مكر الله » مجازاتهم على مكرهم ، فسَمَّى الجزاءَ باسم الابتداء؛ لأنه في مقابلته ، كقوله : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] وقوله : { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] . ومكر الله - تعالى - خاصة بهم في هذه الآية هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وذلك أن اليهود أرادوا قتلَ عيسى ، وكان جبريل لا يفارقه ساعةً واحدةً ، وهو معنى قوله : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } [ البقرة : 87 ] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل أن يدخل بيتاً فيه رَوْزَنَةٌ ، فلما دخلوا أخرجه جبريل من تلك الروزنة ، وكان قد ألقي شبهه على غيره ، فأخِذ ، وصُلِب ، فتفرَّق الحاضرون ثلاث فرقٍ :
فرقة قالوا : كان الله فينا فذهب . والأخْرَى قالت : ابن الله . والثالثة قالت : كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء فصار لكل فرقة جمع ، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنة إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن الحواريين كانوا اثني عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت ، فنافق واحدٌ منهم ، ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ، ورفع عيسى ، فأخذوا ذلك المنافقَ الذي كان منهم وقتلوه ، وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام ، ثم قالوا : وجهه يُشْبِه وَجْه عيسى ، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا ، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا عيسى ، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا ، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتالٌ عظيمٌ ، حتى قتل بعضهم ، فذلك هو مكرُ اللهِ بهم .
الثالث : قال محمدُ بنُ إسحاقَ : إن اليهودَ عَذبُوا الحواريين بعد أن رُفِع عيسى عليه السلام ، ولَقُوا منهم الجهد ، فبلغ ذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته ، فقيل له : إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله ، وأراهم إحياء الموتَى ، وإبراء الأكْمَهِ والأبرصِ ، وفَعَل وَفََل ، فقال : لو علمتُ ذلك ما خَلَّيْتُ بينهم وبينه .

ثم بعث إلى الحواريين ، فانتزعهم من أيديهم وسالهم عن عيسى ، فأخبروه وبايعوه على دينهم ، وأنزل المصلوب ، فغيبه ، وأخذ الخشبة ، فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خَلْقاً عظيماً ، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس ، وصار نصرانياً إلا أنه ما أظهَر ذلك ، ثم جاء بعده ملك آخرُ يقال طبطيوس غزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فقتل وسبى ، ولم يترك في مدينة بيت المقدسِ حجراً على حجر ، فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز ، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى به على تكذيب المسيح والهَمِّ بقَتْله .
الرابع : أن الله تعالى سلَّط عليهم ملك فارس ، فقتلهم ، وسباهم ، وهو قوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار } [ الإسراء : 5 ] فهذا هو مكر الله - تعالى - بهم .
الخامس : يحتمل أن يكون المراد منهم أنهم مكروا في إخفاء أمره ، وإبطال دينه ، ومكر الله بهم ، حيثُ أعلى دينَهُ ، وأظهر شَرِيعَتَهُ ، وقهر بالذل أعداءَه - وهم اليهود .
وفي قوله : { والله خَيْرُ الماكرين } إيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمر؛ إذ الأصل : ومكروا ومكر اللهُ ، وَهُوَ خَيرُ بالْماكِرِينَ
قوله : { إِذْ قَالَ الله } في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : قوله : { وَمَكَرَ الله } أي : مكر الله بهم في هذا الوقت .
الثاني : { خَيْرُ الماكرين } .
الثالث : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } ، فيه وجهان :
أحدهما : وهو الأظهر - أن يكون الكلام على حاله - من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه - بمعنى إني مستوفي أجلك ومؤخرك وعاصمك من أن يقتلكَ الكفارُ ، إلى أن تموت حتفَ أنفِك - من غير أن تُقتَل بأيدي الكفار - ورافعك إلى سمائي .
الثاني : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، والأصلُ : رافعك إليَّ ومتوفيك؛ لأنه رُفِعَ إلى السماء ، ثم يتوفى بعد ذلك ، واواو للجمع ، فلا فرق بين التقديمِ والتأخيرِ قاله أبو البقاء .
ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان إقرار كل واحد في مكانه مما تقدم من المعنى ، إلا أن أب البقاء حمل التوفي على الموت ، وذلك إنما هو بَعْدَ رَفْعِه ، ونزلوه إلى الأرض وحُكمِه بِشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديثِ . فعلى الأول ففيه وجوهٌ :
أحدها : إني متمم عمرك ، وإذا تَمَّ عمرُك فحينئذٍ أتوفَّاك كما قدمناه .
الثاني : إني مُميتُك ، والمقصود منه ألا يصل أعدؤه من اليهود إلى قتله . وهو مروي عن ابن عبَّاسٍ ومحمد بن إسحاق ، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : قال وَهْبٌ : تُوفِّي ثلاثَ ساعاتٍ ، ثم رُفِع وأحْيِيَ .
الثاني : قال محمد بن إسحاق : توفي سبع ساعات ، ثم أحياه الله ورفعه .

الثالث : قال الربيع بن أنس : إنه - تعالى - أنامه حال رفعه إلى السماء ، قال تعالى { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] .
وثالثها : أن الواو لا تفيد الترتيب ، فالأمر فيه موقوف على الدليل ، وقد ثبت أنه حي ، وأنه ينزل ويقتل الدجال ثم يتوفاه الله بعد ذلكز
رابعها : إني متوفيك عن شهواتك ، وحظوظ نفسك ، فيصير حاله كحال الملائكة- في زوال [ الشهوات ] والغضب والأخلاق الذميمة- .
خامسها : أن التَّوفِّيَ اخذ الشيء وافياً ، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو رُوحهُ ، لا جَسَدُهُ ، ذكر ذلك؛ ليدل على أنه - عليه السلام - رفع بتمامه إلى السماء - بروحه وجسده .
وسادسها : إني متوفيك ، أي جاعلك كالمتوفى؛ لأنه إذا رفع إلى السماء ، وانقطع خبره ، وأثره عن الأرض كان كالمتوفى ، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن .
وسابعها : أن التوفِّي هو القبض ، يقال : فلان وفاني دراهمي ، ووافاني ، وتوفيتها منه ، كما يقال سلم فلان درامي إلي ، وتسلمتها منه . فإن قيل : فعلى هذا يكون التوفي في عين الرفع ، فيصير قوله : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } تكراراً ، فالجواب : أن قوله { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } يدل على حُصُولِ التَّوفِّي ، وهو جنس تحته أنواع ، بعضها بالموتِ وبعضُها بالإصعادِ ، فلما قال : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } صار تعييناً للنوع ، فلم يكن تكراراً .
ثامنها : أن يقدر حذف مضاف ، أي : متوفي عملك ، بمعنى مستوفي عملك ، ورافعك إليَّ ، أي : ورافع عملك إليّ ، كقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] والمرادُ منه : أنه تعالى بشره بقبول طاعاتِهِ وأعماله ، وعرَّفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق - في نشر دينه ، وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يُضيع أجره ، ولا يهدر ثوابهُ .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حكماً عدلاً ، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ ، فَيَفِيضُ الْمَالُ ، حَتَّى لا يَقْبَلُهُ أحَدٌ » .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى : « وَيُهْلَكُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّها إلاَّ الإسْلاَم وَيُهْلَكُ الدَّجَّال ، فَيَمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً ، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ » .
وقيل للحُسَيْن بن الفضل : هل تجدُ نزولَ عيسى في القرآن؟ قال : نعم ، قوله : { وَكَهْلاً } وهو لم يكتهل في الدنيا ، وإنما معناه : { وَكَهْلاً } بعد نزوله من السماء .
فصل
قال القرطبيُّ : « والصحيح أن الله تعالى - رفعه من غير وفاةْ ولا نومٍ - كما قال الحسنُ وابنُ زيد - وهو اختيار الطبريِّ ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس » .
وقال الضحاك : وكانت القصة أنهم لما أرادوا قَتْلَ عيسى عليه السلام اجتمع الحواريُّونَ في غرفة - وهم اثنا عشرَ رَجُلاً ، فدخل عليهمُ المسيحُ من مشكاةِ الغرفةِ ، فأخبر إبليس جَميع الْيَهُودِ ، فركب منهم أربعة آلاف رجلٍ ، فأخذوا بباب الغرفة ، فقال المسيح للحواريين : أيُّكُمْ يخرج ، ويقتل ، ويكون معي في الجنة؟ فقال واحدٌ منهم أنا يا نبيَّ الله ، فألقَى إليه مدرعة من صوف ، وعمامة من صوفٍ ، ونَاوَلَه عُكَّازه ، وألقي عليه شبه عيسى ، فخرج على اليهود فقتلوه ، وصلبوه ، وأما عيسى فكساه اللهُ الرِّيشَ ، وألبسه النورَ ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ، فَطَارَ مع الملائكة ، ثم إن اصحابه تفرقوا ثلاث فرق :
فقالت فرقة : كان اللهُ فينا ، ثم صعد إلى السماء ، وهم اليعقوبية .

وقالت فرقة : كان فينا ابن الله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهم النسطورية .
وقالت فرقة : كان فينا عبدُ الله ورسوله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهؤلاء هم المسلمون .
فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يَزَل الإسلامُ طامساً حتى بَعَثَ اللهُ محمداً صلى الله عليه وسلم { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } [ الصف : 14 ] الآية على ما سيأتي من السورة إن شاء الله تعالى .
قوله : { وَرَافِعُكَ إلَيَّ } تمسَّك القائلون بالاستعلاء بهذه الآية ، وأجيبُوا عنها بوجوهٍ :
أحدها : أن المراد إلى محل كرامتي ، كقول إبراهيم : « إنِّي ذاهبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ » وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من « العراق » إلى « الشام » ، ويُسَمَّى الحُجَّاجُ زُوَّارَ الله ، والمجاورون جيران الله ، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم ، فكذا هاهنا .
وثانيها : أن معناه [ رافعك إلى مكان ] لا يملك الحكم عليه فيه غيرُ اللهِ؛ لأن في الأرض قد يتولى الخلقَ أنواعُ الحُكَّامِ ، أمَّا السموات فلا حاكم هناك - في الظاهر وفي الحقيقة - إلا اللهُ .
وثالثها : أن القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك المكان سبباً لانتفاعه ، بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبهُ من الثواب والرَّوح والريحان والراحة ، فلا بد من حمل اللفظِ على أن المراد : ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك ، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يَبْقَ في الآية دلالة على ما ذكروه .
قوله : { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } معناه مُخْرِجك من بينهم ، ومُنَجِّيك ، فكما عظَّم شأنَه بلفظ الرفع ، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنَه بلفظ الرفع ، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنِه وتعظيم منصبه عند الله تعالى .
قوله : { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك } فيه قولان :
أظهرهما : أنه خطاب لعيسى عليه السلام .
الثاني : أنه خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم فيكون الوقف على قوله : { مِنَ الذين كَفَرُواْ } تاماً ، والابتداء بما بعده ، وجاز هذا؛ لدلالة الحال عليه . و { فَوْقَ الذين كَفَرُواْ } ثاني مفعولي { وَجَاعِلُ } لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط .

و { إلى يَوْمِ القيامة } متعلق بالجَعْل ، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم . ويجوز أن يتعلق الاستقرار المقدَّر في فَوْقَ أي : جاعلهم قاهرين لهم ، إلى يَوْمِ القيامةِ ، يعني أنهم ظاهرون على اليهود ، وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا ، فأما يوم القيامة ، فَيَحْكُمُ اللهُ بينهم ، فيدخل الطائع الجَنَّةَ ، والعاصي النَّارَ وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا ، وانقضائها؛ لن لهم استعلاءٌ آخر غير هذا الاستعلاء .
قال أبو حيّان : « والظاهر أن » إلى « تتعلق بمحذوف وهو العامل في » فَوْقَ « وهو المفعول الثاني ل » َجَاعِل « إذْ معنى » جاعل « هنا مُصَيِّر ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة . وهذا على أن الفوقية مجاز ، أما إن كانت الفوقية حقيقة - وهي الفوقية في الجنة - فلا تتعلق » إلى « بذلك المحذوف ، بل بما تقدم من » مُتَوَفِّيك « أو من » رَافِعُكَ « أو من » مُطَهِّرُكَ « إذْ يصح تعلُّقه بكل واحد منها ، أما تعلقه ب » رَافِعُكَ « أو ب » مُطَهِّرُكَ « فظاهر ، وأما ب » مُتَوَفِّيكَ « فعلى بعض الأقوال » .
يعني ببعض الأقوال أن التوفي يُرادُ به : قابضك من الأرض من غير موت ، وهو قول جماعة - كالحسن والكلبي [ وابن جريج ] وابن زيد وغيرهم . أو يراد به ما ذكره الزمخشريُّ : وهو مُسْتَوْفٍ أجلك ، ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلَكَ الكفارُ ، ومؤخِّرُك إلى أجل كتبتُهُ لك ، ومميتك حَتْفَ أنفكِ لا قَتْلاً بأيدي الكفار ، وإن على قول مَنْ يقول : إنه تَوَفٍّ حقيقةً فلا يُتَصَوَّر تعلُّقه به؛ لأن القائلَ بذلك لم يَقُل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة ، بل قائل يقول : إنه تُوُفِّي ثَلاثَ ساعاتٍ ، بقدر ما رفع إلى سمائه حتّى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْرٌ في اليقظة . وعلى هذا الذي ذكره أبو حيان يجوز أن تكون المسألة من الإعمال ، ويكون قد تنازع في هذا الجار ثلاثةُ عواملَ ، وإذا ضَمَمْنَا إليها كَوَن الفوقية مجازاً تنازع فيها أربعة عوامل ، والظاهر أنه متعلق ب « جَاعِل » . وقد تقدم أن أبا عمرو يسكن ميم « أحكم » ونحوه قبل الباء .
فصل
قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ ومقاتل والكلبيُّ : الذي اتبعوه هم أهْلُ الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينَه في التوحيد من أمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم فهم فوق الذين كفروا ظاهرين بالعزة ، والمنعة ، والحُجَّةِ .
قال الضحاك : يعني الحواريين .
وقيل : هم الروم .
وقيل : النصارى ، فَهُمْ فَوْقَ اليهود إلى يَوْمِ القيامةِ ، فإن اليهود قد ذهب ملكُهم ، وملك النصارى يدوم إلى قريب من قيام الساعة . وعلى هذا الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين ، فإن النصارى - وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم مخالفون له أشَدَّ مخالفةٍ؛ لأن صريح العقل يشهد بأن عيسى ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجُهَّالُ ، ومع ذلك فإنا نرى دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود ، ولا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهوديًّا ولا بلدة مملوءة من اليهود ، بل يكونون - أيْنَما كانوا - في الذلة والمسكنة ، والنصارى بخلاف ذلك .

فصل
قال أهلُ التّاريخِ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاثَ عشْرَةَ سنةً ، وولدت عيسى ببيت لحم لمضيّ خمس وستين سنةً من غلبة الاسكندر على أهل بابل ، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنةً ورفعه من بيت المقْدِس ليلة القدر في شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثينَ سنة ، فكانت نبوته ثلاث سنين ، وعاشت أمُّه مريم بعد رفعه ست سنين .
فصل
قال ابنُ الْخَطِيبِ : في مباحث هذه الآية موضعٌ مشكل ، وهو أن نَصَّ القرآن يدل على أنه - تعالى - حين رفعه ألقى شبهه على غيره ، على ما قال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } [ النساء : 157 ] والخبار واردة أيْضاً بذلك ، إلا أن الرواياتِ اختلفت ، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شَبَهَهُ عليه حتى يُقْتَل في مكانه ، وبالجملة ففي إلقاء شَبَهِهِ على الغير إشكالات :
الأول : أنا لو جوَّزنا إلقاء شَبَه إنسان على إنسان آخر ، لزم السفسطة؛ فإني إذا رأيتُ ولدي ، ثم زينته ثانياً فحينذئ أجوِّزُ أن يكون هذا الذي أراه ثانياً ليس ولدي ، بل هو إنسان آخر أُلْقِي شَبَهُهُ عليه وحينئذٍ يرتفع الأمانُ عن المحسوسات .
وأيضاً فالصحابة الذين رأوْا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يأمرهم ، ويَنْهَاهُمْ ، وجب أن لا يعرفوا أنه محمدٌ؛ لاحتمال أنه ألقي شبهه على الغير ، وذلك يُفْضِي إلى سقوط الشرائعِ .
وأيضاً فمدار الأمرِ في الأخبار المتواترةِ على أن يكون المُخْبر الأول إنما أخبر عن المحسوس ، فإذا [ جاز ] الغلط في المبصرات كان سقوط الخبر المتواتر أولى ، وبالجملة ، فَفَتْحُ هذا البابِ أوله السفسطةُ ، وآخره إبطالُ النبوات بالْكُلِّيَّةِ .
الإشكال الثاني : أن اللهَ - تعالى - كان قد أمر جبريل عليه الصلاة والسلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال ، كذا قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى : { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس } [ المائدة : 110 ] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي للعالم من البشر ، فكيف لم يَكْفِ في منع أولئك اليهود عنه .
وأيضاً إنه عليه السلام - لَمَّا كان قادراً على إحياء الموتَى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة اليهودِ الذين قصدوه بالسوء ، وعلى إسْقامهم ، وإلقاء الزمانة والفَلَج عليهم حتى يصيروا عاجزينَ عن التعرُّضِ له؟
الإشكال الثالث : أنه - تعالى - كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يدفعَه عنهم ، ويرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء الشبه على الغير؟ وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القَتْل من غير فائدة ألبتة؟
الإشكال الرابع : أنه إذا ألقي شبهه على الغير ، ثم إنه رُفِعَ بَعدَ ذلك إلى السماء فالقومُ اعتقدوا فيه أنه عيسى عليه السلام مع أنه ما كان عيسى ، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى .

الإشكال الخامس : أن النصارَى - على كثرتهم في مشارقِ الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح ، وغلوّهم في أمره - أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً ، مصلوباً ، فلو أنكرنا ذلك ، طعَنَّا فيما ثبت بالتواتر ، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكل ذلك باطل .
الإشكال السادس : أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيًّا زماناً طويلاً فلو لم يكن ذلك عيسى - بل كان غيره - لأظهر الجزع ، ولقال : إني لَسْتُ بعيسى - بل إنما أنا غيره - ولبالغ في تعريف هذا المعنى ، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى ، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أنه ليس الأمر على ما ذكرتم .
والجواب ن الأول : أنه كل من أثبت القادرَ المختارَ سلَّم أنه - تعالى - قادرٌ على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زَيْدٍ - مثلاً - ثم إن هذا التجويز لا يوجب الشك المذكور ، فكذا القول فيما ذكرتم .
والجواب عن الثاني : أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه ، أو أقدر الله عيسى على دَفْع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء ، وذلك غير جائز ، وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث؛ فإنه - تعلى لو رفعه إلى السماء ، وما ألْقَى شَبَهَهُ على الغير لبلغت تلك المعجزةُ إلى حَدِّ الإلجاء .
والجواب عن الرابع : أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين ، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة؛ وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس .
والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ، ودخول الشبهة على الجَمْع القليل جائز ، والتواتر إذا انتهى في حد الأمر إلى الْجَمْعِ القليلِ ، لم يكن مُفِيداً للعلم .
والجواب عن السادس : أن بتقدير أن يكون الذي أُلْقِيَ شَبَهُ عيسى عليه كان مُسْلِماً ، وقَبِل ذلك عن عيسى عليه السلام جاز أن يسكت عن تعريف حقيقةِ الحالِ في تلك الواقعةِ .
وبالجملة فالأسئلة المذكورة أمور تتطرق إليها الاحتمالات من بعض الوجوهِ ، ولما ثبت بالمعجز القاطِع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملةِ معارِضَةً للنص القاطع عن الله .
قوله : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } في الآخرة { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدّينِ ، وأمر عيسى عليه السلام؛ التفات من غيبة إلى خطابِ؛ وذلك أنه - تعالى - قدَّم ذِكْر مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه - وهم اليهود - وقدَّم - أيضاً - ذِكْرَ مَنْ آمن به - وهم الحواريون رضي الله عنهم - وقفَّى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل مُتَّبِعِي عيسى فوق مخالفيه ، فلو جاء النظم على هذا السياق - من غير التفات ، لكان : ثم إليّ مرجعهم ، فأحكم بَيْنَهُم فيما كانوا ، ولكنه التفت إلى الخطاب؛ لأنه أبلغ في البشارة ، وأزجر في النذارة .

وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة - أعني : إني مُتَوفِّيكَ وَرَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ وَجَاعِلُ - هذا الترتيب معنًى حَسَنٌ جِدًّا؛ وذلك أنه - تعالى - بشَّره - أولاً - بأنه متوفيه ، ومتولّي أمره ، فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ ، ثم بَشَّرَه - ثانياً - بأنه رافعه إليه - أي : إلى سمائه محل أنبيائه وملائكته ، ومحل عبادته؛ ليسكن فيها ، ويعبدَ ربَّه مع عابديه - ثم - ثالثاً - بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما قذفوه به ، ثم رابعاً - برفعة تابعيه على من خالَفهم؛ ليتمَّ بذلك سروره ، ويكمل فرحه . وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره؛ لأن - الإنسان بنفسه أهم ، وبشأنه أعْنَى ، كقوله : { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا } [ التحريم : 6 ] وفي الحديث : « ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنَ تَعُولُ » .
قوله : { فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ } في محل هذا الموصول قولان :
أظهرهما - وهو الأظهر- : أنه مرفوع على الابتداء ، والخبر الفاء وما بعدها .
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدَّر ، على أن المسألة من باب الاشتغال ، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره ، وهذا وجه ضعيف؛ لأن « أمَّا » لا يليها إلا المبتدأ وإذا لم يَلِها إلا المبتدأ امتنع حمل الاسم بعدها على إضمار فعل ، ومن جوَّز ذلك قال : بأنه يُضْمَر الفعلُ متأخِّراً عن الاسم ، ولا يضمر قبله . قال : لئلا يَلِيَ « أمَّا » فعل - وهي لا يليها الأفعال ألبتة - فَتُقَدِّر - في قولك : أما زيداً فضربتُهُ - أما زيداً ضربتُ فضَرَبْتُه ، وكذا هنا يُقَدَّر : فأما الذين كفروا أعَذِّبُ فأعَذِّبُهُم؛ قدر العامل بعد الصلة ، ولا تقدره قبل الموصول؛ لما ذكرناه . وهذا ينبغي أن لا يجوز؛ لعدم الحاجة إليه مع ارتكابِ وجهٍ ضعيفٍ جدًّا في أفصح الكلامِ .
وقد قرئ شاذًّا { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] بنصب « ثمود » واستضعافها الناس .
فصل
عذاب الكفار - في الدنيا - بالقتل والسبي والجزية والذلة ، وفي الآخرة بالنار أيك في وقت الآخرة بالنار { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } .
فإن قيل : وصف العقاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد ، ولسنا نجد الأمر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار ، وأخرى على المسلمين ، ولا نجد بين الناس تفاوتاً .
فالجوابُ : أن التفاوُتَ في الدنيا موجود؛ لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى - عليه السلام - ، وَنَرى الذِّلَّةَ والمسكنةَ لازمةً لهم .
فإن قيل : أليس قد يمتنع على الأئمة وعلى المؤمنين قتل الكفار؛ بسبب العهد وعقد الذِّمَّة؟
فالجواب : أن المانع من القتل هو العهد ، ولذلك إذا زالَ العهدُ حَلَّ قَتْلُه .

قوله : { وَأَمَّا الذين آمَنُوا } الكلام فيه كالكلام في الموصول قبله .
وقد قرأ حفص عن عاصم والحسن « فَيُوَفِّيهِمْ » - بياء الغيبة - والباقون بالنون . فقراءة حفص على الالتفاتِ من التكلُّم إلى الغيبة؛ تفنُّناً في الفصاحةِ ، وقراءة الباقين جاريةٌ على ما تقدم من إتِّسَاق النظم ، ولكن جاء هناك بالمتكلم وحده ، وهنا بالمتكلم وحده المعظم نفسه؛ اعتناءً بالمؤمنين ، ورفْعاً من شأنهم؛ لمَّا كانوا مُعَظَّمِينَ عندَه .
فصل
دَلّتْ هذه الآية على أن العملَ الصالحَ خارجٌ عن مُسَمَّى الإيمان وقد تقدم ذلك ، واستدلوا بالآية على أن العملَ علةٌ للجزاء؛ لقوله : { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } فشبههم - في عبادتهم لأجل طلب الثّوابِ بالمستأجر .
واحتج المعتزلة بقوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } - بمنزلة قوله : لا يريد ظُلْمَ الظالمين - على أنه تعالى - لا يريد الكفر والمعاصي ، قالوا : لأن مُرِيدَ الشيء لا بد وأن يكون مُحِبًّا له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال ، وإنما تخالف المحبةُ الإرادة إذا علقناهما بالأشخاص ، فقد يقال : أحبّ زيداً ، ولا يقال : أريده . فأما إذا عُلِّقَتا بالأفعال فمعناهما واحد ، إذا استُعْمِلَتَا على حقيقة اللغة ، فصار قوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } بمنزلة قوله : لا يريد ظلم الظالمين كذا قرره القاضي .
وأجيب بأن المحبةَ عبارة عن إرادة إيصالِ الخيرِ إليه فهو - تعالى - وإن أراد كُفْرَ الكافرِ إلا أنه لا يريد إيصالَ الثواب إلَيْه .
قوله : { { ذلك نَتْلُوهُ } يجوز أن يكون « ذَلِكَ » مبتدأ ، « نَتْلُوهُ » الخبر « مِنَ الآيَاتِ » حال أو خبر بعد خبر .
ويجوز أن يكون « ذَلِكَ » منصوباً بفعل مقدَّر يفسِّره ما بعده - فالمسألة من باب الاشتغال - و « مِنَ الآيَاتِ » حال ، أو خبر مبتدأ مُضمَرٍ [ أي : هو من الآيات ، ولكنّ الأحسن الرفعُ بالابتداء؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار ، وعندهم « زيد ضربته » أحسن من « زيداً ضربته » ، ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ مضمر ] ، يعني الأمر ذلك ، و « نَتْلُوهُ » على هذا حال من اسم الإشارة ، و { مِنَ الآيَاتِ } حال من مفعول « نَتْلُوهُ » .
ويجوز أن يكون « ذَلِكَ » موصولاً بمعنى « الذي » و « نَتْلُوهُ » صلة وعائد ، وهو مبتدأ خبره الجار بعده أي : الذي نتلوه عليك كائن من الآيات ، أي : المعجزات الدالة على نبوتك . جوَّز ذلك الزَّجَّاجُ وتبعه الزمخشريُّ ، وهذا مذهب الكوفيين .
أما البصريون فلا يُجيزُون أن يكون اسماً من أسماء الإشارة موصولاً إلا « ذَا » خاصةً ، بشروطٍ تقدم ذكرها؛ ويجوز أن يكون « ذلك » مبتدأ ، و « مِنَ الآيَاتِ » خبره ، و « نَتْلُوهُ » جملة في موضع نصب على الحال ، والعامل معنى اسم الإشارة .

قوله : « نَتْلُوهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه وإن كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنًى ، أي : الذي قدمناه من قصة عيسى وما جرى له تلوناه عليك ، كقوله : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } [ البقرة : 102 ] .
والثاني : أنه على بابه؛ لأن الكلام لم يتم ، ولم يفرغ من قصة عيسى - عليه السلام - إذْ بقي منها بقية .
و « من » فيها وجهانِ :
أظهرهما : أنها تبعيضية؛ لأن المَتلُوَّ عليه - من قصة عيسى - بعض معجزاته وبعض القرآن وهذا أوْجَهُ وأوضحُ . والمرادُ بالآيات - على هذا - العلامات الدالة على نبوتك .
والثاني : أنها لبيان الجنسِ ، وإليه ذهب ابنُ عَطِيَّةَ وبَدَأ به .
قال أبو حيّان : وَلاَ يَتأتَّى ذلك من جهة المعنى إلا بمجاز؛ لأن تقدير « من » البيانية بالموصول ليس بظاهر؛ إذ لو قلتَ : ذلك تتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم لاحتجت إلى تأويل ، وهو أن تجعل بعض الآيات والذكر آياتٍ وذكراً [ على سبيل المجاز ] .
والحكيمُ : صيغة مبالغة محول من « فاعل » . ووصف الكتاب بذلك مجازاً؛ لأن هذه الصفة الحقيقية لمنزِّله والمتكلم به ، فوصف بصفة من هو من سببه - وهو الباري تبارك وتعالى - أو لأنه ناطق بالحكمة أو لأنه أحْكِم في نظمه . وجوزوا أن تكون بمعنى « مُفْعَل » أي : مُحْكَم ، كقوله : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] إلا أن « فعيل » بمعنى « مُفْعَل » قليل ، قد جاءت منه أليْفَاظ ، قالوا : عقدت العسل فهو عقيد ومعقد وحبست الفرس [ في سبيل الله ] فهو حبيس ومُحْبَس . وفي قوله : « نَتْلُوه » التفات من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنه قد تقدمه اسم ظاهر - وهو قوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } - كذا قاله أبو حيّان ، وفيه نظرٌ؛ إذ يُحْتَمل أن يكون قوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } جِيء به اعتراضاً بَيْنَ أبعاض هذه القصَّةِ .
فصل
التلاوة والقصص واحد؛ لأن معناهما يرجع إلى شيء يُذْكَر بعضُه على أثَر بعض ثم إنه تعالى أضاف القصص إلى نفسه فقال : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ] كما أضاف التلاوة إلى نفسه في قوله : { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى } [ القصص : 3 ] ، وذلك يدل على تشريف الملك وتعظيمه؛ لأن التالي على النبي إنما هو الملك ، فَجَعلَ تِلاَوَةَ الْمَلَكِ جَارِيَةً مَجْرَى تِلاَوَتِهِ .
والمراد بالذكر الحكيم هو القرآن .
وقيل : هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذي مِنْهُ نُقِلَت الْكُتُبُ المنزلةُ على الأنبياء - عليهم السلام - أخبر - تعالى - أنَّهُ أنزلَ هذه القَصصَ مما كُتِبَ هنالك .

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)

{ إِنَّ مَثَلَ عيسى } جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بما قبلها تعلقاً صناعياً ، بل معنويًّا . وزعم بَعْضهُمْ أنها جواب القسم ، وذلك القسم هو قوله : { والذكر الحكيم } كأنه قيل : أقسم بالذكر الحكيم أنَّ مثل عيسى ، فَيَكُونُ الْكَلاَمُ قد تم عند قوله : { مِنَ الآيَاتِ } ثم استأنف قسماً ، فالواو حَرْف جَرٍّ ، لا عطف وهذا بَعِيدٌ ، أو مُمْتَنعٌ؛ إذ فيه تفكيكٌ لنَظْم القرآنِ ، وإذْهاب لرونقه وفصاحته .
قوله : { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } في هذه الجملة وَجْهَانِ :
أظهرهما : أنها مفسِّرة لوجه الشبه بين المثلين ، فلا مَحَلَّ لَهَا حينئذٍ مِنَ الإعْرَابِ .
الثاني : أنها في محل نصب على الحال من آدَمَ عليه السلام و « قد » معه مضمرة ، والعامل فيها معنى التشبيه والهاء في طخَلَقَهُ « عائدة على » آدم « ولا تعود على » عِيْسَى « لِفَسَادِ المعنى .
وقال ابن عطية : » ولا يجوز أن تكون خَلَقَه [ صفة ] لآدم ولا حالاً منه « .
قال الزّجّاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيهان بل هو كلامٌ مَقْطُوعٌ منه مَضمَّن تفسير الْمَثَلِ ، كما يقال في الكَلامِ : مثلك مثل زيد ، يشبه في امر من الأمور ، ثم يخبر بقصة زيد ، فيقول : فعل كذا وكذا .
قال أبو حيّان : » وَفيهِ نَظرٌ « ولم يُبَيِّنُ وَجْهَ النظر .
قال شهاب الدِّينِ : » والظاهر من هذا النظر أن الاعتراضَ - وهو قوله : لا يكون حالاً أنت فيها غير لازمٍ؛ إذ تقدير « قَدْ » تُقَرِّبُه من الحال . وقد يظهر الجوابُ عما قاله الزَّجَّاجُ من قول الزمخشريِّ : قدره جسداً من طين { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ } أي : أنشأه بَشَراً « .
قال أبو حيّان : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء - لا بمعنى التقدير - لم يأت بقوله : » كُنْ « ؛ لأن ما خلق لا يقال له : كُنْ ، ولا ينشأ إلا إن كان معنى : { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } عِبَارةً عَنْ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ .
وقال الواحديُّ : قوله { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } لَيْسَ بِصِلَةٍ لآدم وَلاَ صِفَةٍ؛ لأن الصِّلَةَ للمبهمات ، والصفة للنَّكِرِاتِ ، ولكنه خبر مُسْتَأنَف على وجه التفسِيرِ لحال آدمَ عليه السلام .
وعلى قول الزجّاج : { مِن تُرَابٍ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلق ب » خَلَقَهُ « أي : ابتدأ خلقه من هذا الجنس .
الثاني : أنه حال من مفعول » خلقه « تقديره : خلقه كائناً من تراب ، وهذا لا يساعده المعنى .
وَالْمَثَلُ هاهنا منهم من فسَّره بمعنى الحال والشأن .
قال الزَّمَخْشَريُّ : » إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدمَ « . وعلى هذا التفسير فالكاف على بابها - من كونها حرف تشبيه - وفسَّر بعضُهم المثل بمعنى الصفة ، كقوله : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] ، أي : صفة الجنة .

قال ابنُ عَطِيَّة : وهذا عندي خطأٌ وضَعْفٌ في فَهْمِ الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمُتَصَوَّر من آدمَ؛ إذ النّاس كلهم مُجْمِعُون على أن الله - تعالى - خلقه من تراب ، من غير فحل ، وكذلك قوله : { مَّثَلُ الْجَنَّةِ } عبارة عن المُتَصَوَّر منها . والكاف في « كَمَثَلِ » اسم على ما ذكرناه من المعنى .
قال أبو حيّان : « ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا وكلام مَنْ جعل المثل بمعنى الشأن والحَال أو بمعنى الصفةِ » .
[ قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : قَد تَقَدَّمَ فَي أوَّلِ الْبَقَرةِ أنَّ الْمَثَلَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَن الصِّفَةِ ، وَقَدْ لا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَغَايُرِهِمَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلاَمُ النَّاسِ فِيهِ ، ويدلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ « ريِّ الظَّمآنِ » عن الفارسيّ الْجَميعِ ، وقَالَ : « المَثَلُ بِمعنَى الصِّفَةِ ، لا يمكن تَصْحِيحُهُ فِي اللُّغَةِ ، إنَّمَا الْمثَلُ التشبيه على هذا تدور تصاريفُ الكلمةِ ، ولا معنى للوصفية في التشابه؛ ومعنى المثل ] في كلامهم أنها كلمة يُرْسِلها قائلُها لحكمة تُشَبَّه بها الأمور ، وتقابَل بها الأحوال وقد فرق بين لفظ المثل في الاصطلاح وبين الصفة .
قال بعضهم : إن الكافَ زائدة .
وقال آخرون : إنّ » مَثَلاً « زائدة فحصل في الكافِ ثَلاَثَةُ أقوالٍ :
قيل : أظهرها : أنها على بابها من الحرفية وعدم الزيادة وقد تقدم تحقيقه .
وقال الزمخشريُّ : » فإن قلتَ : كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب ووُجِد آدم من غير أب ولا أمٍّ؟
قلت : هو مثله في أحد الطَّرَفَيْنِ ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجوداً خارجاً عن العادةِ المستمرةِ ، وهما في ذلك يظهران ، ولأن الوجود من غير أب ولا أمٍّ أغرب وأخرق للعادةِ من الوجود من غي رأب ، فشبَّه الغريبَ بالأغرب؛ ليكون أقطعَ للخَصْم ، وأحسم لمادة شُبْهَتِه ، إذا نُظِّر فيما هو أغرب مما اسْتَغْرَبَه « .
فصل
قال القرطبيُّ : » دَلَّت هذه الآية على صحةِ القياسِ . والتشبيه واقع على أن عيسى خُلِقَ من غير أب كآدم ، لا على أنه خلق من ترابٍ ، والشيء قد يُشَبَّه بالشيء - وإن كان بينهما فرقٌ [ كَبِيرٌ ] - بعد أن يَجْتَمِعَا في وصف واحدٍ « .
وعن بعض العلماء أنه أسِر بالروم ، فقال لهم : لِمَ تعبدون عيسى؟ قالوا : لأنه لا أبَ لَه .
قال : فآدم أوْلَى؛ لأنه لا أبوين له ، قالوا : فإنه كان يُحْيي الموتَى؟ قال : فحَزقيل أوْلَى؛ لأن عيسى أحْيَى أربعةَ نفر ، وحزقيل أحْيَى ثَمَانِيةَ آلاف ، قالوا : فإنه كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص .
قال : فجَرْجيس أوْلَى؛ لأنه طُبخَ ، وأحرق ، وخَرَجَ سَالِماً .
قوله : { كُنْ فَيَكُونُ } اختلفوا في المقول له : كُنْ ، فالأكثرون على أنه آدم - عليه السلام - وعلى هذا يقع الإشكال في لفظ الآية؛ لأنه إنما يقول له : كن قبل أن يخلقَه لا بعده ، وهاهنا يقول : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن } .

والجوابُ : أن الله - تعالى - أخبرنا - أولاً - أنه خلق آدم من غير ذَكَرٍ ، ولا أنثى ، ثم ابتدأ أمراً آخر - يُريد أن يُخْبرَنا به - فقالَ : إني مُخبِرُكم - أيضاً بعد خبري الأولِ - أني قلتُ له : كُن فكان ، فجاء « ثُمَّ » لمعنى الخبر الذي تقدم ، والخبر الذي تأخر في الذكر؛ لأنَّ الخلقَ تقدم على قوله : « كُنْ » . وهذا كما تقولُ : أخْبِرُكَ أنِّي أعطيكَ اليومَ ألفاً ثم أخبرك أني أعطيتك أمسَ ألفاً ، ف « أمسِ » متقدم على « اليوم » وإنما جاء ب « ثُمَّ » ؛ لأنَّ خبرَ « اليومَ » متقدِّمٌ خبر « أمس » ؛ حيث جاء خبرُ « أمس » بعد مُضِيِّ خَبَر « اليوم » ومثله قوله : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] - وقد خَلَقَنا بعد خلق زَوْجِها ، ولكن هذا على الخبر دون الخلق؛ لأنَّ التأويلَ : أخبركُمْ أني قد خلقتُكُم من نفسٍ واحدةٍ-؛ لأن حواءَ قد خُلِقَتْ من ضِلعِهِ ثم أخبركم أني خَلَقْتُ زَوْجَهَا منها .
ومثل هذا قول الشاعر : [ الخفيف ]
1490- إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ بَعْدَ ذَلِكَ جَدُّهُ
ومعلوم أن الأبَ متقدِّمٌ له ، والجدُّ متقدمٌ للأبِ ، فالترتيب يعود إلى الخبرِ لا إلى الوجودِ ، كقولهِ : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] فكذا قوله : { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } أي : صيَّره خلْقاً سَويًّا ، ثم إني أخبرُكم أني إنما خلقتُه بأن قُلتُ لَهُ : كُنْ . فالتراخي في الخبرِ ، لا في هذا المخبرِ عن ذلك المخبر .
ويجوز أن يكون المرادُ خلقَهُ قالباً من ترابٍ ، ثم قال له : كُنْ بَشَراً .
فإن قيل : الضميرُ في قوله : { خَلَقَهُ } راجع إلى آدم ، وحين كان تراباً لم يكن آدم موجوداً .
فالجواب : أن ذلك الهيكل لما كان بحيث يصير آدم عن قريب سماه آدم؛ تسمية للشيء بما يئول إليه .
قال أبُو مُسْلِم : « قد بَيَّنَّا أن لخلق هو التقدير والتسوية ، ويرجع معناه إلى علم الله - تعالى - بكيفية وقوعه ، وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص ، وكل ذلك مُتَقدِّم في الأزل ، وأما قوله : كن ، فهو عبارة عن إدخاله في الوجود ، فثبت أن خلق آدم متقدِّم على قوله : كن » .
وقال بعضهم : المقول له : كن هو عيسى ، ولا إشكال على هذا .
قوله : { فَيَكُونُ } يجوز أن يكون على بابه من كونه مستقبلاً ، والمعنى : فيكون كما يأمر الله - تعالى - فيكون حكاية للحال التي يكون عليها آدم .
قال بعضُهُمْ : معناه : اعلم يا محمد أن ما قال له ربُّك : كن فإنه يكون لا محالة .

ويجوز أن يكون { فَيَكُونُ } بمعنى : « فكان » وعلى هذا أكثر المفسِّرين ، والنحويين ، وبهذا فَسَّرَهُ ابنُ عبَّاس رضي الله عنه .
فصل
أجمع المفسّرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك تشتم صاحِبَنَا؟ قال : « ومَا أقُولُ » ؟ قالوا : تقول : إنه عَبْدٌ ، قَالَ : « أجلْ ، هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، وَكَلِمتُهُ ألْقَاهَا إلَى الْعَذْرَاء الْبَتُولِ » ، فغَضِبُوا ، وقالوا : هل رأيت إنساناً - قطُّ - من غير أب؟ فقال « إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ » كأنهم قالوا : يا محمد لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله ، فَقَالَ : « إنَّ آدَمَ مَا كَانَ لَهُ أبٌ وَلاَ أمٌّ وَلَمْ يَلْزَمْ أن يَكُونَ أبُوهُ هُوَ الله ، وأنْ يَكَونَ ابْناً للهِ » ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي عِيسَى ، وأيضاً إذَا جَازَ أن يَخْلُقَ اللهُ آدَمَ مِن التراب ، فلم لا يجوز أن يخلُقَ عيسَى منْ دمِ مَرْيَمَ؟ بل هذا أقرب إلى العقل ، فإن تولُّد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولُّده من التراب اليابس .
فصل
اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول ، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوقاً بوالد لا إلى أول ، وهو مُحَالٌ ، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم .
لقوله : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] ثُم إنه - تعالى - ذكر في كيفية خلق آدمَ وجوهاً كثيرةً :
أحدها : أنه مخلوق من التراب - كما في هذه الآية .
الثاني : أنه مخلوق من الماء ، قال تعالى : { وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً } [ الفرقان : 54 ] .
الثالث : أنه مخلوق من الطين ، [ قال تعالى : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ } ] [ السجدة : 7 ] .
رابعها : أنه مخلوق من سلالة من طين ، قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] .
خامسها : أنه مخلوق من طين لازبٍ ، قال تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] .
سادسها : أنه مخلوق من صلصال من حَمَأ مسنون .
سابعها : أنه [ خلق ] من عَجَلٍ .
ثامنها : قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ } [ البلد : 4 ] .
قال الحكماء : إنما خُلِق آدمُ من التراب؛ لوجوهٍ :
الأول : ليكون متواضعاً .
الثاني : ليكون سَتَّاراً .
الثالث : إذا كان من الأرض ليكون أشدَّ التصاقاً بالأرض؛ لأنه إنما خلق لخلافة الأرض؛ لقوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] .
الرابع : أراد الحق إظهار القدرة ، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرامِ ، وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام ، وأعطاهم كمال الشدة والقوة ، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام ، ثم أعطاهم المعرفة والنور والهداية ، وخلق السموات من أمواج مياه البحر ، وأبقاها مُعَلَّقة في الهواء ، حتى يكون خلقه هذه الأجرام بُرْهاناً باهِراً ، ودليلاً ظاهراً على أنه - تعالى - هو المدبر بغير احتياج .

الخامس : خلق الإنسان من تراب ، فيكون مُطْفِئاً لنار الشهوة ، والغضب ، والحِرْص؛ فإن هذه النيران لا تنطفئ إلا بالتراب ، وإنما خلقه من الماء ليكون صافياً ، تتجلَّى فيه صُوَرُ الأشياء ، ثم إنه - تعالى - فرج بين الأرض والماء ليمتزجَ اللطيفُ بالكثيفِ ، فيصير طيناً ، وهو قولُهُ : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] ثم إنه في المرتبةِ الرابعة قال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] والسلالةُ بمعنى المسلولةِ قال : فعالة بمعنى مفعولة؛ لأنها هي التي من ألطف أجزاء الطين ، ثم إنه في المرتبة الخامسة جعله طيناً لازباً ، فقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] ثم إنَّه في المرتبةِ السادسةِ أثبت له ثلاثةَ أنواعٍ من الصفاتِ :
أحدها : أنَّه صلصالٌ ، والصلصالُ : اليابسُ الذي إذا حُرِّك تصلصلَ ، كالخزفِ الذي يُسْمَع مِنْ داخلهِ صوتٌ .
الثاني : الحمأ ، وهو الذي استقر في الماء مُدَّةً ، وتغيَّر لونُه إلى السَّوادِ .
الثالث : تغيُر رائحته ، وهو المسنونُ ، قال تعالى : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } [ البقرة : 259 ] ، أي : لم يتغيَّر .
قوله : { الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } يجوزُ أنْ تكونَ هذه الجملةُ مستقلةً برأسِهَا والمعنى أنَّ الحقَّ الثابت الذي لا يضمحلّ هو مِنْ ربك ، ومن جملةِ ما جاء مِنْ ربكَ قصةُ عيسى وأمُهُ ، فهو حقٌّ ثابتٌ .
ويجوز أن يكونَ « الحقُّ » خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : ما قَصَصْنَا عليكَ من خبرِ عيسى وأمه ، وحُذِفَ لكونه معلوماً . و { مِّن رَّبِّكُمْ } على هذا - فيهِ وجهانِ :
أحدهما : أنه حال فيتعلق بمحذوف .
والثاني : أنه خبر ثان - عند من يجوز ذلك وتقدم نظير هذه الجملة في البقرة .
وقال بعضهم : « الحق رفع بإضمار فعل ، أي : جاءك الحق » .
وقيل : إنه مرفوع بالصفة ، وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : من ربك الحق .
والامتراء : الشك . قال ابنُ الأنباريِّ : هو مأخوذٌ من قول العرب : مَرَيْتُ الناقة والشاة - إذا حلبتهما - فكأن الشاك يجتذب بشكِّه شَرًّا - كاللبن الذي يُجْتَذَب عند الحلب .
ويقال قد مارى فلان فلاناً - إذا جادله - كأنه يستخرج غضبه ، قال ابنُ عبّاسٍ لعمر رضي الله عنها : لا أماريك أبَداً . ومنه قيل : الشكر يَمْتَرِي المزيد؛ أي : يجلبه .
فصل
هذا الخطابُ - في الظاهر - مع النبي صلى الله عليه وسلم واختُلِفَ في تأويلِهِ :
فقيل إن هذا الخطاب - وإن كان ظاهره مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه في المعنى مع الأمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكاً في أمر عيسى ، فهو كقوله : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } [ الطلاق : 1 ] .
وقيل إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه أنه من باب الإلهاب والتهييج على الثبات على ما هو عليه من الحق أي : دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من تَرْك الامتراء .

فصل
ومعنى الآية فيه قولان :
أحدهما : قال أبو مسلم : معناه أن هذا الذي أنزلتُ عليك - من حبر عيسى - هو الحقُّ ، لا ما قالت النصارى واليهود ، فالنصارى قالوا : إن مريم ولدت إلَهاً ، واليهود رَمَوْا مريم عليها السلام بالإفك ، ونسبوها إلى يوسف بن يعقوب النجار ، فالله - تعالى - بَيَّن أن هذا الذي نزل في القرآن هو الحق ، ثم نهى عن الشك فيه .
الثاني : ما ذكرنا من المثل - وهو قصة آدم - فإنه لا بيان لهذه المسألة ، ولا برهان أقوى من التمسُّك بهذه الواقعةِ .

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

يجوز في « مَنْ » وجهان :
أحدهما : أن تكونَ شرطية - وهو الظاهرُ - أي : إن حاجَّكَ أحدٌ فقُل له كيت وكيت .
ويجوز أن تكونَ موصولة بمعنى : « الذي » وإنما دخلت الفاءُ في الخبرِ لتضمُّنه معنى الشرطِ [ والمحاجةِ مفاعلة وهي من اثنين ، وكانَ الأمرُ كذلِكَ ] .
« فِيهِ » متعلق ب « حَاجَّكَ » اي : جادلَكَ في شأنِهِ ، والهاء فيها وجهان :
أولهما : وهو الأظهرُ - عودُها على عيسى عليه السلامُ .
الثاني : عودها على « الْحَقِّ » ؛ لأنه أقربُمذكورٍ ، والأول أظْهَرُ؛ لأنَّ عيسى هو المحدَّثُ عنهُ ، وهو صاحبُ القصة . قوله : { مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ } متعلق ب « حَاجَّكَ » - أيضاً - و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية ، ففاعل « جَاءََكَ » ضمير يعود عليها ، أي : من بعد الذي جاءك هو . { مِنَ الْعِلْمِ } حال من فاعل « جَاءَكَ » .
ويجوز أن تكونَ موصولةً حرفيَّةً ، وحينئذٍ يقال : يلزم من ذلك خُلُوُّ الفعل من الفاعلِ ، أو عَوْد الضمير على الحرف؛ لأن « جَاءَكَ » لا بد له من فاعل ، وليس معنا شيء يصلح عوده عليه إلا « ما » وهي حرفية .
والجوابُ : أنه يجوز أن يكون الفاعل قوله : { مِنَ الْعِلْمِ } و « من » مزيدة - ي : من بعد ما جاءك العلم - وهذا إنما يتخرج على قول الأخفش؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً . و « مِنْ » في قوله : « مِنَ الْعِلْمِ » يحتمل أن تكون تبعيضيَّة - وهو الظاهر - وأن تكون لبيان الجنس . والمراد بالعلم هو أنَّ عيسى عبد الله ورسوله ، وليس المراد - هاهنا - بالعلم نفس العلم؛ لن العلمَ الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك ، بل المرادُ بالعلم ، ما ذكره من الدلائل العقلية ، والدلائل الواصلة إليه بالوحي .
فصل
ورد لفظ « الْعِلْم » في القرآن على أربعة [ أضربٍ ] .
الأول : العلم القرآن ، قال تعالى : { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } [ آل عمران : 61 ] .
الثاني : النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } [ الجاثية : 17 ] أي : محمد ، لما اختلف فيه أهلُ الكتاب .
الثالث : الكيمياء ، قال تعالى - حكاية عن قارون- : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا } [ القصص : 78 ] .
الرابع : الشرك ، قال تعالى : { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم } [ غافر : 83 ] أي من الشرك .
فصل
قال ابن الخطيب : لما كنت بخوارزم أخبرتُ أنه جاء نصرانيٌّ يَدَّعِي التحقيق والتعمق في مذهبهم ، فذهَبْتُ إليه ، وشرعنا في الحديث ، فقال : ما الدليل على نُبُوَّةِ محمد؟ فقلتُ كما نقل إلينا ظهورُ الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء نُقِل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى الله عليه وسلم فإن ردَدْنَا التواتُرَ ، وقُلْنَا : إن المعجز لا يدل على الصدق فحينئذ بطل نبوة سائر الأنبياءِ - عليهم السلامُ - وإن اعترفنا بصحةِ التواتُرِ ، واعترفنا بدلالةِ المُعْجِزِ على الصدقِ ، فهُمَا حاصلان في مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فوجبَ الاعترافُ قطعاً بنبوةِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ضرورةَ أن عند الاستواء في الدليل لا بدّ من الاستواء في حصول المدلول .

فقال النصرانيُّ : أنا لا أقول في عيسى - إنه كان نبياً بل أقول : إنه كان إلهاً . فقلتُ له : الكلامُ في النبوةِ لا بد وأن يكونَ مسبوقاً بمعرفة الإلهِ وهذا الذي تقولُهُ باطلٌ ، ويدلُ عليهِ وجوه :
الأول : أنّ الإله عبارة عن موجودٍ واجب الوجودِ لذاتِهِ - بحيثُ لا يكون جِسماً ولا متحيّزاً ولا عرضاً - وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشريِّ الجسمانيِّ الذي وُجِدَ بعد أنْ كانَ معدوماً ، وقُتِلَ - على قولِكُمْ - بعد أن كان حياً ، وكان طفلاً - أولاً - ثم صار مُترعرعاً ، ثم صار شاباً ، ويشربُ ويُحْدِثُ وينامُ ويستيقظ وقد تقرَّرَ في بداهةِ العقولِ أن المحدث لا يكونُ قديماً والمحتاج لا يكون غَنِيًّا ، والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً .
الثاني : أنكم تعترفون أنَّ اليهودَ قتلوه وأخذوه ، وصلبوه ، وتركوه حيًّا على الخشبة ، وقد مزَّقوا ضِلْعه ، وانه كان يحتال في الهَرَبِ منهم ، وفي الاختفاء عنهم ، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزَعَ الشديدَ . فإن ك ان إلهاً ، و كان الإله حالاًّ فيه ، أو كان جُزءٌ من إله حالاًّ فيه ، فلِمَ لَمْ يدفَعْهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأيُّ حاجةٍ إلى إظهار الجَزَع منهم ، والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله إني لأتعجَّب جداً من أن العاقلَ كيف يليق به أن يقولَ هذا القولَ ، ويعتقد صحته ، وبداهة العقل تكاد أن تشهد بفساده؟
الثالث : أن يقال : إن الإله إمَّا أن يكونَ هذا الشخصُ الجسمانيُّ المُشَاهَدُ ، أو يقال : إن الإله بكليته فيه ، أو حل بعضُ الإله فيه . والأقسام الثلاثة باطلة : أما الأول فإن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم ، فحين قتله اليهودُ كان ذلك قولاً بأن اليهودَ قتلوا إله العالَم ، فكيف بَقِيَ العالَم بعد ذلك من غير إلهٍ؟ ثم إن أشَدَّ الناس ذُلاًّ ودَنَاءَةً اليهودُ ، فالإله الذي تقتله اليهودُ إلهٌ في غاية العجز . وأما الثاني : - وهو أن الإله بكليته حَلَّ في هذا الجسم - فهو أيضاً - فاسد؛ لأن الإله إن لم يكن جسماً ولا عَرَضاً امتنع حُلولُه في الجسم ، وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخرَ ، عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم ، وذلك يوجب وقوع التفرُّق في أجزاء ذلك الإله ، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحلّ ، وحينئذ يكون الإله محتاجاً إلى غيره ، وكل ذلك سخفٌ .

وأما الثالثة : وهو أنهُ حَلَّ فيه بعضٌ من أبعاض الإله وجزء من أجزائه ، وذلك - أيضاً - محالٌ؛ لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية فعند انفصاله عن الإله ، وجب أن لا يبقى الإله إلهاً . وإن كان معتبراً في تحقق الإلهية لم يكن جُزْءاً من إله فثبت فسادُ هذه الأقسام .
الوجه الرابعُ - في بطلان قول النصارى - ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله - تعالى - ولو كان إلهاً لاستحال ذلك؛ لأن الإله لا يَعْبُدُ نفسه ، ثم قلت للنصراني : ما الذي دَلّكَ على كونِهِ إلهاً؟ فقال دلَّ عليه ظهورُ العجائبِ عليه من إحياء الموتى وإبْراءِ الأكمهِ والأبرصِ وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرةِ الإله - تعالى - فقلتُ لَهُ : تسلم أنَّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، أم لا؟ فإنْ لَمْ تُسَلِّمْ لزمك مِنْ نفي العالمِ في الأزلِ نفي الصانع وإن سَلَّمْتَ أنَّهُ لا يلزمُ من عدم الدليل عدم المدلول فأقول : لَمَّا جوَّزْتَ حُلُولَ الإلَهِ في بَدَنِ عيسى عليه السلام فكيف عَرَفْتَ أنَّ الإلهَ ما حل في بَدَنِي وفي بدنِكَ ، وفي بَدَنِ كلِّ حيوانٍ ، ونباتٍ وجمادٍ؟ فقال : الفرقُ ظاهرٌ؛ وذلك أني إنما حكمت بذلك الحلول؛ لأنَّه ظهرتْ تلك الأفعال العجيبةُ عليه ، والأفعال العديبةُ ما ظهرتْ على يديَّ وعلى يديْكَ ، فعلمنا أنَّ ذلكَ الحلولَ - هاهنا - مفقودٌ ، فقلتُ له : تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي : إنه لا يلزمُ من عدمِ الدليلِ عدمُ المدلول ، وذلك أنَّ ظهورَ تلك الخوارقِ دالة على حلول الإله في بدن عيسى ، فعدم ظهور الخوارقِ مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل فإذا تبيَّنَّا أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك ، بل في حقّ الكلب والسِّنَّوْر والفأر ، ثم قلت : إن مذهباص يؤدي إلى تجويز القول بحلول ذات الله في بدن الكلبِ والذبابِ لفي غاية الخِسَّةِ والرَّكاكة .
الوجه الخامس : أن قَلْبَ العصا حَيَّةً أبعد في العقل من إعادة الميت حيًّا؛ لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن اليعبانِ ، فإذا لم يوجب قلب العصا حيةً كوْن موسى إلهاً ، ولا ابناً للإله ، فبأن لا يدل إحياءُ الموتَى على الإلهية كان أولَى .
قوله : { تَعَالَوْاْ } العامة على فَتْح اللام؛ لأنه أمر من تعالَى يَتَعالَى - كترامى يترامى - وأصل ألفِهِ ياء وأصل هذه [ الياء ] واو؛ وذلك أنه مشتقٌّ من العُلُوّ - وهو الارتفاع كما سيأتي بيانه في الاشتقاق - والواو متى وقعت رابعةً فصاعداً قُلبت ياءً فصار « تَعَالَوا » تَعَالَي ، فتحرك حرفُ العلَّة ، وانفتح ما قبله ، فقُلِبت ألفاً فصار « تَعَالَي » - كترامى وتعادى - فإذا أمرت منه الواحد ، قلتَ : تعالَ يا زيد - بحذف الألف - وكذا إذا أمرت الجمع المذكر قلت : تعَالَوْا؛ لأنك لما حَذَفْتَ الألف لأجل الأمر أبقيتَ الفتحة مشعرة بها .

وإن شئت قلتَ : الأصل : تعالَيُوا ، وأصل هذه الياء واو - كما تقدم - ثم استُثْقِلَت الضمة على الياء ، فحُذِفت ضمتُها ، فالتقى ساكنان ، فحذف أوَّلُهما - وهو الياء - لالتقاء الساكنين ونزلت الفتحةُ على حالها .
وإن شئت قلت : لما كان الأصل تعلَيُوا تحرك حرفُ العِلَّةِ ، وانفتح ما قبله - وهو الياءُ - فقلب ألفاً ، فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما - وهو الألف - وبقيت الفتحة دالةٌ عليه .
والفرق بين هذا وبين الوجه الأول أن الألف - في الوجه الأول - حُذِفَت لأجل الأمر - وإن لم تتصل به واو ضمير ، وفي هذا حُذِفَتْ لالتقائها مع واو الضمير .
وكذلك إذا أمرت الواحدة تقول لها : تعالَي ، فهذه الياء ، هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر ، والتصريف كما تقدم ، إلا أنك تقول هنا : الكسرة على الياء بدل الضمة هناك . وأما إذا أمرت المثنى فإن الياء تثبت فتقول : يا زيدان تعالَيَا ، ويا هندان تعالَيَا - أيضاً يستوي فيه المذكران والمؤنثان - وكذلك أمر جماعة الإناث تثبت فيه الياء تقول : يا نسوة تعالَيْنَ ، قال تعالى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } [ الأحزاب : 28 ] ؛ إذْ لا مقتضي للحذف ، ولا للقلب؛ وهو ظاهرٌ بما تمهد من القواعد .
وقرأ الحسن وأبو السَّمَّال وأبو واقد : تَعَالُوا - بضم اللام - ووجهوها على أن الأصل : تعالَيُوا - كما تقدم فاستُثْقِلت الضمة على الياء ، فنُقِلت إلى اللام - بعد سلب حركتها - فبقي تعالُوا - بضم اللام .
قال الزمخشريُّ في سورة النساء : وعلى هذه القراءة قال الحَمدَانِيّ : [ الطويل ]
1491- . ... تَعَالِي أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي
بكسر اللام - وقد غاب بعضُ الناس عليه في استشهاده بشعر هذا المولَّد المتأخِّر وليس بعيْبٍ؛ فإنه ذكره استئناساً .
وهذا كما تقدم في أول البقرة - عندما أنشد لحبيب : [ الطويل ]
1492- هُمَا أظْلَمَا حَالَيَّ ثُمَّتَ أجْلَيَا ... ظَلاَمَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أمْرَدَ أشْيَبِ
واعتذر هو عن ذلك فكيف يعاب عليه بشيء عَرَفَهُ ، ونَبَّه عليه ، واعتذر عنه؟
والذي يظهر في توجيه هذه القراءة أنهم تناسَوُا الحرفَ المحذوف ، حتى كأنهم توهَّمُوا أن الكلمةَ بنيت على ذلك ، وأنّ اللام هي الآخِر في الحقيقة ، فلذلك عُومِلَتْ معاملةَ الآخِر حقيقةً ، فضُمَّتْ قبل واو الضمير وكُسِرَت قبل يائه ، ويدل على ما قلناه أنهم قالوا : - في لم أبَلْه- : إن الأصل : أبالي؛ لأنه مضارع « بالَى » فلما دَخَلَ الجازمُ حذفوا له حرفَ العلةِ - على القاعدة - ثم تناسَوْا ذلك الحرفَ ، فسكنوا للجازم اللام؛ لأنها كالأخير حقيقةً ، فلما سكنت اللام التقى ساكنان - هي والألف قبلها - فحذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين .

وهذا التعليل أوْلَى؛ لأنه يَعُمُّ هذه القراءةَ والبيت المذكور ، وعلى مقتضى تعليله هو أن يقال : الأصل تعاليي ، فاستُثْقلت الكسرةُ على الياء ، فنُقِلت إلى اللام - بعد سَلْبِهَا حركتها - ثم حذفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَيْنِ .
وتعالَ فعل صريح ، وليس باسم فعل؛ لاتصال الضمائرِ المرفوعةِ البارزة به .
قيل : وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع؛ تفاؤلاً بذلك وإدناءً للمدعو؛ لأنه من العلو والرِّفْعَة . ثم تُوُسِّعَ فيه ، فاستعمل في مجرد طلب المجيء ، حتى يقال ذلك لمن تريد إهانته - كقولك للعدو : تعالَ - ولمن لا يعقل كالبهائم ونحوها .
وقيل : هو الدعاءُ لمكان مرتفع ، ثم تُوُسِّع فيه ، حتى استُعمِل في طلب الإقبال إلى كل مكان ، حتى المنخفض .
و « ندع » جزم على جواب الأمرِ؛ إذ يَصحُّ أن يقال : فتعالوا ندع .
قوله : « أبْناءنا » . قيل : اراد الحسن والحسين ويؤيده قوله تعالى : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } [ الأنعام : 84 ] { وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى } [ الأنعام : 85 ] ومعلوم أن عيسى إنما انتسب إلى إبراهيم بالأم - لا بالأب - فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابناً . و « نِساءَنَا » فاطمة ، « وَأنْفُسَنَا » عني نفسه وعلياً ، والعرب تسمي ابن العم نفسه كما قال : { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] يريد إخوانكم .
وقيل هو على العموم لجماعة أهل الدين .
قوله : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } قال ابنُ عبّاس : نتضرع في الدعاء .
وقال الكلبي : نجتهد ونبالغ في الداعاء وقال الكسائيُّ وأبو عبيدة : نَلتعن . والابتهال : افتعال ، من البُهْلَة ، وهي - بفتح الباء وضمها - اللعنة ، قال الزمخشريُّ : ثم نتباهل بأن نقول لعنة الله على الكاذب منا ومنكم والبهلة - بالفتح والضم - اللعنة ، وبَهَلَه الله : لعنه وأبعده من رحمته من قولك : أبهله إذا أهمله ، وناقة باهل : لا صِرَارَ عليها ، أي : مرسلة مُخَلاَّة - كالرجل الطريد المنفي - وإذا كان البهل هو الإرسال والتخلية ، فمن بهله الله فقد خلاه ، ووكله إلى نفسه ، فهو هالك لا شك فيه - كالناقة الباهل التي لا حافظ لها ، فمن شاء حلبها ، لا تقدر على الدفع عن نفسها هذا أصل الابتهال ، ثم استُعْمِل في كل دعاء مُجْتَهَدٍ فيه - وإن لم يكن التعاناً - [ يعني أنه اشتهر في اللغة : فلان يبتهل إلى الله - تعالى - في قضاء حاجته ، ويبتهل في كشف كربته ] .
قال شهاب الدّين : ما أحسن ما جعل « الافتعال » - هنا - بمعنى التفاعل؛ لأن المعنى لا يجيء إلا على ذلك ، وتفاعل و « افتعل » أخوان في مواضع ، نحو اجتوروا وتجاوروا ، واشتوروا وتشاوروا ، واقتتل القوم وتقاتلوا ، واصطحبوا وتصاحبوا ، لذلك صحت واو اجتوروا واشتوروا .
قال الراغبُ : وأصل البهل : كون الشيء غيرَ مراعى ، والباهل : البعير المُخَلَّى عن قيده والناقة المخلَّى ضرعها عن صِرَارٍ ، وأنشد لامرأة : أتيتك باهلاً غير ذات صِرار .

وأبهلت فلاناً : خليته وإرادته؛ تشبيهاً بالبعير الباهل ، والبهل والابتهال في الدعاء : الاسترسال فيه والتضرع ، نحو { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل } ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن .
قال الشاعر : ( وهو لبيد ) : [ الرمل ]
1493- مِنْ قُرُومٍ سَادَةٍ في قَوْمِهِمْ ... نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ
وظاهر هذا أنَّ الابتهال عام في كل دعاء - لعناً كان أو غيره - ثم خُصَّ في هذه الآية باللعن ، وظاهر عبارة الزمخشري أن أصله خصوصيته باللعن ، ثم تُجُوِّز فيه ، فاستُعمِل في كل اجتهاد في دعاء - لعناً كان ، أو غيره - والظاهر من أقوال اللغويين ما ذكره الراغب .
قال أبو بكر بن دُرَيْد في مقصورته : [ الرجز ]
1494- لَمْ أرَ كَالْمُزْنِ سَوَاماً بُهَّلا تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً وَهْيَ سُدَى
بهلاً جمع باهلة - أي : مهملة ، وفاعلة تجمع على فُعَّل ، نحو ضُرَّب . والسُّدَى : المهمل - أيضاً - وأتى ب « ثُمَّ » هنا ، تنبيهاً على خطئهم في مباهلته ، كأنه يقول لهم : لا تعجلوا ، وتَأنَّوْا؛ لعلَّه أن يظهر لكم الحق ، فلذلك أتى بحرف التراخي .
قوله : { فَنَجْعَل } هي المتعدية لاثنين - بمعنى نصير - و { عَلَى الكاذبين } هو المفعول الثاني .
فصل
روي أنه صلى الله عليه وسلم لما أورد الدلالة على نصارى نجران ، ثم إنهم أصرُّوا على جهلهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّ اللهَ يَأمُرُنِي - إن لَمْ تَقْبَلُوْا الْحُجَّةَ - أنْ أبَاهِلَكُمْ » ، فقالوا : يا أبا القاسم ، بل نرجع ، فننظر في أمرنا ، ثم نأتيك غداً ، فخلا بعضهم ببعض ، فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ، ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم - يا معشر النصارى - أن محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبيًّا - قط - فعاش كبيرُهم ولا صغيرُهم ، ولأن فعلتم ذلك لنهلكن ، ولكان الاستئصال ، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادِعوا الرجل ، وانصرِفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد خرج وعليه مرط من شعر أسود ، وكان قد احتضن الحُسَيْن ، وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفهما ، وهو يقول لهم : إذَا دَعَوْتُ فأمِّنُوا ، فقال أسقفُ نجران : يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يُزيل جَبَلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا ، فتهلكوا ولا يبقى نصراني على وجه الأرض إلى يوم القيامة فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا أن لا نباهلَك ، وأن نقرك على دينك ، ونثبت على ديننا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم « فَإنْ أبَيْتُمُ الْمُبَاهَلَةَ فَأسْلِمُوا يَكُنْ لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِيْنَ وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْهمْ فأبَوْا ، فقال : فَإنِّي أنَابِذُكُمْ »

، فقالوا ما لنا بحَرْبِ العَرَب طاقةٌ ، ولكن نصالِحُكَ على أن لا تَغزُوَنا ، ولا تُرُدَّنا عن ديننا ، على أن نؤدِّي إليك في كل عام ألفَيْ حُلَّة - ألفاً في صَفَر وألفاً في رجب - وثلاثين درعاً عادية من حديد ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى ذلك ، وَقَالَ : « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الْعَذَابَ قَدْ تَدَلَّى عَلَى أهْلِ نَجْرَانَ ، وَلَوْ لاعَنُوا لَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ، ولاضْطَرَمَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَاراً ، وَلأسْتَأصَلَ اللهُ نَجْرَانَ وَأهْلَهُ - حَتَّى الطَّيْرَ عَلَى الشَّجَرِ - وَلَمَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النَّصَارى كلِّهِمْ حَى يَهْلِكُوا » .
وروي أنه - عليه السَّلامُ - لما خرج في المرط الأسود ، فجاء الحَسَن ، فأدْخله ، ثم جاء الحُسَيْن فأدخله ، ثُمّ فَاطِمَةُ ، ثُم عليٌّ ، ثم قال : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب : 33 ] .
فصل
قال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إن القول ، بأن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء أوْلَى؛ لأنه يكون قوله : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي : ثم نجتهد في الدعاء ، ونجعل اللعنة على الكاذب ، وعلى القول بأنه الالتعان يصير التقدير : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي : نَلْتَعِن ، فنجعل لعنة الله على الكاذب ، هو تكرارٌ . وهنا سؤالان :
السؤالُ الأولُ : الأولاد إذا كانوا صِغَاراً لم يَجُزْ نزولُ العذابِ بهم ، وقد ورد في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم أدْخَل في المباهلةِ الحسنَ والحسينَ ، فما الفائدة فيه؟
والجواب : أن عادة الله جاريةٌ بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلك معهم الأولاد والنساء ، فيكون ذلك في حق البالغين عقاباً ، وفي حق النساء جارياً مجرى إماتتهم ، وإيصال الآلام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده ، وأهله شديدة جِداً ، ورُبَّما جَعَل الإنسانُ نفسَه فداءً لهم وإذا كان كذلك فهو - عليه السلامُ - أحضر صبيانه ونساءه معه ، وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ، ليكون ذلك أبلغ للزجر ، وأقوى في تخويف الخصم ، وأدل على وثوقه صلى الله عليه وسلم بأن الحقَّ معه .
السؤال الثاني : أليس أن بعض الكفار استعمل المباهلة مع نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قالوا : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ثم إنه لم ينزل بهم عذاب ألبتة - فكذا ها هنا - وأيضاً فبتقدير نزول العذابِ يكون ذلك مناقضاً لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] .
الجوابُ : أن الخاص مقدَّم على العام ، فلما أخبر - عليه السلامُ - بنزول العذاب في هذه القصة على التعيين ، وجب أن تعتقد أن الأمرَ كذلك .
فصل
دلت هذه الواقعةُ على صحة نبوتِهِ - عليه السلام - من وَجْهَيْنِ :
أحدهما : أنه - عليه السلام - خوفهم بنزول العذاب ، ولو لم يكن واثقاً بذلك لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه؛ لأن بتقدير أن يرغبوا في مباهلته ، ثم لا ينزل العذاب ، فحينئذ يظهر كذبه ، فلما أصرَّ على ذلك علمنا أنه إنما أصرَّ عليه؛ لكونه واثقاً بنزول العذاب عليهم .

وثانيهما : أن القوم - لما تركوا مباهلته - لولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته لما أحجموا عن مباهلته .
فإن قيلَ : لم لا يجوز أن يُقال : إنهم كانوا شاكِّين ، فتركوا مباهلَتَه؛ خَوْفاً من أن يكون صادقاً ، فينزل بهم ما ذُكِرَ من العذاب؟
فالجوابُ : أن هذا مدفوع من وَجْهَيْنِ :
الأول : أن القوم كانوا يَبْذلون النفوسَ والأموالَ في المنازعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم ولو كانوا شاكِّين لَمَا فعلوا ذلك .
الثاني : أنه قد نُقل عن أولئك النصارَى أنهم قالوا : إنه والله هو النبي المبشَّرُ به في التوراةِ والإنجيلِ وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصالُ ، فكان تصريحاً منهم بأن الامتناع من المباهلة كان لأجل علْمِهم بأنه نبي مُرْسَل من عند الله تعالى .
فصل
قال ابنُ الْخَطِيبِ : كان في الرِّيِّ رجلٌ يقال له مَحْمُود بن الحسن الحِمْضِيُّ ، وكان معلم الاثني عشرية ، وكان يزعم أن عليًّا - رضي الله عنه - أفضل من جميع الأنبياء - سوى محمَّد صلى الله عليه وسلم - قال : والذي يدل على ذلك قوله : { وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } ، وليس المراد بقوله : { وَأَنفُسَنَا } نفس محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد به غيره ، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب ، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفسِ ، فالمراد : أن هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل؛ لقيام الدلائل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان نبياً ، وما كان عَلِيٌّ كذلك ، ولانعقاد الاجماع على أن محمداً ك ان أفضل من علي ، فيبقى فيما وراءه معمولاً به ، ثم الإجماع دَلَّ على أنّ محمداً كان أفضلَ من سائر الأنبياء ، فيلزم أن يكون عَلِيٌّ أفضلَ من سائر الأنبياء ، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية ، ثم قال : ويؤكد هذا الاستدلالَ الحديثُ المقبولُ - عند الموافقِ والمخالفِ - وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « من أرَادَ أنْ يَرَى آدَمَ فِي عِلمِهِ ، وَنُوحاً في طَاعَتِهِ ، وإبْرَاهِيمَ فِي خُلَّتِه ، وَمُوسَى في هَيْبَتِه ، وَعِيْسَى في صَفْوَتِهِ فَلْيَنْظُرْ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ » .
فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرِّقاً فيهم ، وذلك يدل على أن عَلِيًّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم .
أما سائر الشيعةِ فقد كانوا - قديماً وحديثاً - يستدلون بهذه الآية على أن عليًّا أفضلُ من سائر الصحابة؛ وذلك لأنَّ الآية لمَّا دلَّت على أن نَفْسَ عَلِيٍّ مِثْلُ مُحَمَّدٍ - إلا ما خصه الدليل - وكان نفس محمد أفضل من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فوجب أن يكون نفس عليٍّ أفضل من سائر الصحابة ، هذا تقريرُ كلامِ الشيعة .

فالجوابُ : أنه كما انعقد الإجماع بَيْنَ المسلمين على أن محمداً أفضلُ من عليٍّ ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم - قَبْلَ ظُهُورِ هذا الإنسانِ - على أن النبيَّ أفضل ممن ليس بنبيِّ ، وأجمعوا على أن عليًّا ما كان نبيًّا ، فلزم القطعُ على أن ظاهرَ الآية ، كما أنه مخصوص في حق محمد ، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياءِ - عليهم السلام - .

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

قال أبو مُسْلِمٍ : هذا الكلام متصل بما قبله ، ولا يجوز الوقف على قوله : { الكاذبين } ، وتقدير الآية : فنجعلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِيْنَ بأن هذا هو القصص الحقُ ، وعلى هذا التقدير كان حق « إنَّ » أن تكون مفتوحةً ، إلا أنها كُسِرَت؛ لدخول اللاَّمِ في قوله : { لَهُوَ الْقَصَصُ } ، كما في قوله : { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } [ العاديات : 11 ] .
قال الباقون : الكلام تمّ عند قوله : { عَلَى الكاذبين } وما بعده جملة أخْرَى مستقلة غير مُتعَلِّقةٍ بما قبلها ، فَقَوْلُهُ : { هذا } الكلام إشارةٌ إلى ما تقدم من الدلائلِ والدعاءِ إلى الْمُبَاهَلَةِ ، وأخبار عيسى .
وقيل : هو إشارة لما بعده - وهو قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } - وضُعفَ هذا بوجهين :
أحدهما : أنَّ هذا ليس بقصصٍ .
الثاني : أن مقترن بحرف العطف .
واعتذر بعضهم عن الأول ، فقال : إن أراد بالقصص الخبر ، فيصح على هذا ، ويكون التقدير : إن الخبر الحق { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } ولكن الاعتراض الثاني باقٍ ، لم يُجَبْ عنه .
و « هُوَ » يجوز أن يكون فَصْلاً ، و « القصص » خبر « إن » ، و « الْحَقُّ » صفته ، ويجوز أن يكون « هو » مبتدأ و « الْقَصَصُ » خبره ، والجملة خبر « إنَّ » .
والقصص مصدر قولهم : قَصَّ فلانٌ الحديثَ ، يَقُصُّهُ ، قَصًّا ، وقَصَصاً وأصله : تتبع الأثَر ، يقال : فلان خرج يقصُّ أثَرَ فلان ، أي : يتبعه ، ليعرف أين ذَهَبَ . ومنه قوله : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] ، أي ، اتبعي أثره ، وكذلك القاصّ في الكلام ، لأنه يتتبع خَبراً بعد خبر . وقد تقدم التنبيه على قراءتي « لهْو » بسكون الهاء وضمها؛ إجراء لها مجرى عضد .
قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : لم جاز دخولُ اللامِ على الفَصْل؟
قلت : إذا جاز دخولُها على الخبر كان دخولُها على الفَصْل أجودَ؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ منه وأصلها أن تدخل على المبتدأ .
قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن { مِنْ إله } مبتدأ ، و « مِنْ » مزيدة فيه ، و « إلاَّ اللهُ » خبره ، تقديره : ما إلَهٌ إلا اللهُ ، وزيدت « مِنْ » للاستغراق والعموم .
قال الزمخشريُّ : و « مِنْ » - في قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } - بمنزلة البناء على الفتح في : لا إلَهَ إلا اللهُ - في إفادة معنى الاستغراق .
قال شهابُ الدينِ : الاستغراق في : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، لم نستفده من البناء على الفتح ، بل استفدناه من « مِنْ » المقدَّرة ، الدالة على الاستغراق ، نَصَّ النحويون على ذلك ، واستدلوا عليه بظهورها في قول الشاعر : [ الطويل ]
1495- فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ ... وَقَالَ : ألاَ لاَ مِنْ سَبيلٍ إلَى هِنْدٍ

الثاني : أن يكون الخبر مُضْمَراً ، تقديره : وما من إله لنا إلا الله ، و { إِلاَّ الله } بدل من موضع { مِنْ إله } ، لأن موضعه رفع بالابتداء ، ولا يجوز في مثله الإبدالُ من اللفظ ، لِئَلاّ يلزم زيادة « مِنْ » في الواجب ، وذلك لا يجوز عند الجمهور .
ويجوز في مثل هذا التركيب نصب ما بعد « إِلاَّ » على الاستثناء ، ولكن لم يُقرأ به ، إلا أنَّه جائز لُغَةً أنْ يُقَالَ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ - برفع لفظ الجلالة بدلاً من الموضع ، ونصبها على الاستثناء من الضمير المستكن في الخبر المقدر؛ إذ التقدير : لا إله استقر لنا إلا الله .
وقال بَعْضُهُم : دخلت « مِنْ » لإفادة تأكيد النفي؛ لأنك لو قلتَ : ما عندي من الناس أحد ، أفاد أن عندك بعض الناس . فإذا قلتَ : ما عندي من الناس من أحدٍ ، أفاد أن ليس عندك بعضهم وإذا لم يكن عندك بعضهم فبأن لا يكون عندك كلهم أوْلَى ، فثبت أن قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } مبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحدُ الحقُّ .
قوله : { وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم } كقوله : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق } وفيه إشارةٌ إلى الجواب عن شبهات النَّصَارَى ، لأن اعتمادَهم على أمرين :
أحدهما : أنه قدر على إحياء الموتَى وإبراء الأكْمَهِ والأبْرَصِ ، فكأنه - تعالى - قال : هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية ، بل لا بُدَّ وأن يكون عزيزاً ، غالباً ، لا يدفع ، ولا يمنع ، وأنتم اعترفتم بأن عيسى - عليه السلام - ما كان كذلك ، بل قلتم : إنّ اليهودَ قتلوه .
والثاني : أنهم قالوا : إنه كان يُخبر عن الغيوب وغيرها ، فكأنه - تعالى - قال : هذا القدرُ من العلم لا يكفي في الإلهية ، بل لا بد وأن يكون حَكِيماً ، أي : عالماً بجميع المعلومات ، وبجميع عواقب الأمورِ .
فَذِكرُ العزيز الحكيم - هاهنا - إشارةٌ إلى الجواب عن هاتَيْنِ الشبهتين ، ونظير هذه الآية ما ذكر تعالى في أول السورة من قوله : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } [ آل عمران : 6 ] .
وقوله : { فَإِنْ تَوَلَّوْا } يجوز أن يكون مضارعاً - حُذِفَتْ منه إحدى التاءَين ، تخفيفاً - على حَدِّ قراءة : { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] و { تَذَكَّرُون } [ الأنعام : 152 ] - ويؤيد هذا نسق الكلام ، ونظمُه في خطاب من تقدم في قوله : { تَعَالَوْا } ثم جرى معهم في الخطاب إلى أن قال لهم : فَإن تولّوا .
قال ابو البقاء : « ويجوز أن يكون مستقبلاً ، تقديره : تتولوا - ذكره النَّحَّاسُ - وهو ضعيفٌ؛ لأن حَرْفَ الْمُضَارَعَِ لا يُحْذَف » .
قال شهاب الدين : « وهذا ليس بشيء؛ لأن حرف المضارعة يُحْذَف - في هذا النحو - من غير خِلافٍ . وسيأتي من ذلك طائفة كثيرة » .
وقد أجمعوا على الحذف في قوله :

{ تَنَزَّلُ الملائكة وَالرُّوحُ فِيهَا } [ القدر : 4 ] .
ويجوز أن يكون ماضياً ، أي : فإن تَوَلَّى وَفْدُ نجرانَ المطلوب مباهلتهم ، ويكون - على ذلك - في الكلام التفات؛ إذْ فيه انتقال من خطابٍ إلى غيبةٍ .
قوله : { بِالْمُفْسِدِينَ } من وقوع الظاهر موقعَ المُضْمَرِ ، تنبيهاً على العلة المقتضية للجزاءِ ، وكان الأصل : فإن الله عليم بكم - على الأول - وبهم - على الثاني .
فصل
ومعنى الآية : فإن تولوا عما وَصَفْتَ لهم من أنه الواحد ، وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً ، قادراً على جميع المقدوراتِ ، حكيماً ، عالماً بالعواقب - مع أن عيسى ما كان كذلك - فاعلم أن تولّيهم وإعراضَهم ليس إلاَّ على سبيل العِنَادِ ، فاقطع كلامَك عَنْهُم ، وفَوِّضْ أمرك إلى اللهِ؛ فإنه عليم بالمفسدين الذين يعبدون غيرَ اللهِ ، مُطَّلِع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة ، قادرٌ على مجازاتهم .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

قوله : { إلى كَلَمَةٍ } مُتَعَلِّق ب « تَعَالَوْا » فذكر مفعول « تَعَالَوْا » قبلها ، فإنه لم يذكر مفعوله؛ فإن المقصودَ مُجَرَّدُ الإقبال ، ويجوز أن يكون حذفه للدلالة عليه ، تقديره : تعالوا إلى المباهلة .
وقرأ العامة « كَلِمَةٍ » - بفتح الكاف وكسر اللام - وهو الأصل ، وقرأ أبو السَّمَّال « كِلْمَةٍ » بوزن سدرة و « كَلْمَةٍ » كَضَرْبَة وتقدم هذا قريباً .
وكلمة مفسَّرة بما بعدها - من قوله : « ألاّ نَعْبُدَ إلاَّ الله » - فالمرادُ بها كَلاَمٌ كَثِيرٌ ، وهَذا مِنْ بَابَ إطلاق الجزء والمراد به الكل ، ومنه تسميتهم القصيدة جميعاً قافيةً - والقافية جزء منها قال : [ الوافر ]
1496- أعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ ... فَلَمَّا اشتدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي
وَكَمْ عَلَّمُْهُ نَظْمَ الْقَوَافِي ... فَلَمَّا قَالَ قَافِيَةً هَجَانِي
ويقولون كلمة الشهادة - يعنون : لا إله إلا الله ، مُحَمدٌ رَسُولُ اللهِ - وقال صلى الله عليه وسلم : « أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالهَا شاعرٌ كلمة لبِيدٍ » .
يريد : [ الطويل ]
1497- ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ - لا مَحَالَةَ - زَائِلُ
وهذا كما يسمون الشيء بجزئه في الأعيان ، لأنه المقصود منه ، قالوا لرئيس القوم - وهو الذي ينظر لهم ما يحتاجون إليه- : عَيْن ، فأطلقوا عليه « عيناً » .
وقال بعضهم : وُضِعَ المفردُ موضعَ الجمع ، كما قال : [ الطويل ]
1498- بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى ، فَأمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ ، وَأمَّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ
وقيل : أطلقت الكلمة على الكلمات؛ لارتباط بعضها ببعضٍ ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة - إذا اخْتلَّ جُزْءٌ منها اختلت الكلمةُ؛ لأن كلمة التوحيد - لا إله إلا الله - هي كلماتٌ لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في « الله » إلا بمجموعها .
وقرأ العامة « سَوَاءٍ » بالجر؛ نعتاً لِ « كَلِمَةٍ » بمعنى عَدْلٍ ، ويدل عليه قراءة عبد الله : إلى كلمة عدل ، وهذا تفسير لا قراءة .
وسواء في الأصل - مصدر ، ففي الوصف التأويلات الثلاثة المعروفة ، ولذلك لم يُؤنث كما لم تؤنث ب « امرأة عدل » ؛ لأن المصادر لا تُثَنَّى ، ولا تُجْمَع ، ولا تُؤنَّثُ ، فإذا فتحت السين مَدَدْتَ ، وإذا كسرتَ أو ضممت قصرت ، كقوله : { مكَانًا سُوًى } [ طه : 58 ] .
وقرأ الحسن « سَوَاءٌ » بالنصب ، وفيها وجهان :
أحدهما : نصبها على المصدر .
قال الزمخشريُّ : « بمعنى : اسْتَوْتِ اسْتِوَاءً » ، وكذا الحوفيّ .
والثاني : أنه منصوب على الحال ، وجاءت الحالُ من النكرةِ ، وقد نصَّ عليه سيبويه .
قال أبو حيّان : « ولكن المشهور غيره ، والذي حسَّن مجيئَها من النكرة - هنا - كونُ الوَصْفِ بالمصدر على خلاف الأصل ، و الصفة والحال متلاقيان من حيث المعنى » .

وكأن أبا حيان غض من تخريج الزمخشريِّ و الحوفيّ ، فقال : « والحال والصفة متلاقيان من حيثُ المعنى ، والمصدر يحتاج إلى إضمار عاملٍ ، وإلى تأويل » سواء « بمعنى استواء » .
والأشهر استعمال « سَوَاء » بمعنى اسم الفاعل - أي : مُسْتوٍ .
قال شهاب الدين : « وبذلك فسَّرها ابن عباس ، فقال : إلى كَلِمَةٍ مُسْتَوِيَةٍ » .
قوله : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } فيه ستة أوجهٍ :
أحدها : أنه بدل من « كَلِمةٍ » - بدل كل من كل .
الثاني : بدل من « سَوَاء » جوزه أبو البقاء؛ وليس بواضح ، لأن المقصود إنما هو الموصوف لا صفته فنسبة البدلية إلى الموصوف أوْلَى ، وعلى الوجهين ف « أنْ » وما في حَيِّزها في محل جَرٍّ .
الثالث : أنه في محل رَفْع؛ خبراً لمبتدأ مُضْمَرٍ ، والجملة استئناف ، جواب لسؤال مقدَّر ، كأنه لما قيل : { تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ } قال قائل : ما هي؟ فقيل : هي أن لا نعبد إلا الله ، وعلى هذا الأوجه الثلاثة ف « بَيْنَ » منصوب ب « سَوَاءٍ » ظرفاً له ، أي : يقع الاستواء في هذه الجهة .
وقد صرَّح بذلك [ الشاعر ] ، حيث قال : [ الوافر ]
1499- أرُونِي خُطَّةً لا عَيبَ فيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ
والوقف التام - حينئذ - عند قوله : { مِّن دُونِ الله } ؛ لارتباط الكلام معنًى وإعراباً .
الرابع : أن يكون « أنْ » وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء ، والخبرُ : الظرفُ قبله .
الخامس : جوَّز ابو البقاء أن يكون فاعلاً بالظرف قبله ، وهذا إنما يتأتَّى على رأي الأخفش؛ إذا لم يعتمد الظرفُ .
وحينئذ يكون الوقف على « سَوَاءٍ » ثم يبتدأ بقوله : { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } وهذا فيه بُعْدٌ من حيثُ المعنى ، ثم إنهم جعلوا هذه الجملة صفة ل « كَلِمةٍ » ، وهذا غلط؛ لعدم رابطة بين الصفة والموصوف ، وتقدير العائد ليس بالسهل .
وعلى هذا فَقوْل أبي البقاء : وقيل : تم الكلامُ على « سَوَاءٍ » ، ثم استأنف ، فقال : { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ } ، أي : بيننا وبينكم التوحيد ، فعلى هذا يكون { أَلاَّ نَعْبُدَ } مبتدأ ، والظرف خبره ، والجملة صفة ل « الكلمة » ، غير واضح؛ لأنه - من حيث جعلها صفة - كيف يحسن أن يقول : تم الكلام على « سَوَاءٍ » ثم استأنف؟ بل كان الصواب - على هذا الإعراب - أن تكون الجملة استئنافية - كما تقدم .
السادس : أن يكون : { أَلاَّ نَعْبُدَ } مرفوعاً بالفاعلية ب « سَوَاءٍ » ، وإلى هذا ذَهَب الرُّمَّانِيُّ؛ فإن التقدير - عنده - إلى كلمة مستوٍ فيها بيننا وبينكم عدم عبادةُ غيرِ الله تعالى :
قال أبو حيّان : « إلا أن فيه إضمارَ الرابطِ - وهو فيها - وهو ضعيف » .
فصل
لما أوْرَد صلى الله عليه وسلم على نصارى نجران أنواعَ الدلائل ، دعاهم إلى الْمُبَاهَلَةِ فخافوا ، وما شرعوا فيها ، وقبلوا الصَّغَارَ بأداء الجزية ، وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمانهم ، فكأنه - تعالى - قال : يا محمدُ ، اترك ذلك المنهجَ من الكلام ، واعدل [ إلى ] منهج آخرَ يشهد كلُّ ذي عقل سليم ، وطبع مستقيم أنه [ متين ] مبنيٌّ على الإنصاف وتَرْك الجدال « قل يا أهل الكتاب هلموا إلى كلمة سواءٍ » فيها إنصافٌ لبعضنا من بعض ، ولا ميل فيها لأحدٍ على صاحبه ، وهي : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } فهذا وَجْهُ النَّظم .

فصل
وفي المراد بأهل الكتاب ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المراد : نصىرَى نجرانَ .
الثاني : اليهود من المدينة .
الثالث : أنها نزلت في الفريقين ، ويدل على هذا وجهان :
الأول : أن ظاهر اللفظ يتناولهما .
الثاني : قال المفسّرون - في سبب النزولِ - : قدم وَفْد نجران المدينة ، فالتَقَوْا مع اليهود ، واختصموا في إبراهيم - عليه السلامُ - فزعمت النصارى أنه كان نَصْرانيًّا ، وأنه على دينهم ، وأنهم وهم على دينه وأوْلَى الناس به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كِلاَ الْفَرِيْقَيْنِ بَرِيءٌ من إبْرَاهِيمَ وَدِيْنِهِ؛ كَانَ حَنيفاً مسلِماً ، وَأنَا عَلَى دِينِهِ فاتَّبِعُوا دِينَهُ الإسْلامَ » فقالت اليهودُ : يا محمدُ ، ما تريد إلا أن نتخذَك رَبًّا كما اتخذت النصارى عيسى ربًّا ، وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ، كما قالت اليهود في عُزَيْرٍ ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قال ابن الخطيب : « وعندي أن الأقرب حَمْلُه على النصارى؛ لما بيَّنَّا في وجه النَّظْم أنه لما أورد - الدلالة عليهم أولاً ، ثم باهلهم ثانياً ، فعدل عن هذا المقام إلى الكلام المبني على غاية الإنصاف ، وترك المجادلةِ ، وطلبِ الإقْحام والإلزام ، ويدل عليه أنه خاطَبَهُم - هنا - بقوله : { ياأهل الكتاب } ، وهذا الاسم من أحسن الأسماء ، وأكمل الألقاب؛ حيث جعلهم أهلاً للكتاب ، ونظيره ما يقال لحافظ القرآن : حَامِلَ كتاب الله العزيز ، وللمفسِّر يا مُفَسِّرَ كلام اللهِ ، فإن هذا اللقبَ يدل على أن قائله أراد المبالغة في تعظيم المخاطَب ، وتَطْييب قَلْبِه ، وذلك إنما يُقال عند عدول الإنسانِ مع خَصْمه عن طريقة اللَّجَاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنْصَافِ » .
قوله : { تَعَالَوْا } هَلُمُّوا { إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ } فيها إنصافٌ من بعضنا لبعض ، لا ميل فيه لأحد على صاحبه . والسواء : هو العَدْل والإنصاف؛ لأن حقيقةَ الإنصاف إعطاء النصف ، فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير ، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف؛ لكي يُسَوِّي بين نفسه وبين الغير . ثم إنه تعالى ذكر ثلاثةَ أشياءَ :
الأول : أن لا نعبدَ إلا اللهَ . الثاني : أن لا نُشْركَ به به شيْئاً .
الثالث : أن لا يتخذَ بعضُنا أرْباباً مِن دونِ اللهِ .

ودون - هذه - بمعنى : « غير » .
إنما ذكر هذه الثلاثة؛ لأن النصارَى جمعوا بينها ، فعبدوا غيرَ الله - وهو المسيح - وأشركوا بالله غيره؛ لأنهم يقولون : إنه ثلاثة : أب وابن وروح القدس ، واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله؛ لأنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم ، وكانو يسجدون لهم ، ويطيعونهم في المعاصي ، قال تعالى : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] .
قال أبو مُسْلِم : ومذهبهم أن مَن صار كاملاً في الرياضة والمجاهدة ظهر فيه أثَرُ اللاهوت ، فيقدر على إحياء الموتَى ، وإبراء الأكْمَهِ والأبْرَصِ ، فإنهم - وإن لم يُطْلقوا عليه لفظ « الرَّبِّ » - أثبتوا في حقه معنى الربوبية ، وهذه الأقوال الثلاثة باطلة .
أما الأول : فإن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله ، فوجب أن يَبْقَى الأمر بعد ظهور المسيح على ما كان .
الثاني : والقول بالشرك باطل باتفاق الكُلِّ .
والثالث : - أيضاً باطل-؛ لأنه إذا كان الخالق والرازق والمُنْعِم - بجميع النعم - هو الله وجب أن لا يرجع في التحليل ، والتحريم ، والانقياد ، والطاعة إلا إليه ، - دون الأحْبار والرُّهبان .
وقوله : { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } قال القرطبي : معنى قوله : { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } أي لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه ، إلا فيما حلَّلَه الله - تعالى - وهو نظير قوله تعالى : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] أي : أنزلوهم منزلةَ ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لِما لم يحرمْه الله ولم يحللْه ، وهذا يدل على بُطْلان القول بالاستحسان المجردِ الذي لا يستند إلى دليلٍ شرعيٍّ .
قال إلكيا الطبريُّ : « مثل [ استحسانات ] أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون [ مستندات بينة ] » .
قال عكرمةُ : « هو سجودُ بعضهم لبعض » ، أي : لا نسجد لغير الله ، وكان السجود إلى زمان نبينا عليه السلامُ - ثم نُهِيَ عنه .
وروى ابن ماجه - في سننه - عن أنس ، قال : « قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أيَنحَنِي بَعْضُنَا لِبَعْضٍ؟ قال : » لاَ « ، قُلْنَا : أيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضاً؟ قَالَ : » لا ، وَلَكِنْ تَصَافَحُوا « .
وقيل : لا نطيع أحداً في معصية الله .
قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ } .
قال أبو البقاء : هو ماضٍ ، ولا يجوز أن يكون التقدير : » فإن تتولوا « لفساد المعنى؛ لأن قوله : { فَقُولُواْ اشهدوا } خطاب للمؤمنين ، و » يَتولّوا « للمشركين وعند ذلك لا يبقى في الكلام جوابُ الشرط ، والتقدير : فقولوا لهم وهذا ظاهر .
والمعنى : إن أبَوْا إلا الإصرارَ فقولوا لهم : اشْهَدُوا بأنا مسلمون [ مخلصون بالتوحيد ] .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)

قوله : { لِمَ تُحَآجُّونَ } هي « ما » الاستفهامية ، دخل عليها حرف الجر ، فحُذِفَت ألفُها وتقدم ذلك في البقرة ، واللام متعلقة بما بعدها ، وتقديمها على عاملها واجب؛ لجرها ما له صَدْرُ الكلام .
قوله : { في إِبْرَاهِيمَ } لا بد من مضافٍ محذوفٍ ، أي : في دين إبراهيم وشريعته؛ لأن الذوات لا مجادلة فيها .
قوله : { وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة } الظاهر أن الواو للحال ، كهي في قوله : { لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [ آل عمران : 70 ] .
أي كيف تحاجون في شريعته والحال أن التوراة والإنجيل متأخران عنه؟
وجوزوا أن تكون عاطفة ، وليس بالبيِّن ، وهذا الاستفهام للإنكار والتعجُّب ، وقوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } متعلق ب « أنزلت » ، وهو استثناء مفرَّغ .
فصل
اعلم أن اليهود كانوا يقولون : إن إبراهيم كان على ديننا ، والنصارى كانوا يقولون : إن إبراهيم كان على ديننا ، فقيل لهم : كيف تقولون ذلك والتوراة والإنجيل إنما نَزَلاَ من بعده بزمان طويلٍ؟ كان بين إبراهيم وبين موسى ألف سنةٍ ، وبين موسى وعيسى ألف سنةٍ ، فكيف يُعْقَل أنْ يكون يهوديًّا أو نصرانياً؟
فإن قيل : فهذا - أيضاً - لازم عليكم؛ لأنكم تقولون : إن إبراهيم على دين الإسلام ، والإسلام إنما نزل بعده بزمان طويلٍ ، فإن قلتم : المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على مذهب المسلمين الآن ، فنقول لهم : لِمَ لا يجوز - أيضاً - أن يقول اليهود : إن إبراهيم كان يهوديًّا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه اليهود ، وتقول النصارى : إن إبراهيم كان نصرانياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى؟ فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهودياً أو نصرانياً ، كما أن كون القرآن نازلاً بعده لا ينافي كونه مسلماً .
فالجواب : أن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً ، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً ، أو نصرانياً ، فظهر الفرق .
ثم نقول : أما كون النصارى ليسوا على ملة إبراهيمَ فظاهر؛ لأن المسيح ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ فما كانت عبادته مشروعة في زمان إبراهيم - لا محالة - فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لإبراهيم - لا محالة - وأما كون اليهدود ليسوا على ملة إبراهيم ، فلا شك أنه كان لله - تعالى - تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام وكان قبله أنبياء ، وكانت لهم شرائعُ معيَّنة ، فلما جاء موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، فإما أن يقال : إنّ موسَى جاء بتقرير تلك الشرائع ، أو بغيرها ، فإن جاء بتقريرها لم يكن موسَى صاحب الشريعةِ ، بل كان كالفقيه المقرِّر لشرعِ مَنْ قبله ، واليهود لا يرضَوْن بذلك .
وإذا كان جاء بشرع سوى شرع مَنْ تقدمه فقد قال بالنسخ ، فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كُلِّ الأنبياء جواز القول بالنسخ ، وأن النسخ حق - واليهود يُنْكرون ذلك ، فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم ، فظهر بُطْلانُ قولِ اليهود .

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

القراء في هذه على أربع مراتِبَ ، والإعراب متوقِّفٌ على ذلك :
المرتبة الأولى للكوفيين وابن عامر والبَزِّي عن ابن كثير : ها أنتم - بألف بعد الهاء ، وهمزة مخففة بعدها .
المرتبة الثانية لأبي عمرو وقالون عن نافع : بألف بعد الهاء ، وهمزة مسهَّلَة بين بين بعدها .
المرتبة الثالثة لورش ، وله وجهانِ :
أحدهما : بهمزة مسهلة بين بين بعد الهاء دون ألف بينهما .
الثاني : بألفٍ صريحةٍ بعد الهاء بغير همزة بالكلية .
المرتبة الرابعة لقُنْبُل بهمزة مُخَفَّفَة بعد الهاء دون ألف .
فصل
اختلف الناسُ في هذه الهاء : فمنهم من قال : إنها « ها » التي للتنبيه الداخلة على أسماء الإشارة ، وقد كثر الفصلُ بينها وبين أسماء الإشارةِ بالضمائر المرفوعة المنفصلة ، نحو : ها أنت ذا قائماً ، وها نحن ، وها هم ، وهؤلاء ، وقد تُعادُ مع الإشارة بعد دخولها على الضمائرِ؛ توكيداً ، كهذه الآية ، ويقل الفصل بغير ذلك كقوله : [ البسيط ]
1500- تَعَلَّمَنْ هَا - لَعَمْرُ اللهِ - ذَا قَسَماً ... فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ
وقول النابغة : [ البسيط ]
1501- هَا - إنَّ - ذِي عِذْرَةٌ إنْ لا تَكُنْ قُبِلَتْ ... فَإِنَّ صَاحِبَهَا قَدْ تَاهَ في الْبَلَدِ
ومنهم من قال : إنها مُبْدَلَةٌ من همزة الاستفهام ، والأصل : أأنتم؟ وهو استفهام إنكار ، وقد كثر إبدال الهمزة هاء - وإن لم ينقس - قالوا هَرَقْتُ ، وهَرَحْتُ ، وهَنَرتُ ، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء ، وأبي الحسن الأخفش ، وجماعة ، وأستحسنه أبو جعفر ، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنه لم يثبُت ذلك في همزة الاستفهام ، لم يُسْمَع : هَتَضْرِبُ زَيْداً - بمعنى أتَضْرِبُ زيداً؟ وإذا لم يثبت ذلك فكيف يُحْمَلُ هذا عليه؟
هذا معنى ما اعترض به أبو حيان على هؤلاء الأئمةِ ، وإذا ثبت إبدال الهمزة هاءٌ هان الأمر ، ولا نظر إلى كونها همزةَ استفهام ، ولا غيرها ، وهذا - أعني كونها همزة استفهام أبْدِلت هاءً - ظاهر قراءة قُنْبُلٍ ، وورش؛ لأنهما لا يُدْخِلان ألفاً بين الهاء وهمزة « أنتم » ؛ لأن إدخال الألف لما كان لاستثقال توالي همزتين ، فلما أبدلت الهمزة هاء زال الثقل لفظاً؛ فلم يُحتَج إلى فاصلةٍ ، وقد جاء إبدال همزة الاستفهام ألفاً في قول الشاعر : [ الكامل ]
1502- وَأتَتْ صَوَاحِبَهَا ، وَقُلْنَ هَذَا الَّذِي ... مَنَحَ الْمَوَدَّةَ غَيْرَنَا وَجَفَانَا
يريد أذا الذي؟
ويضعف جعلها - على قراءتهما - « ها » التي للتنبيه؛ لأنه لم يُحْفَظ حَذْفُ ألِفِها ، لا يقال : هَذَا زيد - بحذف ألف « ها » - كذا قيل .
قال شهاب الدّينِ : « وقد حذفها ابنُ عامر في ثلاثة مواضع - إلا أنه ضم الهاء الباقية بعد حذف الألف - فقرأ - في الوصل - : { ياأيها الساحر } [ الزخرف : 49 ] و { وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا المؤمنون }

[ النور : 31 ] ، و { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان } [ الرحمن : 31 ] ، ولكن إنما فعل ذلك اتباعاً للرسم؛ لأن الألفَ حُذِفَتْ في مرسوم مصحف الشام في هذه الثلاثة ، وعلى الجملة فقد ثبت حذف ألف « ها » التي للتنبيه . وأمَّا من أثبت الألف بَيْن الهاء وبين همزة « أنتم » فالظاهر أنها للتنبيه ، ويضعف أن تكون بدلاً من همزة الاستفهام؛ لما تقدم من أن الألف إنما تدخل لأجل الثقل ، والثقل قد زال بإبدال الهمزة هاء ، وقال بعضهم : الذي يقتضيه النظر أن تكون « ها » - في قراءة الكوفيين والبَزِّيّ وابن ذكوان - ، للتنبيه؛ لأن الألف في قراءتهم ثابتة ، وليس من مذهبهم أن يفصلوا بين الهمزتين بألف ، وأن تكون في قراءة قُنْبُل وورش - مُبْدَلَة من همزة؛ لأن قُنْبُلاً يقرأ بهمزة بعد الهاء ، ولو كانت « ها » للتنبيه لأتى بألف بعد الهاء ، وإنما لم يُسهِّل الهمزة - كما سَهَّلَها في { أَأَنذَرْتَهُمْ } ونحوه لأن إبدال الأولى هاء أغناه عن ذلك ، ولأن ورشاً فعل فيه ما فعل في : { أَأَنذَرْتَهُمْ } ونحوه من تسهيل الهمزة ، وترك إدخال الألفِ ، وكان الوجه في قراءته بالألف - أيضاً - الحمل على البدل كالوجه الثاني في { أَأَنذَرْتَهُمْ } ونحوه .
وما عدا هؤلاء المذكورين - وهم أبو عمرو وهشام وقالون - يحتمل أن تكون « ها » للتنبيه ، وأن تكون بدلاً من همزة الاستفهام .
أما الوجه الأول فلأن « ها » التنبيه دخلت على « أنتم » فحَقَّق هشام الهمزة كما حققها في « هؤلاء » ونحوها ، وَخَفَّفَهَا قالون وأبو عمرو؛ لتوسُّطِها بدخول حرف التنبيه عليها ، وتخفيف الهمزة المتوسطة قَوِيٌّ .
الوجهُ الثاني : أن تكونَ الهاءُ بدلاً من همزة الاستفهام؛ لأنهم يَفْصِلُون بين الهمزتين بألفٍ ، فيكون أبو عمرو وقالون على أصلهما - في إدخال الألف والتسهيل - وهشام على أصله - في إدخال الألف والتحقيق - ولم يُقْرَأ بالوجه الثاني - وهو التسهيل - لأن إبدال الهمزة الأولى هاءً مُغْنٍ عن ذلك .
وقال آخرون : إنه يجوز أن تكون « ها » - في قراءة الجميع - مُبْدَلَةً من همزة ، وأن تكون التي للتنبيه دخلت على « أنتم » ذكر ذلك ابو علي الفارسي والمَهْدَوِي ومَكِيّ في آخرين .
فأما احتمال هذين الوجهين - في قراءة أبي عمرو وقالون عن نافع ، وهشام عن ابن عامر- فقد تقدم توجيهه ، وأما احتمالهما في قراءة غيرهم ، فأما الكوفيون والبَزِّيُّ وابنُ ذكوان فقد تقدم توجيه كون « ها » - عندهم - للتنبيه ، وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - عندهم - أن يكون الأصل أنه أأنتم ، ففصلوا بالألف - على لغة مَنْ قال : [ الطويل ]
1503- .. أأنتِ أمْ أمُّ سَالِمِ
ولم يعبئوا بإبدال الهمزة الأولى هاءً؛ لكَوْن البدَلِ فيها عارضاً ، وهؤلاء ، وإن لم يكن من مذهبهم الفصل لكنهم جمعوا بين اللغتين .

وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - في قراءة قُنْبُلٍ وورشٍ - فقد تقدم ، وأما توجيه كونها للتنبيه في قراءتهما - وإن لم يكن فيها ألف - أن تكون الألف حُذِفَتْ لكثرة الاستعمال ، وعلى قول مَنْ أبدل كورشٍ حذفت إحدى الألفين؛ لالتقاء الساكنين .
قال أبو شَامَةَ : الأوْلَى في هذه الكلمة - على جميع القراءات فيها - أن تكون « ها » للتنبيه؛ لأنا إن جعلناها بدلاً من همزةٍ كانت الهمزةُ همزةَ استفهامٍ ، و { هاأنتم } أينما جاءت في القرآن إنما جاءت للخبر ، لا للاستفهام ، ولا مانع من ذلك إلا تسهيلُ مَنْ سَهَّل ، وحَذْفُ مَنْ حذف ، أما التسهيل فقد سبق تشبيهه بقوله : { لأَعْنَتَكُمْ } [ البقرة : 220 ] وشبهه ، وأما الحذف فنقول : « ها » مثل « أما » - كلاهما حرف تنبيه - وقد ثبت جواز حذف ألف « أما » فكذا حذف ألف « ها » وعلى ذلك قولهم : أمَ واللهِ لأفْعَلَنَّ .
وقد حمل البصريون قولهم : « هَلُمَّ » على أن الأصل « هَالُمَّ » ، ثم حذف الف « ها » فكذا { هاأنتم } . وهو كلام حَسَنٌ ، إلا أنَّ قوله : إن { هاأنتم } - حيث جاءت - كانت خبراً ، لا استفهاماً ممنوع ، بل يجوز ذلك ، ويجوز الاستفهام ، انتهى .
ذكر الفرّاءُ أيضاً - هنا - بحثاً بالنسبة إلى القصر والمد ، فقال : من أثبت الألفَ في « ها » ، واعتقدها للتنبيه ، وكان مذهبُه أن يقصر في المنفصل ، فقياسه هنا قَصْر الألف سواء حقَّق الهمزة ، أو سهلها ، وأمّا من جعلها للتنبيه ، ومذهبه المد في المنفصل ، أو جعل الهاء مبدلة من همزة استفهام - فقياسه أن يمد - سواء حقق الهمزة أو سهلها- .
وأما ورش فقد تقدم عنه وجهان : إبدال الهمزة - من « أنتم » - ألفاً ، وتسهيلها بَيْن بَيْنَ ، فإذا أبدل مَدَّ ، وإذا سهَّل قَصَر ، إذا عُرِف هذا ففي إعراب هذه الآيةِ أوجُهٌ :
أحدها : أنَّ « أنتم » مبتدأ ، و « هَؤُلاَءِ » خبره ، والجملة من قوله : { حَاجَجْتُمْ } في محل نصب على الحال يدل على ذلك تصريحُ العَرَب بإيقاع الحال موقعها - في قولهم : ها أنا ذا قائماً ، ثم هذه الحال عندهم - من الأحوال اللازمة ، التي لا يَسْتَغْنِي الكلامُ عَنْها .
الثالث : أن يكون { هاأنتم هؤلااء } على ما تقدم - أيضاً - ولكن هَؤلاءِ هنا موصول ، لا يتم إلا بصلةٍ وعائدٍ ، وهما الجملة من قوله : { حَاجَجْتُمْ } ، ذكره الزمخشريُّ .
وهذا إنما يتجه عند الكوفيين ، تقديره : ها أنتم الذين حاججتم .
الرابع : أن يكون « أنْتُمْ » مبتدأ ، و « حَاجَجْتُمْ » خبره ، و « هؤلاء » منادًى ، وهذا إنما يتَّجِه عند الكوفيين أيضاً؛ لأن حرفَ النداء لا يُحْذَف من أسماء الإشارة ، وأجازه الكوفيون وأنشدوا : [ البسيط ]

1504- إنَّ الأولَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولا
يريد يا هذا اعتصم ، وقول الآخر : [ الخفيف ]
1505- لا يَغُرًَّنَّكُمْ أولاَءِ مِنَ الْقَوْ ... مِ جُنُوحٌ لِلسِّلْمِ فَهْوَ خِدَاعُ
يريد : يا أولاء .
الخامس : أن يكون « هَؤلاءِ » منصوباً على الاختصاص بإضمار فعل . و « أنتُمْ » مبتدأ ، و « حَاجَجْتُمْ » خبره ، وجملة الاختصاص مُعْتَرِضَةٌ .
السادس : أن يكون على حذف مضافٍ ، تقديره : ها أنتم مثل هؤلاء ، وتكون الجملة بعدَها مُبَيِّنَةٌ لوجه الشبه ، أو حالاً .
السابع : أن يكون « أنْتُمْ » خبراص مقدماً ، و « هَؤلاءِ » مبتدأ مؤخراً .
وهذه الأوجهُ السبعةُ قد تقدم ذكرُها ، وذكرُ من نسبت إليه والردُّ على بعض القائلين ببعضها ، بما يغني عند إعادته في سورة البقرةِ عند قوله تعالى : { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 85 ] فليلتفت إليه .
قوله : { فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } « ما » يجوز أن تكون معنى « الذي » وأن تكونَ نكرةً موصوفةً .
ولا يجوز أن تكون مصدرية؛ لعود الضمير عليها ، وهي حرف عند الجمهور ، و « لَكُمْ » يجوز أن يكون خبراً مقدماً ، و « عِلمٌ » مبتدأ مؤخراً ، والجملة صلة لِ « ما » أو صفة ، ويجوز أن يكون لكم وحده صلة ، أو صفة ، و « عِلْمٌ » فاعلٌ به؛ لأنه قد اعتمد ، و « بِهِ » متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من « عِلْمٌ » إذ لو تأخَّر عنه لصَحَّ جَعْلُه نعتاً له ، ولا يجوز أن يتعلق ب « عِلمٌ » لأنه مصدر ، والمصدر لا يتقدم معموله عليه ، فإن جعلته متعلِّقاً بمحذوف يفسِّره المصدرُ جاز ذلك ، وسُمي بياناً .
فصل
وأما المعنى فقال قتادةُ والسُّدِّيُّ والربيعُ وغيرُهم : إن الذي لهم به علم هو دينُهم وجدوه في كتبهم ، وثبتَتْ صحتُه لديهم ، والذي ليس لهم به علم هو شريعةُ إبراهيمَ ، وما عليه مما ليس في كتبهم ، ولا جاءت به إليهم رُسُلُهُمْ ، ولا كانوا مُعَاصِرِيه ، فيعلمون دينَه ، فجدالهم فيه مجرَّد عِنَادٍ ومُكَابَرة .
قيل : الذي لهم به علم هو أمر نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لأنه موجود عندهم في كُتُبِهم بنعته ، والذي ليس به علمٌ هو أمر إبراهيم - عليه السلام- .
قال الزمخشريُّ : « يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى ، وبيان حماقتكم ، أنكم جادلتم فيما لكم به علم ومما نطق به التوراة والإنجيل ، { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } ولا نطق به كِتَأبُكُمْ من إبراهيمَ » .
فصل
اعلم أنهم زعموا أن شريعةَ التوراةِ والإنجيل مخالِفَةٌ لشريعة القرآن ، وهو المراد بقوله { حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } ثم قال : { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } وهو ادِّعاؤكم أن شريعةَ إبراهيمَ كانت مخالفةً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وقد تقدم أقوال العلماء فيه ثم يُحْتَمَل في قوله : { هاأنتم هؤلااء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } فكيف تحاجُّونه فيما لا علم لكم به ألبتة؟ ثم حقَّق ذلك بقوله : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } كيفية تلك الأحوال من المخالفةِ والموافقةِ ، ثم ذكر - تعالى - ذلك مفَصَّلاً ، مُبَيَّناً ، فقال : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } فكذَّبهم فيما ادَّعَوْه - من موافقته لهما - بَدْأً باليهود؛ لأن شريعتهم أقدم وكرر « لا » - في قوله : { وَلاَ نَصْرَانِيّاً } - توكيداً ، وبياناً أنه كان منفيًّا عن كل واحد من الدينين على حدته .

قال القرطبيُّ : « دلَّت الآيةُ على المنع من جدال مَنْ لا علم له ، وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأتقن ، قال تعالى : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل وولده ، فقال : يا رسولَ الله ، إنَّ امرأتي وَلَدَتْ غُلاماً أسْوَدَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ « ؟ قال : نَعَمْ ، قَالَ : » فَمَا ألْوَانُهَا « ؟ قال : حُمْرٌ ، قال : » فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ « ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَال : » مِنْ أيْنَ أتَاهَا ذَلِكَ « ؟ قَالَ : لَعَلَّ عِرْقاً نزَعَه ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : » وَهَذَا الغَلامُ لَعَلَّ عِرْقاً نَزَعَهُ « .
وهذه حقيقة الجدال ، والنهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صلى الله عليه وسلم » .
قوله : { ولكن } استدراك لما كان عليه ، ووقعت - هنا - أحسن موقع؛ إذْ هي بين نَقِيضَيْن بالنسبة إلى اعتقادِ الحقِّ والباطلِ .
ولما كان الخطاب مع اليهود والنصارَى أتى بجُمْلة تنفي أخْرَى؛ ليدل على أنه لم يكن على دين أحد من المشركين ، كالعرب عَبَدَةِ الأوثان ، والمجوس عَبَدَةِ النار ، والصابئةِ عَبَدَةِ الكواكبِ .
بهذا يطرحُ سؤالُ مَنْ قال : أيُّ فائدةٍ في قوله : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } بعد قوله : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } ؟ وأتى بخبر « كان » مجموعاً ، فقال : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } بكونه فاصلةً ، ولولا مراعاة ذلك لكانَتِ المطابقةُ مطلوبةً بينه وبين ما استدرك عنه في قوله : { يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } فيتناسب النفيان .
وقيل : قوله : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } تعريض بكَوْن النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح ، وكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه .
والحنيفُ : المائل عن الأديان كلِّها إلى الدّينِ المُسْتَقِيمِ .
وقيل : الحنيفُ : الذي يُوَحِّد ، ويَحُد ، ويُضَحِّي ، ويَخْتَتِنُ ، ويَسْتَقِبِل القبلة وتقدم الكلام عليه في البقرة .
فإن قيل : قولكم : إبراهيم على دين الإسلام ، أتريدون به الموافقة في الأصول ، أو في الفروع؟
فإن كان الأول لم يكن هذا مختصًّا بدين الإسلام ، بل نقطع بأنّ إبراهيمَ أيضاً على دين اليهود - [ ذلك الدينَ الذي جاء به موسى - وكان أيضاً - نصرانياً ] أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى - فإنَّ أديانَ الأنبياء كلَّها لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول ، وإن أردتم به الموافقةَ في الفروع لزم أن لا يكون محمد صلى الله عليه وسلم صاحب شرع ألبتة ، بل كان مقرِّراص لدين غيره ، وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة أن التعبُّد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ ، وتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا ، وغير مشروعة في صلاتهم .

فالجوابُ : أنه يجوز أن يكون المراد به الموافقة في الأصولِ والغرض منه بيانُ أنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هُمُ اليهود والنصارى في زماننا هذا .
ويجوز أن يقالَ : المراد به الموافقة في الفروع ، وذلك لأن اللهَ نسخ تلك الشرائعَ بشرع موسى ، ثم زمان محمد صلى الله عليه وسلم نسخ شرع موسى بتلك الشرائع التي كانت ثابتةً في زمان إبراهيم عليه السلامُ - وعلى هذا التقدير يكون - عليه السلامُ - صاحب الشريعة ، ثم لمَّا كان غالب شرع محمد صلى الله عليه وسلم موافقاً لشرع إبراهيم ، جاز إطلاق الموافقة عليه ، ولو وقعت المخالفةُ في القليل لم يقدَحْ ذلك في حصول الموافقة .
قوله : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ } ، « إبْراهِيم » متعلِّق به « أوْلَى » و « أوْلَى » أفعل تفضيل ، من الولي ، وهو القُرْب ، والمعنى : إنَّ أقْرَبَ الناسِ به ، وأخصهم ، فألفه منقلبة عن ياء ، لكون فائه واواً ، قال أبو البقاء : وألفه منقلبة عن ياء ، لأن فاءَه واوٌ ، فلا تكون لامه واواً؛ إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو - يعني اسم حرف التهجِّي - كالوسط من قول - أو اسم حرف المعنى - كواو النسق - ولأهل التصريفِ خلاف في عينه ، هل هي واو - أيضاً - أو ياء .
{ لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } خبر « إن » و { وهذا النبي } نَسَق على الموصول ، وكذلك : { والذين آمَنُواْ } ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون - رضي الله عنهم - وإن كانوا داخلين فيمن اتبع إبراهيمَ إلا أنهم خُصُّوا بالذِّكْر؛ تشريفاً ، وتكريماً ، فهو من باب قوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
حكى الزمخشريُّ أنه قُرِئَ : { وهذا النبي } - بالنصب والجر - فالنصب نَسَقاً على مفعول { اتَّبَعُوهُ } فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد اتَّبَعه غيرُه - كما اتبع إبراهيمَ - والتقدير : للذين اتبعوا إبراهيمَ وهذا النبيَّ ، ويكون قوله : { والذين آمَنُواْ } نَسًقاً على قوله : { لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } .
والجر نَسَقاً على « إبْرَاهِيمَ » أي : إن أوْلَى الناسِ بإبراهيمَ وبهذا النبي ، لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه ، وفيه نظرٌ من حيث إنه كان ينبغي أن يُثَنَّى الضميرُ في « اتَّبَعُوهُ » فيُقَال : اتبعوهما ، اللهم إلا أن يقال : هو من باب : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، ثم قال : { والله وَلِيُّ المؤمنين } بالنصر والمعونةِ والتوفيقِ والإكرامِ
فصل
روى الكلبيُّ وابنُ إسحاقَ حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب ، وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة ، واستقرَّتْ بهم الدَّارُ ، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان من أمر بدر ما كان ، اجتمعت قريش في دارِ الندوةِ ، وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي - من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - ثأراً ممن قُتِل منكم ببدر ، فاجمعوا مالاً ، وأهدوه إلى النجاشِيِّ؛ لعله يدفع إليكم مَنْ عنده من قَوْمِكُمْ ، ولْيُنْتَدَب لذلك رجلان من ذوي رَأيكم ، فبعثوا عمرو بنَ العاصِ ، وعمارة بن الوليد مع الهدايا ، فركِبا البحرَ ، وأتَيَا الحبشةَ ، فلما دَخَلاَ على النجاشيِّ سَجَدَا له ، وسلما عليه ، وقَالاَ له : إنَّ قومَنا لك ناصحون شاكرون ، ولصِلاَحِك مُحِبُّونَ ، وإنهم بعثونا لنحذّرك هؤلاءِ الذين قَدِموا عليك؛ لأنهم قومُ رجلٍ كَذَّابٍ ، خرج فينا يزعم أنه رسولُ اللهِ ، ولم يتابعه أحدٌ منا إلاَّ السُّفَهاءُ ، وإنا كنا ضيَّقْنَا عليهم الأمر ، وألجأناهم إلى شِعْبٍ بأرضِنَا ، لا يدخل عليهم أحدٌ ، ولا يخرجُ منهم أحدٌ ، حتى قتلهم الجوعُ والعطشُ ، فلمَّا اشتدَّ عليهم الأمرُ بعث إليك ابن عَمِّه ، ليُفْسِد عليك دِينَك ومُلْكَك ورَعِيَّتَك ، فاحْذَرْهُمْ ، وادْفَعْهم إلَيْنَا ، لنكفِيَكَهُمْ ، قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دَخَلوا عليك لا يسجدون لك ، ولا يُحَيُّونَك بالتحية التي يُحَيِّيك بها الناسُ رغبةً عن دِينك وسُنَّتِكَ .

فدعاهم النجاشيُّ ، فلمَّا حضروا صاح جعفرُ بالباب : يستأذن عليك حزبُ اللهِ ، فقال النجاشيُّ : مروا هذا الصائحَ فلْيُعِدْ كلامَه ، ففعل جَعْفَرُ ، فقال النجاشيُّ : نعم ، فلْيَدْخُلُوا بأمان اللهِ وذمته ، فنظر عمرو بنُ العاصِ إلى صاحبه ، فقال : ألا تسمع؟ يرطنون ب « حِزْبِ اللهِ » وما أجابهم به النجاشي!!! فساءهما ذلك ، ثم دخلوا عليه ولم يَسْجُدُوا له ، فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشِيُّ : ما منعكم أن تسجدوا لِي وتُحَيُّونِي بالتحية التي يحييني بها مَنْ أتاني من الآفاقِ؟ قالوا : نَسْجُد لله الذي خَلَقَكَ ومُلْكَك ، وإنما كانت تلك التحيةُ لنا ونحن نعبدُ الأصْنَام ، فبعث الله فينا نبيًّا صادقاً ، وأمرنا بالتحية التي رضيها اللهُ ، وهي السلامُ ، وتحية أهل الجنَّةِ ، فعرف النجاشيُّ أن ذلك حَقٌّ ، وأنه في التوراة والإنجيل ، فقال : أيكم الهاتف : يستأذنُ عليك حِزْبُ الله؟ قال جَعْفَر : أنا ، قال : فتكلم ، قال : إنك مَلِك من ملوك أهل الأرض ، ومن أهل الكتاب ، ولا يصلح عندَك كثرةُ الكلامِ ، ولا الظلمُ ، وأنا أحب أن أجيبَ عن أصحابي ، فمر هذين الرجلين ، فلْيَتَكَلَّمْ أحدُهما ، وليُنْصِت الآخرُ ، فيسمع محاورتنا ، فقال عَمْرو لجعفر : تَكَلَّمْ ، فقال جعفر للنجاشيُّ : سل هذين الرجلين أعَبيدٌ نحن أم أحرارٌ؟ فإن كنا عبيداً أبَقْنَا من أرْبَابِنا فاردُدْنا إليهم ، فقال النجاشيُّ : أعبيدٌ هم أم أحرار؟ فقال لا ، بل أحرارٌ كرام ، فقال النجاشيُّ : نَجَوْا من العبوديَّةِ ، ثم قال جعفرُ : سَلْهَُمَا هل لهم فينا دماء بغير حق ، فيقتصّ منا؟ فقال عمرو : لا ، ولا قطرة .

قال جعفر : سَلْهُمَا ، هل أخذنا أموالَ الناسِ بغير حق ، فعلينا قضاؤها - قال النجاشيُّ : إن كان قنطاراً فعلي قضاؤه - فقال عمرو : لا ، ولا قيراط ، فقال النجاشيُّ : فما تطلبون منهم؟ قال عمرو كنا وهم على دينٍ واحدٍ - دين آبائِنا - فتركوا ذلك ، واتَّبَعُوا غيره ، فَبَعَثَنَا إليك قومنا لتدفعهم إلينا ، فقال النجاشيُّ : ما هذا الدينُ الذي كنتم عليه ، الدين الذي اتبعتموه؟
قال : أما الدينُ الذي كنا عليه فتركناه فهو دينُ الشيطانِ ، كنا نكفر بالله ، ونعبد الحجارة ، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدينُ الله الإسلامُ ، جاءنا به من الله رسولٌ ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم ، موافِقاً له .
فقال النجاشيُّ : يا جعفر ، تكلمت بأمر عظيم ، فعلى رِسْلِك ، ثم أمر النجاشيُّ ، فضُرِب بالنَّاقوس ، قد اجتمع إليه كُلُّ قِسِّيسٍ ورَاهبٍ ، فلما اجتمعوا عنده ، قال النجاشيُّ : أنشدكم اله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًّا مُرسَلاً؟ فقالوا : اللهم نَعَمْ ، قد بشرنا به عيسَى ، وقال : مَنْ آمن به فقد آمن بي ، ومن كَفَر به فقد كفر بي .
قال النجاشيُّ لجعفَرَ : ماذا يقول لكم هذا الرجلُ؟ وما يأمركم به ، وما ينهاكم عنه؟ قال : يقرأ علينا [ كتاب الله ] ، ويأمرنا بالمعروف ، وينهانا عن المنكر ، ويأمر بحُسْنِ الجوار ، وصلة الرَّحِم ، وبِرِّ اليتيم ، وأمرنا أن لا نعبد إلا اللهَ وحدَه لا شريك له ، فقال : اقرأ عليَّ مما يقرأ عليكم ، فقرأ سورتي العنكبوت والرُّوم ، ففاضت عينا النجاشيِّ وأصحابه من الدّمع ، وقالوا : زِدْنَا يا جعفرُ من هذا الحديثِ الطيبِ ، فقرأ عليهم سورة الكهف ، فأراد عمرو أن يُغْضِبَ النجاشِيّ ، فقال : إنهم يشتمون عيسى ابن مريمَ وأمَّه ، فقال النجاشِيُّ : ما تقولون في عيسى وأمِّه ، فقرأ عليهم جعفر سورة « مريم » ، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشِيُّ نُفَاثَةً من سواكه قَدْرَ ما يُقْذِي العَيْنَ قال : والله ما زادَ المسيحُ على قول هذا ، ثم أقبل على جعفرَ وأصحابه ، فقال : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي ، آمنون ، مَنْ سَبَّكُمْ وآذاكم غَرِم ، ثم قال : أبشروا ، ولا تخافوا ، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيمَ ، قال عمرو : يا نجاشيُّ ، ومَنْ حِزْبَ إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبُهم الذي جاءوا من عنده ومَن اتبعهم ، فأنكر ذلك المشركون ، وادَّعَوْا في دين إبراهيمَ ، ثم رَدَّ النجاشيُّ على عمرو وصاحبه المالَ الذي حملوه ، وقال : إنما هديَّتُكم إليّ رشْوَة ، فاقبضوها؛ فإن الله - تعالى - ملَّكَني ولم يأخذْ مني رشوة ، قال جعفرُ : فانصرفْنَا ، فكنا في خير دارٍ ، وأكرم جوارٍ ، فأنزل الله ذلك اليوم على رسوله في خصومتهم في إبراهيم - وهو في المدينة - قوله - عز وجل : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين } .
وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةً مِنَ النَّبِيِّينَ ، وَإنَّ وليِّي مِنْهُمْ أبي ، وَخَلِيلُ رَبِّي » ثم قرأ : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين } .

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)

في « مِن » وجهان :
أظهرهما : أنها تبعيضيَّة .
والثاني : أنها لبيان الجني .
قال ابن عطيَّة : ويعني أن المراد ب « طائفة » جميع أهل الكتاب ، قال أبو حيّان : وهذا بعيد من دلالة اللفظ ، وهذا الجار - على القول بأنها تبعضية - في محلّ رفع ، صفة لِ « طَائِفَةٌ » ، وعلى القول بأنها بيانية تعلق بمحذوف .
وقوله : تقدم أنه يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون على بابها - من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره .
قال أبو مُسْلِم الأصبهاني : « وَدَّ » بمعنى تَمَنَّى ، فيستعمل معها « لو » و « أن » وربما جُمِع بينهما ، فَيُقَالُ : وددت أن لو فعلت ، ومصدره الودادة ، والاسم منه وُدّ وبمعنى « أحَبَّ » فيتعدَّى « أحَب » والمصدر المودة ، والاسم منه ود وقد يتداخلانِ في المصدر والاسم .
وقال الراغب : « إذا كان بمعنى » أحب « لا يجوز إدخال » لو « فيه أبداً » .
وقال الرمانيُّ : « إذا كان وَدَّ » بمعنى تمنَّى صلُح للحال والاستقبال [ والماضي ، وإذا كان بمعنى الهمة والإرادة لم يصلح للماضي؛ لأن الإرادة لاستدعاء الفعل ، وإذا كان للحال والمستقبل جاز وتجوز « لَوْ » ، وإذا كان للماضي لم يجز « أنْ » لأن « أن » للمستقبل ] .
وفيه نظرٌ ، لأن « أن » تُوصَل بالماضي .
فصل
لما بَيَّن - تعالى - أن من طريقة أهل الكتاب العدولَ عن الحق ، والإعراضَ عن قبول الحجة بيَّن - هنا - أنهم لا يقتصرون على هذا القدر ، بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات ، كقولهم : إن محمداً صلى الله عليه وسلم مُقرٌّ بموسَى وعيسَى ، وكقولهم : إن النسخ يُفْضِي إلى البداء والغرض منه : تنبيه المؤمنين على ألاَّ يَغْتَرُّوا بكلام اليهودِ ، ونظيرُه قولُه تعالى في سورة البقرة : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً } [ البقرة : 109 ] ، وقوله : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً } [ النساء : 89 ] .
فصل
قيل : نزلت هذه الآية في معاذ بن جبلٍ وعمارِ بن ياسرٍ وحُذَيفَةَ حين دعاهم اليهود إلى دينهم ، فنزلت .
« ودت » تمنَّت طَائِفَةٌ جماعة { مِّنْ أَهْلِ الكتاب } يعني اليهود { لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } ، ولم يَقُلْ : أن يضلوكم؛ لأن « لو » أوفق للتمني؛ فإن قولك : لو كان كذا ، يفيد التمني ، ونظيره قوله : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ البقرة : 96 ] ، ثم قال تعالى : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } وهو يحتمل وجوهاً منها :
إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قَصْدِهم إضلال الغير ، كقوله : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ البقرة : 57 ] ، وقوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ، وقوله : و { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ] .
ومنها : إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق؛ لأن الذاهب عن الاهتداء ضالّ .
[ ومنها : أنهم اجتهدوا في إضلال المؤمنين ، ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم ، فهم قد صاروا خائبين خاسرين؛ حيث اعتقدوا شيئاً ، ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوَّروه ] .
ثم قال تعالى : { وَمَا يَشْعُرُونَ } ، أي : وما يعلمون أن هذا يَضُرُّهم ، ولا يضر المؤمنين .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)

« لم » أصلها « لِمَا » لأنها « ما » التي للاستفهام ، دخلت عليها اللامُ ، فحُذِفت الألف؛ لطلب الخفة لأن حرف الجر صار كالعِوَضِ عنها ، ولأنها وقعت طرفاً ، ويدل عليها الفتحة؛ وعلى هذا قوله تعالى : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [ النبأ : 1 ] وقوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] والوقف على [ هذه الحروف ] يكون بالهاء نحو فَبِمَهْ ، لِمَهْ .
قوله : { بِآيَاتِ الله } فيه وُجُوهٌ :
أحدها : أن المراد بها ما في التوراة والإنجيل ، وعلى هذا يُحْتَمل أن يكون المراد ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ونَعْتِه ، ويحتمل أن يكون المرادُ بما في هذين الكتابين من أن إبراهيمَ كان حنيفاً مسلماً .
ويحتمل أن يكون ما فيهما من أن الدين عند اللهِ الإسْلاَمُ؛ وقائل هذا القول المحتمل لهذه الوجوه ، يقول : إن الكفرَ بآيات الله يحتمل وجهين :
أحدهما : أنهم ما كانوا كافرين بالتَّوْرَاةِ ، بل كانوا كافرين بما تدل عليه التوراةُ ، فأطلق اسْمَ الدليل على المدلول ، على سبيل الْمَجَازِ .
الثاني : أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة؛ لأنهم كانوا يُحَرِّفُونها ، وكانوا يُنَكِرون وجودَ تلك الآياتِ الدالةِ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
الوجه الثاني : أن المراد بآيات الله [ هو ] القرآن وبيان نعته صلى الله عليه وسلم { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أن نعته مذكور في التوراة والإنجيل ، وتُنْكِرون عند العوام كَوْنَ القرآنِ معجزةٌ ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم بكونه معجزاً .
الوجه الثالث : أن المراد بآياتِ الله جملة المعزات التي ظهرت على يد [ النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا قوله : { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } معناه : وأنكم لما اعترفتم بدلالة المعجزاتِ التي ظهرت على ] سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الدالة على صدقهم ، من حيث إنَّ المعجز قائم مقام التصديق من الله وإذا شهدتم بأن المعجز دليل على صدق الأنبياء عليهم السلام ، وأنتم قد شاهدتم المعجز في حق محمد صلى الله عليه وسلم فكان إصرارُكم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتم بحقيقته من دلالةِ معجزات سائر الأنبياء - عليهم السلام- .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

قرأ العامة : { تَلْبِسُونَ } بكسر الباء ، من لبس عليه يلبس ، أي : خلَطه ، وقرأ يحيى بن وثَّابٍ بفتحها جعله من لبست الثوب ألبسه - على جهة المجاز ، وقرأ أبو مجلز « تُلبِّسُون » - بضم التاء ، وكسر الباء وتشديدها - من لبَّس « بالتشديد » ، ومعناه التكثير .
والباء في « الباطل » للحال ، أي : متلبساً بالباطل .
فصل في معنى : تلبسون الحق
{ تَلْبِسُونَ } تخلطون { الحق بالباطل } الإسلام باليهودية والنصرانية .
وقيل : تخلطون الإيمان بعيسى - وهو الحق - بالكفر بمحمد - وهو الباطل - .
وقيل : التوراة التي أنزل الله على موسى بالباطل ، الذي حرَّفتموه ، وكتبتموه بأيديكم ، قاله الحسنُ وابن زيد .
وقال ابنُ عباس وقتادةُ : تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار ، ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكاً للناس .
قال القاضي : أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم من البشارة والنعت والصفة ، ويكون في التوراة - أيضاً - ما يوهم خلاف ذلك ، فيكون كالمحكم والمتشابه ، فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر .
وقيل إنهم كانوا يقولون : إنَّ محمداً معترفٌ بأن موسى حَقٌّ ، ثم إنّ التوراةَ دالة على أن شرع موسى لا ينسخ ، وكل ذلك إلقاء للشبهات .
قوله : { وَتَكْتُمُونَ الحق } جملة مُسْتَأنَفةٌ ، ولذلك لم يُنْصَب بإضمار « أن » في جواب الاستفهام ، وقد أجاز الزجاجُ - من البصريين - والفرّاءُ - من الكوفيين - فيه النصب - من حيث العربية - تسقط النون ، فينتصب على الصرف عند الكوفيين ، وبإضمار « أن » عند البصريين .
ومنع ذلك أبو علي الفارسيّ ، وأنكَرَه ، وقال : الاستفهام واقع على اللبس فحسب ، وأما { يَكْتُمُونَ } فخبر حتم ، لا يجوز فيه إلا الرفع . يعني أنه ليس معطوفاً على { تَلْبِسُونَ } ، بل هو استئناف ، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحقَّ مع علمهم أنه حَقٌّ .
ونقل ابو محمد بن عَطِيَّة عن أبي عليٍّ أنه قال : الصَّرْف - هنا - يَقْبُح ، وكذلك إضمار « أن » لأن « تَكتُمُونَ » معطوف على موجب مقرَّر ، وليس بمستفهَم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم : لا تأكل السمكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ ، وليس بمنزلة قولك : أيقومُ فأقومَ؟ والعطف على الموجب المقرَّر قبيح متى نصب - إلا في ضرورة الشعر - كما رُوِي : [ الوافر ]
1506- .. وَأَلْحَقَ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا
قال سيبويه - في قولك : أسِرْتَ حتى تَدْخُلَهَا- : لا يجوز إلا النَّصْبُ في « تداخلها » لأن السير مستفهم عنه غيرُ موجَب ، وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلُها؟ رفعت لأن السيرَ موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره .
قال أبو حيّان : وظاهر هذا النقل - عنه - معارضتُه لما نقل عنه قبله؛ لأن ما قبلَه فيه أن الاستفهام رفع عن اللبس فحَسْب ، وأما { يَكْتُمُونَ } فخبر حَتْماً ، لا يجوز فيه إلا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أنَّ { يَكْتُمُونَ } معطوف على موجَب مقرَّر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطفُ على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس ، وسبب الكَتْم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى ، وبين أن يكون { يَكْتُمُونَ } إخْباراً محضاً ، لم يشترك مع اللبس في السؤالِ عن السببِ ، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمَّن وقوعَ الفعل ، لا ينتصب الفعل بإضمار « أن » في جوابه وتبعه في ذلك جمال الدين ابن مالك ، فقال في تسهيله : « أو لاستفهام لا يتضمَّن وقوعَ الفعلِ » .

فإن تضمن وقوع الفعلِ امتنع النصبُ عندَه ، نحو : لِمَ ضربتَ زيداً فيجازِيَك؛ لأن الضرب قد وقع . ولم يشترط غيرُهما - من النحويين - ذلك ، بل إذا تعذر سَبْك المصدر مما قبله - إمَّا لعدم تقدُّمِ فعل ، وأما لاستحالة سَبْك المصدر المراد به الاستقبال؛ لأجل مُضِيِّ الفعل - فإنما يقدر مصعد مقدَّراً استقبالُه بما يدل عليه المعنى ، فإذا قلت : لِمَ ضربتَ زيداً فاَضْرِبَك؟ فالتقدير : ليكن منك إعلام بضَرْبِ زيدٍ فمجازاة منا ، وأما ما ردَّ به أبو علي الفارسي على الزجَّاج والفرَّاء ليس بلازم؛ لأنه قد منع أن يراد بالفعل المُضِيَّ معنى إذ ليس نصًّا في ذلك؛ إذْ قد يمكن الاستقبال لتحقيق صدوره لا سيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك ، وعلى تقدير تحقُّق المُضِي فلا يلزم - أيضاً - لأنه - كما تقدم - إذا لم يُمْكن سَبْك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها ، ويدل على إلغاء هذا الشرطِ ، والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابنُ كَيْسَان من رفع المضارع بعد فعلٍ ماضٍ ، محقَّق الوقوع ، مستفهَم عنه ، نحو : أين ذهب زيد فنتَّبعُه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ وكم مالك فنعرفُه؟ كل ذلك متأوَّل بما ذكرنا من انسباك المصدر المستقبل من لازم الجُمَل المتقدمة ، فإن التقدير : ليكن منك إعلامٌ بذهاب زيد فاتباعٌ منا ، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام له منا ، وليكن منك تعريف بقدر مالك فمعرفة مِنَّا .
قال شهابُ الدِّينِ : « وهذا البحثُ الطويلُ على تقدير شيء لم يَقَعْ ، فإنه لم يُقْرَأ - لا في الشاذ ولا في غيره - إلا ثابتَ النون ، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث ، تنقيحاً للذهن » .
ووراء هذا قراءة مُشْكِلَة ، رَوَوْها عن عُبَيْد بن عُمَير ، وهي : لِمَ تَلْبسُوا الحق بالباطل وَتَكْتُمُوا بحذف النون من الفعلين - وهي قراءة قراءة لا تَبْعد عن [ لَغطِ البحث ] ، كأنه توهم أن « لَمْ » هي الجازمة ، فجزم بها ، وقد نقل المفسّرونَ عن بعض النُّحَاةِ - هنا - أنهم يجزمون بلم حملاً على « لم » - نقل ذلك السجاونديُّ وغيره عنهم ، ولا أظن نحويّاً يقول ذلك ألبتة ، كيف يقولون في جار ومجرور : إنه يَجْزِم؟ هذا ما لا يُتفَوَّهُ به ألبتة ولا نطيق سماعه ، فإن ثبتت هذه القراءةُ ولا بد فلتكن مما حُذِف فيه نونُ الرفع تخفيفاً؛ حيث لا مقتضى لحَذْفها ، ومن ذلك قراءة بعضهم :

{ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } [ القصص : 48 ] - بتشديد الظاء - الأصل : تتظاهران ، فأدغم الثاني في الظاء ، وحذف النون تخفيفاً ، وفي الحديث : « والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا . . » يريد - عليه السلامُ- : لا تدخلون ، ولا تؤمنون؛ لاستحالة النهي معنًى .
وقال الشاعرُ : [ الرجز ]
1507- أبِيتُ أسْرِي ، وَتَبِيتِي تَدْلُكِي ... وَجْهَكِ بالْعَنْبَر وَالْمِسْكِ الذَّكِي
يريد تبيتين وتدلُكين .
ومثله قول أبي طالب : [ الطويل ]
1508- فَإنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ ... سَتَحْتَلِبُوهَا لاَقِحاً غَيْرَ بَاهِلِ
يريد : ستحتلبونها .
ولا يجوز أن يُتَوهَّم - في هذا البيت - أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط ، لأن الفاء مُرادَة وجوباً؛ لعدم صلاحية « ستحتلبوها » جواباً؛ لاقترانه بحرف التنفيس .
والمراد بالحق : الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية ، ومتعلق العلم محذوف ، إما اقتصاراً ، وإما اختصاراً - أي : وأنتم تعلمون الحق من الباطل ، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو تعلمون أن عقابَ مَنْ يفعل ذلك عظيم ، وتعلمن أنكم تفعلون ذلك عناداً وحسداً .
فصل في كلام القاضي
قال القاضي : قوله تعالى : { لِمَ تَكْفُرُونَ } ؟ و { لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل } يدل على أن ذلك فعلهم؛ لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم ، ثم يقول : لِمَ فعلتم؟
وجوابه : أن الفعل يتوقف على الداعية ، فتلك الداعية إن حدثت لا لِمُحْدِث لزم نفي الصانع ، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى ، وإن كان مُحْدِثُها هو الله - تعالى - لزمكم ما ألزمتموه علينا .

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)

حكي عنهم التلبيسُ ، فذكر منه هذا النوع .
قوله : { وَجْهَ النهار } منصوب على الظرف؛ لأنه بمعنى : أول النهار؛ لأن الوجه - في اللغة - مستقبل كل شيء؛ لأنه أول ما يواجَه منه ، كما يقال - لأول الثوب- : وجه الثوب .
روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي : أتيته بوجه نهارٍ ، وصدر نهار ، وشباب نهار ، أي : أوله وقال الربيع بن زياد العبسي : [ الكامل ]
1509- مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
أي : بأوله ، وفي ناصب هذا الظرف وجهان :
أظهرهما : أنه فعل المر من قوله { آمِنُواْ } أي : أوْقَعُوا إيمانَكم في أول النهار ، وأوقعوا كُفْرَكم في آخره .
والثاني : أنه { وَأَنْزَلَ } أي : آمنوا بالمُنَزَّل في أول النهار ، وليس ذلك بظاهر ، بدليل المقابلة في قوله : { واكفروا آخِرَهُ } . فإن الضميرَ يعودُ على النهارِ ، ومن جوَّز الوجه الثاني جعل الضمير يعود على { بالذي أُنْزِلَ } ، أي : واكفروا آخر المنزَّل ، وأسباب النزول تُخالف هذا التأويل وفي هذا البيتِ الذي أنشدناه فائدةٌ ، وذلك أنه من قصيدة يرثي بها مالك بن زهير بن خُزَيْمَةَ العبسي ، وبعده : [ الكامل ]
1510- يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ ... يَبْكِينَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأسْحَارِ
قَدْ كُنَّ يَخْبَأنَ الْوُجُوهَ تَسَتُّراً ... فَالْيَوْمَ حِينَ بَدَوْنَ لِلنُّظَّارِ
يَخْمِشْنَ حرَّاتِ الْوُجُوهِ عَلَى امرئٍ ... سَهْلِ الْخَلِيقَةِ طَيِّبِ الأخْبَارِ
ومعنى الأبيات يحتاج إلى معرفةِ اصطلاح العربِ في ذلك ، وهو أنهم ك انوا إذا قُتِلَ لهم قتيلٌ لا تقوم عليه نائحةٌ ولا تَنْدُبُه نادبةٌ ، حتى يؤخذَ بثأره ، فقال هذا : من سرَّه قَتْلُ مالك ، فليأتِ في أول النهارِ يجدنا قد أخذْنَا بثأره ، فذكر اللازم للشيء ، وهو من باب الكناية .
وحكي أن الشيباني سأل الأصمعي : كيف تنشد قول الربيع : . حين بدأنَ ، أو بدَيْنَ؟ فقال الأصمعيّ : بَدأنَ ، فقال : أخطأت ، فقال : بَدَيْنَ ، فقال : أخطأتَ ، فغضب الأصمعيُّ ، وكان الصواب أن يقول : بدَوْنَ - بالواو - لأنه من باب : بدا يَبْدو ، أي : ظهر - فأتى الأصمعي يوماً للشيباني ، وقال له : كيف تُصَغِّر مُخْتَاراً؟ فقال : مُخَيتير ، فضَحِك منه ، وصفَّق بيديه ، وشَنَّع عليه في حلقته ، وكان الصواب أن يقولَ : مُخَيِّر - بتشديد الياء - وذلك أنه اجتمع زائدان- ، الميم والتاء - والميم أولى بالبقاء؛ لعلة ذكرها التصريفيُّون ، فأبقاها ، وحذف التاء ، وأتى بياء التصغير ، فقلب - لألها - الألف ياءً ، وأدْغمها فيها ، فصار : مُخَيِّراً - كما ترى - وهو يحتمل أن يكون اسمَ فاعل ، أو اسمَ مفعول - كما كان يحتملها مُكَبَّرهُ ، وهذا - أيضاً - يلبس باسم الفاعل خَيَّر فهو مُخَيِّر ، والقرائنُ تبينه .
ومفعول { يَرْجِعُونَ } محذوف - أيضاً - اقتصاراً - أي : لعلهم يكونون من أهل الرجوع ، أو اختصاراً أي : يرجعون إلى دينكم وما أنتم عليه .
فصل
قال القرطبيُّ : والطائفة : الجماعة - من طاف يطوفُ - وقد يُسْتَعْمَل للواحد على معنى : نفس طائفة ، ومعنى الآية يحتمل أن يكون المراد كلَّ ما أنزل ، وأن يكون بعضَ ما أنزل أما الاول ففيه وجوهٌ :
الأول : أن اليهودَ والنصارَى استخرجوا حيلةً في تشكيك ضَعَفَةِ المسلمين في صحة الإسلام ، وهي أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الشرائع في بعض الأوقات ، ثم يُظهروا بعد ذلك تكذيبه فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب قالوا : هذا التكذيب ليس لأجل الحَسَدِ والعناد ، وإلا لَمَا آمَنُوا في أول الأمر ، فإذا لم يكن حَسَداً ، وجب أن يكون لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكَّروا في أمره ، واستَقْصَوْا في البحث عن دلائل نبوتِهِ ، فلاح لهم - بعد ذلك التأمل التام ، والبحثَ الوافي - أنه كذاب ، فيصير هذا الطريق شبهة لضَعَفةِ المسلمين في صحة نبوته .

قال الحَسَنُ والسُّدِّيُّ : تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار خيبر وقُرَى عُرَيْنَة ، وقال بَعْضُهُمْ ادخلوا في دين محمدٍ أولَ النهار باللسان دون الاعتقاد ، ثم اكفروا آخِرَ النهار ، وقولوا : إنّا نظرنا في كتابنا ، وشاوَرْنا علماءَنا ، فوجدنا محمداً ليس بذلك ، وظهر لنا كذبُه ، فإذا فعلتم ذلك شَكَّ أصحابُه في دينهم ، واتهموه ، وقالوا : إنهم أهْلُ الكتاب ، وهم أعلم منا ، فيرجعون عن دينهم ، وهذا قول أبي مُسْلِمِ الأصبهانيِّ .
قال الأصمُّ : قال بعضهم لبعض : إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم؛ لأن كثيراً يعلمون ما جاء به حقٌّ ، ولكن صَدِّقُوه في بعض ، وكَذِّبوه في بعض ، حتى يحمل الناسُ تكذيبَكم على الإنصاف ، لا على العِناد ، فيقبلوا قولكم .
وأما الاحتمال الثاني - وهو الإيمان بالبعض - ففيه وجهان
أحدهما : قال ابنُ عباسٍ : « وَجْهَ النَّهارِ » : أوله ، وهو صلاة الصبح ، { واكفروا آخِرَهُ } يعني : صلاة الظهر ، وتقديره : أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس - بعد أن قدم المدينة - ففرح اليهود بذلك ، وطمعوا أن يكون منهم ، فلمَّا حوله الله إلى الكعبة - وكان ذلك عند صلاة الظهر - قال كعبُ بن الأشرفِ وغيره : « ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار » يعني آمنوا بالْقِبْلَةِ التي صلى إليها صلاةَ الصبح ، فهي الحق ، { واكفروا } بالقبلة إلى الكعبة { لَعَلَّهُمْ } يقولون : إن هؤلاء أهل كتاب ، وهم أعلم ، فيرجعون إلى قبلتنا .
الثاني : قال بعضُهُمْ لبعض : صَلُّوا إلى الكعبة أولَ النهار ثم اكفروا بهذه القبلةِ في آخر النهار؛ وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون : إن أهل الكتاب أصحابُ العلم ، فلولا أنهم عَرفوا بُطْلانَ هذه الْقِبْلَة لَمَا تركوها ، فحينئذٍ يرجعون عن هذه القبلة .
فصل في فوائد كشف حيلتهم
إخبار الله - تعالى - عن تواطُئِهم على هذه الحيلة فيه فائدةٌ من وُجُوهٍ :
الأول : أن ذلك إخبار عن الغيب ، فَيَكون مُعْجِزاً؛ لأنها كانت مخفيَّةً فيما بينهم ، وما أطْلعوا عليه أحداً من الأجانب .
الثاني : أنه - تعالى - لما أطْلع المؤمنين على هذه الحيلةِ لم يَبْقَ لها أثرٌ في قلوبِ المؤمنين ، ولولا هذا الإعلام لكان رُبَّما أثّرت في قلوب بعضِ [ المؤمنين الذين ] في إيمانهم ضعف .
الثالث : [ أن القومَ ] لما افتضحوا في هذه الحيلةِ صار ذلك رادِعاً لهم عن الإقدام على أمْثَالِها من الحِيل والتلبيس .

وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

اللام في « لِمَنْ » فيها وجهان :
أحدهما : أنها زائدة مؤكِّدة ، كهي في قوله تعالى : { قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] أي : ردفكم وقول الآخر : [ الوافر ]
1511- فَلَمَّا أنْ تَوَاقَفْنَا قَلِيلاً ... أنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَميْنَا
وقول الآخر : [ الكامل ]
1512- مَا كُنْتُ أخْدَعُ لِلْخَلِيلِ بِخُلَّةٍ ... حَتَّى يَكُونَ لِيَ الْخَلِيلُ خَدُوعَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
1513- يَذُمُّونَ لِلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْلِبُونَهَا ... أفَاوِيقَ حَتَّى ما يَدِرُّ لَهَا فَضْلُ
أي : أنخنا الكلاكِلَ ، وأخدع الخليل ، ويذمون الدنيا ، ويُرْوَى : يذمون بالدنيا ، بالباء .
قال شهابُ الدينِ : وأظن البيتَ : يذمون لِي الدنيا - فاشتبه اللفظ على السامع - وكذا رأيته في بعض التفاسيرِ ، وهذا الوجه ليس بالقوي .
الثاني : أن « آمن » ضُمِّن معنى أقَرَّ واعْتَرَف ، فعُدِّيَ باللام ، أي : ولا تُقِرّوا ، ولا تعترفوا إلا لمن تبع دينكم ، ونحوه قوله : { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ } [ يونس : 83 ] وقوله : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] وقال أبو علي : وقد يتعدَّى آمن باللام في قوله : { فَمَآ آمَنَ لموسى } [ يونس : 83 ] ، وقوله : { آمَنتُمْ لَهُ } [ طه : 71 ] ، وقوله : { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] فذكر أنه يتعدى بها من غير تضمين ، والصَّوَابُ التضمين وقد تقدم تحقيقه أول البقرة . وهنا استثناء مُفَرَّغٌ .
وقال أبو البقاء : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء مما قبلَه ، والتقديرُ : ولا تَقرُّوا إلا لمن تبع ، فعلى هذا اللام غير زائدة ولا يجوز أن تكون زائدة ويكون محمولاً على المعنى ، أي اجْحَدوا كُلَّ أحد إلا من تبع دينكم .
والثاني : أن النية به التأخير ، والتقدير : ولا تُصَدِّقُوا أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم؛ فاللام على هذا - زائدة ، و « مَنْ » في موضع نصب على الاستثناء من أحد .
وقال الفارسيُّ : الإيمان لا يتعدى إلى مفعولين ، فلا يتعلق - أيضاً - بجارين ، وقد تعلَّق بالجار المحذوف من قوله : { أَن يؤتى } فلا يتعلق باللام في قوله : { لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إلا أن يحمل اللام على معناه ، فيتعدى إلى مفعولين ، ويكون المعنى : ولا تُقِرُّوا بأن يُتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينَكم ، كما تقول : أقررت لزيد بألفٍ ، فتكون اللام متعلقة بالمعنى ، ولا تكون زائدة على حد : { رَدِفَ لَكُمْ } [ النمل : 72 ] و { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] وهذا تَصْرِيحٌ من أبي علي بأنه ضمن « آمن » معنى « أقَرَّ » .
فصل
اتفق المفسّرون على أن هذا بقية كلامِ اليهودِ ، وفيه وجهانِ :
الأول : أن معناه : ولا تُصَدِّقُوا إلا بنبي يُقرِّر شرائعَ التوراةِ ، ومَنْ جاء بتغيير شرع من أحكام التوراة ، فلا تصدقوه ، وعلى هذا التفسير تكون اللام في { لِمَنْ تَبِعَ } صلة زائدة .
الثاني : معناه : لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل مَنْ تبع دينكم ، أي : ليس الغرضُ من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم ، فإنّ مقصود كلِّ أحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته .

ثم قال : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } .
قال ابن عباسٍ : معناه : الدين دين الله ، ونظيره : { قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } [ الأنعام : 71 ] وبيان كيف صار هذا الكلامُ جواباً عما حكاه عنهم :
أما على الوجه الأول - وهو قولهم : لا دينَ إلا ما هم عليه - فهذا الكلام إنما صَحَّ جواباً عنهم من حيثُ إن الذي هم عليه ثبت ديناً من جهة الله - تعالى - لأنه أمر به ، وأرشد إليه ، فإذا وجب الانقياد لغيره كان ديناً يجب أن يُتَّبعَ - وإن كان مخالفاً لما تقدَّم - لأن الدينَ إنما صارَ ديناً بحكمه وهدايته ، فحيثما كان حُكْمُه وجب متابعته ، ونظيره قوله تعالى - جواباً لهم عن قوله : { مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] - قوله : { قُل للَّهِ المشرق والمغرب } [ البقرة : 142 ] يعني : الجهاتِ كلَّها لله ، فله أن يُحَوِّل القبلةَ إلى أيِّ جهةٍ شاء .
وعلى الوجه الثاني : المعنى : { إِنَّ الهدى هُدَى الله } قد جئتكم به ، فلن ينفعَكم في دفعه هذا الكيد الضعيفُ .
فصل
قوله تعالى : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } نقل ابنُ عطيّة الإجماع من أهل التأويل على أن هذا من مقول الطائفة ، وليس بسديد ، لما نقل من الخلاف ، وهل هي من مقول الطائفة أم من مقول الله تعالى - على معنى أن الله - تعالى - خاطب به المؤمنين ، تثبيتاً لقلوبهم ، وتسكيناً لجأشهم؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهودِ عليهم وتزويرهم؟
[ إذا كان من كلامِ طائفةِ اليهودِ ، فالظاهر أنه انقطع كلامُهم؛ إذ لا خلاف ، ولا شك أن قولَه : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } من كلام الله مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم ] .
قوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } اعلم أن هذه الآية من المشكلات ، فنقول : اختلف الناس في هذه الآية على وجوه :
الأول : أن قوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ } متعلق بقوله : { وَلاَ تؤمنوا } على حذف حرف الجر ، والأًل : ولا تُؤْمِنُوا بأن يُؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، فلما حُذِفَ حرف الجر جرى الخلافُ المشهور بين الخليل وسيبويه في محل « أن » ، ويكون قولُه : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } جملةً اعتراضيةً .
قال القفّالُ : يحتمل أن يكون قوله : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } كلاماً أمر اللهُ نبيه أن يقولَه عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع؛ لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً - لا جرم - أدب الله رسوله بأن يقابله بقول حَقِّ ، ثم يعود إلى حكايةِ تمامِ كلامِهم - كما إذا حكى المسلم عن بعضِ الكُفَّار قَوْلاً فيه كُفْر ، فيقول - عند بلوغه إلى تلك الكلمة- : آمنت بالله ، أو يقول : لاَ إلَه إلا اللهُ ، أو يقول : تعالى الله عن ذلك ، ثم يعود إلى تمام الحكاية ، فيكون قوله : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } من هذا الباب .

قال الزمخشريُّ في تقرير هذا الوجه - وبه بدأ- : { وَلاَ تؤمنوا مُتَعَلِّقٌ بقوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ } وما بينهما اعتراضٌ ، أي : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، وأسِرُّوا تصديقكُمْ بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم ، ولا تُفْشُوه إلا لأشياعكم - وحدهم - دون المسلمين؛ لئلاَّ يزيدَهم ثباتاً ، ودون المشركين ، لئلا يدعوهم إلى الإسلام .
{ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } عطف على { أَن يؤتى } والضمير في { يُحَاجُّوكُمْ } لِ { أَحَدٌ } لأنه في معنى الجميع ، بمعنى : ولا تؤمنوا لغير أتباعكم بأن المسلمين يحاجونكم عند ربكم بالحق ، ويغالبونكم عَنْدَ اللهِ - تعالى - بالحُجَّةِ .
فإن قلت : ما معنى الاعتراضِ؟
قلت : معناه : إن الهدَى هُدى الله ، من شاء يَلْطُف به حتى يُسلم ، أو يزيد ثباتاً ، ولم ينفع كيدكم وحِيَلُكم ، وذَبُّكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين ، وكذلك قوله : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } يريد الهداية والتوفيق .
قال شهاب الدينِ : « وهذا كلامٌ حسَنٌ ، لولا ما يُريد بباطنه » ، وعلى هذا يكون قوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ } مستثْنَى من شيء محذوفٍ ، تقديره : ولا تُؤمنوا بأن يُؤتَى أحد مل ما أوتيتم لأحد من الناس إلا لأشياعكم دون غيرهم ، وتكون هذه الجملة - أعني قوله : { وَلاَ تؤمنوا } من كلام الطَّائِفَةِ المتقدمة ، أي وقالت طائفةٌ كذا ، وقالت أيضاً : ولا تؤمنوا ، وتكون الجملة من قوله : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } من كلام اللهِ لا غير « .
قال ابن الخطيبِ : وعندي أن هذا التفسير ضعيف من وُجُوهٍ :
الأول : أن جدَّ القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمَّد صلى الله عليه وسلم كان أعظمَ من جدهم في حفظِ غير أتباعهم عنه ، فكيف يليق أن يوصِيَ بعضُهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمَّد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم ، وأشياعهم ، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب؟ هذا في غاية البعد .
الثاني : أن على هذا التقدير لا بد من الحَذْف؛ فإن التقدير : قل إن الهُدَى هُدَى اللهِ ، وإنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ، وَلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ قَلْ في قوله : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله } .
الثالث : أنه كيف وقع قوله : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } فيما بين جزأي كلام واحد؟ هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم .
الوجه الثاني : أن اللام زائدة في { لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } وهو مستثنى من » أحَدٌ « المتأخِّر ، والتقدير : ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا مَنْ تَبعَ دينَكُمْ ، ف { لِمَنْ تَبِعَ } منصوب على الاستثناء من » أحد « ، وعلى هذا الوجه جوَّز أبو البقاء في محل { أَن يؤتى } ثلاثة أوجهٍ :
الأول والثاني : مذهب الخليل وسيبويه ، وقد تَقَدَّمَا .

الثالث : النصب على المفعول من أجله ، تقديره : مخافةَ أن يُؤتَى .
وهذا الوجه الثالث - لا يصح من جهة المعنى ، ولا من جهة الصناعة ، أمّا المعنى فواضحٌ وأما الصناعة فإن فيه تقديم المستثنى على المستثنى منه ، وعلى عامله ، وفيه - أيضاً - تقديم ما في صلة أن عليها ، وهو غير جائزٍ .
الوجه الثالث : أن يكون { أَن يؤتى } مجروراً بحرف العلة - وهو اللام - والمُعَلَّل محذوف ، تقديره لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ، ودبَّرتموه ، لا لشيء آخرَ ، وقوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } معناه : ولا تؤمنوا هذا الإيمانَ الظاهرَ - وهو إيمانكم وَجْهَ النَّهَارِ - { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } ، إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم؛ لأن رجوعَهم كان أرْجَى عندهم من رجوع من سواهم ، ولأن إسلامَهم كان أغبط لهم ، وقوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } معناه : لأن يؤتى مثل ما أوتيتُمْ قلتم ذلك ، ودبرتموه ، لا لشيء آخرَ ، يعني أن ما بكم من الحسد و البغي ، أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم من فَضْل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قُلْتُم ما قلتم ، والدليل عليه قراءة ابن كثير : أأنْ يُؤتَى أحَدٌ؟ - بزيادة همزة الاستفهامِ ، والتقرير ، والتوبيخ - بمعنى : ألأن يؤتى أحَدٌ؟
فإن قلت : ما معنى قوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } على هذا؟
قلت : معناه : دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ولما يتصل به عند كفركم به في محاجتهم [ لكم ] عند ربكم .
الوجه الرابع : أن ينتصب { أَن يؤتى } بفعل مقدَّرٍ ، يدل عليه : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتُوا .
قال أبو حيّان : وهذا بعيد؛ لأنه فيه حذفَ حرف النهي وحذفَ معموله ، ولم يُحْفظ ذلك من لسانهم .
قال شهاب الدين : « متى دلَّ على العامل دليلٌ جاز حَذْفُه على أي حالةٍ كان » .
الوجه الخامس : أن يكون { هُدَى الله } بدلاً من « الْهُدَى » الذي هو اسم « إنَّ » ويكون خبر { أَن يؤتى أَحَدٌ } ، قُلْ إنَّ هدى الله أن يؤتى أحد ، أي إن هدى الله آتياً أحداً مثل ما أوتيتم ، ويكون « أوْ » بمعنى « حتى » ، والمعنى : حتى يحاجوكم عند ربكم ، فيغلبوكم ويدحضوا حُجَّتَكم عند الله ، ولا يكون { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } معطوفاً على { أَن يؤتى } وداخلاً في خبر إن .
الوجه السادس : أن يكون { أَن يؤتى } بدلاً من { هُدَى الله } ويكون المعنى : قُلْ بأن الهدى هدى الله ، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن ، ويكون قوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } بمعنى فليحاجوكم ، فإنهم يغلبونكم ، قال ابنُ عطية : وفيه نظرٌ؛ لأن يؤدي إلى حذف حرف [ النهي ] وإبقاء عمله .

الوجه السابع : أن تكون « لا » النافية مقدَّرة قبل { أَن يؤتى } فحذفت؛ لدلالة الكلام عليها ، وتكون « أو » بمعنى « إلاَّ أن » والتقدير : ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلا لمن تبع دينَكم بانتفاء أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تَبع دينَكُمْ ، وجاء بمثله ، فإن ذلك لا يؤتى به غيركم إلا أن يحاجوكم ، كقولك : لألزمنك أو تقضيني حقي .
وفيه ضعف من حيث حذف « لا » النافية ، وما ذكروه من دلالة الكلامِ عليها غير ظاهر .
الوجه الثامن : أن يكون { أَن يؤتى } مفعولاً من أجله ، وتحرير هذا القول أن يجعل قوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ } ليس داخلاً تحت قوله : « قل » بل هو من تمام قول الطائفة ، متصل بقوله : ولا تؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم مخافةَ أن يؤتى أحد من النُّبُوَّة والكرامة مثل ما أوتيتم ، ومخافةَ أن يُحاجُّوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه ، وهذا القولُ منهم ثمرة حسدهم وكُفْرهم - مع معرفتهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولما قدر المُبردُ المفعول من أجله - هنا - قدر المضاف : كراهة أن يُؤتَى أحد مثل ما أوتيتم ، أي : مما خالف دينَ الإسلام؛ لأن اللهَ لا يهدي من هو كاذبٌ كَفَّار ، فهُدَى الله بعيد من غير المؤمنين والخطاب في { أُوتِيتُمْ } و { يُحَاجُّوكُمْ } لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
واستضعف بعضُهم هذا ، وقال : كونه مفعولاً من أجْلهِ - على تقدير : كراهة - يحتاج إلى تقدير عامل فيه ويصعُب تقديره؛ إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها ، بكراهة الإيتاء المذكور .
الوجه التاسع : أن « أنْ » المفتوحة تأتي للنفي - كما تأتي « لا » ، نقله بعضهم أيضاً عن الفراء ، وجعلَ « أو » بمعنى « إلا » ، والتقدير : لا يُؤتَى أحد ما أوتيتم إلا أن يحاجُّوكم ، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم أو محاجتكم عند ربكم؛ لأن من آتاه الله الوحي لا بُدّ أن يحاجهم عند ربهم - في كونهم لا يتبعونه - فقوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } حالٌ لازمةٌ من جهة المعنى؛ إذ لا يوحي اللهُ لرسولٍ إلا وهو يُحاجُّ مخالفيه . وهذا قول ساقطٌ؛ إذْ لم يثبت ذلك من لسان العربِ .
فصل
« أحد » يجوز أن تكون - في الآية الكريمة - من الأسماء الملازمةِ للنفي ، وأن تكون بمعنى « واحد » والفرق بينهما أن الملازمة للنفي همزته أصلية ، والذي لا يلزم النفي همزته بدل من واو فعلى جعله ملازماً للنفي يظهر عود الضمير عليه جمعاً؛ اعتباراً بمعناه؛ إذ المراد به العموم ، وعليه قوله : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] - جمع الخبر لما كان « أحَدٌ » في معنى الجميع - وعلى جعله غير اللازم للنفي يكون جمع الضمير في { يُحَاجُّوكُمْ } باعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعِه .

وبعض الأوجه المتقدمة يصح أن يجعل فيها « أحد » - المذكور - الملازم للنفي ، وذلك إذا كان الكلام على معنى الجَحْد ، وإذا كان الكلام على معنى الثبوت - كما مَرَّ في بعض الوجوه فيمتنع جعفُه الملازم للنفي . والأمر واضح مما تقدم .
فصل
قرأ ابنُ كثير : أأن يؤتى - بهمزة استفهام - وهو على قاعدته من كونه يسهل الثانية بين بين من غير مدة بينهما ، وخُرِّجَتْ هذه القراءةُ على وجوهٍ :
أحدها : أن يكون { أَن يؤتى } على حذف حرف الجر - وهو لام العلة - والمُعَلَّل محذوف تقديره : ألأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبَّرتموه - وتقدم تحقيقه - وهذه اللفظة موضوعة للتوبيخ ، كقوله تعالى : { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } [ القلم : 14-15 ] ، والمعنى : أمن أجل أن يُؤتَى أحدٌ شرائعَ مثلَ ما أوتيتم من الشرائع تُنْكِرون اتباعه؟ ثم حذف الجواب ، للاختصارِ ، تقديره : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشرَ اليهودِ من الكتاب والحكمة تحسدونه ، ولا تؤمنون به ، قاله قتادةُ والربيعُ ، وهذا الحذفُ كثيرٌ؛ يقول الرجل - بعد طول العتاب لصاحبه ، وتعديده عليه ذنوبه بعد قلة إحسانه إليه- : أمِنْ قلة إحساني إليك؟ أمِنْ إساءتي إليك؟ والمعنى : أمن هذا فعلتَ ما فعلتَ؟ ونظيره : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [ الزمر : 9 ] ، وهذا الوجه يُروى عن مجاهد وعيسى بن عُمَرَ . وحينئذ يسوغ في محل « أن » الوجهان - أعني النصب - مذهب سيبويه - والجر مذهب الخليلِ .
وثانيها : أن { أَن يؤتى } في محل رفع بالابتداء ، والخبر محذوف ، تقديره : أأن يُؤتَى أحَدٌ - يا معشر اليهودِ - من الكتاب والعلم مثل ما أوتيتم تصدقون به ، أو تعترفون به ، أو تذكرونه لغيركم ، أو تُشيعونه في الناس ، ونحو ذلك مما يَحْسُنُ تقديره ، وهذا على قول مَنْ يقول : أزَيْدٌ ضربته؟ وهو وجه مرجوحٌ ، كذا قدره الواحديُّ تبعاً للفارسيِّ وأحسن من هذا التقدير لأن الأصل أإتيان أحد مثل ما أوتيتم ممكن أو مصدق به .
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل مقدَّرٍ يُفَسِّرُه هذا الفعل المُضْمَر ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، التقدير : أتذكرون أن يؤتى أحَدٌ تذكرونه؟ ف « تذكرونه » مُفَسِّرٌ ل « تذكرون » الأولى ، على حد : أزيداً ضربتَه؟ ثم حذف الفعل الأخير؛ لدلالة الكلام عليه ، وكأنه منطوقٌ به ، ولكونه في قوةِ المنطوقِ به صَحَّ له أن يُفَسِّر مُضْمَراً وهذه المسألة منصوص عليها ، وهذا أرجح من الوجه قبله ، لأنه مثل : أزيداً ضربته وهو أرجح ، لأجل الطالب للفعل ، ومثل حذف هذا الفعل المقدَّر لدلالة ما قبل الاستفهام عليه حذف الفعل في قوله تعالى :

{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } [ يونس : 91 ] تقديره : آلآن آمنتَ ، ورجعتَ وثبت ، ونحو ذلك .
قال الواحديُّ : فإن قيل : كيف جاز دخول « أحَدٌ » في هذه القراءة ، وقد انقطع من النفي ، والاستفهام ، وإذا انقطع الكلام - إيجاباً وتقريراً - فلا يجوز دخول « أحَدٌ » .
قيل : يجوز أن يكون طأحَدٌ « - في هذا الموضع - أحداً الذي في نحو أحد وعشرين ، وهذا يقع في الإيجاب ، ألا ترى أنه بمعنى » واحد « .
قال أبو العباسِ : إن » أحَداً « و » وَحَداً « و » وَاحِداً « بمعنًى .
وقوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } ، أو في هذه القراءة - بمعنى » حتى « ، ومعنى الكلام : أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تذكرونه لغيركم حتى يُحَاجُّوكُمْ عند ربكم .
قال الفراء : » ومثله في لكلام : تَعَلَّق به أو يُعْطيك حَقَّك .
ومثله قول امرئ القيس : [ الطويل ]
1514- فَقُلْتُ لَهُ : لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا ... نُحَاوِلُ مُلْكاً أو نَمُوتَ فنُعْذَرَا
أي حتى ، ومن هذا قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ آل عمران : 128 ] ، ومعنى الآية : ما أعطي أحد مثل ما أوتيتم - يا أمة محمدٍ - من الدين والحُجَّة حتى يحاجوكم عند ربكم « ، قال : » فهذا وَجْهٌ ، وأجود منه أن تجعله عَطْفاً على الاستفهام ، والمعنى : أأن يُؤتَى أحَد مثل ما أوتيتم أو يحاجَّكم أحد عند الله تصدقونه؟ « . وهذا كله معنى قول أبي علي الفارسي .
ويجوز أن يكون { أَن يؤتى أَحَدٌ } منصوباً بفعل مُقَدَّرٍ لا على سبيل التفسير ، بل لمجرد الدلالة المعنوية ، تقديره : أتذكرون ، أو أتشيعونه . ذكره الفارسي أيضاً ، وهذا هو الوجه الرابع .
الخامس : أن يكون { أَن يؤتى } - قراءته - مفعولاً من أجله على أن يكون داخلاً تحت القول لا من قول الطائفة ، وهو أظهر مِنْ جَعْلِه من قَوْل الطَّائِفَةِ .
قال ابن الخطيبِ : » أما قراءة من يقصر الألف من « أنْ » فقد يُمْكن إيضاحها على معنى الاستفهام ، كما قرئ : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم } [ البقرة : 6 ] - بالمد والقصر - وكذا قوله تعالى : { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } [ القلم : 14 ] قرئ بالمد والقصر .
وقال امرؤ القيس : [ المتقارب ]
1515- تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ ... وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأنْ تَنْتَظِر؟
أراد : أتروح؟ فحذف ألف الاستفهام؛ لدلالة « أم » عليه ، وإذا ثبت أن هذه القراءةَ مُحْتَمِلَةٌ لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى .
وقد ضعف الفارسيُّ قراءةَ ابن كثيرٍ ، فقال : [ « وهذا موضع ينبغي أن تُرَجَّحَ فيه قراءةُ غيرِ ابنِ كثير على قراءة ابن كثير ] ؛ لأن الأسماء المُفْرَدةَ ليس بالمستمر فيها أن تدلَّ على الكثرة » .
وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة : إن يُؤتَى - بكسْر الهمزة - وخرَّجها الزمخشريُّ على أنها « إنْ » النافية ، فقال : وقُرِئَ : « إن يؤتى أحد » على « إن » النافية ، وهو متصل بكلام أهل الكتاب ، أي : « ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » وقولوا لهم : ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم ، يعني ما يُؤتَوْنَ مثلَه فلا يحاجونكم .

قال ابنُ عطيةَ : « وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة ، ويكون قولها : أو يحاجوكم بمعنى : أو فَلْيُحَاجُّوكُمْ ، وهذا على التصميم على أنه لا يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم ، أو يكون بمعنى إلا أن يحاجوكم ، وهذا على تجويز أن يؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له » ، فقد ظهر - على ما ذكره ابن عطية - أنه يجوز في « أوْ » - في هذه القراءة - أن تكون على بابها من كونها للتنويع والتخيير ، وأن تكون بمعنى « إلا » إلا أن فيه حذفَ حرفِ الجزمِ ، وإبقاء عمله وهو لا يجوز ، وعلى قول غيره تكون بمعنى « حَتَّى » .
وقرأ الحسن : أن يُؤتِيَ أحَد - على بناء الفعل للفاعل - ولما نقل بعضهم هذه القراءةَ لم يتعرَّض ل « أن » - بفتح ولا بكسر - كأبي البقاء ، وابن عطية ، وقيَّدَها بعضُهم بكسر « أنْ » وفسَّرها بإن النافية ، والظاهر في معناه أن إنعام الله تعالى لا يُشْبِهه إنعام أحد من خلقه ، وهي خطاب من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ، والمفعول المحذوف ، تقديره : إن يُؤتِيَ أحَدٌ أحَداً مثل ما أوتيتم ، فحذف المفعول الأول ، وهُوَ أحَدٌ؛ لدلالة المعنى عليه ، وأبقى الثاني ، فيكون قول اليهودِ وقد تم عند قوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } وما بعده من قول الله تعالى ، يقول : « قل » يا محمدُ إن { الهدى هُدَى الله أَن يؤتى } « إنْ » بمعنى الجحد ، أي : ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد ، أو يحاجوكم ، يعني : إلا أن يجادلكم اليهودُ بالباطل ، فيقولوا : نحن أفضل منكم وهذا معنى قول سعيد بن جُبَيرٍ والحسن والكلبيِّ ومقاتلٍ وهذا ملخَّص كلام الناسِ في هذه الآية مع اختلافهم .
قال الواحدي : « وهذه الآيةُ من مشكلات القرآن ، وأصعبه تفسيراً؛ ولقد تدبَّرْتُ أقْوَالَ أهلِ التفسير ، والمعاني في هذه الآية ، فلم أجد قولاً يَطَّرِدُ في الآيةِ ، من أوَّلِها إلى آخرهَا ، مع بيان المعنى في النظم » .
فصل
قال بعض المفسّرين : هذا من قول الله - تعالى - ، يقول : « قل » لهم يا محمدُ : { إِنَّ الهدى هُدَى الله } بأن أنزل كتاباً مثل كتابكم ، وبعث نبيًّا حسدتموه ، وكفرتم به ، { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } وقوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } - على هذا - رجوع إلى خطاب المؤمنين ، وتكون « أوْ » بمعنى « إنْ » لأنهما حرفا شرط وجزاء ، ويوضع أحدُهما مَوْضِعَ الآخر ، وإن يُحاجُّوكم - يا معشرَ المؤمنين - عند ربكم فقل يا محمدُ ، إنَّ الهدى هدى الله ، ونحن عليه .

ويجوز أن يكون الجميعُ خِطاباً للمؤمنين ، ويكون نظمُ الآيةِ : إنْ يُؤتَ أحدٌ مثلَ ما أوتيتم - يا معشرَ المؤمنين - يَحْسدوكم ، فقل : إن الفَضْلَ بِيَدِ الله ، وإن حاجُّوكم فقل : إنَّ الْهُدَى هُدَى الله .
ويجوز أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وقوله : { وَلاَ تؤمنوا } من كلام الله تعالى - كما تقدم - ثَبَّت به قلوبَ المؤمنينَ؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهود ، وتزويرهم في دينهم ، ومعناه : لا تُصدِّقوا يا مَعْشَرَ الْمُؤمنين إلا مَنْ تَبعَ دِينَكُمْ ، ولا تصدقوا أن يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم من الدين والفَضْلِ ، ولا تصدِّقُوا أن يُحاجُّوكم في دينكم عند ربكم ، أو يقدروا على ذلك؛ فإنَّ الهدى هدى اللهِ ، والفضل بيد اللهِ يؤتيه من يشاء ، والله واسعٌ عليمٌ ، فتكون الآية كلُّها خطاب الله - تعالى - مع المؤمنين .
و « الفضل » - هنا - الرسالة ، وهو - في اللغة - عبارة عن الزيادة ، وأكثر ما يُستعمَل في زيادة الإحسان ، والفاضل : الزائد على غيره [ في خصال الخير ، ثم كَثر استعمال الفَضْل حتى صار لكل نفع قَصَد به فاعله الإحسانَ إلى الغير ] ، وقوله : { بِيَدِ الله } معناه : أن مالك له ، يؤتيه من يشاءُ ، أي : هو تفضُّلٌ موقوف على مشيئته ، وهذا يدل على أن النبوةَ تحصُل بالتفضُّلِ ، لا بالاستحقاق؛ لأنه جعلها من باب الفَضْل الذي لفاعله أنْ يفعَلَه ، وأنْ لا يفعَلَه .
الواسع : الكامل القدرة ، والعليم : الكامل العلم ، فلكمال قُدْرَتهِ يصح أن يتفضل على أيِّ عَبْدٍ شاء بأي تفضُّل شاء ، ولكمال علمه لا يكون شيء من افعاله إلا على وَجْه الحكمة والصواب .
قوله : { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } أي : يختص بنبوته من يَشَاء ، وهذا كالتأكيد لِمَا تَقَدَّم ، والفرق بين هذه الآية والتي قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادةِ من جنس المزيدِ عليه ، والرحمةُ المضافةُ إلى الله - تعالى - أمرٌ أعْلى من ذلك الفضل ، فرُبَّما بلغت هذه الرحمةُ إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم ، بل يكون أعْلى وأجلَّ من ذلك { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

لما حكى خيانَتَهم في باب الدِّين ذكرها - ايضاً - في الأموال .
قوله : « مَنْ » مبتدأ ، و { وَمِّنْ أَهْلِ } خَبَرُه ، قُدِّمَ عليه ، و « مَنْ » إما موصولة ، وإما نكرة . و « إن تأمنه بقنطار يؤده » هذه الجملة الشرطية ، إما صلة ، فلا محل لها ، وإما صفة فمحلّها الرفع .
وقرا بعضهم : { تَأْمَنْهُ } ، و { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّ } [ يوسف : 11 ] . بكسر حرف المضارعة ، وكذلك ابن مسعود والأشهب والعقيلي ، إلا أنهما أبْدَلاَ الهمزة ياءً .
وجعل ابن عطية ذلك لغة قُرَيْشٍ ، وغلَّطه أبو حيّان وقد تقدّمَ الْكَلاَمُ في كسر حرف المضارعةِ ، وشرطه في الفاتحة يقال : أمنته بكذا ، وعلى كذا ، فالباءُ للإلصاق بالأمانة ، و « على » بمعنى استيلاء المودع على الأمانة .
وقيل : معنى : أمنته بكذا ، وثقت به فيه ، وأمنته عليه : جعلته أميناً عليه .
والقنطارُ والدينار : المراد بهما العددُ الكثيرُ ، والعدد القليل ، يعني : أن فيهم مَنْ هو في غاية الأمانة ، حتى أنه لو ائتمِن على الأموال الكثيرة أدَّى الأمانة فيها ، ومنهم من هو في غاية الخيانة ، حتى لو ائتُمِن على الشيء القليل فإنه يخون فيه .
واختلف في القنطار ، فقيل : ألف ومائتان أوقية؛ لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلام ، حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب ، فردَّه ، ولم يَخُنْ فيه .
ورُوِي عن ابن عباس أنه مِلْءُ جلد ثور من المال .
وقيل : ألف ألف دينار ، أو ألف الف درهم - وقد تقدم- .
والدينار : أصله : دِنَّار - بنونين - فاستثقل توالي مثلَيْن ، فأبدلوا أولهما حرفَ علة ، تخفيفاً؛ لكثرة دوره في لسانهم ، ويدل على ذلك رَدُّه إلى النونين - تكسيراً وتصغيراً - في قولهم : دَنَانير ودُنَيْنِير .
ومثله قيراط ، أصله : قِرَّاط ، بدليل قراريط وقُرَيْرِيط ، كما قالوا : تَظَنَّيْتُ ، وقصَّصْتُ أظفاري ، يريدون : تظنّنت وقصّصت - بثلاث نونات وثلاث صاداتٍ - والدِّينار مُعرَّب ، قالوا : ولم يختلف وزنه أصْلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً ، كل قِيراطٍ ثلاث شعيرات معتدلاتٍ ، فالمجموع اثنان وسبعون شعيرةً .
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم « يُؤَدِّهْ » بسكون الهاء في الحرفين .
وقرأ قالون « يُؤَدِّهِ » بكسر الهاء من دون صلة ، والباقون بكسرها موصولة بياء ، وعن هشام وجهان :
أحدهما : كقالون ، والآخر كالجماعة .
أما قراءة أبي عمرو ومن معه فقد خرَّجوها على أوجه ، أحسنها أنه سكنت هاء الضمير ، إجراءً للوصْل مجرى الوقف وهو باب واسع مضى منه شيء - نحو : { يَتَسَنَّهْ } [ البقرة : 259 ] و { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت } [ البقرة : 258 ] وسيأتي منه أشياء إن شاء الله تعالى .
وأنشد ابنُ مجاهد على ذلك : [ البسيط ]
1516- وأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ ... إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا
وأنشد الأخفش : [ الطويل ]
1517- فَبتُّ لَدَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أخِيلُهُ ... وَمِطْوايَ مُشْتَاقَانِ لَهْ أرقَان

إلا أن هذا يخصُّه بعضهم بضرورة الشعر ، وليس كما قال ، لما سيأتي .
وقد طعن بعضهم على هذه القراءةِ ، فقال الزَّجَّاجُ : هذا الإسكان الذي رُوِيَ عن هؤلاء غلط بَيِّنٌ؛ وأن الفاء لا ينبغي أن تُجْزَم ، وإذا لم تُجْزَم فلا تسكن في الوصل ، وأما ابو عمرو فأُراه كان يختلس الكسرة ، فغلط عليه كما غلط عليه في « باريكم » . وقد حكى عنه سيبويه - وهو ضابط لمثل هذا - أنه كان يكسر كسراً خفياً ، يعني يكسر في { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] كسراً خفيًّا ، فظنه الراوي سكوناً .
قال شهابُ الدينِ : وهذا الرد من الزجَّاج ليس بشيءٍ لوجوه :
منها : أنه فَرَّ من السكون غلى الاختلاس ، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نص على أنَّ الاختلاس - ايضاً - لا يجوز إلا في ضرورة ، بل جعل الإسكان في الضرورة أحسن منه في الاختلاس ، قال : ليُجْرَى الوصلُ مجرى الوقف إجراء كاملاً ، وجعل قوله : [ البسيط ]
1518- ... إلاَّ لأن عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا
أحسن من قوله : [ البسيط ]
1519- . ... مَا حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيَا ولا اعْتَمَرَ
حيث سكن الأول ، واختلس الثاني .
ومنها أن هذه لغة ثابتة عن العرب حفظها الأئمة الأعلام كالكسائي والفراء - حكى الكسائيُّ عن بني عقيل وبني كلابٍ { إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُود } [ العاديات : 6 ] - بسكون الهاء وكسرها من غير إشباع- .
ويقولون : لَهُ مال ، ولَهْ مالٌ - بالإسكان والاختلاس .
قال الفراء : من العرب مَنْ يجزم الهاء - إذا تحرَّك ما قبلَها - نحو ضَرَبْتُهْ ضرباً شديداً ، فيسكنون الهاء كما يسكنون ميم « أنتم » و « قمتم » وأصلها الرفع .
وأنشد : [ الرجز ]
1520- لمَّا رَأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ ... مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقف فالطَدَعْ
قال شهاب الدينِ : وهذا عجي من الفرَّاء؛ كيف يُنْشِد هذا البيت في هذا المَعْرِض؛ لأن هذه الفاء مبدلة من تاء التأنيث التي كانت ثابتةً في الوصل ، فقلبها هاءً ساكنة في الوصل؛ إجراءً له مُجْرَى الوقف وكلامنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيثِ؛ لأن هاء التانيثِ لا حَظَّ لها في الحركة ألبتة ، ولذلك امتنع رومها وإشمامُها في الوقف ، نَصُّوا على ذلك ، وكان الزجاج يُضَعَّف في اللغة ، ولذلك رد على ثعلب - في فصيحه - أشياء أنكرها عن العرب ، فردَّ الناسُ عليه رَدَّه ، وقالوا : قالتها العربُ ، فحفظها ثعلب ولم يحفظْها الزجَّاج . فليكن هذا منها .
وزعم بعضهم أن الفعلَ لما كان مجزوماً ، وحلت الهاءُ محلّ لامِهِ جرى عليها ما يَجْرِي على لام الفعل - من السكون للجزم - وهو غير سديدٍ .
وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها قول الشاعر : [ الوافر ]
1521- لَهُ زَجَلٌ كأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ ... إذَا طَلَبَ الْوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ
وقول الآخر : [ الطويل ]
1522- أنَا ابْنُ كِلابٍ وابْنُ أوْسٍ فَمَنْ يَكُنْ ... قِنَاعُهُ مغْطِيًّا فَإنِّي لَمُجْتَلى

وقول الآخر : [ البسيط ]
1523- أوْ مَعْبَرُ الظَّهْرِ يُنْبي عَنْ وَلِيَّتِهِ ... مَا حَجَّ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا وَلا اعْتَمَرَ
وقد تقدم أنها لغة عقيل ، وكلاب أيضاً ، وأما قراءة الباقين فواضحة وقرأ الزهريُّ « يُؤَدِّهو » بضم الهاء بعدها واو ، وهذا هو الأصل في هاء الكتابة ، وقرأ سَلاَّم كذلك إلا أنه ترك الواوَ فاختلس ، وهما نظيرتا قراءتي « يؤدهي » و { يُؤَدِّهِ } - بالإشباع والاختلاس مع الكسرِ واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعل مجزوم ، أو أمر معتلِّ الآخر ، جَرَى فيها هذه الأوجُه الثلاثة أعني السكون والإشباع والاختلاس - كقوله : { نُؤْتِهِ مِنْهَ } [ آل عمران : 145 ] وقوله : { يَرْضَهُ لَكُمْ } [ الزمر : 7 ] وقوله : { مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّم } [ النساء : 115 ] ، وقوله : { فَأَلْقِهْ إِلَيْهِم } [ النمل : 28 ] وقد جاء ذلك في قراءة السبعة - أعني : الأوجه الثلاثة - في بعض هذه الكلمات وبعضها لم يأت فيه إلا وجه - وسيأتي مفصَّلاً في مواضعه إنْ شاء الله . وليس فيه أن الهاء التي للكناية متى سبقها متحرَّك فالفصيح فيها الإشباع ، نحو « إنَّهُ ، لَهُ ، بِهِ » ، وإن سبقها ساكن ، فالأشهر الاختلاس - سواء كان ذلك الساكن صحيحاً أو معتلاً - نحو فيه ، منه وبعضهم يفرق بين المعتلْ والصحيح وقد تقدم ذلك أول الكتاب .
إذا علم ذلك فنقول : هذه الكلمات - المشار إليها - إن نظرنا إلى اللفظ فقد وقعت بعد متحرِّك ، فحقها أن تشبع حركتها موصولةً بالياء ، أو الواو ، وإن سكنت فلما تقدم من إجراء الوصل مُجرى الوقف . وإن نظرنا إلى الأصل فقد سبقها ساكن - وهو حَرْفُ العلة المحذوف للجزم - فلذلك جاز الاختلاسُ ، وهذا أصل نافع مطرد في جميع هذه الكلمات .
قوله { بِدِينَارٍ } في هذه الباء ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها للإلصاق ، وفيه قَلَقٌ .
الثاني : أنها بمعنى « في » ولا بد من حذف مضاف ، أي : في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار .
الثالث : أنها بمعنى « على » وقد عُدِّيَ بها كثيراً ، كقوله : { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُف } [ يوسف : 11 ] وقوله : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 64 ] وكذلك هي في { بِقِنطَارٍ } .
قوله : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } استثناء مفرَّغ من الظرف العام؛ إذ التقدير : لا يؤده إليك في جميع المُددِ والأزمنة إلا في مدة دوامك قائماً عليه ، متوكِّلاً به و « دُمْتَ » هذه هي الناقصةُ ، ترفع وتنصب ، وشرط إعمالها أن يتقدمها ما الظرفية كهذه الآية إذ التقدير إلا مدة دومك [ ولا ينصرف ، فأما قولهم : « يدوم » فمضارع « دام » التامة بمعنى بقي ، ولكونها صلة ل « ما » الظرفية ] لزم أن يكون بحاجة إلى كلام آخر ، ليعمل في الظرف نحو أصحبك ما دمت باكياً ولو قلت ما دام زيد قائماً من غير شيء لم يكن كلاماً .

وجوز أبو البقاء في « ما » هذه أن تكون مصدرية فقط ، وذلك المصدر - المنسبك منها ومن دام - في محل نصب على الحال ، وهو استثناءٌ مفرَّغ - أيضاً - من الأحوال المقدَّرة العامة ، والتقدير : إلا في حال ملازمتك له ، وعلى هذا ، فيكون « دَامَ » هنا تامة؛ لما تقدم من أن تقدُّم الظرفية شرط في إعمالها ، فإذا كانت تامة انتصب « قَائماً » على الحال ، يقال : دام يدُوم - كقام يقوم - و « دُمت قائماً » بضم الفاء وهذه لغة الحجاز ، وتميم يقولون : دِمْت - بكسرها - وبها قرأ أبو عبد الرحمن وابن وثّابٍ والأعمشُ وطلحة والفياضُ بن غزوان وهذه لغة تميم ، ويجتمعون في المضارع ، فيقولون : يدوم يعني : أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارع مضمومُ الْعَيْنِ ، وكان قياسُ تميم أن تقول يُدام كخاف يخاف - فيكون وزنها عند الحجازيين فعَل - بفتح العين - وعند التميمين فِعل بكسرها هذا نقل الفراء .
وأما غيره فنقل عن تميم أنهم يقولون : دِمْتُ أدام - كخِفت اخاف - نقل ذلك أبو إسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني والزمخشري .
وأصل هذه المادة : الدلالة على الثبوت والسكون ، يقل : دام الماء ، أي سكن . وفي الحديث : « لا يبولن أحدكم في الماء الدائم » وفي بعضه بزيادة : الذي لا يجري ، وهو تفسير له ، وأدَمْت القِدْرَ ، ودومتها سكنت غليانها بالماء ، ومنه : دامَ الشيء ، إذا امتدَّ عليه الزمان ، ودوَّمت الشمس : إذا وقعت في كبد السماء .
قال ذو الرمة : [ البسيط ]
1524- . . ... وَالشَّمْسُ حيْرَى لَهَا في الْجَوِّ تَدْوِيمُ
هكذا أنشد الراغبُ هذا الشطر على هذا المعنى ، وغيره ينشده على معنى أن الدوام يُعَبَّر به عن الاستدارة حول الشيء ، ومنه الدوام ، وهو الدُّوَار الذي يأخذ الإنسان في دماغه ، فيرَى الأشياء دائرة . وأنشد معه - أيضاً - قول علقمة به عَبدَة : [ البسيط ]
1525- تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلاَ يُؤْذِيكَ سَالِيهَا ... وَلاَ يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمُ
ومنها : دوَّم الطائر ، إذا حَلَّق ودار .
قوله : « عَلَيْهِ » متعلق ب « قائِماً » وفي المراد بالقيام - هنا - وجهان :
الأول : الحقيقة ، وهو أن يقوم على رأس غريمه ، ويلازمه بالمطالبة ، وإن أخَّره أنكر .
قال القرطبيُّ : استدل أبو حنيفةَ على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } وأباه سائر العلماء واستدلَّ بعضهم على حَبْس المِدْيان بقوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } فإذا كان له ملازمته ، ومنعه من التصرف ، جاز حبسه .
وقيل معنى : إلا ما دمت عليه قائماً أي : بوجهك ، فيهابك ، ويستحيي منك ، فإن الحياء في العينين ألا ترى قول ابن عباس رضي الله عنه : لا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين وإذا طلبتَ من أخيك حاجة فانظر غليه بوجهك ، حتى يستحيي فيقضيها .

الثاني : المجاز .
قال ابن عباس : المرادَ من هذا القيام ، الإلحاح ، والخصومة ، والتقاضي ، والمطالبة ، قال ابن قُتَيْبَة : أصله أن المطالبَ للشيء يقوم فيه ، والتارك له يَبُْد عنه ، بدليل قوله تعالى : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } [ آل عمران : 113 ] أي : عاملة بأمر الله ، غير تاركة .
ثم قيل لكل مَنْ واظب على مطالبة أمر : قام به - وإن لم يكن ثَمَّ قيام - وقال : أبو علي الفارسي : القيام - في اللغة - بمعنى الدوام والثبات ، كما ذكرناه في قوله تعالى : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة } [ النمل : 3 ] ومنه قوله : { دِينًا قَيِّمًا } [ الأنعام : 161 ] ، أي : دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى الآية : دائماً ، ثابتاً في مطالبتك .
فصل
دلَّت الآية على انقسام أهل الكتاب إلى قسمين : أهل أمانة ، وأهل خيانة .
فقيل : اهل الأمانة هم الذين أسلموا ، وأهل الخيانة : هم الذين لم يُسْلِموا .
وقيل : أهل الأمانة هم النصارى وأهل الخيانة : هم اليهود .
وروى الضحاك عن ابن عباس - في هذه الآية { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } يعني عبد الله بن سلام ، [ أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقية من ذهب ، فأداه . { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } يعني : فنحاص بن عازوراء ] ، استودعه رجل من قريش ديناراً ، فخانه .
فصل
يدخل تحت هذه الآية العَيْنُ والدَّيْنُ؛ لأن الإنسانَ قد يأتمن غيره على الوديعة ، وعلى المبايعة ، وعلى المقارضة ، وليس في الآية ما يدل على التعيين ، ونُقِل عن ابنِ عباس أنه حمله على المبايعة ، فقال ومنهم من تبايعه بثمن القنطار ، فيؤديه إليك ، ومنهم من تبايعه بثمنِ الدينارِ ، فلا يؤديه إليك ونقلنا - أيضاً - أن الآية نزلت في رجل أودعَ مالاً كثيراً عبد الله بن سلام فأدَّاه ، ومالاً قليلاً عند فنحاص بن عازوراء فلم يؤده ، فثبت أن اللفظ محتمل لجميع الأقسام .
قوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً :
أحدها : أنهم يبالغون في التعصُّب لدينهم ، فلذلك يقولون : يحل لنا قتل المخالف ، وأخذ ماله بأي طريق كان ، وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم : « كَذَبَ أعْدَاءُ اللهِ ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ إلا وهُو تَحْتَ قدَميَّ ، إلاَّ الأمَانَةَ ، فإنَّهَا مُؤدَّاة إلى البَرِّ والْفَاجِرِ » .
الثاني : أن اليهود قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] والخلق لنا عبيد ، فلا سبيل لأحد علينا ، إذا أكلنا أموال عبيدنا .
الثالث : قال القرطبيُّ : قالت اليهود : إن الأموال كانت كلُّها لنا ، فما في أيدي العرب منها ، فهو لنا؛ ظلمونا وغصبونا ، فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم .
الرابع : قال الحسنُ وابنُ جريجٍ ومقاتلٍ : إن اليهودَ إنما ذكروا هذا الكلامَ لمن خالفهم من العرب الذين آمنوا بالرسول خاصَّةً ، وليس لكل من خالفهم .

ورُوي أنهم بايعوا رجالاً في الجاهلية ، فلما أسلموا طالبوهم بالأموال ، فقالوا : ليس علينا حَقٌّ؛ لأنكم تركتم دينكم . وادَّعَوْا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم .
قال ابن الخطيبِ : « ومن المحتملِ أنه كان من مذهب اليهود ، أن مَن انتقل من دين باطلٍ إلى دين آخرَ باطلٍ كان في حكم المرتدِّ ، فهم - وإن اعتقدوا أن العرب كُفار ، إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كُفر - حكموا على العرب الذي أسلموا بالرِّدَّةِ .
قوله : { لَيْسَ عَلَيْنَا } يجوز أن يكون في » ليس « ضمير الشأنِ - وهو اسمها - وحينئذ يجوز أن يكون » سبيل « مبتدأ ، و » عَلَيْنَا « الخبر ، والجملة خبر ليس . ويجوز أن يكون » عَلَيْنَا « وحده هو الخبر ، و { سَبِيلِ } مرتفع به على الفاعلية . ويجوز أن يكون { سَبِيلِ } اسم » ليس « والخبر أحد الجارين أعني : { عَلَيْنَا } أو { فِي الأميين } .
ويجوز أن يتعلق { فِي الأميين } بالاستقرار الذي تعلق به » عَلَيْنَا « وجوّز بعضهم أن يتعلق بنفس » ليس « نقله أبو البقاء ، وغيرُه ، وفي هذا النقل نظر؛ وذلك أن هذه الأفعال النواقص في عملها في الظروف خلاف ، وَبَنَوُا الخلافَ على الخلاف في دلالتها على الحدث ، فمن قال : تدل على الحدث جوز إعمالها في الظرف وشبهه ، ومن قال : لا تدل على الحدث منعوا إعمالها . واتفقوا على أن » ليس « لا يدل على حدث ألبتة ، فكيف تعمل؟ هذا ما لا يُعْقَل .
ويجوز أن يتعلق { فِي الأميين } ب » سَبيلٌ « ، لأنه استعمل بمعنى الحرجِ ، والضمانِ ، ونحوها . ويجوز أن يكون حالاً منه فيتعلق بمحذوف .
قال : فالأمي منسوب إلى الأم ، وسُمِّي النبي صلى الله عليه وسلم أمياً؛ قيل : لأنه كان لا يكتب ، وذلك لأن الأمَّ : أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بَقِي على أصله في أن لا يكتب .
وقيل : نسبة إلى مكة ، وهي أمُّ القُرَى .
قوله : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب } فيه وجوهٌ :
أحدها : هو قولهم : أن جواز الخيانةِ مع المخالف مذكور ف يالتوراة ، وكانوا كاذبين في ذلك ، وعالمين بكونهم كاذبين . [ ومن كان كذلك كانت خيانته أعظمَ ، وجرمُه أفحش ] فيه .
وثانيها : أنهم يعلمون كون الخيانة مُحَرَّمَةٌ .
وثالثها : أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم .
فصل في رد شهادة الكافر
قال القرطبيُّ : » دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الكافرَ لا يُجعل أهلاً لقبول شهادته؛ لأن الله تعالى وصفه بالكذب ، وفي الآية رَدٌّ على الكَفَرَةِ الذين يُحَلِّلُون ويُحَرِّمون من غير تحليل الله وتحريمه ويجعلون ذلك من الشرع ، قال ابن العربيّ : ومِنْ هذا يخرج الرَّدُّ على مَنْ يحكم بالاستحسان مِن غير دليل ، ولست أعلم أحداً من أهل القبلةِ قاله « .
قوله : { عَلَى اللَّهِ } يجوز أن يتعلق بالكذب - وإن كان مصدراً - لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيرهما ومَنْ منع علَّقه ب » يَقُولُونَ « متضمِّناً معنى يفترون ، فعُدِّي تعديته . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من » الْكَذِب « ، وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، ومفعول العلم محذوف اقتصاراً ، أي : وهم من ذوي العلم ، أو اختصاراً ، أي : وهم يعلمون كذبهم وافتراءهم ، وهو أقبح لهم .

بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

قوله : { بلى } جواب لقولهم : « لَيْسَ » وإيجاب لما نفوه . وتقدم القول في نظيره .
قال ابن الخطيبِ : وعندي الوقف التام على « بلى » ثم استأنف .
وقيل : إن كلمة « بلى » كلمة تُذْكَر ابتداءً لكلام آخرَ يُذكَر بعده؛ لأن قولَهم : ليس علينا فيما نفعل جناحٌ قائمٌ مقام قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] فذكر - تعالى - أن أهل الوفاءِ بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى - لا غيرهم - وعلى هذا الوجه ، فلا يَحْسُن الوقف على « بلى » اه .
و « مَنْ » شرطية ، أو موصولة ، والرابط بين الجملة الجزائية ، أو الخبرية هو العموم في { الْمُتَّقِينَ } وعند من يرى الربط بقيام الظاهر مقام المضمر يقول ذلك هنا .
وقيل : الجزاء ، أو الخبر محذوف ، تقديره : يحبه الله ، ودل على هذا المحذوف قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه .
قال القرطبيُّ : « مَنْ » رفع بالابتداء ، وهو شرط ، و « أوفى » في موضع جزم « واتَّقَى » معطوف عليه ، واتقى الله ، ولم يكذب ، ولم يستحل ما حرم عليه { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أي يحب أولئك .
و « بعهده » يجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن الضمير يعود على « مَنْ » . أو مضافاً إلى مفعوله على أنه يعود على « اللهِ » ويجوز أن يكون المصدر مضافاً للفاعل وإن كان الضمير لله تعالى وإلى المفعول وإن كان الضمير عائداً على « مَنْ » ومعناه واضح عند التَّأمُّلِ .
فإن قيل : بتقدير أن يكون الضميرُ عائداً إلى الفاعل ، وهو « مَنْ » فإنه يدل على أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانةَ ، فإنهم يكتسبونَ محبة اللهِ .
فالجواب أن الأمر كذلك ، فإنهم إذا وفوا بالعهود ، فأول ما يوفون به العهد الأعظم ، وهو ما أخذَ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وهو المراد بالعهد في هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم « أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً ، وَمَنْ كَانتْ فيه وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خصلَةٌ مِن النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذا ائتُمِنَ خَانَ ، وَإذَا حدَّث كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإذَا خَاصَم فَجرَ » .

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

مما جاء في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ :
أحدها : أنه - تعالى - لما وصف اليهودَ بالخيانة في أموال النّاس ، فمعلوم أن الخيانَة في الأموال ، لا تكون بالأيمان الكاذبةِ .
وثانيها : أنه - تعالى - حَكَى عنهم أنهم يقولون على الله الكذب ، وهم يعلمون ، ولا شك أن عهد الله - تعالى - على كل مكلَّفٍ أن لا يكذبَ على الله .
وثالثها : أنه - تعالى - ذكر في الآية الأولى خيانَتهم في أموال الناس ، وذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وفي تعظيم أسمائِهِ؛ حيث يَحْلِفون بها كاذبين .
وقال بعضهم : إن هذه الآية ابتداء كلام مستقلٍّ في المنع من الأيمان الكاذبةِ؛ لأن اللفظَ عامٌّ ، والروايات الكثيرة دلَّت على أنها نزلت في أقوامٍ أقدموا على الأيمان الكاذبة .
فصل
قال عكرمةُ : نزلت في أحبار اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا بأيديهم غيرَها ، وحلفوا أنها من عند الله؛ لئلا تفوتَهم الرِّشاء التي كانت من أبناء عمهم .
وقيل : نزلت في ادِّعائهم أنه { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } [ آل عمران : 75 ] كتبوا ذلك بأيديهم ، وحَلَفُوا أنه من عند الله قاله الحسنُ .
وقال ابن جُرَيْجٍ : نزلت في الأشعث بن قيس وخَصْمٍ له ، اختصما في أرض إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال : أقم بيِّنتك ، فقال : ليس لي بينة ، فقال لليهودي : احلِفْ ، قال : إذاً يحلف ، فيذهب بمالي ، فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ } فنكل الأشعث .
قال مجاهدٌ : نزلت في رجل حلف يميناً فاجرةً في تنفيق سلعته ، عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ . قَالَ : وقرأها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، فقال أبو ذر : خابوا ، وخسروا مَنْ هم يا رسولَ اللهِ؟ قال : المُسْبِلُ إزَارَهُ ، والمَنَّانُ ، والمُنْفِقُ سلعَتَهُ بالحَلِف الْكَاذِبِ » .
وروى أبو هريرة عن النبي : « ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ : رَجُلٌ حَلَفَ يَمِيناً عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ ، فاقتطعه ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ أنَّهُ أعْطِي بِسِلْعَتِهِ أكْثَرَ مِمَّا أعْطي وَهُوَ كَاذِبٌ - وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ ماءٍ ، فَإن اللهَ - تَعَالَى - يَقولُ : الْيَوم أمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ » .
وقيل : جاء رجل من حضرموت ورجل من كِنْدةَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرميُّ : يا رسولَ اللهِ ، إن هذا قد غلبني على أرض لي - كانت لأبي - فقال الكنديّ : هي أرضي في يدي ، أزرعها ، ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحَضْرَمِيّ :

« ألك بيِّنةٌ؟ قال لا ، قَالَ : فَلَكَ يمينُهُ قال : يا رسولَ اللهِ ، إن الرجل فاجِرٌ لا يبالي على ما حلف عليه ، قال ليس لك منه إلا ذلك ، فانطلق ليحلف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر » أما لئن حَلَفَ علَى ما لَيْسَ لَهُ لِيَأكُلَهُ ظُلماً لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ « .
قال علقمة : أما الكنديّ فهو عمرو بن القيس بن عابس الكنديّ ، وخصمه ربيعة بن عبدان الحضرميّ ، روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِم - بِيَمِينِهِ - حَرَّم اللهُ عَلَيْه الْجَنَّة وَأوْجَبَ لَهُ النَّارَ ، قَالُوا : وإن كان شيئاً يسيراً يا رسولَ الله؟ قَالَ : وَإنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أرَاكٍ « قالها ثلاث مراتٍ .
قوله : { أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة } أي : لا نصيبَ لهم في الآخرةِ وتعيمها ، وهذا مشروطٌ بالإجماع بعد التوبة ، فإذا تاب عنها سقط الوعيدُ - بالإجماع - وشرط بعضهم عدم العفو؛ لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ } أي : كلاماً ينفعهم ، ويسرهم .
وقيل : لمعنى الغضب ، كما يقول الرجل : إني لا أكلم فلاناً - إذا كان قد غضب عليه - قاله القفالُ .
ثم قال : { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } أي : لا يرحمهم ، ولا يُحْسِن إليهم ، ولا يُنِيلُهم خيراً ، وليس المقصود منه النظر بتقليب الحَدَقَةِ إلى المَرْئِيّ - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أي : لا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة .
وقيل : لا يُثْنِي عليهم كما يُثْنِي على أوليائه - كثناء المزكِّي للشاهد والتزكية من الله قد تكون على ألسنة الملائكة ، كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] وقد تكون من غير واسطة ، أما في الدنيا فكقوله : { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] . وأما في الآخرة فكقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] . ثم قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في هذه اللام قولان :
أحدهما : أنها بمعنى الاستحقاق ، أي : يستحقُّون العذاب الأليم .
الثاني : كما تقول : المال لزيد ، فتكون لام التمليك ، فذكر ملك العذاب لهم ، تهكُّماً بهم .

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

هذه الآية تدل على أن التي قبلها نزلت في اليهود .
وقوله : يَلْوُونَ « صفة ل » فريقاً « فهي في محل نصبٍ ، وجمع الضمير اعتباراً بالمعنى؛ لأنه اسم جمع - كالقوم والرهط- .
قال أبو البقاء : » ولو أفرد على اللفظ لجاز « وفيه نظرٌ؛ إذ لا يجوز : القوم جاءني ، والعامة على { يَلْوُونَ } بفتح الياء ، وسكون اللام ، وبعدها واو مضمومة ، ثم أخْرَى ساكنة مضارع لوى أي : فتل .
وقرأ أبو جعفر وشيبة بن نِصاح وأبو حاتم - عن نافع - » يُلَوُّون « بضم الياء ، وفتح اللام ، وتشديد الأولى - من لَوَّى » مضعَّفاً ، والتضعيف فيه للتكثير والمبالغة ، لا للتعدية؛ إذ لو كان لها لتعدى لآخرَ؛ لأنه مُتَعَدٍّ لواحد قبل ذلك ، ونسبها الزمخشريُّ لأهل المدينةِ ، وهو كما قال ، فإن هؤلاء رؤساء قُرَّاء المدينةز
وقرأ حُمَيْد « يَلُون » - بفتح الياء ، وضم اللام ، بعدها واو مفردة ساكنة - ونسبها الزمخشريُّ لمجاهدٍ وابنِ كثيرٍ ، ووجَّهَهَا هو بأن الأصل { يَلْوُونَ } - كقراءة العامة - ثم أبدِلَت الواو المضمومة همزة ، وهو بدلٌ قباسيٌّ - كأجوه وأقِّتَتْ . ثم خُفِّفَت الهمزةُ بإلقاء حركتها على الساكن قبلها وهو اللام - وحُذِفَت الهمزةُ ، فبقي وزن « يَلُون » يَفُون - بحذْف اللام والعين - وذلك لأن اللام - وهي الياء - حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ لأن الأصل « يلويون » كيضربون ، فاستُثْقِلَت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان - الياء وواو الضمير - فحُذِفت الياء لالتقائهما ، ثم حُذِفت الواو التي هي عين الكلمة .
و { أَلْسِنَتَهُمْ } جمع لسانٍ ، وهذا على لغة من ذكَّره ، وأما على لغة من يُؤنثه - فيقول : هذه لسانٌ - فإنه يجمع على « ألْسُن » - نحو ذِراع وأذرُع وكراع وأكرِع .
وقال الفرّاء : لم نسمعْه من العرب إلا مذكَّراً . ويُعَبَّر باللسان عن الكلام؛ لأنه ينشأ منه ، وفيه - والمراد به ذلك - التذكير والتأنيث- ، والليّ : الفتل ، يقال : لَويْت الثوب ، ولويت عنقه - أي فتلته - والليُّ : المطل ، لواه دَيْنَه ، يلويه لَيًّا ، وليَّاناً : مطله . والمصدر : اللَّيّ واللّيان .
قال الشاعرُ : [ الرجز ]
1526- قَدْ كُنْتُ دَايَنْتُ بِهَا حَسَّانا ... مَخَافَةَ إلافْلاسِ وَاللَّيانا
والأصل لوْيٌ ، ولَوْيَان ، فأعِلَّ بما تقدم في « مَيِّت » وبابه ثم يُطْلَق اللَّيُّ على الإراغة والمراوغة في الحجج والخصومة؛ تشبيهاً للمعاني بالأجرام . وفي الحديث : « لَيُّ الْوَاحِدِ ظُلْمٌ » .
وقال بعضهم : اللَّيّ عبارة عن عَطْف الشيء ، وردّه عن الاستقامة إلى الاعوجاج يقال : لَوَيْت يده والتوى الشيءُ - إذا انحرف - والتوى فلان عليَّ إذا غيَّر أخلاقه عن الاستواء إلى ضده . ولوى لسانه عن كذا - إذا غيره - ولوى فلانٌ فلاناً عن رأيه - إذا أماله عنه - و { بالكتاب } متعلق ب { يَلْوُونَ } ، وجعله أبو البقاء حالاً من الألسنة ، قال : وتقديره : ملتبسة بالكتاب ، أو ناطقة بالكتاب .

والضمير في { لِتَحْسَبُوهُ } يجوز أن يعود على ما تقدَّم مما دل عليه ذِكْر اللَّيّ والتحريف ، أي : لتحسبوا المحرف من التوراة . ويجوز أن يعود على مضاف محذوفٍ ، دل عليه المعنى ، والأصل : يلوون ألسنتهم بشِبْهِ الكتاب؛ لتحسبوا شِبْهَ الكتاب الذي حرفوه من الكتاب ، ويكون كقوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ } [ النور : 40 ] ثم قال : { يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] يعود على « ذِي » المحذوفة . و « من الكتاب » هو المفعول الثاني للحُسْبان . وقُرئ « ليحسبوه » - بياء الغيبة - والمراد بهم المسلمون - أيضاً - كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة ، والمعنى : ليحسب المسلمون أن المحرَّف من التوراة .
قال ابن الخطيبِ : « لَيُّ اللسان شبيه بالتشدُّقِ والتنطُّع والتكلُّف - وذلك مذموم - فعبَّر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلَيِّ اللسان؛ ذمًّا لهم ، ولم يُعَبِّر عنها بالقراءة . والعرب تفرِّق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد ، فيقولون - في المدح- : خطيب مِصْقَع ، وفي الذم : مِكْثَارٌ ، ثَرْثَارٌ فالمراد بقوله : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب } أي : بقراءة ذلك الكتاب الباطل » .
فصل
قال القفَّالُ : معنى قوله : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } أن يعمدوا إلى اللفظة ، فيحرفونها عن حركات الإعراب تحريفاً يتغيَّر به المعنى ، وهذا كثيرٌ في لسان العرب ، فلا يبعد مثله في العبرانية ، فكانوا يفعلون ذلك في الآياتِ الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة .
وروي عن ابنِ عباسٍ قال : إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، كتبوا كتاباً شوَّشوا فيه نعتَ محمد صلى الله عليه وسلم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم ثم قالوا : هذا من عند الله .
فصل
قال جمهور المفسّرين : هذا النفر هم : كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، وحيي بن أخطب ، وأبو ياسر ، وشعبة بن عمرو الشاعر . { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } يعطفونها بالتحريف والتغيير ، وهو ما غيّروا من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم ، وغير ذلك . { لِتَحْسَبُوهُ } أي : لتظنوا ما حرفوا { مِنَ الكتاب } الذي أنزله الله - عز وجل - { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنَّهم الكاذبون .
وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً ، وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيلَ ، وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه .
فإن قيل : كيف يمكن إدخالُ التحريف في التوراة ، مع شُهْرتها العظيمة؟
فالجوابُ : لعله صدر هذا العمل عن نفر قليلٍ ، يجوز تواطؤهم على التحريف ، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرَّف على بعض العوامِّ ، وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً .

قال ابن الخطيب : « والأصوب - عندي - في الآية أن الآياتِ الدَّالَّةِ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان يُحتاج فيها إلى تدقيق النظرِ والتأمُّل ، والقوم كانوا يُورِدون عليها الأسئلة المشوشة ، والاعتراضات المظلمة ، فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهةً على السَّامِعِينَ ، واليهود كانو يقولون : مراد اللهِ من هذه الآياتِ ما ذكرناهُ - لا ما ذكرتم - فكان هذا هو المراد بالتحريف وَلَيِّ الألسنةِ ، كما أن المُحِقَّ - في زمننا - إذا استدل بآيةٍ فالمُبْطِل يورد عليه الأسئلةَ والشبهاتِ ، ويقول : لَيْسَ مُرَادُ اللهِ - تعالى - ما ذكرت ، بل ما ذكرناه ، فكذا هنا ، والله أعلمُ » .
فإن قيل : ما الفرق بين قوله : { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } وبين قوله : { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله } ؟
فالجوابُ : أن المغايرة حاصلة؛ لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله تعالى؛ فإن الحكم الشرعيَّ قد ثبت تارةً بالكتاب ، وتارةً بالسنَّةِ ، وتارة بالإجماع ، وثارةً بالقياس ، والكل من عند الله تعالى - فقوله : { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } هذا نفيٌ خاصٌّ ، ثم عطف النفي العام فقال : { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله } فلا يكون تكراراً .
وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة ، ويكون المراد من قولهم : { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ } أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء عليهم السلام مثل شعيب وأرميا؛ وذلك لأن القومَ في نسبة ذلك التحريفِ إلى الله تعالى كانوا متحيرين فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبُلْه الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرَّف إلى أنه من عنده ، وإن من وجدوا قوماً عُقَلاَء أذكياء زعموا أنه موجودٌ في كتب سائر الأنبياءِ ، الذين جاءوا بعد موسى عليه السَّلاَمُ .

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

قال مقاتل والضَّحّاكُ { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } يعني عيسى - عليه السلام - وذلك أن نصارَى نجرانَ كانوا يقولون : إن عيسى أمرهم أن [ يتخذوه ] ربًّا ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال ابن عباس وعطاء : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب } أي : القرآن وذلك أن أبا رافع القُرظِي - من اليهود ، والرئيس - من نصارى نَجْران ، قالا : يا محمد ، أتريد أن نعبدَك ونتخذك رباً؟ قَالَ : « مَعَاذَ اللهِ أنْ نَأمُرَ بِعبَادَةِ غَيْرِ اللهِ ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي اللهُ ، وَلاَ بِذَلِكَ أمَرَنِي اللهُ » فأنزل الله هذه الآية .
قال ابن عباسٍ : لما قالت اليهودُ : عُزَيْر ابنُ الله وقالت النصارى : المسيح ابنُ اللهِ نزلت هذه الآية .
والبشر جميع بني آدم ، لا واحد له من لفظه - كالقوم والجيش - ويوضع موضع الواحدِ ، والجمع ، قال القرطبي : « لأنه بمنزلة المصدر » .
قوله : { أَن يُؤْتِيهُ } اسم « كَانَ » و « الْبَشَر » خبرها . وقوله : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } عطف على « يُؤتيهُ » ، وهذا العطفُ لازم من حيث المعنى؛ إذ لو سكت عنه لم يصحّ المعنى؛ لأن الله - تعالى - قد آتى كثيراً من البشر الكتابَ والحُكْمَ والنبوةَ ، وهذا كما يقولون - في بعض الأحوال والمفاعيل- : إنها لازمة فلا غرو - أيضاً - في لزوم المعطوف .
وإنما بينا هذا؛ لأجل قراءة تأتي - إن شاء اله تعالى - ومعنى مجيء هذا النَّفي في كلام العرب ، نحو : « ما كان لزيد أن يفعل » ، كقوله تعالى : { مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا } [ النور : 16 ] . وقوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] وقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] أي : ما ينبغي لنا ، ونحوه بنفي الكون والمراد نفي خبره ، وهو على قسمين :
قسم يكون النفي فيه من جهة العقل؛ ويُعَبَّر عنه بالنفي التام - كهذه الآية - لأن الله - تعالى - لا يُعْطي الكتاب بالحكم والنبوة لمن يقول هذه المقالة الشنعاء ، ونحوه : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [ النمل : 60 ] وقوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 145 ] .
وقسم يكون النفي فيه على سبيل الانتفاء ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعْرَف القسمان من السياق .
وقرأ العامة « يَقُولَ » - بالنصب - نسقاً على « يؤتيه » والتقدير : لا يجتمع النبوة وهذا القول . والعامل فيه « أن » وهو معطوف عليه بمعنى : ثم أن يقول .
والمراد بالحكم : الفَهْم والعلم . وقيل : إمضاء الحكم عن الله - عز وجل- .

و { الكتاب } القرآن .
وقرأ ابن كثير - في رواية شبل بن عباد - وأبو عمرو - في رواية محبوب- : « يقولُ » - بالرفع - وخرَّجوها على القطع والاستئناف ، وهو مُشْكِلٌ؛ لما تقدم من أن المعنى على لزوم ذكر هذا المعطوف؛ إذْ لا يستقلّ ما قبله؛ لفساد المعنى ، فكيف يقولون : على القطع والاستئناف .
قوله : { عِبَادًا } حكى الواحديُّ - عن ابن عباسٍ - أنه قال في قوله تعالى : { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } أنه لغة مزينة ويقولون للعبيد : عباد .
قال ابنُ عطِية : ومن جموعه : عَبِيد وعِبِدَّى .
قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلُّها بمعنًى .
وقال بعضهم : العبادُ للهِ ، والعبيدُ والعِبِدَّى للبشر .
وقال بعضهم : العِبِدَّى إنما تقال في العبد من العَبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الإغراق في العبودية ، والذي استقرأت في لفظ « العباد » أنه جَمْع عَبْد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير ، وتصغير الشأن ، وانظر قوله : { والله رَؤُوفٌ بالعباد } { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] وقوله : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [ المائدة : 118 ] ، وأما العبيد ، فتستعمل في تحقيره .
ومنه قول امرئ القيس :
1527- قُولاَ لِدُودَانَ عَبِيدِ العَصَا ... مَا غَرَّكُمْ بِالأسَدِ الْبَاسِلِ
وقال حمزة بن عبد المطلب : « وَهَلْ أنْتُمْ إلاَّ عَبِيدٌ لأبِي » ؟ ومنه قوله : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة أنصارهم ومقدرتهم ، وأنه - تعالى - ليس بظلامٍ لهم مع ذلك . ولما كانت « العباد » تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أتى بها في قوله تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] فهذا النوع من النظر يسلك به سبيل العجائب في فصاحة القرآن على الطريقة العربية .
قال أبو حيّان : « وفيه بعض مناقشة ، أما قوله : ومن جموعه عَبِيد وعِبِدَّى ، فأما عبيد ، فالأصح أنه جمع ، وقيل اسم جمع . وأما عِبِدَّى فإنه اسم جمع ، وألفه للتأنيث » .
قال شهابُ الدّينِ : « لا مناقشة ، فإنه إنما يعني جَمْعاً معنويًّا ، ولا شك أن اسمَ الجمع جَمْعٌ معنويٌّ » .
قال : وأما ما استقرأه من أن « عِباداً » يساق في [ مضمار ] الترفُّع والدلالة على الطاعة ، دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ « العباد » وأما قوله : وأما العبيد ، فيستعمل في تحقيره - وأنشد بيت امرئ القيس ، وقول حمزة : « وهل أنتم إلا عبيد أبي » ، وقوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] فاستقراء ليس بصحيح ، إنما كثر استعمال « عباد » دون « عبيد » لأن « فعالاً » في جمع « فَعْل » غير الياء والعين قياس مُطَّردٌ ، وجمع فَعْل على « فعيل » لا يطَّرد .

قال سيبويه : « وربما جاء » فعيلاً « وهو قليل - نحو الكليب والعبيد » . فلما كان « فِعَال » مقيساً في جمع « عبد » جاء « عباد » كثيراً ، وأما { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] فحسَّنَ مجيئه هنا - وإن لم يكن مقيساً - أنه جحاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله : { أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] وبعده { قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } [ فصلت : 47 ] فحَسَّنَ مجيئه بلفظ العبيد مؤاخاة هاتين الفاصلتين . ونظير هذا - في سورة ق - { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] لأن قبله : { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد } [ ق : 28 ] . وبعده : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] وأما مدلوله فمدلول « عباد » سواء ، وأما بيت امرئ القيس فلم يُفْهَم التحقير من لفظ « عبيد » إنما فُهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت . وكذلك قول حمزةَ : هل أنتم إلا عبيد؟ إنما فهم التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين .
وقال شهابُ الدينِ : « رده عليه استقراءه من غير إثباته ما يجرِّم الاستقراء مردود ، وأما ادِّعاؤه أن التحقير مفهوم من السياق - دون لفظ - » عبيد « - ممنوع؛ لأنه إذا دار إحالة الحكم بين اللفظ وغيره ، فالإحالة على اللفظ أوْلَى » .
قوله : « لي » صفة ل « عباد » . و { مِن دُونِ الله } متعلق بلفظ « عِبَاداً لما فيه من معنى الفعل ، ويجوز أن يكون صفة ثانية ، وأن يكون حالاً؛ لتخصُّص النكرة بالوصف .
قوله : { ولكن كُونُواْ } أي : ولكن يقول : كونوا ، فلا بد من إضمار القول هنا ، ومذهب العرب جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه ، كقوله تعالى : { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ آل عمران : 106 ] أي : يقال لهم ذلك .
والربانيون : جمع رَبَّانِيّ ، وفيه قولان :
أحدهما : قال سيبَوَيْهِ : إنه منسوب إلى الرَّبّ ، يعني كونه عالماً به ، ومواظباً على طاعته ، كما يُقال : رجل إلهيّ إذا كان مقبلاً على معرفة الإلهِ وطاعتِهِ ، والألف والنونُ فيه زائدتان في النسبِ ، دلالةٌ على المبالغة كرقباني وشَعراني ، ولِحْيَاني - للغليظِ الرقبةِ ، والكثيرِ الشعرِ ، والطويلِ اللحيةِ - ولا تُفرد هذه الزيادة عن النسب أما إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية - من غير مبالغة : قالوا : رَقَبيّ وشَعْرِيّ ولحويّ .
الثاني : قال المُبَرِّدُ : الربانيون : أرباب العلم ، منسوب إلى رَبَّان ، والربان : هو المُعَلِّم للخير ، ومَن يوسوس للناس ويعرِّفُهم أمرَ دينهم ، فالألف والنون والتاء على زيادة الوصف ، كهي في عطشان وريان وجوعان ووسنان ، ثم ضمت إليه ياء النسب - كما قيل : لحيانيّ ورقبانيّ - وتكون النسبة - على هذا - في الوصف نحو أحمري ، قال : [ الرجز ]
1528- أطَرَباً وَأنتَ قِنَّسْرِيُّ ... وَالدَّهْرُ بِالإنْسَانِ دَوَّارِيُّ

وقال سيبويه : زادوا ألفاً ونوناً ف يالربانيّ؛ لأنهم أرادوا تخصيصاً بعلم الرَّبِّ دون غيره من العلوم ، وهذا كما يقال : شعرانيّ ولحيانيّ ورقبانيّ .
قال الواحديُّ : فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الربِّ مأخوذٌ من التربية .
وفي التفسير : كونوا فقهاء ، علماء ، عاملين . قاله عليٌّ وابن عباس والحسنُ .
وقال قتادةُ : حكماء ، علماء وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : فقهاء ، معلمين .
وقل عطاءٌ : علماء ، حكماء ، نصحاء لله في خلقه .
وقيل : الرَّبَّانِيّ : الذي يُربِّي الناسَ بصغار العلم قَبل كِباره .
وقال سعيد بن جُبَيرٍ : الرباني : العالم الذي يعمل بعلمه .
وقيل : الربانيون فوق الأحبار ، والأحبارُ : العلماء ، والربانيون : الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس ، ولما مات ابنُ عبَّاسٍ قال محمدُ بنُ الحنفيةَ : اليوم مات رَبَّانِيُّ هذه الأمة .
وقال ابنُ زيدٍ : الربانيُّ : هو الذي يربُّ النَّاسَ ، والربانيون هم : ولاة الأمة والعلماء ، وذكروا هذا - أيضاً - في قوله تعالى : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار } [ المائدة : 63 ] أي : الولاة والعلماء ، وهما الفريقان اللذان يطاعان .
ومعنى الآية - على هذا التقدير - لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي ، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ، ومواظبتكم على طاعته .
قال القفال : يحتمل أن يكون الوالي ، سُمِّي ربانيًّا؛ لأنه يُطاع كالربِّ ، فنسب إليه .
قال أبو عبيدة : أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربيةٍ ، إنما هي عبرانية ، أو سريانية ، وسواء كانت عبرانية ، أو سريانية ، أو عربية فهي تدل على الإنسان الذي عَلِمَ وعَمِلَ بما عَلِم ، ثم اشتغل بتعليم الخيرِ .
قوله : { بِمَا كُنْتُمْ } الباء سببية ، أي : كونوا علماء بسبب كَوْنِكُمْ ، وفي متعلق هذه الباء ثلاثة أقوالٍ :
أحدها : أنها متعلقة ب « كُونُوا » ذكره أبو البقاء ، والخلاف مشهورٌ .
الثاني : أن تتعلق ب « رَبَّانِيِّينَ » لأن فيه معنى الفعل .
الثالث : أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة ل « رَبَّانِيِّينَ » ذكره أبو البقاء ، وليس بواضح المعنى ، و « ما » مصدرية ، فتكون مع الفعل بتأويل المصدر ، أي : بسبب كونكم عالمينَ ، نظيره قوله : { اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ } [ الجاثية : 34 ] . وظاهر كلام أبي حيان أنه يجوز أن تكون غير ذلك؛ فإنه قال : و « ما » الظاهر أنها مصدرية ، فهذا يوم تجويز غير ذلك - وفي جوازه بُعْد - وهو أن تكون موصولة ، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر ، أي بسبب الذي تعلمون به الكتاب ، وقد نقص شرطٌ ، وهو اتحاد المتعلَّق ، فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية . و « كُنْتُمْ » معناه « أنتم » كقوله : { مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] أي مَنْ هو في المهد .
قوله : { تَعْلَمُونَ } قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو « تَعْلَمُونَ » مفتوح حرف المضارعة ، ساكن العين مفتوح اللام من عَلِم يَعْلَم ، أي : تعرفون ، فيتعدى لواحدٍ ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة ، وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً ، فيتعدى لاثنين ، أولهما محذوف ، تقديره : تُعَلِّمُونَ الناسَ والطالبين الكتاب .

ويجوزُ أن لا يُراد مفعول ، أي : كنتم من أهل التعليم ، وهو نظير : أطعم الخبزَ ، المقصود الأهم إطعام الخُبْز من غير نظرٍ إلى مَنْ يُطْعمُه ، فالتضعيف فيه للتعدية .
وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع ، بأنها أبلغ؛ وذلك أن كل مُعَلِّم عالم ، وليس كُلُّ عالمٍ معلماً ، فالوصْف بالتعليم أبلغ ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين ، والرباني يقتضي أن يَعْلَم ، ويُعَلَّمَ غيرَه ، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه .
ورجح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعول واحدٌ ، والأصل عدم الحذف - والتخفيف مُسوَّغ لذلك ، بخلاف التشديد ، فإنه لا بدّ من تقدير مفعول . وأيضاً فهو أوفق لِ « تَدْرُسُونَ » . والقراءتان متواترتان ، فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخْرى .
وقرأ الحسن ومجاهدٌ « تَعَلَّمُونَ » - بفتح التاء والعين ، واللام مشددة - من تعلم ، والأصل تتعلمون - بتاءين - فحُذِفَتْ إحداهما .
قوله : { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } كالذي قبله ، والعامة على « تَدْرُسُونَ بفتح التاء ، وضم الراء - من الدرس ، وهو مناسب » تَعْلَمُونَ « من علم - ثلاثياً .
قال بعضهم : كان حق من يقرأ » تُعَلِّمون « - بالتشديد - أن يقرأ » تُدَرِّسُونَ « - بالتشديد وليس بلازمٍ؛ إذ المعنى : صرتم تُعَلِّمون غيرَكم ، ثم تُدَرِّسُونَ ، وبما كنتم تدرسون عليهم - أي : تتلونه عليهم ، كقوله : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس } [ الإسراء : 6 ] .
قال أبو حَيْوَةَ - في إحدى الرواتين عنه - » تَدْرِسُونَ « - بكسر الراء - وهي لغة ضعيفة ، يقال : دَرَس العلم يدرسه - بكسر العين في المضارع - وهما لغتان في مضارع » درس « وقرأ هو - أيضاً - في رواية » تُدَرِّسُونَ « من درَّس - بالتشديد - وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون التضعيف فيه للتكثير موافقاً لقراءة » تَعْلَمُونَ « بالتخفيف .
الثاني : أن التضعيف للتعدية ، ويكون المفعولان محذوفين؛ لغهم المعنى ، والتقدير : تُدَرِّسُونَ غيركم العلم ، أي : تحملونهم على الدرس . وقُرِئَ » تُدْرِسُونَ « من أدرس - كيكرمون من أكرم - على أن أفعل بمعنى فعل - بالتشديد - فأدرس ودرّس واحد كأكرم وكرّم ، وأنزل ونزّل .
والدرس : التكرار والإدمان على الشيء . ومنه : درس زيد الكتاب والقرآن ، يدرُسه ويدرِسه ، أي : كرر عليه ، ويقال درست الكتاب ، أي : تناولت أثره بالحفظ ، ولما كان ذلك بمداومة القرآن عبر عن إدامة القرآن بالدرس . ودَرَس المنزلُ : ذهب أثرُه ، وطلَلٌ عافٍ ودارس بمعنًى .
قوله : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب يَأمُرَكُمْ » والباقون بالرفع وأبو عمرو على أصله من جواز تسكين الراء والاختلاس ، وهي قراءة واضحة ، سهلة التخريج ، والمعنى ، وذلك أنها على القطع والاستئناف .
أخبر تعالى - بأن ذلك الأمر لا يقع ، والفاعل فيه احتمالان :
أحدهما : هو ضمير الله - تعالى - .

الثاني : هو ضمير الموصوف المتقدم .
والمعنى : ولا يأمركم الله ، وقال ابن جريج وجماعة : ولا يأمركم محمد أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً وقيل : لا يأمركم عيسى .
وقيل : لا يأمركم الأنبياء أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرْباباً ، كفعل قريش والصابئين - حيث قالوا في المسيح هو العزير .
والمعنى على عوده على « بَشَر » أنه لا يقع من بشر موصوفٍ بما وُصِفَ به أن يَجْعَل نفسه ربًّا ، فيُعْبَدَ ، ولا يأمر - أيضاً - أن تُعْبَد الملائكةُ والنبيون من دون الله ، فانتفى أن يدعوَ الناسَ إلى عبادة نفسه ، وإلى عبادة غيره - والمعنى - على عَوْده على الله - تعالى - أنه تعالى أخْبَر أنه لم يَأمُرْ بذلك ، فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادة غيره تعالى .
وأما قراءة النصب ففيها وجوهٌ :
أحدها : قول أبي علي وغيره ، وهو أن يكون المعنى : دلالة أن يأمركم ، فقدروا « أن » مضمرة بعده وتكون « لا » مؤكِّدة لمعنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، ف « لا » للتوكيد لمعنى النفي السابق ، وبقي معنى الكلام : ما كان من زيد إتيان ، ولا منه قيام .
الثاني : أن يكون نصبه لنَسَقه على { أَن يُؤْتِيهُ } قال سيبويه : والمعنى : وما كان لبَشَرٍ أن يأمركم أن تتخِذُوا الملائكة .
قال الواحديُّ : ويُقوي هذا الوجهَ ما ذكرنا من أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أتريد يا محمدُ أن نتخذَك رَبًّا؟ فنزلت .
الثالث : أن يكون معطوفاً على « يَقُولُ في قراءة العامة - قاله الطَّبَريُّ .
قال ابن عطيةَ : » وهذا خَطأ لا يلتئم به المعنى « ، ولم يبين أبو مُحَمدٍ وَجْهَ الخَطَأ » ولا عدم التآم المعنى .
قال أبو حيّان : « وجه الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على » يَقُولَ « وجعل » لا للنفي - على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد - فلا يمكن أن يُقَدَّر الناصب - وهو « أن » - إلا قبل « لا » النافية ، وإذا قدرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي ب « لا » مصدر منفي ، فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وُصِفَ به انتفاء أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً - وإذا لم يكن له انتفاء الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك ، وهو خَطَأ بيِّن .
أما إذا جعل « لا » لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خَطَأ ، ولا عدم التئام المعنى؛ وذلك أنه يصير النفي مستحباً على المصدرين المقدَّرِ ثبوتهما ، فينتفي قوله : { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } وينتفي أيضاً أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً . ويوضِّح هذا المعنى وَضْعُ « غير » موضع « لا » فإذا قلتَ : ما لزيد فقهٌ ولا نحوٌ .

كانت « لا » لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوَصْفان ، ولو جعلت « لا » لتأسيس النفي كانت بمعنى « غير » فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه ، وثبوت النحو له؛ إذ لو قلت : ما لزيد فقه غير نحو ، ك ان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلتَ : ما له غير نحو ، ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زادٍ ، كان المعنى : جئت بغير زاد وإذا قلت : ما جئت بغير زادٍ ، معناه أنك جئت بزاد؛ لأن « لا » هنا لتأسيس النفي ، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم التئامِ المعنى إنما يكون على أحد التقديرين ، وهو أن يكون « لا » لتأسيس النفي لا لتأكيده ، وأن يكون من عطف المنفي ب « لا » على المثبت الداخل عليه النفي نحو : ما أريد أن تجهل وألا تتعلم ، تريد : ما أريد أن لا تتعلم « .
وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف » يَأمُرَكُم « على » يَقُولَ « وجوَّزَ في طلا » الداخلة عليه وجهين :
أحدهما : أن يكون لتأسيس النفي .
الثاني : أنها مزيدة لتأكيده ، فقال : وقُرِئ { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } بالنصب؛ عطفاً على « ثُمَّ يَقُولَ » وفيه وجهان :
أحدهما : أن تجعل « لا » مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } . والمعنى : ما كان لبشر أن يستنبئه الله تعالى ، ويُنَصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً لهم ، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ، كقولك : ما كان لزيد أن أكرمه ، ثم يهينني ولا يستخف بي .
والثاني : أن يُجْعَل « لا » غير مزيدة ، والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهَى قُرَيشاً عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادةِ عُزَيْرٍ والمسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك ربًّا؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته ، وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء .
قال شهاب الدينِ : « وكلام الزمخشري صحيحٌ ، ومعناه واضح على كلا تقديري كون » لا « لتأسيس النفي وتأكيده فكيف يَجْعَل الشيخُ كلامَ الطبريِّ فاسداً على أحد التقديرين - وهو كونها لتأسيس النفي فقد ظهر صحةُ كلام الطبريِّ بكلام الزمخشريِّ ، وظهر أن رَدَّ ابنِ عطيةَ عليه مردودٌ » .
وقد رجح الناس قراءةَ الرفعِ على النصبِ .
قال سيبويه : ولا يأمركم منقطعة مما قبلها؛ لأن المعنى ولا يأمركم الله .
قال الواحدي : ومما يدل على انقطاعها من النسق ، وأنها مُسْتأنفة ، فلما وقعت « لا » موقع « لن » رفعت كما قال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم } [ البقرة : 119 ] وفي قراءة ، عبد الله : ولن تُسْأل .
قال الزمخشريُّ : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، ويعضدُهَا قراءةُ عبد الله : « ولَنْ يَأمُرَكم » وقد تقدم أن الضمير في « يَأمُركُمْ » يجوز أن يعود على « الله » وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو أعم من ذلك .

وسواء قرئ برفع { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } و بنصبه إذا جعلناه معطوفاً على « يَقُولَ » فإن الضمير يعود على « بشر » لا غير ، [ ويؤيد هذا قولُ بعضهم : ووجه القراءة بالنصب أن يكون معطوفاً على الفعل المنصوب قبله ، فيكون الضمير المرفوع لِ « بشر » لا غير يعني بما قبله « ثُمَّ يَقُولَ » .
ولما ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضمير عائداً على « الله » تعالى ولم يذكر غير ذلك ، فيحتمل أن يكون هو الأظهر عنده ، ويُحْتَمَل أنه لا يجوز غيرُه ، والأول أوْلَى .
قال بعضهم : وفي الضمير المنصوب في « يَأمُرُكُمْ » - على كلتا القراءتين - خروج من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات ، فكأنه توهم أنه لما تقدم في قوله ذكر النافي - في قوله : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } كان ينبغي أن يكون النظم ولا يأمرهم؛ جرياً على ما تقدم ، وليس كذلك ، بل هذا ابتداء خطابٍ ، لا التفات فيه .
قوله : { أَيَأْمُرُكُم بالكفر } الهمزة للاستفهام بمعنى الإنكار ، يعني أنه لا يفعل ذلك .
قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } « بَعْدَ » متعلق ب « يَأمُرُكُمْ » وبعد ظرف زمان مضاف لظرف زمان ماضٍ وقد تقدّم أنه لا يضافُ إليه إلا الزمان ، نحو حينئذٍ ويومئذٍ . و { أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } في محل خفض بالإضافة؛ لأن « إذْ » تضاف إلى الجملة مطلقاً .
قال الزمخشريُّ : « بَعْدَ إذ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ » دليلٌ على أن المخاطبين كانوا مسلمين ، وهم الذين استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَسْجُدُوا له .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)

العامل في « إذْ » وجوه :
أحدها : « اذكر » إن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : « اذكروا » إن كان الخطاب لأهل الكتابِ .
الثالث : اصطفى ، فيكون معطوفاً على « إذْ » المتقدمة قبلها ، وفيه بُعْدٌ؛ بل امتناع؛ لبُعْده .
الرابع : أن العامل فيه « قَالَ » في قوله : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ } وهو واضح .
وميثاق ، يجوز أن يكون مضافاً لفاعله ، أو لمفعوله ، وفي مصحف أبيّ وعبد الله وقراءتهما : { مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ آل عمران : 187 ] . وعن مجاهد ، وقال : أخطأ الكاتب .
قال شهابُ الدين : « وهذا خطأٌ من قائله - كائناً مَنْ كان - ولا أظنه عن مجاهد؛ فإنه قرأ عليه مثل ابن كثير وأبي عمرو بن العلاء ، ولم يَنْقُلْ عنه واحدٌ منهما شيئاً مِنْ ذلك » .
والمعنى على القراءة الشهيرة صحيح ، وقد ذكروا فيها أوجهاً :
أحدها : أن الكلام على ظاهرهِ ، وأن الله تعالى - أخذ على الأنبياء مواثيق أنهم يُصَدِّقون بعضهم بعضاً وينصر بعضُهم بعضاً ، بمعنى : أنه يوصي قومه أن ينصروا ذلك النبي الذي يأتي بعده ، ولا يخذلوه وهذا قول سعيد بن جبيرٍ والحسن وطاووس .
وقيل هذا الميثاقُ مختص بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا مرويٌّ عن عليٍّ وابن عباس وقتادةَ والسدي ، واحتج القائلون بهذا بقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } [ آل عمران : 81 ] وهذا يدل على أن الآخذ [ هو الله - تعالى - والمأخوذ منهم هم النبيون ، وليس في الآية ذكر الأمة ، فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة ] .
وأجيب بأن على الوجه الذي قلتم يكون الميثاقُ مضافاً إلى الموثَقِ عليه . وعلى قولنا إضافته [ إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل - وهو الموثق - وإضافة الفعلِ إلى الفاعل أقوى من إضافته ] إلى المفعول؛ فإن لم يكن فلا أقل من المساواة ، وهو كما يقال : ميثاقُ اللهِ وعهجه ، فيكون التقدير : وإذ أخذ اللهُ الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أمَمِهم .
ويمكن أن يُراد ميثاق أولاد النبيين - وهم بنو إسرائيلَ - على حذف مضافٍ [ وهو كما يقال : « فعل بكر بن وائل كذا » ، و « فعل معد بن عدنان كذا » ، والمراد أولادهم وقومهم ، فكذا ههنا ] .
ويحتمل أن يكون المراد من لفظ « النَّبِيِّينَ » أهل الكتاب ، فأطلق لفظ « النَّبِيِّينَ » عليهم؛ تهكُّماً بهم على زعمهم؛ لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم لأنا أهل الكتاب ، ومنا النبيون ، قاله الزمخشريُّ .
ويمكن أنه ذكر النبي والمراد أمته كقوله : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ } [ الطلاق : 1 ] .
واحتجوا - أيضاً - بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةٌ ، أمَا وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بْنُ عمْرانَ حَيًّا لَمَا وَسعهُ إلاَّ اتِّبَاعِي » .

وبما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : « إن الله - تعالى - ما بعث آدم وَمَنْ بعده من الأنبياء عليهم السلام إلا أخذ العهد عليه لئن بُعِث محمدٌ وهو حَيٌّ ليؤمننَّ به ، ولينصرنه » .
القول الثاني : أن الميثاق مضاف لفاعله ، والموثق عليه غير مذكور؛ لفهم المعنى ، والتقدير : ميثاق النبيِّين على أممهم ، ويؤيده قراءة أبَيّ وعبد الله ، ويؤيده - أيضاً - قوله : { فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك } [ آل عمران : 82 ] والمراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون الميثاق من أمهم بأنه إذا بُعِث محمدٌ صلى الله عليه وسلم أن يُؤمِنوا به وينصروه وهو قول مجاهدٍ والربيع ، واحتجوا بقوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } [ آل عمران : 81 ] وإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى أهل الكتابِ دون النبيين .
وقال أبو مسلم : ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ اللهُ الميثاق منهم ، يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه وكل الأنبياءِ يكونون عند مبعثه عليه السَّلامُ من زمرة الأموات والميت لا يكون مكلفاً ، فعلمنا أن المأخوذ عليهم الميثاق ليسوا هم النبيين بل أممهم ، ويؤكِّد هذا أنه - تعالى - حكم على مَنْ أخِذ عليهم الميثاقُ أنهم لو تولوا كانوا فاسقين ، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء ، وإنما يليق بالأمم .
قال القفال عن هذا الاستدلال بأنه لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بل يكون هذا كقوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] وقد علم الله تعالى أنه لا يُشرك قط ، ولكن خرج هذا على سبيل الفَرْض والتقدير ، وكقوله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 44-46 ] وكقوله في صفة الملائكة : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين } [ الأنبياء : 29 ] وكل ذلك على سبيل الفرض والتقدير - فكذا هنا - وقوله : إنه سماهم فاسقين فهو على تقدير التولي ، واسم الشرك أقبح من اسم الفسق - وقد ذكره - تعالى - على سبيل الفرض في قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] .
واحتجوا - أيضاً - بأن المقصود من الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا كان الميثاق مأخوذاً عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذاً على الأنبياء وأجيب عن ذلك بأن درجاتِ الأنبياء أعلى وأشرف من درجات الأمم ، فإذا دلت الآيةُ على أن اللهَ أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لو كانوا أحياءً - وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين ، فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجباً على أممهم كان أولى .

واحتجوا أيضاً بما روي عن ابن عباس قال : إنما أخذ الله ميثاقَ النَّبِيِّين على قومهم . وبقوله تعالى : { اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] وبقوله : { وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ آل عمران : 187 ] .
وقال بعض أصحاب القول الأول : المعنى : أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق على أممهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصروه ، ويصدقوه - إن أدركوه .
قال بعضهم : إن الله أخذ الميثاق على النبيين وأممِهم - جميعاً - في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فاكتفى بذكر الأنبياء؛ لأن العهد مع المتبوع عَهْد مع التابع ، وهذا معنى قول ابن عباسٍ .
قرأ العامَّة : « لما آتيتكم » بفتح لام « لما » وتخفيف الميم ، وحمزة - وحده - على كسر اللام . وقرأ الحسن وسعيد بن جبير « لَمَّا » بالفتح والتشديد .
فأما قراءة العامة ففيها خمسة أوجه :
أحدها : أن تكون « ما » موصولة بمعنى الذي ، وهي مفعولة بفعل محذوف ، ذلك الفعل هو جواب القسم والتقدير : واللهِ لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتاب . قال هذا القائلُ : لأن لامَ القسَم إنما تقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على الفعل حُذِف . ثم قال تعالى : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم قال : وعلى هذا التقدير يستقيم النَّظْمُ .
وقال شهاب الدينِ : وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوز ألبتة؛ إذ يمتنع أن تقول في نظيره من الكلام : « والله لزيداً » تريد : والله لنضربن زيداً .
الوجه الثاني : وهو قول أبي علي وغيره : أن تكون اللام - في « لَمَا » - جواب قوله : { مِيثَاقَ النبيين } لأنه جارٍ مَجْرَى القسم ، فهي بمنزلة قولك : لزيدٌ أفضل من عمرو ، فهي لام الابتداء المتلَقَّى بها القسم وتسمى اللام المتلقية للقسم . و « ما » مبتدأة موصولة و « آتيتكم » صلتها ، والعائد محذوف ، تقديره : آتيناكموه فحذف لاستكمال شرطه . و { مِّن كِتَابٍ } حال - إما من الموصول ، وإما من عائده - وقوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } عطف على الصلة ، وحينئذٍ فلا بد من رابط يربط هذه الجملةَ بما قبلها؛ فإن المعطوفَ على الصلة صِلة .
واختلفوا في ذلك ، فذهب بعضهم إلى أنه محذوف ، تقديره : جاءكم رسول به ، فحذف « به » لطول الكلام ودلالة المعنى عليه . وهذا لا يجوز؛ لأنه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَف إلا بشروط ، وهي مفقودةٌ هنا ، [ وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه ، وفيه ما قد عرفت ، ومنهم من ] قال : الربط حصل - هنا - بالظاهر ، لأن الظاهر - وهو قوله « لما معكم » صادق على قوله : « لما آتيناكم » فهو نظير : أبو سعيد الذي رويت عن الخدري ، والحجاج الذي رأيت أبو يوسف .

وقال : [ الطويل ]
1529- فَيَا رَبَّ لَيْلَى أنْتَ في كُلِّ مَوْطِنٍ ... وَأنْتَ الَّذِي فِي رَحْمةِ اللهِ أطْمَعُ
يريد رويت عنه ، ورأيته ، وفي رحمته . فأقام الظاهر مقام المضمر ، وقد وقع ذلك في المبتدأ والخبر ، نحو قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] ولم يقل : إنا لا نضيع ، وقال تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } [ يوسف : 90 ] ولم يقل : لا يضيع أجره وهذا رأي أبي الحسن والأخفش . وقد تقدم البحث فيه .
ومنهم من قال : إن العائد يكون ضمير الاستقرار العامل في « مَعَ » و « لتؤمنن به » جوابُ قسمٍ مقدرٍ ، وهذا القَسَم المقدَّر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو « لما آتيناكم » والهاء - في « بِهِ » - تعود على المبتدأ ، ولا تعود على « رَسُولٌ » لئلاَّ يلزم خلُوّ الجملة الواقعة خبراً من رابط يربطها بالمبتدأ .
الوجه الثالث : كما تقدم ، إلا أن اللام في « لَمَا » لام التوطئة؛ لأن اخذ الميثاق في معنى الاستخلاف . وفي « لتؤمنن » لام جواب القسم ، هذا كلام الزمخشريِّ . ثم قال : و « ما » تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط ، و « لَتُؤمِنُنَّ » سادّ مَسَدّ جواب القَسَم والشرط جميعاً ، وأن تكون بمعنى الذي . وهذا الذي قاله فيه نظرٌ؛ من حيثُ إن لام التوطئة تكون مع أدوات الشرط ، وتأتي - غالباً - مع « إن » أما مع الموصول فلا يجوزُ في اللام أن تكون موطئةً وأن تكون للابتداء . ثم ذكر في « ما » الوجهين ، لحملنا كل واحد على ما يليق به .
الوجه الرابع : أن اللام هي الموطئة ، و « ما » بعدها شرطية ، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها - وهو « آتيْنَاكُمْ » ، وهذا الفعل مستقبل معنًى؛ لكونه في جزاء الشرط ، ومحله الجزم ، والتقدير : واللهِ لأي شيء آتيتكم من كذا وكذا ليكونن كذا ، وقوله : { مِّن كِتَابٍ } ، كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] وقد تقدم تقريره . وقوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } عطف على الفعل قبله ، فيلزم أن يكون فيه رابط يربطه بما عُطِف عليه ، و « لَتُؤمِنُنَّ » جواب لقوله : { أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } وجواب الشرط محذوف ، سَدَّ جوابُ القسم مَسَدَّه ، والضمير في « بِهِ » عائد على « رَسُولٌ » ، كذا قال أبو حيّان .
قال شهاب الدين : « وفيه نظر؛ لأنه يمكن عودُه على اسم الشرط ، ويُستغنَى - حينئذٍ - عن تقديره رابطاً » .
وهذا كما تقدم في الوجه الثاني ونظير هذا من الكلام أن نقول : أحلف بالله لأيهمْ رأيت ، ثم ذهب إليه رجل قرشي لأحسنن إليه - تريد إلى الرجل - وهذا الوجه هو مذهب الكسائي .

وقد سأل سيبويه الخليل عن هذه الآية ، فأجاب بأن « ما » بمنزلة الذي ، ودخلت اللام على « ما » كما دخلت على « إن » حين قلت : والله لئن فعلت لأفعلن ، فاللام التي في « ما » كهذه التي في « إن » واللام التي في الفعل كهذه اللام التي في الفعل هنا . هذا نصُّ الخليلِ .
قال أبو علي : لم يرد الخليل بقوله : إنما بمنزلة الذي كونها موصولة ، بل إنها اسم كما أن « الذي » اسم وإما أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ } [ هود : 111 ] وقوله : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا } [ الزخرف : 35 ] .
وقال سيبويه : ومثل ذلك { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } [ الأعراف : 18 ] إنما دخلت اللام على نية اليمين . وإلى كونها شرطية ذهب جماعة كالمازني والزجَّاج والفارسيّ والزمخشري .
قال أبو حيّان : « وفيه خدش لطيف جدًّا » وحاصل ما ذكر : أنهم إن أرادوا تفسير المعنى فيمكن أن يقال ، وإن أرادوا تفسير الإعراب فلا يصح؛ لأن كلاَّ منهما - أعني : الشرط والقسم - بطلب جواباً على حدة ، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما؛ لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل ، فيكون في موضع جزمٍ ، والقسم يطلبه على جهة التعلُّق المعنويّ به من غير عملٍ ، فلا موضع له من الإعراب ، ومحال أن يكون الشيءُ له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب . [ وتقدم هذا الإشكال وجوابه ] .
الوجه الخامس : أن أصلها « لَمّا » - بالتشديد - فخُفِّفَتْ ، وهذا قول أبي إسحاق وسيأتي في قراءة التشديد ، وقرأ حمزة لما - بكسر اللام ، خفيفة الميم - أيضاً - وفيها أربعة أوجه :
أحدها : وهو أغربها - أن تكون اللام بمعنى « بَعْد » .
كقول النابغة : [ الطويل ]
1530- تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لها فعَرفْتُهَا ... لِسِتّةِ أعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
يريد : فعرفتها بعد ستة أعوام ، وهذا منقول عن صاحب النَّظْم .
قال شهاب الدين : « ولا أدري ما حمله على ذلك؟ وكيف ينتظم هذا كلاماً؟ إْ يصير تقديره : وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين بعدما آتيتكم ، ومَن المخاطب بذلك؟ » .
الثاني : أن اللام للتعليل - وهذا الذي ينبغي أن لا يُحَاد عنه - وهي متعلِّقة ب « لتؤمنن » و « ما » حينئذٍ - مصدرية .
قال الزمخشري : « ومعناه : لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدق لتؤمنن به على أن » ما « مصدرية ، والفعلان معها - أعني : » آتيناكم « و » جاءكم « - في معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل ، والمعنى : أخذ اللهُ ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ، ولينصرنه ، لأجل أن آتيتكم الكتابَ والحكمةَ ، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونُصْرَتِهِ موافق لكم ، غير مخالف لكم » .

قال أبو حيّان : وظاهر هذا التعليل الذي ذكره ، والتقدير الذي قدره أنه تعليلٌ للفعل المقسَم فإن عنى هذا الظاهر ، فهو مخالفٌ لظاهر الآية؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخْذ الميثاق ، لا لمتعلِّقه - وهو الإيمان - فاللام متعلقة ب « أخَذَ » وعلى ظاهر تقدير الزمخشريِّ تكون متعلقة بقوله : { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلَقَّى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها تقول : والله لأضربن زيداً ، ولا يجوز : والله زيداً لأضربن ، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في « لَمَا » بقوله : « لتؤمنن » .
وأجاز بعض النحويين في معمول الجواب - إذا كان ظرفاً أو مجروراً - تَقَدُّمَه ، وجعل من ذلك قوله : { عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } [ المؤمنون : 40 ] .
وقوله : [ الطويل ]
1531- . . ... بِأسْحَم دَاجٍ عَوْضُ لا نتفَرَّقُ
فعلى هذا يجوز أن يتعلق بقوله : { لَتُؤْمِنُنَّ } .
قال شهاب الدين « أما تعلُّق اللام ب { لَتُؤْمِنُنَّ } - من حيث المعنى - فإنه أظهر من تعلُّقِها ب » أخذ « فلم يَبْقَ إلا ما ذكر من منع تقديم معمول الجواب المقترن بالام عليه ، وقد يكون الزمخشريُّ ممن يرى جوازه » .
والثالث : أن تتعلق اللام ب « أخَذَ » ، أي لأجل إيتائي إياكم كيت وكيت ، أخذت عليكم الميثاقَ ، وفي الكلام حذفُ مضاف ، تقديره : رعاية ما آتيتكم .
الرابع : أن تتعلق ب « المِيثاق » ، لأنه مصدر ، أي : توثقنا عليهم لذلك .
هذه الأوجه بالنسبة إلى اللام ، وأما « ما » ففيها ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون مصدرية كما تقدم عن الزمخشريِّ .
والثاني : أنها موصولة بمعنى « الذي » وعائدها محذوف ، و { ثُمَّ جَآءَكُمْ } ، عطف على الصلة ، والرابط بالموصول إما محذوف ، تقديره : به ، وإما قيام الظاهر مقام المضمر ، وهو رأي الأخفشِ ، وإما ضمير الاستقرار الذي تضمنه « مَعَكُمْ » .
والثالث : أنها نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صفتها ، وعائدها محذوف ، { ثُمَّ جَآءَكُمْ } عطف على الصفة ، والكلام في الرابط كما تقدم فيها وهي صلة ، إلا أن إقامة الظاهر مُقَامه في الصفة ممتنع ، لو قلت : مررت برجل قام أبو عبد الله - على أن يكون قام أبو عبد الله صفة لرجل ، والرابط أبو عبد الله ، إذ هو الرجلُ في المعنى - لم يجز ذلك ، وإن جاز في الصلة والخبر - عند من يرى ذلك - فيتعين عود ضمير محذوف وجواب قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ } قوله : { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } والضمير في « بِهِ » عائد على « رَسُولٌ » ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور ، فلو قلت أقسمت لَلْخَبر الذي بلغني عن عمرو لأحْسِنَنَّ إليه ، جاز .

وقوله : { مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } إما حالٌ من الموصول ، أو من عائده ، وإمّا بيانٌ له فامتنع في قراءة حمزة أن تكون « ما » شرطية ، كما امتنع - في قراءة الجمهورِ - أن تكون مصدرية .
وأما قراءة التشديد ففيها أوجهٌ :
أحدها : أن « لَمَّا » هنا - ظرفية ، بمعنى « حين » ثم القائل بظرفيتها اختلف تقديره في جوابها ، فذهب الزمخشري إلى أن الجواب مقدَّر من جنس جواب القسم ، فقال : « لَمَّا » - بالتشديد - بمعنى « حين » أي حين آتيتكم الكتاب والحكمة ، ثم جاءكم رسول ، وجب عليكم الإيمان به ، ونُصْرَتُه .
وقال ابن عطية : ويظهر أن « لَمَّا » هذه هي الظرفية ، أي : لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأمثالهم أخذ عليكم الميثاق؛ إذ على القادة يُؤخَذ ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزةَ فقدر ابن عطية جوابها من جنس ما سبقها ، وهذا الذي ذهب إليه مذهبٌ مرجوحٌ ، قال به الفارسيُّ والجمهور وسيبويه وأتباعه والجمهور .
وقال الزجَّاجُ : أي : لما ىتاكم الكتاب والحكمة ، أي : أخذ عليكم الميثاق وتكون لما يؤول إلى الجزاء ، كما تقول : لما جئتني أكرمتك .
وهذه العبارة لا يؤخذ منها كون « لما » ظرفية ، ولا غير ذلك ، إلا أن فيها عاضداً لتقدير ابن عطية جوابها من جنس ما تقدمها ، بخلاف تقدير الزمخشريِّ .
الثاني : أن « لَمَّا » حرف وجوب لوجوب ، وهو مذهب سيبويه ، وجوابها كما تقدم من تقديري ابن عطيةَ والزمخشري ، وفي قول ابن عطيةَ : فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزةَ - نظر؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل ، وهذه القراءة لا تعليل فيها ، اللهم إلا أن يقال : لما كانت « لَمَّا » تحتاج إلى جواب أشبه ذلك العلة ومعمولها؛ لأنك إذا قلت : لما جئتني أكرمتك؛ في قوة : أكرمتك لأجل مجيئي إليه ، فهي من هذه الجهة كقراءة حمزة .
والثالث : أن الأصل : لمن ما ، فأدغمت النون في الميم ، لأنها تقاربها ، والإدغام - هنا - واجبٌ ، ولما اجتمع ثلاث ميمات : ميم « من » وميم « ما » والميم التي انقلبت من نون - من أجل الإدغام - فحصل ثقل في اللفظ ، قال الزمخشريُّ : « فحذفوا إحداها » .
قال أبو حيّان : وفيه إبهام ، وقد عيَّنها ابنُ جني بأن المحذوف هي الأولى ، وفيه نظرٌ؛ لأن الثقل إنما حصل بما بعد الأولى ، ولذلك كان الصحيحُ في نظائره إنما هو حذف الثاني ، في نحو { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] وقد ذكر أبو البقاء أن المحذوفة هي النافية ، قال : « لضعفها بكونها بدلاً ، وحصول التكرير بها » و « مِنْ » هذه التي في لمن ما زائدة في الواجب على رأي الأخفشِ - وهذا تخريج أبي الفتح ، وفيه نظر بالنسبة إلى ادِّعائه زيادة « من » ، فإن التركيب يقلق على ذلك ، ويبقى المعنى غير ظاهر .

الرابع : أن الأصل - أيضاً - لِمَنْ ما ، ففُعِل به ما تقدم من القلبِ والإدغامِ ، ثم الحذف ، إلا أن « من » ليست زائدة ، بل هي تعليلية ، قال الزمخشريُّ : « ومعناه : لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به ، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى » .
وهذا الوجه أوجه مما تقدمه؛ لسلامته من ادِّعاء زيادة « من » ولوضوح معناه .
وقرأ نافع « آتيناكم » بضمير المعظم نفسه ، كقوله : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ الإسراء : 55 ] وقوله : { وَآتَيْنَاهُ الحكم } [ مريم : 12 ] ، والباقون : « آتيتكم » - بضمير المتكلم وحده - وهو موافق لما قبله وما بعده من صيغة الإفراد في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله } و { جَآءَكُمْ } و { إِصْرِي } .
وفي قوله : « آتيتكم » و « آتيناكم » على كلتا القراءتين - التفاتان :
الأول : الخروج من الغيبة إلى التكلم في قوله : « آتينا » أو « آتيت » لأن قبله ذكر الجلالة المعظمة في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله } .
والثاني : الخروج من الغيبة إلى الخطاب في قوله : « آتيناكم » لأنه قد تقدمه اسم ظاهر ، وهو { النبيين } إذ لو جرى على مقتضي تقدُّم الجلالة والنبيين لكان الترتيب : وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاهم من كتاب . كذا قال بعضهم ، وفيه نظرٌ؛ لأن مثل هذا لا يُسَمَّى التفاتاً في اصطلاحهم ، وإنما يسمى حكاية الحال ، ونظيره قولك : حلف زيد ليفعلن ، ولأفعلن ، فالغيبة مراعاة لتقدم الاسم الظاهر ، والتكلُّم حكاية لكلام الحالف . والآية الكريمة من هذا . وأصل : { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } ، لَتُؤمِنُونَنَّ به ولتنصرونن ، فالنون الأولى علامة الرفع ، و المشدَّدة بعدها للتوكيد ، فاستثقل توالي ثلاثة أمثالٍ ، فحذفوا نون الرفع؛ لأنها ليست في القوة كالتي للتوكيد ، فالتقى - بحذفها - ساكنان ، فحذفت الواو ، لالتقاء الساكنين .
وقرأ عبد الله « مُصَدِّقاً » نصب على الحال من النكرة ، وقد قاسَه سيبويه ، وإن كان املشهور عنه خلافه ، وَحَسَّنَ ذلك هنا كونُ النكرة في قوة المعرفةِ من حيث إنَّها أريد بها شخص معين - وهو محمد صلى الله عليه وسلم واللام في « لَمَا » - زائدة؛ لأن العامل فرع - وهو « مصدِّق » - والأصل مصدق ما معكم .
فصل
قال بعضُ العلماءِ : في الآية إضمار آخرَ ، وأراح نفسه من تلك التكلُّفات المتقدمة ، فقال : تقدير الآية : وإذ أخذ اللهُ ميثاق النبيين لتُبَلِّغُنَّ الناسَ ما آتيتكم من كتاب وحكمة إلا أنه حذف « لتبلغن » لدلالة الكلام عليه؛ لأن لام القسم إنما تقع على الفعل ، فلما دَلَّت هذه اللام على هذا الفعل جاز حذفه اختصاراً ، ثم قال بعده : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ، ولا يحتاج إلى تكلُّف ، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار ، فهذا الإضمار الذي ينتظم به الكلام نظما ًجلياً أولى .

فصل
والمراد من الكتاب هو المنزَّل ، المقروء ، والحكمة هي الوحيُ الوارد بالتكليف المفصَّلة التي لم يشتمل الكتاب عليها .
وكلمة « مِنْ » - في قوله : { مِّن كِتَابٍ } تبيين ل « ما » كقولك : ما عندي من الوَرِقِ دانقان .
وقيل : هذا الخطابُ إما أن يكون مع الأنبياء ، فجميع الأنبياءِ ، ما أوتوا الكتاب ، وإنما أوتي بعضُهم ، وإن كان مع الأمم فالإشكال أظهر .
والجواب من وجهين :
الأول : أن جميع الأنبياء أوتوا الكتاب بمعنى كونه مهتدياً به ، داعياً إلى العمل به ، وإن لم ينزل عليه .
الثاني : أشرف الأنبياء هم الذين أوتوا الكتاب ، فوصف الكل بوصف أشرفهم .
فإن قيل : ما وَجْه قوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ } والرسول لا يجيء إلى النبيين ، وإنما يجيء إلى الأمم؟
فالجواب : أما إن حَمَلْنا قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } على أخذ ميثاق أممهم ، فالسؤال قد زال ، وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيين من أنفسهم ، كان قوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ } أي : ثم جاءكم في زمانكم .
فإن قيل : كيف يكون محمد صلى الله عليه وسلم مُصَدقاً لما معهم - مع مخالفة شرعه لشرعهم -؟
فالجواب : أن المراد به حصول الموافقة في التوحيد والنبوات وأصول الشرائعِ ، أما تفاصيلها فإن وقع خلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف؛ لأن جميع الأنبياءِ متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه ، وأنّ الحقَّ في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا شرعه ، فهذا وإن كان يوهم الخلاف فهو في الحقيقة وفاق .
وأيضاً فالمراد بقوله : { مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } هو أن محمداً صلى الله عليه وسلم مصدقٌ لما معهم من صفته ، وأحواله المذكورة في التوراة والإنجيل ، فلما ظهر على أحوال مطابقةٍ لما ذكر في تلك الكتب كان نفس مجيئه تصديقاً لما معهم .
والميثاق يحتمل وجهين :
أحدهما : هو أن يكون ما قُرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقيادَ لأمر اللهِ واجبٌ ، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزاتِ الدَّالَّةِ على صدقه ، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا - عند ذلك - وجوبه ، فتقرير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من الميثاق .
ويحتمل أن المراد بأخذ الميثاق أنه - تعالى - شرح صفاتِه في كتب الأنبياء المتقدِّمين ، وإذا صارت مطابقة لما في كتبهم المتقدمة ، وجب الانقياد له ، فقوله تعالى : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } يدل على هذين الوجهين ، أما على الأول فقوله : « رسولٌ » ، وأما على الثاني فقوله { مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } .

قوله : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ } فاعل « قَالَ » يجوز أن يكون ضمير الله - تعالى - وهو الظاهر - وأن يكون ضمير النبي الذي هو واحد النبيين ، خاطب بذلك أمَّته ، ومتعلَّق الإقرار محذوف ، أي : أقررتم بذلك كله؟ والاستفهام - على الأول - مجاز؛ إذ المراد به التقرير والتوكيد عليهم؛ لاستحالته في حق الباري تعالى ، وعلى الثاني : هو استفهام حقيقة .
و « إصري » على الأول - الياء لله - تعالى - وعلى الثاني للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقرأ الامة « إصري » بكسر الهمزة ، وهي الفصحى ، وقرأ أبو بكر عن عاصم - في رواية - « أُصْرِي » بضمها ثم المضموم الهمزة يحتمل أن يكون لغة في المكسور - وهو الظاهرُ - ويحتمل أن يكون جمع إصار ومثله أزُر في جميع إزار ، والإصر : الثقل الذي يلحق الإنسان؛ لأجل ما يلزمه من عَمَلٍ ، قال الزمخشري : « سُمِّي العهدُ إصْراً؛ لأنه مما يؤصر ، أي : يُشَدّ ، ويُعْقَد ، ومنه الإصار الذي يُعْقَد به » وتقدم الكلام عليه في آخر البقرة .
فصل
إذا قلنا : إن اللهَ - تعالى - هو الذي أخذ الميثاق على النبيين كان قوله { أَأَقْرَرْتُمْ } معناه : أأقررتم بالإيمان به ، والنَّصْرِ له .
وذلك حين استخرج الذرية من صلب آدَمَ والأنبياء فيهم كالمصابيح - وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال : { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي } ؟ أي قبلتم على ذلك عهدي .
والإصر : العهد الثقيل؛ والإقرار في اللغة منقول بالألف من قَرَّ الشيء يَقِرُّ إذا ثبت ولزم مكانه ، وأقره غيره ، والمقرُّ بالشيء ، يُقِرُّه على نفسه ، أي : يثبته .
والأخذ بمعنى القبول كثير في كلامهم ، قال تعالى : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48 ] أي : لا تُقْبَل فِدْيَةٌ .
وقال : { وَيَأْخُذُ الصدقات } [ التوبة : 104 ] أي : يقبلها .
وقوله : { أَقْرَرْنَا } أي : بالإيمان به ، وبنصرته ، وفي الكلام حذف جملة ، حُذِفَت لدلالة ما تقدم عليها؛ إذ التقدير : قالوا : أقررنا ، وأخذنا إصرك على ذلك كلِّه .
وقوله : { فاشهدوا } هذه الفاء عاطفة على جملة مقدَّرة ، و التقدير : قال : أأقررتم؟ فاشهدوا ، ونظير ذلك : ألقيت زيداً؟ قال : لقيته ، قال : فأحْسِنْ إليه . التقدير : القيت زيداً ، فأحسن إليه ، فما فيه الفاء بعض المقول ، ولا جائز أن يكون كل المقول؛ لأجل الفاء ، ألا ترى قوله : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ } وقوله : { قالوا أَقْرَرْنَا } .
لو كان كلّ المقول لم تدخل الفاء ، قاله أبو حيان .
فصل
في معنى قوله : { فاشهدوا } وجوه :
الأول : فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ، { وَأَنَاْ مَعَكُمْ } أي : وأنا على إقراركم ، وإشهاد بعضكم بعضاً { مِّنَ الشاهدين } وهذا توكيد وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادةَ الله ، وشهادة بعضهم على بعض .
الثاني : أن هذا خطاب للملائكة بأن يشهدوا عليهم ، قاله سعيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ .
الثالث : أن قولِه : { فاشهدوا } إشهاد على نفسه ، ونظيره قوله :

{ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ } [ الأعراف : 172 ] وهذا باب من المبالغة .
الرابع : فاشهدوا ، أي : بيِّنوا هذا الميثاقَ للخاصّ والعامّ؛ لكي لا يبقى لأحد عذْرٌ في الجَهْل به ، وأصله أن الشاهد يُبَيِّن صِدْقَ الدَّعْوَى .
الخامس : قال ابنُ عَبّاسٍ : { فاشهدوا } أي : فاعلموا ، واستيقِنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق ، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له .
السادس : إذا قلنا : إنَّ أخْذَ الميثاقِ كان من الأمم ، فقوله : { فاشهدوا } خطاب للأنبياء بأن يكونوا شاهدين عليهم . قوله : { مِّنَ الشاهدين } هذا هو الخبر؛ لأنه محط الفائدة . وأما قوله : { مَعَكُمْ } فيجوز أن يكون حالاً ، أي : وأنا من الشاهدين مصاحباً لكم ، ويجوز أن يكون منصوباً ب « الشَّاهدينَ » ظرفاً له عند مَنْ يرى تجويزَ ذلك - ويمتنع أن يكون هذا هو الخبرُ؛ إذ الفائدة به غير تامةٍ في هذا المقامِ .
والجملة من قوله : { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } يجوز ألا يكون لها محل؛ لاستئنافها . ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل { فاشهدوا } والمقصود من هذا الكلام التأكيد ، وتقوية الإلزام . قوله : { فَمَنْ تولى } يجوز أن تكون « مَنْ » شرطية ، فالفاء - في « فَأولَئِكَ » جوابها . والفعل الماضي ينقلب مستقبلاً في الشرط . وأن تكون موصولةً ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ باسم الشرطِ ، فالفعل بعدها على الأول - في محل جزم ، وعلى الثاني لا محل له؛ لكونه صلة ، وأما « فأولئك » ففي محل جزم أيضاً - على الأول ، ورفع الثاني ، لوقوعه خبراً و « هم » يجوز أن يكون فَصْلاً ، وأن يكون مبتدأ .
ومعنى الآية : من أعرض عن الإيمان بهذا الرسولِ ، وبنصرته ، والإقرار له { فأولئك هُمُ الفاسقون } الخارجون عن الإيمان .

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

الجمهور يجعلون الهمزة مقدَّمةً على الفاء ، للزومها الصدر ، والزمخشري يقرها على حالها ، ويُقدِّر محذوفاً قبلها ، وهنا جوَّز وجهين :
أحدهما : أن تكون الفاء عاطفةً جملة علىجملة ، والمعنى : فأولئك هم الفاسقون ، فغير دين الله يبغون ، ثم توسطت الهمزة بينهما .
والثاني : أن تعطف على محذوف ، تقديره أيتولون ، فغير دين الله يبغون؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث ، وهو استفهام استنكار ، وقدم المفعول - الذي هو « غير » - على فعله؛ لأنه أهم من حيث أن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - مُتَوَجِّه إلى المعبود الباطل ، هذا كلام الزمخشريِّ .
قال أبو حيان : « ولا تحقيق فيه؛ لأن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - لا يتوجه إلى الذوات ، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات ، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء ، الذي متعلقه غير دين الله ، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع ، ولشبه » يبغون « بالفاصلة ، فأخَّرَ الفعلُ » .
وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم « يَبْغُونَ » من تحت - نسقاً على قوله : { هُمُ الفاسقون } [ آل عمران : 82 ] والباقون بتاء الخطاب ، التفاتاً لقوله : { لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [ آل عمران : 81 ] ولقوله : { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ } [ آل عمران : 81 ] .
وأيضاً فلا يبعد أن يُقال للمسلم والكافر ، ولكل أحد : أفغير دين الله تبغون مع علمكم أنه أسلم له مَنْ في السموات والأرض وأن مَرْجعكم إليه؟ ونظيره قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } [ آل عمران : 101 ] .
قال ابن الخطيب : ذكر المفسّرون في سبب النزولِ أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادَّعَى كلّ واحدٍ من الفريقين أنه على دين إبراهيم ، فقال صلى الله عليه وسلم « كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ إبْرَاهِيمَ ، فَغَضِبُوا وقالوا : والله لا نَرْضَى بقضائِك ، ولا نأخذ بِدِينِكَ » ، فنزل قوله : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ } .
قال ابن الخطيب : ويبعد عندي حَمْلُ هذه الآيةِ على هذا السبب؛ لأن على هذا التقدير - الآية منقطعة عما قبلها ، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلُّقَها بما قبلها ، وإنما الوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكونراً في كُتُبِهِم ، وهم كانوا عارفين بذلك ، وعالمين بصِدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، فلم يبق كفرهم إلا مجردَ عنادٍ وحَسَدٍ وعداوةٍ ، فصاروا كإبليس حين دعاه الحسدُ إلى الكُفر ، فأعلمهم - تعالى - أنهم متى كانوا كذلك كانوا طالبين ديناً غير دين اللهِ - تعالى - ثم بيَّن لهم أن التمرُّدَ على الله ، والإعراضَ عن حكمه مما لا يليق بالعقل ، فقال : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } .
قوله : « وله أسلم من في السموات » جملةٌ حاليةٌ ، أي : كيف يبغون غير دينه ، والحال هذه ، وفي قوله : « طوعاً وكرهاً » وجهان :
أحدهما : أنهما مصدران في موضع الحال ، والتقدير : طائعين وكارهين .

الثاني : أنهما مصدران على غير المصدر ، قال ابو البقاء : « لأن » أسْلَمَ « بمعنى انقاد ، وأطاع » وتابعه أبو حيان على هذا .
وفيه نظرٌ؛ من حيث إن هذا ماشٍ في « طَوْعاً » لموافقته معنى الفعل قبله ، وأما « كَرْهاً » ، كيف يقال فيه ذلك؟ والقول بأنه يُغتفر في التوالي ما لا يُغْتَفَر في الأوائل ، غير نافع هنا .
ويقال يطاع يطوع ، وأطاع يُطيع بمعنى ، قاله ابن السِّكيتِ ، وقول : طاعه يطوعه : انقاد له ، وأطاعه ، أي : رضي لأمره ، وطاوعه ، أي : وافقه .
قرأ الأعمش : « وَكُرْهاً » - بالضم - وسيأتي أنها قراءة الأخوين في سورة النساء .
قال الحسنُ : أسلم من في السموات طوعاً ، وأسلم من في الأرض بعضهم طَوْعاً ، وبعضهم خوفاً من السيف والسِّبْي .
وقال مجاهد : « طوعاً » المؤمن ، و « كرْهاً » ظل الكافر ، بدليل قوله : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] .
وقيل هذا يوم الميثاق ، حين قال : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] فقال بعضهم طوعاً ، وبعضهم كرهاً .
قال قتادة : المؤمن أسلم طوعاً فنفعه ، والكافر أسلم كرهاً في وقت اليأس ، فلم ينفعه ، قال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] .
قال الشعبي : وهو استعاذتهم به عند اضطرارهم ، كقوله : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ العنكبوت : 65 ] .
قال الكلبيُّ : « طَوْعاً » الذي وُلِد في الإسلام « وَكَرْهاً » الذين أجْبِروا على الإسلام .
قال ابن الخطيب : كل أحد منقاد - طوعاً أو كرهاً - فالمسلمون منقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدّينِ ، ومنقادون له فيما يخالف طِباعَهم من الفقر والمرض والموت وأشباهه . وأما الكافرون ، فهم منقادون لله كرهاً على كل حال؛ لأنهم لا ينقادون لله فيما يتعلق بالدِّين ، وفي غير ذلك مستسلمون له - سبحانه - كرهاً ، لا يمكنهم دفع قضائه وقدره .
وقيل : كل الخلق منقادون للإلهية طوعاً ، بدليل قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً .
قوله : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } يجوز أن تكون هذه الجملةُ مستأنفةً ، فلا محل لها ، وإنما سيقت للإخبار بذلك؛ لتضمنها معنى التهديد العظيم ، والوعيد الشديد . ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة من قوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ } فتكون حالاً - أيضاً - ويكون المعنى : أنه نَعَى عليهم ابتغاء غير دين من أسلم له جميع من في السموات والأرض - طائعين ومكرهين - ومن مرجعهم إليه .
قرأ حفص - عن عاصم - « يُرْجَعُونَ » بياء الغيبة - ويحتمل ذلك وجوهاً :
أحدها : أن يعود الضمير على { مَنْ أَسْلَمَ } .
الثاني : أن يعود على من عاد عليه الضمير في « يَبْغُونَ » في قراءة من قرأ بالغيبة ، ولا التفات في هذين .
والثالث : أن يعود على من عاد عليه الضمير في « تَبْغُونَ » - في قراءة الخطاب - فيكون التفاتاً حينئذ . وقرأ الباقون - « تبغون » - بالخطاب - وهو واضح ، ومن قرأه بالغيبة كان التفاتاً منه .
ويجوز أن يكون التفاتاً من قوله : { مَن فِي السماوات والأرض } .

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

وفي هذه الآية احتمالان :
أحدهما : أن يكون المأمور بهذا القول - وهو « آمَنَّا » إلى آخره - هو محمد صلى الله عليه وسلم ثم في ذلك معنيان :
أحدهما : أن يكون هو وأمته مأمورين بذلك ، وإنما حُذِفَ معطوفُه؛ لِفَهْم المعنى ، والتقدير : قل يا محمد أنت وأمتك : آمنا بالله ، كذا قدَّره ابنُ عطية .
والثاني : أن المأمور بذلك نبينا وحده ، وإنما خوطب بلفظ الجمع؛ تعظيماً له .
قال الزمخشري : « ويجوز أن يُؤمَر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك؛ إجلالاً من الله - تعالى - لقدر نبيِّه » .
والاحتمال الثاني : أن يكون المأمور بهذا القول مَنْ تقدم ، والتقدير : قل لهم : قولوا : آمنا ، ف « آمَنَّا » منصوب ب « قُلْ » على الاحتمال الأول ، وب « قُولُوا » المقدَّر على الاحتمال الثاني ، وذلك القول المُضْمر منصوب المحل .
وهذه الآية شبيهة بالتي في البقرة ، إلا أنَّ هنا عَدَّى « أُنْزِلَ » ب « عَلَى » وهناك عدَّاه ب « إلى » .
قال الزمخشري : لوجود المعنيين جميعاً؛ لأن الوحي ينزل من فوق ، وينتهي إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين ، وأخرى بالآخر .
قال ابن عطيةَ : « الإنزال على نَبِيّ الأمة إنزال عليها » وهذا ليس بطائل بالنسبة إلى طلب الفرق .
قال الراغب : « إنما قال - هنا - » عَلَى « ، لأن ذلك لما كان خطاباً للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطةٍ بشريةٍ ، كان لفظ » عَلَى « المختص بالعُلُوِّ أوْلَى به ، وهناك لما كان خطاباً للأمة ، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم كان لفظ » إلَى « المختص بالاتصال أوْلَى .
ويجوز أن يقال : » أنزل عليه « ، إنما يُحْمَل على ما أُمِر المنزَّل عليه أن يُبَلِّغَه غيرَه . وأنزل إليه ، يُحْمَل على ما خُصَّ به في نفسه ، وإليه نهاية الإنزال ، وعلى ذلك قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ } [ العنكبوت : 51 ] وقال : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] خص هنا ب » إلى « لماكان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيان المنزل ، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب » .
وهذا الذي ذكره الراغب ردَّه الزمخشريُّ ، فقال : « ومن قال : إنما قيل : » عَلَيْنَا « لقوله : » قُلْ « و » إلينا « لقوله : » قُولُوا « ، تفرقة بين الرسول والمؤمنين؛ لأن الرسول يأتيه الوحي عن طريق الاستعلام ، ويأتيهم على وجه الانتهاء ، فقد تعسَّف؛ ألا ترى إلى قوله : { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } [ البقرة : 4 ] وقوله : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب } [ المائدة : 48 ] وقوله : { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار }

[ آل عمران : 72 ] وفي البقرة : { وَمَا أُوتِيَ النبيون } [ البقرة : 136 ] وهنا : « وَالنَّبِيُّونَ » ، لأن التي في البقرة لفظ الخطابِ فيها عام ، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز ، بخلاف الخطاب هنا ، لأنه خاص ، فلذلك اكتفى فيه بالإيجاز دون الإطناب « .
قال ابن الخطيب : قدَّم الإيمانَ بالله على الإيمان بالأنبياء؛ لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة ، ثم في المرتبة الثانية قدم ذكر الإيمان بما أنزِل عليه؛ لأن كتب سائر الأنبياء حرَّفوها وبدَّلوها ، فلا سبيلَ إلى معرفة أحوالها إلا بالإيمان بما أُنْزِل على محمَّد صلى الله عليه وسلم فكأن ما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم كالأصل لما أُنْزِل على سائر الأنبياء ، فلذا قدَّمه ، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء ، وهم الأنبياء الذين يَعْتَرِفُ أهلُ الكتاب بوجودِهم ، ويختلفون في نبوتِهِمْ ، والأسباط : هم أسباط يعقوبَ الذين ذكر الله - تعالى - أممهم الاثنتي عشرة في سورة الأعراف .
فصل
قوله : { والنبيون } بعد قوله : { وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى } من باب عطف العامِّ على الخاص .
اختلف العلماء في كيفية الإيمان بالأنبياء المتقدِّمين الذين نُسِخَتْ شرائعُهم . وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخاً ، فهل تصير نُبُوَّتُه منسوخةً؟ فمن قال : إنها تصير منسوخة قال : نُؤْمن بأنهم كانوا أنبساءَ وَرُسُلاً ، ولا نؤمن بأنهم أنبياء ورسل في الحال . ومَنْ قال : إن نسخَ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوة ، قال : نؤمن بأنهم أنبياء ورسُل في الحال ، فتنبَّه لهذا الموضع .
فصل
قال ابن الخطيب : اختلفوا في معنى قوله : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } بأن نؤمن ببعضٍ دون بعضٍ - كما فرَّقت اليهود والنصارَى .
وقال أبو مسلم : لا نفرق ما جمعوا ، وهو كقوله تعالى : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 ] وذَمَّ قوماً ووصفهم بالتفرُّق ، فقال : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 94 ] .
قوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فيه وجوهٌ :
الأول : أن إقرارنا بنبوَّة هؤلاء الأنْبِياء إنما كان لأننا منقادون لله - تعالى - مستسلمون لحُكْمِه ، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض } [ آل عمران : 83 ] .
قال أبو مسلم : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : مستسلمون لأمْره بالرضا ، وترك المخالفة ، وتلك صفة المؤمنين بالله ، وهم أهل السلم ، والكافرون أهل الحربِ ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ المائدة : 33 ] .
قال ابن الخطيب : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } يُفيد الحَصْر ، والتقدير : له أسلمنا لا لغرض آخرَ من سمعة ، ورياء ، وطلب مالٍ ، وهذا تنبيه على أن حالَهم بالضِّدِّ من ذلك .

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)

العامة يظهرون هذين المثلين في { يَبْتَغِ غَيْرَ } لأن بينهُمَا فاصلاً فلم يلتقيا في الحقيقةِ ، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجزم .
وروي عن أبي عمرو فيها الوجهان :
الإظهار على الأصل ، ولمراعاة الفاصل الأصْلِيّ .
والإدغام؛ مراعاةً للفظ؛ إذ يَصْدُق أنهما التقيا في الجملة ، ولأن ذلك مستحِقّ الحَذْف لعامل الجَزْم .
وليس هذا مخصوصاً بهذه الآية ، بل كل ما التقى فيه مِثْلاَنِ بسبب حذف حرف لعلةٍ اقتضت ذلك جَرَى فيها الوجهان ، نحو : { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } [ يوسف : 9 ] وقوله : { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } [ غافر : 28 ] .
وقد استشكل على هذا نحو { وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ } [ غافر : 41 ] ونحو : { وياقوم مَن يَنصُرُنِي } [ هود : 30 ] فإنه لم يُرْوَ عن أبي عمرو خلاف في إدغامها ، وكان القياس يقتضي جواز الوجهين ، لأن ياء المتكلم فاصلة تقديراً .
قوله : « دِيناً » فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه مفعول « يَبْتَغِ » و « غَيْرَ الإسْلاَمِ » حالٌ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَت حالاً .
الثاني : أن يكون تمييزاً لِ « غَيْرَ » لإبهامها ، فمُيِّزَتْ كما مُيِّزت « مِثْلُ » و « شِبهُ » وأخواتهما ، وسُمِع من العرب : إن لنا غيرَها إبلاً وشاءً .
والثالث : أن يكون بدلاً من « غَيْرَ » . وعلى هذين الوجهين ف { غَيْرَ الإسلام } هو المفعول به ل « يبتغ » .
وقوله : { وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } يجوز أن لا يكون لهذه الجملة محلٌّ؛ لاستئنافها ، ويجوز أن تكون في محل جَزْم؛ نَسَقاً على جواب الشرط - وهو { فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } - ويكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً الخُسران وعدمُ القبول .
فصل
لما تقدم قوله تعالى : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 84 ] بيَّن أن الدينَ ليس إلا الإسلام ، وأن كل دين غيره ليس بمقبولٍ؛ لأن معنى قبول العمل أن يرضى اللهُ ذلك العملَ ، ويثيب فاعله عليه ، قال تعالى { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ] وما لم يكن مقبولاً كان صاحبُه من الخاسرين في الآخرة بحرمان الثواب ، وحصول العقاب ، مع الندامة على ما فاته من العمل الصالح ، مع التعب والمشقة في الدنيا في ذلك الدين الباطل .
فصل
قال المفسرون : نزلت هذه الآيةُ في اثني عشر رجلاً ارتدُّوا عن الإسلام ، وخرجوا من المدينة ، وأتوا مكةَ كُفَّاراً منهم الحَرْث بن سُوَيْد الأنصاريُّ ، فنزل قول الله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } والخُسْران في الآخرة يكونُ بحرمانِ الثَّوابِ ، وحصول العقاب ، والتأسُّف على ما فاته في الدنيا من العملِ الصالحِ ، والتحسُّر على ما تحمَّلَه من التعب والمشقة في تقرير دينه الباطلِ .
وظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام؛ إذْ لو كان غيره لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً؛ لقوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } إلا أن ظاهر قوله تعالى : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] يقتضي التغاير بينهما ، ووجه التوفيق بينهما أن تُحْمل الآية الأولى على العُرْف الشرعيّ ، والآية الثانية على الموضع اللغويّ .

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)

الاستفهام فيه كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } [ البقرة : 28 ] .
وقيل : الاستفهام - هنا - معناه النَّفْي كقوله : [ الخفيف ]
1532- كَيْفَ نَوْمي عَلَى الْفِرَاش وَلَمَّا ... تَشمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ؟
وقول الآخر : [ الطويل ]
1533- فَهَذِي سُيُوفٌ يَا صُدَبُّ بْنَ مَالِكٍ ... كَثِيرٌ ، وَلَكِنْ كَيْفَ بِالسَّيْفِ ضَارِبُ؟
يعني : أين بالسيف؟
{ وشهدوا } في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها معطوفة على « كَفَرُوا » و « كَفَرُوا » في محل نَصْب؛ نعتاً لِ « قوماً » أي : كيف يهدي من جمع بين هذين الأمرين ، وإلى هذا ذهب ابنُ عطيةَ والحَوْفِيُّ وأبو البقاء ، وردَّه مكيّ ، فقال : لا يجوز عطف « شَهِدُوا » على كَفَرُوا « لفساد المعنى . ولم يُبَيِّن جهَةَ الفساد ، فكأنه فهم الترتيب بين الكفر والشهادة ، فلذلك فَسَد المعنى عنده . وهذا غير لازم؛ فإن الواو لا تقتضي ترتيباً ، ولذلك قال ابن عطيةَ : » المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكُفْر ، والواو لا تُرَتِّب « .
الثاني : أنها في محل نصب على الحال من واو » كَفَرُوا « فالعامل فيها الرافع لصاحبها ، و » قد « مضمرة معها على رأي - أي كفروا وقد شهدوا ، وإليه ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ ، وأبي البقاء وغيرهما .
قال أبو البقاء : » ولا يجوز أن يكون العامل « يَهْدِي » ؛ لأنه يهدي من شَهِدَ أن الرسولَ حق « .
يعني أنه لا يجوز أن يكون حالاً من » قَوْماً « والعاملُ في الحالِ » يَهْدِي « لما ذكر من فساد المعنى .
الثالث : أن يكون معطوفاً على » إيمَانِهِمْ « لما تضمَّنه من الانحلال لجملة فعلية؛ إذ التقدير : بعد أن آمنوا وشهدوا ، وإلى هذا ذهب جماعة .
قال الزمخشريُّ : أن يُعْطَف على ما في » إيمانهم « من معنى الفعل؛ لأن معناه : بعد أن آمنوا ، كقوله : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] وقول الشاعر : [ الطويل ]
1534- مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
وجه تنظيره ذلك بالآية والبيت يوهم ما يسوِّغ العطف عليه في الجملة ، كذا يقول النحاة : جزم على التوهم أي لسقوط الفاء؛ إذْ لو سقطت لانجزم في جواب التحضيض ، ولذا يقولون : توهَّم وجودَ الباء فَجَرَّ .
وفي العبارة - بالنسبة إلى القرآن - سوء أدبٍ ، ولكنهم لم يقصدوا ذلك .
وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أولى ، كقوله : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَنا } [ الحديد : 18 ] .
إذ هو في قوة : إن الذين تصدقوا وأقرضوا .
وقال الواحدي : » عطف الفعل على المصدر؛ لأنه أرادَ بالمصدر الفعلَ ، تقديره : كفروا بالله بعد أن آمنوا ، فهو عطف على المعنى ، كقوله : [ الوافر ]
1535- لَلُبْسُ عَبَاءةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي ... أحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
معناه : لأن ألبس عباءةً وتقرَّ عيني « .

وظاهر عبارة الزمخشري والواحدي أن الأول مؤوَّل لأجل الثاني ، وهذا ليس بظاهر؛ لأنا إنما نحتاج إلى ذلك لكون الموضع يطلب فِعْلاً ، كقوله : { إِنَّ المصدقين } لأن الموصول يطلب جملة فعلية ، فاحتجنا أن نتأول اسم الفاعل بفعله ، وعطفنا عليه و « أقرضُوا » وأما « بعد إيمانهم » وقوله : « للبس عباءة » ، فليس الاسم محتاجاً إلى فِعل ، فالذي ينبغي هو أن نتأوَّل الثاني باسم؛ ليصحَّ عطفه على الاسم الصريح قبله ، وتأويله بأن تأتي معه ب « أن » المصدريَّة مقدَّرةً ، تَقْدِيرُهُ : بعد إيمانهم وأن شهدوا أي وشهادتهم ، ولهذا تأول النحويون قوله : للُبْسُ عباءة وتقرَّ : وأن تَقَرَّ ، إذ التقدير : وقرة عيني ، وإلى هذا ذهب أبو البقاء ، فقال : « التقدير : بعد أن آمنوا وأن شهدوا ، فيكون في موضع جر ، يعني أنه على تأويل مصدر معطوف على المصدر الصحيح المجرور بالظرف » .
وكلام الجرجاني فيه ما يشهد لهذا ، ويشهد لتقدير الزمخشريّ؛ فإنه قال : قوله « وَشَهِدُوا » منسوق على ما يُمْكن في التقدير ، وذلك أن قوله : « بعد إيمانهم » يمكن أن يكون : بعد أن آمنوا ، و « أن » الخفيفة مع الفعل بمنزلة المصدر ، كقوله : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم } [ البقرة : 184 ] ، أي : والصوم .
ومثله مما حُمِل فيه على المعنى قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِل } [ الشورى : 51 ] فهو عطف على قوله : « إلا وحياً » ويمكن فيه : إلاَّ أن يُوحِيَ إليه ، فلما كان قوله : « إلا وحياً » بمعنى : إلا أن يُوحِي إليه ، حمله على ذلك .
ومثله من الشعر : [ الطويل ]
1536- فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شواءٍ أوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ
خفض قوله : قدير؛ لأنه عطف على ما يمكن في قوله : منضج؛ لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف ، فحملَه على ذلك ، فإتيانه بهذا البيت نظير إتيان الزمخشريِّ بهذه الآيةِ الكريمةِ والبيت المتقدميْن؛ لأنه جر « قدير » - هنا - على التوهُّم ، كأنه توهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله؛ تخفيفاً ، فَجرَّ على التوهُّم كما توهم الآخر وجود الباء في قوله : ليسوا مصلحين؛ لأنها كثيراً ما تزاد في خبر « ليس » .
فإن قيل : إذا كان تقدير الآية : كيف يهدي اللهُ قوماً كفروا بعد الإيمانِ وبعد الشهادةِ بأن الرسول حق ، وبعد أن جاءَهم البيِّنات ، فعطف الشهادة بأن الرسول حَقٌّ يقتضي أنه مغاير للإيمان .
فالجواب : أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والشهادة هي الإقرار باللسان ، فهما متغايران .
وقوله : « أن الرسول » الجمهور على أنه وَصْف بمعنى المُرْسَل ، وقيل : هو بمعنى الرسالةِ ، فيكون مصدراً ، وقد تقدم .
فصل
في سبب النزول أقوالٌ :
الأول : قال ابنُ عباسٍ : نزلت في عشرة رهط ، كانوا آمنوا ، ثم ارتدُّوا ، ولَحِقُوا بمكةَ ، ثم اخذوا يتربصون به ريب المنون ، فأنزل اللهُ فيهم هذه الآيةَ ، وكان منهم مَنْ آمن ، فاستثنى التائبَ منهم بقوله :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75