كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

قوله : « غُمَّةً » يقال : غمٌّ وغُمَّةٌ ، نحو كَرْبٌ وكُربَةٌ .
قال أبو الهيثم : هو من قولهم : غمَّ علينا الهلالُ ، فهو مغمومٌ إذا التمسَ ، فلم يُرَ؛ قال طرفةُ بن العبد : [ الطويل ]
2920- لعَمْرُكَ ما أمْرِي عليَّ بغُمَّةٍ ... نَهَاري ولا لَيْلِي عليَّ بِسرمَدِ
وقال اللَّيث : يقال : هُو في غُمَّةٍ من أمره ، إذا لَمْ يتبيَّنْ لهُ .
قوله : { ثُمَّ اقضوا } مفعول « اقضوا » محذوف ، أي : اقضُوا إليَّ ذلك الأمر الذي تريدون إيقاعه بي؛ كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } [ الحجر : 66 ] فعدَّاه لمفعول صريح .
وقرأ السَّري : « ثُمَّ أفْضُوا » بقطع الهمزة والفاء ، من أفْضى يُفضِي إذا انتهى ، يقال : أفضَيْتُ إليك ، قال تعالى : { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] ، فالمعنى : ثُمَّ أفضُوا إليَّ سرَّكم ، أي : انتهوا به إليَّ ، وقيل : معناه : أسْرِعُوا به إليَّ ، وقيل : هو مِنْ أفْضَى ، أي : خَرَجَ إلى الفضاءِ ، أي : فأصْحِرُوا به إليَّ ، وأبرزُوه لي؛ كقوله : [ الطويل ]
2921- أبَى الضَّيْمَ والنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نابهُ ... عليه فأفْضَى والسُّيُوفُ معاقِلُه
ولامُ الفضاءِ واوٌ؛ لأنَّه من فضا يَفْضُو ، أي : اتَّسعَ ، والمعنى : فأحكمُوا أمركُم ، واعزِمُوا وادعُوا شُركَاءَكُم ، أي : آلهتكُم ، فاستعينوا بها لتجتمع .
وروى الأصمعي ، عن نافع : « فأجمعُوا ذوي الأمر منكم » فحذف المضاف ، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت .
قال ابن الأنباري : المرادُ من الأمر هنا : وجوه كيدهم ، ومكرهم ، والتقدير : لا تتركوا مِن أمركُم شيئاً إلا أحضرتُمُوه . والمراد من الشركاء : إما الأوثان؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّها تَضُرُّ وتنفعُ ، وإمَّا أن يكون المرادُ : من كان على مثل دينهم .
{ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي : خفيًّا مبهماً ، من قولهم : غَمَّ الهلالُ على النَّاسِ ، أي : أشْكل عليهم ، فهو مغمومٌ إذا خفي . « ثُمَّ اقضُوا » أي : امضُوا ، « إليَّ » : بما في أنفسكم من مكروه وافرغوا منه ، يقال : قضى فلان : إذا مات ، وقضى دينه : إذا فرغ منه ، وقيل معناه : توجَّهُوا إليَّ بالقتل والمكروه ، وقيل : « فاقْضُوا ما أنتم قاضُون » كقول السَّحرة لفرعون « { فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ } [ طه : 72 ] .
قال القفال : ومجاز دُخُول كلمة » إلى « في هذا الموضع من قولهم : برئت إليك ، وخرجت إليك من العهد ، وفيه معنى الإخبار؛ فكأنَّه - تعالى - قال : ثم اقضُوا إليَّ ما يستقرُّ رأيكم عليه محكماً مفروغاً منه ، ثم لا تنظرون أي : لا تمهلون ولا تُؤخِّرُون .
وقد نظَّم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه ، فقال : إنه - عليه الصلاة والسلام - قال في أول الأمر : فعلى الله توكلت؛ فإنِّي واثقٌ بوعد الله ، جازم بأنَّه لا يخلفُ الميعاد ، فلا تظُنُّوا أنَّ تهديدكم إيَّاي بالقتلِ والإيذاء يمنعني من الدُّعاء إلى الله ثم إنَّه - عليه الصلاة والسلام - أورد عليهم ما يدل على صحة دعواهُ ، فقال : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ } كأنَّهُ يقول : اجمعوا ما تقدرُون عليه من الأشياء التي توجبُ حُصُول مطلوبكم ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل أمرهم أن يضُمُّوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أنَّ حالهم يقوى بمكانتهم وبالتَّقَرُّب إليهم ، ثم لم يقتصر على هذين ، بل ضمَّ إليهما ثالثاً ، وهو قوله : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أراد أن يبلغوا فيه كل غايةٍ في المكاشفةِ والمجاهرة ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل ضمَّ إليها رابعاً ، فقال : { ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ } والمراد : أن وجهوا كلَّ تلك الشُّرُور إليَّ ، ثم ضمَّ إلى ذلك خامساً ، وهو قوله : { لاَ تُنظِرُونَ } أي : عجِّلُوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير انتظار ، ومعلومٌ أنَّ مثل هذا الكلام يدل على أنه - عليه الصلاة والسلام - كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله ، وأنَّه كان قاطعاً بأنَّ كيدهم لا يضرُّه ، ولا يصل إليه ، ومكرهم لا ينفذُ فيه .

قوله : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أعرضتم عن قولي ، وقُبُول نُصْحِي ، { فَمَا سَأَلْتُكُمْ } على تبليغ الرِّسالة والدَّعوة { مِّنْ أَجْرٍ } جعل وعوض ، { إِنْ أَجْرِيَ } : ما أجري وثوابي ، { إِلاَّ عَلَى الله } .
قال المفسِّرُون : وهذا إشارةٌ إلى أنَّه ما أخذ منهم مالاً على دعواهُم إلى دين الله ، وكُلَّما كان الإنسانُ فارغاً من الطَّمع ، كان قوله أقوى تأثيراً في القلب .
قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر : وهو أنَّه - عليه الصلاة والسلام - بيَّن أنه لا يخافُ منهم بوجهٍ من الوجوه ، وذلك لأنَّ الخوف إنَّما يحصل بأحد شيئين : إمَّا بإيصال الشَّر ، أو بقطع المنافع ، فبيَّن فيما تقدَّم أنه لا يخافُ شرَّهُم ، وبيَّن في هذه الآية أنَّه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعُوا عنه خيراً؛ لأنَّه ما أخذ منهم شيئاً ، فكان يخافُ أن يقطعوا منه خيراً ، ثم قال : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } وفيه قولان :
الأول : أنكم سواء قبلتم دين الإسلام ، أو لم تقبلوا ، فأنا مأمورٌ بأن أكون على دين الإسلام .
الثاني : أنِّي مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليَّ لأجل هذه الدَّعوة ، وهذا الوجهُ أليق بهذا الموضع؛ لأنَّه لمَّا قال اقضُوا إليَّ بيَّن أنَّه مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليه .
قوله : { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك } .
لمَّا حكى كلام نُوحٍ مع الكُفَّار ، ذكر - تعالى - ما آل أمرهم إليه : أمَّا في حقِّ نُوح وأصحابه ، فنجَّاهم وجعلهم خلائف ، أي : يخلفون من هلك بالغرق ، وأمَّا في حق الكفار فإنَّه - تعالى - أهلكهم وأغرقهم ، وهذه القصَّة إذا سمعها من صدَّق الرسول ومن كذب به ، كانت زجراً للمكذِّبين فإنهم يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نُوح ، وتكون داعيةً للمؤمنين إلى الثَّبات على الإيمان؛ ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نُوح .

قوله { فِي الفلك } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب « نجَّيناه » ، أي : وقع الإنجاء في هذا المكان .
والثاني : أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به الظرفُ ، وهو « معهُ » لوقوعه صلة ، أي : والذين استقرُّوا معه في الفلك ، وقوله : « وجَعلْنَاهُم » أي : صيَّرناهُم ، وجمع الضميرُ في « جَعلْنَاهُمْ » حملاً على معنى « مَنْ » ، و « خَلائِفَ » جمع خليفة ، أي : يخلفُون الغارقين .
قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد نوحٍ ، { رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ } ولمْ يسمِّ الرسل ، وقد كان منهم هودٌ ، وصالحٌ ، وإبراهيمُ ، ولوطٌ ، وشعيبٌ ، { فَجَآءُوهُمْ بالبينات } ، وهي المعجزات الباهرة ، و « بالبيِّنَاتِ » متعلقٌ ب « فَجاءوهُمْ » أو بمحذوف على أنه حال أي : ملتبسين بالبينات ، { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي : أنَّ حالهم بعد بعثةِ الرسل ، كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية .
قال القرطبيُّ : التقدير : بما كذَّب به قوم نُوحٍ من قبل ، وقيل « بِمَا كذَّبُوا بهِ » أيْ : من قبل يوم الذرِّ فإنه كان فيهم من كذَّب بقلبه ، وإن قال الجميعُ : بلى .
وقال النحاس : أحسن ما قيل في هذا : أنَّه لقوم بأعيانهم ، مثل : { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] . و « بالبيِّنَاتِ » متعلق ب « جَاءوهُم » ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ ، أي : مُلتبسين بالبيِّناتِ .
وقوله : { لِيُؤْمِنُواْ } أتى بلام الجحود توكيداً ، والضَّمير في { كَذَّبُواْ } عائدٌ على من عاد عليه الضَّمير في كانُوا ، وهم قومُ الرُّسُل .
وقال أبُو البقاء ومكِّي : إنَّ الضمير في كانوا يعُود على قوم الرُّسُل ، وفي « كَذَّبُوا » يعود على قوم نوح ، والمعنى : فما كان قوم الرُّسُل ليؤمنوا بما كذَّب به قوم نُوح ، أي : بمثله ، ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على نوح نفسه ، من غير حذف مضافٍ ، والتقدير : فما كان قومُ الرُّسُل بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ؛ إذ لو آمنوا به ، لآمنوا بأنبيائهم .
و « مِنْ قَبْلُ » متعلقٌ ب « كَذَّبُوا » أي : من قبل بعثةِ الرُّسُل .
وقيل : الضَّمائرُ كُلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر : وهو أنَّهم بادرُوا رسلهم بالتكذيب ، كُلما جاء رسولٌ ، لجُّوا في الكفر ، وتمادوا عليه ، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجِّهم في الكفر ، وتماديهم .
وقال ابن عطية : ويحتمل اللَّفظُ عندي معنى آخر ، وهو أن تكون « ما » مصدرية ، والمعنى : فكذَّبُوا رسلهم ، فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليُؤمِنُوا بتكذيبهم من قبل ، أي : من سببه ومن جرَّائه ، ويُؤيِّد هذا التأويل : « كذلِكَ نَطْبَعُ » وهو كلام يحتاجُ إلى تأمُّل .

قال أبو حيان : والظَّاهر أنَّ « ما » موصولةٌ؛ ولذلك عاد الضميرُ عليها في قوله : { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } ولو كانت مصدرية ، بقي الضمير غير عائدٍ على مذكور؛ فتحتاج أن يُتكلَّفَ ما يعود عليه الضمير .
قال شهاب الدِّين - رحمه الله - : « الشيخ بناه على قول جمهور النُّحاة : في عدم كونِ » ما « المصدريَّة اسماً؛ فيعُود عليها ضميرٌ ، وقد تقدَّم مراراً ، أنَّ مذهب الأخفش ، وابن السراج : أنَّها اسمٌ فيعود عليها الضمير » .
قرأ العامَّةُ : « نَطْبَع » بالنُّون الدَّالة على تعظيم المتكلِّم . وقرأ العبَّاس بن الفضل : بياء الغيبة ، وهو الله - تعالى -؛ ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخر : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله } [ الأعراف : 101 ] . والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف ، أو حالٌ من ذلك المصدر على حسب ما عرفته من الخلاف ، أي : مثل ذلك الطَّبع المحكم الممتنع زواله ، نطبع على قلوب المعتدين على خلق الله .
فصل
احتجَّ أهل السُّنَّة على أنَّه - تعالى - قد يمنع المكلَّلإ عن الإيمان بهذه الآية .
قالت المعتزلة : فقد قال - تعالى - : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] ولو كان هذا الطَّبع مانِعاً ، لما صحَّ هذا الاستثناء ، وقد تقدَّم البحث في ذلك عند قوله - تعالى - : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ } [ البقرة : 7 ] .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)

قوله - تعالى - { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ } الآية .
قرأ مجاهد ، وابن جبير ، والأعمش : « إنَّ هذا لساحِرٌ » اسم فاعل ، والإشارةُ ب « هَذَا » حينئذٍ إلى موسى ، أشير إليه لتقدم ذكره ، وفي قراءةِ الجماعةِ ، المشارُ إليه الشَّيءُ الذي جاء به موسى ، من قلب العصا حيَّة ، وإخراج يده بيضاء كالشمس ، ويجوز أن يشار ب « هذا » في قراءة ابن جبير : إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغةً؛ حيث وصفُوا المعاني بصفاتِ الأعيانِ؛ كقولهم : « شِعْرٌ شَاعِرٌ » ، و « جَدَّ جَدُّهُ » .
فإن قيل : إنَّ القوم لمَّا قالوا : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } ، فكيف حكى موسى عنهم أنَّهُم قالوا : « أسِحْرٌ هذا » على سبيل الاستفهام؟ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنَّ معمول « أتقولون » : الجملة من قوله : « أسِحْرٌ هذا » إلى آخره ، كأنهم قالوا : أجِئْتُمَا بالسِّحر تطلبان به الفلاح ، ولا يفلح السَّاحِرُون؛ كقول موسى - عليه الصلاة والسلام - للسحرة : { مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } [ يونس : 81 ] .
والثاني : أنَّ معمول القول محذوفٌ ، مدلولٌ عليه بما تقدم ذكرهُ ، وهو { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } .
ومعمولُ القول يحذف للدَّلالةِ عليه كثيراً ، كما يحذف القول كثيراً ، ويكون تقدير الآية : إن موسى - عليه الصلاة والسلام - قال لهم : { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } ما تقولون ، ثم حذف منه مفعول « أتقولون » لدلالة الحالِ عليه ، ثم قال : أسِحْرٌ هذا وهو استفهامٌ على سبيل الإنكار ، ثم احتجَّ على أنَّه ليس بسحرٍ ، بقوله : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } ؛ ومثلُ الآية في حذف المقول قولُ الشاعر : [ الطويل ]
2922- لنَحْنُ الألَى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ ... بِرُؤيتنَا قبْلَ اهتِمَامٍ بكُمْ رُعْبَا
وفي كتاب سيوبيه : « متَى رَأيتَ أو قُلْتَ زيداً مُنْطلقاً » على إعمال الأول ، وحذف معمول القول ، ويجوز إعمالُ القول بمعنى الحكاية به ، فيقال : « متى رايت أو قلت زيد مُنطلقٌ » وقيل : القول في الآية بمعنى : العَيْب والطَّعْن ، والمعنى : أتَعِيبُونَ الحقَّ وتطعنُونَ فيه ، وكان من حقِّكم تعظيمُه ، والإذعانُ له ، من قولهم : « فلان يخافُ القالة » و « بين الناس تقاولٌ » إذا قال بعضهم لبعضٍ ما يسوؤه ، ونحو القولِ الذَِّكرُ في قوله : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } [ الأنبياء : 60 ] وكلُّ هذا مُلخّص من كلام الزمخشريِّ .
قوله : « قَالُوا » يعني : فرعون وقومه ، « أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا » اللاَّمُ متعلقةٌ بالمجيء ، أي : أجِئْتَ لهذا الغرضِ ، أنكروا عليه مجيئهُ لهذه العلَّة ، واللَّفتُ : الليُّ والصَّرْفُ ، لفته عن كذا ، أي : صرفه ولواه عنه ، وقال الأزرهي : « لفَتَ الشَّيء وفتلهُ » : لواه ، وهذا من المقلوب .
قال شهاب الدِّين : « ولا يُدَّعى فيه قلبٌ ، حتى يرجع أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر ، ولذلك لم يَجْعَلُوا جذبَ وجبذَ ، وحَمِدَ ومَدَحَ من هذا القبيل لتساويهما ، ومطاوعُ لَفَتَ : التفَت ، وقيل : انْفَتَلَ ، وكأنَّهُم استغْنَوا بمطاوع » فَتَل « عن مطاوع لَفَتَ ، وامرأة لفُوت ، أي : تَلْتفتُ لولدها عن زوجها ، إذا كان الولد لغيره ، واللَّفيتةُ : ما يغلظُ من القصيدة » والمعنى : أنَّهم قالوا : لا نترك الذي نحن عليه؛ لأنَّا وجدنا أباءنا عليه ، فتمسكُوا بالتقليد ، ودفعُوا الحُجَّة الظاهرة بمجرد الإصرار .

قوله : { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض } الكبرياء : اسمُ « كان » ، و « لكم » : الخبر ، و « في الأرض » : جوَّز فيها أبو البقاء خمسة أوجه :
أحدها : أن تكون متعلقة بنفس الكبراي .
الثاني : أن يتعلق بنفس « تكون » .
الثالث : أن يتعلَّق بالاستقرار في « لكم » لوقوعه خبراً .
الرابع : أن يكون حالاً من « الكبرياء » .
الخامس : أن يكون حالاً من الضَّمير في « لَكُمَا » لتحمُّلِه إيَّاهُ « . والكبرياء مصدرٌ على وزن » فِعْلِيَاء « ، ومعناها : العظيمة؛ قال عديُّ بن الرِّقَاعِ : [ الخفيف ]
2923- سُؤدُدٌ غَيْرُ فَاحِشٍ لا يُدَانِي ... يه تجبَّارةٌ ولا كِبْرياءُ
وقال ابن الرّقيات يمدح مصعب بن الزبير : [ الخفيف ]
2924- مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَةٍ ليس فيه ... جَبَرُوتٌ مِنْهُ ولا كِبْرِيَاءُ
يعني : هو ليس عليه ما عليه المملوكُ من التجبُّر والتَّعظيم .
والجمهور على » تكون « بالتَّأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ .
وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، وإسماعيل وأبو عمرو ، وعاصم - رضي الله عنهم - في روايةٍ : » يكون « بالياء من تحت؛ لأنَّه تأنيثٌ مجازيٌّ .
قال المفسِّرون : والمعنى : ويكون لكُما الملكُ والعزُّ في أرض مصر ، والخطابُ لموسى ، وهارون - عليهما الصلاة والسلام - .
قال الزَّجَّاج : سمى الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا ، وأيضاً : فالنبيُّ إذا اعترف القوم بصدقه ، صارت مقاليدُ أرم أمته إليه؛ فصار أكبر القوم .
واعلم : أنَّ القوم لمَّا ذكروا هذين الشيئين في عدم اتِّباعهم ، وهما : التَّقليد ، والحرصُ على طلب الرِّياسة ، صرَّحُوا بالحكم ، فقالوا : { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } ، ثم شرعُوا في معارضةِ معجزات موسى - عليه الصلاة والسلام - بأنواعٍ من السحر؛ ليظهر عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السِّحْر ، فقال فرعون : { ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } .
قرأ الأخوان : سحَّار وهي قراءةُ ابن مُصرِّف ، وابن وثَّاب ، وعيسى بن عمر .
{ فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } .
فإن قيل : كيف أمرهُم بالسِّحْر ، والسِّحر كفر ، والأمر بالكفر كُفْرٌ؟ .
فالجواب : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بإلقاء الحِبال والعِصيّ؛ ليظهر للخلق أن ما أتوا به عملٌ فاسدٌ ، وسعيٌ باطلٌ ، لا أنَّه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بالسِّحْرِ؛ فلمَّا ألقوا حبالهم وعصيَّهُم ، قال لهم موسى : ما جئتم به هو السِّحْر ، والغرض منهُ : أنَّهم لمَّا قالُوا لموسى : إنَّ ما جئتَ به سحر ، فقال موسى - عليه الصلاة والسلام - : إنَّ ما ذكرتمُوه باطلٌ ، بل الحقُّ : أنَّ الذي جئتُم به هو السِّحر الذي يظهر بطلانه ، ثم أخبرهُم بأن الله يحق الحق ، ويبطل الباطل .

قوله : { مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر } قرأ أبو عمرو وحده : « آلسِّحر » بهمزة الاستفهام ، وبعدها ألف محضةٌ ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الدَّاخلة على لام التعريف ، ويجوز أن تُسَهَّل بين بين ، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله : { ءَآلذَّكَرَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] وهي قراءة مجاهد ، وأصحابه ، وأبي جعفر ، وقرأ باقي السبعة : بهمزة وصلٍ تسقُط في الدَّرْج ، فأمَّا قراءةُ أبي عمرو ، ففيها أوجه :
أحدها : أنَّ « ما » استفهاميَّة في محلِّ رفع بالابتداء ، و « جِئْتُمْ بِه » : الخبرُ ، والتقدير : أي شيءٍ جِئْتُم ، كأنَّه استفهام إنكار ، وتقليلٌ للشَّيءِ المُجاء به . و « السِّحْر » بدلٌ من اسم الاستفهام؛ ولذلك أعيد معه أداته؛ لما تقرَّر في كتب النحو ، وذلك ليساوي المبدل منه في أنَّه استفهامٌ ، كما تقول : كم مالك أعشرون ، أم ثلاثون؟ فجعلت : أعشرون بدلاً من كم ، ولا يلزم أن يضمر للسِّحر خبر؛ لأنَّك إذا أبدلته من المبتدأ ، صار في موضعه ، وصار ما كان خبراً عن المبدل منه ، خبراً عنه .
الثاني : أن يكون « السِّحْر » خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : أهُو السِّحْر .
الثالث : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : السحر هو ، ذكر هذين الوجهين أبو البقاء ، وذكر الثاني مكِّي ، وفيهما بعد .
الرابع : أن تكون « ما » موصولة بمعنى : الذي ، و « جئتم به » صلتها ، والموصولُ في محلِّ رفع بالابتداء ، والسِّحر على وجهيه من كون خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : الذي جئتم به أهُو السِّحْر؟ أو الذي جئتم به السحر هو؟ وهذا الضميرُ هو الرَّابط ، كقولك : الذي جاءك أزيدٌ هو؟ قاله أبو حيَّان .
قال شهاب الدِّ ] ن : قد منع مكِّي أن تكون « ما » موصولةً ، على قراءة أبي عمرو ، فقال : وقد قرأ أبو عمرو « » آلسحرُ « بالمدِّ ، فعلى هذه القراءة : تكون » ما « استفهاماً مبتدأ ، و » جِئْتُم بِهِ « : الخبر ، و » السّحر « خبرُ ابتداءٍ محذوف ، أي : أهو السِّحر؟ ولا يجوزُ أن تكون » مَا « بمعنى : » الَّذي « على هذه القراءة؛ إذ لا خبر لها . وليس كما ذكر ، بل خبرها : الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزأيها ، وكذلك الزمخشري ، وأبو البقاء لمْ يُجِيزَا كونها موصولةً ، إلاَّ في قراءة غير أبي عمرو ، لكنَّهُمَا لم يتعرَّضَا لعدم جوازه .
الخامس : أن تكون » ما « استفهامية في محلِّ نصبِ بفعل مقدَّرٍ بعدها؛ لأنَّ لها صدر الكلام ، و » جِئْتُم به « مفسِّر لذلك الفعل المقدَّر ، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال ، والتقدير : أيُّ شيءٍ أتيتُم جِئْتُم به ، و » السِّحْر « على ما تقدَّم ، ولو قُرىء بنصب » السِّحْر « على أنَّه بدلٌ مِنْ » ما « بهذا التقدير ، لكان لهُ وجه ، لكنَّه لم يقرأ به فيما علمت ، وسيأتي ما حكاه مكِّي عن الفرَّاء من جواز نصبه لمدركٍ آخر ، لا على أنَّها قراءةٌ منقولةٌ عن الفرَّاء .

وأمَّا قراءةُ الباقين ، ففيها أوجهٌ :
أحدها : أن تكون « ما » بمعنى : « الذي » في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و « جِئْتُم بِه » صلته وعائده ، و « السِّحرُ » خبرهُ ، والتقدير : الذي جئتم به السحر ، ويؤيِّد هذا التقدير ، قراءة أبيّ ، وما في مصحفه : « ما أتيتم به سِحْرٌ » ، وقراءة عبد الله بن مسعود والأعمش : « مَا جِئْتُمْ بِهِ سحْرُ » .
الثاني : أن تكون « ما » استفهامية في محلِّ نصبٍ ، بإضمار فعل على ما تقرَّر و « السِّحْر » خبر ابتداء مضمر ، أو مبتدأ مضمر الخبر .
الثالث : أن تكون « ما » في محلِّ رفع بالابتداء ، و « السِّحْر » على ما تقدَّم من كونه مبتدأ ، أو خبراً ، والجملة خبر « ما » الاستفهامية .
قال أبو حيَّان - بعد ما ذكر الوجه الأول - : « ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهاميَّة في موضع رفع بالابتداء ، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال ، وهو استفهامٌ على سبيل التَّحقير ، والتَّقليل لما جاؤوا به ، و » السِّحْر « خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو السِّحْر » .
قال شهاب الدِّين : ظاهرُ عبارته : أنَّه لم يَرَ غيره ، حيث قال وعندي ، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكِّي .
قال أبو البقاء - لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو - « ويُقْرَأ بلفظ الخبر ، وفيه وجهان » ، ثم قال : « ويجوزُ أن تكون » ما « استفهاميَّة ، و » السِّحْر « خبر مبتدأ محذوف » .
وقال مكِّي - في قراءة غير أبي عمرو ، بعد ذكره كون « ما » بمعنى : الذي - ويجوز أن تكون « ما » رفعاً بالابتداء ، وهي استفهامٌ ، و « جِئْتُم بهِ » : الخبر ، و « السِّحْر » خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو السِّحر ، ويجُوزُ أن تكون « ما » في موضع نصبٍ على إضمار فعلٍ بعد « ما » تقديره : أيُّ شيءٍ جئتم به ، و « السحرُ » : خبر ابتداء محذوف .
الرابع : أن تكون هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى ، أي : أنَّها على نيةِ الاستفهامِ ، ولكن حذفت أداته للعلم بها .
قال أبو البقاء : ويقرأ بلفظِ الخبر ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّه استفهامٌ في المعنى أيضاً ، وحذفت الهمزة للعلم بها وعلى هذا الذي ذكره : يكونُ الإعرابُ على ما تقدَّم ، واعلم أنَّك إذا جعلت « ما » موصولة بمعنى : الذي ، امتنع نصبُها بفعلٍ مقدَّرٍ على الاشتغال .

قال مكِّي : ولا يجُوزُ أن تكون « ما » بمعنى : الذي ، في موضع نصْبٍ لأنَّ ما بعدها صلتها ، والصلةُ لا تعمل في الموصول ، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول وهو كلامٌ صحيحٌ؛ فتلخَّص من هذا : أنَّها إذا كانت استفهامية ، جاز أن تكون في محلِّ رفع أو نصب ، وإذا كانت موصولة ، تعيَّن أن يكون محلُّها الرفع بالابتداء ، وقال مكي : وأجاز الفرَّاءُ نصب « السِّحْر » فجعل « ما » شرطاً ، وينصبُ « السِّحْر » على المصدر ، وتضمرُ الفاءُ مع { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } ، وتجعل الألف واللام في « السِّحْر زائدتين ، وذلك كلُّه بعيدٌ ، وقد أجاز عليُّ بن سليمان : حذف الفاءِ من جواب الشَّرط في الكلام ، واستدلَّ على جوازه بقوله - تعالى - : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] ، ولم يجزه غيره إلاَّ في ضرورة شعر .
قال شهاب الدِّين : وإذا مشينَا مع الفرَّاء ، فتكون » ما « شرطاً يُراد بها المصدرُ ، تقديره : أيَّ سحر جئتم به ، فإنَّ الله سيبطله ، ويُبَيِّن أنَّ » ما « يراد بها السحر قوله : » السِّحْر « ؛ ولكن يقلقُ قوله : » إنَّ نصب السِّحْر على المصدريَّة « فيكون تأويله : أنَّه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال؛ ولذلك قدَّره بالنَّكرة ، وجعل » أل « مزيدة فيه .
وقد نُقِلَ عن الفرَّاء : أنَّ هذه الألف واللام للتعريف ، وهو تعريف العهد ، قال الفرَّاء : » وإنَّما قال « السِّحر » بالألف واللاَّم؛ لأنَّ النَّكرة إذا أعيدتْ ، أعيدت بالألف واللاَّم « يعنى : أنَّ النَّكرة قد تقدَّمت في قوله : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } [ يونس : 76 ] ، وبهذا شرحهُ ابنُ عطيَّة .
قال ابن عطيَّة : والتعريف هنا في السحر أرْتَبُ؛ لأنَّه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم : » إنَّ هذا لسحرٌ « ، فجاء هنا بلام العهد ، كما يقال أوَّل الرسالة : » سلامٌ عليك « .
قال أبو حيَّان » وما ذكراه هنا في « السِّحْر » ليس من تقدُّم النكرة ، ثُمَّ أخبر عنها بعد ذلك؛ لأنَّ شرط هذا أن يكون المعرَّفُ ب « أل » هو المنكر المتقدَّم ، ولا يكون غيره ، كقوله - تعالى - : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 15 ، 16 ] .
وتقول : « زارنِي رجلٌ ، فأكرمتُ الرَّجُل » لمَّا كان إيَّاه ، جاز أن يُؤتَى بضميره بدلهُ ، فتقول : « فأكرمته » ، و « السِّحْر » هنا : ليس هو السحرَ الذي في قولهم : « إنَّ هذا لسحْرٌ » لأنَّ الذي أخبروا عنه بأنَّه سحرٌ ، هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا ، والسِّحْر الذي في قول موسى ، إنَّما هو سحرهُم الذي جاؤوا به ، فقد اختلف المدلولان ، إذ قالوا هم عن معجزة موسى ، وقال موسى عمَّا جاؤوا به؛ ولذلك لا يجُوز أن يؤتى هنا بالضَّمير بدل السِّحْر؛ فيكون عائداً على قولهم : لسحْرٌ « .

قال شهاب الدِّين : « والجوابُ : أنَّ الفرَّاء ، وبن عطيَّة إنَّما أرَادَا السِّحر المتقدِّم الذكر في اللفظ ، وإن كان الثَّاني هو غير عين الأول في المعنى ، ولكن لمَّا أطلق عليهما لفظ » السَّحْر « جاز أن يقال ذلك ، ويدلُّ على هذا : أنَّهم قالوا في قوله - تعالى - : { والسلام عَلَيَّ } [ مريم : 33 ] إنَّ الألف واللام للعهد؛ لتقدُّم ذكر السَّلام في قوله - تعالى - : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ } [ مريم : 15 ] ، وإن كان السَّلامُ الواقعُ على عيسى ، هو غير السلام الواقع على يحيى؛ لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصه به ، وهذا النَّقْل المذكورُ عن الفرَّاء في الألف واللاَّم ، ينافى ما نقلهُ عنه مكِّي فيهما ، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال : يحتمل أن يكون له مقالتان ، وليس ببعيدٍ؛ فإنَّه كُلَّما كثر العلمُ ، اتَّسعت المقالاتُ » .
قوله : { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } أي : سيهلكه ، ويظهر فضيحة صاحبه ، { إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } أي : لا يقوِّيه ولا يكمِّله ، وقوله : « المُفْسدينَ » من وقوع الظَّاهر موقع ضمير المخاطب؛ إذ الأصلُ : لا يصلح عملكم؛ فأبرزهم في هذه الصِّفة الذَّميمة شهادة عليهم بها ، ثم قال : { وَيُحِقُّ الله الحق } أي : يظهره ويقوِّيه ، { بِكَلِمَاتِهِ } أي : بوعده موسى ، وقيل : بما سبق من قضائه وقدره ، وقرىء : « بكَلمتهِ » بالتوحيد ، وتقدَّم نظيره [ الأنفال : 7 ] .
قوله : { فَمَآ آمَنَ لموسى } الفاءُ للتَّعقيب ، وفيها إشعارٌ بأنَّ إيمانهم لم يتأخَّر عن الإلقاء ، بل وقع عقيبهُ؛ لأنَّ الفاء تفيد ذلك ، وقد تقدَّم توجيهُ تعدية « آمن » باللاَّم ، والضَّمير في « قَوْمِهِ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه يعودُ على موسى؛ لأنَّهُ هو المُحدَّث عنه؛ ولأنَّه أقربُ مذكورٍ ، ولو عاد على فرعون ، لمْ يكرِّرْ لفظه ظاهراً ، بل كان التركيب : « على خوفٍ منه » وإلى هذا ذهب ابنُ عبَّاس ، وغيره ، قال : المراد مؤمني بني إسرائيل الذين كانُوا بمصر ، وخرجُوا معه .
قال ابن عبَّاس : لفظ الذُّريَّة يُعَبَّر به عن القوم على وجه التَّحقير والتَّصغير ، ولا سبيل لحمله على التقدير على وجه الإهانة ههنا؛ فوجب حمله على التصغير ، بمعنى : قلة العدد .
قال مجاهد : كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل ، هلك الآباء ، وبقي الأبناء .
وقيل : هم قوم نَجَوْا من قتل فرعون؛ وذلك أنَّ فرعون لما أمر بقتل أبْنَاءِ بني إسرائيل ، كانت المرأة في بني إسرائيل ، إذا ولدت ابناً وهبته لقبطيَّة ، خوفاً عليه من القتل ، فنشئُوا بين القبط ، وأسلمُوا في اليوم الذي غلب فيه موسى السَّحرة .
والثاني : أنَّ الضمير يعُود على فرعون ، ويُروى عن ابن عبَّاس أيضاً ، ورجَّح ابنُ عطيَّة هذا ، وضعف الأول ، فقال : وممَّا يضعفُ عود الضَّمير على مُوسى : أنَّ المعروف من أخبار بني إسرائيل ، أنهم كانوا قد فشتْ فيهم النبواتُ ، وكانُوا قد نالهُم ذلٌّ مفرط ، وكانوا يرجُون كشفهُ بظُهُورِ مولُود ، فلمَّا جاءهُم موسى أصْفَقُوا عليه وتابعُوه ، ولم يُحْفَظْ أنَّ طائفة من بني إسرائيل كفرتْ بمُوسَى ، فكيف تُعْطِي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَّ منهم كان الذي آمَنَ؟ فالذي يترجَّحُ عودُه على فرعون ، ويؤيِّده أيضاً : ما تقدَّم من محاورة موسى وردِّه عليهم وتوبيخهم .

قيل : المراد بالذرية : أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون ، وأمَّهاتُهُم من بني إسرائيل ، فجعل الرَّجُل يتبع أمَّهُ وأخوالهُ .
روي عن ابن عبَّاس : أنَّهم كانوا ستمائة ألفٍ من القبط .
قيل : سُمُّوا ذُرِّيَّة؛ لأنَّ آباءهم كانوا من القبط ، وأمهاتهم من بني إسرائيل ، كما يقال لأولاد فارس - الذين سقطوا إلى اليمن - : الأبناء؛ لأنَّ أمُّهاتهم من غير جنس آبائهم .
وقيل : المراد بالذُّرِّيَّة من آل فرعون : آسيةُ ، ومُؤمنُ آلِ فرعون ، وامرأته ، وخازنه ، وامرأةُ خازنه ، وماشطتها .
واعلم : أنَّه - تعالى - إنَّما ذكر ذلك تسلية لمحمَّد - عليه الصلاة والسلام -؛ لأنَّه كان يغتمُّ بسبب إعراض القوم عنه ، واستمرارهم على الكُفْر ، فبيَّن أنَّ له في هذا الباب أسوة بسائر الأنبياء؛ لأنَّ الذي ظهر من موسى كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم ، ومع ذلك فما آمن منهم إلا ذرية .
قوله « عَلى خوفٍ » : حالٌ ، أي : آمنوا كائنين على خوف ، والضَّمير في « ومَلئِهِم » فيه أوجه :
أحدها : أنَّه عائدٌ على الذُّرية ، وهذا قولُ أبي الحسن ، واختيارُ ابن جرير ، أي : خوفٍ من ملأ الذرية ، وهم أشراف بني إسرائيل .
الثاني : أنه يعودُ على « قَوْمِهِ » بوجهيه ، أي : سواءٌ جعلنا الضمير في « قومِهِ » لمُوسى ، أو لفرعون ، أي : وملأ قوم موسى ، أو ملأ قوم فرعون .
الثالث : أن يعود على فرعون؛ لأنَّهم إنَّما كانُوا خائفين من فرعون ، واعترض على هذا؛ بأنَّهُ كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد؟ واعتذر أبو البقاء بوجهين :
أحدهما : أنَّ فرعون لمَّا كان عظيماً عندهم ، عاد الضَّمير عليه جمعاً ، كما يقول العظيم : نحن نأمُرُ ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأنَّه لو ورد ذلك من كلامهم محْكِيّاً عنهم ، لاحتمل ذلك .
الثاني : أنَّ فرعون صار اسماً لأتباعه ، كما أنَّ ثمود اسمٌ للقبيلة كلها . وقال مكِّي وجهين آخرين قريبين من هذين ، ولكنَّهما أخلص منهما ، قال : إنَّما جمع الضميرُ في مَلَئهم؛ لأنَّه إخبار عن جبَّار ، والجبَّار يخبر عنه بلفظ الجمع ، وقيل : لمَّا ذكر فرعونُ ، عُلِمَ أنَّ معه غيرهُ ، فرجع الضَّميرُ عليه ، وعلى من معه .
وقد تقدم نحوٌ من هذا عند قوله : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس } [ آل عمران : 173 ] والمراد بالقائل الأول : نعيم بن مسعود؛ لأنَّه لا يخلُو من مساعدٍ لهُ على ذلك القول .
الرابع : أنْ يعود على مضافٍ محذوف وهو آل ، تقديره : على خوفٍ من آل فرعون ، ومَلئِهم ، قاله الفرَّاء ، كما حذف في قوله :

{ واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزُه لأحدٍ : « وهذا عندنا غلطٌ؛ لأنَّ المحذوف لا يعود إليه ضميرٌ ، إذ لو جاز ذلك ، لجاز أن يقول : » زَيْدٌ قاموا « وأنت تريد : غلمان زيد قامُوا » .
قال شهاب الدِّين : قوله : « لأنَّ المحذوف لا يعودُ إليه ضمير » ممنوعٌ ، بل إذا حذف مضافٌ ، فللعرب فيه مذهبان : الالتفات إليه ، وعدمُه وهو الأكثر ، ويدلُّ على ذلك : أنَّه قد جمع بين الأمرين في قوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأعراف : 4 ] أي : أهل قرية ، ثم قال : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه ، وقوله : « لجازَ زيد قاموا » ليس نظيره ، فإنَّ فيه حذفاً من غير دليلٍ ، بخلاف الآية .
وقال أبو حيان - بعد أن حكى كلام الفرَّاء - : ورُدَّ عليه : بأنَّ الخوف يمكنُ من فرعون ، ولا يمكن سؤالُ القرية ، فلا يحذفُ إلاَّ ما دلَّ عليه الدَّليلُ ، وقد يقال : ويدلُّ على هذا المحذوف جمع الضمير في « ومَلئِهم » . يعني أنَّهم ردُّوا على الفراء ، بالفرق بين { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] وبين هذه الآية : بأنَّ سؤال القرية غير ممكنٍ ، فاضطررنا إلى تقدير المضاف ، بخلاف الآية فإنَّ الخوفَ تمكَّن من فرعون ، فلا اضطرار بنا يدُلُّنا على مضاف محذوف .
وجواب هذا : أنَّ الحذف قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي ، على أنَّه قيل في { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] إنَّه حقيقةٌ ، إذ يمكن النبيُّ أن يسأل القرية؛ فتُجِيبه .
الخامس : أنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً حذف للدَّلالةِ عليه ، والدَّليلُ عليه؛ كونُ الملك لا يكونُ وحده ، بل له حاشيةٌ ، وعساكرُ ، وجندٌ؛ فكان التقدير : على خوفٍ من فرعون ، وقومه ، وملئِهِم ، أي : ملأ فرعون وقومه ، وهو منقولٌ عن الفرَّاء أيضاً .
قال شهاب الدِّين : حذف المعطوف قليلٌ في كلامهم ، ومنه عند بعضهم ، قوله - تعالى - : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي : والبرد؛ وقول الآخر : [ الطويل ]
2925- كأنَّ الحصى من خلفها وأمَامِهَا ... إذَا حذفتْهُ رِجْلُها حذفُ أعْسَرَا
أي : ويدها .
قوله : « أن يفْتنَهُم » أي : يصرفهم عن دينهم ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّه في محلِّ جرٍّ على البدل من « فِرْعَون » ، وهو بدلُ اشتمالٍ ، تقديره : على خوفٍ من فرعون فتنة ، كقولك : « أعْجَبني زيد علمُهُ » .
الثاني : أنَّه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر ، أي : خوف فتنته ، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثيرٌ؛ كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] ، وقول الآخر : [ الطويل ]
2926- فَلوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ منْكَ ورهْبَةٌ ... عِقابَك قد كانُوا لنا بالمَوارِدِ
الثالث : أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حذف اللام ، ويجري فيها الخلافُ المشهورُ .
وقرأ الحسن ، ونبيح : « يُفْتِنَهم » بضمِّ الياءِ من « أفتن » وقد تقدَّم ذلك [ النساء : 101 ] .
قوله : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض } أي : مُتكبِّر ، أو ظالمٌ ، أو قاهر ، و « فِي الأرض » متعلِّقٌ ب « عَالٍ » ؛ كقوله : [ الكامل ]

2927- فاعْمَدْ لِمَا تعلُو فما لك بالَّذي ... لا تَسْتطيعُ مِنَ الأمُورِ يَدَانِ
أي : لِمَا تَقْهَر ، ويجوز أن يكون « فِي الأرْضِ » متعلِّقاً بمحذوف؛ لكونه صفة ل « عَالٍ » فيكون مرفوع المحلِّ ، ويرجح الأول قوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض } [ القصص : 4 ] ثم قال : { وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } : المجاوزين الحدَّ؛ لأنه كان عبداً ، فادَّعى الرُّبُوبيَّة ، وقيل : لأنه كان كثير القتل والتعذيب لمنْ يخالفُه ، والغرضُ منهُ : بيان السَّبب في كون أولئك المؤمنين خائفين .
قوله تعالى : { وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله } الآية .
قوله تعالى : « فَعَليْهِ » جوابُ الشرط ، والشرط الثاني - وهو « إن كنتم مُسلمينَ » - شرطٌ في الأول ، وذلك أنَّ الشَّرطين متى لمْ يترتَّبا في الوجودِ ، فالشَّرطُ الثَّاني شرطٌ في الأول ، ولذلك يجب تقدُّمُه على الأول ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك [ البقرة : 38 ] .
قال الفقهاء : المتأخر يجب أن يكون متقدماً ، والمتقدِّم يجب أن يكون متأخراً ، مثاله قول الرَّجُلِ لامرأته : إن دخلت الدار ، فأنت طالقٌ إن كلمت زيداً ، والمشروط متأخِّر عن الشَّرطِ ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخِّر في اللفظ ، متقدماً في المعنى ، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخراً في المعنى ، فكأنَّه يقول لامرأته : حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدَّار ، فأنت طالقٌ ، فلو حصل هذا التعليقُ ، قيل : إن كلَّمَتْ زيداً لمْ يقع الطلاق .
قوله : { ن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً؛ لأن يصيروا مخاطبين بقوله : { إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا } فكأنَّه - تعالى - يقول للمسلم حال إسلامه : إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكَّلْ ، والأمر كذلك؛ لأنَّ الإسلام عبارة عن الاستسلام ، وهو الانقياد لتكاليف الله ، وترك التمرد ، والإيمان عبارةٌ عن صيرورة القلب ، عارفاً بأن واجب الوُجُود لذاته واحدٌ ، وأنَّ ما سواه محدث مخلُوق تحت تدبيره ، وقهره ، وإذا حصلت هاتان الحالتان ، فعند ذلك يفوِّض العبدُ جميع أموره إلى الله - تعالى - ، ويحصُلُ في القلب نور التَّوكُّل على الله - تعالى - .
فصل
إنما قال : « فعليه توكَّلُوا » ولم يقل : « توكَّلُوا على اللهِ » ، لأن الأول يفيد الحصر ، كأنه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بالتَّوكُّل عليه ، ونهاهُم عن التوكُّلِ على الغير ، ثم بيَّن - تعالى - أنَّ موسى - عليه الصلاة والسلام - لمَّا أمرهم بذلك قبلوا قوله { فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا } أي : توكُّلُنا عليه واعتمادنا ، ولم نلتفت إلى أحد سواه ، ثم اشتغلوا بالدعاء ، وطلبوا من الله شيئين :
أحدهما : أن قالوا : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين } .
والثاني : { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين } أما قولهم : { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين } ففيه وجوه :
الأول : لا تفتن بنا فرعون وقومه؛ لأنك لو سلطَّتهُم علينا ، لوقع في قلوبهم أنَّا لو كنَّا على الحقِّ ، لما سلَّطتهُم علينا؛ فيصير ذلك شبهةً قويَّةً في إصرارهم على الكفر؛ فيكون ذلك فتنةً لهم .

الثاني : لو سلَّتهُم علينا ، لاستوجبُوا العقاب الشَّديد في الآخرة ، وذلك يكون فتنة لهم .
الثالث : أنَّ المراد بالفتنة المفتُون؛ لأنَّ إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز ، كالخلق بمعنى المخلوق والتقدير : لا تَجٍْعلْنا مفْتُونين بأنَّ ييقهَرُونا بالظُّلْمِ على أن ننصرف من هذا الدِّين الذي قبلناهُ ، ويؤكِّد هذا قوله : { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } [ يونس : 83 ] وأمَّا المطلوبُ الثاني ، فهو قوله : { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين } .
وهذا يدلُّ على أنَّ اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم؛ لأنَّا إذا حملنا قولهم : { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين } [ يونس : 85 ] ، على تسليط الكفَّار عليهم وصيروة ذلك التسليط شبهة للكفار في أنَّ هذا الدِّين باطلٌ ، فتضرعوا إلى الله - تعالى - في صون الكُفَّار عن هذه الشُّبهة ، وتقديم هذا الدُّعاء على طلب النَّجاة لأنفسهم ، وذلك يدل على أن اهتمامهُم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم .

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)

قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } الآية .
لمَّا شرح خوف المؤمنين من الكُفَّار ، وما ظهر منهم من التَّوكُّل على الله ، أتبعه بأن أمر موسى ، وهارون باتخاذ المساجد ، والإقبال على الصَّلوات .
قوله { أَن تَبَوَّءَا } يجوز في « أنْ » أن تكون المفسِّرة؛ لأنَّه قد تقدَّمها ما هو بمعن القول وهو الإيحاء ، ويجوز أن تكون المصدريَّة ، فتكون في موضع نصب ب « أوْحَيْنَا » مفعولاً به ، أي : أوحينا إليهما التَّبَوُّء .
والجمهور على الهمزة في « تَبَوَّآ » وقرأ حفص « تَبَوَّيَا » بياء خالصة ، وهي بدلٌ عن الهمزة ، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي ، إذ قياسُ تخفيف مثل هذه الهمزة : أن تكون بين الهمزة والألف ، وقد أنكر هذه الرِّواية عن حفص جماعةٌ من القُرَّاءِ ، وخصَّها بعضهم بحالة الوقف ، وهو الذي لم يحكِ أبُو عمرو الدَّاني والشاطبي غيره ، وبعضهم يُطلق إبدالها عنه ياء وصلاً ووقفاً ، وعلى الجملة فهي قراءةٌ ضعيفةٌ في العربية ، وفي الرواية .
والتَّبَوُّؤُ : النزولُ والرجوعُ ، يقال : تبوَّأ المكان : أي : اتخذه مُبَوَّأ ، وقد تقدَّمت هذه المادة في قوله : { تُبَوِّىءُ المؤمنين } [ آل عمران : 121 ] والمعنى : اجعلا بمصر بيوتاً لقومكما ، ومرجعاً ترجعون إليه للعبادة .
قوله : « لِقَوْمِكُما » يجوزُ أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول الأول ، و « بُيُوتاً » مفعول ثان ، بمعنى : بوِّآ قومكما بيوتاً ، أي : أنزلوهم ، وفعَّلَ وتَفَعَّلَ بمعنًى ، مثل « عَلَّقَهَا » و « تعلَّقها » قاله أبو البقاء ، وفيه ضعفٌ : من حيث إنَّه زيدت اللامُ ، والعاملُ غير فرع ، ولم يتقدم المعمُولُ .
الثاني : أنَّها غير زائدة ، وفيها حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنَّها حالٌ من « البُيُوتِ » .
والثاني : أنَّها وما بعدها مفعول « تَبَوَّءا » .
قوله « بِمِصْرَ » جوَّز فيه أبو البقاء أوْجُهاً :
أحدها : أنَّه متعلِّق ب « تَبَوَّءا » ، وهو الظَّاهرُ .
الثاني : أنَّه حالٌ من ضمير « تَبَوَّءا » ، واستضعفهُ ، ولمْ يُبَيِّنْ وجه ضعفه لوضوحه .
الثالث : أنَّها حالٌ من « البُيُوت » .
الرابع : أنَّهُ حالٌ من : « لِقَوْمِكُما » ، وقد ثنَّى الضمير في قوله : « تَبَوَّءَا » وجمع في قوله : « واجْعَلُوا » و « أقِيمُوا » وأفرد في قوله : « وبَشِّر » لأن الأول أمرٌ لهما ، والثاني لهما ولقومهما ، والثالث لمُوسى فقط؛ لأنَّ أخاهُ تبعٌ لهُ ، ولمَّا كان فعلُ البشارة شريفاً خصَّ به موسى ، لأنَّه هو الأصل ، وقيل : وبشِّر المؤمنين يا محمَّد .
فصل
قال بعضهم : المراد من البُيُوتِ : المساجد؛ لقوله : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } [ النور : 36 ] وقيل : مطلق البيوت ، أمَّا الأوَّلُون ففسَّرُوا القبلة بالجانب ، الذي يستقبل في الصلاة ، أي : اجعلُوا بيوتكُم مساجداً ، تستقبلونها في الصَّلاة .
وقال ابن الأنباريِّ : المعنى : اجعلوا بيوتكم قبلاً ، أي : مساجد؛ فأطلق لفظ الواحد ، والمراد : الجَمْع ، ومن قال : المرادُ : مطلق البيوت ففيه وجهان :
أحدهما : قال الفراء : أي : اجعلوا بيوتكم إلى القبلة .

الثاني : المعنى : اجعلوا بيوتكم متقابلة ، والمراد منه : حصول الجمعيَّة ، واعتضاد البعض بالبعض .
واختلفوا في هذه القبلة أين كانت؟ ظاهر القرآن لا يدلُّ على تعيينها ، وروي عن ابن عبَّاس : كانت الكعبةُ قبلةَ مُوسى ، وكان الحسن يقول : الكعبة قبلةَ كلِّ الأنبياء ،
وإنما وقع العُدُول عنها بأمر الله - تعالى - في أيَّام الرسُول - عليه الصلاة والسلام - بعد الهجرة . وقال آخرون : كانت القبلة : بيت المقدس .
فصل
ذكر المُفَسِّرُون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً :
أحدها : أن موسى ومن معه كانوا مأمورين في أول أمرهم ، بأن يُصَلُّوا في بيوتهم خُفيةً من الكُفَّار؛ لئلا يظهروا عليهم ، فيُؤذُوهُم ، ويفتنوهُم عن دينهم ، كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة .
قال مجاهد : خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة ، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد جهة الكعبة ، يُصَلُّون فيها سرّاً .
وثانيها : أنَّه لمَّا أرْسِلَ مُوسى إلى فرعون ، أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ، ومنعهم من الصلاة ، فأمرهُم الله - تعالى - باتِّخاذِ المساجد في بيوتهم ، رواه عكرمة ، عن ابن عبَّاس . وهو قول إبراهيم .
وثالثها : أنَّه تعالى لمَّا أرسل مُوسى إليهم ، وأظهر فرعون لهم العداوة الشديدة ، أمر الله - تعالى - موسى ، وهارون ، وقومهما باتِّخاذِ المساجد على رغم الأعداء ، وتكفَّل الله بصونهم عن شرِّ الأعداءِ .
قوله تعالى : { وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً } الآية .
لمَّا بالغ موسى في إظهار المعجزات ، ورأى القوم مُصرِّينَ على الجُحُود والعنادِ؛ دعا عليهم ، ومن حقِّ من يدعُو على الغير أن يذكُر سبب جرمه ، وجرمهم : كان حُبَّ الدنيا؛ فلأجله تركوا الدِّين؛ فلهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : { رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا } والزينة : عبارة عن الصحَّة ، والجمال ، واللباس ، والدوابِّ ، وأثاث البيت ، والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصَّامت ، والنَّاطق ، وقرأ الفضل الرَّقاشي « أئنَّكَ آتيْتَ » .
قوله : « ليُضِلُّوا » في هذه اللاَّم ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها لامُ العلَّة ، والمعنى : أنَّك آتيتهُم ما آتَيْتَهم على سبيل الاستدراج ، فكان الإيتاءُ لهذه العلة .
والثاني : أنَّها لامُ الصَّيرورةِ والعاقبة؛ كقوله : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، وقوله : [ الوافر ]
2928- لِدُوا للمَوْتِ وابنُوا لِلْخَرَابِ .. .
وقوله : [ الطويل ]
2929- ولِلْمَوْتِ تَغْذُو الولِدَاتُ سِخالَهَا ... كمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المسَاكِنُ
وقوله : [ البسيط ]
2930- ولِلْمنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مرضِعَةٍ ... ولِلْخَرابِ يُجِدُّ النَّاسُ عُمْرَانَا
والثالث : أنَّها للدعاء عليهم بذلك؛ كأنه قال : ليثبتُوا على ما هم عليه من الضلال ، وليكونُوا ضُلاَّلاً ، وإليه ذهب الحسن البصريُّ ، وبدأ به الزمخشريُّ ، وقد استُبعدَ هذا التَّأويلُ بقراءة الكوفيين ، « لِيُضِلُّوا » بضمِّ الياء ، فإنه يبعد أن يدعُو عليهم بأن يُضِلُّوا غيرهم ، وقرأ الباقون بفتحها ، وقرأ الشعبيُّ بكسرها ، فوالى بين ثلاث كسرات إحداها في ياء .

وقال الجبائي : إنَّ « لا » مقدرةٌ بين اللاَّم والفعل ، تقديره : لئلاَّ يضلُّوا ، ورأي البصريين في مثل هذا تقدير : « كرَاهَةَ » ، أي : كراهة أن يضلُّوا .
فصل
احتج أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنه - تعالى - يضلُّ الناس من وجهين :
أحدهما : أن اللام في « لِيضلُّوا » لام التَّعليل .
والثاني : قوله : { واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ } فقال - تعالى - : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } قال القاضي : لا يجوز أن يكون المرادُ من الآية ما ذكرتُم لوجوه :
الأول : لأنَّه - تعالى - منزَّهٌ عن فعل القبائح ، وإرادة الكفر قبيحة .
وثانيها : أنَّه - تعالى - لو أراد ذلك ، لكان الكافرُ مطيعاً لله بكفره؛ لأنَّ الطاعة : هي الإتيان بمراد الأمر ، ولو كان كذلك ، لما استحقُّوا الدُّعاء عليهم .
وثالثها : لو جوَّزْنَا إرادة إضلال العباد ، لجوَّزْنَا أن يبعث الأنبياء بالدُّعاء إلى الضَّلالِ ، ولجاز أن يقوي الكذَّابين الضَّالين بإظهار المعجزات ، وفيه هدم الدِّين .
ورابعها : أنَّه لا يجوز أن يقول لموسى وهارون : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] ، وأن يقول : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ الأعراف : 130 ] ، ثم إنَّه - تعالى - إراد الضَّلال منهم ، وأعطاهم النِّعم لكي يضلُّوا ، وهذا كالمناقضة ، فلا بُدّ من حَمْلِ أحدهما على الآخر .
وخامسها : لا يجوز أن يقال : إن مُوسى دعا ربَّهُ بأن يُطْمِسَ على أموالهم؛ لأجل أن لا يؤمنوا ، مع تشدده في إرادة الإيمان . وإذا ثبت هذا؛ وجب تأويلُ هذه الكلمة ، وذلك من وجوه :
الأول : أنَّ اللاَّم في « لِيُضِلُّوا » : لامُ العاقبة كما تقدَّم ، ولما كانت عاقبة قوم فرعون ، هو الضَّلال ، عبَّر عن هذا المعنى بهذا اللفظ .
الثاني : أنَّ التقدير : لئلاَّ يضلوا ، كقوله : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ، فحذف لدلالة المعقُول عليه ، كقوله - تعالى - : { بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة } [ الأعراف : 172 ] ، أي : لئلاَّ تقُولُوا .
الثالث : أن يكون موسى ذكر ذلك على وجه التَّعجُّبِ المقرُون بالإنكار ، أي : إنَّك أتيتهُم بذلك لهذا الغرض فإنَّهُم لا ينفقُون هذه الأموال إلاَّ فيه ، كأنَّه قال : أتيتهم زينةً وأموالاً لأجْلِ أن يُضلُّوا عن سبيلك ، ثم حذف حرف الاستفهام ، كما في قوله : [ الكامل ]
2931- كذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رأيْتَ بواسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلامِ منَ الرَّبَابِ خَيَالاَ
والمرادُ : أكذبتك فكذا ههنا .
الرابع : أنَّ هذه لام الدُّعاء ، وهي لام مكسورة تجزم المستقبل ، ويفتتح بها الكلام ، فيقال : ليغفرُ الله للمؤمنين ، وليُعذِّب الله الكافرين ، والمعنى؛ ربنا ابتليهم بالضَّلال عن سبيلك .
الخامس : سلَّمنا أنَّها لامُ التَّعليل ، لكن بحسب ظاهر الأمر ، لا في نفس الحقيقة ، والمعنى : أنه - تعالى - لمَّا أعطاهم هذه الأموال ، وصارت سبباً لبغيهم وكفرهم ، أشبهت حال من أعطى المال لأجل الإضلال ، فورد هذا الكلامِ بلفظ التَّعليل لهذا المعنى .

السادس : أنَّ الضَّلال قد جاء في القرآن بمعنى : الهلاك ، يقال : ضلَّ الماءُ في اللَّبن ، أي : هلك ، فقوله : « ليضلُّوا عن سبيلك » أي : ليهلكوا ويموتوا ، كقوله - تعالى - : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا } [ التوبة : 55 ] .
قال ابن الخطيب : واعلم : أنَّ الجواب قد تقدَّم مراراً ، ونُعيد بعضه ، فنقول : الذي يدُلُّ على أنَّ الإضلال من الله - تعالى - وجوه :
الأول : أنَّ العبد لا يقصدُ إلا حُصُول الهداية ، فلمَّا لمْ تحصُل الهداية بل حصل الضَّلال الذي لا يُريده ، علمنا أنَّ حصُوله ليس من العَبْدِ ، بل من الله - تعالى - .
فإن قالوا : إنَّه ظنَّ هذا الضَّلال هُدًى ، فلذلك أوقعه في الوُجُود فنقول : إقدامُه على هذا الجهل ، إن كان بجهل سابق ، فذلك الجهل السابق يكون حُصُوله لسبق جهل آخر ويلزمُ التسلسل وهو محال؛ فوجب أنَّ هذه الجهالات والضَّلالات لا بُدَّ من انتهائها إلى جهل أوَّلٍ ، وضلال أولٍ ، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد؛ لأنَّه يكرهُه ويُريد ضدَّهُ؛ فوجب أن يكون من الله - تعالى - .
الثاني : أنَّه تعالى لمَّا خلق الخلق يُحِبُّون المال حُبّاً شديداً ، بحيث لا يمكنهُم إزالة هذا الحُبِّ عن النَّفْسِ ألبتَّة ، وكان حُصُول هذا الحُبِّ يوجب الإعراض عن خدمة الله وطاعته ، ويوجب التَّكبُّر عليه ، وترك اللُّزُوم؛ فوجب أن يكون فاعل هذا الكفر ، هو الذي خلق الإنسان مجبُولاً على حُبِّ هذا المال والجاه .
الثالث : أنَّ القُدْرة بالنِّسْبَة إلى الضِّدَّين على السَّويَّة ، فلا يترجَّحُ أحدُ الطَّرفين على الآخر إلاَّ بمرجِّح ، وذلك المُرجِّحُ ليس من العبد ، وإلا لعاد الكلام فيه ، فلا بُدَّ وأن يكون من الله - تعالى - ، وإذا كان كذلك ، كانت الهدايةُ والضلال من الله - تعالى - .
وإذا عرفت هذا ، فنقول : أما حملهم اللاَّم على لامِ العاقبة فضعيفٌ؛ لأنَّ موسى - عليه الصلاة والسلام - ما كان عالماً بالعواقب .
فإن قالوا : إنَّ الله تعالى أخبرهُ بذلك .
قلنا : فلمَّا أخبر الله عنهم أنَّهُم لا يُؤمِنُون ، كان صدور الإيمان منهم مُحَالاً؛ لأنَّ ذلك يستلزمُ انقلاب خبر الله كذباً ، وهو محال ، والمفضي إلى المُحال محال .
وأمّا قولهم : يحمل قوله : « لِيُضِلُّوا » على أنَّ المراد : لئلاَّ يُضِلُّوا ، كما ذكره الجبائي ، فأقول : إنَّه لمَّا فسَّر قوله - تعالى - : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] نقل قراءة « فمنْ نفسِك » على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ، ثم إنَّه استبعد هذه القراءة ، وقال : إنَّها تَقْتَضِي تحريف القرآن ، وتغييرهُ ، وتفتحُ تأويلات الباطنيَّة - والباطنية هم الملاحدة ، ويقال لهم : القرامِطَة ، والإسماعيلية القائلون : بأنَّ محمَّد بن إسماعيل نَسَخَ شريعة محمَّد بن عبد الله - ويقال لهم أيضاً : الناصرية أتباع محمد بن نصير ، وكان من غلاة الروافض القائلين بالألوهية على توهُّم الدرزية أتباع بنشكين الدرزي ، كان من موالي الحاكم أرسله إلى وادي تيم الله بن ثعلبة ، فدعاهم إلى ألوهية الحاكم ويسمونه بالبازي ، والغلام ، ويحلفون به ، ويقال لهم : الحرمية والمحمرة ، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم ، ويقال لهم : الحرمية والمحمرة ، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم ، ويقال لهم أيضاً : الفداوية والرافضة ، وهم يحرفون كلام الله - تعالى - ورسوله عن مواضعه ، ومقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام ، ويظهرون لهذه الأمور حقائق يعرفونها ، فيقولون : إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم ، والصيام المفروض من كتمان أسرارهم ، وحج البيت زيارة شيوخهم ، ويدا أبي لهب أبو بكر وعمر ، والبناء العظيم والإمام المبين علي بن أبي طالب ، فهم لا تحل ذبائحهم لا يناكحونا ، وتجب مجاهدتهم؛ لأنهم مرتدون ، قاله ابن تيمية ، وبالغ في إنكار تلك القراءة .

وهذا الوجه الذي ذكرهُ هنا شرٌّ من ذلك؛ لأنَّه قلب النَّفي إثباتاً ، والإثبات نفياً ، وتجويزه بفتح باب ألاَّ يعتمد على القرآن لا في نفيه ، ولا في إثباته ، وحينئذٍ يبطل القرآن بالكُلِّيَّة ، وهذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد فيه الاستفهام ، بمعنى : الإنكار ، فإنَّ تجويزهُ يوجبُ تجويز مثله في سائر المواضع ، فلعله - تعالى - إنما قال : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } [ البقرة : 43 ] على سبيل الإنكار والتعجُّب ، ثم قال : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ } .
قال مجاهد : أهلكها ، والطَّمسُ : المَسْخُ .
وقال أكثر المفسرين : مسخها الله وغيَّرها عن هيئتها .
قال ابن عبَّاس : بلغنا أنَّ الدَّراهم والدَّنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها ، صحاحاً وأنصافاً ، وأثلاثاً ، وجعل سكنهم حجارة .
قال محمد بن كعب : « كان الرجل مع أهله في فراشه ، فصارا حجرين ، والمرأة قائمة تخبز فصارت حجراً » ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا أهل فرعون ، فأخرج منها البيضة منقوشة ، والجوزة مشقوقة وهي حجارة .
{ واشدد على قُلُوبِهِمْ } أي : أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان .
قال الواحدي : « وهذا دليلٌ على أنَّ الله يفعل ذلك بمن يشاء ، ولولا ذلك لما حسن من موسى هذا السُّؤال » .
قوله : « فَلاَ يُؤْمِنُواْ » يحتمل النَّصْبَ والجزمَ ، فالنَّصْب من وجهين :
أحدهما : عطفهُ على « لِيُضِلُّوا » .
والثاني : نصبه على جواب الدُّعاءِ في قوله : « اطْمِسْ » ، والجزم على أنَّ « لا » للدُّعاءِ ، كقولك : لا تُعذِّبْنِي يا ربِّ ، وهو قريبٌ من معنى : « لِيُضلُّوا » في كونه دعاءً ، هذا في جانب شبه النَّهي ، وذلك في جانب شبه الأمر ، و « حتَّى يروا » : غايةٌ لنفي إيمانهم ، والأولُ قول الأخفش ، والثاني بدأ به الزمخشري ، والثالث : قول الكسائي ، والفرَّاء؛ وأنشد قول الشاعر : [ الطويل ]
2932- فلا يَنْبَسِطْ منْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ ... ولا تَلْقَنِي إلاَّ وأنفُكَ راغمُ

وعلى القول بأنه معطوفٌ على « ليُضِلُّوا » يكون ما بينهما اعتراضاً .
قوله : { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } : الضمير لمُوسى وهارُون .
قيل : كان موسى يدعو وهارون يُؤمِّن ، فنسب الدعاء إليهما؛ لأنَّ المؤمن أيضاً داعٍ؛ لأنَّ قوله : « آمين » أي : استجب .
وقيل : المراد موسى وحده ، ولكن كنًى عن الواحد بضمير الاثنين .
وقيل : لا يبعُد أن يكون كلُّ واحدٍ منهما ذكر هذا الدُّعاء؛ غاية ما في الباب أن يقال : إنَّما حَكَى هذا الدعاء عن موسى ، بقوله : { وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً } إلاَّ أنَّ هذا لا ينافي أن يكون هارون ذكر ذلك الدعاء أيضاً .
وقرأ السلمي ، والضحاك : « دَعواتُكُما » على الجمع .
وقرأ ابن السَّميفع : « قَدْ أجبتُ دعوتكما » بتاء المتكلم ، وهو الباري - تعالى - ، « دَعوتَكُمَا » نصب على المفعول به .
وقرأ الرِّبيع : « أجَبْتُ دعوتيكُما » بتاء المتكلم أيضاً ، ودعوتيكما تثنيةٌ ، وهي تدلُّ لمن قال : إنَّ هارون شارك موسى في الدُّعاء .
قوله : « فاسْتَقِيمَا » أي : على الدَّعوة والرِّسالة ، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذابُ ، قال ابن جريج : لبث فرعون بعد هذا الدُّعاء أربعين سنة .
« وَلاَ تَتَّبِعَانِّ » : قرأ العامَّةُ بتشديد التاء والنون ، وقرأ حفص بتخفيف النُّون مكسورة ، مع تشديد التَّاء وتخفيفها ، وللقُرَّاء في ذلك كلامٌ مضطربٌ بالنِّسبة للنَّقْلِ عنهُ .
فأمَّا قراءةُ العامَّة ، ف « لا » فيها للنَّهي ، ولذلك أكَّد الفعل بعدها ، ويضعفُ أن تكون نافية؛ لأنَّ تأكيد المنفيِّ ضعيفٌ ، ولا ضرورة بنا إلى ادِّعائه ، وإن كان بعضهم قد ادَّعى ذلك في قوله : { لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ } [ الأنفال : 25 ] لضرورةٍ دعتْ إلى ذلك هناك ، وقد تقدَّم تحريره في موضعه ، وعلى الصحيح تكون هذه جملة نهيٍ معطوفة على جملة أمرٍ .
قال الزجاج : « ولا تتَّبعانِّ » : موضعه جزم ، تقديره : و لاتتَّبِعَا ، إلاَّ أنَّ النُّون الشديدة ، دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها ، وسكون النون التي قبلها ، فاختير لها الكسرة ، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية .
وأمَّا قراءة حفص ، ف « لاَ » : تحتمل أن تكون للنَّفي ، وأن تكون للنَّهْي .
فإن كانت للنفي ، كانت النون نون رفعٍ ، والجملة حينئذٍ فيها أوجه :
أحدها : أنَّها في موضع الحال ، أي : فاسْتقيمَا غيرَ مُتَّبِعيْنِ ، إلاَّ أنَّ هذا مُعترض بما قدَّمْتُه من أنَّ المضارعَ المفيَّ ب « لا » كالمثبت في كونه لا تباشره واو الحال ، إلاَّ أن يقدَّر قبلهُ مبتدأ ، فتكون الجملة اسميَّة أي : وأنتما لا تتَّبعَان .
والثاني : أنَّهُ نفيٌ في معنى النَّهي؛ كقوله - تعالى - : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } [ البقرة : 83 ] .
الثالث : أنَّها خبرٌ محضٌ مستأنف ، لا تعلُّق له بما قبله ، والمعنى : أنَّهُمَا أخبرا بأنَّهما لا يتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون .
وإن كانت للنَّهي ، كانت النون للتوكيد ، وهي الخفيفة ، وهذا لا يراه سيبويه ، والكسائي ، أعني : وقوع النون الخفيفة بعد الألف ، سواء كانت الألف ألف تثنية ، أو ألف فصلٍ بين نُون الإناث ، ونون التوكيد ، نحو « هل تضربنانِ يا نسوة » وقد أجاز يونس ، والفرَّاء : وقوع الخفيفة بعد الألف وعلى قولهما تتخرَّج القراءةُ ، وقيل : أصلها التشديد ، وإنَّما خففت للثقل فيها؛ كقولهم : « رُبَ » في « رُبَّ » .

وأمَّا تشديدُ التاء وتخفيفها ، فلغتان ، من اتَّبَع يتَّبع ، وتَبع يتْبَع ، وقد تقدَّم [ الأعراف : 175 ] هل هما بمعنى واحد ، أو مختلفان في المعنى؟ وملخصه : أنَّ تتبعه بشيءٍ : خلفه ، واتَّبعه كذلك ، إلاَّ أنه حاذاهُ في المشي واقتدى بِهِ ، وأتبعه : لحقهُ .
فصل
المعنى : لا تسلك طريق الجاهلين الذين يظنُّون أنه : متى كان الدعاء مُجاباً ، كان المقصُود حاصلاً في الحال ، فربما أجاب الله تعالى الإنسان في مطلوبه ، إلاَّ أنَّه يوصله إليه في وقته المقدَّر؛ فإنَّ وعد الله لا خلف له ، والاستعجال لا يصدر إلا من الجُهَّال؛ كما قال لنُوح - عليه الصلاة والسلام - { إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ هود : 46 ] ، وهذا النَّهي لا يدلُّ على صدور ذلك من موسى - عليه الصلاة والسلام - كما أن قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] لا يدل على صدور الشرك منه .

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)

قوله تعالى : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر } الآية .
قد تقدَّم الكلام في نظير الآية [ الأعراف : 138 ] ، وقرأ الحسن ، « وجوَّزْنَا : بتشديد الواو .
قال الزمخشري : وجوَّزْنَا : من أجَازَ المكان ، وجَاوَزهُ ، وجوَّزَهُ ، وليس من » جَوَّز « الذي في بيت الأعشى : [ الكامل ]
2933- وإذَا تُجَوِّزُها حِبَالُ قَبيلَةٍ ... أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا
لأنَّه لو كان منه لكان حقَّهُ أن يقال : وجَوَّزْنَا بني إسرائيل في البحر؛ كما قال : [ الطويل ]
2934- . ... كمَا جَوَّزَ السَّكِّيَّ في البَابِ فَيْتَقُ
يعني أنَّ فعَّل بمعنى فاعل وأفْعَل ، وليس التضعيفُ للتَّعدية ، إذ لو كان كذلك لتعدَّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء .
وقرأ الحسن : » فاتَّبَعَهُمْ « بالتَّشديد ، وقد تقدَّم الفرقُ .
قال القرطبيُّ : يقالُ : تَبعَ ، وأتْبع بمعنى واحد إذا لحقهُ ، واتَّبَع - بالتَّشديد - إذا صار خلفهُ ، وقال الأصمعيُّ : يقال : أتبعه - بقطع الألف - إذا لحقه ، وأدْرَكَهُ ، واتَّبَعَه بوصل الألفِ - إذا اتَّبَع أثره وأدركهُ ، أو لم يدركهُ ، وكذلك قال أبُو زيدٍ ، وقرأ قتادة : » فأتبعهم « بوصل الألف وقيل : اتبعهُ - بوصل الألف في الأمْرِ - اقتدى به ، وأتبعه بقطع خيراً وشرّاً . هذا قولُ أبي عمرو . وقيل : بمعنى واحدٍ .
قوله : » بَغْياً وَعَدْواً « يجُوزُ أن يكونا مفعولين من أجلهما أي : لأجل البغيْ والعَدْوِ ، وشروط النَّصب متوفرةٌ ، ويجُوزُ أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي : باغين متعدِّين .
وقرأ الحسنُ » وُعدواً « بضمِّ العين ، والدَّالِ المشدَّدةِ ، وقد تقدَّم ذلك في سُورة الأنعام [ الأنعام : 108 ] ، وقوله : » حتى إِذَآ « : غاية لاتباعه .
قوله : » آمَنتُ أَنَّهُ « قرأ الأخوان بكسر » إنَّ « وفيها أوجه :
أحدها : أنَّها استئنافُ إخبار؛ فلذلك كسرت لوقوعها ابتداء كلامٍ .
والثاني : أنَّه على إضمار القول أي : فقال إنَّهُن ويكون هذا القول مفسراً لقوله : » آمنتُ « .
والثالث : أن تكون هذه الجملة بدلاً من قوله : » آمنتُ « ، وإبدالُ الجملة الاسميَّة من الفعليَّة جائزٌ ، لأنَّها في معناها ، وحينئذٍ تكون مكسورة؛ لأنَّها محكيَّة ب » قَالَ « هذا الظاهرُ .
والرابع : أنَّ » آمنتُ « ضُمِّنَ معنى القول؛ لأنَّه قولٌ . وقال الزمخشريُّ : » كرَّر المخذولُ المعنى الواحد ثلاث مرَّاتٍ في ثلاثِ عباراتٍ حِرْصاً على القبول « .
يعني أنه قال : » آمنتُ « فهذه مرَّة ، وقال : { أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } فهذه مرة ثانية . وقال : { وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } فهذه ثالثةٌ ، والمعنى واحد .
وهذا جنوحٌ منه إلى الاستئناف في » إنَّه « . وقرأ الباقون بفتحها وفيها أوجه :
أحدها : أنَّها في محلِّ نصب على المفعول به أي : آمنتُ توحيد الله؛ لأنَّه بمعنى صدَّقْتُ .
الثاني : أنَّها في موضع نصب بعد إسقاط الجارِّ أي : لأنَّه .

الثالث : أنَّها في محلِّ جرٍّ بذلك الجارِّ وقد تقدَّم ما فيه من الخلاف [ يونس : 2 ] .
فصل
لمَّا أجاب الله دعاءهما ، أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر ، وكان فرعونُ غافلاً عن ذلك؛ فلمَّا سمع بخروجهم « أتْبَعَهُمْ » أي : لحقهُم ، « بَغْياً وعَدْواً » أي : ظلماً واعتداءً . وقيل : بَغْياً في القولِ ، وعدواً في الفعل ، وكان البَحْرُ قد انفلق لموسى وقومه فدخلوا ، وخرجوا ، وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً ، ليطمع فرعون ، وجنودهُ في العُبُور ، فلمَّا دخل مع جمعه ، ودخل آخرهم ، وهمَّ أوَّلهم بالخروج ، انطبق عليهم البحرُ فلمَّا « أدْرَكَهُ الغرقُ » أي : غمره الماء ، وقرب هلاكه « قال آمَنْتُ » .
فإن قيل : إنَّ الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفَّظ بهذا اللفظ ، فكيف حكى الله عنه أنَّهُ ذكر ذلك؟ .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّ الكلام الحقيقيَّ هو كلام النَّفْسِ لا كلام اللسان ، فذكر هذا الكلام بالنفس .
الثاني : أن يكون المرادُ بالغرق مقدماته .
فإن قيل : إنَّه آمن ثلاث مرات على ما تقدم عن الزمخشري ، فما السَّببُ في عدم القبولِ؟
فالجواب : من وجوهٍ :
أحدها : أنَّهُ إنَّمَا آمن عند نزول العذاب ، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول ، قال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] .
الثاني : إنَّما ذكر هذه الكلمة ليتوسَّل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة ، ولم يكن مقصودهُ بالكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى ، فلم يَكُنْ مُخْلِصاً .
وثالثها : أنَّ ذلك الإقرار كان تقليداً ، فإنهُ قال : { لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } فكأنه اعترف بأنَّه لا يعرفُ الله ، وإنَّما سمع من بني إسرائيل أنَّ للعالم إلهاً ، فهو أقَرّ بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يُقرُّونَ بوجوده ، وهذا محضُ التَّقليدِ ، وفرعون قيل إنَّهُ كان من الدَّهرية المنكرين لوجود الصَّانع ، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا يزولُ إلاَّ بالحُجَّةِ القطعيَّة ، لا بالتَّقليد المحضِ .
ورابعها : أنَّ بعض بني إسرائيل لمَّا جاوزوا البحر عبدُوا العجل ، فلما قال فرعون : { آمَنتُ أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } انصرف ذلك إلى العجلِ الذي آمنوا بعبادته ، فكانت هذه الكلمةُ في حقه سبباً لزيادة كُفْره .
وخامسها : أنَّ أكثر اليهُودِ يقولون بالتَّشبيه والتَّجْسِيم ، ولهذا اشتغلوا بعبادة العجل لظنِّهم أنَّهُ تعالى في جسد ذلك العجل ، فلمَّا قال فرعونُ : { آمَنتُ أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } فكأنَّهُ آمن بالله الموصوف بالجسميَّة ، والحلول والنُّزول ، ومن اعتقد ذلك؛ فهو كافرٌ ، فلذلك ما صحَّ إيمانُهُ .
وسادسها : أنَّ الإيمان إنَّما يتمُّ بالإقرارِ بوحدانية الله ، والإقرار بنُبُوَّةِ موسى - عليه الصلاة والسلام - فلمَّا أقرَّ فرعونُ بالوحدانية ، ولمْ يقر بنبوَّةِ موسى لم يصحَّ إيمانه؛ كما لو قال الكافر ألف مرة : أشهد أن لا إله إلاَّ الله لم يصح إيمانه حتى يقول معه : وأشهدُ أنَّ محمداً رسول الله ، فكذا ههنا .

وسابعها : روى الزمخشري أنَّ جبريل - عليه السلام - أتى فرعون مُستفتياً : ما قولُ الأمير في عبدٍ نشأ من مالِ مولاهُ ونعمته ، فكفر بنعمته وجحد حقَّه ، وادَّعَى السِّيادة دونهُ؟ فكتب فرعون يقولك أبو البعاس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده ، الكافر بنعمته أن يغرق في البحر ، ثمَّ إنَّ فرعون لما غرق؛ رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه .
قوله : « الآن » منصوبٌ بمحذوفٍ أي : آمَنْتَ الآن ، أو اتُؤمن الآن .
وقوله : « وقَدْ عَصَيْتَ » جملةٌ حالية ، تقدَّم نظيرها .
واختلفوا في قائل هذا الكلام ، فقيل : هو جبريلُ ، وإنَّما قال : { وَكُنتَ مِنَ المفسدين } في مقابلة قوله { وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } . وقيل : القائلُ هو الله تعالى؛ لأنَّه قال بعدهُ : { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } إلى أن قال : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } ، وهذا ليس إلاَّ كلام الله تعالى .
فإن قيل : ظاهرُ اللفظ يدلُّ على أنَّه إنَّما لم تقبل التوبة للمعصية المتقدمة ، والفساد السَّابق ، وهذا التعليلُ لا يمنعُ من قبول التوبةِ .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّ قبول التَّوبةِ غير واجب عقلاً ، ويدُلُّ عليه هذه الآيةُ .
الثاني : أنَّ التعليل ما وقع لمجرَّد المعصية السَّابقة ، بل بتلك مع كونه من المفسدين .
فصل
روي أن جبريل - عليه السلام - أخذ يملأ فمه بالطِّين لئلاَّ يتوب غضباً عليه والأقربُ أنَّ هذا لا يصحُّ؛ لأنَّه في تلك الحالِ إمَّا أن يقال التكليف كان ثابتاً ، أو ما كان ثابتاً ، فإن كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة ، بل يجبُ عليه أن يعينه على التوبةِ ، وعلى كُلِّ الطَّاعات ، لقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } [ المائدة : 2 ] وأيضاً ، فلو منعه بما ذكر لكانت التَّوبة ممكنةً؛ لأنَّ الأخرس قد يتوبُ بأن يندمَ بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح ، فلا يبقى لما فعله جبريل فائدة ، وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر ، والرِّضا بالكفر كفر وأيضاً كيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] ثُمَّ يأمُرُ جبريل أن يمنعهُ من الإيمان .
فإن قيل : إنَّ جبريل إنَّما فعل ذلك من قبل نفسه لا بأمر الله ، فهذا يبطله قول جبريل : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] وقوله تعالى في صفة الملائكة : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] .
وإن قيل إنَّ التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت ، فلا يبقى للفعل المنسوب لجبريل فائدة أصلاً .
قوله : { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } في « بِبدنِكَ » وجهان :
أحدهما : أنَّها باء المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك ، وهي الدَّرْع ، فيكونُ « بِبدنِكَ » في موضع الحالِ .
قال المفسِّرُون : لمْ يُصدِّقُوا بغرقه ، وكانت لهُ دِرْعٌ تعرفُ فألقي بنجوة من الأرض ، وعليه درعهُ ليعرفوهُن والعربُ تطلقُ البدنَ على الدِّرع ، قال عمرو بن معد يكرب : [ الوافر ]

2935- أعَاذِل شِكَّتِي بَدِنِي وسَيْفِي ... وكُلُّ مُقلَّصٍ سَلِسِ القِيَادِ
وقال آخرُ : [ الوافر ]
2936- تَرَى الأبْدانَ فِيهَا مثسْبَغَاتٍ ... عَلى الأبْطَالِ واليَلَبَ الحَصِينَا
أراد بالأبدان : الدُّرُوع ، واليَلَبُ : الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود يُخْرَزُ بعضها إلى بعض ، وهو اسم جنس ، الواحد : يَلَبَةٌ .
وقيل : بِبدنِكَ أيك عُرْيَان لا شيء عليه ، وقيل : بَدَناً بلا رُوحٍ .
والثاني : أن تكون سببيَّة على سبيل المجاز؛ لأنَّ بدنهُ سببٌ في تنجيته ، وذلك على قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع « بِندَائِكَ » من النِّداءِ ، وهو الدُّعاء : أي : بما نادى به في قومه من كفرانه في قوله : { ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } [ الزخرف : 51 ] { فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 23 ، 24 ] { ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] . وقرأ يعقوب « نُنْجِيكَ » مخففاً من أنجاه . وقرأ أبو حنيفة : « بأبْدانِكَ » جمعاً : إمَّا على إرادةِ الأدْرَاع ، لأنَّهُ كان يلبسُ كثيراً منها خوفاً على نفسه ، أو جعل كُلَّ جُزءٍ من بدنه بدناً كقوله : « شَابَتْ مَفارِقُهُ » ؛ قال : [ الكامل ]
2937- ... شَابَ المَفارِقُ واكتَسَيْْنَ قتيرَا
التَّنْحِيةِ أي : نُلْقيكَ فيما يلي البحر ، قال المفسرون : رماه إلى ساحل البحرِ كالثَّور . وهل تُنَجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعِدك عمَّا وقع فيه قومُكَ من قَعْرِ البحر ، وهو تهكُّم بهم ، أو مِنْ ألقاه على نجوة أي : رَبْوة مرتفعة ، أو من النَّجاة ، وهو التَّرْكُ أو من النَّجاءِ ، وهو العلامة ، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصَّة ، والظَّاهرُ أنَّ قولهُ : { فاليوم نُنَجِّيكَ } خبرٌ محض . وزعمَ بعضُهُم أنَّه على نيَّة همزةِ الاستفهامِ ، وفيه بعدٌ لحذفها من غير دليلٍ ، ولأنَّ التلعليل بقوله « لِتكُون » لا يُناسِبُ الاستفهام . و « لِتَكُونَ » متعلقٌ ب « نُنَجِّيكَ » و « آيَةً » أي : علامة وقيل : عِبْرةً وعِظَةً ، و « لِمَنْ خَلْفكَ » في محلِّ نصبٍ على الحالِ من « آيَةً » لأنَّه في الأصل صفةٌ لها .
وقرأ بعضهم « لِمَنْ خلقك » آية كسائر الآيات . وقرئ « لِمَن خلَفكَ » بفتح اللاَّم جعله فعلاً ماضياً ، أي : لِمَنْ خلفكَ من الجبابرة ليتَّعظُوا بذلك . وقرىء « لِمَنْ خلقَكْ » بالقاف فعْلاً ماضياً ، وهو الله تعالى أي : ليجعلك الله آية له في عباده .
فصل
في كونه « لِمَنْ خلفه آيةً » وجوه :
أحدها : أنَّ الذين اعتقدُوا إلاهيته لمَّا لم يُشَاهدُوا غرقه كذَّبُوا بذلك ، وزعموا أنَّ مثله لا يموت ، فأخرجه الله تعالى بصورته حتى أبصروه وزالت الشُّبْهةُ عن قلوبهم .
الثاني : أنَّه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] ليكون ذلك زَجْراً للخَلْقِ عن مثل طريقته . الثالث : أنه تعالى لمَّا أغرقه مع جميع قومه ، ثُمَّ إنَّه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قَعْر البَحْرِ ، بل خصَّهُ بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة عجيبة دالة على قدرة الله تعالى ، وعلى صدق موسى - عليه الصلاة والسلام - في دعوة النبوَّةِ . الرابع : تقدم في قراءة من قرأ لمن خالقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته . ثم قال تعالى { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } والظَّاهرُ أنَّ هذا الخطاب لأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - زجراً لهم عن الإعراض عن الدَّلائل ، وباعثاً لهم على التأمُّلِ فيها والاعتبار بها ، كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } [ يوسف : 111 ] .

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)

قال تعالى : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } الآية .
لمَّا ذكر خاتمة فرعون ذكر خاتمة بني إسرائيل ، فقال : « ولقدْ بوَّأنا » أي : أسكنا بني إسرائيل « مُبَوَّأ صِدْقٍ » أي : مكاناً محموداً . ويجُوزُ أن يكون « مُبَوَّأ صِدْقٍ » منصوباً على المصدر ، أي : بَوَّأناهم مُبَوَّأ صدقٍ ، وأن يكون مكاناً أي : مكان تبوُّء صدقٍ . ويجوز أن ينتصب « مُبَوَّأ » على أنَّه مفعولٌ ثانٍ كقوله تعالى : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] أي : لنُنْزلنَّهُمْ . ووصف المُبَوَّأ بكون صدقاً؛ لأنَّ عادة العربِ أنها إذا مدحتْ شيئاً أضافته إلى الصِّدْقِ ، تقولُ : رَجُلٌ صدقٌ ، وقدم صدقٍ ، قال تعالى : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الإسراء : 80 ] . والمراد بالمبوَّأ الصدق : قيل : « مصر » ، وقيل : الأردن وفلسطين وهي الأرض المقدسة { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات } الحلال « فَمَا اخْتَلَفُوا » يعنى اليهود الذين كانُوا في عَهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم في تصديقه وأنه نبيٌّ حقٌّ « حتَّى جاءَهمُ العِلْمُ » يعنى القرآن ، والبيان بأنه رسول الله صدق ودينه حق ، وسمى القرآن علماً؛ لأنه سببُ العِلْمِ ، وتسمية المُسَبَّبِ باسم السبب مجاز مشهور .
قال ابنُ عباس : هم قريظة والنَّضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق : ما بين المدينة ، والشام ورزقناهم من الطيبات ، وهو ما في تلك البلادِ من الرطب ، والتمر الذي لا يوجد مثله في البلاد وقيل : المراد بني إسرائيل الذين نجوا من فرعون أورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق ، والصامت ، والحرث ، والنسل ، كما قال : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا } [ الأعراف : 137 ] .
فصل
في كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان :
الأول : أنَّ اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ويفتخرون به على سائر النَّاس ، فلمَّا بعثه الله تعالى كذَّبوهُ حسداً ، وبغياً وإيثارااً لبقاء الرِّياسة ، وآمن به طائفةٌ منهم ، فبهذا الطريق كان سبباً لحدوث الاختلاف فيهم .
الثاني : أنَّ هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً بالكلِّيَّة ، وبقوا على هذه الحالة حتَّى جاءهم القرآنُ ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قومٌ وبقي قومٌ كفاراً . ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : أنَّ هذا الاختلاف لا يمكن إزالته في دار الدنيا ، وإنَّما يقضى بينهم في الآخرة ، فيتميز المحق من المبطل .
قوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ } الآية .
قال الواحديُّ « الشَّك في اللغةِ ، ضمَّ بعض الشَّيءِ إلى بعضٍ ، يقال : شَكَكْتُ الصَّيْدَ إذا رميْتَه فنظمْتَ يدهُ إلى أو رجلهُ إلى رجله ، والشِّكائِكُ من الهوادج ما شُكَّ بعضها ببعضٍ والشِّكاكُ : البُيوتُ المُصطفَّة ، والشَّكائِكُ : الأدْعياءُ؛ لأنَّهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم ، أي : يضُمُّون ، وشكَّ الرَّجُلُ في السِّلاحِ ، إذا دخل فيه وضمَّهُ إلى نفسه .

فإذا قالوا : شكَّ فلانٌ في الأمور أرادوا أنَّه وقف نفسه بين شيئين ، فيجوزُ هذا ويجوزُ هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه « .
ولمَّا ذكر اختلافهم عندما جاءهم العلم ذكر في هذه الآية ما يُقَوِّي قلبه في صحَّة القرآن والنبوة .
وفي » إن « هذه وجهان :
أظهرهما : أنَّها شرطيةٌ ، واستشكلوا على ذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُن في شكٍّ قط قال الزمخشريُّ : » فإن قلت : كيف قال لرسوله : « فإن كُنت في شكٍّ » مع قوله للكفرة : { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [ هود : 110 ] ؟ قلت : فرقٌ عظيم بين إثباته والتَّمثيل « . وقال أبو حيان : فإذا كانت شرطية فقالوا : إنَّها تدخلُ على الممكن وجوده أو المحقَّقِ وجوده ، المبهم زمن وقوعه ، كقوله تعالى : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] قال : » والذي أقوله إنَّ « إن » الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيءٍ ، ولا تستلزمُ تحقُّقَ وقوعه ولا إمكانه ، بل قد يكونُ ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى { إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } [ الزخرف : 81 ] ، ومستحيلٌ أن يكون له ولدٌ فكذلك مستحيلٌ أن يكون في شك ، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى : { فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض } [ الأنعام : 35 ] لكنَّ وقوعها في تعليق المستحيل قليلٌ « .
ثم قال : » ولمَّا خفي هذا الوجه على أكثر النَّاس؛ اختلفوا في تخريج هذه الآية فقال ابن عطيَّة : الصَّواب أنَّها مخاطبةٌ له ، والمرادُ من سواه من أمته ممن يمكنُ أن يشُكَّ أو يعارض؛ كقوله : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 1 ] وقوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ويدلُّ على ذلك قوله في آخر السورة : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي } [ يونس : 104 ] وأيضاً لو كان شاكّاً في نبوة نفسه؛ لكان شك غيره في نبوته أولى ، وهذا يوجب سقوطُ الشريعة بالكلية ، وأيضاً فبتقدير أن يكون شاكّاً في نبوَّةِ نفسه ، فكيف يزول هذا الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم كفار ، وإن كان قَدْ حصل فيهم مؤمن إلاَّ أن قوله ليس بحجة ، لا سيَّما وقد تقرَّر أنهم حرَّفُوا التوراة ، والإنجيل؛ فثبت أنَّ هذا الخطابَ وإن كان في الظَّاهر مع الرسول إلاَّ أنَّ المراد هو الأمة ، وعلى هذا فإنَّ الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة : المصدقون ، والمكذبون ، والمتوقفون في أمره الشَّاكون فيه ، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال : أيُّها الإنسان : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحَّة نُبوَّته « .
ولمَّا ذكر الله تعالى لهم ما يزيل الشَّك عنهم ، حذَّرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني ، وهم المكذِّبون ، فقال : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله } [ يونس : 95 ] الآية .
وقيل : كنى بالشَّك عن الضِّيق .

وقيل : كنى به عن العجب ، وجه المجازِ فيه أنَّ كُلاًّ منهما فيه تردُّد ، وقال الكسائيُّ : إن كنت في شكٍّ أنَّ هذه عادتُهُم مع الأنبياء؛ فسلهم كيف صبر موسى - عليه السلام -؟ .
وقيل : إنه تعالى علم أنَّ الرسول لم يشك في ذلك ، إلاَّ أنَّ المقصود منه أنَّهُ متى سمع هذا الكلام فإنَّهُ يصرخ ويقول « يا ربّ لا أشك ، ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب ، بل يكفيني ما أنزلته عليَّ من الدلائل الظاهرة » ونظيره قوله تعالى للملائكة : { أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] والمقصودُ أن يُصرِّحُوا بالجواب الحق ويقولوا : { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } [ سبأ : 41 ] .
وكقوله لعيسى - عليه الصلاة والسلام - { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] والمقصود منه أن يصرح عيسى بالبراءة عن ذلك . وقيل : التقدير إنَّك لسيت بشاك البتة . ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة الشَّك كقوله تعالى { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] أي : أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً؛ لزم فيه المحال الفلاني ، فكذا ههنا ، ولو فرضنا وقوع الشَّك فارجع إلى التَّوراةِ ، والإنجيل لتعرف بهما أنَّ هذا الشك زائل .
والوجه الثاني من وجهي إنْ أنَّها نافيةٌ . قال الزمخشري : « أي : فما كنتَ في شكٍّ فاسأل ، يعنى لا نأمرك بالسُّؤال لكونكَ شاكاً ، ولكن لتزداد يَقِيناً كما ازداد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بمعاينة إحياء الموتى » وهذا القول سبقه إليه الحسنُ البصريُّ والحسينُ بنُ الفضل ، وكأنَّهُ فرارٌ من الإشكال المتقدِّم في جعلها شرطية ، وقد تقدَّم جوابه من وجوهٍ .
قال القرطبي : قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزَّاهد : سمعت الإمامين : ثَعْلباً والمبرد يقولان : معنى : « فإن كُنتَ في شكٍّ » أي : قُلْ يا محمَّدُ للكافر : فإن كُنتَ في شكٍّ { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } .
وقال الفراء : أعْلمَ اللهُ أنَّ رسولهُ غير شاكٍّ ، لكنَّه ذكره على عادة العرب ، يقول الواحدُ لعبده : إن كنت عبدي فأطِعْني ، ويقول لولده افعل كذا إن كنت ولدي ، ولا يكونُ ذلك شكّاً .
وقال الفقيه : وقال بعضهم : هذا الخطاب لمنْ كان لا يقطعُ بتكذيب محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ولا بتصديقه بل كان في شكٍّ .
وقيل : المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى : لو كنت ممَّن يلحقك شكٌّ فيما أخبرناك به ، فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشَّكَّ .
والمراد بالشَّك هنا : ضيق الصدر ، أي : إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرَؤونَ الكتابَ من قَبْلكَ ، يُخْبِرُوكَ صَبْرَ الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف كان عاقبة أمرهم . والشَّكُّ في اللغةِ : أصله الضِّيق ، يقال : شكَّ الثَّوب ، أي : ضمَّهُ بخلال حتى يصير كالوعاء ، فالشكُّ يقبض الصدر ، ويضمه حتَّى يضيق .
فصل
قال المُحَقِّقُون : المراد بالذين يقرءون الكتاب : المؤمنون من أهْلِ الكتابِ ، كعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن صوريا ، وتميم الدارين وكعب الأحبار ، لأنَّهُم هم الذين يوثق بأخبارهم .

وقال بعضهم : المراد الكل سواء كانوا من المسلمين أم من الكُفَّار؛ لأنَّهم إذا بلغُوا عدد التواتر ، وقرؤوا آية من التَّوراة ، والإنجيل ، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدمِ النبي صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرضُ .
وقرا يحيى ، وإبراهيم : الكتب بالجمع ، وهي مبنيةٌ أنَّ المراد بالكتاب الجنسٌ لا كتابٌ واحد . فإن قيل : إن كتبهم قد دخلها التَّحريفُ والتَّغييرُ ، فكيف يمكنُ التعويلُ عليها؟ .
فالجواب : أنهم إنما حرَّفُوها لإخفاء الآيات الدَّالة على نبوَّةِ محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ، فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته؛ كان ذلك من أقوى الدَّلائل على صحَّة نبوَّة محمد - عليه الصلاة والسلام - لأنَّها لمَّا بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دلَّ ذلك على أنَّها كانت في غاية الظهور .
فصل
قيل : السؤالُ كان عن القرآن ، ومعرفة نُبوَّةِ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - . وقيل : السؤال راجعٌ إلى قوله { فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم } والأول أولى؛ لأنَّه الأهمُّ . ولمَّا بين هذا الطريق قال : { لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ } أي : ثبت عنده بالآيات والبراهين القاطعة أنَّ ما أتاك هو الحق : « فلا تكُوننَّ من المُمترينَ » أي : لا مدخل للمرية فيه { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله } أي : اثبت ، ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية ، وانتفاء التكذيب بآيات الله؟ وروي أنَّه عليه الصلاة والسلام قال عند نزوله : « لا أشُكُّ ولا أسْألُ بلْ أشهدُ أنَّهُ الحقُّ » .
ثم لمَّا فصَّل تعالى هذا التفصيل ، بيَّن أنَّ له عباداً ، قضى عليهم بالشَّقاءِ ، فلا تتغيَّر ، وعباداً قضى لهم بالشَّقاء ، فلا تتغيَّر ، وعباداً قضى لهم بالكرامة ، فلا تتغير ، فقال : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } .
قرأ نافعٌ وابن عامر كلمات على الجمع ، والباقون : بالإفراد . فكلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة بحسب الجنسية . والمراد بهذه الكلمة : حكمُ الله بذلك ، وإخباره عنه ، وخلقه في العبد مجموع القدرة ، والدَّاعية الموجبة لحصول ذلك الأثر . واحتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القول بالقضاءش والقدرِ . ثم قال : { وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } أي : أنهم لا يؤمنون ألبتَّة ، ولو جاءتهم الدَّلائل التي لا حدَّ لها ولا حَصْرَ؛ لأنَّ الدَّليل لا يهدي إلاَّ بإعانة الله ، فإذا لم تحصيل الإعانة ضاعت تلك الدَّلائل .
القصة الثالثة
قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ } الآية .
لمَّا بيَّن بقوله : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } أتبعه بهذه الآية؛ لأنَّها دالةٌ على أنَّ قوم يونس آمنوا بعد كفرهم ، وانتفعوا بذلك الإيمان ، فدلَّ ذلك على أنَّ الكُفَّار فريقان :
فريق ختم له بالإيمان .

وفريق ختم له بالكفر ، وكلُّ ما قضى الله به فهو واقعٌ .
قوله : « فلولا » لولا هنا تحضيضيةٌ ، وفيها معنى التَّوبيخ؛ كقول الفرزدق : [ الطويل ]
2938- تَعُدُّونَ عَقْرَ النَّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضَوْطَرَى لولاَ الكَمِيَّ المقنَّعا
وفي مصحف أبيِّ ، وعبد الله - وقرأ كذلك - فَهَلاَّ ، وهي نصٌّ في التحضيض وزعم عليُّ بنُ عيسى ، والنَّحَّاس أنَّ لولا تأتي بمعنى ما النَّافية ، وحملا على ذلك هذه الآية أي : ما كانت قرية نقله ابنُ قاسم ، وهو منقولٌ أيضاً عن الهرويِّ ، وكانت هنا تامة و « آمنت » صفة ل « قرية » ، وفنفعها نسق على الصِّفة .
قوله : « إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ استثناء منقطع ، وإليه ذهب سيبويه ، والكسائي ، والأخفش ، والفراء ، ولذلك أدخلهُ سيبويه في باب « ما لا يكون فيه إلاَّ النصب لانقطاعه » وإنما كان منقطعاً؛ لأنَّ ما بعد « إلاَّ » لا يندرجُ تحت لفظ « قرية » .
والثاني : أنَّه متصلٌ . قال الزمخشري : « استثناءٌ من القرى ، لأنَّ المراد أهاليها وهو استثناء منقطع بمعنى : ولكن قوم يونس ، ويجُوزُ أن يكون مُتَّصِلاً ، والجملةُ في معنى النَّفي كأنَّه قيل : ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلاَّ قوم يونس » .
وقال ابنُ عطيَّة : هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطعٌ ، وكذلك رسمه النَّحويون ، وهو بحسب المعنى متصلٌ لأنَّ تقديره : ما آمن أهل قريةٍ إلاَّ قوم يونس .
قال شهاب الدين : « وتقدير هذا المضاف هو الذي صحَّح كونه استثناء مُتَّصلاً » ، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهم . وأمَّا الزَّمخشري فإنَّ ظاهر عبارته أنَّ المُصَحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النَّفي ، وليس كذلك بل المسوِّغ كون القرى يُرادُ بها أهاليها من باب إطلاق المحلِّ على الحال ، وهو أحدُ الأوجه المذكورة في قوله { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . وقرأ فرقة : « إلاَّ قومُ » بالرَّفع . قال الزمخشريُّ : وقُرىء بالرفع على البدل ، روي ذلك عن الجرمي ، والكسائي .
وقال المهدويُّ : « والرَّفْعُ على البدل من قَرْية » . فظاهر هاتين العبارتين أنَّها قراءةٌ منقولةٌ ، وظاهرُ قول مكِّي ، وأبي البقاء أنَّها ليست قراءة ، وإنَّما ذلك من الجائز ، وجعلا الرَّفع على وجهٍ آخر غير البدلِ ، وهو كون « إلاَّ » بمعنى « غير » في وقوعها صفةً .
قال مكي « ويجوزُ الرَّفعُ على أن تجعل إلا بمعنى » غير « صفة للأهْلِ المحذوفين في المعنى ، ثم يُعْرَب ما بعد إلاَّ بإعراب » غير « لو ظهرت في موضع » إلاَّ « . وقال أبو البقاء - وأظنه أخذه منه - : ولو كان قد قُرىء بالرَّفع لكانت إلاَّ فيه بمنزلة غير فيكون صفة ، وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات وقرئ بها .

فصل
قال البغويُّ : المعنى فلم تكن قرية؛ لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْدِ؛ أي : أهل قرية آمنت عند معاينة العذاب ، « فنفعها إيمانها » في حال اليَأسِ « إلاَّ قوم يونس » ، فإنَّه نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، و « قوم » نصب على الاستثناء المنقطع ، أي : ولكن قوم يونس « لما آمنوا كشفْنَا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدُّنْيَا ، ومتعناهم إلى حين » ، وهي وقت انقضاء آجالهم ، واختلفوا في أنَّهُمْ هل رأوا العذاب عياناً فقال بعضهم : رأوا دليل العذاب . والأكثرون على أنَّهُم رأوا العذاب عياناً لقوله : { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي } ، والكَشْفُ يكون بعد الوقوع ، أو إذا قرب قوله : « ولو شاء ربُّك » يا مُحمَّدُ « لآمن من في الأرض كلهم جميعاً » .
واعلم أنَّ هذه السُّورة من أوَّلها إلى هنا في بيان شبهات الكفار في إنكار النبوة ، والجواب عنها ، وكانت إحدى شبهاتهم؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُهَدِّدهُم بنزول العذاب على الكُفَّار ، وبعد أتباعه أن الله ينصرهم ، ويعلي شأنهم ، ويقوي جانبهم ، ثمَّ إنَّ الكُفَّارَ ما رأوا ذلك؛ فجعلوا ذلك شبهة في الطَّعْنِ في نبوته ، وكانوا يبالغون في استعجال العذاب على سبيل السخرية ، ثم إن الله تعالى بيَّن أنَّ تأخير الموعود به لا يقدحُ في صحَّة الوعد ، ومن ثم ضرب لهذا أمثلة ، وهي قصَّة نوح - عليه السلام - وموسى - عليه السلام - إلى هاهنا ، ثم في هذه الآية بيَّن أنَّ جدَّ الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفعُ ، ومبالغته في تقريرِ الدلائل في الجواب عن الشبهات لا يفيدُ؛ لأن الإيمان لا يحصلُ إلا بخلق الله ، ومشيئته وإرشاده ، وهدايته ، إذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمانُ .
فصل
استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ جميع الكائنات لا تحصلُ إلا بمشيئة الله تعالى؛ لأنَّ كلمة « لَوْ » تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره ، فقوله : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً } يقتضي أنَّه ما حصلت تلك المشيئة ، وما حصل إيمانُ أهل الأرض بالكليَّة ، فدلَّ هذا على أنَّه تعالى ما أراد الكل ، وأجاب الجبائيُّ ، والقاضي وغيرهما أنَّ المراد مشيئة الإلجاء ، أي : لو شاءس الله أن يُلْجِئهُم إلى الإيمان لقدر عليه ، ولكنَّهُ ما فعل ذلك؛ لأنَّ الإيمان الصَّادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ، ولا يفيده فائدة ، ثم قال الجبائيُّ : ومعنى إلجاء الله تعالى إيَّاهُم إلى ذلك ، أن يُعَرِّفهم أنَّهُمْ لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك ، وعند هذا لا بُدَّ وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه .
والجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ الكافر لو كان قادراً على الكفر ، ولم يقدر على الإيمان ، فحينئذٍ تكونُ القدرة على الكفر مستلزمة للكفر ، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أنْ يقال : إنَّه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر؛ فوجب أن يقال : أراد منه الكفر ، وإن كانت القدرة صالحة للضِّدين ، فرجحان أحد الطَّرفين على الآخر - إن لم يتوقف على المرجح - فقد حصل الرجحانُ لا لمرجحٍ ، وهو باطلٌ ، وإن توقف على مرجح ، فذلك المرجحُ إمَّا أن يكون من العبد ، أو من الله ، فإن كان من العبد عاد التَّقْسِيمُ ولزم التسلسل ، وهو محالٌ ، وإن كان من الله ، كان مجموع تلك القدرة مع تلك الدَّاعية موجباً لذلك الكفر ، فإذا كان خالق القدرة والدَّاعية هو الله تعالى عاد الإلزام .

ثانيها : أن قوله : « ولو شاءَ ربُّكَ » لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء؛ لأنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - ما كان يطلب منهم إلاَّ إيماناً ينتفعون به في الآخرة ، فبيَّن تعالى؛ أنَّه لا قدرة للرَّسُولِ على تحصيل هذا الإيمان ، ثم قال : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً } فوجب أن يكون المرادُ /نه هذا الإيمان النَّافع حتى ينتظم الكلام ، وحمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء لا يليقُ بهذا الموضع .
وثالثها : أنَّ الإلجاء إمَّا أن يكون بأن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ، فيأتي بالإيمان عندها ، وإمَّا أن يكون بخلق الإيمان فيهم ، والأولُ باطلٌ؛ لأنه تعالى قال : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] وقال : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الأنعام : 111 ] فبيَّن أنَّ إنزال الإيمان لا يفيدُ ، وإ ، كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان ، بل كان عبارة عن خلق الإيمان فيهم ، فيصير المعنى : ولو شاء ربك حصول الإيمان لهم لخلق الإيمان فيهم ، ثم يقال : لكنه ما خلق الإيمان فيهم ، فدلَّ على أنَّه ما أراد حصول الإيمان لهم ، وهو المطلوب . ثم قال : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي : أنه : لا قدرة لك على التَّصرف في أحد .
قوله : « أفأنت » يجوز في « أنت » وجهان ، أحدهما : أن يرتفع بفعل مقدَّر مفسَّر بالظَّاهر بعده ، وهو الأرجحُ؛ لأنَّ الاسم قد ولي أدّاة هي بالفعل أولى .
والثاني : أنَّه مبتدأ والجملةُ بعده خبره ، وقد تقدَّم ما في ذلك من كون الهمزة مقدمة على العاطف أو ثمَّ جملةٌ محذوفةٌ كما هو رأي الزمخشري . وفائدة إيلاء الاسم للاستفهام إعلامٌ بأنَّ الإكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه ، وإنَّما الشَّأنُ في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا مشاركة فيه لغيره . و « حتَّى » غايةٌ للإكراه .
قوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ } كقوله : { أَنْ تَمُوتَ } [ آل عمران : 145 ] وقد تقدم في آل عمران [ 145 ] . والمعنى : ما ينبغي لنفس . وقيل : ما كانت لتؤمن إلاَّ بإذنِ الله .

قال ابن عبَّاسٍ : بأمر الله . وقال عطاءٌ : بمشيئة الله . وقيل : بعلم الله . « ويَجْعَلُ » قرأ أبو بكر عن عاصم بنون العظمة . والباقون : بياء الغيبةِ وهو الله تعالى . وقرأ الأعمش « ويجعلُ الرجز » بالزاي دون السين ، وقد تقدَّم هل هما بمعنى ، أو بينهما فرقٌ؟ [ الأعراف : 134 ] ثم قال : { عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ } أي : من الله أمره ونهيه .
فصل
احتجُّوا بقوله : { وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ } على أنَّ خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى ، وتقريره : أنَّ الرِّجْسَ قد يراد به : العملُ القبيحُ ، قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب : 33 ] والمراد من الرِّجْسٍ هنا : العملُ القبيحُ سواء كان كفراً أو معصية ، وبالتَّطهير : نقل العبد من رجس الكفر ، والمعصية إلى طهارة الإيمان ، والطَّاعة ، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أنَّ الإيمان إنَّما يحصلُ بمشيئة الله وتخليقه ، ذكر بعد أنَّ الرِّجْسَ لا يحصلُ إلاَّ بتخليقه . والرِّجْسُ الذي يقابلُ الإيمان ليس إلاَّ الكفر .
وأجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال : الرِّجْسُ ، يحتمل وجهين آخرين .
أحدهما : أن يكون المراد منه العذاب ، فيكون المعنى : يلحق العذاب بالذين لا يعقلون ، كقوله { وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } [ الفتح : 6 ] . الثاني : أنَّه تعالى حكم عليهم بأنَّهم نجس ، كما قال : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] أي : أنَّ الطَّهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم .
وأجابُوا : أنَّ حمل الرجس على العذاب باطلٌ؛ لأنَّ الرِّجْسَ عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره فحمل هذا اللفظ على كفرهم وجهلهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقّاً صِدْقاً صواباً . وأمَّا حمل الرِّجْسِ على حكم الله برجاستهم ، فهو في غاية البعد؛ لأنَّ حكم الله تعالى بذلك صفته ، فكيف يجوز أن يقال : إنَّ صفة الله رجسٌ ، فثبت أنَّ دلالة الآية على الكفر ظاهرةٌ .

قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)

قوله تعالى : { قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض } الآية .
لمَّا بيَّن في الآيات السَّالفة أنَّ الإيمان لا يحصلُ إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته ، أمر بالنَّظَرِ والاستدلال في الدَّلائل فقال : « قُلِ انظروا » .
قرأ عاصم وحمزةُ « قُلِ انظُرُوا » بكسر اللام لالتقاء الساكنين ، والأصل فيه الكسر ، والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللاَّمِ .
قوله : « مَاذَا » يجوز أن يكون « مَاذَا » كله استفهاماً مبتدأ ، و « فِي السماوات » خبرهُ أي : أيُّ شيءٍ في السَّمواتِ؟ ويجوزُ أن تكون « ما » مبتدأ ، و « ذَا » بمعنى الذي ، و « فِي السماوات » صلته وهو خبرُ المبتدأ ، وعلى التقديرين فالمبتدأ وخبره في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الخافض لأنَّ الفعل قبله معلقٌ بالاستفهام ، ويجوز على ضعفٍ أن يكون « ماذا » كله موصُولاً بمعنى « الَّذي » وهو في محل نصبٍ ب « انُظُروا » . ووجهُ ضعفه أنَّهُ لا يخلو : إمَّا أن يكون النظر بمعنى البصر فيعدَّى ب « إلى » ، وإمَّا أن يكون قلبيّاً فيُعَدَّى ب « في » ، وقد تقدَّم الكلامُ في « ماذا » .
فصل
المعنى : قل للمشركين الذين يسألونك عن الإيمانِ : { قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض } واعلم أنَّه لا سبيل إلى معرفةِ الله تعالى إلاَّ بالنَّظر في الدَّلائل . قال عليه الصلاة والسلام : « تفكَّرُوا في الخَلْقِ ولا تتفَكَّرُوا في الخالِق » والدَّلائل إمَّا أن تكون من عالمِ السموات ، أو من عالم الأرض ، أمَّا الدلائل السماوية ، فهي حركات الأفلاك والكواكب ومقاديرها ، وما يختص به كل واحد منها ، وأمَّا الدلائل الأرضية ، فهي النظر في أحوال العناصر العلوية ، وفي أحوال المعادن والنبات ، وأحوال الإنسان ، وينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها . ولو أنَّ الإنسان أخذ يتفكرُ في كيفية حكمة الله تعالى في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقلهُ قبل أن يصل إلى أوَّل مرتبة من مراتب تلك الفوائد .
ثم لمَّا أمر بهذا التفكُّر بيَّن بعده أنَّ هذا التَّفكر والتَّدبر في هذه الآيات لا ينفعُ في حقِّ من حكم الله عليه في الأزلِ بأنَّه لا يؤمن فقال : { وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } .
قوله : « وَمَا تُغْنِي » يجوز في « ما » أن تكون استفهامية ، وهي واقعةٌ موقع المصدر أي : أيَّ غناءٍ تُغني الآيات؟ ويجوزُ أن تكون نافيةً ، وهو الظَّاهرُ .
وقال ابن عطية : ويحتملُ أن تكون « ما » في قوله : « وما تُغْنِي » مفعولة بقوله : « انظُرُوا » معطوفة على قوله : « مَاذَا » أي : تأمَّلُوا قدر غناء الآيات والنُّذُر عن الكُفَّار .

قال أبو حيان : وفيه ضعفٌ ، وفي قوله : معطوفةٌ على « ماذا » تجوُّزٌ ، يعنى أنَّ الجملة الاستفهامية التي هي « مَاذَا فِي السماوات » في موضع المفعول؛ لأنَّ « ماذا » وحدهُ منصوبٌ ب « انظُرُوا » فتكون « مَاذَا » موصلة ، و « انظُرُوا » بصرية لما تقدَّم من أنَّه لو كانت بصرية لتعدَّت ب « إِلَى » . و « النُّذُرُ » يجوزُ أن يكون جمع « نَذِير » ، المرادُ به المصدر فيكون التقدير : وما تُغْنِي الآياتُ والإنذارات ، وأن يكون جمع « نذير » مراداً به اسم الفاعل بمعنى منذر فيكون التقدير والمُنْذِرُونَ وهم الرُّسُلُ . وقرىء « وما يُغْنِي » بالياء .
قوله : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ } يعني : مشركي مكَّة إلاَّ مثلَ أيَّام الذين خلوا مضوا « من قَبلِهِمْ » من مُكَذِّبي الأمم . قال قتادةُ : « يعني وقائع الله في قوم نوح ، وعاد ، وثمود » والعربُ تُسمِّي العذاب والنِّعم أياماً ، كقوله : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } [ إبراهيم : 5 ] وكُلُّ ما مضى عليك من خَيْرٍ وشرٍّ فهو أيَّام ثم إنَّه تعالى أمره بأن يقول لهم { فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين } .
قوله : { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا } قال الزمخشريُّ : هو معطوفٌ على كلامٍ محذوف يدلُّ عليه قوله : { إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } [ يونس : 102 ] كأنَّه قيل : نُهلكُ الأمم ثم نُنَجِّي رسلنا ، معطوفٌ على حكايةِ الأحوالِ الماضية .
قرأ الكسائي في رواية « نصر » نُنْجِيط خفيفة ، والباقون : مشددة ، وهما لغتان ، وكذلك في قوله « نُنْجِ المُؤمنينَ » والمعنى : ننجي رسلنا ، والذين آمنوا معهم عند نزول العذابِ . معناه : نَجَّينَا ، مستقبلٌ بمعنى الماضي ، ونجَّيْنَا وأنْجَيْنَا بمعنى واحد « كذلِكَ » كما نَجَّيْناهم « حَقًّا » واجباً { عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين } .
قوله : « حقّاً » فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون منصوباً بفعل مُقَدَّر أي : حقَّ ذلك حقّاً .
والثاني : أن يكون بدلاً من المحذوف النَّائب عنه الكافُ تقديره : إنجاء مثل ذلك حقّاً .
والثالث : ان يكون « كذلك » و « حقًّا » منصوبين ب « نُنْجِ » الذي بعدهما .
والرابع : أن يكون « كَذلِكَ » منصوباً ب « نُنَجي » الاولى ، و حقّاً ب « نُنْجِ » الثَّانية .
وقال الزمخشري : مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ، ونهلك المشركين ، وحقّاً علينا اعتراضٌ ، يعني حقَّ ذلك علينا حقّاً .
وقرأ الكسائيُّ وحفصٌ « نُنْجي المؤمنين » مخففاً من أنجى يقال : أنْجَى ونجَّى .
كأنزل ونزَّل ، وجمهور القرَّاءِ لم ينقلوا الخلاف إلاَّ في هذا دون قوله : { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } [ يونس : 92 ] ودون قوله { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا } [ يونس : 103 ] . وقد نقل أبو علي الأزهري الخلافَ فيهما أيضاً ، ورسِمَ في المصاحف بجيم دون ياء .
فصل
قال القاضي : قوله « حقًّا عليْنَا » المرادث به الوجوب؛ لأنَّ تخليصَ الرَّسُول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - والمؤمنين من العذاب إلى الثَّواب واجبٌ ، ولولاهُ ما حسن من الله تعالى أن يلزمهم الأفعال الشَّاقَّة ، وهذا يجري مجرى قضاء الدَّين .
والجوابُ ، بأن نقُول : إنَّه حقٌّ بحسب الوعْدِ والحُكْمِ ، ولا نقُولُ إنَّهُ حقٌّ بحسب الاستحقاق لما ثبت أنَّ العبد لا يستحقُّ على خالقه شيئاً .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)

قوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي } الآية .
لمَّا بالغ في ذكر الدليل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإظهار دينه ، وإظهار المباينة عن المشركين ، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره .
فإن قيل : كيف قال « في شكٍّ » وهم كافرون يعتقدون بطلان ما جاء به؟ .
قيل : كان فيهم شاكون ، فهم المرادُ بالآية ، أو أنَّهم لمَّا رَأوا الآياتِ اضطربوا ، وشكُّوا في أمرهم وأمر النبي - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - .
قوله : « فَلاَ أَعْبُدُ » جواب الشَّرط ، والفعلُ خبر ابتداء مضمر تقديره : فأنَا لا أعبدُ ، ولو وقع المضارعُ منفياً ب « لا » دون فاء لجزمَ ، ولكنَّه مع الفاءِ يرفع كما تقدَّم ذكره ، وكذا لوْ لمْ يُنْفَ ب « لا » كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، أي : فهو ينتقُم .
ثم قال : { ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ } يميتكم ، ويقبض أرواحكم .
فإن قيل : ما الحكمةُ في وصف المعبود ههنا بقوله : { الذي يَتَوَفَّاكُمْ } ؟ .
فالجواب : من وجوه :
الأول : أنَّ المعنى أني أعبدُ الله الذي خلقكم أولاً ، ثم يتوفَّاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً ، فاكتفى بذكر التوفي لكونه مُنَبِّهاً على البواقي .
الثاني : أنَّ الموت أشدُّ الأشياءِ مهابة ، فخص هذا الوصف بالذكر ههنا ، ليكون أقوى في الزَّجر والرَّدع .
الثالث : أنَّهم لمَّا استعجلوا نزول العذاب قال تعالى : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ } [ يونس : 102-103 ] وهذا يدلُّ على أنَّهُ تعالى يهلك أولئك الكفار ، ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم ، فلمَّا كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا : { ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ } وهو إشارةٌ إلى ما قرَّره وبيَّنهُ في تلك الآية كأنه يقول : أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم ، وإبقائي بعدكم .
قوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ يونس : 72 ] ، قال الزمخشري : أصله بأن أكون ، فحذف الجارُّ ، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذفُ الحروفِ الجارَّة مع أن وأنَّ ، وأنْ يكون من الحذف غير المطَّرد؛ وهو كقوله : [ البسيط ]
2939- أَمَرْتُكَ الخَيْرَ .. . .
{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] يعني : بغيرِ المُطَّرد أنَّ حذف حرف الجر مسموعٌ في أفعالٍ لا يجوزُ القياسُ عليها ، وهي : أمَرَ ، واسْتَغْفَرَ ، كما تقدم [ الأعراف155 ] ، وأشار بقوله : « أمَرْتُكَ » إلى البيت المشهور : [ البسيط ]
2940- أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ ..
وقد قاس ذلك بعضُ النَّحويِّين ، ولكن يُشترط أن يتعيَّن ذلك الحرف ، ويتعيَّن موضعه أيضاً ، وهو رأي علي بن علي بن سليمان فيُجيز « بريتُ القلمَ السكين » بخلاف « صَكَكْتُ الحَجَرَ بالخشبةِ » .
قوله : « وأنْ أقِمْ » يجوز أن يكون على إضمار فعلٍ أي : وأوحي إليَّ أن أقم ، ثم لك في « أنْ » وجهان أحدهما : أن تكون تفسيريةً لتلك الجملةِ المقدَّرة ، كذا قاله أبو حيان ، وفيه نظرٌ ، إذا المفسَّرُ لا يجوز حذفه ، وقد ردَّ هو بذلك في موضع غير هذا ، والثاني : أن تكون المصدرية ، فتكون هي وما في خبرها في محلِّ رفع بذلك الفعل المقدر ، ويحتمل أن تكون « أنْ » مصدرية فقط ، وهي على هذا معمولةٌ لقوله : أمِرْتُ مراعى فيها معنى الكلام؛ لأنَّ قوله « أنْ أكُونَ » كون من أكوانِ المؤمنين ، ووصلْ « أنْ » بصيغة الأمْر جائزٌ ، كما تقَدَّم تحريره .

وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : عطف قوله : « وأنْ أقِمْ » على « أنْ أكُون » فيه إشكالٌ؛ لأنَّ أنْ لا تخلو : إمَّا أن تكون التي للعبارة ، أو التي تكونُ مع الفعلِ في تأويل المصدر ، فلا يصحُّ أن تكون التي للعبارة ، وإن كان الأمر ممَّا يتضمَّنُ معنى القول؛ لأنَّ عطفها علىلموصولة ينافي ذلك ، والقولُ بكونها موصولة مثل الأولى لا يساعد عليه لفظ الأمْرِ وهو « أقِمْ » ؛ لأنَّ الصِّلة حقُّها أن تكون جملة تحتمل الصِّدق والكذب .
قلت : قد سوَّغَ سيبويه أن توصلَ « أنْ » بالأمْرِ والنَّهْيِ ، وشبَّه ذلك بقولهم : « أنت الذي تفعل » على الخطاب؛ لأنَّ الغرضَ وصلها بما تكونُ معه في تأويلِ المصدرِ ، والأمْرُ والنَّهْيُ دالاَّنِ على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال .
قال شهاب الدين : وقد تقدَّم الإشكالُ في ذلك وهو أنَّه إذا قُدِّرت بالمصدر فاتت الدَّلالةُ على الأمْرِ والنَّهْي .
ورجَّحَ أبُو حيَّان كونها مصدرية على إضمار فعل كما تقدَّم تقريره قال : « ليزولَ قلقُ العطفِ لوجودِ الكافِ ، إذْ لوْ كانَ » وأنْ أقِمْ « عفطاص على » أنْ أكُونَ « لكان التَّركيبُ » وَجْهِي « بياء المتكلم ، ومراعاةُ المعنى فيه ضعفٌ ، وإضمارُ الفعل أكثر » .
قال ابنُ الخطيبِ : الوا في قوله : « وأنْ أقِمْ وجْهكَ » حرف عطف ، وفي المعطوف عليه وجهان :
الأول : أنَّ قوله : وأمِرْتُ أنْ أكُون قائم مقام قوله : وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه « وأنْ أقِمْ وجْهَكَ » .
الثاني : أنَّ قوله « وأنْ أقِمْ وجْهَكَ » قائم مقام قوله : « وأمْرِتُ » بإقامة الوجه ، فيصير التقدير : وأمرت بأن أكون من المؤمنين ، وبإقامة الوجه للدِّين حنيفاً .
قوله : « حَنِيفاً » يجُوزُ أن يكون حالاً من « الدِّين » ، وأن يكون حالاً من فاعل « أقِمْ » أو مفعوله .
فصل
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : معنى قوله : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } أي : عملك . وقيل : استقم على الدِّين حنيفاً .
قال ابنُ الخطيبِ : « إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكليَّةِ إلى طلبِ الدِّين؛ لأنَّ من يريدُ أن ينظر إلى شيءٍ نظر استقصاءٍ فإنَّه يُقيم وجههُ في مقابلته بحيثُ لا يصرفه عنه؛ لأنَّه لو صرفهُ عنه ، ولو بالقليل ، فقد بطلت تلك المقابلة ، وإذا بطلت المقابلةُ اختلَّ الإبصار؛ فلهذا جعل إقامة الوجه كناية عن صرف العقل بالكليةِ إلى طلبِ الدِّين ، وقوله » حَنِيفاً « أي : مائلاً إليه ميلاً كليّاً ، معرضاً عن كُلِّ ما سواه إعراضاً كلياً » .

ثم قال : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } وهذا لا يمكنُ أن يكون نهياً عن عبادة الأوثان؛ لأنَّ ذلك صار مذكوراً في قوله أول الآية : { فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ 104 ] فلا بُدَّ من حمل هذا الكلام على فائدة زائدة ، وهي أن من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً ، وهذا هو الذي تسميه أصحابُ القلوبِ بالشِّرك الخفيِّ . قاله ابنُ الخطيبِ .
قوله تعالى : { ولا تَدْعُ } يجُوزُ أن تكون هذه الجملة استئنافية ، ويجوز أن تكون عطفاً على جملة الأمر وهي : « أَقِمْ » فتكون داخلة في صلة « أنْ » بوجهيها ، أعني كونها تفسيرية أو مصدرية وقد تقدم .
وقوله : « مَا لاَ ينفعُك » يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً ، وأن تكون موصولةً .
قوله : « فإنَّكَ » هو جوابُ الشَّرطِ و « إذَنْ » حرفُ جوابِ توسَّطتْ بين الاسم ، والخبرِ ، ورتبتها التَّأخيرُ عن الخبرِ ، وإنَّما وُسِّطتْ رعياً للفواصل . وقال الزمخشري : « إذَنْ » جواب الشَّرطِ وجوابٌ لسؤالٍ مقدَّر ، كأنَّ سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان .
وفي جعله « إذَنْ » جزاءً للشَّرطِ نظرٌ ، إذ جوابُ الشَّرطِ محصورٌ في أشياء ليس هذا منها .
فصل
المعنى : « ولا تَدْعُ » أي : ولا تعبد « مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ » إن أطعته : « ولا يَضُرُّكَ » إن عصيتهُ « فإن فعلْتَ » فعبدتَ غير الله ، أو لو اشتغلت بطلب المنفعة ، والمضرَّةِ من غير الله { فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين } الضَّارين لأنفسهم ، الواضعين للعبادة في غير موضعها؛ لأنَّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير وضعه .
قوله تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } الآية .
قوله : « وَإِنْ يَمْسَسْكَ » قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام [ الأنعام : 17 ] . وقال هنا في جواب الشَّرط الأول بنفي عام ، وإيجاب ، وفي جواب الثاني بنفي عام دون إيجاب؛ لأنَّ ما أرادَه لا يردُّه رادٌّ ، لا هو ولا غيره ، لأنَّ إرادتهُ قديمةٌ لا تتغيَّرُ ، فلذلك لم يجىء التَّركيب فلا رادَّ لهُ إلاَّ هو ، هذه عبارةُ أبي حيَّان ، وفيها نظرٌ ، وكأنَّهُ يقولُ بخلاف الكَشْفِ فإنه هو الفاعلُ لذلك وحدهُ دون غيره بخلاف إرادته تعالى ، فإنَّهُ لا يتصوَّر فيها الوقوعُ على خلافها ، وهي مسألةٌ خلافيَّةٌ بين أهل السُّنَّةِ والاعتزال .

قال الزمخشريُّ : فإن قلت : لم ذُكر المسُّ في أحدهما والإرادةُ في الثاني؟ قلت : كأنَّه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً : الإرادة والإصابة في كُلِّ واحدٍ من الضُّر والخَيْر ، وأنَّه لا رادَّ لما يريده منهما ، ولا مُزيلَ لِمَا يُصيب به منهما ، فأوجز الكلام بأن ذكر المسَّ وهو الإصابةُ في أحدهما ، والإرادة في الآخر ليدُلَّ بما ذكر على ما ترك ، على أنَّه قد ذكر الإصابة في الخير في قوله : { يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ } [ يونس : 107 ] .
فصل
اعلم أنَّ الشيء إمَّا أن يكون ضارّاً ، وإمَّا أن يكون نافعاً ، وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير ، ولمَّا كان الضر أمراً وجودياً ، والخير قد يكون أمراً عدميّاً ، لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال : { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } والآية دالَّة على أنَّ الضرَّ والخيْرض واقعان بقدرةِ الله وبقضائه ، فيدخل فيه الكفر ، والإيمان ، والطاعةُ ، والمعصيةُ ، والسرورُ والخيراتُ والآلامُ واللَّذاتُ .
ومعنى الآية : إن يُصبْكَ الله بضرٍّ أي : بشدَّة ، وبلاء فلا دافع لهُ إلاَّ هُوَ ، { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } رخاء ونعمة وسعة { فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } لا دافع لرزقه ، { يُصَيبُ بِهِ } بكل واحدٍ من الضر والخير { مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغفور الرحيم } .
قال الواحديُّ : قوله : { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } من المقلوب ، معناه : وإن يرد بك الخَيْرَ ، ولكنَّه لمَّا تعلَّق كل واحد منهما بالإرادةِ جاز تقديم كل واحد منهما .
قال المفسِّرون : لمَّا بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّ الأصنامَ لا تضرّ ولا تنفعُ بيَّن في هذه الآية أنَّها لا تقدر على دفع الشَّر الواصل من الغير ، ولا على دفع الخير الواصل من الغير .
قوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ } الآية .
قوله : « مِن ربِّكم » يجوز أن يتعلَّق ب « جَاءَكُمُ » و « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً ، ويجُوزُ أن يكون حالاً من « الحَقِّ » .
قوله : فَمَنُ اهْتَدَى ومن ضلَّ يجوز أن تكون « مَنْ » شرطاً ، فالفاءُ واجبةُ الدُّخُولِ وأن تكون موصولة فالفاءُ جائزته .
فصل
المراد « بالحقّ » القرآن والإسلام { فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي : على نفسه .
قوله : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أي : بِكَفِيلٍ يحفظ أعمالكم ، و « ما » يجوز أن تكون الحجازيَّة أو التميمية ، لخفاء النصب في الخبر .
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - هذه الآية نسختها آية القتال . ثمَّ قال تعالى : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر حتى يَحْكُمَ الله } [ يونس : 109 ] أمرهُ باتِّباعِ الوحي والتَّنزيل { حتى يَحْكُمَ الله } من نصرك وقهر عدوك وإظهار دينك { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } فحكم بقتل المشركين ، وبالجزيةِ على أهل الكتاب يعطونها { عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] .
روي أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَن قَرَأ سورة يونس - عليه الصلاة والسلام - أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدَّق بيونس وكذَّب به ، وبعدد من غرق مع فرعون » .

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)

« كِتَابٌ » يجوز أن يكون خبراً ل : « ألف لام راء » ، أخبر عن هذه الأحرف بأنَّها كتابٌ موصوفٌ بكَيْتَ وكَيْتَ .
قال الزجاج : هذا غلطٌ؛ لأنَّ « الر » ليس هو الموصوف بهذه الصِّفة وحده قال ابنُ الخطيب : وهذا اعتراضٌ فاسدٌ؛ لأنَّه ليس من شرط كون الشَّيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه ، ويجُوزُ أن يكون خبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديره : ذلك كتابٌ .
قال ابن الخطيب : « وهذا عندي ضعيفٌ لوجهين » :
الأول : أنَّه على هذا التقدير يقعُ قوله : « الر » كلاماً باطلاً لا فائدة فيه .
والثاني : أنك إذا قلت : هذا كتابٌ ، فقولك : « هذا » يكون إشارة إلى الآيات المذكورات ، وذلك هو قوله : « الر » فيصير حينئذ « الر » مخبراً عنه بأنه { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } . وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله : { ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 2 ] قوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } في محلِّ رفع صفةً ل « كِتابٌ » ، والهمزةُ في « أُحْكِمَتْ » يجوز أن تكون للنَّقل من حَكُمَ بضمِّ الكافِ ، أي : صار حكيماً بمعنى جعلت حكيمةٌ ، كقوله : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم } [ لقمان : 2 ] . ويجوز أن يكونَ من قولهم : « أحْكمتُ الدَّابَّة » إذا وضعتَ عليها الحكمة لمنعها من الجماحِ؛ كقول جريرٍ : [ الكامل ]
2941- أبَنِي حَنيفَةَ أحْكمُوا سُفَهَاءكُمْ ... إنِّي أخافُ عليْكمُ أنْ أغْضَبَا
فالمعنى : أنَّها مُنِعَتْ من الفسادِ .
ويجوز أن يكون لغيرِ النَّقل ، من الإحكام وهو الإتقان كالبناءِ المحكمِ المرصفِ ، والمعنى : أنَّها نُظِمَتْ نظماً رصيناً متقناً .
ويجوز أن يكون قوله : « أحْكِمَتْ » أي : لم تُنسخْ بكتابٍ كما نُسِخت الكُتُبُ والشَّرائع بها .
قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - .
قوله : « ثُمَّ فُصِّلَتْ » « ثُمَّ » على بابها من التَّراخي؛ لأنَّها أحكمت ثُمَّ فُصِّلت بحسب أسبابِ النُّزُولِ .
وقرأ عكرمةُ والضحاكُ والجحدريُّ وزيدُ بنُ عليٍّ وابن كثير في رواية « فَصَلَتْ » بفتحتين خفيفة العين .
قال أبو البقاء : والمعنى : فرقَتْ ، كقوله : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ } [ البقرة : 249 ] ، أي : فارق وفسَّرها غيرهُ ، بمعنى فصلتْ بين المُحِقِّ والمُبطلِ ، وهو أحسنُ .
وجعل الزمخشريُّ « ثم » للتَّرتيب في الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزَّمانِ ، فقال : فإن قلت : ما معنى « ثُمَّ » ؟
قلت : ليس معناها التَّراخِي في الوقت ، ولكن في الحالِ ، كما تقولُ : هي محكمةٌ أحسن الإحكام ، مفصَّلةٌ أحسن التَّفصيل ، وفلانٌ كريمُ الأصل ، ثُمَّ كريمُ الفعل .
وقرىء أيضاً : « أحْكمتُ آياتِهِ ثُمَّ فصَّلتُ » بإسناد الفعلين إلى « تاءِ » المتكلم ، ونصب « آياته » مفعولاً بها ، أي : أحكمتُ أنا آياته ، ثم فصَّلتها ، حكى هذه القراءة الزمخشري .
فصل
قال الحسن : أحكمت بالأمْر والنَّهي ، ثم فصِّلت بالوَعْد والوعيد وقال قتادةٌ : أحْكمَها اللهُ فليس فيها اختلاف ولا تناقض .

وقال مجاهدٌ : « فُصِّلتْ » أي : فسرت وقيل : « فُصِّلَتْ » أي : أنزلت شيئاً فشيئاً كقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ } [ الأعراف : 133 ] ، وقيل : جعلت فصولاً : حلالاً ، وحراماً ، وأمثالاً ، وترغيباً وترهيباً ومواعظ وأمراً ونَهْياً .
فصل
احتجَّ الجُبائي بهذه الآية على أنَّ القرآن محدثٌ مخلوق من ثلاثة أوجهٍ :
الأول : قال : المحكم هو الذي أتقنه فاعله ، ولولا أنَّ الله - تعالى - خلق هذا القرآن ، لَمْ يصحَّ ذلك؛ لأنَّ الإحكام لا يكون إلاَّ في الأفعالِ ، ولا يجوز أن يقال : كان موجُوداً غير محكم ، ثم جعله الله مُحْكَماً؛ لأنَّ هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً بأن يكون محدثاً ، ولم يقل أحدٌ بأنَّ القرآن بعضه قديمٌ وبعضه محدثٌ .
الثاني : أنَّ قوله : « فُصِّلَتْ » يدلُّ على أنَّه حصل فيه انفصالٌ وافتراق ، ويدلُّ على أنَّ ذلك الانفصال والافتراق إنَّما حصل بجعل جاعل .
الثالث : قوله تعالى : { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ، والمرادُ من عنده ، والقديمُ لا يقال : إنَّهُ حصل من عند قديم آخر؛ لأنَّهما إن كانا قديمين ، لم يكن القول بأنَّ أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس .
وأجيب بأنَّ النُّعوت عائدةٌ إلى هذه الحُرُوفِ والأصواتِ ، ونحن معترفون بأنَّها مخلوقةٌ؛ وإنَّما الذي يُدَّعى قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات .
قوله : « مِن لَّدُنْ » أي : من عند ، يجُوزُ أن تكون صفة ثاينة ل « كِتَابٌ » وأن تكون خبراً ثانياً عند من يرى جواز ذلك ، ويجوز أن تكون معمولة لأحد الفعلين المتقدِّمين يعني : « أحْكِمَتْ » أو « فُصِّلَتْ » ويكون ذلك من باب التنازع ، ويكون من إعمال الثاني ، إذْ لوْ أعمل الأول لأضمر في الثاني ، وإليه نحا الزَّمخشري فقال : وأن يكون صلة « أحكمت » « فُصِّلتْ » ، أي : من عندهُ أحكامُها وتفصيلهُا ، والمعنى : أحكمها حَكِيمٌ وفصَّلها ، أي : شرَحَهَا وبيَّنَها خبيرٌ بكيفياتِ الأمورِ .
قال أبُو حيان : لا يريدُ أنَّ « مِنْ لدُن » متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإعراب ، بل يريدُ أن ذلك من باب الإعمال ، فهي متعلقةٌ بهما من حيثُ المعنى ، وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً : ويجُوزُ أن يكون مفعولاً ، والعاملُ فيه فُصِّلَتْ .
قوله : « أن لا تَعْبدُوا » فيه أوجهٌ :
أحدها : أن تكون أنْ المخففة من الثَّقيلة ، و « لا تَعْبُدُوا » جملة نهي في محلِّ رفعٍ خبراً ل « أنْ » المخففة ، واسمها على ما تقرَّر ضمير الأمر والشَّأن محذوفٌ .
والثاني : أنَّها المصدرية النَّاصبة ، ووصلت هنا بالنَّهي ، ويجوز أن تكون « لا » نافية ، والفعل بعدها منصوبٌ ب « أنْ » نفسها ، وعلى هذه التقادير ف « أنْ » : إما في محلِّ جرٍّ أو نصبٍ أو رفع ، فالجرُّ والنصبُ على أنَّ الأصل : لأنْ لا تعبدوا ، أو بأن لا تعبدوا ، فلما حذف الخافضُ جرى الخلافُ المشهور ، والعاملُ : إمَّا « فُصِّلتْ » وهو المشهورُ ، وإمَّا « أحْكِمَتْ » عند الكوفيين .

فتكون المسألة من باب الإعمال؛ لأنَّ المعنى : أحْكِمَتْ لئلاَّ تعبدُوا أو بأن لا تعبدُوا . ف « أنْ لا تعبدُوا » هو المفعول الثاني ل « ضمَّن » والأولُ قام قمام الفاعل .
والرفع فمن أوجه :
أحدها : أنَّها مبتدأٌ ، وخبرها محذوفٌ ، فقيل : تقديره : من النَّظر أن لا تعبدوا إلاَّ الله .
وقيل : تقديره : في الكتاب ألاَّ تبعدوا إلاَّ الله .
والثاني : خبر مبتدأ محذوف ، فقيل : تقديره : تفصيلُه ألاَّ تعبدوا إلا الله .
وقيل : تقديره : هي أن لا تعبدوا إلاَّ الله .
والثالث : أنه مرفوعٌ على البدل من « آياته » .
قال أبو حيَّان : وأمَّا من أعربه أنَّهُ بدلٌ من لفظ « آيات » أو من موضعها ، يعني : أنَّها في الأصْلِ مفعولٌ بها فموضعا نصبٌ ، وهي مسألة خلافٍ ، هل يجُوزُ أن يُراعَى أصلُ المفعولِ القائم مقام الفاعلِ ، فيتبع لفظهُ تارة وموضعهُ أخرى ، فيقال : ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة بنصب العاقلة باعتبار المحلِّ ، ورفعها باعتبار اللفظ ، أمْ لا؟ .
مذهبان ، المشهور مراعاة اللفظ فقط .
الوجه الثالث : أن تكون مفسرة؛ لأنَّ في تفصيل الآيات معنى القول؛ فكأنَّه قيل : لا تعبدوا إلاَّ الله إذْ أمركم ، وهذا أظهرُ الأقوالِ ، لأنَّهُ لا يُحْوِجُ إلى إضمار .
قوله : « مِنْهُ » في هذا الضمير وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ يعودُ على الله تعالى ، أي : إنَّ لكم من جهة الله نذيرٌ وبشير ، نذير للعاصين ، وبشير للمطيعين .
قال أبو حيان : فيكون في موضع الصِّفةِ ، فيتعلقُ بمحذوفٍ ، أي : كائن من جهته ، وهذا على ظاهره ليس بجيِّد؛ لأنَّ الصفة لا تتقدَّمُ على الموصوفِ ، فيكف تجعل صفةً ل « نذير » ؟ وكأنَّه يريد أنه صفةٌ في الأصل لو تأخَّر ، ولكن لمَّا تقدَّم صار حالاً ، وكذا صرَّح به أبو البقاءِ ، فكان صوابه أن يقول : فيكون في موضع الحالِ ، والتقدير : كائناً من جهته .
الثاني : أنَّهُ يعودُ على الكتابِ ، أي : نذيرٌ لكم من مخالفته ، وبشيرٌ منه لمن آمن وعمل صالحاً وفي متعلق هذا الجارِّ أيضاً وجهان :
أحدهما : أنَّه حالٌ من نذير ، فيتعلَّق بمحذوفٍ كما تقدَّم .
والثاني : أنه متعلقٌ بنفس نذير ، أي : أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم .
وقدَّم الإنذار؛ لأنَّ التَّخويف أهمُّ إذ يحصل به الانزجارُ .
قوله : { وَأَنِ استغفروا } فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها عطفٌ على « أن » الأولى ، سواء كانت « لا » بعدها نَفْياً أو نَهْياً ، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى « أنْ » هذه .
والثاني : أن تكون منصوبةً على الإغراءِ .
قال الزمخشريُّ في هذا الوجه : ويجوزُ أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّا قبله على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - إغراء منه على اختصاص الله - تعالى - بالعبادة ، ويدل عليه قوله : { إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } كأنه قال : ترك عبادةِ غير الله إنَّنِي لكم منهُ نذيرٌ كقوله تعالى :

{ فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] .
قوله : { ثُمَّ توبوا } عطفٌ على ما قبله من الأمْرِ بالاستغفار ، و « ثُمَّ » على بابها من التَّراخي؛ لأنَّه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنب المُستغْفَرِ منهُ .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى « ثُمَّ » في قوله { ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ } ؟ قلت : معناه : استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطَّاعة ، أو استغفروا - والاستغفارُ توبةٌ - ثُمَّ أخْلِصُوا التَّوبة واستقيموا عليها ، كقوله : { ثُمَّ استقاموا } [ الأحقاف : 13 ] .
قال شهابُ الدِّين : قوله : « أو استغفروا » إلى آخره يعني أنَّ بعضهم جعل الاستغفار والتوبة بمعنى واحد ، فلذلك احتاج إلى تأويل « تُوبُوا » ب « أخْلِصُوا التَّوبة » .
قال الفراء : « ثُمَّ » ههنا بمعنى الواو ، أي : وتوبوا إليه ، لأنَّ الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار .
وقيل : وأن استغفروا ربَّكُم في الماضي ، ثُمَّ تُوبُوا إليه في المستأنف .
وقيل : إنَّما قدَّم الاستغفار أوَّلاً لأنَّ المغفرة هي الغرض المطلوب ، والتوبة هي السبب إليها ، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب .
ويحتمل أن يكون المعنى استغفروهُ من الصَّغائر ، ثُمَّ تُوبُوا إليه من الكبائر .
قوله : « يُمَتِّعكُم » جوابُ الأمرِ . وقد تقدَّم الخلافُ في الجازمِ : هل هو نفسُ الجملةِ الطَّلبية أو حرفُ شرطٍ مقدر [ البقرة : 40 ] .
وقرأ الحسنُ وابنُ هرمز وزيد بنُ عليٍّ وابن محيصن « يُمْتِعُكُم » بالتخفيف من أمتع .
وقد تقدَّم أنَّ نافعاً وابن عامرٍ قرآ { فأُمْتِعُهُ قَلِيلاً } بالتخفيف كهذه القراءة [ البقرة : 126 ] .
قوله « متَاعاً » في نصبه وجهان :
أحدهما : أنَّه منصوبٌ على المصدر بحذفِ الزَّوائدِ ، إذ التقديرُ : تَمْتِيعاً ، فهو كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .
والثاني : أن ينصب على المفعول به ، والمراد بالمتاع اسم ما يُتمتَّعُ به ، فهو كقولك : « متعت زيداً أثواباً » .
قال المفسِّرون : يعيشكم عيشاً في خفضٍ ودعةٍ وأمنٍ وسعةٍ « إلى أجلٍ مُسَمًّى » إلى حين الموتِ . فإن قيل : أليس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : « الدُّنيا سِجْنُ المُؤمنِ وجنَّةُ الكافر »
؟ . وقال أيضاً : « خُصَّ البَلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأوْلياءِ فالأمْثَلِ فالأمْثَلِ » .
وقال تعالى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] فدلَّت هذه النُّصوصُ على أنَّ نصيب المؤمن المطيع عدمُ الرَّاحة في الدُّنيا ، فكيف الجمع بينهما؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّ المعنى لا يُعذِّبهم بعذاب الاستئصال كما استأصَلَ أهلَ القوَّة من الكُفَّار .
الثاني : أنَّهُ تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان ، وإليه الإشارةُ بقوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ }

[ طه : 132 ] .
الثالث : أنَّ المشتغل بالعبادة مشتغلٌ بحب شيءٍ يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، وكلما كان تمكنه في هذا الطريق أتم كان انقطاعه عن الخلقِ أتمُّ وأكملُ ، وكلما كان الكمالُ في هذا البابِ أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل؛ لأنَّهُ أَمِنَ من تغير مطلوبه ، وأَمِنَ من زوال محبوبه .
وأمَّا من اشتغل بحبِّ غير الله ، كان أبداً في ألمِ الخوفِ من فوات المحبوب وزواله؛ فكان عيشهُ منغَّصاً وقلبه مضطرباً ، ولذلك قال تعالى في حق المشتغلين بخدمته { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 ] .
فإن قيل : هل يدل قوله { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } على أنَّ للعبدِ أجليْنِ ، وأنَّهُ يقع في ذلك التقديم والتَّأخير؟ .
فالجواب : لا ، ومعنى الآية أنَّهُ تعالى حكم بأنَّ هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت الفلاني ، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر ، لكنَّهُ تعالى عالم بأنَّهُ يشتغل بالعبادة ، فلا جرم أنَّه كان عالماً بأنَّ أجله ليس إلاَّ في ذلك الوقتِ المعيَّنِ؛ فثبت أنَّ لكلَّ إنسانٍ أجلاً واحداً .
وسمى منافع الدُّنيا متاعاً ، تنبيهاً على حقارتهَا وقلَّتهَا ، وأنَّها مُنقضيةٌ بقوله تعالى { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } .
قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } « كُلَّ » مفعول أوَّل ، و « فَضلهُ » مفعولٌ ثانٍ .
وقد تقدَّم للسُّهيلي خلافٌ في ذلك . والضَّمير في « فَضْلَهُ » يجوز أن يعود على الله تعالى ، أي : يُؤتِي كُلَّ صاحبِ فضلٍ فضله ، أي : ثوابهُ ، وأن يعود على لفظِ « كُلّ » ، أي : يعطي كُلَّ صاحب فضلٍ جزاء فضله ، لا يبخَسُ منه شيئاً ، أي : جزاء عمله .
قال المفسِّرون : ويعطي كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة .
وقال أبو العالية : من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنَّة؛ لأنَّ الدَّرجاتِ تكون بالأعمال .
وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : « مَنْ زادَتْ حسناتهُ على سيِّئاتهِ دخل الجنَّة ، ومن زادت سيئاته على حسناته ، دخل النَّارن ومن استوت حسناته وسيئاته ، كان من أهْلِ الأعرافِ ، ثم يدخلون الجنة » .
ثم قال : { وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } وهو يومُ القيامةِ .
وقرأ الجمهور « تَولَّوْا » بفتح التَّاءِ والواو واللاَّم المشدَّدة ، وفيها احتمالان :
أحدهما : أنَّ الفعل مضارعُ توَلَّى وحذف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو : « تَنَزَّلُ » .
وقد تقدَّم أيتهما المحذوفةُ ، وهذا هو الظَّاهر . ولذلك جاء الخطابُ في قوله : « عليْكُم » .
والثاني : أنَّه فعلُ ماضٍ مسند لضمير الغائبين ، وجاء الخطابُ على إضمار القولِ ، أي : فقل لهم : إنِّي أخاف عليكم ، ولولا ذلك لكان التركيب : فإنِّي أخاف عليهم .
وقرأ اليماني وعيسى بن عمر : « تُوَلُّوا » بضمِّ التَّاءِ ، وفتح الواوِ وضم اللام ، وهو مضارعُ « ولَّى » ؛ كقولك : زكَّى يزكِّي .

ونقل صاحب اللَّوامح عن اليماني وعيسى بن عمر : « وإن تُوُلُّوا » بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول ، ولمْ يُبين ما هو ولا تصريفه؟ وهو فعلٌ ماضٍ ، ولمَّا بُنِيَ للمفعولِ ضُمَّ أولهُ على الفاعل ، وضُمَّ ثانيه أيضاً؛ لأنَّه مفتتحٌ بتاءِ مطاوعةِ ، وكلُّ ما افتتح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمَّ أوله وثانيه ، وضُمَّت اللام أيضاً ، وإن كان أصلها الكسر لأجْلِ واو الضمير ، والأصلُ « تُوُلِّيُوا » نحو : تُدحْرجُوا ، فاستثقلت الضَّمةُ على الياءِ ، فحذفت فالتقى ساكنان؛ فحذفت الياءُ ، لأنَّهما أولهما؛ فبقي ما قبل واو الضَّمير مكسوراً فضُمَّ ليُجانِسَ الضمير؛ فصار وزنهُ « تُفُعُّوا » بحذف لامه ، والواو قائمةٌ مقام الفاعل .
وقرأ الأعرجُ « تُولُوا » بضمِّ التاء وسكون الواو وضم اللام مضارع « أوْلَى » ، وهذه القراءةُ لا يظهرُ لها معنًى طائلٌ هنا ، والمفعول محذوفٌ يقدَّرُ لائقاً بالمعنى .
و « كَبِيرٍ » صفةٌ ل « يَوْمٍ » مبالغة لما يقع فيه من الأهوالِ .
وقيل : بل « كَبيرٍ » صفةٌ ل « عذابَ » فهو منصوبٌ ، وإنَّما خفض على الجوارِ؛ كقوله : « هذا جُحر ضبٍّ خربٍ » بجرِّ خَربٍ وهو صفةٌ ل « جُحْرٌ » ؛ وقول امرىء القيس : [ الطويل ]
2942- كأنَّ ثَبِيراً في عَرانينِ وبلهِ ... كَبيرُ أنَاسٍ في بِجاد مُزَمَّلِ
بجر « مُزَمَّل » وهو صفةٌ ل « كبير » . وقد تقدَّم البحثُ في ذلك في سورة المائدة .
ثم قال : { إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
وهذا فيه تهديدٌ وبشارة ، فالتَّهديد قوله { إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ } يدلُّ على أنَّ مرجعنا إليه ، وهو قادرٌ على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ، ولا مانع لمشيئته ، والرُّجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذُّنوب العظيمة مشكل ، وأمَّا البشارةُ ، فإنَّ ذلك يدلُّ على قدرة عالية وجلالة عظيمة لهذا الحاكم ، وعلى ضعف تام ، وعجز عظيم لهذا العبد ، والملك القادر القاهر الغالب إذا رأى أحداً أشرف على الهلاك؛ فإنهُ يخلصهُ من تلك الهلكة ، ومنه المثل المشهور « إذَا ملكْتَ فأسْجِعْ » .

أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)

لمَّا قال : « وإن تولَّوْا » عن عبادة الله وطاعته ، بيَّن بعده صفة ذلك التولي فقال : { أَلا إِنَّهُمْ } يعني الكُفَّار { يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } يقال : ثنيت الشَّيء إذا عطفته وطويته .
وقرأ الجمهور : بفتح الياء وسكون الثَّاء المثلثة ، وهو مضارع « ثَنَى يَثْني ثَنْياً » ، أي طوى وَزَوى ، و « صُدُورهم » مفعول به ، والمعنى : يَحْرفون صدورهم ووجوههم عن الحق وقبوله ، والأصل « يَثْنِيُونَ » فأُعِلَّ بحذف الضَّمةِ عن الياء ، ثُمَّ تحذفُ الياءُ لالتقاءِ الساكنين .
وقرأ سعيدُ بن جبير « يُثْنُون » وهو مضارع « أثْنَى » كأكرم .
واستشكل النَّاسُ هذه القراءة فقال أبُو البقاءِ : ماضيه أثنى ، ولا يعرفُ في اللغةِ ، إلاَّ أنْ يقال : معناه عرضُوها للانثناء ، كما يقال : أبعت الفرسَ : إذا عرضته للبيع .
وقال صاحبُ اللَّوامِحِ : ولا يعرفُ الإثناء في هذا الباب ، إلاَّ أن يرادَ به ، وجدتُهَا مثْنِيَّة ، مثل أحْمَدْتُه وأمْجَدْتُه ، ولعلَّه فتح النون ، وهذا ممَّا فعل بهم فيكون نصب « صُدُورَهُم » بنزع الخافض ، ويجُوزُ على ذلك أن يكون « صُدُورَهُم » رفعاً على البدل بدل البعض من الكُلِّ يعني بقوله : ولعلَّهُ فتح النُّونِ أي : ولعل ابن جبير قرأ ذلك بفتح نونِ « يُثْنَون » فيكون مبنياً للمفعول ، وهو معنى قوله : وهذا ممَّا فعل بهم أي وجدوا كذلك ، فعلى هذا يكونُ « صُدورهُم » منصُوباً بنزعِ الخافضِ ، أي : في صدورهم ، أي يوجدُ الثَّنْيُ في صدورهم ، ولذلك جوَّز رفعهُ على البدل كقولك : ضُربَ زيدٌ الظَّهْرُ . ومنْ جوَّز تعريف التمييز لا يبعدُ عنده أن ينتصب « صُدُورهُم » على التَّمييز بهذا التقدير الذي قدَّرهُ .
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ ، وعليُّ بنُ الحسين ، وابناه زيد ، ومحمد ، وابنه جعفر ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وعبد الرحمن بن أبزى ، وأبو الأسود « تَثنَوْني » مضارع « اثْنَوْنَى » على وزنِ « افْعَوْعَلَ » من الثَّنْي كاحْلَوْلى من الحَلاوةِ وهو بناءُ مبالغةٍ ، « صُدُورهُم » بالرَّفع على الفاعلية .
ونُقل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق : « يَثْنَوْنَى صدورهم » بالياءِ والتَّاءِ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ؛ فجاز تذكيرُ الفعل باعتبار تأويل فاعله بالجمع وتأنيثه باعتبار تأويل فاعله بالجماعةِ .
وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً وعروة وابن أبزى والأعمش « تَثْنَوِنُّ » بفتح التاء وسكون الثَّاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة ، والأصل : « تَثْنَوْنِنُ » بوزن « تَفْعَوْعِلُ » من الثِّنُّ وهو ما هشَّ وضعف من الكَلأ ، يريد مطاوعة نوفسهم للثَّنْي كما يثنى الهَشُّ من النَّبات ، أو أ راد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم .
و « صدورهم » بالرَّفع على الفاعلية .
وقرأ مجاهدٌ وعروة أيضاً كذلك ، إلاَّ أنَّهما جعلا مكان الواو المسكورة همزة مكسورة فأخرجاها مثل « تطمئن » .

وفيها تخريجان :
أحدهما : أنَّ الواو قُلبتْ همزة لاستثقال الكسرة عليها ، ومثله إعاء وإشاح في وعاء ووشاح ، لمَّا استثقلوا الكسرة على الواوِ أبدلوها همزة .
والثاني : أن وكنه « تَفْعَيِيلٌ » من الثِّن وهو ما ضعف من النَّبات كما تقدَّم ، وذلك أنَّهُ مضارع ل « اثْنَان » مثل احْمَارَّ واصفارَّ ، وقد تقدَّم [ يونس : 24 ] أن من العرب من يقلبُ مثل هذه الألف همزة؛ كقوله : [ الطويل ]
2943- . . .. . . بالعَبِيطِ ادْهَأمَّتِ
فجاء مضارع « اثْنَأنَّ » على ذلك كقولك احْمَأرَّ يَحمَئِرُّ كاطمأنَّ يَطْمَئِنُّ .
وأمَّا « صُدورُهم » فبالرَّفع على ما تقدَّم .
وقرأ الأعمش أيضاً تَثْنَؤُونَ بفتح الياء وسكون المثلثة وفتح النون وهمزة مضمومة و واوٍ ساكنةٍ بزنة تَفْعَلُون كَتَرْهَبُون . صُدورَهُم بالنَّصْبِ .
قال صاحبُ اللَّوامِحِ : ولا أعرف وجهه يقال : « ثَنَيْتُ » ولم أسمعْ « ثَنَأتُ » ، ويجوز أنَّهُ قلب الياء ألفاً على لغةِ من يقول : « أعْطات » في « أعْطَيْتُ » ، ثُمَّ همز الألف على لغةِ من يقول : { ولا الضَّأْلين } [ الفاتحة : 7 ] .
وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً - رضي الله عنهما - « تَثْنَوِى » بفتح التَّاءِ وسكون المثلثة ، وفتح النُّونِ وكسر الواو بعدها ياءٌ ساكنةٌ بزنة « تَرْعَوِى » وهي قراءةٌ مشكلة جداً حتَّى قال أبو حاتم : وهذه القراءة غلطٌ لا تتجه ، وإنَّما قال إنَّها غلطٌ؛ لأنَّه لا معنى للواوِ في هذا الفعل إذ لا يقالُ : ثَنَوْتُهُ فانْثَوَى كرعَوْتُه ، أي : كففته فارعَوَى ، أي : فانكفَّ ، ووزنه افعلَّ كاحْمَر .
وقرأ نصرُ بنُ عاصمٍ وابنُ يعمر وابن أبي إسحاق « يَنْثُونَ » بتقديم النُّون السَّاكنة على المثلثة .
وقرأ ابنُ عباس أيضاً « لَتَثْنَونِ » بلام التأكيد في خبر « إنَّ » وفتح التَّاءِ وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة « تَفْعَوْعِلُ » ، كما تقدَّم إلاَّ أنَّها حذفت الياء ، التي هي لامُ الفعل تخفيفاً كقولهم : لا أدْرِ وما أدْرِ . و « صُدورهم » ، فاعل كما تقدم .
وقرأ طائفة : « تَثنؤنَّ » بفتح التَّاءِ ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نُون مفتوحةٍ ثم همزة مضمومةٍ ثم نون مشددة ، مثل تَقْرَؤنَّ ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ ، إلاَّ أنَّه قلب الياءَ واواً؛ لأنَّ الضمة تُنافِرُهَا ، فجعلت الحركةُ على مُجانِسها ، فصار اللفظُ « تَثْنَوونَ » ثم قلبت الواوُ المضمومةُ همزة كقولهم : « أجُوه » في « وُجُوه » و « أقِّتَتْ » في « وقِّتَت » فصار « تَثْنَؤونَ » ، فلمَّا أكَّد الفعل بنونِ التَّوكيد حذفت نونُ الرَّفع فالتقى ساكنان : وهما واوُ الضمير والنون الأولى من نون التَّوكيد ، فحذفت الواو وبقيت الضَّمةُ تدلُّ عليها؛ فصار « تَثْنَؤنَّ » كما ترى و « صُدورَهُم » منصوب مفعولاً به فهذه إحدى عشرةَ قراءةً مضبوطة .

قوله تعالى : { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ هذه اللاَّم متعلقةٌ ب « يَثْنُونَ » كذا قاله الحوفيُّ ، والمعنى : أنَّهم يفعلون ثَنْي الصُّدور لهذه العلةِ . وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كلفة فيه .
والثاني : أنَّ اللاَّم متعلقةٌ بمحذوفٍ .
قال الزمخشريُّ : « لِيَسْتخُفُوا منهُ » يعنى ويريدون : ليستَخْفُوا من الله فلا يطلعُ رسوله والمؤمنون على ازْورَارهِمْ ، ونظيرُ إضمار « يريدون » لعود المعنى إلى إضماره الإضمارُ في قوله : { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] معناه : « فضرب فانفلق » .
قال شهاب الدين : وليس المعنى الذي يقُودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا ، لأنَّ ثمَّ لا بد من حذف معطوفٍ يُضْطَر العقلُ إلى تقديره؛ لأنَّهُ ليس من لازم الأمْرِ بالضَّرْبِ إنفلاقُ البحر فلا بُدَّ أن يُتَعَقَّل « فضرب فانفلق » ، وأمَّا في هذه ، فالاستخفاف علةٌ صالحةٌ لثَنْيهم صدورهم ، فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإرادةِ .
والضَّميرُ في « مِنْهُط فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ عائدٌ على رسُولِ الله - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللاَّم ب » يَثْنُونَ « .
والثاني : أنَّهُ عائدٌ على الله تعالى كما قال الزمخشريُّ .
قوله : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } في هذا الظرف وجهان :
أحدهما : أنَّ ناصبهُ مُضْمَرٌ ، فقدَّره الزمخشري ب » يريدون « كما تقدم ، فقال : ومعنى ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) : ويريدون الاستخفاء حين يشتغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام الله ، كقول نُوحٍ { جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ } [ نوح : 7 ] ، وقدَّره أبو البقاء فقال : ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) : يستخفون .
والثاني : أنَّ النَّاصب له » يَعْلَمُ « ، أي : ألا يعلم سرَّهُم وعلنهم حين يفعلون كذا ، وهذا معنى واضح ، وكأنَّهُم إنَّما جوَّزُوا غيره؛ لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعلنهم بهذا الوقت الخاصِّ ، والله تعالى عالمٌ بذلك في كل وقت .
وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّه إذا عُلِمَ سرُّهم وعلنهُم في وقت التَّغْشِية الذي يخفى فيه السرُّ فأولى في غيره ، وهذا بحسب العادةِ وإلاَّ فالله تعالى لايتفاوتُ علمهُ .
و » ما « يجُوزُ أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى » الذي « ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : تُسِرُّونه وتُعْلِنُونه .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - نزلت في الأخنس بن شريقٍ ، وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنظر ، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحبُّ ، وينطوي له بقلبه على ما يكره .
فقوله : { يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } أي يخفون ما في صدورهم من الشَّحْنَاءِ والعداوةِ .
قال عبدُ الله بنُ شداد : نزلت في بعض المنافقين ، كان إذا مرَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره ، وطأطأ رأسه ، وغطَّى وجهه ، كي لا يراه النبي - صلوات الله وسلامه عليه - .
قال قتادة : كانوا يخفون صدورهم ، لكيلا يسمعُوا كلامَ الله ولا ذكره .

وقيل : كان الرَّجلُ من الكُفَّار يدخل بيته ، ويرخي ستره ، ويحْنِي ظهرهُ ، ويتغشَّى بثوبه ، ويقول : هل يعلمُ الله ما في قلبي .
وقال السُّدي : « يَثْنُونَ صُدورَهُمْ » أي : يُعرضُون بقلوبهم ، من قولهم : ثنيت عناني ليَسْتخْفُوا مِنهُ أي : من رسول الله - صلوات ا لله وسلامه عليه - .
وقال مجاهدٌ : من الله عز وجل .
{ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } يغطون رؤوسهم بثيابهم و « ألا » كلمة تنبيه أي : ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم . ثم ذكر أنَّهُ لا فائدة لهم في استخفافهم فقال سبحانه : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
قال الأزهري معنى الآية من أولها إلى آخرها : إنَّ الذين اضمرُوا عداوة رسُول الله صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا حالهم .
وروى محمد بن جرير عن محمد بن عباد بن جعفر - رضي الله عنه -؛ أنه سمع ابن عباس يقرأ { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } قال : كان أناسٌ يستحيون أن يَخلوا فينفضوا إلى السَّماء ، وأن يجامعوا نساءهم ، فيفضوا إلى السَّماءِ؛ فنزل ذلك فيهم .
لمَّا ذكر أنه : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أردفهُ بما يدلُّ على أنَّهُ تعالى عالمٌ بجيمعِ المعلومات وهو أنَّ رزق كلَّ حيوان إنَّما يصل إليه من الله؛ لأنَّه لو لم يكن عالماً بجيمع المعلُومات لما حصلت هذه المهمَّات .
قال الزجاجُ : الدَّابَّةُ : اسمٌ لكلِّ حيوان ، مأخوذ من الدَّبيبِ ، وبُنيتْ هذه اللفظة على هاء التأنيث ، هذا موضوعها اللُّغوي ، و « مِنْ » صلة ، { إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } هو المتكفِّلُ بذلك فضلاً ، وهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق . وقيل : « على » بمعنى « من » أي : من الله رزقها .
قال مجاهدٌ : ما جاءها من رزق فمن الله ، ورُبَّما لم يرزقها حتَّى تمُوت جُوعاً . { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } قال ابنُ مقسم : ويروى عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - « مُسْتقرَّهَا » المكانُ الذي تأوي إليه ، وتستقرُّ فيه ليلاً ونهاراً « ومُسْتوْدعهَا » الموضع الذي تُدْفَنُ فيه إذا ماتت . وقال عبد الله بن مسعودٍ : المستقرُّ : أرحامُ الأمَّهات ، والمستودع : أصلابُ الآباء . ورواه سعيدُ بن جبيرٍ ، وعليُّ بن أبي طلحة ، وعكرمةُ عن ابن عبَّاس . وقيل : المستقر : الجنة أو النار ، والمستودع : القبر ، لقوله تعالى في صفة الجنة ، والنار { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 76 ] { سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] .
{ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } . قال الزَّجَّاجُ : « معناه : كلُّ ذلك ثابتٌ في علم الله » .
وقيل : كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها .
قوله : { مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } يجوزُ أن يكونا مصدرين ، أي : استقرارها واستيداعها ، ويجوزُ أن يكونا مكانين ، أي : مكان استقرارها واستيداعها ، ويجوز أن يكون « مُستوْدعهَا » اسم مفعول لتعدِّي فعله ، ولا يجوز ذلك في « مُسْتَقَر » ؛ لأنَّ فعله لازمٌ ، نظيره في المصدرية قول الشاعر : [ الوافر ]
2944- ألَمْ تعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القَوافِي .. .
أي : تَسْريحي .
و « كُلُّ » المضافُ إليه محذوفٌ تقديره : كُل دابةٍ ورزقها ومستقرُّها ومستودعُها في كتاب مبين .

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

لمَّا أثبت بالدَّليلِ المتقدم كونه عالماً بالمعلومات ، أثبت بهذا الدليل كونه قادراً على المقدورات وقد مضى تفسير { خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أول يونس .
قوله : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } قال كعب الأحبار - رضي الله عنه - : خلق الله - عزَّ وجلَّ - ياقوتةٌ خضراء ، ثمَّ نظر إليها بالهيبة فصار ماءً يرتعدُ ، ثمَّ خلق الرِّيح؛ فجعل الماء على متنها ، ثمَّ وضع العرش على الماء . وقال غيره : إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - كان عرشه على الماء ، ثم خلق السموات والأرض ، وخلق القلم؛ فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه .
قالت المعتزلةُ : في الآية دلالة على وجودِ الملائكة قبل خلق السموات والأرض ، لأن خلقهما : إمَّا أن يكون لمنفعة ، أو لا لمنفعة والثاني عبث ، فينبغي أنَّهُ خلقهما لمنفعة ، وتلك المنفعة إمَّا أن تكون عائدة على الله تعالى وهو محالٌ ، لكونه متعالياً عن النفع والضر؛ فلزم أن يكون نفعهما مختصٌّ بالغير ، فوجب كون الغير حيّاً؛ لأنَّ غير الحيِّ لا ينتفع ، وكلُّ من قال بذلك قال كان ذلك الحي من الملائكة .
فإن قيل : ما الفائدةُ في ذكر أنَّ عرشهُ كان على الماءِ قبل خلق السموات والأرض؟ .
فالجوابُ أنَّ فيه دلالةً على كمالِ القدرة من وجوه :
أحدها : أنَّ العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماءِ؛ فلولا أنه تعالى قادرٌ على إمساكِ الثَّقيل بغير عمدٍ لما صحَّ ذلك .
وثانيها : أنَّه تعالى أمسك الماءَ لا على قرار ، وإلاَّ لزم أن يكون أجسام العالمِ غير متناهية فدل على كمال القدرة .
وثالثها : أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه ، فدل على كمال القدرة .
قوله : « لِيَبْلُوَكُمْ » في هذه اللاَّم وجهان :
أحدهما : أنَّها متعلقةٌ بمحذوفٍ فقيل : تقديره : أعلم ذلك ليبْلُوكمْ ، وقيل : ثمَّ جملٌ محذوفةٌ والتقدير : وكان خلقةُ لهما لمنافع يعودُ عليكم نفعها في الدُّنيا دون الآخرة ، وفعل ذلك ليبلوكم .
وقيل : تقديره : وخلقكم ليبلوكم .
والثاني : أنها متعلقةٌ ب « خلقكم » .
قال الزمخشريُّ : أي : خلقهُنَّ لحكمةٍ بالغةٍ وهي أن يجعلها مساكن لعباده وينعم عليهم فيها بصنوف النِّعمِ ويُكلِّفهم فعل الطَّاعاتِ واجتناب المعاصي ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبة ، ولمَّا أشبه ذلك اختبارَ المختبر قال « ليبلُوَكمْ » ، يريد : ليفعل بكم ما يفعل المبتلي . واعلم أنه لمَّا بين أنه إنما خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلَّفين وامتحانهم وجب القطع بحصول الحشر والنشر؛ لأنَّ الابتلاء والامتحان يوجب الرَّحمة والثَّواب للمحسن والعقاب للمسيء ، وذلك لا يتمُّ إلاَّ بالاعتراف بالمعادِ والقيامة ، فعند هذا خطاب محمداً صلى الله عليه وسلم وشرف ، وكرم ومجد وبجل ، وعظم ، وقال : { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : إنكم تنكرونَ هذا الكلام ، وتحكمون بفساد القول بالبعث .

قوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ } مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ؛ لأنَّهُ متعلقٌ بقوله « لِيَبْلُوكُمْ » .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف جاز تعليقُ فعل البلوى؟ قلتُ : لما في الاختبار من معنى العلم؛ لأنَّه طريقٌ إليه فهو ملابسٌ له كما تقولُ : انظر أيُّهم أحسنُ وجهاً ، واسمع أيُّهم أحسنُ صوتاً؛ لأنَّ النَّظر والاستماع من طرق العلم؛ لأنَّه طريقٌ إليه ، فهو ملابسٌ له ، وقد أخذه أبو حيَّان في تمثيله بقوله : « واسْتمِعْ » فقال : « لَمْ أعلمْ أحداً ذكر أنَّ » استمع « يعلق ، وإنما ذكروا من غير أفعال القُلُوب » سَلْ « ، و » انْظُر « وفي جواز تعليق » رَأى « البصرية خلاف » .
قوله : « ولَئِن قُلْتَ » هذه لامُ التَّوطئة للقسم ، و « ليَقُولنَّ » جوابه ، وحذف جوابُ الشَّرط لدلالة جواب القسم عليه ، و « إنَّكُم » محكيٌّ بالقول ، ولذلك كُسِرَت في قراءةِ الجمهور .
وقرىء بفتحها ، وفيها تأويلان ذكرهما الزمخشري :
أحدهما : أنها بمعنى « لَعَلَّ » قال : من قولهم : ائت السوق أنك تشتري لحْماً ، أي : لعلَّك ، أي : ولئنْ قلت لهم : لعلكم مبعوثون بمعنى توقَّعُوا بعثَكُم وظنُّوه ، ولا تَبُثُّوا القول بإنكاره ، لقالوا .
والثاني : أن تُضَمِّنَ قلت معنى : « ذكَرْتَ » يعني فتفتح الهمزة ، لأنَّها مفعولُ « ذَكَرْتَ » قوله : { إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ } قد تقدَّم أنَّه قُرىء « سِحْر » و « سَاحر » ، فمن قرأ « سِحْرٌ » ف « هذا » إشارةٌ إلى البَعْثِ المدلولِ عليه بما تقدَّم ، أو إشارةٌ إلى القرآن ، لأنَّهُ ناطقٌ بالبعثِ ومن قرأ « سَاحِر » فالإشارةُ ب « هذا » إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يُرادَ ب « هذا » في القراءة الأولى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، ويكون جعلوه سِحْراً مبالغةً ، أو على حذف مضاف ، أي : إلاَّ ذُو سحرٍ ، ويجوز أن يراد ب « سَاحِر » نفسُ القرآن مجازاً كقولهم : « شِعرٌ شاعرٌ » و « جَدَّ جَدُّهُ » .
فإن قيل : كيف يمكن وصفُ هذا القول بأنه سِحْرٌ؟
فالجواب : من وجوه .
أحدها : قال القفال : معناه أنَّ هذا القول خديعة منكم ، وضَعْتُمُوهُ لمنع الناس من لذَّاتِ الدنيا وإحرازاً لهم إلى الانقيادِ لكُم والدُّخُول تحت طاعتكم .
وثانيها : أن قولهم { نْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } معناه : أنَّ السِّحر أمرٌ باطلٌ ، قال تعالى حاكياً عن موسى - عليه الصلاة والسلام - { مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } [ يونس : 81 ] .
وثالثها : أنَّ القرآن هو الحاكمُ بحصول البعثِ ، وطعنُوا في القرآن بكونه سِحْراً ، والطعن في الأصل عين الطعن في الفرع .
ورابعها : قراءة حمزة والكسائي « إن هذا إلاَّ ساحرٌ » والسَّاحرُ كاذبٌ .

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)

قال الحسنُ : حكم الله أنه لا يعذب أحداً من هذه الأمة بعذاب الاستئصال ، وأخَّر ذلك العذاب إلى القيامة؛ فلمَّا أخَّر عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء : ما الذي حبسهُ عنَّا؟ .
وقيل : المرادُ بالعذاب : ما نزل بهم يوم بدرٍ .
وأصل « الأمَّة » الجماعة ، قال تعالى : { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس } [ القصص : 23 ] وقوله : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] ، أي : انقضاء أمة ، فكأنَّهُ قال : إلى انقراض أمةٍ ومجيء أخرى .
وقيل : اشتقاق الأمَّةِ من الأمِّ ، وهو القصد ، كأنَّهُ يعني الوقت المقصود بإيقاع الموعود فيه . { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } أي شيء يحبسه ، يقولون ذلك ، استعجالاً للعذابِ واستهزاءً ، يعنُون أنه ليس بشيء .
قوله : « لَيَقولُنَّ » هذا الفعلُ معربٌ على المشهورِ؛ لأنَّ النُّون مفصولةٌ تقديراً ، إذ الأصل : « لَيَقُولُوننَّ » النون الأولى للرفع ، وبعدها نونٌ مشددة ، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال ، فحذفت نونُ الرفع؛ لأنَّها لا تدلُّ من المعنى على ما تدلُّ عليه نون التَّوكيد ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الواوُ التي هي ضميرُ الفاعل لالتقائهما ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك .
و « مَا يَحْبِسُهُ » استفهامٌ ، ف « ما » مبتدأ ، و « يَحْبِسُهُ » خبره ، وفاعل الفعل ضميرُ اسم الاستفهام ، والمنصوبُ يعودُ على العذابِ ، والمعنى : أيُّ شيءٍ من الأشياء يحبسُ العذاب؟ قوله : « ألا يَوْمَ يَأتيهِمْ » « يَوْمَ » منصوبٌ ب « مَصْرُوفاً » الذي هو خبرُ « ليس » ، وقد استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر « ليس » عليهما ، ووجهُ ذلك أنَّ تقديم المعمول يُؤذن بتقديم العامل ، و « يوم » منصوب ب « مَصْرُوفاً » وقد تقدَّم على « ليس » فليَجُزْ تقديمُ الخبر بطريق الأولى ، لأنَّه إذا تقدَّم الفرعُ فأولى أن يتقدَّم الأصلُ .
وقد ردَّ بعضهم هذا الدليل بشيئين :
أحدهما : أنَّ الظرف يُتوسَّعُ فيه ما لا يتوسَّع في غيره .
والثاني : أنَّ هذه القاعدة مُنْخرمةٌ ، إذ لنا مواضع يتقدَّمُ فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العاملُ ، وأورد من ذلك نحو قوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 ، 10 ] ف « اليتيمَ » منصوبٌ ب « تَقْهَرْ » ، و « السَّائِل » منصوبٌ ب « تَنْهَرْ » وقد تقدَّما على « لا » النَّاهية ، ولا يتقدَّمُ العاملُ - وهو المجزومُ - على « لا » ، وللبحث في هذه المسألة موضعق أليقُ به .
قال أبُو حيَّان : وقد تتبَّعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر « ليسَ » عليها ، ولا بمعموله إلاَّ ما دلَّ عليه ظاهرُ هذه الآية وقول الشاعر : [ الطويل ]
2945- فَيَأبَى فما يَزْدَادُ إلاَّ لجَاجَةً ... وكُنْتُ أبِيّاً في الخَنَى لسْتُ أقْدِمُ
واسمُ « ليس » ضميرٌ عائدٌ على « العذاب » ، وكذلك فاعل « يأتيهم » ، والتقدير : ألا ليس العذاب مصرُوفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب .
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم أنَّ العامل في « يَوْمَ يأتيهم » محذوفٌ تقديره : أي : لا يصرفُ عنهم العذابُ يوم يأتيهم ، ودلَّ على المحذوف سياق الكلام .
قال : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } وذكر « حَاقَ » بلفظ الماضي مبالغة في التَّأكيد والتقرير وأنَّ خبر الله تعالى واقعٌ لا محالة .

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً } الآية .
لما ذكر أنَّ عذاب الكُفَّار وإن تأخَّر لا بد أن يحيق بهم ، ذكر بعدهُ ما يدلُّ على كفرهم ، وعلى كونهم مستحقين لهذا العذاب ، فقال : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان } . وقيل : المراد منه مطلق الإنسان؛ لأنَّه استثنى { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } ؛ ولأنه موافق لقوله تعالى : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ } [ العصر : 2 ، 3 ] { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } [ المعارج : 19 ] ولأنَّ مزاج الإنسان مجبولٌ على الضَّعف والعجز .
قال ابنُ جريج في تفسير هذه الآية : يا ابنَ آدم إذا نزلت بك نعمةٌ من الله ، فأنت كفورٌ ، وإذا نزعت منك فيئوسٌ قنوط .
وقيل : المرادُ به الكافر؛ لأنَّ الأصل في المفرد المعرف بالألف واللاَّم أن يعود على المعهود السَّابق إلاَّ أن يمنع مانع منه ، وههنا لا مانع؛ فوجب حمله على المعهود السابق ، وهو الكافر المذكور في الآية المتقدمة .
وأيضاً فالصِّفاتُ المذكورة في الإنسان هنا لا تليقُ إلاَّ بالكافر؛ لأنَّهُ وصفهُ بكونه كفوراً ، وهو تصريح بالكفر ، ووصفه عند وجدان الراحة بقوله : { ذَهَبَ السيئات عنيا } وذلك جزاءة على الله تعالى ، ووصفه بكونه فرحاً { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } [ القصص : 76 ] وصفه بكونه فخوراً ، وذلك ليس من صفات أهل الدِّين . وإذا كان كذلك؛ وجب حمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع . واعلم أنَّ لفظ « الإذَاقة والذَّوق » يفيدُ أقل ما يوجدُ من الطَّعم ، فكان المراد أنَّ الإنسان بوجدان أقل القليل من الخير في العاجلة يقعُ في الكفر والطُّغيان وبإدراك أقل القليل من البلاءِ يقع في اليأس والقنوط ، قال تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً } نعمة وسعة { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } سلبناها منه { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } في الشِّدة كفور بالنعمة .
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ } قال الوَاحديُّ : النَّعْمَاء إنعام يظهر أثرهُ على صاحبه ، والضَّرَّاءُ مضرَّةٌ يظهر أثرها على صاحبها؛ لأنَّها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو : حمراء وسوداء ، وهذا هو الفرق بين النِّعمةِ والنَّعماء ، والمضرة والضَّراء .
والمعنى : إذا أذقناه نعمة بعد بلاء أصابه : { لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عنيا } زالت الشَّدائدُ عنِّي ، إنَّهُ لفرحٌ فخورٌ أشر بطر ، والفرح : لذَّة في القلب بنيل المشتهى . والفخرُ : هو التطاول على الناس بتعديد المناقب ، وذلك منهيٌّ عنه .
فصل
اعلم أنَّ أحوال الدنيا أبداً في التَّغير والزَّوال ، والتحوُّل والانتقال ، فإمَّا أن يتحوَّل الإنسانُ من النِّعمة إلى المِحْنةِ أو العكس .
فأمَّا الأوَّلُ : فهو المراد بقوله عز وجل : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [ هود : 9 ] أي أنه حال زوال تلك النعمة يصير يَئُوساً؛ لأنَّ الكافر يعتقدُ أنَّ السبب في حصول تلك النِّعمة سببٌ اتفاقي ، ثُمَّ إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى ، فلا جرم يسبعد تلك النعمة فيقع في اليأسِ .

وأمَّا المسلمُ ، فيعتقد أنَّ تلك النِّعمة إنَّما حصلت من فضل الله وإحسانه ، فلا ييأس ، بل يقول لعلَّه يؤخِّرها إلى ما هو أحسن ، وأكمل ممَّا كانت ، وأمَّا الإنسان يكونُ كفوراً حال تلك النعمة ، فإنَّ الكافر لمَّا اعتقد أنَّ حصولها كان على سبيل الاتفاق ، أو أنَّهُ حصلها بجدِّه واجتهاده ، فحينئذٍ لا يشتغل بشكرِ الله على تلك النِّعمة والمسلم يشكر الله تعالى .
والحاصلُ أنَّ الكافر يكون عند زوال النِّعمة يئوساً وعند حصولها كفوراً .
وأمَّا انتقال الإنسان من المحنة إلى النِّعمة ، فالكافرُ يكون فرحاً فخوراً؛ لأنَّ منتهى طبع الكافر هو الفوزُ بهذه السَّعادات الدُّنيوية ، وهو منكرٌ للسعادات الأخرويَّة .
قوله : « لفرحٌ » قرأ الجمهو بكسر الرَّاءِ ، وهو قياسُ اسم الفاعل من « فَعِلَ » اللاَّزم بكسر العين نحو : أشِرَ فهو أشِرٌ ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ ، وقرئ شاذاً « لَفَرُحٌ » بضمِّ الرَّاء نحو : يَقِظٌ ويَقُظٌ ، وندِس وندُس .
قوله : { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل ، إذا المرادُ به جنس الإنسان لا واحدٌ بعينه .
والثاني : أنَّهُ منقطعٌ ، إذ المراد بالإنسان شخصٌ معينٌ ، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحلِّ .
والثالث : أنه مبتدأ ، والخبر الجملة من قوله : { أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } وهو منقطعٌ أيضاً . والمعنى : أنَّ هؤلاء لا يكُونُون عند البلاء من الصَّابرين وعند الرَّاحةِ والخير من الشَّاكرين .
قال الفراء : هو استثناءٌ منقطع معناه : لكن الذين صبروا وعملوا الصَّالحات؛ فإنَّهم إن يأتهم شدة صبروا ، وإن نالوا نعمة شكروا .
ثم قال : { أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } يجوزُ أن يكون « مَغْفِرةٌ » مبتدأ ، و « لهُم » الخبرُ ، والجملة خبر « أولئكَ » ، ويجوز أن يكون « لَهُم » خبر « أولئكَ » و « مَغْفِرَةٌ » فاعلٌ بالاستقرار . فجمع لهم بين شيئين :
أحدهما : زوال العقاب بقوله : « لَهُم مَغْفرةٌ » والثاني : الفوز بالثَّواب بقوله « وأجْرٌ كبيرٌ » .
قوله : « فَلَعَلَّكَ » الأحسنُ أن تكون على بابها من التَّرجِّي بالنسبة إلى المخاطب .
وقيل : هي للاستفهام كقوله - صلوات الله وسلامه عليه - « لعلَّنا أعْجلنَاكَ » .
فإن قيل : « فَلعَلَّك » كلمة شك فما فائدتها؟ .
فالجوابُ : أنَّ المراد منها الزَّجرُ ، والعرب تقول للرجلُ إذا أرادوا إبعاده عن أمر : لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنَّهُ لا شك فيه ، ويقول لولده : لعلك تقصر فيما أمرتك ، ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك .
وقوله : « وضَائِقٌ » نسقٌ على « تَاركٌ » ، وعدل عن « ضيِّق » وإن كان أكثر من « ضائق » .
قال الزمخشريُّ : ليدُلَّ على أنَّهُ ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابتٍ ، ومثله سيدِّ وجواد - تريد السِّيادة والجود الثَّابتين المستقرين - فإذا أردت الحدوث قلت : سائِدٌ وجائدٌ .
قال أبُو حيَّان : وليس هذا الحكمُ مختصّاص بهذه الألفاظ؛ بل كلُّ ما بني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول : حَاسِن وثَاقِل وسامِن في : « حَسُن وثقُلَ وسمُن » ؛ وأنشد قول الشاعر : [ الطويل ]

2946- بمَنْزِلَةٍ أمَّا اللَّئِيمُ فسَامِنٌ ... بهَا وكرامُ النَّاسِ بادٍ شُحُوبُهَا
وقيل : إنَّما عدل عن « ضيِّق » إلى « ضَائِقٌ » ليناسب وزن « تَارِكٌ » .
والهاءُ في « به » تعود على « بعض » . وقيل : على « ما » . وقيل : على التَّكذيب و « صَدْرُكَ » مبتدأ مؤخَّرٌ ، والجملةُ خبرٌ عن الكاف في « لعَلَّكَ » ؛ فيكون قد أخبر بخبرين :
أحدهما : مفرد ، والثاني : جملة عطفت على مفردٍ ، إذ هي بمعناه ، فهو نظير : « إنَّ زيداً قائمٌ ، وأبوه منطلقٌ » .
قوله : « أن يقُولُوا » في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في « أنَّ » بعد حذف حرف الجرِّ أو المضاف ، تقديره : كراهة أو مخافة أن يقولوا ، أو لئلاَّ يقولوا ، أو بأن يقولوا .
وقال أبو البقاء : لأن يقُولُوا أي : لأن قالوا ، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه ، وكيف يُدَّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٌّ في الاستقبال وهو الناصب؟ .
و « لَوْلاَ » تحضيضيةٌ ، وجملة التَّحضيض منصوبةٌ بالقول .
فصل
المعنى : فلعلَّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ، فلا تبلغة إيَّاهم ، وذلك أن كفار مكة قالوا : ائتِ بقرآن غير هذا ، ليس فيه سب آلهتنا ، فهمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم - أن يدع آلهتهم ظاهراً؛ فأنزل الله تعالى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } يعنى سب الآلهة : { وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } أي : ولعلَّ يضيق صدرك { أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ } يصدِّقه ، قاله عبد الله بنُ أميَّة المخزُومي .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ رؤساء مكَّة قالوا : يا محمد : اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً ، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك ، فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية .
وأجمع المسلمون على أنَّهث لا يجوزُ على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يخُون في الوَحْي والتبليغ ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه؛ لأنَّ تجويزه يُؤدِّي إلى الشَّك في كل الشرائع وذلك يقدحُ في النبوةِ ، وأيضاً فالمقصودُ من الرِّسالة تبليغ التكاليف ، والأحكام ، فإنه لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها .
وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المرادُ من قوله : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } شيئاً آخر سوى أنه فعل ذلك . وذكروا فيها وجوهاً أخر ، قيل : إنَّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به ، فكان يضيق صدر الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فأهله الله لأداء الرِّسالة ، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة ، وترك الالتفات إلى استهزائهم ، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدَّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم ، وإن لم يُؤد ذلك وقع في ترك وحي الله - تعالى - وفي إيقاع الخيانةِ ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضَّررين؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وَحْي الله ، والرغض من ذكر هذا الكلام : التنبيهُ على هذه الدقيقة؛ لأنَّ الإنسان إذا علم أنَّ كلَّ واحدٍ من طرفي الفعل والترك مشتملٌ على ضررٍ عظيم ، على أنَّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف .

فإن قيل : الكنز كيف ينزل؟
فالجواب : أنَّ المراد ما يكنز ، وجرت العادة على أنَّ المال الكثير يسمَّى كنزاً ، فقال القومُ : إن كنت صادقاً في أنَّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلِّ شيء وأنك عزيزٌ عنده فهلاَّ أنزل عليك ما تستغني به في مهماتك وتعين أنصارك ، وإن كنت صادقاً فهلاَّ أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك ، ويعينك على تحصيل مقصودك وتزول الشبهة في أمرك ، فلمَّا لم يفعل لك ذلك فأنت غير صادقٍ ، فبيَّن الله تعالى أنَّهُ رسول ينذر بالعقاب ويبشر بالثَّواب وليس له قدرة على إيجاد هذه المطلوبات ، والذي أرسله هو القادرُ على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، ولا اعتراض لأحدٍ عليه .
ومعنى « وكيلٌ » : حفيظ أي : يحفظُ عليهم أعمالهم ، حتى يجازيهم بها ، ونظير هذه الآية ، قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ] .
قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] .
لمَّا طلبوا منه المعجز قال : معجزتي هذا القرآن ، فلمَّا حصل المعجز الواحد كان طلب الزِّيادة بغياً وجهلاً .
و في « أمْ » هذه وجهان :
أحدهما : أنها منقطعةٌ فتقدَّر ب « بَلْ » والهمزة ، فالتقدير : بل أتقولون افتراه . والضمير في « افتراهُ لما يوحى .
والثاني : أنَّها متصلة ، فقدَّروها بمعنى : أيكفرون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنَّهُ ليس من عند الله؟
قوله » مِثْلِهِ « نعت ل » سُورٍ « و » مثل « وإن كانت بلفظ الإفراد فإنه يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث ، كقوله تعالى : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } [ المؤمنون : 74 ] ويجوز المطابقة . قال تعالى : { وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ } [ الواقعة : 22 ، 23 ] وقال تعالى : { ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] .
قال ابن الخطيب : » مِثلِهِ « بمعنى » مثاله « حملاً على كُلِّ واحدة من تلك السور ، ولا يبعد أيضاً أن يكون المرادُ المجموع؛ لأنَّ مجموع السور العشرة شيء واحد . والهاء في » مِثْلِهِ « تعود لما يوحى أيضاً ، و » مُفْترياتٍ « صفة ل » سُورٍ « جمع » مُفْتراة « ك » مُصْطفيَات « في » مُصْطَفاة « فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية .

فصل
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - هذه السور التي وقع بها التَّحدي سور معينه ، هي سورة البقرة وآل عمران والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس وهود ، فقوله عز وجل : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } الإشارة إلى هذه السور وهذا فيه إشكال ، لأنَّ هذه السُّورة مكية ، وبعض السُّور المتقدمة مدنية ، فكيف يمكنُ أن يكون المراد هذه العشر عند نزول هذا الكلام؟ فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور .
فإن قيل : قد قال في سورة يونس { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] وقد عجزوا عنهُ . فكيف قال { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ } فهو كرجل يقول لآخر : أعطني درهماً؛ فيعجز ، فيقول : أعطني عشرة؟ .
فالجوابُ : قد قيل : نزلت سورة هودٍ أولاً ، وأنكر المبردُ هذا وقال : بل سورة يونس أولاً ، وقال : ومعنى قوله في سورة يونس : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] أي : مثله في الإخبار عن الغيب ، والأحكام ، والوعد والوعيد ، فعجزوا ، فقال لهم في سورة هودٍ : إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الإخبار ، والأحكام ، والوعد ، والوعيد ( فأتوا بعشر سور مثله ) من غير وعْدٍ ووعيدٍ ، وإنما هي مجرد بلاغة .
فصل
اختلفوا في الوجه الذي كان القرآن لأجله معجزاً ، فقيل : هو الفصاحةُ وقيل : الأسلوب ، وقيل : عدم التناقض ، وقيل : اشتمالهُ على الإخبار عن الغيوبِ ، والمختار عند الأكثرين أن القرآن معجز من جهة الفصاحة ، واستدلُّوا بهذه الآية ، لأنَّهُ لو كان إعجازه هو كثرة العلوم ، أو الإخابر عن الغيوب ، أو عدم التناقض لم يكن لقوله : « مفترياتٍ » معنى ، أمَّا إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صحَّ ذلك؛ لأنَّ فصاحة الفصيح تظهر بالكلام ، سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً ، ثم إنه لمَّا قرر وجه التحدِّي قال : { وادعوا مَنِ استطعتم } واستعينوا بمن استطعتم { وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } يا أصحاب محمد ، وقيل : لفظه جمع والمراد به الرسول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه وحده - والمرادُ بقوله : { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } أي : الكفار ، يحتمل أنَّ من يدعونه من دون الله لمْ يَسْتَجِيبُوا .
قوله : { فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ } « ما » يجوز أن تكون كافة مهيئة ، وفي « أنزِلَ » ضميرٌ يعودُ على { مَا يوحى إِلَيْكَ } [ هود : 12 ] ، و « بعلْم » حال أي : ملتبساً بعلمه ، ويجوز أن تكون موصولة اسمية أو حرفية اسماً ل « أنّ » والخبرُ الجارُّ تقديره : فاعلموا أن تنزيله ، أو أن الذي أنزل ملتبسٌ بعلمٍ .
وقرأ زيد بن علي « نزَّل » بفتح النون والزاي المشددة ، وفاعل « نزَّل » ضميرُ الله تعالى ، و { وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } نسقٌ على « أنَّ » قبلها ، ولكن هذه مخففةٌ فاسمها محذوفٌ ، وجملة النَّفي خبرها .

فصل
إن قلنا هذا خطاب للمؤمنين ، فالمعنى : ابقوا على العلم الذي أنتم عليه؛ لتزدادوا يقيناً وثبات قدمٍ ، على أنه منزَّل من عند الله .
وقوله : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } أي : مخلصون ، وقيل : فيه إضمار ، أي : فقولوا أيُّها المسلمون للكفار : اعلموا أنَّما أنزل بعلم الله ، يعني القرآن .
وقيل : أنزله ، وفيه علمه ، وإن قيل : إن هذا الخطاب مع الكفار ، فالمعنى : إن الذين تدعونهم من دون الله ، إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة ، فاعلموا أيها الكفار؛ أن هذا القرآن ، إنما أنزل بعلمه ، فهل أنتم مسلمون ، فقد وقعت الحجة عليكم ، وأن لا إله إلا هو ، فاعلموا أنَّهُ لا إله إلا هُو .
{ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } لفظهُ استفهام ، ومعناه أمر ، أي : أسلموا .
قال بعض المفسِّرين : وهذا القول أولى؛ لأن القول الأول يحتاج فيه إلى إضمار القول ، وهذا لا يحتاج إلى إضمار ، وأيضاً : فعود الضمير إلى أقرب مذكور أولى ، وأيضاً : فالخطابُ الأول كان مع الكفار بقوله : { مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله } ، وأيضاً فالأول أمر بالثبات .
فإن قيل : أين يعلَّق الشرط المذكور في هذه الآية ، وأين ما فيها من الجزاء؟
فالجواب : أن القوم ادعوا كون القرآن مفترًى على الله تعالى ، فقال : لو كان متفرًى على الله تعالى ، لوجب أن يقدر الخلقُ على مثله ، ولما لم يقدروا عليه ، ثبت أنَّهُ من الله ، فقوله ( إنا أنزل بعلم الله ) : كنايةٌ عن كون من عند الله ، ومن قبله؛ كما يقول الحاكم : هذا الحكم جدير بعلمي .
فإن قيل : أي تعلُّق لقوله : { وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } بعجزهم عن المعارضة؟ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه تعالى لمَّا أمر محمداً - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - بأن يطلب من الكفار ان يستعينوا بالأصنامِ في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنَّها لا تنفعُ ولا تضرُّ في شيءٍ من المطالب ألبتة ، ومن كان كذلك ، فقد بطلت إلهيته ، فصار عجزُ القوم عن المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام ، ودليلاً على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم ، فكان قوله : { وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } إشارة إلى ظهور فسادِ إلاهيَّة الأصنام .
وثانيها : أنَّهُ ثبت في علم الأصول أنَّ القول بنفي الشَّريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباها بقول الرَّسُول - صلوات الله وسلام عليه - فكأنَّهُ قيل : لمَّا ثبت عجزُ الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً ، وثبت كون قول محمد صدقاً في دعوى الرِّسالةِ .
وإذا ثبت ذلك فأعلمهم يا محمد أن لا إله إلا هو ، واتركُوا الإصرار على الكفر ، واقبلوا الإسلام . ونظيره قوله تعالى - في سورة البقرة عند ذكر آية التحدِّي - { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 24 ] .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)

قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } الآية .
قيل : إنَّها مختصةٌ بالكُفَّار لقوله : { أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ هود : 16 ] وهذا ليس إلاَّ للكفار ، فيكون التقدير : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط ، أي : تكون إرادته مقصورةٌ على حُبِّ الدنيا وزينتها ، ومن طلب السعادات الأخرويَّة كان حكمه كذا وكذا .
واختلف القائلون بهذا القول فقال الأصم : المرادُ مُنْكِرُو البعث فإنَّهم ينكرون الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة .
وقال أنس - رضي الله عنه - : المرادُ اليهود والنَّصارى .
وقال القاضي : المراد من كان يريدُ بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها .
وعمل الخير قسمان :
العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوان كالبر ، وصلة الرَّحمِ ، والصَّدقة ، وبناء القناطر ، وتسوية الطرق ، ودفع الشر ، وإجراء الأنهار ، فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافرُ لأجل الثناء في الدُّنيا ، فإنَّ بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين ، وهي من أعمال الخير ، فقد تصدرُ من المسلم والكافر .
وأمَّا العباداتُ فإمَّا أن تكون طاعات بنيَّاتٍ مخصوصة ، فإذا لمْ يؤتَ بتلك النِّية ، وإنَّما أتى فاعلها بها طلباً لزينة الدنيا ، وتحصيل الرِّياء والسمعةِ؛ فلا تكونُ طاعةً ووجودها كعدمها بل هو شر منها .
وعلى هذا فالمرادُ منه الطَّاعات التي يصحُّ صدورها من الكفار .
وقيل : الآية على ظاهرها في العموم؛ فيندرج فيه المؤمنُ الذي يأتِي بالطَّاعات رياءً وسمعةً ويندرج فيه الكافرُ الذي هذا صفته .
ويشكلُ على هذا قوله في آخر الآية { أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار } إلاَّ إذا قلنا : إنَّ المراد : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار بسبب الأعمال الفاسدة ، والأفعال الباطلة .
والقائلون بهذا القول أكَّدُوا قولهم بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « تعوَّذُوا بالله من جُبِّ الحُزْنِ » قيل : وما جُبُّ الحُزنِ؟ قال : « وادٍ في جَهَنَّمَ يُلْقَى فيه القُرَّاء المُراءُونَ » .
وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : « أشدُّ النَّاسِ عذاباً يوْمَ القيامةِ مَنْ يَرَى النَّاسُ فيه خَيْراً ولا خَيْرَ فِيهِ » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا كَانَ يَوْمَ القيامةِ يُؤتى برجُلٍ جَمَعَ القرآنَ فيقالُ : ما عَمِلْتَ فيه؟ فيقولُ : يا رب قُمْتُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ ، والنَّهَارِ ، فيقُول الله - تبارك وتعالى - كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقالَ : فلانٌ قارىءٌ ، وقدْ قِيل ذلِكَ ، ويُؤتى بصاحبِ المَالِ فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ ألَمْ أوسِّعْ عليكَ؟ فماذا عَمِلْتَ فيما آتَيْتُكَ؟ فيقُولُ : وصَلْتُ الرَّحِمَ وتصدَّقْتُ ، فيقُولُ : كذَبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال فلانٌ جوادٌ ، وقد قِيلَ ذلك ، ويُؤتى بمن قُتِلَ في سبيل الله فيقول : قاتَلْتُ في سَبِيل اللهِ حتَّى قُتِلْتُ ، فيقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال : فلانٌ فارسٌ » .
ثم ضربَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي وقال : « يا أبا هريرة أولئك الثَّلاثةُ أوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْم القِيامَةِ » .

وقد روي أن أبا هريرة - رضي الله عنه - ذكر هذا الحديث عند معاوية - رضي الله عنه - . قال الراوي : فبكى حتَّى ظننا أنَّهُ هالك ثمَّ أفاق وقال : صدق الله ورسوله { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ هود : 15 ] .
فصل
نقل القرطبيُّ عن بعض العلماء :
أنَّ معنى هذه الآية : هو قوله صلى الله عليه وسلم : « إنَّما الأعمالُ بالنِّياتِ » ، وهذا يدلُّ على من صام في رمضان لا عن رضمان لا يقعُ عن رمضان ، وتدلُّ على أن من توضَّأ للتبرد والتنظف لا يقعُ عن جهة الصَّلاةِ ، وكذلك كل من كان في معناه .
قوله : « نُوَفِّ » .
الجمهور على « نُوفِّ » بنون العظمة وتشديد الفاء من « وفَّى يُوفِّي » .
وطلحة وميمون بياءِ الغيبةِ ، وزيد بن علي كذلك ، إلاَّ أنَّه خفَّف الفاء من « أوْفَى يُوفِي » ، والفاعلُ في هاتين القراءتين ضميرُ الله تعالى .
وقرئ « تُوفَّ » بضم التاء ، وفتح الفاء مشددة من « وُفِّيَ يُوَفَّى » مبنياً للمفعول .
« أعْمَالهم » بالرَّلإع قائماً مقام الفاعل . وانجزم « نُوَفِّ » على هذه القراءاتِ لكونه جواباً للشَّرطِ ، كما في قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] .
وزعم الفرَّاء أنَّ « كان » هذه زائدة ، ولذلك جزم جوابه ، ولعلَّ هذا لا يصحُّ ، إذ لو كانت زائدة لكان « يُرِيدُ » هو الشَّرط ، ولو كان الشَّرط ، لانجزم ، فكان يقال : « مَنْ كَان يُرِدْ » وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بفعل الشَّرط ماضياً ، والجزاء مضارعاً إلاَّ مع « كان » خاصة ، ولهذا لم يجىء في القرآن إلا كذلك ، وهذا ليس بصحيح لوروده في غير « كان » ؛ قال زهير : [ الطويل ]
2947- ومَنْ هَابَ أسْبابَ المنَايَا يَنَلْنَهُ ... ولو رَامَ أسبابَ السَّمَاءِ بسُلَّمِ
وأمَّا القرآنُ فجاء من باب الاتفاق لذلك .
وقرأ الحسنُ « نُوفِي » بتخفيف الفاء وثبوتِ الياء من « أوْفَى » ، ثمَّ هذه القراءةُ محتملةٌ : لأن يكون الفعل مجزوماً ، وقُدِّر جزمه بحذفِ الحركةِ المقدرة؛ كقوله : [ الوافر ]
2948- ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيادِ
على أنَّ ذلك يأتي في السَّعةِ نحو : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } [ يوسف : 90 ] وسيأتي مُحَرَّراً في سورته ، ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً لوقوع الشَّرط ماضياً؛ كقوله : [ الطويل ] .
2949- وإنْ شُلَّ ريْعَانُ الجَميعِ مَخَافَةً ... نَقُولُ جِهَاراً : ويْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا
وكقول زهير : [ البسيط ]

2950- وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يقُولُ لا غَائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ
وهل يجوزُ الرفع؛ لأنه على نيَّة التقديم ، وهو مذهب سيبويه ، أو على نيَّة الفاءِ ، كما هو مذهب المبرد؛ خلافٌ مشهورٌ .
ومعنى { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أي : نُوفِّ إليهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعةِ الرزق ودفع المكاره وما أشبهها .
{ وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } أي : في الدنيا لا ينقص حظهم .
« روى أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف ومجد وكرم وبجل وعظم قال : » إنَّ الله لا يَظْلِمُ المؤمنَ حَسَنَةً يُثاب عليْهَا الرزقَ في الدُّنيا ، ويُجْزَى عليها فِي الآخِرةِ ، وأمَّا الكَافِرُ فيُطْعَمُ بِحسنَاتِهِ في الدُّنْيَا حتَّى إذا أفْضَى إلى الآخرةِ لمْ تَكُنْ لهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بها خَيْراً « .
قوله تعالى : { أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } في الدنيا { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } هذه الآية إشارة إلى التَّخليد في النَّار ، والمؤمن لا يخلدُ ، لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] .
قوله : { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } يجوز أن يتعلَّق » فِيهَا « ب » حَبِطَ « والضميرُ على هذا يعودُ على الآخرة ، أي وظهر حبوطُ ما صنعوا في الآخرة ، ويجوزُ أن يتعلَّق ب » صَنَعُوا « فالضَّميرُ يعودُ على الحياةِ الدُّنيا كما عاد عليها في قوله : { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ هود : 15 ] .
و » ما « في » مَا صَنَعُوا « يجوز أن تكون بمعنى الذي ، فالعائدُ محذوفٌ ، أي : الذي صنعوه ، وأن تكون مصدرية ، أي : وحبط صنعهم .
قوله : { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قرأ الجمهورُ برفع الباطل ، وفيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن يكون » بَاطِلٌ « خبراً مقدماص ، و » مَا كانُوا يَعْمَلُون « مبتدأ مؤخَّر ، و » ما « تحتملُ أن تكون مصدرية ، أي : وباطلٌ كونهم عاملين ، وأن تكون بمعنى » الذي « والعائدُ محذوفٌ ، أي : يعملونه ، وهذا على أنَّ الكلام من عطف الجملِ ، عطف هذه الجملة على ما قبلها .
الثاني : أن يكون » باطل « مبتدأ ، و » مَا كانُوا يَعْمَلُون « خبرهُ ، قال مكي ، ولم يذكر غيره ، وفيه نظر .
الثالث : أن يكون » بَاطِلٌ « عطفاً على الأخبار قبله ، أي : أولئك باطلٌ ما كانوا يعملون و » ما كانُوا يَعْمَلُونَ « فاعلٌ ب » بَاطِلٌ « ، ويرجح هذا ما قرأ به زيد بن علي » وبَطَلَ ما كانُوا يَعملُونَ « جعله فعلاً ماضياً معطوفاً على » حَبطَ « .
وقرأ أبيّ وابن مسعود : » وبَاطلاً « .
قال مكيّ : » وهي في مصحفهما كذلك « .
ونقلها الزمخشري عن عاصم » وبَاطِلاً « نصباً ، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّه منصوبٌ ب » يَعْمَلُون « و » ما « مزيدة ، وإلى هذا ذهب مكي ، وأبو البقاءِ وصاحب اللوامح ، وفيه تقديمُ معمولِ خبر » كان « على » كان « وهي مسألةُ خلافٍ ، والصحيحُ جوازها ، كقوله تعالى

{ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] ، فالظاهرُ أنَّ « إيَّاكُمْ » منصوب ب « يَعْبُدُون » .
والثاني : أن تكون « ما » إبهامية ، وتنتصب ب « يَعْمَلُون » ومعناه : « باطلاً أي باطلٍ كانُوا يَعْمَلُون » .
والثالث : أن يكون « بَاطِلاً » بمعنى المصدر على بطل بُطلاناً ما كانوا يعملون ، ذكر هذين الوجهين الزمخشري ، ومعنى قوله « ما » إبهامية أنها هنا صفةٌ للنَّكرة قبلها ، ولذلك قدَّرها ب « باطلاً أيَّ باطلٍ » فهو كقوله : [ المديد ]
2951- . ... وحَديثٌ ما عَلَى قِصَرِهْ
و « لأمرٍ ما جدعَ قصيرٌ أنفهُ » ، وقد قدَّم هو ذلك في قوله تعالى : { مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } [ البقرة : 26 ] .

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)

قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } الآية .
وتقدير تعلقهما بما قبلها : ( أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها ) .
وقوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ ، تقديره : أفمن كان على هذه الأشياء كغيره ، كذا قدَّرهُ أبو البقاءِ ، وأحسن منه ( أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها ) وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة كثيرٌ نحو : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ } [ فاطر : 8 ] ، { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } [ الزمر : 9 ] إلى غير ذلك ، وهذا الاستفهام بمعنى التقرير .
الثاني : - وإليه نحا الزمخشري - أن هذا معطوفٌ على شيءٍ محذوفٍ قبله ، تقديره : « أمن كان يريد الحياة الدنيا ، وزينتها كمن كان على بينةٍ » ، أي : لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم .
يريد : أن بين الفريقين تفاوتاً ، والمراد من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام ، وهذا على قاعدته من تقديره معطوفاً بين همزة الاستفهام ، وحرفِ العطفِ ، وهو مبتدأ أيضاً ، والخبر محذوفٌ كما تقدم تقريره .
قوله : « ويَتْلُوهُ » اختلفوا في هذه الضمائر ، أعني في « يَتْلوهُ » ، وفي « مِنْهُ » ، وفي « قَبْلِهِ » : فقيل : الهاء في « يَتْلُوهُ » تعودُ على « مَنْ » ، والمراد به النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الضميران في « مِنْهُ » ، و « قَبلهِ » ، والمراد بالشَّاهد لسانه صلى الله عليه وسلم والتقدير : ويتلو ذلك الذي على بيِّنةٍ ، أي : ويتلو محمَّداً - أي : صِدْقَ محمدٍ - لسانه « ومِنْ قَبْلِهِ » أي : قبل محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : الشَّاهدُ جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - والضميرُ في « مِنْهُ » لله - تعالى - ، وفي قبله للنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : الشَّاهدُ الإنجيلُ ، و « كِتابُ مُوسَى » - عليه الصلاة والسلام - عطف عى « شاهدٌ » ، والمعنى : أنَّ التوراة والإنجيل يتلُوان محمداً في التَّصديق ، وقد فصل بين حرف العطف والمعطوف بقوله : « مِنْ قَبْلِهِ » ، والتقدير : شاهدٌ منهُ ، وكتابُ موسى من قبله ، وقد تقدَّم الكلامُ على الفصلِ بين حرفِ العطفِ ، والمعطوفِ مُشْبَعاً في النِّساءِ [ 58 ] .
وقيل : الضميرُ في « يتْلوهُ » للقرآن ، وفي « مِنْهُ » لمحمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - .
وقيل : لجبريل ، والتقدير : ويتلو القرآن شاهدٌ من محمدٍ ، وهو لسانهُ ، أو من جبريل والهاء في « مِنْ قبلِهِ » أيضاً للقرآن .
وقيل الهاءُ في « يَتْلُوهُ » تعودُ على البيانِ المدلولِ عليه بالبيِّنة .
وقيل : المرادُ بالشَّاهدِ إعجازُ القرآنِ ، فالضَّمائر الثلاثة للقرآن . وقيل غير ذلك .
وقرأ محمد بن السَّائب الكلبي « كِتابَ مُوسَى » بالنَّصْب وفيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ معطوفٌ على الهاءِ في « يَتْلوهُ » ، أي : يتلوه ، ويتلو كتابَ مُوسَى ، وفصل بالجارِّ بين العاطفِ والمعطوف .

والثاني : أنَّهُ منصوبٌ بإضمار فعلٍ . قال أبُو البقاء : « وقد تمَّ الكلامُ عند قوله » منهُ « و » كتابُ مُوسَى « ، أي : » ويتلُو كتابَ مُوسَى « فقدَّر فعلاً مثل الملفُوظ به ، وكأَنَّهُ لَمْ يَرَ الفصل بين العاطف والمعطوف ، فلذلك قدَّر فعلاً » .
و « إماماً ورحمةً » منصوبان على الحالِ من « كِتابُ مُوسَى » سواءً أقرىء رفعاً أم نَصْباً .
و « أولئك » إشارةٌ إلى مَنْ كان على بيِّنة ، جمع على معناها ، وهذا إن أريد ب « مَنْ كَانَ » النبيُّ وصحابته - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه ، ورضي عن صحابته أجمعين - وإن أريد هو وحدهُ فيجوزُ أن يكون عظَّمَهُ بإشارة الجمع كقوله : [ الطويل ]
2952- فإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ .. . .
والهاءُ في « بِهِ » يجوزُ أن تعود على « كِتَابُ مُوسَى » وهو أقربُ مذكورِ . وقيل : بالقرآن ، وقيل : بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الهاء في « بِهِ » الثانية .
و « الأحْزَابُ » الجماعةُ التي فيها غلظةٌ ، كأنَّهم لكثرتهم وصفوا بذلك ، وفيه وصفُ حمار الوحش ب « حَزَابِيَة » لغلظه . والأحزابُ جمع حِزب وهو جماعة النَّاس .
فصل
قيل : في الآية حذف ، والتقدير : « أفمن كان على بيَّنةٍ من ربِّهِ كمن يريدُ الحياة الدنيا وزينتها » ، أو من كان على بيِّنةٍ من ربه كمن هو في الضَّلالةِ .
والمرادُ بالذي هو عليه بيِّنةٍ : النبي - صلوات الله وسلامه عليه - . { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } أي : يتبعه من يشهد له بصدقه .
واختلفوا في هذا الشَّاهد : فقال ابنُ عبَّاسٍ ، وعلقمة ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك وأكثرُ المفسِّرين - رضي الله عنهم - : إنَّه جبريل - عليه الصلاة والسلام - وقال الحسنُ وقتادةُ : هو لسانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى ابنُ جريج عن مجاهدٍ قال : هو ملك يحفظه ويسدده .
وقال الحسينُ بن ُ الفضلِ : هو القرآن ونظمه .
وقيل : هو عليّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال علي : « مَا مِنْ رجُلٍ من قريش إلاَّ ونزلت فيه آية من القرآن » ، فقال له رجلٌ : « أي شيء نزل فيك » ؟ قال : « ويَتْلُوهُ شاهدٌ مِنْهُ » .
وقيل : هو الإنجيلُ . و « مِنْ قَبْلِهِ » أي : من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : من قبل نزول القرآن . { كِتَابُ موسى } أي : كان كتاب موسى { إَمَاماً وَرَحْمَةً } لمن اتَّبعهُ ، أي التَّوراة ، وهي مصدقةٌ للقرآن ، شاهدةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم { أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

وقيل : أراد الذين أسْلَمُوا من أهل الكتاب .
{ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ } أي : بمحمَّد صلى الله عليه وسلم .
وقيل بالقرآن « مِنَ الأحزابِ » من الكفَّار وأهْلِ المللِ ، { فالنار مَوْعِدُهُ } اسمُ مكانِ وعده؛ قال حسَّانُ : [ البسيط ]
2953- أوْرَدْتُمُوهَا حِيَاضَ المَوْتِ ضَاحِيَةً ... فالنَّارُ مَوْعِدُهَا والمَوْتُ سَاقِيهَا
قال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ لا يسمعُ بي أحدٌ من هَذِهِ الأمَّة ، ولا يَهُودِيّ ولا نَصْرانيّ ، ومات ولَمْ يؤمنْ بالَّذِي أرْسِلْتُ به إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحابِ النَّارِ « .
{ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ } أي : شكٍّ ، و » المِرْيَة « بكسر الميم وضمِّها الشكُّ ، لغتان :
أشهرهما الكسرُ ، وهي لغة أهْلِ الحجازِ ، وبها قرأ الجمهور . والضَّمُّ لغةُ وتميم ، وبها قرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السَّدُوسي .
والمعنى : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } أي : من صحَّة هذا الدِّين ، ومن كون هذا القرآن نازِلاً من عند الله - تعالى - .
وقيل : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ } من أنَّ موعد الكفار النَّارُ .
قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } الآية .
أورده في معرض المبالغة دليلاً على أنَّ الافتراء على الله - تعالى - أعظمُ أنواع الظُّلْمِ .
{ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } [ الأنعام : 21 ] يعنى : القرآن ، » أولَئِكَ « يعنى : الكاذبين والمكذبين .
{ يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ } فيسألهم عن إيمانهم ، وخصَّهم بهذا العرض ، وإن كان العرضُ عاماً في كُلِّ العباد لقوله تعالى : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً } [ الكهف : 48 ] ؛ لأنهم يعرضون ، فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم : { هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ } فليحقهم من الخزي والنَّكالِ ما لا مزيد عليه .
و » الأشهادُ « جمعُ شاهد ، كصاحب وأصحاب ، أو جَمْعُ شهيد كشريف وأشْراف .
والمرادُ ب » الأشهادِ « قال مجاهدٌ هم الملائكة الحفظة .
وقال قتادةُ ، ومقاتلٌ : » الأشْهَادُ « النَّاس .
وقيل : الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - .
فإن قيل : إذا لمْ يجز أن يكون الله - تعالى - في مكان؛ فكيف قال { يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ } فالجوابُ : أنَّهُم يُعْرضُونَ على الأماكنِ المعدَّة للحساب ، والسؤال ، ويجُوزُ أن يعرضوا على من شاء الله من الخلقِ بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين .
ثُمَّ لمَّا أخبر عن حالهم في عقاب القيامة أخبر أنَّهُم في الحال ملعونون عند الله - عزَّ وجلَّ- .
روى عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إنَّ الله - تعالى - يُدْنِي المُؤمنَ يَوْمَ القيامةِ فيسْتُرهُ مِنَ النَّاسِ ، فيقُولُ : أي عَبْدِي أتعرفُ ذَنْبَ كذا وكذا؟ فيقول : نَعَمْ حتّى إذا قرَّرهُ بذُنُوبهِ ، قال : فإنِّي سترتُها عليْكَ في الدنيا ، وقد غفرتها لك اليوم ثُمَّ يُعْطَى كتابَ حسناتهِ ، وأمَّا الكُفَّار والمُنافقُون ، فيقُولُ الأشْهَادُ : هؤلاء الذين كذبُوا على ربِّهمْ ألا لَعْنَةُ الله على الظَّالمينَ « .

{ الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } يمنعون عن دين الله { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي : إنَّهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر ، والضَّلال ، فقد أضافُوا إليه المنع من الدِّين الحق ، وإلقاءِ الشُّبهِ وتعويج الدَّلائلِ المستقيمة؛ لأنه لا يقال في العاصي : يبغي عوجاً ، وإنما يقالُ ذلك في العالم بكيفيه الاستقامة وكيفية العوج بسبب إلقاء الشُّبهاتِ .
ثم قال : { وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ } .
قال الزَّجَّاجُ : « كرر كلمة » هُمْ « توكيداً لشأنهم في الكُفْرِ » .
{ أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ } .
قال الواحديُّ : « معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد ، يقال : أعجزني فلانٌ : أي : منعني من مرادي ، ومعنى { مُعْجِزِينَ فِي الأرض } أي : لا يمكنهم أن يهربُوا من عذابنا ، فإنَّ هربَ العبدِ من عذابِ الله - تعالى - محالٌ؛ لأنَّه - تعالى - قادرٌ على جميع الممكنات » .
وقال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - « سَابقين » .
وقال مقاتلٌ : « فائتين » .
{ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ } يعني أنْصَاراً يحفظونهم من عذابنا .
{ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } أي : يُزادُ في عذابهم . وقيل : تضعيف العذاب عليهم لإضلالهم الغير .
وقيل سبب تضعيف عذابهم أنَّهُم كفروا بالبَعْثِ والنشور .
قوله : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع } يجوز في « ما » هذه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون نافيةً ، نفى عنهم ذلك لمَّا لمْ يَنْتَفعُوا به ، وإن كانُوا ذوي أسماع وأبصار ، أو يكون متعلَّقُ السَّمْعِ والبصر شيئاً خاصاً .
والثاني : أن تكون مصدرية ، وفيها حينئذٍ تأويلان :
أحدهما : أنَّها قائمةٌ مقام الظرف ، أي : مُدة استطاعتهم ، وتكونُ « مَا » منصوبة ب « يُضاعَفُ » ، أي : لا يضاعفُ لهم العذابُ مُدة استطاعتهم السَّمْعَ والأبصار .
والثاني : أنَّها منصوبة المحلِّ على إسقاطِ حرف الجر كما يحذف من « أنْ » و « أنّ » اختيها ، وإليه ذهب الفرَّاءُ ، وذلك الجَارُّ متعلقٌ أيضاً ب « يُضَاعَفُ » أي : يضاعفُ لهم بكونهم كانوا يسمعون ، ويبصرون ، ولا ينتفعون .
والثالث : أن تكون « ما » بمعنى « الَّذي » ، وتكون على حذف حرف الجر أيضاً ، أي : بالذي كانوا ، وفيه بعدٌ لأنَّ حذف الحرفِ لا يطَّرد .
والجملة من قوله : « يُضاعَفُ » مستأنفة .
وقيل : إنَّ الضمير في قوله « مَا كَانُوا » يعودُ على « أوْليَاء » وهم آلهتهم ، أي : فما كان لهم في الحقيقةِ من أولياء ، وإن كانُوا يعتقدون أنَّهم أولياء ، فعلى هذا يكون { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } معترضاً .
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أنه سبحانه وتعالى قد يخلقُ في المكلف ما يمنعه من الإيمان .
روي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّهُ قال : إنَّه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وفي الآخرة .

أمَّا في الدنيا ففي قوله { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } .
وأمَّا في الآخرة ففي قوله - عز وجل - { وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } [ القلم : 42 ] .
ثم قال تعالى : { أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ } أي : أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله ، فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران .
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام .
قوله : « لا جَرَمَ » في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين ، ويتلخصُ ذلك في خمسة أوجهٍ :
أحدها - وهو مذهبُ الخليل وسيبويه وجماهير النَّاس - أنََهُما رُكِّبتا من « لا » النَّافية و « جَرَم » وبُنيتَا على تركيبها تركيب خمسة عشر ، وصار معناهما معنى فعل وهو « حقَّ » فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعليَّة ، فقوله - تعالى - : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } [ النحل : 62 ] أي : حق وثبت كون النَّار لهم ، أو استقرارها لهم .
الوجه الثاني : أنَّ « لا جَرَمَ » بمنزلة « لا رجُل » في كون « لا » نافية للجنس ، و « جَرَمَ » اسمها مبنيٌّ معها على الفتح ، وهي واسمها في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وما بعدها خبر « لا » النافية ، وصار معناها : لا محالة ولا بُدَّ ، قاله الفرَّاءُ .
الثالث : - كالذي قبله - إلاَّ أنَّ « أنَّ » وما بعدها في محلِّ نصبٍ ، أو جرٍّ بعد حذف الجار ، إذ التقدير : لا محالةَ أنَّهُم في الآخرة ، أي : في خسرانهم .
الرابع : أنَّ « لا » نافيةٌ لكلام متقدم تكلَّم به الكفرةُ ، فردَّ الله ذلك عليهم بقوله : « لا » كما تُرَدُّ « لا » هذه قبل القسم في قوله - عزَّ وجلَّ - { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } [ البلد : 1 ] وقوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 65 ] وقد تقدَّم تحقيقه ، ثم أتى بعدها بجملة فعلية ، وهي « جرم أنَّ لهُم كَذَا » ، و « جرم » فعل ماضٍ معناه « كسب » ، وفاعله مستتر يعودُ على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام ، و « أنَّ » وما في حيِّزها في موضع المفعول به ، لأنَّ « جَرَمَ » يتعدَّى إذْ هو بمعنى « كَسَبَ » ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
2954- نَصَبْنَا رَأْسَهُ فِي جِذْعِ نَخْلٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدَاهُ ومَا اعْتَدَيْنَا
أي : بما كسبتْ يداهُ ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة [ 6 ] وجريمةُ القوم كاسبهم؛ قال : [ الوافر ]
2955- جَرِيمةُ نَاهِضٍ فِي رَأسِ نيقٍ ... تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَلِيبا
فتقدير الآية : كَسَبَهُم - فعلهم أو قولهم - خسرانهم ، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج ، وعلى هذا فالوقفُ على قوله « لا » ثم يبتدأ ب « جَرَمَ » بخلاف ما تقدَّم .
الوجه الخامس : أن معناها لا صدَّ ولا منع ، وتكون « جَرَمَ » بمعنى « القطع » تقول : جرمتُ أي : قطعت ، فيكون « جَرَمَ » اسمَ « لا » مبنياً معها على الفتح؛ كما تقدَّم ، وخبرها « أنَّ وما في حيِّزها ، أو على حذف حرف الجر ، أي : لا منع من خسرانهم؛ فيعودُ الخلافُ المشهور وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ : فيقال : لا جِرمَ بكسر الجمي ، ولا جُرم بضمها ، ولا جَرَ بحذف الميم ، ولا ذا جرم ، ولا إنَّ ذا جرم ، ولا عن ذا جرم ، ولا أنْ جرم ، ولا ذُو جرم ، ولا ذا جر والله لا أفعل ذلك .

وعن أبي عمروٍ : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } [ النحل : 62 ] على وزن لا كرم ، يعني بضمِّ الراءِ ، ولا جرَ ، قال : « حذفُوه لكثرةِ الاستعمالِ كما قالوا : » سَو ترى « أي : سوف ترى » .
وقوله : { هُمُ الأخسرون } يجوز أن يكون « هُمُ » فصلاً ، وأن يكون توكيداً ، وأن يكون مبتدأ وما بعده خبره ، والجملةُ خبر « أنَّ » .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ } لمَّا ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم ، أتبعهُ بذكر أحوالِ المؤمنين ، والموصولُ اسم « إنَّ » ، والجملةُ من قوله { أولئك أَصْحَابُ الجنة } خبرها .
والإخْبَاتُ : الاطمئنان والتذلُّل ، والتَّواضع ، والخضوع ، وأصله من الخَبْتِ وهو المكانُ المطمئنُّ ، أي المنخفضُ من الأرض ، وأخْبَتَ الرَّجلُ : دخل في مكانٍ خبت ، كأنْجَدَ وأتهم إذا دخل في أحذ هذين المكانين ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فيه فقيل : خَبَتَ ذكرهُ ، أي : خَمَدَ ، ويقال للشَّيءِ الدَّنيء الخبيث؛ قال الشاعر : [ الخفيف ]
2956- يَنْفَعُ الطَّيِّبُ القليلُ مِنَ الرِّزْ ... قِ ولا ينفعُ الكثيرُ الخَبِيتُ
هكذا ينشدون هذا البيت في هذه المادة ، الزمخشري وغيره .
والظَّاهرُ أن يكون بالثَّاءِ المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطَّيِّب ، ولكن الظَّاهر من عباراتهم أنَّه بالتاء المثناة لأنَّهُم يسوقونهُ في هذه المادةِ ، ويدل على أنَّ معنى البيت إنما هو على الثَّاء المثلثة قول الزمخشري : « وقيل : التَّاءُ فيه بدل من الثَّاءِ » .
ومن مجيء « الخَبْت » بمعنى المكان المطمئن قوله : [ الوافر ]
2957- أفَاطِمُ لَو شَهِدْتِ ببطْنِ خَبْتٍ ... وقَدْ قَتَلَ الهزَبْرُ أخَاكِ بِشْرَا
وفي تركيب البيت قلقٌ ، وحلُّهُ : لو شهدتِ أخاك بشراً وقد قتل الهِزَبْرَ ، ففاعل « قتل » ضمير يعودُ على « أخاك » .
و « أخْبَت » يتعدَّى ب « إلى » كهذه الآية ، وباللاَّم كقوله تعالى : { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } [ الحج : 54 ] ومعنى الآية :
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - خافُوا .
وقال قتادةُ : تابُوا وقال مجاهدٌ : اطمأنُّوا .
وقيل : خشعُوا إلى ربِّهم . { أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)

لمَّا ذكر الفريقين ذكر لهما مثالاً مطابقاً .
{ مَثَلُ الفريقين } مبتدأ ، و { كالأعمى } خبره ، ثُمَّ هذه الكاف يحتمل أن تكون هي نفس الخبر ، فتقدَّر ب « مثل » ، تقديره : مثلُ الفريقين مثل الأعمى .
ويجوزُ أن تكون « مَثَلُ » بمعنى « صفة » ، ومعنى الكافِ معنى « مِثْل » ، فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ ، أي : كمثل الأعمى .
وقوله : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى } يجوزُ أن يكون من باب تشبيه شيئين بشيئين ، فقابل العمى بالبصَرِ ، والصَّمَم بالسَّمْع ، وهو من الطِّباق ، وأن يكون من تشبيه شيءٍ واحد بوصفيه بشيءٍ واحدٍ بوصفيه ، وحينئذٍ يكون قوله : { كالأعمى والأصم } وقوله : { والبصير والسميع } من بابِ عطف الصفات؛ كقوله : [ المتقارب ]
2958- إلى المَلكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ ... وليْثِ الكتيبَةِ في المُزْدَحَمْ
وقد أحسن الزمخشريُّ في التَّعبير عن ذلك فقال : شبَّه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصيرِ والسَّميعِ ، وهو من اللفِّ والطِّباق ، وفيه معنيان : أن يُشَبِّه الفريقين تشبيهين اثنين ، كما شبَّه امرؤُ القيس قلوبَ الطَّير بالحشفِ والعُنَّاب ، وأن يُشَبِّه بالذي جمع بين العمى والصَّمم ، والذي جمع بين البصرِ والسَّمعِ ، على أن تكون الواو في « والأصَمِّ » وفي « والسَّمِيع » لعطف الصِّفةِ على الصفة كقوله : [ السريع ]
2959- . . . الصْ ... صَابحِ فالغَانِمِ فالآيِبِ
يريد بقوله : « اللَّف » أنه لفَّ المؤمنين ، والكافرين اللَّذين هما مشبَّهان بقوله : « الفريقين » ولو فسَّرهما لقال : مثلُ الفريق المؤمن كالبصيرِ والسَّميع ، ومثلُ الكافر كالأعمى والأصم ، وهي عبارةٌ مشهورةٌ في علم البيان : لفظتان متقابلتان ، اللَّفُّ والنشرُ ، أشار لقول امرىء القيس : [ الطويل ]
2960- كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْر رَطْباً ويَابِساً ... لَدَى وكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
أصلُ الكلامِ : كأنَّ الرَّطْبَ من قلوب الطَّيرِ : العُنَّابُ ، واليابس منها : الحَشَفُ ، فلفَّ ونشر ، وللّف والنشر في علم البيان تقسيمٌ كثير ، ليس هذا موضعه .
وأشار بقوله : « الصَّابح فالغانم » إلى قوله : [ السريع ]
2961- يَا وَيْحَ زيَّابةَ لِلْحَارثِ الصْ ... صَابِحِ فالغَانمِ فالآيِبِ
وقد تقدَّم ذلك في أول البقرة .
فإن قيل : لِمَ قدّضم تشبيه الكافر على المؤمن؟
فالجوابُ : لأنَّ المتقدِّمَ ذكر الكفَّار ، فلذلك قدَّم تمثيلهم .
فإن قيل : ما الحكمةُ في العدول عن هذا التركيب لو قيل : كالأعمى والبصير ، والأصم والسَّميع ، لتتقابل كلُّ لفظةٍ مع ضدها ، ويظهر بذلك التَّضادُّ؟ .
فالجوابُ : بأنَّه تعالى لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعهُ بانسدادِ الأذن ، ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعهُ بانفتاح الأذن ، وهذا التَّشبيهُ أحدُ الأقسام ، وهو تشبيهُ أمْرٍ معقول بأمر محسوس ، وذلك أنَّهُ شبَّه عمى البصيرة وصممها بعمى البصرِ وصمم السَّمع ، ذاك متردِّدٌ في ظُلمِ الضَّلالات ، كما أنَّ هذا مُتحير في الطُّرقاتِ .
قوله : مَثَلاً « تمييز ، وهو منقولٌ من الفاعليَّة ، والأصلُ : هل يستوي مثلهما ، كقوله تعالى { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] وجوَّز ابنُ عطية أن يكون حالاً ، وفيه بعدٌ صناعةً ومعنى؛ لأنَّه على معنى » مِنْ « لا على معنى » في « .
ثم قال : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } مُنَبِّهاً على أنَّهُ يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصَّمَم ، وإذا كان العلاجُ مُمْكناً ، وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } الآية .
اعلم أنَّه جرت عادته - تعالى - في القرآن بأنَّهُ إذا أورد على الكافر الدَّلائل أتبعها بالقصص ليُؤكِّد تلك الدَّلائل ، وقد بدأ بذكر هذه القصَّة ليُؤكِّد تلك الدَّلائل ، وقد بدأ بذكر هذه القصَّة في سورة يونس ، وأعادها ههنا لما فيها من زوائد الفوائد .
قوله { إِنَّي لَكُمْ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح همزة « إني » ، والباقون بكسرها .
فأمَّا الفتحُ فعلى إضمارِ حرفِ الجرِّ ، أي : « بأنِّي لَكُمْ » .
قال الفارسيُّ : في قراءةِ الفتح خروجٌ من الغيبةِ إلى المخاطبةِ .
قال ابن عطيَّة : وفي هذا نظر ، وإنَّما هي حكايةُ مخاطبته لقومه ، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبةٍ إلى مخاطبة ، ولو كان الكلامُ أن أنذرهم ونحوه لصحَّ ذلك .
وقد قال بهذه المقالة - أعني الالتفات - مكي - فإنَّهُ قال : الأصل : بأنِّي ، والجارُّ والمجرور في موضع المفعول الثاني ، وكان الأصلُ : أنَّهُ ، لكنَّهُ جاء على طريق الالفتات .
ولكن هذا الالتفات غيرُ الذي ذكره أبو علي ، فإنَّ ذلك من غيبة إلى خطابٍ ، وهذا من غيبةٍ إلى تكلم وكلاهما غير محتاج إليه ، وإن كان قولُ مكي أقربَ .
وقال الزمخشري : الجارُّ والمجرور صلةٌ لحالٍ محذوفة ، والمعنى : أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام ، وهو قوله : { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } بالكسر ، فلمَّا اتصل بها الجارُّ فُتِح كما فتح « كأنَّ » والمعنى على الكسر في قولك « إنَّ زيداً كالأسد » ، وأمَّا الكسرُ ، فعلى إضمار القول ، أي : فقال ، وكثيراً ما يُضْمر ، وهو غني عن الشَّواهد .
و « النذيرُ » قيل : المرادُ به كونه مهدداً للعصاة بالعقاب ، ومن المبين كونه مبيناً ما أعد الله للمطيعين من الثواب ، وأنه يبين ذلك الإنذار على أكمل طرقه ، ثم بيَّن تعالى أنَّ ذلك الإنذار إنما هو بنهيهم عن عبادة غير الله ، والأمر بعبادته - جل ذكره -؛ لأنَّ قوله { أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله } استثناء من النَّهْي ، فهو يوجب نفي غير المستثنى ، وإيجاب المستثنى .
قوله : { أَن لاَّ تعبدوا } كقوله : { أَن لاَّ تعبدوا } في أول السورة ، ونزيد هنا شيئاً آخر ، وهو أنَّها على قراءةِ من فتح « أني » تحتملُ وجهين :
أحدهما : أن تكون بدلاً من قوله : « أنِّي لَكُم » ، أي أرْسلناهُ بأن لا تَعْبُدُوا .
والثاني : أن تكون مفسِّرة ، والمفسَّر بها : إمَّا « أرْسَلناهُ » وإما « نَذِيرٌ » .
وأمَّا على قراءة من كسر فيجوزُ أن تكون المصدرية وهي معمولةٌ ل « أرسلنا » ويجوزُ أن تكون المفسرة بحاليها .
قوله : « أليم » إسناد الألم إلى اليوم مجازٌ مثله؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو المعذِّب ، ونظيرها قولك نهارُكَ صائمٌ .

قال أبُو حيَّان : « وهذا على أن يكون » ألِيم « صفةُ مبالغةٍ من » ألِمَ « وهو من كثر ألمه ، وإن كان » ألِيم « بمعنى : » مُؤلم « فنسبته لليوم مجازٌ وللعذاب حقيقة » .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - بعث نوح بعد أربعين سنة ، ولبث يَدعو قومه تسع مائة وخمسين سنة ، وعاش بعد الطُّوفانِ ستين سنة ، فكان عمره ألفاً وخمسين سنة .
وقال مقاتلٌ : بعث وهو ابن مائة سنة .
وقيل : بعث وهو ابن خمسين سنة .
وقيل : ابن مائتين وخمسين سنة ، ومكث يدعو قومه تسعمائة سنة ، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة ، فكان عمره ألفاً وأربع مائة سنة .
قوله : { فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } .
« المَلأُ » هم الأشراف والرُّؤساء . « مَا نَراكَ » يجوزُ أن تكون هذه الرُّؤيا قلبيةً ، وأن تكون بصريةً . فعلى الأول تكون الجملةُ من قولك : « اتَّبَعَكَ » في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً ، وعلى الثَّاين في محل نصب على الحال ، و « قَدْ » مقدرةٌ عند من يشترط ذلك .
و « الأراذِلُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ جمع الجمع .
والثاني : جَمْعٌ فقط .
والقائلون بالأول اختلفوا فقيل : جمع ل « أرْذُلٍِ » ، و « أرْذُل » جمع ل « رَذْلٍ » نحو : كَلْب وأكْلُب وأكالب .
وقيل : بل جمع ل « أرْذَال » ، و « أرْذَال » جمع ل « رَذْل » أيضاً .
والقائلون بأنه ليس جمع جمع ، بل جمعٌ فقط قالوا : هو جمعٌ ل « أرْذل » ، وإنَّما جاز أن يكون جَمْعاً لأرذل لجريانه مَجْرَى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفه كالأبْطَح والأبرق .
وقال بعضهم : هو جمع « أرْذَل » الذي للتفضيل ، وجاء جمعاً كما جاء { أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا } [ الأنعام : 123 ] و « أحاسنكم أخلاقاً » .
ويقال : رجل رَذْل ورُذَال ، ك « رَخْل » و « رُخَال » وهو المرغوبُ عنه لِردَاءتِهِ .
قال الواحديُّ : هُمُ الدُّونُ من كُلِّ شيءٍ في منظره وحالاته . والأصلُ فيه أن يقال هو أرْذَلُ من كذا فكثُرَ حتى قالوا : هو الأرْذَلُ ، فصارت الألف واللاَّم عوضاً عن الإضافة .
قوله : « بَادِيَ الرَّأي » قرأ أبو عمرو وعيسى الثَّقفيُّ « بَادِىءَ » بالهمز ، والباقون بياءٍ صريحة مكان الهمزة . فأما الهمزُ فمعناه : أول الرَّأي ، أي : أنَّه صادرٌ عن غير رويَّةٍ وتأمُّل ، بل من أولِ وهلةٍ . وأمَّا مَنْ لَمْ يهمز؛ فيحتمل أن يكون أصلُه كما تقدَّم ، ويحتملُ أن يكون من بدا يبدُو أي ظَهَر ، والمعنى : ظاهر الرَّأي دون باطنه ، أيك لوْ تُؤمِّل لعُرِفَ باطنه ، وهو في المعنى كالأولِ .
وفي انتصابه على كلتا القراءتين سبعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ وفي العامل فيه على هذا ثلاثة أوجه :
أحدها : « نَرَاكَ » ، أي : وما نَراكَ في أول رأينا ، على قراءة أبي عمرو ، أو فيما يظْهَر لنا من الرأي في قراءة الباقين .

والثاني - من الأوجه الثلاثة - : أن يكون منصوباً ب « اتَّبَعَكَ » ، أي : ما نَرَاكَ اتَّبعَكَ أول رأيهم ، أو ظاهر رأيهم ، وهذا يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يريدوا اتبعوك في ظاهر أمرهم ، وبواطنهم ليست معك .
والثاني : أنَّهُم اتَّبعُوكَ بأول نظرٍ ، وبالرَّأي البَادِي دُونَ تَثَبُّت ، ولو تثبتُوا لما اتَّبَعُوك .
الثالث - من الأوجه الثلاثة - أنَّ العامل فيه « أرَاذِلُنَا » والمعنى : أراذِلُنَا بأولِ نظرٍ منهم أو بظاهر الرَّأي نعلم ذلك ، أي : إنَّ رزالتهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحاب حرفٍ دنيَّة .
والرَّأي على هذا من رأي العين لا من رأي القلب ، ويتأكَّدُ هذا بما نُقل عن مجاهد أنَّهُ قرأ « إلاَّ الذينَ هُمْ أرَاذِلُنَا بادِيَ رَأي العَيْنِ » .
ثم القائل بكون « بَادِيَ » ظرفاً يحتاج إلى اعتذار ، فإنَّهُ اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصلِ ، قال مكيّ : وإنَّما جاز أن يكون فاعل ظرفاً كما جاز ذلك في « فَعِيل » نحو : قَرِيب ومليء ، و « فاعل وفعيل » متعاقبان ك : رَاحِم ورَحِيم ، وعَالِم وعَلِيم ، وحسُن ذلك في « فَاعِل » لإضافته إلى الرأي ، والرأي يضاف إليه المصدر ، وينتصبُ المصدرُ معه على الظَّرْفِ نحو : « أمَّا جَهْدُ رأي فإنَّك منطلقٌ » أي : « في جَهْد » .
قال الزمخشريُّ : وانتصابه على الظَّرف ، أصله : وقْتَ حُدُوثِ أوَّلِ أمرهم ، أو وقتَ حدوثِ ظاهرِ رأيهم ، فحذفَ ذلك وأقم المضافُ إليه مقامه .
الوجه الثاني - من السَّبعة - : أن لا ينتصب على المفعول به ، حذف معه حرفُ الجر مثل : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] .
وفيه نظرٌ من حيث إنَّه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدِّي إلى اثنين ، إلى ثانيهما بإسقاط الخافضِ .
الثالث من السَّبعة : أن ينتصب على المصدر ومجيء المصدر على فاعل أيضاً ليس بالقياس ، والعامل في هذا المصدر كالعامل في الظَّرف كما تقدَّم ، ويكون من باب ما جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه ، تقديره : رُؤية بدءٍ : أو ظهور ، أو اتباع بدءٍ أو ظهور ، أو رذالة بدءٍ .
الرابع من السبعة : أن يكون نعتاً ل « بَشَر » ، أي : ما نَراكَ إلاَّ بشراً مثلنا بادِيَ الرأي ، أي : ظاهرهُ ، أو مبتدئاً فيه . وفيه بعدٌ للفصل بين النَّعْتِ والمَنْعُوتِ بالجملة المعطوفة .
الخامس : أنَّهُ حالٌ من مفعول « اتَّبَعَكَ » ، أي : وأنت مكشوفُ الرَّأي ظاهرهُ لا قُوةَ فيه ، ولا حصانة لك .
السادس : أنه منادى والمراد به نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - ، كأنَّهُم قالوا : يا بَادِي الرَّأي ، أي : ما في نفسك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به ، والاستقلال له .

السابع : أنَّ العامل فيه مضمر ، تقديره : أتقُولُ ذلك بادي الرَّأي ، ذكره أبُو البقاءِ ، والأصلُ عدم الإضمار مع الاستغناء عنه ، وعلى هذه الأوجه الأربعة الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويلٍ ، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنَّهُ ظرفٌ أو مصدرٌ . واعلم أنَّك إذا نصبت « بَادِيَ » على الظرف أو المصدر بما قبل « إلاَّ » احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال ، نصبت « بَادِيَ » على الظرف أوالمصدر بما قبل « إلاَّ » احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال ، وهو أنَّ ما بعد « إلاَّ » لا يكون معمولاً لما قبلها ، إلاَّ إن كان مستثنى منه نحو : مَا قَامَ إلاَّ زيداً القومُ ، أو مستثنى نحو : قَامَ القومُ إلاَّ زيداً ، أو تابعاً للمستثنى منه نحو : ما جاءني أحَدٌ إلاَّ زيدٌ أخيرُ من عمرو و « بَادِي الرَّأي » ليس شيئاً من ذلك .
قال مكي : لو قلت في الكلام : ما أعْطَيْت أحَداً إلا زَيْداً درهماً؛ فأوقعت اسمين مفعولين بعد « إلاَّ » لم يَجُزْ؛ لأنَّ الفعل لا يصلُ ب « إلاَّ » إلى مفعولين ، إنَّما يصل إلى اسم واحدٍ كسائر الحروفِ ، ألا ترى أنَّك لو قلت : مررتُ بزيدٍ عمرو فأوصلت الفعل إليهما بحرفٍ واحدٍ لم يَجز ، ولذلك لو قلت : استوى الماءُ والخشبة الحائط فتنصب اسمين بواو « مع » لمْ يَجُزْ إلاَّ أن تأتيَ في جميع ذلك بواو العطف ، فيجوز وصولُ الفعل .
والجوابُ الذي ذكرهُ هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرها ، وهذا جماعُ القولِ في هذه المسألة باختصارٍ .
والرَّأيُ : يجوزُ أن يكون من رُؤية العيْنِ أو من الفكرة والتَّأمُّل .
فصل
اعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - حكى عن قوم نُوحٍ - عليه الصلاة والسلام - شُبُهَاتٍ :
الأولى : أنَّهُم قالوا : إنَّه بشرٌ مثلهم ، وأنَّ التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم وجب الطَّاعة لجميع العاملين .
الثانية : كونه ما اتبعه إلاَّ الأراذل من القوم كالحياكةِ ، وأصحاب الصنائع الخسيسة؛ فلو كنت صادقاً لاتبعك الأشراف والرؤساء ، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] .
الثالثة : قولهم : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } لا في العَقْلِ ولا في رعايةِ المصالحِ العاجلة ولا في قوَّةِ الجدلِ فإذا لم نشاهد فضلك في شيءٍ من هذه الأحوال الظاهرة؛ فكيف نعترف بفضلك في أشرف الدرجات .
واعلم أنَّ الشُّبْهَة الأولى لا تليقُ إلاَّ بالبراهمةِ الذين ينكرون نبوَّة البشر على الإطلاقِ ، وتقدَّم الكلامُ على « الملأ » وتقدم الكلام على الشبهة الأولى في الأنعام في الأعراف [ 66 ] .
واعلم أنَّه لو بُعِثَ إلى البشر ملكاً رسولاً لكانت الشبهةُ أقوى في الطَّعْنِ عليه في رسالته؛ لأنَّهُ يخطر بالبال أنَّ هذه المعجزة التي ظهرت على يدِ هذا الملك أتى بها من عند نفسه؛ لأنَّ قوَّتهُ أكمل؛ فلهذا ما بعث الله إلى البشر رسُولاً إلاَّ من البشر .

وأمَّا قولهم { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } فهذا أيضاً جهلٌ؛ لأنَّ الرِّفعة في الدِّين لا تكون بالحسبِ ولا بالمالِ ، ولا بالمناصب العاليةِ ، بل الفقر أهونُ على الدِّين من الغنى ، والأنبياء ما بعثُوا إلا لترْكِ الدُّنيا والإقبالِ على الآخرةِ ، فكيف يجعل الفقرُ في الدُّنيا طَعْناً في النبوةِ والرسالة .
وأمَّا قولهم : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } فهو أيضاً جهلٌ؛ لأنَّ الفضيلة المعتبرة عند الله - تعالى - ليست إلاَّ بالعلم والعمل ، فكيف اطَّلَعُوا على بواطن الخَلْق حتَّى عرفوا نفي هذه الفضيلة .
ثم قال لنُوح وأتباعه { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } وهذا خطاب مع نوحٍ وقومه ، والمرادُ منه تكذيب نوح في دَعْوَى الرِّسالة .
وقيل : خطاب مع الأرَاذِلِ ، أي كذَّبُوهم في إيمانهم .
قوله تعالى : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } .
وهذا جوابٌ عن شبهتهم الأولى ، والمعنى : أنَّ حصول المساواةِ في البشريَّةِ لا يمنع من حصولِ المفارقةِ في صفةِ النبوة والرسالةِ ، وذكر الطَّريق الدَّال على إمكانه ، وهو كونهُ على بيِّنةٍ من معرفةِ الله وصفاته - سبحانه - وما يجبُ وما يمتنعُ وما يجوزُ { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } وهي إمَّا النبوة ، وإمَّا المعجزة الدَّالة على النبوَّة { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : صارت مظنة خفيت ، والتبست عليكم .
قوله : « مِّن ربي » نعتٌ ل « بَيِّنَة » ، أي : بَيِّنَةٌ من بيِّنات ربِّي .
قوله : « رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ » يجُوزُ في الجارِّ أيضاً أن يكون نعتاً ل « رَحْمَةً » وأن يكون متعلقاً ب « آتَانِي » .
قوله : « فَعُمِّيَتْ » قرأ الأخوان وحفص بضمِّ العين وتشديد الميم ، والباقون بالفتح ، والتخفيف . فأمَّا القراءة الأولى فأصلها : عماهَا اللهُ عليكم ، أي : أبْهمها عقوبة لكم ، ثُمَّ بُنِيَ الفعل لما لَمْ يُسَمَّ فاعله ، فحذف فاعله للعلم به وهو الله تعالى ، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرَّحْمَة مقامه ويدل على ذلك قراءةُ أبَيّ بهذا الأصل « فَعمَاهَا اللهُ عَليْكُم » .
ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلمي « فَعَمَاهَا » من غير ذكرِ فاعلٍ لفظي .
وروي عن الأعمش وابن وثاب « وعُمِّيَتْ » بالواو دون الفاء .
وأمَّا القراءة الثانية فإنَّه أسْنَدَ الفعل إليها مجازاً .
قال الزمخشريُّ : فإذا قلتَ ما حقيقته؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جُعِلتْ بصيرةً ومُبْصرة ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } [ النمل : 13 ] جعلت عمياء ، قال تعالى : { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } الآية؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتَدي ولا يَهْدِي غيرهُ ، فمعنى فَعَمِيتْ عليكم البيِّنةُ : فَلمْ تَهْدِكُم كما لو عَمِيَ على القوم دليلهم في المفازَةِ بَقُوا بِغَيْر هادٍ .
وقيل : هذا من باب القلبِ ، وأصلها فعَميتم أنتم عنها كما تقول : أدخلتُ القلنسوة في رَأسِي ، وأدخلت الخاتم في إصبعي ، وهو كثيرٌ ، وقد تقدَّم الخلافُ فيه ، وأنشدوا على ذلك : [ الطويل ]

2962- تَرَى النَّوْرَ فيها مُدْخلَ الظِّلِّ رَأسَه ..
قال أبُو علي : وهذا ممَّا يُقْلَبُ ، إذ ليس فيه إشكال ، وفي القرآن { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } [ إبراهيم : 47 ] .
وبعضهم يخرِّجُ البيت على الاتِّساع في الظَّرْفِ .
وأمَّا الآيةُ ف « أخْلَفَ » يتعدَّى لاثنين ، فأنت بالخيار : أن تُضيفَ إلى أيِّهما شئتَ فليس من باب القَلْبِ .
وقد ردَّ بعضهم كون هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب « عَنْ » دُونَ « عَلَى » ، ألا ترى أنك تقولك « عَمِيتُ عن كذَا » لا « عَلَى كَذَا » .
واختلف في الضَّمير في « عُمِّيَتْ » هل هو عائدٌ على « البَيِّنة » ، أو على « الرَّحْمَة » ، أو عليهما معاً؟ .
وجاز ذلك - وإن كان بلفظ الإفراد - لأنَّ المراد بهما شيءٌ واحد ، وإذا قيل بأنه عائدٌ على « البيِّنة » فيكون قوله { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } جملة معترضة بين المتعاطفين ، إذ حقُّهُ ، { على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ } .
قال الزمخشريُّ : وآتَانِي رحْمَةً بإتيان البيِّنة ، على أنَّ البيِّنة في نفسها هي الرَّحمة ، ويجوزُ أن يُرَادَ بالبيِّنةِ المعجزة ، وبالرَّحمة النبوَّة .
فإن قلت : فقوله « فعُمِّيَتْ » ظاهر على الوجهِ الأوَّلِ فما وجهه على الوجه الثاني ، وحقُّه أن يقال : فَعَمِيتَا؟ قلت : الوجهُ أن يُقدَّرَ : فعُمِّيَتْ بعد البيِّنة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة . انتهى وقد تقدَّم الكلامُ على « أرأيْتُمْ » هذه في الأنعام ، وتلخيصهُ هنا أنَّ « أرأيتُم » يطلب « البيِّنة » منصوبةً وفعل الشَّرط يطلبها مجرورةً ب « عَلَى » فأعمل الثَّاني وأضمر في الأول ، والتقدير : أرأيْتُم البيِّنة من ربِّي إن كنتُ عليها أنلزِمُكمُوهَا ، فحذف المفعولُ الأوَّل ، والجملةُ الاستفهاميَّة هي في محلِّ الثاني ، وجواب الشرط محذوفٌ للدَّلالةِ عليه .
قوله : « أنُلْزمُكُمُوهَا » أتى هنا بالضَّميرين متصلين ، وتقدَّم ضميرُ الخطاب؛ لأنَّهُ أخص ، ولو جِيءَ بالغائب أولاً لانفصل الضَّميرُ وجوباً . وقد أجاز بعضهم الاتِّصال واستشهد بقول عثمان « أراهُمُني الباطل شَيْطَاناً » .
وقال الزمخشريُّ : يجوزُ أن يكون الثاني منفصلاً كقوله : « أنُلْزِمكم إيَّاهَا » ونحوه { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] ويجوز « فَسَيكفيك إيَّاهُمْ » ، وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضهم منعهُ .
وإشباعُ الميم في مثل التركيب واجبٌ ، ويضعف سكونها ، وعليه « أرَاهُمْني البَاطِل » .
وقال أبُو البقاءِ : وقرىء بإسكان الميم فراراً من توالي الحركات فقوله هذ يحتمل أن يكون أراد سكون ميم الجمع؛ لأنَّه قد ذكر ذلك بعدما قال : « ودخلتِ الواوُ هُنَا تتمَّةٌ للميم ، وهو الأصلُ في ميم الجمع ، وقرىء بإسكان الميم » انتهى .

وهذا إن ثبت قراءةً فهو مذهبٌ ليونس : يُجوَّزُ الدِّرهمَ أعطيتكه ، وغيره يأباه .
ويحتملُ أن يريد سكون ميم الفعل ، ويدلُّ عليه ما قال الزجاج .
أجمع النَّحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإعراب إلاَّ في ضرورة الشعر ، فأمَّا ما رُوي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء ، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركة ويختلسُها ، وهذا هو الحقُّ وإنما يجُوزُ الإسكانُ في الشعر نحو قول امرىء القيس : [ السريع ]
2963- فاليَوْمَ أشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ..
وكذا قال الزمخشري أيضاً .
وحكى عن أبي عمرو إسكانُ الميم ، ووجهه أنَّ الحركة لم تكن إلاَّ خلسةً خفيفةً ، فظنَّها الرَّاوي سُكُوناً ، والإسكانُ الصَّريحُ لحنٌ عند الخليل ، وسيبويه ، وحُذَّاقِ البصرييين؛ لأنَّ الحركة الإعرابية لا يُسَوَّغ طرحها إلاَّ في ضرورة الشِّعْرِ .
قال شهابُ الدِّين : وقد حكى الكسائيُّ والفرَّاءُ : « أنُلُزِمْكُمُوهَا » بسكون هذه الميم ، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة البقرة [ 54 ] ، أعني تسكين حركةِ الإعرابِ فكيف تجعلونه لحْناً؟ .
و « ألزم » يتعدَّى لاثنين ، أولهما ضمير الخطاب ، والثاني ضمير الغيبة .
و { وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } جملة حالية ، يجوز أن تكون للفاعل ، أو لأحدِ المفعولين .
وقدَّم الجارَّ لأجْل الفواصل ، وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالفةٌ للسَّواد أضْرَبْتُ عنها لذلك .
والمعنى : « أنلزمكم البينة ، وأنتم لها كَارهُون لا تُريدُونهَا » . قال قتادةُ : « لو قدر الأنبياء أن يُلزموا قومهُم لألزموا ، ولكن لم يقدروا » .
قوله تعالى : { وياقوم لاا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً } .
الضَّمير في « عَلَيْهِ » يجوزُ أن يعود على الإنذار والمفهوم من « نَذِيرٌ » ، وأن يعودَ على الدِّين الذي هو الملَّة ، وأن يعود على التَّبليغ .
وهذا جوابٌ على الشُّبهةِ الثانية ، وهي قولهم : اتَّبَعَك الأرَاذل ، فقال : أنا لا أطلبُ على تبليغِ الرِّسالةِ مالاً حتَّى يتفاوت الحالُ بسبب كون المستجيب فقيراً ، أو غنياً ، وإنما أجري علَى هذه الطاعة على رب العالمين ، وإذا كان كذلك فسواء كان غنياً أو فقيراً ، لم يتفاوت الحال في ذلك .
ويحتمل أنَّه قال لهم : إنكم لمَّا نظرتم إلى هذه الأمور وجدتُمُوني فقيراً ، وظننتم أنِّي إنما أتيت بهذه الأمور لأتوسَّل بها إلى أخذ أموالكم ، وهذا الظَّن منكم خطأ ، وإنِّي لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجْراً ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 109 ] .
قوله : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين } قرىء « بطَاردٍ الذينَ » بتنوين « طارد » .
قال الزمخشري : على الأصل يعنى أنَّ أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العملُ وهو ظاهرُ قول سيبويه .
قال أبُو حيَّان : يُمكن أن يقال : ألأصل الإضافةُ لا العَمَلُ ، لأنَّهُ قد اعتورهُ شَبَهَان :
أحدهما : الشبه بالمضارع وهو شبهٌ بغير جنسه .
والآخر : شبههُ بالأسماءِ إذا كانت فيه الإضافةُ؛ فكان إلحاقه بجنسه أولى .
وقوله : { إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } استئنافٌ يفيدُ التَّعليل ، وقوله : « تَجْهَلُون » صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفته لا يفيدُ ، وأتى بها فعلاً ليدلَّ على التَّجدُّد كلَّ وقتٍ .

فصل
قوله : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا } كالدَّليل على أنَّ القوم سألوه لئلاَّ يشاركوا الفقراءَ ، فقال صلى الله عليه وسلم : « ومَا أنَا بطارِدِ الذين آمنُوا » ، وأيضاً قولهم { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } كالدَّليل على أنَّهم طلبوا منه طردهم؛ فكأنَّهم يقولون لو اتَّبَعَك الأشراف لوافقناهم .
ثمَّ ذكر ما يوجب الامتناع من طردهم ، وهو أنَّهم ملاقُو ربِّهم ، وهذا الكلامُ يحتملُ وجوهاً :
منها : أنَّهُم قالوا إنَّهم منافقون فيما أظهروا فلا تغترَّ بهم؛ فأجاب بأنَّ هذا الأمر ينكشفُ عند لقاءِ ربِّهم في الآخرة .
ومنها : أنَّهُ جعله علَّة في الامتناع من الطَّرْدِ ، وأراد أنهم ملاقو ربِّهم ما وعدهم ، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة .
ومنها : أنَّهُ نَبَّه بذلك على أنَّا نجتمع في الآخرة؛ فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني .
ثم بيَّن أنَّهم يَبْنُون أمرهُم على الجَهْلِ بالعواقب والاغترارِ بالظَّواهرِ فقال : { ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } .
ثم قال : { وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ } [ هود : 30 ] من يمنعني من عذاب الله { إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } تتَّعِظُونَ .
والمعنى : على أنَّ العقل والشرع تطابقا على تعظيم المؤمن التَّقي ، وإهانةِ الفَاجرِ ، فلو عظَّمْتُ الكافر وطردتُ المؤمن وأهنتهُ كنت على ضِدّ دين الله؛ فأسْتوْجبُ حينئذٍ العقابَ العظيمَ ، فمن الذي ينصُرُني من الله ، ومن الذي يُخَلِّصُني من عذابِ الله .
واحتجَّ قوم بهذه الآية على صُدُورِ الذَّنب من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقالوا دلَّت الآيةُ على أنَّ طردَ المؤمنين لطلب مرضاة الكفار معصية ، ثم إن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله - عزَّ وجلَّ - في قوله : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } [ الأنعام : 52 ] .
زالجوابُ : يحمل الطَّرد المذكور في هذه الآية على الطَّرد المطلق المؤبَّدِ ، والطَّرد المذكور في واقعة محمدٍ - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - على المُقيَّدِ في أوقاتٍ معينةٍ رعاية للمصلحة .
ثُمَّ أكَّدَ هذا البيان فقال : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله } فآتي منها ما تطلبون ، { وَلاَ أَعْلَمُ الغيب } فأخبركم بما تُريدُونَ .
وقيل : إنَّهم لمَّا قالوا لنوح : إنَّ الذين آمنُوا بك إنَّما اتَّبَعُوكَ في ظاهر ما ترى منهم ، فأجابهم نوح - عليه الصلاة والسلام - فقال : لا أقول لكم : عِنْدِي خزائن غيوب الله التي يعلم منها ما يضمره الناس ، ولا أعلم علم الغيب فأعلم ما يسرونه في نفوسهم ، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم ، { وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } هذا جواب لقولهم : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } [ هود : 27 ] وقيل معناه : لا أقولُ إنِّي ملكٌ حتَّى أتعظَّمَ بذلك عليكم ، بل طريقي الخضوع والتَّواضع ، ومن كان طريقه كذلك فإنَّهُ لا يستنكفُ عن مخالطةِ الفقراءِ والمساكين .

واحتجَّ قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكةِ على الأنبياء قالوا : لأنَّ الإنسان إذا قال : لا أدَّعي كذا وكذا ، إنما يحسنُ إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل . ثم أكَّدَ هذا البيان بطريق آخر فقال : { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً } وهذا كالدلالة على أنهم يعيبون أتباعهم ، ويحتقرونهم ، فقال : لا أقولُ للذين يحتقرونهم : لن يؤتيهم الله خَيْراً ، أي : توفيقاً وإيماناً وأجراً { الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ } لأنَّ ذلك من باب الغَيْبِ لا يعلمه إلا الله ، فربَّما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله خير مُلكٍ في الآخرة؛ فأكون كاذباً فيما أخبرتُ به ، فإن فعلتُ ذلك كنتُ من الظَّالمينَ لنفسي .
وقوله : { وَلاَ أَعْلَمُ الغيب } الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة لا محلَّ لها عطفاً على قوله : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ } كأنَّه أخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث . وقد تقدَّم في الأنعام أنَّ هذا هو المختار ، وأنَّ الزمخشري قال : « إنَّ قوله تعالى : { وَلاَ أَعْلَمُ الغيب } معطوفٌ على { عِندِي خَزَآئِنُ الله } أي : لا أقول : عندي خزائنُ الله ، ولا أقولُ : أنَا أعلمُ الغَيْبَ » .
قوله : « تَزْدَرِي » تفتعل من زَرَى يَزْرِي ، أي : حَقَرَ ، فأبدلت تاءُ الافتعال دَالاً بعد الزَّاي وهو مطرد ، ويقالك « زَرَيْتُ عَليْهِ » إذا عبته ، و « أزْرَيْتُ بِهِ » أي : قصَّرت به . وعائدُ الموصول محذوفٌ ، أي تَزْدَرِيهم أعينكم ، أي : تحتقرهم وتُقَصِّر بهم؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
2964- تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فتزْدَرِيهِ ... وفِي أثْوابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ
وقال الشارع أيضاً : [ الوافر ]
2965- يُبَاعدهُ وتزْدَريهِ ... حَليلتُهُ وينْهَرهُ الصَّغِير
واللاَّمُ في « للَّذينَ » للتَّعليل ، أي : لأجْلِ الذين ، ولا يجُوزُ أن تكون التي للتَّبليغ إذ لو كانت لكان القياس « لن يُؤتيكُم » بالخطاب .
قوله تعالى : { قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } .
قرأ ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - « جَدَلنا » كقوله : { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } [ الكهف : 54 ] .
ونقل أبو البقاء أنه قرىء « جَدَلْتنا فأكْثَرْتَ جدلنا » بغير ألفٍ فيهما ، وقال : « هو بمعنى غلبتنا بالجَدلِ » .
وقوله : « بِمَا تَعِدُنَا » يجوزُ أن يكون « ما » بمعنى « الذي » ، فالعائدُ محذوفٌ ، أي : تَعدناه .
ويجوزُ أن تكون مصدرية ، أي : بوعدك إيَّانا .
وقوله : « إن كنت » جوابه محذوفٌ أو متقدِّمق وهو « فَأتِنَا » .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدالُ كان في بيان التَّوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، وهذا يدلُّ على أنَّ المجادلة في تقرير الدَّلائل وفي إزالةِ الشُّبُهاتِ حرفةُ الأنبياءِ ، وأنَّ التقليدَ والجَهْلَ والإصرار حرفةُ الكفَّار ، ودلَّت على أنَّهم استعجلوا العذاب الذي كان يعدهم به ، فقالوا : { فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } ثُمَّ إنه - عليه الصلاة والسلام - أجابهم بقوله :

{ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ } [ هود : 33 ] أي : أنَّ إنزال العذاب ليس إليَّ ، وإنما هو خلق الله فيفعله إن شاء ، وإذا أراد إنزال العذاب فإنَّ أحداً لا يعجزه ، أي : لا يمنعه .
ثم قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي } إن أردتُ أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ، أي : يضلكم ، قوله : { إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ } قد تقدَّم حكم توالي الشرطين ، وأن ثانيهما قيد في الأوَّل ، وأنه لا بد من سبقه للأوَّل ، وقال الزمخشريُّ هنا : « إنْ كانَ اللهُ » جزاؤه ما دل عليه قوله : « لا يَنْفعُكم نُصْحِي » .
وهذا الدليل في حكم ما دلَّ عليه؛ فوصل بشرطٍ ، كما وصل الجزاء بالشَّرط في قوله : « إنْ أحْسَنْتَ إليَّ أحْسَنْتُ إنْ أمكنني » .
وقال أبو البقاء : حكمُ الشَّرطِ إذا دخل على الشَّرْطِ أن يكون الشَّرطُ الثَّاني والجواب جواباً للشَّرط الأول نحو : « إنْ أتَيْتَنِي إنْ كلَّمتَني أكْرَمْتُكَ » فقولك : « إنْ كَلَّمْتَني أكْرَمْتك » جوابُ « إنْ أتَيْتَني » جميعُ ما بعده ، وإذا كان كذلك كان الشَّرطُ الأول في الذِّكر مؤخَّراً في المعنى ، حتَّى إن أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإكرام ، ولكن إن كلَّمه ثمَّ أتاهُ وجب الإكرام ، وعلَّةُ ذلك أنَّ الجواب صار معوَّقاً بالشَّرطِ الثاني ، وقد جاء في القرآن منه { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي } [ الأحزاب : 50 ] .
قال شهابُ الدِّين : أما قوله : « إنْ وهبَتْ . . . إنْ أرادَ » فظاهرُهُ - وظاهرُ القصة المرويَّة - يدلُّ على عدم اشتراطِ تقدُّم الشَّرط الثاني على الأوَّلِ ، وذلك أنَّ إرادته - صلوات الله وسلامه عليه - للنكاح إنما هو مُرتَّبٌ على هبة المرأةِ نفسها له وكذا الواقعُ في القصَّة ، لمَّا وهبت أراد نكاحها ، ولمْ يُرْوَ أنه أراد نكاحها ، فوهبت ، وهو يحتاجُ إلى جوابٍ ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في موضعه .
وقال ابنُ عطيَّة هنا وليس نُصْحِي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخيرَ لكم مغنيةً إن أراد اللهُ - تعالى - بكم الإغواء ، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإرادتين ، وأنَّ إرادة البشر غيرُ مُغْنِيةٍ ، وتعلُّقُ هذا الشرط هو ب « نُصْحِي » وتعلُّقُ الآخر ب « لا يَنْفَعُ » .
وتلخص من ذلك أنَّ الشرط مدلولٌ على جوابه بقوله : « ولا يَنْفَعُكُمْ » لأنَّهُ عقبهُ ، وجواب الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول وكأنَّ التقدير : وإنْ أردت أنْ أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعُكمْ نُصحِي . وهو من حيث المعنى كالشَّرط إذا كان بالفاءِ نحو : إنْ كان الله يريدُ أن يُغويكُم فإن أردتُ أن أنصح لكم ، فلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي .

وقرأ الجمهور : « نُصْحي » بضم النونِ ، وهو يحتملُ وجهين :
أحدهما : المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر والثاني : أنه اسمٌ لا مصدرٌ .
وقرأ عيسى بن عمر « نَصْحي » بفتح النُّون ، وهو مصدرٌ فقط .
وفي غضون كلام الزمخشري : « إذا عرف اللهُ » وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ الله تعالى لا يسندُ إليه هذا الفعل ولا يوصف بمعناه ، وقد تقدَّم علةُ ذلك في غضون كلام أبي حيَّان وللمعتزليِّ أن يقول : لا يتعيَّن أن تكون « إنْ » شرطيةً بل هي نافيةٌ ، والمعنى : « ما كان اللهُ يريد أن يُغويكُمْ » .
قال شهابُ الدِّين : لا اظن أحداً يرضى بهذه المقالة .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ ، فإذا أرادَ اله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه؛ لأنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } .
قال شهابُ الدِّين : لا أظن أحداً يرضى بهذه المقالة .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ ، فإذا أرادَ الله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه؛ لأنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } .
قالت المعتزلةُ : ظاهرُ الآية يدلُّ على أن الله تعالى إذا أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا مسلمٌ ، فإنا نعلم أنَّ الله - تعالى - لو أراد إغواء عبدٍ فإنَّه لا ينفعهُ نصح النَّاصحين ، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء ، والنزاع ما وقع إلا فيه؟
بل نقول إنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - إنَّما ذكر هذا الكلام ليدل على أنَّهُ تعالى ما أغواهُم ، بل فوَّضَ الاختيار إليهم ، وبيانه من وجهين : الأول : أنه تعالى لو أراد إغواءهم لما بقي في النصح فائدة ، ولو لمْ يكنُ فيه فائدة لما أمره بنصح الكفار ، وأجمع المسلمون على أنه مأمورٌ بدعوة الكفار ونصيحتهم ، فعلمنا أنَّ هذا النُّصح لا يخلُو من الفائدة ، وإن لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنَّهُ تعالى ما أغواهم .
الثاني : لو ثبت الحكم عليهم بأنَّ الله تعالى أغواهم؛ لصار هذا عذراً لهم في عدم الإتيان بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم؛ لأنَّهم يقولون له : إنَّك سلمت أنَّ الله تعالى إذا أغوانا فإنَّه لا يبقى في نصحك ، ولا في اجتهادك فائدةٌ؛ فإذا ادَّعَيْتَ أنَّ الله تعالى أغوانا؛ فقد جعلتنا مغلُوبين ، فلمْ يَلْزَمْنَا قبول هذه الدعوة؛ فثبت أنَّ الأمر لو كان كما قالهُ الخصمُ؛ لصار هذا حجة للكافر على نُوح - عليه الصلاة والسلام -؛ فثبت بما ذكرنا أنَّ هذه الآية لا تدلُّ على قول المجبرة ، ثم إنَّهم ذكروا تأويلات :
الأول : أنَّ أولئك الكُفَّار مجبرة ، وكانوا يقولون إنَّ كفرهم بإرادة الله؛ فعند هذا قال نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - إن نصيحَتي لا تنفعُكُم إن كان الأمرُ كما تقولون .

ومثاله : أن يعاقب الرَّجلُ ولدهُ على ذنبه ، فيقول الولد : لا أقدرُ على غير ما أنا عليه؛ فيقول الوالدُ : فلن ينفعك إذنْ نُصْحِي ، وليس المرادُ أنَّهُ يصدِّقهُ على ما ذكره ، بل على وجه الإنكار لذلك .
الثاني : قال الحسنُ : معنى « يُغْويكُم » أي : يُعَذِّبكم والمعنى : لا ينفعكم نُصْحِي اليوم إذا نزل بكُم العذابُ؛ فأمنتم في ذلك الوقت؛ لأنَّ الإيمان عند نُزُول العقابِ لا يقبلُ وإنَّما ينفعُكم نصحي إذا آمنتم قبل مُشاهدةِ العذابِ .
الثالث : قال الجُبائي : الغوايةُ هي الخيبة من الطَّلب بدليل قوله : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] ، أي : خيبة من خير الآخرة؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
2966- ... ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ عَلى الغَيِّي لائِمَا
الرابع : أنه إذا أصرَّ على الكُفْرِ ، وتمادى فيه ، منعه الله الألطاف ، وفوَّضه إلى نفسه؛ فهذا شبيه بما إذا أراد إغواءهُ؛ فلهذا السَّبب حسن أن يقال : إنَّ الله أغواه ، هذا جملة كلامِ المعتزلةِ في هذا البابِ ، وتقدَّم الجوابُ عن أمثال هذه الكلمات ، فلا فائدة في الإعادة ، ثَم قال : { هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم ، وهذا نهاية الوعيد والتهديد .
قوله : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } اختلقه ، وافتعله ، يعني نوحاً - عليه الصلاة السلام - قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - .
[ وقال مقاتلٌ - رضي الله عنه - : يعني محمَّداً صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه ] والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم .
{ قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } أي : إثْمِي ووبال جرمي ، والإجرامُ : كسب الذَّنب ، وهذا من باب حذف المضاف؛ لأنَّ المعنى : فعليَّ عقاب إجْرامي ، وفي الآية محذوفٌ آخر ، وهو أنَّ المعنى : إن كنتُ افتريتُه فعليَّ عقاب جرمي ، وإن كنتُ صادقاً وكذَّبْتُمونِي فعليكم عقاب ذلك التكذيب ، إلاَّ أنَّه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه .
قوله : « فَعَلَيَّ إجْرَامِي » : مبتدأٌ وخبرٌ ، أو فعلٌ وفاعلٌ .
والجمهورُ على كسر همزة « إجْرَامِي » ، وهو مصدر أجْرَمَ ، وأجْرمَ هو الفاشي ، ويجوزُ « جَرَمَ » ثلاثياً وأنشدوا : [ الوافر ]
2967- طَرِيدُ عَشيرةٍ ورَهِينُ ذَنْبٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وجَنَى لِسَانِي
وقرىء في الشاذّ « أجْرَامِي » بفتحها ، حكاهُ النَّحَّاس ، وخرَّجه على أنَّه جمعُ « جُرْم » كقفل وأقْفَال ، واعلم أنَّ قوله { قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } لا يدلُّ على أنَّهُ كان شاكّاً ، إلاَّ أنَّهُ قولٌ يقال على وجهِ الإنكارِ عند اليأس من القبولِ .

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)

قوله تعالى : { وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ } الجمهور على « أوحِيَ » مبنياً للمفعول ، والقائمُ مقام الفاعل { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ } أي : أوحِيَ إليه عدمُ غيمان بعض القوم .
وقرأ أبو البرهسم « أوْحَى » مبنياً للفاعل وهو الله - سبحانه وتعالى - ، « إنَّهُ » بكسر الهمزة وفيها وجهان :
أحدهما : - وهو أصلٌ للبصريين - أنَّهُ على إضمار القول .
والثاني : - وهو أصلُ للكوفيين - أنَّهُ على إجراء الإيحاء مُجْرَى القول .
قوله « فَلاَ تَبْتَئِسْ » هو تفتعل من البُؤسِ ، ومعناه الحزنُ في استكانة ، ويقال : ابتأسَ فلانٌ ، أي : بلغه ما يكرهه؛ قال : [ البسيط ]
2968- مَا يَقْسِمِ اللهُ أقْبَلَ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ ... مِنْهُ وأقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ البَالِ
وقال آخر : [ البسيط ]
2969- وكَمْ مِنْ خَليلٍ أوْ حَميمٍ رُزِئْتُهُ ... فَلَمْ نَبْتَئِسْ والرُّزْءُ فِيهِ جَلِيلِ
فصل
دلَّت هذه الآية على صحة القول بالقضاءِ والقدرِ؛ لأنَّه تعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون بعد ذلك ، فلو حصل إيمانهم؛ لكان إمَّا مع بقاءِ هذا الخبر صدقاً ، ومع بقاء هذا العلم علماً ، أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلابِ هذا العلم جهلاً .
والأولُ باطلٌ؛ لأنَّ وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدمِ الإيمانِ صدقاً ، ومع كون العلم بعد الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمعٌ بين النَّقيضين .
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ انقلاب علم الله - تعالى - جهلاً وخبره كذباً محال ، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بدَّ وأن يكون على أحد هذين القسمين ، وثبت أنَّ كلَّ واحدٍ منهما محالٌ كان صدور الإيمان منهم محالاً ، مع أنَّهم كانوا مأمورين به ، وأيضاً : فالقومُ كانُوا مأمورين بالإيمان ، ومن الإيمان تصديق الله تعالى - في كُلِّ ما أخبر عنه ، وقد أخبر أنَّهُ { . . . لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } فينبغي أن يقال : إنَّهم كانُوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنَّهم لا يؤمنون ألبتة ، وذلك تكليفٌ بالجمع بين النَّقيضين .
قوله تعالى : { واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } .
« بأعْينِنَا » حالٌ من فاعل « اصْنَع » أي : محفُوظاً بأعيننا ، وهو مجازٌ عن كلاء الله له بالحفظ .
وقيل : المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيون النَّاس ، أي : الذين يتفقَّدُونَ الأخبارَ ، والجمع حينئذٍ حقيقةٌ . وقرأ طلحةُ بنُ مصرف « بأعْيُنَّا » مدغمة .
فصل
قوله تعالى : { واصنع الفلك } الظَّاهر أنه أمر إيجاب؛ لأنَّه لا سبيل إلى صون روح نفسه ، وأرواح غيره من الهلاكِ إلا بهذا الطريق ، وصون النَّفْسِ من الهلاك واجب ، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجبٌ ، ويحتملُ أن يكون أمر إباحةٍ ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسانُ لنفسه داراً يسكنها ، أو يكون ذلك تعليماً له ولمن بعده كيفية عمل السفينة ، ولا يكونُ ذلك من باب ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به ، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - خلَّص موسى وقومه من الطُّوفان من غير سفينةٍ ، وكان ذلك معجزة له .

وأما قوله : « بأعْيُنِنَا » فلا يمكنُ إجراؤه على ظاهره لوجوهٍ :
أحدها : أنه يقتضي أن يكون لله أعين كثيرة ، وهذا يناقض قوله تعالى : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] .
وثانيها : أنَّهُ يقتضي أن يصنع الفلك بتلك الأعين ، كقولك : قطعت بالسكين ، وكتبت بالقلم ، ومعلوم أن ذلك باطل .
وثالثها : أنَّه - تعالى - مُنَزَّه عن الأعضاء ، والأبعاض؛ فوجب المصيرُ إلى التأويل ، وهو من وجوه :
الأول : معنى « بِأعْيُنِنَا » أي : بنزول الملك؛ فيعرفه بخبر السفينة ، يقال : فلان عين فلان أي : ناظر عليه .
والثاني : أنَّ من كان عظيمَ العنايةِ بالشيء فإنه يضع عينه عليه؛ فلمَّا كان وضع العين على الشَّيء سبباً لمبالغة الحفظ جعل العين كناية عن الاحتفاظ ، فلهذا قال المفسِّرون : معناه : بحفظنا إيَّاك حفظ من يراك ، ويملك دفع السُّوء عنك .
وحاصل الكلام أن عمل السَّفينة مشروط بأمرين :
أحدهما : أن لا يمنعه أعداؤه من ذلك العمل .
والثاني : أن يكون عالماً بكيفيَّة تأليف السَّفينة وتركيبها .
وقوله : « وَوَحْيِنَا » إشارة إلى أنَّه تعالى يوحي إليه كيفية عمل السَّفينة .
وقوله : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } فقيل : لا تطلب منِّي تأخير العذاب عنهم ، فإنِّي قد حكمتُ عليهم بهذا الحم ، فلمَّا علمَ نوحٌ ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] . وقيل : « لا تُخَاطِبْنِي » في تعجيلِ العذابِ فإنِّي لمَّا قضيتُ عليهم إنزال العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً .
وقيل : المرادُ ب « الذينَ ظلمُوا » بانه وامرأته .
قوله : { وَيَصْنَعُ الفلك } قيل : هذا حكايةُ حال ماضيه أي : في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك . وقيل : ألتقديرُ : وأقبل يصنع الفلك ، فاقتصر على قوله : « يَصْنَع » . قيل : إن جبريل أتى نُوحاً عليه السَّلام فقال : إنَّ ربَّك يأمُركُ أن تَصْنَعَ الفلك ، فقال : كيف أصنع ولست بنجَّارٍ؟ فقال : إنَّ ربَّك يقولُ : اصْنَعْ فإنَّكَ بعَيْنِي ، فأخذ القدوم ، وجعل يصنعُ ولا يخطئ . وقيل : أوحى الله إليه يجعلها مثل جُؤجُؤ الطَّائر .
روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - لمَّا دَعَا على قومهِ وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] استجاب الله دعاءه وأمره أن يَغْرِسَ شجرة ليعمل منها السفينة؛ فغرسها وانتظرها مائة سنة ، ثم نجَّرها في مائة سنة أخرى .
وقيل : في أربعين سنة ، وكانت من خشب الساج . وفي التوراة أنها من الصنوبر .
قال البغويُّ - رحمه الله - أمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً ، وعرضها خمسين ذراعاً ، وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقارِ وقال قتادة : كان طولها ثلثمائة ذراع [ وعرضها خمسين ذراعاً .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان طولها ألفاً ومائتي ذراع في عرض ستمائة ذراع ] .

وقيل : ألف ذراعٍ في عرض مائة ذراعٍ .
واتفقوا كلهم على أنَّ ارتفاعها ثلاثون ذراعاً ، وكانت ثلاث طبقات كلُّ واحدة عشرة أذرع ، فالسفلى للدَّواب والوحوش ، والوسطى للنَّاس ، والعليا للطيور ، ولها غطاء من فوق يطبق عليها .
قال ابنُ الخطيب - رحمه الله - والذي نعلمه أنَّ السَّفينة كانت سعتها بحيث تسعُ المؤمنين من قومه ، ولما يحتاجون إليه ، ولحصول زوجين لكلّ حيوان؛ لأنَّ هذا القدر مذكور في القرآن ، فأما تعيينُ ذلك القدر فغير معلوم .
قوله : « وَكُلَّمَا مَرَّ » العاملُ في « كُلَّمَا » « سَخِرَ » ، و « قَالَ » مستأنف ، إذ هو جوابٌ لسؤال سائل . وقيل : بل العامل في « كُلَّما » « قال » ، و « سَخِرُوا » على هذا إمَّا صفة ل « مَلأ » ، وإمَّا بدلٌ مِنْ « مرَّ » ، وهو بعيدٌ جدّاً ، إذ ليس « سَخِرَ » نوعاً من المرور ، ولا هو هو فكيف يبدل منه؟ والجملةُ من قوله « كُلَّما » إلى آخره في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي : يصنع الفلك والحالُ أنَّه كُلَّما مرَّ .
فصل
اختلفوا فيما كانوا لأجله يسخرون ، فقيل : إنهم كاوا يقولون له : كنت تدَّعي الرسالة ، فصرت نجَّاراً . وقيل : كانوا يقولون : لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق .
وقيل : إنَّهم كانُوا ما رَأوا السَّفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها ، فكانوا يتعجَّبُون منه ويسخرُون - وقيل : إنَّ تلك السَّفينة كانت كبيرة ، وكان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدّاً ، وكانوا يقولون له : ليس ههنا ماء ، ولا يمكنك نقلها لماءِ البحار ، فكانوا يُعدُّون ذلك من باب السخرية .
وقيل : إنَّه لمَّا طال مكثه فيهم ، وكان ينذرهم بالغرقِ ، وما شاهدُوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كذبه في ذلك النقل ، فلمَّا اشتغل بعمل السفينة ، سخرُوا منه ، وكل هذه الوجوه محتملة .
ثم إنَّه تعالى حكى عنه أنه كان يقول : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } أي : مثل سخريتكُمْ إذا غرقتم في الدنيا ووقعتم في العذاب يوم القيامة . وقيل : إن حكمتم علينا بالجَهْلِ فيما نصنع فإنَّا نحكم عليكم بالجهلِ فيما أنتم عليه من الكفر ، والتَّعرض لسخطِ الله وعذابه ، فأنتم أولى بالسُّخرية مِنَّا .
فإن قيل : كيف تجُوزُ السخرية من النبي؟ .
فالجوابُ : هذا ازدواج للكلام يعنى : إن تَسْتجْهلوني فإنِّي أستجهلكم إذا نزل بكم العذاب .
وقيل : معناه : إن تَسْخَرُوا منَّا فسترون عاقبة سخريتكم .
وقيل : سمى المقابلة سخرية كقوله { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
قوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } .
في « مَنْ » وجهان :
أحدهما : أن تكون موصولة .
والثاني : أن تكون استفهاميَّة ، وعلى كلا التقديرين ف « تَعْلَمُونَ » إمَّا من باب اليقينِ ، فتتعدَّى لاثنين ، وإمَّا من بابِ العرفان فتتعدَّى لواحد .

فإذا كانت هذه عرفانية و « مَنْ » استفهامية كانت « مَنْ » ، وما بعدها سادَّة مسدَّ مفعول واحد ، وإن كانت متعديةً لاثنين كانت سادَّة مسدَّ المفعولين وإذا كانت « تَعْلَمُونَ » متعديةً لاثنين ، و « مَنْ » موصولة كانت في موضع المفعول الأوَّلِ ، والثاني محذوفٌ قال ابن عطيَّة : « وجائزٌ أن تكون المتعدية إلى مفعولين ، واقتصر على الواحدِ » .
وهذه العبارةُ ليست جيِّدة؛ لأنَّ الاقتصار في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز ، لما تقرَّر من أنَّهما مبتدأ وخبر في الأصل ، وأمَّا حذف الاختصار ، فهو ممتنعٌ أيضاً ، إذ لا دليل على ذلك . وإن كانت متعدِّية لواحدٍ و « مَنْ » موصولةٌ فأمرها واضحٌ .
قوله : « وَيَحِلُّ عليْهِ » أي : يجبُ عليه ، وينزل به « عذابٌ مقيمٌ » دائم . وحكى الزهراويُّ - رضي الله عنه - : « ويَحُلُّ » بضمِّ الحاءِ ، بمعنى يجبُ أيضاً .
قوله : { حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } عذابنا ، أو وقته ، أو قولنا « كن » .
{ وَفَارَ التنور } اختلفوا في التَّنور : قال عكرمةُ والزهري : هو وجه الأرض ، أي نبعث الأرض من سائر أرجائها حتى نبعث التنانير التي هي محال النار وذلك أنَّه قيل لنوح : إذ رأيت الماء قدْ فَارَ على وجه الأرض ، فاركب السَّفينة أنت وأصحابك .
وروي عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال : التنور طلوع الفجر ، ونور الصَّباح وقيل : التَّنُّور أشرف مكان في الأرض وأعلاه . وقيل : « فَارَ التَّنُّورُ » يحتمل أن يكون معناه : اشتدَّ الحر كما يقالُ : حمي الوطيسُ .
ومعنى الآية : إذا رأيتَ الأمر يشتد والماء يكثر فانْجُ بنفسك ومن معك إلى السفينة .
وقال الحسنُ ومجاهدٌ والشعبيُّ : إنه التنور الذي يخبز فيه . وهو قول أكثر المفسِّرين ، ورواه عطيَّة عن ابن عبَّاس .
قال الحسنُ : كان تَنُّوراً من حجارةٍ ، كانت حواء تخبزُ فيه ، فصار إلى نُوح - عليه الصلاة والسلام - واختلفوا في موضعه فقال مجاهدٌ والشعبيُّ : إنَّه بناحية الكوفة وعن علي أنَّهُ في مسجد الكوفة . وقال مقاتلٌ بموضع يقال له : عين وَرْدة بالشَّام وقيل : عين بالهند .
قال الزمخشريُّ : « حتَّى » هي التي يُبْتَدَأ بعدها الكلام ، دخلت على الجملة من الشَّرطِ والجزاء ، ووقعت غاية لقوله { وَيَصْنَعُ الفلك } أي : وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد والألف واللاَّم في « التَّنُّور » قيل : للعهدِ . وقيل : للجنس .
ووزن « تَنُّور » قيل : « تَفْعُول » من لفظ النور فقلبت الواوُ لأولى همزة لانضمامها . ثم حذفت تخفيفاً ، ثم شدَّدُوا النون كالعوضِ عن المحذوف ، ويعزى هذا لثعلب .
وقيل : وزنه « فَعُّول » ويعزى لأبي علي الفارسيِّ . وقيل : هو أعجميٌّ ، وعلى هذا فلا اشتقاقَ له . والمشهورُ أنَّه ممَّا اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصَّابون .

ومعنى « فَارَ » أي : غلا قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النّضار ، ولا شبهة في أنَّ نفس التَّنور لا يفوزُ ، فالمرادُ : فار الماءُ في التَّنور .
قال اللَّيْثُ - رحمه الله - : « التَّنُّور عمَّت بكل لسان وصاحبه تنَّار قال الأزهريُّ : وهذا يدلُّ على أن الاسم يكون أعْجَميّاً فتعربه العرب ، فيصير عربيّاً ، والدليلُ على ذلك أنَّ الأل » تَنَرَ « ، ولا يعرفُ في كلام العرب » تنر « وهو نظير ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الدِّيباج والدِّينار ، والسُّندس ، والإستبرق ، فإنَّ العرب تكلَّمُوا بها؛ فصارت عربيةً » . قيل : إنَّ امرأته كانت تخبز في ذل التنور ، فأخبرته بخروج الماءِ من ذلك التنور فاشتغل في الحالِ بوضع هذه الأشياء في السفينة .
قوله : { قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين } قرأ العامَّة بإضافة « كُل » ل « زَوْجَيْنِ » .
وقرأ حفص بتنوين « كُل » ، فأمَّا العامة فقيل : إنَّ مفعول « احْمِلْ » « اثْنَيْن » ، و « مِنْ » كُلِّ زَوْجَيْنِ « في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعول؛ لأنه كان صفة للنَّكرة ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً وقيل : بل » مِنْ « زائدة ، و » كُل « مفعول به ، و » اثْنَيْن « نعت ل » زَوْجَيْن « على التَّأكيدِ ، وهذا إنَّما يتمُّ على قول من يرى زيادة » مِنْ « مطلقاً ، أو في كلامٍ موجب .
وقيل : قوله : » زَوْجَيْن « بمعنى العُمومِ أي : من كُل ما له ازدواجٌ ، هذا معنى قوله : { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ } وهو قولُ الفارسيِّ وغيره .
قال ابنُ عطيَّة : ولو كان المعنى : احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين ، لوجب أن يحمل من كُلِّ نوع أربعة ، والزوج في مشهور كلامهم للوحد ممَّا له ازدواجٌ .
قال - سبحانه وتعالى - : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] ، ويقال للمرأة زوجٌ ، قال تعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] يعني المرأة ، وهو زوجها ، وقال : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى } [ النجم : 45 ] فالواحدُ يقال له : زوجٌ ، قال تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } [ الأنعام : 143 ] ، { وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين } [ الأنعام : 144 ] .
فالزَّوجان : عبارة عن كل اثنين لا يَسْتغني أحدهما عن الآخر ، يقال لكُلِّ واحدٍ منهما زوج ، يقال زوج خفٍّ ، وزوج نَعْلِ ، والمراد بالزَّوجين ههنا : الذَّكر والأنثى .
وأمَّا قراءة حفص فمعناها : من كلِّ حيوان أو من كلِّ صنف ، و » زَوْجَيْن « مفعولٌ به ، و » اثْنَيْنِ « نعتٌ على التأكيد ، كقوله { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } [ النحل : 51 ] ، و » مِنْ كُلّ « على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب » احْمِلْ « وهو الظَّاهرُ ، وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من » زَوْجَيْنِ « وهذا الخلاف والتخريج جاريان أيضاً في سورة » قَدْ أفْلَحَ « .

فصل
اختلفوا في أنه هل دخل في قوله : « زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ » غير الحيوانِ أم لا؟ فنقول فالحيوانُ مرادٌ ولا بد ، وأما النَّباتُ فاللفظ لا يدل عليه ، إلا أنه بقرينة الحال لا يبعد دخلوه لأنَّ الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه .
قال ابنُ الخطيب : « وروي عن ابن مسعودٍ أنه قال : لم يستطع نوحٌ أن يحمل الأسد حتَّى ألقيت عليه الحمى ، وذلك أنَّ نُوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : يا ربِّ فمن أين أطعم الأسد ، إذا حملته؟ قال الله - تعالى - : » فسوف أشغله عن الطعام فسلَّط الله عليه الحمى « وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها ، فإنَّ حاجة الفيل إلى الطَّعام أكثر ، وليست به حُمَّى » .
وروى زيد بن أسلم عن أبيه مرسلاً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لمَّا حمل نوح في السفينة من كُلِّ زوجين اثنين ، قال أصحابه : وكيف يطمئن ، أو تطمئن المواشي ، ومعنا الأسد ، فسلَّط الله عليه الحمى ، فكانت أوَّلُ حمى نزلت الأرض ، ثم شكوا الفأرة فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا ، فأوحى الله إلى الأسدِ ، فعطس الأسد فخرجت الهرة؛ فتخبأت الفأرة منها .
قوله : « وأهْلَك » نسقٌ على « اثْنَيْنِ » في قراءة من أضاف « كُل » ل « زَوْجَيْنِ » ، وعلى « زَوْجَيْنِ » في قراءة من نوَّن « كُل » وقوله : « إلاَّ من سبقَ » استثناءٌ متصل في موجب ، فهو واجب النَّصْبِ على المشهُور .
وقوله : « وَمَنْ آمَنَ » مفعول به نسقاً على مفعول « احْمِلْ » .
فصل
روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة السلام - قال يا رب : كيف أحملُ من كلِّ زوجين اثنين؟ فحشر الله - تعالى - إليه السباع والطير ، فجعل يضربُ بيده في كل جنس فيقع الذَّكرُ في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى ، فيجعلهما في السفينة .
والمراد بأهله : ولده وعياله { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } بالهلاك يعني : امرأته واعلة وابنه كنعان .
« ومَنْ آمَنَ » يعنى : واحمل من آمن بك ، قال تعالى : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } . قال قتادةُ بنين سام وحام ويافث ونساؤهم .
وقال الأعمشُ : كانوا سبعة : نوحٌ وثلاثة بنين له وثلاثُ كنائن وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم ، نوح وبنوه : سام وحام ويافث ، وستة أناس ممن كان به ، وأزواجهم جميعاً .
وقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً ، وبنيه الثلاث ونساءهُم .
فجميعهم ثمانية وسبعون ، نصفهم رجال ، ونصف نساء .
وعن ابن عباسٍ : كان في سفينة نوح عليه السلام ثمانون رجلاً ، أحدهم جرهم ، يقال : إنَّ في ناحية « المَوْصِل » قريةً ، يقال لها : قريةُ الثَّمانين ، سمِّيت بذلك؛ لأنَّهم لما خرجوا من السَّفينة بنوها ، فسُمِّيت بهم .

قال مقاتلٌ : حمل نوحٌ معه جسد آدم ، فجعله معترضاً بني الرِّجال والنِّساء .
وقال الحسنُ : لم يحمل نوحٌ في السفينة إلاَّ ما يلد ويبيض فأما ما يتولَّد من الطين؛ فالحشرات ، والبقِّ ، والبعوض؛ فلم يحمل منه . ثم قال تعالى { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } يعني : حكم الله عليه بالهلاك ، وهو ابنه ، وزوجته ، وكانا كافرين ، فأما ابنه فهو يام ، وتسميه أهل الكتاب : كنعان ، فهو الذي انعزل عنه ، أما امرأةُ نوحٍ ، فهي أمِّ أولاده كلهم : حام ، وسام ، ويافث ، وهو أدرك؛ انعزل ، وغرق ، وعابر ، وقد مات قبل الطوفان ، فقيل مع من غرق وكانت خمس سبق عليها القول بكفرها ، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها ماتت بعد ذلك .
فإن قيل : الإنسان أشرف من سائر الحيواناتِ ، فما الفائدة من ذكر الحيوانات؟
فالجوابُ : أنَّ الإنسانَ عاقلٌ وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاكِ عن نفسه ، فلا حاجة إلى المبالغة في التَّرغيب فيه ، بخلاف السَّعْي في تخليص سائر الحيوانات؛ فلهذا وقع الابتداء به .
فإن قيل : الذين دخلوا السَّفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله : { إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [ الشعراء : 54 ] ؟ فالجواب : كلا اللفظين جائز ، والتقدير - ههنا - : وما آمن معه إلا نفر قليل .
فصل
احتجوا بقوله { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } في إثبات الفضاءِ السَّابق والقدر الوجب ، لأنَّ قوله { سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ } يدلُّ على أنَّ من سبق عليه القول ومن آمَنَ لا يغيَّرُ عن حاله ، فهو كقوله - عليه الصلاة والسلام - : « السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه » .
قال تعالى : { وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا } .
يجُوزُ أن يكون فاعلُ « قَالَ » ضمير نوح - عليه الصلاة والسلام - ، ويجوزُ أن يكون ضمير الباري - تعالى جل ذكره - أي : وقال الله لنوح ومنه معهُ . و « فِيهَا » متعلقٌ ب « ارْكَبُوا » وعُدِّي ب « في » لتضَمُّنه معنى « ادخلوا فيها راكبين » أو سيروا فيها .
وقيل : تقديره : اركبوا الماء فيها . وقيل : « في » زائدة للتَّوكيد .
والركوب : العلو على ظهر الشيءِ ، ومنه ركوب الدَّابة ، وركوب السَّفينة ، وركوب البحر ، وكل شيء علا شيئاً ، فقد ركبه ، ويقال : ركبه الدَّين . قال الليثُ - رحمه الله - : وتسمي العربُ من يركبُ السَّفينة : رُكَّابَ السَّفينة ، وأمَّا الركبانُ ، والأركُوبُ ، والرَّكْبُ : فركَّابُ الدَّوابِّ .
قال الواحدي : ولفظة « فِي » في قوله « ارْكَبُوا فيهَا » لا يجوز أن تكون من صلة الركوب؛ لأنَّه يقال : ركبت السفينة ولا يقال : ركبت في السَّفينة ، بل الوجهُ أن يقول مفعول « ارْكَبُوا » محذوف والتقدير : « اركبوا الماء في السَّفينة » .
وأيضاً يجوز أن تكون فائدة هذه الزيادة ، أنَّه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال : اركبوها ، لتوهَّمُوا أنَّه أمرهم أن يكونوا على ظهر السَّفينة .

قال قتادةُ : ركبُوا السَّفينة يوم العاشر من شهر رجب؛ فسارُوا مائةً وخمسين يوماً ، واستقرَّتْ على الجُودي شهراً ، وكان خروجهم من السفينة يوم عاشوراء من المحرَّمِ .
قوله : { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } .
يجوز أن يكون هذا الجار والمجرور حالاً من فاعل « اركبوا » أو من « ها » في « فيها » ويكونُ « مجراها » ، و « مرساها » فاعلين بالاستقرار الذي تضمَّنهُ الجارُّ لوقوعه حالاً . ويجوز أن يكون « بِسْمِ اللهِ » خبراً مقدَّماً ، و « مَجْراها » مبتدأ مؤخراً ، والجملة أيضاً حالٌ ممَّا تقدَّم ، وهي على كلا التقديرين حالٌ مقدرةٌ كذا أعربه أبو البقاء ، وغيره . إلاَّ أنَّ مكيّاً منع ذلك لخلو الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أعربنا الجملة أو الجارَّ حالاً من فاعل « ارْكَبُوا » قال : ولا يَحْسُنُ أن تكون هذه الجملة حالاً من فاعل « اركبُوا » ؛ لأنَّه لا عائد في الجملةِ يعودُ على الضمير في « اركبُوا » لأن المضمر في « بِسْمِ اللهِ » إنْ جعلته خبراً ل « مَجْراهَا » فإنَّما يعودُ على المبتدأ ، وهو مجراها ، وإن رفعت « مَجْرَاهَا » بالظَّرفِ لم يكن فيه ضمير الهاءِ في « مَجْراهَا » وإنما تعودُ على الضمير في « فِيهَا » .
وإذا نصبت « مَجْرَاهَا » على الظرف عمل فيه « بِسْمِ الله » وكانت الجملةُ حالاً من فعل « ارْكَبُوا » .
وقيل : بِسْمِ اللهِ « حال من فاعل » ارْكَبُوا « و » مَجْراهَا ومُرْسَاهَا « في موضع الظرف المكاني ، أو الزماني . والتقدير : اركبوا فيها مُسَمِّين موضع جريانها ، ورُسُوِّها ، أو وقت جريانها ورسوِّها .
والعامل في هذين الظرفين حينئذٍ ما تضمَّنه » بِسْمِ اللهِ « من الاستقرار ، والتقدير : اركبوا فيها مُتبرِّكين باسم الله في هذين المكانين ، أو الوقتين .
قال مكي : ولا يجوز أن يكون العاملُ فيهما » ارْكَبُوا « ؛ لأنه لم يُرِدْ : اركبُوا فيها في وقتِ الجَرْي ، والرسُوِّ ، إنَّما المعنى : سمُّوُا اسم الله في وقت الجَرْيِ والرُّسُوِّ .
ويجُوزُ أيضاً أن يكون » مَجْرَاهَا ومُرْسَاها « مصدرين ، و » بِسْمِ الله « حالٌ كما تقدَّم ، رافعاً لهذين المصدرين على الفاعليَّة أي : استقرَّ بسم الله إجراؤها ، وإرساؤها ، ولا يكونُ الجارُّ حينئذٍ إلاَّ حالاً من » هَا « في » فيها « لوجود الرابط ، ولا يكونُ حالاً من فاعل » اركبُوا « لعدم الرَّابط . وعلى هذه الأعاريب يكونُ الكلامُ جملةً واحدةً .
ويجوز أن يكون { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بالأولى من حيث الإعراب ، ويكون قد أمرهم في الجملة الأولى بالرُّكُوب ، وأخبر أنَّ مجراها ومرساها باسم الله .

فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله .
قال بعضُ المفسِّرين : كان نوح عليه الصلاة والسلام إذا أراد إجراء السفينة قال : « بِسْمِ اللهِ مجرَاها » فتجري ، وإذا أراد أن ترسُو قال : « بِسْمِ الله مرْساهَا » فترسو ، فالجملتان محكيتان ب « قَالَ » .
وقرأ الأخوان وحفص « مَجْرَاها » بفتح الميم ، والباقون بضمها . واتَّفق السَّبعة على ضمِّ ميم « مُرْسَاها » . وقرأ ابن مسعود ، وعيسى الثقفي وزيد بن علي ، والأعمش « مَرْسَاها » بفتح الميم أيضاً .
فالضمُّ فيهما ، لأنهما من « أجْرَى وأرْسَى » ، والفتح لأنَّهُما من « جَرَتْ ورَسَتْ » وهما : إمَّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران على ما سبق من التقادير .
وقرأ الضحاك ، والنخعي ، وابن وثابٍ ، ومجاهدٌ ، وأبو رجاء ، والكلبي ، والجحدري ، وابن جندب مجريها ومرسيها بكسر الراء ، والسين بعدهما ياء صريحة ، وهما اسما فاعلين من « أجرى وأرسى » ، وتخريجهما على أنهما بدلان من اسم الله .
قال ابنُ عطيَّة وأبو البقاء ، ومكي : إنَّهما نعتان للهِ - تعالى - ، وهذا الذي ذكروه إنَّما يتمُّ على تقدير كونهما معرفتين بتمحض الإضافة ، وقال الخليلُ : « إنْ كُلَّ إضافةٍ غيرُ محضةٍ قد تُجعل محضة إلاَّ إضافة الصفةِ المشبهة ، فلا تتمحَّض » .
وقال مكي : « ولو جعلت » مَجْراهَا « ، و » مُرْسَاها « في موضع اسم الفاعل لكانت حالاً مقدرة ، ولجاز ذلك وكانت في موضع نصبٍ على الحال من اسم الله تعالى » .
والرُّسوُّ : الثَّبات ، والاستقرار ، يقال : رَسَا يَرْسُو وأرْسَيْتُهُ أنَا؛ قال : [ الكامل ]
2970- فَصَبرْتُ نفْساً عند ذلكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّع
أي : تَثْبُتُ وتَسْتَقِرُّ عندما تضطربُ وتتحرك نفسُ الجبان .
قوله : { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيه سؤال ، وهو إن كان ذلك وقت إظهارِ الضر ، فكيف يليق به هذا الذكر؟ .
والجوابُ : لعل القوم الذين ركبوا السَّفينة اعتقدُوا في أنفسهم أنَّا إنَّما نجونا ببركةِ علمنا فالله تعالى نبَّههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب ، فإنَّ الإنسان لا ينفكُّ من أنواع الزلاتِ وظلمات الشبهات ، وفي جميع الأحوال ، فهو محتاجٌ إلى إعانةِ الله ، وفضله ، وإحسانه ، وأن يكون غفوراً لذنوبه رحيماً لعقوبته .
قوله : « وهِيَ تَجْرِي » في هذه الجملةِ ، ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّها مستأنفةٌ ، أخبر الله تعالى عن السفينة بذلك .
والثاني : أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من الضَّمير المستتر في « بِسْمِ اللهِ » أي : جريانها استقرَّ بسم الله حال كونها جارية .
الثالث : أنَّها حالٌ من شيءٍ محذوفٍ تضَمَّنته جملةٌ دلَّ عليها سياقُ الكلامِ .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم اتَّصل قوله : « وهِيَ تَجْرِي بهِمْ » ؟ قلت : بمحذُوفٍ دلَّ عليه قوله : « اركبُوا فيها بسْمِ الله » كأنَّهُ قيل : فركبوا فيها يقولون : « بسم الله وهي تجري بهم » .

وقوله « بِهِمْ » يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب « تَجْرِي » .
والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ أي : تجري ملتبسةً بهم ، ولذلك فسَّرهُ الزمخشريُّ بقوله : « أي : تجْرِي وهُمْ فيها » .
وقوله : « كالْجِبَالِ » صفة ل « مَوْجٍ » .
فصل
قال ابن جرير ، وغيره : إنَّ الطُّوفان كان في ثالث عشر شهر آب في عادة القبطِ ، وإنَّ الماء ارتفع على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً ، وهو الذي عند أهل الكتاب ، وقيل : ثمانين ذراعاً وعمَّ جميع الأرض طولاً وعرْضاً .
والمَوْجُ جمع « مَوْجة » والموج : ما ارتفع من الماءِ إذا اشتدَّ عليه الريح . وهذا يدلُّ على أنَّهُ حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة .
فإن قيل : الجريانُ في الموج يوجب الغرقَ .
فالجوابُ : أنَّ الأمواجَ لمَّا أحاطت بالسَّفينة من جوانبها أشبهت تلك السَّفينة كأنَّها جرت في داخل الأمواج .
قوله تعالى : { ونادى نُوحٌ ابنه } الجمهور على كسْرِ تنوين « نوح » لالتقاء الساكنين .
وقرأ وكيع بضمِّه إتباعاً لحركةِ الإعراب ، واسترذلَ أبو حاتمٍ هذه القراءة ، وقال : « هي لغةُ سوءٍ لا تُعْرَفُ » .
وقرأ العامَّةُ : « ابنهُ » بوصل هاء الكناية بواو ، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية .
وقرأ ابنُ عباس بسكون الهاء . قال بعضهم : هذا مخصُوصٌ بالضَّرُورة؛ وأنشد : [ البسيط ]
2971- وأشْرَبُ الماء ما بِي نحوهُ عطشٌ ... إلاَّ لأنَّ عُيُونه سَيْلُ وَادِيهَا
وبعضهم لا يخُصُّه بها ، وقال ابن عطية : إنَّا لغةٌ لأزْد السَّراة؛ ومنه قوله : [ الطويل ]
2972- ... ومِطْوايَ مُشْتاقَانِ لَهْ أرِقَانِ
وقال بعضهم : « هي لغة عُقَيْل ، وبني كلاب » .
وقرأ السدي : « ابْنَاهُ » بألف وهاء السكت ، قال ابنُ جنِّي : « وهو على النّداء » .
وقال أبو البقاء : « ابناه » على الترثِّي وليس بندبة؛ لأنَّ النُّدبة لا تكونُ بالهمزة .
وهو كلامٌ مشكلٌ في نفسه ، وأين الهمزةُ هنا؟ إن عنى همزة النِّداء ، فلا نُسَلِّم أنَّ المقدَّر من حروفِ النِّداءِ هو الهمزةُ؛ لأنَّ النُّحاة نصُّوا على أنَّه لا يضمر من حروف النِّداءِ إلاَّ « يَا » لأنَّها أم الباب .
وقوله : « الترثِّي » هو قريبٌ في المعنى من الندبة .
وقد نصوا على أنَّه لا يجوزُ حذف [ حرف ] النداء من المندوب ، وهذا شبيهٌ به .
وقرأ عليٌّ - كرم الله وجهه - : « ابنها » إضافة إلى امرأته كأنه اعتبر قوله : « ليْسَ من أهلكَ » ، وقوله : « ابْنِي » و { مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] لا يدل له لاحتمالِ أن يكون ذلك لأجل الحنوّ ، وهو قول الحسن ، وجماعة .
وقرأ محمد بن عليّ ، وعروة بن الزبير : « ابْنَهَ » بهاء مفتوحة دون ألف ، وهي كالقراءةِ قبلها ، إلاَّ أنه حذف ألف « ها » مجتزئاً عنها بالفتحةِ ، كما تحذف الياءُ مُجْتَزأ عنها بالكسرة ، قال ابن عطيَّة : « هي لغةٌ » ؛ وأنشد : [ البسيط ]

2973- إمَّا تقُودُ بِهَا شَاةً فتأكُلُهَا ... أو أن تَبِيعَه في بَعْضِ الأرَاكِيبِ
يريد : تَبِيعهَا « فاجتزأ بالفتحةِ عن الألفِ ، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله : - وأنشده ابن الأعرابي على ذلك - : [ الوافر ]
2974- فَلَسْتُ براجعٍ ما فَاتَ مِنِّي ... بِلَهْفَ ، ولا بِلَيْتَ ، ولا لَوَ انِّي
يريد : » يَا لَهْفَا « فحذف ، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة ، ويمنع في السَّعة : » يا غُلامَ « في : يا غُلامَا .
وسيأتي في نحو { ياأبت } [ يوسف : 4 ] بالفتح : هل ثمَّ الفٌ محذوفة أم لا؟ وتقدَّم خلاف في نحو : يا ابن أمَّ ، ويا ابن عمَّ : هل ثمَّ ألفٌ محذوفة مجتزأٌ عنها بالفتحةِ أم لا؟ فهذا أيضاً كذلك ، ولكن الظَّاهر عدم اقتياسه ، وقد خطَّأ النَّحَّاسُ أبا حاتم في حذف هذه الألف ، وفيه نظر .
قوله : { وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } جملةٌ في موضع نصب على الحالِ ، وصاحبها هو » ابْنَهُ « والحالُ تأتي من المنادى لأنَّه مفعولٌ به .
والمَعْزِل - بكسر الزاي - اسم مكن العزلة ، وكذلك اسم الزمان أيضاً ، وبالفتح هو المصدر . قال أبو البقاء : » ولمْ أعلم أحداً قرأ بالفتح « .
قال شهابُ الدِّ ] ن : لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفه؛ فكيف يقرأ به إلاَّ مجازٍ بعيد؟ .
وأصله : من العَزْل ، وهو التَّنحية ، والإبعاد تقول : كنت بمعزلٍ عن كذا ، أي : بموضع قد عُزِل منه ، قيل : كان بمعزلٍ عن السفينة ، لأنه كان يظنُّ أنَّ الجبل يمنعه من الغرق .
وقيل : كان بمعزل عن أبيه وإخوته وقومه ، وقيل : كان في معزل من الكفار كأنَّه انفرد عنهم فظنَّ نوحٌ أنَّ ذلك محبة لمفارقتهم .
فصل
اختلفوا في أنه هل كان ابناً له؟ فقيل : كان ابنه حقيقة لنصِّ القرآن ، وصرفُ هذا اللفظ إلى أنَّهُ رباه ، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السَّبب ، صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة ، والمخالفُ لهذا الظَّاهر إنَّما خالفهُ استبعاداً لأن يكون ولد الرسول كافراً ، وهذا ليس ببعيد؛ فإنَّه قد ثبت بنصِّ القرآن أنَّ والد الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان كافراً ، فكذلك ههنا .
فإن قيل : لمَّا دَعَا وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] فكيف نادى ابنه مع كفره؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّهُ كان ينافقُ أباه؛ فظنَّ نوحٌ أنَّهُ مؤمنٌ؛ فلذلك ناداه ، ولولا ذلك لما أحب نجاته .
الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يعلمُ أنه كافرٌ لكن ظنَّ أنه لمَّا شاهد الغرق ، والأهوال العظيمة فإنَّهُ يقبل الإيمان ، فكان قوله : { يابني اركب مَّعَنَا } كالدَّلائلِ على أنَّهُ طالبٌ منه الإيمان ، وتأكد هذا بقوله : { وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين } أي : تابعهم في الكفر ، واركب مع المؤمنين .
الثالث : أنَّ شفقة الأبوة لعلَّها حملته على ذلك النداء ، والذي تقدَّم من قوله : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } [ هود : 40 ] كان كالمجمل ، فلعلَّه جوَّز ألاَّ يكون هو داخلاً فيه .

وقيل : كان ابن امرأته ، ويدلُّ عليه ما تقدَّم من القراءة .
وقال قتادة : سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه فقلت : إنَّ الله - تعالى - حكى عنه أنه قال : { إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] وأنت تقولُ : ما كان ابناً له ، فقال : لَمْ يقل : إنَّ ابني منِّي ، وإنَّما قال : من أهلي ، وهذا يدلُّ على قولي .
وقيل : ولد على فراشه ، قالوا : لقوله تعالى في امرأة نوح ، وامرأة لوط { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا قول خبيثٌ يجب صون منصب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عن هذه الفضيحةِ لا سيما هو على خلاف نصِّ القرآن .
وأمَّا قوله تعالى : { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] فليس فيه أنَّ تلك الخيانة كانت بالسَّبب الذي ذكروه .
قيل لابن عباس - رضي الله عنه - : كيف كانت تلك الخيانةُ ، فقال : كانت امرأة نوح تقول : زَوْجي مجنونٌ ، وامرأة لوط تدلُّ الناس على ضيفه ، إذا نزلُوا به ، ويدلُّ على فسادِ هذا القول قوله تعالى : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ } [ النور : 26 ] وقوله : { والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } [ النور : 3 ] .
قوله : { يابني اركب مَّعَنَا } قرأ البزيُّ ، وقالون ، وخلاَّد بإظهار باء « ارْكَب » قبل ميم « مَنَعَنَا » والباقون بإدغامها في الميم ، وقرأ عاصم هنا « يَا بُنَيَّ » بفتح الياء . وأمَّا في غير هذه السُّورة فإنَّ حفصاً عنه فعل ذلك . والباقون : بسكر الياء في جميع القرآن إلا ابن كثير؛ فإنَّهُ في الأول من لقمان ، وهو قوله : { يابني لاَ تُشْرِكْ بالله } [ لقمان : 13 ] فإنَّه سكَّنهُ وصْلاً ووقْفاً ، وفي الثاني كغيره أنَّهُ يكسر ياءه ، وحفص على أصله من فتحه . وفي الثالث وهو قوله : { يابني أَقِمِ الصلاة } [ لقمان : 17 ] اختلف عنه فروى البزي كحفصٍ ، وروى عنه قنبل السُّكون كالأول . هذا ضبط القراءة .
وأمَّا تخريجها فمن فتح فقيل : أصلها : « يَا بُنَيَّا » بالألف فحذفت الألفُ تخفيفاً ، اجترأ عنها بالفتحةِ كما تقدَّم . وقيل : بل حذفت لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّهما وقع بعدها راءُ « ارْكَبْ » وهذا تعليلٌ فاسدٌ جدّاً ، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضع حيث لا ساكنان . وكأنَّ هذا المُعلَّل لم يعلمْ بقراءةِ عاصم في غير هذه السورة ، ولا بقراءة البزِّي في « لقمان » ، وقد نقل ذلك أبو البقاءِ ولمْ ينكرهُ . وكذلك قال الزمخشريُّ أيضاً .
وأمَّا من كسر فحذفت الياءُ أيضاً : إمَّا تخفيفاً وهو الصحيحُ ، وإما لالتقاء الساكنين ، وقد تقدَّم فسادهُ . وأمَّا من سكَّن فلما رأى من الثِّقَلِ مع مطلق الحركةِ ، ولا شكَّ أنَّ السُّكونَ من أخفِّ الحركاتِ ، ولا يقالُ : فلمَ وافق ابنُ كثير غير حفص في ثاني لقمان ، ووافق حفصاً في الأخيرة في رواية البزي عنه ، وسكَّن الأول؟ لأنَّ ذلك جمع بين اللغات ، والمفرَّق آتٍ بمحالٍ .

وأصلُ هذه اللفظة بثلاث ياءات : الأولى للتَّصغير ، والثانيةُ لامُ الكلمة ، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالةِ أو مبدلةٌ من واوٍ؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أول الكتاب في لام « ابن » ما هي؟ والثالثة ياءُ المتكلِّم مضافٌ إليها ، وهي التي طرأ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالها .
فصل
لمَّا حكى عن نوح أنَّه دعا ابنه إلى رُكوبِ السَّفينة حكى عن ابنه أنَّهُ قال : { سآويا إلى جَبَلٍ } سأصير وألتَجِىءُ إلى جبل { يَعْصِمُنِي مِنَ المآء } يمنعني من الغرقِ ، وهذا يدل على أنَّ الابنَ كان مُصِرّاً على الكفر ، فعند هذا قال نوحٌ : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } أي : من عذابِ الله { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } . وههنا سؤال :
وهو أن الذي رحمه الله معصومٌ ، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم؟
والجواب من وجوه :
الأول : أنَّهُ استثناءٌ منقطع ، وذلك أن تجعل « عَاصماً » على حقيقته ، و « مَنْ رَحِمَ » هو المعصوم ، وفي « رَحِمَ » ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على الله تعالى ، ومفعولهُ ضميرُ الموصولِ وهو « مَنْ » حذف لاستكمالِ الشروطِ ، والتقديرُ : لا عاصم اليوم ألبتة من أمر الله ، لكن من رحمه الله فهو معصوم .
الثاني : أن يكون المراد ب « مَنْ رَحِمَ » هو الباري تعالى كأنه قيل : لا عاصم اليومَ إلاَّ الرَّاحمَ .
الثالث : أنَّ عاصماً بمعنى معصُوم ، وفاعل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو : { مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] أي : مَدْقُوق؛ وأنشدوا : [ المتقارب ]
2975- بَطِيءُ القيامِ رَخِيمُ الكَلاَ ... مِ أمْسَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا
أي : مَفْتُوناً ، و « مَنْ » مرادٌ بها المعصومُ ، والتقدير : لا معصوم اليوم من أمْرِ الله إلاَّ من رحمه الله فإنَّه يُعْصَمُ .
الرابع : أن يكون « عاصم » هنا بمعنى النَّسب ، أي : ذا عِصْمَة نحو : لابن وتامر ، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم ، والمراد به هنا المعصوم .
وهو على هذه التَّقادير استثناءٌ متصلٌ ، وقد جعله الزمخشريُّ متصلآً لمدرك آخر ، وهو حذفُ مضافٍ تقديره : لا يعصمك اليوم مُعْتَصمٌ قط من جبلٍ ونحوه سوى مُعْتَصمٍ واحدٍ ، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم ، يعني في السفينة .
وأمَّا خبرُ « لا » فالأحسنُ أن يجعل محذوفاً ، وذلك لأنَّهُ إذا دلًَّ عليه دليلٌ؛ وجب حذفه عند تميم ، وكثر عند الحجاز ، والتقدير : لا عاصم موجودٌ .
وجوَّز الحوفيُّ وابنُ عطيَّة أن يكون خبرها هو الظرف وهو اليوم . قال الحوفيُّ : ويجوز أن يكون « اليَوْمَ » خبراً فيتعلَّق بالاستقرار ، وبه يتعلق « منْ أمْرِ اللهِ » .
وقد ردَّ أبو البقاءِ ذلك فقال : فأمَّا خبرُ « لا » فلا يجوزُ أن يكون « اليَوْمَ » ؛ لأنَّ ظرف الزَّمان لا يكون خبراً عن الجُثَّة ، بل الخبرُ « مِنْ أمْرِ الله » و « اليَوْمَ » معمولُ « مِنْ أمْرِ اللهِ » .

وأمَّا اليَوْمَ « و » مِنْ أمْرِ الله « فقد تقدَّم أنَّ بعضهم جعل أحدهما خبراً ، فيتعلقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمَّنه الواقعُ خبراً ، ويجوزُ في » اليَوْمَ « أن يتعلق بنفس » مِنْ أمْرِ الله « لكونه بمعنى الفعل .
وجوَّز الحوفيُّ أن يكون » اليَوْمَ « نعتاً ل » عَاصِمَ « وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعه خبراً عن الجُثَّة .
وقرىء » إلاَّ مَنْ رُحِمَ « مبنيّاً للمفعول ، وهي مقويِّيةٌ لقول من يدعي أنَّ » مَنْ رَحمَ « في قراءةِ العامَّة المرادُ به المرحوم لا الرَّاحم ، كما تقدَّم تأويلهُ . ولا يجوزُ أن يكون » اليوْمَ « ولا » مِنْ أمْرِ الله « متعلقين ب » عَاصم « وكذلك الواحد منهما؛ لأنَّه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً ، ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب ، ومتى أعرب نُوِّن ، ولا عبرة بخلاف الزجاج حيثُ زعم أنَّ اسم » لا « معربٌ حذف تنوينه تخفيفاً .
ثم قال سبحانه وتعالى : { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ } فصار { مِنَ المغرقين } .
روي أنَّ الماءَ علا على رؤوس الجبالِ قدر أربعين ذراعاً ، وقيل : خمسة عشر ذراعاً .
قوله تعالى : { وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ } قيل : هذا مجاز ، لأنَّها موات . وقيل : جعل فيها ما تُمَيَّز به . والذي قال إنَّه مجازٌ قال : لو فُتِّشَ كلام العرب والعجم ما وُجِدَ فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها ، وبلاغة وصفها ، واشتمال المعاني فيها .
والبلعُ معروفٌ . والفعل منه مكسُورُ العين ومفتوحها : بَلِعَ وبَلَعَ حكاهما الكسائي والفراء .
قيل : والفصيحُ » بَلِعَ « بكسر اللام » يَبْلَع « بفتحها . والإقلاعُ : الإمساك ، ومنه » أقْلَعَت الحُمَّى « . وقيل : أقلع عن الشيء ، أي : تره وهو قريبٌ من الأول . والغَيْضُ : النقصان ، يقال : غاض الماءُ يغيضُ غَيَْضاً ، ومغاضاً إذا نقص ، وغضته أنا . وهذا من باب فَعَلَ الشيءُ وفعلتهُ أنا . ومثله فغر الفَمُ وفغرته ، ودلع اللسانُ ودلعتهُ ، ونَقَصَ الشَّيء ونقَصْتُه ، وفعله لازم ومتعد ، فمن اللازم قوله تعالى : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } [ الرعد : 8 ] ، أي : تَنْقُص . وقيل : بل هو هنا مُتعدٍّ وسيأتي ، ومن المتعدِّي هذه الآيةُ؛ لأنَّه لا يُبْنَى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلاَّ المتعدِّ ] بنفسه .
والجُودِيُّ : جبلٌ بعينه بالموصل ، وقيل : بل كلُّ جبلٍ يقال له جُوديٌّ ، منه قول عمرو بن نفيل : [ البسيط ]
2976- سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ ... وقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ
قال شهابُ الدين : ولا أدري ما في ذلك من الدَّلالةِ على أنَّهُ عامٌّ في كلِّ جبلٍ .
وقرأ الأعمش وابنُ أبي عبلة بتخفيف ياء » الجُودِيْ « .
قال ابنُ عطيَّة : وهما لغتان : والصَّوابُ أن يقال : خُفِّفَتْ ياءُ النَّسَب ، وإن كان يجوزُ ذلك في كلامهم الفَاشِي .
قوله » بُعْداً « منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر ، أي : وقيل : ابعدُوا بُعْداً ، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو : جَدْعاً ، يقال : بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك ، قال : [ الطويل ]

2977- يَقُولُونَ لا تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ ... ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُوارِي الصَّفَائِحُ
واللاَّمُ إمَّا أن تتعلق بفعلٍ محذوفٍ ، ويكونُ على سبيل البيانِ كما تقدَّم في نحو « سَقْياً لَكَ وَرَعْياً » ، وإمَّا أن تتعلق ب « قيل » ، أي : لأجلهم هذا القول .
قال الزمخشري : ومجيءُ إخباره على الفعل المبني للمفعول للدَّلالة على الجلال والكبرياء ، وأنَّ تلك الأمُور العظام لا تكونُ إلاَّ بفعل فاعلٍ قادرٍ ، وتكوين مكوِّنٍ قاهرٍ ، وأنَّ فاعل هذه الأفعال واحد لا يشاركُ في أفعاله ، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره : يا أرضُ ابلعي ماءك ، ولا أن يقضي ذلك الامر الهائل إلاَّ هو ، ولا أن تستوي السفينة على الجُوديِّ ، وتستقر عليه إلاَّ بتسويته وإقرارهِ ، ولما ذكرنا من المعانِي والنُّكَث استفصَح عُلماءُ البيانِ هذه الآية ، ورقصُوا لها رُءوسَهُم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله : « ابلَعِي وأقلعي » ، وذلك وإن كان الكلامُ لا يخول مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ .
فصل
في هذه الآية ألفاظٌ كل واحد منها دال على عظمةِ الله - تعالى - .
فأولها : قوله : « وقِيلَ » وهذا يدلُّ على أنَّهُ سبحانه في الجلال والعظمة بحيثُ أنَّهُ متى قبل لم ينصرف الفعل إلاَّ إليه ، ولم يتوجَّه الفكرُ إلاَّ إلى ذلك الأمر؛ فدلَّ هذا الوجهُ على أنَّهُ تقرر في العقول أنَّهُ لا حاكمَ في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والسفلي إلاَّ هُوَ .
وثانيها : قوله : { ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي } فإنَّ الحسَّ يدلُّ على عظمة هذه الأجسامِ ، والحقُّ - تعالى - مستولٍ عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد ، فصار ذلك سبباً لوقوف القوَّة العقليَّة على كمالِ جلالِ الله - تعالى - وعلوّ قدره وقدرته وهيبته .
وثالثها : أَنَّ السَّماء والأرض من الجمادات ، فقوله : « يَا أرضُ وَيَا سَمَاءُ » مشعرٌ بحسب الظَّاهر على أنَّ أمره وتكليفه نافِذٌ في الجمادات ، وإذا كان كذلك حكم الوهم بأنَّ نفوذ أمره على العقلاء أولى ، وليس المرادُ منه أَنَّهُ تعالى يأمرُ الجمادات فإنَّ ذلك باطل ، بل المراد أنَّ توجيه صيغة الأمر بحسب الظَّاهر على هذه الجمادات القويَّة الشديدة يقرّر في الوهم قدر عظمته وجلاله تقريراً كاملاً .
ورابعها : قوله : { وَقُضِيَ الأمر } ومعناه : أنَّ الَّذي قضى به وقدَّره في الأزل قضاء جزماً فقد وقع ، ذلك يدلُّ على أنَّ ما قضى اللهُ - تعالى - به فهو واقعٌ في وقته وأنه لا دافع لقضائه ، ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه .
فإن قيل : كيف يليق بحكمة الله - تعالى - أن يغرق الأطفال بسبب جُرم الكبار؟ .
فالجواب من وجهين :
الأول : قال أكثر المفسِّرين : إنَّ الله - تعالى - أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة ، فلمْ يغرق إلاَّ من بلغ سِنُّه أربعين سنة .

ولقائل أن يقول : لو كان ذلك لكان آية عجيبة قاهرة ظاهرة ، ويبعدُ مع ظهورها استمرارهم على الكفر ، وأيضاً فهبْ أنَّ الأمر كما ذكرتم فما قولكم في إهلاكِ الطَّيْرِ الوحش مع أنَّه لا تكليف عليها ألبتَّة .
الجوابُ الثاني : أنه لا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] وأجاب المعتزلةُ بأنَّ الإغراقَ في الحيوانات والأطفال كإذنه في ذبْحِ هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة .
وقوله : { وَقُضِيَ الأمر } أي : فرغ منه ، وهو هلاك القوم .
وقوله : { واستوت عَلَى الجودي } أي : استوت السَّفينة على جبلٍ بأرضِ الجزيرةِ بقرب الموصل يقال له الجُودي . قيل : استوت يَوْمَ عاشوراء .
{ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين } قيل : هذا من كلام اللهِ - تعالى - قال لهم ذلك على سبيل اللَّعْنِ والطَّرْدِ . وقيل : من كلام نوح وأصحابه؛ لأنَّ الغالب ممَّن سلم من الأمر الهائل بسبب اجتماعهم مع الظلمةِ فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام .
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : لمَّا عرف نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - أنَّ الماءَ قد نضب هبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين بعدد من كان معه من المؤمنين؛ فأصبحوا ذات يومٍ ، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها لغة العربِ ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض ، فكان نُوح - عليه الصلاة والسلام - يعبر عنهم .

وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

قوله تعالى : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ } الآية .
قوله : « فَقَالَ » عطفٌ على « نَادَى » . قال الزمخشريُّ : فإن قلت : وإن كان النداءُ هو قوله « رَبّ » فكيف عطف « فقال رَبّ » على « نَادَى » بالفاء؟ قلت : أريد بالنداء إرادةُ النداء ، ولو أريد النداء نفسه لجاء - كما جاء في قوله { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] - { قَالَ رَبِّ } [ مريم : 4 ] بغير فاء .
فصل
تقدَّم الكلامُ في أنَّهُ هل كان ابناً له أم لا؟ فقوله : { رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي } وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي { وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق } لا خلف فيه { وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } حكمت على قوم بالنَّجاةِ وعلى قوم بالكُفْر والهلاك؛ قال الله : { يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } واعلم أنَّه لمَّا ثبت بالدليل ، أنه كان ابناً له ، وجب أن يكون المراد : ليس من أهل دينك . وقيل : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك .
قوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } : قرأ الكسائيُّ « عَمِلَط فعلاً ماضياً ، و » غيرَ « نَصْباً .
والباقون : » عَمَلٌ « بفتح الميمِ وتنوينه على أنه اسمٌ ، و » غَيْرُ « بالرَّفع .
فقراءةُ الكسائي : الضميرُ فيها يتعيَّنُ عودهُ على ابنِ نوحٍ ، وفاعل » عَمِلَ « ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً ، و » غَيْرَ « مفعولٌ به . ويجوزُ أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، تقديره : عمل عملاً غير صالح كقوله { واعملوا صَالِحاً } [ المؤمنون : 51 ] . وقيل : إنه ذو عمل باطل فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه .
وأمَّا قراءةُ الباقين ، ففي الضَّمير أربعة أوجهٍ :
أظهرها : أنَّه عائدٌ على ابن نوح ، ويكونُ في الإخبار عنه بالمصدر المذاهب الثلاثة في » رجل عدل « ، و » زيْدٌ كرمٌ وجُودٌ « .
والثاني : أنه يعودُ على النداء المفهوم منق وله : » ونَادَى « أي : نداؤك وسؤالك .
وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكيٌّ والزمخشريُّ . وهذا فيه خطرٌ عظيمٌ ، كيف يقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياءِ ، فضلاً عن أول رسول أرسل إلى أهل الأرض بعد آدم - عليهما الصلاة والسلام -؟ ولمَّا حكاه الزمخشريُّ قال : » ليسَ بذاك « ولقد أصاب . واستدلَّ من قال بذلك أنَّ في حرف عبد الله بن مسعود إنَّه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما لَيْسَ لك به علمٌ وهذا مخالفٌ للسَّواد .
الثالث : أنَّهُ يعودُ على ركوب ابن نوح المدلول عليه بقوله : » اركب مَعَنَا « .
الرابع : أنَّهُ يعودُ على تركه الرُّكُب ، وكونه مع المؤمنين ، أي : إنَّ تركه الركوبَ مع المؤمنين وكونه مع الكافرين عملٌ غير صالح ، وعلى الأوجه لا يحتاج في الإخبار بالمصدر إلى تأويلٍ؛ لأنَّ كليهما معنى من المعاني ، وعلى الوجه الرابع يكون من كلام نوح - عليه الصلاة والسلام - ، أي : إنَّ نوحاً قال : إنَّ كونك مع الكافرين وتركك الركوبَ معنا عمل غيرُ صالح ، بخلاف ما تقدَّم فإنَّه من قول الله تعالى فقط ، هكذا قال مكيٌّ وفيه نظرٌ ، بل الظَّاهرُ أنَّ الكلَّ من كلام الله تعالى .

وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : هلاَّ قيل : إنَّه عملٌ فاسدٌ . قلت : لما نفاه عن أهله نفى عنه صفتهم بلفظ النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي ، وآذن بذلك أنَّه إنَّما أنْجَى من أنْجَى لصلاحهم لا لأنَّهم أهلك .
قوله : { فَلاَ تَسْأَلْنِي } قرأ نافع وابن عامرٍ « فلا تَسْألنِّ » بتشديدِ النون مكسورة من غير ياء . وابن كثير بتشديدها مع الفتح ، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ مكسورةٍ خفيفة ، وياءٍ وصلاً لأبي عمرو ، ودون ياء في الحالين للكوفيين . وفي الكهف { فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ } [ الكهف : 70 ] قرأه أبو عمرو والكوفيون كقراءتهم هنا ، وافقهم ابنُ كثير في الكهف ، وأما نافعٌ وابنُ عامر فكقراءتهما هنا ولابن ذكوان خلافٌ في ثبوتِ الياءِ وحذفها ، وإنَّما قرأ ابن كثير التي في هود بالفتح دون التي في الكهفِ؛ لأنَّ الياء في هود ساقطة في الرسم؛ فكانت قراءته بفتح النون محتملةً بخلاف الكهف فإنَّ الياء ثابتةٌ في الرَّسْمِ ، فلا يوافق فيها فتحها . وقد تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوت الياء في الكهفِ .
فمن خفَّف النون ، فهي نونُ الوقاية وحدها ، ومن شدَّدها فهي نون التوكيد .
وابنُ كثير لم يجعل في هود الفعل متصلاً بياء المُتكلم ، والباقون جعلوه . فلزمهم الكسرُ . وقد تقدَّم أنَّ « سَأَلَ » يتعدَّى لاثنين أوَّلهما ياء المتكلم ، والثاني { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } .
قوله : « أن تكون » على حذف حرف الجر ، أي : مِنْ أن تكون أو لأجْلِ أن ، وقوله : { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } يجوزُ في « بِهِ » أن يتعلَّق ب « عِلْم » .
قال الفارسيُّ : ويكون مثل قوله : [ الرجز ]
2978- كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أجْلَدَا ... ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به « لَكَ » ، والباء بمعنى « في » ، أي ما ليس لك به علمٌ . وفيه نظرٌ .
ثم قال : { إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } يعني أن تدعو بهلاك الكفار ، ثم تسأل نجاة كافر { قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } وهذا إخبار بما في المستقبل وهو العزم على الترك .
قوله : { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي } لم تمنع « لا » من عمل الجازم كما لم تمنعْ من عمل الجارِّ في نحو : « جِئْتُ بلا زادٍ » قال أبو البقاء : « لأنَّها كالجزء من الفعل وهي غيرُ عاملةٍ في النَّفْي ، وهي تنفي ما في المستقبل ، وليس كذلك » مَا « فإنَّها تنفي ما في الحالِ؛ فلذلك لمْ يَجُزْ أن تدخُل » إنْ « عليها » .

قوله : { قِيلَ يانوح } الخلافُ المتقدم في قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ } [ البقرة : 13 و 91 ] وشبهه عائدٌ هنا ، أي : في كونِ القائم مقام الفاعلِ الجملة المحكيةَ أو ضمير مصدرِ الفعل .
قوله : « بِسَلاَمٍ » حالٌ من فالع « اهْبِطْ » أي : مُلْتَبساً بسلامٍ . و « مِنا » صفةٌ ل : « سَلام » فيتعلق بمحذوفٍ أو هو متعلقٌ بنفس « سلام » ، وابتداءُ الغاية مجازٌ ، وكذلك « عَلَيْكَ » يجوز أن يكون صفة ل « بَركات » أو متعلقاً بها .
ومعنى « اهْبِطْ » انزل من السفينة ، وعدهُ عند الخروج بالسَّلامة أولاً ، ثم بالبركةِ ثانياً .
والبركة : ثبوت الخير ومنه بروك البعير ، ومنه البركةُ لثبوت الماء فيها ، ومنه { تَبَارَكَ الله } [ الأعراف : 54 ] أي : ثبت تعظيمه وقيل : البركةُ ههنا هي أنَّ الله - تعالى - جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة ، ثم لمَّا بشَّرهُ بالسَّلامة والبركةِ شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال : { وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } قيل : المرادُ الذين معه ، وذرياتهم ، وقيل : ذريَّة من معهُ .
قوله { مِّمَّن مَّعَكَ } يجوز في « مَنْ » أن تكون لابتداء الغاية ، أي : ناشئة من الذين معك ، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدَّهْر ، ويجوز أن تكون « مِنْ » لبيان الجنس ، فيراد الأمم الذين كانُوا معه في السفينة؛ لأنَّهم كانوا جماعاتٍ .
وقُرِىء « اهْبُط » بضمِّ الباءِ ، وقد تقدَّم أول البقرة ، وقرأ الكسائيُّ - فيما نُقِل عنه - « وبركة » بالتوحيد .
قوله : « وأمم » يجوزُ أن يكون مبتدأ ، و « سَنُمَتِّعُهُمْ » خبره ، وفي مسوغ الابتداء وجهان :
أحدهما : الوصفُ التقديري ، إذ التقديرُ : وأممٌ منهم ، أي : ممَّن معك كقولهم : « السَّمْن منوان بدرهم » ف « مَنَوان » مبتدأٌ وصفَ ب « منه » تقديراً .
والثاني : أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو : « النَّاسُ رجلان : رجلٌ أهَنْتُ ، وآخرُ أكْرَمْتُ » ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
2979- إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفهَا انحَرفَتْ لهُ ... بِشِقٍّ وشِقٍّ عندنَا لَمْ يُحَوَّلِ
ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضَّمير المستتر في « اهْبِطْ » وأغنى الفصل عن التأكيد بالضَّمير المنفصل ، قاله أبو البقاء . قال أبو حيَّان : وهذا التقديرُ والمعنى لا يصلحان ، لأنَّ الذين كانُوا مع نوح في السَّفينةِ إنَّما كانُوا مُؤمنين؛ لقوله : { وَمَنْ آمَنَ } ولم يكُونُوا كُفَّاراً ومؤمنين ، فيكون الكفار مأمورين بالهبوطِ ، إلاَّ إنْ قُدِّرَ أنَّ من المؤمنين من يكفر بعد الهبوطِ ، وأخبر عنهم بالحال اليت يؤولُون إليها فيمكن على بُعْدٍ . وقد تقدَّم أنَّ مثل ذلك لا يجُوزُ ، في قوله { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [ البقرة : 35 ] لأمرٍ صناعي ، و « سَنُمَتِّعُهُمْ » على هذا صفةٌ ل « أمم » ، والواوُ يجوز أن تكون للحال قال الأخفشُ : كما تقولُ : كلَّمْتُ زيداً وعمرٌو جالس « ويجُوزُ أن تكون لمجرَّدِ النَّسَق .

واعلم أنَّهُ سبحانه أخبر بأنَّ الأمم النَّاشئة الذين كانوا مع نوحٍ لا بدَّ وأن ينقسمُوا إلى مؤمنٍ وكافرٍ .
ثم قال : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب } وقد تقدَّم الكلامُ فيها عند قوله { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } [ آل عمران : 44 ] في آل عمران . و « تلك » في محلِّ رفع على الابتداء ، و { مِنْ أَنْبَآءِ الغيب } الخبر ، و « نُوحِيهَا إليْكَ » خبر ثان .
قوله : { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ } يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكون حالاً من الكاف في « إليك » وأن تكون حالاً من المفعول في « نُوحيهَا » وأن تكون خبراً بعد خبر .
والمعنى : ما كنت تعلمُها أنت يا محمدُ ولا قومك ، أي : إنَّك ما كنت تعرفُ هذه القصة وقومك أيضاً ما كانوا يعرفونها ، كقول الإنسان لآخر : لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك .
فإن قيل : أليس قد كانت قصة الطوفان مشهورة عند أهل العلم؟ .
فالجواب : أنها كانت مشهورة بحسب الإجمال ، أمَّا التَّفاصيلُ المذكورة فما كانت معلومة .
ثم قال تعالى : « فاصْبِرْ » يا محمد أنت وقومك على أولئك الكفار « إنَّ العافيةَ » آخر الأمر والنّصر والظّفر « لِلْمُتَّقين » .
فإن قيل : إنَّه ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم أعادها ، فما فائدة هذا التكرار؟ .
فالجوابُ : أنَّ القصة الواحدة قد ينتفعُ بها من وجوه ، ففي السورةِ الأولى كان الكفار يستعجلُون نزول العذاب ، فذكر - تعالى - قصة نوح وبيَّن أنَّ قومه كانُوا يكذبُونه بسبب أنَّ العذابَ ما كان يظره ثُمَّ في العاقبةِ ظهر ، فكذا في واقعة محمد - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - ، وفي هذه السورة ذكر القصة لبيان أنَّ إقدامَ الكُفَّار على الإيذاء ، والإيحاش كان حاصلاً في زمن نُوح ، فلمَّا صبر نال الفتح والظفر ، فكن ، يا مُحمَّدُ ، كذلك لتنال المقصود ، فلمَّا كان الانتفاعُ بالقصة في كُلِّ سُورة من وجهٍ لم يكن تكريرها خالياً عن الفائدةِ .

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)

قوله تعالى : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } القصَّةُ : معطوفان على قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } [ هود : 25 ] في عطف مرفوع على مرفوع ومجرور ، كقولك : ضرب زيدٌ عمراً ، وبكرٌ خالداً وليس من باب ما فُصِل فيه بين حرفِ العطفِ والمعطوفِ بالجارِّ والمجرور نحو : « ضَرَبْتُ زيداً ، وفي السُّوق عَمْراً » فيجيءُ الخلافُ المشهورُ .
وقيل : بل هو على إضمار فعلٍ ، أي : وأرْسَلْنَا هوداً ، وهذا أوفق لطولِ الفصلِ .
و « هوداً » بدلٌ أو عطفُ بيان لأخيهم .
وقرأ ابنُ محيصنٍ « يَا قَوْمُ » بضم الميم ، وهي لغةُ بعضهم يبنُون المضاف للياء على الضَّم كقوله تعالى : { قَالَ رَبِّ احكم } [ الأنبياء : 112 ] بضمِّ الياء ، ولا يجوز أن يكون غير مضافٍ للياءِ كما سيأتي في موضعه إن شاء الله .
وقوله : { مِّنْ إله غَيْرُهُ } تقدّضم في الأعراف .
فصل
كان هود أخاهم في النسب لا في الدِّين؛ لأنه كان من قبيلةِ عادٍ ، وهم قبيلةٌ من العربِ بناحية اليمنِ ، كما يقالُ للرَّجُلِ : يا أخا تميم ، ويا أخا سليمٍ ، والمرادُ رجلٌ منهم .
فإن قيل : إنَّه تعالى قال في ابن نُوح { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] فبيَّن أنَّ قرابة النَّسبِ لا تفيدُ إذا لم تَحْصُلْ قرابةُ الدِّين ، وههنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدِّين ، فما الفرقُ بينهما؟ .
فالجوابُ : أنَّ المراد من هذا الكلام استمالة قوم محمدٍ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّ قومهُ كانُوا يستبعدُون في محمدٍ صلى الله عليه وسلم مع أنَّهُ واحدٌ من قبيلتهم أن يكون رسولاً إليهم من عند الله ، فذكر الله تعالى أنَّ هوداً كان واحداً من عاد ، وأنَّ صالحاً كان واحداً من ثمود ، لإزالة هذا الاستبعاد .
{ قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله } [ الأعراف : 65 ] وحدُوا الله ، ولا تعبدُوا غيرهُ .
فإن قيل : كيف دعاهم إلى عبادةِ قبل إقامةِ الدَّلالة على ثبوت الإله تعالى؟ .
فالجواب : أنَّ دلائل ثُبوتِ وجود الله تعالى ظاهرة ، وهي دلائلُ الآفاق والأنفس ، وقلَّما تُوجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله؛ ولذلك قال تبارك وتعالى في صفة الكفار : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] .
ثم قال : « إنْ أنتُمْ » ما أنتم « إلاَّ مُفْتَرُونَ » كاذبُون في إشراككم .
ثم قال : { ياقوم لاا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } أي : على تبليغ الرسالة جُعْلاً { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني } وهذا عينُ ما ذكره نوح - عليه الصلاة والسلام - .
قرأ نافع ، والبزي بفتح ياء « فَطَرني » ، وأبو عمرو وقنبل بإسكانها . ومعنى « فَطَرني » خلقني ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أني مصيبٌ في المنع من عبادة الأوثان .
ثم قال : { وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ } آمنوا به ، والاستغفارُ - ههنا - بمعنى الإيمان .
وقال الأصمُّ : { استغفروا رَبَّكُمْ } أي : سلُوه أن يغفر لكم ما تقدَّم من شرككم ، ثم توبوا من بعده بالنَّدم على ما مضى ، وبالعزمِ على أن لا تعودوا إلى مثله ، فإذا فعلتُم ذلك فالله يكثرُ النّعْمَة عليكم .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75