كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

إذا عُرف هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن وجهة قبح لما في مأكوله ومشروبه من الضرر وغيره ، وأيضاً فهو غير دائم ، وأجر الآخرة كثير خالٍ عن جهات القبح دائم فهو عظيم .
قوله تعالى : { يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ . . . } الآية العامة على « يأت » بالياء من تحت حملاً على لفظ « مَنْ » لأن « مَنْ » أداة تقوم مقام الاسم يعبر به عن الواحد والجمع ( و ) المذكر والمؤنث ، وزيدُ بن علي ، والجَحْدَريُّ ، ويعقوب بالتاء من فوق حملاً على معناها لأنه يرشح بقوله : « منْكُنَّ » حال من فاعل « يأْتِ » وتقدم القراءة في « مبينة » بالنسبة لكسر الياء وفتحها ، في النساء .
قوله : « يضاعف » قرأ عمرو « يَضَعَّف » - بالياء من تحت وتشديد العين مفتوحة على البناء للمفعول - العذابُ بالرفع لقيامة مقام الفاعل ، وقرأ ابن كثير وابن عامر « يُضَعِّف » - بنون العظمة وتشديد العين مكسورة على البناء للفاعل - العَذَابَ بالنصب على المفعول به وقرأ الباقون « يُضَاعَف » من المفاعلة مبنياً للمفعول العذابُ بالرفع لقيامه مقام الفاعل ( وقد ) تقدم توجيه التضعيف والمضاعفة في سورة البقرة .
فصل
قال ابن عباس المراد هنا بالفاحشة النشوز وسوء الخلق ، وقيل : هو كقوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] . واعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خير نساءه واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن بالتوقي عما يسوء النبي ويقبح بهن من الفاشحة التي هي أصعب على الزوج من كل ما يأتي به زوجته وأوعدهن بتضعيف العذاب وفيه حكمتان .
إحدهما : أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك ليذاء قلبه والإزراء بمَنْصِبِه وعلى هذا بنات النبي عليه السلام كذلك ولأن امرأة لو كانت تحت النبي عليه السلام وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي على النبي ويكون ذلك الغير خيراً عندها من النبي وأولى والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين .
وثانيهما : أن هذا إشارة إلى شرفهن ، لأن الحرة عذبها ضعف عذاب الأمة إظهاراً لشرفها ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم فكذلك زوجاته اللائي هن أمهات المؤمنين ، وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه السلام كالأَمَةِ بالسنبة إلى الحرة ، واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع في بعض الصور جزماً وفي بعض ( يقعُ ) جزماً ، وفي البعض يتردد السامع في الأمرين ، فقوله تعالى : { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ } من القبيل الأولى فإن الأنبياء صار الله زوجاتهم عن الفاحشة ثم قال : { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً } أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكنّ شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن فليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم وشفعائهم وإخوانهم .

قوله : { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ } أي يطع الله ورسوله وهذا بيان لزيادة ثوابهن كما بين زيادة عقابهن { نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } في مقابلة قوله : { يضاعف لها العذاب ضعفين } وفيه لطيفة وهي أن عند إيتاء الأجر ذكر الموفي وهو الله وعند العذاب لم يصرح بالعذاب فقال : « يضاعف » وهذا إشارة إلى كمال الرحمة والكرم . قوله : { وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ } قرأ الأخوان « ويَعْمَلْ ويُؤْتِ » - بالياء من تحت فيهما ، والباقون « وتعمل » بالتاء من فوق و « نُؤْتها » بالنون ، فأما الياء في « ويعمل » فلأجل الحمل على لفظ « من » وهو الأصل والتاء من فوق على معناها إذا المراد بها مؤنث ويرشح هذا قتدم لفظ المؤنث وهو « منكنّ » ومثله قوله :
4085 - وإِنَّ مِنَ النِّسْوَانِ مَنْ هِيَ رَوْضَةٌ .. .
لما تقدم قوله « من النِّسْوان » يرجع المعنى فحمل عليه ، وأما « يؤتها » بالياء من تحت فالضمير لله تعالى لقتدمه في « لله ورسوله » وبالنون فهي نون العظمة ، وفيه انتقال من الغيبة إلى التكلم ، وقرأ الجَحْدَريُّ ويعقوبُ وابن عامر - في رواية - وأبو جعفر وشيبة : « تَقْنُتْ » بالتاء من فوق حملاً على المعنى وكذلك « وَتَعْمَلْ » . وقال ابو البقاء : إن بعضهم قرأ « وَمَنْ تَقْنُتُ » بالتأنيث حملاً على المعنى وَيَعْمَلْ بالتذكير حملاً على اللفظ قال : فقال بعض النحويين : هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعاً للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن قال تعالى : { خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا } [ الأنعام : 139 ] .
فصل
معنى أجْرَهَا مَرَّتَيْن أي مثل أجر غيرها ، قال مقاتل : مكان كل حسنةٍ عشرون حسنةً { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } يعني الجنة ، ووصف رزق الآخرة بكونه كريماً مع أن الكرم لا يكون وصفاً إلا للرزاق ، وذلك إشارة إلى أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس ، التاجر يسترزق من السوقة ، والعاملين والصناع من المتعلمين والملوك من الرعية منهم ، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه وإنما هو مستمر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار ، وأما في الآخرة فلا يكون له ممسك ومرسل في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرازق وفي الآخر يوصف بالكريم نفس الرزق .

قوله : { يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء } قال الزمخشري : « أحد » في الأصل يعني وَحَد وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث ، والواحد وما وراءه والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعة النساء ( أي ) إذا تَقَصَّيْتُ جماعات النساء واحدةً واحداةً لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة . ومنه قوله عز وجل { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [ النساء : 152 ] يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق البين . قال أبو حيان أما قوله : « أحَد » في الأصل بمعنى « وحد » وهو الواحد فصحيح ، وأما قوله : وضع إلى قوله وما وراءه . فليس بصحيح ، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن « واحد » ينطلق على شيء اتصف بالوحدة « وأَحَداً » المستعمل في النفي العام مختص بمن يعقل ، وذكر النحويون أن مادَّته همزةٌ وحاءٌ ودالٌ ومادة « أحد » بمعنى واحد واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولاً ، وأما قوله : « لَسْتُنَّ كجماعة واحدة » فقد قلنا إن معناه ليست كل واحدة منكن فهو حكم على كل واحدة لا على المجموع من حيث هو مجموع ، وأما { وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } فيحتمل أن يكون الذي يستعلم في النفي العام ولذلك جاء في سياق النفي فعم وصلحت التثنية للعموم ، ويحتمل أن يكون « أحدٌ » بمعنى « واحد » وحذفَ معطوفٌ ، أي بين أحدٍ وأحدٍ ( كما قال : )
4086 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أبُو حَجَرٍ إِلا لَيَالٍ قَلاَئِلُ
أي بين الخير وبيني انتهى ، قال شهاب الدين « أما قوله فإنهما مختلفان مدلولاً ومادة فمسَلَّم ، ولكن الزمخشري لم يجعل أحداً الذي أصله واحد - بمعنى أحد المختص بالنفي ، ولا يمنع أن » أحداً « الذي أصله » واحد « أن يقع في سياق النفي ، وإنما الفارق بينهما أن الذي همزته أصل لا يستعمل إلا في النفي كأخواته في غريب ، وكَيْتَع ودَابِر ، وتامر والذي أصله واحد يجوز أن يستعمل إثباتاً ونفياً وأيضاً المختص بالنفي مختص بالعقلاء ، وهذا لا يختص ، وأما معنى النفي فإنه ظاهر على ما قاله الزمخشري من الحكم على المجموع ولكن المعنى على ما قاله أبو حيان أوضح وإن كان خلاف الظاهر » .
قوله : « إن اتَّقَيْتُنَّ » في جوابه وجهان :
أحدهما : أنه محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي إِن اتَّقَيْتُنَّ اللَّهُ فَلَسْتُنَّ كَأَحدٍ ، فالشرط قيد في نفي أن يشبَّهْنَ بأحد من النساء .

والثاني : أن جوابه قوله « فَلاَ تَخْضَعْنَ » والتقوى على بابها ، وجوز أبو حيان على هذا أن يكون « اتَّقَى » بمعنى اسْتَقْبَلَ أي استقبلتن أحداً فلا تُلِنَّ له القول ، واتَّقَى بمعنى استقبل معروف في اللغة ، وأنشد :
4087 - سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِد إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ واتَّقَتُنَا بِاليَدِ
أي واستقبلتنا باليد قال : « ويكون على هذا المعنى أبلغ من مدحهن؛ إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ولا على نهيه عن الخضوع بها إذْ هنّ متقيات لله في أنفسهن ، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى ، قال شهاب الدين : هذا خروج عن الظاهر من غير ضرورة وأما البيت فالاتِّقاءُ أيضاًعلى بابه أي صانت وجهها بيدها عنا .
قوله : » فَيَطْمَعَ « العامة على نصبه جواباً للنهي ، والأعرج بالجزم فيكسر العين لالتقاء الساكنين وروي عنه وعن أبي السَّمَّال وعيسى بن عمر وابن مُحَيْصِن بفتح الياء وكسر الميم ، وهذا شاذ حيث توافق الماضي والمضارع في حركة . وروى عن الأعرض أيضاً أنه قرأ بضم الياء وكسر الميم من » أَطْمَع « وهي تحتمل وجهين :
أحدهما » أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً عائداً ععلى الخضوع المفهوم من الفعل و « الذي » مفعوله أي لا تخضعن فيطمع الخضُوع المريضَ القلبِ ، ويحتمل أن يكون « الذي » فاعلاً ، ومفعوله محذوف أي فيطمع المريض نفسه .
فصل
قال ابن عباس : معنى لسْتُنَّ كأحد من السناء يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات أنتن أكرم عليّ ، وثوابكن أعظم لَدَيَّ ، ولم يقل كواحد لأن الأحد عام يصلح للواحد ، والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، قال تعالى : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 } وقال : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] وقوله : « إِنْ اتَّقَيْتُنَّ » الله فأطعتنّه ولما منعهن من الفعل القبيح منعهن من مقدماته وفي المحادثة مع الرجال فقال : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول } أي تُلِنَّ القولَ للرجال ، ولا ترفضن الكلام { فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي فسق وفجور وشهوة ، وقيل : نِفاق أي لا تقولن قولاً يجدُ منافقٌ أو فاجرٌ به سبيلاً إلى المطامع فيكُنَّ والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي ذكر الله وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح أو بيان من غير خضوع .
قوله : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } قرأ نافعٌ وعاصمٌ بفتح القاف والباقون بكسرها ، فأما الفتح فمن وجهين :
أحدهما : أنه أمر من قَرِرْتُ - بكسر الراء الأولى - في المكان أَقَرُّ به - بالفتح - فاجتمع راءان في : « اقرَرْنَ » فحذفت الثانية تخفيفاً ، ونقلت حركة الراء الأولى إلى القاف فحذفت همزة الوصل استغناء عنها فصار « قَرْنَ » على وزن « فَعْنَ » فإن المحذوف هو اللام لأنه حصل أخرى ساكنة فحذفت الأولى لالتقاء الساكنين ، ووزنه على هذا « فَلْنَ » فإن المحذوف هو العين ، وقال أبو علي : أبدلتِ الراءُ الأولى ياءً ونقلت حركتها إلى القاف ، فالتقى ساكنان فحذفت الياء لالتقائهما ، فهذه ثلاثة أوجه في توجيه أنها أمر من « قَررتُ بالمكانِ » .

والوجه الثاني : أنها أمر من « قَارَ - يَقَارُ- » كخَافَ يَخَافُ إذا اجتمع ، ومنه « القَارَةُ » لاجتماعها ، فحذفت العين لالتقاء الساكنين ، فقيل : « قِرْنَ » « كخِفْنَ » ووزنه على على هذا أيضاً : فلْنَ ، إلا أن بعضهم تكلم في هذه القراءة من وجهين :
أحدهما : قال أبو حاتم يقال : قَرَرْتُ بالمَكانِ - بالتفح - أَقِرُّ به - بالكسر - وقِرَّت عَيْنُهُ - بالكسر - تَقَرُّ - بالفتح - فكيف تقرأ وقرن بالفتح؟! والجواب عن هذا أنه قد سمع في كل منهما الفتح والسكر ، حكاه أبو عبيد ، وتقدم ذلك في سورة مَرْيَمَ .
الثاني : سلمنا أنه يقال قَرِرْتُ بالمكان - بالكسر - أَقَرُّ به - بالفتح - وأن الأمر اقْرَرْنَ إلا أنه لا مسوغ للحذف ، لأن الفتحة خفيفة ، ولا يجوز قياسه على قولهم « ظلت » في « ظللت » قال تعالى : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [ الواقعة : 65 ] و { ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [ طه : 97 ] وبابه ، لأن هناك شيئين ثقيلين التضعيف والكسرة ( فحسن الحذف وأما هنا فالتضعيف فقط ) ، والجواب أن المقتضي للحذف إنما هو التكرار ويؤيد هذا أنهم لم يحذفوا مع التكرار ووجود الضمة وإن كان أثقل نحو « اغضضن أبْصَارَكُنَّ » وكان أولى بالحذف فيقال : غَضْنَ لكن السماع خلافه قال تعالى : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } [ النور : 31 ] على أن ابن مالك قال : إنه يحذف في هذا بطريق الأولى . أو نقول : إن هذه القراءة إنما هي من « قَارَ - يَقَارُ » بمعنى اجتمع وهو وجه حسن بريء من التكلف فيندفع اعتراض أبي حاتم وغيره لولا أن المعنى على الأمر بالاستقرار لا بالاجتماع . وأما الكسر فمن وجهين أيضاً :
أحدهما : أنه أمر من قَرَّ في المكان - بالفتح - في الماضي والكسر في المضارع ، وهي اللغة الفصيحة ، ويجيء فهيا التوجيهات الثلاث المذكورة أولاً ، أما حذف الراء الثانية أو الأولى أو إبدالُها ياءً وحذفها كما قاله الفارسيّ ، ولا اعتراض على هذه القراءة لمجيئها على مشهور اللغة ، فيندفع اعتراض أبي حاتم ، ولأن الكسر ثقيل فيندفع الاعتراض الثاني ومعناها مطابق لما يراد بها من الثبوت والاستقرار .
الوجه الثانيك أنها أمر من « وَقَرَ » أي ثبت واستقر ومنه « الوَقَار » وأصله اوْقِرْنَ فحذفت الفاء - وهو الواو - واستغني عن همزة الوصل فبقي « قِرْنَ » ، وهذا كالأمر من وعد سواء ، ووزنه على هذا « عِلْنَ » ، قال البغوي : الأصح أنه أمر من « الوقار » قولك من الوعد « عِدْنَا » ، ومن الوصل « صِلْنَا » .

وهذه الأوجه المذكورة إنما يهتدي إليها من مَرِنَ في علم التصريف وإلا ضاق به ذَرْعاً .
قوله : « تَبَرُّجَ الجَاهِلِيةِ » مصدر تشبيهيّ أي مثل تبرج والتبرج الظهور من البُرْجِ لظهوره ، وقد تقدم ، وقرأ البزِّيُّ : « ولا تبرجن » بإدغام التاء في التاء ، والباقون بحذف إحداهما وتقدم تحقيقه في البقرة في : « وَلاَ تَيَمَّمُوا » .
فصل
قال المفسرون وقرن أي الزمْنَ بيوتكنّ من قولهم : قررت بالمكان أقر قراراً يقال : قررت : أقر وقررت : أقر ، وهما لغتان ، لإن كان من الوقار أي كن أهل وقار وسكون من قولهم : وَقَر فُلان يَقِر وُقُوراً إذا سكن واطمأن ، و « لا تبرجن » قال مجاهد وقتادة التبرج هو التكسر والتغنج ، وقال ابن أبي نُجَيح : وهو التبختر ، وقيل : هو إظهار الزينة ، وإبراز المحاسن لرجال « تَبَرُّجَ الجَاهِلية الأولى » قال الشعبي : هي ما بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو العالية : هي بين داود وسليمان - عليهما السلام - ، وكانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط الجانبين فيرى حلقها فيه ، وقال الكلبي : كان ذلك في زمن نمروذ ، وكانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ، وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره ، وتعرض نفسها على الرجال ، وروى عِكْرَمةُ عن ابن عباس أنه قال : الجاهلية الأولى أي فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف سنة وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة ، وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجر نفسه منه فكان يخدمه واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع مثله فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يسمعون إليه واتخذه عيداً يجتمعون إليه في السنة فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن ، وإن رجلاً من أهل الخيل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فذلك قوله : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } ، وقيل : الجاهلية الأولى ما ذكرنا والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان ، وقيل : قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى كقوله تعالى : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] ولم يكن لها أخرى .
قوله : { وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } يعني ليس التكليف في النهي وحده حتى يحصل بقوله : { وَلاَ تَخْضَعْنَ . وَلاَ تَبَرَّجْنَ } بل في النهي وفي الأوامر فأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله فيما أمر به ، ونهى عنه { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس } قال مقاتل : الرجس : الإثم الذي نهى الله النساء عنه ، وقال ابن عباس يعني عمل الشياطين وما ليس لله فيه رضا .

وقال قتادةُ يعني السوء ، وقال مجاهد : الرِّجْس : الشَّكُّ .
قوله : « أَهْلَ البَيْتِ » فيه أوجه : النداء والاختصاص ، إلا أنه في المخاطب أقل منه في المتكلم وسمع « بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الفَضْلَ » ، والأكثر إنما هو في التكلم كقولها :
4088 - نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النَّمارِقْ
( وقوله : )
4089 - نَحْنُ - بَنِي ضَبَّة - أَصْحَابُ الجَمَلْ ... المَوْتُ أَحْلَى عِنْدَنَا مِنَ العَسَلْ
( و ) « نَحْنُ العَرَبَ أَقْرَى النَّاسِ لِلضَّيْفِ » ( و ) : « نَحْنَ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورثُ » أو على المدح أي أمدحُ أهلَ البيت ، واختلف في أهل البيت ، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهن في بيته ، وتلا قوله : { واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله } وهو قول عكرمة ومقاتل . وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة غيرهم إلى أنهم عليّ ، وفاطمة ، والحسن والحسين ، لما روت عائشة قالت : « خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غَداةٍ وعليه مرط مرجَّل من شعر أسود فجلست فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء حسين فأدخله فيه ، ثم قال : » إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتَ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «
وروت أم سلمة قالت : » في بيت أنزل : إنَّما يريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ قال : فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فاطمة وعلي والحسين والحسن فقال : هؤلاء أهل بيتي . فقلت : يا رسول الله أما أنا من أهل البيت قال : بلى إن شاء الله ، وقال زيد بن أرقم : أهل بيته من حرم الصدقة بعده ، آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ، قال ابن الخطيب : والأولى أن يقال : هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين ، وعليّ منهم لأنه كان من أهل بيته لمعاشرته بنت النبي عليه ( الصلاة و ) السلام وملازمته له «
قوله : { واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله } يعني القرآن والحكمة ، قال قتادة يعني السنة ، وقال مقاتل : أحكام القرآن ومواعظه ، و { من آيات الله } بيان للموصول فيتعلق » بأعني « ويجوز أن يكون حالاً إما من الموصول ، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضاً { إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً } بأوليائه » خَبِيراً « بجميع خلقه .
قوله : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } قال مقاتل : قالت أم سلمة بنت أبي أمية ، ونسية بنت كعب الأنصارية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نَخْشَى أن لا يكون فيهن خير فنزلت فيهن هذه الآية ، ويروى أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قلن : يا رسول الله ذكر الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة ، فأنزل الله هذه الآية ، ورُوِيَ

« أن أسماء بنت عميسٍ رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن قلن : لا فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن السناء لفي خيبة وخسارة ، قال وممَّ ذلك؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال » فأنزل الله - عز وجل - : { إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين } المطيعين « والقَانِتَاتِ والصَّادِقينَ » في إيمانهم ، وفيما سرهم وساءهم { والصَّادِقَاتِ والصَّابِرِينَ « على أمر الله » والصَّابِرَاتِ والخَاشِعِينَ « المتواضعين » والخَاشِعَاتِ « . وقيل : أراد به الخشوع في الصلاة ومن الخشوع أن لا يلتفت » والمُتَصَدِّقينَ « مما رزقهم الله { والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ } عما لا يحِل » والحَافِظَاتِ « . وحذف مفعول الحافظات لتقدم ما يدل عليه والتقدير : والحَافِظَاتِها وكذلك : والذاكرات ، وحسن الحذف رُؤُوس الفواصل { والذاكرين لله كثيراً والذاكرات } ، قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً . وروي » أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال سبق المفردون ، قالوا : وما المفردُونَ؟
قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات « قال عطاء بن أبي رباح من فوض أمره إلى الله عز وجل فهو داخل في قوله : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } ومن أقر بأن الله ربه ، ومحمداً رسوله ، ولم يخالف قلبُه لسانه فهو داخل في قوله : » والمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ « ومن أطاع الله في الفرض ، والرسول في السنة فهو داخل في قوله : » والقَانِتِينَ والقَانِتَاتِ « ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله : » والصَّادِقِينَ والصَّادِقَاتِ « ومن صَبَرَ على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله : » والصابرين والصابرات « ومن صلى ولم يعرف من يمينه عن يساره فهو داخل في قوله : » والخَاشِعِينَ والخَاشِعَاتِ « ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله : » والمُتَصَدِّقِينَ والمُتَصَدِّقَاتِ « ، ومن صام في كل شهر أيام البيض الثالثَ عَشَر ، والخَامِسَ عَشَر فهو داخل في قوله : » والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ « ز ومن حفظ فرجه فهو داخل في قوله » والحَافِظِينَ فُرُوجهُمُ والحَافِظَاتِ « ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله : { والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } وغلب المذكرعلى المؤنث في » لهم « ولم يقل : » لهن « ( لشرفهم ) .

قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } نزلت الآية في زينبَ بنت جحش الأسدية ، وأخيها عبد الله بن جحش وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى زيداً في الجاهلية بعُكَاظَ ، فأعتقه وتبناه ، فلما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينت رضيت وظنت أنه يخاطبها لنفسه فلام علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقال : أنا ابن عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي وكانت بيضاءَ جميلةً فيها حدة وكذلك كره أخوها ذلك فانزل الله عز وجل : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } يعني عبد الله بن جحش وأخته زينت { إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً } وهو نكاح زيدٍ لزينبَ { أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ } . والخيرة الاختيار أي يريد غير ما أراد الله ويمتنع مما أمرالله ورسوله .
قوله : { أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة } أن يكون « هو اسم كان ، والخبر الجار متقدم وقوله : { إِذَا قَضَى الله } يجوز أن يكون محْض ظرف معموله الاستقرار الذي تعلق به الخبر ، أي وما كان مستقراً لمؤمن ولا مؤمنةٍ وقت قضاء الله كَوْنُ خيرة وأن تكون شرطية ويكون جوابها مقدراً مدلولاً عليه بالنفي المتقدم . وقرأ الكوفيون وهِشَامٌ » يكون « - بالياء من أسفل؛ لأن » الخِيرَةَ « مجازيُّ التأنيث ، وللفصل أيضاً ، والباقون بالتاء من فوق مراعاةً للفظها ، وقد تقدم أن » الخِيَرَةَ « مصدر » تَخَيَّرَ « » كالطَّيرِةِ « من » تَطَيَّرَ « ، ونقل عيسى بن سُلَيْمَانَ أنه قرىء الخِيرَة - بسكون الياء - و » مِنْ أَمْرِهِمْ « حال من الخيرة ، وقيل : » من « بمعنى » في « وجمع الضمير في » أمرهم « وما بعده لأن المراد بالمؤمن والمؤمنة الجنس . وغلب المذكر على المؤنث ، وقال الزمخشري : » كان من حق الضمير أن يُوَحَّدَ كما تقول : مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ وَلا امْرَأَةٍ إلاَّ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا « قال أبو حيان : » وليس بصحيح؛ لأن العطف بالواو ، فلا يجوز ذلك إلا بتأويل الحذف « .
قوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } أخْطَأَ خَطَأً ظَاهِراً . فلما سمعا ذلك رضيا بذلك وسلما وجعلت أمرها بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها عَشْرَةَ دَنَانِيرٍ وستِّينَ دِرْهَماً وخِماراً ودِرْعاً وَإِزَاراً وملْحَفَةً وخَمْسِينَ مُدّاً مِن الطَّعَامِ وثلاثينَ صاعاً من تَمْرٍ .

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)

قوله : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } وهو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإِسلام « وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ » بالتحرير والإِعتاق .
قوله : « أَمْسِكْ عَلَيْكَ » نص بعض النحويين على أن « على » في مثل هذا التركيب اسم قال : لئلا يتعدى فعل المضمر المتصل إلى ضمير المتصل في غير باب « ظَنَّ » وفي لفظتي : فَقَدَ وعَدِمَ وجعل من ذلك :
4090 - هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّ الأُمُ ... ورَ بِكَفِّ الإِلَهِ مَقَادِيرُهَا
وكذلك حكم على « عن » في قوله :
4091 - [ ف ] دَعْ عَنْكَ نَهبْاً صِيحَ في حجَرَاتِهِ ... وقد تقدم ذلك مُشْبَعاً في النَّحل في قوله : { وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } ، وفي قوله : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } [ مريم : 25 ] ( وقوله ) : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] .
قوله : « وَتُخْفِي » فيه أوجه :
أحدها : أنه معطوف على « تقول » أي وإِذْ تَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِكَ كَذَا وإِخْفَاءِ كَذَا وخَشْيَةِ الناس قاله الزمخشري .
الثاني : أنها واو الحال أي تقول كذا في هذه الحالة ، قاله الزمخشري أيضاً ، وفيه نظر حيث إنه مضارع مثبت فكيف تباشره الواو؟ وتخريجه « قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ » أعني على إضمار مبتدأ .
الثالث : أنه مستأنف قاله الحوفي ، وقوله : { والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } تقدم مثله في بَرَاءَةَ .
فصل
قال المفسرون إن الآية نزلت في زَيْنَبَ بنتِ جَحْش ، وذلك « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما زوج » زينب « من » زَيْد « مكثَتْ عنده حيناً ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى زيداً ذات يوم لحاجة فأبصر زينب قائمة في دِرْع وخِمَار ، وكانت بيضاء وجميلة ذات خُلُق من أتمِّ نساء قريش فوقعت في نفسه ، وأعجبه حسنها فقال : سبحان الله مقلِّبَ القلوب وانصرف فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ، ففطن زيد فألقي في نفس زيد كراهتها في الوقت فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أريدُ أن أفارق صاحبتي قال : ما لك أَرَابَكَ منها شيء قال : لاَ واللَّهِ يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً ، ولكنها تتعظم عَلَيَّ لشرفها وتؤذيني بلسانها . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوجَكَ يعني زينب بنت جحش واتَّقِ اللَّهِ في أمرها ثم طلَّقَها زيدٌ » ، فذلك قوله عز وجل : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق وهو زيد بن حارثة { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله } فيها ولا تفارقها { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } أي تُسرُّ في نفسك ما الله مظهره أي كان في قلبه لو فارقها تزوجها . وقال ابن عباس : حبها ، وقال قتادة : وَدَّ أنه لو طلقها « وَتَخْشَى النَّاسَ » قال ابنُ عباس والحسن : تستحييهم ، وقيل : تخاف لائمةَ الناس أن يقولوا أمرَ رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها ، { والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } .

قال عمر وابن مسعود وعائشة : ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية هي أشد عليه من هذه ( الآية ) . وروي عن مسروق قال : قالت عائشة : لو كتم النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً مِمَّا أوحي إليه لكتم هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } وروي عن سفيانَ بْن عُيَيْنَةَ عن عليِّ بن جُدْعَانَ قالك سألني عليّ بن الحُسَيْنِ زَيْنُ العابدين ما يقول الحَسَنُ في قوله : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } قال : قلت : ( تقول ) : « لَمَّا جاء زيد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له : يا نبي إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك قال : أمسك عليك زوجك واتق الله » فقال علي بن الحسين ليس كذلك كان الله قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها فلما جاء زيد قال : أريد أن أطلقها قال له : أمْسِكْ عليك زوجك فعاتبه الله وقال : لِمَ قُلْتَ : أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو الأولى ولأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : « زَوَّجْنَاكَهَا » فلو كان الذي أضمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أنه يخبر أنه يُظْهِرُه ثم يكتمه فلا يظهره فدل على أنه لا يجوز أن يخبر أنه يُظْهِرُهُ ثم يكتمه فلا يظهره فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له ، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : إن الذي تحتك في نِكَاحِكَ ستكون امرأتي وهذا حسن وإن كان الآخرَ وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء؛ لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم؛ لأن الوُدَّ ومَيْلَ النفس من طبع البشر ، وقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله } أمر بالمعروف وهو خشية الإثم فيه وقوله : { والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه ( الصلاة و ) السلام قد قال : « أَنَّا أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ » ولكن المعنى الله أحَقُّ أنْ تَخْشَاهُ وَحْدَهُ ، ولا تخشى أحداً معه وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً ، فلام ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله احق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء .
قوله : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } ، « وطراً » مفعول « قضى » ، والوَطَرُ الشهوة والمحبة قاله المبرد وأنشد :

4092 - وَكَيْفَ ثَوَائِي بالمَدِينَةِ بَعْدمَا ... قَضَى وَطَراً مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ معْمَرِ
وقال أبو عبيدة : الوَطَرُ : الأَرَبُ والحَاجَةُ ، وأنشد الربيعُ بن ضبع الفزَارِيُّ .
4093 - وَدَّعَنَا قَبْلَ أن نُوَدِّعَهُ ... لَمَّا قَضَى مِنْ شَبَابِنَا وَطَرَا
وقرأ العامة : « زَوَّجْنَاكَهَا » ، وقرأ علي وابناه الحَسَنَان - رضي الله عنهم ، وأرضاهم - « زَوَّجْتُكَهَا » ، بتاء المتكلم و « لِكَيْلأاَ » متعلق « بزوجناكها » . وهي هنا ناصبة فقط لدخول الجار عليها ، واتصل الضميران بالفعل ، لاختلافهما رتبةً .
فصل
المعنى فلما قصى زيد منها حاجة من نكاحها زوجناكها ، وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنَّى تَحِلُّ بعد الدخول بها إذا طلقت وانقضت عدتها؛ لان الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته وهو محتاج إليها فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن عنها ، وكذلك إذا كانت في العدة لها بها تعلق لأجل شُغْلٍ الرحم فلم يقض منها بعد وطر ، فإذا طلقت وانقضت عدتها استغنى عنها ولم يبق له معها تعلق فقضى منها الوطر . قال أنس : كانت زينب تَفْتَخِرُ على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - زَوَّجَكثنَّ أَهَالِيكُنَّ ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْق سَبْعِ سَمَاوَاتٍ ، وقال الشعبيُّ : كانت زينب تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - إِني لأُدِلُّ عَلَيْك بثلاث ما من نسائك امرأة تُدِلُّ بهن ، جَدِّي وَجدُّك واحد ، وإني أَنْكَحنِيكَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وإنَّ السفيرَ لِجِبْرِيل .
قوله : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ } إثم { } فالأدعياء جمع أَدءعَى وهو المتبنَّى بخلاف امرأة ابن الصلب لا تحِل للأب { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } أي قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً ، وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : { مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ } أي فيما أحل الله له .
قوله : « سُنَّةَ اللَّهِ » منصوب على المصدر ك { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] و { وَعْدُ الله } [ الزمر : 20 ] أو اسم وضع موضع المصدر أو منصوب « بِجَعَلَ » أبو بالإِغراء أي فعليه سنة الله ، قاله ابن عطية ورده أبو حيان بأن عامل الإغراء لا يحذف ، وبأن فيه غغراء الغائب وما ورد منه مؤول على نُدُوره نحو : « عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَني » . قال شهاب الدين : وقد ورد قوله عليه السلام : « وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ » فقيل : هو إغراء ، وقيل : ليس به وإنما هو مبتدأ وخبر ، والباء زائدة في المبتدأ وهو تخريج فاسد المعنى ، لأن الصوم ليس واجباً على ذلك . وقال البغوي : نصب بنزع الخافض أي كَسُنَّةِ اللَّهِ .
فصل
المراد بسنة الله في الذين خلوا من قبل أي في الأنبياء الماضين أن لا يؤاخذهم بما أحل لهمن قال الكلبي ومقاتل : أراد داود حين جمع بينه وبين المرأة التي هَوِيَهَا فكذلك جمع بين محمد وبين زينب ، وقيل أراد بالسنة النكاح ، فإنه من سنة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - { وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً } ، وقول ثانياً : { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } لطيفة وهي أن الله تعالى لما قال : « زَوَّجْنَاكَهَا » قال : { وكان أمر الله مفعولاً } ، أي تزويجنا زينت إياك كان مقصوداً مَقْضِيّاً مُرَاعىً ، ولما قال : { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } أشار إلى قصة داود حين افتتن بامرأة « أوريا » قال : { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } أي كان ذلك حكماً تبعياً .

قوله : « الذين يبلّغون » يجوز أن يكون تابعاً « لِلَّذِينَ خَلَوا » وأن يكون مقطوعاً عنه رفعاً ونصباً على إضمار : « هم » أو أعْنِي ، أو أمْدَحُ .
فصل
المعنى إنَّ الذين يبلغون رسالات الله كانوا أيضاً رُسُلاً مِثْلَكَ ، ثم ذكر حالهم بأنهم جرّبوا الخشية ووجدوها فيخشون الله ولا يخشون أحداً سواه فصار كقوله : « فَبِهُدَاهُم اقْتَدِه » ولا يخسى قَالة الناس فإنهم ليسوا بمهتمين فيما أحل الله لهم وفرض عليهم ، { وكفى بالله حَسِيباً } حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبتهم فلا يُخْشَى غَيْرُهُ .
قوله : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب قال الناس : إن محمداً تزوج امرأة انبه فأنزل الله - عز وجل - { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } يعني زيد بن حارثة أي ليس أبا أاحد من رجالكمالذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها . فإن قيل : أليس أنه كان له أبناء القاسمُ والمطهرُ ، وإبراهيم ، والطَّيِّبُ ، وكذلك الحَسَنُ ، الحُسَيْنُ ، قال - عليه ( الصلاة و ) السلام - : « إن ابني هذا سيد
؟ » فالجواب : هؤلاء كانوا صغاراً ولم يكونوا رجالاً ، والصحيح أنه أراد أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم الذي لم يلده .
قوله : { ولكن رَّسُولَ الله } العامة على تخفيف « لكن » ونصب « رسول » ، ونصبه إما على إضمار « كَانَ » لدلالة « كان » السابقة عليها ، أي ولكن كَانَ ، وإما بالعطف على « أَبَا أَحَدٍ » : والأول أليق؛ لأن « لكن » ليست عاطفة لأجل الواو ، فالأليق بها أن تدخل على الجمل « كبل » التي ليست عاطفة . وقرأ أَبُو عَمْروٍ - في رواية - بتشديدها ، على أن « رسول الله » اسمها وخبرها محذوف للدلالة ، أي ولكن رسول الله هُوَ أي محمد ، وحذف خبرها سائغ وأنشد :
4094 - فَلَوْ كُنْتَ ضبّيّاً عَرَفْتَ قَرَابَتِي ... وَلَكِنَّ زِنْجِيّاً عَظِيمَ المَشَافِرِ
أي أنت ، وهذا البيت يروونه أيضاً « ولكن زِنْجِيٌّ » بالرفع ، شاهداً على حذف امسها ، أي « ولكنك » .

وقرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبلة بتخفيفها ورفع « رسول » على الابتداء ، والخبر مقدر أي هو ، أو بالعكس أي ولكن هُوَ رَسُولُ كقوله :
4094 - وَلَسْت الشَّاعِرَ السِّفْسَافَ فِيهِمْ ... وَلَكن مِدْرَهَ الحَرْبِ العَوَانِ
أي ولكن أنا مدره .
قوله : « وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ » قرأ عاصم بفتح التاء والباقون بسكرهان فالفتح اسم للآلة التي يختم بها كالطَّابَع والقَالَب ، لما يطبع به ، ويقلب فيه هذا هو المشهور ، وذكر أبو البقاء فيه أَوْجُهاً أُخَرَ منها أنه في معنى المصدر قال : كذا ذكر في بعض الأعاريب ، قال شهاب الدين : وهو لغط محض كيف وهو مُحْوِجٌ إلى تَجَوُّزٍ أو إضْمار ، ولو حكى هذا في خَاتِم - بالكسر - لكان أقرب ، لن قد يجيء المصدر على فاعل وفاعلة وسيأتي ذلك قريباً ، ومنها أنه اسم بمعنى « آخَرَ » ومنها أنه فعل ماض مثل « قَاتَل » فيكون « النَّبِيِّينَ » مفعولاً به ، قال شهاب الدين : ويؤيد هذا قراءة عبد الله المتقدمة . وقال بعضهم هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه قد ختم النبيين فهو خَاتم .
فصل
قال ابن عباس : يريد لو لم أَختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون من بعده نبيّاً ، وروى عطاء عن ابن عباس : أن الله تعالى لما حكم أنه لا نبي بعده لم يُعْطِهِ ولداً ذكراً يصير رَجُلاً ، وقيل : من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره . { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما } أي علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده ، فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد عليه ( الصلاة و ) السلام أن زوجه بزوجة دعيِّه تكميلاً للشرع ، وذلك من حيث إنَّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يفيد شرعاً لكن إذا امتنع هو عنه يفيد في بعض النفوس نُفْرة ، ألا ترى أنه ذكر بقوله ما فهم منه حِلّ أكل الضَّبِّ ، ثم لما لم يأكله بَقِيَ في النفوس شيء ، ولما أكل لحم الجمل طاب أكله ، مع أنه في بعض الملل لا يؤكل وكذلك الأرنب ، روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « مَثَلِي ومَثَلُ الأنبياء كَمَثَلِ قَصْرِ أُحْكِمَ بُنْيَانُهُ تُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ فَطَافَ بِهِ النُّظَّارُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بِنَائِهِ إِلاَّ مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ لاَ يُجِيبُونَ سِوَاهَا فَكُنْت أنَا مَوْضِع تِلْكَ اللَّبِنَةِ خُتِمَ بِهِ البُنْيَانُ ، وَخُتِمَ بِي الرُّشْدُ » ، وقال - عليه ( الصلاة و ) السلام : « إنَّ لِي أسْمَاءَ أَنَا مُحَمَّدٌ ، وَأَنَا أَحْمَدُ ، وَأَنَا الماحِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الكُفْرَ ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى قَدَمِيَ وأَنَا العَاقِبُ » والعاقِبُ الذَّي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)

قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } قال ابن عباس : لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل حدّاً معلوماً ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعذر أهله في تركه إلا مغلوباً على عقله وأمرهم به في الأحوال كلها ، فقال : { فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ } [ النساء : 103 ] وقال : { اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } أي بالليل والنهار ، والبرِّ والبحر والصحة والسِّقَم في السر والعلانية وقال مجاهد : الذكر الكثير أن لا ينساه أبداً { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي صلوا له بكرة يعني صلاة الصبح و « أصيلاً » يعني صلاة العصر ، وقال الكلبي : « وأصيلاً » صلاة الظهر والعصر والعشاء ، وقال مجاهد معناه : قولوا : سبحانَ اللَّهِ والحمدُ لله ولا إله إلا الله واللَّه أكبر ولا حَوْلَ ولا قوة إلى بالله فعبر بالتسبيح عن أخواته ، وقيل : المراد من قوله : « ذكْراً كَثيراً » هذه الكلمات يقولها الطاهرُ والخبيثُ والمحدث .
قوله : { هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } الصلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين فذكر صلاته تحريضاً للمؤمنين على الذكر والتسبيح ، قال السدي : قالت بنو إسرائيل لموسى : أيصلي ربنا؟ فكَبُرَ هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه قل لهم : إنِّي أصلي وإن صلاتي رحمتي وقد وسعت رحمتي كُلَّ شيء . وقيل : الصلاة من الله هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده ، وقيل : الثناء عليه . قال أنس : لما نزلت إن الله وملائكته يصلون على النبي قال أبو بكر : ما خَصَّك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فأنزل الله عز وجل هذه الآية .
قوله : « ومَلاَئِكَتُهُ » إما عطف على فاعل « يصلي » ، وأغنى الفصل بالجار عن التأكيد بالضمير ، وهذا عند من يرى الاشتراك أو القدر المشترك أو المجاز؛ لأن صلاة الله غير صلاتهم . وإما مبتدأ وخبره محذوف ، أي « وملائكته يصلون » وهذا عند من يرى شيئاً مما تقدم جائزاً إلا أن فيه بحثاً ، وهو أنهم نصوا على أنه إذا اختلف مدلولاً الخبرين فلا يجوز حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه وإن كانا بلفظ واحد ، فلا تقول : « زَيْدٌ ضَاربٌ وَعَمرٌو » يعني وعمرو ضاربٌ في الأرضِ أي مُسِافِرٌ .
فصل
الصلاة من الله رحمة ، ومن الملائكة استغفار ، فقيل : إن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مَعْنَيَيْهِ معاً وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز . قال ابن الخطيب : وينسب هذا القول للشافعي رحمه الله ، وهو غير بعيد؛ وذلك لأن الرحمة والاستغفار مشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له والمراد هو القدر المشترك فتكون الدلالة واحدة ، ثم قال : { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } أي من ظلمةِ الكفر إلى نور الإيمان يعنى ( أنه ) برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان .

{ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } وهذا بشارة لجميع المؤمنين وأشار بقوله : « يصلي عليكم » أن هذا غير مختص بالسامعين وقت الخطاب . قوله : « تَحِيَّتُهُمْ » يجوز أن يكون مصدراً مضافاً لمفعوله ، وأن يكون مضافاً لفاعله ومفعوله على معنى أن بعضهم يُحَيِّي بعصاً ، فيصح أن لا يكون الضكير للفاعل والمفعول باعتبارين لا أنه يكون فاعلاً ومفعولاً من وجهٍ واحد وهو قول من قال : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ] أنه مضاف للفاعل والمفعول .
فصل
المعنى تحيةُ المؤمنين يَوْمَ يلقونه أي يرون الله سلام أي يسلم اللَّهُ عليهم ويسلمهم من جميع الآفات ، وروي عن البراب بن عازب قال : تحيتهم يوم يلقونه سلام يعني ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه . وعن ابن مسعود قال : إذا جاء ملك يقبض روح المؤمن قال : رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السلام ، وقيل : تسلم عليهم الملائكة تبشرهم حين يخرجون من قبورهم ثم قال : { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } يعني الجنة .
فإن قيل : الإعداد إنما يكون مِمَّن لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه ، وأما الله تعالى فغير محتاج ولا عاجز فحيث يلقاه ( و ) يؤتيه ما يرضى به وزيادة فما معنى الإعداد من قبل؟ .
فالجواب : أن الأعداد للإكرام لا للحاجة .
قوله : { ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } أي شاهداً للرسل بالتبليغ « وَمُبَشِّراً » لمن آمن بالجنة و « نَذِيراً » لمن كذب بالنار « فشاهداً » حال مقدرة ، أو مقارنة لقرب الزمان { وَدَاعِياً إِلَى الله } إلى توحيده وطاعته ، وقوله « بِإِذْنِهِ » حال أي ملتبساً بتسهيله ، ولا يريد حقيقة الإذن لأنه مستفاد من « أَرْسَلْنَاكَ » .
قوله : « وَسِرَاجاً » يجوز أن يكون عطفاً على ما تقدم ، إما على التشبيه ، إما على حذف مضاف أي ذا سراج ، وجوز الفَرَّاءُ أن يكون الأصل : وتالياً سراجاً ، ويعني بالسِّراج القرآن ، وعلى هذا فيكون من عطف الصفات وهي لذات واحدة ، لأن التالي هو المرسل . وجوز الزمخشري أن يعطف على مفعول « أَرْسَلْنَاكَ » وفيه نظر لأن السراج هو القرآن ولا يوصف بالإرسال بل بالإنزال إلاَّ أن يقال : إنه حمل على المعنى كقوله :
4096 - فَعَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ... [ حَتَّ شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا ]
وأيضاً فيغتفر في الثواني ما لا يغفتر في الأوائل ، وقوله : « مُنِيراً » لأنه يهتدى به كالسِّراج يستضاء به في الظلمة . واعلم أنَّ في قوله : « سِرَاجاً » ولم يقل : إنه شمس مع أن الشمس أشد إضاءة من السراج فائدةً وهي أن نور الشمس لا يؤخذ منه شيء ، والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة إذا انطفى الأول يبقى الذي أخذ منه وكذلك إن غاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كُلُّ صحابي كذلك سراجاً يؤخذ منه نور الهداية كما قال عليه ( الصلاة و ) السلام :

« أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ » وفي هذا الخبر لطيفة وهي أن النبي عليه ( الصلاة و ) السلام لم يجعل أصحابه كالسرج وجعلهم كالنجوم لأن النجم لا يؤخذ منه ( نور ) بل له في نفسه نور إذا غرب لا يبقى نور مستفاد منه فكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنور النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو جعلهم كالسِّراج والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان سراجاً كان للمجتهد أن يَسْتَنِيرَ بمَنْ أراد منهم ، ويأخذ النور مِمَّن اختار وليس كذلك فإن مع نص النبي - صلى الله عيه وسلم - لا يُعْمَل بقول الصَّحابيِّ بل يؤخذ النور من النبي ولا يؤخذ من الصحابي ، فلم يجعله سراجاً .
قوله : « وَبَشِّر المُؤْمِنِينَ » عطف على مفهوم تقديره : « إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشراً فاشْهَدْ وبَشِّرْ } ولم يذكر » فاشهد « للاستغناء عنه ، وأما البشارة فذكرت إشارة للكرم ، ولأنها غير واجبة لولا الأمر . وقوله { بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً } كقوله تعالى : { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً عَظِيماً } والعظيم والكبير متقاربان .
قوله : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } تقدم تفسيره أو السورة ، وهو إشارة إلى الإِنذار يعني خالفهم ورُدَّ عليهم .
قوله : » وَدَعْ أَذَاهُمْ « يجوز أن يكون » أَذَاهُمْ « مضافً لمفعوله أي اترك أذاك لهم ، أي عقابك إياهم .
قال الزجاج : لا تجازهم عليه ، وهذا منسوخ بأيةِ السيف ، ويجوزم أن يكون مضافاً لفاعله أي اترك ما أَذَوْكَ به فلا تؤاخذهم حتى تُؤْمَر أي دعه إلى الله فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار وبين هذا قوله تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً } أي حافظاً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)

قوله : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات . . . } الآية وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى في هذه السورة مكارم الأخلاق وأدب نبيه على ما تقدم والله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه فكلما ذكر لنبيّه مكرمةٌ ، وعلَّمَه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، ولما بدأ الله تعالى في تأديب النبي - عليه الصلاة والسلام - ذكر ما يتعلق بجانب الله تعالى بقوله : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] وثنى بما يتعلق بجانب من هو تحت يده من أزواجه بقوله : بعده { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ } [ الأحزاب : 28 ، 52 ] وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله : { ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [ الأحزاب : 45 ] كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } [ الأحزاب : 41 ] ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات } ثم كما ثلث في تأديب بجانب الأمة ثَلَّث في حق المؤمنين بما يتعلق بهم فقال بعد هذا : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي } [ الأحزاب : 53 ] وبقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 56 ] فإن قيل : إذا كان هذا إرشاداً إلى ما يتعلق بجانب من هو خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس؟ .
فالجواب : هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها ، وبيانه أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد ، ولهذا قال تعالى في حق المَمْسُوسَة : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 21 ] فإذا أمر الله ( تعالى ) بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينهما فلما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما ، وهذا كقوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [ الإسراء : 32 ] لو قال : لا تضربهما ولا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص بالضرب أو الشتم ، فأما إذا قال : { لا تقل لهما أف } علم من معانٍ كثيرةٍ فكذلك ههنا لما أمرنا بالإحِسان مع من لا مودة معها علم منه الإِحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق بعدُ ومن ولدت عنده منه .
قوله : « ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ » إن قيل : ما الفائدة بالإتيان « بثُمَّ » وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك؟ فالجواب : أنه جرى على الغالب . وقال الزمخشري : نفى التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها قريبة العهد بالنكاح وبين أن يبعُدَ عهدها بالنكاح وتتراخى بها المرأة في حُبَالَة الزوج ثم طلّقها . قال أبو حيان : واستعمل « عسى » صلة لمن وهو لا يجوز . « قال شهاب الدين » يخرج قوله على ما خرج عليه قول الآخَر :

4097 - وَإِني لَرَامٍ نَظْرَةً قِبَلَ الَّتِي ... لَعَلِّي - وَإِنْ شَطَّتْ نَوَاهَا - أَزُورُهَا
وهو إضمار القول ، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح ، لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح بكلمة « ثم » وهي للتراخي حتى ( و ) لو قال لأجنبية : إِذَا نَكَحْتُكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق فنكح ، لا يقع الطلاق ، وهو قول عَلِيٍّ ، وابنِ مسعود ، وجابر ، ومعاذٍ ، وعائشةَ . وبه قال سعيد بن أبي المسيب ، وعُرْوَةُ ، وشُرَيْحٌ ، وسعيد بنُ جبير ، والقاسمُ ، وطاوسٌ والحسنُ ، وعكرمةُ ، وعطاءُ بن يَسَارِ ، والشّعبيُّ ، وقتادةُ ، وأكثر أهل العلم . وبه قال الشافعيُّ ، وأحمدُ . وروى عن ابن مسعود أنه قال : يقع الطلاق وهو قول إبراهيم النَّخَعِيِّ وأصحابِ الرأي ، وقال ربيعةُ ومالكٌ والأوزاعِيُّ : إن عين امرأةً يقع ، وإن عم فلا يقع ، ورى عكرمة عن ابن عباس قال : كذبوا على ابن مسعود إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، يقول الله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ولم يقل : « إِذَا طَلَقْتُمُوهنَّ ثُمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ » وروى عطاء عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ »
قوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } تجامعوهن { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } أي تحصونها وتستوفونها بالأقراء والأشهر ، « فتعتدونها » صفة « لعدة » وتعتدونها تفتعلونها إما من العَدَد ، وإما من الاعْتِدَادِ أي تحتسبونها أو تستوفون عددها من قولك : عَدَّ الدَّرَاهِمَ فَاعْتَدَّهَا أي استوفى عددها ، نحو : كِلْتُهُ فَاكْتَالَهُ ، ووَزنتهُ فاتَّزَنَهُ ، وقرأ ابن كثير - في رواية - وأهل مكة بتخفيف الدال وفيها وجهان :
أحدهما : أنها من الاعتداد وإنما كرهوا تضعيفه فخفَّفوه؛ قاله الرازي ، قال : ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف ، لأن الاعتداء يتعدى « بعلى » . قيل : ويجوز أن يكون من الاعتداء وحذف حرف الجر أي تَعْتَدُونَ عَلَيْهَا أي على العدة مجازاً ، ثم تعتدونها كقوله :
4098 - تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِنْ صَبَابِةٍ ... وَأُخْفِي الَّذِي لَوْلاَ الأَسَى لَقَضَانِي
أي لقَضَى عَلَيَّ ، وقال الزمخشري : وقرىء تَعْتَدُونَهَا مخففاً أي تعتدون فيها كقوله :
4099 - ويَوْم شَهِدْنَاهُ سُلَيْمَى وَعَامراً ... قَلِيل سِوَى الطَّعْنِ النَّهَال نَوَافِلُهْ
وقيل : معنى تعتدونها أي تعتدون عليهن فيها ، وقد أنكر ابن عطية القراءة عن ابن كثير وقال : غلط ابن أبي بزة عنه ، وليس كما قال .
والثاني : أنها من العدوان ( والاعتداء ) وقد تقدم شرحه ، واعتراض أبي الفضل عليه بأنه كان ينبغي أن يتعدى « بعلى » وتقدم جوابه ، وقرأ الحسن « تعْتدونها » - بسكون العين وتشديد الدال - وهو جمع بين ساكنين على ( غير ) حديهما .
فصل
دلت هذه الآية على أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يَسْقُطُ بإسقاطه؛ لما فيه من حق الله تعالى .

ثم قال : « فَمَتِّعُوهُنَّ » أي أعطُوهُنَّ ما يستمتعن به قال ابن عباس : هذا إذا لم يكن سمى لها صداقاً فلها المتعة ، وإن كان فرض لها صداقاً فلها نصف الصداق ولا متعة لها ، وقال قتادة : هذه الآية منسوخة بقوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ، قيل : إنه عام وعلى هذا فهل هو أمر وجوب أو أمر استحباب؟ فقيل : للوجوب فتجب المتعة مع نصف المهر ، وقيل : للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء ، ثم قال : { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أي خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار ، وقيل : السراح الجميل : أن لا يطالبها بما آتاها .
قوله تعالى : { ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } وقوله : { مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ } رد عليك من الكفار بأن تَسْبِي فتملك ، وهذا بيان لما ملكت ، وليس هذا قيداً بل لو ملكت يمينه بالشراء كان الحكم كذا ، وإِنَّما خرج مَخْرَج الغالب . واعلم أنه ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو أولى فإن الزوجة التي أُوتِيَتْ مهرها أطيب قلباً من التي لم تؤت والمملوكة التي سَبَاها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنه لا يدري كيف حالها ، ومن هاجرت من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - معه أشرف ممن لم تهاجِر ، وقال بعضهم : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حالاً لنا وكيف والنبي عليه الصلاة والسلام إذا طلب شيئاً حرم الامتناع على المطلوب؟ والظاهر أن الطالب في المرة الأولى إنما هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا ويؤكد هذا قوله : { وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها .
واعلم أن اللاتي يملكت يمينه مثل صفية ، وجُوَيْريَة ، ومَارِيَة { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ } يعني نساء قريش { وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ } يعني نساء بني زُهْرَة { اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } إلى المدينة فمن لم تهاجر معه منهم لم يجز له نكاحها ، روى أبو صالح عن أم هانىء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة خطبني لإنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من المطلقات ، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل .
قوله « وامرْأَةً » العامة على النصب وفيه وجهان :
أحدهما : أنها عطف على مفعول « أَحْلَلْنا » أي وأحْلَلْنَا لك امرأة ً موصوفة بهذين الشرطين ، قال أبو البقاء وقد رد هذا قوم ، وقالوا : « أَحْلَلْنا » ماضٍ ، و « إنْ وَهَبَتْ » - وهو صفة للمرأة - مستقبل ، « فأحللنا » في موضع جوابه ، وجواب الشرط لا يكون ماضياً في المعنى ، قالك وهذا ليس بصحيح لأم معنى الإحلال ههنا الإعلام بالحل إذا وقع الفعل على ذلك كما تقول : « أَبَحْتُ لَكَ أَنْ تُكَلِّمَ فُلاَناً إِنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ » .

والثاني : انه ينتصب بمقدر تقديره : « ويُحِلُّ لك امرأةً » .
قوله : « إنْ وَهَبَتْ ، إِنْ أَرَادَ » هذا من اعتراض الشرط على الشرط ، والثاني هو قيد في الأول ولذلك نعربه حالاً ، لأن الحال قيد ، ولهذا اشترط الفقهاء أن يتقدم الثاني على الأول في الوجود . فلو قال : إن أَكَلْتُ إنْ رَكِبْتُ فأنتِ طالقٌ ، فلا بد أن يتقدم الركوب على الأكل ، وهذا له تحقق الحالية والتقييد كما ذكرنا ، إذ لو لم يتقدم لخلا جزء من الأكل غير مقيد بركوب فلهذا اشترطنا تقدم الثاني وقد مضى تحقيق هذا وأنه يشترط أن لا تكون ثَمَّ قرينة تمنع من تقدم الثاني على الأول كقوله : « إنْ تَزَوَّجْتُك إِنْ طَلَّقْتُكِ فعَبْدِي حُرٌّ » ( لأنه ) لا يتصور هنا تقديمُ الطلاق على التَّزويج .
قال شهاب الدين : وقد عرض لي إشكال على ما قاله الفقهاء بهذه الآية وذلك أن الشرط الثاني هنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم الخاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا أنه لا يمكن عقلاً ، وذلك ان المفسرين فسروا قوله تعالوا : « إنْ أَرَادَ » بمعنى قبل الهِبَة لأن بالقبول منه ( عليه الصلاة و ) السلام يتم نكاحه وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة إذ القبول متأخر ، وأيضاً فإن القصة كانت على ما ذكرته من تأخر إرادته من هِبَتها وهو مذكور في التفسير ، وأبو حيان لما جاء إلى ههنا جعل الشرط الثاني متقدماً على الأول على القاعدة العامة ، ولم يسشكل شيئاً مما ذكرته ، وقد عرضت هذا الإِشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به ولم يظهر عن جواب إلا ما قدمته من أنه ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلته آنفاً ، وقرأ أبو حيوة « وامْرَأَةٌ » بالرفع على الابتداء ، والخبر مقدر ، أي أَحْلَلْنَا لَكَ أَيْضاً . وفي قوله : { إِنْ أَرَادَ النبي } التفات من الخطاب إلى الغيبة بلفظ الظاهر تنبيهاً على أن سبب ذلك النبوة ، ثم رجع إلى الخطاب فقال : « خَالِصَةً لَكَ » ، وقرأ أبي والحسن وعيسى « أَنْ » بالفتح ، وفيه وجهان :
أحدها : أنه بدل من « امرأة » بدل اشتمال قاله أبو البقاء ، كأنه قيل : وأحْلَلْنَا لك هِبَةَ المَرْأَةِ نَفْسَهَا لَكَ .
قوله : « خالصة » العامة على النصب وفيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب على الحال من فاعل « وَهَبَتْ » أي حال كونها خالصةً لك دُونَ غَيْرِكَ .

الثاني : أنها حال من « امرأة » لأنها وصفت فتخصصت ، وهو بمعنى الأول ، وإليه ذهب الزجاج .
الثالث : أنها نعت مصدر مقدر أي هبة خالصة فنصبها « بوَهَبَتْ » .
الرابع : أنها مصدر مؤكد « كوَعْدَ اللَّهِ ، قال الزمخشري : والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين كالخَارجِ والقَاعِدِ ، والكاذِبَةِ والعَافِيَةِ يريد بالخارج ما في قول الفرزدق :
4100 - . . ... وَلاَ خَارِجاً مِنْ فِيَّ زُورُ كَلاَمِ
وبالقاعد ما في قولهم : » أَقَاعِداً وَقَدْ سَارَ الرَّكْبُ « ، وبالكاذبة ما في قوله تعالى : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [ الواقعة : 2 ] ، وقد أنكر أبو حيان عليه قوله : » غير عزيزين « وقال : بل هما عزيزان ، وما ورد متأول ، وقرىء : » خَالِصَةٌ « بالرفع ، فإن كانت » خالصة « حالاً قدر المبتدأ » هي « أي المرأة الواهبة ، وإن كانت مصدراً قدر فتلك الحالة خالصة ، و » لك « على البيان أي أعني لك نحو : » سَقْياً لَكَ « .
فصل
المعنى : أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق ، فأما غير المؤمنة فلا تَحِلُّ له إذا وهبت نفسها منه ، واختلفوا في أنه هل كان يحِل للنبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح اليهودية والنصرانية ، فذهب أكثرهم إلى أنه كان لا يحل له ذلك لقوله : » وامرأة مؤمنة « وأول بعضهم الهجرة في قوله : » هَاجَرْنَ مَعَكَ « يعني على الإسلام أي أسلمن معك ، فيدل ذلك على أنه لا يحل نكاح غير المسلمة . وكان نكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مَهْرٍ ، وكان ذلك من خصائصه عليه ( الصلاة و ) السلام - لقوله تعالى : { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } كالزيادة على الأدب ووجوب تخيير النساء من خصائص لا مشاركة لأحد معه ، واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة ، فقال سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء : لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج ، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي ، ومعنى الآية أنّ إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خواصه عليه السلام . وقال النخعيُّ وأبو حنيفةَ وأهلُ الكوفة ينعقد بلفظ الهبة والتمليك وأن معنى الآية أن تلك المرأة صارت خالصة لك زوجةً من أمهات المؤمنين ولا تحل لغيرك أبداً بالتزويج وأجيب بأن هذا التخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له ، وما ذكرناه ( يتبين ) للتخصيص فائدة .
فصل
اختلفا في التي وهبت نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل كانت عنده امرأة منهن فقال عبد الله بن عباس ومجاهد : لم يكن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة وهبت نفسها منه ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، وقوله » وَهَبَتْ نَفْسَهَا « على طريق الشرط والجزاء ، وقيل : بل كانت موهوبة واختلفوا فيها ، فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية يقال لها : أم المساكين ، وقال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث ، وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل : أمّ شريك بنت جابر من بني أسد ، وقال عروة بن الزبير : هي خولة بنت حكيم من بني سُلَيْم .

قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا } أوجبنا على المؤمنين « فِي أَزواجِهِمْ » من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين ، وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحدٌ من المؤمنين نفسه على ما كان النبي عليه السلام فإن له في النكاح خصائصَ ليست لغيره ، وكذلك في السَّرَارِي .
قوله : « لِكَيْلاَ » يتعلق « بخالصة » وما بينهما اعتراض و « مِنْ دُونِ » متعلق « بخالصة » كما تقول : خَلَص مِنْ كَذَا .
فصل
قال المفسرون : هذا يرجع إلى أول الآية أي أحللنا لك أزواجَك وما ملكت يمينك والموهبة { لكيلا يكون عليك حرج } { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } يغفر الذنوب جميعاً ويرحم العبيد .
قوله : « تُرْجِي » أي تؤخر { مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤويا إِلَيْكَ } أي تضم إِلَيْكَ « مَنْ تَشَاءُ » واختلف المفسرون في معنى الآية فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن وذلك أن التسوية بينهن في القسم كان واجباً عليه ، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن . قال أبو رزين وابنُ زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب بعضهن زيادة النفقة وهجرهن النبي - صلى الله علي وسلم - شهراً حتى نزلت آية التخيير فأمره الله - عز وجل - أن يُخَيرَهُن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ، ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الأخرة على أنهن أمهات المؤمنين فلا يُنكحن أبداً وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ويرجي من يشاء فيرضين به قَسَم لهن أو لم يقسم أو قسم لبعض دون بعض أوفضل بعضهن على بعض في النفقة والقسمة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائص فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى أمته نسبة السّيد المطاع والرجل وإن لم يكن نبياً فالزوجة في ملك نكاحه والنكاح عليها فكيف زوجات النبي بالنسبة غليه فإذن هن كالمملوكات له ولا يجب القسم بين المملوكات . والإرجاء التأخير والإيواء الضم ، واختلفوا في أنه هل أخرج أحداً منهن عن القسم فقيل : لم يخرج أحداً بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما جعل الله من ذلك يسوي بينهن في القسم إلا سَوْدَةَ فإنها رَضِيَتْ بترك حقها من القَسْم وجعلت نوبتها لعائشةَ ، وقيل : أَخْرَجَ بعضهن ، روى جرير عن منصور عن أبي رَزِين قال : لما نزلت آية التخيير أَشفَقْنَ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ ، فقلن يا رسول الله : اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئتَ ودَعْنَا على حالنا فنزلت هذه الآية فأرجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضهن وآوى إليه بعضهن فكان ممن آوى عائشةُ وحفصةُ وزينبُ وأمُّ سلمة وكان يقسم بينهن سواءً ، وأرجأ منهن خمساً : أمَّ حبيبة ، وميمونَة ، وسودةَ ، وصفيةَ ، وجُورَيْرِية فكان يقسِمُ لهن ما شاء .

وقال مجاهد : ترجى من تشاء منهن يعني تعزل من تشاء منهنّ بغير طلاق وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد ، وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتُمْسك من تشاء وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من تشاء من أمتك وقال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خَطب امرأة لم يكن لغيره خِطْبَتُهَا حتى يتركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل : تَقْبَلُ من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتَتْرُكُ من تشاء فلا تقبلها ، روى هشامٌ عن أبيه قال : كانت خَوْلَةٌ بنتُ حَكِيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشة : أما تستحي المرأة انت تَهَب نفسها للرجل فلما نزلت { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } قالت : يا رسول الله . ما أرى ربُّكَ إلاّ يُسارع في هَوَاكَ .
قوله : « وَمَن ابْتَغَيْتَ » يجوز في « من » وجهان :
أحدهما : أنها شرطية في محل نصب بما بعدها وقوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } جوابها ، والمعنى من طلبتها من النسوة اللاتي عزلتهن فليس عَليك في ذلك جناح .
والثاني : أن تكون مبتدأة ، والعائد محذوف وعلى هذا فيجوز في « مَنْ » أن تكون « موصولة » وأنْ تكون شرطية ، و { فلا جناح عليك } خبر ، أو جواب أي التي ابتغيها . ولا بد حينئذ من ضمير راجع إلى اسم الشرط من الجواب أي في ابتغائها وطلبها ، وقيل : في الكلام حذف معطوف تقديره : ومن ابتغيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ وممن لم تعزل سواء ، لا جناح عليك كما تقول : « مَنْ لَقِيَكَ ممَّن لَمْ يَلْقكَ جميعُهم لَكَ شَاكرٌ » يريد من لقيك ومن لم يلقك وهذا في إِلغاز .
قوله : « ذَلِكَ » أي التفويض إلى مشيئتك { أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } أي أقرب إلى قرة أعينهن ، والعامة « تَقَرَّ » مبنياً للفاعل مسنداً « لأعينهن » وابن مُحِيْصِن « » تُقرّ « من » أقر « - رباعياً - وفاعله ضمير المخاطب ( و ) » أَعْيُنُهُنَّ « رفع لقيامه مقام الفاعل وتقدم معنى » قرة العين « في مريم .

قوله : « كُلُّهن » العامة على رفعه توكيداً لفاعل « يَرْضِيْنَ » ، وأبو إياس بالنصب توكيداً لمفعول « آتَيْتَهُنَّ » .
فصل
قال المفسرونَ لا جناح عليك لا إثم عليك ، أباحَ له ترك القَسْم لهن حتى إنه ليُرجِي من يشاء في نوبتها وَيَطَأ من يشاء منهن في غير نوبتها ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلاً له على سائر الرجال { ذلك أدنى أن تقر أعينهنّ وَلاَ يَحْزَنَّ } أي ذلك التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن ، وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله عز وجل ، { وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ } أعطيتهن من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء { والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } من أمر النساء والميل إلى بعضهن { وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً } أي إن أضمرت خلاف ما أظهرت فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم وإن لم يعاقبْهن في الحال فلا يغتررن فإنه حليم لا يعجل .
قوله : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء } قرأ أبو عمرو « لا تَحِلُّ » بالتأنيث اعتباراً باللفظ والباقون بالياء لأنه جنس والمفصل أيضاً ، وقوله « مِنْ بَعْدُ » أي من ( بعد ) اللائي نصصنا لك على إحْلاَلَهِنَّ كما تقدم ، وقيل : من بعد إباحة النساء المسلمات دون الكِتَابِيَّات .
فصل
قال المفسرون : من بعد أي من بعدهن : قال ابن الخطيب : والأولى أن يقال لا تحل لك النساء من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما تؤتيهن من الوصل والهجران ، وقال ابن عباس وقتادة : من بعد هؤلاء التسعة خيرتهن فاخترنَك ، وذلك ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خيرهن فاخْترن الله ورسوله شكر الله لهن ، وحُرِّمَ عليه السناء سواهن ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن ، واختلفوا في أنه هل أبيح له النساء نم بعد ، قالت عائشة : ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل له النساء . وقال أنس : مات على التحريم ، وقال عكرمة : معنى الآية لا تحل لك النساء إلا اللاتي أحللنَا لك أزواجَك ، الآية ثم قال : لا تحل لك النساء من بعد اللاتي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها .
قول لأبي بن كعب : لو مات نساء النبي - صلى الله عيله وسلم - كان يحل له أن يتزوج ، قال : ( و ) ما يمنعه من ذلك؟ قيل : قوله عز وجل : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ } قال : إنما أحَلَّ اللَّهُ ضَرْباً من النساء فقال : { ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } قال : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ } ( و ) قال أبو صالح : أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا غريبة ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة . وقال مجاهد : معناه لا تحل لك اليَهُودِيَّاتُ بعد المسلمات { وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ } بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى يقول : لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أحلَّ له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يَتَسرى بهنَّ؛ وروي عن الضحاك معنى { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ } ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي هي في حبالك أزواجاً غيرهن بأن تطلق فتنكح غيرهن فحرم عليه طلاق النساء اللواتي كن عنده وجعلهن أمهات المؤمنين وحرمهن على غيره حين اخترنه ، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه .

وقال ابن زيد في قوله : { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } كانت العرب في الجاهيلة يتبادلونَ بأزواجهم يقول الرجل : بادِلْنِي بامرأتك وأبادِلك بأمْرأتي ، تنزل لي عن امرأتك وانزل لك عن امرأتي ، فأنزل الله - عز وجل - { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } يعني تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت ، فأما الحَرَائِرُ فلا ، روى عطاء بن يَسَارِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال : « دخل عُيَيْنَةُ بن حصن على النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير إذن وعنده عائشة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يا عيينة أين الاستئذانُ؟ قال يا رسول الله : ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت ، ثم قال : مَنْ هذه الحميراء التي جنبك؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين فقال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قد حرم ذلك فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله؟ قال : هذا أحمق مُطَاع وإنه على ما تَرَيْن لسيدُ قومه » قوله : « وَلَوْ أَعْجَبَكَ » كقوله : « أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ على فَرَسٍ » أي في كل حال ولو على هذه الحال المنافية قال الزمخشري : قوله « حسنهن » في معنى الحال .
فصل
معنى { ولو أعجبك حسنهن } أي ليس لك أن تطلق أحداً من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجبك جمالها . قال ابن عباس يعني أسماء ينت عميْس الخَثْعَمِيَّة امرأة جعفر بن أبي طالب فلما استشهد جعفر أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَخْطِبَها فنهي عن ذلك . وقال بعض المفسرين ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه ( الصلاة و ) السلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه مَوْقِعاً كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها . وهذه مسألة حكمية وهي أن النبي عليه ( الصلاة و ) السلام وسائر الأنبياء في أول النبوة يشتد عليها برحاء الوحي ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم متحدِّثون مع أصحابهم لا يمنعهم من ذلك مانع ، ففي أول الأمر أحل الله من وقع في قلبه تفريغاً لقلبه ، وتوسعاً لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله ، ثم لما استأنس بالوحي نسخ ذلك إما لقوله عليه ( الصلاة و ) السلام الجمع بين الأمرين ، وإما لأنه بدوام الإنزال لم يبق له مألوفٌ من أمور الدنيا فلم يبق له التفات إلى غير الله فلم يبق له حاجة إلى إخلاء المتزوّج بمن وقع بصره عليه .

قوله : { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ } فيه أوجه :
أحدها : أنه مستثنى من النساء فيجوز فيه وجهان : النصب على أصل الاستثناء والرفع على البدل وهو المختار ، والثالث : أنه مستثنى من « أزواج : قاله أبو البقاء ، فيجوز أن يكون في موضع نصب على أصل الاستثناء ، وأن يكون في موضع جر بدلاً مِن » هُنَّ « ( على ) اللفظ ، وأن يكون في موضع نصب بدلاً مِن » هُنَّ « على المحل ، وقال ابن عطية إن كانت ( ما ) مصدرية فهي في موضع نصب لأنه من غير الجنس وليس بجيد؛ لأنه قال بعد ذلك والتقدير : إلا ملك اليمين ، و » ملك « بمعنى مملوك انتهى . وإذا كان بمعنى مملوك صار من الجنس وإذا صار من الجنس لم يكن منقطعاً على أنه على تقدير انقطاعه لا يتحتم نصبه ، بل يجوز عند تميم الرفْعُ بدلاً والنصب على الأًل كالمتصل بشرط صحة توجه العامل إليه كما تقدم تحقيقه ، وهذا يمكن توجه العامل إليه ، ولكن اللغة المشهورة لغةُ الحِجَاز وهو لزوم النصب في المنقطع مطلقاً ، كما ذكره أبو محمد آنفاً .
فصل
قال ابن عباس ملك بعد هؤلاء مَارِيَة ، و { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } حافظاً عالماً بكل شيء قادراً عليه ، وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء ، روي عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » إِذَا خَطبَ أَحَدُكُمْ المَرْأَةَ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِها فَلْيَفْعَلْ «

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي } الآية قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينبَ حين بنى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما روى ابن شِهَابٍ قال : أخبرني أنسُ بنُ مالك أنه كان ابن عَشْرِ سنينَ فقدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة قال : فكانت ام هانىء تواظبُني على خدمةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فخدمته عَشْر سنينَ وتوفي وانا ابن عشرينَ فكنت أعلمَ الناس بشأن الحِجاب حين أنزل وكان أول ما أنزل في مْبْتَنَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بزينبَ بنتِ جحشٍ أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بها عروساً فدعا القوم وأَصابوا من الطّعام ثم خرجوا وبَقِيَ رَهْطٌ منهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطالوا المُكْثَ فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي - صلى الله عليه وسلم - فمشيت حتى جاء عتبة حُجْرَة عائشةَ ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجَع فرَجَعْتُ معهم حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا فرجَع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة فظن أنهم قد خرجوا فرَجَع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينه بالسِّتر - فأنزل الله الحجاب ، ( و ) قال أبو عثمان واسمه الجَعد عن أنس ( قال ) فدخل - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } إلى قوله : { والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق } وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناسٍ من السلمين كانوا يتحيَّنون طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيدخلون عيله قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتأذَّى بهم فنزلت الآية { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي } . وروى ابنُ شِهابٍ عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي - صلى الله عيه وسلم - كُنَّ يَخْرُجْنَ باللَّيْلِ إذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى المَنَاصِع وهو صَعِيدٌ أَفْيَحُ فكان عمر يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - احجبْ نِسَاءَكَ فلم يكن رسولُ الله يفعل فخرجت سُوْدةُ بنتُ زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلةً من الليالي عشاءً وكانت امرأة طويلة فناداها عمر : قد عرفناك يا سَوْدَةُ حرصاً على أن تنزل آيةُ الحجاب فأنزل الله الحجاب ، وعن أنس قال : قال عمر : وافَقَنِي ربي في ثلاثة ، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله :

{ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] ، وقلت يا رسول الله : إنه يدخل عليك البرُّ الفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحِجاب فأنزل الله آية الحجاب قال : بلغني ما آذين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساؤه قال : فدخلت عليهن فجعلت استقربهن واحدة واحدة قلت : والله لَتَنْتَبِهْنَ أوْ لَيُبَدِّلنَّه الله أزواجاً خَيْراً منْكُنَّ حت أتيت على زينب فقالت : يا عُمَرُ : ما كان في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعظ نساءه حتى تَعِظَهُنَّ أنت قال : فخرجت فأنزل الله : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } [ التحريم : 5 ] الآية
قوله : { إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } فيه أوجه :
أحدها : أنها في موضع نصب على الحال تقديره إِلاَّ مَصْحُوبِينَ بالإِذن .
الثاني : أنها على إسقاط باء السبب تقديره : « إلا بِسبِب الإذن لكم » كقوله « فَأَخْرَجَ بِهِ » أي بسببه .
الثالث : أنه منصوب على الظرف قال الزمشخري : { إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ } في معنى الظرف تقديره : إلا وقت أن يؤذن لكم و « غَيْرَ نَاظِرينَ » حال من « لاَ تَدْخُلُوا » وقع الاسثناء على الحال والوقت معاً كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا وَقْتَ الإذْنِ ولا تدخلوا إلاَّ غَيْرَ ناظرين إناه ، ورد أبو حيان الأول بأن النحاة نصوا على أن « أنْ » المصدرية لا تقع مَوْقِعَ الظرف ، لا يجوز : « آتِيكَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ » وإن جاز ذلك في المصدر الصريح نحو : « آتِيكَ صِيَاحَ الدِّيكَ » ، ورد الثاني بأنه لا يقع بعد « إلا » في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفته ولا يجوز فيما عَدَا هذا عند الجمهور ، وأجاز ذلك الكسائي والأخفش أجازا « مَا قَامَ القوْمُ إِلاَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ ضَاحِكِينَ » و « إلَى طَعَام » متعلق ب « يُؤْذَن » لأنه بمعنى إلاَّ أنْ يَدْعُوا إلى طعام ، وقرأ العامة غَيْرَ ناظرين - بالنصب على الحال - كا تقدم ، فعند الزمخشري ومن تابعه العامل فيه « يُؤْذَنَ » وعند غيرهم العامل فيه مقدر تقديره ادخلوا غير ناظرين ، وقرأ ابن أبي عبلة « غَيْرِ » بالجر صفة لطعام واستضعفها الناس من أجل عدم بروز الضمي لجَرَيَانه على غير مَنْ هو له فكان من حقه أن يقال : غَيْرَ ناظرين إناه أنتم ، وهذا رأي البصريين ، والكوفيونَ يجيزون ذلك إن لم يُلْبِسْ كهذه الآية ، وقد تقدمت هذه المسألة وفروعها وما قيل فيها ، وهل هذا مختص بالاسم أو يجري في الفعل خلاف مشهور قلّ من يَضْبِطُهُ .
قوله : « إِنَاهُ » قرأ العامة « إِنَاهُ » مفرداً أي نضجه ، يُقَالُ : أنَى الطَّعامُ إنّى ، نحوُ : قَلاَهُ قلّى ، أي غير منتظرين إِدْرَاكَهُ وَوَقْتَ نُضْجِه ويقال : أنَى الحميمُ إذا انتهى حُرُّهُ ، وأنَى أَنْ يَفْعَلَ كَذَا أي حان إِنَى بكسر الهمزة مقصورةً؛ وقرأ الأعمش « آناءه » جمعاً على أفْعَالٍ ، فأبدلت الهمزة الثانية ألفاً والياء همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فصار في اللفظ « كآناء » من قوله : « وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ » وإن كان المعنى مختلفاً ، قال البَغَويُّ : إذا فتحت الهمزة مَدَدْتَ فقلت : الآناء وفيه لغتان أَنَى يأْنِي ، وآنَ يَئِينُ مثل : حَانَ يَحِين .

قوله : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ } أكلتم « فَانْتَشِرُوا » تفرقوا واخرجوا من منزله .
فصل
قال ابن الخطيب قوله : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ } إِما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره « وَلاَ تَدْخُلُوا إلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ » فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فكيون معنى : ولا تدخلوا إلا أ يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى طعام فإن لم يؤنذن إلى طعام فلا يجوز الدخول فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام لا يجوز فنقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدّخول ، وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى طعام فلما تقدم في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يَتَحَيَّنُونَ حين الطعام ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن ، والأولى أن يقال المراد هو الثاني لأن التقديمَ والتأخيرَ خلافُ الأصل . وقوله : « إلى طعام » من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه لا سيما إذا علم أن غيره مثله فإن من جازَ دخول بيته بإذنه إلى طعامه ، جاز دخوله إلى غير طعامه فإن غير الطعام يمكن وجوده مع الطعام فإن من الجائز أن يتكلم معه وقت ما يدعوه إلى الطعام ويَسْتَعِينُه في حوائجه ويعلمه ممِا عنده من العلوم مع زيادة الطعام فإن رضي بالكل فرضاه بالبعض أقرب إلى العقل فيصير من باب : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [ الإسراء : 23 ] وقوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي لا تنظروا وقت الطعام فإنه ربما لا يَتَهَيَّأ .
فصل
لا يشترط في الإذن التصريح به بل إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قال : « إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ » من غير بيان فاعل فالآذن إن كان الله أو النبي أو العقل المؤيد بالدليل جاز والنقل دال عليه حيث قال : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } [ النور : 61 ] فلو جاء الرجل وعلم أنّ لا مانع في البيت من يكشف أو بحضور غير محرم أو علم خلو الدار من الأهل وهي محتاجة إلى إطفاء حريق فيها أو غير ذلك جاز الدخول وفي معنى البيت موضع مباح اختاره شخص لعبادته او اشتغاله بشغل فيأتيه أحد ويطيل المكث عنده .

قوله : { وَلاَ مُسْتَأنِسِينَ } يجوز أن يكون منصوباً عطفاً على « غَيْر » أي لا تدخلوها غَيْرَ ناظِرينَ ولا مُسْتَأْنسين والمعنى ولا طالبين الأُنسَ لِلْحَديث ، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلاً فَنُهُوا عن ذلك .
قوله : « لِحَدِيثٍ » يحتمل أن تكون لام العلة أي مستأنسين لأجل أن يحدث بعضكم بعضاً وأن تكون المقوية للعامل لأنه قرع أي ولا مستأنسين حديثَ أَهْل البَيْت أو غيرهم .
قوله : « إنَّ ذَلَكُمْ » أي إن انتظارَكم واسْئنَاسكم فأشير إِليهما إِشارة الواحد كقوله { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] أي إن المذكور .
قوله : « فيستحيي منكم » قرىء « لا يَسْتَحِي » بياء واحدة ، والأخرى محذوفة ، واختلف فيها هل هي الأولى أو الثانية وتقدم ذلك في البقرة ، وأنها رواية عن ابن كثير وهي لغة تميم يقولون اسْتَحَى يَسْتَحِي مثل : اسْتَقَى يستقي .
قوله : { والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق } أن لا يترك تأديبكم وهذا إشارة إِلى أنّ ذلك حق وأدب ، ثم ذكر أدباً آخر فقال : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أي من وراء سِتْر ، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأةٍ من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُنْتقِبة كانت أو غير مُنْتَقِبة { ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } من الريب لأن العين روزنة القلب فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب ، فأما وإن رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي ، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر وعدم الفتنة حينئذ أظهر .
قوله : { وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } نزلت في رجلٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لئن قُبِضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنكحن عائشةَ . قال مقاتل بنه سليمان : هو طلحة ابن عُبَيْد الله فأخبر اللَّه عز وجل - أن ذلك مُحَرَّم وقال : { إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } . وروى مَعْمَرٌ عن الزهري أن العالية بنتَ ظبيان التي طلق النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجت رجلاً وولدت له وذلك قبل تحريم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس .
قوله : { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ } الآية نزلت فيمن أضمر نِكَاحَ عائشةَ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل : قال رجل من الصحابة ما بالنا نمنع الدخول على بنات أعمامنا فنزلت هذه الآية ، ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأقارب ونحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فأنزل الله - عز وجل - { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ } أي لا إثم عليهنّ في ترك الاحتجاب عن هؤلاء « وَلاَ نِسَائِهِنَّ » قيل : أراد به نساء المُسْلمات حتى لا يجوز للكتبيات الدخول عليهن .

وقيل : هو عام في المسلمات والكتبيات وإنَّمَا قال : « وَلاَ نِسَائِهِنَّ » لأنهن من أجناسهن ، وقد الآباء لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر ، وكيف وهم رأوا جميع بدن البنات في حال صغرهن ثم الأبناء ثم الإخوة وذلك ظاهر ، إنما الكلام في بني الإخوة حيث قدمهم الله عليه على بنات الأخواتِ لأن بني الأخوات آباؤهم في بني الإخوة حيث قدمهم الله عليه على بنات الأخواتِ لأن بين الأخوات آباؤهم ليس المحارم خالات أبنائهم وبني الإخوة آباؤهم محارم أيضاً ، ففي بني الأخوات مفسدة ما وهي أن الابن ربما يحكي خالته عند أبيه وهو ليس بمحرم ولا كذلك بنوة الإخوة . فإن قيل : لم يذكر الله تعالى من المحارم الأعمام والأخوال ولم يقل : ولا أعمامهن ولا أخوالهن؟ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن ذلك معلوم من بني الإخوة وبني الأخوات لأن من علم أن بني الأخ للعمّات محام علم أن بنات الأخ عند آبائهم وهم غير محارم وكذلك الحال في ابن الخال .
قوله : { وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } ذكر هذا بعد الكل ، فإن المفسدة في التكشف لهم ظاهرة ، واختلفوا في عبد المرأة هل يكون محرماً لها فقيل يكون لها لقوله : { وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } ، وقيل : المراد من كان دون البلوغ .
قوله : « واتَّقِينَ » عطف على محذوف أي امْتَثِلْنَ ما أُمرْتُنِ بِهِ واتَّقِينَ اللَّهَ أن يراكنّ غير هؤلاء ، وقوله : { إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } في غاية الحسن في هذا الموضع لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم فقال إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض فخلوتكم مثل ملئكم بشهادة الله فاتقوا الله فإنه شهيد على أعمال العباد .
قوله : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } العامة على نصب « الملائكة » نَسَقاً على اسم « إن » و « يُصَلُّونَ » هل هو خبر عن « اللَّه وملائكته » أو عن « الملائكة » فقط ، وخبر الجلالة محذوف لتغاير الصلاتين خلاف . وقرأ ابن عباس وُرَويت عن أبي عمرو : وَمَلاَئِكَتُهُ رفعاً فيحتمل أنْ يكون عطفاً على محل اسم « إِنَّ » عند بعضهم ، وأن يكون مبتدأ والخبر محذوف وهو مذهب البصريين ، وقد تقدم فيه بحث نحو : زَيْدٌ ضَارِبٌ وعَمْرٌو أي ضَارِبٌ فِي الأَرْضِ .
فصل
لما أمر بالاستئذان وعدم النظر إلى نسائه احتراماً له كمل بيان حرمته وذلك أن حالاته منحصرة في حالتين حالة خلوة فذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي } وحالة بكونه في ملأ والملأ إما الملأ الأعلى وإما الملأ الأدنى أما احترامه في الملأ الأعلى فإن الله وملائكته يصلون عليه ، وأما احترامه في الملأ الأدنى فقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } .

فصل
قال ابن عباس : أراد أنّ الله يرحم النبي والملائكة يدعون له ، وعن ابن عباس أيضاً : يصلون يزكون ، قويل : الصلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار . وقال أبو العالية : صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء ، روى عبد الرحمن بنُ أَبي لَيْلَى قال : « لَقِيَنِي كعْب بن عُجْرَةَ فقال : ألا أُهْدِي لك هديّة سمعتُها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت بلى فأهدها إليَّ قال : قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم فكيف نصلي عليك؟ قال : » قولوا اللَّهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبْرَاهيم إنك حميد مجيد « وروى أبو حُمَيْد السَّاعِدِيّ » أنهم قالوا يا رسول الله : كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولوا : اللَّهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد « وروى ابن مسعود قال : » قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرهُمْ عَلَيَّ صَلاَةَ » وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : » مَنْ صَلأَّى عَلَيَّ وَاحِدةً صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْراً « ، وروى عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » أنه جاء ذات يوم والبِشْرُ في وجهه فقال : « إِنِّي جَاءَنِي جبريلُ فقال : أَمَا يُرْضِيكَ يا محمد أن لا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْراً وَلاَ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْراً » وروى عامر بن ربيعة « أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول » مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّت المَلاَئِكَةُ عَلَيْهِ مَا صَلَّى عَلَيَّ فليقلّ العَبْدُ مِنْ ذَلِكَ أوْ لِيُكْثِرُ « وروى عبد الله بن مسعود قال : » قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ لِلَّه مَلاَئِكَةً سَيَّاحِينَ في الأَرْضِ يُبَلِّغُونَ عَنْ أُمَّتِي السَّلاَمَ »
فصل
دلت الآية على وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الأمر للوجوب ولا تجب في غير التشهد فتجب في التشهد وكذلك قوله : « وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً » أمر فيجب السلام ولم يجب في غير الصلاة فيجب فيها وهو قولنا في التشهد : السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ ، وذكر في السلام المصدر للتأكيد ، ولم يُؤكد الصلاة لأنها كانت مؤكدة بقوله : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } .

فإن قيل : إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة به إلى صلاتنا؟
فالجواب : أن الصلاة عليه ليس لحاجة إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه ، وإنما هو إظهاره وتعظيمه ( كما أن الله تعالى ) وجب علينا ذكر نفسه ولا حاجة له إليه وإنما هو لإظهاره وتعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا عليه ولهذا قال عليه ( الصلاة و ) السلام : « ومن صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً »
قوله ( تعالى ) : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله } فيه أوجه أي يقولون فيه ما صورته أذى وإن كان تعالى لا يلحقه ضرر ذلك حيث وصفوه بما لا يليق بجلاله من اتخاذ الأنداد ونسبة الولد والزوجة إليه ، قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون ، قال عليه ( الصلاة و ) السلام « يقول الله تعالى : » شَتَمَنِي عَبْدِي يَقُولُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدُ وَلَم أَولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كفواً أَحَدٌ « ، وقال عليه ( الصلاة و ) السلام » قال الله تعالى : يُؤذِيني ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهرَ وأَنَا الدَّهرُ بِيدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ « ، وقيل : يؤذون الله : يلحدون في أسمائه وصفاته ، وقال عكرمة : هم أصحاب التصاوير ، روى أبو هريرة قال : » سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : « قال الله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فليخلقوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً »
ويحتمل أن يكون على حذف مضاف أي أولياء الله كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] أي أهل القرية قال عليه ( الصلاة و ) السلام : « قال الله تعالى : » مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ « وقال : » مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيَّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ « ومعنى الأذى هو مخالفة أمر الله وارتكاب معاصيه وذكره على ما يتعارفه الناس بينهم والله عز وجل منزه عن أن يلحقه أذى من أحد ، وقال بعضهم أتى بالجلالة تعظيماً ، والمراد يؤذون رسولي كقوله : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] وأما إيذاء الرسول فقال ابن عباس : هو أنه شُجَّ في وجهه وكُسِرت رُبَاعِيّتُه ، وقيل : ساحر شاعر معلم مجنون ، ثم قال : { لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة } واللعن الطرد ، وهذا إشارة إلى بعد لا رجاء للقرب معه ، لأن البعيد في الدنيا يرجو القرب في الآخرة فإذا خاب في الآخرة فقد خاب وخسر . ثم إنه تعالى لم يحصر جزاءه في الإبعاد بل أوعده بالعذاب المهين فقال : » وَأَعَدَّ لَهُمْ « وهذا يفيد التأكيد؛ لأن السيد إذا عذب عبده حالة الغضب من غير إعداد يكون دون ما أعد له قيداً وغلاًّ .
قوله : { والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا } أي من غير ما عملوا ما أوجب أذاهم ، وقال مجاهد : يقعون فيهم ويرمونهم بغير كلام ، وقيل : إن من جُلِدَ مائة على شرب الخمر أو حُدَّ أربعين على لعب النَّرْد فقد أوذي بغير ما اكتسب .

قوله : « فَقَد احْتَمَلُوا » خبر « والذين » ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط .
وقوله : { بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا } قال مقاتل : نزلت في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كانوا يؤذونه ويسمعونه وقيل : نزلت في شأن عائشة ، وقال الضحاك والكلبي : نزلت في الزّناة ( الذين ) كانوا يتشمون في طريق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة فإِن سكتت اتبعوها وإن زجرتهم انتهوا عنها ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من اَمَةِ؛ لأن زي الكل كان واحداً يخرجن في دِرْع وخمار الحرة والأمة فشكَوا ذلك إلى أزواجهن فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية : { والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات } الآية ، ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإِماء فقال - عز وجل - { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } .
فإن قيل : البهتان هو الزور ، وهو لا يكون إلا في القول ، والإيذاء قد يكون بغير القول ، فمن آذى مؤمناً بالضرب أو أخذ ماله لا يكون قد احتمل بهتاناً؟
فالجواب : أن المراد : والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بالقول لأن الله تعالى أراد أظهار شرف المؤمنين لأنه لما ذكر أن من آذى الله ورسوله لعن ، وإيذاء الله أن ينكر وجوده أو يشرك به من لا يبصر لا يسمع وذلك قول فذكر إيذاء المؤمنين بالقول وعلى هذا خص إيذاء القول بالذكر لأنه أعم؛ لأنه الإنسان لا يقدر أن يؤذي الله بما يؤلمه من ضرب أو أخذ مال ويؤذيه بالقول وكذا الغائب لا يمكن إيذاؤه بالفعل ويمكن إيذاؤه بالقول بأن يقول فيه ما يصل إليه فيتأذى ، ووجه آخر في الجواب بأن يقال : قوله بعد ذلك : وإثْماً مُبِيناً ، كأنه استدرك فكان قوله احتمل بهتاناً إن كان بالقول ، وَإِثْماً مبيناً ما كان الإيذاء .
قوله : « يُدْنِينَ » كقوله { قُل لِّعِبَادِيَ . . . الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ . . } [ إبراهيم : 31 ] و « مِنْ » للتَّبْعِيض ، و « الجَلاَبِيبُ » جمع « الجِلْبَابِ » وهو المَلاَءَةُ التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار ، قال ابن عباس و ( أبو ) عبيدة من نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههنّ بالجلابيب أقْرَبُ إلى عِرْفَانِهِنَّ أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر « فَلاَ يُؤْذَيْنَ » لا يتعرض لهن ، ويمكن أن يقال : المراد يعرفن أنهن لا يَزْنينَ لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها فيُعْرَفْنَ أنهنَّ مستوراتٌ لا يمكن طلب الزنا منهن . { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } قال أنس : مرت بعمر بن الخطاب جارية مقنَّعة فعلاها بالدرَّة ، وقال : يا لَكَاعِ أتتشبّهين بالحَرَائِرِ أَلْقِي القِنَاعَ .

قوله : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } لما ذكر حال المشركين الذي يؤذون الله ورسوله والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ذكر حال المُسِرِّ الذي لا يظهر الحق ويظهر الباطل وهو المنافق ولما كان المذكور من قبلُ أقواماً ثلاثةً نظر إلى أمورِ ثلاثة وهم المُؤْذُونَ لله والمُؤْذُونَ للرسول ، والمؤذون للمؤمنين ذكر للمسرين ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة :
أحدها : المنافق الذي يؤذي الله سرّاً .
والثاني : الذي في قلبه مرض وهو الذي يؤذي المؤمن باتباع نِسَائِهِ .
والثالث : المرجف الذي يؤذي النبي عليه ( الصلاة و ) السلام بالإرجاف بقوله : غُلِبَ محمد ، وسيخرج من المدينة وسيؤخذ ، وهؤلاء وإِنْ كانوا قوماً واحداً إلاَّ أنَّ لهم ثلاث اعتبارات وهذا لقوله تعالى : { إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } حيث ذكر أصنافاً عشرة وكلهم يوجد في واحد بالشخص لكنه كثير الاعتبار فقال : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون } أي عن نفاقهم { والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } يعني الزناة ، { والمرجفون فِي المدينة } بالكذب وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوقِعُونَ في الناس أنهم قتلوا وهزموا ويقولون قد أتاكم العدو ونحوه ، وقال الكلبي : كانوا يحبون أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا وَيفْشُو الأخبار .
قوله : « لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ » أي لنُحَرِّشَنَّكَ وَلنُسَلِّطَنَّكَ عليهم لِتُخْرِجَهُمْ من المدينة { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ } لا يساكنونك فيها أي في المدينة « إلاَّ قَلِيلاً » حتى يخرجوا منها ، وقيل : لنسلطنهم عليهم بقتلهم ونخرجهم من المدينة .
قوله : « الاَّ قَلِيلاً » أي إِلاَّ زماناً قليلاً ، أو إلا جوَاراً قليلاً ، وقيل : « قليلاً » نصب على الحال من فاعل « يجاورونك » أي إِلا أَقِلاَّءَ أَذِلاَّء بمعنى قَلِيلِينَ ، وقيل : قيلاً منصوب على الاستثناء أي لا يجاور إلا القليل منهم على أذل حال وأقله .
قوله : « مَلْعُونِينَ » حال من فاعل « يُجَاوِرُونَكَ » قاله ابن عطية ، والزمخشري وأبو البقاء ، قال ابن عطية لأنه بمعنى مُنَتَفَوْنَ منها مَلْعُونينَ ، وقال الزمخشري : دخل حرف الاستثناء على الحال والظرف معاً كما مر في قوله : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ } وتقدم بحث أبي حيان معه ، وهو عائد هنا ، وجوز الزمخشري أن ينتصب على الشَّتْم؛ وجوز ابن عطية أن يكون بدلاً من « قليلاً » على أنه حال كما تقدم تقريره ، ويجوز أن يكون « ملعونين » نعتاً ، ل « قليلاً » على أنه منصوب على الاستثناء من واو « يجاورونك » كما تقدم تقريره ، أي لا يُجَاوِرُكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَلِيلاً ملعوناً ، ويجوز أن يكون منصوباً « بأُخِذُوا » الذي هو جواب الشرط نحو : خَيْراً إِنْ تَأْتِنِي تُصِبْ ، وقد منع الزمخشري من ذلك فقال : ولا يصح أن يَنْتَصِبَ « بأخذ » لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيها قبلها ، وهذا منه مشيء على الجَارَّةِ ، وقوله ما بعد كلمة الشرط يشتمل فعل الشرط والجواب ، فأما الجواب فتقدم حكمه وأما الشرط فأجاز الكسائيّ أيضاً تقديم معموله على الأداة ، نحو : « زَيْداً إنْ تَضْرِبْ أُهِنْكَ » فتلخص في المسألة ثلاثة مذاهب المنع مطلقاً ، الجواز مطلقاً ، التفصيل يجوز تقديم معمولي الجواب ، ولا يجوز تقديم معمولي الشرط وهو رأي الفراء .

قوله : « وَقُتِّلُوا » العامة على التشديد ، وقرىء بالتخفيف . وهذه يردها مجيء المصدر على التفعيل إلا أن يقال : جاء على غير مصدره ، وقوله : « سُنَّةَ اللَّهِ » تقدم نظيرها .
قوله : « مَلْعُونينَ » مطرودين من باب الله وبابك ، وإذا خرجوا لا يَنْفَكُّونَ عن الذلة ولا يجدون ملجأً بل أينما يكونون يؤخذون ويقتلون ، وهذا ليس بِدْعاً بل هو سنة جارية وعادة مستمرة تفعل بالمكذبين { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار لا تنسخ .
قوله : { يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } لما بين حالهم في الدنيا أنهم يُلْعَنُونَ ويُهَانُونَ ويُقْتَلُونَ أراد أن يبين حالهم في الآخرة ، فذكرهم بالقيامة وما يكون لهم فيها فقال : { يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } أي إن وقت القيامة علمه عند الله لا يبين لهم فإِن الله أخفاها لحكمةٍ وهي امتناع المكلف عن الاجتراء وخوفهم منها في كل وقت .
قوله : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة } الظاهر أن « لعل » تعلق كما تعلق التمني و « قريباً » خبر كان على حذف موصوف أي شيئاً قريباً ، وقيل : التقدير : قيام الساعة فروعيت « الساعة » في تأنيث « يكون » ورُوعِيَ المضاف المحذوف في تذكير « قريباً » وقيل : « قريباً » أكثر استعماله استعمال الظرف فهو هنا ظرف في موضع الخبر . وقال ابن الخَطِيب : فَعِيلٌ يستوي فيه المذكَّر والمؤنث قال تعالى : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } [ الأعراف : 56 ] أي لعلَّ الساعةَ تكون قريبةً .
فصل
المعنى أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قياماه أي أنت لا تعرفه لعل الساعة تكون قريباً . وهذا إشارة إلى التخويف ، ثم قال : { إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً } أي كما أنهم ملعونون في الدنيا عندكم فكذلك هم يلعنون عند الله وأعد لهم سعيراً كما قال : { لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } مطيلين المكث فيها مستمرين ، وقوله « فِيهَا » أي في السعير لأنها مؤنثة ، أو لأنه في معنى « جهنم » { لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } حال ثانية ، أو من « خَالِدِينَ » لا يجدون ولياً ولا نصيراً أي لا صديق يشفع لهم ، ولا ناصر يدفع عنهم .

قوله : « يَوْمَ » معمول « لِخالدين » أو لمحذوف ، أو « لنصير » أو « لاذْكُرْ » أو لِ « يقولون » بعده ، وقرأ العامة تُقَلأَّبُ - مبنيّاً للمفعول ( و ) وُجُوهُهُمْ رفع على ما لم يسم فاعله ، وقرأ الحسن وعيسى والرؤاسي - بفتح التاء - أي تَتَقَلَّب ( و ) وُجُوهُهُمُ فاعل به ، وأبو حيوة نُقَلِّبُ بالنون أي نحن ( و ) وُجُوهَهُمْ بالنصب . وعيسى تُقَلّب - بضم التاء وكسر اللام - أي السعيرُ أو الملائكةُ وُجُوهَهُمْ بالنصب على المفعول به « يَقُولُون » حال و « يَا لَيْتَنَا » مَحْكيّ .
قوله : { تقلب وجوههم في النار } ظهراً لبطن كانا يسحبون لعيها يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولَ في الدنيا .
قوله : « سَادَتَنا » قرأ ابنُ عامر في آخرينَ بالجمع بالألف والتاء ، قال البغوي على جَمْع الجَمْع ، والباقون « سَادَتَنا » على أنه جمع تكسير غير مجموع بألف وتاء ، ثم « سادة » يجوز أن يكون جمعاً لسيّد ولكن لا ينقاص لأن « فيْعلاً » لا يجمع على « فَعَلَةٍ » وسادة فعلة ، إذ الأصل سَوَدَةٌ ، ويجوز أن يكون جمعاً لسائد نحو : فَاجِر وفَجَرَةٍ وكَافِر وكَفَرَةٍ ، وهو أقرب إلى القياس مما قبله ، وابن عامر جمع هذا ثانياً بالألف والتاء وهو غير مقيس أيضاً نحو : بُيُوتَات ، وجَمَالاَتٍ .
فصل
لما بين أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب بين أن بعض أعضائه أيضاً لا يدفع العذاب عن البعض بخلاف عذاب الدنيا فإن الإنسان يدفع عن وجهه الضربة اتِّقاءً بيده فإن من يقصد رأسه ووجهه يجعل يده جُنَّة لوجهه ووقاية له يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول في الدنيا فيندمون حيث لا تنفعهم الندامة ثم يقولون { رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا } أي أطعنا السادة بدل طاعة الله وطاعة الرسول « فأَضَلُّونَا السَّبِيلاً » . { فَأَضَلُّونَا السبيلا } قرأ عاصم « كبيراً - بالباء الموحدة - والباقون بالمثلثة وتقدم معناهما في البقرة ، والمراد بضعفين من العذاب أي ضِعْفَيْ عَذَابِ غَيْرِهِمْ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى } الآية لما بين أن من يؤذي الله ورسوله يُلعن ويعذب ، وكان ذلك إشارة إلى أن الإيذاء كفر أرشد المؤمنين إلى الامتناع من الإيذاء الذي هو دونه وهو لا يروث كفراً وهو من لم يرض بقسمة النبي عليه ( الصلاة و ) السلام وبحكمه ( بالفَيءِ لِبَعْض ) فقال : لا تكونوا كالذين آذوا موسى قال بعضهم : إيذاؤهم لموسى بنسبة عيب في بَدَنِهِ ، وقيل : إن قارون قال لامرأة : قولي إِن موسى قد وقع في فاحشةٍ والإيذاء المذكور في القرآن كاف وهو قولهم : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا } [ المائدة : 24 ] وقولهم : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ] إلى غير ذلك فقال للمؤمنين : لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول للقتال لا تقولوا اذهب أنت وربك فقاتلا وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وقوله : { فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ } على الأول ظاهر لأنه أبرز جسمه لقومه فرأوه وعلموا فساد اعتقادهم ونطقت المرأة بالحق وأمر ملائكته حتى عبروا بهارون عليهم فرأوه غير مجروح فعلموا براءة موسى - عليه الصلاة واسلام - عن ما رموه بهوعلى الثاني فبرأه الله مما قالوا أي أخرجه عن عهدة ما طلبوا بإِعطائه البعض إياهم وإظهاره عدم جواز البعض وقطع حُجَجهم ثم ضرب عليهم الذّلَّةُ والسمكنة وغضب عليهم .
قوله : « عِنْد اللَّهِ » العامة على « عند » الظرفية المجازية ، وابن مسعود والأعمش وأبو حَيْوة « عبداً » مِن العبودية « لله » جار ومجرور وهي حسنة قال ابن خالويه صَلَّيْت خلف ابن شُنْبُوذ في رمضان فسمعته يقرأ بقراءة ابن مسعود هذه قال شهاب الدين : وكان مولعاً بِنَقْل الشاذة ، ومَا في « مِمَّا قَالُوا » إمَّا مصدرية ، وإما بمعنى الذي ، « وَجِيهاً » كريماً ذَا جاهٍ ، يقال وَجُهَ الرَّجُلُ يَوْجهُ وَجَاهَة فَهُوَ وَجيهٌ إذا كَانَ ذَا جَاهٍ وقَدْرٍ . قال ابن عباس : كان خَظِيّاً عند الله لا يَسْأَلُ شيئاً إلاّ أعطاه وقال الحسن : اكن مستجاب الدعوة ، وقيل : كان محبباً مقبولاً ، واختلفوا فيما أُوذِيَ به موسى فروى أبُو هُرَيْرَةَ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنّ موسى كان رجلاً حَيِياً سَتْراً لا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ استحياء منه فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ من بني إسرائيل فقال : ما يستتر هذا التَّسَتُّر إلا من عيب بجلده إما بَرَص ، وإما أدرة ، وإمّا آفةٍ ، وإن اللَّهَ أراد أن يُبْرِئَهُ مما قالوا فخلا يوماً وحده فخلع فوضَع يثابَهُ على حجر ثم اغْتَسَلَ فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر إدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحَجَر فجعل يقولُ ثوبي حَجَرٌ ، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عُرْيَاناً أحْسَنَ ما خلق الله وَأَبْرَأَةُ مِمَّا يَقُولُونَ وقام الحجر فأخذ ثوبه واستتر وطفق بالحجر يضربه بعصاه فواللَّه إن بالحجر لنَدْباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خَمْساً

وقيل : لما مات هارون في التيه ادَّعوا على موسى أنه قتله فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله ولم يروا ببدنه جرحاً ، وقال أبو العالية : إن قارون استأجر امرأة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه الله وبرأ موسى وأهْلَكَ قَارُون ، ورَوَى أبُو وَائلٍ قال : سمعت عبد الله قال : « قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - قَسْماً فقال رجل إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال » يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى أَوذِيَ بأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ «
قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } . قال ابن عباس : صواباً ، وقال قتادة عدلاً ، وقال الحسن : صِدْقاً ، وقيل : مستقيماً ، وقال عكرمة : هو قول لا إله إلا الله { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } ، قال ابن عباس : يتقبل حسناتكم ، وقال مقاتل : يزكي أعمالكم { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } ؛ لأن النجاة من العذاب تعظيم بعظم العذاب فإن من أراد أن يضرب عبده سوطاً ثم نجا منه لا يقال : فاز فوزاً عظيماً ، ويحتمل أنه أراد بالفوز العظيم الثواب الكبير الدائم الأبديّ .
قوله : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال } وهذا إما حقيقة وإما تمثيل وتخييل . وأراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضَيَّعُوهَا عذبهم ، قاله ابن عباس . وقال ابن مسعود : الأمانة أداءُ الصَّلَوَاتِ وإيتاءُ الزكاة وصَوْمُ رَمَضَانَ وحَجُّ البيت وصدقُ الحديث وقضاءُ الدِّيْنِ والعدلُ في المِكيال والميزانِ وأشدُّ من هذا كلَّه الودائعُ . وقال مجاهد : الأمانة الفرائض وحدود الدين . وقال أبو العالية : ما أُمِرُوا به ونهوا عنه ، وقال زيد بن أسلم : هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال : هذه أمانة اسْتَوْدَعْتُكَها فالفرج أمانة والأذنُ أمانة والعينُ أمانة واليدُ أمانة والرِّجْلُ أمانة ولا إيمان لمن لا أمانة لَهُ ، وقيل : هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق كل مؤمن أن لا يغشَّ مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليلٍ ولا كثير . وهذه رواية الضَّحاك عن ابن عباس وجماعة من التابعين ، وأكثر السلف أن الله عرض هذه الأمانة على السمواتِ والأرض والجبال فقال لهن : أَتَحْمِلْنَ هذِه الأَمَانَةَ بما فيها؟ قُلْنَ : وما فيها؟ قال : إن أَحْسَنْتُنَّ جُوزيتُنَّ وإنْ عَصَيْتُنَّ عُوقِبْتُنَّ فقلن : لا يا رب نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً وقُلْنَ ذَلِكَ خَوْفاً وخشية وتعظيماً لله خوفاً أن لا يقوم بها لا معصية ومخالفة وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو الزمهن لم يمتَنِعْنَ من حملها والجمادات فيها خاشعة لله - عز وجل - ساجدة له كما قال تعالى للسموات والأرض .

{ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] وقال في الحجارة : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله } [ البقرة : 74 ] ، وقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب . . . } [ الحج : 18 ] الآية . وقال بعضهم : ركَّب الله ( عز وجل ) فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلْنَ الخطاب وأجبن بما أجبن . وقيل : المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات عرضها على من فيها من الملائكة وقيل : المراد المقابلة أي قابلنا الأمانة مع السموات فرجحت الأمانةُ وهي الدين والأول أصح ، وهو قول أكثر العلماء .
قوله : « فأبين » أتى بضمير هذه كضمير الإناث لأن جمع التكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك وإن كان مذكراً وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث - وهو السموات - على المذكر وهو البجال . واعلم أنه لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى : { أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } [ الحجر : 31 ] ؛ لأن السجود هناك كان فرضاً وههنا الأمانة كانت عرضاً والإباء هناك كان استكباراً وههنا استصغاراً لقوله تعالى : « وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا » أي خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب « وحَمَلَهَا الإِنْسَانُ » يعني آدم عليه السلام فقال يا آدم : إني عرضت الأمانة على أهل السموات والأرض والجبال فلم تُطِقْهَا فهل أنت آخذها بما فيها؟ فقال يا رب : وما فيها؟ قال : إن أحْسَنْتَ جُوزيت وإنْ أَسَأْتَ عوقبتَ فتحملها آدم عليه السلام . فقال الله تعالى أما إذْ تحمّلتها فسأعنيك أجْعَلُ لبصرك حجاباً فإذا خشيت فاغلق وأجْعَلُ لفرجك ستراً فإذا خشيت فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدارَ ما بين الظهر إلى العصر { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } قال ابن عباس : ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر الله وما احتمل من الأمنانة وقال مقاتل : ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة ما تحمل . وذكر الزجاج وغيره نم أهل المعاني في قوله : « وَحَمَلَهَا الإنْسَان » قولاً ، فقالوا : إن الله ائْتَمَنَ آدم وأولاده على شيء وائتمن أهل السماوات والأرض والجبال على شيء فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا من الطاعة والقيام بالفرائض والأمانة في حق السموات والأرض هي الخضوع والطاعة لما خلقهم له ، { فَأَبَيْنَ أنْ يحملنها } أي أدين الأمانة يقال فلان لم يتحمل الأمانة أي يخون فيها « وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ » أي خان فيها ، ويقال : فلان حمل الأمانة أي أثم فيها بالخيانة قال تعالى :

{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } [ العنكبوت : 13 ] ، { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } حكي عن الحسن على هذا التأويل أنه قال : « وحملها الإنسان » يعني الكافر والمنافق حمل الأمانة أي خان ، والأول قول السلف .
قوله : « لِيُعَذِّبَ » متعلق بقوله : « وحَمَلَهَا » فقيل : هي لام الصيرورة لأنه لم يحملها لذلك ، وقيل : لام العلة على المجاز لما كانت نتيجة حمله ذلك جعلت كالعلة الباعثة .
فصل
قال مقاتل : { لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } بما خانوا الأمانة ونقضوا الميثاق . ثم قال : { وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات } ، قرأ الأعمش برفع « ويتوب » على الاسئناف أي يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة ، وقال ابن قتيبة عرضنا الأمانة ليظهر نفاقُ المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه أي يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في الطاعات ، وعطف المشرك على المنافق ولم يُعِدْ اسمه تعالى فلم يقل : « ويُعَذِّبَ اللَّهُ المُشْرِكين » وعند التوبة أعاد اسمه وقال : { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } ولو قال : يتوب على المؤمنين والمؤمنات كان المعنى حاصلاً ولكنه أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف ويجب هناك ذكر الفاعل فقال « ويتوب الله » ثم قال : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } لما ذكر في الإنسان وصفين الظلوم والجهول ذكر من أوصافه وصفين فقال : { وكان الله غفوراً رحيماً } أي كان غفوراً للظالم رحيماً على الجهول .
روى الثَّعْلَبِيُّ عن أبي أُمَامَةَ عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَحْزَاب وَعَلَّمَهَا أَهْلَهُ وَمَا مَلَكَتْ يمِينُه أُعْطِيَ الأَمَانَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ »

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

قوله تعالى : { الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات } اعلم أن السور المفتوحة بالحمد خمسٌ ، سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في النصف الأخير وهما هذه سورة الملائكة ، والخامسة وهي سورة فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأخير . والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمةِ الإيجاد ونعمة الإبقاء فإن الله خلقنا أولاً برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه خلقنا مرةً أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا مرةً أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ » إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ، ويدل عليه قوله تعالى : « الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِين » فأشار إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَالَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلُ لَهُ عِوَاجاً قِيَماً لِيُنْذِرَ » فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع يُنْقاد له لا تّبع كُلُّ واحدٍ هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والتّفاني وقال ههنا : « الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَهُ مَا هِي السَّمَواتِ والأرْضِ » إشارة إلى نعمةِ الإيجاد الثاني دليل قوله : { وَلَهُ الحمد فِي الآخرة } [ سبأ : 1 ] وقال في الملائكة : { الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض } [ فاطر : 1 ] إشارة إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى : { جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً } اي : يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كما قال تعالى : { وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة } [ الأنبياء : 103 ] وقال تعالى عنهم : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذلك نعمتين أشار بقوله : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] إلى النعمة العاجلة ، وأشار بقوله : « مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ » إلى النعمة الآجلة ، فرتب الافتتاح والاختتام عليهما .
فإن قيل : قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في يالآخرة فلماذا ذكر الله السموات والأرض؟
فالجواب : أن نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض ثم قال : « وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ » لتنقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها .
قوله : « الَّذِي لَهُ » يجوز فيه أن يكون تابعاً وأن يكون مقطوعاً نصباً ورفعاً على المحد فيهما و « مَا فِي السَّمَاواتِ » يجوز أن يكون فاعلاً به وهو الأحسن وأن يكون متبدأ .
قوله : « فِي الآخِرَةِ » يجوز أن يتعلق بنفس الحَمْدِ ، وأن يتعللق بما تعلق به خبره ( وَهُو الحَكِيمُ ) يجوز أن يكون معترضاً إذا أعربنا « يَعْلَمُ » حالاً مؤكدة من ضمير الباري تعالى ، ويجوز أن يكون « يَعْلَمُ » مستأنفاً ، وأن يكون حالاً من الضمير في « الخَبِير » .

فصل
له ما في السموات وما في الأرض مِلْكاً وخَلْقاً وله الحمد في الآخرة كما و له في الدنيا؛ لأن النعم في الدين كلها منه وقيل : احمد في الاخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [ فاطر : 34 ] و { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] وهو الحكيم الخبير فالحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمراً ولا يأتي بما يناسب علمه لا يقال له حكيم ، والفاعل الذي فعله على وفق العلم وهو الحكيم ، والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها ، فقوله حكيم أي في ابتداء الخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ما يصدر من المخلوق وما لا يصدر فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء ثم بيّن كمال خيره بقوله : { يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرض } أي ما يدخل فيهما من الماء والأموات وما يخرج منها من النبات والأموات إذا حشروا .
قوله : « وَمَا يَنْزِلُ » العامة على « يَنْزِلُ » مفتوح اياء مخفف الزاي مسندٌ إلى ضمير « مَا » وعَليُّ- رضي الله عنه - والسُّلَميُّ بضمها وتشدشد الزاي أي الله تعالى . والمراد الأمطار والملائكة والقرآن . « وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا » من الكلام الطيب لقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] والملائكة والأعمال الصالحة لقوله : { والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] وقدم : { مَا يَلْجُ فِي الأرض } على : { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء } ؛ لأن الحبة تُبْذَرُ أولاص ثم تسقي ثانيا . وقال : { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } ولم يقل : « مَا يَعْرُج إليها » إشارة إلى بقول الأعمال الصالحة لأن كلمة : « إلَى » للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفم الوقوف عند السموات فقلك وما يعرد فيها ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه ثم قال : { وَهُوَ الرحيم الغفور } رحيم عند الإنزلا حيث ينزل الرزق من المساء غفور عندما يعرج إليه الأرواح والأعيان والأعمال . ثم بين أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد هي نعمة الآخرة أنكرها قَوْمٌ فقال : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة } قوله : « بَلَى » جواب لقولهم : « لاَ تَأتينَا » وما بعدها قسمٌ على ذلك . وقرأ العامة : لتأتِيَنَّكُمْ بالتأنيث ، وقرا ( طَلْقٌ ) بالياء فقيل : ( أي ) البعث . وقيل : على معنى الساعة أي اليوم . قال الزمخشري وره أبو حيان بأنه ضرورة كقوله :
4101- ... وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا
وليس مثله ، وقيل : ( أي ) الله بمعنى أمره . ويجوز على قياس هذا الوجه أن يكون : « عالم » فاعلاً لِتَأتِيَنَّكُمْ في قراءة مَنْ رفعه .
قوله : « عَالِمُ » قرأ الأخَوانِ : عَلاَّم على صيغة المبالغة وخفضه نعتاً ل « ربِّي » او بدلاً منه .

وهو قليل؛ لكونه مشتقاً . ونافعُ وابْنُ عَامرٍ عالمٌ بالرفع على هُوَ عالم ، او على أنه مبتدأ وخبره « لاَ يَعْزُبُ » أو على أن خبره مضمر أي : هو ذكره الحَوفيّ . وفيه بعد ، والباقون عالم بالخفض على ما تقدم وإذا جعل نعتاً فلا بدّ من تقدير تعريفه . وقد تقدم أن كل صفة يجوز أن تتعرف بالإضافة إلى الصفة المشبهة ، وتقدمت قراءتا « يَعْزُب » في يُونُسِ .
فصل
اعمل أن الله تعالى ردَّ على مُنْكِري الساعة فقال : { قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } فأخر بإيتيانها وأكدها باليمين .
فإن قيل : إنهم يقولون لا ريب أو إن كانوا يقولون به لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين فأجاب عن هذا بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله : { لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } . وبيان كونه دليلاً هو أن المسيء قد يبقى في الدنيا مدة مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في الدنيا في الآلام الشديدة ويموت فيها فلولا دار تكون للجزاء لكان الأمر على خلاف الحكمة .
قوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح ، فالأجسام أجزاءها في الأرض والأرواح في السماء فقوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات } إشارة إلى علمه بالأرواح ، وقوله : { وَلاَ فِي الأرض } إشارة إلى عمله بالأجسم فإذا علم الروح والأجسام قدر على جمعها فلا اسبعاد في الإعادة .
قوله : « وَلاَ أَصْغَرُ » العامة على رفع « أصْغَر وأَكْبَر » وفيه وجهان :
أحدهما : الابتداء ، والخبر قوله « إلاَّ فِي كِتَابٍ » .
والثاني : النَّسَق على « مِثْقَالِ » وعلى هذا فيكون : « إلاَّ فِي كِتَابٍ » تأكيداً للنفي في : « لاَ يَعْزُبُ » كأنه قال لكنه في كتاب مبين وقرأ قتادة والأعمش ورويت عن أبي عمرو ونافع أيضاً بفتح الراءين . وفيها وجهان :
أحدهما : أنها « لا » التبرئة وبني اسمها معها ، والخبر قوله : « إلاَّ فِي كِتَابٍ » .
والثاني : النسق على « ذَرَّةٍ » وتقدم في يونس أن حمزة قرأ بفتح رَاءِ « أَصْغَر » وأَكْبَر « وهنا وافق على الرفع وتقدم البحث هناك .
قال الزمخشري : فإن قلتَ : هَلاَّ جَازَ عطفُ : » وَلاَ أصْغَر « على » مِثْقَالِ « وعطف » وَلاَ أَكْبَر « على ذرة؟
قُلْتُ : يأبي ذلك حرف الاستثناء إلاا إذا جعلت الغيب اسماً للخفيات قبل أن تكتب في اللوح المحفوظ لأنها إثبات في اللوح نوع من البُرُوزِ عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يُزَال عنه إلا مسطوراً في اللوح .

قال أبو حيان : ولاَ يُحْتَاج إلى هذا التأويلٍ إذ جعلنا الكتاب ليس اللوح المحفوظ ، وقرأ زيد بن علي بخفض راء أصغر وأكبر وهي مشكلة جداً ، وخرجت على أنهما في نية الإضافة ، إذ الأصل : « ولا اصغره ولا أكبره » وما لا ينصرف إذا أضيف انجر في موضع الجر ثم حذف المضاف إليه ونوي معناه فترك المضاف بحاله وله نظائر كقولهم :
4102- بَيْنَ ذِرَاعِيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ ... 4103- يَا تَيْمَ تَيْم عَدِيِّ ... على خلاف . وقد يفرق بأن هناك ما يدل على المحذفو لفظاً بخلافِ هنا .
وقد ردّ بعضهم هذا التخريج لوجود « من » ؛ لأنَّ « أفعل » متى أضيف لم يجامع « مِنْ » وأجيب عن ذلك بوجهين :
أحدهما : أن ( مِنْ ) ليست متعقة « بأفعل » بل محذوف على سبيل البيان؛ لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم المضاف فبين « بمن » ومجروها أي أعني من ذلك .
والثاني : أنه مع تقديره للمضاف إليه نوي طرحه ، فلذلك أتى « بِمن » ويدل على ذلك أنه قد ورد التصريح بالإضافة مع وجود « من » قال الشاعر :
4101- نَحْنُ بِغَرْسِ الوَدِيِّ أعْلَمُنَا ... مِنَّا بِرَكْضِ الجِيادِ في السُّدَفِ
وخرج على هذين الوجهين إلى التعليق بمحذوف وإما نية طرح المضاف إليه وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين « أل » ومن في أفعل كقوله :
4105- ولَسْتُ بالأكْثَرِ مِنْهُمْ حَصَى .. . .
وهذه توجيهات شذوذ ويكفي فيها مثل ذلك .
فصل
قوله : { وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ } إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب .
فإن قيل : فأيُّ حاجة إلى ذلك الأكبر وإنَّ من علم الأصغر من الذرة لا بدّ وأن يعلم الأكبر؟
فالجواب : لما كان الله تعالى أراد بينان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهمٌ أنه يثبت الصغائر لكونها محل النّسيان وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال الإثبات في الكبائر ليس كذلك فإن الأكبر فيه أيضاً مكتوب ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جميع ذلك وإثباته للجزاء فقال : { لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } .
قوله : « لِيَجْزِيَ » فيه أوجه :
أحدهما : أنه متعلق ( بلا ) وقال أبو البقاء و ( يعزب ) بمعنى لا يعزب أي يُحْصِي ذلك ليجزي . وهو حس أو بقوله : « ليأتِيَنًّكُمْ » أو بالعامل في قوله : « إلاَّ فِي كَتَابٍ » اي إلا استقر ذلك « في كتاب مبين » لِيَجْزِيَ .
فصل
اعمل أنه تعالى ذكر منهم أمرين الإيمانَ والعملَ الصالح وذكر لهم أمرين المغفرةَ والرِّزْقَ الكريمة فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مفغور له لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 116 ] وقوله عليه ( الصلاة و ) السلام :

« يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إله إلاَّ اللَّهَ ومَنْ ( في ) قَلْبِهِ وزنُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمانٍ » .
والرزق الكريم مرتب على العمل الصالح وهذا مناسب فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه من العمل لا بدّ وأن ينعم عليه . وتقدم وصف الرزق بالكريم أنه بمعنى ذَا كرم أو مُكْرِم أو لأنه من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يُطْلَبْ ويتسبب إليه لا يأتي .
فإن قيل : ما الحكمة في تَمييزِهِ الرزق بوصفه بأنّه كريمٌ ولم يضف المغفرة؟
فالجواب : لأنَّ المغفرة واحدة وهي للمؤمنين وأما الرزق فمنه شجرة الزَّقّوم والحَميم ومن الفواكهُ والشَّرَاب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانْقِسَام فيها .
فصل
قوله : { أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك لهم جزاء فيوصله إليه لقوله : « ليَجْزِي الَّذِينَ آمَنُو » .
وثانيهما : أن يكون ذلك لهم واللَّهُ يجزيهم بشيء آخر لأن قوله : « أُلَئكَ لَهُمْ » جُملة ( تامة اسمية ، وقوله تعالى : « لِيَجْزيَ الَّذِينَ آمَنُوا » جملة ) فعلية مستقلة وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل : لِيَجْزِيَ الَّذين آمنوا وعملوا الصالحات رزقاً « .
فصل
اللام في » ليجزي « ومعناه الآخرة للجزاء .
فإن قيل : فما وجه المناسبة؟
فالجواب : أن الله تعالى أرد أن لا يقطع ثوابه فجعل للمكلف داراً باقيةً تكون ثوابه واصلاً إليه فيها دائماً أبداً وجعل قبلها داراً فيه الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلق مقدار ما يكون فيه في الآخرة إذا نسبه إلى ما قبله .
قوله : » والِّذِين سَعَوْا « يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مبتدأ و » أولئك « ( و ) ما بعده خبره .
والثاني : أنه عطف على الذي قبله أي ويجزي الذين سعوا ويكون » أُلَئِكَ « الذي بعده مستأنفاً و » أُلَئِكَ « الذي قبله وما في خبره معترضاً بين المُتَعَاطِفَيْن .
قوله : { والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي في إبطال أَدِلَّتِنَا مُعَاجِزِينَ يحسبون أنهم يَفُوتُونَنَا وقد تقدم في الحج قراءتا معاجزين . وعلم أنه تعالى لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين والمراد بهم الذين كذبوا بآياتنا وقوله : » مُعَاجِزِينَ « أي سَعَوا في إبْطَالِهَا لأن المكذّب آتٍ بإخفاء آياتِ بيناتٍ فيحتاج إلى السعي العظيم والجدّ البليغ ليروّج كَذِبَهُ لعله يُعْجز المتمسك به .
قوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } قرأ ابنُ كثير وحفصٌ هنا وفي الجاثية ألِيمٌ بالرفع والباقون بالخفض . فالرفع على أنه نعت » لعَذَابِ « والخفض على أنه نعت » لرجزٍ « إلا أن مَكِّيَّا ضعف قراءة الرفع واستبعدها قال : لأن الرّجز هو العذاب فيصير التقدير عذاب أليم من عذاب وهذا المعنى غير ممكن قال : والاختيار خَفْضُ » أليم « لأنه أصحّ في التقدير والمعنى إذ تقديره لهم عذابٌ من عذابٍ أليم أي هذا الصِّنف من أصناف العذاب ، لأن العاب بعضه آلم من بعض وأجيب : بأن الرجز مطلق العذاب فكأنه قيل : لهم هذا الصنف من العذاب من جنس العذاب ، وكأن أبا البقاء لَحَظَ هذا حيث قال : وبالرفع صفة لعذاب ، والرِّجْز مطلق العذاب .

فصل
قال قتادة : الرجز أسوأ العذاب فيكون « مِنْ » لبَيَان الجِنْس كقولك : خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ . قال ابن الخطيب : قال هناك : لَهُمْ رِزْقٌ كَريمٌ ولم يقدر بمن التبغيضية فلم يقل : لهم نصيبٌ من رزقٍ ، ولا رزق من جنس كريم ، وقال ههنا « لهم عذابٌ مِنء رجزٍ أليم » بلفظة صالحة للتبعيض ، وذلك إشارة إلى سَعَةِ الرحمة وقله الغضب وقال هناك : « لَهُمْ مغَفْرَةٌ » ثم قال : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 4 ] وههنا لم يقل إلا : « لَهُمْ عَذَابٌ » فزادهم هناك الرزق الكريم ، وههنا لم يزدهم على العذاب وفيما قاله نظر ، لقوله تعالى في موضع آخر : { زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب } [ النحل : 88 ] .
قوله : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم } فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على « لِيَجْزِيَ » قال الزمخشري : أي وليعلم الذين أوتوا العلم عند مجيء الساعة . وإنما قيده بقوله عند مجيء الساعة لأنه علق : « ليجزي » بقوله : « لَتَأتِيَنَّكُمْ » فبنى هذا عليه وهو من احسن ترتيبز
والثاني : أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك « و الَّذِي أُنْزِلَ » هو المفعول الأول وهُو فَصْلٌ و « الْحَقَّ » مفعول ثانٍ ، لأن الرؤية عِلْميَّة وقرا ابنُ أَبي عَبْلَةَ الْحَقُّ بالرفع على أن خبر « هُوَ » والجملة في موضع المفعول الثاني وهي لغة تميم يجلعون ما هو فل مبتدأ وخبر و « مِنْ رَبِّك » حال على القراءتين .
فصل
لما لين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سَعْيَه باطل فإن من أُوتِيَ علماً لا يعتبر تكذيبه وهو يعلم أن ما أنزل إلى محمد عليه ( الصلاة و ) السلام حق وصدق وقوله : هُوَ الحَقّ يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك وأم قول المكذب فباطل بخلاف ما إذا تنازع خَصْمَان والنزاع لفظي فيكون قوله كل واحد حقاً في المعنى ، قال المفسرون : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم } يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سَلام وأصْحَابه { الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق } يعني القرآن هو الحق يعني أنه من عند الله .
قوله : { ويهدي } فيه أوجه :
أحدها : أنه مستأنف وفي فاعل احتمالان : أظهرهما : أنَّه ضمير « الَّذِي » وهو القرآن والثاني : ضمير الله تعالى ويتعلق هذا بقوله : { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } إذ لو كان كذلك لقيل : إلى صِراطِهِ ويجاب بأنه من الالتفات ومن إبراز المضمير ظاهراً تنبيهاً على وصفه بهاتين الصِّفَتَيْنِ .

الوجه الثاني : أنه معطوف على موضع « الحق » و « ان » معه مضمرة تقديره هو الحق والهداية .
الثالث : أنه عطف على « الحق » عَطْفَ فعل على اسم لأنه في تأويله كقوله تعالى : { صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] أي : وقَابِضَاتٍ كما عطف الاسم على الفعل بمعناه كقوله :
4106- فَألْفْيْتُهُ يَوْمًا يُبِيرُ عَدُوَّهُ ... وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَخِفُّ المَعابِرَا
كأنه قيل : وليروه الحق وهادياً .
الرابع : أن « ويهدي » حال من « الَّذِي أُنْزِلَ » ولا بدّ من إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كقوله :
4107- . ... نَجَوْتُ وَأرَهْنُهُمْ مَالِكاً
وهو قليل جداً ، ثم قال : { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة والرغبة فالعزيز يفيد التخويف والانقام من المكذب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ } لما بين حالة المكذب بالساعة ورد عليه بقوله : { قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ سبأ : 3 ] ثم بين ما يكون بعد إتيانها من جزاء المؤمن على عمله الصالح وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب على السيئات وبين حال الكافر والمؤمن بعد قوله عليه ( الصلاة و ) السلام- « بَلَى وَرَبِّي لَتَأتِيَنَّكُمْ » فقلا المؤمن الذي أنزل إليك من ربك الحق وهو يهدي وقال الكافر المنكر للبعث متعجباً : { هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ } يخبركم يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم - وهذا كقول القائل في الاستبعاد : جاء رجل يقول : إنَّ الشمسَ تَطْلُعُ من المَغْرِب؛ إلى غير ذلك من المحاولات .
فصل
إذَا مُزِّقْتُم « إذا » منصوب بمقدر أي تُبْعَثُون وتُحْشَرُون وَقْتَ تمزيقكم لدلالة : { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } عليه ولا يجوز أن يكون العامل « يُنَبِّئُكُمْ » لأن التنْبِيئَة « لأن التنْبِئَة لم تقع ذلك الوقت ولا » خَلْقٍ جَدِيدٍ « لأن ما بعد » إنَّ « لا يعمل فيما قبلها . ومن توسع في الظرف أجازه هذا إذا جعلنا » إذَا « ظَرفاً محضاً ، فغن جعلناه شرطاً كان جوابها مقدراً أي تبعثون وهو العامل في » إذَا « عند جمهور النحاة . وجوَّز الزجاج أن تكون معمولة لمُزِّقتُهْم ، وجعله ابن عطية خطأ وإفساداً للمعنى ، قال أبو حيان : وليس بخطأٍ ولا إفساد .
وقد اختلف في العامل في » إذا « الشرطية ، والصحيح أن العامل فيها فعلُ الشرط كأخواتها من أسماء الشرط وقال شهاب الدين : والجمهور على خلافِهِ ثم قال أبو حيان : والجملة الشرطية تحتمل أن تكون معمولة » لِيُنَبِّئُكُمْ « لأن في معنى : يقول لكم إذا مزقتم تُبْعَثُونَ ، ثم أكد ذلك بوقوله : { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ويحتمل أن يكون : { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ } معلقاً » لِيُنَبِّئُكُمْ « سادًّا مسد المفعولين ولوللا اللام لفتحت » أن « وعلى هذا فحملة الشرط اعتراض ، وقد مَنَعَ قوم التلعيقَ في » اعلم « وبابها والصحيح جوازه ، قال :
4108- حَذَارِ فَقَدْ نُبِّئْتَ إنَّكَ لَلَّذِي ... سَتُجْزَى بِمَا تَسْعَى فَتَسْعَد أو تَشْقَى
وقرأ زيْدُ بْنُ عليِّ بإبدال الهمزة ياء ، وعنه يُنْبِئُكُمْ مِنْ » أَنْبَأَ « كأكْرَمَ و » مُمَزَّق « فيه وجهان :
أحدهما : أنه اسم » مصدر « وهو قياس كلّ ما زاد على الثلاث أن يجئ مصدره وزمانه ومكانه على زنة اسم مفعوله أي كُلَّ تَمْزِيقِ .
والثاني : أنه ظرف مكان ، قاله الزمخشري ، أي كل تمزيق من القبور وبطون الوحش والطير ، ومن مجئ مُفَعَّل مجيء التَّفْعِيل قوله :
4109- ألَمْ تَعْلَمِي مُسَرِّحِي القَوافي ... فَلاَ عيَّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتلاَبَا
أي تسريحي ، والتمزيق التخريق والتقطيع ، يقال ثَوبٌ مُمَزَّقٌ ومَمْزَّقٌ ويقال : مزَّقَهُ فهو مَازِقٌ ومَزِقٌ أيضاً قال :

4110- أتَانِي أَنَّهُمْ مَزِقُونَ عِرْضِي .. . . .
وقال الممزق العبدي- وبه سمي المُمَزَّقُ- :
4111- فَإن كُنْتُ مَأكُولاً فَكُنْ خَيْرَ آكِلِ ... وَإلاَّ فَأدْرِكْنِي وَلَمَّا أُمَزَّقِ
أي ولما أبْلَى وأَفْنَى ، و « جَدِيد » عند البصريين بمعنى فاعل يقال : جَدَّ الشَّيْءُ فَهُوَ جَادّ وجَدِيدٌ وعند الكوفيين بمعنى مَفْعُول من جَدَدْتُهُ أي قَطَعْتُهُ .
فصل
المعنى أن الكفار قالوا لقومهم متعجبين : إن محمداً يقول : إنكم إذا مِتَّمْ ومزقتم كل تمزيق وصرتم تراباً إنكم لفي خلق جديد أي تخلقون خلقاً جديداً .
( قوله ) « أَفْتَرى » هذه همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل فلذلك ثبتت همزة الهمزة وصلاً وابتداء . قال البغوي : هذه ألف استفهام دخلت على ألف الوَصْل فلذلك نُصِبَ « عَلَى اللَّهِ كَذِباً » وبهذه الآية استدل الجَاحِظُ على أن الكلام ثلاثة أقسام صِدق وكَذِب ولا صدق ولا كذب ووجه الدلالة عنه على القسم .
الثالث : أن قوله « بِهِ » جُنَّةٌ « لا جائز أن يكون كذباً لأنه قسيم الكذب وقسيم الشيء غيره ولا جائز أن يكون صدقاً لأنهم لم يعتقدوه فثبت قسم ثالث . وأجيب عنه بأنَّ المعنى : أَمْ لَمْ يَفْتَر ، ولكن عبر عن هذا بقولهم : » أَمْ بِهِ جِنَّةٌ « ؛ لأن المجنون لا افتراء له والظاهر في » أم « هذه أنها متصلة لأنها تقدر بأيِّ الشَّيْئَين ويجاب بأحدهما لأنه قيل : أي الشيئين واقع افتراؤه الكذب أم كونه مجنوناً ولا يضر كونها بعدها جملة لأن الجملة بتأويل المفرد كقوله :
4112- لاَ أُبَالِي أَنَبَّ بالحَزْن تَيْسٌ ... أَمْ جَفَانِي بظَهْرِ غَيْب اللَّئِيمِ
ومثل قوله الآخر :
4113- لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنْ كُنْتُ دَارِياً ... شُعَيْثُ بْنُ سَهْم أمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقِرِ
لأن » منقر « خبر لا نعت كذا أنشده بعضهم مستشهداً على أنها جملة وفيه حذف التنوين بما قبل » ابن « وليس بصفة ، وهذا إشارة إلى البحث المتقدم في سوة التوبة .
فصل
قوله : { أفترى عَلَى الله كَذِباً } يحتمل أن يكون من تمام قول الكافر أولاً اي من كلام القائلين : » هَلْ نَدُلُّكُمْ « ويحتمل أن يكون من كلام الامع المجيب للقائل : » هَلْ نَدُلّكُمْ « كأن السامع لما قيل له : هل ندلكم على رجل قال له وهو يفتري على الله كذباً إن كان يعتقد خلافه » أَوْ بِهِ جُنَّةٌ « مجنون؟ إن كان لا يعتقد خلاف ، وفي هذا لطيفة وهي أن الكافر لاَ يَرْضَى بأن يظهر كذبه ولهذا قسم ولم يجزم بأنه مفترٍ بل قال مفتر أو مجنون احترازاً من أن يقول قائل : كَيْفَ يقول بأنه مفترٍ مع أنه جاز أن يظن أن الحق ذلك ، وظن الصدق ينع تسمية القائل مفترياً وكاذباً في بعض المواضع إلا ترى أن من يقول : جَاءَ زيد فإذا تبين أنه لم يجئ وقيل له : لم كذبتَ؟ يقول : ما كذبتُ وإنما سمعت من فلانٍ فظننت أنه صادق فيدفع الكذب عن نفسه بالظن فهم احترزوا عن تبيين كذبهم فكل عاقل بنبغي أن يحترز عن ظهور مرة أخرى رداً عليهم فقال : { بَلِ الذين . . .

. فِي العذاب } في مقابلة قولهم : { أفترى عَلَى الله كَذِباً } .
وقوله : « فِي الضِّلال البَعِيد » عن الحق في الدنيا ، وهذا في مقابلة قولهم : « بِهِ جِنَّة » وكلاهما مناسب اما العذاب فلأن نسبة المكذب إلى الصادق مؤذٍ ، لأنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوا العذاب إلى البرئ وأما المجنون فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه إلى عدم الهداية فبين أنَّهُم هم الضالون ، ثم وصل ضلالهم بالبعد لأن من يسمي المهتديَ ضَالاً يكون أضلّ ، والنبي عليه ( الصلاة و ) السلام ( كان ) هادي كل مهتد .
قوله : « أفَلَمْ » فيه الرأيان المشهوران ، قدّره الزمخشري أَعَمَوْا فَلَمْ يَرَوْا ، وغيره يدِّعِي أن الهمزة مقدم على حرف العطف .
قوله : « مِنَ السَّمَاءِ » بيان للموصول ، فيتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون حالاً فيتعلق به أيضاً قيل : ( و ) ثمَّ حال محذوفة تقديره : أفَلَمْ يَرَوْا إلَى كَذَا مَقْهُوراً تَحْتَ قُدْرَتِنَا ، أو مُحِيطاً بِهِمْ فَيَعْلَمُوا أنَّهُمْ حَيْثُ كَانُوا فإنَّ أرضي وسمائي محيطةٌ بهم لا يخرجون من أقطارها وأنا القادرُ عليهم .
قوله : « إنْ نَشَأ » قرأ الأخَوانِ يَشَا يَخْسِفْ يُسْقِطْ بالياء في الثلاثة ، والباقون بنون العظمة فيها ، وهم واضِحَتَان ، وأدغم الكسائي قال الفارسي : وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا يدغم فيها وإن كان الباء يدغم فيها نحو : اضْرِب فُلاَناً كما تدغم الباء في الميم كقولك : اضْرِب مالكاً وإن كانت الميم لا تدغم في الباء نحو : اضْمُمْ بكراً؛ لأن الباء انحطت عن الميم يفقد الغُنَّةِ ، وقلا الزمخشري : وليست بالقوية ، وهذا لا ينبغي لأنها تواترت .
فصل
لما ذكر الدليل بكونه عالم الغيب وكونه جازياً على السِّيئات والحسنات ذكر دليلاً آخر فيه التهديد والتوحيد فأما دليل التوحيد فذكره السماء والأرض فإنهما يدلان على الوحدانية كما تقدم مراراً ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة بقوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى } [ يس : 81 ] وأما التهديد فقوله : { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء } أي نجعل عين نافعهم ضارهم بالحق والكشف ثم قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ } أي : فيما يرون من السماء والأرض آية تدل على قدرتنا على البعث { لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيب } تائب راجع الله بقلبه . ثم إنه تعالى لما ذكر من ينيب من عباده ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم دَاوُد كما قال تعالى عنه : { فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ ص : 24 ] .

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } فقوله : « مِنَّا » إشارة إلى بيان فضل داود لأن قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ منّا فضلاً } مستقبل بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتَى الملك زيداً خلعةً ، فإذا قال القائل : آتاه منه خلعَةً يفيد أنه كان من خاصِّ ما يكون له فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ، ونطيره قوله تعالى : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ } [ التوبة : 21 ] فإنَّ رحمه الله واسعةٌ تصلُ إلى كل أحد لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمه من عنده لخواصِّه ، والمراد بالفضل النبوة والكتاب ، وقيل : الملك ، وقيل : جمعي ما أوتِيَ من حُسْن الصوت وتَلْيِين الحديد وغير ذلك مما خُصَّ به .
قوله : « يَا جِبَالُ » محكيّ بقول مضمر ، ثم إن شئت قدرته مصدراً ويكون بدلاً من « فضلاً » على جهة تفسيره به كأنه قيل : آتيناهُ فضلاً قولَنَا يَا جبالُ ، وإن شئت جعلته مستأنفاً .
قوله : « أَوِّبي » العامة على فتح الهمزة ، وتشديد الواو ، أمراً من التَّأويب وهو التَّرجيع ، وقيل : التسبيح بلغة الحَبَشَة ، وقال القُتَيْبيُّ : أصله من التأويل في السير وهو أن يسير النهار كله ، وينزل ليلاً كأنه قال : أدْأَبِي النَّهار كُلَّهُ بالتسبيح معه ، وقال وهب : نوحي معه ، وقيل : سيري معه ، وقيل : سيري معه ، والتضعيف يُحتمل أن يكون للتكثير ، واختار أبو حيان أن يكون للتعدي قال : لأنهم فَسَّروه برجع مع التسبيح ، ولا دليل فيه لأنه دليل معنى .
وقرأ ابنُ عباس والحَسَنُ وقتادةُ وابنُ أبي إسحاق : أُوبِي بضم الهمزة أمراً من آبَ يَؤُوبُ أي ارجع معه بالتسبيح .
قوله : « والطير » العامة على نصبه وفيه أوجه :
أحدهما : أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً .
الثاني : أنه مفعول معه قاله الزجاج . ورد عليه بأنه قبله لفظ « معه » ولا يقتضي العامل أكثرَ من مفعول معه واحد إلا بالبدل أو العطف لا يقال : جَاءَ زَيْدٌ مَعَ بَكْرٍ مَعَ عَمْروٍ قال شهاب الدين : وخلافهم في تَقَصِّيه حالين يقتضي مجيئه هنا .
الثالث : أنه عطف على « فضلاً » ، ولا بدّ من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتَسْبِيح الطير .
الرابع : أنه منصوب بإضمار فعل أي سَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ . قاله أبو عمرو ، وقرأ السُّلَميُّ والأعرجُ ويعقوبُ وأبو نوفل وأبو يَحْيَى وعاصمٌ - في رواية - والطَّيْرُ بالرفع ، وفيه أوجه : النسق على لفظ « الجبال » وأنشد :
4114- أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا ... فَقَدْ جَوزتُمَا خَمَرَ الطَّرِيق
بالوجهين ، وفي عطفِ المفرف بأل على المنادى المضموم ثلاثة مذاهب ، الثاني : عطفه على الضمير المستكن في « أَوِّبِي » وجاز ذلك ، للفصل بالظرف ، والثالث : الرفع على الابتداء والخبر مضمير أي والطيرُ كذلك أي مؤوبةٌ .

فصل
لم يكن الموافقون له في التأويب منحصراً في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجُمُود والطير للنفور وكلاهما مستبعد منه الموافقة ، فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشَدّ قسوة .
قال المفسرون كان داود إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصَدَاها وعكفت الطير على من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال فسبح اله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح . وقيل : كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له .
قوله : « وَأَلَنَّا » عطف على « آتَيْتَا » وهو من جملة الفَضْل ، قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يعطف على « قلنا » في قوله { ياجبال أَوِّبِي . وَأَلَنَّا } .
فصل
ألان الله تعالى له الحديد حتى كان في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مِطْرَقَةٍ وذلك في قدرت الله يسير ، روي أنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان الله له الحديدَ وعلمه صنعة اللَّبُوس وهي الدرع وأنه أول من اتخذها . وإنما اختار الله له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وتحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل ، فالزَّرَّاد خيرمن القوَّاس والسَّيَّاف وغيرهما؛ لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح رُبَّمَا يستعمل في قتل النفس المحرمة ، بخلاف الدَّرع قال عليه ( الصلاة و ) السلام : « كَانَ دَاوُدُ لاَ يَأكُلُ إلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ » .
قوله : { أَنِ اعمل } فيه وجهان :
أظهرهما : أنها مصدرية على حذف الجر أي لأَنْ .
والثاني : قاله الحَوْفيُّ وغيره إنها مفسرة لقوله : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ } ورد هذا بأن شرطها تقدم بما هو بمعنى القول ولم يتقدم إلا « أَلَنَّا » ، واعتذر بعضهُم عن هذا بأن قَدَّر ما هو بمعنى القول أي وأَمَرْنَاهُ أَنْ اعْمَلْ . ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، وقرئ : « صَابِغَاتٍ » لأجل الغين وتقديم تقديره في لقمان عند « وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ » .
فصل
معنى « سابغات » أي كوامل واسعات طوالاً تسحب في الأرض . وذكر الصفة ويعلم منها الموصوف .
قوله : { وَقَدِّرْ فِي السرد } والسرد : نسيج الدُّرُوع يقال لصانعه : السَّرَّاد « الزَّرَّاد .
والمعنى قدر المسامير في حلق الدروع أي لا تجعل المسامير غلاظاً فتكسر الحَلَق ولا دقاقاً فتُغَلْغِل فيها . ويقال السرد المسمار في الحَلَقة ، يقال : درع مسْرُودَة أي مَسْمُورَة الحَلَق . قودر في السَّرد أي اجعله على القصدِ وقدْرِ الحاجة ، ويحتمل أ ، يقال السَّرد هو عمل الزرد .
وقوله : { وَقَدِّرْ فِي السرد } أي إنكم غيرمأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب ( إنما ) يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب .

ويدل عليه قوله تعالى : { واعملوا صَالِحاً } أي لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه ولاكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يريد بهذا والكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يريد بهذا داود وآله ، ثم لما ذكر المنيب الواحد منيباً آخر وهو سليمانُ كقوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ ص : 34 ] ذكر ما ساتفاد من الإنابة وهو قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح } العامة على النصب بإضمار فعل ، أي سَخَّرنَا لِسُلَيْمانَ ، وأبو بكر بالرفع على الابتداء ، والخبر في الجار قبله أو محذوف ، وجوز أبو البقاء أن يكون فاعلاً يعني بالجار ، وليس بقويّ لعدم اعتماده وكان قد وافقه في الأنبياء غيره ، وقرأ العامة الرِّيحَ بالإفراد . والحَسَنُ وأبو حَيْوَةَ ، وخالدُ بْنُ إلْيَاسَ الرِّيَاح جمعاً . وتقدم في الأنبياء أن الحسن يقرأ مع ذلك بالنصب وهنا لم ينقل له ذلك .
فإن قيلَ : الواو في قوله : « وَلِسُلَيْمَانَ » للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفاً للجملة الاسمية على فعلية وهو لا يجوز أوْ لاَ يَحْسُنُ؟
فالجواب : أنه لما بين حال داود فكأنه قال : لما ذكر لداود ولسليمان الريح وإما على النصب على قوله : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } ( كأنه قال وألنا لداودَ الحديدَ ) وسخرنا لسليمان الريح .
قوله : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } مبتدأ وخبر ولا بد من حذف مضاف أي غُدُوُّهَا مَسِيرةُ شَهرٍ أو مقدارُ غُدُوِّهَا شَهْرٌ ، ولو نصب لجاز ، إلا أنه لم يُقْرأ بها فيما علمنا ، وقرأ ابن أبي عبلة غَدْوَتُهَا ورحتُها على المرّة ، والجملة إما مستأنفة ، وإما في محلِّ حالٍ .
فصل
المعنى غُدُوُّ تلك الريح المستمرة له مسيرةُ شهر ، وسير رواحها شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرةَ شهرين . قال الحسن : كان يَغْدُو من دمشقَ فيقيل بإصطخر _وبينهما مسية شهر ، ثم يَرُوحُ من إصطخر فيبيت بكَابُل ) وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل : كان يتغذى بالرِّيِّ ويتعشى بسمرقَنْدَ .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في الجبال معَ داوُودَ الجِبَالَ وفي الأنبياء وفي هذه السورة فقال : يا جبال أوبي معه وقال في الريح هناك وههنا : لسليمان باللام؟
فالجواب : أن الجبال لما سبَّحت شَرفت بذكر الله فلم يُضِيفْها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب والريح لم يذكر تسبيحها فجعلها كالمملوكة لَهُ .
قوله : { مَنْ يَعْمَلُ } أي أذبْنَا له عين النُّحاس . والقِطْرُ : النحاسُ قال المفسرون : أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليها كجَرْي المياه . وكان بأرضِ اليمن .
وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليْمَانَ .
قوله : { } يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره في الجار قبله أي مِنَ الجِنِِّ مَنْ يَعْمَلُ وأن يكون في موضع نصب بفعل مقدر أي وسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَعْمَلُ و « مِنَ الجِنِّ » يتعلق بهذا المقدر ، أو بمحذوف على أنه حال أو بيان ، و « بإذن » حال أي مُيسّراً بإذن ربه ، والإذن مصدر مضاف لفاعله ، وقرئ : « وَمَنْ يَزُغْ » بضم الياء من أَزَاغَ ومفعوله محذوف أي يَزُغْ نَفْسَهُ ، أي يُمِيلُها و « مِنْ عَذَابٍ » لا بتداء الغاية أو للتبعيض .

فصل
قال ابن عباس : سخر الله الجنَّ لسليمانَ وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به ، ومن يزُغ يعدل منهم من الجن عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليان نُذِقْه مِنْ عَذَابِ السَّعير في الآخرة ، وقيل : في الدنيا وذلك أن الله وكل بهم ملكاً بيده سَوْطٌ من نارٍ فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربةً أحْرَقَتْهُ .
قوله : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ } مفسر لقوله : « مَنْ يَعَمَلُ » و « مِنْ مَحَارِيبَ » بيان ل « مَا يَشَاءُ » والمراد بالمحاريب : المساجد والأبنية المرتفعة ، وكان مما عملوا له بيت المقدس ، ابتدأه داود ورَفَعَهُ قامةَ رجُل فأوحى إليه أني لم أقضِ ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمُه سليمانُ أقضي تمامه على يده ، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس فمجمع الجن والشياطين وقسَّم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له فأرسل الجن والشياطين في تحصل الرُّخَام والمِيهَا الأبيْضَ من معادِنه وأمر ببناء المدينة بالرُّخام والصّفاح وجعلها اثْنَيْ عَشَرَ رَبَضاً وأنزل على كل ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثنى عشر سبطاً ، فلما فرغ من بناء المدينة ، ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فِرَقاً فِرَقاً يستخرجون الذهبَ والفضةَ والياقوتَ من معادنها والدرِّ الصِّافِيَ من البحر وفرقاً يقلعون الجواهرَ من الحجارة من أماكنها وفرقاً يأتونه بالمِسْكِ والعَنْبَر وسائر الطّيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يُحصيه إلا الله عزّ وجلّ . ثم أحضر الصُّنَّاع وأمرهم بنحتِ تلك الحجارة المرتفة وتصييرها ألواحاً وإصاحاً تلك الجواهر وثَقَّبَ الياقوتَ واللآلئَ فبنى المسجد بالرُّخَام الأبيض والأصفر والأخضر وعمَّده بأساطين المِيهَا الصَّافي وسقَّفه بألواح الجَوَاهر الثمينة وفَصَّصَ سُقُوفَه وحِيطَانِهُ باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفَيْرُوزَج فلم يكن يومئذ في الأرض بين أبهرُ ولا أنورُ من ذلك المسجد كان يضيء في الظلمة كالقَمر ليلةَ البدر ، فلما فرغ منه جمع أحْبَار بين إسرائيل وأعلمهم أنه بناه لله وأن كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً ، روى عبدُ الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ مِنْ بِنَاء بَيْتِ المَقْدِس سَأَلَ رَبَّهُ ثَلاثَا فَأَعْطَاه اثْنَتَين وَأنَا أرْجُو أنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ الثُّالثَةَ سَألَ حُكْماً يُصَادِفُ حُكْمَهُ فأعطاه إياه ، وَسَأَلَهُ مُلْكاً لاَ يَنْبغَي لأَحدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ ، وَسَأَلَهُ أنْ لاَ يَأتِيَ هذَا البَيْتَ أحَدٌ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَا أَرْجُوا أنْ يَكُون قَد أَعْطَاهُ ذَلِكَ »

قَالُوا : فَلَمْ يَزَلْ بَيْتُ المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بخنتصَّر فخرَّب المدينة وهَدَمَها ونقَضَ المَسْجِد وأخذ ما كان في سقوفه وحِيطَانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار مملكته من أرض العراق وبنى الشيطان لسليمان باليمن حصوناً كثيرة وعجيبة من الصخر .
قوله : { وَتَماثِيلَ } وهي النقوش التي تكون في الأبنية . وقيل : صور من نُحَاس وصفر وشَبَهٍ وزُجَاج ورُخَام . قيل : كانوا يُصَوِّرون السِّباع والطيور . وقيل : كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزداودوا عبادة ولعلها كانت مباحة في شريعتهم كما أن عيسى كان يتخذ صُوراً من طينٍ فينفخ فيها فيكون طيراً .
قوله : { وَجِفَانٍ كالجواب } الجِفَانُ القِصَاعُ ، وقرأ ابن كثير بإثبات ياء « الجَوَابِ » وصلاً ووقفاً وأبو عمرو وورشٌ بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً . والباقون بحذفها في الحالين و « كَالْجَوَابِ » صفة « لِجفَانٍ » والجِفَانُ جمع جَفْنَة ، والجَوَابِي جمعُ جَابيةٍ كَضاربة وضَوَارب والجابية الحَوْض العظيمُ سميت بذلك لأنه يُجْبي إليها الماءُ ، أي يجمع وإسناد الفعل إليها مجاز لأنه يُجْبَى فيها كما قيل : خَابِيَة ، لما يُخبَّأُ فيها قال الشاعر :
4115- بِجِفَانٍ تَعْتَرِي نَادِيَنَا ... مِنْ سَدِيفٍ حِينَ هَاجَ الصِّنَّبِرْ
كَالْجَوابِي لاَ تَنِي مُتْرَعَةً ... لِقِرَى الأضْيَافِ أوْ لِلمُحْتَضرْ
وقال الأعشى :
4116- نَفَى الذَّمَّ عَنْ آلِ المُحَلِّقِ جَفْنَةٌ ... كَجَابِيةِ الشَّيْخِ العِرَاقيِّ تَفْهَقُ
وقال الأفوه :
4117- وَقُدُورِ كَالرُّبَا رَاسِيَة ... وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِي مُتْرَعَه
قيل : كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها .
فصل
وقُدُورٍ راسِيَات ثابتات لها قوائم لا يحرِّكْنَ عن أماكنها ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد إلهيا بالسلاليم وكانت باليمن .
قوله : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } في « شكراً » أوجه :
أحدهما : أنه مفعول به أي اعملُوا الطَّاعَةَ سميت الصلاة ونحوها شكراً لسدِّها مَسَدَّهُ .
الثاني : أنه مصدر من معنى « اعْمَلُوا » كأنه قي : اشْكُرُوا شكراً بعَمَلِكُمْ أو اعملوا عَمَلَ شُكْر .
الثالث : أنه مفعول من أجله أي لأجل الشكر كقولك : جِئْتَكَ طَمَعاً ، وعبدت الله رجاء غُفْرَانه .
الرابع : أنه مصدر موقع الحال أي شَاكِرينَ .
الخامس : أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره واشْكُرُوا شُكْراً .
السَّادس : أنه صفة لمصدر اعملوا تقديره اعلمُوا عملاً شكراً أي ذَا شُكْرٍ قال المفسرون : معناه اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكراً له على نعمة ، والعم أن كما قال عقيب قوله ( تعالى ) { َنِ اعمل سَابِغَاتٍ } { واعملوا صَالِحاً } قال عقيبَ ما تعمله الجن له اعملا آل داود شكراً إشارة إلى ما تقدم من أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستفرقةً في هذه الأشياء ، وإنما يجب الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شُكْراً .

قوله : « وَقَلِيلٌ » خبر مقدم « ومِنْ عِبَادي » صفة له ، « والشَّكُورُ » مبتدأ المعنى أن العامل بطاعتي شكراً لنعمتي قليلٌ . قيل : المراد من آل داود هو داود نفسه ، وقيل : داود وسليمان وأهل بيته .
فصل
قال جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمان : سمعت ثابتاً يقول : كان داود نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائمٌ يُصَلِّي .
قوله : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت } أي على سليمان ، قال أهل العلم : كان سليمان- عليه السلام- يتحرز ببيت المقدس السَّنَّة والسَّنَتَيْنِ والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشاربه فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نَبَتَتْ في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها ما اسمك؟ فتقول اسمي كذا فيقول : لأن شيء أنت؟ فتقول : لكذا وكذا فيأمرها فتقطع فَإنْ كَانَتْ تنبت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتبه حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت؟ قال الخرّوبة قال : لأي شيء نَبَتْت؟ قالت : لخراب مَسْجِدِك فقال سليمان : ما كان الله ليجزيه وأنا حي أنت الذي على وَجْهِك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال : اللَّهُمَّ عَمَّ على الجنِّ موتى حتى يعمل الناس أن الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعملمون من العيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بني يديه وخلفه فكانت الجن تعمل تلك الأعمال فيحسبونه حياً فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته فمكثوا يأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأَرَضَةُ عَصَا سُلَيْمَان فخرَّ ميتاً فعلموا بموته ، قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله : { مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ } « تَأكل منسأته » أي عصاه .
قوله : « تَأكُلُ » إما حال ، أو مستأنفة وقرأ ابن ذَكْوَان منسأْتَهُ - بهمزة ساكنة ونافع وأبو عمرو بألف محضفة ، والباقون بهمزة مفتوحة ، والمِنْسَأةُ اسم آلة من نَسأَهُ أي أخَّرَهُ كالمكسحة والمِكْنَسة من نسأتُ الغنم أي زجرتها وستقتها ، ومنه : نَسَأَ اللَّهُ في أجَلِهِ أي أَخَّره وفيها الهمزة وهو لغة تميم وأنشد :
4118- أَمِنَ أَجْل حَبْلٍ لاَ أَبَاكَ ضَرَبْتَهُ ... بمِنْسَأَةٍ قَدْ جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلاَ
( والألف ) وهو لغة الحجاز وأنشد :
4119- إذَا دَبَبْتَ عَلَى المِنْسَأةِ مِن كِبَرٍ ... فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ
فأما بالهمزة المفتوحة فهي الأصل لأن الاشتقاق يشهد له والفتح لأجل بناء مِفْعَلَةٍ كمِكَنَسَةٍ وأما سكونها ففيه وجهان :

أحدهما : أنه أبدل الهمزة ألفاً كما أبدلها نافع وأبو عمرو وسيأتي ، ثم أبدل هذه الألف همزة على لغة من يقول العَأَلَمُ والخَأتَمُ وقوله :
4120- .. وخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَألَمِ
ذكره ابن مالك قال شهاب الدين وهذا لا أدري ما حمله عليه كيف نعتقد أنه هرب من شيء ثم يعود إليه وأيضاً فإنهم نصُّوا على أنه إذا أبدل من الألف همزة فإن ان لتلك الألف أصل حركت هذه الهمزة بحركة أصل الألف .
وأنشد ابن عصفور على ذلك :
4121- وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً .. . .
قال : الأصل زَوْزاةٌ وأصل هذا : زَوْزَوَةٌ ، فلما أبدل من الألف همزة حركها بحركة الواو ، إذا عرف هذا فكان ينبغي أن تبدل هذه الألف همزة مفتوحة لأنها عن أصل متحرك وهو الهمزة المتفوحة فتعود إلى الأول وهذا لايقال .
الثاني : أنه سكن الفتحة تخفيفاً والفتحة قد سكنت في مواضع تقدم التنبيه عليها وشواهدها ، ويحسنه هنا أن الهَمْزَة تشبه حروف العلة ، وحرف العلة يستثقل عليه الحركة من حيث الجملة وإن كان لا تستثقل الفتحة لخفتها ، وأنشدوا على تسكين همزتها :
4122- صَرِيعُ خَمْرٍ قَامَ مِنْ وَكْأتِهِ ... كَقوْمَةِ الشَّيْخِ إلَى مِنْسأتِهِ
وقد طعن قوم على القراءة ونسبوا راويها إلى الغلط قالوا : لأن قياس تخفيفها إنما هو تَسْهيلُها بَيْنَ بَيْنَ وبه قرأ ابنُ عامر وصاحباهُ فظن الراوي أنهم سكنوا وضعفها أيضاً بأنه يلزم سكون ما قبل تاء التأنيث وما قبلها واجب الفتح إلا الألف وأما قراءة الإبدال فقيل : هي غير قياسية يعنون أنها ليست على قياس تخفيفها إلا أن هذا مردود بأنها لغة الحجاز ثابتة فلا يلتفت لمن طعن ، وقد قال أبو عمرو وكفى به : أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقاً ، فإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت وإن كانت تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز ، وهذا الذي ذكره أبو عمرو أحسن ما يقال في هذا ونظائره . وقرئ مَنْسَأتَه بفتح الميم مع تحيق الهمز ، وإبدالها ألفاً وحذفها تخفيفاً وقرئ مِنْسَاءَتِهِ نزنة منعالته كقولهم : مِيضَأةٌ ومِيضَاءَةٌ ولكها لُغات ، وقرأ ابن جبير من ساته فَصَل « مِنْ » وجعلها حرف جر وجعل « ساته » مجرورة بها والسَّاةُ والسِّيَةُ هنا العَصَا وأصلها يَدُ القَوْس العليا والسفلى يقال : سَاةُ القَوْسِ مثلُ شَاةٍ وسِئَتُها فسمِّيت العصا بذلك على وجه الاستعا ة والمعنى تأكل من طرف عصاه . ووجه بذلك- كما جاء في التفسير - أنه اتَّكأ على عصا خضراء من خروب والعصا الخضراء متى اتُّكِيءَ عليها تصير كالقَوْس في الاعْوِجاج غالباً . و « سَأَة » فَعَلَة نحو قحَة وقحة والمحذوف لامهما وقال ابن جني : سمي العصا منسأة لأنها تسوء وهي فَلَة والعين محذوفة قال شهاب الدين : وهذا يقتضي أن تكون القراءة بهمزة ساكنة والمنقول أن هذه القراءة بألف صريحة ولأبي الفتح أن يقول أصلها الهمزة ولكن أُبْدِلَتْ .

قوله : « دَابَّةُ الأرض » فيه وجهان :
أظهرهما : أن الأرض هذه المعروفة والمراد بدابة الأرض الأَرَضة دُوَيبَّة تأكل الخَشَب .
والثاني : أن الأرض مصدر لقولك أَرَضَيتِ الدابَّة الخَشَبَة تَأرِضُهَا أَرْضاً أي أكلتها فكأنه قيل : دابة الأكل يقال : أرَضَت الدَّابَّةُ الخَشَبَة تَأرُضُها أَرْضاً فأرِضَتْ بالكسر تَأْرَضُ هي بالفتح أيضاً وأكَلت الفَوَازجُ الأسْنَانَ تَأكُلُها أكْلاً فَأَكِلَتْ هي بالكسر تَأكَلُ أكَلاً بالفتح .
ونحوه أيضاً : جِدِعَتْ أَنْفُهُ جَدَعاً فجُدِعَ هو جَدَعاً بفتح عين المصدر ، وقرأ ابن عباس والعباس بن الفضل بفتح الراء وهي مقوية المصدرية في القرءاة المشهورة وقيل : الأَرَضُ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أرَضَةٍ وهذا يكون من باب إضافة العام إلى الخاص لأن الدابة أعم من الأرضة وغيرها من الدوّابِّ .
قوله : { فَلَمَّا خَرَّ } أي سقط الظاهر أن فاعله ضمير سليمان عليه - الصلاة و ) السلام ، وقيل : عائد على الباب لأن الدابة أكلته فوقع وقيل : بل أكلت عبتة الباب وهي الخارّة وينبغي أن لا يصحَّ؛ إذ كان التركيب خرَّتْ بتاء التأنيث و : أبْقَلَ إبْقَالَها ضرورة ، أو نادر تأويلها بمعنى العَوْد أندر منه .
قوله : { تَبَيَّنَتِ } العامة على نيابته للفاعل مسنداً للجنِّ وفيه تأويلاتٌ .
أحدهما : أنه على حذ مضاف تقديره تَبَيَّنَ أمْرُ الجِنِّ أي ظَهَرَ وبَانَ و « تَبَيَّنَ » يأتي بمعنى « بَانَ » لازماً كقوله :
4123- تَبَيَّنَ لِي أَنَّ القَمَاءَةَ ذِلَّةٌ ... وأَنَّ أَعِزَّاء الرِّجَالِ طِيَالُهَا
فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وكان مما يجوز تأنيث فعله ألحقت علامة التأنيث ( به ) .
وقوله « { أَن لَّوْ كَانُواْ } بتأويل المصدر مرفوعاً بدلاً من الجنِّ والمعنى ظهر كونُهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظَهَرَ جَهْلُهُمْ .
الثاني : أن تبين بمعنى بان وظهر أيضاً والجنِّ والمعنى ظهر كونُهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظَهَرَ جَهْلُهُمْ .
الثاني : أن تبين بمعنى بان وظهر أيضاً والجنّ فاعل . ولا حاجة إلى حذف مضاف و » أَنْ لَوْ كَانُوا « بدل كما تقدم والمعنى ظهر الجن جهلهم للناس لأنهم كانوا يوهمون الناس بذلك كقولك : بَانَ زَيْدٌ جَهْلُهُ .
الثالث : أن تَبَيَّنَ هنا متعدِّ بمعنى أدْرَكَ وعَلم وحينئذ يكون المراد » بِالجِنِّ « ضَعَفَتُهُمْ وبالضمير في » كانوا « كبارُهم ومَرَدَتُهُمْ و » أنْ لَّوْ كَانُوا « مفعول به ، وذلك أن المردة ( و ) الرؤساء من الجن كانوا يوهمون ضعفاءهم أنهم يعلمون الغيب فلما خَرَّ سليمانُ مَيْتاً كما ادعوا ما مَكَثُوا في العذاب ، ومن مجيء » تَبَيَّنَ متعدياً بمعنى أدْرَكَ قوله :
4124- أفَاطِم إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيِّنِي ... وَلاَ تَجْزَعِي كُلُّ الأَنَامِ يَمُوتُ
وفي كتاب أبي جَعْفَر ما يقتضي أن بعضم قرأ : « الجنَّ » بالنصب وهي واضحة أي تبينت الإنسُ الجِنَّ ، و « أن لو كانوا » بدل أيضاً من « الجن » ، قال البغوي : قرا ابنُ مسعود وابنُ عباس تبينت الإنس أن لو كان الجنُّ يَعْلَمُونَ الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي علمت الإنسُ وأيقنت ذلك وقرأ ابنُ عباس ويعقوب تُبُيِّنَتِ الجِنُّ على البناء للمفعول وهي مؤيدة لما نقله النَّحَّاس وفي الآية قراءاتٌ كثيرةٌ أضْرَبْتُ علها لمخالفتها الشواذ وأن « في » أن لو « الظاهر أنها مصدرية مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و » لو « فاصلة بينهما وبين خبرها الفعليّ وتقدم تحقيق ذَلك كقوله :

{ وَأَلَّوِ استقاموا } [ الجن : 16 ] و { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ } [ الأعراف : 100 ] وقال ابن عطية : وذهب سيبويه إلى أَنَّ « أَنْ » لا موضع لها من الإعراب إنما هي مؤذنة بجواب ما يَنْزِلُ مَنْزِلَة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحلّ مَحَلّ القسم فما لبثوا جواب القسم لا جواب « لو » وعلى الأقولا الأُول يكون جوابها . قال شهاب الدين : وظاهر هذا أنها زائدة لأنهم نصوا على اطِّرَادِ زيادتها قبل لو في حَيِّز القَسَم .
وللناس خلاف هل الجواب لِلَوء أو للقسم . والذي يقتضيه القياس أن يجاب أسبقهما كما في اجتماعه مع الشرط الصريح ما لم يتقدمهما ذُو خَبَر كما تقدم بيانه .
وتقدم الكلام والقراءات في سبأ في سورة النمل .
فصل
المعنى أن سليمان لما سقط ميتاً تَبَيَّنَت الجِنُّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي التَّعَب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب لغلة الجهل عليهم وذكر الزُّهْريُّ أن معنى تَبَيَّنّت الجِنُّ أي ظهرت وانكشفت الجن للإنس أي ظهر لهم أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وابن عباس المتقدمة ، وقوله : { مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين } يدل على أن المؤمنين من الجنِّ لم يكونوا في التسخير ، لأن المؤمن لا يكون في زمان النَّبِيِّ في العذاب المهين .
فصل
رُوِيَ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسينَ سنة ومدة ملكه أربعونَ سنة ومَلَكَ يَوْمَ مَلَكَ وهو ابن ثلاثَ عَشْرَة سَنَةً وابتدأ في بناء بين المقدس لأربع سنين مضين من ملكه .

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

( قوله ) تعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَة } قرأ حمزة وحفص مَسْكَنِهِمْ بفتح الكاف مفرداً ، والكسائي كذلك إلا أنه كسر الكاف والباقون مَسَاكِنِهِمْ جمعاً فأما الإفراد فلعدم اللبس لأن المراد الجمع كقوله :
4125- كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا .. .
والفتح هو القياس لأن الفعل متى ضمت عين مضارعة أو فتحت جاء المفعل منه زماناً أو مكاناً أو مصدراً بالفتح والكسر مسموع على غير قياس ، وقال أبو الحسن : كسر الكاف لغة فاشيةٌ وهي لغة الناس اليوم والكسر لغة الحجاز وهي قليلة وقال الفراء : هي لغة يمانية فَصِيحةٌ .
و « مسكنهم » يحتمل أن يراد به المكان ، وأن يراد به المصدر أي السُّكْنَى ، ورجح بعضهم الثاني ، قال : لأن المصدر يشمل الكل ، فليس فيه وَضْعُ مفرد مَوْضع جمع بخلاف الأول فإن فيه وَضْعَ المفرد مَوْضِعَ الجمع ، كما تقرر ، لكن سيبويه يأباه إلاَّ ضَرُورةً كقوله :
4126- . . ... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جلدُ الجَوَامِيس
أي جلود ، وأما الجمع فهو الظاهر لأن كل واحد مسكن ، ورسم في المصاحف دون ألف بعد الكاف فلذلك احتمل القراءات المذكورة .
فصل
لما بين حال الشاكرين لِنِعَمِهِ بذكر داود وسليمان وبيَّن حال الكافرين بأنْعُمهِ ، بحكاية أهل « سبأ » وقرئ سَبَأ بالفتح على أنه اسم بُقْعَة ، وبالجر مع التنوين على أنه اسم قبيلة ، وهو الأظهر لأن الله جعل الآية لسبأ والظاهر هو العاقل لا المكان فلا يحتاج إلى إضمار الأهل ، وقوله « آية » أي من فضل ربهم دلالةً على وحدانيتنا وقدرتنا وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن واسم سَبَأ عبد شمس بن يشجُب بن يَعْرُب بن قَحْطَان وسمي ( سبأ ) لأنه ول من سبأ من العرب .
قال السُّهَيْليّ : ويقال : إنه ول من تبرج ، وذكر بعضهم أنه كان مسلماً وكان له شعر يشير فيه بوجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( يعني سليمان عليه الصلاة والسلام ) :
4127- سَيَمْلكُ بَعْدنا ملكاً عَظِيماً ... نَبِيُّ لاَ يرخِّصُ في الحَرَامِ
وَيملِكُ بَعْدُ منهم مُلُوك ... يدينون العباد بغير دامِ
وَيملِكُ بعده منهم ملوك ... يصيرُ الملك فينا باقتِسام
وَيملك بَعْدَ قَحْطَانَ نَبِيُّ ... نفى جنته خير الأنام
يسمى أحمدَ يَا لَيْتَ أنّي ... أُعَمَّر بعد مَبْعثَهِ بعَامِ
فأعضُدُه وأحبُوه بنَصْرِي ... بكُلّ مُدَجَّج وبِكُلِّ رَامِي
مَتَى يَظْهَرْ فكُونوا ناصِرِيهِ ... ومن يلقاه يُبْلِغْه سَلامِي
روى ابن عباس قال سأل فروة بن مسيك الغطيفي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبأ ما هو؟ أكان رجلاً أو امرأة أو أرضاً؟ قال : بل هو رجل من العرب ولد عشرة من لاولد فسكن اليمن منهم ستة وبالشام منهم أربعة فأما الذين تيامنوا فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحِمير فقال رجل وما أنمار؟ قال : الذين منهم خثْعم وبجيلة ، وأما الذين تشامُوا فلَخم وجُذام وعاملة وغسان ، ولما هلكت أموالهم وخربت بلادهم تفرقوا في غور البلاد ونجدها أيدي سبا شَذَر مذر ، فلذلك قيل لكلّ متفرقين بعد اجتماع : « تَفَرَّقُوا أَيَادي سَبَا » فنزلت طوائف منهم الحجاز فمنهم خُزَاعة نزلوا بظاهر مكة ومنهم الأوسُ والخَزْرج نزلوا بيثرب فكانوا أول من سكنها ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قَيْنُقَاع وبنو قُرَيْظَة والنَّضير فخالفوا الأوس والخزرد وأقاموا عندهم ونزلت طوائف أُخَرُ منهم الشام وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غَسَّان وعامِلة ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم ، و « سبأ » يجمع هذه القبائل كلها .

والجمهور على أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين فحطانية وعَدْنَانيَّة ، فالقحطانية شَعْبَان سبأ وحَضْرَمَوْتَ والعَدْنَانيَّة شعبان ربيعةُ ومُضَر وأما قُضَاعَةُ فمختلف فيها فبعضهم نسبها إلى قَحْطَان وبعضهم إلى عدنان ، وقيل : إن قحطان أول من قيل له : أنْعِمْ صباحاً ، وأبَيْتَ اللَّعْنَ قال بعضهم : إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما ( الصلاة و ) السلام وليس بصحيح فإن إسماعيل نشأ بين جرهم بمكة وكانوا عرباً . والصحيح أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأَهم وجرهم والعماليق يقال : إن « أهم » كان ملكاً يقال إنه أول من سقَّف البيوت بالخشب لامنشور وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر وبنوه قبيلة ، يقال لها : وَبَار هلكوا بالرمل انثال عليهم فأهلكهم وطمَّ ( مناهلهم ) وفي ذلك يقول بعض الشعراء :
4128- وَكَرَّ دَهْرٌ عَلَى وَبَارِ ... فَهَلَكت عَنْوَةً وَبَارُ
قوله : « جنتان » فيه ثلاثة أوجه :
الرفع على البدل من « آية » وأبد مُثَنَّى من مفرد لأن هذا المفرد يصدق على هذا المثنى وتقدم في قوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر . وضعف ابن عطية الأول ولم يبينه . ولا يظهر ضعفه بل قوته وكأنه توهم أنهما مختلفان إفراداً أو تثنية فلذلك ضعف البدل عنده والله أعلم .
الثالث - وإليه نحا ابن عطية - أن يكون جنتان متبدأ وخبره « عَنْ يَمِينٍ وشِمَالٍ » .
وردَّة أبو حيان بأنه ابتداء بنكرة من غير مسوغ واعْتُذِرَ عنه بأنه قد يعتقد حذف صفة أي جَنَّتَانِ لهم أو جنتان عَظِيمَتان فيصح ما ذهب إليه وقرأ ابن أبي عبلة جنتين بالياء نصباً على خبر كان واسمها « آية » .
قإن قيل : اسم كان كالمبتدأ ولا مسوغ للابتداء به حتى يجعل اسم كان والجواب أنه يخصص بالحال المتقدمة عليه وهي صفته في الأصل ألا ترى أنه لو تأخر « لِسَبأٍ » لكان صفة « لآية » في هذه القراءة .
قوله : « عَنْ يَمينٍ » إما صفة لجنتان أو خبر مبتدأ مضمير أي هما عن يمين قال المفسرون أي عن يمين الوادي وشماله .

وقيل : عن يمين من أتاها وشماله وكان لهم وادٍ قد أحاط الجنتان بذلك الوادي .
قال الزمخشري : أيَّةُ آيَةٍ في جنتين مع أن بعض بلاد العراق فيها ألف من الجِنَان؟ وأجاب بأن المراد لكل واحد جنتين أو عن يمين أيديهم وشمالهم جماعات من الجنان ولإيصال بعضها ببعض جعلها جنة واحدة .
قوله : « كُلُوا » على إضمار القول أي قَالَ اللَّه أو المَلَكُ كُلُوا من رزق ربكم .
وهذه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم واشكروا له على ما رزقكم من النعمة فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة أي اعملوا له بطاعته . قوله « بَلْدَةٌ » أي بَلْدَتثكُمْ بلدةً ( طيبة ) وربكم « رَبُّ غَفُورٌ » والمعنى أن أرض سبأ بلدة طيبة ليست مسبخة .
قال ابن زيد : لم ير في بلدتهم بَعُوضَة ولا ذُبابٌ ولا بُرْغُوثٌ ولا حيَّة ولا عقربٌ ولا وباءٌ ولا وَخَم وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كلها من طيب الهواء ، فذلك قوله : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } أي طيبة الهَوَاءِ « ورب غفور » قال مقاتل : وربكم إنشَكَرْتُمْ فيما رزقكم رب غفور للذنوب . وقيل ورب غفور أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة وقرأ رويس بنصب « بلدةٍ ، وَرَب » على المدح أو اسكنوا أو اعبدوا وجعله أبو البقاء مفعولاً به والعامل فيه « اشْكُرُوا » وفيه نظر؛ إذ يصير التقدير اشكروا لربكم رَبًّا غفوراً ، ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال : « فَأَعْرَضُوا » من كمال ظلمهم ، الإعراض بعد إبانة الآية كقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } [ السجدة : 22 ] قال وهب : أرسل الله إلى سبأَ ثلاثةَ عَشَرَ نبياً فدعوهم إلى الله وذكروهم نعم الله عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله عزّ وجلّ علينا نعمةً ، فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك قوله عزّ وجلّ : فَأَعْرَضُوا ، ثم ذكر كيفية الانتقام منهم كما قال تعالى : { إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ } [ السجدة : 22 ] وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلاً غرَّق أموالهم وخَرَّب دُورَهُمْ .
قوله : { سَيْلَ العرم } العَرِمُ فيه أوجه :
أحدهما : أنه من باب إضافة الموصوفِ لصفته في الأصل إذ الأصل : السَّيْلُ العَرِمُ ، والعَرِمُ الشديد وأصله من العَرَامَة ، وهي الشَّراسَةُ والصعوبة وعَرِمَ فُلاَنٌ فَهُوَ عارِمٌ وَعرِم وعُرَام الجَيْشِ منه .
الثاني : أنه من حذف الموصوف وإقامة صفته مُقامه تقديره فأرسلنا عليهم سَيْلَ المَطَرِ العَرِمِ أي الشديد الكثير .
الثالث : أن العَرِم اسم للبناء الذي يجعل سداً وأنشد ( قول الشاعر ) :
4129- مِنْ سَبَأِ الحَاضِرين مَأْرِبَ إذْ ... يَبْنُونَ مِنْ سَيْلِهِ العَرِمَا
أي البناء القوي . قال البغوي : العَرَمْ والعَرَمُ والعَرِمُ جمع عَرَمَةٍ وهي السد الذي يحبس الماء .
الرابع : أن العَرِم اسم للوادي الذي كان فيه الماء نفسه .

وقال ابن الأعرابي : العرم السيل الذي لا يطاق وقيل : كان ماء أحمر أرسله الله عليهم من حيث شاء .
الخامس : أنه اسم للجرذ وهو الفأر . وقيل : هو الخُلْدُ وإنما أضيف إليه؛ لأنه تسبب عنه إذ يروى في التفسير أنه قرض السدّ إلى أن انفتح عليهم فغرقوا به . وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الإضافة إضافةً صحيحة معرفة نحو : غُلاَمُ زَيْدٍ ، أي سيل البناء أو سيل الوادي الفُلاَنيّ أو سيل الجُرْذِ . وهؤلاء هم الذين ضربت العرب بهم المثل للفُرْقة فقالوا « تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَا » . وقد تقدم .
فصل
قال ابن عباس ووهب وغيرهما : كان ذلك السد بَنَتْهُ بَلْقِيسُ وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم ، فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المُسَنَّاة بلغة حمير فسكت ما بين الجبلين بالصخور وجعلت له أبواباً على عدة أنهار هم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء وإذا استغنوا سَدُّوا فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السَّدِّ فأمرت بالباب الأعلى يفتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من بالباب الأعلى ( ثم ) من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يَثوبَ الماءُ من السنة المقبلة فكانت تَقْتَسمثه بينهم على ذلك فبقُوا على ذلك بعدها مدة فلمَّا طَغَوْا وكَفَرُوا سلَّط الله عليهم جُرْذاً يسمَّى الخُلْدَ فنقب السد من أسفله فغَرَّق الماء جنانهم وخرب أرضهم .
قوله : { بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْن } قد تقدم في البقرة أن المجرور بالباء هو الخارج ، والمنصوب هو الداخل؛ ولهذا غَلطَ مَنْ قال من الفقهاء : فلو أبدل ضاداً بظاءٍ بطلت صلاته بل الصواب أن يقول : ظاءً بضادٍ .
قوله : { أُكُلٍ خَمْطٍ } قرأ أبو عمرو بإضافة « أُكُلٍ » إلى « خَمْطٍ » والباقاون بتنوينه غير مضاف ، وقد تقدم في البقرة أن ابْنَ عَامِرٍ ، وأبَا عمرو والكوفيِّينَ يضمون كاف « أكل » غير المضاف لضمير المؤنثة وأنَّ نافعاً وابنَ كثير يسكنونها بتفصيل هناك تقدم تحريره فيكون القراء هنا على ثلاث مراتب ، الأولى لأبي عمرو أُكُلِ خمطٍ بضم كاف أكل مضافاً « لخمط » .
الثانية : لنافع وابن كثير بتسكين كافة وتنوينه .
الثالثة : للباقين ضم كافة وتنوينه فمن أضاف جعل الأكل بمعنى الجَنَى والثَّمَر .
والخمط قيل : شجر الأَراكَ وثمره يقال له : البَريرُ . ( و ) هذا قول أكثر المفسرين وقيل : كل شجر ذي شوك وقال المبرد والزجاج : كل نبت أخذ طعماً من مَرَارَةٍ حتى لا يمكن أكله فهو خَمْط وقال ابن الأعرابي : الخمط ثمرة شجرة يقال لها : فَسْوَة الضَّبْغ على صورة الخَشْخَاش لا ينفتع به . قال البغوي : من جعل الخمط اسماً للمأكول فالتنوين في « أكل » حسن ومن جعله أصلاً وجعل « الأُكُل » ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة والتنوين سائغ تقول العرب في بُسْتَان فلان أعنابُ كَرْمٍ وأعنابٌ كَرْمٌ يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه .

قوله : { وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرِ } معطوفان على « أكل » لا على « خمط » لأن المخط لا أكل له ، وقال مكي : لمَّا لَمْ يَجُز أن يكون الخمط نعتاً للأكل؛ لأن الخَمْطَ اسم شجر بعينه ولا بدلاً؛ لأنه ليس الأول ولا بعضه وكان الجنى والثمر من الشجر أضيف على تقدير « مِنْ » كَقولك : « هذَا ثَوْبُ خَزِّ » . ومن نون فيحتمل أوجهاً :
الأول : أنه جعل « خمطاً » وما بعده إما صفة « لأكُل » قال الزمخشري : أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذَوَاتَىْ أُكُلٍ بشيع . قال أبو حيان : والوصف بالأسماء لا يَطَّرِدُ وإن كان قد جَاءَ منه شيءٌ نحو قولهم : « مَرَرْت بقَاعٍ عَرْفَج كُلّهٍ » .
الثاني : البدل من « أكل » قال أبو البقاء : وجُعِلَ خَمْطاً أُكُلاً لمجاورته إياه ، وكونِهِ سبباطً له إلا أن الفارسيَّ ردَّ كونه بدلاً قال : لأنَّ الخَمْطَ ليس بالأكل نفسه ، وقد تقدم جواب أبي البقاء ، وقد أجاب بعضهم عنه وهو منتزع من كلام الزمخشري أي أنه على حذف مضاف تقديره ذواتي أكُلِ خمطٍ قال : والمحذوف هو الأول في الحقيقة .
الثالث : أنه عطف بيان وجعله أبو عليِّ أحسن ما في الباب ، قال : كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ، إلا أن عطف البيان لا يُجيزُه البصريون في النَّكرات إنما يَخصُّونَه بالمعارف والأثْلُ هو الطَّرْفَاءُ . قويل : شجر يشبه الطرفاء وقيل : نوع من الطرفاء ولا يكون على ثمرة إلا في بعض الأوقات يكون عليه شيء كالعَفْص أصغر منه في طعمه وطبعه ، والسِّدْرُ شجر معروف وهو شجر النَّبْقِ يُنْتَفَعُ به ولا يصلح ورقه لشيءٍ ، وقال بعضهم : السِّدْرُ سِدْرَانِ سِدْرٌ له ثمرة عَفءصَة لا يؤكل ولا ينتفع بورقه . والمراد بالآية الأوّل . وقال قتادة : كان شَجَرُهُمْ خيرَ الشَّجَر فصيره الله من شر الشَّجر بأعمالهم .
قوله : « قَلِيل » نعت ل « سدر » وقيل : نعت « لأُكُل » وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون نعتاً « لخمط » و « أَثْل » و « سِدْرٍ » وقرئ « وَأَثْلاً وشَيْئاً » بنصبهما عطفاً على « جنَّتَيْنِ » ثم بين ( الله ) تعالى أن ذلك ( كان ) مجازاة لهم على كفرانِهم فقالك { جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجزيا } بذلك الجزاء « إلاَّ الكَفُور » .
قوله : { وَهَلْ نجزيا } قرأ الأَخَوَانِ وحفصٌ نُجَازِي بنون العظمة وكسر الزاي لقوله : « جَزَيْنَاهُمْ » أي ( نحن ) ( وهل نُجَازِي هَذَا الجَزَاءَ ) إلا الكفور مفعول به والباقون بضم الياء وفتح الزاي مبنياً للمفعول إلا الكفور رفع على ما لم يسم فاعله ومسلم بن جُنْدُب « يُجْزَى » للمفعول إلاَّ الكَفُور رفعاً على ما تقدم وقرئ « يَجْزِي » مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تَعَالى « الكَفُورَ » نصباً على المفعول به .

فصل
قال مجاهد : يجازي أي يعاقب ويقال في العقوبة وفي التوبة يجزى . قال الفراء : المؤمن يجزى ولا يجازى أي يُجْزَى الثوابَ بعَملِهِ ولا يكأفَأُ بسيِّئَاته . وقال بعضهم : المجازاة يقال في النعمة والجزاء في النقمة لكن قوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفْرُوا } يدل على أن « يَجْزي » في النَّقمة ولعل من قال ذلك أخذه من المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر يكون منا بين اثنين يؤخذ من كل واحد جزاء في حق الآخر وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله مبتدِئٌ بالنعم .
قوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا } بالماء والشجر وهي قُرَى الشام « قُرًى ظَاهِرَةً » متواصلة أي يظهر بعضها لبعضها يرى سواد القرية من القرية الأخرى لقربها منها فكان شَجَرُهُمْ من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلُون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سَبَأَ إلى الشام .
فإن قيل : هذا من النعم والله تعالى أراد بيان تبديل نعمهم بقوله : { وبَدَّلْنَاهُمْ بجَنَّتَيهِمْ جَنَّتَيْنِ } فكيف عاد مرة أخرى إلى بيان النعمة بعد النعمة؟
فالجواب : أنه ذكر حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمراتها بكَثْرة القُرى ثم ذكر تبديله ذلك بالمَفَاوز والبَرَارِي والبَوَادِي بقوله : { بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } ، وقد فعل ذلك ويدل عليه قراءة من قرأ ربُّنَا بَعَّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا على المبتدأ والخبر .
قوله : { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أي قدرنا سيرهم من هذه القرى وكان سيرهم في الغَدْوِ والرَّواح على قدر نصف يوم فإذا ساروا نصفَ يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار قال قتادة : كانت المرأة تخرج ومعها مِغْزَلُها وعلى رأسها مِكتَلُها فَتَمْتَهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مِكتَلُها من الثمار وكان ما بين اليمن إلى الشام كذلك .
قوله : « سِيرُوا » أي وقُلْنَا لهم سيروا ، وقيل : هو أمر بمعنى الخبر أي مكَّنَّاهم من السير فكانوا يسيرون فيها لَيَالي وأياماً أي بالليالي والأيَّام أي وقت شئتم « آمِنِينَ » لا تخافون عَدُوّاً ولا جُوعاً ولا عَطَشاً .
وقيل : معنى قوله تعالى : { لِيَالِيَ وَأَيَّاماً } أنكم تسيرون فيه إن شئتم لَيَالِيَ وإن شئتم أياماً لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يُسْلَكُ ليلاً لئلا يعلم العدو بسيرهم وبعضها يسلك نهاراً لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غيرَ مجاهر بالقصد والعداوة فَبَطَرُوا وطغوا ولم يصبروا على العاقبة وقالوا : لو كَانَ جَنَى جَنَّاتِنَا أبعدَ مما هي كان أجدرَ أن نشتهيه فقالوا : ربَّنَا بَعِّدْ بين أسفارنا فاجعل بيننا وبين الشام فلواتٍ ومَفَاوِزَ لنركبَ فيها الرَّوَاحِل ونتزودَ فيها الأزواد . وقال مجاهد : بَطَرُوا النعمة وسَئِمُوا الراحة كما طلبت اليهود الثوم والبصل . ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتادهم على أن ذلك لا يعدم كما يقول القائل لغيره : اضربني إشارة إلى أنه لا يَقْدِرُ عليه ، ويحتمل أن يكون قولهم : « رَبَّنَا بَاعِدْ » بلسان الحال أي لما كفروا فقد طلبوا أن يُبَعَّد بين أسفارهم وتخريب المعمور من ديارهم ، وقوله : « ظلموا » يكون بياناً لذلك .

قوله : « رَبَّنَا » العامة بالنصب على النداء . وابن كثير وأبو عمرو وهشام « بَعِّدْ » بتشديد العين فعل طلب والباقون بَاعِدْ طلب أيضاً من المفاعلة بمعنى الثلاثي . وقرأ ابن الحَنَقِيَّة وسُفْيَان بن حُسَيْنِ وابن السَّميفع بَعْدَ بضم العين فعلاً ماضياً والفاعل المسير أي بَعُد المَسِيرُ ، و « بين » ظرف وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلا أنه ضَمَّن نون بين جعله فَاعِلَ « بَعُدَ » فأخرجه عن الظرفية ، كقراءة { تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] رفعاً . فالمعنى على القراءة المتضمنة للطلب أنهم أَشِرُوا وبَطَرُوا فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسْفَارِ ، وعلى القراءة المتضمنة للخبر الماضي يكون شكوى من بعد الأسفار التي طلبوها أولاً وقرأ جماعة كبيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية ويعقوب ( وعمرو ) بن فايد : « رَبُّنَا » رفعاً على الابتداء بَعَّدَ بتشديد العين فعلاً ماضياً خبره ، وأبو رجاء والحَسَنُ ويعقوبُ كذلك إلا أنه « بَاعَد » بالألف والمعنى على هذه القراءة شكوى بعد أسفارهم على قربها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم وقرئ : « بُوعِدَ » مبنياً للمفعول . وإذا نصبت « بين » بعد فعل متعد من هذه المادة في إحدى هذه القراءات سواء أكان أمراً أم ماضياً فجعله اسماً « ؟ قال شها الدين : إقراره على ظرفيته أولى ويكون المفعول محذوفاً تقديره بعد المسيرُ بين أسفارنا . ويدل على ذلك قراءة بَعُدَ بضمّ العين بَيْنَ بالنصب فكما يضمر هنا الفاعل وهو ضمير السَّيْر كذلك يبقى هنا » بين « على بابها وينوى السَّير وكان هذا أولى؛ لأن حذف المفعول كثيرٌ جداً لا نزاع فيه وإخراج الظرف غير المتصرف عن ظرفيته فيه نزاع كثير . وتقدم تحقيق هذا والاعتذار عن رفع » بَيْنكُمْ « في الأنْعَامِ وقرأ العامة أَسْفَارِنَا جَمْعاً . وابن يَعْمُرَ » سَفَرنا « مفرداً .
قوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم { ومَزَّقْناهُمّ كُلَّ مُمَزَّقٍ } وفرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق . وهذا بيان لجعلهم أحاديث . قال الشعبي : لما غرقت قُراهم تفرّقوا في البلاد أما غسان فلحقوا بالشام ومرَّ الأزد على عمان وخزاعة إلى تِهامة وموالي جذيمة إلى العراق والأوس والخزرج إلى يثرب وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بْنُ عامر وهو جدّ الأوس والخزرج .
قوله : { إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } أي فيما ذكرنا من حال الشاكرين ووبال الكافرين لِعبَرٌ ودَلاَلاَتٌ » لِكُلِّ صَبَّارٍ « عن معاصي الله » شَكُورٍ « لنعمة الله قال مقاتل : يعني المؤمن في هذه الآية صبور على البلاد شكور للنعماء قال مُطْرِفٌ : هو المؤمن إذا أُعْطِيَ شَكَر ، وإذا ابتُلي صَبَرَ .

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)

قوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّه } قرأ الكوفيون صَدَّقَ بتشديد الدال والباقون بتخفيفها ، فأما الأولى « فظَنَّهُ » مفعول به والمعنى أن طنَّ إبليس ذهب إلى شيء فوافق فصدق هو ظنه على المجاز والاتساع ومثله : كَذَّبْتُ ظَنِّي ونَفْسي وصَدَّقْتُهُمَا وصدَّقَانِي وَكذَّبانِي وهو مجاز شائع سائغ أي ظن شيئاً فوقع وأصله من قوله : { ولأضلنهم } [ النساء : 119 ] وقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه . وأما الثانية : فانصب « ظنه » على ما تقدم من المفعول به كقولهم « أصَبْتُ ظَنِّي ، وأَخْطَأت ظَنِّي » أو على المصدر بفعل مقدر أي « يَظُنُّ ظَنَّهُ » أو على إسقاط ( الخافض أي ) في ظَنَّه ، وزيد بن علي والزُّهْريُّ بنصب « إبليسَ » ورفع « ظَنُّهُ » كقول الشاعر :
4130- فَإنْ يَكُ ظَنِّي صَادِقاً فَهْوَ صَادق .. . . .
جعل « ظنه » صادقاً فيما ظنه مجازاً واتساعاً ، وروي عن أبي عمرو برفعهما وهي واضحة جعل « ظنه » بدل اشتمال من إبليس والظاهر أن الضمير في « عليهم » عائد على أهْلِ سَبَأَ و « إلاَّ فَريقاً » استثناء من فاعل « اتَّبَعُوه » « ومِنَ المُؤمِنِينَ » صفة « فَريقاً » و « مِنْ » للبَيَان لا للتبعيض لئلا يَفْسد المعنى؛ إذا يلزم أن يكون بعض من آمن اتبع إبْليسَ .
فصل
قال المفسرون : صدق عَلَيْهم أي على أهل سبأ . وقال مجاهد : على الناس كلهم إلا من أطاع الله فاتَّبعوه إلاَّ فريقاً من المؤمنين قال السدي عن ابن عباس يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين وقد قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] يعني المؤمنين وقيل : هو خالص في المؤمنين الذين يطيعون الله ولا يَعْصُونه . وقال ابن قتيبة : إن إبليس سأل النظرة فأنَظَرَهُ الله قال : لأغويَنَّهُمْ وَلأضِلَّنَّهُمْ لم يكن مستيقناً وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قال ظناً فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم .
قوله : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ } هذا استثناء مفرغ من العلل العامة تقديره : وما كان له عليهم ( من سلطان ) استيلاء لشيء من الأشياء إلا لهذا وهو تمييز المُحَقِّ من الشَّاكِّ .
قوله : « مِنْهَا » متعلق بمحذوف على معنى البيان أي أعني منها وبِسَبَبِها وقيل : « من » بمعنى « في » وقيل : هو حال من « شَكَّ » وقوله : « مَنْ يُؤْمِنُ » يجوز في « من » وجهان :
أحدهما : أنها استفهامية فتسُدّ مسدَّ معفولي العلم كذا ذكر أبو البقاء وليس بظاهر؛ لأن المعنى إلا لنُمَيِّزَ ويظهر للناس من يؤمن ممن لا يؤمن فعثر عن مقابله بقوله { مِمَّنْ مِنْهَا فِي شَكِّ } لأنه من نتائجه ولوازمه .

والثاني : أنها موصولة وهذا هو الظاهر على ما تقدم تفسيره .
فصل
قال ابن الخطيب : إن علم الله من الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالماً لا يتغير ولكن يتغير تعلق علمه فإنّ العلم صلة كاشفة يظهر فيها كل ما في نفس الأمر فعلم الله في الأزل أن العالمَ سَيُوجد فإذا وجد علمه موجوداً بذلك العلم وإذا عدم علمه مَعدوماً كذلك المرآة المصقولة الصافية يظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا قابلها عمور يظهر فيها صورة والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها وإنما التغيير في الخارجات فكذلك ههنا .
قوله : { إلاَّ لِنَعْلَمَ } أي ليقع في العلم صُدُور الكفر من الكافر ، والإيمان من المؤمن وكان علمه فيه أنْ سَيَكْفُرُ زَيْدٌ ويُؤْمِنُ عَمرو قال البغوي : المعنى إلا ليميز المؤمن من الكافر وأراد علم الوقوع والظهور وقد كان معلوماً عنده بالغيب . وقوله : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } محقِّق ، ذلك أن الله تعالى قادر على منع إبليس منهم عالم بما يقع فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا الجاهل .
قوله : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ } مفعول « زعمتم » الأول محذوف هو عائد الموصول ، والثاني أيضاً محذوف قامت صفته مقامه أي زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ من دون الله ولا جائز أن يكون : « مِنْ دُونِ اللَّهِ » هو المفعول الثاني؛ إذ لا ينعقد منه مع ما قبله كَلاَم لو قلت : هُمْ من دون الله أي من غير نية موصوف لم يجز ولولا قيام الوصف مقامه أيضاً لم يحذف لأنَّ حَذْفَهُ اختصاراً قليلٌ على أن بعضهم منعه .
فصل
لما بين الله تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بما مضى عاد إلى خطابهم فقال لرسوله عليه ( الصلاة و ) السلام : قُلْ للمشركين « ادْعُوا الَّذِينَ زعَمتُمْ من دون الله ) وفي الكلام حذف أي ادعوهم ليكشفوا الضر الذي نزل لكم في سِنِينِ الجُوع ثم وصفها فقال : { لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } من خير وشر ونفع وضر » وَمَالَهُمْ « أي الآلهة فيهما أي السموات والأرض » مِنْ شِرْكٍ « أي شركة » وَمَا لَهُ « أي وما لله » مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير « غَوْنٍ .
قوله : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } اللام في » لمن « فيها أوجه :
أحدهما : أن اللام متعلقة بنفس الشفاعة قال أبو البقاء : وفيه نظر وهو أنه يلزم أحد أمرين إما زيادة اللام في المفعول في غير موضعها وإما حذف مفعول » تنفع « وكلاهما خلافُ الأصل .
الثاني : أنه استثناء مفرغ من مفعول الشّفاعة المقدر أي لا تنفع الشفاعةُ لأحدٍ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ له ثم المستثنى منه المقدر يجوز أن يكون هو المشفوع له وهو الظاهر والشافع ليس مذكوراً إنما دل عليه الفحوى والتقدير :
لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعة لأحدٍ من المشفوع لهم إلا لِمَنْ أَذِنَ له تعالى للشافعين أن يشفعوا فيه ويجوز أن يكون هو الشافع والمشفوع له ليس مذكوراً تقديره لا تنفع الشفاعة إلا لشافع أذن له أن يشفع وعلى هذا فاللام في » لَهُ « لام التبليغ لا لام العلة .

الثالث : أنه استثناء مفرغ أيضاً لكن من الأحوال العامة تقديره لا تنفع الشفاعةُ إلا كائنة لمن أذن له . وقدره الزمخشري فقال : تقول الشفاعة لزيد على معنى الشافع كما تقول : الكرم لزيد على معنى أنه المشفوع له كما تقول : القيام لزيد فاحتمل قوله : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَه } أن يكون على أحد هَذَيْن الوَجْهَينِ أي لا تنفع الشافعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له أو لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا كائنة لمن أذن له أي لشفيعه أو هي اللام الثانية في قولك : « أَذِنَ زَيْدٌ لِعَمْرو » أي لأجله فكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وهذا وجه لطيفٌ وهو الوجهُ . انتهى فقوله : القيام لزيدٍ يعني أنها لام العلة كما هي في : « القيامُ لزيدٍ » وقوله : « أَذِنَ زَيْدٌ لِعَمْرو » أن الأولى للتبليغ والثانية لام العلة ، وقرأ الأخَوانِ وأبو عمرو « أُذِنَ » مبنياً للمفعول والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور والباقون مبنياً للفاعل أي أذن الله وهو المراد في القراءة الأخرى وقد صرح به في قوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ } [ النجم : 26 ] و « إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن » .
فصل
معنى الآية إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ له في الشفاعة قاله تكذيباً لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يَشَفْعَ لَهُ .
قوله : { حَتَّى إذَا } هذه غاية لا بدّ لها من مُغَيَّا وفيه أوجه :
أحدهما : أن قوله : « فَاتَّبعوه » على أن يكون الضمير في « عَلَيْهِمْ » من قوله : « صَدقَ عَلَيْهِمْ » وفي « قُلُوبِهم » عائداً على جمعي الكفار ويكون التفريغ حالة مفارقة الحياة أو يجعل اتباعهم إياه مفارقة إلى يوم القيامة مجازاً . والجملة من قوله « قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زعمتُمْ » معترضة بين الغاية والمغيا . ذكره أبو حيان . وهو حسن .
والثاني : أنه محذوف قاله ابن عطية كأنه قيل : ولا هم شفاء كما تُحبّون أنتم بل هم عبدة أو مسلمون أي منقادون « حَتَّى إذَا فُرِّع عَنْ قُلُوبِهِمْ » انتهى وجعل الضمير في « قُلُوبِهِمْ » عائداص على الملائكة وقدر ذلك وضعف قول من جعله عائداً على الكفار أو على جميع العالم .

وقوله : { قَالُوا مَاذَا } هو جواب « إذا » ، وقوله : { قَالُوا الحَقَّ } جواب لقوله : « مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ » و « الحَقَّ » منصوب بقَال مُضْمَرة أي قالوا : قَالَ رَبُّنَا الحَقَّ أي القَوْلَ الحَقَّ ، إلاَّ أنَّ أبا حيان ردّ هذا فقال : وما قدّره ابن عطية لا يصح لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ( و ) هم منقادون عنده دائماً لا ينفكون عن ذلك لا إذَا فُرِّع عَنء قُلُوبِهِمْ ولا إذا لم يُفَرَّعْ .
الثالث : أنه « زَعَمْتُمْ » أي زعمتم الكفر في غاية التفريغ ثم تركتم ما زعمتم وقلتم : قال الحق وعلى هذا يكون في الكلام التفات من خطاب في قوله : « زعَمْتُمْ » إلى الغيبة في قوله : « قُلُوبِهِمْ » .
الرابع : أنه ما فهم من سياق الكلام ، قال الزمخشري : فإن قلت : باي شيء اتصل قوله : « حَتَّى إذَا فزع » ؟ وأي شيء وقَعَتْ « حَتَّى » غايةً؟ قلتُ : بما فهم من هذا الكلام من أن ثَمَّ انتظاراً للأذن وتوقفاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين الشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لايؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلاَّ بعد مليِّ من الزمان وطول من التَّربُّص ودل على هذه الحالة قوله - عزّ من قائل - { رَّبِّ السماوات والأرض } [ النبأ : 37 ] إلى قوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 38 ] فكأنه قيل : يتربصون ويتوقفون ملِيًّا فزكعين وَجِلينَ حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبهم أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تَبَاشَرُوا بذلك وقال بعضهم لبعض : ماذَا قَالَ رَبَّكم قالوا الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وقرأ ابن عامر فَزَّعَ مبنياً للفاعل . فإن كان الضمير في « قلوبهم » للملائكة فالفاعل في « فزع » ضمير اسم الله تعالى تلقدم ذكره وإن كان للكفار فالفاعل ضمير مُغْويهِمْ . كذا قال أبو حيان والظاهر أنه يعود على الله مطقاً وقرأ الباقون مبنياً للمفعول والقائم مقام الفاعل الجارّ بعده ، وفعل ابتشديد معناه السلب هنا نحوه « قَرَّدْتُ البَعِيرَ » أي أزلتُ قُرَادَهُ كذا هنا أي أزال الفَزَعَ عنها أي كشف الفَزَعَ وأخرجه عن قلوبهم فالتفريعُ لإزالة الفزع كالتَّمْريض والتَّقْرِيد .
وقرأ الحَسَنُ فُزِعَ مبنياً للمفعول مخففاً كقولك « ذُهِبَ بِزَيْدٍ » ، والحسن أيضاً قتادة ومجاهد فَرَّغَ مشدداً مبنياً للفاعل من الفَرَاغِ الفَنَاءُ والمعنى حتى إذا أفنى الله الرجل انتفى بنفسه أو نفى الوجل والخوف عن قلوبهم فلما بني للمفعول قام الجار مَقَامه وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عمر افْرُنْقِعَ من الافرنقاع وهو التفرق قال الزمخشري : والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين كما ركب « اقمطَرَ » من حروف القمط مع زيادة الراء ، قال أبو حيان : فإن عنى أن العين من حروف الزيادة ( وكذا الراء وهو ظاهر كلامه فليس بصحيح لأن العين والراء ليسا من حروف الزيادة ) وإن عنى أنَّ الكلمة فيها حروف ما ذكر وزاد إلى ذلك العين والراء والمادة « فَرْقَعَ وقَمْطَرَ » فهو صحيح انتهى ، وهذه قراءة مخالفة للشواذ ومع ذلك هي لفظة غريبة ثقيلة اللفظ نص أهل البيان عليها ومثلوا بها وحكي عن عيسى بن عمر أنه غُشِيَ عليه ذات يوم فاجتمع عليه النَّظَّارة فلما أفاق قال : « ما لي أرَاكُمْ تَكَأكأتم عَلَيَّ تكأكؤكم عَلَى ذِي جِنَّةٍ افْرَنْقِعُوا عنّي » أي اجتمعتم عليّ اجتماعكم على المجنون تفرقوا عني فعابها الناس عليه حيث استعمل مثل هذه الألفاظ الثقيلة المستغربة ، وقرأ ابن عبلة بالرفع الحق على أنه خبر مبتدأ مضمر أي قالوا : قَوْلُهُ الحَقُّ .

فصل
اختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة فقيل : هم الملائكة ، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم إنَّما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله - عزّ وجلّ - لِمَا روى أبو هريرة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال « إذَا قَضَى اللَّهُ الأمر فِي السَّمَاءِ ضَرَبت المَلاَئِكَةُ بأجْنِحَتِهَا خُضْعَاناً » لِقَوْلِهِ كأنه سلسلة على صَفْوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق هو العلي الكبير وقال - عليه ( الصلاة و ) السلام- : « خَوْفاً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أهْلُ السَّمَواتِ ضَعُفُوا وخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّداً فيكُونُ أَوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأسَهُ جبريل فُيَكلِّمهُ مِنْ وَحِيْهِ بَمَا أَرَادَ ثُمَّ يَمُرُّ جِبْريلُ عَلَى المَلاَئِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بسَماءٍ سَأَلَهُ مَلاَئِكَتُهَا ماذَا قَال رَبُّنَا يَا جبريلُ؟ فيقُول جِبْريلُ الحقّ وهُو العَليُّ الكبيرُ قال : فيَقُولُون كُلُّهُمْ مثْلَ مَا قَالَ جبْريل . فَيَنْتَهِي جِبْريلُ بالوحي حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ » وقيل : إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة . قال مقاتل والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد - عليهما ( الصلاة و ) السلام - خمسمائة سنة . وقيل : سمتائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحياً فلما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - كلَّم جبريل - عليه ( الصلاة و ) السلام - بالرسالة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة فصعقوا مما سمعوا خوفاً من قيام الساعة فلما انْحدَرَ جبريلُ جعل يمُرُّ بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربُّكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير وقيل : الموصوف بذلك المشركون . قال الحسن وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت إقامةً للحجة عليهم قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار .
قوله : « وهو العلي الكبير » فقوله : « الحق » إشارة إلى أنه كامل وقوله : « وهو العلي الكبير » إشارة إلى أنه فوق الكاملين في ذاته وصفاته .

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)

قوله ( تعالى ) : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات } المطر « و » من « الأَرْضِ » النبات « قُل اللَّهُ » يعني إن لم يقولوا رازقنا الله فقل أنت رازقكم الله .
قوله : { أو إيّاكُمْ } عطف على اسم « إن » وفي الخبر أوجه :
أحدها : أن الملفوظ به الأول . وحذف خبر الثاني للدلالة عليه أي وإنَّا لعَلَى هُدًى أو في ضلال أو إنكم لَعَلى هدى أو في ضلال .
والثاني : العكس أي حذف الأول والملفوظ به خبر الثاني وهو خلاف مشهور وتقدم تحقيقه عند قوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وهذان الوجهان لا ينبغي أي يحملا على ظاهرهما قطعاً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشكّ أنه على هدى ويقين وأن الكفار على ضلال وإنما هذا الكلام جارٍ على ما تتخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل الفرض والتقدير ويسميه أهل البيان الاسْتِدْرَاجَ وهو أن يذكر المخاطب أمراً يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يُصْغِي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم يَصْغَ ، ونظيره قولهم : أخْزَى اللَّهُ الكَاذِبَ مِنِّي ومِنْكَ ومثله قول الآخر :
4131- فَأيِّي مَا وأيُّكَ كَانَ شَرًّا ... فَقِيدَ إلَى المُقَامَةِ ولا يَرَاهَا
وقول حسان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- :
4132- أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ
مع العلم لكل أحد أنه - صلى الله عليه وسلم - خير خلق الله كلهم .
الثالث : أنه من باب الف والنشر والتقدير : وَإنَّا لَعَلَى هُدًى وإنَّكُمْ لَفِي ضَلاَلٍ مُبين ولكن لفَّ الكَلاَمَيْنِ وأخرجهما كذلك لعدم اللبس ، وهذا لا يتأتي إلا أن تكون « أو » بمعنى الواو . وهي مسألة خلاف ومن مجيء « أو » بمعنى الواو قوله :
4133- قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَيْتَهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجِم مُهْرِهِ أَوْ سَافِع
وتقدم تقرير هذا ، وهذا الذي ذكرناه منقول عن أبي عبيدة .
الرابع : قال أبو حيان : و « أو » هنا على موضعها لكونها لأحد الشيئين وخبر « إنَّا أَوْ إيَّاكُمْ » هو « لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ » ولا يحتاج إلى تقدير حذف إذ المعنى إن أحدنا لفي أحد هذين لقولك : « زَيْدٌ أو عمرو في القصر أو في المسجد » لا يحتاج إلى تقدير حذف إذ معناه أحد هذين في أحد هذين .
وقيل : الخبر محذوف ثم ذكر ما تقدم إلى آخره ، وهذا الذي ذكره تفسير معى لا تفسير إعراب . ( والناس ) نظروا إلى تفسير الإعراب فاحتاجوا إلى ما ذكرناه .
وذكروا في الهدى كلمة « على » وفي الضلال كلمة « في » لأن المهتدي كأنه مرتَفع مطَّلع فذكره بكلمة « التعالي » والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فذكر بكلمة « في » .

قوله : { قُلْ لاَ تُسألون عَمَّا أَجْرَمْنَا } أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم : « وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ » ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم .
قوله : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنَا } يَوْمَ القِيَامَة « ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ » وهاتان صفتا مبالغة وقرأ عيسى بن عمر « الفاتِحُ » اسم فاعل .
قوله : « أَرْوني » فيها وجهان :
أحدهما أنها علمية متعدية قبل النقل إلى اثنين فلما جيء بهمزة النقل تعدت لثلاثةٍ أولها « ياء » المتكلم ثانيها « الموصول » ، ثالثها : « شركاء » وعائد الموصول محذوف أي أَلْحَقْتُمُوهُمْ .
والثاني : أنها بصرية متعدية قبل النقل لواحد وبعده لاثنين أولهما : يَاء المتكلم وثانيهما : الموصول و « شركاء » نصب على الحال من عائد الموصول أي بَصِّرُوني المُلْحَقِينَ به حالَ كونهم شركاء قال ابن عطية في هذا الثاني « ولا غناء » له أي لا مَنْفَعَة فيه يعني أن معناه ضعيف . قال أبو حيان : وقوله : « لا غناء له » ليس بجيد بل في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ ولا يريد حقيقة التنزيل بل المعنى الذين هم شركاء لله على زعمكم هم ممن إن أريتموهم افتضحتم لأنه خشب وحجر وغير ذلك .
فصل
الضمير في « به » أي بالله أي أروني الذين ألحقتم بالله شركاء في العبادة معه هل يخلقون وهل يرزقون؟ كلاّ لا يَخْلُقُون ولا يرزقون .
قوله : « بل هو الله » في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه ضمير عائد على الله تعالى أي ذلك الذي ألحقتم به شركاء هُو الله ، و « الْعَزِيزُ الحَكِيمُ » صفتان .
والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن و « اللَّهُ » مبتدأ ، و « الْعَزِيزُ والْحَكِيمُ » خبران ، والجملة . . . خبر « هو » والعزيز هو الغالب على أمره ، ( و ) الحكيمُ في تدبير لخلقه فأنى يكون له شريك في ملكه؟
قوله : « كافَّةً » فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من كاف « أَرْسَلْنَاكَ » والمعنى إلا جامعاً للناس في الإبلاغ . والكافة بمعنى الجامع والهادي لله للمبالغة كَهي في « علاَّمَة » و « رَاوِيَة » قال الزجاج : وهذا بناء منه على أنه اسم فاعل من كَفَّ يَكُفُّ ، قال أبو حيان : أما قول الزجاج إنّ كافة بمعنى جامعاً ، والهاء فيه للمالبغة فإن اللغة لا تساعده على ذلك لأن كف ليس معناه محفوظاً بمعنى « جَمَعَ » يعني أنَّ المحفوظ معناه « مَنَعَ » يقال : كَفّ يكُفُّ أي منع والمعنى إلا مانعاً لهم من الكفر وأن يشِذّوا من تبليغك ، ومنه الكف لأنها تَمْنَعُ مَا فِيهِ .
الثاني : أن كافة مصدر جاءت على الفَاعِلَةِ كالعَاقِبَة والعافية وعلى هذا فوقوعها حالاً إما على المبالغة وإما على حذف مضاف أي ذَا كَافَّةٍ لِلنَّاسِ .

الثالث : أن كافة صفة لمصدر محذوف تقديره : إلا إرْسَالَةً كَافَّةً قال الزمخشري : إلاَّ إرْسَالَة عامَّةً لهم محيط بهم لأنهم إذا شَمِلتْهُمْ فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم . قال أبو حيان : أما كافة بمعنى عامة فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما نقلوا ، ولا يحفظ أيضاً استعمالها صفةً لموصوفٍ محذوفٍ .
الرابع : أن « كافة » حال من « لِلنَّاس » أي للناس كافةً إلا أنّ هذا قدره الزمخشري فقال : « وَمَنْ جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار وكم ترى من يرتكب مثل هذا الخطأ ثم لا يَقْتَنَعُ به حتى يضُمَّ إليه أن يجعل اللام بمعنى » إلَى « ؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني فيرتكب الخطأين معاً » . قال أبو حيان : أما قوله كذا فهو مختلف في ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز ، وذهب أبو علي وابن كَيْسَانَ وابن بَرْهَانَ وابن مَلْكُون إلى جَوَازِهِ قال : وهو الصحيح قال : ومن أمثله أبي علي : « زيدٌ خَيْراً مَا يكونُ خَيْرٌ مِنْكَ » التقدير : زيد خير منك خَيْراً ما يكون فجعل « خَيْراً ما يَكُونُ » حالاً من الكاف في « منك » وقدمها عليها وأنشد :
4134- إذَا الْمَرْءُ أَعَيَتْهُ المُرُوءَةُ نَاشِئاً ... فَمَطْلَبُها كَهْلاً عَلَيْهِ شَدِيدُ
أي فمطلبها عليه كهلاً ، وأنشد أيضاً :
4135- تَسَلَّيْتُ طُراً عَنْكُمُ بُعْدَ بَيْنِكُمْ ... بِذِكْرَاكُمْ حَتَّى كَأنَّكُمْ عِنْدِي
أي عَنْكُمْ طُرًّا ، وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور على ما يتعلق به قال الشاعر :
4136- مَشْغُوفَةً بِكَ قَدْ شُغِفْتُ وإنَّمَا ... حُمَّ الفِرَاقُ فَمَا إلَيْكَ سَبِيلُ
أي قد شغفت بكل مشغوفة وقال الآخر :
4137- غَافِلاً تَعْرِضُ المِنَيَّةُ لِلْمَرْءِ ... فَيُدْعَى وَلاتَ حِينَ إباءِ
أي تَعْرِضُ المنيةُ للمرء غافلاً قال : وإذا جاز تقديمها على صاحبها وعلى العامل فيه فتقديمها على صاحبها وحده أجْوَز قال : وممن حمله على الحال ابن عطية فإن قال : قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله إلى العرب وللعجم ولسائر الأمم وتقديره إلى الناس كافةً وقول الزمخشري : لا يستوي له الخطأ الأول إلى آخره شنيغ لأن القائل بذلك لا يحتاج إلى جعل اللام بمعنى « إلى » لأن « أَرْسَلَ » يتعدى باللام قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً } [ النساء : 79 ] وأرسل مما يتعدى باللام وبإلى وأيضاً فقد جاءت اللام بمعنى « إلَى » و « إلَى » بمعناها .
قال شهاب الدين : أما أرسلناك للناس فلا دلالة فيه لاحتمال أن تكون اللام لام المجازيَّة وأما كونها بمعنى « إلى » والعكس فالبصريونَ لا يَتَجَوَّزُونَ في الحروف ، و « بَشِيراً » و « نَذِيراً » حالان أيضاً .

فصل
لما بيَّن مسألة التوحيد شرع في الرسالة فقال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً } أي الرسالة كافة أي تكُف الناس أنت من الكفر وتمنعهم عن الخروج عن الانقياد لها أو تكف الناس أنت عن الكفر والهاء للمبالغة على ما تقدم . و « لِلنَّاسِ » أي عامةً أحمرهم وأسودهِم « بَشِيراً وَنَذِيراً » أي مبشراً ومنذراً تحثهم بالوعد وتزجرهم بالوعيد « وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ » ذلك لآ لخفائه ولكن لغفلتهم قال - عليه ( الصلاة و ) والسلام- : « كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً » .
قوله : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } يعني يوم القيامة لما ذكر الرسالة بين الحشر .
قوله : « لكم ميعاد » مبتدأ وخبر . والميعاد يجوز فيه أوجه :
أحدهما : أنه مصدر مضاف لظرفه والميعاد يطلق على الوعد والوعيد . وقد تقدم أن الوعد في الخير ، الوعيد في الشر غالباً .
الثاني : اسم أقيم مقام المَصْدَرِ والظَاهر الأول ، قال أبو عبيدة : الوَعْدُ والوَعِيدُ والميعاد بمعنى .
الثالث : أنه هنا ظرف زمان ( قال الزمخشري : الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو هنا ظرف زمان ) ، والدليل عليه ( قراءة ) من قرأ : مِيعَادٌ يَوْمٌ يعني برفعهما منونين فأبدل منه « الْيَوْمَ » وأما الإضافة فإضافة تبيين لقولك : سَحْقُ ثَوْبٍ ، وبعيرُ سَانِيَةٍ ، وقال أبو حيان : ولا يتعين ما قال لاحتمال أن يكون التقدير : لكم ميعاد ميعاد يوم ، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه ، قال شهاب الدين والزمخشري لو فعل مثل ذلك لسمع به ، وجوَّز الزمخشري في الرفع وجهاً آخر وهو الرفع على التعظيم يعني على إضمار مبتدأ وهو الذي يسمى القطع ، وسيأتي هذا قريباً ، وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ واليَزيديّ مِيعَادٌ يوْماً بتنوين الأول ونصب « يوماً » منوناً وفيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الظرف والعامل فيه مضاف مقدر تقديره : لكم إنجازُ وَعْدٍ في يوم صِفَتُهُ كَيْتَ وكَيْتَ .
الثاني : أن ينتصب بإضمار فعل . قال الزمخشري : وأما نصب « اليوم » فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره أعني يوْماً ، ويجوز أن يكون الرفع على هذا أعني التعظيم . وقرأ عِيسَى بتنوين الأول ونصب « يَوْم » مضافاً للجُمْلة بعده . وفيه الوجهان المتقدمان النَّصْب على التعظيم أو الظَّرف .
قوله : { لاَ تَسْتَأخِرُونَ عَنْهُ } يجوز في هذه الجملة أن تكون صفة « لِميعَادٍ » إن عاد الضمير في « عنه » عليه أو « لِيَوْم » إن عاد الضمير في « عنه » عليه فيجوز أن يحكم على موضعها بالرفع أو الجر وأما على قراءة عيسى فينبغي أن يعود الضمير في « عنه » على « ميعاد » لأنه نَصُّوا على أنّ الظَّرْفَ إذا أضيفَ إلى جملة لم يَعُدْ منها إليه ضمير إلاَّ في ضرورة كقوله :

4138- مَضَتْ سَنَةٌ لِعَامٍ وُلِدْتُ فِيهِ ... وَعَشْرٌ بَعْدَ ذَاكَ وَحِجَّتَانِ
فصل
تقدم الكلام في سورة الأعراف أن قوله : { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ } [ الأعراف : 34 ] يوجب الإنذار لأن معناه عدم المهلة عن الأجَل ولكن الاستقدام ما وجهه؟ وقد تقدم ، ونذكر ههنا أنهم لما طلبوا الاستعدال بين أنه اسْتِعْجَالَ فيه كما أنه لا إمهال وهذا لا يفيد عظَم الأمر ، وخَطَر الخطب ، لأن الأمر الحقير إذا طلبه من غيره لا يؤخره ولا يُوقفه على وقت بخلاف الأمر الخطير والمراد باليوم يوم القيامة وقال الضحاك : يوم الموت لا يتأخرون عنه ولا يتقدمون بأن يزاد في أجلكم أو ينقص .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)

قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن } لما بين التوحيد والرسالة والحشر وكانوا بالكُلّ كافرين بين كفرهم العام بقوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن } وذلك لأن القرآن مشتملٌ على الكل وقوله : { وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني التوراة والإنْجيل وعلى هذا فالمراد « بالذين كفروا » هُم المشركون المنكرون للثواب والحشر . ويحتمل أن يكون المراد بالذين كفروا العموم ويكون المراد بقوله : { القرآن وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ } أن لا نؤمن بالقرآن أنه من الله « ولاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ » أي ولا بما فيه من الإخبارات والآيات والدلائل وذلك لأن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن أنَّه من الله ولا بالذي فيه من الرِّسالة وتفاصيل الحشر .
فإن قيل : أليس هم مؤمنين بالوحدانية والحشر؟
فالجواب : إذا لم يصدق واحد بما في كتاب من الأمور المختصة به يقال إنه لم يؤمن بشيء منه وإن آمن ببعض ما فيه لكونه في غيره إيمانه لا بما فيه كمن يكذب رجلاً فيما يقوله فإذا أخبره بأن النار حارة لا يكذبه فيه ولكن لا يقال بأنه صدقة لأنه إنما صدق نفسه فإنه كان عالماً به من قبل وعلى هذا فقوله : « بَيْنَ يَدَيْهِ » الذي هو مشتمل عليه من حيث إنه وارد فيه .
قوله : { وَلَوْ تَرَى } مفعول « ترى » وجواب « لو » محذوفان للفهم أي ولو ترى حالَ الظالمينَ وقْتَ وقوفهم مراجعاً بعضهُم إلى بعض القولَ لرأيت حالاً فظيعةً وأمراً منكراً « ويَرْجَعُ » حال من ضمير « مَوْقُوفُونَ » و « القول » منصوب ب « يرجع » ؛ لأنه يتعدى قال تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ } [ التوبة : 83 ] وقوله : { يَقُولُ الذين استضعفوا } إلى آخره تفسير لقوله : « يَرْجِعُ » فلا محلَّ له . و « أنْتُم » بعد « لولا » متبدأ على أصحَّ المذاهب ، وهذا هو الأفصح أعني وقوع ضمائر الرف بعد « لولا » خلافاً للمبرد حيث جعل خلاف هذا لحناً ، وأنه لم يرد إلاَّ في قول زِيَادٍ :
4139- وكم موطن لولاي . .
وقد تقدم تحقيقه ، والأخفض جعل إنه ضمير نصب أو جر قام مقام ضمير الرفع وسيبويه ضمي جر
فصل
لما وقع اليأس من إيمانهم في هذه الدار بقولهم : « لَنْ نُؤْمِنَ » فإنه لتأبيد النفي وعد النَّبِيَّ عليه ( الصلاة و ) السلام- بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع بعضهم إلى بعض القول أي يرد بعضهم إلى بعض القول في الدال كما يكون عليه حالة جماعة أخطأوا في أمر يقول بعضهم لبعض . { يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } اسْتُحْقِرُوا وهم الاتباع « لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا » وهم القادة والأشراف { لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } أي أنتم مَنَعْتُمُونَا عن الإيمان بالله وسوله وهذا إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لأن بعد المقتضي لا يمكنهم أن يقولوا : مَا جَاءَنا رسول ولا أن يقولوا : قصر الرسول لأن الرسول لو أهمل شيئاً لما كانوا يقولون لولا المستكبرون .

ثم أجابهم المستكبرون وهم المَتْبُوعُونَ في الكفر للذين استضعفوا رد لما قالوا إن كفرنا كان لمانع { أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ } يعني المانع ينبغي أن يكون راجحاً على المقتضي حتى يعمل علمه والذي جاء به هو الهدى ، والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئاً يوجب الامتناع من قبول ما جاء به فلم يصحَّ تَعَلُّقُكُمْ بالمانع { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } بترك الإيمان فبين أن كفرهم كان اجتراماً من حيث إن المعذور لا يكون معذوراً إلا لعدم المقتضي أو ليقام المانع ولم يوجد شيء منهما . ثم قال { وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله } لما قال المستكبرون : إنا صددنا ، وما صدر منا ما يصلح مانعاً وصادفاً اعترف المستضعفون به وقالوا بل مكر الليل والنهار أي مكركم في الليل والنهار . واعمل أنه يجوز رفع « مكر » من ثلاث أوجه :
أحدها : الفاعلية تقديره : بل صَدَّنَا مَكْرُكُمْ في هذهين الوقتين .
الثاني : أن يكون مبتدأ محذوف أي مكرُ الليلِ صَدَّنَا .
الثالث : العكس أي سَبَبُ كُفْرِنا مَكْرُكُمْ . وهو المتقدم في التفسير وإضافةُ المَكْر إلى الليل والنهار إما على الإسناد المجازي كقولهم : لَيْلٌ مَاكِر ، فالعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار كقول الشاعر :
4140 - ... وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنَائِمِ
فيكون مصدراً مضافاً لمرفوعه ، وإما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مضافاً لمنصوبه وهذا أحسن مِنْ قَوْل مَنْ قال : إن الإضافة بمعنى « في » أي في الليل ، لأن ذلك لم يثبت في ( غير ) محل النزاع ، وقيل : مكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل فيهما كقوله تعالى : { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الحديد : 16 ] وقرأ العامة مَكْرُ بتخفيف الراء ساكن الكاف مضافاً لما بعد ، وابن يَعْمُرَ وقتادةُ بتنوين : « مَكْر » وانتصاب الليل والنهار ظرفين . وقرآ أيضاً وسعيدُ بْنُ جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد الراء مضافاً لما بعده أي كُرُور الليل والنهار ، واختلافهما ، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ إذا جَاءَ وذَهَبَ ، وقرأ ابنُ جُبَيْر أيضاً وطلحةُ وراشد القَارِي - وهو الذي كان يصحح المصاحف أيام الحجاج بأمره- كذلك إلا أنه ينصب الراء وفيها أوجه :
أظهرها : ما قاله الزمخشري وهو الانتصاب على المصدر قال : « بل تَكُرُّون الإغواء مَكَرًّا دائماً لا تَفْتُرُونَ عنه » .
الثاني : النصب على الظرف بإضمار فعل اي بلْ صَدَدْتُمُونَا مَكَرَّ الليل والنهار أي دائماً .
الثالث : أنه منصوب « بتأمُرُونَنَا » قاله أبو الفضل الرازي وهو غلط؛ لأن ما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله إلا في مسألة وهي « غير » إذَا كانت بمعنى « لا » كقوله :

4141- إنّ امْرَءاً خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتَهُ ... عَلَى التَّنَائِي لِعِنْدِي غَيْر مَكفُورِ
وتقدم تقريرهذا آخر الفاتحة ، وجاء قوله : { قَالَ الذين استكبروا } بغير عاطف؛ لأنه جواب لقول الضَّعَفَةِ فاستؤنف بخلاف قوله : { وَقَالَ الذين استضعفوا } فإنه لم يكن جواباً لعطف ، والضمير في « وَأسَرُّوا النَّدَامَةَ » للجميع للإتباع والمتبوعين .
فصل
لما اعترف المستضعفون وقالوا بل مكر الليل والنهار منعنا ثم قالوا لهم إنكم وإن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد وامتداد المدد فَكَفرنَا فكان قولكم جزْءاً لسبب وقولهم « إذْ تَأمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ » أي ننكره « ونَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً » هذا يبين أن المشرك بِاللَّهِ مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه بالمخلوق المنحوت لا يكون مؤمناً به .
فصل
قوله أولاً يَرْجعُ بَعْضُهْم إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذينَ اسْتَضْعِفُوا بلفظ المستقبل وقوله في الآيتين الآخيرتين : « وقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ، وقَالَ الَّذِين اسْتَضْعِفُوا » بلفظ الماضي مع أن السؤال والمراجعة في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لا بدّ من وقوعه فإن الأمر الواجب الوقوع كأنه وقع كقوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] وأما الاستقابل فعلى الأصل .
قوله : { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } أي أنهم يتراجعون القول ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع الدال على الندامة ، وقيل : معنى الإسراء الإظهار وهو من الأضداد أي أظهروا الندامة ويحتمل أن يقال : بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم أبْصَرْنا وسَمِعْنَا فارْجِعْنَا نَعْمَلُ صَالِحاً وأجيبوا بأن لا مرد لكم فأسرُّوا ذلك القول ، وقوله : { وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } أي الأتباع والمتبوعين جميعاً في النار ، وهذا إشارة إلى كيفية عذابهم { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الكفر والمعاصي في الدنيا .

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةإلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } جملة حالية من « قَرْيَةٍ » وإن كانت نكرة لأنها في سياق النفي .
قوله : « بما أُرْسِلْتُمْ » متعلق بخبر « إنّ » و « به » متعلق بأُرْسِلْتُم ، والتقدير : إنا كافورن بالذي أرسلتم . وإنما قد للاهتمام وحسنه تواخي الفواصل وهذا تسلية لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم -بأن إيذاء الكفار للأنبياء ليس بدعاً بل ذلك عادة جرت من قبل ، وإنما نسب القول إلى المترفين مع أن غيرهم أيضاً قالوا ذلك القول لأن المُتْرَفين هم الأصل في ذلك القول كقول المتسضعفين للذين استكبروا : « لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنينَ » ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد فقالوا « نَحْنُ أَكْثَرُ أمْوَالاً وَأَوْلاَداً » أي بسبب لزومنا لديننا ولو لم يكن الله راضياً بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد « وَمَا نَحْنُ بمُعَذَّبِينَ » أي أن الله أحسن إلينا في الدنيا بالمال فلا يعذبنا . ثم إن الله تعالى بيَّنَ خطأهم بقوله : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } يعني أنّ الرزق في الدناي لا يدل سَعَتُه وضيقه على حال المحق والمبطل فكم من موسر شقي ومُعْسِر تَقِيّ فقوله : « وَيَقْدِرُ » أي يضيِّق بدليل مقابلته « يَبْسُطُ » وهذا هو الطباق البَدِيعِيّ وقرأ الأعمش : وَيُقَدِّرُ بالتشديد ثم قال : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن قلة الرزق وضيف العيش وكثرة المال وسعة العيش بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح . ثم بين فساد استدلالهم بقوله : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } يعني إن قولكم نحن أكثر أموالاً وأولاداً فنحن أحسن حالاً عند الله استدلالاً صحيحاً فإن المال لا يقر إلى الله وإنما المفيدُ العملُ الصالح بعد الإيمان وذلك أن المال والولد يَشْغِل عند الله فيُبْعِد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئاً حصل؟
قوله : { بالتي تُقَرِّبُكُم } صفة للأموال والأولاد ، لأن جمع التكسير غير العاقل يعامل معالمة المؤنثة الواحدة ، وقال الفراء والزجاج إنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه قالا والتقدير : وَمَا أَمْوَالُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى وَلاَ أوْلاَدُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ وهذا لا حاجة إليه أيضاً . ونقل عن الفراء ما تقدم من أن « التي » صفة للأموال والأولاد معاً وهو الصحيح وجعل الزمخشري « التي » صفة لموصوف محذوف قال : « ويجوز أن يكون هيا لتقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها أي ليستْ أَمْوَالُكُمْ ولا أوْلاَكُكُمْ بتلك الموصوفة عند الله بالتقريب » قال أبو حيان : ولا حاجة إلى هذا الموصوف .

قال شهاب الدين : والحاجة إليه بالنسبة إلى المعى الذي ذكره داعية ، و « زُلْفَى » مصدر مِنْ مَعْنى الأول ، إذ التقدير تُقَرِّبُكُمْ قُرْبَى ، وعن الضحاك زُلَفاً بفتح اللام وتنوين الكلمة على أنها جمع « زُلْفَى » نحو قُرْبَة وقُرَب ، جُمع المَصْدَرُ لاختلاف أنواعه وقال الأخفش : « زُلْفَى » اسم مصدر كأنه قال : بالتي تقربكم عندنا تَقْريباً .
قَوْلُهُ : { إلاَّ مَنْ } فيه أوجه :
أحدهما : أنه استثاء منقطعٌ فهو منصوب المحل والمعنى لكن مَنْ آمَن وعَمِلَ صَالِحاً ، قال ابن عباس يريد من آمن إيمانه وعمله يقربه منّي .
الثاني : أنه في محل جر بدلاً من الضمير في : « أَمْوَالِكُمْ » قاله الزجاج . وغلَّطَهُ النَّحَّاس بأنه بدل ضمير من ضمير المخاطب قال : ولو جاز هذا لجاز : رَأَيْتُكَ زَيْداً ، وقول أبي إسْحَاقَ هذا هو قول الفارء انتهى . قال أبو حيان : ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز البدل من ضمير المخاطب والمتكلم إلا أن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا لو قلت : مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلا خالداً لم يجز . وتخيل الزجاج أن الصلة وإن كانت من حيث المعنى منفية أنه يجوز البدل وليس بجائز إلا أن يصح التفريغ له . قال شهاب الدين : ومنعه قولك « مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ خَالِداً » فيه نظر لأن النفي إذا كان منسحباً على الجملة أ'طى حُكْمَ ما لو باشر ذلك الشيء ألا ترى أن النفي في قولك : « مَا طَنَنْتُ أحَداً يَفْعَلُ ذَلِكَ إلاَّ زيدٌ » سوغ البدل في زيد من ضمير « يَفْعَلُ » وإن لم يكن النفي متسلطاً عليه وقالوا ولكنه لما كان في حَيِّز النفي صح فيه ذلك فهذا مثله والزمخشري أيضاً تَبعَ الزجاج والفراء في ذلك في حيث المعنى إلا أنه لم يجعله بدلاً بل منصوباً على أصل الاستثناء فقال : « إلاَّ مَنْ آمَنَ » استثناء من « كُمْ » في « نُقَرِّبُ » والمعنى أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن لاذي يُنْقِقُها في سبيل الله والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علَّمهم الخَيْرَ وفَقَّهَهُمْ في الدِّين ورشَّحهم للصَّلاح ورد عليه أبو حيان بنحو ما تقدم فقال : لا يجوز : « مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَخْرُجُ إلاَّ أَخْوهُ » و « مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ عَمْراً » والجواب عنه ما تقدم وأيضاً فالزمخشري لم يجعله بدلاً بل استثناء صريحاً ، ولا يشترط في الاستثناء التفريغ اللفظي بل الإسناد المعنوي ألا ترى أنك تقول : قَامَ الْقَومُ إلاَّ زَيْداً ولو فرغته لفظاً لامتنع لأنه مثبت وهذا الذي ذكره الزمخشري هو الوجه الثالث في المسألة الرابع : « أنَّ » مَنْ آمَنَ « في محلِّ رفع على الابتداء والخبر .

قوله : { فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف } قال الفراء : هو في موضع رفع تقديره ما هو المقرب إلاَّ مَنْ آمَن ، وهذا ليس بجيد وعجيب من الفراء كيف يقوله . قوله : « فَأولَئِكَ لَهُمَ جَزَاء الضّعْفِ » ، قرأ العامة جزاء الضعف مضافاً على أنه مصدر مضاف لمفعلوله ، أي أنْ يُجَازِيَهُم الضّعْفَ وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول أي يُجْزَوْنَ الضّعفَ ورده أبو حيان بأن الصحيح منعه . وقرأ قتادة برفعها على إبدال الضّعفِ من « جزاء » وعنه أيضاً وعن يعقوب بنصب جزاء على الحال منوناً والعامل فيها الاستقرار وهذه كقوله : { فَلَهُ جَزَآءً الحسنى } [ الكهف : 88 ] فيمن قرأه بالنصب نصب جزاء في الكهف .
قوله : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } قرأ حمزة الغُرْفَةِ بالتوحيد على إرادة الجنس ولعدم اللبس لأنه معلوم أن لكل أحد غرفة تخصه وقد أُجْمِعَ على التوحيد في قوله : { يُجْزَوْنَ الغرفة } [ الفرقان : 75 ] ولأن لفظ الواحد أخف فوضع موضع الجمع مع أمن اللبس والباقون « الغُرُفَاتِ » جمع سلامة وقد أُجْمِعَ على الجمع في قوله : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] والرسم محتمل للقراءتين . وقرأ الحسن بضم راد غُرُفات على الإتباع وبعضهم يفتحها وتقدم تحقيق ذلك أول البقرة وقرأ ابن وثاب الغُرُفَةَ بضم الراء والتوحيد .
فصل
والمعنى يضعف الله حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشرة إلى سبع مائة لأنه الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي السيئة لا يكون إلا المثل ثم زاد وقال : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُون } إشارة إلى دوامها وتأبيدها . ثم بين حال المسيء فقال : { والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي سعون في إبطال حججنا معاجزين معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتوننا . وقد تقدم تفسير : « أولئك في العذاب محضرون » وهذا إشارة إلى الدوام أيضاً كقوله : { وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } [ الإنقطار : 16 ] ثم قال مرة أخرى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِر } إشارة إلى أن نعيم الآخرة لا ينفافي نعمة الدنيا بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم في القطع بحصلو النعم في العُقْبَى ببناء على الوعد قطعاً لقول من يقول : إذا كانت العاجلة والآجلة لهم فالنقد أولى فقال هذا النقد غير مختص بكم فإن كثيراً من الأشقياء مدفوعون وكثيراً من الأتقياء مَمْنُوعُونَ ، ولهذا المعنى ذكر هذا الكلام مرتين مرة لبيان أن كثرة أموالهم وأولادهم غير دالةٍ على حسن أحوالهم ومرة لبيان أنه غير مختص بهم كأنه قال وجود القرب لا يدل على الشرف ثم إنْ سَلَّمنا أنه كذلك لكن المؤمنون سيحصل لهم ذلك فإن الله يملكهم دياركم وأموالكم ويدل على ذلك أن الله تعالى لم يذكر أولاً لمن يشاء من عباده بل قال : لمن يشاء . وقال ثانياً : لمن يشاء من عبادة فالكافر أثره مقطوع وماله إلى زوال وماله إلى الهواء وأما المؤمن فما يُنْفِقْه يُخْلِفْه الله .

قوله : { وَمَآ أَنفَقْتُم } يجوز أن تكون ما موصولة في محل رفع بالابتداء والخبر قوله : { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } ودخلت الفاء لشبهه بالشرط ، و « مِنْ شَيْءٍ » بيان كذا قيل . وفيه نظر؛ لإبهام شيء فأي ( تَبين ) فيه؟ ويجوز أن تكون « ما » شرطية فيكون في محل نصب مفعولاً مقدماً و « فَهُوَ يُخْلِفُهُ » جواب الشرط .
فصل
المعنى : وَمَا أَنْقَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعطي خلقه قال سعيد بن جبير : ما كان في غير إسْرِافٍ ولا تَقْتِير فهْو يُخْلِفُه وقال الكلبي : ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من نَفَقَةٍ فهو ( ينفقه ) ويخلفه على المُنْفِق إما أن يعجَّل له في الدنيا وإما أن يدَّخِرَ له في الآخرة . « وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ » خَيْرُ من يعطي ويرزق ، رَوَى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قال : « أنْفِقْ أُنْفِقْ عليك » وقال - عليه ( الصلاة و ) السلام - : « مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبحُ فِيهِ العِبَادُ إلاَّ وَيَنْزِلُ ( فِيهِ ) مَلَكَا ( ن ) فيقولُ أحدهما : اللَّهُمّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً ويقول الآخَرُ : اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً » وإنما جمع الرازقين من حيث الصورة لأن الإنسان يرزق عياله من رزق الله والرازق للكل في الحقيقة إنما هو الله ، واعلم أنَّ خير الرازقين يكون أمور أن لا يؤخر في وقت الحاجة وأن لا يَنْقُصَ من قد الحاجة وأن لا ينكده بالحساب وأن لا يُكَدِّره بطلب الثواب والله تعالى كذلك .
فإن قيل : قوله : { وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } ينبئ عن كثرة الرّازقين ولا رازق إلاَّ الله .
فالجواب : أن يقال : الله خير الرازقين الذين تظنونهم رازقين وكذلك في قوله تعالى : { أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] وأيضاً فإن الصفات منها ما هو لله وللعبد حقيقة كالعلم بأن الله واحد فإن الله يعلم أنه واحد ، والعبد يعلم أنه واحدٌ حقيقة ومنها ما يقال للَّهِ حقيقةً وللعبد مجازاً مثل الرزَّاق والخَالِق فإن العبد إذا أعطى غيره شيئاً فالله هو المعطي في الحقيقة ولكن لما وجدت صورة العطاء من العبد سُمّي معطياً وهذا منه .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)

قوله : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ } وقد تقدم أنه يقرأ بالنون والياء في الأنعام .
قوله : { أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } إياكم منصوب بخبر « كان » قدم لأجل الفواصل والاهتمام . واستدل بل على جواز تقديم خبر « كان » عليها إذا كان خبرها جملة فإن فيه خلافاً جوزه ابنُ السارج ، ومنعه غيره وكذلك اختلفوا في توسطه إذا كان جملة . قال ابن السِّرِّاج : القياس جوازه لكن لم يسمع .
قال شهاب الدين : قد تقدم في قوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } [ الأعراف : 137 ] ونحوه أنه يجوز أن يكون من تقديم الخبر وأن لا يكون . ووجه الدلالة هنا أن تقتديم المعمول مُؤْذِنٌ بتقديم العامل . وتقدم تحقيق هذا في « هُودٍ » في قوله تعالى : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] ( و ) وضع هذه القاعدة .
فصل لما بين أن حال النبي - عليه الصلاة والسلام - كحال من تقدمه من الأنبياء وحال قومه حال من تقدّم من الكفار وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم بين ما يكون عاقبة حالهم فقال : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يعني المكذبين بك « ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ » الذين يدعون أنهم يعبدونهم فإن غاية ما ترتفي إليه منزلتهم أنهم يقولون : نحن نعبد الملائكة والكواكب قال قتادة : هذا استفهام تقرير كقوله تعالى لعيسى { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين } [ المائدة : 116 ] فيقول : « ( أَ ) هَؤُلاَءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ » فتبرأ منهم الملائكة فيقولون : « سُبْحَانَكَ » تنزيهاً لك « أنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ » أي نحن نتولاك ولا نتولاهم يعني كونك ولي بالعبودية أولى وأحب إلينا من كونهم أولياءنا بالعبادة لنا فقالوا : « ( بَلْ ) كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ » أي الشياطين فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الجن ونحن ( كنا ) كالقِبْلة لهم .
فإن قيل : فهم كانوا يعبدون الملائكة فما وجه قولهم يعبدون الجن؟ قيل : أراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة فهم كانوا يُطيعون الشياطين في عبادة الملائكة فقوله : « يعبدون » أي يطيعون الجن ولعبادة هي الطاعة « أكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ » أي مصدِّقون الشياطين .
فإن قيل : جميعهم كانوا متابعين للشياطين فما وجه قوله : { أكْثَرُهُمْ بِهِمْ } فإنه يدل على أنَّ بَعْضَهُم لم يؤمن بهم ولم يُطِعْهُمْ؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن الملائكة أحتظروا عن ( دَعْوى ) الإحاطة بهم فقالوا : أكثرهم لأنَّ الَّذِين رأوهم وأطلعوا على أحوالهم كانوا يعبدون الجنَّ ويؤمنون بهم ولعلَ في لاوجود من لم يُطْلع الله الملائكة عليه من الكفار .
الثاني : هو أن العبادة علم ظاهر والإيمان عمل باطن فقالوا بل يعبدون الجن لاِّطلاعهم على أعمالهم وقالوا أكثرهم بهم مؤمنون عند عمل القلب لئلا يكونوا مدعين اطّلاعهم على ما في القلوب فإن القلب لا يطلع على من فيه إلا الله كما قال :

{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } [ هود : 5 ] .
ثم بين أن ما كانوا يعبدون لا ينفعهم فقال : { فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً } . وهذا الخطاب يحتم أن يكون مع الملائكة لسبق قوله : { أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } وعلى هذا يكون تنكيلاً للكافرين حيث بيّن لهم أن معبودهم لا ينفعهم ولا يضر . ويصحح هذا قوله تعالى : « لا يملكون الشّفاعة إلا لمن ارتضى » .
ولقوله بَعْدَه : { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا } ولو كان المخاطب هم الكفار لقال : « فَذُوفُوا » ويحتمل أن يكون داخلين في الخطاب حتى يصح معنى قوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضِ } أي الملائكة والجن وإذا لم تملكوها لأنفسكم فلا تملكوها لغيرهم ، ويحتمل أن يكون الخطاب والمخاطب هم الكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم وعلى هذا فقوله : { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } إنما ذكره تأكيداً لبيان حالهم في الظلم .
فإن قيل : قوله « نفعاً » مفيد للحسرة فما فائدة ذكر الضرّ مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك؟
فالجواب : لما كان العبادة نفع لدفع ضرر المعبود كما يعبد الجبَّار ، ويخدم مخافة شره بين أنهم ليس فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم .
فإن قيل : « قَوْلُه هَهُنَا : » الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا « صفة للنار وفي السجدة وصف العذاب فجعل المكذب هنا النار وجعل المكذب في السجدة العذاب وهم كانوا يكذبون بالكل فما فائدته؟
فالجواب : قيل : لأنهم هناك كانوا مُلْتَبِسٍين بالعذاب مترددين فيه بدليل قوله : { كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [ السجدة : 20 ] فوصف لهم ما لا بسوه وهنا لم يُلاَبِسُوهُ بعد لأنه عقيب حشرهم وسؤالهم فهو أول ما رأوا النار فقيل لهم : هذه النار التي كنتم بها تكذبون .
قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا } يعنون محمداً - صلى الله عليه وسلم - » إلاَّ رَجُلٌ يُريدُ أنْ يَصْدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ « فعارضوا الرهانَ بالتقليد » وَقَالُوا مَا هَذَا إلاَّ إفْكٌ مُفْتَرى « يعنون القرآن وقيل : القول بالوحدانية » إفْكٌ مُفْتَرًى « كقوله تعالى في حقهم : { أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ } [ الصفات : 86 ] وكقولهم للرسول : { قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } [ الأحقاف : 22 ] وعلى هذا فيكون قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } بدلاً وقالوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ؛ هذا إنكار للتوحيد وكان مختصاً بالمشركين ، وأما إنكار القرآن والمُعْجِزة فكان متفقاً عليه بين المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ } على العموم .
قوله : { وَمَا آتَيْنَاهُمْ } يعني المشركين » مِنْ كُتُبٍ يَدرسونَها « العامة على التخفيف مضارع » دَرَسَ « مخففاً أي حفظ وأبو حيوة يُدَرِّسُونَها بفتح الدال مشددة وكسر الراء والأصل » يَدْتَرِسُونَها « من الادّارس على الافتعال فأدغم ، وعنه أيضاً بضم الياء وفتح الدال وتشديد الراء نم التَّدْريس .

والمعنى يقرأونها وقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ } أي إلى هؤلاء المحاضرين لك لم ترسل إليهم أي لم يأت العرب قبْلك نبي ولا نزل عليهم كتاب ولا أتاهم نذير يشافههم بالنّذارة غيرك ، فلا تعارض بينه وبين قوله : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] إذ المراد هناك آثار النذير . ولا شك أن هذا كان موجوداً يذهب النبي وتبقى شريعته ، ثم بين أنهم كالذين من قبلهم كَذّبوا مثلَ عادٍ وثمودٍ وغيرهم .
قوله : { وَمَا بَلَغُوا } الظاهر أن الضمير في « بلغوا » وفي « آتيناهم » للَّذِين من قبله ليناسق قوله : { فَكَذَّبُوا رُسُلِي } يعني أنهم لم يبلغوا في شكر النعمة وجزاء المِنّة « مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ » من النعم والإحسان إليهم . وقيل : بل ضمير الرفع لقريش والنصب « للذين من قبلهم » وهو قول ابن عباس على معنى أنهم كانوا أموالاً ، وقيل : بالعكس على معنى إنا أعطيْنَا قريشاً من الآيات والبراهين ما لم نُعْطِ من قبلهم . واختلق في المشعار فقيل : هو بمعنى العُشْر بني مِفْعَال من لفظ العُشْر كالمِرْبَاع ، ولا ثالث لهما من ألفاظ العدد لا يقال : مِسْدَاس ولا مِخْمَاس ، وقيل : هو عُشْرُ العُشْرِ ، إلا أن ابن عطية أنكره وقال : ليس بشيء وقال المَاوَرْدِيُّ : المعشار هنا عُشْر العَشِيرِ ، والعَشِيرُ هو عُشْرُ العُشْرِ .
فيكون جزءاً من ألف قال : وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل .
فصل
المعنى أن هؤلاء المشركين ما بلغوا مِعْشَارَ ما أعطينا الأمم الخالية من النِّعْمَة والقوة وطول العُمْرِ فكذبوا رسلي فكيف كان نكير؟ أي إنكاري وتغييري عليهم يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية وقي : المراد وكذَّب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم أي الذين من قبلهم ما بلغوا مِعْشَار ما آتينا قوم محمد من البَيَان والبُرْهان وذلك لأن كتاب محمد - عليه السلام- أكملُ من سائر الكتب وأوضح ومحمد - عليه السلام- أفضل من الكتب وبما آتاهم من الرسل أنكر عليهم فكيف لا ينكر عليهم وقد كذبوا بأفصح الرُّسل وأوضح السُّبُل ويؤيد هذا قوله تعالى : { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } يعني غير القرآن ما آتيناهم كتاباً « وَمَا أَرْسَلْنَا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِير » فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب فحمل الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى .
قوله : « فكذبوا » فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على « كَذِّبَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ » .
والثاني : أنه معطوف على « وما بلغوا » وأوْضَحَهُما الزمخشري فقال : « فإن قلت : ما معنى » فكذبوا رسلي « وهو مستغنى عنه بقوله : { وَكَذَّبَ الَّذِين مِنْ قَبْلِهِم } ؟ قلتُ : لما كان معنى قوله : { وَكَذَّبَ الِّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل سبباً عنه ونظيره أن يقول القائل : أقْدَمَ فلانٌ على الكفر فكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يعطف على قوله : { وَمَا بَلَغُوا } كقولك : مَا بَلَغَ زَيْدٌ مِعْشَارَ فَضْلِ عمرو فَيُضِّلَ عليه » و « نَكِيرِ » مضاف لفاعله أي إنْكاري وتقدم حذف يائه وإثْبَاتُها .

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

قوله : { قُلْ إنَّما أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي آمركم وأوصيكم بواحدة أي بخصلة واحدة ثم بين تلك الخصلة فقال : { أنْ تَقُومُوا لِلَّهِ } أي لأجل الله .
قوله : « أن تقوموا » فيه أوجه :
أحدها : أنها مجرورة المحل بدلاً من « وَاحِدَةٍ » على سبيل البيان . قاله الفارسي .
الثاني : أنها عطف بيان « لواحدة » قاله الزمخشري . وهو مردود لتخالفها تعريفاً وتنكيراً ، وقد تقدم هذا عند قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] .
الثالث : أنها منصوبة بإضمار « أَعْنِي » .
الرابع : أنها مرفوعة على خبر ابتداء مضمر أي هي أن تقوموا ، و « مَثْنَى وفُرَادَى » حال وتقدم تحقيق القول في « مثنى » وبابه في سورة النساء ، ومضى القول في « فُرَادَى » في الأنعام ، ومعنى « مَثْنَى » أي اثنين اثنين ، و « فُرَادَى » واحداً واحداً . ثم قوله : { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } عطف على « أنْ تَقُومُوا » أي قِيَامكُمْ ثم تَفَكُّركُمْ ، والوقف عند أبي حاتم على هذه الآية مث يتبدئ : « مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةِ » وقال مقاتل : تم الكلام ( عند ) قوله : { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } أي في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقهما واحد لا شريك له .
قوله : { مَا بِصَاحِبكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } وفي « ما » هذه قولان :
احدهما : أنها نافية
والثانية : أنها استفهامية لكن لا يراد به حقييقة الاستفهام فيعود إلى النفي . وإذا كانت نافية فهل هي معلقة أو مستأنفة أو جواب القسم الذي تضمنه معنى « تَتَفَكَّرُوا » لأنه فعل تحقيق كتَبَيَّنَ وبابه؟ ثلاثة أوجه نَقَل الثَّالِثَ ابنُ عطية . وربما نسبه لِسِيبويهِ ، وإذا كانت استفهامية جاز فيها الوجهان الأولان دون الثالث و « مِنْ جنَّةٍ » يجوز أن يكون فاعلاً بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ ويجوز في « ما » إذا كانت نافية أن تكون الحجَازيَّة أو التَّمِيميَّة .
قوله : { مثنى وفرادى } إشارة إلى جمعي الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره فيدخل في قوله « مَثْنَى » وإن كان وحده دخل في قوله : « فُرَادَى » فكأنه قال : تَقُومُوا لله مجتَمعِينَ ومُنْفَرِدِين لا يمنعكم الجمعيَّةُ من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد يُعينكم على ذكر الله ثم تتفكروا في حال محمد - صلى الله عليه وسلم - فتعلموا ما بصاحبكم من « جنة » جنون . وليس المراد من القيام القيام ضد الجلوس وإنما هو القايم بالأمر الذي هو طلب الحق كقوله : { وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط } [ النساء : 127 ] قال ابن الخطيب وقوله : { بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } يفيد كونه رسولاً وإن كان يظهر من أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر من يظهر منه العجائب إما الجن وإما الملك فإذا لم يكن الصادر من النبي - عليه السلام- بواسطة الجن بل بقدرة الله من غير واسطة وعلى التقديرين فهو رسول الله وهذا من أحسن الطُّرق ، وهو الذي يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في البشر بنفي أخسِّ الصفات فإنه لو قال أولاً هو رسول كانوا فيه النِّزاع فإذا قال : ما هو مجنون لم يسعهم إنكار ذلك ، ليعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه ، فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة ولهذا قال بعده : { إنْ هُوَ نَذِيرٌ لَكُمْ } يعني إما هو به جِنّة و هو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة فهو نذير .

وقوله : { بَيْنَ يَدِيْ عَذَابِ شَدِيدٍ } إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال بنذركم بعذاب حاضر يَمَسّكم عن قريبٍ .
قوله : { قُلَ مَا سألتُكُمْ مِنْ أجْرٍ } في « ما » وجهان :
أحدهما : أنها شرطية فيكون مفعولاً مقدماً و « فهُوَ لَكُمْ » جوابها .
والثاني : أنها موصولة في محل رفع بالابتداء والعائدمحذوف أي سأَلْتُكُمُوهُ والخبر : « فَهُوَ لَكُمْ » ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط والمعنى يحتمل أنه لم يسألهم أجراً البتة كقولك : إن أعْطَيْتَنِي شيئاً فخذه مع عملك أي لم يُعْطِكَ شيئاً وقول القائل : ما لي من هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء . ويؤيده : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله } ويحتمل أن سألهم شيئاً نفعُه عائدٌ عليهم وهو المراد بقوله : { إِلاَّ المودة فِي القربى } [ الشورى : 23 ] « إنْ أَجْرِيَ » ما ثوابي { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ } .
قوله : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } يجوز أن يكون « يَقْذِفُ بالْحَقِّ » مفعوله محذوفاً لأن القَذْفَ في الأصل الرمي وعبر عنه هنا عوضاً عن الإلقاء أي يلقي الوحي إلى أنبيائه « بالْحَقِّ » أي بسبب الحق أو ملتبساً بالحق . ويجوز أن يكون التقدير يَقْذِفُ الباطلَ بالحقِّ أي يدفعه ويطرحه ، كقوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل } [ الأنبياء : 18 ] ويجوز أن يكون الباء زائدة أي نُلْقِي الحَقِّ ، كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] أو تضمن « يقذف » معنى يقتضي ويحكم ، والقذف الرمي بالسهم أو بالحَصَاةِ أو الكلام .
قال المفسرون : معناه نأتي بالحق بالوحي ننزله من السماء فنقذفه إلى الأنبياء قوله : { عَلاَّمُ الغيوب } العامة على رفعه وفيه أوجه : أظهرها : أنه خبر ( ثانٍ ) ل « إنّ » أو خبر لمتبدأ مضمر أو بدل من الضمير في « يَقْذِفُ » أو نعت له على رأي الكسائي؛ لأنه يُجيزُ نعت الضمير الغائب . وقد صرح به هنا وقال الزمخشري : رفع على محل إنَّ واسْمِها ، أو على محل إنَّ اسْمِها ، أو على المستكِنِّ في « يَقذف » يعني بقوله محمول على محل إنَّ واسْمِهَا يعني به النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم .

ويرد بالحمل على الضمير في نقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي ، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وعيسَى بْنُ عُمَرَ وابنُ أبي إسْحَاقَ بالنصب نعتاً لاسم إنَّ أو بدلاً منه على قلة الابدال بالمشتق أو منصوب على المدح . وقرئ الغُيُوب بالحركات الثلاث في الغين . فالضم تقدما في « بُيُوتٍ » وبابه . وأما الفتح صيغةُ مبالغة كالشَّكُورِ والصَّبُورِ وهو الشيء الغائب الخَفِيُّ .
فصل
قال ابن الخطيب في يقذف بالحق وجهان : أحدهما : نقذف بالحق في قلوب المحقين . وعلى هذا تُعَلَّقُ الآية بما قبلها من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي - عليه ( الصلاة و ) السلام- بقوله : { إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ } وأكده بقوله : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم } وكان من عادة المشركين استعباد تخصيص واحد من بينهم بإنزال الذكر عليه كما حكى عنهم قولهم : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] ذكر ما يصلح جواباً لهم فقال : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } في القلوب ( إشارة إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء كما يريد من غير اختصاص محل الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالماً وإنما ذلك فعل اتفاقاً ، كما يصيب السهم موضعاً دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة ، فقال : « بالْحقِّ » كيف شاء وهو عالم بما يفعله ( دعاكم ) بعواقب ما يفعله إذْ هُو عَلاَّم الغُيُوب فهو كما يريد لا كما يفعل الهاجمُ الغافلُ عن العَوَاقب .
الوجه الثاني : أن المراد منه أنه يقذف بالحق على الباطل كقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ } [ الأنبياء : 18 ] وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها من حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت وشبهتهم داحضة قال : « إن ربي يقذف بالحق » أي يُبْلي باطلكم . وعلى هذا الوجه فقوله : « علام الغيوب » هو أنّ البرهان المعقول لم يقع إلا على التوحيد والرسالة وأما الحشر فلا بُرْهَان على وقوعه إلا إخبار الله تعالى عنه وعن أحواله وأهواله ولولا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة فلما قال : { يَقْذِفُ بالحق } أي على الباطل أشار به إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة . ثم قال : « عَلاَّم الغُيُوبِ » أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأهوالها فهو لا خُلْف فيه فإن اله علام الغيوب . وتحتمل الآية وجهاً آخر هو أن يقال : « { رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } أي ما يقذفه بالحق لا بالباطل . والباء على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به والحق مقذوف على الوجهين الأولين وعلى هذا الباب في قوله : » بالحق « كالباء في قوله تعالى : { فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } [ ص : 26 ] والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلوب الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم .

قوله : { قُلْ جَآءَ الحق } يعني القرآن . وقيل : التوحيد والحشر ، وكلّ ما ظهر على لسان النبي - عليه ( الصلاة و ) السلام . وقيل المعجزات الدالة على نبوة محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام وقيل : المراد من جاء بالحق أي ظهر الحق لأن كلَّ ما جاء فقد ظهر .
قوله : { وَمَا يُبْدِيءُ } يجوز في « ما » أن تكون نفياً ، وأن تكون استفهاماً ، ولكن يَؤُول معناها إلى النفس ، ولا مفعول « ليُبْدِئُ » ولا « لِيُعِيدُ » إذ المراد لا يوقع هذهين الفعلين كقوله :
4142- أقَفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عُبَيْدُ ... أَصْبَحَ لاَ يُبْدِي وَلاَ يُعِيدُ
وقيل : مفعوله محذوف أي ما يُبْدِئُ لأهله خبراً ولا يُعِيدُه ، وهو تقدير الحسن . والمعنى : ذَهَبَ البَاطِلُ ووَهَن فلم يبق منه بقية يبدي شيئاً أو يعيد . وهو كقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ } [ الأنبياء : 18 ] وقال قتادة : الباطل هو إبليس أي ما يخلق إبليسُ أحداً ابتداء ولا يبعثه . وهو ( قول ) مقاتل والكلبِّي ، وقيل : الباطل الأصنام .
قوله : { إنْ ضَلَلْتُ } العامة على فتح لامه في الماضي وكسرها في المضارع ولكن بنقل الساكن قبلها . وابن وثاب بالعكس وهو لغةُ تميمٍ وتقدم ذلك .
فصل
قال المفسرون : إن كفار مكة كانوا يقولون : إنك ضللت حتى تركت دين آبائك ، فقال الله تعالى : { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي } أي إثم ضلالي على نفسي { وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } من القرآن والحكمة { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } .
قوله : { فِبِمَا يُوحِي } يجوز أن تكون « ما » مصدرية أي بسبب إيحاء ربي لي ، وأن تكون موصولة أي بسبب الذي يُوحِيه فعائده محذوف وقوله « سميعٌ » أي يسمع إذا ناديتهُ واستغنت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الدَّاعِي .

وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

قوله : { وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ } قال قتادة عن البعث حتى يخرجوا من قبورهم « فَلاَ فَوْتَ » أي فلا تَفُوتُونِي كقوله : { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ ص : 3 ] وقيل : إذْ فَرِعُوا عند الموت فلا نجاةَ و « لَوْ تَرَى » جوابه محذوف؛ أي ( جوابه ) ترى عجباً .
قوله : { فَلاَ فَوْتَ } العامة على بنائه على الفتح و « أُخِذُوا » فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول معطوفة على « فَزِعُوا » .
وقيل : على معنى : « فَلاَ فَوْتَ » أي فلم يفوتوا وأخذوا وقرأ عبد الرحمن مولى هاشم وطلحةُ فَلاَ فَوْتٌ وأَخْذٌ مرفوعين منونين ، وأُبَيّ يفتح « فوت » ، ورفع « أخذ » ، فرفع « فوت » على الابتداء أو على اسم لا الليسية ومن رفع « وأخذ » رفعه بالابتداء والخبر محذوف أي وأَخْذٌ هناك أو على خبر ابتداء مضمر أي وَحالُهُمْ أَخْذٌ .
ويكون من عطف الجمل مثبتةً على منفيةٍ .
قوله : { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } قال الكلبي : من تحت أقدامهم . وقيل : أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها . وحيث ما كانوا فهُمْ مِنَ الله قريب لا يفونه . وقيل : من مكان قريب يعني عذاب الدنيا . قال الضحاك : هو يوم بَدْر . وقال ابنُ أبْزَى : خَسْفٌ بالبيداء وجواب « لَوْ تَرَى » محذوف أي لَرَأيْتَ أَمْراً يُعْتَبَرُ بِهِ .
قوله : { وقالوا آمَنَّا بِه } أي عند اليأس . والضمير في « به » لله أو للرسول أو للقرآن أو للعذاب أو للبعث و « أَنِّي لَهُمْ » أي من أين لهم أي كيف يقدرون على الظَّفَرِ بالمطلوب وذلك لا يكون إلاَّ من الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة .
فإن قيل : فكيف قال في كثير من المواضع : إنَّ الآخِرَةَ من الدنيا قريبة وسمى الله الساعة قريبة فقال : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] { لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] .
فالجواب : أن الماضي كالأمس الدابر وهو أبعد ما يكون؛ إذ لا وصولَ إليه والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آتٍ فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيِّها ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه .
قوله : { التناوش } متبدأ و « أنَّى » خَبَرهُ ، أي كيف لهم التناوش و « لَهُم » حال ، ويجوز أن يكون « لهم » رافعاً للتناوش لاعتماده على الاستفهام تقديره كيف استقر لهم التناوش؟ وفيه بعد ، والتناوش مهموز في قراءة الأخوين وأبي عمرو ، وأبي بكر وبالواو في قراءة غيرهم ، فيحتمل أن يكونا مادتين مستقلتين مع اتّحاد معناهما ، وقيل : الهمزة عن الواو لانضمامها كوُجُوهٍ وأُجُوه ، ووُقّتت وأُقِّتَتْ وإليه ذهب جماعة كثيرةٌ كالزَّجّاج والزَّمخْشَري وابن عطية والحَوْفي وأبي البقاء قال الزجاج : كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت فيها بالخيار ، وتابعه الباقون قريباً من عبارته .

وردَّ أبو حيانَ هذا الإطلاق وقيده بأنه لا بدّ أن تكون الواو غير مدغم فيها تحرزاً من التعوذ وأن تكون غير مصححة في الفعل فإنها متى صحت في الفعل لم تبدل همزة نحو : تَرَهُوَكَ تَرَهْوُكاً ، وتَعَاوَنَ تَعَاوُناً . وهذا القيد الآخر يبطل قولهم لأنها صحت في : « تَنَاوَشَ يَتَنَاوَشُ » ، ومتى سلم له هذان القيدان أو الأخير منهما ثَبَتَ رده . والتَّنَاوُشُ الرجوعُ ، قال :
4143- تَمَنَّى أَنْ تَئُوبَ إلَيَّ مَيٌّ ... وَلَيْسَ إلى تَنَاوُشِهَا سَبِيلُ
أي إلى رجوعها . وقيل : هو التناول يقال : نَاشَ كذا أي تَنَاوَلَهُ ومنه تَنَاوشَ القَوْمُ بالسِّلاح كقوله :
4144- ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أبِيهِ تَنُوشُهُ ... لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تَشَقَّقُ
وقال آخر :
4145- وهي تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشاً مِنْ عَلاَ ... نَوْشاً به تقطَع أجْوَازَ الفَلاَ
وفرق بعضهم بين المهموز وغيره فجعل المهموز بمعنى التأخير . وقال الفراء : من نَأَشْتُ أي تَأَخَّرْتُ . وأنشد :
4146- تَمَنَّى نَئِيشاً أَنْ يَكُونَ مُطَاعُنَا ... وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأُمُورِ أُمُورُ
وقال آخر :
4147- قَعَدْتَ زَمَاناً عَنْ طِلاَبِكَ لْلعُلاَ ... وَجِئْتَ نَئِيشاً بَعَْ مَا فَاتَكَ الخَيْرُ
وقال الفراء أيضاً : هما متقاربان يعني الهمزة وتركها مثل ذِمْتُ الشيء وذَأَمْتُهُ أي عِبْتُهُ وانْتَاشَ انْتَاشَ انِتْيَاشاً كَتَنَاوَشَ وقال :
4148- كَانَتْ تَنُوشُ العنق انْتِيَاشا ... وهذا مصدر على غير المصدر ، و « مِنْ مَكَانٍ » متعلق بالتَّنَاوُشِ .
فصل
المعنى كيف لهم تناول ما بعد وهم الإيمان والتوبة وقد كان قريباً في الدنيا فضيّعوه وهذا على قراءة من لم يهمز وأما من همز معناه هذا أيضاً . وقيل : التناوش بالهمز من النَّيْشِ وهي حركة في إبطاء ، يقال : جاء نيْشاً أي مُبْطِئاً متأخراً والمعنى من أي لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه .
قال ابن عباس : يسألون الرد فيقال : وأنَّى لهم الردُّ إلى الدنيا « من مكان بعيد » أي من الآخرة إلى الدنيا .
قوله : { وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ } جملة حالية . وقوله « به » أي بالقرآن . وقيل : بالله أو محمد- عليه ( الصلاة و ) السلام- .
وقيل : بالعذاب أو البعث . و « من قبل » أي من قبل نزول العذاب . وقيل : من قبل أن عاينوا أهوال القيامة ، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والأول أظهر .
قوله : { وَيُقْذَفُونَ } يجوز فيها الاستئنافُ والحال ، وفيه بعد . عكس الأول لدخول الواو على مضارع مثبت . وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو : ويُقْذَفُونَ مبنياً للمفعول أي يُرْجَمُونَ بما يسوؤهُمْ من جزاء أعمالهم من حيث لا يحْتسبون .
فصل
ويقذفون قال مجاهد : يرمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالظن لا باليقين وهو قولهم : ساحرٌ وشاعرٌ وكاهنٌ . ومعنى الغيب هو الظن لأنه غاب علمه عنهم والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون والمعنى يَرْمُونَ محمداً بما لا يعلمون من حيث لايعلمون .
وقال قتادة : « أي يرجمون بالظن يقولون لا بعثَ ولا جنةَ ولانَارَ » .
قوله : { وَحِيَل } تقدم في الإشمام والكسر أو البقرة .

والقائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحَوْلُ ولا تقدره مصدراً مؤكداً بل مختصاً حتى يصح قيامه ، وجعل الحَوْفيُّ القائم مقام الفالع « بينهم » اعترض عليه بأنه كان نيبغي أن يرفع . وأجيب عنهُ بأنه إنما بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكِّن . ورده أبو حيان بأنه لا يبنى المضاف إلى غير متمكن مطلقاً ، فلا يجوز : قاَمَ غُلاَمَكَ ولا مَرَرْتُ بِغُلاَمكَ بالفتح . قال شهاب الدين : وقد تقدم في قوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ما يغني عن إعادة ثم قال أبو حيان : وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر :
4149- . . ... وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعَيْرِ والنَّزَوَانِ
فإنه نصب « بين » مضافة إلى معرب وخُرِّجَ أيضاً على ذلك قول الآخر :
4150- وَقَالَتْ مَتَى يُبْخَلْ عَلَيْكَ وَيُعْتَلَلْ ... يَسُؤْكَ ( وَ ) إنْ يُكْشَفْ غَرَامُكَ تَدْرَبِ
أي يتعلل هو أي الاعتلال .
قوله : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } يعني الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا .
وقيل : نعيم الدنيا وزهرتها ، « كَمَا فُعشلَ باَشْيَاعِهِمْ » بنظرائهم ومن كان ( على ) مث حالهم من الكفار « مِنْ قَبْلُ » لم يقبل منهم الإيمان في وقت اليأس « إنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكِّ » من البعث ونزول العذاب بهم ، و « مِنْ قَبْلُ » متعلق « بفُعِلَ » أو « بأَشْيَاعِهِمْ » أي ( الذين ) شايعوهم قبل ذلك الحين .
قوله : { مُرِيب } قد تقدم أنه اسم فاعل من أَراربَ أي أى بالريب أو دخل فيه وأَرَبْتُهُ أوْقَعْتُهُ في الرَّيْبِ . ونسبة الإرابة إلى الشك مجازاً .
وقال الزمخشري هنا إلا أن ههنا فُرَيْقاً وهو أن المريب من المتعدي منقول من صحاب الشك إلى الشك كما تقول شرع شاعر وهي عبارة حسنة مفيدة وأين هذا من قول بعضهم ويجوز أن يكون أردفه على الشك ليناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب . وقول ابن عطية الشك المريب : أقوى ما يكون من الشك وأشدُّه ، وتقدم تحقيق الريب أول البقرة ، وتشينع الراغب على من يفسر بالشكّ ، والله أعلم .
روى أو أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - . « مَنْ قَرَأَ سُوَرةَ سَبَأٍ لَمْ يَبْقَ نَبِيُّ وَلاَ رَسُولٌ إلاَّ كَانَ لَهُ رفيقاَ وَمُصَافِحاً » .
( صدق نبي الله وحَبِيبُ الله - صلى الله عليه وسلم ) .

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)

قوله : { الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات } قد تقدم أن الحمد يكون على النعمة في أكثر الأمر . ونعم الله على قسمين عاجلة وآجلة والعاجلة وجود وبقاء والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء .
قوله : { فَاطِرِ } إن جعلت إضافة محضة كان نعتاً « لله » وإن جعلتها غير محضة كان بدلاً . وهو قليل ، من حيث إنه مشتق ، وهذه قراءة العامة . والزُّهْريّ والضحاك : « فَطَرَ » فعلاً ماضياً وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها صلة لموصول محذوف أي الَّذِي فطر . كذا قدره أبو ( حيان ) وأبو الفضل ، ولا يليق بمذهب البصريين لأن حذف الموصل الاسمي لا يجوز ، وقد تقدم هذا الخلاف متسوفًى في البقرة .
الثاني : أنه حال على إضمار « قد » قال أبو الفضل أيضاً .
الثالث : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هُوَ فطر وقد حكى الزمخشري قراءة تؤيد ما ذهب إليه الرّازي فقال : « وقرئ الذي فَطَر وَجَعَل » ، فصرح بالموصول .
فصل
معنى فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق . قاله ابن عباس وقيل : فاطر السموات والأرض أي شاقّهما لِنُزُول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض . ويلد عليه قوله تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } فإن في ذلك اليوم تكن الملائكةُ رسلاً .
قوله : « جاعل » العامة أيضاً على جره نعتاً أو بدلاً ، والحسن بالرفع والإضافة .
وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنَّه لم ينون ونصب الملائكة ، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله :
1451- ... وَلاَ ذَاكِرِ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا
وابنُ يعمُر وخُلَيْدُ بن نَشِيطٍ « جَعَلَ » فعلاً ماضياً بعد قراءة فاطر بالجر وهذه كقراءة : { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل } [ الأنعام : 96 ] والحَسَنُ وحُمَيْد رُسْلاً بسكون السين وهي لغة تميم . وجاعل يجوز أن يكون بمعنى مصير أوبمعنى خالق فعلى الأولى يجري الخلاف هل نصب الثاني باسم الفاعل أو بإضمار فعل هذا إن اعتقد أن جاعلاً غير ماضي أما إذا كان ماضياً تعين أن ينتصب بإضمار فعل .
وتقدم تحقيق ذلك في الأنعام وعلى الثاني ينتصب على الحال ، و « مَثْنَى وثُلاَثَ ورُبَاعَ » صفة لأجنحة و « أُولي » صلة لرُسُلاً .
وتقدم تحقيق الكلام في مَثْنَى وأخْتَيْهَا في سورة النساء قال أبو حيان وقيل : أولي أجنحة معترض و « مثنى » حال والعامل فعل محذفو يدل عليه رسلاً أي يُرْسَلُون مَثْنَى وثُلاَث ورُبَاع وهذا لا يسمى اعتراضاً لوجهين :
أحدهما : أن « أولي » صفة لرسلاً والصفة لا يقلا فيها معترضة .
والثاني : أنها ليست حالاً من « رُسُلاً » ( بل ) من محذفو فكيف يكون ما قبله معترضاً؟ ولو جعله حالاً من الضمير في « رُسُلاً » لأنه مشتق لسهل ذلك بعض شيء ويكون الاعتراض بالصفة مجازاً من حيث إنه فاصل في الصورة .

قوله : { يَزِيدُ } مستأنف و « مَا يَشَاءُ » هو المفعول الثاني للزّيادة . والأول لم يقصد فهو محذفو اقتصاراً لأن قوله في الخلق يُغْنِي عَنْهُ .
فصل
قول قتادة ومقاتل : ألوي أجنحة بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثةُ أجنحة ، وبعضهم له أجنحة يزيد فيها ما يشاء وهو قوله : { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآء } قال ( عبد الله ) بنُ مسعود في قوله عزّ وجلّ : { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } [ النجم : 18 ] قال : رأي جبريل في صورته له ستّمائةِ جَنَاح . « قال ابن شهاب في قوله : { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآء } قال : حسن الصوت وعن تقادة : هو المَلاَحَةُ في العينين وقيل : هو القعل والتمييز { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
قوله : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر وقال : { مَّا يَفْتَحِ الله } إن رحم الله فلا مانع له وإن لم يرحم فلا باعثَ له عليها . وفي الآية دليل على سبق الرحمة الغضب من وجوه :
أحدها : التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر .
وثانيها : أنه أنّث الكناية فقال : فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا » ويجوز من حيث العربية أن يقال : « لَهُ » عَوْداً إلى « ما » ولكن قال الله تعالى ذلك ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة فيه واصلة إلى من رَحِمَتُهُ وقال عند الإمساك : « وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ » بالتذكير ولم يقل « لها » فلم يصرح بأنه لا مرسل للرحمة بل ذكره بلفظ يحتلم أن يكون الذي يرسل هو غير الرحمة ، فإن قوله ( تعالى ) { وَمَا يُمْسِكْ } عامٌّ من غير بيانٍ وتخصيص .
وثالثها : قوله من بعْدِه أي من بعد الله فاستثنى ههنا وقال : « لاَ مُرْسِلَ لَهُ إلاَّ اللَّهُ » وعند الإمساك قال : لاَ مُمْسِكَ لَهَا « ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رَحِمَهُ الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره ومن يعذبه الله قد يرحمه الله بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان .
قوله : { مِنْ رَحْمَةٍ } تبين أو حال من اسم الشرط ولا يكون صفة ل » ما « لأن اسم الشرط لا يوصف قال الزمخشري : وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قيل : أيّ رحمةٍ كانت سماويةً أو أرضية؟ قال أبو حيان : والعموم مفهوم من اسم الشرط و » من رحمة « بيان لذلك العام من أي صنف هو وهو مما اجْتُزِئَ فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط وتقديره من الرحمات . و » من « في موضع الحال . انتهى .
قوله { وَمَا يُمْسِكْ } يجوز أن يكون على عمومه أيْ أيّ شيء أمْسَكَه من رحمة أو غيرها .

فعلى هذا التذكير في قوله له ظاهر لأنه عائد على « ما يمسك » ويجوز أن يكون قد حذف الميَّن من الثاني لدلالة الأول عليه تقديره وما يمسك من رحمة فعلى هذا التذكير في قوله : « له » على لفظ « ما » وفي قوله أولاً : فلا ممسك لها التأنيث فيه حمل على معنى « ما » لأن المراد به الرحمة فحل مأولاً على المعنى وفي الثاني على اللفظ . والفَتْحُ والإمساك استعارة حسنة « وَهُوَ العَزِيزُ » فيما أمسك أي كامل القدرة « الحَكِيمُ » فيما أرسل أي كامل العلم . قال - عليه ( الصلاة و ) السلام « الَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجدّ مِنْكَ الجِدُّ » .
قوله : { ياأيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تَسْتَوجبُ الحمدل على سبيل التفصيل بني النعمة على سبيل الإجمال فقال : { اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } وهي مع كونها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء وقال : { يَرْزُقُكُمْ } إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق في الانتهاء .
قوله : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } قرأ الأخوان « غَيْرٍ » بالجر نعتاً « لِخَالِقٍ » على اللّفظ و « مِنْ خَالِقٍ » متبدأ مراد فيه « من » وفي خبره قولان :
أحدهما : هو الجملة من قوله : { يَرْزُقُكُمْ } .
والثاني : أنه محذوف تقديره : « لكم » ونحوه ، وفي « يرزقكم » على هذا وجهان :
أحدهما : أنه صفة أيضاً لخلق فيجوز أن يحكم على مَوْضِعِهِ بالجر اعتباراَ باللفظ وبالرفع اعتباراً بالمَوْضِعِ .
والثَّانِي : أنه مستأنف وقرأ الباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر المبتدأ .
والثاني : أنه صلة لخالق على المَوْضِع والخبر إما محذوفٌ وإما « يَرْزُقُكُمْ » .
والثالث : أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية لأن اسمَ الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام إلاَّ أن أبا حيان توقف في مثل هذا من حيث إن اسم الفاعل وإن اعتمد إلا أنه لم يحفظ ( فيه ) زيادة « من » قال : فيحتاج مثله إلى سماع ولا يظهر التوفق فإن شروط الزيادة والعمل موجودة ، وعلى هذا الوجه « فَيرْزُقُكُمْ » إما صفة أو مستأنف .
وجعل أبو حيان استئنافه أولى ، قال : لانتفاء صدق « خالق » على غير الله بخلاف كونه صفة فإن الصفة تُقَيَّد فيكون ثَمَّ خالق غير الله لكنه ليس برازقٍ وقرأ الفضلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النحويّ « غَيْرَ » بالنصب على الاستثناء والخبر « يَرزُقُكُمْ » أو محذوف و « يرزقكم » مستأنفةٌ أو صفةٌ .

فصل
قال المفسرون : هذا استفهام على طريق التنكير كأنه قال : لا خالق غير الله يرزقكم .
من السماء والأرض أي من السماء المطر ومن الأرض النبات « لاَ إلَه إلاَّ هُوَ » مستأنف « فَاَنَّى تُؤْفَكُونَ » أي فأنى تُصْرَفُونَ عن هذا الظاهر فكيف تشركون المَنْحُوتَ بمن له الملكوت؟ ثم لما بين الأصل الأول وهو التوحيد ذلك الأصل الثاني وهو الرِّسالة فقال : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } يسلي نبيه - صلى الله عليه وسلم - ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب ( و ) غير المكذب له الثواب بقوله : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر فقال : { ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني وعد القيامة { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور } أي الشيطان وقرأ العامة بفتح « الغَرُور » وهو صفة مبالغة كالصَّبُور والشَّكُور . وأبو السَّمَّال وأبو حَيْوَة بضمِّها؛ إماغ جمع غارٍ كَقَاعدٍ وقُعُودٍ وإمَّا مصدر كالجُلُوس .

إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)

قوله : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ } لما قال تعالى : { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور } [ فاطر : 5 ] يمنع العاقل من الاغترار وقال : { الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّا } ولا تمسعوا قوله . قوله : { فاتخذوه عَدُوّا } أي اعملوا ما يسوؤه وهو العمل الصالح . ثم قال : { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ } أي أشياعه { لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } ( و ) في الآية أشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فإما أنْ يُعَادِيَه مجازاةً له وإما أن يُرْضيه فلما قال تعالى : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوّ } أمرهم بالعداوة وأَشَارَ إلى أن الطريق ليس إلا هذا . وأما الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إنْ أَرْضَيْتمُوهُ واتَّبعتُمُوهُ فهو لا يؤدِّيكم إلا إلى السعير .
واعلم أن من علم أن له عدواً لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يق له ويصير معه على قتاله إلى يظفر به وكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان ( أن ) يهرب منه فإنه يقف معه ولا يزال ثابتاً على الجادّة والاتِّكال على العبداة ثم بين تعالى ما حال حزبه وحال حزب الله وهو قوله : { الذين كَفَرُواْ } يجوز رفعه ونصبه وجره فرفعه من وجهين :
أظهرهما : أن يكون متبدأ والجملة بعده خبره . والأحسن أن يكون « لهم » هو الخبر و « عَذَابٌ » فاعله .
الثاني : أنه بدل من واو « لِيَكُونُوا » ونصبه من أوجه : البدل من « حِزْبَهُ » أو النعت له أو إضمار فلع « أَذُمُّ » ونحوه ، وجره من وجهين : النعت أو البدلية من « أصْحَابِ السًّعِيرِ » وأحسن الوجوه الأول المطابقة التقسيم واللام في « لِيَكُونُوا » إما للعلة على المجاز من إقامة السَّبَب مَقَم المُسَبب وإما الصَّيْرُورة ثم قال : { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } وهذا حال حزب الشيطان { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } فالإيمان في مقابلته المغفرة فلا يُؤَبَّد مؤمنٌ في النار والعمل الصالح في مقابلته « الأجر الكبير » .
قوله : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِه } « مَنْ » موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر محذوف فقدره الكسائِيُّ « تذهب نفسك عليهم حَسَرَاتٍ » لدلالة : « فَلاَ تَذْهَب » عليه وقدره الزجاج : « وأَضَلَّهُ اللَّهُ كَمَنْ هَدَاهُ » وقدره غيرهما كمن لم يُزَيَّنْ له . وهو أحسن ، لموافقته لفظاً ومعنى ونظيره « أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ ( هُوَ أعْمَى ) » { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } [ الرعد : 19 ] والعامة على « زُيِّنَ » مبنياً للمفعول « سُوءُ » رفع وعُبَيْدُ بْنُ عَمَيْر زَيَّنَ مبنياً للفاعل وهو الله « سُوءَ » بالنصب به . وعنه « أَسْوأَ » بصيغة التفضيل منصوباً وطلحةُ « أَمَنْ » بغير فاء قال أبو الفضل : الهمزة للاستخبار بمعنى العامة للتقرير ويجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور الجواب ، يعني أنه يجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور الجواب ، يعني أنه يجوز في هذه القراءة أن تكون الهمزة للنداء وحذف التّمام أي ما نُودي لأجله كأنه قيل : يَا مَنْ زينَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ارْجِعء إلى الله وتب إليه ، وقوله : « كما حذِف الجواب » يعني به خبرَ المبتدأ الذي تَقدَّم تقريره .

فل
قال ابن عباس : نزلت في أبي جهل ومشركي مكة وقال سعيد بن جبير : نزلت في أصحاب الأهْوَاء والبِدَع فقال قتادة : منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم فأما أهل الكبائر فليسوا منهم لأنهم لا يستحلون الكبائر . ومعنى زين له سوء عمله شبه له وموه عليه وحسن له سوء عمله أي قبح عمله فرآه حسناً زين له الشيطان ذلك بالوسواس . وفي الآية حذف مجازه : أفمن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فرأى الباطل حَقًّا كَمَنْ هداه اله فرأى الحق حقاً والباطل باطلاً؟ « فإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء » وذلك لأن أشخاص الناس متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان والسيئة والحسنة تمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون ذلك بالاستقلال منهم فلا بدّ من الاستناد إلى إرادة الله تعالى .
ثم سلى- رسول الله صلى الله عليه وسلم - حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجةٍ قاهرة فقال : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } كقوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } [ الكهف : 6 ] أي لا تغتمّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا .
قوله : { فَلاَ تَذْهَبْ } العامة على فتح التاء مسنداً « لِنَفْسِك » من باب « لاَ أَرَيَنَّكَ هَهُنَا » أي لا تتعاط أسباب ذلك . وقرأ أبو جعفر وقتادة والأشهب بضم التاء وكسر مسنداً لضمير المخاطب ( و ) نَفْسَك مفعول به .
قوله : { حَسَرَاتٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول من أجله أي لأَجْلِ الحَسَرَاتِ .
والثاني : أنه في موضع الحال على المبالغة كأن كلها صَا ( رَ ) تْ حَسَرَاتٍ لفرط التحسر كما قال :
4152- مشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى ... حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُوراً
يريد : رجعن كلاكلاً وصدرواً ، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها كقولهم ( شعر ) :
4153- فَعَلَى إثْرِهم تَسَاقَطُ نَفْسِي ... حَسَرَاتٍ وذَِكْرُهُم لِي سَقَامُ
وكون « كلاكل وصدور » حال قوله سيبويه وجعلها المُبَرِّدُ تَمْييزين منقولين من الفاعلية والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر . ثم قال : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون } أي الله عالم بفعلهم يجازيهم على ما يصنعونه ، ثم عاد إلى البيان وقال : { والله الذي أَرْسَلَ الرياح } وهبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار ، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال وفي حركاته المخلتفة قد يُنْشِئ السَّحَابَ وقد لا يُنْشِئُ .

فهذه الاختلافات دليل على مسخَّرٍ مدبِّرٍ مُؤَثِّر مُقَدِّرٍ .
قوله : { فَتُثِرُ } عطف على « أرْسَلَ » لأن « أرْسَلَ » بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرْسَلَ لِتَحقُّقِ وقوعه . و « تثيرُ » لتصور الحال واستحضار الصورة البديعية كقوله : { أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } [ الحج : 63 ] وكقول تَأبَّكَ شَرًّا :
4154- ألاَ مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيَانَ فَهْمٍ ... بِمَا لاَقَيْتُ عِنْدَ رَحَا مَطَانِ
بأنِّي قد رأيت الغول تَهْوِي ... بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ
فَقُلْتُ لَهَا كِلاَنَا نِضْوُ أرْضٍ ... أَخُو سَفَرٍ فخل لِي مَكَانِي
فَشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوِي فَأَهْوَتْ ... لَهَا كَفِّي بمصقول يَمَانِي
فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّتْ ... صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ ولِلْجِرَانِ
حيث قال : « فأضربها » ليصور لقوله حاله وشجاعته وجرأته وقوله : « فَسُقْنَاهُ و أَحْيَيْنَا » معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدْخَلُ في الاختصاص وأدلّ عليه .
فصل
قال : أرسل بلفظ الماضي وقال : { فَتُثِيرُ سَحَاباً } بلفظ المستقبل ، لأنه لما أُسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزَّمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان ، ولأنه فرغ من كل شيء فهو قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة . ولما أسند فعل الإشارة إلى الريح ويه تؤلَف في زمان فقال : تُثِيرُ أي على هيئتها وقال : « سُقْنَا » أسند الفعل غلى المتلكم وكذلك في قوله : « فَأحْيَيْنَا » لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعلا وهو الإرسال ثم لما عرف قال : أنا الذي بَعَثْتُ السَّحَاب وأحْيَيْتُ الأَرْضَ . ففي الأول كان تعريفاً بالفعل العجيب وفي الثاني : كان تذكيراً بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحاب بالسَّوْقِ والإحياء وقوله : « سُفْنَا وَأَحْيَيْنَا » بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين قوله : « أرسل » وبين قوله : « تثير » ثم قال : « كَذَلِكَ النُّشُورُ » أي من القبور ووجه التشبيه من وجوه :
أحدها : أن الأرض الميتة لما وصلت الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة .
وثانيها : كما أن الريح تجمع القِطَعَ السحابية كذلك نجمع أجزاء الأعطاء وأبعَاضَ الأشياء .
وثالثها : كما أنَّا نسوق الرِّيح والسحاب إلى البلد نسوق الرُّوحَ إلى الجسد الميِّت .
فإن قيل : ما الحكمة في هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد؟
فالجواب : أنه تعالى لما ذكر أنه فاطر السماوات والأرض وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله : « جَاعِلِ الملائكة رسلاً أولي أجنحة » ذكر في الأمور الأرضية الرِّياحَ .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ } شرط جوابه مقدر باختلاف التفسير في قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة } ( فقال مجاهد : معاه ) من كان يريد العزة بعبادة الأوثان فيكون تقديره فليطلبها .
وقال قتادة : من كان يريد العزة وطريقة القويم ويحِبُّ نَيْلَها على وجهها . فيكون تقديره على هذا فليطلبها .
وقال الفراء : مِنْ كَانَ يريد علمَ العرزة فيكون التقدير : فَلْيَنْسب ذلك إلى الله .
قويل : من كان يريد العزة لا يعقبها ذلّة . فيكون التقدير : فهو لا يُبَالِهَا . ودل على هذه الأجوبة قوله : { فَلِلَّهِ العزة } وإنما قيل : إن الجواب محذوف وهو هذه الجملة لوجهين :
أحدهما : أن العز لله مطلقاً من غير ترتبها على شرط إرادة أحدٍ .
والثان : أنه لا بدّ في الجواب من ضي يعود على اسم الشرط إذا كان غير ظرف ولم يوجد هنا ضمير ، و « جَميعاً حال ، والعامل فيها الاسْتِقْرَارُ .
فصل
قال قتادة : من كان يريد العزة فليتفرد بطاعة الله عزّ وجلَ- ومعناه الدعاء إلى طاعة من له العزة أي فليطلب العزة من عند الله بطاعته كما يقال : من كان يريد المال فالمال لفُلان ( أي ) فليطلبه من عنده ذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزيز كما قال تعالى : { واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ } [ مريم : 81-82 ] وقال : { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } [ النساء : 139 ] .
قوله : { إِلَيْهِ يَصْعَد } العامة على بنائه للفاعل من » صَعَدَ « ثلاثياً » الكَلِمُ الطَّيِّبُ « ( برفعهما فاعلاً ونعتاً وعليّ وابنُ مسعود يُصْعِدُ من أصْعَدَ الكَلِمَ الطَّيّبَ ) منصوبان على المفعول والنعت وقرئ يُصْعَدُ مبنياً للمفعول . وقال ابن عيطة : قرأ الضحاك يُصْعَد بضم الياء لكن لم يبيّن كونه مبنياً للفاعل او المفعول .
فصل
قال المفسرون : الكَلِمُ الطَّيب قول لا إله إلا الله . وقيل : هو قول الرجل : سُبْحَان اللَّهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ ولاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ أَكْبَرُ . وعن ابن مسعود قال : إذا حَذَّثْتُكُمْ حَديثاً أنبأتكم بِمصْدَاقِهِ من كتاب الله - عزّ وجلّ - ما مِن عبدٍ مسلم يقول خمس كلمات سُبْحَان الله والحمدُ لله ولا إله إلا الله والله أكبرُ وتبارك الله إلا أحذهُنَّ ملكٌ فَجعَلَهُنَّ تحت جناحه ثم صعد بِهِنَّ ، فلا يمرّ بهن على جمع من الملائكة إلاَّ استغفروا لقائلهن حتى يَجِيءَ بهنَّ وَجْهَ ربِّ العالمين ومصداقيه من كتاب الله عزّ وجلّ قوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } وقيل : الكلم الطيب : ذكر الله . وعن قتادة : إليه يصعد الكلم الطيب أي يقبل اللَّهُ الكلمَ الطيب .
قوله : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ } العامة على الرفع وفيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على » الكَلِمُ الطَّيَّبُ « فيكون صاعداً أيضاً .

و « يَرْفَعُهُ » على هذا استئناف إخبار من الله برفعهما . وإنما وَحَّدَ الضمير وإن كان المراد الكلم والعمل ذهاباً بالضمير مذهب اسم الإشارة كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] وقيل : لاشتراكهما في صفة واحدة وهي الصُّعود .
والثاني : أنه مبتدأ و « يرفعه » الخبر ولكن اختلفوا في فاعل « يَرْفَعُ » على ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه ضمير الله تعالى أي والعمل على الصالح يرفعهُ الله إليه .
والثاني : أنه ضمير العمل الصالح وضمير النصب على هذا وجهان :
أحدهما : أنه يعود على صاحب العمل أي يرفع صَاحِبَهُ .
والثان : أنه ضمير الكلم الطيب أي العمل الصالح يرفع الكلمَ الطيب . ونُقل هذا عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وعكرمة وأكثر المفسرين إلاَّ أنَّ ابن عطية منع هذا عن ابن عباس وقال : لا يصح؛ لأن مذهب أهل السنة أن الكلم الطيب مقبول وإن كان صاحبه عاصياً .
والثالث : أن ضمير الرفع للكلم والنصب للعمل أي يرفع العَمَلَ وقرأ ابنُ أبي عَبَلَةَ وعِيسَى بالنّصب الْعَمَلَ الصَّالِحَ على الاشتغال والضمير المرفوع لِلْكَلِم أو لله والمنصوب للْعَمَلِ .
فصل
قال الحسن وقتادة : الكلمُ الطَّيَّبُ ذكر الله والعمل الصلاح أداء فرائضه ، فمن ذكر الله ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه على عمله وليس الإيمان بالتمني ولا بالتًّخَلِّي لكمن ما وقَرَ في القلوب وصدقه الأعمال فمن قال حَسَناً وعَمِلَ غير صالح ردّ الله عليه قوله ومن قال حَسَناً وعمل صالحاً رفعه العمل لقوله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } وقال عليه ( الصلاة و ) السلام - « لَمْ يَقْبَل اللَّهُ إلاَّ بِعَمَلٍ وَلاَ قَوْلاً وَعَمَلاً إلاَّ بِنِيَّة » . ومن قال الهاء في قوله « يَرفعُهُ » راجعةٌ إلى العمل الصالح أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح فلا يُقْبَلُ عَمَلٌ إلا أن يكون صادراً عن التوحيد . وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل . وقال سفيان بن عيينة : العمل الصالح هو الخالص يعني أن الإخلاص سبب قبلو الخيرات من الأقولا والأفعال لقوله تعالى : { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا } [ الكهف : 110 ] فجعل نقيض العمل الصالح الشِّرك والرياء .
قوله : { والذين يَمْكُرُونَ السيئات } « يمكرون » أصله قاصر فعلى هذا ينتصب « السيّئات » على نعت مصدر محذوف أي المكراتِ السيئات أو تعتٍ مضاف إلى ( مصدر ) أي أصْنَاف المَكْرَاتِ السيئاتِ ويجوز أن يكون « يَمْكُرُونَ » مضمناً معنى يكْسِبُون فينتصب « السيئات » معفولاً به قال الزمخشري ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فمعناه تعديته كما قال : { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } [ النساء : 18 ] قال مقاتل : يعني الشرك . وقال أبو العالية : يعني الذين مكروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار النَّدْوة كما قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } [ الأنفال : 30 ] .
قوله : { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } هو مبتدأ و « يبور » خبره والجملة خبر قوله : { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ } وجوَّز الحَوْفِيُّ وأبو البقاء أن يكون « هو » فصلاً بين المبتدأ أو الخبر وخبره وهذا مردود بأن الفصل لا يقع قبل الخبر إذا كان فعلاً إلاَّ أن الجُرْجَانيِّ جوز ذلك ، وجوز أبو البقاء أيضاً أن يكون « هو » تأكيداً وهذا مردود بأن المضمر لا يؤكد الظاهر ومعنى « يَبُور » يَهْلِكُ ويَبْطُلُ في الآخرة .

قوله تعالى : { والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ الآية } قد تقدم أن الدلائل مع كثرتها منحصرة في قسمين : دلائل الآفاق ودلائل الأنفس كما قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] فلما ذكر دلائل الآفاق من المسوات وما يرسل منها من الرياح شرع في دلائل الأنفس وتقدم ذكره مِراراً أن قوله : « مِنْ تراب » إشارة إلى خلق آدم « ثُمَّ مِنْ نُطْفِةٍ » إشارة إلى خلق أولاده . وتقدم أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم ، وكلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء والغذاء ( ينتهي ) بالآخرة إلى الماء والتراب فهو من تراب صار نطفة « ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ذُكْرَانا وإنَاثاً » .
قوله : { } من مزيدة في « أُنْثَى » وكذلك في : « مِنْ مُعَمَّرٍ » إلا أن الأول فاعل وهذا مفعول قام مقامه و « إلاَّ بِعِلْمِهِ » حال أي إلاَّ مُلْتبِسَةً بعِلْمِهِ .
قوله : { مِنْ أنثى } في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود على « مُعَمَّر » آرخ لأن المراد بقوله : « مِنْ مُعَمَّر » الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى ، لأنه بعد أن فرض كونُه معمراً استحال أن يَنْقص مِنْ عُمُرِهِ نفسه كقوله :
4155- وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَتْلَ فَحْلِهِم ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَه فهو سَارِبُ
ومنه : عندي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ أي ونصف درهم آخر .
والثاني : أنه يعود على « مُعَمَّر » لفظاً ومعنى . أنه إذا مضى من عمره حول أُحْصِيَ وكُتِبَ ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص . وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبُو مالكٍ؛ ومنه قول الشاعر :
4156- حياتك أنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلما ... مَضَى نَفَسٌ مِنْكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءَا
وقرأ يعقوب وسلاَّم - وتروى عن أبي عمرو - ولا يَنْقُصُ مبنياً للفاعل وقرأ الحَسَنُ : مِنْ عُمْرِهِ بسكون المِيم .
فصل
معنى « وما يعمر من معمر » لا يطول عمره ولا ينقص من عمره أي من عرم آخر كما يقال : لفلانٍ عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر « إلا في كتاب » وقيل : قوله ولا نيقص من عرمه ينصرف إلى الأول . وقال سعيد بن جبير : مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل ( من ) ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره .

وقال كعب الأحبار حين حضر الوفاة عمر : والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر فقيل له : إن الله عزّ وجلّ يقول : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد و ( أن ) يَنْقُصَ ، وقرأ هذه الآية .
فصل
« وما تحمل من أنثى ولا تضع » إشارة إلى كمال قدرته فإن ما في الأرحام قبل التخليق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف والأم الحامل لا تعلم منه شيئاً فلما ذرك بقوله : { خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } كمال قدرته بين بقوله : { ما تَحْمِلُ من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } كمال علمه . ثم بين نفوذ إرادته بقوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } فبين أنه هو القادرُ العليم المريد والأصنام لا قدرة لها ( ولا علم ) ولا إرادة فكيف يستحق شيء منها العبادة . ثم قال : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي الخلق من التراب . ويحتمل أن يكون المراد إن التعمير والنقصان على الله يسير . ويحتمل أن يكون المراد : إن العمل بما تحمله الأنثى يسير والكل على الله يسير . والأول أشبه لأن استعمال اليسير في الفعل أليق .
قوله : { وَمَا يَسْتَوِي البحران } يعني العذب والملح ثم ذكرهما فقال : { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ } طيب « سَائغٌ شَرَابُهُ » جائز في الحلق هنيء « وَهَذا مِلْحٌ أجَاجٌ » شديد الملوحة . وقال الضحالك : هو المُرُّ .
قوله : { سَآئِغٌ شَرَابُهُ } يجوز أن يكون متبدأ وخبراً ، والجملة خبر ثانٍ وأن يكون « سائغٌ » خبراً و « شرابه » فاعلاً به لأنه اعتمد وقرأ عيسى - ويوى عن أبي عمرو وعاصم - سَيِّغٌ مثل سيِّد وميِّت وعن عيسى بتخفيف يائه كما يخفف هَيِّن ومَيِّت .
وقرأ طلحة وأبو نُهَيْك ملحٌ بفتح الميم وكسر اللام ، فقيل : هو مقصور من مَالِحٍ ومالٍح لغَيَّة شاذة . قويل : مَلِح بالفَتْح والكسر لُغَةٌ في مِلْحٍ ، بالكسر والسكون .
فصل
قال أكثر المفسرين : إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن فالإيمان لا يُشَبَّه بالكفر كما لا يشبه البحر العَذْبُ الفراتُ بالبحر المَلِح الأجاج ثم على هذا فقوله : { وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } فالبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاجَ يشارك الفُرَاتَ في خير ونفع إذ اللحمُ الطريُّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منها والفُلْكُ تجري فيهما ولا نفع في الكفر والكافر . وهذا على نَسَقِ قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] وقوله : { كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء } [ البقرة : 74 ] قال ابن الخطيب : والأظهر أن المراد من ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى وذلك من حيث إن البحرين يَسْتَوِيَانِ في الصورة ويختلفان في الماء ، فإن أحدهما فُراتٌ والآخر مِلْح أُجَاج ولولا ذلك بإيجاب مُوجِب لما اختلفت المستويان ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة فإن اللحم الطريَّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منهما ومن يوجد من المتشابهين اختلافاً ومن المختلفين اشتباهاً لا يكون إلا قادراً مختاراً فقوله : { َمَا يَسْتَوِي البحران } إشارة إلى أن عدم استوئهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته .

فصل
قال أهل اللغة : لا يقال لماء البحر إذا كان فيه مُلُوحَةٌ مالحٌ وإنما يقال له : مِلْح .
وقد يذكر في بعض كتب الفقه يَصِيرُ بها ماءُ البَحْرِ مَالِحاً . ويؤاخذ قائله ( به ) وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقي فيه مِلْح حتى مَلَحَ لا يقالُ له إلا مالح . وماء مِلْحٌ يقال للماء الذي صار من أصل خِلْقَتِهِ كذلك لأن المَالِحَ شيء فيه مِلْحٌ ظاهر في الذَّوْق والماء الملح ليس ماءً ومِلْحاً بخلاف الطعام المالح فالماء العذب المُلْقَى فيه المِلْح ما فيه ملح ظاهر في الذَّوْق بخلاف ( ما هو مِلْحٌ ظاهر في الذَّوْقِ بخلاف ) ما هو من أصل خلقته كذلك ( فلما ) قال الفقيه : الملحُ أجزاء أرضيَّة سَبِخَة يصير بها ماءُ البَحْرِ مالحاً راعى فيه الأصل فإنه جعله ماءً جاوره مِلْحٌ . وأهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه مِلْحٌ جعلوه كذلك من أصل الخلقة والأجَاجُ المُرُّ كما تقدم .
قوله : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } من الطَّيْر والسَّمَك من العَذْب والملح جميعاً « وتَسَتْخَرِجُونَ حِلْيَةً » يعني من الملح دون العذب « تَلْبَسُونَها » من اللُّؤْلُؤ والمَرجَان . وقيل : نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الأجاج ( عيون ) عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك . وقرئ « الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ » أي ماخرات تَمْخُر البحر بالجَرَيَان أي تشُقّ جَوَارِي مقبلة ومدبرة بريح واحدة « لِتبَبْغُوا مِنْ فَضْلِهِ » بالتجارة « ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ » الله على نعمة وهذا يدل على أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته .
قوله : { يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل } وهذا استلال آخر باختلاف الأزمنة وقوله : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } جواب لسؤال يذكره المشركون وهوأنهم قالوا اختلاف الليل والنهار بسبب اختلاف القسيّ الواقعة فوق الأرض وتحتها فإن الصيف تكون الشمس على سَمْتِ الرُّؤُوس في بعض البلاد المائلة الآفاق وحركة الشمس هناك مائلة فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة فيقل زمان مكثها تحت الأرض فيقْصُرُ الليل وفي الشتاء بالضَّدّ فيقصر النهار فقال الله تعالى : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } يعني سبب الاختلاف وإن كان ما ذكرتم لكن سير الشمس والقمر بإرادة الله وقدرته فهو الذي فعل ذلك « كُلُّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسمَّى » .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75