كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

قال : فهذا هو المراد من قوله عزَّ وجلَّ : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } .
والقول الأول أولى؛ لأنَّ سعيه في الشَّفاعة يفيد إقدام الناس على حمده ، فيصير محموداً ، وأمَّا ذكر هذا الدعاء ، فلا يفيد إلا الثواب ، أمَّا الحمد ، فلا .
فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنَّه تعالى يحمده على هذا القول؟ .
فالجواب : أنَّ الحمد في اللغة : مختصٌّ بالثناءِ المذكور ف يمقابلة الإنعام بلفظٍ ، فإن ورد لفظ « الحمد » في غير هذا المعنى ، فعلى سبيل المجاز .
القول الثالث : المراد مقامٌ تحمد عاقبته ، وهذا ضعيفٌ؛ لما ذكرنا .
القول الرابع : قال الواحديُّ - رحمه الله - : روي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - أنه قال : يقعدُ الله محمداً على العرشِ ، وعن مجاهد أنَّه قال : يجلسه معه على العرشِ .
قال الواحدي : وهذا قولٌ رذلٌ موحشٌ فظيعٌ ، ونص الكتاب يفسد هذا التفسير من وجوه :
الأول : أن البعث ضدُّ الإجلاس ، يقال : بعثتُ النَّاقة ، وبعث الله الميت ، أي : أقامه من قبله ، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضدِّ بالضدِّ؛ وهو فاسدٌ .
والثاني : أنه تعالى ، لو كان جالساً على العرشِ ، بحيث يجلس عنده محمد - صلوات الله وسلامه عليه - لكان محدوداً متناهياً ، ومن كان كذلك ، فهو محدثٌ .
الثالث : أنه تعالى قال : { مَقَاماً مَّحْمُوداً } ولم يقل : مقعداً ، والمقام : موضع القيام ، لا موضع القعود .
الرابع : أن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزازٍ؛ لأن هؤلاء الحمقاء يقولون : إنَّ أهل الجنة كلهم يجلسون معه ويرونه ، وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكلِّ المؤمنين ، لم يكن في تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بذلك مزيد شرفٍ ومرتبةٍ .
الخامس : أنه إذا قيل : السلطان بعث فلاناً ، فهم منه أنَّه أرسله لإصلاح مهماتهم ، ولا يفهم أنه أجلسه مع نفسه؛ فثبت أن هذا القول كلام رذلٌ ، لا يميل إليه إلاَّ قليل العقل ، عديم الدِّين .

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)

قوله تعالى : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } الآية .
يحتمل أن يكون « مدخل » مصدراً ، وأن يكون ظرف مكانٍ ، وهو الظاهر ، والعامة على ضمِّ الميم فيهما؛ لسبقهما بفعل رباعيٍّ ، وقرأ قتادة ، وأبو حيوة ، وإبراهيم بن أبي عبلة ، وحمسدٌ بفتح الميم فيهما : إمَّا لأنهما [ مصدران على حذف الزوائد؛ ك { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ؛ وإمَّا لأنهما ] منصوبان بمقدر موافق لهما ، تقديره : فادخل مدخل ، واخرج مخرج ، وقد تقدَّم هذا مستوفًى في قراءةِ نافع في سورة النساء [ الآية : 31 ] ، وأنه قرأ كذلك في سورة الحجِّ [ الآية : 59 ] .
و « مُدخلَ صِدقٍ » ، و « مُخرجَ صِدقٍ » من إضافة التبيين ، وعند الكوفيين من إضافة الموصوف لصفته؛ لأنه يوصف به مبالغة .
و « سلطاناً » هو المفعول الأول للجعلِ ، والثاني أحدُ الجارَّين المتقدمين ، والآخر متعلِّقٌ باستقراره ، وقوله « نَصِيراً » يجوز أن يكون محولاً من « فاعلٍ » للمبالغة ، وأن يكون بمعنى مفعول .
فصل في معنى « مُدخَلَ صِدقٍ » و « مُخْرَجَ صِدْقٍ »
قد تقدَّم في قوله : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض } [ الإسراء : 76 ] قولان :
أحدهما : أن يكون المراد منه سعي كفَّار مكَّة في إخراجه منها .
والثاني : المراد منه اليهود؛ قالوا له : الأولى أن تخرج من المدينة إلى الشَّام ، ثم قال : « أقم الصَّلاة » واشتغل بعبادة الله تعالى ، ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهَّال ، فإنَّ الله تعالى يعينك ، ثمَّ عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة من أن كفَّار مكَّة أرادوا إخراجه ، فأراد الله تعالى هجرته إلى المدينة ، وقال له : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } ، وهو المدينة ، { وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } ، وهو مكَّة ، وهذا قول ابن عبَّاس ، والحسن ، وقتادة .
وعلى التفسير الثاني ، وهو أنَّ المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذَّهاب إلى الشَّام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ أمر بأن يرجع إليها ، فلمَّا عاد إلى المدينة ، قال : « ربِّ أدخلْنِي مُدخلَ صدقٍ » وهي المدينة ، « وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدقٍ » يعني : إلى مكة؛ [ بالفتح ] ، أي : افتحها .
وقال الضحاك : « أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ » ظاهراً على مكة بالفتح « وأخْرِدنِي مُخرجَ صِدْقٍ » من مكة ، آمناً من المشركين .
وقال مجاهد : أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة ، والقيام بمهمات أداء شريعتك ، « وأخْرِجْنِي » من الدنيا ، وقد قمت بما وجب عليَّ من حقِّها « مُخرجَ صِدقٍ » أي : إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ .
وعن الحسن : « أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ » الجنة ، « وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدْقٍ » أي : إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ من مكة .
وقيل : أدخلني في طاعتك ، وأخرجني من المناهي .

وقيل : أدخلني القبر مدخل صدقٍ ، وأخرجني منه مخرج صدقٍ ، وقيل : أدخلني حيثُ ما أدخلتني بالصِّدق ، وأخرجني بالصِّدق ، أي : لا تجعلني ممَّن يدخل بوجهٍ ، ويخرج بوجهٍ ، فإنَّ ذا الوجهين لم يكن عند الله وجيهاً .
ووصف الإدخال والإخراج بالصِّدقِ؛ لما يئول غليه الدُّخولُ والخروج من النصر ، والعزِّ ، ودولة الدِّين ، كما وصف القدم بالصِّدق؛ فقال : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [ المائدة : 67 ] .
وقال : { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } [ المجادلة : 22 ] .
وقال : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] .
ولما سأل الله تعالى النُّصرة ، بيَّن أنَّه أجاب دعاءه؛ فقال : { وَقُلْ جَآءَ الحق } . وهو دينه وشرعه .
قوله : { وَزَهَقَ الباطل } . وهو كل ما سواه من الأديان ، والشَّرائع ، قاله السديُّ .
وقيل : جاء الحقُّ ، أي : القرآن . وزهق الباطل ، أي : ذهب الشيطان ، قاله قتادة .
وقيل : الحقُّ : عبادة الله تعالى ، والباطل عبادة الأصنام .
وعن ابن مسعودٍ : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكَّة يوم الفتح ، وحول البيت ثلاثمائةٍ وستُّون صنماً ، فجعل يضربها بعودٍ في يده ، وجعل يقول : { جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل }
[ أي : ذهب الشيطان ] كان الصَّنمُ ينكبُّ على وجهه .
قوله : { إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً } . أي : إنَّ الباطل ، وإن كان له دولةٌ ، لا يبقى ، بل يزول بسرعة .
والزُّهوقُ : الذِّهاب ، والاضمحلال؛ قال : [ الكامل ]
3457- ولقَدْ شَفَى نَفْسِي وأبْرَأ سُقمهَا ... إقْدامهُ بِمزَالةٍ لمْ يَزْهقِ
يقال : زهقت نفسي تزهقُ زهوقاً بالضمِّ ، وأمَّا الزُّهوقُ ، بالفتح ، فمثال مبالغة؛ كقوله : [ الطويل ]
3458- ضَرُوبٌ بِنصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها .. . . .
قوله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن } : في « مِنْ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها لبيان الجنس ، قاله الزمخشري ، وابن عطيَّة ، وأبو البقاء ، وردَّ عليهم أبو حيان : بأنَّ التي للبيان ، لا بد وأن يتقدَّمها ما تبينه ، لا أن تتقدم هي عليه ، وهنا قد وجد تقدُّمها عليه .
الثاني : أنها للتبعيض ، وأنكره الحوفي؛ قال : « لأنه يلزم ألاَّ يكون بعضه شفاء » وأجيب عنه : بأنَّ إنزاله إنَّما هو مبعضٌ ، وهذا الجواب ليس بظاهرٍ ، وأجاب أبو البقاء بأنَّ منه ما يشفي من المرض . وهذا يؤيده الدَّليلُ المتقدِّم ، وأجاز الكسائيُّ : « ورَحْمةً » بالنصب عطفاً على ما تظاهر وهذا قد وجد بدليل رقية بعض الصحابة سيِّد الحيِّ الذي لدغ ، بالفاتحة؛ فشفي .
الثالث : أنها لابتداءِ الغاية ، وهو واضحٌ .
والجمهور على رفع « شفاء ورحمةٌ » خبرين ل « هُوَ » ، والجملة صلة ل « مَا » وزيد بن عليٍّ بنصبهما ، وخرِّجت قراءته على نصبهما على الحال ، والخبر حينئذ « لِلمُؤمنينَ » وقدِّمت الحال على عاملها المعنوي ، كقوله تعالى : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ } [ الزمر : 67 ] في قراءة من نصب « مَطْويَّاتٍ » ، وقول النابغة :
3459- رَهْطُ ابنِ كُوزٍ مُحقِبِي أدْرَاعهُمْ ... فِيهمْ ورَهْطُ رَبيعَة بْنِ حُذارِ
وقيل : منصوبان بإضمار فعلٍ ، وهذا عند من يمنع تقديمها على عاملها المعنوي ، وقال أبو البقاء : وأجاز الكسائي : « ورحْمَةً » بالنصب عطفاً على « مَا » فظاهر هذا أن الكسائيَّ [ بقَّى ] « شِفاءٌ » على رفعه ، ونصب « رَحْمةً » فقط عطفاً على « ما » الموصولة؛ كأه قيل : ونُنزِّل [ من القرآن رحمة ، وليس في نقله ما يؤذن بأنه تلاها قرآناً ، وتقدَّم الخلاف في ] « ونُنزِّلُ » تخفيفاً وتشديداً ، والعامة على نون العظمة .

ومجاهد « ويُنزِلُ » بياء الغيبة ، أي : الله .
فصل في المراد ب « مِنْ » في الآية
قال المفسِّرون : إنَّ « من » هنا للجنسِ؛ كقوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .
أي : ونُنزِّل من هذا الجنس الذي هو قرآنٌ ما هو شفاءٌ ، فجميع القرآن شفاء للمؤمنين ، أي : بيانٌ من الضلالة والجهالة يتبيَّن به المختلف ، ويتَّضح به المشكل ، ويستشفى به من الشُّبهة ، ويهتدى به من الحيرة ، وهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها .
واعلم أنَّ القرآن شفاء من المراض الرُّوحانيَّة ، والأمراض الجسمانية .
أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية؛ لأنَّ المرض الروحانيَّ قسمان :
أحدهما : الاعتقادات الباطلة ، وأشدُّها فساداً الاعتقادات الفاسدة في الإلهيَّات ، والنبوَّات ، والمعاد ، والقضاءِ ، والقدر؛ والقرآن كلُّه مشتملٌ على دلائل الحقِّ في هذه المطالب .
والثاني : الأخلاق المذمومة؛ والقرآن مشتمل على تفاصيلها ، وتعريف ما فيها من المفاسد ، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة ، وكان القرآن شفاء من الأمراض الروحانيَّة .
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية؛ فلأنَّ التبرُّك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض؛ ويؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ لَمْ يَستشْفِ بالقرآنِ ، فلا شَفاهُ الله تعالى » .
وما ورد في حديث الرقية بالفاتحة .
ثم قال : { ولا يَزيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً } المراد بالظالمين ها هنا : المشركون؛ لأنَّ سماع القرآن يزيدهم غضباً ، وغيظاً ، وحقداً ، وكلَّما نزلت آيةٌ يتجدَّد تكذيبٌ؛ فتزداد خسارتهم .
قال مجاهد وقتادة : لم يجالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادةٍ أو نقصان : قضاء الله الذي قضاه شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ، ولا يزيد الظَّالمين إلا خساراً .
ثم إنه تعالى ذكر السَّبب الأصلي في وقوع هؤلاء الجهَّال في أودية الضَّلال ، وهو حبُّ الدنيا ، والرغبة في المال والجاه ، واعتقادهم أن ذلك إنَّما يحصل بجدِّهم واجتهادهم ، فقال : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } .
قال ابن عباس : الإنسان ها هنا هو الوليد بن المغيرة .
والأوْلى أنَّ كل إنسان من شأنه إذا فاز بمقصوده ، غترَّ وصار غافلاً عن عبادة الله - تعالى - وتمرَّد على طاعته؛ كما قال : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 6 ، 7 ] .
قوله تعالى : { وَنَأَى } : قرأ العامة بتقديم الهمزة على حرف العلة؛ من النَّأي ، وهو البعدُ ، وابن ذكوان - ونقلها أبو حيان وابن الخطيب عن ابن عامر وأبو جعفر : « نَاءَ » مثل « جَاءَ » بتقديم الألف على الهمزة ، وفيها تخريجان : أحدهما : أنها من : نَاءَ ، يَنُوء ، أي : نَهضَ؛ قال : [ الرجز ]

3460- حتَّى إذا مَا التَأمَتْ مَفاصِلُه ... ونَاءَ في شقِّ الشِّمالِ كَاهِلُه
والثاني : أنه مقلوبٌ من « نَأى » ، ووزنه « فَلعَ » كقولهم في « رَأى » : « رَاءَ » إلى غير ذلك فيكونان بمعنى ، ولكن متى أمكن عدم القلب ، فهو أولى ، وهذا الخلافُ أيضاً في حم السجدة [ فصلت : 51 ] .
وأمال الألف إمالة محضة الأخوان ، وأبو بكرٍ ، عن عاصمٍ ، وبين بين؛ بخلاف عنه ، السوسيُّ ، وكذلك في فصِّلت ، إلا أبا بكرٍ؛ فإنه لم يمله .
وأمال فتحة النون في السورتين خلفٌ ، وأبو الحارث والدُّوري عن الكسائيِّ .
ثم قال : { وَإِذَا مَسَّهُ الشر } ، أي : الشِّدة ، والضر { كَانَ يَئُوساً } أيساً قنوطاً .
وقيل : معناه : أنَّه يتضرَّع ، ويدعو عند الضُّرِّ والشدَّة ، فإذا تأخَّرت الإجابة ، أيس ، ولا ينبغي للمؤمن أن يَيْئَسَ من الإجابة ، وإن تأخَّرت ، فيدع الدعاء .
قوله تعالى : { على شَاكِلَتِهِ } : متعلق ب « يَعْمَلُ » ، والشَّاكلةُ : أحسنُ ما قيل فيها ما قاله الزمخشريُّ والزجاج : أنها مذهبه الذي يشاكلُ حاله في الهدى والضلالة؛ من قولهم : « طريقٌ ذو شَواكلَ » ، وهي الطرقُ التي تَشعَّبتْ منه؛ والدليل عليه قوله تعالى : { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } ، وقيل : على دينه ، وقيل : خلقه ، وقال ابن عباسٍ : « جانبه » وقال الحسن ، وقتادة : على نيَّته . وقال الفراء : « على طَريقتهِ ، والمذهب الذي جبل عليه » .
[ وهو ] من « الشَّكلِ » وهو المثل؛ يقال : لست على شكْلِي ، ولا شَاكلتي ، وأمَّا « الشَّكلُ » بالكسر فهو الهيئة؛ يقال : جاريةٌ حسنة الشِّكلِ ، وقال امرؤ [ القيس ] في « الشَّكل » بالفتح : [ الكامل ]
3461- حَيِّ الحُمولَ بِجانبِ العَزْلِ ... إذْ لا يُلائِمُ شَكلُهَا شَكْلِي
أي : لا يلائم مثلها مثلي .
قال ابن الخطيب : والذي يقوى عندي : أنَّ المراد من المشاكلة ما قاله الزجاج ، والزمخشريُّ؛ لقوله بعد ذلك : { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } [ الإسراء : 84 ] .
وفيه وجه آخر : وهو أنَّ المراد : أن كلَّ أحد يفعل على وفق ما يشاكله جوهر نفسه ، ومقتضى روحه ، فإن كانت مشرقة ، ظاهرة ، علوية ، صدرت منه أفعالٌ فاضلةٌ ، وإن كانت نفسه كدرة خبيثة [ مضلَّةً ظُلمانيَّة ، صدرت عنه أفعال خسيسة ] فاسدةٌ .
وأقول : اختلف العقلاء في أنَّ النفوس الناطقة البشريَّة ، هل هي مختلفةٌ بالماهيَّة ، أم لا؟ .
منهم من قال : إنَّها مختلفةٌ بالماهيَّة ، وإنَّ اختلاف أحوالاه وأفعالها لاختلاف امزجتها .
والمختار عندي : هو القسم الأوَّل ، والقرآن يشعر به؛ لأنه تعالى بيَّن في الآية المتقدمة : أنَّ القرآن بالنِّسبة إلى البعض يفيد الشِّفاء ، والرحمة ، وبالنِّسبة إلى الآخرين يفيد الخسار ، والخزي ، ثم أتبعه بقوله : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } .
ومعناه : أن اللائق بتلك النُّفوس أن يظهر فيها القرآن الخير وآثار لاذكاء والكمال وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار ، وتسوِّد وجهه ، وهذا الكلام لا يتم المقصود به ، إلاَّ إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة ماهيَّاتهان فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار ، وتسوِّد وجهه ، وهذا الكلام لا يتم المقصود به ، إلاَّ إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة ماهيَّاتها ، فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نورٌ على نورٍ ، وبعضها كدرةٌ ظلمانية ، ويظهر فيها من القرآن ضلال عل ضلالٍ ، ونكالٌ على نكالٍ . قوله : « أهْدَى » يجوز أن يكون من « اهْتدَى » ؛ على حذف الزوائد ، وأن يكون من « هَدَى » المتعدِّي ، وأن يكون من « هَدَى » القاصر ، بمعنى « اهتدى » . وقوله « سَبِيلاً » تمييزٌ .
[ والمعنى : ] فربُّكم أعلم بمن هو أوضح طريقاً .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)

قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } الآية .
رُوِثَ أن اليهود قالوا لقريشٍ : اسألوا محمداً عن ثلاثةِ أشياء ، فإن أجاب عن كلِّها ، أو لم يجب عن شيءٍ ، فليس بنبيٍّ ، وإن أجاب عن اثنين ، وأمسك عن الثَّالِث ، فهو نبيٌّ؛ فاسألوا عن فتيةٍ فقدوا في الزَّمنِ الأوَّل ، فما كان أمرهم؛ فإنهم كان لهم حديثٌ عجيبٌ؟ وعن رجلٍ بلغ مشرق الشَّمسِ ، ومغربها ، ما خبره؟ وعن الرُّوحِ؛ فسأله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « غداً أخبركم » ولم يقل : إن شَاءَ الله ، فانقطع عنه الوحي .
قال مجاهدٌ : اثنتي عشرة ليلة ، وقيل : خمسة عشر يوماً ، وقال عكرمة : أربعين يوماً ، وأهل مكَّة يقولون : وعدنا محمد غداً ، وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيءٍ ، حتَّى حزن النبي صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي ، وشقَّ عليه ما يقول أهل مكَّة ، ثم نزل الوحي بقوله : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 ، 24 ] .
ونزل في الفتية : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } [ الكهف : 9 ] .
ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } [ الكهف : 83 ] .
ونزل في الرُّوح : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } .
قال ابن الخطيب : ومن النَّاس من [ طعن ] في هذه الرواية؛ من وجوه :
أولها : قالوا : ليس الروح أعظم شأناً ، ولا أعلى درجة من الله تعالى ، فإن كانت معرفة الله تعالى حاصلة ممكنة ، فأي مانعٍ يمنع من معرفة الروح؟! .
وثانيها : أن اليهود قالوا : إن أجاب عن قصَّة أهل الكهف ، وقصَّة ذي القرنين ، ولم يجب عن الروح ، فهو نبيٌّ ، وهذا كلامٌ بعيد عن العقلاء؛ لأن قصَّة أصحاب الكهف ، وقصَّة ذي القرنين ليست إلا حكاية ، والحكاية لا تكون دليلاً على النبوة .
وأيضاً : فالحكاية التي يذكرها : إما أن تعتبر قبل العلم بنبوته ، أو بعد العلم بنبوته .
فإن كانت قبل العلم بنبوته ، كذَّبوه فيها ، وإن كانت بعد العلم بنبوته ، فحينئذٍ : نبوَّتهُ معلومة؛ فلا فائدة في ذكر هذه الحكاية وأما عدم الجواب عن حقيقةِ الروح ، فهذا يبعد جعله دليلاً على صحَّة النبوة .
وثالثها : أنَّ مسألة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة ، وأراذل المتكلِّمين ، فلو قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « إنِّي لا أعرفُها » لأورث ذلك ما يوجبُ التَّحقيرَ ، والتَّنفيرَ؛ فإنَّ الجهل بمثل هذه المسألة يفيد تحقير أيِّ إنسانٍ كان ، فكيف الرسول الذي هو أعلم العلماءِ ، وأفضل الفضلاء؟! .
رابعها : أنه تعالى قال في حقِّه { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 1 ، 2 ] .
وقال : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [ النساء : 113 ] .
وقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] .
وقال في [ حقِّه ، أي القرآن ، وصفته ] : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول :

« أرني الأشياء كما هي » .
فمن هذا حاله وصفته ، أيليق به أن يقول : أنا لا أعرف هذه المسألة ، مع أنَّها من المسائل المشهورة المذكورة عند جمهور الخلق؟! .
بل المختار عندنا : أنَّهم سألوه عن الروح ، وأنه - صلوات الله عليه - أجابهم على أحسن الوجوه ، وتقريره أن المذكور في الآية ، أنهم سألوه عن الروح ، والسؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة .
أولها : أن يقال : ماهية الروح ، هل هي متحيِّز أو حالٌّ في المتحيِّز .
وثانيها : أن يقال : الروح قديمة ، أو حادثة؟ .
وثالثها : أن يقالك الروح ، هل تبقى بعد الأجسام ، أو تفنى؟ .
ورابعها : أن يقال : ما حقيقة سعادة الأرواح ، وشقاوتها؟ .
وبالجملة : فالمباحثُ المتعلقة بالروح كثيرة .
وقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } ليس فيه ما يدلُّ على أنَّهم سألوه عن أيِّ المسائل ، إلا أنه تعالى ذكر في الجواب عن هذا السؤال : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } وهذا الجواب لا يليقُ إلا بمسألتين من هذه المسائل التي ذكرناها :
إحداهما : السؤال عن ماهية الروح .
والأخرى : عن قدمها ، أو حدوثها .
أما البحث الأول : فهم قالوا : ما حقيقة الروح وماهيته؟! أهو أجسامٌ موجودة داخلة في البدنِ مولدةٌ من امتزاجِ الطبائع والأخلاط؟ أو هو عبارة عن نفس هذا المزاجِ والتركيب؟ أو هو عبارة عن عرض قائم بهذه الأجسام؟ أو هو عبارة عن موجودٍ يغاير هذه الأجسام ، والأعراض؟ فأجاب الله عنه بأنَّه موجودٌ مغايرُ لهذه الأجسام ، ولهذه الأعراض؛ وذلك لأن لهذه الأجسام ، ولهذه الأعراض أشياء تحدثُ عن امتزاجِ الأخلاط والعناصر .
وأمَّا الروح ، فإنه ليس كذلك ، بل هو جوهرٌ ، بسيطٌ ، مجردٌ ، ولا يحدث إلا بمحدثٍ يقول له : « كن فيكون » ، فأجاب الله عنه بأنه موجود محدث بأمر الله وتكوينه ، وتأثيره في إفادة الحياة بهذا الجسدِ ، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه؛ فإنَّ أكثر حقائقِ الأشياءِ ، وماهيَّاتها مجهولة؛ فإنَّا نعلم أنَّ السكنجبين له خاصيةٌ في قطع الصفراء؛ فأمَّا إذا أردنا أن نعرف ماهيَّة تلك الخاصِّيَّة ، وحقيقتها المخصوصة ، فذلك غير معلوم؛ فثبت أنَّ أكثر الحقائق مجهولةٌ ، ولم يلزم من كونها مجهولة بعينها عدمُ العلم بخاصِّيَّتها ، فكذا ها هنا؛ وهذا المراد بقوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } .
وأما البحثُ الثاني : فهو أنَّ لفظ الأمرِ قد جاء بمعنى الفعل؛ قال تعالى : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ] .
وقال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } [ هود : 82 ] أي : فعلنا .
فقوله تعالى : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } . أي : من فعل ربِّي .
وهذا الجواب يدلُّ على أنَّهم سألوه عن الروح ، قديمة أو حادثة ، فقال : بل حادثة ، وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه .
ثم احتجَّ على حدوثِ الرُّوحِ بقوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } .
ثم استدلَّ بحدوثِ الأرواح بتغيُّرها من حال إلى حالٍ ، وهو المراد بقوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } .

وأما أقوال المفسِّرين في الروح المذكورة ها هنا :
فقيل : الروح : القرآن؛ لأن الله تعالى سمَّى القرآن في هذه الآية ، وفي كثيرٍ من الآيات روحًا؛ قال تعالى : { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] .
{ يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ } [ النحل : 2 ] .
ولأنَّ القرآن تحصل به حياة الأرواح والعقول؛ لأنَّ به تحصل معرفة الله تعالى ، ومعرفة ملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والأرواح إنَّما يحصلُ إحياؤها بهذه المعارف ، وتقدم قوله : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] .
وقال بعده : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الإسراء : 86 ] .
إلى قوله : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] .
فلما كان ما قبل هذه الآية في وصف القرآن ، وما بعدها كذلك ، وجب أن يكون المراد بالروح القرآن؛ حتَّى تكون آيات القرآن كلها متناسبة؛ لأن القوم استعظموا أمر القرآن ، فسألوا : هل هو من جنس الشِّعر ، أو من جنس الكهانة؟ فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر ، وإنما هو كلامٌ ظهر بأمر الله ، ووحيه ، وتنزيله ، فقال : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } ، أي : القرآن إنما ظهر بأمر الله ربِّي ، وليس من جنس كلامِ البشر .
ورُوِيَ عن ابن عباس : أنه جبريل ، وهو قول الحسن وقتادة؛ لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193 ، 194 ] ؛ وقوله : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [ مريم : 17 ] .
ويؤكده : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } .
وقال جبريل : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] .
فسالوا الرسول صلى الله عليه وسلم : كيف جبريل في نفسه؟ وكيف يأتيه؟ وكيف يبلغ الوحي إليه؟ .
وقال مجاهد : الرُّوحُ : خلق ليسوا من الملائكة ، على صور بني آدم يأكلون ، ولهم أيدٍ ، وأرجلٌ ، ورءوسٌ .
وقال أبو صالحٍ : يشبهون الناس ، وليسوا من النَّاس .
فصل
قال ابن الخطيب : ولم أجِدْ في القرآن ، ولا في الأخبار الصحيحة شيئاً يمكنُ التمسُّك به بهذا القول .
ورُوِيَ عن عليٍّ : أنَّه ملكٌ له سبعون ألف وجهٍ ، لكلِّ وجهٍ سبعون ألف لسانٍ ، لكلِّ لسانٍ سبعون ألف لغةٍ ، يسبِّح الله تعالى بتلك اللغات ، ويخلق الله تعالى من كلِّ تسبيحةٍ ملكاً يطير مع الملائكة ، قالوا : ولم يخلق الله خلقاً أعظم من الروحِ غير العرشِ ، ولو شاء أن يبتلع السَّموات السَّبع ، والأرضين السبع ، وما فيها بلقمةٍ واحدةٍ لفعله ، صورة خلقه على صورة الملائكة ، وصورة وجهه على صورة الآدميين ، يقوم يوم القيامة عن يمين العرش ، وهو أقرب الخلق إلى الله عزَّ وجلَّ اليوم عند الحجب السَّبعين ، ويقرب إلى الله يوم القيامة ، وهو يشفع لأهل التوحيد ، ولولا أنَّ بينه وبين الملائكة ستراً من نورٍ ، لاحترق أهل السموات من نوره .
فصل في ضعف هذا القول
قال ابن الخطيب : ولقائلٍ أن يقول : هذا القول ضعيفٌ؛ لوجوهٍ :
الأول : أنَّ هذا التفصيل ، إذا عرفه عليٌّ ، فالنبي أولى بأن يعرفه ، ويخبر به ، وأيضاً : فإنَّ الوحي لم يكن ينزل على عليٍّ؛ فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فَلِمَ ذكر النبي هذا الشَّرح لعليٍّ ، ولم يذكره لغيره؟! .

الثاني : أنَّ ذلك الملك ، إن كان حيواناً واحداً ، وعاقلاً واحداً ، فلا فائدة في تكثير تلك اللغات ، وإن كان المتكلِّم بكلِّ لغةٍ ملكاً؛ فهذا مجموعُ ملائكة .
الثالث : أنَّ هذا شيء مجهول الوجود ، فكيف يسال عنه؟ أما الروح الذي هو سبب الحياة ، فهو شيء تتوفَّر دواعي العقلاء على معرفته؛ فصرف هذا السؤال إليه أولى .
وقيل : الرُّوحُ : عيسى؛ فإنَّه روح الله ، وكلمته ، والمعنى : أنَّه ليس كما يقوله اليهود ، ولا كما يقوله النصارى .
وقال قومٌ : هو الرُّوحُ المركَّب في الخلق الذي يحيا به الإنسان ، وهو الأصحُّ .
واختلفوا فيه؛ فقال بعضهم : هو الدم؛ ألا ترى [ أنَّ الإنسان ] ، إذا مات لا يفوتُ منه إلا الدمُ .
وقال قومٌ : هو نفس الحيوان؛ بدليل أنَّه يموت باحتباس النفس .
وقال قومٌ : هو عرضٌ .
وقال قومٌ : هو جسم لطيف .
وقال بعضهم : الروح معنى اجتمع فيه النُّور ، والطِّيب ، والعلوُّ ، والعلم ، والبقاء؛ ألا ترى أنه إذا كان موجوداً ، يكون الإنسان موصوفاً بهذه الصفات [ جميعها ] ، وإذا خرج ذهب الكلُّ؟! .
فصل
في شرح مذاهب القائلين بأنَّ الإنسان جسم موجود ، روح في داخل البدن .
قال ابن الخطيب : اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفليِّ : إما أن تكون أحد العناصر الأربعة ، أو ما يكون متولِّداً من امتزاجها ، ويمتنع أن يحصل في البدنِ الإنسانيِّ جسمٌ عنصريٌّ خالصٌ ، بل لا بدَّ وأن يكون الحاصل جسماً متولِّداً من امتزاجات هذه الأربعة .
فنقول : أمَّا الجسم الذي تغلب عليه الأرضية : فهو الأعضار الصُّلبة الكثيفة؛ كالعظم ، و العروق ، والغُضروف ، والعصب ، والوتر ، والرِّباطاتِ لهذا الجسم ، واللَّحم والجلد ، ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا : إنَّ الإنسان بمعنى : روح مغاير لهذا الجسد ، بأنَّه عبارة عن عضوٍ معيَّن من هذه الأعضاء؛ وذلك لأنَّ هذه الأعضاء ثقيلة ، كثيفة ، ظلمانيَّة ، لم يقل أحد من العقلاء بأنَّ الإنسان عبارةٌ عن أحد هذه الأعضاء .
وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية؛ فهو الأخلاط الأربعة ولم يُقَلْ في شيءٍ منها : إنَّه الإنسان إلاَّ في الدَّم؛ فإنَّ فيهم من قال : هو الرُّوح؛ بدليل أنَّه ، إذا خرج ، لزم الموت .
وأمَّا الجسم الذي تغلب عليه الهوائية ، والنارية؛ فهو الأرواح : وهي نوعان : أجسامٌ هوائية مخلوطة بالحرارةِ الغريزيّة ، متولِّدة : إمَّا في القلب ، أو في الدِّماغ ، وقالوا : إنما هي الروح الإنسانيُّ ، ثمَّ اختلفوا .
فمنهم من يقول : هو الرُّوح الذي في القلب .
ومنهم من يقول : إنَّه جزءٌ لا يتجزَّأ في الدِّماغ .
ومنهم من يقول : الرُّوحُ عبارة عن أجزاءٍ ناريَّة مختلطة بهذه الأرواح القلبيَّة ، والدِّماغيَّة ، وتلك الأجزاء النارية : هي المسمَّاة بالحرارة الغريزيَّة ، وهي الإنسان .

ومن النَّاس من يقول : الروح عبارةٌ عن أجسام نورانيَّةٍ ، سماويةٍ ، لطيفة الجوهر ، على طبيعة ضوءِ الشَّمس ، وهي لا تقبلُ التحلُّل ، والتبدُّل ، ولا التفرُّق ، والتمزُّق؛ وهو المراد بقوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] نفذت تلك الأجسام الشَّريفة السماوية الإلهيَّة في داخل أعضاء البدنِ نفاذ النَّار في الفحم ، ونفاذ دهن السِّمسم في السِّمسم ، ونفاذ دهن الورد في جسمِ الورد؛ وهو المراد من قوله : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] .
ثم إنَّ البدن ما دام سليماً ، قابلاً لنفاذ تلك الأجسام الشريفة ، بقي حيًّا ، فإذا تولَّد في البدن أخلاطٌ غليظةٌ ، منعت من سريان تلك الأجسام الشريفة فيها ، فانفصلت عن هذا البدن؛ فحينئذ : يعرض الموت .
قال : فأمَّا أنَّ الإنسان جنسٌ موجودٌ خارج البدن ، فلا أعرف أحداً ذهب إلى هذا القول .
فصل في الاحتجاج على أن الروح ليست بجسم ولا عرض
احتجَّ ابن الخطيب لمسمَّى الروح بأنها ليست بجسمٍ ، ولا عرضٍ ، وأنها غير البدن؛ بوجوه كثيرة عقليَّة ونقليَّة .
قال ابن الخطيب : منها أنَّ العلم البديهيَّ حاصل بأن أجزاء هذه الجثَّة متبدلة بالزِّيادةِ والنُّقصانِ ، والمتبدل مغاير للثَّابت .
ومنها : أنَّ الإنسان حال كونه مشتغلاً بفكره في شيءٍ معيَّن ، فإنه في تلك الحالة يكونُ غافلاً عن جميع أجزاء بدنه ، وغير غافل عن نفسه؛ فوجب أن يكون الإنسان مغايراً لبدنه .
ومنها : قول الإنسان : رأسي ، وبدني ، وعيني ، ويضيف كل عضو إلى نفسه ، والمضاف غير المضاف إليهز
فإن قيل : قد يقول : نفسي وذاتي فيضيف الذات والنفس إلى [ نفسه ] ؛ فيلزم أن يكون الشيء وذاته مغايرة لنفسه ، وهو محالٌ ، قلنا : قد يريد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي يشير إليها كلُّ أحدٍ بقوله : أنا فلانٌ ، فغذا قال : نفسي ، وذاتي ، كان المراد البدن ، وهو مغاير للإنسان ، أمَّا إذا أريد بالنَّفس والذَّات الحقيقة المخصوصة المشار إليها بقوله : أنا فلانٌ ، ثم إنَّ الإنسان يكنه أن يضيف ذلك إلى نفسه بقوله : إنَّه لي .
ومنها : أنَّ الإنسان قد يكون حيًّا ، حال موت البدن؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } [ آل عمران : 169 ] .
والحِسُّ يرى الجسد ميِّتاً .
وقال تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « [ » أنبياء الله لا يموتون « ] » .
وقال - عليه السلام- : « إذَا حُمِلَ الميِّتُ على نعشِه ، [ رفرف ] روحه فوق النَّعشِ ، ويقول : يا أهْلِي ، ويَا ولَدِي » .
وقال تعالى : { ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [ الفجر ، 27 ، 28 ] .
ومنها : أن الإنسان ، إذا قطعت يداه ورجلاه ، لم ينقص من عقله ، وفهمه شيء .
ومنها : الذين مسخهم الله قردة وخنازير؛ فإن لم يكن ذلك الإنسان حيًّا ، وإلاَّ لكان ذلك المسخُ إماتة لذلك الإنسان ، وخلقاً لذلك الخنزير .
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى جبريل في صورة دحية ، ويرى إبليس في صورة الشَّيخِ النجديِّ .

ومنها : العضو ، وهذا يدل على أن الإنسان شيء غير الجسد ، وأنَّ الزَّاني يزني بفرجه؛ فيضرب على ظهره؛ فيلزم أن يكون الإنسانُ شيئاً آخر ، سوى الفرج ، وسوى الظَّهر ، وهو شيء يستعمل الظهر في عمل ، والفرج في عمل؛ فيكون المتلذذ المتألم هو ذلك الشيء بواسطة ذلك العضو ، وكل هذا يدل على أن الإنسان شيء غير الجسد .
ثم قال : واحتج المنكر بثلاثة أوجه :
الأول : لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية ، وذلك محال .
الثاني : قوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 17-22 ] .
وهذا تصريحٌ بأنَّ الإنسان شيء مخلوق من النُّطفة ، وأنه يموت ، ويدخل القبر ، ثم إنَّه تعالى يخرجه من القبر ، ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثَّة ، وإلاَّ لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة .
الثالث : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } [ آل عمران : 169 ] إلى قوله : { فَرِحِينَ } [ آل عمران : 170 ] .
وهذا يدلُّ على أنَّ الروح جسم؛ لأنّ الارتزاق والفرح من صفات الأجسام .
والجواب عن الأوَّل : أنَّ المساواة في أنَّه ليس بمتحيِّز ، ولا حالٍّ في المتحيِّز مساواةٌ في صفةٍ سلبيةٍ ، والمساواة في الصِّفة السلبيَّة لا توجبُ المماثلة .
واعلم : أنَّ جماعة من الجهَّال يظنُّون أنَّه لما كان الروح موجوداً ليس بمتحيِّز ، ولا حالٍّ في المتحيز ، وجب أن يكون مثلاً للإله ، أو جزءاً له ، وذلك جهلٌ فاحشٌ ، وغلطٌ قبيحٌ .
وتحقيق القولك ما ذكرناه من أنَّ المساواة في السُّلوب ، لو أوجبت المماثلة ، لوجب القول باستواءِ كلِّ المخالفات؛ فإنَّ كل ماهيَّتينِ مختلفتين ، لا بدَّ وأن يشتركا في سلب ما عداهما عنهما ، فليتفكر في هذه الدقيقة؛ فإنَّها مغلطةٌ عظيمةٌ للجهَّال .
والجوابُ عن الثاني : أنه لمَّا كان الاتِّصافُ في العرف والظَّاهر عبارة عن هذه الجثَّة أطلق عليه اسم الإنسان .
وأيضاً : لقائل أن يقول : هَبْ أنَّا نجعلُ اسم الإنسان عبارة عن هذه الجثَّة ، إلاَّ أنَّ قد دلَّلنا أنَّ محلَّ العلم والقدرة ليس هو الجثَّة .
والجواب عن الثالث : أنَّ الرِّزْقَ المذكور في الآية محمولٌ على ما يقوِّي حالهم ويكمل كمالهم ، وهو معرفةُ الله ومحبَّته .
بل نقول : هذا من أدلِّ الدلائلِ على صحَّة قولنا؛ لأنَّ أبدانهم قد بليت في التُّراب ، والله يقول : « إنَّ أرواحهم تأوي في قناديل معلقة تحت العرش » وهذا يدلُّ على أنَّ الروح غير البدن .
قوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } .
أي : في جنب علم الله تعالى .
قال المفسِّرون : هذا خطابٌ لليهود ، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قال لهم ذلك ، قالوا : نحن مختصُّون بهذا الخطاب ، أم أنت معنا؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - :

« بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً » ، فقالوا ما أعجب شأنك ، يا محمد؛ ساعة تقول : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] . وساعة تقول هذا ، فنزل قوله : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } [ لقمان : 27 ] .
وما ذكروه ليس بلازمٍ؛ لأنَّ الشيء قد يكون قليلاً بالنِّسبة إلى علم الله تعالى ، وبالنسبة غلى حقائق الأشياء ، ولكنَّها كثيرة بالنسبة إلى الشَّهوات الجسمانيَّة ، واللذَّات الجسدانية .
وقيل : هذا خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم معنى الرُّوح ، ولم يخبرْ به أحداً؛ لأنَّ ترك إخباره كان علماً لنُبوَّتهِ ، وقد تقدَّم الكلام على ذلك ، قال البغوي : الأصحُّ : أن الله تعالى استأثر بعلمه .
قوله : { مِّن العلم } : متعلق ب « أوتيتم » ، ولا يجوز تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه ح ال من « قَلِيلاً » ؛ لأنَّه لو تأخَّر ، لكان صفة؛ لأنَّ ما في حيِّز « إلاَّ » لا يتقدَّم عليها .
وقرأ عبد الله ، والأعمش « ومَا أوتُوا » بضمير الغيبة .
قوله تعالى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الآية .
لما ذكر أنَّه ما آتاهم من العلم إلاَّ قليلاً ، قال ها هنا : إنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل ، لقدر عليه ، وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب ، وكتابته من الكتب ، والمراد بالذي أوحينا إليك القرآن .
واحتج الكعبي بهذه الآية الكريمة بأنَّ القرآن مخلوقٌ؛ فقال : الذي يقدر على إزالته والذَّهاب به يستحيل أن يكون قديماً ، بل يجب أن يكون محدثاً .
وأجيب بأن يكون المراد بهذا الإذهاب إزالة العلم به عن القلوب ، وإزالة النَّقش الدَّال عليه من المصحف؛ وذلك لا يوجبُ كون ذلك المصكوكِ المدلول محدثاً .
فصل في كيفية رفع القرآن آخر الزمان
قال عبد الله بن مسعود : اقرءوا القرآن قبل أن يرفع؛ فإنَّه لا تقوم الساعة حتَّى يرفع ، قيل : هذه المصاحف ترفع ، فكيف بما في صدور النَّاس؟ قال : يسري عليه ليلاً ، فيرفع ما في صدورهم ، فيصبحون لا يحفظون شيئاً ، ولا يجدون ف يالمصاحف شيئاً ، ثم يفيضون في الشِّعر .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : لا تقوم السَّاعة حتَّى يرفع القرآن من حيثُ نزل ، لهُ دويٌّ حول العرشِ ، كدويِّ النَّحلِ؛ فيقول الربُّ : ما لك؟ فيقول : يا ربِّ ، أتلى ، ولا يعمل بي .
ثم قال : { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } أي : لا تجدُ من تتوكَّل عليه في ردِّ شيءٍ منه .
قوله تعالى : { إِلاَّ رَحْمَةً } : قيل : استثناء متصل؛ لأنها تندرج في قوله « وَكِيلاً » والمعنى : إلاَّ أن يرحمك ربُّك؛ فيردَّه عليك . وقيل : إنه استثناء منقطع ، فتتقدر ب « لَكِنْ » عند البصريين ، و « بَلْ » عند الكوفيين .
والمعنى : إلا رحمة من ربِّك؛ إذ كل رحمة من ربِّك تركته غير مذهوب به ، أي : لكن لا يشاء ذلك رحمة من ربِّك ، وهذا امتنانٌ من الله؛ وهو نوعان :
الأول : تسهيل ذلك العلم عليه .

والثاني : إبقاء حفظه عليه .
قوله « مِنْ ربِّكَ » يجوز أن يتعلق ب « رَحْمةً » وأن يتعلق بمحذوفٍ ، صفة لها .
ثم قال : { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً } .
بسبب إبقاء العلم والقرآنِ عليك ، وقيل : بسببِ أنَّه جعلك سيِّد ولد آدم ، وختم بك النَّبيِّين ، وأعطاك المقَام المحمود ، فلما كان كذلك ، لا جرم أنعم عليك بإبقاء العلم والقرآن عليك .
قوله : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن } الآيات ، وقد تقدَّم الكلام على مثلِ هذه الآية .
فصل
قال بعضهم : هب أنَّه ظهر عجز الإنسانِ عن معارضته؛ فكيف عرفتُم عجز الجنِّ؟ وأيضاً : فلم لا يجوز أن يقال : إن هذا الكلام نظم الجنِّ ، ألقوهُ على محمد صلى الله عليه وسلم وخصُّوه به على سبيل السَّعي في إضلال الخلق؟ فعلى هذا : إنَّما تعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم إذا عرفتم أنَّ محمَّداً صادق في قوله : إنَّه ليس من كلام الجنِّ ، بل من كلامِ الله تعالى؛ وحينئذٍ : يلزم الدور ، وليس لأحدٍ أن يقول : كيف يعقل أن يكون هذا من قول الجنِّ؛ لأنا نقول : إنَّ هذه الآية دلَّت على وقوعِ التحدِّي من الجنِّ ، وإنما يحسن وقوعُ هذا التحدِّي ، لو كانوا فصحاء بلغاء ، ومتى كان الأمرُ كذلك ، كان الاحتمال المذكور قائماً .
فالجواب عن الأوَّل : بأنَّ عجز البشر عن معارضته يكون في إثبات كونه معجزاً .
وعن الثاني : أنَّ ذلك ، لو وقع ، لوجب في حكمة الله : أن يظهر ذلك التَّلبيسُ ، وحيث لم يظهر ذلك ، دلَّ على عدمه ، وعلى أنَّ الله تعالى أجاب عن هذه الأسئلةِ بالأجوبة الشَّافية في آخر سورة الشعراء؛ في قوله : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221-222 ] وسيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى- .
قالت المعتزلة : هذه الآية تدلُّ على أنَّ القرآن مخلوقٌ؛ لأنَّ التحدِّي بالقديم محالٌ ، وقد تقدَّمت هذه الآية في سورة البقرة .
قوله : { لاَ يَأْتُونَ } : فيه وجهان :
أظهرهما : أنه جوابٌ للقسمِ الموطَّأ له باللام .
والثاني : أنه جواب الشرط ، واعتذروا به عن رفعه بأنَّ الشرط ماضٍ؛ فهو كقوله : [ البسيط ]
3462- وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يَقولُ لا غَائبٌ مَالِي ولا حَرِم
واستشهدوا عليه بقول الأعشى : [ البسيط ]
3463- لَئِنْ مُنِيتَ بِنَا عَنْ غِبِّ مَعْركةٍ ... لا تُلْفِنَا مِنْ دِمَاءِ القَوْمِ نَنْتَفِلُ
فأجاب الشرط مع تقدُّمِ لام التوطئة ، وهو دليلٌ للفراء ، ومن تبعه على ذلك ، وفيه ردٌّ على البصريِّين ، حيث يحتَّمون جواب القسمِ عند عدمِ تقدم ذي خبرٍ .
وأجاب بعضهم أنَّ اللام في البيت ليست للتوطئةِ ، بل مزيدةٌ؛ وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا دليل عليه ، وقال الزمخشريُّ : « لولا اللام الموطِّئةُ؛ لجاز أن يكون جواباً للشرط؛ كقوله : [ البسيط ]

3464- . . ... يَقُولُ لا غَائِبٌ
لأنَّ الشرط وقع ماضياً « . وناقشه أبو حيَّان : بأنَّ هذا ليس مذهب سيبويه ، ولا الكوفيين والمبرِّد؛ لأنَّ مذهب سيبويه في مثله : أن النية به التقديم ، ومذهب الكوفيين ، والمبرِّد : أنه على حذف الفاء ، وهذا مذهب ثالثٌ ، قال به بعضُ الناس .
قوله : » ولَوْ كَانَ « جملةٌ حاليةٌ ، وتقدَّم تحقيق هذا ، وأنه كقوله - عليه السلام- : » أعطُوا السَّائل ، ولو جَاء على فَرسٍ « ، و » لبَعْضٍ « متعلقٌ ب » ظَهِيراً « .
فصل في معنى الآية
والمعنى : لو كان بعضهم لبعض عوناً ، ومظاهراً ، نزلت حين قال الكفَّار : ولو شئنا لقلنا مثل هذا ، فكذَّبهم الله - عز وجلَّ - فالقرآن معجزٌ في النَّظم ، والتَّأليف ، والإخبار عن الغيوب ، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة ، لا يشبه كلام الخلق؛ لأنَّه غير مخلوقٍ ، ولو كان مخلوقاً ، لأتوا بمثله .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)

قوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ } الآية .
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } : مفعول محذوف ، وقيل : « مِنْ » زائدة في « مِنْ كلِّ مَثلٍ » وهو المفعول ، قاله ابن عطية ، وهو مذهب الكوفيين و الأخفش .
وقرأ الحسن : « صَرَفْنَا » بتخفيف الراء ، وتقدَّم نظيره .
فصل في ذكر الوجوه المحتملة في هذا الكلام
هذا الكلام يحتمل وجوهاً :
احدها : أنه وقع التحدِّي بكلِّ القرآن؛ كما في هذه الآية ، ووقع التحدِّي بسورة واحدة؛ كما في قوله : { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [ الطور : 34 ] فقوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ } يحتمل أن يكون المراد منه التحدِّي؛ كما شرحناه ، ثم إنهم مع ظهور عجزهم عن جميع هذه المراتب ، صاروا مصرِّين على كفرهم .
وثانيها : أن يكون المراد من « من كُلِّ مثلٍ » : أنَّا أخبرناهم بأنَّ الذين بقوا مصرِّين على الكفر؛ مثل قوم نوحٍ ، وعادٍ ، وثمود - ابتلاهم الله بأنواع البلاء - وشرحنا هذه الطريقة منراراً - ثم إنَّ هؤلاء الأقوام - يعني أهل مكَّة - لم ينتفعوا بهذا البيان ، بل اصرُّوا على الكفر .
وثالثها : أن يكون المراد من « مِنْ كلِّ مثلٍ » : مِنْ كلِّ وجهٍ من العبر ، والأحكام والوعد ، والوعيد ، وغيرها .
ورابعها : أن يكون المراد ذكر دلائل التوحيد ، ونفي الشركاء في هذا لقرآن مراراً كثيرة ، وذكر شبهات منكري النبوَّة ، والمعاد؛ وأجاب عنها ، ثمَّ أردفها بذكر الدَّلائل القاطعة على صحَّة النبوة ، والمعاد ، ثم إنَّ هؤلاء الكفَّار لم ينتفعوا بسماعها ، بل بقوا مصرِّين على الشِّرك ، وإنكار النُّبوَّة .
قوله : « إلاَّ كُفوراً » مفعول به ، وهو استثناءٌ مفرَّغ؛ لأنَّه في قوة : لم يفعلوا إلاَّ الكفور .
والمعنى : { فأبى أَكْثَرُ الناس } يعني : أهل مكَّة ، { إِلاَّ كُفُوراً } أي : جحوداً للحقِّ .
فإن قيل : كيف جاز : { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } ولا يجوز أن يقال : ضربتُ إلا زيداً؟ .
فالجواب : إنَّ لفظة : « أبَى » تفيد النَّفي؛ كأنه قيل : فلم يؤمنوا إلا كفوراً .
قوله : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } الآية .
قرأ الكوفيُّون [ « تَفْجُرَ » ] بفتح التَّاء ، وسكون الفاء ، وضم الجيم خفيفة ، مضارع « فَجَرَ » واختاره أبو حاتم؛ قالوا : لأنّ الينبوع واحدٌ ، والباقون ، بضمِّ التاء ، وفتح الفاء ، وكسر الجيم شديدة ، مضارع « فجَّر » ، للتكثير ، ولم يختلفوا في الثانية : أنَّها بالتثقيل للتصريح بمصدرها ، وقرأ الأعمش « تُفْجِرَ » بضمِّ التاء ، وسكون الفاء ، وكسر الجيم خفيفة ، مضارع « أفْجرَ » بمعنى « فَجرَ » فليس التضعيفُ ، ولا الهمزة معدِّيينِ .
فمن ثقَّل ، أراد كثيرة الانفجار من الينبوع ، وهو وإن كان واحداً ، فلكثرة الانفجار فيه سحين أن يثقَّل؛ كما تقول : ضرَّب زيدٌ ، إذا كثر الضَّربُ منه؛ لكثرة فعله ، وإن كان الفاعل واحداً ، ومن خفَّف؛ فلأن الينبوع واحدٌ .

و « يَنْبُوعاً » مفعول به ، ووزنه « يَفعُولٌ » ؛ لأنه من النَّبعِ ، واليَنبُوعُ : العين تفور من الأرض .
فصل فيما يثبت صدق النبوة
اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن بالدليل كون القرآن معجزاً ، وظهر هذا المعجز على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم ، فحينئذٍ : تمَّ الدليل على كونه نبيًّا صدقاً؛ لأنَّا نقول : إن محمداً صلى الله عليه وسلم ادَّعى النبوة ، وأظهر المعجزة على وفق دعواه ، وكلُّ من كان كذلك ، كان نبيًّا صادقاً؛ فهذا يدلُّ على أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم صادقٌ ، وليس من شرط كونه نبيًّا صادقاً تَواترُ المعجزات الكثيرة ، وتواليها؛ لأنَّا لو فتحنا هذا الباب ، للزم ألاَّ ينقطع فيه ، وكلما أتى الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - بمعجز ، اقترحوا عليه معجزاً آخر ، ولا ينتهي الأمر فيه إلى حدِّ ينقطع عنده عناد المعاندين؛ لأنَّه تعالى حكى عن الكفَّار : أنهم بعد أن ظهر كون القرآن معجزاً ، التمسُوا من الرسُول - عليه الصلاة والسلام - ستَّة أنواعٍ من المعجزات الباهرات ، كما روى عكرمة ، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - « أنَّ رؤساء أهل مكَّة ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوسٌ عند الكعبة ، فقالوا : يا محمد ، إنَّ أرض مكَّة ضيقةٌ ، فسير جبالها؛ لننتفع فيها ، وفجِّر لنا ينبوعاً ، أي : نهراً ، وعيوناً نزرع فيها ، فقال : » لا أقدر عليه « .
فقال قائلٌ منهم : أو يكون لك جنّة من نخيل وعنبٍ فتفجّر الأنهار خلالها تفجيراً ، فقال : » لا أقْدرُ عَليْهِ « فقيل : أو يكون لك بيتٌ من زخرفٍ ، اي : من ذهبٍ ، فيُغْنِيكَ عَنَّا ، فقال : » لا أقدِرُ عَليْهِ « فقيل له : أما تَسْتطِيعُ أن تَأتي قوْمكَ بِمَأ يسْألُونكَ؟ فقال : لا أسْتطِيعُ ، فقالوا : فإذا كنت لا تَسْتطِيعُ الخير ، فاسْتطعِ الشَّر ، فأرسل السَّماء؛ كما زَعمْتَ ، عَليْنَا كِسَفاً » .
قرأ العامة « تُسْقِطَ » بإسناد الفعل للمخاطب ، و « السَّماء » مفعول بها ، ومجاهد على إسناده إلى « السَّماء » فرفعها به .
وقرأ نافع ، و ابن عامرٍ ، وعاصم « كِسَفاً » هنا ، بفتح السِّين ، وفعل ذلك حفصٌ في الشعراء [ الآية : 187 ] وفي سبأ [ الآية : 9 ] ، والباقون يسكنونها في المواضع الثلاثة ، وقرأ ابن ذكوان بسكونها في الروم [ الآية : 48 ] ؛ بلا خلافٍ ، وهشام عنه الوجهان ، والباقون بفتحها .
فمن فتح السين ، جعله جمع كسفةٍ؛ نحو : قِطعَةٍ وقِطَع ، وكِسْرةٍ وكِسرٍ ، ومن سكَّن ، جعله جمع كسفة أيضاً على حدِّ : سِدْرةٍ وسِدْرٍ ، وقِمْحَةٍ وقِمَحٍ .
وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين :
أحدهما : أنه جمعٌ على « فَعَلٍ » بفتح العين ، وإنما سكِّن تخفيفاً ، وهذا لا يجوز؛ لأنَّ الفتحة خفيفة يحتملها حرف العلة ، حيث يقدر فيه غيرها ، فكيف بالحرف الصحيح؟ .

قال : والثاني : أنه « فَعْلٌ » بمعنى « مَفْعُولٍ » ؛ ك « الطحْن » بمعنى « مَطْحُون » ؛ فصار في السكون ثلاثة أوجهٍ .
وأصل الكسفِ : القطع ، يقال : كسَفْتُ الثَّوبَ قطعته؛ وفي الحديث في قصَّة سليمان مع الصَّافناتِ الجياد : أنه « كَسَفَ عَراقِيبهَا » ، أي : قطعها .
فصل في معنى الكسف
قال اللَّيثُ : الكسف : قطع العرقوب ، قال الفرَّاء : وسمعتُ أعرابيًّا يقول لبزَّاز : أعطني كسفةً ، وقال الزجاج : « كَسفَ الشيء بمعنى غَطَّاهُ » ، قيل : ولا يعرفُ هذا لغيره .
وانتصابه على الحال في القراءتين فإن جعلناه جمعاً ، كان على حذفِ مضاف ، أي : ذات كسفٍ ، وإن جعلناه « فِعْلاً » بمعنى « مَفعُول » لم يحتج إلى تقدير ، وحينئذ : فإن قيل لِمَ لمْ يُؤنَّث؟ فالجواب : لأنَّ تأنيثه أعني : السَّماء غير حقيقيٍّ ، أو بأنها في معنى السَّقف .
قوله : « كَمَا زعَمْتَ » : نعت لمصدر محذوف ، أي : إسقاطاً مثل مزعومك؛ كذا قدَّره أبو البقاء .
فصل في المراد بالآية
قال عكرمة : { كَمَا زَعَمْتَ } ، يا محمد : أنَّك نبيٌّ ، « فأسْقِط » السماء علينا كسفاً .
وقيل : كما زعمت أن ربَّك إن شاء فعل ، وقيل : المراد قوله : { أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } [ الإسراء : 68 ] .
فقيل : اجعل السَّماء قطعاً متفرقة؛ كالحاصب ، وأسقطها علينا .
قوله : { أَوْ تَأْتِيَ بالله والملاائكة قَبِيلاً } .
القَبِيلُ : بمعنى : المقابل؛ كالعشير ، بمعنى : المُعاشِر .
وقال ابن عباس : فوجاً بعد فوجٍ . وقال الليث : كلُّ جندٍ من الجنِّ والإنسِ قبيلٌ ، وقيل : كفيلاً ، أي ضامناً .
قال الزجاج : يقال : قبلتُ به أقبل؛ كما يقال : كفلت به أكفل ، وعلى هذا : فهو واحدٌ أريد به الجمعُ؛ كقوله : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] ، وقال أبو عليِّ : معناه المعاينة؛ كقوله تعالى : { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] .
قوله : « قَبِيلاً » [ حالٌ من « الله ، والمَلائِكَةِ » أو من أحدهما ، والآخر محذوفة حاله ، أي : بالله قبيلاً ، والملائكة قبيلاً؛ ] كقوله : [ الطويل ]
3465- . كُنْتُ مِنهُ ووالِدي ... بَرِيئاً . . .
وكقوله : [ الطويل ]
3466- ... فَإنِّي وقيَّارٌ بِهَا لغَرِيبُ
ذكره الزمخشريُّ ، هذا إذا جعلنا « قَبِيلاً » بمعنى كفيلاً ، أي : « ضَامِناً » أو بمعنى « معاينة » كما قاله الفارسي ، وإن جعلناه بمعنى « جَماعَة » كان حالاً من « المَلائِكَة » .
وقرأ الأعرج « قِبَلاً » من المقابلة .
قوله { ترقى } : فعل مضارع [ منصوبٌ ] تقديراً؛ لأنه معطوفٌ على « تَفْجُرَ » ، أي : أو حتَّى ترْقَى في السَّماء ، [ أي : ] في معارجها ، والرقيُّ : الصعود ، يقال : رَقِيَ ، ببالكسر ، يرقى ، بالفتح ، رقيًّا على فعولٍ ، والأصل : « رُقُوي » فأدغم بعد قلب الواو ياء ، ورقياً بزنة ضربٍ ، قال الراجز : [ الرجز ]
3467- أنْتَ الَّذي كَلَّفتَنِي رقْيَ الدَّرجْ ... عَلى الكَلالِ والمَشِيبِ والعَرجَ

قوله تعالى : { نَّقْرَؤُهُ } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون نعتاً ل « كتاباً » .
والثاني : أن يكون حالاً مِنْ « نَا » في « عَليْنَا » ؛ قاله أبو البقاء ، وهي حال مقدرة؛ لأنهم إنما يقرؤونه بعد إنزاله ، لا في حال إنزاله .
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون : لمّا قال المشركون : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا } الآيات ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معهُ عبدُ الله بن أميَّة ، وهو ابنُ عمَّته عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا محمد ، عرض عليك قومُك ما عرضُوا ، فلم تقبلهُ منهم ، ثمَّ سألوكَ لأنفسهم أموراً يعرفون بها منزلتك من الله تعالى ، فلم تفعل ، ثمَّ سألوك أن تعجِّل ما تُخوِّفهم به ، فلم تفعل ، فوالله لا أومن بك حتَّى تتَّخذ إلى السَّماء سلَّماً ترقى فيه ، وأنا أنظر حتَّى تأتيها ، وتنزل بنُسخةٍ منشورةٍ ، ومعك نفرٌ من الملائكةِ يشهدون لك بما تقولُ . وأيم الله ، لو فعلت ذلك ، لظننتُ أنِّي لا أصدِّقك ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسل حزيناً لما يرى من مباعدتهم .
ثم قال تعالى : قل ، يا محمد : { سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } أمره بتنزيهه ، وتمجيده ، أي : أنَّه لو أراد أن ينزل ما طلبوا ، فلعل ، ولكن لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر .
واعلم أنَّه تعالى قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الآياتِ والمعجزات ما يغني عن هذا كلِّه مثل القرآن ، وانشقاق القمر ، وتفجير العيون من بين الأصابع ، وما أشبهها ، والقوم عامَّتهم كانوا متعنِّتين ، لم يكن قصدهم طلب الدَّليل؛ ليؤمنوا ، فردَّ الله عليهم سؤالهم .
قوله : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي } قرأ ابن كثير ، وابن عامرٍ « قال » فعلاً ماضياً؛ إخباراً عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - بذلك ، والباقون « قُلْ » على الأمر أمراً منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بذلك ، وهي مرسومة في مصاحف المكيين والشاميين : « قال » بألف ، وفي مصاحف غيرهم « قل » بدونها ، فكل وافق مصحفه .
قوله : { إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } يجوز أن يكون « بَشَراً » خبر « كُنْتُ » و « رَسُولاً » صفته ، ويجوز أن يكون « رَسُولاً » هو الخبر ، و « بَشَراً » حال مقدمة عليه .
فصل في استدلالهم بهذه الآية
استدلُّوا بهذه الآية على أن المجيء على الله والذهاب محالٌ؛ لأنَّ كلمة « سبحان » للتنزيه عمَّا لا ينبغي .
فقوله : { سُبْحَانَ رَبِّي } : تنزيه لله تعالى عن شيءٍ لا يليقُ به ، وذلك تنزيهُ الله عما نسب إليه ممَّا تقدَّم ذكره ، وليس فيما تقدَّم ذكره شيء مما لا يليقُ بالله إلا قولهم : أو تأتي بالله ، فدلَّ على أنَّ قوله : « سُبحانَ ربِّي » تنزيهٌ لله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في الإتيان ، والمجيء؛ فدلَّ ذلك على فساد قول المشبهة .

فإن قالوا : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في اقتراح الأشياء؟ .
فالجواب : أنَّ القوم لم يتحكَّموا على الله ، وإنما قالوا للرسول : إن كنت نبيًّا صادقاً ، فاطلب من الله أن يشرِّفك بهذه المعجزات ، فالقوم إنَّما تحكَّموا على الرسول صلى الله عليه وسلم لا على الله ، فلا يليقُ حمل قوله : { سُبْحَانَ رَبِّي } على هذا المعنى ، فيجب حمله على قولهم { أَوْ تَأْتِيَ بالله } .
فصل في تقرير هذا الجواب
اعلم أنَّ تقرير هذا الجواب : أن يقال : إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنَّكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء ، أو طلبتم منِّي أن أطلب من الله إظهارها على يديَّ؛ لتدلَّ لكم على كوني رسولاً حقًّا من عند الله .
والأول باطلٌ؛ لأنِّي بشر ، والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء .
والثاني أيضاً : باطل؛ لأنِّي قد أتيتكم بمعجزة واحدة ، وهي القرآن ، فطلب هذه المعجزات طلبٌ لما لا حاجة إليه ، وكان طلبها يجري مجرى التعنُّت والتحكُّم ، وأنا عبدٌ مأمورٌ ليس لي أن أتحكَّم على الله؛ فسقط هذا السؤال؛ فثبت كونُ قوله : { سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } جواباً كافياً في هذا الباب .

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)

قوله : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا } الاية .
لمَّا حكى الله تعالى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزَّائدة ، وأجاب عنها حكى شبهة أخرى وهي أنهم استبعدوا أن يبعث الله للخقل رسولاً من البشرِ ، بل اعتقدوا أنَّ الله تعالى ، لو أرسل رسولاً إلى الخلق ، لكان ذلك الرسول من الملائكةِ ، وأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بوجوهٍ :
أحدها : قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى } .
وتقرير هذا الجواب : أنَّ بتقدير أن يبعث الله ملكاً رسولاً إلى الخلق ، فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولاً من عند الله؛ لأجل قيام المعجزات الدالة على صدقه؛ وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة صدق ذلك الملك في ادِّعاء رسالته ، فالمراد من قوله : { إِذْ جَآءَهُمُ الهدى } هو المعجز ، [ وإذا كان كذلك ، فنقول : لما كان الدليل على الصِّدق هو المعجز ] فقط فهذا المعجو سواءٌ ظهر على الملكِ ، أو على البشرِ ، وجب الإقرارُ برسالته ، فقولهم : « لا بُدَّ وأن يكون الرسول من الملائكة » : تحكم فاسد باطل .
والجواب الثاني عن شبهتهم ، وهي أنَّ أهل الأرض لو كانوا ملائكة ، لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة؛ لأنّ الجنس إلى الجنس أميل ، فلما كان [ أهل الأرض ] من البشر ، فوجب أن يكون رسولهم من البشر؛ وهذا هو المراد من قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِي الأرض ملاائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] .
الجواب الثالث : قوله تعالى : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } .
وتقريره أنَّ الله تعالى ، لمَّا أظهر المعجزة على وفق دعواى ، كان ذلك شهادة من الله تعالى على كوني صادقاً ، ومن شهد الله على صدقه ، فهو صادق ، فقولكم بأنَّ الرسول يجب أن يكون ملكاً ، فذلك تحكُّم فاسدٌ؛ لا يلتفت إليه . ولمَّا ذكر الله تعالى هذه الأجوبة الثلاثة ، أردفها بما يجري مجرى التهديد ، والوعيد؛ فقال : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } [ الإسراء : 96 ] . أي : يعلم ظواهرهم وبواطنهم ، ويعلم أنَّهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا لمحض الحسد ، وحبِّ الرياسة .
قوله : { أَن يؤمنوا } : مفعولٌ ثانٍ ل « مَنَع » ، أي : ما منعهم إيمانهم؛ و « أن قالوا » هو الفاعل ، و « إذْ » ظرف ل « مَنعَ » ، والتقدير : وما منع الناس من الإيمان وقت مجيء الهدى إيَّاهم إلا قولهم : أبعث الله .
وهذه الجملة المنفيَّة يحتمل أن تكون من كلام الله ، فتكون مستأنفة ، وأن تكون من كلام الرسول ، فتكون منصوبة المحلِّ؛ لاندراجها تحت القول في كلتا القراءتينز
قوله : { بَشَراً رَّسُولاً } تقدَّم في نظيره وجهان ، وكذلك قوله { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } .
قوله تعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض } : يجوز في « كَانَ » هذه التمام ، أي : لو وجد ، وحصل ، و « يَمشُونَ » صفة ل « مَلائِكَة » و « في الأرض » متعلِّق به ، « مُطْمئنينَ » حال من فاعل « يَمشُونَ » ، ويجوز أن تكون الناقصة ، وفي خبرها أوجه ، أظهرها : أنه الجار ، و « يَمشُون » و « مُطمَئنِّينَ » على ما تقدم .

وقيل : الخبر « يمشُون » و « في الأرض » متعلق به .
وقيل : الخبر « مُطمئنِّينَ » و « يمشُونَ » صفة ، وهذان الوجهان ضعيفان؛ لأنَّ المعنى على الأول .
فإن قيل : إنَّه تعالى لو قال : قل لو كان في الأرض ملائكة ، لنزَّلنا عليهم من السَّماء ملكاً رسولاً كان كافياً في هذا المعنى . فما الحكمة في قوله : { يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ } ؟! .
فالجواب : أن المراد بقوله : { يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ } أي : مستوفين مقيمين .
قوله : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد } الآية .
لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة ، وأردفها بالوعيد بقوله : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } على الإجمال ، ذكر بعده الوعيد الشديد على التَّفصيل ، فقال : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ } .
المراد تسليةُ الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنَّ الذين حكم لهم بالإسلام والهداية سابقاً ، وجب أن يصيروا مؤمنين ، ومن سبق لهم حكم الله بالضَّلال والجهل ، استحال أن ينقلبوا عن ذلك .
واحتجَّ أهل السنة بهذه الآية على صحَّة مذهبهم في الهدى والضَّلال ، والمعتزلة حملوا هذا الضلال تارة على طريق الجنَّة؛ وتارة على منع الألطاف ، وتارة على التَّخلية ، وعدم التعرُّض لهم بالمنع . والواو مندرجة تحت القول ، فيكون محلُّها نصباً ، وأن يكون من كلام الله ، فلا محلَّ لها؛ لاستئنافها ، ويكون في الكلام التفاتٌ؛ إذ فيه خروجٌ من غيبة إلى تكلُّم في قوله : { وَنَحْشُرُهُمْ } .
وحمل على لفظ « مَنْ » في قوله « فَهُوَ المُهتدِ » فأفرد ، وحمل على معنى « من » الثانية في قوله « ومَن يُضلِلْ ، فلنْ تَجدَ لَهُم » ، [ فجمع ] .
ووجه المناسبة في ذلك - والله أعلم- : أنه لمَّا كان الهدي شيئاً واحداً غير متشعِّب السبل ، ناسبه التوحيد ، ولمَّا كان الضلال له طرقٌ متشعبةٌ؛ نحو : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام 153 ] ناسب الجمع الجمع ، وهذا الحمل الثاني مما حمل فيه على المعنى ، وإن لم يتقدمه حمل على اللفظ ، قال أبو حيان : « وهو قليل في القرآن » ، يعني : بالنسبة إلى غيره ، ومثله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ويمكن أن يكون المحسِّن لهذا هنا كونه تقدَّم حمل على اللفظ ، وإن كان في جملة أخرى غير جملته .
وقرأ نافعٌ ، وأبو عمرو بإثبات ياء « المهتدي » وصلاً ، وحذفها وقفاً ، وكذلك في التي تحت هذه السورة ، وحذفها الباقون في الحالتين .

قوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } يجوز أن يتعلق الجار في قوله { على وُجُوهِهِمْ } بالحشر ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول ، أي : كائنين ومسحوبين على وجوههم .
فإن قيل : كيف يمكنهم المشي على وجوههم؟ .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّهم يسحبون على وجوههم ، قال تعالى : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] .
والثاني : قال أبو هريرة : قيل : يا رسول الله ، كيف يمشون على وجوههم؟ قال : « الذي يُمشِيهمْ على أقْدامِهمْ قَادرٌ أن يُمشِيهُمْ على وُجوهِهمْ » .
قوله : « عُمْياً » يجوز أن تكون حالاً ثانية من الضمير ، أو بدلاً من الأولى ، وفيه نظر؛ لأنه لا يظهر فيه أنواع البدل ، وهي : كلٌّ من كلٍّ ، ولا بعض من كلٍّ ، ولا اشتمال ، وأن تكون حالاً من الضمير المرفوع [ في الجارِّ ] لوقوعه حالاً ، وأن تكون حالاً من الضمير المجرور في « وُجوهِهمْ » .
فصل في توهم الاضطراب بين بعض الآيات والجواب عنه
قال رجل لابن عباس : أليس أنه تعالى يقول : { وَرَأَى المجرمون النار } [ الكهف : 53 ] .
وقال : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] .
وقال : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] .
وقال : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] .
وقال حكاية عن الكفَّار : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .
وأثبت لهم الرؤية ، والكلام ، والسَّمع ، فكيف قال ههنا : « عُمياً وبُكماً وصُماً » ؟ .
فأجاب ابن عباس وتلامذته من وجوه :
الأول : قال ابن عباس : « عُمْياً » : لا يرون شيئاً يسرهم ، و « صُمًّا » : لا يسمعون شيئاً يسرهم ، و « بُكْماً » لا ينطقون بحجَّة .
والثاني : في رواية عطاء : « عُمْياً » عن النَّظر إلى ما جعله الله إلى أوليائه ، و « بُكْماً » عن مخاطبة الله تعالى ، ومخاطبة الملائكة المقرَّبين .
الثالث : قال مقاتلٌ : حين قال لهم : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] يصيرون صمًّا بكماً ، أما قبل ذلك ، فهم يرون ، ويسمعون ، وينطقون .
الرابع : أنَّهم يكونون رائين ، سامعين ، ناطقين في الموقف ، ولولا ذلك ، لما قدروا على مطالعة كتبهم ، ولا سمعوا إلزام حجة الله تعالى عليهم ، إلا أنَّهم إذا ذهبوا من الموقف إلى النَّار ، صاروا صمًّا ، وبكماً ، وعمياً .
وقيل : يحشرون على هذه الصفة .
قوله : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يجوز في هذه الجملة الاستئناف ، والحالية إمَّا من الضمير المنصوب أو المجرور .
قوله : طكُلَّما خَبتْ « يجوز فيها الاستئناف ، والحالية من » جهنَّم « ، والعامل فيها معنى المأوى .
وخَبتِ النَّار تَخْبُوا » إذا سكن لهيبها؛ قال الواحدي : خبت سكنت ، فإذا ضعف جمرها ، قيل : خمدتْ ، فإذا طفئت بالجملة ، قيل : همدتْ؛ قال :
3468- وَسْطهُ كاليَراعِ أوْ سُرجِ المِجْ ... دَلِ طَوْراً يَخْبُو وطَوْراً يُنِيرُ
وقال آخر : [ الهزج ]
3469- لمن نَارٌ قُبَيْلَ الصُّبْ ... حِ عند البَيتِ ما تَخْبُو
إذا مَا أخمدَتْ ألْقِي عَليْهَا المَندلُ الرَّطْبُ
وأدغم التاء في زاي « زِدْنَاهُمْ » أبو عمرو ، والأخوان ، وورش ، وأظهرها الباقون .

قوله : { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } .
قال ابن قتيبة : زدناهم تلهُّباً .
فإن قيل : إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب . وقوله : { كُلَّمَا خَبَتْ } يدلُّ على أنَّ العذاب محققٌ في ذلك الوقت .
فالجواب : أن قوله « كُلَّما خَبَتْ » يقتضي سكون لهب النار ، أما أنه يدل على تخفيف العذاب ، فلا؛ لأنَّ الله تعالى قال : { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } [ الزخرف : 75 ] .
وقيل : معناه : « كلَّما خبت » [ أي : ] كلما أرادت أن تخبو { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } أي : وقوداً .
وقيل : المراد من قوله : { كُلَّمَا خَبَتْ } أي : نضجت جلودهم ، واحترقت ، أعيدوا إلى ما كانوا عليه .
قوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ } يجوز أن يكون مبتدأ وخبراً ، و « بأنهم » متعلق بالجزاء ، أي : « ذلك العذاب المتقدم جزاؤهم بسبب أنَّهم » ويجوز أن يكون « جَزاؤهُمْ » مبتدأ ثانياً ، والجار خبره ، والجملة خبر « ذلك » ، ويجوز أن يكون « جَزاؤهُمْ » بدلاً ، أو بياناً ، و « بِأنَّهُم » الخبر .
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ العمل علَّة الجزاءِ .
قوله : { وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } .
لمَّا أجاب عن شبهات منكري النبوة ، عاد إلى حكاية شبهة منكري المعاد .
وتلك الشبهة : هي أنَّ الإنسان بعد أن يصير رفاتاً ، ورميماً ، يبعد أن يعود هو بعينه ، فأجاب الله عنه : بأنَّ من بدر على خلق السموات والأرض في عظمتها وشدَّتها قادر على أن يخلق مثلهم في سغرهم ، وضعفهم؛ نظيره قوله تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 75 ] .
وفي قوله : { قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } قولان :
الأول : [ معناه ] قادر على أن يخلقهم ثانياً ، فعبَّر عن خلقهم بلفظ « المثل » ؛ كقوله المتكلِّمين : إنَّ الإعادة مثل الابتداء .
والثاني : قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحِّدونه ، ويقرُّون بكمال حكمته وقدرته ، ويتركون هذه الشبهات الفاسدة؛ وعلى هذا ، فهو كقوله تعالى : { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [ إبراهيم : 19 ] وقوله : { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ التوبة : 39 ] .
قال الواحديُّ : والأول أشبه بما قبله .
ولمَّا بيَّن الله تعالى بالدَّليل المذكور : أنَّ البعث يمكنُ الوجود في نفسه ، أردفه بأنَّ لوقوعه ودخوله في الوجود وقتاً معلوماً عند الله تعالى؛ وهو قوله : { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي : جعل لهم وقتاً لا ريب فيه ، { فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُوراً } أي : الظالمون إلا الكفر والجحود .
قوله : { وَجَعَلَ لَهُمْ } : معطوف على قوله « أو لَمْ يَروْا » ؛ لأنه في قوة : قد رأوا ، فليس داخلاً في حيِّز الإنكار ، بل معطوفاً على جملته برأسها .
وقوله : { لاَّ رَيْبَ فِيهِ } صفة ل « أجلاً » ، أي : أجلاً غير مرتابٍ فيه ، فإن أريد به يوم القيامة ، فالإفرادُ واضحٌ ، وإن أريد به الموت ، فهو اسم جنسٍ؛ إذ لكلِّ إنسانٍ أجلٌ يخصه .
وقوله : { إَلاَّ كُفُوراً } قد تقدَّم .

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)

اعلم أنَّ الكفار ، لما قالوا : لن نؤمن لك؛ حتَّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً وطلبوا إجراء الأنهارِ ، والعيون في بلدهم لتكثر أموالهم؛ بين أنَّهم لو ملكوا خزائن رحمة الله ، لبقوا على بخلهم وشحهم ، ولا أقدموا على إيصال النفع إلى أحدٍ ، وعلى هذا التقدير : فلا فائدة في إسعافهم لما طلبوه .
قوله : { لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : - وإليه ذهب الزمخشري ، والحوفي ، وابن عطيَّة ، وأبو البقاء ، ومكيٌّ- : أن المسألة من باب الاشتغال ، ف « أنْتُمْ » مرفوع بفعلٍ مقدر يفسِّره هذا الظاهر ، لأنَّ « لَوْ » لا يليها إلا الفعل ، ظاهراً أو مضمراً ، فهي ك « إنْ » في قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين } [ التوبة : 6 ] ، وفي قوله :
3470- وإنْ هُوَ لمْ يَحْمِلْ على النَّفْسِ ضَيْمهَا ... فَليْسَ إلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبيلُ
والأصل : لو تملكون ، فحذف الفعل؛ لدلالة ما بعده عليه ، فانفصل الضمير ، وهو الواو؛ إذ لا يمكن بقاؤه متَّصلاً بعد حذف رافعه ، ومثله : « وإنْ هو لم يحمل » : الأصل : وإن لم يحمل ، فلما حذف الفعل ، انفصل ذلك الضميرُ المستتر ، وبرز ، ومثله فيما نحنُ فيه قول الشاعر :
3471- « لوْ ذَاتُ سِوارٍ لطَمتْنِي » ... برفع « ذَاتُ » وقول المتلمِّس :
3472- ولَوْ غَيْرُ أخْوالِي أرادُوا نَقِيصَتِي ..
ف « ذَاتُ سوارٍ » مرفوعةٌ بفعل مفسَّر بالظاهر بعده .
الثاني : أنه مرفوع ب « كَانَ » وقد كثر حذفها بعد « لو » والتقدير : لو كنتم تملكون ، فحذف « كَانَ » ، فانفصل الضمير ، و « تَمْلكُونَ » في محلِّ نصبٍ ب « كَانَ » المحذوفةِ ، وهو قولُ ابن الصائغ؛ وقريبٌ منه قوله : [ البسيط ]
3473- أبَا خُرَاشةَ أمَّا أنْتَ ذَا نَفرٍ .. . . .
فإنَّ الأصل : لأن كنت ، فحذفت « كَانَ » ، فانفصل الضمير ، إلا أنَّ هنا عوِّض من « كَانَ » « ما » ، وفي [ « لَوْ » ] لم يعوَّض منها .
الثالث : أنَّ « أنتم » توكيدٌ لاسم « كانَ » المقدر معها ، والأصل « لَوْ كُنتمْ أنْتُم تَمْلكُونَ » فحذفت « كَانَ » واسمها ، وبقي المؤكِّدُ ، وهو قول ابن فضالٍ المجاشعيِّ ، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّا نحذف ما في التَّوكيد ، وإن كان سيبويه يجيزه .
وإنما أحوج هذين القائلين إلى ذلك : كون مذهب البصريِّين في « لَوْ » أنَّه لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً ، ولا يجوز عندهم أن يليها مضمراً مفسَّراً إلاَّ في ضرورة ، أو ندور ، كقوله : « لَو ذَات سوارٍ لطَمتْنِي » ، فإن قيل : هذان الوجهان أيضاً فيهما إذمار فعلٍ ، قيل : ليس هو الإضمار المعنيَّ؛ فإنَّ الإضمار الذي أبوه هو على شريطة التفسير في غير « كان » ، وأمَّا « كان » فقد كثر حذفها بعد [ « لو » ] في مواضع كثيرة ، وقد وقع الاسم الصَّريحُ بعد « لَوْ » غير مذكور بعده فعلٌ؛ وأنشد الفارسيُّ : [ الرمل ]

3474- لَو بِغيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرقٌ ... كُنْتُ كالغصَّانِ بالمَاءِ اعْتِصَارِي
إلا أنه أخرجه على أنه مرفوع بفعل مقدَّر يفسِّره الوصف من قوله « شَرِقٌ » ، وقد تقدَّم الكلام في « لَوْ » . قال أهل المعاني : إنَّ التقديم بالذكر يدل على التَّخصيص ، فقوله : { لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } دليل على أنَّهم هم المختصُّون بهذه الحالة الخسيسة ، والشُّحْ الكامل .
واعلم أنَّ خزائن رحمة الله غير متناهية؛ فكان المعنى أنكم لو ملكتم من النِّعم خزائن لا نهاية لها ، لتقيمنَّ على الشحِّ ، وهذه مبالغة عظيمة في وصفهم بهذه الصفة .
قوله : « لأمْسَكْتُمْ » يجوز أن يكون لازماً؛ لتضمنه معنى « بخِلتمْ » وأن يكون متعدِّياً ، ومفعوله محذوف ، أي : لأمسكتم المال ، ويجوز أن يكون كقوله { يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] .
قوله : { خَشْيَةَ الإنفاق } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول من أجله .
والثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، قاله أبو البقاء ، أي : خاشين الإنفاق ، وفيه نظر؛ إذ لا يقع المصدر المعرفة موقع الحال ، إلا سماعاً؛ نحو : « جَهْدكَ » و « طَاقَتكَ » ، وكقوله :
3475- وأرْسلَهَا العِراكَ . . ..
ولا يقاس عليه ، والإنفاقُ مصدر « أنْفقَ » ، أي : أخرج المال ، وقال أبو عبيدة : « هو بمعنى الافتقار ، والإقتار » .
قوله : { خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي } ، أي : نعمة ربِّي .
{ إِذاً لأمْسَكْتُمْ } لبخلتم .
{ خَشْيَةَ الإنفاق } : الفاقة .
وقيل : خشية النفاق يقال : أنفق الرجل ، أي : أملق ، وذهب ماله ، ونفق الشَّرُّ ، أي : ذهب .
وقيل : لأمسكتم عن الإنفاق؛ خشية الفقر ، ومعنى « قَتُوراً » : قال قتادة : بخيلاً ممسكاً .
يقال : أقْتَرَ يُقْتِرُ إقتاراً ، وقتَّر تَقْتِيراً : إذا قصَّر في الإنفاق .
فإن قيل : قد حصل في الإنسان الجواد ، والكريم .
فالجواب من وجوه :
الأول : أن الأصل في الإنسان البخلُ؛ لأنَّه خلق محتاجاً ، والمحتاج لا بد وأن يحبَّ ما به يدفع الحاجة ، وأن يمسكه لنفسه ، إلا أنَّه قد يجود به [ لأسبابٍ ] من خارج ، فثبت أنَّ الأصل في الإنسان البخلُ .
الثاني : أنَّ الإنسان إنَّما يبذلُ؛ لطلب الحمدِ ، وليخرج من عهدة الواجب ، ثم للتَّقرُّب إلى الله تعالى ، فهو في الحقيقة إنَّما أنفق ليأخذ العوض ، فهو بخيلٌ ، والمراد بهذا الإنسان المعهود السَّابق ، وهم الذين قالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } الآيات . اعلم أنَّ المقصود من هذا الكلام هو الجواب عن قولهم : لن نؤمن لك؛ حتى تأتينا بهذه المعجزات الباهرة؛ فقال تعالى : ولقد آتينا موسى معجزات مساويات لهذه الأشياء التي طلبتموها ، بل أقوى ، وأعظم ، فلو حصل في علمنا أنَّ جعلها في زمانكم؛ لعلمنا بأنها لا مصلحة في فعلها .
واعلم : أنه [ أزال ] القعدة في لسانه .
قال المفسرون : أذهب الأعجمية منه ، وبقي فصيحاً .
ومنها : انقلاب العصا حيَّة .
ومنها : تلقُّف الحية حبالهم وعصيَّهم ، مع كثرتها .
ومنها : اليد البيضاء من غير سوء .
ومنها : الطُّوفان والجراد ، والقمَّل ، والضَّفادع ، والدَّم .
ومنها : شقُّ البحر .
ومنها : ضربه الحجر بالعصا ، فانفجر .
ومنها : إظلال الجبل .
ومنها : إنزال المنِّ والسلوى عليه وعلى قومه .
ومنها : قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات } [ الأعراف : 130 ] لأهل القرى؛ فهذه آيتان .
ومنها : الطَّمس على أموالهم ، فجعلها حجارة من النَّخيلِ ، والدَّقيق ، والأطعمة ، والدَّراهم والدَّنانير .
روي أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب ، عن قوله : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } ، فذكر محمد بن كعب في جملة التسعة؛ حلَّ عقدة اللِّسان ، والطَّمس ، فقال عمر بن العزيز : هكذا يجبُ أن يكون الفقيهُ ، ثم قال : يا غلامُ ، أخرج ذلك الجراب ، فأخرجه ، فإذا فيه بيضٌ مكسورٌ؛ نصفين ، وجوز مكسور ، وفول ، وحمص ، وعدس ، كلها حجارة .
وإذا كان كذلك ، فإنه تعالى ذكر في القرآن أنَّ هذه المعجزات لموسى صلى الله عليه وسلم وقال في هذه الآية : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } وتخصيص التسعة بالذِّكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه؛ لأنَّه ثبت في أصول الفقه أنَّ تخصيص العدد بالذكر لا يدلُّ على نفي الزائد؛ وهذه الآية دليل على هذه المسألة .
واعلم : أن هذه التسعة قد اتَّفقوا على سبعة منها؛ وهي : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وبقي اثنتان اختلفت أقوال المفسرين فيهما ، ولمَّا لم تكن تلك الأقوال مستندة إلى حجَّة ظنيَّة؛ فضلاً عن حجة يقينيَّة ، لا جرم تركت تلك الروايات .
فصل في أجود ما قيل في تفسير التسع آيات
في تفسير قوله : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } قول هو أجود ما قيل ، وهو ما روي عن صفوان بن عسَّالٍ المراديِّ : أن يهوديًّا قال لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع الآيات ، فقال الآخر : لا تقل : نبي؛ فإنه لو سمع ، لصارت له أربعة أعين فأتياه ، فسألاه عن هذه الآية { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } .
فقال : هِيَ ألاَّ تشركوا بالله شيئاً ، ولا تقتلوا النَّفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ ، ولا تَزنُوا ، ولا تَأكلُوا الرِّبا ، ولا تَسْحرُوا ، ولا تمشُوا بالبريءِ للسلطان؛ ليقتله ، ولا تسرقوا ، ولا تقذفوا المحصنة ، ولا تَفرُّوا من الزَّحف ، وعليكم - خاصة اليهود - ألاَّ تعذوا في السَّبت ، فقام اليهوديَّان يقبِّلان يده ، ويقولون : نشهدُ أنَّك نبيٌّ ، قال : فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قال اليهودي : إنَّ داود دعا ربَّهُ ألاَّ يزال في ذُريَّته نبيٌّ ، وإنَّا نخافُ إن اتَّبعنَاكَ أن تقْتُلنَا يهُودُ .

قوله تعالى : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } : [ يجوز في « بَيِّنات » ] النصب صفة للعدد ، والجر صفة للمعدود .
قوله : « إذْ جَاءهُمْ » فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون معمولاً ل « آتيْنا » ويكون قول÷ « فاسْألْ بَنِي إسْرائيلَ » اعتراضاً ، وتقديره : ولقد آتينا موسى تسع آياتٍ بيِّناتٍ؛ إذ جاء بني إسرائيل ، فسألهم ، وعلى هذا التقدير : فليس المطلوبُ من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم ، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود بقول علمائهم صدق ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد .
والثاني : أنه منصوب بإضمار اذكر .
والثالث : أنه منصوبٌ ب « يُخْبرُونكَ » مقدراً .
الرابع : أنه منصوب بقولٍ مضمرٍ؛ إذ التقدير : فقلنا له : سل بني إسرائيل حين جاءهم ، ذكر هذه الأوجه الزمخشري مرتبة على مقدمة ذكرها قبلُ [ قال : ] فاسْأَلْ بنِي إسْرائيلَ ، أي : فقلنا له : اسأل بني إسرائيل ، أي : اسْألهُم عن فرعون ، وقل له : أرسل معي بني إسرائيل ، أو اسألهم عن إيمانهم ، وحال دينهم ، أو اسألهم أن يعاضدوك . ويدل عليه قراءة رسول الله « فَسَألَ » على لفظ الماضي ، بغير همزٍ ، وهي لغة قريشٍ .
وقيل : فَسلْ ، يا رسول الله ، المُؤمنَ من بني إسرائيل؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات؛ ليزدادوا يقيناً وطمأنينة؛ كقوله : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] [ ثم قال : ] فإن قيل بم تعلق « إذْ جَاءهُمْ » ؟ فالجواب :
أمَّا على الوجه الأول : فبالقول المحذوف ، [ أي ] : فقلنا له ، سلهم حين جاءهم ، أو ب « سَالَ » في القراءة الثانية ، وأمَّا على الآخر فب « آتَيْنَا » أو بإضمار « اذكر » أو ب « يُخْبرونَكَ » ومعنى « إذْ جَاءهُمْ » « إذ جاء آباءهم » ، انتهى .
قال أبو حيان : « لا يتأتَّى تعلقه ب » اذْكُر « ولا ب » يُخْبرُونَكَ « ؛ لأنه ظرف ماضٍ » .
قال شهاب الدين : إذا جعله معمولاً ل « اذْكُر » ، أو ل « يُخْبرُونكَ » لم يجعله ظرفاً ، بل مفعولاً به ، كما تقرَّر مراراً .
الوجه الخامس : أنه مفعول به ، والعامل فيه « فَسلْ » .
قال أبو البقاء : « فيه وجهان :
أحدهما : هو مفعول به ب » اسْألْ « على المعنى إذ التقدير : اذكر لبني إسرائيل؛ إذ جاءهم ، وقيل : التقدير : اذكر إذا جاءهم وهي غير » اذكُر « الذي قدَّرت به » اسْأل « » ، يعني : أن « اذكر » المقدرة غير « اذكُر » التي فسَّرت « اسألْ » بها؛ وهذا يؤيِّد ما تقدَّم من أنهم ، إذا قدروا « اذكُر » جعلوا « إدْ » مفعولاً به ، لا ظرفاً .

إلا أنَّ أبا البقاء ذكر [ حال ] كونه ظرفاً ، ما يقتضي أن يعمل فيه فعلٌ مستقبل ، فقال : « والثاني : أن يكون ظرفاً ، وفي العامل وجوه :
أحدها : » آتيْنا « .
والثاني : » قلنا « مضمرة .
والثالث : [ » قُل « ] ، تقديره : قل لخصمك : سل؛ والمراد به فرعون ، أي : قل ، يا موسى ، وكان الوجه أن يقال : إذ جئتهم بالفتح ، فخرج من الخطاب ، إلى الغيبة » .
فظاهر الوجه الثالث : أن العامل فيه « قُلْ » وهو ظرف ماض ، على أنَّ هذا المعنى الذي نحا إليه ليس بشيء؛ إذ يرجع إلى : يا موسى ، قل لفرعون : يا فرعون سل بني إسرائيل ، فيعود فرعون هو السائل لبني إسرائيل ، وليس المراد ذلك قطعاً ، وعلى التقدير الذي تقدم عن الزمخشري- وهو أن المعنى : يا موسى ، سل بني إسرائيل ، [ أي : اطلبهم من فرعون - يكون المفعول الأول للسؤال محذوفاً ، والثاني هو « بني إسْرائيلَ » ] ، والتقدير : سَلْ فرعون بني إسرائيل ، وعلى هذا : فيجوز أن تكون المسألة من التنازع ، وأعمل الثاني؛ إذ التقدير : سل فرعون ، فقال فرعون ، فأعمل الثاني ، فرفع به الفاعل ، وحذف المفعول من الأول ، وهو المختار من المذهبين .
والظاهر غير ذلك كلِّه ، وأن المأمور بالسؤال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو إسرائيل كانوا معاصريه .
والضمير [ في ] « إذْ جَاءَهُمْ » : إمَّا للآباء ، وإمَّا لهم على حذف مضافٍ ، أي : جاء آباءهم .
فصل في معنى « واسأل بني إسرائيل »
المعنى : فسَلْ ، يا محمد ، بني إسرائيل؛ إذ جاءهم موسى ، يجوز أن يكون الخطاب معه ، والمراد غيره ، ويجوز أن يكون خاطبه - عليه الصلاة والسلام - وأمره بالسؤال؛ ليتبيَّن كذبهم مع قومهم ، فقال له فرعون : { إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً } .
وقوله « مَسْحُوراً » : وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه بمعناه الأصلي ، أي : إنك سحرت ، فمن ثمَّ؛ اختل كلامك ، قال ذلك حين جاءه بما لا تهوى نفسه الخبيثة ، قاله الكلبي .
وقال ابن عباس : مخدوعاً ، وقال : مصروفاً عن الحقِّ .
والثاني : أنه بمعنى « فاعل » كميمون ومَشْئُوم ، أي : أنت ساحرٌ؛ كقوله : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] . فوضع المفعول موضع الفاعل ، قاله الفراء ، وأبو عبيدة ، وقال ابن جرير : يعطى علم السِّحر؛ فلذلك تأتي بالأعاجيب ، يشير لانقلابِ عصاه حيَّة ونحو ذلك .
قوله : { لَقَدْ عَلِمْتَ } : قرأ الكسائي بضمِّ التاء أسند الفعل لضمير موسى - عليه السلام - أي : إنِّي متحققٌ أن ما جئتُ به هو منزَّلٌ من عند الله تعالى ، والباقون بالفتح على إسناده لضمير فرعون ، أي : أنت متحقِّقٌ أنَّ ما جئت به هو منزَّل من عند الله ، وإنَّما كفرك عنادٌ ، وعن عليّ - رضي الله عنه - أنه أنكر الفتح ، وقال : « ما عَلِمَ عدُو الله قطُّ ، وإنَّما علمَ مُوسَى » ، [ ولَو عَلِمَ ، لآمنَ؛ ] فبلغ ذلك ابن عباس ، فاحتجَّ بقوله تعالى :

{ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ } [ النمل : 14 ] على أنَّ فرعون وقومه علموا بصحَّة أمر موسى .
فصل في الخلاف في أجود القراءتين
قال الزجاج : الأجودُ في القراءة الفتحُ؛ لأنَّ علم فرعون بأنَّها آياتٌ نازلةٌ من عند الله أوكد في الاحتجاج ، واحتجاج موسى على فرعون بعلم فرعون أوكد من الاحتجاج عليه بعلم نفسه .
وأجاب من نصر قراءة عليٍّ عن دليل ابن عباس ، فقال قوله : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ } يدلُّ على أنهم استيقنوا أشياء ، فأمَّا أنهم استيقنوا كون هذه الأشياء نازلة من عند الله ، فليس في الآية ما يدل عليه؛ ويدلُّ بأنَّ فرعون قال : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] .
قال موسى : « لقَدْ عَلْمتَ » .
والمعنى : « اعلم أنِّي لستُ بمجنونٍ » ، ولم يثبت عن عليٍّ رفعُ التاء؛ لأنه يروى عن رجلٍ من مرادٍ عن عليٍّ ، وذلك الرجل مجهول .
واعلم : أن هذه الآيات من عند الله ، ولا تشكَّ في ذلك بسبب سفاهتك والجملة المنفيَّة في محلِّ نصبٍ؛ لأنها معلقة للعلم قبلها وتقدير الآية : ما أنزل هؤلاء « الآيات » ؛ ونظيره قوله : [ الكامل ]
3476- ... والعَيْشَ بَعْدَ أولئك الأيَّام
أي : للأمام . قوله : « بَصائِرَ » حالٌ ، وفي عاملها قولان :
أحدهما : أنه « أنْزلَ » هذا الملفوظ به ، وصاحبُ الحال « هؤلاءِ » وإليه ذهب الحوفي ، و ابن عطيَّة ، وأبو البقاء ، وهؤلاء يجيزون أن يعمل ما قبل « إلاَّ » فيما بعدها ، وإن لم يكن مستثنى ، ولا مستثنى منه ، ولا تابعاً له .
والثاني : - وهو مذهب الجمهور- : أنَّ ما بعد « إلاَّ » لا يكون معمولاً لما قبله ، فيقدر لها عامل ، تقديره : أنزلها بصائر ، وقد تقدَّم نظير هذه في « هود » عند قوله { إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي } [ هود : 27 ] .
ومعنى « بَصائِرَ » أي : حججاً بيِّنة؛ كأنها بصائر العقول ، والمراد : الآيات التِّسع ، ثم قال موسى : { وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً } .
قوله : « مَثبُوراً » مفعول ثانٍ ، واعترض بين المفعولين بالنِّداء ، و المَثبُورُ : المهلك؛ يقال : ثبرهُ الله ، أي : أهلكه ، قال ابن الزبعرى : [ الخفيف ]
3477- إذْ أجَارِي الشَّيطَانَ في سَننِ الغَيْ ... يِ ومَنْ مَالَ مَيلهُ مَثْبُور
والثُّبورُ : الهلاكُ؛ قال تعالى : { لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً } [ الفرقان : 14 ] .
وقال ابن عباس : مَثْبُوراً ، أي : ملعوناً ، وقال الفراء : مصروفاً ممنوعاً عن الخير ، والعرب تقول : ما ثبرك عن هذا؟ أي : ما منعك عن هذا ، وما صرفك عنه؟ .
قال أبو زيدٍ : يقال ثبرت فلاناً عن الشيء ، أثبرهُ ، أي رددتُّه عنه .

فصل في جواب موسى لفرعون بكونه مثبوراً
واعلم أنَّ فرعون لمَّا وصف موسى - عليه السلام - بكونه مسحوراً ، أجابه موسى بأنَّك مثبورٌ ، أي : أنَّ هذه الآيات ظاهراتٌ ، ومعجزاتٌ ظاهرةٌ؛ لا يرتاب العاقل في أنَّها من عند الله؛ وأنه أظهرها لأجل تصديقي ، وأنت تنكرها حسداً ، وعناداً ، ومن كان كذلك ، كان عاقبته الدَّمار والهلاك .
ثم قال تعالى : { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض } .
أي : أراد فرعون أن يخرج موسى - عليه السلام - وبني إسرائيل من الأرض أي : أرض مصر .
قال الزجاج : لا يبعد أن يكون المراد من استفزازهم إخراجهم منها بالقتل ، أو بالتنحية ، وتقدَّم الكلام على الاستفزاز ، ثم قال : { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً } .
وهو معنى ما ذكره الله في قوله : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] ، أي : إنَّ فرعون أراد إخراج موسى من أرض مصر؛ لتخلص له تلك البلاد ، فأهلك الله فرعون ، وجعل تلك الأرض خالصة لموسى ولقومه ، وقال من بعد هلاك فرعون لبني إسرائيل : اسكنوا الأرض خالصة لكم ، خالية من عدوِّكم ، يعني : أرض مصر والشام ، { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة } . يعني : القيامة { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } من ههنا وههنا .
وفي { لَفِيفاً } : وجهان :
أحدهما : أنه حال ، وأن أصله مصدر لفَّ يلفُّ لفيفاً؛ نحو : النَّذير والنَّكير ، أي : جئنا بكم منضماً بعضكم إلى بعض ، من لفَّ الشيء يلفُّه لفًّا ، والألفُّ : المتداني الفخذين ، وقيل : العظيم البطن .
والثاني : أنه اسم جمع ، لا واحج له من لفظه ، والمعنى : جئنا بكم جميعاً ، فهو في قوة التَّأكيد .
واللَّفيفُ : الجمع العظيم من أخلاطٍ شتَّى من الشريف ، والدنيء ، والمطيع ، والعاصي ، والقويّ ، والضعيف ، وكل شيءٍ خلطته بشيءٍ آخر ، فقد لففته ، ومنه قيل : لففتُ الجيوش : إذا ضرب بعضها ببعض .

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

قوله : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ } الآية .
لما بيَّن أن القرآن معجز قاهر دالٌّ على الصدق في قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن } [ الإسراء : 88 ] .
ثم حكى عن الكفار أنَّهم لم يكتفوا بهذا المعجز ، بل طلبوا أشياء أخر ، ثم أجاب تعالى بأنَّه لا حاجة إلى إظهار معجزاتٍ أخر ، وبيَّن ذلك بوجوهٍ كثيرةٍ :
منها : أنَّ قوم موسى آتاهم تسع آيات بيِّناتٍ ، فلما جحدوا بها أهلكهم الله ، فكذا ههنا ، أي : أنَّ المعجزات التي اقترحها قوم محمد صلى الله عليه وسلم ثمَّ كفروا بها؛ فوجب إنزال عذاب الاستئصال بهم ، وذلك غير جائزٍ في الحكمة؛ لعلمه تعالى أنَّ فيهم من يؤمن ، أو من يظهر من نسله مؤمنٌ . لمَّا تمَّ هذا الجواب ، عاد إلى حال تعظيم القرآن؛ فقال : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } ، أي : ما أردنا بإنزاله إلاَّ إظهار الحقِّ .
قوله : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ } : في هذا الجار ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب « أنْزَلْنَاهُ » ، و الباء سببية ، أي : أنزلناه بسبب الحقِّ .
والثاني : أنه حال من مفعول « أنْزَلنَاهُ » ، أي : ومعه الحقُّ .
فتكون الباء بمعنى « مَعَ » قاله الفارسي؛ كما تقول : نزل بعدَّته ، وخرج بسلاحه .
والثالث : أنه حال من فاعله ، أي : ملتبسين بالحق ، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف .
والضمير في « أنْزلْنَاهُ » الظاهر عوده للقرآن : إمَّا الملفوظ به في قوله قبل ذلك { على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن } [ الإسراء : 88 ] ؛ ويكون ذلك جرياً على قاعدة أساليب كلامهم ، وهو أن يستطرد المتكلمُ في ذكر شيءٍ لم يسبق له كلامه أولاً ، ثم يعود إلى كلامه الأول . وإمَّا للقرآن غير الملفوظ أولاً؛ لدلالة الحال عليه؛ كقوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] وقيل : يعود على موسى؛ كقوله : { وَأَنزْلْنَا الحديد } [ الحديد : 25 ] ، وقيل : على الوعد ، وقيل : على الآيات التِّسعِ ، وذكر الضمير ، وأفرده؛ حملاً على معنى الدليل والبرهان .
قوله : « وبالحقِّ نَزلَ » فيه الوجهان الأولان ، دون الثالث؛ لعدم ضميرٍ آخر غير ضمير القرآن لاحتمال أن يكون التقدير : نزل بالحقِّ؛ كما تقول : نزلت بزيدٍ ، وعلى هذا التقدير : فالحق محمد صلى الله عليه وسلم . وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها للتأكيد؛ وذلك أنه يقال : أنزلته ، فنزل ، وأنزلته فلم ينزل؛ فجيء بقوله « وبالحقِّ نَزلَ » ؛ دفعاً لهذا الوهم ، وقيل : لست للتأكيد ، والمغايرة تحصل بالتغاير بين الحقَّين ، فالحق الأول التوحيد ، والثاني الوعد والوعيد ، والمر والنهي ، وقال الزمخشري : « وما أنزلنا القرآن إلاَّ بالحكمة المقتضية لإنزاله ، وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة؛ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خيرٍ ، أو ما أنزلناه من المسماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصدِ من الملائكةِ ، وما نزل على الرسول إلاَّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين » ، و « مبشِّراً ونذيراً » : حالان من مفعول « أرْسلْنَاكَ » مبشراً للمطيعين ، ونذيراً للعاصين ، فإن قبلوا الدِّين الحقَّ ، انتفعوا به ، وإلا فليس عليك من كفرهم [ شيءٌ ] .

قوله تعالى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } الآية : في نصب « قُرْآناً » أوجه :
أظهرها : أنه منصوب بفعل مقدر ، أي : « وآتَيْناكَ قُرآناً » يدل عليه قوله { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى } [ الإسراء : 101 ] .
الثاني : أنه منصوبٌ؛ عطفاً على الكاف في « أرْسَلْنَاكَ » ؛ قال ابن عطية : « من حيثُ كان إرسالُ هذا ، وإنزال هذا بمعنى واحدٍ » .
الثالث : أنه منصوب؛ عطفاً على « مُبشِّراً ونذيراً » قال الفراء : « هو منصوبٌ ب » أرْسَلناكَ « ، أي : ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً؛ كما تقول : ورحمة يعني : لأن القرآن رحمةٌ » ، بمعنى أنه جعل نفس القرآن مراداً به الرحمة؛ مبالغة ، ولو ادَّعى ذلك على حذفِ مضافٍ ، كان أقرب ، أي : « وذا قرآنٍ » وهذان الوجهان متكلَّفان .
الرابع : أن ينتصب على الاشتغال ، أي : وفرقنا قُرآناً فرقناه ، واعتذر أبو حيان عن ذلك ، أي : عن كونه لا يصحُّ الابتداء به ، لو جعلناه مبتدأ؛ لعدم مسوغٍ؛ لأنه لا يجوز الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسم الابتداء ، بأنَّ ثمَّ صفة محذوفة ، تقديره : وقرآناً أي قرآن ، بمعنى عظيم ، و « فَرقْنَاهُ » على هذا : لا محل له؛ بخلاف الأوجه المتقدمة؛ فإن محلَّه النصب؛ لأنَّه نعتٌ ل « قُرآناً » .
وقرأ العامة « فَرقْناهُ » بالتخفيف ، أي : بيَّنا حلاله وحرامه ، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل ، وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ - كرَّم الله وجهه - وأبيٌّ ، وعبد الله ، وابن عباس والشعبي ، وقتادة ، وحميدٌ في آخرين بالتشديد ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّ التضعيف فيه للتكثير ، أي : فرَّقنا آياته بين أمرٍ ونهيٍ ، وحكمٍ وأحكامٍ ، ومواعظ وأمثال ، وقصصٍ وأخبار ماضية ومستقبلة .
والثاني : أنه دالٍّ على التفريق والتنجيم .
قال الزمخشريُّ : « وعن ابن عباس : أنه قرأ مشدداً ، وقال : لم ينزل في يومين ، ولا في ثلاثة ، بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، يعني أنَّ » فرقَ « بالتخفيف يدل على فصل متقاربٍ » .
قال أبو حيان : « وقال بعضُ من اختار ذلك - يعني التنجيم - لم ينزل في يوم ، ولا يومين ، ولا شهرٍ ، ولا شهرين ، ولا سنة ، ولا سنتين؛ قال ابن عبَّاس : كان بين أوله ، وآخره عشرون سنة ، كذا قال الزمخشريُّ ، عن ابن عباس » .
قال شهاب الدين : ظاهر هذا : أنَّ القول بالتنجيم : ليس مرويًّا عن ابن عباس ، ولا سيما وقد فصل قوله « قَالَ ابن عبَّاسٍ » من قوله « وقال بعض من اختار ذلك » ، ومقصوده أنه لم يسنده لابن عباس؛ ليتمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ « فَعَّل » بالتشديد لا يدلُّ على التفريق ، وقد تقدم له معه هذا المبحث أوَّل هذا الموضوع .

قال ابن الخطيب : والاختيار عند الأئمة : « فَرقْنَاهُ » بالتخفيف ، وفسَّره أبو عمرو : بيَّناه .
قال ابو عبيدة : التخفيف أعجبُ غليَّ؛ لأنَّ معناه : بينَّاه ، ومن قرأ بالتشديد ، لم يكن له معنًى إلا أنه أنزل متفرِّقاً ، [ فالتفرُّق ] يتضمَّن التَّبيين ، ويؤكِّده ما رواه ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ أنه قال : فَرقتُ ، أو أفْرَقتُ بين الكلامِ ، وفرَّقتُ بين الأجسامِ؛ ويدلُّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : « البَيِّعانِ بالخِيَارِ ، ما لمْ يتفرَّقا » ولم يقل : « يَفْترِقَا » .
فصل في نزول القرآن مفرقاً
قال ابن الخطيب : إنَّ القوم قالوا : هَبْ أنَّ هذا القرآن معجز ، إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة؛ ليظهر فيه وجه الإعجاز؛ فجعلوا إتيان الرسول به مفرَّقاً شبهة في أنَّه يتفكَّر في فصل فصل ، ويقرؤه عليهم ، فأجاب الله عن ذلك أنه إنَّما فرَّقه ليكون حفظه أسهل؛ ولتكون الإحاطة والوقوف على دلائله ، وحقائقه ، ودقائقه أكمل .
قال سعيد بن جبير : نزل القرآن كلُّه في ليلة القدر من السَّماء العليا إلى السَّماء السفلى ، ثم فصل في السِّنين التي نزل فيها ، ومعنى الآية : قطَّعناه آية آية ، وسورة وسورة .
قوله : « لتَقْرَأهُ » متعلق ب « فَرقْنَاهُ » ، وقوله « عَلَى مُكْثٍ » فيه ثلاثةُ أوجه :
الأول : أنه متعلِّق بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من الفاعل ، أو المفعول في « لتَقْرَأهُ » ، أي : متمهِّلاً مترسِّلاً .
الثاني : أنه بدلٌ من « عَلَى النَّاس » قاله الحوفيُّ ، وهو وهمٌ؛ لأنَّ قوله « عَلى مُكثٍ » من صفاتِ القارئ ، أو المقرُوءِ من وجهة المعنى ، لا من صفات الناس؛ حتى يكون بدلاً منهم .
الثالث : أنه متعلق ب « فَرقنَاهُ » .
قال ابو حيان : « والظاهر تعلق » عَلى مُكثٍ « بقوله » لتَقْرأهُ « ، ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جر من جنسٍ واحدٍ؛ لأنه اختلف معنى الحرفين؛ لأن الأول في موضع المفعول به ، والثاني في موضع الحال ، أي : متمهِّلاً مترسلاً » .
قال شهاب الدين : قوله أولاً : إنه متعلق بقوله « لِتقْرَأهُ » : ينافي قوله في موضع الحال ، لأنه متى كان حالاً ، تعلق بمحذوفٍ ، لا يقال : أراد التعلق المعنوي ، لا الصناعي؛ لأنه قال : ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحد ، وهذا تفسير إعراب ، لا تفسير معنى .
والمُْثُ : التَّطاولُ في المدة ، وفيه ثلاثة لغات : الضمُّ ، والفتح - ونقل القراءة بهما الحوفيُّ ، وأبو البقاء - والكسر ، ولم يقرأ به فيما علمتُ ، وفي فعله الفتح والضمُّ وسيأتي بيانه ، إن شاء الله تعالى في النَّمل [ الآية : 22 ] ومعنى « عَلى مُكْثٍ » أي على تؤدةٍ ، وترسُّل في ثلاثٍ وعشرين سنة { وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } على الحدِّ المذكور .

قوله : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا } : يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة؛ على وجه التَّهديد والإنكار ، أي : أنَّه تعالى ، أوضح البينات والدلائل ، وأزاح الأعذار ، فاختاروا ما تريدون .
{ إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ } أي : من قبل نزول القرآن ، قال مجاهد : هم ناسٌ من أهل الكتاب ، كانوا يطلبون الدِّين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثمَّ أسلموا بعد مبعثه؛ كزيد بن عمرو بن نفيلٍ ، وسلمان الفارسيِّ ، وأبي ذرٍّ ، وورقة بن نوفلٍ ، وغيرهم .
{ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ } يعني القرآن .
{ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } . يعني : يسقطون للأذقان ، قال ابن عباس : أراد به الوجوه .
قوله : { لِلأَذْقَانِ } : في اللام ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بمعنى « على » ، أي : على الأذقان؛ كقولهم : خرَّ علىوجهه .
والثاني : أنها للاختصاص ، قال الزمخشري : فإن قيل : حرف الاستعلاءِ ظاهر المعنى ، إذا قلت : خرَّ على وجهه ، وعلى ذقنه ، فما معنى اللام في « خرَّ لذقنه ، ولوجهه » ؟ قال : [ الطويل ]
3478- ... فَخرَّ صَرِيعاً للْيَديْنِ وللْفَمِ
قلت : معناه : جعل ذقنهُ ، ووجههُ [ للخرور ] ، قال الزجاج : الذَّقنُ : مجمع اللَّحيين ، وكلما يبتدئ الإنسان بالخرور إلى السجود ، فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذَّقنُ .
وقيل : الأذقان اللِّحى؛ فإن الإنسان ، إذا بالغ في السجود ، والخضوع ، ربَّما مسح ليحتهُ على التُّراب؛ فإنَّ اللحية يبالغ في تنظيفها ، فإذا عفَّرها بالتُّراب ، فقد أتى بغايةِ التعظيم [ للخُرور ] .
واختصَّ به؛ لأنَّ اللام للاختصاص ، وقال أبو البقاء : « والثاني : هي متعلقة ب » يَخِرُّون « ، واللام على بابها ، أي : مذلُّون للأذقان » .
والأذقانُ : جمعُ ذقنٍ ، وهو مجمعُ اللَّحيين؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3479- فَخرُّوا لأذقَانِ الوُجوهِ تَنُوشُهمْ ... سِباعٌ من الطَّيْرِ العَوادِي وتَنتِفُ
و « سُجَّداً » حال ، وجوَّز أبو البقاء في « للأذقانِ » أن يكون حالاً ، قال : « أي : ساجدين للأذقان » وكأنه يعني به « للأذْقانِ » الثانية؛ لأنَّه يصير المعنى : ساجدين للأذقان سجداً؛ ولذلك قال : « والثالث : أنها - يعني اللام - [ بمعنى ] » على « ؛ فعلى هذا يكون حالاً من » يَبْكُونَ « ، و » يَبْكُون « حال » .
فإن قيل : لم قيل : يَخرُّون للأذقان سجداً ، ولم يقل يسجدون؟
والجواب : أن المقصود من هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك؛ حتَّى أنهم يسقطون .
ثم قال : { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } ، أي : كان قولهم في سجودهم : « سبحان ربِّنا » ، أي : ينزِّهونه ، ويعظِّمونه { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } أي : بإنزال القرآن ، وبعث محمد - عليه الصلاة والسلام - وهذا يدلُّ على أنَّ هؤلاء كانوا من أهل الكتاب ، لأنَّ الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم ، وهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد ، ثم قال : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ } .

والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين ، وهما :
خُرورهُمْ في حال كونهم باكين ، في حال استماع القرآن ، ويدلُّ عليه قوله : { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } .
وجاءت الحال الأولى اسماً؛ لدلالته على الاستقرار ، والثانية فعلاً؛ لدلالته على التجدُّد والحدوث .
ويجوز أن يكون القول دلالة على تكرير الفعل منهم .
وقوله : « يَبْكُونَ » ، معناه : الحال ، { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } ، أي : تواضعاً .
قوله : { وَيَزِيدُهُمْ } : فاعل « يزيدُ » : إمَّا القرآن ، أو البكاءُ ، أو السُّجودُ ، أو المتلوُّ ، لدلالة قوله : « إذَا يُتْلَى » .
قوله تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } الآية .
قال ابن عباس : سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة ذات ليلة ، فجعل يبكي ، ويقول في سجوده : ( يا الله ، يا رحمن ) . فقال أبو جهلٍ : إنَّ محمداً ينهانا عن آلهتنا ، وهو يدعو إلهين ، فأنزل الله هذه الآية ، ومعناه : أنَّهما اسمان لواحدٍ ، [ أي : ] أيَّ هذين الاسمين سميتم ، فله الأسماءُ الحسنى .
قوله : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } : [ « أيًّ » ] منصوب [ ب « تَدْعُوا » ] على المفعول به ، والمضاف إليه محذوف ، أي : أيَّ الاسمين ، و « تَدْعُوا » مجزوم بها ، فهي عاملة معمولة ، وكذلك الفعل ، والجواب الجملة الاسمية من قوله « فلهُ الأسْماءُ الحُسنَى » . وقيل : هو محذوفٌ ، تقديره : جاز ، ثم استأنف ، فقال : فله الأسماء الحسنى ، وليس بشيءٍ .
والتنوين في « أيًّا » عوض من المضاف إليه ، وفي « ما » قولان :
أحدهما : أنها مزيدة للتأكيد .
والثاني : أنها شرطية جمع بينهما؛ تأكيداً كما جمع بين حرفي الجر؛ للتأكيد ، وحسَّنه اختلافُ اللفظ؛ كثوله : [ الطويل ]
3480- فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي ... عن بِمَا بِهِ . .
ويؤيِّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرِّفٍ « أيًّا من تدعُوا » فقيل : « مَنْ » تحتمل الزيادة على رأي الكسائيِّ؛ كقوله : [ الكامل ]
3481- يَا شَاةَ من قَنصٍ لمَنْ حَلَّتْ لهُ ..
واحتمل أن تكون شرطية ، وجمع بينهما؛ تأكيداً لما تقدَّم ، و « تَدعُوا » هنا يحتمل أن يكون من الدعاء ، وهو النداءُ ، فيتعدَّى لواحدٍ ، وأن يكون بمعنى التسمية ، فيتعدَّى لاثنين ، إلى الأول بنفسه ، وإلى الثاني بحرف الجرِّ ، ثم يتسع في الجارِّ فيحذف؛ كثوله : [ الطويل ]
3482- دَعتْني أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو . . .
والتقدير : قل : ادعُوا معبودكم بالله ، أو بالرَّحمن ، بأيِّ الاسمين سمَّيتموه ، وممَّن ذهب غلى كونها بمعنى « سمَّى » الزمخشريز
ووقف الأخوان على طأيًّا « بإبدال التنوين ألفاً ، ولم يقفا على » مَا « ؛ تبييناً لانفصال » أيًّا « من » مَا « ، ووقف غيرهما على » مَا « ؛ لامتزاجها ب » أيّ « ؛ ولهذا فصل بها بين » أي « ، وبين ما أضيفت إليه في قوله تعالى { أَيَّمَا الأجلين } [ القصص : 28 ] ، وقيل : » ما « شرطية عند من وقف على » ايًّا « ، وجعل المعنى : أي الاسمين دعوتموه به ، جاز ، ثم استأنف » مَا تدعوا ، فله الأسماء الحسنى « ، يعني أنَّ » ما « شرطٌ ثانٍ ، و » فَلهُ الأسماءُ « جوابه ، وجواب الأول مقدر ، وهذا مردودٌ بأنَّ » ما « لا تطلق على آحاد أولي العلم ، وبأنَّ الشرط يقتضي عموماً ، ولا يصحُّ هنا ، وبأن فيه حذف الشرط والجزاء معاً .

فصل
والمعنى : أيًّا ما تدعوا ، فهو حسنٌ؛ لأنه إذا حسنت أسماؤه ، فقد حسن هذان الاسمان؛ لأنهما منها ، ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التَّمجيد والتَّقديس .
واحتجَّ الجبائي بهذه الآية ، فقال : لو كان تعالى خالقاً للظُّلم ، والجور ، لصحَّ أن يقال : يا ظالمُ ، حينئذٍ : يبطل ما ثبت بهذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة .
والجواب : أنَّا لا نسلِّم أنه لو كان خالقاً لأفعال العباد ، لصحَّ وصفه بأنَّه ظالمٌ ، وجائرٌ ، كما لا يلزم من كونه خالقاً للحركة والسكون ، والسواد ، والبياض أن يقال : ما متحرك ، ويا ساكن ، ويا أبيض ، ويا أسود .
فإن قيل : فيلزم أن يقال : يا خالق الظُّلم والجور .
تقولون : ذلك حقٌّ في نفس الأمر ، وإنَّما الأدب أن يقال : يا خالق السَّموات والأرض ، فكذا قولنا ها هنا .
ثمَّ قال تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } .
وروى سعيد بن جبيرٍ ، عن ابن عبَّاس في هذه الآية ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعُ صوته بالقراءة ، فإذا سمعه المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } ، أي : بقراءتك ، أي : فيسمعك المشركون؛ ليسبُّوا القرآن ، ويسبُّوا الله عدواً بغير علم .
قوله : { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } فلا يسمعك أصحابك .
قوله : { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } .
روى أبو قتادة « أنّ النبي صلى الله عليه وسلم طاف باللَّيل على دور أصحابه؛ فكان أبو بكرٍ يخفي صوته بالقراءة ، وكان عمر يرفعُ صوته ، فلما جاء النَّهار ، وجاء أبو بكرٍ وعمر ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : هِيَ لَكَ ، مَررْتُ بِكَ ، وأنْتَ تَقْرأ ، وأنْتَ تخفضُ من صَوتِكَ ، فقال : إنِّي سَمِعتُ من نَاجَيتُ ، قَالَ : فَارفَعْ قليلاً ، وقَالَ لِعُمرَ : مَررْتُ بِكَ ، وأنْتَ تَقْرَأ ، وأنْتَ تَرْفَعُ مِنْ صَوْتِكَ ، فقال : إنِّي أوقظُ الوسْنانَ ، وأطردُ الشَّيطَانَ ، فقال : اخْفِضْ قليلاً » .
وقيل : المراد ( ولا تجهر بصلاتك كلها ) ، ولا تخافت بها كلها ( وابتغ بين ذلك سبيلا ) بأن تجهر بصلاة الليل ، وتخافت بصلاة النَّهار .
وقيل : الآية في الدعاء ، وهو قول أبي هريرة ، وعائشة ، والنخعيِّ ، ومجاهدٍ ، ومكحولٍ ، وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية ، قال : إنَّما ذلِكَ في الدُّعاءِ والمسالة .
قال عبد الله بن شدَّادٍ : كان أعرابٌ من بني تميم ، إذا سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا مالاً وولداً يجهرون ، فأنزل الله هذه الآية : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } .

أي : لا ترفع صوتك بقراءتك ، ودعائك ، ولا تخافت بها .
والمُخَافتَةُ : خفض الصَّوت والسُّكوتُ .
يقل : خفت صوته يخفته خفوتاً ، إذا ضعف وسكن ، وصوتٌ خفيتٌ ، أي : خفيضٌ .
ومنه يقال للرجل ، إذا مات : قد خفت كلامه ، أي : انقطع كلامه ، وخفت الزَّرعُ ، إذا ذبل ، وخفت الرَّجل بقراءته ، يتخافتُ بها ، إذا لم يبيِّن قراءته برفع الصوت ، وقد تخافت القوم ، إذا تسارُّوا بينهم .
فصل في المستحب في الدعاء
واعلم أن الجهر بالدعاء منهيٌّ عنه ، والمبالغة في الإسرار غير مطلوبة ، والمستحبُّ التوسُّط ، وهو أن يسمع نفسه؛ كما روي عن ابن مسعود : أنه قال : لم يتخافت من يسمع أذنيه .
واعلم أن العدل هو رعاية الوسط؛ كما مدح الله هذه الأمَّة بقوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] .
ومدح المؤمنين بقوله : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] .
وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] فكذا ههنا : نهى عن الطَّرفين ، وهما الجهر والمخافتة ، وأمر بالتوسُّط بينهما ، فقال : { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } .
وقال بعضهم : الآية منسوخة بقوله - تعالى- : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] .
وهو بعيدٌ .
واعلم أنه تعالى ، لمَّا أمر بأن لا يذكر ، ولا ينادى ، إلا بأسمائه الحسنى ، علَّم كيفيَّة التمجيد؛ فقال :
{ وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل } .
فذكر ثلاثة أنواع من صفات التنزيه والجلال :
الأول : أنه لم يتخذ ولداً ، والسَّببُ فيه وجوهٌ :
أولها : أنَّ الولد هو الشيء المتولِّد من أجزاء ذلك الشيء ، فكلُّ من له ولدٌ ، فهو مركبٌ من الأجزاء ، والمركَّب محدثٌ ، والمحدث محتاجٌ؛ لا يقدر على كمال الإنعامِ؛ فلا يستحقُّ كمال الحمدِ .
وثانيها : أنَّ كل من له ولدٌ ، فهو يمسك جميع النِّعم لولده ، فإذا يكن له ولدٌ ، أفاض كلَّ النِّعم على عبيده .
وثالثها : أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه ، فلو كان له ولد ، لكان منقضياً فانياً ، ومن كان كذلك ، لم يقدر على كمال الإنعام في جميع الأوقات؛ فوجب ألاَّ يستحقَّ الحمد على الإطلاق .
وهذه الآية ردٌّ على اليهود في قولهم { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، وردٌّ على النصارى في قولهم { المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] وعلى مشركي العرب في قولهم : « المَلائِكةُ بنَاتُ الله » .
والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله : { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك } .
والسَّببُ في اعتبار هذه الصفة : أنَّه لو كان له شريكٌ ، فلا يعرف كونه مستحقًّا للحمد والشُّكر .
والنوع الثالث : قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل } .
والسببُ في اعتباره : أنه لو جاز عليه وليٌّ من الذلِّ ، لم يجب شكره؛ لتجويز أن يكون غيره حمله على ذلك الإنعام .

أما إذا كان منزَّهاً عن الولد ، وعن الشَّريك ، وعن أن يكون له وليٌّ يلي أمرهُ ، كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد والشُّكر .
قوله : { مَّنَ الذل } : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها صفة ل « وليّ » ، والتقدير : وليٌّ من أهل الذلِّ ، و المراد بهم : اليهود والنصارى؛ لأنهم أذلُّ الناس .
والثاني : أنها تبعيضية .
الثالث : أنها للتعليل ، أي : من أجل الذلِّ ، وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال : « وليٌّ من الذلِّ : ناصر من الذلِّ ، ومانع له منه؛ لاعتزازه به ، أو لم يوالِ أحداً لأجل مذلَّة به؛ ليدفعها بموالاته » .
وقد تقدَّم الفرق بين الذُّلِّ والذِّلّ في أول هذه السورة [ الآية : 24 ] .
فصل في معنى قوله : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً }
معنى قوله : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } ، أي : أنَّ التمجيد يكون مقروناً بالتكبير ، والمعنى : عظِّمه عن أن يكون له شريكٌ ، أو وليٌّ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - « أحَبُّ الكلام إلى الله تعالى اربع : لا إله إلا الله ، و الله أكبر ، وسبحان الله ، والحمدُ لله لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت » .
فصل
روى أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورة بني إسرائيل ، فَرَقَّ قَلبهُ عِندَ ذِكْر الوالدين أعْطِيَ في الجنَّة قِنْطَاريْنِ مِنَ الأجْرِ ، والقِنطَارُ ألْفُ أوقيَّةٍ ، ومِائتَا أوقيَّةٍ ، كلُّ أوقيَّةٍ خيرٌ من الدُّنْيَا وما فِيهَا » .
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : قول العبد : « الله أكبرُ خيرٌ من الدنيا وما فِيهَا » وهذه الآية خاتمة التَّوراة .
وروى مطرفٌ ، عن عبد الله بْنِ كعبٍ ، قال : « افتُتِحَتِ التَّوراةُ بفَاتحةِ سُورةِ الأنعامِ ، وخُتمَتْ بِخاتمَةِ هذه السُّورةِ » .
وروى عمرُو بنُ شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه ، قال : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أفْصَحَ الغلام من بني عَبْدِ المطَّلبِ ، عَلَّمهُ : الحَمدُ للهِ الَّذي لَمْ يتَّخذْ ولداً الآية .
وقال عبدُ الحميدِ بنُ واصلٍ : سَمعْتُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : مَنْ قَرَأ : { وَقُلِ الحمد لِلَّهِ } الآية ، كَتبَ الله لهُ من الأجْرِ مِثلَ الأرْض والجِبالِ؛ لأنَّ الله تعلى يَقُولُ فيمَنْ زَعمَ أنَّ لهُ ولداً : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً } [ مريم : 90 ] .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)

قال ابن الخطيب : تقدم الكلام في الحمد ، والذي أقوله ها هنا : إن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدماً على التحميد؛ ألا ترى أنه يقال : « سبحان الله والحمد لله » .
وإذا عرف هذا ، فنقول : إنه تعالى - جلَّ جلاله - ذكر التسبيح عندما أخبر أنَّه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] وذكر التحميد عندما ذكر إنزال الكتاب عليه فقال : { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } .
ثم قال : والمشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق .
والجواب عنه مذكور في سورة الأعراف في تفسير قوله { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } [ الأعراف : 54 ] .
واعلم : أنه تعالى أثنى على نفسه بإنعامه على خلقه ، وخصَّ رسوله صلى الله عليه وسلم بالذكر؛ لأنَّ إنزال الكتاب القرآن عليه كان نعمةً عليه على الخصوصِ وعلى سائر الناسِ على العمومِ .
أما كونه نعمة عليه؛ فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علم التَّوحيد والتَّنزيه وصفات الجلال وأحوال الملائكة وأحوال الأنبياءِ وأحوالِ القضاء والقدر ، وتعلُّق أحوال العالم السفليِّ بأحوال العالم العلوي ، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا ، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب ، وذلك من أعظم النِّعم ، وأمَّا كونه نعمة علينا؛ فلأنه مشتملٌ على التكاليفِ والأحكامِ والوعد [ والوعيد ] والثوابِ والعقاب ، فكلُّ واحدٍ ينتفعُ به بمقدار طاقته وفهمه .
قوله : { وَلَمْ يَجْعَل } : في هذه الجملة أوجهٌ ، أحدها : أنها معطوفة على الصلة قبلها . والثاني : أنها اعتراضية بين الحال وهي « قَيِّما » وبين صاحبها وهو « الكتاب » . والثالث : أنها حالٌ من « الكتاب » ، ويترتب على هذه الأوجه القول في « قَيِّماً » .
قوله : { قَيِّماً } : فيه أوجه : الأول : أنه حال من « الكتاب » . والجملة من قوله « ولم يجعل » اعتراض بينهما . وقد منع الزمخشري ذلك فقال : « فإن قلت : بم انتصب » قَيِّماً « ؟ قلت : الأحسن أن ينتصب بمضمرٍ ، ولم يجعل حالاً من » الكتاب « لأن قوله » ولم يجعل « معطوف على » أنْزلَ « فهو داخلٌ في حيِّز الصلةِ ، فجاعله حالاً فاصلٌ بين الحالِ وذي الحال ببعض الصلة » ، وكذلك قال أبو البقاء . وجواب هذا ما تقدَّم من أن الجملة اعتراضٌ لا معطوفة على الصِّلة .
الثاني : أنه حالٌ من الهاءِ في « لهُ » . قال أبو البقاءِ : « والحالُ مؤكدة . وقيل : منتقلة » . قال شهاب الدين : القول بالانتقالِ لا يصحُّ .
الثالث : أنه منصوب بفعلٍ مقدرٍ ، تقديره : جعله قيِّماً . قال الزمخشري : « تقديره : ولم يجعل له عوجاً ، جعله قيِّماً ، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة » .

قال : « فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامةِ وفي أحدهما غِنًى عن الآخر؟ . قلت : فائدته التأكيد فرُبَّ مستقيم مشهودٌ له بالاستقامةِ ، ولا يخلو من أدنى عوجٍ عند السَّيرِ والتصفُّح » .
الرابع : أنه حالٌ ثانية ، والجملة المنفيَّة قبله حال أيضاً ، وتعدد الحال لذي حال واحد جائزٌ . والتقدير : أنزله غير جاعلٍ له عوجاً قيماً .
والخامس : أنه حالٌ أيضاً ، ولكنه بدلٌ من الجملة قبله لأنها حال ، وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز ، وهذا كما أبدلت الجملة من المفرد في قوله : « عَرفْتُ زيداً أبو مَنْ هو » .
والضمير في « لَهُ » فيه وجهان ، أحدهما : أنه للكتاب ، وعليه التخاريج المتقدمة . والثاني : أنه يعود على « عضبدِه » ، وليس بواضحٍ .
وقرأ العامة بتشديد الياء ، وأبانُ بن تغلب بفتحها خفيفة . وقد تقدَّم القولُ فيها .
ووقف حفص على تنوين « عِوَجاً » يبدله ألفاً ، ويسكت سكتةً لطيفة من غير قطع نفس ، إشعاراً بأنَّ « قيِّماً » ليس متصلاً ب « عوجاً » ، وإنما هو من صفة الكتاب . وغيره لم يعبَأ بهذا الوهم فلم يسكت اتِّكالاً على فهم المعنى .
قلت : قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعض مصاحف الصحابة : « ولم يَجْعلْ له عوجاً ، لكن جعله قيِّماً » . وبعض القراء يطلق فيقول : يقف على « عِوَجاً » ، ولم يقولوا : يبدل التنوين ألفاً ، فيحتمل ذلك ، وهو أقرب لغرضه فيما ذكرت .
ونقل أبو شامة عن ابن غلبون وأبي علي الأهوازيِّ ، يعني الإطلاق . ثم قال : « وفي ذلك نظرٌ - أي في إبدال التووين ألفاً - فإنه لو وقف على التنوين لكان أدلَّ على غرضه ، وهو أنه واقفٌ بنيَّة الوصل » . انتهى .
وقال الأهوازيُّ : « ليس هو وقفاً مختاراً ، لأنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، معناه : أنزل على عبده الكتاب قيِّماً ولم يجعل له عوجاً » . قال شهاب الدين : دعوى التقديم والتأخير وإن كان قال به غيره كالبغوي والواحدي وغيرهما إلاَّ أنَّها مردودةٌ لأنَّها على خلاف الأصل ، وقد تقدَّم تحقيقه .
وفعل حفصٌ في مواضع من القرآن مثل فعله هنا من سكتةٍ لطيفةٍ نافية لوهم مخلٍّ . فمنها : أنَّه كان يقف على « مَرْقدِنا » ، ويبتدئ : { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن } [ يس : 52 ] . قال : لئلاَّ يتوهَّم أنَّ « هذا » صفة ل « مَرْقدِنا » فالوقف يبين أنَّ كلام الكفار انقضى ، ثم ابتدئ بكلامِ غيرهم . قيل : هم الملائكة . وقيل : المؤمنون . وسيأتي في يس ما يقتضي أن يكون « هذا » صفة ل « مَرْقدِنا » فيفوتُ ذلك .
ومنها : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } [ القيامة : 27 ] . كان يقف على نون « مَنْ » ويبتدئ « راقٍ » قال : « لئلاَّ يتوهَّم أنها كلمة واحدة على فعَّال اسم فاعل للمبالغة من مرق يمرُق فهو مرَّاق » .

ومنها : { بَلْ رَانَ } [ المطففين : 14 ] كان يقف على لام بل ، ويبتدئ « ران » لما تقدَّم .
قال المهدويُّ : « وكان يلزمُ حفصاً مثل ذلك ، فيما شاكل هذه المواضع ، وهو لا يفعله ، فلم يكن لقراءته وجهٌ من الاحتجاج إلا اتباعُ الأثر في الرواية » . قال أبو شامة : « أولى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها : { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } [ يونس : 65 ] ، ينبغي الوقف على » قَولهُم « لئلاَّ يتوهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ » ، وكذا { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار الذين يَحْمِلُونَ العرش } [ غافر : 6 ، 7 ] ينبغي أن يعتنى بالوقف على « النَّار » لئلا تتوهَّم الصفة .
قال شهابُ الدين : وتوهُّمُ هذه الأشياء من أبعد البعيد . وقال أبو شامة أيضاً : ولو لزم الوقفُ على اللام والنون ليظهرا للزمَ ذلك في كلِّ مدغمٍ « . يعني في » بل رانَ « وفي » مَنْ راقٍ « .
فصل
المعنى : ولم يجعل له عوجاً [ قيِّماً ] ، أي مختلفاً .
قال تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
قال أهل اللغة : العوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، فالمراد منه نفيُ التَّناقضِ .
وقيل : معناه لم يجعلهُ مخلوقاً .
روي عن ابن عبَّاس أنَّه قال في قوله تعالى : { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [ الزمر : 28 ] أي غير مخلوقٍ .
وقوله : » قيماً « فيما نقل عن ابن عباسٍ أنه قال : يريد مستقيماً [ قال ابن الخطيب : ] وهذا عندي مشكلٌ؛ لأنَّه لا معنى لنفي الاعوجاج إلاَّ حصول الاستقامةِ ، فتفسير القيّم بالمستقيم يوجبُ التكرار ، بل الحق أن يقال : المرادُ من كونه قيِّماً سبباً لهداية الخلق ، وأنَّه يجري بحذوِ من يكون قيّماً للأطفال ، فالأرواح البشرية كالأطفالِ ، والقرآن كالقيِّم المشفق القيم بمصالحهم .
قوله : » ليُنْذِرَ « في هذه اللام وجهان ، أظهرهما : أنها متعلقة ب » قيِّماً « قاله الحوفيُّ . والثاني : - وهو الظاهرُ - أنَّها تتعلق ب » أنْزلَ « . وفاعل » لِيُنذِرَ « يجوز أن يكون » الكتاب « وأن يكون الله ، وأن يكون الرسول .
و » أنْذَرَ « يتعدَّى لاثنين : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] . ومفعوله الأول محذوف ، يقدره الزمخشري : » ليُنْذِرَ الذين كفروا « ، وغيره : » ليُنذِرَ العباد « ، أو » ليُنذرَكم « ، أو لينذر العالم . وتقديره أحسن لأنه مقابل لقوله » ويُبشِّر المؤمنين « ، وهم ضدُّهم .
وكما حذف المنذر وأتى بالمنذر به هنا ، حذف المنذر به وأتى بالمنذرِ في قوله { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ } [ الكهف : 4 ] فحذف الأول من الأول لدلالةِ ما في الثاني عليه ، وحذف الثاني من الثاني لدلالة ما في الأول عليه ، وهو في غاية البلاغة ، ولمَّا لم تتكرَّر البشارة ذكر مفعوليها فقال : { وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } .

قوله : { مِّن لَّدُنْهُ } قرأ أبو بكرٍ عن عاصم بسكون الدَّال مشمَّة الضمَّ وكسر النون والهاء موصلة بياء ، فيقرأ « مِنْ لَدْنهِي » والباقون يضمون الدال ، ويسكنون النون ويضمون الهاء ، وهم على قواعدهم فيها : فابن كثيرٍ يصلها بواوٍ نحو : منهُو وعنهُو ، وغيره لا يصلها بشيءٍ .
وجه أبي بكرٍ : أنَّه سكن الدال تخفيفاً كتسكين عين « عَضُد » فالنون ساكنة ، فالتقى ساكنان فكسر النون لالتقاءِ الساكنين ، وكان حقُّه أن يكسر الأول على القاعدة المعروفة إلا أنه يلزم منه العودُ إلى ما فرَّ منه ، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قوله تعالى : { وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ } [ النور : 52 ] في سورة النور ، لمَّا كسر النون إتباعاً على قاعدته ووصلها بياء . وأشم الدال إشارة إلى أصلها في الحركة .
والإشمامُ هنا عبارة عن ضمِّ الشفتين من غير نطقٍ ، ولهذا يختصُّ به البصير دون الأعمى ، هكذا قرَّرهُ القراء وفيه نظر؛ لأنَّ الإشمام المشار إليه إنما يتحقق عند الوقف على آخر الكلمة فلا يليق إلاَّ بأن يكون إشارة إلى حركة الحرفِ الآخر المرفوع إذا وقف عليه نحو : « جاء الرجل » ، وهكذا قدَّره النحويون . وأمَّا كونه يؤتى به في وسط الكلمة فلا يتصوَّر إلا أن يقفالمتكلم على ذلك الساكن ثم ينطق ب « ياء » الكلمة . وإذا جرَّبت نطقك في هذا الحرف الكريم وجدت الأمر كذلك ، لا ينطقُ به بالدال الساكنة مشيراً إلى ضمها إلا حتى يقف عليها ، ثم يأتي ب « ياء » في الكلمة .
فإن قلت : إنَّما آتي بالإشارة إلى الضمة بعد فراغي من الكلمةِ بأسرها . قيل لك : فاتت الدلالة على تعيين ذلك الحرف المشار إلى حركته .
فالجواب عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته وهو الدال . وقد تقدَّم في « يوسف » أن الإشمام في { لاَ تَأْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] إذا فسَّرناه بالإشارة إلى الضمة : منهم من يفعله قبل كمال الإدغام ، ومنهم من يفعله بعده ، وهذا نظيره . وتقدَّم أنَّ الإشمام يقع بإزاءِ معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقها .
و « مِنْ لدُنه » متعلق ب « ليُنْذِرَ » . ويجوز تعلقه بمحذوفٍ نعتاً ل « بَأساً » ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « شديداً » .
والبأس مأخوذ من قوله : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] و { مِّن لَّدُنْهُ } أي : صادراً من عنده .
فصل
قال الزجاج : وفي « لدُن » لغات يقال : لَدُ ، ولدُنْ ، ولَدَى بمعنى واحدٍ ، وهي لا تتمكن ممكن « عند » ؛ لأنَّك تقول هذا القول الصَّواب عندي ، ولا يقال : صوابٌ لدني ، ويقال : عندي مالٌ عظيمٌ ، [ والمال ] غائب عنك ، ولدني لما يليك لا غير .

وقرئ « ويُبشِّرُ » بالرفع على الاستئناف . والمراد بالأجر الحسن الجنة .
قوله : { مَّاكِثِينَ } : حالٌ : إمَّا من الضمير المجرور في « لهُم » ، أو المرفوع المستتر فيه ، أو من « أجراً » لتخصصه بالصفة ، غلاَّ أنَّ هذا لا يجيءُ إلاَّ على رأيِ الكوفيين . فإنهم لا يشترطون بروزَ الضمير في الصفة الجارية على غير من هي له إذا أمن اللَّبسُ ، ولو كان حالاً منه عند البصريِّين لقال : ماكثين هم فيه . ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون صفة ثانية ل « أجْراً » . قال أبو البقاء : وقيل : هو صفة ل « أجْراً » ، والعائد الهاء في « فيه » . ولم يتعرَّض لبروزِ الضمير ولا لعدمه بالنسبة إلى المذهبين .
و « أبداً » منصوبٌ على الظرف ب « مَاكثِينَ » .
فصل
اعلم أنَّ المقصود من إرسالِ الرسل إنذارُ المذنبين وبشارة المطيعين ، ولمَّا كان دفع الضرِّ أهمَّ عند ذوي العقول من إيصال النَّفع ، لا جرم قدَّم الإنذار في اللفظ .
قال الزمخشريُّ : قرئ « ويُبشِّرُ » بالتخفيف والتَّثقيل و { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } بمعنى خالدين .
فصل
قال القاضي : دلت الآية على صحَّة قوله في مسائل :
أحدها : أنَّ القرىن مخلوقٌ وبيانه من وجوه :
الأول : أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزولِ ، وذلك من صفاتِ المحدثات ، فإنَّ القديم لا يجوز عليه التغييرُ .
والثاني : أنَّه وصفه بكونه كتاباً ، و الكتب هو الجمع ، وسمِّي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروفِ والكلماتِ ، وما صحَّ فيه [ من ] التركيب والتأليف فهو محدثٌ .
الثالث : أنَّه تعالى أثبت الحمد لنفسه ، على إنزالِ الكتاب ، والحمد إنَّما يستحقُّ على النعمةِ ، والنعمةُ محدثة [ مخلوقة ] .
الرابع : أنَّه وصفهُ بأنه غير معوجٍّ وبأنَّه مستقيمٌ ، والقديم لا يمكن وصفه بذلك ، فثبت أنَّه محدثٌ مخلوقٌ .
وثانيها : خلق الأعمال؛ فإنَّ هذه الآية تدلُّ على قولنا في هذه المسألة من وجوهٍ :
الأول : نفس الأمر بالحمد؛ لأنَّه لو لم يكن للعبد فعلٌ لم ينتفع بالكتاب ، إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر أن يفعل ما دلَّ الكتاب على أنه يجب فعله ، ويترك ما دلَّ الكتاب على أنه يجب تركهُ ، وهذا إنَّما كان يعقل لو كان مستقلاً بنفسه .
أمَّا إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثرٌ في اعوجاج فعله ، ولم يكن لكون الكتاب « قيِّماً » أمرٌ في استقامةِ فعله كان العبدُ قادراً على الفعل مختاراً فيه .
والثاني : أنَّه تعالى لو أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض ، وأنزل الباقي ليؤمن البعضُ الآخر ، فمن أين أن ذلك الكتاب قيمٌ لا عوج فيه؟ لأنه لو كان فيه عوجٌ لما زاد على ذلك .
والثالث : قوله : « لِيُنذِرَ » وفيه دلالة على أنَّه تعالى أراد منه صلى الله عليه وسلم إنذارَ الكلِّ وتبشير الكلِّ ، وبتقدير أن يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذارِ والتبشير فائدة؛ لأنَّه تعالى إذا خلق الإيمان حصل شاء العبدُ أو لم يشأ ، وإذا خلق الكفر [ حصل ] شاء العبد أو لم يشأ ، فيصيرُ الإنذار والتبشيرُ على الكفر والإيمان جارياً مجرى الإنذارِ والتبشير على كونه طويلاً وقصيراً وأبيض وأسود ممَّا لا قدرة للعبد عليه .

الرابع : وصفه المفسرون بأنَّ المؤمنين يعملون الصالحاتِ فإن كان خلقاً لله تعالى ، فلا علم لهم به ألبتة .
الخامس : إيجابه لهم الأجر الحسن على ما علموا؛ فإن الله تعالى قادرٌ بخلق ذلك فيهم ، فلا إيجاب ولا استحقاق .
المسألة الثالثة : دلَّت الآية على أنَّه تعالى يفعل أفعاله لأغراض صحيحةٍ ، وذلك يبطل قول من يقول : إنَّ فعلهُ غيرُ مُعلَّلٍ بالغرضِ .
فصل
واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة .

وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)

اعلم أنَّ قوله : { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } معطوف على قوله : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } [ الكهف : 2 ] ، والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه ، فالأول عام في حقِّ كلِّ من استحقَّ العذاب ، والثاني خاصٌّ بمن قال : إنَّ الله اتَّخذ ولداً ، والقرآن جارٍ بأنه إذا ذكر الله قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها؛ تنبيهاً على كون ذلك البعض المعطوف أعظم جزئيات ذلك الكلي [ أيضاً ] ، كقوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] فكذا ها هنا يدل على أن أعظم أنواعِ الكفر والمعصيةِ إثباتُ الولد لله تعالى .
فصل
واعلم أنَّ المثبتين لله تعالى الولد ثلاث طوائف :
الأولى : كفار العرب الذين قالوا : الملائكة بناتُ الله .
الثانية : النصارى قالوا : المسيحُ ابن الله .
الثالثة : اليهود ، [ حيث ] قالوا : العزير ابنُ الله .
واعلم أنَّ إثبات الولد لله كفرٌ عظيمٌ ، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام في قوله : { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 100 ] وسيأتي تمامه - إن شاء الله تعالى - في سورة مريم؛ لأنَّه تعالى أنكر على القائلين بإثبات الولد من وجهين :
الأول : قوله : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ } .
فإن قيل : اتخاذ الله تعالى الولد محالٌ في نفسه ، فكيف قيل : { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } [ الزخرف : 20 ] ؟ .
فالجوابُ أنَّ انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه؛ وقد يكون لأنَّه في نفسه محالٌ ، لا يمكن تعلق العلم به ، ونظيره قوله : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [ المؤمنون : 117 ] .
فصل
تمسَّك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : دلَّت هذه الآية على أن القول في الدِّين بغير علمٍ باطل ، والقول بالقياس الظنيِّ قول في الدِّين بغير علم ، فيكون باطلاً .
وجوابه تقدم عند قوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] .
وقوله : { وَلاَ لآبَائِهِمْ } أي أحداً من أسلافهم ، وهذه مبالغة في كون تلك المقالة فاسدة باطلاة جدًّا .
قوله : { مَّا لَهُمْ بِهِ } : أي : بالولد ، أو باتخاذه ، أو بالقول المدلول عليه ب « اتَّخَذَ » وب « قَالُوا » ، وبالله .
وهذه الجملة المنفية فيها ثلاثة أوجه :
أظهرها : أناه مستأنفة ، سيقت للإخبار بذلك .
والثاني : أنها صفة للولد ، قاله المهدويُّ ، وردَّه ابن عطية : بأنه لا يصفه بذلك إلاَّ القائلون ، وهم لم يقصدوا وصفه بذلك .
الثالث : أنها حالٌ من فاعل « قالوا » ، أي : قالوه جاهلين .
و « مِنْ عِلم » يجوز أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مبتدأ ، والجارُّ هو الرافع لاعتماده أو الخبر ، و « مِنْ » مزيدة على كلا القولين .
قوله : « كَبُرتْ كلمة » في فاعل « كَبُرتْ » وجهان :
أحدهما : أنه مضمرٌ عائد على مقالتهم المفهومة من قوله : { قَالُواْ اتخذ الله } أي : كبر مقالهم ، و « كلمة » نصب على التمييز ، ومعنى الكلام على التعجُّب ، أي : ما أكبرها كلمة ، و « تَخرُج » الجملة صفة ل « كَلمةٌ » ويؤذنُ باستعظامها لأنَّ بعض ما يهجس في الخاطر لا يجسر الإنسان على إظهاره باللفظ .

والثاني : أن الفاعل مضمر مفسر بالنكرة بعده المنصوبة على التمييز ، ومعناها الذمُّ؛ ك « بِئْسَ رجلاً » فعلى هذا : المخصوصُ بالذمِّ محذوف ، تقديره : كبرت هي الكلمة كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاءُ .
وقرأ العامة « كلمة » بالنصب ، وفيها وجهان :
النصبُ على التمييز تقديره كبرت الكلمة .
قال الواحديُّ : ومعنى التمييز : أنَّك إذا قلت : كبرت المقالة أو الكلمة ، جاز أن يتوهم أنَّها كبرت كذباً ، أو جهلاً ، أو افتراء ، فلما قلت : « كَلِمَة » فقد ميَّزتها من محتملاتها ، فانتصبت على التَّمييز ، والتقدير : كبرت الكلمة كلمة ، فحصل فيه الإضمار .
وأمَّا من رفع « كلمةٌ » فلا يضمر شيئاً .
قال النحويُّون : النصب أقوى وأبلغ .
وقد تقدَّم تحقيقه في الوجهين السابقين .
والثاني : النصب على الحال ، وليس بظاهر وقيل : نصباً على حذف حرف الجرّ ، والتقدير : « مِنْ كَلمَةٍ » فحذف « مِنْ » فانتصب .
قوله : « تَخرجُ » في الجملة وجهان :
أحدهما : هي صفة لكلمة .
والثاني : أنها صفة للمخصوص بالذَّم المقدر ، تقديره : كبرت كلمةٌ خارجةٌ كلمةً .
وقرأ الحسن ، وابن محيصنٍ ، وابن يعمر ، وابن كثير - في رواية القوَّاس عنه - « كَلمَةٌ » بالرفع على الفاعلية ، و « تَخْرجُ » صفة لها أيضاً ، وقرئ « كَبْرَتْ » بسكون الباء ، وهي لغة تميم .
قوله : « كَذِباً » فيه وجهان :
أحدهما : هو مفعولٌ به؛ لأنه يتضمَّن معنى جملة .
والثاني : هو نعت مصدر محذوف ، أي : قولاً كذباً .
فصل في المراد من الكلمة
المراد من هذه الكلمة هو قولهم : { اتخذ الله وَلَداً } فصارت مضمرة في « كَبُرتْ » ، وسمِّيت : « كلمة » كما يسمُّون القصيدة كلمة .
وقوله : { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي : هذا الذي يقولونه ، لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتَّة؛ لكنه في غاية الفساد والبطلان ، فكأنَّه يجري على لسانهم على سبيل التقليلد { إِن يَقُولُونَ } ، أي : ما يقولون إلاَّ كذباً .
واختلف النَّاس في حقيقة الكذب ، فقيل : هو الخبر الذي لا يطابقُ المخبر عنه .
وقيل : قال بعضهم : يشترط علم قائله بأنَّه غير مطابقٍ .
قال ابن الخطيب : وهذا القيد عندنا باطلٌ؛ لأنَّه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذباً مع أن الكثير منهم يقول ذلك ، ولا يعلم كونه كذباً باطلاً ، فعلمنا أن كلَّ خبر لا يطابقُ المخبر عنه ، فهو كذبٌ ، سواءٌ علم القائل بكونه كذباً ، أو لم يعلم .
ويمكن أن يجاب بأنَّ الله تعالى ، إنما وصف علماءهم المحرِّفين للكلم عن مواضعه ، ودخل المقلِّدون على سبيل التَّبع عليه .
فصل في الرد على النّظام
احتجَّ النظَّام على أنَّ الكلام جسمٌ بهذه الآية ، قال : لأنَّه تعالى وصف الكلمة بأنَّها تخرجُ من أفواههم ، والخروجُ عبارة عن الحركةِ ، والحركةُ لا تصحُّ إلاَّ على الأجسام ، وأجيب : بأنَّ الحروف والأصوات إنَّما تحدث بسبب خروجِ النفس من الحلق ، فلما كان خروج النَّفسِ سبباً لحدوثِ الكلمةِ ، أطلق لفظ الخروج على الكلمة .

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)

والمقصود منه أنَّه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يعظم حزنك وأسفك؛ بسبب كفرهم ، فإنَّا بعثناك منذراً ومبشّراً ، فأما تحصيلُ الإيمان في قلوبهم ، فلا قدرة لك عليه ، والغرض منه تسلية الرَّسُول صلى الله عليه وسلم .
ومعنى : « بَاخعٌ نَفْسكَ » أي : قاتلٌ نفسك .
قال الليثُ : بخع الرَّجلُ نفيه إذا قتلها غيظاً من شدَّة وجده ، والفاء في قوله : ( فَلعلَّكَ ) قيل : جواب الشرط ، وهو قوله : { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } قدم عليه ، ومعناه التأخير .
وقال الجمهور : جواب الشرط محذوف لدلالة قوله : « فَلعلَّكَ » .
و « لَعلَّكَ » قيل : للإشفاق على بابها . وقيل : للاستفهام ، وهو رأيُ الكوفيِّين . وقيل : للنَّهي ، أي : لا تَبْخَعْ .
والبَخْعُ : الإهلاك ، يقال : بَخَع الرجل نفسه يَبخَعُهَا بَخْعاً وبُخُوعاً ، أهلكها وجداً . قال ذو الرمة : [ الطويل ]
3483- ألا أيُّهذا البَاخِعُ الوجْدُ نفسهُ ... لِشيءٍ نَحَتْهُ عَن يَديْهِ المَقادِرُ
يريد : نحَّته بالتشديد ، فخفف ، قال الأصمعي : كان ينشده : « الوَجْدَ » بالنصب على المفعول له ، وأبو عبيدة رواه بالرَّفع على الفاعلية ب « البَاخِع » .
وقيل : البَخْعُ : أن تضعفَ الأرض بالزِّراعةِ ، قاله الكسائي ، وقيل : هو جهدُ الأرض وعلى هذا معنى « بَاخعٌ نَفْسكَ » أي ناهكها وجاهدها؛ حتَّى تهلكها ، وقيل : هو جهد الأرض في حديث عائشة - رضي اله عنها - عن عمر : « بَخَعَ الأرض » تعني جهدها؛ حتَّى أخذ ما فيها من أموالِ ملوكها ، وهذا استعارة ، ولم يفسِّره الزمخشري هنا بغير القتل والإهلاك ، وقال في سورة الشعراء : « البَخْع » : أن يبلغَ بالذَّبْح البِخَاع بالباء وهو عرقٌ مستبطن الفقار ، وذلك أقصى حدِّ الذابح . قال شهاب الدين : وسمعت شيخنا علاء الدين القونيَّ يقول : « تَتبَّعتُ كُتبَ الطبِّ والتشريح ، فلم أجد لهذا اصلاً » .
فصل
يحتمل أنه لما ذكروه ، سمَّوه باسم آخر؛ لكونه أشهر فميا بينهم .
وقال الرَّاغب : « البَخْعُ : قتلُ النفس غمًّا » ثم قال : « وبَخعَ فلانٌ بالطاعة ، وبما عليه من الحق : إذا أقرَّ به ، وأذعن مع كراهةٍ شديدةٍ ، تجري مجرى بخعِ نفسه في شدَّته » .
قوله : « عَلى آثَارِهمْ » متعلقٌ ب « بَاخِعٌ » أي : من بعد هلاكهم .
يقال : مات فلانٌ على أثر فلانٍ ، أي بعده ، وأصل هذا أنَّ الإنسان ، إذا مات ، بقيت علاماتهُ ، وآثارهُ بعد موته مدَّة ، ثمَّ إنَّها تنمحي وتبطل بالكليَّة ، فإذا كان موته قريباً من [ موت ] الأول ، كان موته حاصلاً حال بقاءِ آثار الأول ، فصحَّ أن يقال : مات فلانٌ على أثرِ فلانٍ .
قوله : { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث } يعني القرآن .
قال القاضي : وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديثٌ ، وذلك يدلُّ على فساد قول من يقول : إنه قديمٌ .

وأجيب بأنه محمول على الألفاظ ، وهي حادثة .
قوله : { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } : قرأ العامة بكسر « إنْ » على أنها شرطية ، والجواب محذوفٌ عند الجمهور؛ لدلالة قوله : « فَلعلَّكَ » ، وعند غيرهم هو جوابٌ متقدِّم ، وقرئ : « أنْ لَمْ » بالفتح؛ على حذف الجارِّ ، أي : لأنْ لم يؤمنوا .
وقُرئ « بَاخِعُ نَفْسِكَ » بالإضافة ، والأصل النصبُ ، وقال الزمخشري « وقرئ طبَاخعُ نَفْسكَ » على الأصل ، وعلى الإضافة . أي : قاتلها ومهلكها ، وهو للاستقبال فيمن قرأ « إنْ لمْ يُؤمِنُوا » ، وللمضيِّ فيمن قرأ « إنْ لم تُؤمنوا » بمعنى : لأن لم تُؤمِنُوا « يعني أنَّ باخعاً للاستقبال في قراءة كسر » إنْ « فإنها شرطية ، وللمضيِّ في قراءةِ فتحها ، وذلك لا يأتي إلا في قراءة الإضافة؛ إذ لا يتصوَّر المضيُّ مع النصب عند البصريين ، وعلى هذا يلزم ألاَّ يقرأ بالفتح ، إلا من قرأ بإضافة » بَاخِع « ، ويحتاج في ذلك إلى نقل وتوقيف .
قوله : » أسفاً « يجوز أن يكون مفعولاً من أجله ، والعامل فيه » بَاخعٌ « وأن يكون مصدراً في موضع الحال من الضمير في » بَاخعٌ « .
والأسف : الحزن ، وقيل : الغضب ، وقد تقدَّم في الأعراف عند قوله : { غَضْبَانَ أَسِفاً } [ الأعراف : 150 ] وفي يوسف عند قوله : { ياأسفى عَلَى يُوسُفَ وابيضت } [ يوسف : 84 ] .

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)

قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا } الآية .
قال القاضي : وجه النَّظم كأنه يقول : يا محمد ، إنِّي خلقتُ الأرض ، وزينتها ، وأخرجتُ منها أنواع المنافع والمصالح ، وأيضاً ، فالمقصود من خلقها بما فيها من المصالح ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ، ثم إنَّهم يكفرون ويتمرَّدون ، ومع ذلك ، فلا أقطع عنهم موادَّ هذه النِّعم ، فأنت أيضاً يا محمد لا يهمُّك الحزن؛ بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدِّين .
قوله : { زِينَةً } : يجوز أن ينتصب على المفعول له ، وأن ينتصب على الحال ، إن جعلت « جَعلْنَا » بمعنى « خَلقْنَا » ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً ، إن ك انت « جَعَلَ » تصييرية ، و « لها » متعلق ب « زَينةً » على العلَّة ، ويجوز أن تكون اللام زائدة في المفعول ، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ صفة ل « زينةً » .
وقوله : « لنَبْلُوهُمْ » متعلق ب « جَعلْنَا » بمعنييه .
قوله : « أيُّهمْ أحْسنُ » يجوز في « أيُّهُمْ » وجهان :
أحدهما : أن تكون استفهامية مرفوعة بالابتداء ، و « أحسنُ » خبرها ، والجملة في محلِّ نصب متعلقة ب « نَبْلُوهُمْ » لأنه سببُ العلم ، والسؤال ، والنظر .
والثاني : أنَّها موصولة بمعنى الذي و « أحْسَنُ » خبر مبتدأ مضمرٍ ، والجملة صلة ل « أيُّهمْ » ويكون هذا الموصول في محلِّ نصبٍ بدلاً من مفعول « لنَبْلُوهُمْ » تقديره لِنَبلُو الذي هو أحسنُ؛ وحينئذٍ تحتمل الضمة في « ايُّهم » أن تكون للبناء ، كهي في قوله تعالى : { لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ } [ مريم : 69 ] على أحد الأقوالِ ، وفي قوله : [ المتقارب ]
3484- إذَا مَا أتَيْتَ بَنِي مالكٍ ... فَسلِّمْ عَلى أيُّهُم أفْضَلُ
وشرط البناء موجودٌ ، وهو الإضافة لفظاً ، وحذف صدر الصلة ، وهذا مذهب سيبويه ، وأن تكون للإعراب؛ لأنَّ البناء جائزٌ لا واجبٌ ، ومن الإعراب ما قُرِئ به شاذًّا { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن } [ مريم : 69 ] وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في مريم .
والضمير في « لِنبلوهُمْ » و « أيُّهم » عائد على ما يفهم من السِّياق ، وهم سكان الأرض . وقيل : يعود على ما على الأرض ، إذا أريد بها العقلاء ، وفي التفسير : المراد بذلك الرُّعاة . وقيل : العلماء والصلحاء والخلفاء .
فصل في المقصود بالزينة
اختلفوا في تفسير هذه الزينة ، فقيل : النَّبات ، والشجر ، والأنهار .
كما قال تعالى : { حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت } [ يونس : 24 ] وضمَّ بعضهم إليه الذَّهب ، والفضَّة ، والمعادن ، وضمَّ بعضهم إلى ذلك جميع الحيوان ، فإن قيل : أي زينة في الحيَّات والعقارب [ والشياطين ] .
فالجواب : فيها زينةٌ؛ بمعنى أنَّها تدلُّ على وحدانيَّة الله تعالى .
وقال مجاهد : أراد الرجال خاصَّة هم زينة الأرض .
وقيل : أراد به العلماء والصلحاء .

وقيل : أراد به الناس .
وبالجملة ، فليس في الأرض إلاَّ المواليد الثلاثة ، وهي المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وأشرف أنواع الحيوان الإنسان .
قال القاضي : الأولى ألاَّ يدخل المكلَّف في هذه الزِّينة؛ لأنَّ الله تعالى قال : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم } فمن يبلوهم يجب ألاَّ يدخل في ذلك .
وأجيب بأن قوله : { زِينَةً لَّهَا } أي للأرض ، ولا يمتنع أن يكون ما تحسن به الأرض زينة لها ، كما جعل الله السَّماء مزينة بالكواكب .
وقوله : { لِنَبْلُوَهُمْ } لنختبرهم { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } ، أي : أصلح عملاً .
وقيل : أيُّهم أترك للدُّنيا .
فصل
ذهب هشام بن الحكم إلى أنَّه تعالى لا يعلم الحوادث إلاَّ عند دخولها في الوجود ، فعلى هذا : الابتلاءُ والامتحانُ على الله جائز؛ واحتجَّ بأنه تعالى لو كان عالماً بالجزئيَّات قبل وقوعها ، لكان كلُّ ماعلم وقوعه واجب الوقوعِ ، وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوعِ ، وإلاَّ لزم انقلابُ علمه جهلاً ، وذلك محالٌ ، والمفضي إلى المحال محالٌ ، ولو كان ذلك واجباً ، فالذي علم وقوعه يجبُ كونه فاعلاً له ، ولا قدرة له على التَّرك ، والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع ، ولا قدرة له على الفعل ، وعلى هذا يلزم ألاَّ يكون الله قادراً على شيءٍ أصلاًن بل يكون موجباً بالذَّات .
وأيضاً ، فيلزم ألا يكون للعبد قدرة على الفعل ، ولا على التركِ؛ لأنَّ ماعلم الله وقوعه ، امتنع من العبد تركه ، وما علم عدمه ، امتنع منه فعله ، فالقول بكونه تعالى عالماً بالأشياء قبل وقوعها ، يقدح في الربوبيَّة ، وفي العبوديَّة ، وذلك باطلٌ؛ فثبت أنَّه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها ، أي عند ذلك ، وعلى هذا التقدير ، فالابتلاءُ والامتحانُ والختبار غي رجائز عليه ، وعند هذا قال : يجرى قوله : { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } على ظاهره .
وأمَّا جمهور علماء الإسلام ، فقد استبعدوا هذا القول ، وقالوا : إنه تعالى من الأزل إلى الأبدِ عالمٌ بجميع الجزئيَّات ، والابتلاءُ والامتحان عليه محال ، وأينما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة ، لو صدرت عن غيره ، لكانت على سبيل الابتلاءِ والامتحانِ .
فصل في تعليل أفعال الله تعالى
قالت المعتزلةُ : دلَّت هذه الآية ظاهراً على أنَّ أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض وقال أهل السنة : هذا محالٌ؛ لأنَّ التعليل بالغرض إنَّما يصحُّ في حقِّ من لا يصحُّ منه تحصيل ذلك الغرض ، إلاَّ بتلك الواسطة ، وهذا يقتضي العجز ، وهو على الله تعالى محالٌ .
قوله : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } .
والمعنى أنَّه تعالى إنما زيَّن الأرض؛ لأجل الامتحان والابتلاء ، لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعِّماً بها لا زاهداً فيها أي : لجاعلون ما عليها من هذه الزِّينة { صَعِيداً جُرُزاً } .
ونظيره : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] .
وقوله : { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً } [ طه : 106 ، 107 ] .
وقوله : { وَإِذَا الأرض مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ }

[ الانشقاق : 3 ، 4 ] .
والمعنى أنَّه لا بدَّ من المجازاةِ بعد إفناء ما على الأرض ، وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض ، إلا أنَّ سائر الآيات دلَّت أيضاً على أنَّ الأرض لا تبقى ، وهو قوله : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } [ إبراهيم : 48 ] .
قوله : { صَعِيدًا } : مفعول ثانٍ؛ لأنَّ الجعل هنا تصيير ليس إلاَّ ، والصعيد : التراب .
وقال أبو عبيدة : الصعيد المستوي من الأرض .
وقال الزجاج : هو الطَّريق الذي لا طين له ، أو لا نبات فيهز وقد تقدَّم في آية التيمم . والجُرزُ : الذي لا نيات به ، يقال : سَنةٌ جُرُز ، وسنُونَ أجرازٌ : لا مطر فيها ، وأرضٌ جُرزٌ ، وأرضُونَ أجْرازٌ : لا نبات فيها قال الفراء : جَرزَتِ الأرض؛ فهي مجروزة إذا ذهب نباتها بقحطٍ أو جرازٍ يقال جرزها الجراد والشياة والإبل إذا أكل ما عليها وامرأة مجروز : إذا كانت أكولة . قال الشاعر : [ الرجز ]
3485- إنَّ العَجُوزَ خَبَّةً جَرُوزا ... تَأكلُ كُلَّ لَيْلةٍ قَفِيزا
وسيف جراز ، إذا كان مستأصلاً .

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)

قوله : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } الآية .
معناها : أظننت ، يا محمد ، أنَّ أصحاب الكهف والرَّقيم كانوا من آياتنا عجباً .
وقيل : معناه أنَّهم ليسوا بأعجب من آياتنا؛ فإنَّ ما خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجبُ منهم ، فكيف يستبعدُ من قدرته ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنةٍ وأكثر؟ هذا وجه النظم .
وقد تقدَّم سببُ نزولِ قصَّة أصحاب الكهف عند قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } [ الإسراء : 85 ] .
والكهف هو الغار في الجبل وقيل : مطلق الغار ، وقيل : هو ما اتسع ف يالجبل ، فإن لم يتَّسِعْ ، فهو غارٌ ، والجمع « كُهُوف » في الكثرة ، و « أكْهُفٌ » في القِلَّةِ .
والرَّقيم : قيل : بمعنى مرقوم .
وعلى هذا قال أهل المعاني : الرَّقيمُ الكتاب .
ومنه قوله : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } [ المطففين : 9 ] أي : مكتوب .
قال الفراء : الرقيم لوحٌ كان فيه أسماؤهم وصفاتهم ، وسمِّي رقيماً؛ لأنَّ أسماءهم كانت مرقومة فيه .
قال سعيد بن جبيرٍ ، ومجاهدٌ : كان لوحاً من حجارةٍ ، وقيل : من رصاصٍ ، كتبنا فيه أسماءهم وصفاتهم ، وشدَّ ذلك اللَّوح على باب الكهف ، وهو أظهر الأقوال .
وقيل : بمعنى راقم ، وقيل : هو اسم الكلب الذي لأصحاب الكهفِ ، وأنشدوا لأمية بن أبي الصَّلت : [ الطّويل ]
3486- وليْسَ بِهَا إلاَّ الرَّقيمُ مُجاوِراً ... وصِيدَهُمُ ، والقَوْمُ بالكهْفِ هُمَّدُ
وروى عكرمة عن ابن عبَّاس أنَّه قال : كلُّ القرآن معلومٌ إلا أربعة : غسلين ، وحناناً ، والأوَّاه ، والرَّقيم .
وروى عكرمة عن ابن عبَّاس أنه سئل عن الرَّقيم فقال : زعم كعبٌ أنَّها القرية التي خرجوا منها ، وهو قول السديِّ .
وحكي عن ابن عباس : أنَّه اسمٌ للوادي الذي فيه أصحاب الكهف ، وعلى هذا هو من رقمة الوادي ، وهو جانبه .
وقيل : اسم للجبلِ الذي فيه الكهف .
قوله : { أَمْ حَسِبْتَ } : « أم » هذه منقطعة ، فتقدَّر ب « بل » التي للانتقال ، لا للإبطال ، وبهمزة الاستفهام عند جمهور النحاة ، و « بل » وحدها أو بالهمزة وحدها عند غيرهم ، وتقدَّم تحقيق القولِ فيها .
و « أنَّ » وما في حيِّزها سادَّةٌ مسدَّ المفعولين ، أو أحدهما ، على الخلافِ المشهور .
قوله : « عَجَباً » يجوز أن تكون خبراً ، و « مِنْ آيَاتِنَا » حالٌ منه ، وأن يكون خبراً ثانياً ، و « مِنْ آيَاتِنَا » خبراً أوَّل ، وأن يكون « عجباً » حالاً من الضمير المستتر في « من آيَاتِنَا » لوقوعه خبراً ، ووحَّد ، وإن كان صفة في المعنى لجماعة؛ لأن أصله المصدر قال ابن الخطيب : عجباً ، و « العجب » ها هنا مصدر ، سمِّي المفعول به ، والتقدير : « كانوا معجوباً منهم » فسمُّوا بالمصدر . وقالوا : « عَجَباً » في الأصل صفة لمحذوفٍ ، تقديره : آية عجباً ، وقيل : على حذف مضافٍ ، أي : آية ذات عجبٍ .

قوله : { إِذْ أَوَى } : يجوز أن ينتصب ب « عَجَباً » وأن ينتصب ب « اذْكُرْ » ؛ لأنه لا يجوز أن يكون « إذْ » ههنا متعلقاً بما قبله على تقدير « أمْ حَسِبْتَ » ؛ لأنَّه كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم مدة طويلة ، فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف ، بل يتعلق بمحذوفٍ .
والتقدير : اذكر إذ أوى الفتيةُ إلى الكهف ، والمعنى صاروا إليه ، وجعلوهُ مأواهم ، فقالوا : { رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي من خزائن رحمتك .
قوله : « وهَيِّئ » : العامة على همزة بعد الياء المشددة ، وأبو جعفر وشيبة والزهريُّ بياءين : الثانية خفيفة ، وكأنَّه أبدل الهمزة ياء ، وإن كان سكونها عارضاً ، ورُوِيَ عن عاصم « وهيِّ » بياءٍ مشددة فقط ، فيحتمل أن يكون حذف الهمزة من أول وهلةٍ تخفيفاً ، وأن يكون أبدلها؛ كما فعل أبو جعفرٍ ، ثم أجرى الياء مجرى حرفِ العلَّة الأصليِّ ، فحذفه ، وإن كان الكثير خلافه ، ومنه :
3487- جَرِيءٍ مَتَى يُظلمْ يُعَاقِبْ بظُلمهِ سَرِيعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلمِ يَظلِمِ
معنى « هيِّئ لنا » أصلخ من قولك « هيَّأت الأمرَ ، فتهيَّأ » .
وقرأ أبو رجاء « رُشداً » ها هنا بضم الراء وسكون الشين ، وتقدم تحقيق ذلك في الأعراف ، وقراءة العامة هنا أليق؛ لتوافق الفواصل .
والتقدير : هيِّئ لنا أمراً ذا رشدٍ؛ حتَّى نكون بسببه راشدين مهتدين .
وقيل : اجعل أمرنا رشداً كلَّهُ؛ كقولك : رَأيتُ منه رشداً .
قوله : { فَضَرَبْنَا } : مفعوله محذوف ، أي : ضربنا الحجاب المانع ، و « عَلَى آذانِهم » استعارة للزوم النوم؛ كقول الأسود : [ الكامل ]
3488- ضَربتْ عَليْكَ العَنْكبُوتَ بِنَسْجِهَا ... وقضَى عَليْكَ بشهِ الكِتابُ المُنزَلُ
ونصَّ على الآذان؛ لأنَّ بالضَّرب عليها خصوصاً يحصل النُّومُ . وأمال « آذانهم » .
قوله : { فِي الكهف } وهو ظرف المكان ، ومعنى الكلام : إنَّما هم في الكهف ، واسمه خيرم ، واسم الجبل الذي هو فيه [ مخلوس ] .
وقوله : « سِنينَ » ظرف « زمان » ل « ضَربْنَا » و « عَدداً » يجوز فيه أن يكون مصدراً ، وأن يكون « فعلاً » بمعنى مفعول ، أي من باب تسمية المفعول باسم المصدر ، كالقبض والنَّقض .
فعلى الأول : يجوز نصبه من وجهين :
احدهما : النعت ل « سنين » على حذف مضافٍ ، اي : ذوات عدد ، أو على المبالغة على سبيل التأكيد والنصب بفعلٍ مقدرٍ ، أي : تعدُّ عدداً .
وعلى الثاني : نعتٌ ليس إلا ، أي : معدودة .
فصل
[ اذكر العدد هنا على سبيل التأكيد ] قال الزجاج : ذكر العدد ها هنا يفيد كثرة السِّنين ، وكذلك كل شيءٍ ممَّا يعدُّ إذا ذكر فيه العددُ ، ووصف به ، اريد كثرته؛ لأنَّه إذا قلَّ ، فهم مقداره بدون التعديد ، أمَّا إذا ذكر فيه العددُ ، ووصف به ، أريد كثرته؛ لأنَّه إذا قلَّ ، فهم مقداره بدون التعديد ، أمَّا إذا كثر فهناك يحتاج إلى التعديد ، فإذا قلت : أقمتُ أيَّاماً عدداً ، أردتَّ به الكثرة .

قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ } .
اللام لامُ الغرض؛ فيدل على أن أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض ، وقد تقدم الكلام فيه ، ونظير هذه الآية في القرآن كثير ، منها ما سبق في هذه السورة ، وفي سورة البقرة : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ } [ البقرة : 143 ] وفي آل عمران : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ } [ آل عمران : 142 ] وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ } [ محمد : 31 ] .
فصل
وقال بعض العلماء : « لِنعلمَ » أي : علم المشاهدة .
وقوله : { لِنَعْلَمَ } : متعلق بالبعث ، والعامة على نون العظمة؛ جرياً على ما تقدم وقرأ الزهريُّ « ليَعْلم » بياء الغيبة ، والفاعل الله تعالى ، وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة ، ويجوز أن يكون الفاعل « أيُّ الحِزبينِ » إذا جعلناها موصولة ، كما سيأتي .
وقرئ « ليُعلمَ » مبنيًّا للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ، قال الزمخشريُّ : « مضمون الجملة ، كما أنه مفعول العلم » . وردَّه أبو حيان بأنه ليس مذهب البصريين ، وتقدم تحقيق هذا أول البقرة .
وللكوفيين في قيام الجملة مقام الفاعل أو المفعولِ الذي لم يسمَّ فاعله : الجواز مطلقاً ، و التفصيل بين ما تعلق به؛ كهذه الآية فيجوز ، فالزمخشريُّ نحا نحوهم على قوليهم ، وإذا جعلنا « أيُّ الحزبَينِ » موصولة ، جاز أن يكون الفعل مسنداً إليه في هذه القراءة أيضاً؛ كما جاز إسناده إليه في القراءة قبلها .
وقرئ « ليُعْلِمَ » بضم الياء ، والفاعل الله تعالى ، و المفعول الأول محذوف ، تقديره : ليعلم الله الناس ، و « أيُّ الحِزْبيْنِ » في موضع الثاني فقط ، إن كانت عرفانية ، وفي موضع المفعولين إن كانت يقينيَّة .
وفي هذه القراءة فائدتان :
إحداهما : أنَّ على هذا التقدير : لا يلزم إثبات العلم المتجدَّد لله ، بل المقصود أنَّا بعثناهم؛ ليحصل هذا العلمُ لبعض الخالقِ .
والثانية : أنَّ على هذا لتقدير : يجب ظهور النَّصب في قوله « أيُّ » لكن لقائلٍ أن يقول الإشكال باقٍ؛ لأنَّ ارتفاع لفظة « أيُّ » بالابتداء لا بإسناده « ليُعْلِمَ » إليه .
ولمجيبٍ بأن يجيب؛ فيقول : لا يمتنعُ اجتماعُ عاملين على معمولٍ واحدٍ؛ لأنَّ العوامل النحوية علاماتٌ ومعرفاتٌ ، ولا يمتنع اجتماع معرفاتٍ كثيرة على شيءٍ واحد .
قوله : « أحْصَى » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه أفعلُ تفضيلٍ ، وهو خبر ل « أيُّهُم » و « أيُّهُم » استفهامية ، وهذه الجملة معلقة للعلم قبلها ، و « لِمَا لَبثُوا » حال من « أمَداً » ، لأنه لو تأخَّر عنه ، لكان نعتاً له ، ويجوز أن تكون اللامُ على بابها من العلَّة ، أي : لأجل ، قاله أبو البقاء ، ويجوز أن تكون زائدة ، و « ما » مفعولة : إمَّا ب « أحْصَى » على رأي من يعمل أفعل التفضيل في المفعول به ، وإما بإذمار فعلٍ ، و « أمداً » مفول « لبثُوا » أو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يدلُّ عليه أفعل عند الجمهور ، أو منصوب بنفس أفعل عند من يرى ذلك .

والوجه الثاني : أن يكون « أحْصَى » فعلاً ماضياً [ أي : أيهم ضبط أمداً لأوقات لبثهم ] و « أمداً » مفعوله ، و « لما لبثُوا » متعلق به ، أو حال من « أمداً » أو اللام فيه مزيدة ، وعلى هذا : ف طأمداً « منصوب ب » لبثُوا « و » ما « مصدريَّة ، أو بمعنى » الذي « واختار الأول - أعني كون » أحْصى « للتفضيل - الزجاج والتبريزيُّ ، واختار الثاني أبو عليٍّ والزمخشري وابن عطية ، قال الزمخشري : » فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت : ليس بالوجه السديد ، وذلك أن بناءه من غير الثلاثيِّ ليس بقياسٍ ، ونحو « أعْدَى من الجَربِ » و « أفلسُ من ابنِ المُذلَّقِ » شادٌّ ، و القياس على الشاذِّ في غير القرآن ممتنعٌ ، فكيف به؟ ولأنَّ « أمَداً » : إمَّا أن ينتصب بأفعل ، وأفعلُ لا يعمل ، وإمَّا أن ينتصب ب « لَبِثُوا » فلا يسدُّ عليه المعنى ، فإن زعمت أني أنصبه بفعلٍ مضمرٍ ، كما أضمر في قوله :
3490- . ... وأضْرَبَ منَّا بالسُّيُوفِ القَوانِسَا
فقد أبعدتَّ المتناول؛ حيث أبَيْتَ أن يكون « أحْصَى » فعلاً ، ثم رجعت مضطراً إلى تقديره « .
وناقشه أبو حيان فقال : » أمَّا دعواه أنَّه شاذٌّ ، فمذهب سيبويه خلافه ، وذلك أنَّ أفعل فيه ثلاثةُ مذاهب : الجواز مطلقاً ، ويعزى لسيبويه ، والمنع مطلقاً ، وهو مذهبُ الفارسيِّ ، والتفصيل : بين أن يكون همزته للتعديةِ ، فيمتنع ، وبين ألاَّ تكون ، فيجوز ، وهذا ليست الهمزة فيه للتعدية ، وأما قوله : « أفْعَلُ لا يَعْملُ » فليس بصحيح؛ لأنه يعمل في التمييز ، و « أمَداً » تمييزٌ لا مفعولٌ به ، كما تقول : زيدٌ أقطع النَّاس سيفاً ، وزيدٌ أقطع للْهَامِ سَيْفاً « .
فصل
قال شهاب الدين : الذي أحوج الزمخشريَّ إلى عدمِ جعله تمييزاً ، مع ظهوره في بادئ الرأي عدم صحَّة معناه ، وذلك : أنَّ التمييز شرطه في هذا الباب : أن تصحَّ نسبةُ ذلك الوصفِ الذي قبله إليه ، ويتَّصف به؛ ألا ترى إلى مثاله في قوله : زَيْدٌ أقطعُ النَّاس سَيْفاً » كيف يصحُّ أن يسند إليه ، فيقال : زيدٌ قطع سيفه ، وسيفه قاطعٌ ، إلى غير ذلك ، وهنا ليس الإحصاء من صفة الأمدِ ، ولا تصحُّ نسبته إليه ، وإنَّما هو من صفات الحزبين ، وهو دقيق .
وكان أبو حيان نقل عن ابي البقاء نصبه على التمييز ، وأبو البقاء لم يذكر نصبه على التمييز حال جعله « أحْصَى » أفعل تفضيلٍ ، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فعل ماضٍ ، قال أبو البقاء : في أحصى وجهان :
أحدهما : هو فعلٌ ماضٍ ، و « أمَداً » مفعوله .

و « لما لبثُوا » نعتُ له ، قدِّم ، فصار حالاً ، أو مفعولاً له ، أي : لأجل لبثهم ، وقيل : اللام زائدة و « ما » بمعنى « الذي » و « أمداً » مفعول « لَبِثُوا » وهو خطأ ، وإنما الوجه أن يكون تمييزاً ، والتقدير : لما لبثوهُ .
والوجه الثاني : هو اسم ، و « أمداً » منصوب بفعلٍ دلَّ عليه الاسم انتهى ، فهذا تصريح بأنَّ « أمَداً » حال جعله « أحْصَى » اسماً ، ليس بتمييز بل مفعول به بفعل مقدر ، وأنه جعله تمييزاً عن طلبثُوا « كما رأيت .
ثم قال أبو حيَّان : » وأمَّا قوله « وإمَّا أن ينصب ب » لبثُوا « فلا يسدُّ عليه المعنى ، أي : لا يكون معناه سديداً ، فقد ذهب الطبريُّ إلى أنه منصوب ب » لبِثوا « قال ابن عطيَّة : » وهو غير متَّجهٍ « انتهى ، وقد يتَّجه : وذلك أنَّ الأمد هو الغاية ، ويكون عبارة عن المدَّة من حيث إنَّ المدَّة غاية هي أمد المدَّة على الحقيقة ، و » ما « بمعنى » الذي « و » أمداً « منصوب على إسقاط الحرف ، وتقديره : لما لبثوا من أمدٍ ، أي : من مدة ، ويصير » مِنْ أمدٍ « تفسيراً لما أبهم من لفظ » ما « كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] ولمَّا سقط الحرف ، وصل إليه الفعل » .
قال شهاب الدين : يكفيه أنَّ مثل ابن عطيَّة جعله غير متَّجهٍ ، وعلى تقدير ذلك ، فلا نسلِّم أن الطبري عنى نصبه ب « لَبِثُوا » مفعولاً به ، بل يجوز أن يكون عنى نصبه تمييزاً؛ كما قاله أبو البقاء .
ثم قال : وأمَّا قوله : فإنْ زَعَمْتَ إلى آخره ، فنقول : لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنَّ لقائل ذلك أن يذهب مذهب الكوفيين في أنَّه ينصب « القَوانِسَ » بنفس « أضْرَبُ » ولذلك جعل بعض النحاة أنَّ « أعْلَمُ » ناصب ل « مَنْ » في قوله : { أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ } [ الأنعام : 117 ] ، وذلك لأنَّ أفعل مضمَّن لمعنى المصدر؛ إذ التقدير : « يزيدُ ضَرْبنَا القَوانِسَ على ضَرْبِ غَيْرنا » .
قال شهاب الدين : هذا مذهبٌ مرجوحٌ ، وأفعل التفضيل ضعيف ، ولذلك قصر عن الصفةِ المشبهة باسم الفاعل؛ حيث لم يؤنَّث ، ولم يثنَّ ، ولم يجمع .
وإذا جعلنا « أحْصَى » اسماً فجوَّز أبو حيان في « اي » أن تكون الموصولة ، و « أحْصَى » خبر لمبتدأ محذوف ، هو عائدها ، وأنَّ الضمة للبناء على مذهب سيبويه لوجود شرط البناء ، وهو إضافتها لفظاً ، وحذف صدر صلتها ، وهذا إنما يكون على جعل العلم بمعنى العرفان؛ لأنَّه ليس في الكلام إلا مفعولٌ واحدٌ ، وتقدير آخر لا حاجة إليه ، إلا أنَّ في إسناد « عَلِمَ » بمعنى عرف إلى الله تعالى إشكالاً تقدَّم تحريره في الأنفالِ وغيرها ، وإذا جعلناه فعلاً ، امتنع أن تكون موصولة؛ إذ لا وجه لبنائها حينئذ ، وهو حسن .

فصل في المراد بالحزبين
روى عطاءٌ عن ابن عبَّاس أنَّ المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك ، فأصحاب الكهف حزبٌ ، والملوك حزبٌ .
وقال مجاهدٌ : « الحزبين » من قوم الفتية؛ لأنَّهم لما انتبهوا ، اختلفوا في أنَّهم كم ناموا؛ لقوله تعالى : { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } [ الكهف : 19 ] .
وكأنَّ الذين قالوا : « ربُّكُمْ أعلم بِمَا لَبثْتُم » هم الذين علمُوا بطول مكثهم .
وقال الفراء : هم طائفتان من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدَّة لبثهم .
وقولهم : { أحصى لِمَا لَبِثُواْ } أي : أ؛فظ لما مكثُوا في كهفهم نياماً { أَمَدًا } أي : غاية .
وقال مجاهد : عدداً .

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)

قوله : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق } [ أي : نقص عليك نبأهم ] على وجه الصدق .
قوله : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } شبَّان { آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } إيماناً وبصيرة .
وقوله : { آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ } : فيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة؛ إذ لو جاء على نسقِ الكلامِ ، لقيل : إنَّهم فتيةٌ آمنوا بنا ، وقوله : « وَزِدْنَاهُم » التفات من هذه الغيبة إلى التكلم أيضاً .
ومعنى قوله : « ورَبَطْنَا » وشددنا « عَلى قُلوبِهمْ » بالصَّبْر والتثبت ، وقوَّيناهم بنور الإيمان ، حتَّى صبروا على هجران ديار قومهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيش ، وفرُّوا بدينهم إلى الكهف ، والرَّبطُ : استعارةٌ لتقوية كلمة في ذلك المكان الدَّحض .
قوله : { إِذْ قَامُواْ } : منصوب ب « رَبَطْنَا » . وفي هذا لقيام أقوالٌ :
أحدها : قال مجاهدٌ : كانوا عظماء مدينتهم ، فخرجوا ، فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعادٍ ، فقال أكبرهم : إنِّي لأجد في نفسي شيئاً ، إنَّ ربِّي ربُّ السموات والأرض ، فقالوا : نحن كذلك نجد في أنفسنا ، فقاموا جميعاً ، فقالوا : { رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض } .
والثاني : أنَّهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس ، حين عاتبهم على ترك عبادة الصَّنم ، { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها } فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم ، حتَّى عصوا ذلك الجبَّار ، وأقرُّوا بربوبيَّة الله تعالى .
الثالث : قال عطاءٌ ومقاتلٌ : إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النَّوم ، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ الله تعالى استأنف قصَّتهم فقال : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم } .
قوله : { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } .
« إذن » جواب وجزاء ، أي : لقد قلنا قولاً شططاً ، إن دعونا من دونه إلهاً ، و « شططاً » في الأصل مصدر ، يقال : شطَّ شططاً وشُطُوطاً ، أي : جار وتجاوز حدَّه ، ومنه : شطَّ في السَّوم ، وأشطَّ ، أي : جاوز القدر حكاه الزجاج وغيره ، ومن قوله : « ولا تشطط » وشطَّ المنزلُ : أي بعد ، [ من ذلك ] وشطَّت الجارية شطاطاً أي : طالت ، من ذلك .
فصل
قال الفراء : ولم أسمع إلا « أشطَّ يُشطُّ إشطاطاً » فالشطُّ البعد عن الحقِّ .
قال ابن عباس : « شَطَطاً » أي : جوراً .
وقال قتادة : كذباً . وفي انتصابه ثلاثة أوجه :
الأول : مذهب سيبويه النصب على الحال ، من ضمير مصدر « قُلْنَا » .
الثاني : نعت لمصدر ، أي : قولاً ذا شططٍ ، أو هو الشَّططُ نفسه؛ مبالغة .
الثالث : أنه مفعول ب « قُلنا » لتضمُّنه معنى الجملة .
قوله : { هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا } : يجوز في « قَوْمنَا » أن يكون بدلاً ، أو بياناً ، و « اتَّخذُوا » هو خبر « هؤلاء » ويجوز أن يكون « قَوْمُنا » هو الخبر ، و « اتَّخذوا » حالاً ، و « اتَّخذ » يجوز أن يتعدى لواحد؛ بمعنى « عملوا » لأنهم نحتوها بأيديهم ، ويجوز أن تكون متعدية لاثنين؛ بمعنى « صيَّروا » و « مِن دونه » هو الثاني قدِّم ، و « آلهة » هو الأول ، وعلى الوجه الأول يجوز في « من دونه » أن يتعلق ب « اتَّخذُوا » وأن يتعلق بمحذوفٍ حالاً من « ىلهة » إذ لو تأخَّر ، لجاز أن يكون صفة ل « آلهة » .

قوله : « لَوْلاَ يَأتُونَ » تحضيض فيه معنى الإنكار ، و « عَليْهِمْ » أي : على عبادتهم ، أو على اتخاذهم ، فحذف المضاف للعلم به ، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة التحضيضية صفة ل « آلهة » لفساده؛ معنى وصناعة؛ لأنها جملة طلبية .
فإن قلت : أضمر قولاً؛ كقوله : [ الرجز ]
3491- جَاءُوا بمَذْقٍ هل رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطْ ... هذا قول أصِحاب الكهف يعنون أهل بلدهم هم الذين كانوا في زمن دقيانوس ، عبدوا الأصنام { لَّوْلاَ يَأْتُونَ } هلا يأتون « عَليْهِمْ » على عبادتهم « بسُلْطَانٍ » بحجَّة بينة واضحة ، ومعنى الكلام أن عدم البينة بعدم الدَّليل لا يدلُّ على عدم المدلول ، وهذه الآية تدلُّ على صحَّة هذه الطريقة؛ لأنَّه تعالى استدلَّ على عدم الشركاء والأضداد؛ لعدمِ الدَّليل عليه ، ثم قال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } فزعم أ ، َّ له شريكاً ، وولداً ، يعني أنَّ الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلمٌ وافتراءٌ على الله وكذبٌ ، وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتَّقليد .
قوله : { وَإِذِ اعتزلتموهم } : « إذْ » منصوب بمحذوف ، أي : وقال بعضهم لبعض وقت اعتزالهم ، وجوَّز بعضهم أن تكون « إذ » للتعليل ، أي : فأووا إلى الكهف؛ لاعتزالكم إيَّاهم ، ولا يصحُّ .
قوله : « ومَا يَعبُدُونَ » يجوز في « مَا » ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون بمعنى « الذي » والعائد مقدر ، أي : واعتزلتم الذي يعبدونه وهذا واضح . و « إلاَّ الله » يجوز فيه أن يكون استثناء متصلاً ، فقد روي أنَّهم كانوا يعبدون الله ويشركون به غيره ، ومنقطعاً؛ فقد روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط ، والمستثنى منه يجوز أن يكون الموصول ، وأن يكون عائدهُ ، والمعنى واحد .
والثاني : أن تكون مصدرية ، أي : واعتزلتم عبادتهم ، أي : تركتموها ، و « إلاَّ الله » على حذف مضافٍ ، أي : إلاَّ عبادة الله ، وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان .
الثالث : أنها نافية ، وأنه من كلام الله تعالى ، وعلى هذا ، فهذه الجملة معترضة بين أثناء القصَّة ، وإليه ذهب الزمخشريُّ ، و « إلاَّ الله » استثناء مفرَّغٌ ، أخبر الله عن الفتيةِ أنهم لا يعبدون غيره ، وقال ابو البقاء : « والثالث : أنها حرف نفيٍ ، فيخرج في الاستثناء وجهان :
أحدهما : هو منقطعٌ ، والثاني : هو متصل ، والمعنى : وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا الله » .
فظاهر هذا الكلام : أن الانقطاع والاتصال في الاستثناء مترتِّبان على القول يكون « ما » نافية ، وليس الأمر كذلك .

فصل في كلام أهل الكهف
قال المفسِّرون : إنَّ أهل الكهف قال بعضهم لبعض : { وَإِذِ اعتزلتموهم } يعني قومكم { وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } ، أي : اعتزلتموهم ، وجميع ما يعبدون إلا الله ، فإنَّكم لم تعتزلوا عبادته ، فإنَّهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأوثان .
وقرأ أبو مسعود : « ومَا يعبدون من دون الله ، فأووا إلى الكهف » .
قال الفراء : هو جواب « إذْ » كما تقولُ : إذ فعلت كذا فافعل كذا ، والمعنى اذهبوا إليه ، واجعلوه مأواكم .
{ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } أي يبسطها عليكم ، { وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ } يسهِّل لكم { مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } ما يعود إليه رفقكم .
قوله : « مرفقاً » قرأ الجمهور بكسر الميم ، وفتح الفاءِ .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية البرجمي وأبو جعفر بالعكس ، وفيها خلاف عند أهل اللغة؛ فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو ما يرتفق به ، وليس بمصدر ، وقيل : هو بكسر الميم لليد ، وبفتحها للأمر ، وقد يستعمل كل واحدٍ منهما موضع الآخر ، حكاه الأزهريُّ عن ثعلب ، وأنشد الفراء جمعاً بين اللغتين في الجارحة : [ الرجز ]
3492- بِتُّ أجَافِي مِرْفقاً عن مَرْفقِ ... و [ قد ] يستعملان معاً في الأمرِ ، وفي الجارحة ، حكاه الزجاج .
وحكى مكيٌّ ، عن الفرَّاء أنه قال : « لا أعرفُ في الأمر ، ولا في اليد ، ولا في كلِّ شيء إلا كسر الميم » .
قلت : وتواترُ قراءة نافعٍ والشاميين يردُّ عليه ، وأنكر الكسائي كسر الميم في الجارحة ، وقال : لا أعرفُ فيه إلا الفتح ، وهو عكس قول تلميذه ، ولكن خالفه أبو حاتم ، وقال : « هو بفتح الميم : الموضع كالمسجد ، وقال أبو زيد : هو بفتح الميم مصدر جاء على مفعلٍ » وقال بعضهم : هما لغتان فيما يرتفق به ، فأمَّا الجارحةُ ، فبكسر الميم فقط ، وحكي عن الفراء أنه قال : « أهل الحجاز يقولون : » مرفقاً « بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ، ويكسرون مرفق الإنسان ، والعرب بعد يكسرون الميم منهما جميعاً » وأجاز معاذٌ فتح الميم والفاء ، وهو مصدر كالمضرب والمقتل .
و « مِنْ أمْرِكُم » متعلق بالفعل قبله ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، أو للتبعيض .
وقيل : هي بمعنى بدلٍ ، قاله ابن الأنباري ، وأنشد : [ الطويل ]
3493- فَليْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزمَ شَرْبةً ... مُبرَّدةً باتتْ على طَهيَانِ
أي : بدلاً . ويجوز أن يكون حالاً من « مِرْفقاً » فيتعلق بمحذوفٍ .

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)

قوله : { وَتَرَى الشمس } أي : أنت أيُّها المخاطب ، وليس المراد أنَّ من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ، ولكنَّ العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو .
قوله : { إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } .
قرأ ابن عامر ويعقوب « تَزْوَرُّ » بسكون الزاي بزنة تَحْمَرُّ .
والكوفيون « تَزاوَرُ » بتخفيف الزاي ، والباقون بتثقيلها ، ف « تَزْورُّ » بمعنى « تميلُ » من الزَّورِ ، وهو الميل ، و « زاره » بمعنى « مال إليه » وقول الزُّور : ميلٌ عن الحق ، ومنه الأزورُ ، وهو المائلُ بعينه وبغيرها ، قال عمر بن أبي ربيعة : [ الطويل ]
3494- ... وجَنْبِي خِيفَةَ القَوْمِ أزْوَرُ
وقيل : تَزورُّ بمعنى تنقبضُ من « ازْوَرَّ » أي : انقبض ، ومنه قول عنترة : [ الكامل ]
3495- فَازْوَرَّ من وقْع القَنا بِلبَانهِ ... وشَكَا إليَّ بِعبْرةٍ وتَحمْحُمِ
وقيل : مال ، ومثله قول بشر بن أبي خازم : [ الوافر ]
3496- يُؤمُّ بِهَا الحُداةُ مِياهَ نَخْلٍ ... وفِيهَا عن أبَانيْنِ ازْوِرَارُ
أي : ميلٌ .
وأما « تَزاوَرُ » و « تزَّاوَرُ » فأصلهما « تَتزاورُ » بتاءين ، فالكوفيون حذفوا إحدى التاءين ، وبعضهم أدغم ، وقد تقدَّم نظائر هذا في { تَظَاهَرُونَ } [ الآية : 85 من البقرة ] و { تَسَآءَلُونَ } [ النساء : 1 ] ونحوهما ، ومعنى ذلك الميل أيضاً .
وقرأ أبو رجاء ، والجحدريُّ ، وابن أبي عبلة ، وأيوبُ السَّختيانيُّ « تَزوَارُّ » بزنة « تحْمَارُّ » وعبد الله ، وأبو المتوكل « تَزوَئِرُّ » بهمزة مكسورة قبل راء مشددة ، وأصلها « تَزوَارُّ » كقراءة أبي رجاء ، ومن معه ، وإنما كرهَ الجمع بين الساكنين ، فأبدل الألف همزة على حدِّ إبدالها في { الجآن } [ الرحمن : 15 ] و { الضآلين } [ الفاتحة : 7 ] . وقد تقدم تحقيقه آخر الفاتحة .
و « إذا طلعت » معمول ل « ترى » أو ل « تَزاوَرُ » وكذا « إذا غَربَتْ » معمولٌ للأول ، أو للثاني ، وهو « تَقْرِضُهمْ » والظاهر تمحّضهُ للظرفيةِ ، ويجوز أن تكون شرطية .
ومعنى « تَقْرضُهمْ » : تقطعهم ، لا تقربهم؛ إذ القرض القطع؛ من القطيعة والصَّرم ، قال ذو الرمَّة : [ الطويل ]
3497- إلى ظُعنٍ يَقْرضْن أقْوازَ مُشرِفٍ ... شِمَالاً ، وعنْ أيْمانِهنَّ الفَوارِسُ
والقَرْضُ : القطعُ ، وتقدم تحقيقه في البقرة ، وق لالفارسي : « معنى تقرضهم : تعطيهم من ضوئها شيئاً ، ثم تزول سريعاً ، كالقرض يستردُّ » وقد ضعِّف قوله؛ بأنه كان ينبغي أن يقرأ « تُقرضُهمْ » بضمِّ التاء ، لأنه من أقرضَ .
وقرئ « يَقْرضُهمْ » بالياء من تحت ، أي : الكهف ، وفيه مخالفةٌ بين الفعلين وفاعلهما ، فالأولى أن يعود على الشمس ، ويكون كقوله : [ المتقارب ]
3498- ... ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقَالهَا
وهو قول ابن كيسان .
و « ذات اليمينِ » و « ذاتَ الشِّمالِ » ظرفا مكانٍ بمعنى جهة اليمين ، وجهة الشِّمال .
فصل
قال المفسرون : « تَزاوَرُ » بمعنى « تَمِيلُ » وتعدل عن كهفهم { ذَاتَ اليمين } ، أي : جهة ذات اليمين ، وأصله أنَّ ذات اليمين صفة أقيمت مقام الموصوف؛ لأنَّها تأنيث « ذو » في قولهم : « رجلٌ ذُو مالٍ ، وامرأةٌ ذات مالٍ » ؛ فكأنَّه قال : تَزاورُ عن كهفهم جهة ذات اليمين ، { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال } .

قال الكسائيُّ : قرضت المكان ، أي : عدلتُ عنه .
وقال أبو عبيدة : القرض في أشياء ، منها القطع ، وكذلك السَّير في البلاد ، إذا قطعتها؛ تقول لصاحبك : هل وردتَّ [ موضع ] كذا؟ فيقول المجيب : إنما قرضتهُ .
فقوله : { تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال } ، أي : تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشِّمال .
ثم ها هنا قولان :
الأول : قال ابن قتيبة وغيره : كان كهفهم مستقبل بناتِ نعشٍ ، لا تقع فيه الشمس عند الطُّلوع ، ولا عند الغروب ، ولا فيما بين ذلك وكان الهواء الطيِّب والنَّسيم الموافقُ يصل إليهم ، فلا جرم بقيتْ أجسادهم مصونة عن العفونة والفساد .
والثاني : أن الله تعالى منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم عند طلوعها ، وكذا عند غروبها ، وكان ذلك فعلاً خارقاً للعادة ، وكرامة عظيمة ، خصَّ الله بها أصحاب الكهف ، قاله الزجاج ، واحتجَّ على صحَّته بقوله : { ذلك مِنْ آيَاتِ الله } ولو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول ، لكان ذلك أمراص معتاداً مألوفاً ، ولم يكن من آيات الله تعالى .
ثم قال تعالى : { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } أي متَّسعٍ من الكهف ، وجمعها فجواتٌ .
قال أبو عبيدة : ومنه الحديث : فإذا وجد فجوة نصَّ .
وقال غيره : الفجوة المتَّسع من الفجاء ، وهو تباعد ما بين الفخذين ، يقال : رجل أفجأ ، وامرأةٌ فجواء ، وجمع الفجوة فجاء كقصعة وقصاع .
وقوله : { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } جملة حالية ، أي : نفعل هذا مع اتساع مكانهم ، وهو أعجب لحالهم؛ إذ كان ينبغي أن تصيبهم الشمس لاتساع مكانهم .
فصل
قال المفسرون : اختار الله تعالى لهم مضجعاً في مقناة لا تدخل عليهم الشمس ، فتؤذيهم بحرِّها ، وتغيِّر ألوانهم ، وهم في متَّسع ينالهم بردُ الرِّيح ، ويدفع عنهم كرب الغار .
قوله : « ذلِكَ » مبتدأ أشأر به إلى جميع ما تقدم من قصَّتهم .
وقيل : « ذلِكَ » إشارةٌ إلى الحفظ الذي حفظهم الله تعالى في ذلك الغار تلك المدَّة الطويلة .
قوله : { مِنْ آيَاتِ الله } العجيبة الدَّالة على قدرته ، وبدائع حكمته ، و { مِنْ آيَاتِ الله } الخبر ، ويجوز أن يكون « ذلك » خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك ، و { مِنْ آيَاتِ الله } حال . ثم بين تعالى أنه كما أبقاهم هذه المدَّة الطويلة مصونينعن الموت والهلاك من لطفه وكرمه ، فكذلك رجوعهم أوَّلاً عن الكفر ، ورغبتهم في الإيمان كان بإعانة الله ولطفه؛ فقال : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد } مثل أصحاب الكهف « ومن يُضْلِل » ، أي : يضلله الله ، ولم يرشده؛ ك « دقيانُوس » وأصحابه { فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً } معيناً « مُرْشِداً » .

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)

قوله : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً } أي : لو رأيتهم ، لحسبتهم .
وقال شهبا الدِّين : لا حاجة إلى هذا التقدير .
{ أَيْقَاظاً } : جمع « يَقُظٍ » بضم القاف ، وبجمع على يقاظٍ ، ويقظ وأيقاظ ، كعضدٍ وأعضادٍ ، ويقظ ويقاظ ، كرجلٍ ورجالٍ ، وظاهرُ كلام الزمخشريِّ أنه يقال : « يقظٌ » بالكسر؛ لأنه قال : وأيقاظٌ جمع « يقظٍ » كأنكاد في « نكدٍ » .
وقال الخفش ، وأبو عبيدة ، والزجاج : أيقاظٌ جمع يقظٍ ويقظان .
وأنشدوا [ لرؤبة ] : [ الرجز ]
3499- ووَجدُوا إخْوانَهُم أيْقَاظا .. . .
وقال البغوي : أيقاظاً جمع يقيظ ويقظ ، واليقظة : الانتباه عند النَّوم .
قال الواحديُّ : وإنما يحسبون أيقاظاً؛ لأنَّ أعينهم مفتحةٌ ، وهم نيامٌ .
وقال الزجاج : لكثرة تقلبهم يظنُّ أنهم أيقاظٌ؛ لقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } والرقود جمع راقدٍ ، كقاعدٍ وقعود .
فصل في مدة تقليبهم
اختلفوا في مقدار مدَّة التَّقليب :
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : « أنَّ لهم في كلِّ عام تَقْليبَتَيْنِ » وعن مجاهدٍ : يمكثون رقوداً على أيمانهم تسع سنينَ ، ثم ينقلبون على شمائلهم ، فيمكثون رقوداً تسع سنين .
وقيل : لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء .
وقال ابن الخطيب : وهذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ، والقرآن لا يدل عليها ، وما جاء فيه خبر صحيح ، فكيف يعرف؟ وقال ابن عباس : فائدة تقليبهم؛ لئلا تأكل الأرض لحومهم وتبليهم .
قال ابن الخطيب : عجبت من ذلك؛ لأنَّ الله تعالى قدر على أن يمسك حياتهم ثلاثمائة سنة وأكثر ، فلم لا يقدر على حفظ أجسامهم من غير تقليب؟! .
قوله : « ونُقلِّبهُم » قرأ العامة « نُقلِّبهُم » مضارعاً مسنداً للمعظِّم نفسه .
وقرئ أيضاً بالياء من تحت ، أي : الله أو الملك ، وقرأ الحسن : « يُقلِبُهمْ » بالياء من تحت ساكن القاف ، مخفف اللام ، وفاعله ، إمَّا الله أو الملكُ .
وقرأ أيضاً « وتَقَلُّبَهُم » بفتح التاء ، وضمِّ اللام مشددة مصدر تقلَّب كقوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } [ الشعراء : 219 ] ونصب الباء ، وخرَّجه أبو الفتح على إضمار فعل ، أي : ونرى تقلُّبهم ، أو نشاهد تقلُّبهم ، وروي عنه أيضاً رفع الباء على الابتداءِ ، والخبر الظرف بعده ، ويجوز أن يكون محذوفاً ، أي : آية عظيمة . وقرأ عكرمة « وتقلبُهمْ » بتاء التأنيث مضارع « قَلبَ » مخفَّفاً ، وفاعله ضمير الملائكةِ المدلولِ عليهم بالسِّياق .
وقوله : « ذَاتَ » منصوب على الظَّرف ، لأنَّ المعنى : ونُقلِّبُهمْ من ناحية اليمين أو على ناحية « اليمين » كما تقدَّم في قوله : { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين } [ الكهف : 17 ] .
وقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } .
قرأ العامة « وكَلْبُهمْ » وقرأ جعفر الصادق « كَالبُهمْ » أي : صاحب كلبهم كلابنٍ وتامر ، ونقل أبو عمر الزاهدُ غلامُ ثعلبٍ « وكَالِئُهُمْ » بهمزة مضمومة اسم فاعل من كَلأ يَْلأُ أي : حفظ يحفظُ .

و « باسطٌ » اسم فاعل ماض ، وإنما عمل على حكاية الحال ، الكسائي يعمله ، ويستشهد بالآية .
والوَصِيدُ : الباب؛ قاله ابن عبَّاس والسديُّ . وقيل : العَتبَةُ .
والكهفُ لا يكون له بابٌ ، ولا عتبة ، وإنما أراد موضع الباب .
وقال الزجاج : الوصيد فناءُ البيت ، وفناء الدَّار .
وقيل : الصَّعيدُ والتُّراب .
قال الشاعر : [ الطويل ]
3500- بأرْضِ فَضاءٍ لا يسدُّ وصيدُها ... عَليَّ ومَعرُوفِي بها غَيْرُ مُنْكرِ
وجمعه : وصائد ووصدٌ .
وقيل : الوصيدُ : الصَّعيدُ والتراب .
قال يونس ، والأخفش ، والفراء : الأصيدُ والوصيدُ لغتان؛ مثل : الوكاف والإكاف .
وقال مجاهدٌ ، والضحاك : « الوَصِيدُ » : الكهف .
وأكثر المفسرين على أنَّ الكلب كان من جنس الكلاب .
وروي عن ابن جريج : أنه كان أسداً ، وسمِّي الأسد كلباً ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهبٍ ، فقال : « اللَّهُم سلِّط عليه كلباً من كِلابِكَ » فافترسه الأسدُ .
قال ابن عباس : كان كلباً أغرَّ ، واسمه قطميرٌ ، وعن عليِّ : اسمه « ريَّان » .
وقال الأوزاعي : يشور قال السدي : يور .
وقال كعبٌ : صهباً .
وقال مقاتل : كان كلباً أصفر .
وقال الكلبيُّ : لونه كالحليج ، وقيل غير ذلك .
قال خالد بن معدان : ليس في الجنَّة من الدوابِّ إلاَّ كلب أصحاب الكهف ، وحمار بلعام .
قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هربوا من ملكهم فمرُّوا براعٍ ، معه كلبٌ ، فتبعهم على دينهم ، ومعه كلبه .
وقال الكلبيُّ : مرُّوا بكلبٍ فنبح عليهم ، فطردوه ، فعاد ، ففعلوا ذلك مراراً ، فقال لهم الكلب : لا تخشوا جانبي؛ فإنِّي أحبُّ أحبَّاء الله ، فناموا؛ حتَّى أحرسكم .
فصل
قال عبيد بن عميرٍ : كان ذلك كلب صيدهم ، ومعنى { بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } ، أي : ألقاها على الأرض مبسوطتين ، غي رمقبوضتين .
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « اعتدلوا في السُّجودِ ، ولا يَبْسُط أحدكم ذِرَاعيْهِ انْبسَاطَ الكلْبِ » .
قال المفسرون : كان الكلب بسط ذراعيه ، وجعل وجهه عليهما .
قوله : { لَوِ اطلعت } العامَّة على كسر الواو من « لَو اطَّلعْتَ » على أصل التقاء الساكنين ، وقرأها مضمومة أبو جعفرٍ ، وشيبة ، ونافع ، وابن وثَّاب ، والأعمش؛ تشبيهاً بواوِ الضمير ، وتقدَّم تحقيقه .
قوله : { لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً } لما ألبسهم الله من الهيبة؛ حتَّى لا يصل إليهم أحدٌ؛ حتى يبلغ الكتاب أجله ، فيوقظهم الله من رقدتهم .
« فِرَاراً » يجوز أن يكون منصوباً على المصدر من معنى الفعل قبله؛ لأنَّ التولِّي والفرارَ من وادٍ واحدٍ ، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحالِ ، أي : فارًّا ، ويكون حالاً مؤكدة ، ويجوز أن يكون مفعولاً له .
قوله : { وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } قرأ ابن كثير ، ونافع « لمُلِّئْتَ » بالتشديد على التكثير . وأبو جعفرٍ ، وشيبة كذلك ، إلا أنه بإبدال الهمزة ياء ، والزهري بتخفيف اللام والإبدال ، وهو إبدال قياسي والباقون بتخفيف اللام ، و « رُعباً » مفعول ثانٍ : وقيل : تمييزٌ .
قال الأخفش : الخفيفة أجود في كلام العربِ .

يقولون : ملأتنِي رعباً ، ولا يكادون يعرفون ملأتنِي؛ ويدل على هذا أكثر استعمالهم؛ كقوله : [ الوافر ]
3501- فَتَمْلأ بَيْتنَا أقِطاً وسَمْنَا .. .
وقول الآخر : [ الطويل ]
3502أ- ومن مالِئٍ عَيْنَيْهِ مِنْ شيءِ غَيْرِهِ ... إذَا رَاحَ نحو الجمْرَةِ البِيضُ كالدُّمَى
وقال الآخر : [ الرجز ]
3502ب- لا تَمْلأ الدَّلءو وعَرِّقْ فيها
وقال الاخر : [ الرجز ]
3503- امْتَلأ الحَوضُ وقَالَ قَطْنِي ... وقد جاء التثقيل أيضاً ، أنشدوا للمخبَّل السعديِّ : [ الطويل ]
3504- وإذْ قتل النُّعْمانُ بالنَّاسِ مُحرِمَا .. .
وقرأ ابن عامر والكسائي « رُعباً » بضمِّ العين في جميع القرآن ، والباقون بالإسكان .
فصل في سبب الرعب
اختلفوا في ذلك الرُّعب كان لماذا؟ فقيل : من وحشة المكان ، وقال الكلبي : لأنَّ أعينهم مفتَّحة ، كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلَّم ، وهم نيامٌ .
وقيل : لكثرة شعورهم ، وطول أظفارهم ، وتقلُّبهم من غير حسٍّ ، كالمستيقظ .
وقيل : إنَّ الله تعالى ، منعهم بالرُّعب؛ لئلاَّ يراهم أحدٌ .
ورُوِيَ عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاس ، قال : غزونا مع مُعاويةَ نحو الرُّوم ، فمَررْنَا بالكَهْفِ الذي فِيهِ أصْحابُ الكهفِ ، فقال مُعاوِيةُ : لو كُشِفَ لنَا عنْ هؤلاءِ ، لنَظَرْنَا إليْهِمْ ، فقَال ابْنُ عبَّاسٍ : قَدْ مَنَعَ الله ذلِكَ مَنْ هُو خَيْرٌ مِنْكَ : { لو اطَّلعْتَ عَليْهِم لولَّيتَ مِنهُم فراراً } ، فبعث معاوية ناساً ، فقال : اذهبوا ، فانظروا ، فلمَّا دخلوا الكهف ، بعث الله عليهم ريحاً ، أخرجتهم .

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)

قوله : { وكذلك بَعَثْنَاهُمْ } : الكاف نعت لمصدر محذوف ، أي : كما أنمناهم تلك النَّومةَ ، كذلك بعثناهم؛ ادِّكاراً بقدرته ، والإشارة ب « ذلِكَ » إلى المصدر المفهوم من قوله « فَضرَبْنَا » ، أي : مثل جعلنا إنامتهم هذه المدة المتطاولة آية ، جعلنا بعثهم آية ، قاله الزجاج والزمخشريُّ .
قوله : { لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } متعلقة بالبعث ، وقيل : هي للصَّيرورة؛ لأن البعث لم يكن للتساؤل ، قاله ابن عطيَّة ، والصحيح أنَّها على بابها من السببية .
قوله : { كَم لَبِثْتُمْ } « كم » منصوبة على الظرف ، والمميز محذوف ، تقديره : كم يوماً؛ لدلالةِ الجواب عليه ، و « أوْ » في قوله : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } للشكِّ منه ، وقيل : للتفصيل ، أي : قال بعضهم كذا ، وبعضهم كذا .
فصل
المعنى كما أنمناهم في الكهف ، وحفظنا أجسامهم من البلى ، طول الزمان ، فكذلك بعثناهم من النَّوم الذي يشبه الموت؛ { لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } ليسأل بعضهم بعضاً ، واللام لام العاقبة؛ لأنَّهم لم يبعثوا للسُّؤال .
فإن قيل : هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا؟ .
فالجواب : لا يبعد ذلك؛ لأنَّهم إذا تساءلوا ، انكشف لهم من قدرة الله أمورٌ عجيبةٌ ، وذلك أمرٌ مطلوبٌ .
قاله ابن الخطيب .
ثم قال تعالى : { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ } وهو رئيسهم ، واسمه مكسلمينا : { كَم لَبِثْتُمْ } في نومكم ، أي : كم مقدار لبثنا في هذا الكهف { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
قال المفسرون : إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النَّهار؛ فلذلك قالوا : يوماً ، فلما رأوا الشمس ، قالوا : أو بعض يوم ، فلما نظروا إلى شعورهم وأظفارهم « قَالُوا » أي : علموا أنَّهم لبثوا أكثر من يوم : { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } .
قيل : إنَّ رئيسهم مكسلمينا ، لما [ رأى ] الاختلاف بينهم قال : دعوا الخلاف .
قوله : { فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه } يعني يمليخا ، قاله ابن عباس .
قوله : « بورِقكُمْ » حال من « أحَدكُمْ » ، أي : مصاحباً لها ، وملتبساً بها ، وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر بفتح الواو وسكون الراء والفكِّ ، وباقي السبعة بكسر الراء ، والكسر هو الأصل ، والتسكين [ تخفيف ] ك « نَبْق » في نَبِق ، وحكى الزجاج كسر الواو ، وسكون الراء ، وهو نقلٌ ، وهذا كما يقال : كَبِدٌ وكَبْدٌ وكِبْدٌ .
وقرأ أبو رجاء ، وابن محيصن كذلك ، إلاَّ أنه بإدغام الفاق ، واستضعفوها من حيث الجمع بين ساكنين على غير حدَّيهما ، وقد تقدَّم ذلك في المتواتر ما يشبهُ هذه من نحو { تُسْأَلُونَ عَمَّا } [ في الآية : 134 من البقرة ] و { لاَ تَعْدُواْ فِي السبت } [ النساء : 154 ] و { الخُلْدِ جَزَآءً } [ فصلت : 38 ] و { فِي المهد صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] وروي عن ابن محيصن؛ أنَّه لمَّا أدغم كسر الراء فراراً ممَّا ذكرنا .
وقرأ أمير المؤمنين « بوارقكم » اسم فاعلٍ ، أي : صاحب ورقٍ ، ك « لابنٍ » وقيل : هو اسم جمع كجاملٍ وباقرٍ .

والوَرِقُ : الفضَّة المضروبة ، وقيل : الفضَّة مطلقاً مضروبة كانت ، أو غير مضروبة؛ ويدلُّ عليه ما رُوي أنَّ عرفجة اتَّخذَ أنفاً من ورقٍ .
فصل في لغات « الوَرِق »
قال الفراء والزجاج : فيه ثلاثُ لغاتٍ : وَرِقٌ ، ووَرْقٌ ، ووِرْقٌ ، ك « كَبِدٍ وكَبْدٍ وكِبْدٍ » وكسر الواو أردؤها يقال لها : « الرِّقةُ » بحذف الواو ، وفي الحديث : « في الرِّقةِ ربعُ العُشْرِ » وجمعت شذوذاً جمع المذكر السالم .
فصل
قال المفسرون : كان معهم دراهم عليها صورة الملكِ الذي كان في زمانهم ، ثم قال تعالى : { إلى المدينة } وهي الَّتي يقال لها اليوم ( طرسوس ) ، وكان اسمها في الجاهلية « أفسوس » ، وهذه الآية تدل على أنَّ السَّعي في إمساك الزَّاد أمرٌ مشروعٌ .
قوله : { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً } [ يجوز في « أي » أن تكون استفهامية ، وأن تكون موصولة . قال الزجاج : إنها رفع بالابتداء و « أزكى » خبرها ، وتقدم الكلام على نظيره في قوله : { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الكهف : 7 ] ، ولا بد ها هنا من حذف « أيُّ » أي : أيّ أهلها أزكى و « طعاماً » ] تمييزٌ ، أي : لا يكون من غصبٍ ، أي : سببٍ حرام .
وقيل : لا حذف ، والضميرُ عائدٌ على الأطعمة المدلول عليها من السِّياق .
قيل : أمروهُ أن يطلب ذبيحة مؤمنٍ ، ولا يكون من ذبيحة من يذبح لغير الله ، وكان فيهم مؤمنون ينكرون إيمانهم .
فصل في معنى « أزكى »
قال الضحاك : أزكى طعاماً ، أي : أطيب .
وقال مقاتلٌ : أجود .
وقال عكرمة : أكثر .
وأصل الزَّكاة النُّمو والزيادة .
وقيل : أرخص طعاماً { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ } أي : قوتٍ وطعامٍ تأكلونه .
قوله : « ولْيَتلَطَّفْ » قرأ العامة بسكون لام الأمر ، والحسنُ بكسرها على الأصل ، [ وقتيبة الميَّال ] « وليُتَلَطَّفْ » مبنياً للمفعول ، وأبو جعفر وأبو صالحٍ ، وقتيبة « ولا يشعُرنَّ » بفتح الياء وضمِّ العين .
فإن قيل : « بكُمْ » « أحدٌ » فاعل به .
فالجواب : معنى « وليَتَلطَّفْ » أي : يكون في سترة ، وكتمانٍ في دخول المدينة ، قاله الزمخشريُّ ، ويجوز أن يعود على قومهم؛ لدلالة السِّياق عليهم .
وقرأ زيدُ بن عليٍّ « يُظْهرُوا » مبنيًّا للمفعول .
فصل
{ يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } ، أي : يطَّلعوا عليكم ، ويعلموا مكانكم .
وقيل : أو يشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم : ظهرتُ على فلانٍ ، إذا علوتهُ ، وظهرتُ على السَّطح ، إذا صرت فوقه ، ومنه قوله تعالى : { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } [ الصف : 14 ] أي عالين .
وقوله : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] أي : ليعليه .
قوله : { يَرْجُمُوكُمْ } . قال ابن جريج : يَشْتموكُمْ ، ويُؤذُوكم بالقول ، وقيل : يقتلوكم بالحجارة ، والرجمُ بمعنى القتل كثيرٌ . قال تعالى : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } [ هود : 91 ] وقوله : { أَن تَرْجُمُونِ } [ الدخان : 20 ] والرجم أخبث القتل ، قاله الزجاج .
{ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } أي يردُّوكم إلى دينهم .
قوله : { وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً } أي إن رجعتم إلى دينهم ، لم تسعدوا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، ف « إذاً » جوابٌ وجزاءٌ ، أي : إن يظهروا ، فلن تفلحوا .
وقال الزجاج : لن تُفْلِحُوا ، إذا رجعتم إلى ملتهم أبداً ، فإن قيل : أليس أنَّهم لو أكرهوا على الكفر ، حتى أظهروا الكفر ، لم يكن عليهم مضرَّة ، فكيف قالوا : { وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً } ؟ .
فالجواب : يحتمل أن يكون المراد أنَّهم لو ردُّوا إلى الكفر ، وبقوا مظهرين له ، فقد يميل بهم ذلك غلى الكفر ، ويصيروا كافرين حقيقة ، فكان تخوُّفهم من هذا الاحتمال .

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)

قوله : { وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } : أي : وكما أنمناهم ، وبعثناهم ، لما فيه من الحكم الظاهرة؛ أعثرنا ، أي : أطلعنا . وتقدَّم الكلام على مادَّة « عثر » في المائدة .
يقال : عثرتُ على كذا ، أي : علمته ، وأصله أن من كان غافلاً عن شيءٍ فعثر به ، نظر إليه ، فعرفه ، وكان العثارُ سبباً لحصول العلم ، فأطلق اسم السَّببِ على المسبَّب « ليَعْلَمُوا » متعلق ب « أعْثرْنَا » والضمير : قيل : يعود على مفعول « أعْثَرنَا » المحذوف ، تقديره : أعثرنا النَّاس ، وقيل : يعود على أهل الكهف .
فصل في سبب تعرف الناس عليهم
اختلفوا في السَّبب الذي عرف الناس به واقعة أصحاب الكهف ، فقيل : لطول شعورهم ، وأظفارهم؛ بخلاف العادة ، وظهرت في بشرة وجوههم آثار عجيبةٌ يستدلُّ بها على أن مدَّتهم طالت طولاً بخلاف العادة .
وقيل : لأن أحدهم لما ذهب إلى المدينةِ؛ ليشتري الطَّعام ، أخرج الدراهم لثمن الطَّعام ، فقال صاحب الطعام : هذه النُّقود غير موجودة في هذا الزَّمان ، وإنها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدَّة مديدة؛ [ فلعلك ] وجدتَّ كنزاً ، فحملوه إلى ملك تلك المدينة ، فقال له الملك : أين وجدتَّ تلك الدَّراهم؟ فقال : بعتُ بها أمس تمراً ، وخرجنا فراراً من الملك دقيانوس ، فعرف الملك أنَّه ما وجد كنزاً ، وأنَّ الله تعالى بعثه بعد موته .
ومعنى قوله : { ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي : إنما أطلعنا القوم على أحوالهم؛ ليعلم القوم أنَّ وعد الله حقٌّ بالبعث والنَّشر؛ فإنَّ ملكَ ذلك الزَّمان كان منكر البعث ، فجعل الله أمر الفتية دليلاً للملكِ .
وقيل : اختلف أهلُ ذلك الزَّمانِ ، فقال بعضهم : الرُّوحُ والجسد يبعثان جميعاً .
وقال آخرون : إنَّما يبعثُ الرُّوح فقط ، فكان الملك يتضرَّع إلى الله تعالى أن يظهر له آية يستدلُّ بها على الحقِّ في هذه المسالة ، فأطلعه الله تعالى على أصحاب الكهف ، فاستدلَّ بهم على صحَّة بعث الأجساد؛ لأنَّ انتباههم بعد ذلك النَّوم الطويل يشبه من يموت ، ثم يبعث .
قوله : « إذ يَتنازعُونَ » يجوز أن يعمل فيه « أعْثَرنا » أو « لِيعْلمُوا » أو لمعنى « حقٌّ » أو ل « وَعْد » عند من يتَّسعُ في الظرف ، وأمَّا من لا يتَّسعُ ، فلا يجوز عنده الإخبار عن الموصول قبل تمامِ صلته .
واختلف في هذا التَّنازع ، فقيل : كانوا يتنازعون في صحَّة البعث ، فاستدلَّ القائلون بصحَّة هذه الواقعةِ ، وقالوا : كما قدر الله على حفظ أجسادهم مدَّة ثلاثمائةٍ وتسع سنين ، فكذلك يقدر على حشر الأجساد بعد موتها .
وقيل : إنَّ الملك وقومه ، لما رأوا أصحاب الكهف ، ووقفوا على أحوالهم ، عاد القوم إلى كهفهم ، فأماتهم الله ، فعند هذا اختلف الناس ، فقال قومٌ : إنَّ بعضهم قال : إنهم نيامٌ ، كالكرَّة الأولى .
وقال آخرون : بل الآن ماتوا .

وقيل : إن بعضهم ، قال : سدّوا عليهم باب الكهف مسجدٌ ، وهذا القول يدلُّ على أنَّ هؤلاء القوم كانوا عارفين بالله تعالى ، ويعترفون بالعبادة و الصلاة .
وقيل : إنَّ الكفار قالوا : إنهم على ديننا ، فنتخذ عليهم بنياناً ، وقال المسلمون [ إنهم ] على ديننا ، فنتخذ عليهم مسجداً .
وقيل : تنازعوا في مقدار مكثهم .
وقيل : تنازعوا في عددهم ، وأسمائهم .
قوله : « بُنْياناً » يجوز أن يكون مفعولاً به ، جمع بنيانةٍ ، وأن يكون مصدراً .
قوله : { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } يجوز أن يكون من كلام الله تعالى ، وأن يكون من كلامِ المتنازعين فيهم ، ثم قال { قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ } قيل : هو الملك المسلم ، واسمه بيدروس وقيل : رؤساء البلد .
قوله « غلبوا » قرأ عيسى الثقفيُّ ، والحسن بضمِّ الغين ، وكسر اللام .
قوله : { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } يعبد الله فيه ، ونستبقي آثار اصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد .

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)

قوله : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ } : قيل : إنَّما أتي بالسِّين في هذا؛ لأنَّ في الكلام طيًّا وإدماجاً ، تقديره : فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصَّة أهل الكهف ، فسلهم عن عددهم ، فإنهم سيقولون . ولم يأت بها في باقية الأفعال؛ لأنها معطوفة على ما فيه السين ، فأعطيت حكمه من الاستقبال .
وقرأ ابن محيصن « ثلاثٌ » بإدغام الثاء المثلثة في تاء التأنيث؛ لقرب مخرجيهما ، ولأنهما مهموسان ، ولأنهما بعد ساكن معتل .
{ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } الجملة في محل رفع صفة ل « ثَلاثَة » .
قوله : { وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ } قرأ ابن كثير في رواية بفتح الميم ، وهي لغة كعشرةٍ ، وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم ، وبإدغام التاء في السين ، يعني تاء « خمسةٌ » في سين « سادسهم » وهي قراءة ثقيلة جداً؛ لتوالي كسرتين وثلاث سيناتٍ ، قال شهاب الدين ولا أظن مثل هذا إلا غلطاً على مثله ، وروي عنه إدغام التنوين في السين من غيرغنَّة .
و « ثَلاثةٌ » و « خَمسةٌ » و « سَبعةٌ » إخبار المبتدأ محذوف مضمرٍ ، أي : هم ثلاثة ، وهم خمسة ، وهم سبعة ، وما بعد « ثلاثة » و « خمسة » من الجملة صفة لهما ، كما تقدَّم ، ولا يجوز أن تكون الجملة حالاً ، لعدم عامل فيها ، ولا يجوز أن يكون التقدير : هؤلاء ثرثة ، وهؤلاء خمسةٌ ، ويكون العامل اسم الإشارة أو التنبيه ، قال أبو البقاء : لأنَّها إشارةٌ إلى حاضر ، ولم يشيروا إلى حاضر « .
قوله : { رَجْماً بالغيب } فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه مفعولٌ من أجله؛ يقولون ذلك لأجل الرمي بالغيب .
والثاني : أنه في موضع الحال ، أي : ظانِّين .
والثالث : أنه منصوب ب » يَقُولونَ « لأنه بمعناه .
والرابع : أنه منصوب بمقدر من لفظه ، أي : يرجمون بذلك رجماً .
والرَّجمُ في الأصل : الرَّميُ بالرِّجامِ ، وهي الحجارة الصِّغارُ ، ثم عبِّر به عن الظنِّ ، قال زهير : [ الطويل ]
3505- ومَا الحَربُ إلاَّ ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُم ... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرجَّمِ
أي : المظنون .
قوله : » وثامنُهم « في هذه الواو أوجهٌ :
أحدها : أنها عاطفة ، عطفت هذه الجملة على جملة قوله » هُم سَبْعةٌ « فيكونون قد أخبروا بخبرين ، الأول : أنهم سبعة رجالٍ على البتِّ . والثاني أنَّ ثامنهم كلبهم ، وهذا يؤذنُ بأن جملة قوله { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } من كلام المتنازعين فيهم .
الثاني : أن الواو للاستئناف ، وأنه من كلام الله تعالى أخبر عنهم بذلك ، قال هذا القائل : وجيء بالواو؛ لتعطي انقطاع هذا ممَّا قبله .
الثالث : أنها الواو الداخلة على الصفة؛ تأكيداً ، ودلالة على لصق الصفة بالموصوف ، وإليه ذهب الزمخشري ، ونظره بقوله : { مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] .
وردَّ أبو حيَّان عليه : بأنَّ أحداً من النحاة لم يقله ، وقد تقدَّم الكلام عليه في ذلك .

الرابع : أنَّ هذه تسمَّى واو الثمانية ، وأنَّ لغة قريشٍ ، إذا عدُّوا يقولون : خمسةٌ ستَّة سبعة ، وثمانية تسْعةٌ ، فيدخلون الواو على عقد الثمانية خاصة ، ذكر ذلك ابن خالويه ، وأبو بكر راوي عاصم ، قلت : وقد قال ذلك بعضهم في قوله تعالى : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَ } [ الزمر : 73 ] في الزمر ، فقال : دخلت في أبواب الجنة؛ لأنها ثمانية ، ولذلك لم يجأ بها في أبواب جهنَّم؛ لأنها سبعة ، وسيأتي هذا ، إن شاء الله .
قال أصحاب هذا القول : إنَّ السبعة عند العرب أمثل في المبالغة في العدد؛ قال تعالى : { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } [ التوبة : 80 ] .
ولما كان كذلك ، فلما وصلوا إلى الثَّمانية ، ذكروا لفظاً يدلُّ على الاستئناف فقالوا : وثمانية ، فجاء هذا الكلام على هذا القانون ، قالوا : ويدلُّ عليه قوله تعالى : { والناهون عَنِ المنكر } [ التوبة : 112 ] ؛ لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة .
وقوله : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] لأن أبواب الجنة ثمانيةٌ ، وأبواب النَّار سبعة ، فلم يأتِ بالواو فيها .
وقوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] هو العدد الثامن مما تقدَّم .
قال القفال : وهذا ليس بشيء؛ لقوله تعالى : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } [ الحشر : 23 ] ولم يذكر الواو في النَّعت الثامن .
وقرئ : « كَالبُهمْ » أي : صاحب كلبهم ، ولهذه القراءةِ قدَّر بعضهم في قراءة العامة : وثامنهم صاحب كلبهم .
وثلاثةٌ وخمسةٌ وسبعةٌ : مضافة لمعدودٍ محذوف ، فقدَّره أبو حيان : ثلاثة اشخاص ، قال : « وإنَّما قدَّرنا أشخاصاً؛ لأنَّ رابعهم اسم فاعل أضيف إلى الضمير ، والمعنى : أنه ربعهم ، أي : جعلهم أربعة ، وصيَّرهم إلى هذا العدد ، فلو قدَّرناه رجالاً ، استحال أن يصيِّر ثلاثة رجالٍ أربعة؛ لاختلافِ الجنسين » وهو كلامٌ حسنٌ .
فصل
وقال أبو البقاء : « ولا يعمل اسم الفاعل هنا؛ لأنه ماض » قلت : يعني أنَّ رابعهم فيما مضى ، فلا يعمل النصب تقديراً ، والإضافة محضة ، وليس كما زعم ، فإنَّ المعنى على : يصير الكلب لهم أربعة ، فهو ناصبٌ تقديراً ، وإنما عمل ، وهو ماضٍ؛ لحكاية الحال ك « بَاسِطٌ » .
فصل
روي أن السيِّد والعاقب وأصحابهما من نصارى نجران ، كانوا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف ، فقال السيِّد - وكان يعقوبياً - : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم .
وقال العاقبُ - وكان نُسطوريًّا- : كانوا خمسة سادسهم كلبهم .
وقال المسلمون : ك انوا سبعة ، وثامنهم كلبهم ، فحقَّق الله قول المسلمين بعدما حكى قول النصارى ، فقال : « سَيقُولونَ ثَلاثةٌ رابعهُم كَلْبهُم ، ويَقُولونَ خَمسَةٌ سَادسهُمْ كَلبُهمْ رجماً بالغيب ويَقُولونَ : سَبْعةٌ وثَامنهُمْ كَلبُهمْ » .
قوله : { رَجْماً بالغيب } أي : ظنًّا وحدساً من غير يقينٍ ، ولم يقل هذا في السبعة ، فقال : { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } .
فصل
قال أكثر المفسرين : هذا هو الحقُّ؛ ويدلُّ عليه وجوهُ :
الأول : أنَّ الواو في قوله : { وَثَامِنُهُمْ } هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنَّكرة ، كما تدخل ع لى الجملة الواقعة حالاً عن المعرفة في قولك : « جَاءنِي رجلٌ ، ومَعهُ آخَرُ » ومررت بزيدٍ ، ومعه سيفٌ ، ومنه قوله :

{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] .
وفائدتها : تأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على أنَّ اتصافه به أمرٌ ثابتٌ مستقرٌّ ، فكانت هذه الواو دالة على أنَّ الذين كانوا في الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم .
الثاني : أنه تعالى خصَّ هذا الموضع بهذا الحرف الزَّائد وهو الواو؛ فوجب أن يحصل به فائدة زائدة؛ صوناً للفظ عن التعطيل ، وليس الفائدة إلاَّ تخصيص هذا القول بالإثبات والتَّصحيح .
الثالث : أنه تعالى أتبع القولين بقوله : { رَجْماً بالغيب } ولم يقله في السَّبعة ، وتخصيص الشيء بالوصف يدلُّ على أنَّ الحال في الباقي بخلافه ، وأنه مخالف لهما في كونه « رجْماً بالغَيْب » .
الرابع : أنه قال بعده : { رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } فدلَّ على أن هذا القول ممتازٌ عن القولين الأوَّلين بمزيد القوَّة والصَّحة .
الخامس : أنه تعالى قال : { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } فدلَّ على أنَّه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل ، وكلُّ من قال من المسلمين قولاً في هذا الباب ، قال : إنهم كانوا سبعة ، وثامنهم كلبهم؛ فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول ، وكان عليٌّ - رضي الله عنه - يقول : كانوا سبعة ، وثامنهم كلبهم ، وأسماؤهم : ميليخا ، مكسلمينا ، مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك ، وعن يساره : مرنوس ، ديرنوس ، سادنوس ، وكان الملكُ يستشير هؤلاء الستَّة ، يتصرَّفون في مهمَّاته ، والسَّابع هو الرَّاعي الذي وافقهم ، لمَّا هربوا من ملكهم ، واسم كلبهم قطميرٌ ، وروي عن ابن عباس أنه قال : مكسلمينا ، ويلميخا ، ومرطوس وبينويس ، وسارينوس ، وذونوانس ، وكشفيطيطونونس وهو الراعي ، وكان ابن عباس يقول : أنا من أولئك العدد القليل .
السادس : أنه تعالى ، لما قال : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } قال : { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } .
والظاهر أنَّه لما حكى الأقوال ، فقد حكى كلَّ ما قيل من الحقِّ والباطل ، ويبعد أنَّه تعالى ذكر الأقوال الباطلة ، ولم يذكر ما هو الحقُّ ، فثبت أن جملة الأقوال الحقَّة والباطلة ليست إلاَّ هذه الثَّلاثة ، ثم خصَّ الأولين بأنه رجمٌ بالغيب؛ فوجب أن يكون الحق هو الثالث .
السابع : أنه قال لرسوله - عليه الصلاة والسلام- : { فَلا تُمارِ فِيهمْ إلاَّ مِراءً ظَاهِراً ، ولا تَسْتفْتِ فِيهم مِنهُمْ أحَداً } فمنعه من المناظرة معهم في هذا الباب ، وهذا إنما يكون ، لو علم حكم هذه الواقعة ، ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا يحصل للنبيِّ - عليه السلام - فعلمنا أنَّ العلم بهذه الواقعة حصل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والظاهر أنه لم يحصل ذلك إلاَّ بهذا الوحي؛ لأنَّ الأصل فيما سواهُ العدم ، فيكون الأمر كذلك ، ويكون الحقُّ قوله : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } وهذه الوجوه ، وإن كان فيها بعض الضعف إلاَّ أنه لما تقوَّى بعضها ببعضٍ ، حصل فيها تمامٌ وكمالٌ .

فصل
في هذه الآية محذوفٌ ، وتقديره : سيقولون : هم ثلاثة ، فحذف المبتدأ؛ لدلالة الكلام عليه ، ثم قال تعالى : { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } أي : بعددهم { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } ، وهذا هو الحق؛ لأن العلم بتفاصيل كائنات العالم ، وحوادثه في الماضي والمستقبل ، لا يحصل إلاَّ عند الله ، أو عند من أخبره الله تعالى ، ثم لمَّا ذكر تعالى هذه القصَّة ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراءِ والاستفتاء ، فقال : { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } ، أي لا تجادل ، ولا تقل في عددهم وشأنهم إلاَّ مراء ظاهراً إلا بظاهر ما قصصنا عليك ، فقف عنده ، { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } أي من أهل الكتاب ، أي : لا ترجع إلى قولهم بعد أن أخبرناك؛ لأنَّه ليس عندهم علمٌ في هذا الباب إلاَّ رجماً بالغيب .
فصل
واعلم أنَّ نفاة القياس تمسَّكوا بهذه الآية ، قالوا : لأن قوله : { رَجْماً بالغيب } قيل : كان ظنًّا بالغيب؛ لأنَّهم أكثروا أن يقولوا رجماً بالظنِّ ، مكان قولهم : « ظنَّ » حتى لم يبق عندهم فرقٌ بين العبارتين ، كما قال : [ الطويل ]
3506- . . ... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرجَّمِ
أي : المظنون ، ثم إنه تعالى ، لمَّا ذم هذه الطريقة ، رتَّب عليها المنع من استفتاء هؤلاء الظانِّين ، فدلَّ على أن الفتوى بالمظنون غير جائزٍ عند الله تعالى ، وتقدَّم جوابهم .

وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)

وذلك أن أهل مكَّة سألوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، فقال : أخبركم غداً ، ولم يقل : إن شاء الله ، فلبث الوحيُ أيَّاماً ، ثم نزلت هذه الآية .
فصل
اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين :
الأول : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عالماً بأنَّه إذا أخبر أنه سيفعل الفعل الفلانيَّ غداً ، فربَّما جاءته الوفاة قبل الغد ، وربما عاقه عائقٌ عن ذلك الفعل غداً ، وإذا كانت هذه الأمور محتملة ، فلو لم يقل : إن شاء الله ، خرج الكلام مخالفاً لما عليه ، وذلك يوجب التنفير عنه .
أما إذا قال : « إن شاء الله تعالى » كان محترزاً عن هذا المحذور المذكور ، وإذا كان كذلك ، كان من البعيد أن يعد بشيءٍ ، ولم يقل : إن شاء الله .
الثاني : أن هذه الآية مشتملةٌ على قواعد كثيرةٍ ، وأحكام جمَّة ، فيبعد قصرها على هذا السبب ، إذ يمكن أن يجاب عن الأول بأنه لا يمتنع أن الأولى أن يقول : « إن شاء الله تعالى » ، إلاَّ أنه ربَّما اتَّفق له نسيان قول « إن شاء الله » لسبب من الأسباب ، وكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل ، وأنه يجاب عن الثاني بأنَّ اشتماله على الفوائد الكثيرةِ لا يمتنع أن يكون نزوله بسببٍ واحدٍ منها .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } : قال أبو البقاء : في المستثنى منه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : هو من النَّهي . والمعنى : لا تقولنَّ : افعلُ غداً ، إلاَّ أن يؤذن لك في القول .
الثاني : هو من « فاعلٌ » ، أي : لا تقولنَّ إني فاعل غداً؛ حتَّى تقرن به قول « إن شاء الله » .
والثالث : أنه منقطعٌ ، وموضع « أن يشاء الله » نصب على وجهين :
أحدهما : على الاستثناء ، و التقدير : لا تقولنَّ ذلك في وقتٍ إلاَّ وقت أن يشاء الله ، أي : يأذن ، فحذف الوقت ، وهو المراد .
الثاني : هو حالٌ ، والتقدير : لا تقولنَّ : أفعل غداً إلا قائلاً : « إن شاء الله » وحذف القول كثير ، وقيل : التقدير إلاَّ بأن يشاء الله ، أي : إلاَّ ملتبساً بقول : « إن شاء الله » .
وقد ردَّ الزمخشريُّ الوجه الثاني ، فقال : « إلاَّ أن يشاءَ » متعلقٌ بالنهي ، لا بقوله « إنِّي فاعلٌ » لأنه لو قال : إني فاعل كذا إلا أن يشاء الله ، كان معناه : إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله ، وذلك ممَّا لا مدخل فيه للنهي .
معناه أنَّ النهي عن مثل هذا المعنى ، لا يحسن .
ثم قال : « وتعلُّقهُ بالنهي من وجهين :
أحدهما : ولا تقولنَّ ذلك القول ، إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه .
والثاني : ولا تقولنَّه إلاَّ بأن يشاء الله ، أي : إلاَّ بمشيئته ، وهو في موضع الحال ، أي : ملتبساً بمشيئة الله ، قائلاً إن شاء الله .

وفيه وجه ثالثٌ : وهو أن يكون « إلاَّ أن يشاء » في معنى كلمة تأبيدٍ ، كأنَّه قيل : ولا تقولنَّه أبداً ، ونحوه : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا } [ الأعراف : 89 ] لأن عودهم في ملتهم ممَّا لم يشأ الله « .
وهذا الذي ذكره الزمخشري قد ردَّه ابن عطيَّة بعد أن حكاه عن الطبري وغيره ، ولم يوضِّح وجه الفساد .
وقال أبو حيان : » وإلا أن يشاء الله ، استثناء لا يمكن حمله على ظاهره؛ لأنه يكون داخلاً تحت القول ، فيكونُ من المقول ، ولا ينهاه الله أن يقول : إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله؛ لأنه قول صحيحٌ في نفسه ، لا يمكن أن ينهى عنه ، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقديرٍ ، فقال ابن عطيَّة : في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، ويحسِّنهُ الإيجاز ، تقديره : إلاَّ أن يقول : إلا أن يشاء الله ، أو إلاَّ أن تقول : إن شاء الله ، والمعنى : إلاَّ أن تذكر مشيئة الله ، فليس « إلاَّ أن يشاء الله » من القول الذي نهي عنه « .
فصل
قال كثيرٌ من الفقهاء : إذا قال الرَّجل لزوجته : » أنْتِ طالقٌ ، إن شاء الله « لم يقع الطَّلاق؛ لأنه لما علَّق وقوع الطَّلاق على مشيئة الله ، لم يقعِ الطَّلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة ، ومشيئةُ الله غيبٌ لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها ، إلا إذا علمنا أن متعلَّق المشيئة وقع وحصل ، وهو هذا الطلاق ، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة ، إلاَّ إذا وقع الطلاق ، ولا يعرف وقوع الطلاق ، إلاَّ إذا عرفنا المشيئة ، فيوقف كلُّ واحدٍ منهما على العلم بالآخرِ ، وهو دورٌ؛ فلهذا لم يقع الطَّلاق .
فصل
احتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم شيءٌ ، قالوا : لأنَّ الشيء الذي سيفعله غداً سمَّاه الله تعالى في الحال شيئاً ، وهو معدومٌ في الحال .
[ وأجيب ] بأنَّ هذا الاستدلال لا يفيدُ إلاَّ أنَّ المعدوم مسمى بكونه شيئاً ، والسبب فيه أنَّ الذي يصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال تسمية للشيء بما يئولُ إليه؛ لقوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] والمراد سيأتي أمر الله .
ثم قال تعالى : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن : معناه : إذا نسيت الاستثناء ، ثم ذكرت ، فاستثنِ .
وقيَّده الحسن وطاوس بالمجلس .
وعن سعيد بن جبيرٍ : بعد سنة ، أو شهرٍ ، أو أسبوعٍ ، أو يوم .
وعن عطاءٍ : بمقدار حلب ناقةٍ غزيرةٍ .
وعند عامة الفقهاء : لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً ، وقالوا : لأنا لو جوَّزنا ذلك ، لزم ألاَّ يستقرَّ شيءٌ من العهود والإيمان .
[ يحكى ] أنه بلغ المنصور أنّ أبا حنيفة خالف ابن عبَّاس في الاستثناء المنفصل ، فاستحضره؛ لينكر عليه ، فقال له أبو حنيفة : هذا يرجع عليك؛ فإنك تأخذ البيعة بالأيمان ، أترضى أن يخرجوا من عندك ، فيستثنوا ، فيخرجوا عليك ، فاستحسن المنصور كلامه ، ورضي عنه .

واعلم أن هذا تخصيص النصِّ بالقياس ، وفيه ما فيه .
وأيضاً فلو قال : « إنْ شَاءَ الله » خفية؛ بحيث لا يسمع ، كان دافعاً للحنث بالإجماع ، مع أنَّ المحضور باقٍ ، فما عوَّلوا عليه ليس بقويٍّ ، [ والأولى ] أن يحتجَّ في وجوب كون الاستثناء متَّصلاً بالآيات الكثيرة الدالة على وجوب الوفىءِ بالعقد والعهد؛ كقوله : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } [ الإسراء : 34 ] ، فإذا أتى بعهدٍ ، وجب عليه الوفاء بمقتضاه بهذه الآيات .
خالفنا الدليل فيما إذا كان متَّصلاً؛ لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد؛ بدليل أنَّ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً ، فهو جارٍ مجرى بعض الكلمة الواحدة ، فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة ، وإذا كان كذلك ، فإن لم يكن منفصلاً ، حصل الالتزام التَّامُّ بالكلام؛ فوجب عليه الوفاء بذلك المتلزم .
وقيل : إن قوله : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } كلامٌ مستأنفٌ لا تعلّق له بما قبله .
فصل
قال عكرمة : واذكر ربَّك ، إذا غضبت .
وقال وهبٌ : مكتوب في الإنجيل « ابن آدمَ ، اذكُرنِي حين تغضبُ ، أذكرك حينَ أغْضَبُ » .
وقال الضحاك ، و السديُّ : هذا في الصَّلاة المنسيَّة .
قال ابن الخطيب : وتعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضيَّة ، وجعله مستأنفاً يصير الكلام مبتدأ منقطعاً ، وذلك لا يجوز .
ثم قال : { وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } وفيه وجوهٌ :
الأول : أن ترك قوله : « إنْ شَاءَ اللهُ » ليس بحسن ، وذكره أحسن من تركه ، وهو قوله : { لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } المراد منه ذكر هذه الجملة .
الثاني : أنَّه لمَّا وعدهم بشيءٍ ، وقال معه ( إن شاء الله تعالى ) فيقول : عسى أن يهديني ربِّي لشيءٍ أحسن وأكمل مما وعدتُّكم به .
الثالث : أن قوله : { عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } إشارة إلى قصَّة أصحاب الكهف ، أي : لعلَّ الله يؤتيني من البيِّنات والدلائل على صحَّة نبوَّتي وصدقي في ادِّعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة ، وأقرب رشداً من قصَّة أصحاب الكهف ، وقد فعل الله ذلك حين آتاهُ من قصص الأنبياء ، والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك .

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)

قوله : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً } .
قال قتادة : هذا من كلام القوم؛ لأنَّه تعالى قال : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] إلى أن قال : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ } أي : إنَّ أولئك الأقوام ، قالوا ذلك ، ويؤيِّده قوله تعالى بعده { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } وهذا يشبهُ الردَّ على الكلام المذكور قبله .
ويؤيِّده أيضاً ما ورد في مصحف عبد الله : ( وقالوا ولبثوا في كهفهم ) .
وقال آخرون : هو كلام الله تعالى أخبر عن كميَّة هذه المدَّة .
وأما قوله : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } فهو كلامٌ تقدَّم ، وقد تخلَّل بينه وبين هذه الآية ما يوجبُ انقطاع أحدهما عن الآخر ، وهو قوله : { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } [ الكهف : 22 ] .
وقوله تعالى : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } لا يوجب أنَّ ما قبله حكاية؛ لأنَّه تعالى أراد بل الله أعلم بما لبثوا ، فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب ، والمعنى أن الأمر في مدَّة لبثهم ، كما ذكرنا ، فإن نازعوك فيها ، فأجبهم فقل : { الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أي : فهو أعلم منكم ، وقد أخبر بمدَّة لبثهم .
وقيل : إنَّ أهل الكتاب قالوا : إنَّ المدَّة من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاثمائة وتسع سنين ، فردَّ الله عليهم ، وقال : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا ، لا يعلمه إلاَّ الله .
قوله : { ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ } : قرأ الأخوان بإضافة « مِئةِ » إلى « سنين » والباقون بتنوين « مِئةٍ » .
فأمَّا الأولى : فأوقع فيها الجمع موقع المفرد؛ كقوله : { بالأخسرين أَعْمَالاً } [ الكهف : 103 ] . قاله الزمخشريُّ يعني أنه أوقع « أعْمَالاً » موقع « عملاً » وقد أنحى أبو حاتمٍ على هذه القراءة ولا يلتفت إليه ، وفي مصحف عبد الله « سنة » بالإفراد ، وبها قرأ أبيّ ، وقرأ الضحاك « سِنُونَ » بالواو على أنها خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي سنُونَ .
وأمَّا الباقون ، فلما لم يروا إضافة « مِئَة » إلى جمعٍ ، نَوَّنُوا ، وجعلوا « سِنينَ » بدلاً من « ثَلاثمائةٍ » أو عطف بيان .
قال البغويُّ : فإن قيل لِمَ قال : « ثلاثمائة سنين » ولم يقل سنة؟ فالجواب ، لمَّا نزل قوله تعالى : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ } فقالوا : أيَّاماً ، أو شهوراً ، أو سنين ، فنزلت « سنين » .
وقال الفراء : من العرب من يضع « سنين » موضع سنة .
ونقل أبو البقاء أنها بدل من « مِئَةٍ » لأنها في معنى الجمع . ولا يجوز أن يكون « سِنينَ » في هذه القراءة تمييزاً؛ لأنَّ ذلك إنما يجيء في ضرورةٍ مع إفرادِ التمييز؛ كقوله :
3507أ- إذَا عَاشَ الفَتَى مِئَتيْنِ عَاماً ... فَقدْ ذَهبَ اللَّذاذَةُ والفَتَاءُ .

فصل
قيل : المعنى : ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة { وازدادوا تِسْعاً } .
قال الكلبيُّ : قالت نصارى نجران : أما الثلاثمائة ، فقد عرفناها ، وأما التسع ، فلا علم لنا بها ، فنزلت : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } .
روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال : عند أهل الكتاب : أنَّهم لبثُوا ثَلاثمائَةٍ شَمْسيَّة ، والله تعالى ذَكرَ ثَلاثمَائةِ سنةٍ قمريَّة ، والتَّفاوتُ بين الشَّمسية والقمريَّة في كلِّ مائةِ سنةٍ ثلاث سنين ، فيكونُ ثَلاثمائَةٍ ، وتِسْع سنينَ ، فَلذلِكَ قال : « وازْدَادُوا تِسْعاً » .
قال ابن الخطيب : وهذا مشكلٌ؛ لأنه لا يصحُّ بالحساب ، فإن قيل : لِمَ لا قيل : ثلاثمائة ، وتسع سنين؟ .
وما الفائدة في قوله : « وازْدَادُوا تِسْعاً » ؟ .
فالجواب : أن يقال : لعلَّهم لما استكمل لهم ثلاثمائة سنة ، قرب أمرهم من الانتباه ، ثمَّ اتفق ما أوجب [ بقاءهم في النَّوم ] تسع سنين .
قوله : « تِسْعاً » أي : تسع سنين ، حذف المميِّز؛ لدلالةِ ما تقدَّم عليه؛ إذ لا يقال : عندي ثلاثمائة درهم وتسعة ، إلا وأنت تعني : تسعة دراهم ، ولو أردتَّ ثياباً ونحوها ، لم يجزْ؛ لأنه إلغازٌ ، و « تِسْعاً » مفعولٌ به ، وازداد : افتعل ، أبدلت التاء دالاً بعد الزاي ، وكان متعدِّياً لاثنين؛ نحو : { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] ، فلما بني على الافتعال ، نقص واحداً .
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية « تسعاً » بفتح التاء كعشرٍ .
قوله : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدَّة من الناس الذين اختلفوا فيها؛ لأنَّه إله السموات والأرض ومدبِّر العالم له غيبُ السَّموات والأرض .
والغَيْبُ : ما يغيب عن إدراكك ، والله - تعالى - لا يغيبُ عن إدراكه شيءٌ ، ومن كان عالماً بغيب السموات والأرض ، يكون عالماً بهذه الواقعة ، لا محالة .
قوله : { أَبْصِرْ بِهِ } : صيغة تعجُّب بمعنى « مَا أبْصرَهُ » على سبيل المجاز ، والهاء لله تعالى ، وفي مثل هذا ثلاثة مذاهب : الأصح : أنه بلفظ الأمر ، ومعناه الخبر ، والباء مزيدة في الفاعل؛ إصلاحاً للفظ أي ما أبصر الله بكلِّ موجودٍ ، وأسمعه بكلِّ مسموعٍ .
والثاني : أنَّ الفاعل ضمير المصدر .
والثالث : أنه ضمير المخاطب ، أي : أوقع أيُّها المخاطب ، وقيل : هو أمر حقيقة لا تعجب ، وأن الهاء تعود على الهدى المفهوم من الكلام .
وقرأ عيسى : « أسْمعَ » و « أبْصرَ » فعلاً ماضياً ، والفاعل الله تعالى ، وكذلك الهاء في « به » ، أي : أبصر عباده وأسمعهم .
وتقدَّم الكلام على هذه الكلمة عند قوله : { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } [ البقرة : 175 ] .
قوله : { مَا لَهُم } أي : ما لأهلِ السموات والأرض .
قوله : « مِنْ دُونهِ » أي : من دون الله .
قوله : « مِنْ وليٍّ » أي من ناصرٍ .
و « مِنْ وليٍّ » يجوز أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مبتدأ .
قوله : « ولا يُشْرِكُ » قرأ ابن عامر بالتاء والجزم [ عطفاً على قوله :

{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ } [ الكهف : 23 ] وقوله : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى } ] أي : ولا تشركْ أنت أيها الإنسانُ ، والباقون بالياء من تحت ، ورفع الفعل ، أي : ولا يشرك الله في حكمه أحداً ، فهو نفيٌ محضٌ .
فصل في المراد بالحكم في الآية
قيل : الحكم ها هنا علم الغيب ، أي : لا يشركُ في علم غيبه أحداً .
وقرأ مجاهد وقتادة : « ولا يُشرِكْ » بالياء من تحت والجزم .
قال يعقوب : « لا أعرف وجهه » . قال شهاب الدين : وجهه أنَّ الفاعل ضميرُ الإنسان ، أضمر للعلم به .
والضمير في قوله « مَا لهُمْ » يعود على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عطية : « وتكون الآية اعتراضاً بتهديد » كأنَّه يعني بالاعتراض : أنهم ليسوا ممَّن سيق الكلام لأجلهم ، ولا يريد الاعتراض الصِّناعي .
فصل
قوله : { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ } .
قيل : ما لأصحاب الكهف من دون الله وليٌّ؛ فإنَّه هو الذي يتولَّى حفظهم في ذلك النَّوم الطَّويل .
وقيل : ليس لهؤلاءِ القوم المختلفين في مدَّة لبث أصحاب الكهف وليٌّ من دون الله ، يتولَّى أمرهم ، ويقيم لهم تدبير أنفسهم ، فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه ، فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه؟! .
فصل
واختلفوا في زمن أصحاب الكهف وفي مكانهم ، فقيل : كانوا قبل موسى - عليه الصلاة والسلام - وأنَّ موسى صلى الله عليه وسلم ذكرهم في التَّوراة ، فلهذا سأل اليهودُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصَّتهم .
وقيل : دخلوا الكهف قبل المسيح ، وأخبر المسيحُ بخبرهم ، ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى ، وبين محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إنَّهم دخلوا الكهف بعد الميسح ، حكى هذا القول القفَّال عن محمد بن إسحاق ، وذكر أنهم لم يموتوا ، ولا يموتون إلى يوم القيامة .
وأمَّا مكان الكهف ، فحكى القفَّال عن محمد بن موسى الخُوارزميِّ المنجم : أن الواثق أنفذه؛ ليعرف حال أصحاب الكهف من ملك الرُّوم ، قال : فوجَّه ملكُ الرُّوم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه .
وقيل : إنَّ الرجل قال : إنَّ الرجل الموكَّل بذلك الموضع فزَّعني من الدُّخول عليهم ، قال : فدخلت فرأيت الشُّعور على صدورهم .
قال : وعرفت أنَّ ذلك تمويهٌ واحتيالٌ ، وأنَّ الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة؛ لتصونها عن البلاء؛ كالتلطيخ بالصَّبر وغيره .
قال القفَّال : والذي عندنا أنَّ موضع أصحاب الكهف لا يعرف ، ولا عبرة بقول أهل الرُّوم ، وذكر الزمخشري عن معاوية « أنَّه لما غزا الرُّومَ ، فمرَّ بالكهف ، فقال : لو كشف عن هؤلاء ، ننظر إليهم ، فقال له ابن عباس : أيُّ شيءٍ لك في ذلك؟ قد منع الله من هو خيرٌ منك ، فقال : { لَو اطَّلعتَ عَليْهِمْ ، لولَّيتَ مِنهُمْ فِراراً ، ولمُلِئْتَ مِنهُمْ رُعْباً } .
فقال : لا أنتهي عن ذلك ، حتَّى أعلم حالهم ، فبعث أناساً ، فقال : اذهبوا ، فانظروا ، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً ، [ فأخرجتهم ] » .

فصل
قال ابن الخطيب : والعلم بذلك الزَّمان ، وذلك المكان ، ليس للعقل فيه مجالٌ ، وإنما يستفاد ذلك من نصٍّ ، وهو مفقودٌ؛ فثبت أنَّه لا سبيل إليه .
قال ابن الخطيب : هذه السورة الثلاث اشتملت كلُّ واحدة منها على حصول حالةٍ غريبةٍ عجيبةٍ نادرةٍ في هذا العالم : سورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بالجسد الشريف صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الشَّام ، وهي حالة عجيبة ، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدَّة ثلاثمائة سنةٍ ، وأزيد ، وهي أيضاً حالة عجيبة وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب ، وهي أيضاً حاله غريبة والمعتمد في بيان هذه العجائب ، والغرائب المذكورة : أنَّه تعالى قادر على كلِّ الممكنات ، عالمٌ بجميع المعلومات من الجزئيات والكليَّات ، فإنَّ كلَّ ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات .
وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث ، ولما كان قادراً على الكل وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن ، فكذلك بقاؤهُ مدة ثلاثمائة سنةٍ ، يوجب أن يكون ممكناً ، بمعنى : أن إله العالم يحفظه عن الآفةِ .
وأما الفلاسفةُ فإنهم يقولون : لا يبعد وقوع أشكالٍ فلكية غريبة توجب في عالم الكون والفساد حصول أحوالٍ غريبة نادرة ، وذكر أبو علي بن سفيان في « باب الزَّمان » من كتاب « الشِّفا » أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المباطيل حالةٌ شبيهة بأصحاب الكهف .
قال ابن سينا : ويدلُّ التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف .
قوله تعالى : { واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ } الآية .
اعلم أن كفَّار قريش اجتمعوا ، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الذين آمنوا بك ، فنهاهُ الله عن ذلك ، وبيّن في هذه الآيات أنَّ الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد ، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً ، وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه ، ولا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنتهم ، فقال : { واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ } أي التزم قراءة الكتاب الذي أوحي إليك والزم العمل به { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي : لا مغيِّر للقرآن ، وهذه آية تدل على أنه لا يجوز تخصيص النصِّ بالقياس؛ لأن معنى الكلام : الزم العمل بمقتضى هذا الكتاب ، وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره .
فإن قيل : فيجب ألا يتطرَّق النسخ إليه أيضاً .
فالجواب : أن هذا مذهبُ أبي مسلم الأصفهاني ، وليس ببعيد ، وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديلٍ؛ لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ ، فالناسخ كالمغاير ، فكيف يكون تبديلاً؟ ثم قال : { ولن تَجدِ مِنْ دُونهِ مُلتحداً } أي : ملجأ ، قال أهل اللغة : هو من لحد وألحد : إذا مال ، ومنه قوله

{ الذين يُلْحِدُونَ } [ فصلت : 40 ] والملحدُ : الماثل عن الدِّين .
قال ابن عباس : حرزاً .
وقال الحسن : مدخلاً .
وقال مجاهد : ملجأ .
وقيل : ولن تجد من دونه ملتحداً في البيان والإرشاد .
قوله : { واصبر نَفْسَكَ } أي : احبسها وثبتها قال أبو ذؤيب : [ الكامل ]
3507ب- فَصَبرْتُ نَفْساً عِنْدَ ذلِكَ حُرَّة ... تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجَبانِ تَطلَّعُ
وقوله : « بالغَداةِ » تقدَّم الكلام عليها في الأنعام .
فصل في نزول الآية
نزلت في عيينة بن حصن الفزاريِّ ، أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم ، وعنده جماعةٌ من الفقراءِ فيهم سلمان ، وعليه شملةٌ قد عرق فيها ، وبيده خوصةٌ يشقها ، ثم ينسجها؛ فقال عيينة للنبي صلى الله عليه وسلم : أما يؤذيكَ ريحُ هؤلاء؟ ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا ، أسلم الناس ، وما يمنعنا من اتِّباعِكَ إلاَّ هؤلاء ، حتى نتبعك ، واجعل لنا مجلساً ، ولهم مجلساً ، فأنزل الله تعالى : { واصبر نَفْسَكَ } ، أي : احبسْ يا محمد نفسك { مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي } طرفي النَّهار ، { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : يريدون الله ، لا يريدون به عرضاً من الدنيا .
وقال قتادة : نزلت في أصحاب الصُّفة ، وكانوا سبعمائة رجلٍ فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجارة ، ولا إلى زرع ، يصلُّون صلاة ، وينتظرون أخرى ، فلما نزلت هذه الآية ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : « الحمد لله الذي جعل في أمَّتي من أمرتُ أن أصبر نفسي معهم » . وهذه القصة منقطعة عما قبلها ، وكلامٌ مفيدٌ مستقلٌّ ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأنعام ، وهو قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } [ الأنعام : 52 ] ففي تلك الآية نهى الرسول - عليه السلام - عن طردهم ، وفي هذه الآية أمرهُ بمجالستهم والمصابرة معهم .
فصل في قراءات الآية
قرأ ابن عامر بالغداة والعشيّ ، بضمِّ الغين ، والباقون بالغَداة ، وهما لغتان ، فقيل : المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كلِّ الأوقاتِ كقول القائل : ليس لفلانٍ عمل بالغداة والعشيِّ إلاَّ شتم الناس ، وقيل : المراد صلاة الفجر والعصر .
وقيل : المراد الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النَّوم إلى اليقظة ، ومن اليقظة إلى النَّوم .
قوله : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن مفعوله محذوف ، تقديره : ولا تعد عيناك النظر .
والثاني : أ ، ه ضمِّن معنى ما يتعدَّى ب « عَنْ » قال الزمخشريُّ : « يقال : عدَّاه ، أي : جاوزه فإنما عدِّي ب » عَنْ « لتضمين » عَدا « معنى نبا وعلا في قولك : نَبتْ عنه عينه ، وعلتْ عنه عينه ، إذا اقتحمته ، ولم تعلق به ، فإن قيل : أي غرضٍ في هذا التضمين؟ وهلاَّ قيل : ولا تعدهم عيناك ، أو : ولا تعل عيناك عنهم؟ فالجواب : الغرض منه إعطاءُ مجموع معنيين ، وذلك أقوى من إعطاء معنى [ فذٍّ ] ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : ولا تقتحمهم عيناك متجاوزتين إلى غيرهم ، ونحوه

{ وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] ، أي : لا تضمُّوها إليها آكلين لها « .
وردَّه أبو حيان : بأنَّ مذهب البصريين أن التضمين لا ينقاس ، وإنما يصار إليه عند الضرورة ، فإذا أمكن الخروج عنه ، فلا يصار إليه .
وقرأ لحسن » ولا تُعدِ عَينَيْكَ « من أعدى رباعيًّا ، وقرأ هو ، وعيسى ، والأعمش » ولا تُعدِّ « بالتشديد ، من عدَّى يعدِّي مضعفاً ، عدَّاه في الأولى بالهمزة ، وفي الثانية بالتثقيل؛ كقول النابغة : [ البسيط ]
3508- فَعدِّ عَمَّا تَرَى إذْ لا ارتِجاعَ لهُ ... وانْمِ القُتودَ على عَيْرانةٍ أجُدِ
كذا قال الزمخشري ، وأبو الفضل ، وردَّ عليهما أبو حيان : بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزة ، أو التضعيف ، لتعدَّى لاثنين؛ لأنه قبل ذلك متعد لواحد بنفسه ، وقد أقرَّ الزمخشري بذلك؛ حيث قال : » يقال : عداهُ إذا جاوزه ، وإنَّما عدِّي ب « عن » لتضمنه معنى علا ، ونبا « فحينئذٍ يكون » أفْعلَ « و » فعَّل « ممَّا وافقا المجرَّد وهو اعتراضٌ حسنٌ .
فصل
يقال : عدَّاه ، إذا جاوزه ، ومنه قولهم : عدا طورهُ ، وجاءني القومُ عدا زيداً؛ لأنَّها تفيد المباعدة ، فكأنَّه تعالى نهى نبيَّه عن مباعدتهم ، والمعنى : لا تزدري فقراء المؤمنين ، ولا تثني عينيك عنهم؛ لأجل مجالسته الأغنياء .
ثم قال : » تُريدُ « جملة حالية ، ويجوز أن يكون فاعل » تريدُ « المخاطب ، أي : تريد أنت ، ويجوز أن يكون ضمير العينين ، وإنما وحِّد؛ لأنهما متلازمان يجوز أن يخبرَ عنهما خبر الواحد ، ومنه قول امرئ القيس : [ الهزج ]
3509- لِمَنْ زُحلوفَةٌ زُلُّ ... بِهَا العَيْنانِ تَنهَلُّ
وقول الاخر : [ الكامل ]
3510- وكَأنَّ في العَيْنينِ حبَّ قَنْفُلٍ ... أو سُنْبُلاً كُحلَْ بِهِ فانهَلَّتِ
وفيه غير ذلك ، ونسبة الإرادة إلى العينين مجازٌ ، وقال الزمخشري : » الجملة في موضع الحال « قال أبو حيان : » وصاحبُ الحال ، إن قدِّر « عَيْناكَ » فكان يكون التركيبُ : يريدان « . قال شهاب الدين : غفل عن القاعدة المتقدِّمة : من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يخبر عنهما إخبار الواحد ، ثم قال : » وإن قدَّر الكاف ، فمجيءُ الحال من المجرورِ بالإضافة نحو هذا فيه إشكالٌ؛ لاختلاف العامل في الحال ، وذي الحال ، وقد أجاز ذلك بعضهم ، إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزءِ ، وحسَّن ذلك أنَّ المقصود هو نهيه - عليه الصلاة والسلام - وإنما جيء بقوله « عَيْناكَ » والمقصود هو؛ لأنَّهما بهما تكونُ المراعاة للشخص والتلفُّتُ له « .
قال شهاب الدين : وقد ظهر لي وجهٌ حسنٌ ، لم أر غيري ذكره : وهو أن يكون » تَعْدُ « مسنداً لضمير المخاطب صلى الله عليه وسلم ، و » عَيْناَ « بدلا من الضمير ، بدل بعض من كل ، و » تُرِيدُ « على وجهيها من كونها حالاً من » عَيْناكَ « أو من الضمير في » تَعْدُ « إلا أن في جعلها حالاً من الضمير في » ولا تعدُ « ضعفاً؛ من حيث إنَّ مراعاة المبدل منه بعد ذكر البدل قليلٌ جدًّا ، تقول : » الجاريةُ حسنها فاتنٌ « ولا يجوز » فَاتِنةٌ « إلاَّ قليلاً ، كقوله :

3511أ- فَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّراة كأنَّهُ ... مَا حَاجِبَيْهِ مُعيَّنٌ بِسوَادِ
فقال : « مُعيَّنٌ » مراعاة للهاء في « كَأنَّه » وكان الفصيحُ أن يقول : « مُعيَّنانِ » مراعاة لحاجبيه الذي هو البدل .
فصل
{ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } ، أي تطلب مجالسة الأغنياء ، والأشراف ، وصحبة أهل الدنيا ، ولما جاء أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين ، نهاه عن الالتفات إلى قول الأغنياء والمتكبرين ، فقال : { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } يعني عيينة بن حصين ، وقيل : أميَّة بن خلف ، { واتبع هَوَاهُ } في طلب الشَّهوات { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } قال قتادة ومجاهد : ضياعاً .
وقيل : ندماً ، وقال مقاتلٌ : سرفاً .
وقال الفراء : متروكاً .
وقيل : باطلاً .
وقال الأخفش : مجاوزاً للحدِّ .
قوله : « أغْفَلنَا قَلبَهُ » العامة على إسناد الفعل ل « ن » و « قلبهُ » مفعول به .
وقرأ عمرو بن عبيد ، وعمرو بن فائد ، وموسى الأسواري بفتح اللام ، ورفع « قَلبهُ » أسندوا الإغفال إلى القلب ، وفيه أوجهٌ ، قال ابن جنِّي : من ظنَّنا غافلين عنه . وقال الزمخشريُّ : « من حَسِبنَا قلبُه غافلينَ ، من أغفلته ، إذا وجدته غافلاً » . وقال أبو البقاء : فيه وجهان :
أحدهما : وجدها قلبه معرضين عنه .
والثاني : أهمل أمرنا عن تذكُّرنا .
قوله : « فرطاً » يحتمل أن يكون وصفاً على « فعل » كقولهم : « فَرسٌ فرط » ، أي : متقدِّمٌ على الخيل ، وكذلك هذا ، أي : متقدِّماً للحقِّ ، وأن يكون مصدراً بمعنى التفريط ، أو الإفراط ، قال ابن عطيَّة : الفرط : يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتَّضييع ، أي : أمرهُ الذي يجب أن يلزم ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف .
قال الليث : الفرط : الأمرُ الذي يفرط فيه ، يقال : كلُّ أمر فلانٍ فرطٌ ، وأنشد : [ الهزج ]
3511ب- لَقدْ كَلَّفْتنِي شَطَطَا ... وأمْراً خائباً فُرُطا
فصل
دلَّت هذه الآية على أنذَه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهَّال .
قالت المعتزلة : المراد بقوله : { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } : وجدنا قلبه غافلاً ، وليس المراد منه : خلق الغفلة .
ويدلُّ عليه ما روي عن عمرو بن معدي كرب الزبيديِّ أنَّه قال لبني سليم : « قَاتَلنَاكُمْ فَما أجَبْنَاكُمْ ، وسَألناكُمْ فَما أبْخَلْناكُمْ ، وهَجرْنَاكُمْ فمَا أفْحَمناكُمْ » أي ما وجدناكم جبناء ، ولا بخلاء ، ولا مفحمين .
وحمل اللفظ على هذا المعنى أولى؛ لوجوه :
الأول : لو كان كذلك ، لما استحقُّوا الذمَّ .
الثاني : أنه قال بعد هذه الآية { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه ، لما صحَّ ذلك .

الثالث : أنه لو خلق الغفلة في قلبه ، لوجب أن يقال : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، فاتبع هواهُ؛ لأن على هذا التقدير : يكون ذلك من أفعالش المطاوعة ، وهي إنما تعطف بالفاءِ ، لا بالواو ، يقال : كسرتهُ ، فانكسر ، ودفعته فاندفع ، ولا يقال : وانكسر ، واندفع .
الرابع : قوله : { واتبع هَوَاهُ } فلو أغفل قلبهم في الحقيقة ، لم يجز أن يضاف ذلك إلى { واتبع هَوَاهُ } .
والجواب عن الأول من وجهين :
الأول : أن الاشتراك خلاف الأصل ، فوجب أن يكون حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر ، وجعله حقيقة ف يالتكوين ، مجازاً في الوجدان أولى من العكس؛ لوجوه :
أحدها : مجيءُ بناءِ الأفعال بمعنى التَّكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان ، والكثرة دليلٌ على الرُّجحان .
وثانيها : أن مبادرة الفهم من هذا البناءِ إلى التَّكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان ، ومبادرة الفهم دليل الرجحان .
وثالثها : إنَّ جَعْلَنا إيَّاه حقيقة في التكوين أمكن من جعله مجازاً عن الوجدان؛ لأنَّ العلم بالشيء تابعٌ لحصول المعلوم ، فجعل اللفظ حقيقة في المتبوعِ مجازاً في التَّبع موافقٌ للمعقول ، أمَّا لو جعلناه حقيقة ف يالوجدان ، مجازاً في الإيجاد ، لزم جعله حقيقة في التَّبع مجازاً في الأصل ، وهو عكسُ المعقول .
والوجه الثاني من الجواب : سلَّمنا كون اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان ، إلاَّ أنَّا نقول : يجب حمل قوله : « أغْفَلْنَا » على إيجاد الغفلة؛ لأنَّ الدليل دلَّ على أنَّه يمتنع كون العبدُ موجداً للغفلة في نفسه؛ لأنَّه إذا حاول إيجاد الغفلة ، فإمَّا أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة ، أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معيَّن ، والأول باطلٌ ، وإلاَّ لم يكن حصول الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن يحصل له الغفلة عن شيءٍ آخر؛ لأنَّ الطبيعة المشتركة فيها بين الأنواعِ الكثيرةِ تكون نسبتها إلى كلِّ تلك [ الأنواع ] على السويَّة .
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ الغفلة عبارةٌ عن غفلة لا تمتاز عن سائر الأقسام ، إلاَّ بكونها منتسبة غلى ذلك الشيء المعيَّن بعينه ، فعلى هذا : لا يمكن أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا ، إلاَّ إذا تصوَّر العلم أن كون تلك الغفلة غفلة عن كذا ، ولا يمكنه أن يتصوَّر تلك الغفلة غفلة عن كذا إلاَّ إذا تصوَّر كذا؛ لأنَّ العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروطٌ بتصوُّر كلِّ واحد من المنتسبين؛ فثبت أنَّه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة ، إلاَّ عند الشعور بكذا ، لكن الغفلة عن كذا ضدُّ الشعور بكذا؛ فثبت أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه الغفلة إلاَّ عند اجتماع الضدين ، وذلك محالٌ ، والموقوف على المحال محالٌ ، فثبت أنَّ العبد غير قادرٍ على إيجاد الغفلة؛ فوجب أن يكون خالقُ الغفلة وموجدها في العباد هو الله تعالى ، وأما المدحُ والذمُّ فمعارضٌ بالعلم والدَّاعي ، وقد تقدَّم .

وأما قوله : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] فسيأتي الكلام عليه ، إن شاء الله تعالى .
وأما قولهم : لو كان المراد إيجاد الغفلة ، لوجب ذكر الفاء ، فهذا إنَّما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتِّباع الشَّهوة والهوة ، كما أن الكسر من لوازمه حصول الانكسار ، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى؛ لاحتمال أن يصير غافلاً عن ذكر الله ، ولا يتَّبع الهوى ، بل يبقى متوقِّفاً حيراناً مدهوشاً خائفاً .
وذكر القفَّال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوهاً :
أحدها : أنه تعالى ، لما صبَّ عليهم الدنيا صبًّا ، وأدَّى ذلك إلى حصول الغفلة في قلوبهم ، صحَّ أن يقال : إنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم ، كقوله تعالى : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَارا } [ نوح : 6 ] .
وثانيها : أن معنى { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } أي : تركناه ، فلم نسمهُ بسمةِ أهل الطَّهارة والتقوى .
وثالثها : { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } أي خلاَّه مع الشيطان ، ولم يمنعه منه . والجواب عن الأول : أنَّ فتح أبواب لذَّات الدنيا عليه ، هل يؤثِّر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر؟ فإن أثر ، كان أثر إيصال اللذَّات إليه سبباً لحصول الغفلة في قلبه ، وذلك عينُ القول بأنه فعل الله ، أي : فعل ما يوجب الغفلة في قلبه ، وإن لم يؤثِّر في حصول الغفلة ، فبطل إسناده غليه ، وعلى الثاني وهو أنَّه بمعنى تركناه فهو لا يفيدُ إلاَّ ما ذكرناه .
وعن الثالث : إن كانت للتَّخلية؛ بمعنى حصول تلك الغفلة ، فهو قولنا ، وإلاَّ بطل إسناد تلك الغفلة إلى الله تعالى .
قوله تعالى : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ } الآية .
في تقرير النَّظم وجوهٌ :
الأول : أنه تعالى ، لمَّا أمر رسوله ألا يلتفت إلى قول الأغنياء ، قال : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ } الآية أي : قل لهؤلاء : هذا الدِّين الحق من عند الله تعالى ، فإن قبلتموه ، عاد النَّفع عليكم ، وإن لم تقبلوهُ ، عاد الضَّرر إليكم ، ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى .
والثاني : أنَّ المراد أنَّ الحقَّ ما جاء من عند الله ، والحقَّ الذي جاءنا من عنده أن أصير نفسي مع هؤلاء الفقراء ، ولا أطردهم ، ولا ألتفت إلى الرؤساء ، [ ولا أنظر إلى ] أهل الدنيا .
والثالث : أن يكون المراد هو أنَّ الحقَّ الذي جاء من عند الله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } وأنَّ الله تعالى لم يأذن في طرد أحدٍ ممَّن آمن وعمل صالحاً؛ لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار .
فإن قيل : أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهمِّ ، وطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلاَّ سقوط حرمتهم ، وهذا ضررٌ قليلٌ .
وأما عدم طردهم ، فإنَّه يوجبُ بقاء الكفَّار على الكفر ] ، لكن من ترك الإيمان؛ حذراً من مجالسة الفقراء ، فإنَّ إيمانهُ ليس بإيمان ، بل هو نفاقٌ؛ فيجب على العاقل ألاَّ يلتفت إلى من هذا حاله .

الرابع : قل يا محمد للَّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : يا أيُّها الناس ، من ربكم الحقُّ ، وإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضَّلال ، ليس إليَّ من ذلك شيءٌ ، وقد بعثتُ إلى الفقراءِ والأغنياء { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } وهذا على طريق التهديد والوعيد ، كقوله { اعملوا مَا شِئْتُم } [ فصلت : 40 ] والمعنى : لست بطارد المؤمنين لهواكم ، فإن شئتم ، فآمنوا ، وإن شئتم ، فاكفروا .
قال ابن عبَّاس : معنى الآية : من شاء الله له الإيمان ، آمن ، ومن شاء له الكفر ، كفر .
فصل
قالت المعتزلة : هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الإيمان والكفر والطاعة والمعصية باختيار العبد .
قال ابن الخطيب : وهذه الآية من أقوى الدَّلائلِ على صحَّة مذهب أهل السُّنَّة؛ لأنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ حصول الإيمان ، وحصول الكفر موقوفان على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر ، وصريح العقل يدلُّ على أنَّ الفعل الاختياريَّ يمتنع حصوله بدون القصد إليه ، وبدون الاختيار .
وإذا عرفت هذا ، فنقول : حصول ذلك القصد والاختيار ، إن كان بقصدٍ آخر يتقدَّمه ، لزم أن يكون كلُّ قصدٍ واختيارٍ مسبوقاً بقصدٍ آخر ، واختيارٍ آخر إلى غير نهاية ، وهو محالٌ؛ فوجب انتهاء ذلك القصد والاختيار إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة ، وعند حصول ذلك القصد الضروريِّ ، والاختيار الضروريِّ ، يجب الفعل؛ فالإنسان شاء أو لم يشأ ، فإنه تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعاصي ، وإذا حصلت تلك المشيئةُ الجازمةُ ، فشاء أو لم يشأ ، يجب حصول الفعل ، فالإنسان مضطرٌّ في صورة مختار .
فصل
دلَّت الآية على أنَّ صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والدَّاعي محالٌ ، وعلى أنَّ صيغة الأمر لا لمعنى الطَّلب في كتاب الله كثيرةٌ .
قال عليٌّ - رضي الله عنه- : هذه الصيغة تهديدٌ ووعيدٌ ، وليست تخييراً .
ودلَّت أيضاً على أنَّه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ، ولا يتضرر بكفر الكافرين ، بل نفع الإيمان يعود عليهم ، وضرر الكفر يعود عليهم؛ لقوله تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَ } [ الإسراء : 7 ] .
قوله : { وَقُلِ الحق } : يجوز فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه خبر لمبتدأ مضمرٍ ، أي : هذا ، [ أي ] القرآن ، أو ما سمعتم الحقُّ .
الثاني : أنه فاعل بفعلٍ مقدرٍ ، دلَّ عليه السياقُ ، أي : جاء الحق ، كما صرَّح به في موضع آخر [ في الآية 81 من الإسراء ] ، إلاَّ أنَّ الفعل لا يضمر إلاَّ في مواضع تقدَّم التنبيه عليها ، منها : أن يجاب به استفهام ، أو يردَّ به نفي ، أو يقع بعد فعلٍ مبني للمفعول ، لا يصلح إسناده لما بعده؛ كقراءة : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 36 ] كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى .
الثالث : أنه مبتدأ ، وخبره الجار بعده .
وقرأ أبو السمال قعنب : « وقُلُ الحقَّ » بضم اللام؛ حيث وقع ، كأنه إتباعٌ لحركة القاف ، وقرأ أيضاً بنصب « الحقَّ » قال صاحب « اللَّوامح » : « هو على صفة المصدر المقدَّر؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على مصدره ، وإن لم يذكر ، فينصبه معرفة ، كما ينصبه نكرة ، وتقديره : وقل القول الحقَّ ، وتعلق » مِنْ « بمضمرٍ على ذلك ، أي : جاء من ربكم » انتهى .

وقرأ الحسن والثقفي بكسر لامي الأمر ، في قوله : « فليُؤمِنْ » و « فَليَكْفُرْ » وهو الأصل .
قوله : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن } يجوز في « مَنْ » أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، والفاء لشبهه بالشرط ، وفاعل « شَاءَ » : الظاهر أنه ضمير يعود على « مَنْ » وقيل : ضمير يعود على الله ، وبه فسَّر ابن عباس ، والجمهور على خلافه .
قوله : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً } أعددنا وهيَّأنا ، من العتاد ، ومن العدَّة { لِلظَّالِمِينَ } للكافرين ، أي : لمن ظلم نفسه ، ووضع العبادة في غير موضعها .
واعلم أنَّه تعالى ، لمَّا وصف الكفر والإيمان ، والباطل والحق ، أتبعه بذكر الوعيد على الكفر ، وبذكر الوعد على الإيمان ، و العمل الصَّالح .
قوله : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } في محل نصبٍ ، صفة ل « ناراً » والسُّرادِقُ : قيل : ما أحاط بشيءٍ ، كالمضرب والخباءِ ، وقيل للحائط المشتمل على شيء : سُرادق ، قاله الهوريّ ، وقيل : هو الحجرة تكون حول الفسطاطِ ، وقيل : هو ما يمدُّ على صحنِ الدار ، وقيل : كل بيتٍ من كرسفٍ ، فهو سرادق ، قال رؤبة : [ الرجز - السريع ]
3512- يَا حكمُ بْنَ المُنذِرِ بْنِ الجَارُودْ ... سُرَادِقُ المَجْدِ عَليْكَ مَمدُودْ
ويقال : بيت مسردقٌ ، قال الشاعر : [ الطويل ]
3513- هو المُدخِلُ النُّعْمانَ بيْتاً سَماؤهُ ... صُدورُ الفُيولِ بعد بيتِ مُسرْدَقِ
وكان أبرويز ملك الفرس قد قتل النعمان بن المنذر تحت أرجُلِ الفيلةِ ، والفيول : جمع فيلٍ ، وقيل : السُّرادقُ : الدِّهليزُ ، قال الفرزدق : [ الطويل ]
3514- تَمنَّيْتهُمْ حتَّى إذا مَا لَقِيتَهُم ... تَركْتَ لَهُم قَبْلَ الضِّرابِ السُّرادِقَا
والسُّرادِقُ : فارسي معرب ، أصله : سرادة ، قاله الجواليقيُّ ، وقال الراغب : « السُّرادِقُ فارسيٌّ معربٌ ، وليس في كلامهم اسم مفرد ، ثالث حروفه ألفٌ بعدها حرفان » .
فصل
أثبت تعالى للنَّار شيئاً شبيهاً بالسرادقِ تحيط بهم من سائرِ الجهاتِ ، والمراد : أنهم لا مخلص لهم فيها ، ولا فُرجة ، بل هي محيطة بهم من كلِّ الجوانب .
وقيل : المراد بهذا السُّرادق الدخان الذي وصفه الله تعالى في قوله : { انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَب } [ المرسلات : 30 ] .
وقالوا : هذه الإحاطة بهم إنَّما تكون قبل دخولهم ، فيحيط بهم هذا الدخان كالسرادق حول الفسطاط .
وروى أبو سعيد الخدريُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سُرادِقُ النَّارِ أربعةُ جُدُرٍ ، كِثفُ كلِّ جدارٍ مَسِيرةُ أرْبعِينَ سنةً » .
وقال ابن عبَّاس : السُّرادِقُ حائط .
قوله : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } ، أي : يطلبوا الغوث ، والياء عن واوٍ؛ إذ الأصل : يستغوثوا ، فقلبت الواو ياء كما تقدم في قوله :

{ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 2 ] وهذا الكلام من المشاكلة والتَّجانس ، وإلاَّ فأيُّ إغاثةٍ لهم في ذلك؟ أو من باب التهكُّم؛ كقوله : [ الوافر ]
3515- .. تَحِيَّةُ بينهم ضَرْبٌ وجيعُ
وهو كثيرٌ .
وقوله : « كالمُهْل » صفة ل « ماء » والمهلُ : دُرْدِيُّ الزيت ، وقيل : ما أذيب من الجواهر كالنحاس والرصاص والذهب والفضة .
وعن ابن مسعود أنَّه دخل بيت المال ، وأخرج ذهباً وفضة كانت فيه ، وأوقد عليها ، حتَّى تلألأتْ ، وقال : هذا هو المهل .
وقيل : هو الصَّديد والقيح .
وقيل : ضرب من القطران ، والمَهَل بفتحتين : التُّؤدَةُ والوَقارُ ، قال : { فَمَهِّلِ الكافرين } [ الطارق : 17 ] .
قوله : « يَشوي الوجوه » يجوز أن تكون الجملة صفة ثانية ، وأن تكون حالاً من « ماء » لأنه تخصَّص [ بالوصف ] ، ويجوز أن تكون حالاً من الجارِّ ، وهو الكاف .
والشَّيءُ : الإنضاجُ بالنار من غير مرقةٍ ، تكون مع ذلك الشيء المشويِّ .
فصل
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « بِماءِ كالمُهْلِ » قال : كعكر الزَّيت ، فإذا قرِّب إليه ، سقطت فروة وجهه فيه .
وسئل ابن مسعود عن المهل ، فدعا بذهب وفضة ، فأوقد عليهما النَّار ، حتَّى ذابا ، ثم قال : هذا أشبه شيءٍ بالمهل .
قيل : إذا طلبوا ماء للشُّرب ، فيعطون هذا المهل .
قال تعالى : { تصلى نَاراً حَامِيَةً تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [ الغاشية : 4 ، 5 ] .
وقيل : إنَّهم يستغيثون من حرِّ جهنَّم ، فيطلبون ما ء يصبونه على وجوههم للتبريد ، فيعطون هذا الماء؛ كما حكى عنهم قولهم : { أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء } [ الأعراف : 50 ] .
قوله : { بِئْسَ الشراب } المخصوص محذوف ، تقديره : هو ، أي : ذلك الماء المستغاث به .
قوله : { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } « ساءت » هنا متصرفة على بابها ، وفاعلها ضمير النار ، ومرتفقاً تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية ، أي : ساء ، وقبح مرتفقها . والمُرتَفقُ : المُتَّكأ ومنه سمي المرفق مرفقاً؛ لأنه يتكأ عليه ، وقيل : المنزل قاله ابن عبَّاس .
وقال مجاهد : مجتمعاً للرُّفقة؛ لأنَّ أهل النَّار يجتمعون رفقاء ، كما يجتمع أهل الجنَّة رفقاء .
فأمَّا رفقاء أهل الجنَّة ، فهم الأنبياءُ والصِّديقُون والشُّهداء والصالحون { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] .
وأما رفقاء النَّار ، فهم الكفَّار والشَّياطين ، أي : بئسَ الرفقاءُ هؤلاءِ ، وبئس موضعُ الترافق النَّار ، كما أنه نعم الرفقاءُ أهل الجنَّة ، ونعم موضع الرفقاء الجنَّة ، قاله ابن عباس وقيل : هو مصدر بمعنى الارتفاق ، وقيل : هو من باب المقابلة أيضاً؛ كقوله في وصف الجنة بعد : { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 31 ] ، وإلاَّ فأيُّ ارتفاقٍ في النار؟ قال الزمخشري : إلا أن يكون من قوله : [ البسيط ]
3516- إنِّي أرِقْتُ قَبِتُّ اللَّيْلَ مُرتفِقاً ... كَأنَّ عينيَّ فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ
فهو يعني من باب التَّهكُّم .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية .
لما ذكر وعيد المبطلين ، أردفه بوعد المحقِّين ، وهذه الآية تدل على أنَّ العمل الصالح مغايرٌ للإيمان؛ لأنَّ العطف يوجب المغايرة .
قوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } : يجوز أن يكون خبر « إنَّ الَّذينَ » والرابط : إمَّا تكرر الظاهر بمعناه ، وهو قول الأخفش ، ومثله في الصلة جائزٌ ، ويجوز أن يكون الرابط محذوفاً ، أي : منهم ، ويجوز أن يكون الرابط العموم ، ويجوز أن يكون الخبر قوله : { أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ } ويكون قوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } اعتراضاً ، قال ابن عطية : ونحوه في الاعتراض قوله : [ البسيط ]
3517- إنَّ الخَلِيفَةَ إنَّ الله ألبَسهُ ... سِربَالَ مُلكٍ بهِ تُزْجَى الخَواتِيمُ
قال أبو حيَّان : ولا يتعيَّنُ أن يكون « إنَّ الله ألبسَهُ » اعتراضاً؛ لجواز أن يكون خبراً عن « إنَّ الخليفة » . قال شهاب الدين : وابن عطيَّة لم يجعل ذلك معيَّناً بل ذكر أحد الجائزين فيه ، ويجوز أن تكون الجملتان- أعني قوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } وقوله { أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ } - خبرين ل « إنَّ » عند من يرى جواز تعدد الخبر ، وإن لم يكونا في معنى خبر واحد .
وقرأ الثقفيُّ « لا نُضيِّعُ » بالتشديد ، عدَّاه بالتشديد ، كما عدَّاه الجمهور بالهمزة .
وقيل : ولك أن تجعل « أولئك » كلاماً مستأنفاً بياناً للأجرِ المبهمِ .
فصل
قال ابن الخطيب : قوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } ظاهره يقتضي أنَّه استوجب المؤمن على الله بحسن عمله أجراً ، وعندنا الاستيجاب حصل بحكم الوعد . وعند المعتزلة : بذات الفعل ، وهو باطلٌ؛ لأنَّ نعم الله كثيرةٌ ، وهي موجبةٌ للشكر والعبوديَّة ، فلا يصير الشُّكر والعبودية بموجبٍ لثوابٍ آخر؛ لنَّ أداء الواجب لا يوجبُ شيئاً آخر .
واعلم أنَّه تعالى ، لمَّا أثبت الأجر المبهم ، أردفه بالتفصيل ، فبيَّن أولاً صفة مكانهم ، فقال : { أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } والعدنُ في اللغة عبارة عن الإقامة ، يقال : عدن بالمكان ، إذا أقام به ، فيجوز أن يكون المعنى : أولئك لهم جنات إقامة [ كما يقال : دار إقامة ]
ويجوز أن يكون العدن اسماً [ الموضع ] معيَّن في الجنَّة ، وهو وسطها .
وقوله : « جنَّاتُ » اسم مع ، فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] ثم قال : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 62 ] ويمكن أ ، يكون المراد نصيب كلِّ واحدٍ من المكلَّفين جنَّة على حدةٍ ، ثم ذكر أنَّ من صفات تلك الجنات أنَّ الأنهار تجري من تحتها ، وذلك لأنَّ أحسن مساكن الدنيا البساتين التي تجري فيها الأنهار ، ثمَّ ذكر ثانياً أنَّ لباسهم فيها ينقسم قسمين : لباسُ التستُّر ، ولباس التحلِّي .
فأمَّا لباس التحلِّي فقال : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } فقيل : على كلِّ واحد منهم ثلاثة أسورة : سوارٌ من ذهبٍ لهذه الآية ، وسوار من فضَّة؛ لقوله :

{ وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } [ الإنسان : 21 ] ، وسوار من لؤلؤ؛ لقوله { وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] .
وأمَّا لباسُ التستُّر ، فلقوله : { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } .
فالأول : هو الدِّيباجُ الرَّقيق .
والثاني : هو الديباجُ الصَّفيق .
وقيل : أصله فارسيٌّ معرَّبٌ ، وهو « إستبره » : أي غليظٌ .
قوله : { مِنْ أَسَاوِرَ } : في « مِنْ » هذه أربعة أوجه :
الأوّل : أنها للابتداءِ .
والثاني : أنها للتبعيض .
والثالث : أنها لبيان الجنس ، أي : أشياء من أساور .
والرابع : أنها زائدة عند الأخفش؛ ويدلُّ عليه قوله : { وحلوا أَسَاوِرَ } [ الإنسان : 21 ] . [ ذكر هذه الثلاثة الأخيرة أبو البقاء ] .
وأساور جمع أسورةٍ ، [ وأسْوِرَة ] جمع سِوار ، كحِمار وأحْمِرة ، فهو جمع الجمع . وقيل : جمع إسوارٍ ، وأنشد : [ الرجز ]
3518- واللهِ لَوْلاَ صِبْيَةٌ صِغَارُ ... كَأنَّمَا وجُوهُهمْ أقْمَارُ
أخَافُ أنْ يُصِيبَهُمْ إقْتَارُ ... أو لاطِمٌ ليْسَ لهُ إسْوَارُ
لمَّا رَآنِي مَلِكٌ جَبَّارُ ... بِبَابهِ مَا طَلَعَ النَّهارُ
وقال أبو عبيدة : هو جمع « إسوارٍ » على حذف الزيادة ، وأصله أساوِيرُ .
وقرأ أبان ، عن عاصم « أسْوِرَة » جمع سوارٍ ، وستأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف [ الزخرف : 30 ] هاتان القراءتان في المتواتر ، وهناك يذكر الفرق إن شاء الله تعالى .
والسِّوارُ يجمع في القلَّة على « أسْوِرَةٍ » وف يالكثرة على « سُورٍ » بسكون الواو ، وأصلها كقُذلٍ وحُمرٍ ، وإنما سكنت؛ لأجل حرف العلَّة ، وقد يضمُّ في الضرورة ، قال : [ السريع ]
3519- عَنْ مُبرِقاتٍ بالبُرِينِ وتَبْ ... دُو في الأكُفِّ اللامعاتِ سُورْ
وقال أهل اللغة : السِّوارُ : ما جعل في الذِّراعِ من ذهبٍ ، أو فضَّة ، أو نحاسٍ ، فإن كان من عاج ، فهو قلبٌ .
قوله : « مِنْ ذهبٍ » يجوز أن تكون للبيان ، أو للتبعيض ، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ؛ صفة لأساور ، فموضعه جرٌّ ، وأن تتعلق بنفس « يُحلَّوْنَ » فموضعها نصبٌ .
قوله : « ويَلْبَسُونَ » عطف على « يُحلَّوْن » وبني الفعل في التحليةِ للمفعول؛ إيذاناً بكرامتهم ، وأنَّ غيرهم يفعل بهم ذلك ويزيِّنهم به ، كقول امرئ القيس : [ الطويل ]
3520- عَرائِسُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمَةٍ ... يُحلَّيْنَ يَاقُوتاً وشَذْراً مُفقَّرا
اللِّبس ، فإنَّ الإنسان يتعاطاه بنفسه ، وقدِّم التَّحلِّي على اللباس؛ لأنه أشهى للنَّفس .
وقرأ أبان عن عاصم « ويَلْبِسُونَ » بكسر الباء . { مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } « مِنْ » لبيانِ الجنس ، وهي نعتٌ لثياب .
والسُّندسُ : ما رقَّ من الدِّيباج ، والإستبرق : ما غلظ منه وعن أبي عمران الجونيِّ اقل : السُّندسُ : هو الديباجُ المنسوج بالذَّهب ، وهما جمعُ سندسةٍ وإستَبْرقةٍ ، وقيل : ليسا جمعين ، وهل « إسْتَبْرق » عربيُّ الأصل ، مشتقٌّ من البريق ، أو معرب أصله إستبره؟ خلاف بين اللغويين . وقيل : الإستبرق اسم للحرير وأنشد للمرقش : [ الطويل ]
3521- تَراهُنَّ يَلبَسْنَ المشَاعِر مرَّةً ... وإسْتَبْرَقُ الدِّيباجِ طَوراً لِباسُهَا
وهو صالحٌ لما تقدَّم ، وقال ابن حجرٍ : « الإستبرقُ : ما نسج بالذَّهب » .

ووزن سُنْدسٍ : فُعْلُلٌ ، ونونه أصليةٌ .
وقرأ ابن محيصن « واستبرق » بوصل الهمزة وفتح القافِ غير منونة ، فقال ابن جنِّي : « هذا سهوٌ ، أو كالسَّهو » قال شهاب الدين : كأنه زعم أنَّه منعه الصَّرف ، ولا وجه لمنعه؛ لأنَّ شرط منع الاسم الأعجمي : أن يكون علماً ، وهذا اسم جنسٍ ، وقد وجَّهها غيره على أنه جعلها فعلاً ماضياً من « البريق » و « استَفْعَلَ » بمعنى « فعل » المجرد؛ نحو : قرَّ ، واستقرَّ . وقال الأهوازيُّ في « الإقناعِ » : « واسْتَبْرَقَ بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه » وظاهر هذا أنه اسم ، وليس بفعلٍ ، وليس لمنعه وجه؛ كما تقدَّم عن ابن جنِّي ، وصاحب « اللوامح » لمَّا ذكر وصل الهمزة ، لم يزد على ذلك ، بل نصَّ على بقائه منصرفاً ، ولم يذكر فتح القاف أيضاً ، وقال ابنُ محيصنٍ : « واسْتَبْرَق » بوصل الهمزة في جميع القرآن ، فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفاً؛ على غير قياسٍ ، ويجوز أنَّه جعله عربيًّا من بَرِق يبرقُ بريقاً ، ووزنه استفعل ، فلمَّا سمِّي به ، عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ، ومعاملة التمكين من الأسماء في الصَّرف والتنوين ، وأكثر التفاسير على أنَّه عربية ، وليس بمستعربٍ ، دخل في كلامهم ، فأعربوه « .
قوله : » مُتَّكئين « حالٌ ، والأرائِكُ : جمع أريكةٍ ، وهي الأسرَّة ، بشرط أن تكون في الحجالِ ، فإن لم تكن لم تسمَّ أريكة ، وقيل : الأرائكُ : الفرشُ في الحجالِ أيضاً ، وقال الراغب : » الأريكةُ : حجلة على سريرٍ ، فتسميتها بذلك : إمَّا لكونها في الأرض متَّخذة من أراك ، أو من كونها مكاناً للإقامة؛ من قولهم : أَرَكَ بالمكانِ أروكاً ، وأصل الأروكِ الإقامة على رعي الأرَاكِ ، ثم تجوز به في غيره من الإقامات « .
وقرأ ابن محيصن » عَلَّرائِكِ « وذلك : أنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف ، فالتقى مثلان : لام » على « - فإنَّ ألفها حذفت؛ لالتقاء الساكنين - ولام التعريف ، واعتدَّ بحركة النقل ، فأدغم اللام في اللام؛ فصار اللفظ كما ترى ، ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]
3522- فَمَا أصْبحَتْ عَلَّرْضِ نفسٌ بَريئةٌ ... ولا غَيْرُهَا إلاَّ سُليْمَانُ نَالهَا
يريد » عَلَى الأرض « وقد تقدَّم قراءة قريبة من هذه أوَّل البقرة : » بما أنزِلَّيكَ « ، أي : قوله : نعم الثواب » أي : نعم الجزاء .
قوله : { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } مجلساً ، ومقرّاً ، وهذا في مقابلة قوله : { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 29 ] .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)

قوله تعالى : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } الآية .
وجه النَّظم أن الكفار ، لمَّا افتخرُوا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، بيَّن الله تعالى أنَّ ذلك ممَّا لا يوجب الافتخار ، لاحتمال أن يصير الغنيُّ فقيراً ، والفقير غنيًّا ، وأما الذي تجبُ المفاخرةُ به فطاعة الله وعبادته ، وهي حاصلةٌ لفقراءِ المسلمين ، وبيَّن ذلك بضرب هذا المثل؛ فقال : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } أي : مثل حال الكافرين والمؤمنين كحال رجلين ، وكانا أخوين في بني إسرائيل : أحدهما : كافرٌ ، واسمه [ براطوس ] ، والآخر : مؤمنٌ ، اسمه يهوذا ، قاله ابن عباس .
وقال مقاتل : اسم المؤمن تمليخا ، واسم الكافر قطروس .
وقيل : قطفر ، وهما المذكوران في سورة « الصافات » في قوله تعالى : { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين } [ الصافات : 51 ، 52 ] على ما رواه عبد الله بن المبارك عن معمَّرٍ عن عطاءٍ الخراسانيِّ ، قال : كانا رجلين شريكين ، لهما ثمانية آلافِ دينارٍ .
وقيل : كانا أخوين ، وورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينارٍ ، فأخذ كلُّ واحدٍ منهما أربعة آلاف دينارٍ ، فاشترى الكافر أرضاً بألفٍ ، فقال المؤمن : اللَّهم ، إنَّ أخي اشترى أرضاً بألف ، وإنِّي أشتري منك أرضاً بألف في الجنَّة ، فتصدَّق به .
ثم [ بنى ] أخوه داراً بألف ، فقال المؤمن : اللَّهم ، إني أشتري منك داراً بألف في الجنَّة ، فتصدق به .
ثم تزوج أخوه امرأة بألف ، فقال المؤمن : اللَّهم ، إني جعلت ألفاً صداقاً للحور العين ، وتصدَّق به .
ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف دينار ، فقال المؤمن : اللهم ، إنِّي اشتريتُ منك الولدان بألف ، فتصدَّق به ، ثم أحاجه ، أي : أصابه حاجةٌ ، فجلس لأخيه على طريقه ، فمرَّ به في خدمه وحشمه ، فتعرَّض له ، فقال : فلانٌ؟! قال : نعم ، قال : ما شأنك؟ قال : أصابتني حاجةٌ بعدك ، فأتيتك لتصيبني بخير ، قال : ما فعل مالك ، وقد اقتسمنا المال [ سويَّة ] ، فأخذت شطره؟ فقصَّ عليه قصَّتهُ ، قال : إنَّك لمن المصدِّقين ، اذهب ، فلا أعطيك شيئاً .
وقيل : نزلتْ في أخوين من أهل مكَّة من بني مخزوم ، أحدهما : مؤمنٌ ، وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل ، وكان زوج أمِّ سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم والآخر كافرٌ ، وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل .
قوله : { رَّجُلَيْنِ } : قد تقدم أنَّ « ضرب » مع المثل ، يجوز أن يتعدى لاثنين في سورة البقرة ، وقال أبو البقاء : التقدير : مثلاً مثل رجلين ، و « جَعلْنَا » تفسير ل « مَثَل » فلا موضع له ، ويجوز أن يكون موضعه نصباً نعتاً ل « رَجُليْنِ » كقولك : مررتُ برجلين ، جعل لأحدهما جنَّةٌ .
قوله : { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } يقال : حفَّ بالشيء : طاف به من جميع جوانبه ، قال النابغة : [ البسيط ]
3523- يَحُفُّهُ جَانِبَا نِيقٍ وتُتْبِعُهُ ... مِثلُ الزُّجاجةِ لمْ تُكْحَلْ من الرَّمدِ

وحفَّ به القوم : صاروا طائفين بجوانبه وحافَّته ، وحففته به ، أي : جعلته مطيفاً به .
والحِفاف : الجانبُ ، وجمعه أحِفَّةٌ ، والمعنى : جعلنا حول الأعناب النَّخْل .
قال الزمخشريُّ : وهذه الصفة ممَّا يؤثرها الدَّهاقين في كرومهم ، وهو أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة ، وهو أيضاً حسنٌ في [ المنظر ] .
قوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } قيل : كان الزَّرع في وسط الأعناب ، وقيل : كان الزَّرْع بين الجنَّتين ، أي : لم يكن بين الجنتين موضعٌ خالٍ .
والمقصود منه أمورق :
الأول : أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه .
والثاني : أن تكون متَّسعة الأطراف ، متباعدة الأكناف ، ومع ذلك ، لم يتوسَّطها ما يقطع بعضها عن بعض .
والثالث : أنَّ مثل هذه الأرض تأتي كلَّ [ يوم ] بمنفعةٍ أخرى ، وثمرة أخرى فكانت منافعها دارّة متواصفة .
قوله : { كِلْتَا الجنتين } : قد تقدَّم في السورة قبلها [ الإسراء : 23 ] حكم « كلتا » وهي مبتدأ ، و « آتتْ » خبرها ، وجاء هنا على [ الكثير : وهو ] مراعاةُ لفظها ، دون معناها .
وقرأ عبد الله - وكذلك في مصحفه - « كِلا الجنَّتَيْنِ » بالتذكير؛ لأنَّ التأنيث مجازي ، ثم قرأ « آتتْ » بالتأنيث؛ اعتباراً بلفظ « الجَنَّتين » فهو نظير « طَلعَ الشَّمسُ ، وأشْرقَتْ » . وروى الفراء عنه قراءة أخرى : « كُلُّ الجنَّتينِ أتَى أكُلَهُ » أعاد الضمير على اللفظ « أكل » .
واعلم أنَّ لفظ « كل » اسمٌ مفردٌ معرفة يؤكَّد به مذكَّران معرفتان ، و « كِلْتَا » اسمٌ مفردٌ معرفة يؤكَّد به مؤنثان معرفتان ، وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة؛ كقولك : « جَاءنِي كِلاَ أخَويْكَ ، ورَأيْتُ كِلاَ أخَويْكَ ، ومَررْتُ بِكلا أخَويْكَ ، وجَاءنِي كِلْتَا أخْتَيْكَ ، ورأيْتُ كِلْتَا أخْتَيْكَ ، ومَرَرْتُ بِكلْتَا أخْتيْكَ » ، وإذا أضيفا إلى المضمر ، كانا في الرَّفع بالألف ، وفي الجر والنَّصب بالياءِ ، وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً .
فصل
ومعنى { آتَتْ أُكُلَهَا } أعطت كلُّ واحدةٍ من الجنتين { أُكُلَهَا } ثمرها تامًّا ، { وَلَمْ تَظْلِمِ } لم تنقص ، { مِّنْهُ شَيْئاً } والظُّلم : النقصان ، يقول الرَّجُل : ظلمنِي حقِّي ، أي : نقصنِي .
قوله : « وفجَّرنَا » العامة على التشديد ، وإنما كان كذلك ، وهو نهرٌ واحدٌ مبالغة فيه ، وقرأ يعقوب ، وعيسى بن عمر بالتخفيف ، وهي قراءة الأعمش في سورة القمر [ القمر : 12 ] ، والتشديد هناك أظهر لقوله « عُيُوناً » .
والعامة على فتح هاء « نهر » وأبو السَّمال والفيَّاض بسكونها .
قوله : { وَكَانَ لَهُ } أي : لصاحب البستان .
قوله : { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } : قد تقدَّم الكلام فيه في الأنعام [ الأنعام : 99 ] ، وتقدَّم أنَّ « الثُّمُرَ » بالضمِّ المال ، فقال ابن عباس : جميع المال من ذهبٍ ، وفضةٍ ، وحيوانٍ ، وغير ذلك ، قال النابغة : [ البسيط ]
3524- مَهْلاً فِداءً لَكَ الأقْوامُ كُلُّهمُ ... ومَا أثمِّرُ من مالٍ ومِنْ وَلدِ
وقال مجاهد : هو الذهبُ والفضَّة خاصة .

« فقال » يعني صاحب البستان « لصاحبه » أي المؤمن .
« وهو يُحَاوِرهُ » أي : يخاطبه وهذه جملة حاليَّة مبيِّنةٌ؛ إذ لا يلزم من القول المحاورةُ؛ إذ لمحاورة مراجعة الكلام من حار ، أي : رجع ، قال تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الإنشقاق : 14 ] . وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3525- ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئهِ ... يَحُورُ رَماداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ
ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل ، أو من المفعول .
قوله : { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } .
والنَّفَرُ : العشيرة الذين يذبُّون عن الرجل ، وينفرون معه ، وقال قتادة : حشماً ، وخدماً .
وقال مقاتلٌ : ولداً تصديقه قوله : { أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } [ الكهف : 39 ] .
قوله : { جَنَّتَهُ } : إنما أفرد بعد ذكر التثنية؛ اكتفاء بالواحد للعلمِ بالحال ، قال أبو البقاء : كما اكتفى بالواحد عن الجمع في قول الهذليِّ : [ الكامل ]
3526- فَالعيْنُ بَعدهُم كَأنَّ حِداقهَا ... سُمِلتْ بِشوْكِ فهي عُورٌ تَدْمَعُ
ولقائلٍ أن يقول : إنما يجوز ذلك؛ لأنَّ جمع التكسير يجري مجرى المؤنَّثة ، فالضمير في « سُمِلَتْ » وفي « فهي » يعود على الحداقِ ، لا على حدقةٍ واحدة ، كما يوهم .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : لم أفرد الجنَّة ، بعد التثنية؟ قلت : معناه : ودخل ما هو جنَّتهُ ، ما له جنة غيرها ، بمعنى : أنه ليس له نصيب في الجنة الَّتي وعد المتَّقون ، فما ملكه في الدنيا ، فهو جنَّته ، لا غير ، ولم يقصد الجنتين ، ولا واحدة منهما » .
فصل
قال أبو حيان : « ولا يتصوَّر ما قال؛ لأنَّ قوله : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } إخبار من الله تعالى بأنَّ هذا الكافر دخل جنَّته ، فلا بدَّ أن قصد في الإخبار : أنه دخل إحدى جنتيه؛ إذ لا يمكن أن يدخلهما معاً في وقتٍ واحدٍ » . قال شهاب الدين : من ادَّعى دخولهما في وقتٍ واحدٍ ، حتَّى يلزمه بهذا المستحيلِ في البداية؟ وأمَّا قوله « ولم يقصد الجنَّتين ، ولا واحدة » معناه : لم يقصد تعيين مفردٍ ، ولا مثنى ، لا أنه لم يقصد الإخبار بالدخول .
وقال أبو البقاء : « إنما أفرد؛ لأنَّهما جميعاً ملكهُ ، فصارا كالشيء الواحد » .
قوله : « وهُو ظَالِمٌ » حال من فاعل « دَخلَ » ، وقوله « لنَفْسهِ » مفعول « ظَالِمٌ » واللام مزيدة فيه؛ لكون العامل فرعاً .
قوله : « { مَآ أَظُنُّ } فيه وجهان :
أحدهما : ان يكون مستأنفاً بياناً لسبب الظلم .
والثاني : أن يكون حالاً من الضَّمير في » ظَالِمٌ « ، أي : وهو ظالمٌ في حال كونه قائلاً .
قوله : » أنْ تَبِيدَ « أي : تهلك ، قال : [ المقتضب ]
3527- فَلئِنْ بَادَ أهْلهُ ... لبِما كَانَ يُوهَلُ
ويقال : بَادَ يَبيدُ بُيُوداً وبَيْدُودة ، مثل » كَيْنُونة « والعمل فيها معروفٌ ، وهو أنه حذفت إحدى الياءين ، ووزنها فيعلولة .
قوله : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } يعني الكافر آخذاً بيد صاحبه المسلم يطوف به فيها ، ويريه بهجتها وحسنها ، وأخبره بصنوف ما يملكه من المال { وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } بكفره ، وهذا اعتراضٌ وقع في أثناء الكلام ، والمعنى أنه لمَّا اغترَّ بتلك النِّعم ، وتوسَّل بها إلى الكفران والجحود؛ لقدرته على البعث ، كان واضعاً لتلك النِّعم في غير موضعها ، { قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً } .

قال أهل المعاني : لما أذاقه حسنها وزهوتها ، توهَّم أنها لا تفنى أبداً مطلقاً ، { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } فجمع بين كفرين .
الأول : قطعه بأنَّ تلك الأشياء لا تبيدُ أبداً .
والثاني : إنكار البعث .
فإن قيل : هب أنَّه شكَّ في القيامة ، فكيف قال : ما أظنُّ أن تبيد هذه أبداً ، مع أنَّ الحسَّ يدلُّ على أنَّ أحوال الدنيا بأسرها ذاهبةٌ غير باقية؟ .
فالجواب : مراده أنَّها لا تبيد مدَّة حياته ، ثم قال : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } أي مرجعاً وعاقبة ، وانتصابه على التَّمييز ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] .
وقوله : { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } [ مريم : 77 ] .
فإن قيل : كيف قال : ولَئِنْ رددت إلى ربي وهو ينكرُ البعث؟ .
فالجواب : معناه : ولئنْ رددتُّ إلى ربِّي على زعمكَ ، يعطيني هنالك خيراً منها .
والسَّبب في وقوعه في هذه الشُّبهة أنَّه تعالى لمَّا أعطاه المال والجاه في الدنيا ، ظنَّ أنه إنَّما أعطاه ذلك؛ لكونه مستحقًّا له ، والاستحقاقُ باقٍ بعد الموت؛ فوجب حصول الإعطاء ، والمقدِّمة الأولى كاذبةٌ؛ فإن فتح باب الدنيا على الإنسان ، يكون في أكثر الأمر للاستدراج .
وقرأ أبو عمرو والكوفيون « مِنْهَا » بالإفراد؛ نظراً إلى أقرب مذكورٍ ، وهو قوله : « جنَّتهُ » وهي في مصاحف العراق ، دون ميم ، والباقون « مِنْهُما » بالتثنية؛ نظراً إلى الأصل في قوله : « جَنَّتيْنِ » و « كِلتَا الجنَّتيْنِ » ورُسِمَتْ في مصاحفِ الحرمينِ والشَّام بالميم ، فكل قد وافق رسم مصحفه .
قوله : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ } أي المسلم .
قوله : { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } أي : خلق أصلك من تراب ، وهذا يدلُّ على أنَّ الشاكَّ في البعث كافرٌ .
ووجه الاستدلال أنَّه ، لمَّا قدر على [ الابتداء ] ، وجب أن يقدر على الإعادة .
وأيضاً : فإنَّه تعالى ، لمَّا خلقك هكذا ، فلم يخلقك عبثاً ، وإنَّما خلقك لهذا المعنى ، وجب أن يحصل للمطيع ثوابٌ ، وللمذنب عقابٌ؛ ويدلُّ على هذا قوله : { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } أي : هيَّأك تهيئة تعقل وتصلح أنت للتكليف ، فهل يحصل للعاقل مع هذه الآية إهمال أمرك؟! .
قوله : { مِن نُّطْفَةٍ } النُّطفة في الأصل : القطرة من الماء الصافي ، يقال : نَظفَ يَنطفُ ، أي : قطرَ يَقطُر ، وفي الحديث : « فَخرجَ ، ورَأسهُ يَنطفُ » وفي رواية : يَقطرُ ، وهي مفسِّرةٌ ، وأطلق على المنيِّ « نُطفَةٌ » تشبيهاً بذلك .
قوله : « رجُلاً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه حالٌ ، وجاز ذلك ، وإن كان غير منتقلٍ ، ولا مشتقٍّ؛ لأنه جاء بعد « سوَّاك » إذ كان من الجائز : أن يسوِّيهُ غير رجل ، وهو كقولهم : « خَلقَ الله الزَّرافةَ يَديْهَا أطْولَ من رِجْلَيْهَا » وقول الآخر : [ الطويل ]

3528- فَجاءَتْ بِهِ سَبْطَ العِظامِ كأنَّما ... عِمامَتهُ بيْنَ الرِّجالِ لِوَاءُ
والثاني : أنه مفعول ثانٍ ل « سَوَّاكَ » لتضمُّنه معنى خلقك ، وصيَّرك وجعلك ، وهو ظاهر قول الحوفيِّ .
قوله : { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } : قرأ ابن عامر ، ويعقوب ، ونافع في رواية بإثبات الألف وصلاً ووقفاً ، والباقون بحذفها وصلاً ، وبإثباتها وقفاً وهي رواية عن نافعٍ ، فالوقفُ وفاقٌ .
والأصل في هذه الكلمة : « لكن أنّا » فنقل حركة همزة « أنَا » إلى نون « لكِنْ » وحذف الهمزة ، فالتقى مثلان ، فأدغم ، وهذا أحسنُ الوجهين في تخريج هذا ، وقيل : حذف همزة « أنا » [ اعتباطاً ] ، فالتقى مثلان ، فأدغم ، وليس بشيءٍ؛ لجري الأول على القواعد ، فالجماعة جروا على مقتضى قواعدهم في حذف ألف « أنّا » وصلاً ، وإثباتها وقفاً ، وقد تقدم لك : أنَّ نافعاً يثبت ألفه وصلاً قبل همزة مضمومة ، أو مكسورة ، أو مفتوحة؛ بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة ، وهنا لم يصادف همزة ، فهو على أصله أيضاً ، ولو أثبت الألف هنا ، لكان أقرب من إثبات غيره؛ لأنه أثبتها في الوصلِ جملة .
وأمَّا ابن عامرٍ ، فإنه خرج عن أصله في الجملة؛ إذ ليس من مذهبه إثبات هذه الألف وصلاً في موضع [ ما ] ، وإنما اتَّبع الرسم . وقد تقدَّم أنها لغة تميمٍ أيضاً .
وإعراب ذلك : أن يكون « أنَا » مبتدأ ، و « هو » مبتدأ ثانٍ ، و « هو » ضمير الشأن ، و « اللهُ » مبتدأ ثالث و « ربِّي » خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، و الثاني وخبره خبر الأول ، والرابط [ بين الأول ] وبين خبره الياء في « ربِّي » ويجوز أن تكون الجلالة بدلاً من « هُوَ » أو نعتاً ، أو بياناً ، إذا جعل « هو » عائداً على ما تقدَّم من قوله « بالذي خلقك من تراب » لا على أنَّه ضمير الشأن ، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك ، وليس بالبيِّن .
وخرَّجه الفارسي على وجهٍ غريب : وهو أن تكون « لكِنَّا » « لكنَّ » واسمها وهو « ن » والأصل : « لكنَّنا » فحذف إحدى النونات؛ نحو : { إنَّا نَحْنُ } [ الحجر : 9 ] وكان حق التركيب أن يكون « ربُّنا » « ولا نُشرِكُ بربِّنا » قال : « ولكنه اعتبر المعنى ، فأفرد » وهو غريبٌ جدًّا .
قال الكسائي : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، تقديره : « لكنَّ الله هُوَ ربِّي » .
وقرأ أبو عمرو « لكنَّهْ » بهاء السَّكت وقفاً؛ لأنَّ القصد بيان حركة نون « أنَا » فتارة تبيَّن بالألف ، وتارة بهاء السكت ، وعن حاتم الطائي : [ الرمل المجزوء ]
3529- هَكذَا فَرْدِي أَنَهْ ...

وقال ابن عطية عن أبي عمرو : روى عنه هارون « لكنَّه هو الله » بضمير لحق « لكن » قال شهاب الدين : فظاهر هذا أنه ليس بهاء السَّكت ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل « لكِنْ » وما بعدها الخبر ويجوز أن يكون « هو » مبتدأ ، وما بعده خبره ، وهو وخبره خبر « لكنَّ » ويجوز أن يكون تأكيداً للاسم ، وأن يكون فصلاً ، ولا يجوز أن يكون ضمير شأنٍ؛ لأنه حينئذ لا عائد على اسم « لكنَّ » من هذه الجملة الواقعة خبراً .
وأمَّا في قراءة العامة : فلا يجوز أن تكون « لكنَّ » مشددة عاملة؛ لوقوع الضمير بعدها بصيغة المرفوع .
وقرأ عبد الله « لكنْ أنَا هُوَ » على الأصل من غير نقل ، ولا إدغامٍ ، وروى عنه ابنُ خالويه « لكنْ هُو الله » بغير « أنا » . وقرئ أيضاً « لكننا » .
وقال الزمخشريُّ : « وحسَّن ذلك - يعني إثبات الألف في الوصل - وقوع الألف عوضاً عن حذف الهمزة » ونحوه - يعني إدغام نون « لكن » في نون « نَا » بعد حذف الهمزة - قول القائل :
3530- وتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أيْ أنْتَ مُذنِبٌ ... وتَقْلِيننِي لكنَّ إيَّاكِ لا أقْلِي
الأصل : لكن أنا ، فنقل ، وحذف ، وأدغم ، قال أبو حيان : « ولا يتعيَّن ما قاله في البيت؛ لجواز أن يكون حذف اسم » لكنَّ « [ وحذفه ] لدليلٍ كثيرٌ ، وعليه قوله :
3531- فَلوْ كُنْتَ ضَبيًّا عَرفْتَ قَرابتِي ... ولكنَّ زَنْجِيٌّ عَظِيمُ المَشافرِ
أي : ولكنَّك ، وكذا ها هنا : ولكنَّني إيَّاك » قال شهاب الدين : لم يدَّع الزمخشري تعين ذلك في البيت؛ حتَّى يردَّ عليه بما ذكره .
ويقرب من هذا ما خرَّجه البصريُّون في بيت استدلَّ به الكوفيون عليهم في جواز دخولِ لام الابتداء في خبر « لكنَّ » وهو : [ الطويل ]
3533- . . ... ولكنَّني من حُبِّهَا لعَمِيدُ
فأدخل اللام في خبر « لكنَّ » وخرَّجه البصريون على أن الأصل : « ولكن من حُبِّها » في قوله : « ولكنَّني من حُبِّها لعمِيدُ » ، فأدغم اللام في خبر « لكنَّ » ، وجوَّزه البصريُّون ، وخرَّجه طائفة من البصريِّين على أنَّ الأصل ولكن إنِّي من حُبِّها ، ثم نقل حركة همزة « إنِّي » إلى نون « لكن » بعد حذف الهمزة ، وأدغم على ما تقدَّم ، فلم تدخل اللام إلا في خبر « إنَّ » ، هذا على تقدير تسليم صحة الرواية ، وإلا فقالوا : إنَّ البيت مصنوعٌ ، ولا يعرف له قائلٌ .
والاستدراك من قوله « أكَفرْتَ » كأنَّه قال لأخيه : أنت كافرٌ؛ لأنَّه استفهام تقرير ، لكنَّني أنَّا مؤمنٌ؛ نحو قولك : « زَيْجٌ غَائبٌ ، لكنَّ عمراً حاضرٌ » لأنه قد يتوهَّم غيبةُ عمرو أيضاً .
فصل في المقصود بالشرك في الآية
معنى { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } .

ذكر القفال فيه وجهين :
الأول : أنِّي لا أرى الفقر والغنى إلاَّ منه؛ فأحمده إذا أعطى ، وأصبر ، إذا ابتلى ، ولا أتكبَّر عندما ينعم عليَّ ، ولا أرى كثرة [ المال ] ، والأعوان من نفسي ، وذلك لأنَّ الكافر ، لمَّا [ اعتزَّ ] بكثرة المال والجاه ، فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العزِّ والغنى .
الثاني : أنَّ هذا الكافر ، لمَّا أعجز الله عن البعث والحشر ، فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز ، وإذا أثبت المساواة ، فقد أثبت الشَّريك .
قوله : { ولولاا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله } : « لولا » تحضيضيَّةٌ داخلة على « قلت » و « إذْ دَخلْتَ » منصوب ب « قُلْتَ » فصل به بين « لوْلاَ » وما دخلت عليه ، ولم يبال بذلك؛ لأنه ليس بأجنبيٍّ ، وقد عرفت أنَّ حرف التحضيضِ ، إذا دخل على الماضي ، كان للتَّوبيخ .
ومعنى الكلام : هلاَّ إذا دخلت جنَّتك ، قلت : ما شَاءَ الله ، أي : الأمر ما شاء الله ، وقيل : جوابه مضمرٌ ، أي : ما شاء الله كان .
{ مَا شَآءَ الله } يجوز في « مَا » وجهان :
الأول : أن تكون شرطية؛ فتكون في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً وجوباً ب « شاء » أي : أيَّ شيء شاء الله ، والجواب محذوف ، أي : ما شاء الله ، كان ووقع كما تقدم .
والثاني : أنها موصولة بمعنى « الذي » وفيها حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون مبتدأة ، وخبرها محذوف ، أي : الذي شاء الله كائنٌ وواقعٌ .
والثاني : أنها موصولة بمعنى « الذي » وفيها حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون مبتدأة ، وخبرها محذوف ، أي : الذي شاءه الله ، وعلى كل تقدير : [ فهذه الجملة ] في محل نصبٍ بالقول .
قوله : « إلاَّ الله » خبر « لا » التبرئةِ ، والجملة أيضاً منصوبة بالقولِ ، أي : هلاَّ قلت هاتين الجملتين .
فإن قيل : معنى { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } أي : لا أقدرُ على حفظ مالي ، ولا دفع شيءٍ عنه إلاَّ بالله .
روى هشامُ بن عروة عن أبيه : « أنَّهُ كان إذَا رأى مِنْ مَالهِ شَيْئاً يُعْجبهُ ، أو دَخَلَ حَائِطاً من حِيطانِه قال : مَا شَاءَ الله لا قُوَّة إلاَّ بالله » .
فالجواب : احتجَّ أهل السنَّة بقوله : { مَا شَآءَ الله } على أنَّ كلَّ ما أراده الله واقعٌ ، وكلَّ ما لم يقع ، لم يرده الله تعالى؛ وهذا يدلُّ على أن الله ما أراد الإيمان من الكافر ، وهو صريحٌ في إبطال قول المعتزلة .
فصل في الرد على استدلال المعتزلة بالآية
[ ذكر الجبائيُّ ] والكعبيُّ بأنَّ تأويل قولهم : « مَا شَاءَ الله » ممَّا تولَّى فعله ، لا ما هو فعل العباد ، كما قالوا : لا مردَّ لأمر الله ، لم يرد ما أمر به العباد ، ثم قال : لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريد ، كما يحصل فيه ما ينهى عنه .

واعلم أنَّ الذي ذكره الكعبيُّ ليس جواباً عن الاستدلال ، بل هو التزامٌ لمخالفة ظاهر النصِّ ، وقياس الإرادة على الأمر باطلٌ؛ لأنَّ هذا النصَّ دالٌّ على أنَّه لا يوجد إلاَّ ما أراده الله ، وليس في النصوص ما يدلُّ على أنَّه لا يدخل في الوجود إلاَّ ما أمر به ، فظهر الفرق . وأجاب القفَّال عنه بأن قال : هلاَّ إذا دخلت [ جنَّتك ] ، قلت : ما شاء الله ، أي : هذه الأشياء الموجودةُ في هذا البستان : ما شاء الله؛ كقول الإنسان ، إذا نظر غلى شيءٍ عمله زيدٌ : عمل زيدٍ ، أي : هذا عمل زيدٍ .
ومثله : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] ، أي : قالوا : ثلاثةٌ ، وقوله : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ الأعراف : 161 ] أي : وقولوا : هذه حطَّة ، وإذا كان كذلك ، كان [ المراد أن ] هذا الشيء الموجود في البستان شيءٌ شاء الله تكوينه ، وعلى هذا التقدير : لم يلزم أن يقال : وقع كلُّ ما شاء الله؛ لأنَّ هذا الحكم غير عامٍّ في الكلِّ ، بل يختصُّ بالأشياء المشاهدة في البستان ، وهذا التأويلُ الذي ذكره القفَّال أحسن مما ذكره الجبائيُّ والكعبيُّ .
فصل
قال ابن الخطيب : وأقول : إنَّه على جوابه لا يندفع الإشكال عن المعتزلة؛ لأنَّ عمارة ذلك البستان ، ربَّما حصلت بالغصوب ، وبالظُّلم الشديد؛ فلا يصحُّ أيضاً على قول المعتزلة أن يقال : هذا واقعٌ بمشيئةِ الله ، اللهم ، إلاَّ أن يقال : المراد أنَّ هذه الثمار حصلت بمشيئة الله إلاَّ أنَّ هذا تخصيص لظاهر النصِّ من غير دليل .
وأمَّا أمر المؤمن الكافر بأن يقول : لا قُوَّة إلاَّ بالله ، أي : لا قُوَّة لأحدٍ على أمر من الأمور إلاَّ بإعانة الله وإقداره .
ثُمَّ إن المؤمن ، لما علَّم الكافر الإيمان ، أجابه عن الافتخار بالمال والنَّفر ، فقال : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } .
واعلم أن ذكر الولد ها هنا يدلُّ على أنَّ المراد بالنَّفر المذكور في قوله : { وَأَعَزُّ نَفَراً } الأعوان والأولاد .
وقوله : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ } يجوز في « أنا » وجهان :
أحدهما : أن يكون مؤكِّداً لياء المتكلم .
والثاني : أنه ضمير الفصل بين المفعولين ، و « أقلَّ » مفعول ثانٍ ، أو حال بحسب الوجهين في الرؤية ، هل هي بصرية أو علمية؟ إلا أنَّك إذا جعلتها بصرية ، تعيَّن في « أنَا » أن تكون توكيداً ، لا فصلاً؛ لأنَّ شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر ، أو ما أصله المبتدأ والخبر .
وقرأ عيسى بن عمر « أقلُّ » بالرفع ، ويتعيَّن أن يكون « أنا » مبتدأ ، و « أقلُّ » خبره ، والجملة : إمَّا في موضع المفعول الثاني ، أو في موضع الحال على ما تقدَّم في الرؤية .
و « مَالاً وولداً » تمييزٌ ، وجواب الشرط قوله « فعَسَى ربِّي » .
قوله : { حُسْبَانًا } : الحسبان مصدر حسب الشيء يحسبه ، أي : أحصاهُ ، قال الزجاج : « أي عذاب حسبان ، أي : حساب ما كسبت يداك » وهو حسن .

فصل في معنى الحسبان
قال الراغب : « قيل : معناه ناراً ، وعذاباً ، وإنما هو في الحقيقة ما يحاسبُ عليه ، فيجازى بحسبه » وهذا موافق لما قاله أبو إسحاق ، والزمخشريُّ نحا إليه أيضاً ، فقال : « والحُسْبان مصدر؛ كالغفران والبطلان بمعنى الحساب ، أي : مقداراً حسبه الله وقدَّره ، وهو الحكم بتخريبها » . وهو قول ابن عباس وقيل : جمع حسبانةٍ ، وهي السَّهمُ .
وقال ابن قتيبة : مرامي من السَّماء ، وهي مثل الصَّاعقة ، أي : قطع من النَّار .
قوله : { أَوْ يُصْبِحَ } : عطف على « يُرْسلَ » قال أبو حيَّان : و « أوْ يُصْبِحَ » عطفٌ على قوله : « ويُرْسِلَ » لأن غُؤورَ الماءِ لا يتَسبَّبُ عن الآفةِ السماوية ، إلا إن عنى بالحسبان القضاء [ الإلهيَّ ] ؛ فحينئذ يتسبَّب عنه إصباحُ الجنة صعيداً زلقاً ، أو إصباح مائها غوراً .
والزَّلقُ والغَوْرُ في الأصل : مصدران وصف بهما للمبالغة .
والعامة على فتح الغين ، غَارَ المَاءُ يَغورُ غَوراً : غَاضَ وذهب ف يالأرض ، وقرأ البرجميُّ بضم الغين لغة في المصدر ، وقرأت طائفة « غُؤوراً » بضمِّ الغين ، والهمزة ، وواوٍ ساكنة ، وهو مصدر أيضاً ، يقال : غار الماء غؤوراً مثل : جلس جلوساً .
فصل في معنى قوله : { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً }
معنى قوله : { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } أرضاً جرداء ملساء لا نبات فيها ، وقيل : تزلق فيها الأقدام .
وقال مجاهد : رملاً هائلاً ، والصعيد وجه الأرض .
{ أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً } أي : غائراً منقطعاً ذاهباً لا تناله الأيدي ، ولا الدِّلاءُ ، والغور : مصدر وقع موقع الاسم ، مثل زور وعدل .
قوله : { فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } أي : فيصير بحيثُ لا تقدر على ردِّه إلى موضعه .
ثمَّ أخبر الله تعالى أنَّه حقَّق ما قدره هذا المؤمن ، فقال : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } اي : أحاط العذاب بثمر جنته ، وهو عبارة عن إهلاكه بالكليَّة ، وأصله من إحاطة العدوِّ؛ لأنَّه إذا أحاط به ، فقد استولى عليه ، ثمَّ استعمل في كلِّ إهلاكٍ ، ومنه قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف : 66 ] .
قوله : { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } : قُرئ « تَقلَّبُ كفَّاهُ » ، أي : تتقلَّب كفَّاه ، و « أصْبحَ » : يجوز أن تكون على بابها ، وأن تكون بمعنى « صار » وهذا كناية عن الندم؛ لأنَّ النادم يفعل ذلك .
قوله : { عَلَى مَآ أَنْفَقَ } يجوز أن يتعلق ب « يُقلِّبُ » وإنما عدِّي ب « عَلَى » لأنه ضمِّن معنى « يَندَمُ » .
وقوله : « فيها » ، أي : في عمارتها ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من فاعل « يُقلِّبُ » أي : متحسِّراً ، كذا قدَّره أبو البقاس ، وهو تفسير معنى ، والتقدير الصناعي؛ إنما هو كونٌ مطلقٌ .
قوله : « ويَقُولُ » يجوز أن يكون معطوفاً على « يُقلِّبُ » ويجوز أن يكون حالاً .

فصل في كيفية الإحاطة
قال المفسرون : إنَّ الله تعالى أرسل عليها ناراً ، فأهلكتها وغار ماؤها ، { فَأَصْبَحَ } صاحبها الكافر { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } ، أي : يصفِّق بيديه ، إحداهما على الأخرى ، ويلقِّب كفَّيه ظهراً لبطن؛ تأسُّفاً وتلهُّفاً { عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ } ساقطة { على عُرُوشِهَا } سقوفها ، فتسقَّطت سقوفها ، ثمَّ سقطت الجدران عليها .
ويمكن أنَّ يكون المراد بالعروشِ عروش الكرم ، فتسقط العروش ، ثم تسقط الجدران عليها .
قوله : { وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } .
والمعنى : أن المؤمن ، لمَّا قال : { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } قال الكافر : يا ليتني قلت كذلك .
فإن قيل : هذا الكلام يوهم أنه إنما هلكت جنَّته؛ لشؤم شركه ، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّ أنواع البلاء أكثرها إنَّما تقع للمؤمنين ، قال تعالى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : « خُصَّ البَلاءُ بالأنْبِياءِ ، ثمَّ الأوْلياءِ ، ثُمَّ الأمثلِ فالأمثَلِ » .
وأيضاً : فلما قال : { ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } فقدم ندم على الشِّرك ، ورغب في التوحيد؛ فوجب أن يصير مؤمناً ، فلم قال بعده : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله } ؟ .
فالجواب عن الأوَّل : أنه لمَّا عظمت حسراته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا ، وكان معرضاً في عمره كلِّه عن طلب الدِّين ، فلما ضاعت الدنيا بالكليَّة ، بقي محروماً عن الدنيا والدِّين .
والجواب عن الثاني : أنَّه إنَّما نَدِمَ على الشِّرك؛ لاعتقاده أنَّه لو كان موحِّداً غير مشركٍ ، لبقيت عليه جنَّته ، فهو إنَّما رغب في التوحيد والردَّة عن الشِّرك؛ لأجل [ طلب ] الدنيا؛ فلهذا لم يقبل الله توحيده .
قوله : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ } : قرأ الأخوان [ « يَكُنْ » ] بالياء من تحت ، والباقون من فوق ، وهما واضحتان؛ إذ التأنيث مجازيٌّ ، وحسن التذكير للفصل .
قوله : « يَنْصُرونَهُ » يجوز أن تكون هذه الجملة خبراً ، وهو الظاهر ، وأن تكون حالية ، والخبر الجار المتقدم ، وسوَّغ مجيء الحال من النَّكرة تقدم النفي ، ويجوز أن تكون صفة ل « فئةٍ » إذا جعلنا الخبر الجارَّ .
وقال : « يَنْصُرونَهُ » حملاً على معنى « فِئةٍ » لأنَّهم في قوَّة القوم والنَّاس ، ولو حمل على لفظها ، لأفرد؛ كقوله تعالى : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ } [ آل عمران : 13 ] .
وقرأ ابن أبي عبلة : « تَنْصرُهُ » على اللفظ ، قال أبو البقاء : « ولو كان » تَنْصرهُ « لكان على اللفظ » . قال شهاب الدين : قد قرئ بذلك ، كما عرفت .
[ قال بعضهم ] : ومعنى « يَنْصُرونَهُ » يقدرون على نصرته ، ويمنعونه من عذاب الله { وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا } ممتنعاً متنعماً ، أي : لا يقدر على الانتصار لنفسه ، وقيل : لا يقدر على ردِّ ما ذهب عنه .
قوله : { هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ } : يجوز أن يكون الكلام تمَّ على قوله « مُنْتَصِراً » وهذه جملة منقطعة عمَّا قبلها ، وعلى هذا : فيجوز في الكلام أوجه :
الأول : أن يكون « هنالك الولايةُ » مقدَّراً بجملة فعلية ، فالولاية فاعل بالظرف قبلها ، أي : استقرَّت الولاية الله ، و « لله » متعلق بالاستقرار ، أو بنفس الظرف؛ لقيامه مقام العامل ، أو بنفسِ الولاية ، أو يمحذوفٍ على أنه حال من « الوَلاية » وهذا إنما يتأتَّى على رأي الأخفش من حيث إنَّ الظرف يرفع الفاعل من غير اعتمادٍ .

والثاني : أن يكون « هُنالِكَ » منصوباً على الظرف متعلقاً بخبر « الولاية » وهو « لله » أو بما تعلق به « لله » أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ منها ، والعامل الاستقرارُ في « لله » عند من يجيز تقدم الحال على عاملها المعنوي ، أو يتعلق بنفس « الولايةِ » .
والثالث : أن يجعل « هُنالِكَ » هو الخبر ، و « لله » فضلةٌ ، والعامل فيه ما تقدَّم في الوجه الأول .
ويجوز أن يكون « هُنالِكَ » من تتمَّة ما قبلها ، فلم يتمَّ الكلام دونه ، وهو معمولٌ ل « مُنْتَصِراً » ، أي : وما كان منتصراً في الدار الآخرة ، و « هُنالِكَ » إشارة غليها ، وإليه نحا أبو إسحاق . وعلى هذا فيكون الوقف على « هُنالِكَ » تامًّا ، والابتداء بقوله « الوَلايَةُ لله » فتكون جملة من مبتدأ وخبر .
والظاهر في « هُنالِكَ » : أنه على موضوعه من ظرفية المكان ، كما تقدَّم ، وتقدَّم أنَّ الأخوين يقرآن بالكسر ، والفرق بينهما وبين قراءة الباقين بالفتح في سورة الأنفال ، فلا معنى لإعادته .
وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحنٌ ، قالا : لأنَّ « فعالة » إنما تجيء فيما كان صنعة أو ممعنى متقلَّداً ، وليس هنالك تولِّي أمورٍ .
فصل في لغات الولاية ومعانيها
قال الزمخشري : الولاية بالفتح : النصر ، والتولِّي ، وبالكسر : السلطان والملك .
وقيل : بالفتح : الربوبيَّة ، وبالكسر : الإمارة .
قوله : « الحَقِّ » قرأ أبو عمرو ، والكسائي برفع « الحقُّ » والباقون بجرِّه ، فالرفع من ثلاثة أوجه :
الأول : أنه صفة للولاية وتصديقه قراءة أبيٍّ « هُنالك الوَلايةُ الحق للهِ » .
والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو ما أوحيناه إليك .
الثالث : أنه مبتدأ ، وخبره مضمر ، أي : الحق ذلك ، وهو ما قلناه .
والجر على أنه صفة للجلالة الكريمة؛ كقوله « ثُمَّ ردُّوا إلى الله مَولاهُم الحقِّ » .
وقرأ زيد بن عليٍّ ، وأبو حيوة ، وعمرو بن عبيد ، ويعقوب « الحقَّ » نصباً على المصدر المؤكِّد لمضمون الجملة؛ كقولك « هذَا قَوْلُ الله الحق » وهذا عبد الله الحقَّ ، لا الباطل .
قوله : « عُقباً » قرأ عاصم وحمزة بسكون القاف ، والباقون بضمِّها ، فقيل : لغتان؛ كالقُدُسِ والقُدْس ، وقيل : الأصل الضمَّ ، والسكون تخفيف ، وقيل بالعكس؛ كالعُسْر واليُسْر ، وهو عكس معهود اللغة ، ونصبها ونصب « ثَواباً » و { أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] على التمييز لأفعل التفضيل قبلها ، ونقل الزمخشريُّ أنه قرئ « عُقْبَى » بالألف ، وهي مصدر أيضاً؛ كبُشْرَى ، وتروى عن عاصم .

فصل في نظم الآية
اعلم أنَّه تعالى لمَّا ذكر من قصّة الرجلين ما ذكر علمنا أن النُّصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر ، وعرفنا أن الأمر هكذا يكون في حقِّ كل مؤمنٍ وكافرٍ ، فقال : { هُنالِكَ الوَلايةُ للهِ الحَقِّ } أي : في مثل ذلك الوقت وفي مثل ذلك المقام ، تكون الولاية لله يوالي أولياءه؛ فيعليهم على أعدائه ، ويفوِّض أمر الكفار إليهم .
فقوله : « هُنالِكَ » إشارةٌ إلى الموضع ، والوقت الذي يريد إظهار كرامة أوليائه ، وإذلال أعدائه .
وقيل : المعنى في مثل تلك الحالة الشديدة يتولَّى الله ، ويلتجئ إليه كلُّ محتاجٍ مضطرٍّ ، يعني أن قوله : { ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } فكأنه ألجَ إليها ذلك الكافر ، فقالها جزعاً ممَّا ساقهُ إليه شؤمُ كفره ، ولولا ذلك ، لم يقلها .
وقيل : المعنى : هنالك الولاية لله ينصرُ فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة ، وينتقم لهم ويشفي صدورهم من [ أعدائهم ] ، يعني أنَّه تعالى نصر المؤمنين على الكفرة ، وينتقم لهم ويشفي صدورهم من [ أعدائهم ] ، يعني أنَّه تعالى نصر المؤمن بما فعل [ بأخيه الكافر و ] بصدق قوله : { فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء } .
ويعضده قوله : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً } أي : لأوليائه ، وقيل : « هُنالِكَ » إشارةٌ إلى الدَّار الآخرةِ ، أي : في تلك الدَّار الآخرة الولاية لله كقوله : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
وقوله : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً } أي : خيرٌ في الآخرة لمن آمن به ، و التجأ إليه ، { وَخَيْرٌ عُقْباً } أي : هو خيرٌ عاقبة لمن رجاهُ ، وعمل لوجهه .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)

قوله تعالى : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا } الآية .
أي : واضرب ، يا محمد ، لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم ، وأنصارهم على فقراء المسلمين { مَّثَلَ الحياة الدنيا } ثم ذكر المثل فقال : { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } .
قوله : { كَمَآءٍ } : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدَّره ابن عطيَّة هي ، أي : الحياة الدنيا .
والثاني : أنه متعلق بمعنى المصدر ، أي : ضرباً كماء ، قاله الحوفيُّ . وهذا بناء منهما على أن « ضرب » هذه متعدية لواحدٍ فقط .
والثالث : أنه في موضع المفعول الثاني ل « اضْرِبْ » لأنها بمعنى طصَيِّرْ « وقد تقدم .
قال أبو حيان بعدما نقل قولي ابن عطيَّة والحوفيِّ : » وأقول : إنَّ « كماءٍ » في موضع المفعول الثاني لقوله « واضْرِبْ » ، أي : وصيِّر لهم مثل الحياة ، أي : صفتها شبه ماء « . قال شهاب الدين : وهذا قد سبقه إليه أبو البقاء .
و » أنْزَلنَاهُ « صفة ل » مَاءٍ « .
قوله : » فاخْتلَطَ به « يجوز في هذه الباء وجهان :
أحدهما : أن تكون سببية .
الثاني : أن تكون متعدِّية ، قال الزخشري : » فالتفَّ بسببه ، وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً ، وقيل : تجمع الماء في النبات؛ حتى روي ورَفَّ رفيفاً ، وكان حق اللفظ على هذا التفسير : فاختلط بنباتِ الأرض ، ووجه صحته : أنَّ كلَّ مختلطين موصوف كل واحدٍ منهما بصفةِ الآخر « .
قوله : { فَأَصْبَحَ هَشِيماً } » أصْبَحَ « يجوز أن تكون على بابها؛ فإنَّ أكثر ما يطرقُ من الآفاتِ صباحاً؛ كقوله : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [ الكهف : 42 ] ويجوز أن تكون بمعنى » صار « من غير تقييدٍ بصباحٍ؛ كقوله : [ المنسرح ]
3533- أصْبَحَتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولاَ ... أمْلِكُ رَأسَ البعيرِ إنْ نَفرَا
والهشيمُ : واحده هشيمة ، وهو اليابس ، وقال الزجاج وابن قتيبة : كل ما كان رطباً ، فيَبِسَ ، ومنه { كَهَشِيمِ المحتظر } [ القمر : 31 ] ومنه : حشمتُ الفتَّ والهشيم : المتفتِّت المتكسِّر ، ومنه هشمت أنفه ، وهشَمَ الثَّريدَ : إذا فتَّه .
قال : [ الكامل ]
3534- عَمْرُو الَّذي هَشمَ الثَّريدَ لقَومهِ ... ورِجَالُ مَكَّةَ مُسنتُونَ عِجَاف
قوله : » تَذرُوهُ « صفة ل » هَشِيماً « والذَّرْوُ : التفريق ، وقيل : الرفع .
والعامة » تَذْروهُ « بالواو ، وقرأ عبد الله » تَذْريه « من الذَّري ، ففي لامه لغتان : الواو والياء ، وقرأ ابن عبَّاس » تُذْريهِ « بضمِّ التاء من الإذراءِ ، وهذه تحتمل أن تكون من الذَّرْوِ ، وأن تكون من الذَّري ، والعامة على » الرَّياحِ « جمعاً ، وزيد بن عليِّ ، و الحسنُ ، والنخعيُّ في آخرين » الرِّيحُ « بالإفراد .
فصل في معنى ألفاظ الآية
و » مَثَل « معنى المثل ، قال ابن عباسٍ : يعني بالماءِ المطر ، نزل من السماء { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } خرج من كل لون وزهرة ، » فأصْبحَ « عن قريب » هَشِيماً « يابساً .

وقال الضحاك : كسيراً .
« تَذْروهُ الرِّياحُ » :
قال ابن عباس : تذريه .
وقال أبو عبيدة : تفرّقه .
وقال القتبي : تنسفه .
قوله : { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } قادراً بتكوينه أولاً ، وتنميته وسطاً ، وإبطاله آخراً ، فأحوال الدنيا كذلك تظهرُ أولاً في غاية الحسن والنَّضارة ، ثم تتزايد قليلاً قليلاً ، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء والذَّهاب ، ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به .
فصل في حسن ترتيب الآيات
قوله تعالى : { المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } الآية .
لما بيّن تعالى أنَّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزَّوال والبوار والفناء ، بيَّن تعالى أنَّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، و المقصود منه إدخال هذا الجزئيِّ تحت ذلك الكليِّ ، فينعقد به قياسٌ بيِّن الإنتاج ، وهو أنَّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، وكل ما كان زينة الحياة الدنيا ، فهو سريعُ الانقضاءِ والانقراضِ ، ومن اليقين البديهيِّ ، أن ما كان كذلك ، فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به ، أو يقيم له في نظره وزناً ، فهذا برهان باهرٌ على فساد قول المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والولاد على فقراء [ المؤمنين ] .
قوله : { زِينَةُ الحياة الدنيا } على التثنية ، وسقطت ألفها لفظاً لالتقاء الساكنين ، فيتوهم أنه قرئ بنصب « زينة الحياة » .
فصل في بيان رجحان فقراء المؤمنين على أغنياء الكفار
لما أقام البرهان على فساد قول المشركين ، ذكر ما يدلُّ على رجحان أولئك الفقراء على أغنياء الكفَّار ، فقال : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ } .
وبيان هذا الدليل : أنَّ خيرات الدنيا [ منقرضة ] ، وخبرات الآخرة باقيةٌ دائمةٌ ، والدائم الباقي خيرٌ من المنقرضِ الزائل ، وهذا معلومٌ بالضَّرورة .
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- : المال والبنون حرث الحياة الدنيا ، والأعمال الصالحة حرث الآخرة ، وقد يجمعها الله لأقوامٍ
وقال ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد : الباقيات الصالحات هي قول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
وقال - عليه الصلاة والسلام- : « أفْضَلُ الكلامِ أربعٌ : سُبْحانَ الله ، والحَمدُ لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبرْ » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « أكثروا من البَاقيَاتِ الصَّالحاتِ قيل : وما هُنَّ يَا رسُول الله؟ قال : الملة . قيل : وما هي يا رسول الله؟ قال : التَّكبيرُ ، والتَّهليلُ ، والتَّسبيحُ ، والتَّحميدُ ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلِّ العظيم » .
وقال سعيد بن جبير ومسروق وإبراهيم ويروى أيضاً عن ابن عباس : البَاقيَاتُ الصَّالحاتُ : الصلوات الخَمْسُ .
وقال قتادة : ويروى أيضاً عن ابن عبَّاس أنَّها الأعمال الصالحة { خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً } جزاء { وَخَيْرٌ أَمَلاً } أي : ما يؤمِّله الإنسان .
قوله : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال } الآية .
لما بيَّن خساسة الدُّنيا ، وشرف القيامة ، أراد أن يعيِّن أحوال القيامةِ .

قوله : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ } : « يَوْمَ » منصوب بقولٍ مضمرٍ بعده ، تقديره : نقول لهم يوم نسيِّر الجبالك لقد جئتمونا ، وقيل : بإضمار « اذْكُرْ » وقيل : هو معطوف على « عِنْدَ ربِّكَ » فيكون معمولاً لقوله « خَيْرٌ » .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بضمِّ التاء ، وفتح الياء مبنياً للمفعول ، « الجِبَالُ » بالرفع؛ لقيامه مقام الفاعل ، وحذف الفاعل؛ للعلم به ، وهو الله ، أو من يأمره من الملائكة ، وهذه القراءة موافقةٌ لما اتُّفقَ عليه في قوله { وَسُيِّرَتِ الجبال } [ النبأ : 20 ] ، ويؤيِّدها قراءة عبد الله هنا { وَسُيِّرَتِ الجبال } فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول .
والباقون « نُسيِّرُ » بنون العظمة ، والياء مكسورة من « سَيَّرَ » بالتشديد؛ « الجبالَ » بالنصب على المفعول به ، وهذه القراءة مناسبة لما بعدها من قوله { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } .
وقرأ الحسن كقراءة ابن كثير ، ومن ذكر معه إلاَّ أنه بالياء من تحت؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ وقرأ ابن محيصن ، ورواها محبوب عن أبي عمرو : [ « تسير » ] بفتح التاء من فوق ساكن الياء ، من سارت تسير ، و « الجِبَالُ » بالرفع على الفاعلية .
قوله : { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } « بَارِزَةً » حالٌ؛ إذ الرؤية بصرية ، وقرأ عيسى { وتُرَى الأرضُ } مبنيًّا للمفعول ، و « الأرضُ » قائمة مقام الفاعل .
قوله : { وَحَشَرْنَاهُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه ماضٍ ، يراد به المستقبل ، أي : ونحشرهم ، وكذلك { وَعُرِضُوا } [ الكهف : 48 ] و { وَوُضِعَ الكتاب } [ الكهف : 49 ] .
والثاني : أن تكون الواو للحالِ ، والجملة في محلِّ النصب ، أي : نفعل التسيير في حال حشرهم؛ ليشاهدوا تلك الأهوال .
والثالث : قال الزمخشري : « فإن قلت : لِمَ جيء ب » حَشرْنَاهُمْ « ماضياً بعد » نُسيِّرُ « و » ترى « ؟ قلت : للدلالة على أنَّ حشرهم قبل التسيير ، وقيل البروز؛ ليعاينوا تلك الأهوال العظام؛ كأنَّه قيل : وحَشرنَاهُم قبل ذلكَ » .
فصل
قال أبو البقاء ، وأبو حيان : « والأولى أن تكون الواو للحال » فذكر نحواً ممَّا قدَّمته .
قوله : « فَلمْ نُغادِرْ » عطل على « حَشَرنَاهُمْ » فإنه ماضٍ معنى ، والمغادرة هنا : بمعنى « الغَدْر » وهو الترك ، أي : فلم نترك ، والمفاعلة هنا ليس فيها مشاركة ، وسمي الغدر غدراً؛ لأنَّ به ترك الوفاءُ ، وغدير الماء من ذلك؛ لأنَّ السيل غادره ، أي : تركه ، فلم يجئه أو ترك فيه الماء ، ويجمع على « غدر » و « غُدرَان » كرغيف ورغفان ، واستغدر الغَديرُ : صار فيه الماء ، و الغديرة : الشَّعرُ الذي ترك حتى طال ، والجمع غدائرُ . قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3535- غَدائِرُهُ مُسْتشْزِرَاتٌ إلى العُلا .. .
وقرأ قتادة « فَلمْ تُغادِرْ » بالتاء من فوقُ ، والفاعل ضمير الأرض ، أو الغدرة المفهومة من السياق ، وأبان : « يُغادَرْ » مبنياً للمفعول ، « أحدٌ » بالرفع ، والضحاك : « نُغْدِرْ » بضم النون ، وسكون العين ، وكسر الدال ، من « أغْدرَ » بمعنى « غَدرَ » .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75