كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

وفي هذه الجملة قولان :
أحدهما : أنها في محل نصب على الحال من فاعل القول المقدر ، أي : يقولون ذلك وهم على هذه الحالة .
والثاني : أنها حال من فاعل « يتخذونك » ، وإليه نحا الزمخشري فإنه قال : والجملة في موضع الحال ، أي يتخذونك هزواً وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله .
فصل
والمعنى : أنهم يعيبون عليه كونه يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء مع أنهم بذكر الرحمن المنعم عليهم الخالق المحيي المميت كافرون ، ولا فعل أقبح من ذلك فيكون الهزؤ واللعن والذم عليهم من حيث لا يشعرون . ويحتمل أن يراد « بذكر الرحمن » القرآن . ومعنى إعادة « وهم » أن الأولى إشارة إلى القوم الذين كانوا يفعلون ذلك الفعل ، والثانية إبانة لاختصاصهم به ، وأيضاً فإن في إعادتها تأكيداً وتعظيماً لفعلهم .

خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)

قوله تعالى : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } الآية . في المراد بالإنسان قولان :
أحدهما : أنه النوع ، وذلك أنهم كانوا يستعجلون العذاب { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } . ( والمعنى أن ينبته من العجلة وعليها طبع كما قال : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ] . فإن قيل : مقدمة الكلام لا بد وأن تكون مناسبة للكلام وكون الإنسان مخلوقاً من العجل يناسب كونه معذوراً فيه فلم رتب على هذه المقدمة قوله : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } ؟
فالجواب أنه تعالى نبه بهذا على أن ترك الاستعجال حالة مرغوب فيها .
القول الثاني : أن المراد بالإنسان شخص معين ، فقال ابن عباس في رواية عطاء : نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والكلبي ومقاتل والضحاك : المراد آدم عليه السلام . وروى ابن جريج وليث بن أبي سليم قال : خلق آدم بعد كل شيء من آخر نهار يوم الجمعة ، فلما دخل الروح رأسه ولم يبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فوقع فقيل : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } والقول الأول أولى ، لأن الغرض ذم القوم ، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا لفظ الإنسان على النوع . قوله : « من عجل » فيه قولان :
أحدهما : أنه من باب القلب ، والأصل : خُلِقَ العَجَلُ مِنَ الإنْسَانِ لشدة صدوره منه وملازمته له وإلى هذا ذهب أبو عمرو ، ويؤيده قراءة عبد الله : « وَخُلِقَ العَجَلُ مِنَ الإنْسَانِ » . والقلب موجود في كلامهم قال الشاعر :
3714- حَسَرْتُ كَفِّي عَنِ السِّرْبَالِ آخذُهُ ... يريد : حسرت السربال عن كفي .
ومثله في الكلام : إذا طلعت الشِّعرى استوى العود على الحِرْبَاء وقالوا : عرضت الناقة على الحوض ، وتقدم منه أمثلة إلا أن بعضهم يخصه بالضرورة وتقدم فيه ثلاثة مذاهب .
والثاني : أنه لا قلب فيه ، وفيه ثلاث تأويلات أحسنها أن ذلك على المبالغة جعل ذات الإنسان كأنها خلقت من نفس العجلة دلالة على شدة اتصاف الإنسان بها ، وأنها مادته التي أخذ منها كما قيل للرجل الذي هو حاد : نار تشعل العرب قد تسمى المرء بما يكثر منه ، فتقول : ما أنت إلا أكل ونوم ، وما هو إلا إقبال وإدبار ، قال الشاعر :
3715- تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حتى إذَا ادَّكَرَتْ ... فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ
ويتأكد هذا بقوله : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ] .
قال المبرد : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } أي من شأنه العجلة كقوله { خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } [ الروم : 54 ] أي : ضُعَفَاء . ومثله في المبالغة من جانب النفي قوله عليه السلام : « لست من الدَّدِ وَلاَ الدِّدُ مِنِّي » ، والدُّدُ : اللعب ، وفيه لغات : دَدٌ محذوف اللام ودَدَا مقصوراً كعصا ، ودَدَنٌ بالنون . وألفه في إحدى لغاته مجهولة الأصل لا يدري أهي عن ياء أو واو . وقيل : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } أي بسرعة ، وتعجيل من غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم أنشأناه خلقاً آخر .

وقال أبو عبيدة : العَجَل الطين بلغة حمير قال شاعرهم :
3716- والنَّبْعُ في الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبِتُهُ ... والنَّخْلُ يَنْبِتُ بَيْنَ المَاءِ وَالعَجَلِ
قال الزمخشري بعد إنشاده عجز هذا البيت : والله أعلم بصحته .
قال شهاب الدين : وهو معذور . وهذا الجار يحتمل تعلقه ب « خُلِقَ » على المجاز أو الحقيقة المتقدمتين . وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال كأنه قال : خلق الإنسان عجلاً . قاله أبو البقاء . وقرأ العامة « خُلِقَ » مبينياً للمفعول « الإنسان » مرفوعاً لقيامه مقام الفاعل . وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم « خَلَقَ » مبنياً للفاعل « الإنسان » نصباً مفعولاً به . فإن قيل : القوم استعجلوا الوعيد على وجه التكذيب ، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلاً على الحقيقة .
فالجواب : أن استعجالهم بما توعدهم من عقاب الآخرة أو هلاك الدنيا يتضمن استعجال الموت ، وهم عالمون بذلك فكانوا مستعجلين حقيقة .
قوله : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي } مواعيدي؛ قيل : هي الهلاك المعجل في الدنيا والآخرة ، ولذلك قال { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } أي أنه سيأتي لا محالة في وقته ، فلا تطلبوا العذاب قبل وقته ، فأراهم يوم بدر . وقيل : كانوا يستعجلون القيامة . وقيل : الآيات : أدلة التوحيد وصدق الرسول . وقيل : كانوا يستعجلون القيامة . وقيل : الآيات : أدلة التوحيد وصدق الرسول . وقيل : الآيات آثار القرون الماضية بالشام واليمن . قوله : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } هذا هو الاستعجال المذموم على سبيل الاستهزاء ، وهو كقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب } [ العنكبوت : 53 ] فبين تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم .
قوله : « مَتَى هَذَا » « مَتَى » خبر مقدم ، فهي في محل رفع . وزعم بعض الكوفيين أنها في محل نصب على الظرف ، والعامل فيها فعل مقدر ل « هَذَا » التقدير : متى يجيء هذا الوعد ، أو متى يأتي ونحوه والأول أشهر .
قوله : « لو يعلم » جوابها مقدر ، لأنه أبلغ في الوعيد فقدره الزمخشري : لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم هو الذي هونه عندهم وقدره ابن عطية : لما استعجلوا . وقدره الحوفي : لسارعوا . وقدره غيره : لعلموا صحة البعث . وقال البغوي : لما أقاموا على كفرهم ، ولما استعجلوا بقولهم { متى هذا الوعد } .
و « حين » مفعول به لعلموا ، و ليس منصوباً على الظرف ، أي : لو يعلمون وقت عدم كف النار . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون « يعلم » متروكاً بلا تعدية بمعنى : لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين ، و « حين » منصوب بمضمر أي حين { لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار } يعلمون أنهم كانوا على الباطل . وعلى هذا ف « حين » منصوب على الظرف ، لأنه جعل مفعول العلم أنهم كانوا .

وقال أبو حيان : والظاهر أن مفعول « يَعْلَمُ ) محذوف لدلالة ما قبله ، أي : لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعد الذي سألوا عنه واستبطأوه ، و » حِينَ « منصوب بالمفعول الذي هوة مجيء ، ويجوز أن يكون من باب الإعمال على حذف مضاف ، وأعمل الثاني ، والمعنى : لو يعلمون مباشرة النار حيت لا يكفونها عن وجوههم .
فصل
ثم إنه تعالى ذكر في رفع هذا الحزن عن قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهين : الأول : أنه بيَّن ما لصاحب هذا الاستهزاء من العقاب الشديد فقال { لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } أي : لو يعلمون الوقت الذي يسألون عنه بقولهم » مَتَى هَذَا الوَعْدُ « وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من قدّام ومن خلف ، فلا يقدرون على دفعها عن أنفسهم ، ولا يجدون ناصراً ينصرهم كقوله : { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا } [ غافر : 29 ] . وإنما خص الوجوه والظهور ، لأن مس العذاب لها أعظم موقعاً .
قال بعضهم : { وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ } السياط . قوله » بَغْتَةٌ « نصب على الحال ، أي : مباغتة . والضمير في » تأتيهم « يعود على النار ، وقيل : على الحين ، لأنه في معنى الساعة . وقيل : على الساعة التي تضطرهم فيها إلى العذاب . وقيل : على الوعد ، لأنه في معنى النار التي وعدوها قاله الزمخشري . وفيه تكلّف . وقرأ الأعمش : » بَلْ يَاْتِيهِمْ « بياء الغيبة » بَغْتَةٌ « بفتح الغين » فَيَبْهَتَهُمْ « بالياء أيضاً . فأما الياء فأعاج الضمير على الحين أو على الوعد ، وقيل : على » النَّار « وإنام ذكر ضميرها ، لأنها في معنى العذاب ، ثم راعى لفظ » النَّارِ « فأنث في قوله : » رَدَّهَا « . وقوله » بَلْ تِأْتِيهِمْ « إضراب انتقال .
وقال ابن عطية : » بَلْ « استدراك مُقَدَّرٌ قبله نفيٌّ تقديره : إنَّ الآيات لا تأتي على حسب اقتراحهم . وفيه نظر ، لأنه يصير التقدير : لا تأتيهم الآيات على حسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة ، فيكون الظاهر أن الآيات تأتي بغتة ، وليس ذلك مراداً قطعاً . وإن أراد أن يكون التقدير : بل تأتيهم الساعة أو النار ، فليس مطابقاًُ لقاعدة الإضراب .
فصل
لما بين شدة هذا العقاب بين أن وقت مجيئه غير معلوم لهم { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً } وهم غير محتسبين ولا مستعدين » فَتَبْهَتهُمْ « أي : تدعهم حيارى واقفين { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } [ النساء : 98 ] في ردها ، { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي لا يمهلون لتوبة أو معذرة . وإنام لم يعلم المكلفين وقت الموت ( والقيامة لما ) فيه من المصلحة ، لأن المرء مع كتمان ذلك أشد حذراً وأقرب إلى التلافي .
ثم ذكر الوجه الثاني في دفع الحزن عن قلب الرسول - عليه السلام- فقال : { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : عقوبة استهزائهم . و » حَاقَ « وحَقّ بمعنى كزَالَ وزَلَّ ، والمعنى : فكذلك يحيق بهؤلاء وبال استهزائهم .

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)

قوله تعالى : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم } الآية لما بين أن الكفار في الآخرة { لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار } بسائر ما وصفهم به أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلاكة ، فقال لرسوله : طقُلْ « لهؤلاء الكفار الذين يستهزئون ويغترون بما هم عليه { مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار } وهذا كقول الرجل لمن حصل في قبضته ولا مخلص له منه : من ينصرك مني؟ وهل لك مخلص؟
والكلاءة : الحفظ ، أي يحفظكم بالليل والنهار { مِنَ الرحمن } إن نزل بكم عذابه . يقال : كَلأَهُ الله يَكْلَؤُهُ كِلاَءَةٌ بالكسر كذا ضبطه الجوهري فهو كالئ ومكلوء .
قال ابن هرمة :
3717- إنَّ سُلَيْمَى وَاللهُ يَكْلَؤُهَا ... ضَنَّتْ بِشَيءٍ مَا كَانَ يَزْرَؤُهَا
واكْتَلأْتُ منه : احترست ، ومنه سُمِّيَ النبات كلأ ، لأنَّ به تقوم بنية البهائم وتحرس . ويقال : بلغ الله بك أكلأ العمر . والمُكَلأُ موضع يحفظ فيه السفن . وفي الحديث : » نَهَى عَنْ بَيْعِ الكَالِئ بَالكَالِئ « أي : بيع الدين بالدين كأنَّ كُلاًّ من رب الدينين بكلأ الآخر أي : يراقبه .
( وقال ابن عباس : المعنى : مَنْ يمنعكم من عذاب الرحمن .
وقرأ الزهري وابن القعقاع » يَكْلُوكُمْ « بضمة خفية دون همز .
وحكى الكسائي والفراء » يَكْلَوْكُمْ « بفتح اللام وسكون الواو .
قال شهاب الدين : ولم أعرفها قراءة . وهو قريب من لغة من يخفف أكلت الكلأ على الكلو وقفاً إلا أنه أجرى الوصل مجرى الوقف ) .
قوله : » مِنَ الرَّحمنِ « متعلق ب » يَكْلَؤُكُمْ « على حذف مضاف أي من أمر الرحمن أو بأسه كقوله : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } [ الرعد : 11 ] . » وبِالَّيْلِ « بمعنى في الليل ، وإنما ذكر الليل والنهار ، لأن كل واحد من الوقتين آفات تختص به ، والمعنى : من بحفظكم بالليل إذا نمتم وبالنهار إذا تصرفتم في معاشكم .
وخص ها هنا اسم الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل أنت لكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك كما في قوله : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } [ الانفطار : 6 ] . فخص اسم الكريم تلقيناً . قوله : » بَلْ هُمْ « إضراب عما تضمنه الكلام الأول من النفي ، إذ التقدير : ليس لهم كالئ ولا مانع غير الرحمن . والمراد ب » ذِكْرِ رَبِّهِمْ « القرآن ومواعظ الله » مُعْرِضُونَ « لا يتأملون في شيء منها ليعرفوا أنه لا كالئ لهم سواه ، ويتركوا عبادة الأصنام التي لا تحفظهم ولا تنعم عليهم .
قوله : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ } » أَمْ « منقطعة ، أي بل ألهم؟ فالميم صلة والمعنى : ألهم آلهة تمنعهم ، وقد تقدم ما فيها .
وقوله : » من دُونِنَا « فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب » تَمْنَعُهُمْ « قبل ، والمعنى : ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعز ، وإلى هذا ذهب الحوفي .

والثاني : أنه متعلق بمحذوف ، لأنه صفة ل « آلهة » ، أي آلهة من دوننا تمنعهم ، ولذلك قال ابن عباس إن في الكلام تقديماً وتأخيراً .
ثم وصف الآلهة بالضعف فقال : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ } وهذا مستأنف لا محل له ، ويجوز أن يكون صفة ل « آلهة » ، وفيه بعد من حيث المعنى .
قال ابن الخطيب : « لا يسطيعون » خبر مبتدأ محذوف ، أي فهذه الآلهة لا تستطيع حماية أنفسها عن الآفات ، وحماية النفس أولى من حماية الغير ، فإذا لم تقدر على حمية نفسها فكيف تقدر على حماية غيرها .
قوله : { وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } . قال ابن عباس : يجاورون ، تقول العرب : أنا لك جار وصاحب من فلان ، أي مجير عنه . وقال مجاهد : يُنْصَرُونَ . وقال قتادة : لا يصحبون من الله بخير . { بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء } الكفار « وَآبَاءَهُمْ » في الدنيا ، أي أمهلناهم . وقيل : أعطيناهم النعمة . { حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر } أي امتد بهم الزمان فاغتروا . { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ } أي : أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في أنا ننقص الأرض من جوانبها نأخذ الواحد بعد الواحد من المشركين ونفتح البلاد والقرى من حول مكة ، ونزيدها في ملك محمد ، أما كان لهم عبرة في ذلك فيؤمنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . { أَفَهُمُ الغالبون } أم نحن وهو استفهام تقريع .
قال ابن عباس ومقاتل والكلبي : « نَنْقُصُهَا » بفتح البلدان . وروي عن ابن عباس رواية أخرى : المراد نقصان أهلها . وقال عكرمة : تخريب القرى وموت أهلها .
وقيل : موت العلماء ، وهذه الرواية إن صحت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يعدل عنها وإلا فالأظهر هاهنا ما يتعلق بالغلبة ، ولذلك قال : { أَفَهُمُ الغالبون } . قال القفال : نزلت هذه الآية في كفار مكة ، فكيف يدخل فيها العلماء والفقهاء .

قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)

قوله : { قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي } أي : أخوفكم بالقرآن وقوله : « وَلا يَسْمَعُ » قرأ ابن عامر هنا « وَلاَ تُسْمِعُ » بضم التاء للخطاب وكسر الميم ، « الصُّمَّ الدُّعَاءَ » منصوبين . وقرأ ابن كثير في النمل والروم . وقرأ باقي السبعة بفتح ياء الغيبة بفتح ياء الغيبة والميم « الصُّمُّ » بالرفع « الدُّعَاءَ » بالنصب في جميع القرآن .
وقرأ الحسن كقراءة ابن عامر إلا أنه بياء الغيبة . وروى عنه ابن خالويه « وَلاَ يُسْمَعُ » بياء الغيبة مبنياً للمفعول « الصُّمُّ » رفعاً « الدُّعَاءَ » نصباً .
وروي عن أبي عمرو بن العلاء « وَلاَ يُسْمِعُ » بضم الياء من تحت وكسر الميم « الصُّمَّ » نصباً « الدُّعَاءُ » رفعاً .
فأما قراءة ابن عامر وابن كثير فالفاعل فيها ضمير المخاطب ، وهو الرسول -عليه السلام- . فانتصب « الصُّمَّ » و « الدُّعَاءَ » على المفعولين ، وأولهما هو الفاعل المعنوي . وأما قراءة الجماعة فالفعل مسند للصّمّ فانتصب « الدُّعَاءَ » مفعولاً به . وأما قراءة الحسن الأولى فأسند الفعل فيها إلى ضمير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي كقراءة ابن عامر في المعنى . وأما قراءته الثانية فأسند الفعل فيها إلى « الصُّمم » قائماً مقام الفاعل ، فانتصب الثاني وهو « الدُّعَاءَ » وأما قراءة أي عمرو فإنه أسند الفعل فيها إلى الدعاء على سبيل الاتساع وحذف المفعول الثاني للعلم به ، والتقدير : ولا يسمع الدعاء الصم شيئاً البتة ولما وصل أبو البقاء إلى هنا قال : « وَلاَ يَسْمَعُ » فيه قراءات وجوهها ظاهرة ولم يذكرها . و « إذَا » في ناصبه وجهان :
أحدهما : أنه « يَسْمَعُ » .
والثاني : أنه « لدّعاء » فأعمل المصدر المعرف ب ( أل ) وإذا أعملوه في المفعول الصريح ففي الظرف أولى .
قال الزمخشري : فإن قلت : الصم لا يسمعون دعاء المبشّر كما لا يسمعون دعاء المنذر ، فكيف قيل : { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } ؟ قلت : اللاّم في « الصُّم » عائدة إلى هؤلاء المنذرين كائنة للعهد لا للجنس ، والأصل : ولا يسمعون إذا ما ينذرون ، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامّهم وسدهم أسماعهم إذا انذروا ، أي أنتم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة على التصامّ عن الإنذارات والآيات . ثم بيَّن تعالى أن حالهم سيتغير إلى أن يصيروا بحيث إذا شاهدوا اليسير مما أنذروا به ، فعنده يسمعون ويعتذرون ويعترفون حيث لا ينتفعون ، وهذا المراد بقوله : { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } وأصل النفح من الريح : اللين . قال الزمخشري : في المس والنفحة ثلاث مبالغات ، لفظ المس ، وما في النفح من معنى القلّة والنزار يقال : نفحته الدابة : رمحته رمحاً يسيراً .

والنفح : الخطرة . قال ابن عباس : « نَفْخَةٌ » طرف . وقيل : قليل : وقال ابن جريج : نصيب من قولهم : نفح فلان لفلان من ماله أي : أعطاه حظاً منه ، قال :
3718- إِذَا رَيْدَةٌ مِنْ مَا نَفَحَتْ لَهُ ... أَتَاهُ برَيَّاهَا خَليلٌ يُوَاصِلُهْ
وقيل : ضربة ، من قولهم : نفحت الدابة برجلها ، أي : ضربت .
و « مِنْ عَذَابِ » صفة ل « نَفْحَةٌ » .
ثم بيّن تعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلاّ عدلاً فيهم بقولهم : { لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي : مشركين دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقروا بالشرك .
قوله : { وَنَضَعُ الموازين القسط } قال الزجاج : ذوات القسط ، ووَضْعُها إحضارها . ( وإنما جمع « المَوَازِينَ » لكثرة من توزن أعمالهم ، وهو جمع تفخيم . ويجوز أن يرجع إلى الموزونات ) . وفي نصب « القِسْطَ » وجهان :
أحدهما : أنه نعت للموازين ، وعلى هذا فلم أُفردَ؟ وعنه جوابان :
أحدهما : أنه في الأصل مصدر ، والمصدر يوحّد مطلقاً .
واثاني : أنه على حذف مضاف .
الوجه الثاني : أنه مقعول من أجله أي : لأجل القسط ، إلا أن في هذا نظراً ، من حيث إن المفعول له إذا كان معرّفاً ب ( أل ) يقل تجرّده من حرف العلة تقول : جئت للإكرام ، ويقل : جئت الإكرام ، كقوله :
3719- لاَ أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ ... وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ
وقرئ : القِصْطَ بالصاد ، لأجل الطاء . وقد تقدّم .
قوله : « لِيَوْمِ القِيَامَة » في هذه اللام أوجه :
أحدها : قال الزمخشري : مثلها في قولك : جئت لخمس خلون من الشهر ومنه بيت النابغة :
3720- تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا العَامِ سَابِعُ
والثاني : أنها بمعنى ( في ) وإليه ذهب بن قتيبة وابن مالك وهو رأي الكوفيين ومنه عندهم : « لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا » وكقول مسكين الدارمي :
3721- أُوْلَئِكَ قَوْمِي قَدْ مَضَوا لسبيلِهِمْ ... كَمَا قَدْ مَضَى مِنْ قَبْل عَادٌ وَتُبَّعُ
وكقول الآخر :
3722- وَكُلَّ أب وابن وإن عمرا معاً ... مقيمين مفقود لوقت وفاقد
والثالث : أنها على بابها من التعليل ولكن على حذف مضاف أي : لحساب يوم القيامة و « شَيْئاً » يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً ، وأن يكون مصدراً ، لأي : شيئاً من الظلم .
فصل
في وضع الموازين قولان :
أحدهما : قال مجاهد : هذا مثل ، والمراد بالموازين العدل ، ويورى مثله عن قتادة والضحاك ، والمراد بالوزن : القسط بينهم في الأعمال ، فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه أي : ذهبت سيئاته وحسناته حكاه ابن جرير عن ابن عباس .
والثاني : أنَّ الموازين توضع حقيقة ويوزن بها الأعمال ، « روي عن الحسن أنه ميزان له كفتان ولسان وهو بيد جبريل - عليه السلام - يروى » أنَّ داود - عليه السلام- سأل ربه أنْ يُرِيَهُ الميزان ، فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب فغشي عليه ، ثم أفاق ، فقال : إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات ، فقال : يا داود إنّي إذا رضيت عن عد ملأتها بتمرة « .

وعلى هذا القول في كيفية وزن الأعمال طريقان :
أحدهما : أن توزن صحائف الأعمال .
والثاني : أن يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة ، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل : أهل القيامة إمّا أن يكونوا عالمين بكونه - تعالى- عادلاً غير ظالم أو لا يعلمون ذلك . فإن علموا كان مجرد حكمه كافياً في معرفة أنَّ الغالب هو الحسنات أو السيئات فلا قائدة في وضع الميزان . وإن لم يعلموا ذلك لم تحصل الفائدة في وزن الصحائف ، لاحتمال أنه جعل إحدى الصحيفتين أثقل أو أخف ظلماً ، فلا فائدة في وضع الميزان على كلا التقديرين .
والجواب : قال ابن الخطيب : أما على قولنا { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] وأيضاً ففيه ظهور حال الولي من العدو في مجمع الخلائق ، فيكون لأحد القبيلين في ذلك أعظم السرور والأخرى أعظم الغم ، ويكون ذلك بمنزلة نشر الصحف وغيره . وإذا ثبت ذلك فالدليل على وجود الموازين الحقيقة أن حمل لفظ الميزان على مجرد العدل مجاز وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل غير جائز لا سيما وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في ذلك .
قوله : { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ } قرأ نافع هنا وفي لقمان برفع « مِثْقَال » على أن « كَانَ » تامة ، أي : وإنْ وجد مثقال . والباقون بالنصب على أنها ناقصة واسمها مضمر ، أي : وإنْ كان العمل . و « مِنْ خَرْدَلٍ » صفة ل « حَبَّةٍ » . وقرأ العامة « أَتَيْنَا » من الإتيان بقصر الهمزة ، وفيه أوجه :
أصحها : أنَّه ( فَاعَلْنَا ) من المواتاة وهي المجازاة والمكافأة ، والمعنى : جازينا بها ، ولذلك تعدى بالباء .
الثاني : أنَّها ( مفاعلة ) من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة ، لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء ، قاله الزمخشري .
الثالث : أنه أفعل من الإيتاء ، كذا توهم وهو غلط . قال ابن عطية : ولو كان آتينا : أعطينا لما تَعَدَّتْ بحرف جر ، وَيُوهِنُ هذه لقراءة أنَّ إبدال الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف ، وإنما يُعْرَفُ ذلك في المضمومة والمكسورة يعني : أنه كان من حق هذا القارئ أن يقرأ « وَأَتَيْنا » مثل وأعطينا ، لأنها من المواتاة على الصحيح ، فأبدل هذا القارئ الواو المفتوحة همزة وهو قليل ومنه أحد وأناة .
قال أبو البقاء : ويُقْرَأُ بالمد بمعنى جَازَيْنَا بها ، فهو يَقْرُبُ من معنى أعطينا ، لأنَّ الجزاء إعطاء ، وليس منقولاً من أتينا ، لأن ذلك لم يُنْقَلْ عنهم .
وقرأ حُمَيْدُ « أثَبْنَا » من الثواب ، والضمير في « بِهَا » عائد على المثقال وأنّث ضميره لإضافته لمؤنث ، فهو كقوله :
3723- كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ... في اكتسابه التأنيث بالإضافة .
فصل
زعم الجبائي أنَّ من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزءاً من الثواب فهذا الأقل ينحبط بالأكثر ، فيبقى الأكثر كما كان .

وهذه الآية تبطل قوله ، لأن الله تعالى تمدح بأنَّ اليسير من الطاعة لا يسقط ولو كان الأمر كما قال الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة . فإن قيل : الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال : « حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ » ؟ فالوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار . والغرض المبالغة في أنَّ شيئاً من الأعمال صغيراً كان أو كبيراً غير ضائع عند الله . ثم قال : { وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } .
قال السّديّ : مُحْصِينَ . والحَسبُ : معناه العد . قال ابن عباس : عالمين حافظين ، لأنَّ من حسب شيئاً علمه وحفظه .
والغرض منه التحذير فإنَّ المحاسب إذا كان عالماً بحيث لا يمكن أن يفوته شيء ، وكان في القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون شديد الخوف منه .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان } الآية . لما أمر رسوله أن يقول { إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي } [ الأنبياء : 45 ] أتبعه بأنه عادة الله في الأنبياء قبله . { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان } يعني : الكتاب المفرق بين الحق والباطل ، وهو التوراة ، وكان « ضِيَاءٌ » لغاية وضوحه يتوصل به إلى طرق الهدى في معرفة الشرائع ، وكان « ذكرى » أي موعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم .
وقال ابن زيد : الفرقان النصر على الأعداء كقوله تعالى : { وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان } [ الأنفال : 41 ] يعني : يوم بدر حين فرق بين الحق والباطل . وهو مروي عن ابن عباس ، ولأنه أدخل الواو في قوله « وَضِيَاءٌ » أي : آتينا موسى النصر والضياء ، وهو التوراة ، لأنَّ العطف يقتضي المغايرة . وقيل : المراد بالفرقان : البرهان الذي فرق به بين الحق والباطل . وقال الضحاك : الفرقان هو فلق البحر .
وقال محمد بن كعب : الفرقان الخروج عن الشبهات . ومن قال المراد بالفرقان : التوراة قال : الواو في قوله : « وَضِيَاءٌ » تكون من عطف الصفات ، والمراد به شيء واحد ، أي : آتيناه الجامع بين هذه الأشياء . وقيل : الواو زائدة . قال أبو البقاء ف « ضِيَاءٌ » حال على هذا . وإنما خصص الذكر بالمتقين كما في قوله « هُدىً للمتّقين » .
قوله : « الذين يَخْشَوْنَ » في محله ثلاثة أوجه : ( البحر على النعت أو البدل أو البيان ، والنصب والرفع على القطع ) . وفي معنى « الغَيْب » وجوه :
الأول : « يَخْشَوْنَ » أي : يخافون ربهم ولم يروه فيأتمرون بأوامره ، وينتهون عن نواهيه .
وثانيها : يخشون ربهم وهم غائبون عن الآخرة وأحكامها .
وثالثها : يخشون ربهم في الخلوات إذا غابوا عن الناس { وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ } خائفون . ثم قال : ولما أنزلت عليه القرآن المنزل عليك وهو معنى قوله : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ } يعني : القرآن « ذِكْرٌ » لمن تذكر به « مُبَارَكٌ » يتبرك به ، ويطلب منه الخير ، « أَفَأنْتُمْ » يا أهل مكة « لَهُ مُنْكِرُونَ » جاحدون ، استفهام إنكار وتوبيخ ، والمعنى : لا إنكار في إنزاله وفي عجائب ما فيه .

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ } الآية . « رُشْدَهُ » مفعول ثان .
وقرأ العامة « رُشْدَهُ » بضم الراء وسكون الشين ، وعيسى الثقفي بفتحها . والرُّشْدُ والرَّشَدُ كالعُدْم والعَدَم ، وقد تقدم الكلام عليهما . والمراد بالرُّشْدُ : النبوة لقوله { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } ، لأنه تعالى إنَّمَا يخص بالنوبة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحثها ويجتنب ما لا يليق بها ويحترز عما ينفر قومه من القبول .
وقيلب : الرُّشْد : الاهتداء لوجوه الصلاح في الدين والدنيا لقوله تعالى : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } [ النساء : 6 ] وقيل : يدخل تحت الرشد النبوة والاهتداء .
قوله : « مِنْ قَبْلُ » أي : من قبل موسى وهارون ، قاله ابن عباس ، وهاذ أحسن ما قدر به المضاف إليه وقيل : من قبل بلوغه أو نبوته حين كان في السرب فظهرت له الكواكب ، فاستدل بها ، وهذا على قول من حمل الرشد على الاهتداء وإلا لزمه أن يحكم بنبوته -عليه السلام- قبل البلوغ . قاله مقاتل .
وروى الضحاك عن ابن عباس معنى « مِنْ قَبْلُ » أي : حين كان في صلب آدم لما أخذ الله ميثاق النبيين .
والضمير في « بِهِ » يعود على « إبْرَاهِيمَ » . وقيل : على « رُشْدَهُ » .
والمعنى : أنه تعالى علم منه أشياء بديعة وأسراراً عجيبة حتى أهّله لأن يكون خليلاً له ، وهذا كقولك في رجل كبير : أنا عالم بفلان ، فإنَّ هذا الكلام في الدلالة على تعظيمه أدل مما إذا شرحت حال كماله .
فصل
دَلَّت الآية على أنَّ الإيمان مخلوق لله تعالى ، لأنَّهُ لو كان الرشد هو التوفيق والبيان ، وقد فعل الله تعالى ذلك بالكفار فيجب أن يكون قد آتاهم رشدهم .
وأجاب الكعبي : بأنَّ هذا يقال فيمن قَبِلَ لا فيمن ردَّ ، وذلك كمن أعطى المال لولدين فقبله أحدهما وثمره ، وردَّه الآخر أو أخذه ثم ضيعه ، يقال : أغنى فلان ابنه فيمن ثمر المال ، ولا يقال فيمن ضيع . وهذا الجواب لا يتم إلا إذا جعلنا قبوله جزءاً من مسمى الرّشد وذلك باطل ، لأنَّ المسمى إذا كان متركباً من جزأين ولا يكون أحدهما مقدر الفاعل لم يجز إضافة ذلك المسمى إلى الفاعل ، فكان يلزم أن لا يجوز إضافة الرشد إلى الله تعالى بالمفعولية لكن النص وهو قوله { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ } صريح في أنَّ ذلك الرشد إنما حصل من الله تعالى فبطل قوله .
قوله : « إذْ قَالَ » يجوز أن يكون منصوباً ب « آتَيْنَا » أو ب ، « رُشْدَهُ » أو ب « عَالِمِينَ » أو بمضمر أي : اذكر وقت قوله . وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكون بدلاً من موضع « قَبْلُ » .

أي : أنه يحب محله فيصح المعنى إذْ يصير التقدير : ولقد آتيناه رشداً إذْ قال . وهو بعيدٌ من المعنى بهذا التقدير .
قوله : { مَا هذه التماثيل } أي : الصور ، يعني : الأصنام . والتمثال : اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله . وأصله من مثَّلْتُ الشيء بالشيء : إذا شبهته به ، فاسم ذلك المُمَثَّل تِمْثَال . والتَّمَاثِيلُ : جمع تِمْثَال ، وهو الصورة المصنوعة من رخام ، أو نحاس ، أو خشب ، أو حديد؛ يشبه بخلق الآدمي وغيره من الحيوانات ، فال امرؤ القيس :
3724- فَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهَوْتُ وَلَيْلَةٍ ... بِآنِسَةٍ كَأَنَّهَا خَطُّ تِمْثَالِ
قوله : « لَهَا » قيل : اللام للعلة ، أي : عاكفون لأجلها . وقيل : بمعنى ( على ) ، أي : عاكفون عليها . وقيل : ضمّن « عَاكِفُونَ » معنى عابدين فلذلك أتى باللام وقال أبو البقاء : وقيل : أفادت معنى الاختصاص .
وقال الزمخشري : لم ينو للعاكفين مفعولاً ، وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقوله : فاعلون العكوف لها ، أو واقفون لها . فإن قلت : هلاَّ قيل : عليها عاكفون كقوله : { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } [ الأعراف : 138 ] قلت : لو قصد التعدية لعداه بصلته التي هي « على » .
قال شهاب الدين : الأولى أن تكون اللام للتعليل وصلة « عَاكِفُونَ » محذوفة أي : عاكفون عليها ، أي : لأجلها لا لشيء آخر .
قوله : { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } « عَابِدِينَ » مفعول ثان ل « وَجَدْنَا » و « لَهَا » لا تعلق له ، لأنَّ اللام زائدة في المفعول به لتقدمه .
فصل
اعلم أنَّ القوم لم يجدوا في جوابه إلاَّ طريقة التقليد فأجابوه بأنَّ آباءهم سلكوا هذا الطريق ، فاقتدوا بهم ، فلا جرم أجابهم إبراهيم -عليه السلام- بقوله : { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } فبين أنَّ الباطل لا يصير حقاً بكثرة المتمسكين به . قوله : « أَنْتُمْ » تأكيد للضمير المتصل .
قال الزمخشري : و « أَنْتُمْ » من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به ، لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ، ونحوه { اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة } [ البقرة : 35 ، الأعراف : 19 ] . قال أبو حيان : وليس هذا حكماً مجمعاً عليه فلا يصح الكلام مع الإخلال به ، لأنَّ الكوفيين يجيزون العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد بالضمير المنفصل ، ولا فصل ، وتنظير ذلك ب { اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة } [ البقرة : 35 ، الأعراف : 19 ] مخالف لمذهبه في { اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ } [ البقرة : 35 ، الأعراف : 19 ] لأنه يزعم أَنَّ « وَزَوْجَكَ » ليس معطوفاً على الضمير المستكن في « اسْكُنْ » بل مرفوع بفعل مضمر أي : وليسكن ، فهو عنده من قبيل عطف الجمل ، وقوله هذا مخالف لمذهب سيبويه .
قال شهاب الدين : لا يلزم من ذلك أنه خالف مذهبه إذ يجوز أن ينظر بذلك عند من يعتقد ذلك وإن لم يعتقد ( هو ) .
و « فِي ضَلاَلٍ » يجوز أن يكون خبراً إن كانت ( كَانَ ) ناقصة ، أو متعلقاً ب « كُنْتُمْ » إن كانت تامة .

قوله : { أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين } لما حقق عليه السلام ذلك عليهم ، ولم يجدوا من كلامه مخلصاً ورأوه منكراً عليهم من كثرتهم { قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين } فأوهموه بهذا الكلام أنه يبعد أن يقدم على الإنكار عليهم جاداً في ذلك ، وقالوا : أجاد أنت فيما تقول أم لاعب ، فأجابهم بقوله -عليه السلام- { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض } الآية . قوله « بالحَقِّ » متعلق ب « جئت » ، وليس المراد به حقيقة المجيء إذ لم يكن غائباً . و « أَمْ أَنْتَ » « أَمْ » متصلة وإن كان بعدها جملة ، لأنها في حكم المفرد إذ التقدير : أي الأمرين واقع مجيئك بالحق أم لعلك كقوله :
3725- ما أُبَالِي أَنَبَّ بِالحَزْنِ تَيْسٌ ... أَمْ لَحَانِي بِظَهْرٍ غَيْبٍ لَئِيمُ
وقوله :
3726- لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي ، وَإِنْ كُنْتَ دَارِياً ... شُعَيْبُ بنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ
يريد : أي الأمرين واقع ، ولو كانت منقطعة لَقُدِّرَتْ ب ( بل ) والهمزة وليس ذلك مراداً . قوله : « الذي فَطَرَهُنَّ » يجوز أن يكون مرفوع الموضع أو منصوبه على القطع . والضمير المنصوب في « فَطَرَهُنَّ » للسموات والأرض . قال أبو حيان : ولما لم تكن السموت والأرض تبلغ في العدد الكثير منه جاء الضمير ضمير القلة . قال شهاب الدين : إن عنى لم تبلغ كل واحد من السموات والأرض فمسلم ولكنه غير مراد ، بل المراد المجموع ، وإن عنى لم تبلغ المجموع منهما فغير مسلم ، لأنه يبلغ أربع عشرة ، وهو فوق حد جمع الكثرة ، اللهم إلاَّ أنْ نقول : إنَّ الأرض شخص واحد وليست بسبع كالسماء على ما رآه بعضهمن فيصح له ذلك ، ولكنه غير معول عليه . وقيل : على التماثيل .
قال الزمخشري : وكونه للتماثيل أثبت لتضليلهم وأدخل في الاحتجاج عليهم .
وقال ابن عطية : « فَطَرَهُنَّ » عبارة عنها كأنها تعقل ، وهذا من حيث لها طاعة وانقياد ، وقد وصفت في مواضع بوصف من يعقل . وقال غيره : « فَطَرَهُنَّ » أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنهما من قبيل مَنْ يعقل ، فإنَّ الله تعالى أخبر بقوله : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] وقوله -عليه السلام- « أطَتِ السماءُ وحقَّ لها أن تَئِطّ » قال شهاب الدين : كأنَّ ابن عطية وذا القائل توهما أنَّ ( هُنَّ ) من الضمائر المختصة بالمؤنثات العاقلات ، وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين العاقلات وغيرها قال تعالى : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التوبة : 36 ] ثم قال تعالى : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [ التوبة : 36 ] .
قوله : « عَلَى ذَلِكُمْ » متعلق بمحذوف أو ب « الشَّاهشدِينَ » اتساعاً ، أو على البيان ، وقد تقدم نظيره نحو { لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] .
فصل
اعلم أنَّ القوم لمَّا أوهموه أنه كالمازح في ما خاطبهم به أمر أصنامهم أظهر ذلك بالقول أولاً ثم بالفعل ثانياً .

أمَّا القول فهو قوله : { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض } وهذا يدل على أنَّ الخالق الذي خلقها لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن القادر على ذلك هو الذي يقدر على الضرر والنفع ، وهذه الطريقة هي نظير قوله : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] ، ثم قال : { وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين } أي : على أنه لا إله إلا الذي يستحق العبادة إلا هو . وقيل : { مِّنَ الشاهدين } على أنه خالق السموات والأرض .
وقيل : إنِّي قادر علىإثبات ما ذكرته بالحجة ، وإني لست مثلكم أقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة ، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم . وقيل : المراد منه المبالغة في التأكيد والتحقيق ، كقول الرجل إذا بالغ في مدح آخر أو ذمه : أشهد أنه كريم أو ذميم .

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)

وأما الفعل فقوله : { وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } لأمكرن بها . قرأ العامة « تَاللهِ » بالتاء المثناة فوق . وقرأ معاذ بن جبل ، وأحمد بن حنبل بالباء الموحدة . قال الزمخشري : فإن قُلْتَ « ما الفرق بين التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه . أما قوله : إنَّ الباء في الأصل فيدل على ذلك تصرفها في الباب بخلاف الواو والتاء ، وإن كان السُّهيلي قد ردَّ كون الواو بدلاً منها .
وقال أبو حيان : النظر يقتضي أن كلاً منهما أصل . وأما قوله : التعجب فنصوص النحويين أنه يجوز فيها التعجب وعدمه ، وإنما يلزم ذلك مع اللام كقوله :
3727- للهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ ... بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيانُ والآسُ
و » بَعْدُ « منصوب ب » لأكِيدَنَّ « ، و » مُدْبِرِينَ « حال مؤكدة ، لأن » تُوَلُّوا « يفهم معناها . وقرأ العامة » تُوَلُّوا « بضم التاء مضارع ( وَلَّى ) مشدداً .
وقرأ عيسى بن عمر » تَوَلَّوا « بفتحهما مضارع ( تَوَلَّى ) ، والأصل : تتولوا فحذف إحدى التاءين إمَّا الأولى على رأي هشام ، وإمَّا الثانية على رأي البصريين وينصرها قراءة الجميع { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } ، ولم يقرأ أحد » تُوَلُّوا « وهي قياس قراءة الناس هنا ، وعلى كلتا القراءتين فلام الكلمة محذوفة ، وهو الياء ، لأنه من » وَلَّى « ، ومتعلق هذا الفعل محذوف تقديره : تولوا إلى عيدكم ونحوه . فإن قيل : الكيد ضرر الغير بحيث لا يشعر به ولا يتأتى ذلك في الأصنام فكيف قال : { لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } ؟
فالجواب : توسعاً لما كان عندهم أنَّ الضرر يجوز عليها ، وقيل : المراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أنزل بهم الغم .
قوله : » فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً « . قرأ العامة » جُذَاذاً « بضم الجيم ، والكسائي بكسرها وابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال بفتحها . قال قطرب : هي لغاتها كلها مصدر ، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث والظاهر أنَّ المضموم اسم للشيء المكسر كالحطام والرفات والفتات بمعنى الشيء المحطم والمفتت . وقال اليزيدي : المضموم جمع جُذَاذَة بالضم نحو زجاج في زجاجة ، والمكسور جمع جَذِيذ نحو كِرَام في كَرِيم . وقال بعضهم : المفتوح مصدر بمعنى المفعول أي : مَجْذُوذِينَ . ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي : ذوات جذاذ .
وقيل : المضموم جمع جُذَاذَة بالضم ، والمكسور جمع جِذَاذَة بالكسر ، والمفتوح مصدر وقرأ ابن وثاب » جُذُذاً « بضمتين دون ألف بين الذالين ، وهو جمع جَذِيذ كقَلِيب وقُلُبٍ . وقرئ بضم الجيم وفتح الذال ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون أصلها ضمتين ، وإنما خففت بإبدال الضمة فتحة نحو سُرَر وذُلَل في جمع سرير وذليل ، وهي لغة لبني كلب .
والثاني : أنه جمع جذَّة نحو قبب في قبة ودرر في درة .

والجذ القطع والتكسير ، وعليه قوله :
3728- بَنُو المُهَلَّبِ جَذَّ اللهُ دَابِرَهُمْ ... أَمْسَوا رَمَاداً فَلاَ أصْلٌ وَلاَ طَرَفُ
وتقدم هذا مستوفى في هود . فإن قيل : لِمَ قال « جَعَلَهُمْ » وهذا جمع لا يليق إلا بالعقلاء؟
فالجواب عَامَلَ الأصنام مُعَاملة العقلاء حيث اعتقدوا فيها ذلك .
قوله : « إلاَّ كَبِيراً » استثناء من المنصوب في « فَجَعَلَهُمْ » أي : لم يكسره بل تركه و « لَهُمْ » صفة له ، وهذا الضمير يجوز أن يعود على الأصنام ، وتأويل عود ضمير العقلاء عليها تقدم . ويجوز أن يعود على عابديها . والضمير في « إلَيْهِ
يجوز أن يعود إلى » إبراهيم « ، أي : يرجعون إلى مقالته حين يظهر لهم الحق ، أو غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما شاهدوه من إنكاره لدينهم ، وسب آلهتهم ، فيبكتهم بما أهانهم به من قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] .
ويجوز أن يعود إلى الكبير ، وفيه وجهان :
أحدهما : لعلهم يرجعون إليه كما يرجعون إلى العالم في حل المشكلات ، فيقولون : ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً والفأس على عاتقك؟ وهذا قول الكلبي . وإنما قال ذلك بناء على كثرة جهالاتهم ، فلعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تجيب وتتكلم .
والثاني : أنه -عليه السلام- قال ذلك مع علمه أنهم لا يرجعون إليه ( استهزاء بهم ) .
فصل
قال السّدّيّ : كان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه ، فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ، ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم : لو خرجت معنا ، فخرج معهم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : إنِّي سَقِيم أشتكي رِجْلي ، ، فلمَّا مَضَوْا وبقي ضعفاء الناس ، نادى وقال : { تالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } أي : إلى عيدكم . فسمعوها منه . واحتج هذا القائل بقوله تعالى : { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } .
وقال الكلبيّ : كان إبراهيم -عليه السلام- من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلاَّ مريضاً ، فلما هَمَّ إبراهيم بكسر الأصنام ، نظر قبل يوم العيد إلى السماء ، وقال لأصحابه : أراني أشتكي غداً ، وهو قوله : { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 88 ، 89 ] . وأصبح في الغد معصوباً رأسه ، فخرج القوم ليعيدهم ولم يتخلف أحد غيره ، فقال : { وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } فسمع رجل منهم هذا القول ، فحفظه عيله ، ثم أخبر به غيره ، وانتشر ذلك في جماعة ، فلذلك قال تعالى : { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } ، ثم إن إبراهيم -عليه السلام- دخل بيت الأصنام فوجد سبعين صنماً مصطفة ، وعند الباب صنم عظيم من ذهب مستقبل الباب وفي عينه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسرها كلها بفاس في يده حتى لم يبق إلاَّ الكبير علق الفأس في عنقه .
فإن قيل : أولئك الأقوام إمَّا أنْ يكونوا عقلاء أو لم يكونوا عقلاء ، فإن كانوا عقلاء وجب أن يكونوا عالمين بالضرورة أنَّ تلك الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضرّ ، فأي حاجة في إثبات ذلك إلى كسرها؟ أقصى ما في الباب أن يقال : القوم كانوا يعظمونها كما يعظم الواحد منا المصحف والمسجد والمحراب وكسرها لا يقدح في تعظيمها من هذا الوجه .

وإن لم يكونوا عقلاء لم يحسن مناظرتهم ولا بعثة الرسل إليهم .
فالجواب : أنهم كانوا عقلاء وكانول عالمين بالضرورة أنها جمادات ، ولكن لعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تماثيل للكواكب ، وأنها طلمسات موضوعة ، بحيث إنَّ كل من عبدها انتفع ، وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد ، ثم إنَّ إبراهيم -عليه السلام- كسرها ولم ينله منها ضرر ألبتة ، فكان فعله دالاً على فساد مذهبهم . قوله { مَن فَعَلَ هذا } يجوز في « مَنْ » أن تكون استفهامية وهو الظاهر ، فعلى هذا تكون الجملة من قوله : { إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } استئنافاً لا محل لها من الإعراب . ويجوز أن تكون موصولة بمعنى ( الَّذِي ) ، وعلى هذا فالجملة من « إنَّهُ » في محل رفع خبراً للموصول ، والتقدير : الذي فعل في الظلمة إما لجرأته على الآلهة الحقيقة بالتوقير والإعظام ، وإما لأنهم رأوا إفراطاً في كسرها ، وتمادياً في الاستهانة بها .
قوله : « يَذْكُرُهُمْ » . في هذه الجملة أوجه :
أحدها : أن « سمع » هنا يتعدى لاثنين ، لأنها متعلقة بعين ، فيكون « فَتًى » مفعولاً أولاً و « يَذْكُرُهُمْ » هذه الجملة في محل نصب مفعول ثانياً ، ألا ترى أنك لو قلت : سَمِعْتُ زَيْداً ، وسَكَّتَ لم يكن كلاماً بخلاف : سمعت قراءته وحديثه .
والثاني : أنها في محل نصب أيضاً صفة ل « إبراهيم » .
قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : ما حكم الفعلين بعد « سَمِعْنَا » ، وما الفرق بينهما؟ قلت : هما صفنان ل « فَتًى » إلاَّ أنَّ الأول وهو « يَذْكُرُهُمْ » لا بدَّ منه ل « سَمِع » لأنك لا تقول : سَمِعْتُ زَيْداً وتسكت حتى تذكر شيئاً مما يسمعن وأما الثاني فليس كذلك . وهذا الذي قاله لا يتعين لما عرفت أن سمع إن تعلقت بما سمع نحو سمعت مقالة بكر فلا خلاف أنها تتعدى لواحد . وإن تعلقت بما لا يسمع فلا يكتفى به أيضاً بلا خلاف بل لا بدّ من ذكر شيء يسمع ، فلو قلت : سَمِعْتُ زَيْداً ، وسكت ، أم سَمِعْتُ زَيْداً يركب ، لم يجز ، فإن قلت : سمعته يقرأ صح ، وجرى في ذلك خرف بين النحاة فأبو علي يجعلها متعدية لاثنين ، ولا يتمشى عليه قول الزمخشري . وغيره يجعلها متعدية لواحد ، ويجعل الجملة بعد المعرفة حالاً وبعد النكرة صفة ، وهذا أراد الزمخشري .
قوله : « إِبْرَاهِيمُ » . في رفع « إِبْرَاهِيمُ » أوجه :
أحدها : أنه مرفوع على ما لم يسم فاعله ، أي : يقال له هذا اللفظ ، وكذلك قال أبو البقاء : فالمراد الاسم لا المسمى .

وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين أعني تسلط القول على المفرد الذي يؤدي معنى جملة ولا هو مقتطع من جملة ، ولا هو مصدر ل « قال » ، ولا هو صفة لمصدره نحو : قلت زَيْداً ، أي : قلت هذا اللفظ ، فأجازه جماعة كالزجاجي والزمخشري وابن خروف وابن مالك ، ومنعه آخرون . وممن اختار رفع « إِبْرَاهِيمُ » على ما ذكرت الزمخشري وابن عطية . أمَّا إذا كان المفرد مؤدياً معنى جملة كقولهم : قلت خطبة وشعراً وقصيدة أو اقتطع من جملة كقوله :
3729- إذَا ذُقْتَ فَاهَا قُلْتَ طَعْمُ مُدَامةٍ ... مُعَتَّقَةٍ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ التُّجُرْ
أو كان مصدراً نحو قُلْتُ قَوْلاً ، أو صفة له نحو : قُلْتُ حقاً أو باطِلاً ، فإنه يتسلط عليه كذا قالوا . وفي قولهم : المفرد المقتطع من الجملة نظر ، لأنَّ هذا لم يتسلط عيله القول إنما تسلط على الجملة المشتملة عليه .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، يقال له : هذا إبراهيم ، أو هو إبراهيم .
الثالث : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي : يقال له إبراهيم فاعل ذلك .
الرابع : أنه منادى وحرف النداء محذوف أي : يا إبراهيم .
وعلى الأوجه الثلاثة فهو مقتطع من جملة ، وتلك الجملة محكية ب « يُقَالُ » وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } ] [ 58 رفعاً ونصباً وفي الأعراف عند قوله { قَالُواْ مَعْذِرَةً } [ الأعراف : 164 ] رفعاً ونصباً . والجملة من « » يُقَالُ لَهُ « يحتمل أن تكون مفعولاً آخر نحو ظننت زيداً كاتباً شاعراً . وأن تكون على رأي الزمخشري ومن تابعه وأن تكون حالاً من » فَتًى « وجاز ذلك لتخصصها بالوصف .

قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)

فصل
لما سمع بعض القوم قول إبراهيم -عليه السلام- { تالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } وسمعوا سبّه لآلهتهم غلب على ظنهم أنه الفاعل لذلك ، فلذلك قالوا : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } أي : يعيبهم ويسبهم { يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } ، فهو الذي يظن أنه الذي صنع هذا .
فبلغ ذلك نمروذ الجبار ، وأشراف قومه ، فقالوا فيما بينهم { فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس } قال نمروذ ، أي : جيئوا به ظاهراً ، أي بمرأى من الناس { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } عليه أنه الذي فعله . قال الحسن وقتادة والسدي : كرهوا أن يأخذوه بغير بينةٍ . وقال محمد بن إسحاق : { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } أي : يحضرون عقابه فينزجروا عن الإقدام على مثله . وقال الكلبي ومقاتل : المراد مجموع الأمرين أي : يشهدون عليه عقابه .
قوله : { على أَعْيُنِ } في محل نصب على الحال من الهاء في « بِهِ » أي : ائتوا به ظاهراً مكشوفاً بمرأى منهم ومنظر . قال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ « ما معنى الاستعلاء في : » عَلَى « ؟ قُلْتُ : هو وارد على طريق المثل ، أي يثبت إتيانه على الأعين ، ويتمكن ثبات الراكب على المركوب ، وتمكنه منه .
قوله : { أَأَنْتَ فَعَلْتَ } . في » ءَأَنْتَ « وجهان :
أحدهما : أنه فاعل بفعل مقدر يفسره الظاهر بعده ، والتقدير : أفعلت هذا بآلهتنا فلمّا حذف الفعل انفصل الضمير .
والثاني : أنه مبتدأ والخبر بعد الجملة .
والفرق بين الوجهين من حيث اللفظ واضح ، فإنَّ الجملة من قوله » فَعَلْتَ « الملفوظ بها على الأول لا محل لها ، لأنها مفسرة ومحلها الرفع على الثاني ، ومن حيث المعنى أنّ الاستفهام إذا دخل على الفعل أشعر بأنَّ الشك إنما تعلق به ( هل وقع أم لا؟ من غير شك في فاعله . وإذا دخل على الاسم وقع الشك فيه ) هل هو الفاعل أم غيره؟ والفعل غير مشكوك في وقوعه ، بل هو واقع فقط .
فإذا قلت : أَقَامَ زَيْدٌ؟ كان شكك في قيامه . وإذا قلت : أَزَيْدٌ قَامَ؟ وجعلته مبتدأ كان شكك في صدور الفعل منه أم من عمرو .
والوجه الأولى هو المختار عند النحاة ، لأنَّ الفعل تقدم ما يطلبه ، وهو أداة الاستفهام .
قوله : { بَلْ فَعَلَهُ } هذا الإضراب عن جملة محذوفة تقديره : لم أفعله إنما الفاعل حقيقة الله تعالى ، وإسناد الفعل إلى » كَبِيرُهُمْ « من أبلغ التعاريض .
قوله : » هَذَا « فيه ستة أوجه :
أحدها : أن يكونَ نعتاً ل » كَبِيرُهُمْ « .
الثاني : أن يكون بدلاً من » كَبِيرُهُمْ « .
الثالث : أن يكون خبراً ل » كَبِيرُهُمْ « على أنَّ الكلام يتم عند قوله » بَلْ فَعَلَهُ « وفاعل الفعل محذوف . كذا نقله أبو البقاء ، وقال : وهذا بعيد ، لأنَّ حذف الفاعل لا يسوغ . قال شهاب الدين : وهذا القول يعزى للكسائي ، وحينئذ لا يحسن الرد عيله بحذف الفاعل فإنه يجيز ذلك ، ويلزمه ، ويجعل التقدير : بل فعله من فعله ويجوز أن يكون أراد بالحذف الإضمار ، لأنه لمّا لم يذكر الفاعل لفظاً سمى ذلك حذفاً .

الرابع : أن يكونَ الفاعل ضمير « فَتًى » .
الخامس : أني كون الفاعل ضمير « إبْرَاهِيم » .
وهذان الوجهان يؤيدان أنَّ المراد بحذف الفاعل إنَّمَا هو الإضمار .
السادس : أن « فَعَلَهُ » ليس فعلاً ، بل الفاء حرف عطف دخلت على « عَلَّ » التي أصلها « لَعَلَّ » حرف ترج وحذف اللام الأولى ثابت ، فصار اللفظ « فَعَلَّهُ » أي : فَلعلّه ، ثم حذف اللام الأولى وخففت الثانية . وهذا يعزى للفراء وهو مرغوب عنه . وقد استدل على مذهبه بقراءة ابن السميفع « فَعَلَّهُ » بتشديد اللام ، وهي قراءة شاذة لا يرجع بالقراءة المشهورة إليها ، وكأن الذي حملهم على هذا خفاء وجه صدور هذا الكلام من النبي -عليه السلام- .
فصل
اعلم أن القوم لمّا قالوا له { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم } طلبوا منه الاعتراف بذلك ، ليقدموا على إيذائه ، فقلب الأمر عليهم وقال : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } ، وكان قد علق الفأس في رقبته ، وأراد بذلك إقامة الحجة عليهم وإظهار جهلهم في عبادة الأوثان ، وقال : { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } واعلم أنّ للناس هاهنا قولان :
الأول : قول كافة المحققين ، وهو أنّ قول إبراهيم -عليه السلام- { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } من قبيل التعريض ، وهو من وجوه :
أحدها : أنًّ قصد إبراهيم -عليه السلام- تقرير الفعل لنفسه على أسلوب تعريضيّ ، وليس قصده نسبة الفعل إلى الصنم ، وهذا كما لو قال صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق ، وأنت شهير بحسن الخط ، ولا يقدر هو إلا على خرمشة فاسدة : أأنت كتبت هذا ، فقلت له : بل كتبته أنت ، وكأن قصدك بهذا تقريره لك كع الاستهزاء لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش ، لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء وإثبات للقادر .
وثانيها : أنَّ إبراهيم -عليه السلام- غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة ، وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له ، فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته لها وحطمه لها ، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحال عليه .
وثالثها : أن يكون حكاية لما يلزم عن مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم ، فإنَّ حق من يُعْبَد ، ويُدْعَى إلهاً أن يقدر على هذا أو أشد منه ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري .
ورابعها : ما تقدم عن الكسائي أنه اكن يقف عند قوله « كَبِيرُهُمْ » ثم يبتدئ فيقول : { هذا فَاسْأَلُوهُمْ } . والمعنى : بل فعله كبيرهم ، وعنى نفسه ، لأنّ الإنسان أكبر من كل صنم ، وأنه كناية عن غير مذكور ، أي : فعله من فعله و « كَبِيرهُمْ » ابتداء كلام .

وخامسها : قال الطِّيبي معناه على التقديم والتأخير ، أي بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم ، فجعل النطق شرطاً للفعل إن قدروا على النطق قدروا على الفعل فأراهم عجزهم ، وفي ضمنه أنا فعلت ذلك .
وسادسها : قراءة ابن السميفع المتقدمة .
والقول الثاني : قال البغوي : والأصح أن إبراهيم -عليه السلام- أراد بذلك الفعل إقامة الحجة عليهم فذلك قوله : { هذا فَاسْأَلُوهُمْ } حتى يخبروا من فعل ذلك بهم ، لما « روي أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلا ثلاث كذبات ثنتان منهن في ذات الله ، قوله : » إنِّي سَقِيمٌ « ، وقوله : » بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا « ، وقوله لسارة : » هذه أختي « وفي حديث الشفاعة قول إبراهيم -عليه السلام- » إنِّي كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ « والقائلون بهذا القول قدروه من جهة العقل وقالوا : الكذب ليس قبيحاً لذاته فإنَّ النبي إذا هرب من ظالم واختفى في دار إنسان فجاء الظالم وسأل عنه ، فإنه يجب الكذب فيه ، وإذا كان كذلك ، فأي بُعْد في ان يأذن الله في ذلك لمصلحة لا يعلمها إلا هو كما أذن ليوسف -عليه السلام- حين أمر مناديه لإخوته : { أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ يوسف : 70 ] ولم يكونوا سرقوا .
قال ابن الخطيب : وهذا القول مرغوب عنه أما الخبر فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء ، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه فلنجر هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه ، وفي كل ما أخبر الله عنه ، وذلك يبطل الوثوق بالشرائع ، وتطرق المهمة إلى كلها ، ثم لو صح ذلك الخب فهو محمول على المعاريض على ما قاله عليه السلام » إنَّ في المَعَارِيضِ لمندوحةً عن الكَذِبِ « .
فأمّا قوله : » إني سَقِيمٌ « فلعله سقيم القلب كما يجيء في موضعه .
وأمّا قوله : » بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ « فقد ظهر الجواب عنه . وأما قوله لسارة : هذه أختي ، أي : في الدين . وأما قصة يوسف -عليه السلام- فتقدم الكلام عليها .
قوله : { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } جوابه محذوف لدلالة ما قبله ، ومن جوَّز التقديم جعل » فَاسْألُوهُمْ « هو الجواب .
قوله : { فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } فيه وجوه :
الأول : أنَّ إبْراهيم -عليه السلام- لما نبههم على قبح طريقتهم بما أورده عليهم علموا أنَّ عبادة الأصنام باطلة ، وأنهم على غرور وجهل في ذلك .
الثاني : قال مقاتل : { فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ } فلاموها وقالوا : { إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير .
الثالث : أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتموه ختى إنه يستهزئ بكم في الجواب .
قوله : { ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ } قرأ العامة : » نُكِسُوا « مبنياً للمفعول مخفف الكاف أي : نكسهم الله أو خجلهم .

و « عَلَى رُؤُوسِهِم » حال ، أي : كائنين على رؤوسهم . ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل . والنَّكْسُ والتَّنْكِيسُ : القلب ، يقال : نَكَسَ رَأْسَهُ ونَكَّسَهُ مخففاً ومشدداً . اي : طأطأه حتى صار أعلاه أسفله .
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن الجارود وابن مقسم : « نُكِّسُوا » بالتشديد وقد تقدم أنه لغة في المخفف ، فليس التشديد لتعدية ولا لتكثير .
وقرأ رضوان بن عبد المعبود : « نَكَسُوا » مخففاً مبنياً للفاعل ، وعلى هذا فالمفعول محذوف تقديره : نكسوا أنفسهم على رؤوسهم .
فصل
قال المفسرون : أجرى اله الحق على ألسنتهم في القول الأول ثم أدركتهم الشقاوة فهو معنى قوله : { ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ } أي : ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم . وقيل : قلبوا على رؤوسهم حقيقة بفرط إطراقهم خجلاً وانكساراً وانخزالاً مما بهتهم إبراهيم ، فلما أحاروا جواباً إلا ما هو حجة لإبراهيم -عليه السلام- حين جادلهم- فقالوا : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } فأقروا بهذه الحجة التي لحقتهم .
قوله : { مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } هذه الجملة جاب قسم محذوف ، والقسم وجوابه معمولان لقول مضمر ، وذلك القول المضمر حال من مرفوع « نُكِسُوا » أي : نكسوا قائلين : والله لقد علمت .
قوله : { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً } يجوز أن تكون « مَا » حجازية فيكون « هَؤُلاَءِ » و « يَنْطِقُونَ » في محل نصب خبرها .
أو تميمية فلا عمل لها . والجملة المنفية بأسرها سادة مسد المفعولين إن كانت « عَلِمْت » على بابها ، ومسد واحد إن كانت عرفانية .
قوله : { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً } إن عبدتموه ، { وَلاَ يَضُرُّكُمْ } إن تركتم عبادته . « أفٍّ لَكُمْ » أي : نتناً وقذراً لكم { وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } تقدم الكلام على « أُفٍّ » في سورة سبحان . قال الزمخشري : « أُفٍّ » صوت إذا صوت به دل على أنّ صاحبه متضجر ، وأن إبراهيم -عليه السلام- أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد وضوح الحق وانقطاع عذرهم وزهوق الباطل فتأفف .
واللام في « لَكُم » وفي « لِمَا » لام التبيين ، أي : لتأفيف لَكُمْ لا لغيركم ، وهي نظير قوله : « هَيْتَ لَكَ » . ثم قال : « أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » أي : أليس لكم عقل تعقلون هذا وتعرفونه؟

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)

فلما ألزمهم الحجة وعجزوا الحجة عن الجواب { قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ } ليس في القرآن من القائل ذلك ، والمشهور انه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن مكوش بن حام بن نوح . وقال مجاهد : سمعت ابن عمر يقول : إنما أشار بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد من فارس .
ورى ابن جريج عن وهب عن شعيب قال : إن الذي قال حرقوه اسمه هرين فخسف الله به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
فصل
قال مقاتل : لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا له بنياناً كالحظيرة ، وذلك قوله : { قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم } [ الصافات : 97 ] . ثم جمعوا له الحطب الكثير ، حتى إنَّ الرجل أو المرأة لو مرضت قالت : إن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم . وقيل : بنوا آتوناً بقرية يقال لها كوثى .
ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوماً ، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها ، فتلقيه فيه احتساباً في دينها ، فلما اشتعلت النار ، واشتدت حتى إن كانت الطير لتمر به وهي في أقصى الجو فيحترق من شدة وهجها . روي أنَّهم لم يعلموا كيف يلقوه فيها؟ فجاء إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه . وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له : هيزن ، وكان أول من صنع المنجنيق ، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة . ثم عمدوا إلى إبراهيم -عليه السلام- فوضعوه فيه مقيداً مغلولاً ، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة صيحة واحدة : أي ربنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم ، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : « إن استغاث به وأما وَليُّهُ فهلوا بيني وبينه ، فإنه خليل ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري » .
فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النار . وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء .
فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض من يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل .
قال ابن عباس : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } [ آل عمران : 173 ] قالها إبراهيم حين القي في النار ، وقالها محمد حين قيل له : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } [ آل عمران : 173 ، 174 ] فحين ألقي في النار قال : « لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك » . ثم رموه في المنجنيق إلى النار ، فأتاه جبريل ، فقال : يا إبراهيم الك حاجة؟ قال : أما إليك فلا ، قال : فاسأل ربك قال : حسبه من سؤالي علمه بحالي .

فقال الله تعالى : { يانار كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا على إِبْرَاهِيمَ } . قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار . « وروت أم شريك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوزغ وقال : » كان ينفخ علىإبراهيم « وقال السُّدِّيّ : القائل { كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا } هو جبريل . وقال ابن عباس في رواية مجاهد : لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها ، قال : ولم يبق يومئذ نار إلا طفئت ، ولو لم يقل » عَلَى إِبْرَاهِيم « بقيت ذات برد أبداً . قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ، ولم تحرق النار منه لا وثاقه . وقال المنهال بن عمرو : أخبرت أنّ إبراهيم -عليه السلام- لما ألقي في النار كان فيها إما أربعين يوماً أو خمسين يوماً ، وقال : ما كنت أطيب عيشاً مني إذا كنت فيها . قال ابن يسار : وبعث الله عز وجل ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه ، وأتى جبريل بقميص من حرير الجنة وَطِنْفسَة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال : يا إبراهيم إنَّ ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي .
ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ورأى الملك قاعداً إلى جنبه وما حوله نار تحرق ، فناداه نمروذ : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟
قال : نعم ، قم فاخرج ، فقام يمشي حتى خرج منها .
قال له نمروذ : من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعداً إلى جنبك؟ قال : ذاك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني ، فقال له نمروذ : إني مقرِّب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك ، وإنِّي ذابح له أربعة آلاف بقرة ، فقال إبراهيم -عليه السلام- لا يقبل الله نمنك ما دمت على دينك هذا ، قال نمروذ : لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها ثم كف عن إبراهيم .
روي أن إبراهيم -عليه السلام- ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة . وإنما اختاروا المعاقبة بالنار ، لأنها أقوى العقوبات . وقيل : روي أن هاران أبا لوط قال لهم : إن النار لا تحرقه ، لأنه سحر العقوبات . وقيل : روي أن هاران أبا لوط قال لهم : إن النار لا نحرقه ، لأنه سحر النار ، وبكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته ، ففعلوا ، فطارت شرارة في لحية أبي لوط فأحرقته .
قوله : » بَرْداً « أي : ذات برد . والظاهر في » سَلاَماً « أنه نسق على » بَرْداً « فيكن خبراً عن » كوني « . وجوَّز بعضهم أن ينتصب على المصدر المقصود به التحية في العرف وقد رُدَّ هذا بأنه لو قصد ذلك لكان الرفع فيه أولى ، نحو قول إبراهيم : » سَلاَمٌ « ، وهذا غير لازم ، لأنه لا يجوز أن يأتي القرآن على الفصيح والأفصح ، ويدل على ذلك أنه جاء مقصوداً ، والمقصود به التحية نحو قول الملائكة : » قَالُوا سَلاَماً « .

وقوله « عَلَى إبْرَاهِيمَ » متعلق بنفس إن قصد به النحية . ويجوز أن يكون صفة فيتعلق بمحذوف ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون قد حذف صفة الأول لدلالة صفة الثاني عليه تقديره : كوني برداً عيله وسلاماً عليه .
فصل
قال أبو مسلم الأصفهاني في تفسير قولنا « قُلْنَا يَا نَارُ » المعنى : أنه سبحانه وتعالى جعل النار برداً وسلاماً لا أنَّ هناك كلاماً كقوله : { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] أي : يكونه . واحتج عليه بأن النار جماد فلا يجوز خطابه .
والأكثرون على انه وجد ذلك القول ، ثم هؤلاء قولان :
أحدهما : قال السُّديِّ : القائل هو جبريل .
والثاني : قول الأكثرين إنَّ القائل هو الله تعالى ، وهو الأقرب الأليق بالظاهر . وقوله : النار جماد فلا يكون في خطابها فائدة .
فالجواب : لِمَ لا يجوز أن يكون المقصود من ذلك الأمر مصلحة عائدة إلى الملائكة .
فصل
اختلفوا في كيفية برد النار . فقيل : إن الله تعالى أزال ما فيها من الحرارة والإحراق ، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق ، والله على كل شيء قدير .
وقيل : إنه تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول النار إليه كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة ، وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة ، وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار . وقيل : إنه خلق بينه وبين النار حائلاً يمنع من وصول أثر النار إليه .
قال المحققون : والأول أولى ، لأنَّ ظاهر قوله : { يانار كُونِي بَرْداً } أي نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تاثرها . فإن قيل : الناؤ إن بقيت كما كانت ، والحرارة جزء من مسمى النار ، وامتنع كون النار باردة ، فإذن يجب أن يقال : المراد من النار الجسم الذي هو أحد أجاء مسمى النار ، وذلك مجاز فلم كان مجازكم أولى . فالجواب : أن المجاز الذي ذكرناهخ يبقى معه حصول البرد وفي الذيب ذكرتم لا يبقى ذلك ، فكان مجازنا أولى .
فصل
معنى كون النار سلاماً على إبراهيم : أنَّ البرد إذا أفرط أهلك كالحر فلا بُدّ من الاعتدال ، وهو من وجوه : الأول : أن يقدر الله بردها بالمقدار الذي لا يؤثر .
والثاني : أنَّ بعض النار صار برداً وبقي بعضها على حرارته فتعادل الحر والبرد .
والثالث : أنه تعالى جعل في جسمه مزيدَ حرٍّ فانتفع بذلك البرد وَالتَذَّ بهِ .
فصل
روي أنّ كلّ النيران في ذلك الوقت زالت وصارت برداً ، ويؤيد ذلك أنَّ النار اسم للماهية ، فر بُدّ وأنْ يحصل هذا البرد في الماهية ويلزم منه عمومه في كل أفراد الماهية وقيل : بل اختصت بتلك النار ، لأنّ الغرض إنما تعلق ببرد تلك النار ، وفي النار منافع للخلق فلا يجوز تعطيلها ، والمراد خلاص إبراهيم لا إيصال الضرر إلى سائر الخلق .

فإن قيل : أفيجو ما روي من أنه لو لم يقل « وَسَلاَماً » لأتى الرد عليه . قال ابن الخطيب : ذلك بعيد ، لأنَّ برد النار لم يحصل منها وإنما حصل من جهة الله تعالى فهو القادر على الحر والبرد ، فلا يجوز أن يقال : كان البرد يعظم لولا قوله : « سَلاَماً » .
قوله : { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } أي : أرَادُوا ان يكيدوه { فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين } .
قيل : معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم .
وقيل : فجعلناهم مغلوبين غالبوه فلقنه الله الحجة وقيل : أرسل الله على نمروذ وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ، ودخلت واحدة في دماغه فأهلكته .
قوله تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } لما نصره الله تعالى أتم النعمة عليه بأن نجاه ونجَّى لوطاً وهو ابن أخيه ، وهو لوط بن هاران نجاهما من نمروذ وقومه من أرض العراق إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين يعني مكة ، وقيل : أرض الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار ، ومنها بعث أكثر الأنبياء .
وقال تعالى : { إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] قال أُبي بن كعب : سماها مباركة ، لأنّ ما من ماء عذب وإلا وينبع أصله منتحت الصخرة التي ببيت المقدس وروى قتادة أنّ عمر بن الخطاب قال لكعب : ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبره ، فقال إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده .
« وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : » إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم « قوله : » وَلُوطاً « يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أَنْ يكونَ معطوفاً على المفعول قبله .
والثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً معه . والأول أولى .
وقوله : » إِلَى الأَرْضِ « يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب ، » نَجَّيْنَاهُ « علىأن يتضمن معنى أخرجناه بالنجاة فلما ضمن معنى أخرج تعدى تعديته .
والثاني : أنه لا تضمين فيه وأنَّ حرف الجر يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في » نَجَّيْنَاهُ « أي : نجيناه منتهياً إلى الأرض كذا قدره أبو حيان وفيه نظر من حيث إنه قدر كوناً مقيداً وهو كثيراً ما يَرُدُّ على الزمخشري وغيره ذلك .
فصل
اعلم أنَّ لوطاً آمن بإبراهيم كما قال تعالى { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [ العنكبوت : 26 ] وكان ابن أخيه ، وهو لوط بن هاران بن تارخ ، وهاران هو أخو إبراهيم ، وكان لهما أخ ثالث يقال له ناخور بن تارخ ، وآمنت به أيضاً سارة ، وهي بنت عمه ، وهي سارة بنت هاران الأكبر عن إبراهيم فخرج من كوشى من أرض حدود بابل بالعراق مهاجراً إلى ربه ومعه لوط وسارة ، فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حَرَّان فمكث بها ما شاء الله ، ثم ارتحل منها ونزل أرض السبع من فلسطين وهي برية الشام ، ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر ، ثم خرج من مصر إلى الشام ، ونزل لزط بالمؤتفكة ، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب ، وبعثه الله نبياً ، فلذلك قوله : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } .

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)

قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } . قال مجاهد وعطاء : النافلة العطية وكذل النفل ، ويسمى الرجل الكثير العطاء نوفلاً .
وقيل : الزيادة . وقيل : ولد الوالد .
فعلى الأول ينتصب انتصاب المصدر من معنى العامل وهو « وَهَبْنَا » لا من لفظه لأنّ الهبة والعطاء متقاربان فهي كالعاقبة والعافية . وعلى الآخرين ينتصب على الحال ، والمراد بها يعقوب . والنافلة مختصة بيعقوب على كل تقدير ، لأنّ إسحاق ولده لصلبه ، وهذا قول ابن عباس وأُبيّ بن كعب وابن زيد وقتادة .
قوله : « وَكُلاًّ » مفعول أول ل « جَعَلْنَا » و « صَالِحِينَ » هو الثاني توسط العامل بينهما ، والأصل : وجعلنا أي : صيرنا كلاًّ من إبراهيم ومن ذكر معه صالحين . وقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } كما تقدم إلا أنه لم يتوسط العامل .
وقوله : « يَهْدُونَ » صفة ل « أئمةً » و « بأَمْرِنَا » متعلق ب « يَهْدُونَ » وقد تقدم التصريف المتعلق بلفظ « أَئِمَّة » وقراءة القراء فيها .
فصل
المعنى : « وَكُلاً » من إبراهيم وإسحاق ويعقوب « جَعَلْنَا صَالِحِينَ » .
قال الضحاك : أي : مرسلين ، وقال آخرون : عاملين بطاعة الله . « وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً » يقتدى بهم في الخبر « يَهْدُونَ » يدعون الناس إلى ديننا { بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات } أي : العمل بالشرائع . وقال أبو مسلم : المراد النبوة . « وَإِقَام الصَّلاَةِ » أي : وإقامة الصلاة ، يعني المحافظة؟ { وَإِيتَآءَ الزكاة وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ } موحدين . دلَّت هذه الآية على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، لأنَّ قوله تعالى : { وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ } يدل على أنّ الصلاح من قبله .
وأجاب الجبائي : بأنه لو كان كذلك لما وصفهم بكونهم « صَالِحِيْنَ » ويكونهم « أَئِمَّةٌ » وبكونهم « عَابِدَيْنَ » ، ولما مدحهم بذلك ، وإذا كان كذلك فلا بُدَّ من التأويل وهو من وجهين :
الأول : أنْ يكونَ المراد أنه تعالى أتاهم من لطفه وتوفيقه ما صلحوا به .
والثاني : أنَّ المراد تسميتهم بذلك كما يقال : زيد فسق فلاناً وكفره ، إذا وصفه بذلك وكان مصدقاً عند الناس ، وكما يقال في الحاكم زكى فلاناً ، وعدله ، وجرحه ، إذا حكم بذلك . والجواب : المعارضة بمسألة العلم والداعي ، وأما الحمل على اللطف فباطل ، لأنَّ فعل الإلطاف عام في المكلفين ، فلا بُدَّ في هذا التخصيص من مزيد فائدة ، ولأنّ قوله : جعلته صالحاً كقولك : جعلته متحركاً ، فحمله على تحصيل شيء سوى الصلاح ترك للظاهر . وأما الحمل على التسمية فمحال ، لأنّ ذلك إنما يصار إليه إلا عند الضرورة في بعض المواضع ، ولا ضرورة ههنا إلا أن يرجعوا مرة أخرى إلى فصل المدح والذم وحينئذ نرجع إلى مسألتي الداعي والعلم .
قوله : « فِعْلَ الخَيْرَاتِ » قال الزمخشري : أصله انْ تفعل الخيرات ، ثم فعلا الخيرات ، ( ثم فعل الخيرات ) وكذلك { إِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة } .

قال أبو حيَّان : كأنَّ الزمخشري لما رأى أنَّ فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليس من الأحكام المختصة بالموحي إليهم ، بل هم وغيرهم في ذلك مشتركون بنى الفعل للمفعول حتى لا يكون المصدر مضافاً من حيث المعنى إلى ضمير الموحى إليهم ، فلا يكون فعلهم الخيرات وإقامتهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة ، ولا يلزم ذلك إذ الفاعلمع المصدر محذوف . ويجوز أنْ يكونَ من حيث المعنى مضافاً إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليهم وغيرهم ، والتقدير : فعل المكلفين الخيرات . ويجوز أن يكون مضافاً إلى ضمير الموحى إليهم أي : أن يفعلوا الخيرات ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وإذا كانوا هم قد أوحى إليهم ذلك فأتباعهم جارون مجراهم في ذلك ، ولا يلزم اختصاصهم به . ثم اعتقاد بناء المصدر للمفعول مختلف فيه أجاز ذلك الأخفش ، والصحيح منعه ، فليس ما اختاره الزمخشري بمختار . قال شهاب الدين : الذي يظهر أنّ الزمخشري لم يقدر هذا التقدير الذي ذكره الشيخ حتى يلزمه ما قاله بل إنما قدّر ذلك ، لأن نفس الفعل الذي هو معنى صادر من فاعله لا يوحى إنما يوحى ألفاط تدل عليه فكأنه قيل : وأوحينا هذا اللفظ وهو أن نفعل الخيرات ، ثم صاغ ذلك الحرف المصدري مع ما بعده منوناً ناصباً لما بعده ، ثم جعله مصدراً مضافاً لمفعوله .
وقال ابن عطية : والإقام مصدر وفي هذا نظر انتهى ، يعني ابن عطية بالنظر أن مصدر ( أفعل ) على ( الإفعال ) ، فإنْ كان صحيح العين جاء تاماً كالإكرام ، وإنْ كان معتلها حذف منه إحدى الألفين ، وعوض منه تاء التأنيث فيقال : إقامة ، إذا اعتلت عينه ، وحسن ذلك أنه قابل : « وَإِيتَاءَ الزَّكاة » وهو بغير تاء فتقع الموازنة بين قوله { وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة } . وقال الزجاج : حذف التاء من إقامة ، لأنَّ الإضافة عوض عنها . وهذا قول الفراء زعم أنَّ التاء تحذف للإضافة كالتنوين .

وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

قوله تعالى : { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } الآية .
في الواو في قوله : « وَلُوطاً » قولان :
أحدهما : قال الزجاج : إنَّه عطف على قوله « وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ » .
والثاني : قال أبو مسلم : إنه عطف على قوله { آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ } [ الأنبياء : 51 ] ولا بُدَّ من ضمير في قوله : « وَلُوطاً » كأنه قال : وآتينا لوطاً ، فهو منصوب بفعل مقدر يفسره الظاهر بعده تقديره : وآتينا لوطاً آتيناه ، فهي من الاشتغال والنصب في مثله هو الراجح ، ولذلك لم يقرأ به لعطف جملته على جملة فعلية وهو أحد المرجحات .
وقيل : إنَّ « لُوطاً » منصوب ب ( اذكر ) لوطاً .
« آتَيْنَاهُ حُكْماً » أي : الحكمة ، أو الفصل بين الخصوم بالحق ، وقيل : النبوة « وَعِلْماً » قيل : أدخل التنوين على الحكم والعلم دلالة على علو شأن ذلك الحكم وذلك العلم .
قوله : { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية } أي : من أهل ، يدل على ذلك قوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } وكذلك أسند عمل الخبائث إليها ، والمراد أهلها يريد سدوساً .
والخبائث صفة لموصوف محذوف أي : يعمل الأعمال لخبائث ، كانوا يأتون الذكران في أدبارهم ، ويتضارطون في أنديتهم مع أشياء أُخَر كانوا يعلمون من المنكرات { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } { وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ } قال مقاتل : الرحمة النبوة وقال ابن عباس والضحاك : إنَّها الثواب . { إِنَّهُ مِنَ الصالحين } .

وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

قوله تعالى : { وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ } الآية . في نصب « نوحاً » وجهان :
أحدهما : أنه منصوب عطفاً على « لوطاً » فيكون مشتركاً معه في عامله الذي هو « آتَيْنَاهُ » المفسر ب « آتَيْنَاهُ » الظاهر ، وكذلك { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } والتقدير : وَنُوحاً آتيناه حُكْماً وداود وسليمان آتيناهما حكماً ، وعلى هذا ف « إذْ » بدل من « نُوحاً » ومن « داود وسليمان » بدل اشتمال ، وتقدم تحقيق مثل هذا في طه .
الثاني : أنه منصوب بإضمار ( اذكر ) ، أي : اذكر نوحاً وداود وسليمان أي : اذكر خبرها وقصتهم ، وعلى هذا فيكون « إذْ » منصوبة بنفس المضاف المقدر ، أي : خبرهم الواقع في وقت كان كيت وكيت .
وقوله : « مَنْ قَبْلُ » أي : من قبل هؤلاء المذكورين .
فصل
المراد من هذا النداء : دعاؤه على قومه بالعذاب ، ويدل على لك قوله : { أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر } [ القمر : 10 ] ، وقوله : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ويؤكده قوله تعالى { فاستجبنا لَهُ } « فَنَجَّيْنَاهُ » ، يدل على ذلك أنَّ نداءه ودعاءه كان بأن ينجيه مما يلحقه من جهتهم من الأذى بسبب تكذيبهم وردهم عليه واتفق المحققون على أنَّ ذلك النداء كان بأمر الله ، لأنَّه لو لم يكن بإذنه لم يؤمن أن يكون المصلحة أن لا يجاب إليه ، فيصير ذلك سبباً لنقصان حال الأنبياء . وقال آخرون : لم يكن مأذوناً له في ذلك . قال أبو أمامة : لم يتحسر أحد من خلق الله كحسرة آدم ونوح -عليهما السلام- فحسرة آدم على قبول وسوسة إبليس ، وحسرة نوح على دعائه على قومه فأوحى الله إليه أن دعوتك وافقت قدرتي قوله : { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم } المراد بالأهل هنا اهل دينه قال ابن عباس : المراد { مِنَ الكرب العظيم } من الغرق وتكذيبه قومه وقيل : لأنه كان أطول الأنبياء عُمراً وأشدَّهُمْ بلاءً ، والكرب أشد الغم .
قوله : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } فيه أوجه :
أحدها : أن يُضمن « نَصَرْنَاهُ » معنى منعناه وعصمناه ، ومثله { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله } [ غافر : 29 ] فلما تضمن معناه تعدى تعديته .
والثاني أن ( نصر ) مطاوعه ( انتصر ) فتعدى تعدية ما طاوعه ، قال الزمخشري هو نصر الذي نطاوعه انتصر ، وسمعت هذيلاً يدعو على سارق اللهم انصرهم منه أي : اجعلهم منتصرين منه . ولم يظهر فرق بالنسبة إلى التضمين المذكور فإن معنى قوله : منتصرين منه أي : ممتنعين أو معصومين منه .
الثالث : أن « مِنْ » بمعنى « عَلَى » أي : على القوم ، ( وقرأ أبي « ونَصَرْنَاهُ عَلَى القَوْمِ » ) . قال المبرد : ونصرناه من مكروه القوم .
قال تعالى : { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله } [ غافر : 29 ] . والمعنى منعناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا أن يصلوا إليه بسوء { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ } لتكذيبهم له وردهم عليه { فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } فخلصه منهم بذلك .

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)

قوله تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } الآية . تقدم الكلام على الإعراب .
واعلم أَنَّ المقصود ذكر نعم الله على داود وسليمان ، فذكر أولاً النعمة المشتركة بينهما ثم ذكر ما يخصّ كل واحد منهما من النعم . أما النعمة المشتركة فهي قصة الحكومة ، وهو أن الله زينهما بالعلم والفهم في قوله : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } قال أكثر المفسرين : المراد بالحرث الزرع . وقال ابن مسعود وابن عباس : كان الحرث كرماً قد تدلت عناقيده . { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم } أي رعته ليلاً فأفسدته؛ والنَّقْشُ : الرعي بالليل . قاله ابن السكيت ، وهو قول جمهور المفسرين . والنَّفْشُ : الانتشار ، ومنه { كالعهن المنفوش } [ القارعة : 5 ] ونفشت الماشية أي : رعت ليلاً بغير راع ، عكس الهَمَل وهو رعيها نهاراً بلا راع . وعن الحسن : أنَّ النفش هو الرعي بلا راع كان أو نهاراً .
قوله : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } في الضمير المضاف إليه « حُكْم » أوجه :
أحدها : أنه ضمير جمع يراد به المثنى ، وإنما وقع الجمع موقع التثنية مجازاً ، أو لن التثنية جمع وأقل الجمع اثنان ، ويدل علىأنَّ المراد التثنية قراءة ابن عباس « لِحُكْمِهما » بصيغة التثنية .
الثاني : أنَّ المصدر مضاف للحاكمين والمحكوم عليه ، فهؤلاء جماعة .
وهذا يلزم منه إضافة المصدر لفاعله ومفعوله دفعو واحدة ، وهو إنما يضاف لأحدهما فقط . وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ، فإن الحقيقة إضافة المصدر لفاعله ، والمجاز إضافته لمفعوله .
الثالث : أنَّ هذا مصدر لا يراد به الدلالة على علاج ، بل جيء به للدلالة على أنَّ هذا الحدث وقع وصدر كقولهم : له ذكاء الحكماء ، وفهم فهم الأذكياء فلا ينحل بحرف مصدري وفعل ، وإذا كان كذلك فهو مضاف في المعنى للحاكم والمحكوم له والمحكوم عيله ، ويندفع المحذوران المذكوران .
قوله : « فَفَهَّمْنَاهَا » . قرأ العامة « فَفَهَّمْنَاهَا » بالتضعيف الذي للتعدية ، والضمير للمسألة أو للفتيا .
وقرأ عكرمة : « فَأَفْهَمْنَاهَا » بالهمزة عداه بالهمزة كما عدّاه العامة بالتضعيف .
فصل
قال أكثر المفسرين : دخل رجلان على داود -عليه السلام- أحدهما : صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلاً فأفسدته ، فلا يبق منه شيئاً ، فقال داود : اذهب فإن الغنم لك . فخرجا فمرا على سليمان ، فقال : كيف قضى بينكما؟ فأخبراه ، فقال : لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا . وروي أنه قال : غير هذا أرفق بالفريقين فأخبر بذلك داود ، فدعاه ، فقال : كيف تقضي ، وروي أنه قال له : بحق النبوة والأبوة إلاّ أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين ، فقال : ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ، ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه ، فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى أهله ، وأخذ صاحب الغنم غنمه ، فقال داود : القضاء ما قضيت .

وقال ابن مسعود ومقاتل : إن راعياً نزل ذات ليلة بجنب كرم ، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان ، وأفسدت الكرم ، فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود ، فقضى له بالغنم ، لأن لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الأغنام تفاوت وذكر باقي القصة . قال ابن عباس : حكم سليمان ذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة وأما حكم الإسلام : أنّ ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها ، وما أفسدت بالليل ضمنه ربها ، لأنَّ في عرف الناس أنَّ أصحاب الزروع يحفظونها بالنهار ، والمواشي تسرح بالنهار ، وترد بالليل إلى المراح .
« روى ابن محيصة أنّ ناقة لِلْبَرَاء بن عازِب حائطاً فَأَفْسَدَتْ ، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » أَنَّ على أَهْل الحَوَائِط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضَامِنٌ على أهْلِهَا « .
وذهب أصحاب الرأي إلى أن المالك إذا لم يكن معها فلا ضمان عليه فيما اتلفت الماشية ليلاً كان أو نهاراً .
فصل
قال أبو بكر الأصم : إنهما لم يختلفا في الحكم ألبتة ، وأنه تعالى بين لهما الحكم على لسان سليمان . والصواب أنهما اختلفا ، ويدل على إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- وأيضاً قوله تعالى : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } ، ثم قال : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } والفاء للتعقيب ، فوجب أن يكون ذلك الحكم سابقاً على هذا الفهم ، وذلك الحكم السابق إن اتفقا فيه لم يبق لقوله { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } فائدة . وإن اختلفا فيه فهو المطلوب .
فصل
احتج الجبائي على أنّ الاجتهاد غير جائز من الأنبياء بوجوه :
الأول : قوله تعالى : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } [ يونس : 15 ] وقوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] .
الثاني : أنّ الاجتهاد طريقه الظن وهو قادر على اليقين ، فلا يجوز المصير إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز الاجتهاد .
الثالث : لو جاز له الاجتهاد في الأحكام لكان لا يقف في شيء منها ، فلما وقف في مسألة الظهار واللعان إلى ورود الوحي دلّ على أنّ الاجتهاد غير جائز عليه .
الرابع : أنّ الاجتهاد إنما يصار إليه عند فقد النص ، وفقد النص في حق الرسول كالممتنع فوجب أن لا يجوز الاجتهاد .
الخامس : لو جاز الاجتهاد من الرسول أيضاً من جبريل ، وحينئذ لا يحصل الأمان بأن هذه الشرائع التي جاء بها أهي من نصوص الله أم من اجتهاد جبريل؟
وأجيب عن الأول : أنّ الآية واردة في إبدال آية بآية ، لأنه عقيب قوله : { قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ } [ يونس : 15 ] ولا مدخل للاجتهاد في ذلك .
وأما قوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] فمن جوَّز له بالاجتهاد يقول إنّ الذي اجتهد فيه هو عن وحي على الجملة ، وإن لم يكن ذلك على التفصيل ، وأيضاً فالآية واردة في الأداء عن الله لا في حكمه الذي يكون بالعقل .

وعن الثاني : أنَّ الله تعالى إذا قال له إذا غلب على ظنك كون الحكم معللاً في الأصل بكذا ، ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بمثل ذلك الحكم ، فههنا الحكم مقطوع به ، والظن غير واقع فيه بل في طريقه .
وعن الثالث : لعله -عليه السلام- كان ممنوعاً عن الاجتهاد في بعض الأنواع ، أو كان مأذوناً له مطلقاً ، لكنه لم يظهر له في تلك الصورة وجه الاجتهاد فتوقف .
وعن الرابع : لِمَ لا يجوز أن يحبس النص عنه في بعض الصور فحينئذ يحصل شرط جواز الاجتهاد .
وعن الخامس : أن هذا الاحتمال مدفوع بإجماع الأمة على خلافه . ثم الذي يدل على جواز الاجتهاد لهم وجوه :
الأول : أنه -عليه السلام- إذا غلب على ظنه أنَّ الحكم في الأصل معلّل بمعنى ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى ، فلا بُدَّ وأن يغلب على ظنه أنَّ حكم الله في هذه الصورة مثل ما في الأصل كقوله -عليه السلام- .
« أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ » .
الثاني : قوله تعالى : « فَاعْتَبِرُوا » أمر الكل بالاعتبار ، فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل ، وإلا لكان كل واحد من المجتهدين أفضل منه في هذا الباب . فإن قيل : إنما يلزم لو لم يكن درجته أعلى من الاعتبار ، وليي الأمر كذلك لأنه كان يستدرك الأحكام وحياً على سبيل اليقين ، فكان أرفع درجة من الاجتهاد ( قصاراه الظن .
فالجواب : لا يمتنع أن لا يجد النص في بعض المواضع ، فلو لم يكن من أجل الاجتهاد ) لكان أقل درجة من المجتهد الذي يمكنه تعرف ذلك الحكم من الاجتهاد ، وأيضاً فقد تقدم أن الله لما أمره بالاجتهاد كان ذلك مفيداً للقطع .
الرابع : قوله -عليه السلام- « العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ » فوجب أن يثبت للأنبياء درجة الاجتهاد ليرث العلماء عنهم ذلك .
الخامس : قوله تعالى : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] فذاك الإذْنُ إن كان بإذن الله -تعالى- استحال له « لِمَ أَذِنْتَ » وإن كان بهوى النفس فهو جائز . وإن كان بالاجتهاد فهو المطلوب .
فصل
قال الجبائي : لو جوزنا الاجتهاد من الأنبياء ففي هذه المسألة لا نجوزه لوجوه :
أحدها : أن الذي وصل إلى صاحب الزرع من دّر صواباً لزم أن لا ينقض لأنَّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، وإن كان خطأ وجب أن يبين الله توبته كسائر ما حكاه عن الأنبياء -عليهم السلام- ، فلما مدحهما بقوله : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } دَلَّ على أنه لم يقع الخطأ من داود عليه السلام .
وثالثها : لو حكم بالاجتهاد لكان الحاصل هناك ظناً لا علماً لكن الله تعالى قال : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } .

ورابعها : كيف يجوز أن يكون عن اجتهاد مع قوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } .
وأجيب عن الأول : بأنَّ الجهالة في القدر لا تمنع من الاجتهاد كالجِعَالاَت ، وحكم المصرّاة .
وعن الثاني : لعلَّ خطأه كان من باب الصغائر .
وعن الثالث : إنّ المتمسك بالقياس فإن الظن واقع في طريق الحكم ، فأمَّا الحكم فمقطوع به .
وعن الرابع : أنَّ المجتهد إذا تأمل واجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم كأن الله -تعالى- فهمه من حيث بين له طريق ذلك .
فهذا جملة الكرم في بيان أنه لا يمتنع أن يكون اختلاف داود وسليمان في ذلك الحكم إنما كان بسبب الاجتهاد . وأما بيان أنه لا يمتنع أيضاً أنْ يكون اختلافهما فيه بسبب النص ، فوجهه أنْ يقال : إنَّ داود -عليه السلام- كان مأموراً بالحكم من قبل الله -تعالى- ثم إنه تعالى نسخ ذلك بالوحي إلى سليمان خاصة ، وأمره أن يعرف داود ذلك فصار ذلك الحكم حكمهما جميعاً .
وقوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } اي : أوحينا إليه . فإن قيل : هذا باطل لوجهين :
الأول : لما أنزل الله الحكم الأول على داود وجب أن ينزل نسخه أيضاً على داود لا على سليمان .
الثاني : أن الله تعالى مدح كل واحد منهما على الفهم ، ولو كان ذلك على سبيل النص لم يكن في فهمه كثير مدح .
واعلم أنَّ القول الأول أولى ، لأنه روي في الأخبار الكثيرة أن داود لم يكن بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان أنَّ غير ذلك أولى ، وفي بعضها أنّ داود ناشده لكي يورده ما عنده ، ولو كان نصاً لكان يظهره ولا يكتمه . ووجه الاجتهاد فيه ما ذكره ابن عباس : أن داود -عليه السلام- قوّم قدر الضرر في الكرم فكان مساوياً لقيمة الغنم وكان عنده أنّ الواجب في ذلك الضرر أن يزال بمثله من النفع ، فلا جرم سلم الغنم إلى المجني عليه كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه .
وأما سليمان فأداه اجتهاده إلى أنه يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد وأما مقابلته بالزوائد فغير جائز ، لأنه يقتضي الحيف ، ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازنة فحكم به ، كما قال الشافعي : فيمن غصب عبداً فأبق من يده أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإيزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد فإذا ظهر ترادّا .
فصل
إذا ثبت أنّ تلك المخالفة كانت مبنية على الاجتهاد ، فهل تدل هذه القصة على أَنَّ المصيب واحد ، أو الكل مصيبين؟ فمن قال : إنَّ المصيب واحد استدل بقوله تعالى { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } قال : ولو كان الكل مصيبون لم يكن لتخصيص سليمان بهذا التفهيم فائدة . وأما القائلون بأنَّ الكل مصيبون فمنهم من استدل بقوله تعالى { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } ، ولو كان المصيب واحداً ومخالفه مخطئاً لما صح أن يقال : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } قال ابن الخطيب : وكلا الاستدلالين ضعيف أما الأول : فلأنّ الله -تعالى- لم يقل إنه فهم الصواب ، فيحتمل أنه فهممه الناسخ ، ولم يفهم ذلك داود ، فكان كل واحد منهما مصيب فيما حكم به على أن أكثر ما في الآية أنَّها دالة على أنَّ داود وسليمان ما كانا مصيبين ، وذلك لا يوجب أن يكون الأمر كذلك في شرعنا .

واما الثاني : فلأنه تعالى لم يقل : كلاًّ آتيناه فيما حكم به هنا ، بل يجوز أنْ يكون إيتاؤه حكماً في شرعهم أنْ يكون الأمر كذلك في شرعنا .
قوله تعالى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ } هذه من النعم التي خصَّ بها داود فقوله : « يُسَبِّحْنَ » في موضع نصب على الحال .
« والطَّيْرَ » يجوز ان ينتصب نسقاً على « الجِبَالَ » ، وأن ينتصب على المفعول معه وقيل : « يسبِّحْنَ » مستأنف فلا محل له . وهو بعيد . وقرئ « وَالطَّيْرُ » رفعاً وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ والخبر محذوف ، أي : والطير مسخرات أيضاً .
والثاني : أنه نسق على الضمير في « يُسَبِّحْنَ » ، ولم يؤكد ولم يفصل ، وهو موافق لمذهب الكوفيين .
فصل
قال ابن عباس : ( كان يفهم ) تسبيح الحجر والشجر .
وقال وهب : كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح ، وكذلك الطير .
وقال قتادة : « يُسَبِّحْنَ » أي : يصلين مع إذا صلى . وقيل : كان داود إذا فتر سمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه .
وقال بعض المفسرين : إنه يحتمل أن يكون تسبيح الجبال والطير بمثابة قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] وتخصيص داود -عليه السلام- بذلك إنما كان بسبب أنه كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقيناً وتعظيماً .
وقالت المعتزلة : لو حصل الكرم في الجبل لحصل إما بفعله أو بفعل الله فيه ، والأول محال ، لأن بنية الجبل لا تحتمل الحياة والعلم والقدرة ، وما لا يكون حياً قادراً عاقلاً يستحيل مه الفعل .
والثاني محال ، لأن المتكلم عندهم من كان فاعلاً للكلام لا من كان محلاً للكلام فلو كان فاعل ذلك الكلام هو الله لكان المتكلم هو الله لا الجبال . فثبت أنَّه لا يمكن إجراؤه على ظاهره ، فعند هذا قالوا : معنى قوله : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال } قوله : { ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ } [ سبأ : 10 ] أي : تصرفي معه وسيري بأمره . ومعنى « يُسَبِّحْنَ » من السبح الذي هو السباحة خرج اللفظ فيه على التكثير ولو أفرد لقيل : اسبحي ، فلما كثر قيل سبحي معه ، أي : سيري وهو كقوله : { إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } [ المزمل : 7 ] أي : تصرفاً ومذهباً ، إذا ثبت هذا فنقول : إن سيرها هو التسبيح لدلالته على قدرة الله . واعلم أنّ مدار هذا القول على أن بنية الجبال لا تقبل الحياة ، وأن المتكلم من فعل الكلام ، وكلاهما ممنوع ، وأما « الطّيْر » فلا امتناع أن يصدر عنها الكلام ، ولكن أجمعت الأمة على أنّ المكلفين إمَّا الجن والإنس والملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف بل يكن حاله كحال الطفل في ان يُؤْمر ويُنْهَى .

وإن لم يكن مكلفاً فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق . وأيضاً فيه دلالة على قدرة الله وعلى تنزيهه عمّا لا يجوز فيكون القول فيه كالقول في الجبال . وقدم الجبال على الطير ، لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ، لأنها جماد والطير حيوان .
ثم قال : « وَكُنَّا فَاعِلِينَ » أي : قادرين على أنْ نفعل وإنْ كان عجباً عندكم وقيل : نفعل ذلك بالأنبياء -عليهم السلام- .
الإنعام الثاني قوله : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ } الجمهور على فتح اللاتم من « لَبُوسٍ » وهو الشيء المعد للبس قال الشاعر :
3730- أَلْبَسُ لكُلِّ حَالَةٍ لَبُؤْسَهَا ... إِمَّا نَعِيْمَهَا وَإمَّا بُؤسَهَا
والمراد باللبوس هنا الدرع لأنها لا تلبس ، وهي في اللغة اسم لكل ما يلبس . ويستعمل في الأسلحة كلها ، وهو بمعنى الملبوس كالحلوب والركوب .
وقرئ « لُبُوس » بضم اللام ، وحينئذ إما أنْ يكون جمع لُبْس المصدر الواقع موقع المفعول ، وإما أنْ لا يكون واقعاً موقعه ، والأول أقرب . و « لَكُمْ » يجز أن يتعلق ب « عَلَّمْنَاه » ، وأن يتعلق ب « صَنْعَةَ » قاله أبو البقاء ، وفيه بُعْد . وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل « لَبُوس » . قال قتادة : أول من صنع الدروع وسردها وحلقها داود وإنما كانت صفائح .
قوله : « لِتُحْصِنَكُم » . هذه لام كي ، وفي متعلقها أوجه :
أحدها : أن تتعلق ب « عَلَّمْنَاهُ » ، وهذا ظاهر على القولين الآخرين وأما على القول الثالث فيشكل ، وذلك أنه يلزم تعلق جر في جر متحدين لفظاً ومعنى . ويجاب عنه بأن يجعل بدلاً من « لَكُمْ » بإعادة العامل كقوله تعالى : { لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] وهو بدل اشتمال ، وذلك أنَّ أنْ الناصبة للفعل المقدرة مؤولة وهي منصوبها بمصدر ، وذلك المصدر بدل من ضمير المخاطب في « لَكُمْ » بدل اشتمال ، والتقدير : وعلمناه صنعة لبوس لتحصنكم .
والثاني : أن تتعلق ب « صَنْعَةَ » على معنى أنه بدل من « لَكُم » كما تقدم تقريره وذلك على رأي أبي البقاء ، فإنه علَّق « لَكُمْ » ب « صَنْعَةَ » .
والثالث : أنها تتعلق بالاستقرار الذي تعلق به « لَكُمْ » إذا جعلناه صفة لما قبله . وقرأ الحرميان والأخوان وأبو عمرو : « لِيُحْصِنَكُمْ » بالياء من تحت ، والفاعل الله تعالى ، وفيه التفات على هذا الوجه ، إذ تقدمه ضمير المتكلم في قوله « وَعَلَّمْنَاهُ » . أو داود ، أو التعليم ، أو اللبوس . وقرأ حفص وابن عامر بالتاء من فوق ، والفاعل الصنعة أو الدرع ، وهي مؤنثة ، أو اللبوس ، لأنها يراد بها ما ليس ، وهو الدرع ، والدرع مؤنثة كما تقدم .

وقرأ أبو بكر « لِنُحْصِنَكُمْ » بالنون جرياً على « عَلَّمْنَاهُ » . وعلى هذه القراءات الثلاث الحاء ساكنة والصاد مخففة . وقرأ الأعمش « لِيحَصِّنكم » وكذا النعيمي عن أبي عمرو بفتح الحاء وتشديد الصاد على التكثير إلاَّ أن الأعمش بالتاء من فوق وأبو عمرو بالياء من تحت وقُدِّمَ ما هو الفاعل .
فصل
معنى « لِنُحْصِنَكُم » أي : لنحرزكم ونمنعكم من بأسكم أي : حرب عدوكم .
وقال السُّديّ : من وقع السلاح فيكم . ذكر الحسن أن لقمان الحكيم -صلوات الله عليه- حضر داود وهو يعمل الدرع ، فأراد أن يسأله عمَّا يفعل ثم كف عن السؤال حتى فرغ منها ولبسها على نفسه ، فقال عند ذلك : الصمت حكمة وقليل فاعله . ثم قال تعالى : { فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } يقول لداود وأهل بيته وقيل : يقول لأهل مكة ، فهل أنتم شاكرون نعمي بالطاعة الرسول .
قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح } العامة على النصب ، أي : وسخرنا لسليمان ، فهي منصوبة بعامل مقدر . وقرأ ابن هرمز وأبو بكر عن عاصم في رواية بالرفع عى الابتداء ، والخبر الجار قبله . وقرأ الحسن وأبو رجاء بالجمع والنصب . وأبو حيوة بالجمع والرفع . وتقدم الكرم على الجمع والإفراد في البقرة ، وبعض هؤلاء قرأ في سبأ وكذلك كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
قوله : « عَاصِفَةً » حال ، والعامل فيها على قراءة من نصب « سَخَّرْنَا » المقدر ، وفي قراءة من رفع الاستقرار الذي تعلق به الخبر . يقال : عَصَفتِ الرِّيْحُ تَعْصِفُ عَصْفاً وعُصُوفاً ، فهي عَاصِفٌ وعَاصِفَةٌ . وأسد تقول : أَعصَفَتِ بالألف تعصف ، فهي مُعْصِفٌ ومَعْصِفَةٌ . والريح تذكر وتؤنث . والعاصفة : الشديدة الهبوب . فإن قيل : قد قال في موضع آخر { تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً } [ ص : 36 ] والرخاء : اللين قيل : كانت الريح تحت أمره ، إن أراد أن تشتد اشتدت ، وإن أراد أن تلين لانت .
فإن قيل : قال في داود : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال } ، وقال في حق سليمان { وَلِسُلَيْمَانَ الريح } فذكر في حق داود بكلمة مع وفي حق سليمان باللام وراعى هذا الترتيب أيضاً في قوله { ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ } [ سبأ : 10 ] وقال : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ } [ ص : 36 ] فما الفائدة في تخصيص داود بلفظ مع ، وسليمان باللام؟
فالجواب : يحتمل أنّ الجبل لما اشتغل بالتسبيح حصل له نوع شرف فما أضيف بلام التمليك ، وأما الريح فلم يصدر منه إلا ما يجري مجرى الخدمة فلا جرم أضيف إلى سليمان بلام التمليك وهذا جواب إقناعي .
قوله : « تَجْرِي » يجوز أن تكن حالاً ثانية ، وأن تكون حالاً من الضمير في « عَاصِفَة » فتكون حالين متداخلين . وزعم بعضهم : أَنَّ « الَّتِي بَارَكْتَا ( فِيهَا » صفة للريح ، وفي الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : الريح التي باركنا فيها ) إلى الأرض .

وهو تعسف . والمراد بقوله : { إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } بيت المقدس . قال الكلبي : كان سليمان -عليه السلام- وقومه يركبون عليها من إصطخر إلى الشام ، وإلى حيث شاء ، ثم يعود إلى منزله .
ثم قال : { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } وكنا بكل شيء عملناه عالمين بصحة التدبير فيه ، علمنا أنما نعطي سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه . قوله : { مَن يَغُوصُونَ } يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة وعلى كلا التقديرين فموضعهما إمَّا نصب نسقاً على الريح ، أي : وسخرنا له من يغوصون ، أو رفع على الابتداء والخبر في الجار قبله وجمع الضمير حملاً على معنى « مَنْ » ، وحسن ذلك تقدم الجمع في قوله « الشَّيَاطِينَ » فلما ترشح جانب المعنى روعي ، ونظيره قوله :
3731- وَإنَّ من النِّسْوَانِ مَنْ هِي روضة ... تهيج الرياض قبلها وتصوح
راعى التأنيث لتقدم قوله : وإنَّ من النسوان . و « دُونَ ذَلِكَ » صفة ل « عَمَلاً » .
فصل
يحتمل أن يكون من يغوصون منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال ، ويحتمل أنهم فرقة أخرى ، ويكون الكل داخليتن في لفظة « مَنْ » والأول أقرب . وظاهر الآية أنه سخرهم لكنه قد روي أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين وهو الأقرب من وجهين :
أحدهما : إطلاق لفظ الشياطين .
والثاني : قوله : { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } فإنَّ المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد ، وإنما يجب ذلك في الكافر . ومعنى « يَغُوصُونَ » أي : يدخلون تحت الماء ، فيخرجون له من قعر البحر الجواهر { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك } أي : دون الغوص ، وهو ما ذكره تعالى في قوله : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } [ سبأ : 13 ] الآية . { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } حتى لا يخرجوا من أمره .
وقيل : وكل بهم جمعاً من الملائكة وجمعاً من المؤمنين الجن . وقال ابن عباس : إنَّ سلطانه مقيم يفعل بهم ما يشاء . وفي كونهم محفوظين ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه تعالى كان يحفظهم لئلا يذهبوا .
وثانيها : قال الكلبي : كان يحفظهم من أن يهيجوا أحداً في زمانه .
وثالثها : قال الزجاج : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا ، وكان دأبهم أن يعملوا بالنهار ثم يفسدونه بالليل .
روي أن سليمان كان إذا بعث شيطاناً مع إنسان ليعمل له عملاً قال له : إذا فرغ من عمله قبل الليل اشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل وكان من عادة الشياطين أنهم إذا فرغوا من العمل ولم يشتغلوا بعمل آخر خربوا ما عملوه وأفسدوه .
فصل
سأل الجبائي نفسه ، وقال : كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم دقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل ، وإنما يمكنهم الوسوسة؟ وأجاب بأنه -سبحانه- كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزة لسليمان ، فلما مات سليمان -عليه السلام- ردهم إلى الخلقة الأولى ، لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس ولو ادعى مثبت النبوة وجعله دلالة ، لكان كمعجزات الرسل ، فلذلك ردهم إلى خلقهم الأول .

قال ابن الخطيب : وهذا الكلام ساقط من وجوه :
أحدها : لم قلتم إنّ الجن من الأجسام ، ولم يجوز وجود محدث ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ، ويكون الجن منهم؟ فإن قلت : لو كان الأمر كذلك لكان مثلاً للباري تعالى . قلت : هذا ضعيف لأنَّ الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في اللزومات ، فكيف اللوازم السلبية .
سلمنا أنه جسم لكن لم يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف ، وكلامه بناء على البنية شرط وليس في يده إلا الاستقراء الضعيف سلمنا أنه لا بُدّ من تكثيف أجسامهم ، لكن لم قلتم : بأنه لا بثدّ من ردها إلى الخلقة الأولى بعد موت سليمان .
وقوله : بأنه يفضي إلى التلبيس ، قلنا : التلبيس غير لازم ، لأن النبي إذا جعل ذلك معجزة لنفسه فللمدعوّ أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : إن قوة أجسامهم كانت معجزة لنبي ىخر . ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمكن المتنبي من الاستدلال به . واعلم أن أجسام هذا العالم إما كثيفة أو لطيفة . أما الكثيف فأكثف الأجسام الحجارة والحديد ، وقد جعلهما الله تعالى معجزة لداود -عليه السلام- قوة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة ، فأي بعد أنْ يجعل التراب اليابس جسماً حيوانياً . وألطف الأشياء في هذا العالم الهواء والنار ، وقد جعلها الله -تعالى- معجزة لسليمان- عليه السلام ، أما الهواء فقوله : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح } [ ص : 36 ] . وأما النار فلأنَّ الشياطين مخلوقين من النار ، وقد سخرهم الله -تعالى- له ، ثم كان يأمرهم بالغوص في المياه ، والنار تطفأ بالماء ، ولم تكن تضرهم وذلك يدل على قدرته على إظهار الضد من الضد .

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)

قوله تعالى : { وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ } الآية .
قوله : وَأَيُّوبَ « كقوله : » وَنُوحاً « وما بعده . وقرأ العامة » أَنِّي « بالفتح لتسلط النداء عليها بإضمار حرف الجر بأني . زعيسى بن عمر بالكسر فمذهب البصريين إضمار القول أي : نادى فقال : إني ومذهب الكوفيين أجرى النداء مجرى القول . والضُّرّ بالضم المرض في البدن وبالفتح الضرر في كل شيء فهو أعم من الأول .
فصل
قال وهب بن منبه : كان أيوب -عليه السلام- رجلاً من الروم ، وهو أيوب بن أنوص بن زارح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران ، وكان الله قداصطفاها ونبأه وبسط عليه الدنيا ، وكانت له البَثَنِيَّة من أرض الشام كلها سهلها وجبلها ، وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمر والبساتين ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدة والكثرة والأهل والولد من الرجال والنساء ، وكان رحيماً بالمساكين يكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل . وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به ، وعرفوا فضله؛ قال : كان أحدهم من أهل اليمن يقال له : اليقن ، ورجلان من أهل بلدة يقال لأحدهما : يلدد ، والآخر ضافر ، وكانوا كهؤلاء .
وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات وكان يقف فيهن حيث ما أراد حتى رفع الله عيسى ، فحجب من أربع ، فما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - حجب من الثلاث الباقية ، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب ، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه فأدركه البغي والحسد ، فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاص كان يقفه ، فقال : إلهي نظرت في عبدك أيوب فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج من طاعتك . فقال الله -تعالى- : انطلق فقد سلطتك على ماله فانقض عدو إبليس حتى وقع إلى الأرض ، ثم جمع عفاريت الجن ومردة الشياطين ، وقال لهم : ماذا عندكم من القوة فني سلطت على مال أيوب؟ فقال عفريت من الشياطين : أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار فأحرق كل شيء ، فقال له إبليس : فأت الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها . ثم جاء إبليس في وي بعض الرعاة إلى أيوب ، فوجده قائماً يصلي ، فقال : يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري فقال أيوب : الحمد لله الذي هو أعطاها وهو أخذها ، وقديماً وطّنْتُ نفسي ومالي على الفناء ، فبقي الناس مبهوتين متعجبين ، فمن قائل يقول : ما كان أيوب يعبد شيئاً ، وما كان إلا في غرور . ومنهم مَنْ يقول : لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع وليه .

ومنهم مَنْ يقول : هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوه ، ويفجع به صديقه فقال أيوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني ، عرياناً خرجت من بطن أمي ، وعرياناً أعود في التراب ، وعرياناً أحشر إلى الله ، ولو علم الله فيك خيراً أيها العبد لنقل روحك مع تلك الأرواح ، وصرت شهيداً ولكنه علم منك شراً فأخرك . فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً ذليلاً ، فقال لهم : ماذا عندكم من القوة ، فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا شئت صحة صحيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه . فقال له إبليس : فأت الغنم ورعاتها ، فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاتها ، ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي ، فقال له مثل القول الأول ، فرد عيله أيوب الرد الأول . فرجع إبليس صاغراً إلى أصحابه ، فقال لهم : ما عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب؟ فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفاً أقلع كل شيء أتيت عليه .
فقال : اذهب إلى الحرث والفدادين ، فأتاهم ، فأهلكهم . ثم أتى إبليس متمثلاً إلى أيوب ، فقال مثل قوله : فرد عيله أيوب الرد الأول . وكلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن الثناء عليه ورضي عنه بالقضاء ، ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال . فلما رأى إبليس صبره على ذلك وقف الموقف الذي كان يقفه عند الله . فقال : إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده ، فأنت معطيه المال فهل أنت مسلطي على ولده فإنها المعصية التي لا تقوم لها قلوب الرجال؟ قال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ولده . فأتى أولاد أيوب في قصرهم فلم يزل يزلزله بهم من قواعده حتى قلب القصر عليهم . ثم جاء أيوب متمثلاً بالمعلم الذي يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه والرأس يسيل دمه ودماغه ، فقال : لو رأيت بنيك حتى رَقَّ ايوب -عيله السلام- وبكى وقبض قبضة من التراب ووضعها على رأسه ، وقال : ليت أمي لم تلدني ، فاغتنم إبليس ذلك وصعد سريعاً ، ووقف موقفه . ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر ، وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته ، فسبقت توبته إلى الله -تعالى- وهو أعلم . فوقف إبليس ذليلاً فقال : يا إلهي إنما هوّن على أيوب المال والولد لعلمه أنه يرى أنك متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده؟ فقال الله -عزَّ وجلَّ- انطلق فقد سلطتك على جسده ، وذكرى للعابدين ، وكل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ، ورجاء للثواب . فانْقَضّ عدو الله سريعاً ، فوجد أيوب ساجداً ، فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه ، فنفخ في منخره نفخة اشتعل فيها جسده فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم ، ووقعت فيه حكّة لا يملكها ، فكان يحك بأظفاره حتى سقطت كلها ، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها ، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن ، فأخرجوه أهل القرية وجعلوه على كناسة ، وجعلوا له شرعاً ، ورفضه الناس كلهم إلا امرأته رحمة بن افرايم بن يوسف ، فكانت تصلح أموره ويختلف إليه مما يصلحه .

ثم إنَّ وَهْباً طول الحكاية إلى أن قال : إنَّ أيوب -عليه السلام- أقبل على الله -تعالى- متضرعاً إليه فقال : رب لأي شيء خلقتني يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك عني ألم أكن للغريب داراً ، وللمسكين قراراً ، ولليتيم ولياً ، وللمرأة قيماً ، إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فَالمَنُّ لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء غرضاً ، وللفتنة نصباً ، وسلطت عليّ ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله ، إلهي تقطعت أصابعي ، وتساقطت لهواتي ، وتناثر شعري ، وذهب المال فصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها علي ، ويعيرني بفقري وهلاك أولادي . قال الإمام أبو القاسم الأنصاري -رحمه الله- : وفي جملة هذا الكلام ليتك إذا كرهتني لم تخلقني ، ثم قال : ولو كان ذلك صحيحاً لاغتنم إبليس بان يحمله على الشكوى ، وأن يخرجه عن حلية الصابرين ، والله لم يخبر عنه إلا قوله { أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } وقال : { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 44 ] . واختلف العلماء في السبب الذي قاله لأجله { أَنِّي مَسَّنِيَ الضر } « فروى ابن شهاب عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » إن أيوب -عليه السلام- بقي في البلاء ثماني عشر سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلاَّ رجلين كانا يغدوان ويروحان ، فقال أحدهما للآخر ذات يوم : والله إن أيوب أذنب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين . فقال صاحبه : وما ذاك . فقال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله ، ولم يكشف ما به . فلما راحا إلى أيوب لم يصبر حتى ذكر ذلك له . فقال أيوب : ما أدري ما يقولان غير أن الله -تعالى- يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنها كراهية أن يذكر الله إلا في حق . وروي أنّ الرجلين لما دخلا عليه قالا : لو كان ليوب عند الله منزلةً ما بلغ في هذه الحالة . فما شق على أيوب شيء مما بلي به أشد مما سمع منهما ، وقال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعاناً وانا أعلم مكان جائع فصدقني ، فصدق . ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصي وأنا أعلم مكان عار فصدقني ، فصدق . وهما يسمعان ، ثم خرَّ أيوب ساجداً ، ثم قال : اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي قال : فكشف الله ما به « .

وروى الحسن قال : مكث أيوب بعد ما ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهراً ، ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته رحمة ، صبرت معه ، وكانت تأتيه بطعام . فاجتمع جنوده من أقطار الأرض ، وقالوا له : ما خبرك؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فلم أدع له مالاً ولا ولداً ، ولم يزدد بذلك إلا صبراً وحمداً ، ثم سلطت على جسده فتركته ملقى في كناسة ما يقربه إلا امرأته ، وهو مع ذلك لا يفتر عن الذمر والحمد ، فاستغثت بكم لتعينوني ، فأشيروا علي . قالوا : أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال : من قبل امرأته . قالوا : فشأنك من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها ، لأنه لا يقربه أحد غيرها . قال : أصبتم . فانطلق حتى أتى امرأته ، فتمثل لها في صورة رجل ، فقال : أين بعلك يا أمة الله؟ فقالت : هو ذَا يَحُكُّ قُرُوحَهُ وتتردد الدواب في جسده . فلما سمعها طمع أن يكون ذلك جزعاً فوسوس إليها وذكرها ما كان لها من النعم والمال ، وذكرها جمال أيوب وشبابه .
قال الحسن : فصرخت ، فلما صرخت علم أنها قد جزعت ، فاتاها بسخلة فقال : ليذبح هذا أيوب لغير الله فيبرأ ، قال : فجاءت تصرخ إلى أيوب تقول : حتى متى يعذبك ربك ، ألا يرحمك ، أين المال ، أين الولد ، أين الماشية ، أين الصديق ، أين الحسن ، أين جسمك الذي قد بلي وصار مثل الرماد وتردد فيك الدواب ، اذبح هذه السخلة واسترح؟ قال أيوب -عليه السلام- : أتاك عدو الله ونفخ فيك فأجتبيه ، أما تذكرين ما كنا فيه من المال والولد والصحة ، من أعطانا ذلك؟ قالت : الله . قال : فكم متعنا به؟ قالت : ثمانين سنة . قال : فمنذ كم ابتلانا بهذا البلاء؟ قالت سبع سنين قال : ما أنصفت ربك ألاَّ صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة ، لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير الله ، وحرام عليّ ان أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني به ، فطردها ، فذهبت ، فلما نظر أيوب في شأنه ، وليس عنده طعام ، ولا شراب ، ولا صديق ، وقد ذهبت امرأته ، خَرَّ ساجداً ، وقال : { أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } فقال : ارفع رأسك فقد استجبت لك { اركض بِرِجْلِكَ } [ ص : 42 ] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها ، فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت ، ثم ضرب برجله مرة أخرى ، فنبعت عين أخرى ، فشرب منها ، فلم يبق في جوفه داء إلاَّ خرج ، وقام صحيحاً ، وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن ما كان ، ثم كسي حبة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من الأهل والمال إلا وقد ضاعفه الله ، حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب ، فجعل يضمه بيده ، فأوحى الله إليه : يا أيوب ألم أغنك؟ قال : بلى ، ولكن من يشبع من نعمك ، قال : فخرج حتى جلس مكان مشرف ، ثم إن امرأته قالت : هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعاً وتأكله السباع ، لأرجعن غليه فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ، ولا تلك الحال ، وإذا الأمور قد تغيرت ، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي ، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه ، وتسأل عنه ، فأرسل إيلها أيوب ، ودعاها ، فقال : ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت ، وقالت : بعليط ، قال أتعرفينه إذا رأتيه ، قالت : وهل يخفى علي فتبسم وقال : أنا هو .

فعرفته بضحكه فاعتنقته ، ثم قال : إنك أمرتيني أن أذبح لإبليس سخلة ، وإني أطعت الله ، وعصيت إبليس ، ودعوت الله ، فرد عليَّ ما ترين .
وروى الضحاك ومقاتل : أنّ أيوب بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات . وقال وهب : بقي في البلاء ثلاث سنين ، فلما غلب أيوب -عليه السلام- إبليس ذهب إبليس -لعنه الله- إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العطم والحسن والجمال ، وعلى مركب ليس من مراكب الناس ، فقال لها : أنت صاحبة أيوب ، قاقلت : نعم . قال : فهل تعرفيني؟ قالت : لا . قال : فأنا إله الأرض ، صنعت بأيوب ما صنعت ، وذلك لأن عبد إله السماء وتركني فأغضبني ، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي . قال وهب : وسمعت أنه قال : لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم الله لعوفي مما في البلاء ، وفي رواية أخرى قال لها : لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة لرجعت المال والولد وأعافي زوجك . فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها . فقال لها أيوب -عليه السلام- أتاك عدو الله ليفتنك ، ثم أقسم إن عافاه الله ليضربنها مائة سوط . فقال عند ذلك : { مَسَّنِيَ الضر } يعني من طمع إبليس في سجودي له وسجود زوجتي له ، ودعائه إيَّاها وإيَّايَ إلى الكفر .
وفي رواية قال وهب : كانت امرأة أيوب تعمل للناس وتأتيه بقوته ، فلما طال عليه البلاء ، وسئمها الناس ، فلم يستعملوها ، فالتمست ذات يوم شيئاً من الطعام ، فلم تجد شيئاً ، فجزت قرنها من رأسها فباعته برغيف ، فأتته ، فقال لها : أين قرنك؟ فأخبرته بذلك . فحينئذ قال : { مَسَّنِيَ الضر } . وفي رواية قال إسماعيل السّدّيّ : لم يقل أيوب { مَسَّنِيَ الضر } إلا لأشياء ثلاثة :
أحدها : قول الرجل له : لو كان عملك خالصاً لما أصابك ما أصابك .
والثاني : كانت لامرأته ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداهن فقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزاً ولحماً ، وجاءت إلى أيوب ، فقال : من أين هذا؟ قالت : كُلْ فإنَّهُ حلال . فلما كان من الغ لم تجد شيئاً فباعت الثانية ، وكذلك فعلت في اليوم الثالث ، وقالت : كُلْ فإنَّه حلال ، فقال لا آكل ما لم تخبريني ، فأخبرته ، فبلغ ذلك من أيوب ما الله أعلم به .

وقيل : إنما باعت ، لأن إبليس تمثل لقومه في صورة بشر ، وقال : لئن تركتم أيوب في قريتكم فإني أخاف أن يعدي إليكم ما به من العلة فخرجوه إلى باب البلد ، ثم قال لهم : إنَّ امرأته تدخل في بيوتكم وتعمل وتمس زوجها ، فأقول : إنَّه يتعدى إليكم علته ، فحينئذ لم يستعملها أحد فباعت ضفيرتها .
والثالث : حين قالت له امرأته ما قالت . وفي رواية : قيل : سقطت دودة من فخذه فردها إلى موضعها ، وقال : قد جعلني الله طعمة لك ، فعضته عضة شديدة . فقال : { مَسَّنِيَ الضر } . وأوحى الله إليه : لولا أني جعلت تحت كل شعرة صبراً لما صبرت .
فصل
طعنت المعتزلة في هذه القصة من وجوه :
الأول : قال الجبائي : ذهب بعض الجهال إلى أن ما كان به من المرض كان فعلاً للشيطان سلطه عليه لقوله تعالى عنه { مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ ص : 41 ] . وهذا جهل أما أولاً : فإنه لو قدر على إحداث الأمراض والأسقام وضدها من العافية لتهيأ له فعل الأجسام ، ومن هذا حاله يكون إلهاً . وأما ثانياً : فلأن الله تعالى أخبر عنه وعن جنوده بأن قال : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } [ إبراهيم : 22 ] فالواجب تصديق خبر الله -تعالى- دون الرجوع إلى وهب بن منبه . وهذا اعتراض ضعيف ، لأن المذكور في الحكاية أنَّ الشيطان نفخ في منخره فوقعت الحكة فيه . فلم قلتم : إنَّ القادر على النفخة التي تولد منها هذه الحكة لا بدَّ وأن يكون قادراً على خلق الأجسام ، وهذا إلا محض التحكم . وأما التمسك بالنصّ فضعيف ، لأنه إنَّما يقدم على الفعل مع علمه أنهل و أقدم عليه لما منعه الله تعالى . وهذه الحالة لم تحصل إلا في حق أيوب -عليه السلام- من أنه استأذن الله فأذن له ، وإن كان كذلك لم يكن بين ذلك النص وبين هذه الحكاية مناقضة .
وثانيها : قالوا : ما روي أنه -عليه السلام- لم يسأل إلا عند أمور مخصوصة . فبعيد ، لأنّ الثابت في العقل أنه يحسن من المرء أن يسأل ذلك ربه ويفزع إليه كما يحسن منه المداواة ، وإذا جاز أن يسأل ربه عند الغم بما يراه من أهله جاز أيضاً أن يسأل ربه من قبل نفسه . فإن قيل : أفلا يجوزون أنه تعالى تعبده بأن لا يسأل الكشف إلا في آخر أمره . قلنا : يجوز ذلك بأن يعلمه أن إنزال ذلك بعد مدة مخصوصة من مصالحه ومصالح غيره لا محالة ، فعلم عليه السلام أنه لا وجه للمسألة في هذا الأمر الخاص ، فإذا قرب الوقت جاز أن يسأل ذلك من حيث يجوز أن يدومم ويجوز أن ينقطع .

وثالثها : قالوا : انتهاء ذلك المرض إلى حد التنفير غير جائز على الأنبياء .
فصل
اعلم أنه -عليه السلام- ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب . فإن قيل : أليس أن الشكوى تقدح في كونه صابراً .
فالجواب : قال سفيان بن عيينة : ولو شكى إلى الله فإنه لا يعد ذلك جزعاً إذا كان في شكواه راضياً بقضاء الله إذ ليس من شرطه استحلاء البلاء ، ألم تسمع قول يعقوب : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] .
قوله : { وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } وذلك أنَّ كلَّ من يرحم غيره فإمَّا أن يرحمه طلباً للثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو للرقة الجنسية في الطبع ، فيكون مطلوب ذلك الثناء ، ومن صفات الكمال فهو أرحم الراحمين . وأيضاً فكل من رحم غيره فإنما ذلك بمعونة رحمة الله ، لأن من أعطى غيره طعاماً أو ثوباً أو دفع عنه بلاء فلولا الله -سبحانه- خلق المطعوم والملبوس والأدوية وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء ولولا فضل الله لما حصل النفع النفع بذلك ، فإذن رحمة العباد مسبوقة برحمة الله ، وملحوقة برحمته ، فما بين الطرفين كالقطرة في البحر ، فوجب أن يكون أرحم الراحمين . وأيضاً فلولا أن الله -تعالى- خلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور تلك الرحمة عنه ، فكانم الراحم في الحقيقة هو الحق سبحانه لأنه هو الذي أنشأ تلك الداعية فكان تعالى أرحم الراحمين . فإن قيل : كيف يكون أرحم الراحمين مع أنه ملأ الدنيا من الآفات والأسقام والأمراض والآلام ، وسلط البعض على البعض بالإيذاء ، وكان قادراً على أن يغني كل واحد عن إيلام الآخر وايذائه؟
فالجواب : أن كونه -سبحانه- ضاراً لا ينافي كونه راحماً بل هو الضار النافع فإضراره ليس لدفع مشقة ، ونفعه لي لجلب منفعة ، بل لا يسأل عما يفعل .
قوله : « فاستجبنا لَهُ » يدل على أنه دَعَا ربَّه لكن هذا الدعاء يجوز أن يكون وقع منه على سبيل التعريض ، كما يقال : إن رأيت لو أردت أو أجبت فافعل كذا ، ويجوز أن يكون على سبيل التصريح لإزالة ما به من ضر . وبيّن تعالى أنه آتاه أهله ، ويدخل فيه من ينسب إليه من زوجة وولد وغيرهما قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومقاتل والحسن والكلبي وكعب : إن الله تعالى أحيا له أهله ، يعني أولاده بأعيانهم ، وأعطاه مثلهم معهم وهو ظاهر القرآن .
قال الحسن : آتاه الله المثل من نسل ماله الذي رده إليه وأهله ، ويدل عليه ما روى الضحاك عن ابن عباس : أن الله رد إلى المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكراً . قال وهب : كان له سبع بنات وثلاثة بنين .
وقال ابن يسار : كان له سبعة بنين وسبع بنات .

وروي عن أنس يرفعه : أنه كان له أندران أندر للقمح وأنذر للشعير ، فبعث الله سحابتين فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب ، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض .
« وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَاناً خَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ ، فجعل أيّوب يَحْثى في ثوبه ، فناداه ربُّه : يا أيوب ألم أكن أَغْنَيْتُكَ عَمَّا ترى؟ قال : بلى يا رب ، ولكن لا غنى عن بركتك » وروى الليث قال : أرسل مجاهد إلى عكرمة وسأله عن الآية فقال : قيل لأيوب إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا ، فقال : يكونون لي في الآخرة وأوتي مثلهم في الدنيا فعلى هذا يكن معنى الآية « وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ » في الآخرة « وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ » في الدنيا . وأراد بالأهل الأولاد . فأما الذين أهلكوا فإنَّهم لم يردوا عليه في الدنيا .
قوله : « رَحْمَةً » فيها وجهان :
أظهرهما : أنها مفعول من أجله .
والثاني : أنها مصدر لفعل مقدر ، أي : رحمناه رحمةً .
و « مِنْ عِنْدِنَا » صِفَة ل « رَحْمَةً » .
قوله : « وذكرى لِلْعَابِدِينَ » أي : فعل به تلك الرحمة ، وهي النعمة لكي يتفكروا فيه بالذكر ، ويتعظون فيعتبرون . وخص العابدين ، لأنهم المنتفعون بذلك .

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)

قوله تعالى : « وَإِسْمَاعِيلَ » يعني ابن إبراهيم ، « وَإِدْرِيسَ » وهو اختوخ { وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين } . لما ذكر صبر أيوب أتبعه بذكر هؤلاء ، فإنهم أيضاَ كانوا من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة . أما إسماعيل فصبر على الانقياد للذبح ، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء ، وصبر في بناء البيت فأكرمه الله وأخرج من صلبه خاتم النبيين . وأما إدريس فتقدمت قصته في سورة مريم قال ابن عمر : « بعث إلى قومه داعياً إلى الله فأبوا فأهلكهم الله ، ورفع إدريس السماء السابعة » وأما ذو الكفل قال الزجاج : الكفلُ في اللغة الكساء الذي يجعل على عجز البعير والكفل أيضاً : النصيب قال تعالى : { يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا } [ النساء : 85 ] أي : نصيب . واختلفوا في تسميته بهذا الاسم ، فقال الحسن : كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه ، وضعف ثوابهم . وقال ابن عباس : إن نبياً من أنبياء بي إسرائيل آتاه الله الملك والنبوة ثم أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك ، فاعرض الملك على بني إسرائيل ، فمن تكفل لك أن يصلي بالليل لا يفتر ويصوم بالنهار ولا يفطر ، ويقضي بين الناس ولا يغضب ، فادفع ملكك إليه ، ففعل ذلك فقام شاب فقال : أنا أتكفل لك بهذا . وَوَفَى به ، فشكر الله له ونبأه فسمي ذا الكفل . وعلى هذا فالمراد بالكفل هنا الكفالة ، لأنه تكفل بأمور فوفى بها .
وقال مجاهد : ما كبر اليسع- عليه السلام- قال : لو أني استخلفت رجلاً على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل فجمع الناس ، فقال من يتقبل مني ثلاثاً أستخلفه : يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ويقضي فلا يغضب ، فقام رجل تزدريه العين فقال : أنا . فرده ذلك اليوم ، وقال مثلها في اليوم الآخر ، فسكت الناس وقام ذلك الرجل ، فقال : أنا . فاستخلفه . فأتاه إبليس في صورة شيخ حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك النومة . فذق الباب فقال : من هذا؟ فقال : شيخ كبير مظلوم ، فقال : افتح الباب . فقال : إنّ بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني وفعلوا وفعلوا وجعل يطول حتى حضر الرواح ، وذهبت القائلة . فقال : إذا رحت فأتني آخذ حقك ، فانطلق وراح ، فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ ، فلم يره ، فلما كان الغد يقضي بين الناس ينظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة أخذ مضجعه أتاه ، فدق الباب ، فقال من هذا؟ فقال : الشيخ المظلوم ، ففتح له ، فقال : أقيل ، فإذا قعدت فأتني ، فقال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد ، قالوا : نحن نعطيك حقك ، وإذا قمت جحدوني . قال : فانطلق : فإذا رحت فأتني ، فأتته القائلة ، فراح فجعل ينظر ولا يراه ، وشق عليه النعاس .

فقال للبواب في اليوم الثالث : قد غلب عليّ النعاس فلا تدع أحداً يقرب من هذا الباب حتى أنام ، فجاء إبليس في تلك الساعة ، فلم يأذن له الرجل فدخل في كُوَّة في البيت ، فتسور منها ودق الباب من داخل ، فاستيقط وعاتب البواب ، فقال : أما من قبلي فلم يأت ، فانظر من أين أتيت ، فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا الرجل معه في التي ، فقال له : أتنام والخصوم ببابك . فقال : أنت إبليس . قال : نعم أعييتني في كل شيء ففعلت هذه الأفعال بك ، فعصمك الله مني ، فسمي ذا الكفل ، لأنه تكفل بأمر فوقى به ، وقيل غير ذلك .
فصل
قال أبو موسى الأشعري ومجاهد : ذو الكفل لم يكن نبياً بل كان عبداً صالحاً . وقال الحسن والأكثرون كان نبياً ، وهو الأظهر ، لأنه تعالى قرن ذكره بإسماعيل وإدريس ، والغرض ذكر الفضلاء من عباده ، فدلّ ذلك على نبوته ، ولأن السورة ملقبة بسورة الأنبياء ، ولأنَّ قوله : « دُو الكِفْلِ » يحتمل أن يكون لقباً ، وأن يكون اسماً ، والأولى أن يكون اسماً ، لأنه أكثر فائدة من اللقب ، وإذا ثبت ذلك ، فالكِفْلُ هو النصيب ، لقوله تعالى « يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَ » . والظاهر أنّ الله تعالى سماه بذلك تعظيماً له ، فوجب أن يكون الكفل هو كفل لاثواب ، فسمي بذلك ، لأن عمله وثواب عمله كان ضعف عمل غيره وضعف ثواب غيره ، وقد كان في زمنه أنبياء على ما روي .
فصل
قيل : إن ذا الكفل زكريا . وقيل : يوشع . وقيل : إلياس . ثم قالوا : خمسة من الأنبياء- عليهم السلام- سماهم الله باسمين إسرائيل ويعقوب وإلياس وذا الكفل ، وعيسى والمسيح ، ويونس وذا النون ، ومحمداً وأحمد .
قوله : « كُلّ مِنَ الصَّبِرِيْنَ » أي : على القيام بأمر الله ، واحتمال الأذى في نصرة دينه . { وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا } قال مقاتل : الرحمة النبوة ، وصيرهم إلى الجنة والثواب . وقال آخرون : يتناول جميع أعمال البر .

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

قوله : { وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } الآية . « ذَا » بمعنى صاحب و « النون » الحوت . ويجمع على نِينَان كحوت وحيتان والمراد بذي النون يونس - عليه السلام- وسمي بذلك ، لأنَّ النون ابتلعه . وقد تقدم أن الاسم إذا دار بين أن يكون مفيداً ولقباً فحمله على المفيد أولى خصوصاً إذا علمت الفائدة التي لذلك الوصف .
قوله : « مُغَاصِباً » حال من فاعل « ذَهَبَ » والمفاعلة هنا تحتمل أن تكون على بابها من المشاركة ، أي : غاضب قومه وغاضبوه حين لم يؤمنوا في أول الأمر ، وفي بعض التفاسير : مغاضباً لربه فإن صح ذلك عمن يعتبر قوله ، فينبغي أن تكون اللام للتعليل لا التعدية للمفعول ، أي : لأجل ربه ولدينه .
ويحتمل أن يكون بمعنى غضبان ، فلا مشاركة كعاقبت وسافرت . والعامة على « مُغَاضِباً » اسم فاعل . وقرأ ألو شرف « مُغَاضِباً » بفتح الضاد على ما لم يسم فاعله كذا نقله أبو حيان . ونقله الزمخشري عن أبي شرف « مُغْضباً » دون ألف من أغضبته فهو مغضب .
قوله : « أن لَّن » « أنْ » هذه المخففة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، و « لَنْ نَقْدِرَ » هو الخبر ، والفاصل حرف النفي . والمعنى : أن نضيق عليه كقوله : { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [ الفجر : 16 ] { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] . والعامة على « نَقْدِرَ » بنون العظمة مفتوحة وتخفيف الدال ، والمفعول محذوف أي : الجهات والأماكن .
وقرأ الزهري بضمها وتشديد الدال . وقرأ ابن أبي ليلى وأبو شرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب « يُقْدَر » بضم الياء من تحت ، وفتح الدال خفيفة مبنياً للمفعول . وقرأ الحسن وعيسى بن عمر بفتح الياء وكسر الدال خفيفة وعلي بن أبي طالب واليماني بضم الياء وكسر الدال مشددة .
والفاعل على هذين الوجهين ضمير يعود على الله تعالى .
قوله : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ } يجوز في « أَنْ » وجهان :
أحدهما : أنها المخففة من الثقيلة فاسمها كما تقدم محذوف ، والجملة المنفية بعدها الخبر .
والثاني : أنها تفسيرية ، لأنَّها بعد ما هو بمعنى القول دون حروفه .
فصل
معنى الآية : واذكر صاحب الحوت ، وهو يونس بن متى « إذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً » قال ابن عباس : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين ، فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً ، وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله إلى شعيا النبي أن اذهب إلى حزقيل الملك ، وقل له حتى يوجه نبياً قوياً أميناً ، فإني ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل . فقال الملك : ومن ترى؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال : يونس بن متى فإنه قوي أمين ، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج ، فقال يونس : هل أمرك الله بإخراجي؟ قال : لا .

قال : هل سماني لك؟ قال : لا . قال : فها هنا هي المفاعلة التي تكون من واحد كالمسافرة والمعاقبة .
فمعنى قوله : « مُغَاضِباً » أي : غضبان . وعن ابن عباس قال : أتى جبريل يونس فقال : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم ، قال : ألتمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك ، فغضب ، فانطلق إلى السفينة . وقال وهب : إن يونس بن متى كان عبداً صالحاً ، وكان في خلقه ضيق ، فلما حمل عليه أثقال النبوة تَفسَّخَ تَحْتَهَا الرَّبع تحت الحمل الثقيل . فقذفها من يده ، وخرج هارباً منها ، فلذلك أخرجه الله من أول العزم ، فقال لنبيه محمد - عليه السلام- : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } [ الأحقاف : 35 ] ، قال : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] .
قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أي : أن نقضي عليه بالعقوبة . قال مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وهو رواية العوفي عن ابن عباس : يقال : قدّر الله شيئاً تقديراً ، وقدر يقدر قدرً بمعنى واحد . ومنه قوله : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت } [ الواقعة : 60 ] في قراءة من خفّفها دليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري « فَظَنَّ أَن لَّن نُّقَْدِّرَ عَلَيْهِ » بالتشديد . وقال عطاء وكثير من العلماء : معنا فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [ الرعد : 26 ] أي : يضيق . وقال ابن زيد : هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر ( عليه؟ ) وعن الحسن قال : بلغني أنَّ يونس لما أصاب الذنب انطلق مغاضباً لربه ، واستزله الشيطان حتى ظن أن لن نقدر عليه ، وكان له سلف وعبادة ، فأبى الله أن يجعله للشيطان ، فقذفه في بطن الحوت ، فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة . وقال عطاء : سبعة أيام ، وقيل : ثلاثة أيام . وقيل : إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة . وقيل : بلغ به تخوم الأرض السابعة ، فتاب إلى ربه في بطن الحوت ، وراجع نفسه ، فقال : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } حين عصيتك ، وما صنعت من شيء ، فلم أعبد غيرك ، فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته .
فصل
احتج القائلون بجواز الذنب على الأنبياء بهذه الآية من وجوه :
أحدها : أن أكثر المفسرين على أنه ذهب يونس مغاضباً لربه ، قيل : هذا قول ابن مسعود وابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ووهب ، واختيار ابن قتيبة ومحمد بن جرير ، وإذا كان كذلك فمغاضبة الله من أعظم الذنوب ، ثم على تقدير أن هذه المغاضبة لم تكن مع الله بل كان مع ذلك الملك ، أو مع القوم ، فهو أيضاً محظور لقول الله تعالى : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] وذلك يقتضي أن ذلك الفعل من يونس محظور .
وثانيها : قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } وذلك يقتضي كونه شاكاً في قدرة الله .

وثالثها : قوله : { إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } والظلم مذموم قال تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ هود : 18 ] .
ورابعها : أنه لو لم يصدر منه الذنب ، فلم عاقبه الله بان ألقاه في البحر في بطن الحوت .
وخامسها : قوله : { فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الصافات : 142 ] والمليم هو ذو الملامة ومن كان كذلك فهو مذنب .
وسادسها : قوله : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] فإن لم يكن صاحب ذنب ولم يجز النهي عن التشبّه به وإن كان مذنباً فهو المطلوب .
وسابعها : قوله : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] وقاتل : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم } [ الأحقاف : 35 ] وهذا يقتضي أنّ ذلك الفعل مخرج أن يكون يونس من أولي العزم .
والجواب : أنه ليس في الآية من غاضبة ، فلا نقطع على نبي الله بأنه غاضب ربه ، لأنّ ذلك صفة من يجهل كون الله مالكاً للأمر والنهي ، والجاهل بالله لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكون نبياً .
وأما ما روى من أنه خرج مغاضباً لأمر يرجع إلى الاستعداد فمما يرتفع حال الأنبياء عنه ، لأنّ الله تعالى إذا أمرهم بشيء فلا يجوز أن يخالفوه ، لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ] وقوله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } [ النساء : 65 ] . فإذا كان في الاستعداد مخالفة لم يجز أن يقع ذلك منهم . وإذا ثبت أنه لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى الله وجب أن يكون المراد أنه خرج مغاضباً لغير الله ، والغالب أنه إنما يغاضب من يعصه فيما يامره به ، فيحمل على مغاضبة قومه ، أو الملك ، أو هما جميعاً ومعنى مغاضبته لقومه أنه غاضبهم لمفارقته لخوف حلول العذاب بهم ، وقرئ « مغضباً » كما تقدن وأما قولهم : مغاضبة القوم أيضاً محظورة لقوله : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] .
فالجواب لا نسلم أنها كانت محرمة ، أما الذهاب ، فلأن الله أمره بتبليغ الرسالة إليهم ، وما أمره بأن يبقى معهم أبداً ، فظاهر الأمر لا يقتضي التكرار ، فلم يكن خروجه من بينهم معصية . وأما الغضب لما لم يكن منهياً عنه قبل ذلك ظن أن ذلك جائز من حيث أنه لم يفعله إلا غضباً لله وأنفة لدينه ، بل كان الأولى أن يصابر وينتظر من الله الأمر بالمهاجرة عنهم ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] كأن الله تعالى أراد لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل المنازل وأعلاها .
وأما الجواب عن قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } فنقول من ظن عجز الله فهو كافر ، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين فكيف إلى الأنبياء ، فإن لا بدَّ فيه من التأويل ، وفيه وجوه :
الأول : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } نضيق عليه كقوله :

{ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [ الرعد : 26 ] { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] أي : ضيق ، وكذا قوله : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [ الفجر : 16 ] أي : ضيق ، فمعناه : أن لن نضيق عليه ، وهلى هذا فالآية حجة لنا ، لأن يونس ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره ، وكان في المعلوم أنَّ الصلاح في تأخير خروجه ، وهذا من الله بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج لا على تعمد المعصية لكن ظن أنَّ الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر ، وكان الصلاح خلاف ذلك .
والثاني : أن يكون هذا من باب التمثيل ، أي : فكانت حاله مماثلة لحال من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه عن قومه من غير انتظار لأمر الله .
الثالث : أن يفسر القدر بالقضاء ، والمعنى فظن أن لن نقدر عليه بشدة .
قال مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس واختيار الفراء والزجاج : يقال : قَدَرَ الله الشيء قَدْراً وقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فالقدر بمعنى التقدير ، وتقدم قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري بضم النون والتشديد من التقدير .
وروي أنه دخل عن ابن عباس على معاوية ، فقال معاوية : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة ، فغرقت فيها ، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك . فقال : وما هي؟ قال : ظن نبي الله أن لن يقدر الله عليه . فقال ابن عباس : هذا من القدر لا من القدرة .
الرابع : فظن أن لن ( نقدر ، أي : فظن أن لن نفعل لأن ) بين القدرة والفعل مناسبة ، فلا يبعد جعل أحدهما مجازاً عن الآخر .
الخامس : أنه استفهام بمعنى التوبيخ كما تقدم عن ابن زيد .
السادس : قول من قال إن هذه الواقعة كانت قبل رسالة يونس ، فيكون هذا الظن حاصلاً قبل الرسالة ، وإذا كان كذلك فلا يبعد في حق غير الأنبياء أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ، ثم إنه يرده بالحجة والبرهان .
وأما الجواب عن قوله { إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } فنقول : إن حملناه على ما قبل النبوة فلا كلام ، وإن حملناه على ما بعدها فيجب تأويله ، لأنا لو أجريناه على ظاهره ، لاستحق اللعن ، وهذا لا يقوله مسلم ، وإذا وجب التأويل فنقول : لا شك أنه كان تاركاً للفضيلة مع القدرة على تحصيل الأفضل ، فكان ذلك ظلماً .
وأما الجواب عن إلقائه في البحر في بطن الحوت ، وأن ذلك عقوبة ، فلا نسلم أنَّ ذلك عقوبة ، إذ الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا بل المراد المحنة .
وأما الجواب عن الملامة فإنما كان بسبب ترك الأفضل .
فصل
قوله { فنادى فِي الظلمات } قال الزمخشري : أي : في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] وقوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } [ البقرة : 257 ] . وقيل : أراد ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت .

{ أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ } نزه ربه عن كل النقائض ، ومنها العجز ، وهذا يدلّ على أنه ما كان مراده من قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أنه ظن العجز ، وإنما قال : « سُبْحَانَكَ » ، لأنّ معناه سبحاتنك أن تفعل جوراً أو شهوة الانتقام أو عجزاً عن تخليصي عن هذا الحبس ، بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة { إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } أي : ظلمت نفسي بفراري من قومي بغير إذنك كأنه قال : كنت من الظالمين ، وأنا الان من التائبين النادمين فاكشف عني المحنة .
روى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « مَا من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له » .
قوله : { فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم } أي : من غمه بسبب كونه في بطن الحوت وبسبب خطيئته .
قوله : { وكذلك نُنجِي المؤمنين } : الكاف نعت لمصدر أو حال من ضمير المصدر أي : كما أنجينا يونس من كرب الحوت إذ دعانا ، أو كإنجائنا يونس كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا . وقرأ العامة « نُنْجِي » بضم النون الأولى وسكون الثانية من أنجي ينجي . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم « نُجِّي » بتشديد الجيم وسكون الياء وفيها أوجه :
أحسنها : أن يكون الأصل « نًنْجِي » بضم الأولى وفتح الثانية وتشديد الجيم فاستثقل توالي مثلين ، فحذفت الثانية كما حذفت في قوله « مَا نُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ » في قراءة من قرأه كما تقدم ، وكما حذفت التاء الثانية في قوله : « تَذَكَّرَونَ » و « تَظَاهَرُونَ » وبابه . ولكن أبو البقاء استضعف هذا التوجيه بوجهين فقال :
أحدهما : أنَّ النون الثانية أصل ، وهي فاء الكلمة ، فحذفها يبعد جداً .
والثاني : أنَّ حركتها غير حركة النون الأولى ، ولا يستثقل الجمع بينهما بخلاف « تظاهرون » ألا ترى أنك لو قلت : تتحامى المظالم لم يَسُغْ حذف الثانية .
أما كون الثانية أصلاً فلا أثر له في منع الحذف ، ألا ترى أن النحويين اختلفوا في إقامة واستقامة ، أي الألفين المحذوفة من أنَّ الأولى هي الأصل ، لأنها عين الكلمة وأما اختلاف الحركة فلا أثر له أيضاً ، لأن الاستثقال باتحاد لفظ الحرفين على أي حركة كانا .
الوجه الثاني : أنّ « نُجِّي » فعل ماض مبني للمفعول ، وإنما سكنت لامه تخفيفاً ، كما سكنت في قوله : « مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا » في قراءة شاذّة تقدمت ، قالوا : وإذا كان الماضي الصحيح قد سكن نخفيفاً فالمعتل أولى ، ومنه :
3732- إنَّمَا شِعْرِي قَنْدٌ ... قَدْ خُلِطَ بِجُلْجُلاَنِ
وتقدم منذ لك جملة وأسند هذا الفعل إلى ضمير المصدر مع وجود المفعول الصريح كقراءة أبي جعفر « لِيُجْزَى قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » وهذا رأي الكوفيين والأخفش ، وتقدمت شواهد ذلك ، والتقدير : نُجِّي النجاة ، قال أبو البقاء : وهو ضعيف من وجهين :
أحدهما : تسكين آخر الفعل الماضي .

والآخر : إقامة المصدر مع وجود المفعول الصريح .
وقد عرف جوابهما مما تقدم .
الوجه الثالث : أن الأصل « نُنْجِي » كقراءة العامة إلا أن النون الثانية قلبت جيماً وأدغمت في الجيم بعدها . وهذا ضعيف جداً ، لأن النون لا تقارب الجيم فتدغم فيها .
الوجه الرابع : أنه ماض مسند بضمير المصدر أي : نُجِّي النجاءُ كما تقدم في الوجه الثاني ، إلا أنَّ « المُؤْمِنِينَ » ليس منصوباً ب « نُجِّي » بل بفعل مقدر . وكأن صاحب هذا الوجه فرَّ من إقامة غير المفعول به من وجوده فجعله من جملة أخرى . وهذه القراءة متواترة ، ولا التفات على من طعن على قارئها ، وإن كان أبو علي قال : هي لحن . وهذه جرأة منه ، وقد سبقه إلى ذلك أبو إسحاق الزجاج .
وأما الزمخشري فإنما طعن على بعض الأوجه المتقدمة ، فقال : ومن تمحل لصحته فجعله فُعِّل ، وقال : نُجِّي النجاء المؤمنين ، وأرسل الياء وأسنده إلى مصدره ، ونصب المؤمنين فمتعسف بارد التعسف . فلم يرتض هذا التخريج بل للقراءة عنده تخريج آخر ، وقد يمكن أن يكون هو المبتدأ به لسلامته مما تقدم من الضعف .

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)

قوله تعالى : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً } الآية . اعلم أنه تعالى بين هاهنا انقطاع زكريا إلى ربه لما مسه الضر بتفرده ، وأحب من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه ، ويقوم مقامه بعد موته ، فدعا الله تعالى دعاء مخلص عارف بقدرة ربه على ذلك ، وانتهت به الحال وبزوجه من الكبر وغيره ما يمنع من ذلك بحكم العادة فقال : { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً } وحيداً لا ولد لي ، وارزقني وارثاً ، { وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق ، وأنه أفضل من بقي حياً .
ويحتمل أن يكون المعنى : إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير الوارثين .
قال ابن عباس : كان سنه مائة سنة ، وسن زوجته تسعاً وتسعين ، { فاستجبنا لَهُ } أي : فعلنا ما أراده بسؤاله ، { وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى } ولداً صالحاً { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } أي : جعلناها ولوداً بعد ما كانت عقيماً . قاله أكثر المفسرين وقيل : كانت سيئة الخلق سلطة اللسان فأصلح الله خلقها . وقيل : جعلها مصلحة في الدين ، فإن صلاحها في الدين من أكبر أعوانه ، لأنه يكون إعانة في الدين والدنيا واعلم أنَّ قوله { وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } يدل على أن الواو لا تفيد الترتيب ، لأنَّ إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد مع أنه تعالى أخره في اللفظ . ثم قال : « إنَّهُمْ » يعني الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة .
وقيل : زكريا وولده وأهله { كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات } ، والمسارعة في طاعة الله من أكبر ما يمدح المرء به ، لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة .
قوله : { وَيَدْعُونَنَا } العامة على ثبوت نون الرفع قبل ( ن ) مفكوكة منها وقرأت فرقة { } بحذف نون الرفع . وطلحة بإدغامها فيها .
وهذا الوجهان فيهما إجراء نون ( ن ) مجرى نون الوقاية . وقد تقدم . قوله : { رَغَباً وَرَهَباً } يجوز أن ينتصبا على المفعول من أجله ، وأن ينتصبا على أنهما مصدران واقعان موقع الحال ، أي : راغبين راهبين ، وأن ينتصبا على المصدر الملاقي لعامله في المعنى دون اللفظ ، لأن ذلك نوع منه . والعامة على فتح الغين والهاء . وابن وثاب والأعمش ورويت عن أبي عمرو بسكون الغين والهاء ، ونقل عن الأعمش وهو الأشهر عنه بضم اراء وما بعدها . وقرأت فرقة بضمة وسكون فيهما .
فصل
ومعنى « رَغَباً » : طمعاً « وَرَهَباً » : خوفاً ، أي : رغباً في رحمة الله ، ورهباً من عذاب الله . { وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ } أي : متواضعين ، قال قتادة : ذلك لأمر الله . وقال مجاهد : الخشوع هو الخوف اللازم في القلب .

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)

قوله تعالى : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } الآية . يجوز أن ينتصب قوله : « وَالَّتِي » نسقاً على ما قبلها ، وأن ينتصب بإضمار اذكر ، وأن يرتفع بالابتداء ، والخبر محذوف ، أي : وفيما يتلى عليكم التي أحصنت . ويجوز أن يكون الخبر « فَنَفَخْنَا » وزيدت الفاء على رأي الأخفش نحو زيد فقائم . وفي كلام الزمخشري : نفخنا الروح في عيسى فيها . قال أبو حيان مؤاخذاً له : فاستعمل « نفخ » متعدياً والمحفوظ أنه لا يتعدى فيحتاج في تعديه إلى سماع ، وغير متعد استعمله هو في قوله؛ أي : نفخت في المزمار . انتهى ما آخذه به .
قال شهاب الدين : وقد سمع « نفخ » متعدياً ، ويدل على ذلك ما قرئ في الشاذ « فانفخها فَيَكُونُ طَائِراً » ، وقد حكاها هو قراءة ، فكيف ينكرها . فعليك بالالتفات إلى ذلك . وقال ابن الخطيب : جعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل - عليه السلام - لأنه نفخ في جيب درعها ، فوصل النفخ إلى جوفها أي : أمرنا جبريل فنفخ في جيب درعها ، وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها وأضاف الروح إليه تشريفاً لعيسى ( - عليه السلام- ) .
ومعنى « أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا » أي : إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً كما قالت : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } [ مريم : 20 ] . وقيل : منعت جبريل جيب درعها قبل أن تعرفه .
والأول أولى لأنه الظاهر من اللفظ .
قوله : { وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } أما مريم فآياتها كثيرة :
إحداها : ظهور الحبل فيها لا من ذكر ، وذلك معجزة خارجة عن العادة .
وثانيها : أنَّ رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة لقول زكريا : { أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } [ آل عمران : 37 ] .
وثالثها : ورابعها : قال الحسن : أنها لم تلتقم ثدياً قط ، وتكلمت هي أيضاً في صباها كما تكلم عيسى . وأما آيات عيسى - عليه السلام - فقد تقدم بيانها فإن قيل : هلا قيل آيتين كما قال : { وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ } [ الإسراء : 12 ] ليطابق المفعول؟
فالجواب : أنَّ كلاًّ منهما آية بالآخر فصارا آية واحدة ، لأنّ حالهما بمجموعهما آية واحدة ، وهي ولادتها إياه من غير فحل . أو تقول : حذف من الأول لدلالة الثاني ، أو بالعكس أي : وجعلنا ابن مريم آية وأمه كذلك ، وهو نظير الحذف في قوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وقد تقدم . أو أنّ معنى الكلام : جعلنا شأنهما وأمرهما آية .

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)

قوله تعالى : { ق إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } الآية . قرأ العامة على رفع « أُمَّتُكُمْ » خبراً ل « إنَّ » ، ونصب « أُمَّةً واحِدَةً » على الحال ، وقيل : على البدل من « هَذِهِ » فيكون قد فصل بالخبر بين البدل والمبدل فيه نحو : إنَّ زيداً قائمٌ أخاك . وقرأ الحسن « أمَّتَكُمْ » بالنصب على البدل من « هَذِهِ » ، أو عطف البيان . وقرأ أيضاً هو وابن أبي إسحاق والأشهب العقليل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وهارون عن أبي عمرو « أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ » بالرفع على خبر « إنَّ » و « أُمَّتُكُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ » برفع الثلاث على أن يكون « أُمَّتُكُمْ » خبر « إنَّ » كما تقدم و « أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ » بدل منها بدل نكرة من معرفة ، أو يكون « أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ » خبر مبتدأ محذوف ومعنى « أُمَّتُكُمْ » قال الزمخشري : الأمة الملة ، وأشار إلى ملة الإسلام . « أمَّةً وَاحِدَةً » أي : ديناً واحداً وهو الإسلام غير مختلف ، فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان . وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد ، فجعلت الشريعة أمة لاجتماع أهلها على مقصد واحد . ثم قال : « وَأَنَا رَبُّكُمْ » أي : إلهكم فَاعْبدُونِ .
قوله : « وَتَقَطّعُوا » أي : اختلفوا ، والأصل : وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريق الالتفاف ، وكأنه ينفي عهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم ، ويقول لهم : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء ، والمعنى : اختلفوا في الدين فصاروا فرقاً وأحزاباً .
قال الكلبي : وفرقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض . والتقطع هاهنا بمعنى : التقطيع .
قوله : « أَمَرَهُمْ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب على إسقاط الخافض ، أي : تفرقوا في أمرهم .
الثاني : أنه مفعول به ، وعدى « تَقَطعُوا » لأنه بمعنى : قطعوا .
الثالث : أنه تمييز ، وليس بواضح معنى ، وهو معرفة ، فلا يصح من جهة صناعة البصريين . قال أبو البقاء : وقيل : هو تمييز أي : تقطع أمرهم . فجعله منقولاً من الفاعلية . و « زُبُراً » يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً على أن تضمن ( تقطعوا ) معنى ( صيروا ) بالتقطيع . وإمَّا أن ينصب على الحال من المفعول ، أي : مثل زبر ، أي : كتب ، فإنّ الزبر جمع زَبُور كرُسُل جمع رَسُول .
أو يكون حالاً من الفاعل ، نقله أبو البقاء في سورة المؤمنين . وفيه نظر إذ لا معنى له ، وإنما يظهر كونه حالاً من الفاعل في قراءة « زُبَراً » بفتح الباء أي فرقاً . والمعنى : صيروا أمرهم زبراً أي تقطعوه في هذه الحال ، والوجهان مأخوذان من تفسير الزمخشري ، لمعنى الآية الكريمة ، فإن قال : والمعنى جعلوا أَمْرَ دِينهم فيما بينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة ، ويقتسمونه ، فيصير لهذا نصيب ، ولذلك نصيب تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً وفي الكلام التفاف من الخطاب وهو قوله : « أُمَّتُكُمْ » إلى الغيبة تشنيعاً عليهم بسوء صنيعهم .

وقرأ الأعمش : « زُبَراً » بفتح الباء جمع زُبْرَة ، وهي قطعة الحديد في الأصل ونصبه على الحال من ضمير الفاعل « تَقَطَّعُوا » كما تقدم . ولم يتعرض له أبو البقاء في هذه السورة ، وتعرض له في المؤمنين ، فذكر فيه الأوجه المتقدمة ، وزاد أنه قرئ « زُبْراً » بسكون الباء وهو بمعنى المضمومة .
قوله : { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } توعدهم بأن هذه الفرق المختلفة إليه يرجعون فيحاسبهم ويجازيهم بأعمالهم ، قال عليه السلام : « تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة ، فهلك سبعون وخلصت فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة ، تهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة ، وقالوا : يا رسول الله من تلك الفرقة . قال : » الجماعة الجماعة الجماعة « وبهذا الخبر بيّن أن المراد بقوله : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ } الجماعة المتمسكة بما بينه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات ، وأن قول الرسول في الناجية إنّها الجماعة ليس تعريفاً للفرقة الناجية ، إذ لا فرقة تمسكت بباطل أو بحق إلا وهي جماعة من حيث العدد ، ولهذا طعن بعضهم في صحة الخبر ، فقال : إنْ أراد بالاثنين وسبعين فوقة أصول الأديان فلن يبلغ هذا القدر ، وإن أراد الفروع فإنَّها تتجاوز هذا القدر إلى أضعاف ذلك . وقيل أيضاً ضد ذلك ، وهو أنها كلها ناجية إلا فرقة واحدة .
والجواب : قال ابن الخطيب : المراد ستفترق أُمتي في حال وليس فيه دلالة على افتراقها في سائر الأحوال ، ولأنه لا يجوز أن يزيد وينقص .

فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)

قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ } الآية . لمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الأُمَّةِ وتفرقهم ، وأنهم راجعون إلى حيث لا أمر إلا له أتبع ذلك بقوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } لا نجحد ولا نبطل سعيه .
والكفران مصدر بمعنى الكفر ، قال :
3733- رَأَيْتُ أُنَاسَاً لاَ تَنَامُ خُدُودُهُمْ ... وَخَدِّي وَلاَ كُفْرَانَ لِلَّهِ نَائِمُ
و « لِسَعْيِهِ » متعلق بمحذوف ، أي : نكفر لسعيه ، ولا يتعلق ب « كُفْرَانَ » لأنه يصير مطولاً ، والمطول ينصب وهذا مبني . والضمير في « لَهُ » يعود على السعي . والمعنى : لا بطلان لثواب عمله ، وهو كقوله : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 19 ] .
فالكفران مثل في حرمان الثواب ، والشكر مثل في إعطائه .
فقوله : « فَلاَ كُفْرَانَ » المراد نفي الجنس للمبالغة ، أنَّ نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها . ثم قال : { وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } أي : لسعيه كاتبون إمَّا في أم الكتاب ، أو في الصحف التي تعرض يوم القيامة ، والمراد من ذلك ترغيب العباد في الطاعات .
قوله تعالى : { وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ } قرأ الأخوان وأبو بكر ورويت عن أبي عمرو « وَحِزْمُ » بكسر الحاء وسكون الراء وهما لغتان كالحِلّ والحَلاَل .
وقرأ ابن عباس وعكرمة « وحَرِمَ » بكسر الحاء وسكون الراء وفتح الميم على أنه فعل ماض وروي عنهما أيضاً وعن أبي العالية بفتح الحاء والميم وضم الراء بزنة كَرُم ، وهو فعل ماض أيضاً . ( وروي عن ابن عباس أيضاً فتح الجميع وهو فعل ماض أيضاً ) . وعن اليماني بضم الحاء وكسر الراء ( مشددة وفتح الميم ماضياً مبنياً للمفعول . وروى عكرمة بفتح الحاء وكسر الراء ) وتنوين الميم .
فمن جعله اسماً ففي رفعه وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ ، وفي الخبر حينئذ ثلاثة أوجه :
أحدها : قوله : « لا يَرْجِعُونَ » وفي ذلك حينئذ أربعة تأويلات :
التأويل الأول : أن « لا » زائدة ، والمعنى : وممتنع على قرية قدرنا إهلاكها لكفرهم رجوعهم إلى الإيمان إلى ان تقوم الساعة . وممن ذهب إلى زيادتها أبو عمرو مستشهداً عليه بقوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] يعني أحد القولين .
التأويل الثاني : أنها غير زائدة ، وأن المعنى : أنهم غير راجعين عن معصيتهم وكفرهم .
التأويل الثالث : أنَّ الحرام قد يراد به الواجب ، ويدل عليه قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ } [ الأنعام : 151 ] وترك الشرك ويدل عليه قول الخنساء :
3743- وَإِنَّ حَرَاماً لا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيَاً ... عَلَى شَجْوَةِ إلاَّ بَكَيْتُ عَلَى صَخْر
أي : واجباً . وأيضاً فمن الاستعمال إطلاق أحد الضدين على الآخر ، وهو مجاز مشهور قال تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ومن ثم قال الحسن والسدي : لا يرجعون عن الشرك .

وقال قتادة : لا يرجعون إلى الدنيا .
التأويل الرابع : قال مسلم بن بحر : حرام ممتنع ، وأنهم لا يرجعون ، فيكون عدم رجوعهم واجباً ، وإذا امتنع الانتفاء وجب الرجوع ، فيكون المعنى : إن رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة واجب ، ويكون الغرض منه إبطال قول من ينكر البعث ، وتحقيقه ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد وأنه - تعالى- مجازيه يوم القيامة .
وقول ابن عطية قريب من هذا فإنه قال : وَمُمْتَنِعٌ على الكفرة المهلكين أنهم لا يرجعون ( بل هم راجعون ) إلى عذاب الله وأليم عقابه ، فتكون « لاَ » على بابها والحرام على بابه .
الوجه الثاني : أن الخبر محذوف ، تقديره : وحرام توبتهم أو رجاء بعضهم ، ويكون { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } علة لما تقدم من معنى الجملة . فيكون حينئذ في « لاَ » احتمالان :
الاحتمال الأول : أن تكون زائدة ، ولذلك قال أبو البقاء في هذا الوجه بعد تقديره الخبر المتقدم : إذ جعلت ( لا ) زائدة .
قلت : والمعنى عنده لأنهم يرجعون إلى الأخرة وجزائها .
الاحتمال الثاني : أن تكون غير زائدة بمعنى ممتنع توبتهم ، أو رجاء بعثهم لأنهم لا يرجعون إلى الدنيا فيستدركوا فيها ما فاتهم من ذلك .
الوجه الثالث : أن يكون هذا المبتدأ لا خبر له لفظاً ولا تقديراً ، وإنما وقع شيئاً يقوم مقام خبره من باب أقائم أخواك ، قال أبو البقاء : والجيد أن يكون ( أنهم ) فاعلاً سد مسد الخبر . وفي هذا نظر ، لأنَّ ذلك يشترك فيه أن يعتمد الوصف على نفي أو استفهام وهنا لم يعتمد المبتدأ على شيء من ذلك اللهم إلا أن ينحو نحو الأخفش فإنه لا يشترط ذلك ، وهو الظاهر ، وحينئذ يكون في ( لا ) الوجهان المتقدمان من الزيادة وعدمها باختلاف معنيين ، أي : امتنع رجوعهم إلى الدنيا أو عن شركهم ، إذا قدرتها زائدة ، أو امتنع عدم رجوعهم إلى عقاب الله في الآخرة ، إذا قدرتها غير زائدة .
الوجه الثاني : من وجهي رفع « حَرَامٌ » : أنه حبر مبتدأ محذوف ، فقدره بعضهم : الإقالة والتوبة حرام ، وقدره أبو البقاء : أي : ذلك الذي ذكر من العمل الصالح حرام وقال الزمخشري : وحرام على قرية أهلكناها ذاك ، وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح ، والسعي المشكور غير المكفور ، ثم علل فقيل : إنَّهم لا يرجعون عن الكفر ، فيكف لا يمتنع ذلك . وقرأ العامة « أَهْلَكْنَاهَا » بنون العظمة .
وقرأ أبو عبد الرحمن وقتادة « أَهْلَكْتُهَا » بتاء المتكلم . ومن قرأ « حَرِمٌ » بفتح الحاء وكسر الراء وتنوين الميم فهو في قراءة صفة على فَعِل نحو حَذِر ، وقال :
3735- وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مِسْأَلَةٍ ... يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي ولاَ حَرِمُ
ومن قرأه فعلاً ماضياً فهو في قراءته مسند ل « أن » وما في حيزها ، ولا يخفى الكلام في ( لا ) بالنسبة إلى الزيادة وعدمها ، فإن المعنى واضح مما تقدم .

وقرئ « إِنَّهُمْ » بالكسر على الاستئناف ، وحينئذ فلا بُدَّ من تقدير مبتدأ يتم به الكلام تقديره : ذلك العمل الصالح حرام ، وتقدم تحرير ذلك .
قوله تعالى : { حتى إِذَا فُتِحَتْ } الآية . تقدم الكلام على ( حَتَّى ) الداخلة على ( إذا ) مشبعاً . وقال الزمخشري هنا : فإن قُلْت : بم تعلقت ( حَتَّى ) واقعة غاية له وأية الثلاث هي؟ قلت : هي متعلقة ب « حَرَام » وهي غاية له ، لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى الشرط والجزاء أعني : إذا وما في حيزها . وأبو البقاء نحا هذا النحو ، فقال : و « حَتَّى » متعلقة في المعنى ب « حَرَام » . أي : يستمر الامتناع إلى هذا الوقت ، ولا عمل لها في « إذَا » . قال الحوفي : هي غاية ، والعامل فيها ما دل عليه المعنى من تأسفهم على ما فرطوا فيه من الطاعة حين فاتهم الاستدراك . وقال ابن عطية : « حَتَّى » متعلقة بقوله : « وَتَقَطَّعُوا » ، ويحتمل على بعض التأويلات المتقدمة أن تتعلق ب « يَرْجِعُونَ » ، ويحتمل أن تكون حرف ابتداء ، وهو الأظهر بسبب ( إذا ) لأنها تقتضي جواباً للمقصود ذكره .
قال أبو حيان : وكون ( حَتَّى ) متعلقة ب « تَقَطَّعُوا » فيه من بعد حيث كثرة الفصل لكنه من حيث المعنى جَيِّد ، وهو أنهم لا يزالون مختلفين على دين الحق إلى قرب مجيء الساعة ، فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك كله . وتلخص في تعلق ( حَتَّى ) أوجه :
أحدها : أنها متعلقة ب « حَرَام » .
والثاني : أنها متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى ، وهو قول الحوفي .
الثالث : أنها متعلقة ب « تَقَطَّعُوا » .
الرابع : أنها متعلقة ب « يَرْجِعُونَ » .
وتلخص في ( حتى ) وجهان :
أحدها : أنَّها حرف ابتداء ، وهو قول الزمخشري وابن عطية فيما اختاره .
والثاني : إنها حرف جر بمعنى ( إلى ) .
وقرأ « فُتِّحَتْ » بالتشديد ابن عامر ، والباقون بالتخفيف . وتقدم ذلك أول الأنعام وفي جواب « إذَا » أوجه :
أحدها : أنه محذوف ، فقدره أبو إسحاق : قالوا يا ويلنا ، وقدره غيره ، فحينئذ يبعثون ، وقوله : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ } عطف على هذا المقدر .
والثاني : أنَّ جوابها الفاء في قوله : « فَإِذَا هِيَ » قاله الحوفي والزمخشري وابن عطية ، فقال الزمخشري : و « إذا » هي للمفاجأة ، وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله تعالى : { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [ الروم : 36 ] ، فَإِذَا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ، ولو قيل : ( إذَا هِيَ شَاخِصَةٌ ) كان سديداً .
وقال ابن عطية : والذي أقول : إنَّ الجواب في قوله : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ } وهذا هو المعنى الذي قصد ذكره ، لأنه رجوعهم الذي كانوا يكذبون به وحرم عليهم امتناعه .
وقوله : « يَأْجُوج » هو على حذف مضاف ، أي سدّ يأجوج ومأجوج ، وتقدم الكلام فيهما وهما قبيلتان من جنس الإنس ، يقال : الناس عشرة أجزاء تسعة أجزاء منها يأجوج ومأجوج يخرجون حيت يفتح السد .

قيل : السد يفتحه الله ابتداء . وقيل : بل إذا جعل الله الأرض دكاً زالت تلك الصلابة من أجزاء الأرض فحينئذ ينفتح السد .
قوله : « وَهُمْ » قال أكثر المفسرين : « هُم » كناية عن « يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ » .
وقال مجاهد : كناية عن جميع العالم بأسرهم أي : يخرجون من قبورهم ، ومن كل موضع ، فيحشرون إلى موقف الحساب .
والأول أظهر وإلا لتكلف النظم ، ولأنه روي في الخبر أن يأجوج ومأجوج لا بدَّ وأن يسيروا في الأرض ، ويقبلوا على الناس من كل موضع مرتفع . وقرأ العامة « يَنْسِلُونَ » بكسر السين . وأبو السمال وابن أبي إسحاق بضمها . والحَدَب : النشز من الأرض . أي : المرتفع ، ومنه الحدب في الظهر ، وكل كُدْيَة أو أَكْمَةٍ فهي حدبة ، وبها سمي القبر لظهوره على وجه الأرض والنَّسَلاَنُ : مقاربة الخطا مع الإسراع كالرملِ يقال : نَسَلَ يَنْسِلُ وَيَنْسُلُ بالفتح في الماضي والكسر والضمّ في المضارع ، ونَسَلَ وعَسَلَ واحد قال الشاعر :
3736- عَسَلاَنَ الذئبِ أَمْسَى قَارِباً ... بَرَدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسَلْ
والنَّسْلُ من ذلك ، وهو الذُّرّيةُ ، أطلق المصدر على المفعول ، ونَسَلْتُ ريشَ الطائِر من ذلك . وقدم الجار على متعلقة لتراخي رؤوس الآي .
وقرأ عبد الله وابن عباس : « جَدَث » بالثاء المثلثة والجيم اعتباراً بقوله :
{ فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [ يس : 51 ] . وقرئ بالفاء ، وهي بدل منها قال الزمخشري : الثاء للحجاز ، والفاء لتميم . وينبغي أن يكونا أصلين ، لأنَّ كلاّ منهما لغة مستقلة ، ولكن كثر إبدال الثاء من الفاء ، قالوا مغثور في مغفور ، وقالوا فُمَّّ في ثُمَّ ، فأبدلت هذه من هذه تارة ، وهذه من هذه أخرى .
« ( روى حذيفة بن أسد الغفاري قال : اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر ، فقال : » مَا تَذْكُرُونَ؟ « قالوا : نذكر الساعة قال : إنها لن تقوم حَتى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيات فذكر الدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ابن مريم ، ويأجوج ومأجوج ، وثلاثة خسوف ، خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم ) . »
قوله : { واقترب الوعد الحق } . المراد بالوعد وهو يوم القيامة .
( وسمي الموعود وعداً تجوّزا . قال الفراء وجماعة : الواو في قوله : « وَاقْتَرَبَ » مقحمة معناه : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ } [ الصافات : 103 ، 104 ] أي : ناديناه . ويدل عليه ما روى حذيفة قال : لو أنَّ رجلاً اقتنى فُلُّوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة .
وقال قوم : لا يجوز طرح الواو ، وجعلوا جواب { حتى إِذَا فُتِحَتْ } في قوله : « يَا وَيْلَنَا » يكون مجازاً لأنّ التقدير : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة ) .

قوله : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ } « إذَا » هنا للمفاجأة ، و « هِيَ » فيها أوجه :
أجودها : أن يكون ضمير القصة ، و « شَاخِصَةٌ » خبر مقدم ، و « أَبْصَارُ » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر ل « هِيَ » ، لأنها لا تفسر إى بجملة مصرح بخبرها ، وهذا مذهب البصريين .
الثاني : أن تكون « شَاخِصَةٌ » مبتدأ ، و « أَبْصَارُ » فاعل سد مسد الخبر ، وهذا يتمشى على رأي الكوفيين ، لأن ضمير القصة يفسر عندهم بالمفرد العامل عمل الفعل فإنه في قوة الجملة .
الثالث : قال الزمخشري : « هِيَ » ضمير مبهم يوضحه الأبصار ويفسره كما فسر « الَّذِينَ ظَلَمُوا » « وَأَسَرُّوا » . ولم يذكر غيره . قال شهاب الدين : وهذا قول الفراء ، فإنه قال في ضمير الأبصار : تقدمت لدلالة الكلام ومحيء ما يفسرها ، وأنشد شاهداً على ذلك :
3737- فَلاَ وَأَبِيهَا لا تَقُولُ خَلِيلَتِي ... أَلاَ فَرَّ عَنِّي مَالِكُ بْنُ أَبِي كَعْبِ
الرابع : أن تكون « هِيَ » عماداً ، وهو قول الفراء أيضاً قال : لأنه يصلح موضعها هو ، فتكون كقوله : { إِنَّهُ أَنَا الله } [ النمل : 9 ] ومثله : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار } [ الحج : 46 ] وأنشد :
3738- بِثَوب ودينارٍ وشاة ودرهم ... فَهَلْ هُوَ مَرْفُوع بِمَا هَاهُنَا رَاس
وهذا لا يتمشى إلا على أحد قولي الكسائي ، وهو أنه يجيز تقدم الفصل مع الخبر المتقدم نحو : هو خير منك زيد . الأصل زيد هو خير منك . وقال أبو حيان : أجاز هو القائم زيد ، على أنَّ زيداً هو المبتدأ ، والقائم خبره ، وهو عماد ، وأصل المسألة : زيد هو القائم .
قال شهاب الدين : وفي التمثيل نظر ، لأنّ تقديم الخبر هنا ممتنع لاستهوائهما في التعريف بخلاف المثال المتقدم . فيكون أصل الآية الكريمة : فإذا أبصار الذين كفروا هي شاخصة ، فلما قدم الخبر ، « شَاخِصَة » ، قدم معها العماد .
وهذا أيضاً إنما يجيء على مذهب من يرى وقوع العماد قبل النكرة غير المقارنة للمعرفة .
الخامس : أن تكون « هِيَ » مبتدأ وخبره مضمر ، فيتم الكلام حينئذ على « هِيَ » ويبتدأ بقوله : « شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ » ، والتقدير : فإذا هي بارزة ، أي : الساعة بارزة أو حاضرة و « شَاخِصَةٌ » خبر مقدم ، و « أَبْصَارُ » مبتدأ مؤخر . ذكره الثعلبي .
وهو بعيد جداً لتنافر التركيب ، وهو التعقيد عند علماء البيان .
قوله : « يَا وَيْلَنَا » معمول لقول محذوف ، أي : يقولون يَا وَيْلَنَا . وفي هذا القول المحذوف وجهان : أحدهما : أنه جواب « حتى إذا » كما تقدم .
والثاني : في محل تصب على الحال من { الذين كَفَرُواْ } قاله الزمخشري .
قوله : { قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا } يعني في الدنيا حيث كذبناه وقلنا : إنه غير كائن ، بل كنا ظالمين أنفسنا بتلك الغفلة وتكذيب محمد ، وعبادة الأوثان .

إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)

قوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } أتى هنا ب « مَا » وهي لغير العقلاء ، لأنه متى اختلط العاقل بغيره يُخَيّر الناطق بين ( مَا ) ، و « مَنْ ) .
وقرأ العامة : » حَصَبُ « بالمهملتين والصاد مفتوحة ، وهو ما يحصب أي : يرمى في النار ولا يقال له حصب إلا وهو في النار ، فأما قبل ذلك فهو حطب وشجر وغير ذلك .
وقيل : يقال له حصب قبل الإلقاء في الناء . قيل : هو الحطب بلغة أهل اليمن .
وقال عكرمة : هو الحطب بالحبشية . وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة ورويت عن ابن كثير بسكون الصاد ، وهو مصدر ، فيجوز أن يكون واقعاً موقع المفعول ، أو على المبالغة ، أو على حذف مضاف . وقرأ ابن عباس بالضاد معجمة مفتوحة أو ساكنة وهو أيضاً ما يرمى به في النار ، ومنه المِخْضَبِ عُودٌ يُحَرَّك به النار لتوقد ، وأنشد :
3739- فَلاَ تَكُ في حَرْبِنَا مِحْضَباً ... فَتَجْعَلَ قَوْمَكَ شَتَّى شُعُوبَا
وقرأ أمير المؤمنين وأبيّ وعائشة وابن الزبير » حَطَبُ « بالطاء ، ولا أظنها إلا تفسيراً لا قراءة .
فصل
المعنى » إِنَّكُمْ « أيُّهَا المشركون { وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } يعني الأصنام » حَصَبُ جَهَنَّم « أي : وقودها ، وهذا تشبيه . وأصل الحصب الرمي ، قال تعالى : { أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً } [ القمر : 34 ] أي : ريحاً ترميهم بالحجارة .
قوله : { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } . جوز أبو البقاء في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحداه : أن تكون بدلاً من » حَصَبُ جَهَنَّم « .
يعني : أن الجملة بدل من المفرد الواقع خبراً ، وإبدال الجملة من المفرد إذا كان أحدهما بمعنى الآخر ، جائز ، إذ التقدير : إنكم أنتم لها واردون .
والثاني : أن تكون الجملة مستأنفة .
والثالث : أن تكون في محل نصب على الحال من » جَهَنَّمَ « وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير مواضع المستثناة . ومعنى { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } أي : فيها داخلون . وإنما جاءت اللام في » لَهَا « لتقدمها تقول : أنت لزيد ضارب . كقوله تعالى : { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [ المؤمنون : 8 ، المعارج : 32 ] والمعنى : أنه لا بُدَّ وأن تردوها ، ولا معدل لكم من دخولها .
فصل
» روى ابن عباس أنه - عليه السلام- دخل المسجد وصَنَادِيد قريش في الحَطِيم . وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، فجلس إليهم ، فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى أفحمه ، ثم تلا عليهم { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الآية . فأقبل عبد الله بن الزَّبَعْرَى فرآهم يتهامسون ، فقال : فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله . فقال ابن الزبعرى : انت قلت ذلك؟ قال نعم .
قال : خصمتك ورب الكعبة ، أليس اليهود عُزَيْراً ، والنصارى عبدوا المسيح ، وين مليح عبدو الملائكة . فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجب ، فضحك القوم «

، ونزل قوله تعالى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [ الزخرف : 57 ، 58 ] .
ونزل في عيسى والملائكة { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] . وفي رواية أخرى أنه - عليه السلام- قال : « بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك » فأنزل - تعالى- { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] يعني عزيراً والمسيح والملائكة . قال ابن الخطيب : واعم أنَّ سؤال ابن الزبعرى غير متوجه من وجوه :
أحدها : أنَّ ذلك الخطاب كان مع مشركي مكة ، وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط .
وثانيها : أنه لم يقل : ومن تعبدون بل قال : « وَمَا تَعْبُدُونَ » . كلمة « مَا » لا تتناول العقلاء ، وأما قوله تعالى : { وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] وقوله : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [ الكافرون : 2 ] فحمول على الشيء ، ونظيره هاهنا أن يقال : إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله ، لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم فلا يتوجه سؤال ابن الزبعرى .
وثالثها : أنَّ مَنْ عَبَدَ الملائكة لا يَدَّعِي أنهم آلهة وقال سبحانه { لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا } .
ورابعها : أنه ثبت العموم لكنه مخصوص بالدلائل العقلية والسمعية في حق الملائكة والمسيح وعزير لبراءتهم من الذنوب والمعاصي ، ووعد الله إياهم بكل مكرمة ، وهو المراد بقوله سبحانه { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] .
وخامسها : الجواب الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أنهم كانوا يعبدون الشياطين . فإن قيل : الشياطين عقلاء ولفظ « مَا » لا يتناولهم ، فكيف قال ذلك؟ قلنا : كأنه - عليه السلام- قال : لو ثبت لكم أنه يتناول العقلاء فسؤالكم أيضاً غير لازم من هذا الوجه .
فإما ما قيل : إنه - عليه السلام- سكت عن إيراد ابن الزبعرى هذا السؤال ، فهو خطأ ، لأنه لا أقل من أنه - عليه السلام- كان يتنبّه لهذه الأجوبة التي ذكرها المفسرون ، لأنه أعلم منهم باللغة وبتفسير القرآن ، فكيف يجوز أن تظهر هذه الأجوبة لغيره ، ولم يظهر له منها شيء .
فإن قيل : يجوز أن يسكت عليه السلام انتظاراً للبيان . قلنا : كان البيان حاضراً معه ، فلم يجز عليه السكوت ، لكي لا يتوهم عليه الانقطاع من سؤالهم .
ومن الناس من أجاب عن سؤال ابن الزبعرى ، فقال : إن الله - تعالى- يُصَوِّر لهم في النار ملكاً على صورة مَنْ عبدوه وحينئذ تبقى الآية على ظاهرها وهذا ضعيف من وجهين :
الأول : أنَّ القوم لم يعبدوا تلك الصورة وإنما عبدوا شيئاً آخر لم يحصل معهم في النار .
الثاني : أنَّ الملك لا يصير حصب جهنم في الحقيقة ، وإن صح أن يدخلها ، فإنَّ خزنة النار يدخلونها مع أنهم ليسوا حصب جهنم .

فصل
الحكمة في أنهم بآلهتهم أمور :
أحدها : أنَّهم لا يزالون بمقارنتهم في زيادة غم وحسرة لأنهم ما وقعوا في ذلك العذاب إلا بسببهم ، والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب .
وثانيها : أنّهم قَدَّرُوا أن يشفعوا لهم في الآخرة ، فإذا وجدوا الأمر على عكس ما قَدَّرُوا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم .
وثالثها : أنَّ إلقاءها في النار يجري مجرى الاستهزاء بها .
ورابعها : قيل ما كان منها حجراً أو حديداً يحمى فيعذب بعبادها ، وما كان خشباً يجعل جمرة يعذب بها صاحبها .
قوله تعالى : { لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا } اعلم أنّ قوله : { وَمَا تَعْبُدُونَ } بالأصنام أليق ، لدخول لفظ « مَا » وهذا الكلام بالشياطين أليق ، لقوله : « هَؤُلاَءِ » ويحتمل أن يريد الشياطين والأصنام وغلب العقلاء ونبه الله - تعالى - على أنه مَنْ يرمي في النار لا يمكن أن يكون ذكرها لنفسه أو لغيره ، فإن ذكرها لنفسه فلا فائدة فيه ، لأنه كان عالماً بأنها ليست آلهة ، وإن ذكرها لغيره فإما أن ي1كرها لمن يُصَدق بنبوته ، ( أو ذكرها لمن يُكَذّب بنبوته ) فإن ذكرها لِمَنْ يُصَدّق بنبوته فلا حاجة إلى هذه الحجة ، لأنّ كل مَنْ صدق بنبوته لم يقل بالإهية هذه الأصنام ، وإن ذكرها لمن كذب بنبوته فذلك المكذب لا يسلم أنّ تلك الآلهة يردون النار ، فكان ذكر هذه الحجة لا فائدة فيه كيف كان .
وأيضاً فالقائلون بإلاهيتها لم يعتقدوا إلا كونها تماثيل الكواكب أو صورة الشفعاء ، وذلك لا يمنع من دخولها النار . وأجيب عن ذلك بأن المفسرين قالوا : المعنى لو كان هؤلاء - يعني الأصنام- آلهة على الحقيقة ما وردوها ، أي : ما دخل عابدوها النار .
قوله : « آلِهَةٌ » العامة على النصب خبراً ل « كَانَ » . وقرأ طلحة بالرفع وتخريجها كتخريج قوله :
3740- إذَا مُتَّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ ... ففيها ضمير الشأن .
قوله : { وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } يعني : العابدين والمعبودين ، وهو تفسير لقوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } .
وقوله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } قال الحسن : الزفير هو اللهيب ، أي : يرتفعون بسبب لهب النار حتى إذا ارتفعوا وأرادوا الخروج ضربوا بمقامع الحديد ، فهوَوا إلى أسفلها سبعين خريفاً . قال الخليل : الزفير أن يملأ الرجل صدره غماً ثم يتنفس .
قال أبو مسلم : قوله : « لَهُمْ » عام لكل مُعَذب ، فيقول : لهم زفير من شدة ما ينالهم والضمير في قوله : « وَهُمْ فِيهَا » يرجع إلى المعبودين أي : لا يسمعون صراخهم وشكواهم ، ومعناه أنهم لا يغيثونهم ، وشبهه : ( سمع الله لمن حمده ، أي : أجاب الله دعاه .
وقوله : { وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } على قول أبي مسلم محمول على الأنام .
ومن حمله على الكفار فيحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّ الكفار يحشرون صماً كما يحشرون عمياً زيداة في عذابهم .
والثاني : لا يسمعون ما ينفعهم ، لأنهم إنما يسمعون أصوات المعذبين ، أو كلام مَنْ يتولى تعذيبهم من الملائكة .
والثالث : قال ابن مسعود - رضي الله عنه- : إنَّ الكفار يجعلون في توابيت ( من نار ، ثم يجعل تلك التوابيت في توابيت أخر ، ثم تلك التوابيت في توابيت ) أخر من نار عليها مسامير من نار ، فلذلك لا يسمعون شيئاً ، ولا يرى أحد منهم أنَّ أحداً يعذب غيره . والأول ضعيف ، لأنَّ أهل النار سمعون كلام أهل الجنة ، فلذلك يستغيثون بهم على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف .

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)

قوله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } الآية . قال بعض أهل العلم « إنَّ » ههنا بمعنى ( إلا ) أي : إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى .
قال ابن الخطيب : قد بينا فساد هذا القول ، وذكرنا أنَّ سؤال ابن الزبعرى لم يكن وارداً ، فلم يبق إلا أحد أمرين :
الأول : أن يقال : إنَّ عادة الله تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار ، فلهذا ذكر هذه الآية عقيب تلك الآية فهي عامة في حق كل المؤمنين .
الثاني : أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعرى ثم قال : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وهذا هو الحق ، أجراها على عمومها ، فتكون الملائكة والمسيح وعزير - عليهم السلام- داخلين فيها ، لا أنّ الآية مختصة بهم . ومَنْ قال العبرة بخصوص السبب خصص قوله : « إنَّ الَّذِينَ » بهؤلاء فقط .
قوله : « مِنَّا » يجوز أن يتعلق ب « سَبَقَتْ » ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « الحُسْنَى » قال الزمخشري : « الحُسْنَى » الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن وهي إما السعادة ، وإما البشرى بالثواب ، وإما التوفيق للطاعة ثم شرح أحوال ثوابهم فقال : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } . قال أهل العفو معناه : أولئك عنها مخرجون ، واحتجوا بوجهين :
الأول : قوله { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] أثبت الورود ، والورود الدخول ، فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج .
والثاني : أن إبعاد الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن الآخر ، لأنّ تحصيل الحاصل محال .
وقال المعتزلة : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة . واحتج القاضي عبد الجبار على فساد الأول بأمور :
أحدها : أنَّ قوله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } يقتضي أنّ الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا ، وليس هذا حال من يخرج من النار .
وثانيها : أنه تعالى قال : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } فكيف يدخل في لك من وقع فيها .
وثالثها : قوله : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } وقوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } يمنع من ذلك . والجواب عن الأول لا نسلم أنّ المراد من قوله { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } هو أن الوعد بثوابهم قد تقدم ، ولم لم يجوز أن يكون المراد من « الحُسْنَى » تقدم الوعد بالثواب ، ( لكن لم قلتم إن الوعد بالثواب لا ) يليق بحال من يخرج من النار فإن عنده المحابطة باطلة ، ويجوز الجميع بين استحقاق الثواب والعقاب . وعن الثاني : أنا بينا أنّ قوله : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلا في حق من كان في النار . وعن الثالث : أن قوله : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } مخصوص بما بعد الخروج .

وعلى قول المعتزلة بأن المراد بقوله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها ، يبطل القول بأن جميع الناس يردون النار ، ثم يخرجون إلى الجنة ، فيجب التوفيق بينه وبين قوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] وقد تقدم .
قوله : { وَهُمْ فِي مَا اشتهت } إلى قوله : وَيَتَلَقاهُك « كل جملة من هذه الجمل يجتمل أن تكون حالاً مما قبلها ، وأن تكون مستأنفة ، وكذلك الجملة المضمرة من القول العامل في جملة قوله : » هذا يَوْمُكُمُ « إذ التقدير : وتتلقاهم الملائكة يقولون هذا يومكم .
فصل
معنى { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } أي : صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازل لهم في الجنة . والحس والحسيس : الصوت الخفي . { وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ } مقيمون كقوله : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس } [ الزخرف : 71 ] { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } النفخة الأخيرة لقوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } [ النمل : 87 ] . وقال الحسن : حين يؤمر بالعبد إلى النار . وقال ابن جريج : حين يذبح الموت وينادي يا أهل الجنة خلود فلا موت . وقال سعيد بن جبير والضحاك : هو أن تطبق جهنم ، وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه .
{ وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة } . أي : تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون { هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } . فإن قيل : أي : بشارة في أنهم لا يسمعون حسيسها؟
فالجواب : المراد منه تأكيد بعدهم عنها ، لأن من قرب منها قد يسمع حسيسها فإن قيل : أليس أهل الجنة يرون أهل النار ، فكيف لا يسمعون حسيس النار؟ فالجواب : إذا حملناه على التأكيد زال هذا السؤال .

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)

قوله : { يَوْمَ نَطْوِي السمآء } الآية . في « يَوْمَ نَطْوِي » أوجه :
أحدهما : أنه منصوب ب « لاَ يَحْزُنْهُمْ » .
الثاني : أنه منصوب ب « تَتَلَقاهُم » .
الثالث : أنه منصوب بإضمار ( اذكر ) أو ( أعني ) .
الرابع : أنه بدل من العائد المقدر تقديره : توعدونه يوم نطوي ، ف « يَوْمَ » بدل من الهاء ، ذكره أبو البقاء وفيه نظر ، إذ يلزم من ذلك خلو الجملة الموصول بها من عائد على الموصول ، ولذلك منعوا جاء الذي مررت به أبي عبد الله ، على أن يكون ( أبي عبد الله ) بدلاً من الهاء لما ذكر ، وإن كان في المسألة خلاف .
الخامس : منصوب بالفزع ، قاله الزمخشري ، وفيه نظر من حيث إنه أعمل المصدر الموصوف قبل أخذه معموله . وقد تقدم أن نافعاً يقرأ « يُحْزنُ » بضم ايلاء إلا هنا ، وأن شيخه ابن القعقاع يقرأ « يُحْزنُ » بضم الياء إلا هنا ، وأن شيخه ابن القعقاع يقرأ « يَحْزُنُ » بالفتح إلا هنا .
وقرأ العامة « نَطْوِي » بنون العظمة . وشيبة بن نصاح في آخرين « يَطوي » بياء الغيبة ، والفاعل هو الله تعالى . وقرأ أبو جعفر في آخرين « تُطْوَى » بضم التاء المثناة من فوق وفتح الواو مبنياً للمفعول . وقرأ العامة « السِّجِلِّ » بكسر السين والجيم وتشديد اللام كالطَّمرّ . وقرأ أبو هريرة وصاحبه أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير بضمهما واللام مشددة أيضاً بزنة « عُتُلٍّ » . ونقل أبو البقاء تخفيفها في هذه القراءة أيضاً فتكون بزنة عُنْقٍ . وأبو السمال وطلحة والأعمش بفتح السين . والحسن وعيسى بن عمر بكسرها . والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة .
قال أبو عمرو : قراءة أهل مكة مثل قراءة الحسن . والسِّجل الصحيفة مطلقاً وقيل : مخصوص بصحيفة العهد ، وهي من المساجلة وهي المكاتبة .
والسَّجْلُ : الدلو المَلأى . وقال بعضهم : هو فارسيّ معرب فلا اشتقاق له و « طَيّ » مصدر مضاف للمفعول ، والفاعل محذوف ، تقديره : كما يطوي الرجل الصحيفة ليكتب فيها ، أو لما يكتبه فيها من المعاني ، والفاعل يحذف مع المصدر باطراد والكلام في الكاف معروف أعني : كونها نعتاً لمصدر مقدر أو حالاً من ضميره . وأصل « طَيّ » طَوْي ، فأعلّ كنظائره . وروي عن علي وابن عباس : أنّ السجل اسم ملك يطوي كتب أعمال بني آدم . وروى ابن الجوزاء عن ابن عباس : أنّ السجل اسم رجل كان يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وعلى هذين القولين يكون المصدر مضافاً لفاعله ، والكتاب اسم الصحيفة المكتوبة . قال بعضهم : وهذا القول بعيد ، لأنّ كُتَّاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا معروفين وليس فيهم من سُمِّيَ بهذا .

قال أبو إسحاق الزجاج : السجل بلغة الحبشة .
وقال الزمخشري : كما يطوى الطُّومَار للكتابة ، أي : ليكتب فيه ، أو لما يكتب فيه ، لأنَّ الكتاب أصله المصدر كالبناء ، ثم يوقع على المكتوب . فقدره الزمخشري من الفعل المبني للمفعول ، وقد عرف ما فيه من الخلاف واللام في « الكتاب » إما مزيدة في المفعول إنْ قلنا : إنَّ المصدر مضاف إلى المفعول ، والفاعل محذوف ، والتقدير : كطي الطاوي السجل وهذا قول الأكثرين . وقيلأ : اللام بمعنى ( على ) ، وهاذ ينبغي أن لا يجوز لبعد معناه على كل قول .
والقراءات المذكورة في السجل كلها لغات فيه .
وقرأ الأخوان وحفص « لِلْكُتُبِ » جمعاً . والباقون « لِلْكِتَابِ » مفرداً . والرسم يحتملهما فالإفراد يراد به الجنس والجمع للدلالة على الاختلاف ، والمعنى المكتوبات ، أي : لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة . فيكون معنى طي السجل للكتابة ، كون السجل ساتراً لتلك الكتابة ومخفياً لها ، لأنّ الطي هو الدرج ضد النشر الذي يكشف . قوله : « كَمَا بَدَأْنَا » في متعلق هذه الكاف وجهان :
أحدهما : أنها متعلقة ب « نُعِيدُهُ » و « مَا » مصدرية ، و « بَدَأْنَا » صلتها ، فهي وما في حيزها في محل جر بالكاف . و « أَوَّلَ خَلْقٍ » مفعول « بَدَأْنَا » ، والمعنى : نعيد أوّل خلق إعادة مثل بدأتنا له ، أي : كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال : الكاف نعت لمصدر محذوف أي : نعيده عوداً كمثل بدئه .
وفي قوله : عوداً نظر إذ الأحسن أن يقول : إعادة .
والثاني : أنّها تتعلق بفعل مضمر . قال الزمخشري : ووجه آخر ، وهو أنْ ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره « نُعِيدُهُ » و « ما » موصولة ، أي : نعيد مثل الذي بدأنا نعيده و « أَوَّلَ خَلْقٍ » ظرف ل « بَدَأْنَا » أي : أول ما خلق ، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى . قال أبو حيَّان : وفي تقديره تهيئة « بَدَأْنَا » لأنْ ينصب « أَوَّلَ خَلْقٍ » على المفعولية وقطعه عنه من غير ضرورة تدعو إلى ذلك ، وارتكاب إضمار ( نعيد ) مفسراً ب « نُعِيدُهُ » وهذه عجمة في كتاب الله ، وأما قوله : ووجه آخر وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره « نُعِيدُهُ » فهو ضعيف جداً ، لأنه مبني على أن الكاف اسم لا حرف ، وليس مذهب الجمهور ، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفش ، وكونها اسماً عند اسم لا حرف ، وليس مذهب الجمهور ، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفش ، وكونها اسماً عند البصريين مخصوص بالشعر . قال شهاب الدين : كل ما قدره فهو جار على القواعد المنضبطة وقاده إلى ذلك المعنى الصحيح فلا مؤاخذة عليه ، ويظهر ذلك بالتأمل لغير الفطن وأما « ما » ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها مصدرية .

والثاني : أنها بمعنى الذي . وقد تقدم تقرير هذين .
والثالث : أنها كافة للكاف عن العمل كما في قوله :
3741- كَمَا النَّاسُ مَجْرومٌ عَلَيْهِ وجَارِم ... فيمن رفع ( النَّاس ) قال الزمخشري : « أوَّلَ خَلْق » مفعول نعيد الذي يفسره « نُعِيدُهُ » والكاف مكفوفة ب « ما » والمعنى : نعيد أول الخلق كا بدأناه تشبيهاً للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لها على السواء ، فإنْ قُلْتَ : ما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه قُلْتُ : أوله إيجاده من العدم ، فكما أوجده أولاً من يعدم يعيده ثانياً من عدم .
وأما « أَوَّلَ خَلق » فيحصل فيه أربعة أوجه : أحدها : أنه مفعول « بَدَأْنَا » .
والثاني : أنه ظرف ل « بَدَأْنَا » .
زالثالث : أنه منصوب على الحال من ضمير الموصول كما تقدم تقريره .
والرابع : أنه حال من مفعول « نُعِيدُهُ » قاله أبو البقاء ، والمعنى : مثل أول خلقه وأما تنكير « خَلقٍ » فدلالته على التفصيل ، قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : ما بال « خَلْق » منكراً . قُلْتُ : هو كقولك : أول رجل جاءني ، تريد أول الرجال ، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً ، فكذلك معنى أول خلق بمعنى أول الخلائق ، لأنّ الخلق مصدر لا يجمع .
قوله : « وَعْداً » منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المتقدمة ، فناصبه مضمر ، أي : وعدنا ذلك وعداً .
فصل
اختلفوا في كيفية الإعادة فقيل : إن الله يفرق أجزاء الأجسام ولا يعدمها ثم إنه بعيد تركيبها فذلك هو الإعادة .
وقيل : إنه تعالى يعدمها بالكلية ، ثم إنه يوجدها بعينها مرة أخرى ، وهذه الآية دالة على هذا الوجه؛ لأنه تعالى شبه الإعادة بالابتداء ، والابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة بل عن الوجود بعد العدم ، فوجب أنْ تكون الإعادة كذلك .
واحتج الأولون بقوله تعالى : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] فدلّ هذا على أنّ السموات حال كونها مطويات تكون موجودة . وبقوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } [ إبراهيم : 48 ] وهذا يدلّ على أنَّ الأرض باقية لكنها جعلت غير الأرض .
فصل
قال المفسرون : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 94 ] . « روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : » إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً « ثم قرأ { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } . يعني الإعادة والبعث . وقيل : المراد حقاً علينا بسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه وأن وقوع ما علم الله وقوعه واجب .
ثم حقق ذلك بقوله { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور } قرأ حمزة بضم الزاي ، والباقون بفتحها بمعنى المزبور كالمحلوب والمركوب ، يقال : زبرت الكتاب أي : كتبته . والزُّبور بضم الزاي جمع زِبْرَة كقِشرة وقُشُور . ومعنى القراءتين واحد ، لأنّ الزبور هو الكتاب .

قال سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل : « الزَّبُور » جميع الكتب المنزلة ، و « الذِّكْر » أم الكتاب الذي عنده ، والمعنى من بعد ما كتب ذكره في اللوح المحفوظ . وقال ابن عباس والضحاك : الزبور : التوراة ، واذلكر : الكتب المنزلة من بعد التوراة . وقال قتادة والشعبي : الزبور والذكر : التوراة . وقيل : الزبور : زبور داود ، والذكر : القرآن ، و « بَعْدِ » بمعنى قبل كقوله : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ } [ الكهف : 79 ] أي : أمامهم . { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] اي : قبله . وقيل : الزبور : زبور داود ، والذكر هو ما روي أنه -عليه السلام- قال : « كان الله ولم يكن معه شيء ثم خلق الذكر » قوله : { مِن بَعْدِ الذكر } يجوز أن يتعلق بنفس « الزَّبُور » لأنه بمعنى المزبور ، أي : المكتوب ، أي : المزبور من بعد . ومفعول « كَتَبْنَا » « أنَّ » وما في حيزها ، أي : كتبنا وراثة الصالحين للأرض ، اي : حكمنا به قوله : « أنَّ الأَرْضَ » يعني أرض الجنة { يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } قال مجاهد : يعني أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويدل عليه قوله تعالى : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض } [ الزمر : 74 ] وقال ابن عباس : أراد أراضي الكفار يفتحها المسلمون ، وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين .
وقيل : أراد الأرض المقدسة يرثها الصالحون لقوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأعراف : 137 ] .
{ إِنَّ فِي هذا } أي : في هذا القرآن يعني ما فيه من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة « لَبَلاَغَاً » وصولاً إلى البغية ، فمن اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب . وقيل : « لَبَلاَغَاً » أي : كفاية : والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر . { لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } أي : مؤمنين . وقال ابن عباس : عالمين . وقال كعب الأحبار : هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان .
وقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً } يجوز أن ينتصب « رَحْمَةً » مفعولاً له ، أي : لأجل الرحمة ، ويجوز أن ينتصب على الحال مبالغة في أن جعله نفس الرحمة ، وإما على حذف مضاف أي : ذا رحمة ، أو بمعنى راحم . وفي الحديث : « يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة » .
قوله : « لِلْعَالَمِينَ » يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل « رَحْمَةً » أي : كائنة للعالمين . ويجوز أن يتعلق ب « أَرْسَلْنَاكَ » عند مَنْ يرى تعلق ما بعد قبلها جائز ، أو بمحذوف عند مَنْ لا يرى ذلك . هذا إذا لم يفرغ الفعل لما بعدها أما إذا فرغ فيجوز نحو : ما مررت إلا بزيد ، كذا قاله أبو حيان هنا . وفيه نظر من حيث إن هذا أيضاً مفرغ ، لأنّ المفرغ عبارة عما افتقر ما بعد إلا لما قبلها على جهة المعمولية له .

فصل
قال ابن عباس : قوله : « رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ » عام في حق من آمن ومن لم يؤمن . اعلم أنه -عليه لسلام- كان رحمة في الدين والدنيا ، أما في الدين فلأنه -عليه السلام- بعث والناس في جاهلية وضلال ، وأهل الكتابين كانوا في حيرة في أمر دينهم لطول مدّتهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم ، فبعث الله محمداً حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب ، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام ، وميز الحلال والحرام ، فمن كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار ، قال الله تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } [ فصلت : 44 ] إلى قوله : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44 ] وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من الذل والقتل . فإن قيل : كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة المال؟ فالجواب من وجوه :
الأول : إنما جاء بالسيف لمن أنكر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر ، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم ، وهو منتقم من العصاة . وقال : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً } [ ق : 9 ] ثم قد يكون سبباً للفساد .
الثاني : أنّ كل نبي من الأنبياء قبله إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق ، وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] ولا يقال : أليس أنه قال : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] . وقال : { لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين } [ الأحزاب : 73 ] لأنا نقول تخصيص العام لا يقدح فيه .
الثالث : أنه -عليه السلام- كان في نهاية حسن الخلق قال تعالى : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] « وقيل له -عليه السلام- : ادع على المشركين . فقال : » إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً « » وقال في رواية حذيفة : « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أغضب كما يغضب البشر ، فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة إلى يوم القيامة » .
الرابع : قال عبد الرحمن بن يزيد : { إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } يعني المؤمنين خاصة .
فصل
قالت المعتزلة : لو كان تعالى أراد من الكافر الكفر ولم يرد منه القبول من الرسول ، بل ما أراد منهم إلا الرد عليه ، وخلق ذلك فيهم ، ولم يخلقهم إلا لذلك كما يقول أهل السنة لوجب أن يكون إرساله نقمة وعذاباً عليهم لا رحمة ، وهو خلاف هذا النص ، ولا يقال : إن رسالته رحمة للكفار من حيث لم يجعل عذابهم في الدنيا كما عجل عذاب سائر الأمم ، لأنا نقول : إنّ كونه رحمة للجميع على حد واحد ، وما ذكرتموه في الكفار فهو حاصل للمؤمنين ، وأيضاً فإن الذي ذكروه من نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار قبل بعثته -عليه السلام- لحصولها بعده ، بل كانت نعمهم في الدنيا قب بعثته كحصولها بعده وأعظم ، لأن في بعثته نزل بهم الغم والخوف ، ثم أمر الجهاد الذي فيه أكبر همّ ، فلا يجوز أن يكون هذا هو المراد .

والجواب أنْ نقول لما علم الله أن أبا لهب لم يؤمن البتة ، وأخبر عنه أنه لا يؤمن كان أمره بالإيمان أمراً يقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً ، وذلك محال ، فكان قد أمره بالمحال ، وإن كانت البعثة مع هذا القول رحمة ، فلم لا يجوز ان يقال البعثة رحمة مع أنه خلق الكفر في الكافر؟ ولأنّ قدرة الكافر إن لم تصلح إلا للكفر فقط فالسؤال عليهم لازمن وإن كانت صالحة للضدين توقف الترجيح على مرجح من قبل الله تعالى قطعاً للتسلسل . وحينئذ يعود الإلزام ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون رحمة للكفار تأخير عذاب الاستئصال عنهم؟ وقولهم أولاً : لما كان رحمة للجميع على حد واحد وجب أن يكون رحمة للكفار من الوجه الذي كان رحمة للمؤمنين .
فالجواب : ليس في الآية أنه -عليه السلام- رحمة للكل باعتبار واحد أو باعتبارين مختلفين ، فدعواكم بكون الوجه واحداً تحكم . وقولهم نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار من قبل . فالجواب : نعم ، ولكنه -عليه السلام- لكونه رحمة للمؤمنين لما بُعِثَ حصل الخوف للكفار من نزول العذاب ، فلما اندفع ذلك عنهم بسبب حضوره كان ذلك رحمة في حق الكفار .
فصل
تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة ، لأنّ الملائكة من العالمين ، فوجب أن يكون أفضل منهم . وأجيب بأنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [ غافر : 7 ] وذلك رحمة منهم في حق المؤمنين ، والرسول -عليه السلام- داخل في المؤمنين ، وكذا قوله تعالى : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } [ الأحزاب : 56 ] .

قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

قوله : { قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ } الآية .
لما أورد على الكافر الحجج في أن لا إله إلا سواه ، وبين أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين أتبع ذلك بما يكون إنذاراً في مجاهدتهم والإقدام عليهم فقال : « إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ » قوله : « أَنَّمَآ إلهكم » ( أنَّ ) وما في حيزها في محل رفع لقيامه مقام الفاعل إذ التقدير : إنما يوحي إليّ وحدانية إلهكم . وقال الزمخشري : « إنّما » لقصر الحكم على شيء ، أو لقصر الشيء على حكم كقولك : إنَّما زيد قائمم ، وإِنَّما يقوم زيد ، و { أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ } بمنزلة إنَّما زيد قائم ، وفائدة اجتماعهما الجلالة على أنَّ الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقصور على استئثار الله بالوحدانية .
قال أبو حيَّان : أما ما ذكره في « إنَّما » أنها لقصر ما ذكر فهو مبني على أن « إنّما » للحصر ، وقد قررنا أنها لا تكون للحصر ، وأنّ « مَا » مع « إنَّ » كهي مع « كأن » ومع « لَعَلّ » فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه ، ولا الحصر في الترجي ، فكذلك لا تفيده مع « إنَّ » ، وأما جعله « أنَّما » المفتوحة الهمزة مثل المكسورتها يدل على القصر فلا نعلم الخلاف إلا في « إنَّما » بالكسر ، وأما « أنَّما » بالفتح فحرف مصدري ينسبك منه مع ما بعده مصدر ، فالجملة بعدخا ليست جملة مستقلة ، ولو كانت « أنَّمَا » دالى على الحصر لزم أن يقال : أنه لم يوح إليَّ شيء إلا التوحيد ، وذلك لا يصح الحصر فيه ، إذ قد أوحي إليه أشياء غير التوحيد . قال شهاب الدين : الحصر بحسب كل مقام على ما يناسبه ، فقد يكون هذا المقام بقتضي الحصر في إيحاء الوحدانية لشيء جرى من إنكار الكفار وحدانيته تعالى ، وأنَّ الله لم يوح إليه شيئاً ، وهذا كما أجاب الناس عن هذا الإشكال الذي ذكره الشيخ في قوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ } [ النازعات : 45 ] { إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ } [ الكهف : 110 ] { أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ } [ الحديد : 20 ] إلى غير ذلك ، و « مَا » من قوله : { إِنَّمَآ يوحى } يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أنْ تكون كافة . وقد تقدم .
والثاني : أنْ تكون موصولة كهي في قوله : { إِنَّمَا صَنَعُواْ } [ طه : 69 ] ، ويكون الخبر هو الجملة من قوله { أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ } تقديره : أنّ الذي يوحى إليّ هو هذا الحكم . قوله : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } استفهام معناه الأمر بمعنى : أسلموا ، كقوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] أي : انتهوا . قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ } آذَنْتُكُمْ أعلمتكم ، فالهمزة فيه للنقل ، قال الزمخشري : آذن منقول من أذن : إذا علم ، لكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار ، ومنه قوله :

{ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } [ البقرة : 279 ] وقول ابن حلزة :
3742- آذَنْتَنَا بِبَيْنهَا أَسْمَاءُ ... وقد تقدم تحقيق هذا في البقرة .
قوله : « على سَوَآءٍ » في محل نصب على الحال من الفاعل والمفعول معاً ، أي : مستوين بما أعلمتكم به لم نطوه على أحد منهم .
فصل
قال أبو مسلم : الإنذار على السواء الدعاء على الحرب مجاهرة كقوله : { فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } [ الأنفال : 58 ] وفائدة ذلك أنه كان يجوز أن يقدر من أشرك أنّ ةحالهم مخالف لسائر حال الكفار في المجاهرة ، فعرفهم بذلك أنهم كالكفار في ذلك . وقيل : المعنى : فقد أعلمتكم ما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره على سواء في الإبلاغ والبيان ، لأني بعثت معلماً ، والغرض منه إزاحة العذر لئلا يقولوا { رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } [ طه : 134 ] وقيل : ( ليستوي في الإيمان ) . وقيل : { آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ } أي : على مهل أي : لا أعاجل بالحرب الذي آذنتكم ، بل أمهل وأؤخر رجاء إسلامكم .
قوله : { وَإِنْ أدري } العامة على إرسال الياء ساكنة ، إذ لا موجب لغير ذلك . وروي عن ابن عباس أنه قرأ « وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ » « وَإنْ أَدْرِيَ لَعَلَّهُ فتْنَةُ » بفتح الياءين ، وخرجت على التشبيه بياء الإضافة على أن ابن مجاهد أنكر هذه القراءة البتة . وقال ابن جنيّ : هو غلط ، لأن « أن » نافية لا عمل لها . ونقل أبو البقاء عن غيره أنه قال في تخريجها : أنه ألقي حركة الهمزة على الياء فتحركت ، وبقيت الهمزة ساكنة ، فأبدلت ألفاً لانفتاح ما قبلها ، ثم أبدلت همزة متحركة ، لأنها في حكم المبتدأ بها ، والابتداء بالساكن محال . وهذا تخريج متكلف لا حاجة إليه ، ونسبة راويها عن ابن عباس إلى الغلط أولى من هذا التكلف فإنها قراءة شاذة ، وهذا التخريج وإن وقع في الأولى فلا يجري في الثانية شيئاً . وسيأتي قريب من ادعاء قلب الهمزة ألفاً ثم قلب الألف همزة في قوله : « مِنْسَأَتَهُ » -إن شاء الله- ، وبذلك يسهل الخطب في التخريج المذكور والجملة الاستفهامية في محل نصب ب « أّدْرِي » ، لأنها معلقة لها عن العملأ ، وأخر المستفهم عنه لكونه فاصلة ، ولو وسط لكان التركيب : أقريب ما توعدون أم بعيد ، ولكنه أخر مراعاة لرؤوس الآي . و « مَا تُوعَدُونَ » يجوز أن يكون مبتدأ وما قبله خبر عنه ومعطوف عليه ، وجوّز أبو البقاء فيه أن يرتفع فاعلاً ب « قَرِيبٌ » قال : لأنه اعتمد على الهمزة . قال : ويخرج على قول البصريين أن يرتفع ب « بَعِيدٌ » لأنه أقرب إليه . يعني أنه يجوز أن تكون المسألة من التنازع فإِن كُلاًّ من الوصفين يصح تسلطه على « مَا تُوعَدُونَ » من حيث المعنى .
فصل
المعنى : وما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ، يعني : القيامة أو من عذاب الدنيا .

وقيل : الذي آذنهم به من الحرب لا يعلم هو قريب أم بعيد لئلا يقدر أن يتأخر ، وذلك أنَّ السورة مكية ، وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة . وقيل : ما يوعدون من غلبة المسلمين عليهم .
قوله : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } والمقصود منه الأمر بالإخلاص وترك النفاق . و « من القول » حال من الجهر . قوله : « لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ » الظاهر أن هذه الجملة متعلقة ب « أدْرِي » والكوفيون يجرون الترجي مجرى الاستفهام في ذلك ، إلا أنّ النحويين لم يعدوا من المعلقات ( لَعَلّ ) وهي ظاهرة في ذلك كهذه الآية ، وكقوله : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى } [ عبس : 3 ] { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] .
فصل
المعنى : وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم ، أو لعل إبهام الوقت الذي ينزل عليكم العذاب فتنة لكم أي : بلية واختبار لكم ليرى صنيعكم ، وهل يتوبوا عن الكفر أم لا وقيل : لعل ما أنتم فيه من الدنيا بلية لكم ، والفتنة البلوى والاختبار .
وقيل : لعل تأخير الجهاد فتنة لكم إذا أنتم دمتم على كفركم . وقيل : « قَالَ رَبِّ » خبراً عن الرسول -عليه السلام- والباقون : « قُلْ » على الأمر . وقرأ العامة بكسر الباء اجتزاءً بالكسرة عن ياء الإضافة وهي الفصحى . وقرأ أبو جعفر بضم الباء ، فقال صاحب اجتزاءً بالكسرة عن ياء الإضافة وهي الفصحى . وقرأ بضم الباء ، فقال صاحب اللوامح : إنه منادى مفرد ، ثم قال : وحذف حرف النداء فيما فيما يكون وصفاً ل ( أيّ ) بعيد بابه الشعر . قال شهاب الدين : وليس هذا من المنادى المفرد ، بل نصّ بعضهم على أن بعض اللغات الجائزة في المضاف إلى ياء المتكلم حال ندائه . وقرأ العامة «
احْكُمْ » على صورة الأمر .
وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر « رَبِّي » بسكون الياء « أَحْكَمَ » بفتح الميم كأكرم على أنه فعل ماض في محل خبر أيضاً ل « رَبِّي » وقرأ العامة « تَصِفُونَ » بالخطاب .
وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ -رضي الله عنه- « يَصفُون » بالياء من تحت وهي مروية أيضاً عن عاصم وابن عامر ، والغيبة والخطاب واضحان
فصل
المعنى : رب اقض بيني وبين قومي بالحق أي : بالعذاب ، والحق ههنا العذاب ، نظيره : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } [ الأعراف : 89 ] فلا جرم حكم الله تعالى عليهم بالقتل يوم بدر . وقال أهل المعاني : رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأيم الحق مقامه . والله يحكم بالحق طلب أو لم يطلب ، ومعنى الطلب : ظهور الرغبة من الطالب للحق . وقيل : المعنى : افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع ، وهو أن تنصرني عليهم . { وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ } من الكذب والباطل . وقيل : كانوا يطمعون أن يكون لهم الشوكة والغلبة ، فكذب الله ظنونهم ، وخيب آمالهم ، ونصر رسوله والمؤمنين .
فصل
روي عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ سورة { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } حاسبه الله حساباً يسيراً وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن » .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

قوله : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ } أي : احذروا عقابه . والأمرُ بالتقوى يتناولُ اجتنابَ المحرمات ، واجتنابَ تركِ الواجبات .
قوله : { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة } الزلزلة : شدة حركة الشيء ، ويجوز في هذا المصدر وجهان :
أحدهما : أن يكون مضافاً لفاعله ، وذلك على تقديرين :
أحدهما : أن يكون من ( زَلْزَلَ ) اللازم بمعنى : يُزَلْزِل ، فالتقدير : أن تزلزل السَّاعة .
والثاني : أن يكون من ( زَلْزَلَ ) المتعدي ، ويكون المفعول محذوفاً تقديره : إن زلزال الساعةِ الناسَ ، كذا قدره أبو البقاء . والأحسن أن يقدر : إن زلزال الساعة الأرض ، يدل عليه { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض } [ الزلزلة : 1 ] ، ونسبة التزلزل أو الزلزال إلى الساعة على سبيل المجاز .
الوجه الثاني : أن يكون المصدر مضافاً إلى المفعول به على طريقة الاتساع في الظرف كقوله :
3743- طَبَّاخِ سَاعَاتِ الكَرَى زَادَ الكَسِل ... وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله : ولا تخلو « السَّاعَةُ » من أن تكون على تقدير الفاعل لها ، كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي ، فتكون الزلزلة مصدراً مضافاً إلى فاعله ، وعلى تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف ، وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى : { مَكْرُ الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] .
فصل
اختلفوا في وقت هذه الزلزلة ، فقال علقمة والشعبي : هي من أشراط الساعة قبل قيام الساعة ، ويكون بعدها طلوع الشمس من مغربها . وقال ابن عباس : زلزلة الساعة قيامها ، فتكون فعلها روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصور : « إِنَّهُ قَرْنٌ عظيمٌ ينفخ فيه ثلاث نفخات : نفخة الفَزَع ، ونفخة الصَّعْقِ ، ونفخة القيامة ، وإن عند نفخة الفزع يسير الله الجبال ، وتَرْجُف الراجفة ، تتبعها الرّادِفَة ، قلوب يومئذٍ واجِفَة وتكون الأرض كالسفينة حصرتها الأمواج أو كالقِنْديل المعلق تموجها الرياح » قال مقاتل وابن زيد : هذا في أول يوم من أيام الآخرة وليس في الآية دلالة على هذه الأقوال ، لأن هذه الإضافة [ تصح ] وإن كانت فيها ومعها كقولنا : آيات الساعة وأمارات الساعة .
قوله : « يَوْم » ، فيه أوجه :
أحدها : أن ينتصب ب « تَذْهَلُ » ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
الثاني : أنه منصوب ب « عَظِيم » .
الثالث : أنه منصوب بإضمار « اذْكُر » .
الرابع : أنه بدل من « السَّاعة » ، وإنما فُتِح لأنه مبني ، لإضافته إلى الفعل وهذا إنما يتمشى على قول الكوفيين ، وتقدم تحقيقها آخر المائدة .
الخامس : أنه بدل من « زَلْزَلة » بدل اشتمال ، لأن كلاًّ من الحدث والزمان يصدق أنه مشتمل على الآخر . ولا يجوز أن ينتصب ب « زَلْزَلة » لما يلزم من الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر .
قوله : « تَرَوْنَها » في هذا الضمير قولان :
أظهرهما : أنه ضمير الزلزلة؛ لأنها المحدث عنها ، ويؤيده أيضاً قوله { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ } .

والثاني : أنه ضمير الساعة .
فعلى الأول : يكون الذهول والوضع حقيقة؛ لأنه في الدنيا .
وعلى الثاني : يكون على سبيل التعظيم والتهويل ، وأنها بهذه الحيثية ، إذ المراد بالساعة القيامة ، وهو كقوله : { يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } [ المزمل : 17 ] .
قوله : « تَذْهَل » في محل نصب على الحال من الهاء في « تَرَوْنَها » ، فإن الرؤية هنا بَصَريَّة ، وهذا إنما يجيء على غير الوجه الأول ، وأما الوجه الأول وهو أنّ « تَذْهَلُ » ناصب ل « يَوْمَ تَرَوْنَها » فلا محل للجملة من الإعراب؛ لأنها مستأنفة ، أو يكون محلها النصب على الحال من الزلزلة ، أو من الضمير في « عَظِيْم » وإن كان مذكراً ، لأنه هو الزلزلة في المعنى ، أو من « الساعة » وإن كانت مضافاً إليها ، لأنه إما فاعل أو مفعول كما تقدم . وإذا جعلناها حالاً فلا بد من ضمير محذوف تقديره : تذهل فيها . وقرأ العامة : « تَذْهَل » بفتح التاء والهاء من : ذهل عن كذا يذهل . وقرأ ابن أبي عبلة واليماني : بضم التاء وكسر الهاء ، ونصب « كل » على المفعول به من أذهله عن كذا يُذْهله ، عدّاه بالهمزة . والذهول : الاشتغال عن الشيء ، وقيل : إذا كان مع دهشته وقيل : إذا كان ذلك لطرآن شاغل من هَمّ أو مرض ونحوهما ، وذهل بن شيبان أصله من هذا . والمرضعة : من تلبست بالفعل ، والمرضع من شأنها أن تُرْضع كحائض فإذا أراد التلبس قيل : حائضة . قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل « مُرْضِعَة » دون مُرْضِع؟ قلت : المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي ، والمرضع التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها ( به ) . والمعنى : أن من شدة الهول تذهل هذه عن ولدها فكيف بغيرها . وقال بعض الكوفيين : المرضعة يقال للأم ، والمُرْضِع يقال للمستأجرة غير الأم ، وهذا مردود بقول الشاعر :
3744- كَمُرْضِعَةٍ أَوْلاَدَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ ... بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلاَلُ عَنِ القَصْدِ
فأطلق المرضعة بالتاء على غير الأم . وقول العرب مرضعة يرد أيضاً قول الكوفيين : إن الصفات المختصة بالمؤنث لا يلحقها تاء التأنيث نحو : حائض وطالق . فالذي يقال : إن قصد النسب فالأمر على ما ذكروا ، وإن قصد الدلالة على التلبس بالفعل وجبت التاء ، فيقال : حائضة وطَالِقَة وطامثة .
قوله : « عَمَّا أَرْضَعتْ » يجوز في « ما » أن تكون مصدرية ، أي : عن إرضاعها ، ولا حاجة إلى تقدير حذف على هذا . ويجوز أن تكون بمعنى ( الذي ) ، فلا بد من حذف عائد ، أي : أرضعته ، ويقويه تعدي « تضع » إلى مفعول دون مصدر . والحمل - بالفتح - ما كان في بطن أو على رأس شجر ، وبالكسر ما كان على ظهر .
قوله : { وَتَرَى الناس سكارى } . العامة على فتح التاء من « تَرَى » على خطاب الواحد .

وقرأ زيد بن عليّ بضم التاء وكسر الراء على أن الفاعل ضمير الزلزلة ، أو الساعة وعلى هذه القراءة فلا بد من مفعول أول محذوف ليتمّ المعنى به ، أي : وتُرِي الزلزلة أو الساعة الخلق الناس سكارى . ويؤيد هذا قراءة أبي هريرة وأبي زرعة وأبي نهيك « تُرَى النَّاسَ سُكَارَى » بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله ونصب « النَّاسَ » ، بَنَوْه من المتعدي لثلاثة ، فالأول قام مقام الفاعل وهو ضمير المخاطب ، و « النَّاسَ سُكَارَى » هما الثاني والثالث .
ويجوز أن يكون متعدياً لاثنين فقط على معنى وتري الزلزلة أو الساعة الناس قوماً سكارى ، ف « النَّاس » هو الأول و « سُكَارَى » هو الثاني وقرأ الزعفراني وعباس في اختياره « وترى » كقراءة أبي هريرة إلا أنهما رفعاً « النَّاسَ » على أنه مفعول لم يسم فاعله ، والتأنيث في الفعل على تأويلهم بالجماعة . وقرأ الأخوان « سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى » على وزن وصفه المؤنثة بذلك واختلف في ذلك هل هذه صيغة جمع على فعلى كمرضى وقتلى ، أو صفة مفردة استغني بها في وصف الجماعة خلاف مشهور تقدم في قوله « أَسْرَى » . وظاهر كلام سيبويه أنه جمع تكسير فإنه قال : وقوم يقولون : « سَكْرَى » جعلوه مثل مَرْضَى . لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ثم جعلوا روبى مثل سكرى ، وهم المستثقلون نوماً لا من شرب الرائب .
وقال الفارسي : ويجوز أن يكون جمع سَكِر كزَمِن وزَمْنَى ، وقد حكي : رجل سكر بمعنى سكران ، فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع . قال شهاب الدين : ومن ورود سكر بمعنى سكران قوله :
3745- وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْت يُثْقِلُني ... ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرْ
وكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً ... فَصِرْتُ أَمْشِي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرْ
ويروى البيت الأول : الشارب الثمل . وبالراء أصح لدلالة البيت الثاني عليه .
وقرأ الباقون « سُكَارَى » بضم السين ، وقد تقدم في البقرة خلاف ، هل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع . وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما ، وهو جمع تكسير واحده سكران . قال أبو حاتم : وهي لغة تميم . وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة والأعمش « سُكْرَى » « وَمَا هُمْ بِسُكْرَى » بضم السين فيهما . فقال ابن جني : هي اسم مفرد كالبشرى بهذا أفتاني أبو علي . وقال أبو الفضل : فُعلى بضم الفاء صفة الواحد من الإناث ، لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد .
وقال الزمخشري : وهو غريب . قال شهاب الدين : ولا غرابة فإن فعلى بضم الفاء كثير مجيئها في أوصاف المؤنثة نحو الرُّبَّى والحُبْلَى . وجوَّز أبو البقاء فيه أن يكون محذوفاً من سكارى وكان من حق هذا القارئ أن يحرك الكاف بالفتح إبقاء لها على ما كانت عليه وقد رواها بعضهم كذلك عن الحسن .

وقرئ « ويَرَى الناسُ » بالياء من تحت ، ورفع « النَّاسُ » .
وقرأ أبو زرعة في رواية « سَكْرَى » بالفتح « ومَا هُمْ بِسُكْرَى » بالضم . وعن ابن جبير كذلك إلا أنه حذف الألف من الأول دون الثاني . وإثبات السكر وعدمه بمعنى الحقيقة والمجاز ، أي : { وَتَرَى الناس سكارى } على التشبيه { وَمَا هُم بسكارى } على التحقيق . قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل أولاً : ترون ، ثم قيل : ترى على الإفراد؟ قلت : لأن الرؤية أولاً علقت بالزلزلة ، فجعل الناس جميعاً رائين لها ، وهي معلقة أخيراً بكون الناس على حال السكر ، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم .
فصل
« روي أن هاتين الآيتين نزلتا بالليل في غزوة بني المصطلق ، والناس يسيرون ، فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعوا حوله ، فقرأهما عليهم ، فلم يُرَ أكثر باكياً من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج على الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا القدور ، والناس بين باك وجالس حزين متفكر . فقال عليه السلام : » أَتَدْرُونَ أَيَّ ذَلِكَ اليَوْم « ؟ قالوا : اللَّهُ وَرَسُولُه أَعْلَم . قال : » ذَلِكَ يَوْم يَقُولُ اللَّهُ تَعَالى لآدم : قُمْ فَابعَثْ بَعْثَ النَّار مِنْ وَلَدِك ، فَيَقُول آدَمُ : وَمَا بعث النَّارِ؟ فيقُولُ اللَّهُ تعالى مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعمائةٍ وتسعة وتسعون إلى النَّارِ وَوَاحِدٌ إلى الجَنَّة ، فَعِنْدَ ذَلِك يَشيْبُ الصَّغِيْر ، وتَضَعُ كُلُّ ذات حَمْلٍ حَمْلَهَا ، وَترى النَّاسَ سُكَارَى وَما هُم بِسُكارى وَلَكِن عَذاب اللَّهِ شَدَيد « قال : فيقولون : وأَيُّنا ذِلكَ الواحِدُ فقال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : » تِسْعمائةٍ وتِسْعَةٌ وتِسْعُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ومنكُمْ وَاحِد « .
وفي رواية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » يَسِّرُوا وسَدِّدُوا وقَارِبُوا فَإنَّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْن مَا كَانَتَا في قَوْم إِلاَ كَثُروا يَأْجُوْجَ وَمَأْجُوْجَ « ثم قال : » إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُوْنُوا رُبْعَ أَهْلِ الجَنَّة « فكبَّرُوا وحَمَدُوا اللَّهَ ، ثم قال : » إِنِّي لأرْجُوا أَنْ تَكُونوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّة « فَكبَّرُوا وحَمَدُوا الله ، ثم قال : » إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تُكُونُوا ثُلُثَي أهلِ الجَنَّة ، إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ مائَة وعشرُونَ صَفّاً ، ثَمَانُونَ مِنْ أُمتَّي وما المُسلمُونَ في الكُفَّار إلا كالشَّامَةِ في جنب البعير ، أو كالشَّعرة البيضاء في الثور الأسود « ثم قال : » ويَدْخُلُ مِنْ أُمَّتي سَبْعُونَ ألْفاً الجَنَّة بِغَيْر حِسَاب « فقال عمر : سبعُونَ ألفاً . فقال : » نَعَمْ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفاً « فقام عكاشة بن محصن وقال : يار سول اللَّهِ ادعُ اللَّهَ أن يجعلني منهم . قال : » أَنْتَ مِنْهُم « فقام رجل من الأنصار وقال مثل قوله ، فقال : » سبقك بها عكاشة « . فخاض الناس في السبعين ألفاً ، فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قالوا ، فقال عليه السلام : » هم الذين لا يكذبون ولا يزنون ولا يسرقون ولا ينظرون وعلى ربهم يتوكلون « .

فصل
معنى الآية قال ابن عباس : « تَذْهَلُ » تشغل ، وقيل : تتنسى « كُلُّ مُرْضِعَةٍ » إذا شاهدت ذلك الهول وقد ألقمت المرضع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة « عَمَّا أَرْضَعَتْ » أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته ، وهو الطفل ، { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } أي تسقط ولدها التمام وغير التمام . قال الحسن : وهذا يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا؛ لأن بعد البعث لا يكون حبل . قال القفال : ويحتمل أن يقال : إن من ماتت حاملاً أو مرضعة بعثت حاملاً ومرضعة تضع حملها من الفزع ، ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة ووضع الحامل على جهة المثل كما تأولوا قوله : { يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } [ المزمل : 17 ] .
و { وَتَرَى الناس سكارى } من الخوف { وَمَا هُم بسكارى } من الشراب . وقيل : معناه كأنهم سكارى ، ولكن ما أرهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم .
فإن قيل : هل يحصل ذلك الخوف لكل أحد أو لأهل النار خاصة؟
فالجواب : قال قوم إن الفزع الأكبر وغيره يختص بأهل النار ، وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون ، لقوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] وقيل : بل يحصل للكل؛ لأنه سبحانه لا اعتراض عليه في شيء من أفعاله .
فصل
احتجت المعتزلة بقوله { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة . وبقوله تعالى : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 20 ] فالشيء الذي قدر الله عليه إما أن يكون موجوداً أو معدوماً ، والأول محال وإلا لزم كون القادر قادراً على إيجاد الموجود ، وإذا بطل هذا ثبت أن الشيء الذي قدر الله عليه معدوم ، فالمعدوم شيء ( واحتجوا أيضاً بقوله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 - 24 ] أطلق اسم الشيء على المعدوم في الحال ، فالمعدوم شيء ) . وأجيب عن الأول أن الزلزلة عبارة عن الأجسام المتحركة . وهي جواهر قامت بها أعراض ، وتحقق ذلك في العدم محال ، فالزلزلة يستحيل أن تكون شيئاً حال عدمها ، فلا بد من التأويل ، ويكون المعنى أنها إذا وجدت صارت شيئاً وهذا هو الجواب عن الباقي .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)

قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله } الآية . في النظم وجهان :
الأول : أنه أخبر فيما تقدم عن أهل القيامة وشدتها ، ودعا الناس إلى تقوى الله ، ثم ميز في هذه الآية قوماً من الناس الذين ذكروا في الأولى وأخبر عن مجادلتهم .
الثاني : أنه تعالى بيَّن أنه مع هذا التحذير الشديد بذكر زلزلة الساعة وشدائدها ، قال : { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ } .
قوله : « مَنْ يُجَادِلُ » يجوز أن تكون « مَنْ » نكرة موصوفة ، وأن تكون موصولة ، و « فِي اللَّهِ » أي : في صفاته ، و « بِغَيْرِ عِلْمٍ » مفعول أو حال من فاعل « يُجَادِلُ » وقرأ زيد بن عليّ « وَيَتْبَع » مخففاً .
فصل
قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحارث ، كان كثير الجدل ، وكان يقول : الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين ، وكان ينكر البعث ، وإحياء من صار تراباً ، ويتبع في جداله في الله بغير علم كل شيطان مريد . والمَرِيد : المتمرد المستمر في الشر . يريد شياطين الإنس ، وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر .
وقيل : أراد إبليس وجنوده ، قال الزجاج المريد والمارد : المرتفع الأملس . يقال : صخرة مرداء ، أي : ملساء . ويجوز أن يستعمل في غير الشيطان إذا جاوز [ حد ] مثله .
قوله : { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ } قرأ العامة « كُتِبَ » مبنياً للمفعول ، وفتح « أَنّ » في الموضعين . وفي ذلك وجهان :
أحدهما : أن « أَنَّه » وما في حيزه في محل نصب لقيامه مقام الفاعل ، فالهاء في « عَلَيْه » ، وفي « أَنَّه » تعودان على « من » المتقدمة . و « مَنْ » الثانية يجوز أن تكون شرطية ، والفاء جوابها ، وأن تكون موصولة والفاء زائدة في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط ، وفتحت « أن » الثانية ، لأنها وما في حيزها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فشأنه وحاله أنه يضله ، أو يقدر « فَأَنَّه » مبتدأ والخبر محذوف أي : فله أنه يضله .
الثاني : قال الزمخشري : ومن فتح فلأن الأول فاعل كتب ، والثاي عطف عليه .
قال أبو حيان : وهذا لا يجوز؛ لأنك إذا جعلت « فَأَنَّه » عطفاً على « أنه » بقيت « أنه » بلا استيفاء خبر ، لأن « من تولاه » « من » فيه مبتدأة فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى تستقل خبراً ل « أَنَّه » ، وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها ، إذ جعلت « فأنه » عطفاً على « أنه » . قال شهاب الدين : وقد ذهب ابن عطية إلى مثل قول الزمخشري فإنه قال : و « أنه » في موضع رفع ( على المفعول الذي لم يسم فاعله .

و « أنه » الثانية عطف على الأولى مؤكد وهذا رد واضح . وقرئ « كُتِبَ » مبنياً للفاعل ، أي : كتب الله ، ف ( أن ) وما في حيزها في محل نصب ) على المفعول به ، وباقي الآية على ما تقدم .
وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو « إنه ، فإنه » بكسر الهمزتين .
وقال ابن عطية : وقرأ أبو عمرو « إنه ، فإنه » بالكسر فيهما وهذا يوهم أنه مشهور عنه ، وليس كذلك . وفي تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه ، ذكرها الزمخشري :
الأول : أن يكون على حكاية المكتوب كما هو ، كأنه قيل : كتب عليه هذا اللفظ ، كما تقول : كتب عليه إن الله هو الغني الحميد .
الثاني : أن يكون على إضمار قيل .
الثالث : أن « كتب » فيه معنى قيل .
قال أبو حيان : أمّا تقديره قيل يعني فيكون « عليه » في موضع مفعول ما لم يسم فاعله ، و « أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّه » الجملة مفعول لم يسم لقيل المضمر ، وهذا ليس مذهب البصريين فإن الجملة عندهم لا تكون فاعلاً فلا تكون مفعول ما لم يسم فاعله . وكان أبو حيان قد اختار ما بدأ به الزمخشري أولاً ، وفيه ما فَرَّ منه وهو أنه أسند الفعل إلى الجملة فاللازم مشترك ، وقد تقدم تقرير مثل هذا في أول البقرة . ثم قال : وأما الثاني يعني أنه ضمن « كُتِبَ » معنى القول- ، فليس مذهب البصريين ، لأنه لا تكسر « أن » عندهم إلا بعد القول الصريح ، لا ما هو بمعناه . والضميران في « عَلَيه » و « أَنَّه » عائدان على « مَنْ » الأولى كما تقدم ، وكذلك الضمائر في « تَوَلاَّه » و « فَأَنَّه » والمرفوع في « يضله ويهديه » لأن من الأولى هو المحدث عنه والضمير المرفوع في « تولاه » والمنصوب في « يضله ويهديه » عائد على « من » الثانية .
وقيل : الضمير في « عليه » ل « كُلَّ شَيْطَانٍ » ، والضمير في « فَأَنَّه » للشأن .
وقال ابن عطية : الذي يظهر لي أن الضمير الأول في « أنه » يعود على « كُلَّ شَيْطَانٍ » وفي « فأنه » يعود على « من » الذي هو المتولى .
فصل
قيل : معنى « كُتِبَ عَلَيْه » مثل ، أي : كأنما كتب إضلال من يتولاه عليه لظهور ذلك في حاله . وقيل : كتب عليه في أم الكتاب . واعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون راجعاً إلى « مَنْ يُجَادِلُ » ، وأن يرجع إلى الشياطين . فإن رجع إلى « مَنْ يُجَادِلُ » فإنه يرجع إلى لفظه الذي هو موحد فكأنه قال : كتب : من يتبع الشيطان أضله عن الجنة وهداه إلى النار ، وذلك زجر منه ، فكأنه قال : كتب على من هذا حاله أن يصير أهلاً لهذا الوعد . وإن رجع إلى الشيطان كان المعنى ويتبع كل شيطان مريد قد كتب عليه أنه من يتولاه فهو ضال . وعلى هذا الوجه أيضاً يكون زجراً عن اتباعه .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)

قوله تعالى : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث } الآية . لما حكى عنهم الجدال بغير علم في إثبات الحشر والنشر ، وذمَّهم عليه ، ألزمهم الحجة ، وأورد الدلالة على صحة ذلك من وجهين :
أحدهما : الاستدلال بخلقة الحيوان أولاً ، ثم بخلقة النبات ثانياً ، وهذا موافق لما أجمله في قوله : { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] . فكأنه تعالى قال : { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الإسراء : 51 ] أي شك من البعث ففكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أن القادر على خلقكم أولاً قادر على خلقكم ثانياً .
قوله : « مِنَ البَعْثِ » . يجوز أن يتعلق ب « رَيْبٍ » ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل « ريب » . وقرأ الحسن « البَعَثِ » بفتح العين ، وهي لغة كالطَّرَدِ والحَلَبِ في الطَّرْد والحَلْب بالسكون . قال أبو حيان : والكوفيون إسكان العين عندهم تخفيف فيما وسطه حرف حلق كالنَّهْر والنَّهَر ، والشَّعْر والشَّعَر ، والبصريون لا يقيمونه ، وما ورد من ذلك هو عندهم مما جاء فيه لغتان . وهذا يوهم ظاهره أن الأصل : البعث - بالفتح - وإنما خفف ، وليس الأمر كذلك وإنما محل النزاع إذا سمع الحلقي مفتوح العين هل يجوز تسكينه أم لا؟ لا أنه كلما جاء ساكن العين من ألحقها يدعي أن أصلها بالفتح كما هو ظاهر عبارته .
قوله : { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } أي : خلقنا أصلكم وهو آدم من تراب نظيره قوله : { كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] وقوله : « مِنْهَا خَلَقْنَاكُم » . ويحتمل أن خلقة الإنسان من المني ودم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية ، والأغذية إما حيوان أو نبات وغذاء الحيوان ينتهي إلى النبات قطعاً للتسلسل والنبات إنما يتولد من الأرض والماء فصحّ قوله : { إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } .
فصل
قال النووي في التهذيب : التراب معروف؛ والمشهور الصحيح الذي قاله الفراء والمحققون أنه جنس لا يثنى ولا يجمع . ونقل أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن المبرد أنه قال : هو جمع واحدته ترابة ، والنسبة إلى التراب ترابي . وذكر النحاس في كتابه صناعة الكتاب : في التراب خمس عشرة لغة فقال يقال : تراب وتَوْرب على وزن جعفر ، وتَوْرَاب ، وتَيْرب - بفتح أولهما - والإِثلب والأَثلَب الأول بكسر الهمزة واللام ، والثاني بفتحهما ، والثاء مثلثة فيهما ومنه قولهم : بفيه الأثلب ، وهو الكَثْكَث - بفتح الكافين وبالثاء المثلثة المكررة ، والكثكث - بكسر الكافين - والدِّقعِم - بكسر الدال والعين - والدَّقعاء بفتح الدال والمد ، والرَّغام - بفتح الراء والغين المعجمة - ومنه : أرغم الله أنفه ، أي : ألصقه بالرغام وهو البرا مقصور مفتوح الباء الموحدة كالعصا ، والكِلْخِم بكسر الكاف والخاء المعجمة وإسكان اللام بينهما ، والكِلْخ بكسر الكاف واللام وإسكان الميم بينهما والخاء أيضاً معجمة ، والعِثْير بكسر العين المهملة وإسكان الثاء المثلثة وبعدها مثناة من تحت مفتوحة .

قوله : { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } والنطفة اسم للماء القليل ، أي ماء كان ، وهو هنا ماء الفحل ، وجمعها نطاف ، فكأنه سبحانه يقول : أنا الذي قلبت ذاك التراب اليابس ماء لطيفاً مع أنه لا مناسبة بينهما . والمراد من الخلق من النطفة الذرية .
قوله : { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } والعلقة قطعة الدم الجامدة ، وجمعها عَلَق ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة . وعن بعضهم وقد سئل عن أصعب الأشياء فقال : وقع الزلق على العلق ، أي : على دم القتلى في المعركة .
قوله : { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } المُضْغَة : القطعة من اللحم قدر ما يمضغ نحو الغُرْفَة ، والأكْلَة بمعنى المغروفة والمأكولة .
قوله : { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } العامة على الجر في « مُخَلَّقةٍ » وفي « غَيْر » على النعت . وقرأ ابن أبي عبلة بنصبهما على الحال من النكرة ، وهو قليل جداً ، وإن كان سيبويه قاسه .
والمُخَلَّقَة : الملساء التي لا عيب فيها من قولهم : صخرة خلقاء ، أي : ملساء وخَلَّقْتُ السواك : سوَّيْتُه ومَلَّسْتُه . وقيل : التضعيف في « مُخَلَّقَةَ » دلالة على تكثير الخلق؛ لأن الإنسان ذو أعضاء متباينة وخلق متفاوتة . قاله الشعبي وقتادة وأبو العالية وقال ابن عباس وقتادة : « مُخَلَّقة » تامة الخلق ، و « غير مخلقة » أي ناقصة الخلق . وأبو مجاهد : مصورة وغير مصورة ، وهو السقط . وقيل : المُخَلَّقَة من تمت فيه أحوال الخلق ، وغير المخلقة من لم يتم فيه أحوال الخلق قاله قتادة والضحاك . وقيل : المُخَلَّقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته ، وغير المخلقة السقط . وروى علقمة عن ابن مسعود قال : « إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه ، وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة ، فإن قال : غير مخلقة قذفها في الرحم دماً ولم يكن نسمة ، وإن قال : مخلقة ، قال الملك : أي رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد ، ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض تموت؟ فيقال له : اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك ، فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته » . قوله : « لِنُبَيِّنَ لَكُم » أي : لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم لتسدلّوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة وقيل : لنبين لكم أن تغيير الصفة والخلقة هو اختيار من الفاعل المختار ، ولولاه لما صار بعضه مخلقاً وبعضه غير مخلق وقيل : لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة .
قوله : { وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ } على رفع « وَنُقِرُّ » ، لأنه مستأنف ، وليس علة لما قبله فينصب نسقاً على ما تقدم .

وقرأ يعقوب ، وعاصم في رواية بنصبه .
قال أبو البقاء : على أن يكون معطوفاً في اللفظ والمعنى مختلف ، لأن اللام في « لِنُبَيِّنَ » للتعليل واللام المقدرة مع « نُقِرُّ » للصيرورة . وفيه نظر ، لأن قوله : معطوفاً في اللفظ . يدفعه قوله : واللام المقدرة . فإن تقدير اللام يقتضي النصب بإضمار ( إن ) بعدها لا بالعطف على ما قبله . وعن عاصم أيضاً : « ثُمَّ نُخْرِجَكُمْ » بنصب الجيم . وقرأ ابن أبي عبلة « لِيُبَيِّن » و « يُقِرُّ » بالياء من تحت فيهما ، والفاعل هو الله تعالى كما في قراءة النون .
وقرأ يعقوب في رواية « ونَقُرُّ » بفتح النون وضم القاف ورفع الراء من قرَّ الماء يقرُّه أي : صبَّه . وقرأ أبو زيد النحوي « ويَقر » بفتح الياء من تحت وكسر القاف ونصب الراء أي : ويقر الله وهو من قَرَّ الماء إذا صبه . وفي الكامل لابن جبارة « لنبين ، ونقر ، ثم نخرجكم » بالنصب فيهن يعني بالنون في الجميع ، المفضل بالياء فيهما مع النصب أبو حاتم ، وبالياء والرفع عن عمر بن شبة . انتهى .
وقال الزمخشري : والقراءة بالرفع إخبار بأنه تعالى : يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره . ثم قال : والقراءة بالنصب تعليل معطوف على تعليل ومعناه : جعلناكم مدرجين هذا التدريج لغرضين :
أحدهما : أن نبين قدرتنا .
والثاني : أن نقر في الأرحام من نقر حتى يولدوا وينشئوا ويبغلوا حد التكليف فأكلفهم ، ويعضد هذه القراءة قوله : { ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ } . قال شهاب الدين : تسميته مثل هذه الأفعال المسندة إلى الله تعالى غرضاً لا يجوز . وقرأ ابن وثاب « نِشَاء » بكسر النون وهو كسر حرف المضارعة كما تقدم في قوله : « نسْتَعِينُ » .
والمراد بالأجل المسمى يعني نقر في الأرحام ما نشاء فلا نمحه ولا نسقطه إلى أجل مسمى وهو حد الولادة ، وهو آخر ستة أشهر أو تسعة أشهر أو أربع سنين كما شاء وقدر تام الخلق والمدة .
قوله : { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أي : تخرجون من بطون أمهاتكم ، « طِفْلاً » حال من مفعول « نُخْرِجُكُم » ، وإنما وحِّدَ ، لأنه في الأصل مصدر كالرضا والعدل ، فيلزم الإفراد والتذكير ، قاله المبرد ، وإما لأنه مراد به الجنس ، ولأنه العرب تذكر الجمع باسم الواحد قال تعالى : { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] وإما لأن المعنى نخرج كل واحد منكم ، نحو : القوم يشبعهم رغيف ، أي : كل واحد منهم . وقد يطابق به ما يراد به فيقال : طفلان وأطفال ، وفي الحديث : « سُئِلَ عَنْ أَطْفَالِ المُشْرِكِينَ » . والطفل يطلق على الولد من حين الانفصال إلى البلوغ . وأما الطفل - بالفتح - فهو الناعم ، والمرأة طفلة ، قال :
3746- وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطَفْلَةٍ ميَّالةٍ ... بَلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا
وقال :
3747- أَحْبَبْتُ فِي الطَّفْلَةِ القُبَلاَ ... لاَ كَثِيراً يُشْبِه الحولا

أما الطَّفَل : بفتح الفاء والطاء - فوقت ( ما بعد العصر ، من قولهم : طفلت الشمس : إذا مالت للغروب ، وأطفلت المرأة أي صارت ذات طفل ) .
قوله : { ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ } الأَشُدُّ : كمال القوة والعقل ، وهو من ألفاظ الجموع التي لا واحد لها ، فبنيت لذلك على لفظ الجمع ، والمعنى : أنه سهل في تربيتكم وأغذيتكم أموراً كثيراً إلى بلوغ أشدكم ، فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج الطفل من بطن أمه وبين بلوغ الأشد ، لأن بين الحالتين وسائط .
قوله : { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى } العامة على ضم الياء من « يُتَوَفَّى » وقرأت فرقة « يَتَوفَّى » بفتح الياء ، وفيه تخريجان :
أحدهما : أن الفاعل ضمير الباري تعالى ، أي : يتوفاه الله تعالى . كذا قدره الزمخشري .
الثاني : أن الفاعل ضمير « من » أي : يتوفى أجله وهذه القراءة كالتي في البقرة { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } [ البقرة : 234 ] أي : مدتهم . ومعنى الآية : { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى } على قوته وكماله ، { وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } وهو الهرم والخوف فيصير كما كان في أوان الطفولية ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم . وروي عن أبي عمرو ونافع أنهما قرآ « العُمْر » بسكون الميم وهو تخفيف قياسي نحو عُنْق في عُنُق .
قوله : « لِكَيْلاَ يَعْلَم » هذا الجار يتعلق ب « يرد » وتقدم نظيره في النحل والمعنى يبلغ من السن ما يغير عقله فلا يعقل شيئاً . فإن قيل : إنه يعلم بعض الأشياء كالطفل فالجواب : المراد أنه يزول عقله فيصير كأنه لا يعلم شيئاً . لأن مثل ذلك قد يذكر في النفي مبالغة . ومن الناس من قال هذه الحال لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ } [ التين : 5 - 6 ] وهو ضعيف ، لأن معنى قوله « ثُمَّ رَدَدْنَاهُ » دلالة على الذم ، فالمراد ما يجري مجرى العقوبة ، ولذلك قال { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ التين : 6 ] وهذا تمامِ الاستدلال بخلقة الحيوان . وأما الاستدلال بخلقة النبات فهو قوله تعالى : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً } فنصب « هَامِدَةً » على الحال ، لأن الرؤية بصرية . والهمود : الخشوع والسكون ، وهمدت الأرض : يبست ودرست ، وهمد الثوب : بلي ، قال الأعشى :
3748- فَالَتْ قُتَيْلَة مَا لجِسْمِكَ شَاحِباً ... وَأَرَى ثِيَابَكَ بَاليَاتٍ هُمَّدَا
والاهتزاز التحرك ، وتجوز به هنا عن إنبات الأرض نباتها بالماء . والجمهور على « رَبَتْ » أي : زادت من ربا يربو . وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وأبو عمرو في رواية « وربأت » بالهمز أي ارتفعت . يقال : ربأ بنفسه عن كذا ، أي : ارتفع عنه ، ومنه الربيئة ، وهو من يطلع على موضع عال لينظر للقوم ما يأتيهم ، وهو عين القوم ، ويقال له : ربيء أيضاً قال الشاعر :
3749- بَعَثْنَا رَبيْئاً قَبْلَ ذَلِكَ مُخْملا ... كَذِئْبِ الغَضَا يَمْشِي الضّراءَ وَيَتَّقِي

قوله : { مِن كُلِّ زَوْجٍ } . فيه وجهان :
أحدهما : أنه صفة للمفعول المحذوف ، تقديره : وأنبتت ألواناً أو أزواجاً من كل زوج .
والثاني : أن ( من ) زائدة ، أي أنبتت كل زوج ، وهذا ماش عند الكوفيين والأخفش والبهيج : الحسن الذي يسر ناظره ، وقد بَهُج بالضم بهاجة وبَهْجَةً أي حسن وأبهجني كذا أي : سرني بحسنه .
فصل
المعنى : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً } يابسة لا نبات فيها ، { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء } المطر « اهْتَزَّت » تحركت بالنبات ، والاهتزاز الحركة على سرور ، ورَبَتْ أي : ارتفعت وزادت ، وذلك أن الأرض ترتفع وتنتفخ ، فذلك تحركها . وقيل : فيه تقديم وتأخير معناه : ربت واهتزت . قال المبرد : أراد اهتزت وربا نباتها فحذف المضاف . والاهتزاز في النبات أظهر يقال : اهتز النبات ، أي : طال ، وإنما أنث لذكر الأرض .
{ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } وهذا مجاز لأن الأرض لا تنبت وإنما المنبت هو الله تعالى ، لكنه يضاف إليها توسعاً . ومعنى من كل نوع من أنواع النبات والبهجة : حسن الشيء ونضارته ، ثم إنه تعالى لما قرر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب وذلك قوله تعالى { ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق } الآية .
« ذلك » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ والخبر الجار بعده ، والمشار إليه ما تقدم من خلق بني آدم وتطويرهم ، والتقدير : ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وتطويرهم حاصل بأن الله هو الحق وأنه إلى آخره .
الثاني : أن « ذلك » خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر ذلك .
الثالث : أن « ذلك » منصوب بفعل مقدر ، أي : فعلنا ذلك بسبب أن الله تعالى هو الحق فالباء على الأول مرفوعة المحل ، وعلى الثاني والثالث منصوبة .
قوله : { وأن الساعة آتية } فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على المجرور بالباء ، أي : ذلك بأن الساعة .
والثاني : أنه ليس معطوفاً عليه ، ولا داخلاً في حيز السببية ، وإنما هو خبر والمبتدأ محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : والأمر أن الساعة آتية و { لاَّ رَيْبَ فِيهَا } يحتمل أن تكون هذه الجملة خبراً ثانياً ، وأن تكون حالاً .
فصل
المعنى : ذلك لتعلموا أن الله هو الحق ، والحق هو الموجود الثابت فكأنه تعالى بَيَّن أن هذه الوجوه المتنافية وتواردها على الأجسام يدل على وجود الصانع . { وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى } وهذا تنبيه على أنه لما لم يستبعد من الإله إيجاد هذه الأشياء ، فكيف يستبعد منه إعادة الأموات . { وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : وأن الذي يصح منه إيجاد هذه الأشياء لا بد وأن يجب اتصافه بهذه القدرة لذاته ، ومن كان كذلك كان قادراً على الإعادة . { وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } والمعنى : أنه تعالى لما أقام الدلائل على أن الإعادة في نفسها ممكنة ، وأنه سبحانه قادر على كل الممكنات وجب القطع بكونه قادراً على الإعادة وإذا ثبت الإمكان والصادق أخبر عن وقوعه ، فلا بد من القطع بوقوعه .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)

قوله تعالى : { ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ } الآية ، جعل ابن عطية هذه الواو للحال ، فقال : وكأنه يقول هذه الأمثال في غاية الوضوح ، ومن الناس مع ذلك من يجادل ( فكان الواو واو الحال والآية المتقدمة الواو فيها واو عطف .
قال أبو حيان : ولا يتخيل أن الواو في { ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ } ) واو حال ، وعلى تقدير الجملة التي قدرها قبله لو كان مصرحاً بها فلا تتقدر ب ( إذ ) ، فلا تكون للحال ، وإنما هي للعطف . قال شهاب الدين : ومنعه من تقديرها ب ( إذ ) فيه نظر ، إذ لو قدر لم يلزم منه محذور .
قوله : « بِغَيْرِ عِلْم » يجوز أن يتعلق ب « يُجَادِل » ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل « يُجَادِلُ » أي : يجادل ملتبساً بغير علم ، أي : جاهلاً .
قوله : « ثَانِيَ عِطْفِه » : حال من فاعل « يُجَادِل » أي : مُعْرِضاً ، وهي إضافة لفظية نحو « مُمْطِرُنَا » . والعامة على كسر العين ، وهو الجانب كني به عن التكبر .
والحسن بفتح العين ، وهو مصدر بمعنى التعطف ، وصفه بالقسوة .
قوله : « لِيُضلَّ » متعلق إما ب « يُجَادِلُ » ، وإما ب « ثاني عِطْفِه » وقرأ العامة بضم الياء في « يُضِلّ » والمفعول محذوف أي : ليضل غيره . وقرأ مجاهد وأبو عمرو في رواية بفتحها ، أي : ليضل هو في نفسه .
قوله : { لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ } هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً مقارنة أي : مستحقاً ذلك ، وأن تكون حالاً مقدرة ، وأن تكون مستأنفة . وقرأ زيد بن علي « وأُذِيْقُه » بهمزة المتكلم ، و « عَذَابَ الحَرِيْق » يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته إذ الأصل العذاب الحريق أي : المحرق كالسميع بمنع المسمع .
فصل
قال أبو مسلم : الآية الأولى واردة في الأتباع المقلدين ، وهذه الآية ورادة في المتبعة عن المقلدين ، فإن كلا المجادلين جادل بغير علم وإن كان أحدهما تبعاً والآخر متبوع ، وبين ذلك قوله : { وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } فإن مثل ذلك لا يقال في المقلد وإنما يقال فيمن يخاصم بناء على شبهة . فإن قيل : كيف يصح ما قلتم والمقلد لا يكون مجادلاً؟ قلنا : يجادل تصويباً لتقليده ، وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد . وقيل : إن الآية الأولى نزلت في النضر بن الحارث ، وهو قول ابن عباس وفائدة التكرير المبالغة في الذم ، وأيضاً : قد ذكر في الآية الأولى اتباعه تقليداً بغير حجة ، ( وفي الثانية مجادلته في الدين ، وإضلاله غيره بغير حجة ) .
والأول أقرب لما تقدم . ودلت الآية على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب حق حسن .

والمراد بالعلم العلم الضروري ، وبالهدى الاستدلال والنظر؛ لأنه يهدي إلى المعرفة ، وبالكتاب المنير الوحي . والمعنى يجادل من غير مقدمة ضرورية ، ولا نظريَّة ولا سمعيَّة فهو كقوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } [ الحج : 71 ] ثم قال { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } ثني العطف عبارة عن التكبر والخيلاء قال مجاهد وقتادة : لاوي عنقه . وقال عطية وابن زيد : معرضاً عما يدعى إليه تكبراً . والعطف الجانب وعطفا الرجل : جانباه عن يمين وشمال ، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي : يلويه ويمليه عند الإعراض عن الشيء ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً } [ لقمان : 7 ] وقوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } [ المنافقون : 5 ] . { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } فمن ضم الياء فمعناه : ليضل غيره عن طريق الحق ، فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير . ومن فتح الياء فالمعنى : ليضل هو عن دين الله . { لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ } عذاب وهون ، وهو القتل ببدر ، فقتل النضر ، وعقبة بن أبي معيط يوم بدر صبراً . { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق } ويقال له : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } والكلام في قوله : { ذلك بِأَنَّ الله } [ الحج : 6 ] كالكلام في قوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ } وكذا قوله « وأنَّ اللَّهَ » يجوز عطفه على السبب ، ويجوز أن يكون التقدير والأمر أن الله ، فيكون منقطعاً عما قبله .
قوله : « ظَلاَّم » مثال مبالغة . فإن قيل : إذا قلت : إن زيداً ليس بظلام لا يلزم منه نفي أصل الظلم ، فإن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم .
فالجواب : أن المبالغة إنما جيء بها لتكثير محلها فإن العبيد جمع ، وأحسن هذا أن فَعَّالاً هنا للنسب أي : بذي ظلم لا للمبالغة .
فصل
قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على مطالب :
الأول : دلت على أن العبد إنما وقع في ذلك العذاب بسبب عمله فلو كان فعله خلقاً لله تعالى لكان حين خلقه استحال منه أن لا يتصف به فلا يكون ذلك العقاب بسبب فعله ، فإذا عاقبه عليه كان ذلك محض الظلم وذلك خلاف النص .
الثاني : أن قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } يدل على أنه سبحانه إنما لم يكن ظالماً بفعل ذلك العذاب ، وهذا يدل على أنه لو عاقبه لا بسبب فعل يصدر من جهته لكان ظالماً ، وهذا يدل على أنه لا يجوز تعذيب الأطفال لكفر آبائهم .
الثالث : أنه سبحانه تمدح بأنه لا يفعل الظلم فوجب أن يكون قادراً عليه خلاف ما يقوله النَّظَّام ، وأن يصح ذلك منه خلاف ما يقوله أهل السنة .
الرابع : أنه لا يجوز الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يظلم ، لأن عندهم صحة نبوة النبي - عليه السلام - موقوفة على نفي الظلم ، فلو أثبتنا ذلك بالدليل السمعي لزم الدور . وأجاب ابن الخطيب عن الكلّ بالمعارضة بالعلم والداعي .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)

قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } الآية .
قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة : نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصحَّ بها جسمه ، ونتجت فرسه مهراً حسناً ، وولدت امرأته غلاماً ، وكثر ماله قال : هذا دين حسن ، وقد أصبت فيه خيراً واطمأن إليه ، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه ، وقَلَّ مالُه قال ما أصبت منذ دخلت هذا الدين إلا شراً فينقلب عن دينه ، وذلك الفتنة ، فأنزل الله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } . قال أكثر المفسرين : أي : على شك ، وأصله من حرف الشيء ، وهو طرفه . وقيل : على انحراف ، أو على طرف الدين لا في وسطه كالذي يكون في طرف العسكر إن رأى خيراً ثبت وإلا فرَّ . و « عَلَى حَرْف » حال من فاعل « يَعْبُد » أي : متزلزلاً .
ومعنى « عَلَى حَرْفٍ » أي على شك أو على انحراف أو على طرف الدين لا في وسطه .
فصل
لما بين حال المظهرين للشرك المجادلين فيه أعقبه بذكر المنافقين فقال : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة ، كالذي يكون على طرف العسكر ، فإن أحس بغنيمة قرّ وإلا فَرّ ، وهذا هو المراد بقوله { فَإن أصَابَهُ خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجه } .
قال الحسن : هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه ، { فإن أصابه خير } صحة في جسمه وسَعَة في معيشته « اطمأن به » وسكن إليه ، { وإن أصابته فتنة } بلاء في جسده وضيق في معيشته { انقلب على وجهه } ارتد ورجع إلى ما كان عليه من الكفر .
فصل
ذكروا في السبب وجوهاً :
الأول : ما تقدم .
والثاني : قال الضحاك : نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس ، قال بعضهم لبعض ندخل في دين محمد فإن أصابنا خير عرفنا أنه حق ، وإن كان غير ذلك عرفنا أنه باطل .
الثالث : قال أبو سعيد الخدري : « أسلم رجل من اليهود ، فذهب بصره وماله وولده ، فقال : يا رسول الله أقلني فإني ما أصبت من ديني هذا خيراً ذهب بصري ومالي وولدي . فقال عليه السلام : » إنَّ الإسْلاَمَ لاَ يُقَالُ ، إنَّ الإسْلاَمَ يَسْبِكُ كَمَا تَسْبِكُ النَّارُ خَبَثَ الحَدِيد والذَّهَبَ والفِضَّةَ « ونزلت هذه الآية . وهاهنا إشكال ، وهو أن المفسرين أجمعوا على أن هذه السور مكيَّة إلا ست آيات ذكروها أولها { هذان خَصْمَانِ اختصموا } [ الحج : 19 ] إلى قوله { صِرَاطِ الحميد } [ الحج : 24 ] ولم يعدوا هذه الوقائع ( التي ذكروها في سبب نزول هذه الآية مع أنهم يقولون إن هذه الوقائع ) إنما كانت بالمدينة كما تقدم النقل عنهم .

فإن قيل : كيف قال : { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب } والخير أيضاً فِتْنَةٌ ، لأنه امتحان . قال تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] .
فالجواب : مثل هذا كثيرٌ في اللغة ، لأن النعمة بلاء وابتلاء قال تعالى { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } [ الفجر : 15 ] ولكن إنما يطابق اسم البلاء على ما يثقل على الطبع ، والمنافق ليس عنده الخير إلا الخير الدنيوي ، وليس عنده الشر إلا الشر الدنيوي ، لأنه لا دين له؛ فلذلك وردت الآية على ما يعتقده . فإن قيل : إذا كانت الآية في المنافق فما معنى قوله { انقلب على وَجْهِهِ } وهو في الحقيقة لم يسلم حتى ينقلب .
فالجواب أنه أظهر بلسانه خلاف ما كان أظهره ، فصار يذم الدين عند الشدة وكان من قبل يمدحه وذلك انقلاب على الحقيقة . فإن قيل : مقابل الخير هو الشر فلما قال { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ } كان يجب أن يقول : وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ .
فالجواب : لما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى : وإن أصابه شرٌّ بل وصفه بما لا يفيد فيه القبح .
قوله : { خَسِرَ الدنيا والآخرة } قرأ العامة « خسر » فعلاً ماضياً ، وهو يحتمل ثلاثة أوجه :
الاستئناف ، والحالية من فاعل « انْقَلَبَ » ، ولا حاجة إلى إضمار ( قد ) على الصحيح .
والبدلية من قوله « انقلب » كما أبدل المضارع من مثله في قوله { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ } [ الفرقان : 68 - 69 ] .
وقرأ مجاهد والأعرج وابن محيصن والجحدري في آخرين « خَاسِر » بصيغة اسم الفاعل منصوب على الحال ، وهو توكيد كون الماضي في قراءة العامة حالاً وقرئ برفعه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون فاعلاً ب « انقلب » ، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر ، أي : انقلب خاسر الدنيا والآخرة ، والأصل : انقلب هو .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو خاسر .
وهذه القراءة تؤيد الاستئناف في قراءة المضي على التخريج الثاني . وحق من قرأ « خاسر » رفعاً ونصباً أن يجر « الآخرة » لعطفها على « الدنيا » المجرورة بالإضافة . ويجوز أن يبقى النصب فيها ، إذ يجوز أن تكون الدنيا منصوبة ، وإنما حذف التنوين من « خاسر » لالتقاء الساكنين نحو قوله :
3750- وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلا ... فصل
معنى خسرانه الدنيا هو أن يخسر العز والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ، ولا يبقى ماله ودمه مصوناً ، وأما خسران الآخرة فيفوته الثواب الدائم ، ويحصل له العقاب الدائم ، و { ذلك هُوَ الخسران المبين } .
قوله : { يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ } إن عصاه ولم يعبده ، { وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } إن أطاعه وعبده ، و { ذلك هُوَ الضلال البعيد } عن الحق والرشد وهذه الآية تدل على أن الآية الأولى لم ترد في اليهود؛ لأنهم ليس ممن يدعو من دون الله الأصنام .

والأقرب أنها واردة في المشركين الذين انقطعوا إلى الرسول على وجه النفاق .
قوله : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } . فيه عشرة أوجه ، وذلك أنه إما أن يجعل « يَدْعُو » متسلطاً على الجملة من قوله : { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } أو لا ، فإن جعلناه متسلطاً عليها كان فيه سبعة أوجه :
الأول : أنّ « يَدْعُو » بمعنى يقول ، واللام للابتداء و « من » موصولة في محل رفع بالابتداء ، و « ضَرُّه » مبتدأ ثان ، و « أَقْرَب » خبره ، وهذه الجملة صلة للموصول ، وخبر الموصول محذوف تقديره : يقول للذي ضره أقرب من نفعه : إله ، أو إلهي ، ونحو ذلك ، والجملة كلها في محل نصب ب « يَدْعُو » لأنه بمعنى يقول ، فهي محكية به . وهذا قول أبي الحسن وعلى ( هذا فيكون قوله : « لَبِئْسَ المَوْلَى » مستأنفاً ليس داخلاً في المحكي قبله ، لأن الكفار لا يقولون في أصنامهم ذلك ) . ( ورد بعضهم هذا الوجه بأنه فاسد المعنى ) إذ الكافر لا يعتقد في الأصنام أنَّ ضرّها أقرب من نفعها البتة .
الثاني : أنَّ « يَدْعُو » مشبه بأفعال القلوب ، لأن الدعاء لا يصدر إلا عن اعتقاده وأفعال القلوب تعلق ف « يَدْعُو » معلق أيضاً باللام ، و « لَمَنْ » مبتدأ موصول ، والجملة بعدة صلة ، وخبره محذوف على ما مر في الوجه قبله ، والجملة في محل نصب كما يكون كذلك بعد أفعال القلوب .
الثالث : أن يضمن « يَدْعُو » معنى يزعم ، فتعلق كما تعلق ، والمعنى . والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله .
الرابع : أنَّ الأفعال كلها يجوز أن تعلق قلبية كانت أو غيرها ، فاللام معلقة ل « يَدْعُو » وهو مذهب يونس ، فالجملة بعده والكلام فيها كما تقدم .
الخامس : أن « يَدْعُو » بمعنى يسمي ، فتكون اللام مزيدة في المفعول الأول ، وهو الموصول وصلته ، ويكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره : يسمي الذي ضره أقرب من نفعه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك .
السادس : أن اللام مزالة من موضعها ، والأصل : يدعو من لضره أقرب ، فقدمت من تأخر . وهذا قول الفراء . ورد هذا بأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول .
السابع : أن اللازم زائدة في المفعول به وهو « من » التقدير : يدعو من ضره أقرب ، ف « من » موصولة والجملة بعدها صلتها ، والموصول هو المفعول ب « يدعو » زيدت فيه اللام كزيادتها في قوله : « رَدِفَ لَكُمْ » في أحد القولين ورد هذا بأن زيادة اللام إنما تكون إذا كان العامل فرعاً أو تقدم المفعول . وقرأ عبد الله « يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ » بغير لام الابتداء ، وهي مؤيدة لهذا الوجه . وإن لم نجعله متسلطاً على الجملة بعده كان فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أن « يَدْعُو » الثاني توكيد ل « يدعو » الأول فلا معمول له ، كأنه قيل : ( يدعو يدعو ) من دون الله الذي لا يضره ولا ينفعه ، فعلى هذا تكون الجملة من قوله { ذلك هو الضلال } معترضة بين المؤكد والمؤكد ، لأن فيها تشديداً وتأكيداً ، ويكون قوله : « لَمَنْ ضَرُّهُ » كلاماً مستأنفاً ، فتكون اللام للابتداء ، و « مَنْ » موصولة ، و « ضَرُّهُ » مبتدأ ، و « أقرب » خبره ، والجملة صلة ، و « لَبِئْسَ » جواب قسم مقدر ، وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو الموصول .

الثاني : أن يجعل « ذلك » موصولاً بمعنى الذي ، و « هو » مبتدأ ، و « الضلال » خبره ، والجملة صلة له ، وهذا الموصول مع صلته في محل نصب مفعولاً ب « يَدْعُو » ، أي : يَدْعُو الذي هو الضلال وهذا منقول عن أبي علي الفارسي .
وليس هذا ماش على رأي البصريين إذ لا يكون عندهم من أسماء الإشارة موصول إلا « ذا » بشروط تقدم ذكرها . ( وأما الكوفيون فيجيزون في أسماء الإشارة مطلقاً ) أن تكون موصولة ، وعلى هذا فيكون { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ } مستأنفاً على ما تقدم .
الثالث : أن يجعل « ذَلِكَ » مبتدأ و « هُوَ » جوزوا فيه أن يكون بدلاً أو فصلاً أو مبتدأ ، و « الضلال » خبر « ذَلِكَ » أو خبر « هُوَ » على حسب الخلاف في « هُوَ » و « يَدْعُو » حال ، والعائد منه محذوف تقديره : يدعوه وقدروا هذا الفعل الواقع موقع الحال ب « مدعوًّا ) .
قال أبو البقاء : وهو ضعيف ، ولم يبين وجه ضعفه .
وكأن وجهه أن » يدعو « مبني للفاعل فلا يناسب أن يقدر الحال الواقعة موقعه اسم مفعول بل المناسب أن يقدر اسم فاعل ، فكان ينبغي أن يقدروه داعياً ، ولو كان التركيب يدعى مبنياً للمفعول لحسن تقديرهم : مدعو ، ألا ترى أنك إذا قلت : جاء زيد يضرب ، كيف يقدرونه بضارب لا بمضروب .
فصل
اختلفوا في المراد بقوله : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } . قيل : المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم ، لأنه يصح منهم أن يضروا ، ويؤيد هذا أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم ، وهذ الآية تقتضي كون المذكور فيها ضاراً نافعاً ، فلو كان المذكور في هذه الآية هو الأوثان لزم التناقض .
وقيل المراد الأوثان ، ثم أجابوا عن التناقض بوجوه :
أحدها : أنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ، ولكن عبادتها سبب الضرر ، وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها كقوله تعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس } [ إبراهيم : 36 ] فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سبباً للضلال ، فكذلك هنا نفى الضرر عنهم في الآية الأولى ، بمعنى كونها فاعلة ، وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر .

وثانيها : كأنه سبحانه بيَّن في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع ثم قال في الآية الثانية : ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكان ضرها أكثر من نفعها .
وثالثها : أن الكفار إذا أنصفوا علموا أنه لا يحصل منها لا نفع ولا ضرر في الدنيا ، ثم إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها ، فكأنهم يقولون لها في الآخرة إن ضركم أعظم من نفعكم .
قوله : { لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير } المولى هو الناصر ، والعشير الصاحب والمعاشر .
والمخصوص بالذم محذوف تقديره : لبئس المولى ولبئس العشير ذلك المدعو . واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق ، لأنه لا يكاد يستعمل في الأوثان ، فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله الذي هو خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء بقوله تعالى : { لَبِئْسَ المولى } والمراد ذم ما انتصروا بهم .

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)

قوله تعالى : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ } الآية . لما بين في الآية السالفة حال عباده المنافقين وحال معبودهم ، وأن معبودهم لا ينفع ولا يضر بين هاهنا صفة عباده المؤمنين وصفة معبودهم ، وأن عبادتهم حقيقة ، ومعبودهم يعطهم أعظم المنافع وهو الجنة ، التي من كمالها جمعها بين الزرع والشجر وأن تجري من تحتها الأنهار ، وبين أنه يفعل ما يريد بهم من أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم كما قال تعالى { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } [ النساء : 173 ] . واحتج أهل السنة في خلق الأفعال بقوله : { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } قالوا : أجمعنا على أنه تعالى يريد الإيمان ، ولفظة « ما » للعموم فوجب أن يكون فاعلاً للإيمان لقوله : { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } .
وأجاب عنه الكعبي بأن الله تعالى يفعل ما يريد أن يفعله ( لا ما يريد أن يفعله ) غيره .
وأجيب : بأن هذا تقييد للعموم وهو خلاف النص .
قوله : { مَن كَانَ يَظُنُّ } . « مَنْ » يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، والضمير في « يَنْصُرَهُ » الظاهر عوده على « مَنْ » ، وفسر النصر بالرزق ، وقيل يعود على الدين والإسلام فالنصر على بابه .
قال ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء والزجاج : أن الضمير في « يَنْصُرَهُ » يرجع إلى محمد - عليه السلام - يريد أن من ظن أن لن ينصر الله محمداً في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه ، وفي الآخرة بإعلاء درجته ، والانتقام ممن كذبه ، والرسول - عليه السلام - وإن لم يجر له ذكر في هذه الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ، والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله .
قوله : « فَلْيَمْدُد » إما جزاء للشرط ، أو خبر للموصول ، والفاء للتشبيه بالشرط . والجمهور على كسر اللام من « ليَقْطَعْ » ، وسكنها بعضهم كما يسكنها بعد الفاء والواو لكونهن عواطف ، ولذلك أجروا « ثم » مجراهما في تسكين هاء ( هو ) و ( هي ) بعدها ، وهي قراءة الكسائي ونفاع في رواية قالون عنه .
قوله : { هَلْ يُذْهِبَنَّ } الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافض ، لأن النظر تعلق بالاستفهام ، وإذا كان بمعنى الفكر تعدى ب « في » .
وقوله : { مَا يَغِيظُ } « ما » موصولة بمعنى الذي ، والعائد هو الضمير المستتر ، و « ما » وصلتها مفعول بقوله : « يُذْهِبَنَّ » أي : هل يذهبن كيده الشيء الذي يغيظه ، فالمرفوع في « يغيظه » عائد على الذي والمنصوب على { مَن كَانَ يَظُنُّ } . وقال أبو حيان : و « ما » في « مَا يَغِيظُ » بمعنى الذي والعائد محذوف أو مصدرية .

قال شهاب الدين : كلا هذين القولين لا يصح ، أما قوله : العائد محذوف فليس كذلك بل هو مضمر مستتر في حكم الموجود كما تقدم تقريره قبل ذلك ، وإنما يقال : محذوف فيما كان منصوب المحل أو مجروره ، وأما قوله : أو مصدرية فليس كذلك أيضاً ، إذ لو كانت مصدرية لكانت حرفاً على الصحيح ، وإذا كانت حرفاً لم يعد عليها ضمير وإذا لم يعد عليها ضمير بقي الفعل بلا فاعل ، فإن قلت : أضمر في « يَغِيْظ » ضميراً فاعلاً يعود على { مَن كَانَ يَظُنُّ } .
فالجواب : أن من كان يظن في المعنى مغيظ لا غائظ . وهذا بحث حسن .
فصل
المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ، والسبب الحبل ، والسماء سقف البيت هذا قول الأكثرين ، أي : ليشدد حبلاً في سقف بيته فليختنق به حتى يموت ، ثم ليقطع الحبل بعد الاختناق .
وقيل : سمي الاختناق قطعاً . وقيل : ليقطع ، أي : ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } صنيعه وحيلته ، أي : هل يذهبن كيده وحيلته غيظه . والمعنى : فليختنق غيظاً حتى يموت ، وليس هذا على سبيل الحتم أن يفعل لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق والموت ، ولكنه كما يقال للحاسد إذا لم ترض بهذا فاختنق ومت غيظاً . وق ابن زيد : المراد من السماء : السماء المعروفة . ومعنى الآية : من كان يظن أن لا ينصر الله نبيه ، ويكيد في أمره ليقطعه عنه ، فليقطعه من أصله ، فإن أصله من السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل .
فصل
روي أن هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام ، وكان بينهم وبين اليهود حلف ، وقالوا : لا يمكننا أن نسلم لأنا نخاف أن لا يُنصر محمد ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود فلا يميروننا ولا يؤوونا فنزلت هذه الآية وقال مجاهد : النصر يعني الرزق ، والهاء راجعة إلى « مَنْ » ومعناه من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة : نزلت فيمن أساء الظن بالله - عز وجل - وخاف أن لا يرزقه { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء } أي : سماء البيت ، { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ } فعله ذلك ما يغيظ وهو خِيفَة أن لا يُرزق . وقد يأتي النصر بمعنى الرزق تقول العرب : من ينصرني نصره الله ، أي من يعطيني أعطاه الله . قال أبو عبيدة : تقول العرب : أرض منصورة ، أي ممطورة وعلى كل الوجوه فإنه زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه .

قوله : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ } الكاف إما حال من ضمير المصدر المقدر ، وإما نعت لمصدر محذوف على حسب ما تقدم من الخلاف ، أي : ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله « آيَاتٍ بَيِّنَات » ف « آيات » حال .
قوله : { وَأَنَّ الله يَهْدِي } يجوز في « أن » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها منصوبة المحل ، عطفاً على مفعول « أنزلناه » ، أي : وأنزلنا أن الله يهدي من يريد ، أي : أنزلنا هداية الله لمن يريد هدايته .
الثاني : أنها على حذف حرف الجر ، وذلك الحرف متعلق بمحذوف والتقدير : ولأن الله يهدي من يريد أنزلناه ، فيجيئ في موضعها القولان المشهوران أفي محل نصب هي أم جر؟ وإلى هذا ذهب الزمخشري ، وقال في تقديره : ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون أنزله كذلك مبيناً .
الثالث : أنها في محل رفع خبراً لمبتدأ مضمر تقديره : والأمر أن الله يهدي من يريد .
فصل
قال أهل السنة : المراد من الهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة ، أما الأول فغير جائز؛ لأنه تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين ، ولأن قوله : { يَهْدِي مَن يُرِيدُ } دليل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي متعلقة بمشيئته سبحانه ، ووضع الأدلة عند الخصم واجب ، فيبقى أن المراد منه خلق المعرفة . قال القاضي عبد الجبار في الاعتذار : هذا يحتمل وجوهاً :
أحدها : يكلف من يريد لأن من كلف أحداً شيئاً فقد وصفه له وبينه .
وثانيها : أن يكون المراد يهدي إلى الجنة والإنابة من يريد ممن آمن وعمل صالحاً .
وثالثها : أن يكون المراد أن الله يلطف بمن يريد ممن علم أنه إذا هدي ثبت على إيمانه كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] . وهذا الوجه هو الذي أشار الحسن إليه بقوله : إن الله يهدي من قَبِلَ لا من لم يقبل ، والوجهان الأولان ذكرهما أبو علي .
وأجيب عن الأول بأن الله تعالى ذكر ذلك بعد بيان الأدلة ، وعن الثاني ، من الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف ، وأما الوجهان الأخيران فمدفوعان لأنهما عند الخَصْم واجبان على الله ، وقوله : { يَهْدِي مَن يُرِيدُ } يقتضي عدم الوجوب .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } الآية . لما قال : { وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ } [ الحج : 16 ] أتبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه . واعلم أن ( إن ) الثانية واسمها وخبرها في محل رفع خبراً ل « أن » الأولى قال الزمخشري : وأدخلت « إنَّ » على كل واحد من جزأي الجملة لزيادة التأكيد ونحوه قول جرير :
3751- إنَّ الخَلِيفَة إنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ ... سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الخَوَاتِيم
قال أبو حيان : وظاهر هذا أنه شبه البيت بالآية ، وكذلك قرنه الزجاج بالآية ، ولا يتعين أن يكون البيت كالآية ، لأن البيت يحتمل أن يكون ( إن الخليفة ) خبره ( به ترجى الخواتيم ) ويكون ( إنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ ) جملة اعتراض بين اسم ( إنَّ ) وخبرها بخلاف الآية فإنه يتعين قوله : { إِنَّ الله يَفْصِلُ } وحسن دخول « إن » على الجملة الواقعة خبراً لطول الفصل بينهما بالمعاطيف . قال شهاب الدين : قوله : فإنه يتعين قوله : { إِنَّ الله يَفْصِلُ } يعني أن يكون خبراً . ليس كذلك ، لأن الآية محتملة لوجهين آخرين ذكرهما الناس :
الأول : أن يكون الخبر محذوفاً تقديره : يفترقون يوم القيامة ونحوه ، والمذكور تفسير له كذا ذكره أبو البقاء .
والثاني : أن « إن » الثانية تكرير للأولى على سبيل التوكيد ، وهذا ماش على القاعدة وهو أن الحرف إذا كرر توكيداً أعيد معه ما اتصل به أو ضمير ما اتصل به ، وهذا قد أعيد معه ما اتصل به أولاً ، وهي الجلالة المعظمة فلم يتعين أن يكون قوله { إِنَّ الله يَفْصِلُ } خبراً ل « إنَّ » الأولى كما ذكر . واختلف العلماء في المجوس ، فقيل : قوم يعبدون النار ، وقيل : الشمس والقمر وقيل : اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح ، وقيل : أخذوا من دين النصارى شيئاً ومن دين اليهود شيئاً ، وهم القائلون بأن للعالم أصلان ، نور وظلمة ، وقيل هم قوم يستعملون النجاسات ، والأصل : نجوس - بالنون - فأبدلت ميماً .
ومعنى { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } أي : يحكم بينهم ، { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : عالم بما يستحقه كل منهم ، فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ } الآية . قيل المراد بهذه الرؤية العلم ، أي : ألم تعلم ، وقيل : ألم تر بقلبك . والمراد بالسجود : قال الزجاج : أنها مطيعة لله تعالى كقوله تعالى للسماء والارض { ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ، { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله } [ البقرة : 74 ] ، { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] ، { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ } [ الأنبياء : 79 ] . والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع ما يحدثه الله تعالى فيها من غير امتناع أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود .
فإن قيل : هذا التأويل يبطله قوله تعالى { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } ، فإن السجود بالمعنى المذكور عام في كل الناس ، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصاً من غير فائدة .

فالجواب من وجوه :
الأول : أن السجود بالمعنى المذكور وإن كان عاماً في حق الكل إلا أن بعضهم تكبر وترك السجود في الظاهر ، فهذا الشخص ، وإن كان ساجداً بذاته لا يكون ساجداً بظاهره ، وأما المؤمن فإن ساجد بذاته وبظاهره ، فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر .
وثانيها : أن نقطع قوله : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } عما قبله ، ثم فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أن تقدير الآية : ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد ، والثاني بمعنى العبادة ، وإنما فعلنا ذلك لقيام الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعاً .
الثاني : أن يكون قوله : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب ، لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله : { حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } .
والثالث : أن يبالغ في تكثير الحقوق بالعذاب ، فيعطف « كثير » على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب .
وثالثها : أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهومية جميعاً يقول : المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة ، وفي حق الجمادات الانقياء ( ومن ينكر ذلك فيقول : إن الله تكلم بهذه اللفظة مرتين ، فعنى بها في حق العقلاء الطاعة ، وفي حق الجمادات الانقياد ) فإن قيل : قوله : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض } [ الرعد : 15 ] عام فيدخل فيه الناس ، فلم قال { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } مرة أخرى؟
فالجواب : لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيراً منهم يسجد طوعاً دون كثير منهم فإنه يمتنع من ذلك ، وهم الذين حق عليهم العذاب وقال القفال : السجود هاهنا هو الخضوع والتذلل ، بمعنى كونها معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه ، وعلى هذا تأولوا قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] .
وقال مجاهد : إنَّ سجود هذه الأشياء سجود ظلها لقوله تعالى : { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّداً لِلَّهِ } [ النحل : 48 ] . وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجداً حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه .
قوله : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } . فيه أوجه :
أحدها : أنه مرفوع بفعل مضمر تقديره : ويسجد له كثير من الناس ، وهذا عند من يمنع استعمال المشترك في معنييه ، والجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة ، وذلك أن السجود المسند لغير العقلاء غير السجود المسند للعقلاء فلا يعطف { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } على ما قبله لاختلاف الفعل المسند إليهما في المعنى ، ألا ترى أن سجود غير العقلاء هو الطواعية والإذعان لأمره ، وسجود العقلاء هو هذه الكيفية المخصوصة .

الثاني : أنه معطوف على ( ما تقدمه ) وفي ذلك ثلاث تأويلات :
أحدها : أن المراد بالسجود القدر المشترك بين الكل العقلاء وغيرهم ، وهو الخضوع والطواعية ، وهو من باب الاشتراك المعنوي .
والتأويل الثاني : أنه مشترك اشتراكاً لفظياً ، ويجوز استعمال المشترك في معنييه .
والتأويل الثالث : أن السجود المسند للعقلاء حقيقة ولغيرهم مجاز ، ويجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز على خلاف في هذه الأشياء مذكور في كتب الأصول .
الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون « كَثِيرٌ » مرفوعاً بالابتداء ، وخبره محذوف وهو مثاب لدلالة خبر مقابله عليه وهو قوله : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } كذا قدره الزمخشري ، وقدره أبو البقاء مطيعون أو مثابون أو نحو ذلك .
الرابع : أن يرتفع « كثير » على الابتداء أيضاً ويكون خبره « مِنَ النَّاسِ » أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة ، وهم الصالحون والمتقون .
الخامس : أن يرتفع بالابتداء أيضاً ويبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف « كَثِيرٌ » على « كثير » ثم يخبر عنهم ب { حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } ، ذكر ذلك الزمخشري كما تقدم .
قال أبو حيان بعد أن حكى عن الزمخشري الوجهين الأخيرين قال : وهذان التخريجان ضعيفان . ( ولم يبين وجه ضعفهما ) . قال شهاب الدين : أما أولهما فلا شك في ضعفه إذ لا فائدة طائلة في الإخبار بذلك ، وأما الثاني فقد يظهر ، وذلك أن التكرير يفيد التكثير وهو قريب من قولهم : عندي ألف وألف ، وقوله :
3752- لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كُنْتَ أَكْرَمَهُمْ ... وقرأ الزُّهري « وَالدَّواب » مخفف الباء ، قال أبو البقاء : ووجهها أنَّه حذف الباء الأولى كراهية التَّضعيف والجمع بين ساكنين . وقرأ جناح بن حبيش : « وكَبِيرٌ » بالباء الموحدة .
وقرئ « وَكَثِيرٌ حَقًّا » بالنصب ، وناصبه محذوف وهو الخبر تقديره : وكثير حق عليه العذاب حقاً ، و « العَذَابُ » مرفوع بالفاعلية . وقرئ « حُقَّ » مبنياً للمفعول . وقال ابن عطية : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي : وكثير حق عليه العذاب يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره . فقوله : معطوف على ما تقدم يعني عطف الجمل لا أنه هو وحده عطف على ما قبله بدليل أنه قدره المبتدأ وخبره قوله : يسجد .
فصل
قال ابن عباس في رواية عطاء : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } يوحده ، { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } ممن لا يوحده ، وروي عنه أنه قال : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } في الجنة . وهذه الرواية تؤكد أن قوله { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } مبتدأ وخبره محذوف . وقال آخرون الوقف على قوله { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } ثم استأنف بواو الاستئناف فقال : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } .
( وأما قوله تعالى { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب ) ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم مكرماً لهم . ثم بين بقوله { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب .

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)

قوله تعالى : { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ } الآية . لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد لله ، ومنهم من حق عليه العذاب ذكر هاهنا كيفية اختصامهم . والخصم : في الأصل مصدر ولذلك يوحد ويذكر غالباً ، وعليه قوله تعالى { نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ } [ ص : 21 ] .
ويجوز أن يثنى ويجمع ويؤنث ، وعليه هذه الآية . ولما كان كل خصم فريقاً يجمع طائفة قال « اختصموا بصيغة الجمع كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] فالجمع مراعاة للمعنى وقرأ ابن أبي عبلة » اختصما « مراعاة للفظ وهي مخالفة للسواد . وقال أبو البقاء : وأكثر الاستعمال توحيده فيمن ثناه وجمعه حمله على الصفات والأسماء . و » اخْتَصَمُوا « إنما جمع حملاً على المعنى لأن كل خصم تحته أشخاص .
وقال الزمخشري : الخَصْم صفة وصف بها الفوج أو الفريق ، فكأنه قيل : هذان فوجان أو فريقان يختصمان ، وقوله : » هَذَانِ « للفظ ، و » اختَصَمُوا « للمعنى ، كقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ } [ محمد : 16 ] ، ولو قيل : هؤلاء خصمان أو اختصما جاز أن يراد المؤمنون والكافرون . قال شهاب الدين : إن عنى بقوله : أن خصماً صفة بطريق الاستعمال المجازي فمسلم ، لأن المصدر يكثر الوصف به ، وإن أراد أنه صفة حقيقية فخطأه ظاهر لتصريحهم بأن نحو رجل خَصْم مثل رجل عَدْل ، وقوله : » هذان « للفظ . أي : إنما أشير إليهم إشارة المثنى ، وإن كان في الحقيقة المراد الجمع باعتبار لفظ الفوجين والفريقين ونحوهما . وقوله : كقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ } [ محمد : 16 ] إلى آخره فيه نظر ، لأن في تيك الآية تقدم شيء له لفظ ومعنى وهو » من « ، وهنا لم يتقدم شيء له لفظ ومعنى .
وقوله تعالى : { فِي رَبِّهِمْ } أي : في دين ربهم ، ، فلا بد من حذف مضاف أي جادلوا في دينه وأمره . وقرأ الكسائي في رواية عنه » خصمان « بكسر الخاء . واحتج من قال أقل الجمع اثنان بقوله : { هذان خَصْمَانِ اختصموا } . وأجيب بأن المعنى جمع كما تقدم .
فصل
اختلفوا في تفسير الخَصْمَيْن ، فقيل : المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم ، وطائفة الكفار وجماعتهم ، وأن كل الكفار يدخلون في ذلك ، قال ابن عاس : رجع أهل الأديان الستة » في رَبِّهِم « أي في ذاته وصفاته . وقيل : إنّ أهل الكتاب قالوا : نحن أحق بالله ، وأقدم منكم كتاباً ، ونبينا قبل نبيكم . وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تكتمونه ، وكفرتم به حسداً ، فهذه خصومتهم في ربهم . وقيل : هو ما روى قيس بن عباد عن أبي ذر الغفاري أنه كان يحلف بالله أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن المغيرة .

وقال علي - رضي الله عنه - أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله . وقال عكرمة : هما الجنة والنار . قالت النار : خلقني الله لعقوبته ، وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، فقص الله على محمد خبرهما . والأقرب هو الأول؛ لأن السبب وإن كان خاصاً فالواجب حمل الكلام على ظاهره .
وقوله : « هَذَانِ » كالإشارة إلى ما تقدم ذكره ، وهم الأديان الستة المذكورون في قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } [ الحج : 17 ] .
وأيضاً ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب ، فوجب رجوع ذلك إليهما ، فمن خص به مشركي العرب واليهود من حيث قالوا في نبيهم وكتابهم ما حكينا فقد أخطأ ، وهذا هو الذي يدل على أن قوله : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } [ الحج : 17 ] أراد به الحكم ، لأن ذلك التخاصم يقتضي أن الواقع بعده حكماً . فبين تعالى حكمه في الكفار ، وذكر من أحوالهم ثلاثة أمور :
أحدها : قوله : { فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ } ، وهذه الجملة تفصيل وبيان لفصل الخصومة المعني بقوله تعالى : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } [ الحج : 17 ] قاله الزمخشري .
وعلى هذا فيكون « هَذَانِ خَصْمَانِ » معترضاً ، والجملة من « اخْتَصَمُوا » حالية وليست مؤكدة لأنها أخص من مطلق الخصومة المفهومة من « خَصْمَان » وقرأ الزعفراني في اختياره « قُطِعَتْ » مخفف الطاء ، والقراءة المشهورة تفيد التكثير وهذه تحتمله . والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] ، وقال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب . وقال بعضهم : يلبس أهل النار مقطعات من النار .
قوله : « يُصَبُّ » هذه الجملة تحتمل أن تكون خبراً ثانياً للموصول ، وأن تكون حالاً من الضمير في « لَهُمْ » ، وأن تكون مستأنفة . والحميم الماء الحار الذي انتهت حرارته ، قال ابن عباس : لو قطرت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها .
قوله : « يُصْهَر » جملة حالية من الحميم ، والصهر الإذابة ، يقال : صَهَرْتُ الشحم ، أي : أذبته ، والصهارة الألية المذابة ، وصهرته الشمس : أذابته بحرارتها ، قال :
3753- تَصْهَرُه الشَّمْسُ وَلاَ يَنْصَهِر ... وسمي الصِّهْرُ صِهْراً لامتزاجه بأصهاره تخيلاً لشدة المخالطة . وقرأ الحسن في آخرين « يُصَهِّر » بفتح الصاد وتشديد الهاء مبالغة وتكثيراً لذلك ، والمعنى : أن الحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم يذيب ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء .
قوله : « والجُلُود » فيه وجهان :
أظهرهما : عطفه على « ما » الموصولة ، أي : يذيب الذي في بطونهم من الأمعاء ، ويذاب أيضاً الجلود ، أي يذاب ظاهرهم وباطنهم .
والثاني : أنه مرفوع بفعل مقدر أي : يحرق الجلود .
قالوا : لأن الجلد لا يذاب إنما ينقبض وينكمش إذا صلي بالنار ، وهو في التقدير كقوله :

3754- عَلَفْتُهَا تِبْناً ( وَمَاءً بَارِداً ) ... 3755- وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا ... { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] فإنه على تقدير : وسقيتها ماء ، وكحلن العيون ، واعتقدوا الإيمان . قوله : « وَلَهُمْ مَقَامِعُ » يجوز في هذا الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه يعود على « الذين كفروا » ، وفي اللام حينئذ قولان :
أحدهما : أنها للاستحقاق . والثاني : أنها بمعنى ( على ) كقوله : « وَلَهُمُ اللَّعْنَة » وليس بشيء .
والوجه الثاني : أن الضمير يعود على الزبانية أعوان جهنم ، ودل عليهم سياق الكلام ، وفيه بعد . « مِنْ حَدِيد » صفة ل « مَقَامِعُ » ، وهي مِقْمَعَة بكسر الميم ، لأنها آلة القمع ، يقال : قمعه يقمعه : إذا ضربه بشيء يزجره به ، ويذله ، والمقمعة : المطرقة ، وقيل : السوط ، أي : سياط من حديد ، وفي الحديث « لَوْ وُضِعَتْ مِقْمَعَةٌ مِنْهَا في الأَرْضِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا الثَّقَلاَنِ ( مَا أَقَلّوهَا ) » .
قوله : « كُلَّمَا أَرَادُوا » . « كُلّ » نصب على الظرف ، وتقدم الكلام في تحقيقها في البقرة ، والعامل فيها هنا قوله : « أُعِيدُوا » . و « مِنْ غَمٍّ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه بدل من الضمير في « منها » بإعادة العمل بدل اشتمال كقوله : { لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] ، ولكن لا بد في بدل الاشتمال من رابط ، فقالوا : هو مقدر تقديره : من غمها .
والثاني : أنه مفعول له ، ولما نقص شرط من شروط النصب جر بحرف السبب . وذلك الشرط هو عدم اتحاد الفاعل ، فإن فاعل الخروج غير فاعل الغم ، فإن الغم من النار والخروج من الكفار . واعلم أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ، والمعنى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها . ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن : أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضُرِبُوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً .
قوله : « وَذُوقُوا » منصوب بقول مقدر معطوف على « أُعِيدُوا » أي : وقيل لهم : { ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } ، أي : المُحْرِق مثل الأليم والوجيع . قال الزجاج : هو لأحد الخصمين ، وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } .
قوله : « يُحَلَّوْنَ » العامة على ضم الياء وفتح اللام مشددة من حلاه يُحَلِّيه إذا ألبسه الحليّ . وقرئ بسكون الحاء وفتح اللام مخففة ، وهو بمعنى الأول كأنهم عدوه تارة بالتضعيف وتارة بالهمزة . قال أبو البقاء : من قولك : أُحْلي أي : أُلبس الحلي هو بمعنى المشدد .
وقرأ ابن عباس بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام مخففة ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه من حَلِيَت المرأة تَحْلَى فهي حال ، وكذلك حَلِيَ الرجل فهو حال ، إذا لبسا الحلي ( أو صارا ذوي حليّ ) .
الثاني : أنه من حَلِيَ بعيني كذا يحلى إذا استحسنه ، و « من » مزيدة في قوله « من أساور » قال : فيكون المعنى : يستحسنون فيها الأساور الملبوسة ولما نقل أبو حيان هذا الوجه عن أبي الفضل الرازي قال : وهذا ليس بجيد ، لأنه جعل حلي فعلاً متعدياً ، ولذلك حكم بزيادة ( من ) في الواجب ، وليس مذهب البصريين ، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز ، لأنه لا يحفظ بهذا المعنى إلا لازماً ، فإن كان بهذا المعنى كانت « من » للسبب ، أي بلباس أساور الذهب يُحَلّون بعين من رآهم أي يحلى بعضهم بعين بعض .

وهذا الذي نقله عن أبي الفضل قاله أبو البقاء ، وجوز في مفعول الفعل وجهاً آخر فقال : ويجوز أن يكون من حلي بعيني كذا إذا حسن ، وتكون « من » مزيدة ، أو يكون المفعول محذوفاً و « مِنْ أَسَاوِرَ » نعت له . فقد حكم عليه بالتعدي ليس إلا ، وجوز في المفعول الوجهين المذكورين .
والثالث : أنه من حلي بكذا إذا ظفر به ، فيكون التقدير : يُحَلَّوْنَ بأساور ، و « من » بمعنى الباء ، ومن مجيء حلي بمعنى ظفر قولهم : لم يَحْلَ فلان بطائل أي : لم يظفر به .
واعلم أن حلي بمعنى لبس الحلي أو بمعنى ظفر من مادة الياء لأنها من الحلية وأما حلي بعيني كذا ، فإنه من مادة الواو؛ لأنه من الحلاوة ، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .
قوله : { مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } . في من الأولى ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها زائدة كما تقدم تقريره عن الرازي وأبي البقاء ، وإن لم يكن من أصول البصريين .
الثاني : أنها للتبعيض أي : بعض أساور .
الثالث : أنها لبيان الجنس قاله ابن عطية ، وبه بدأ وفيه نظر ، إذ لم يتقدم شيء مبهم وفي « مِنْ ذَهَبٍ » لابتداء الغاية ، وهي نعت لأساور . كما تقدم .
وقرأ ابن عباس « مِنْ أسور » دون ألف ولا هاء ، وهو محذوف من « أساور » كما قالوا : جندل والأصل جنادل . قال أبو حيان : وكان قياسه صرفه ، لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجوداً فمنعه الصرف . قال شهاب الدين : فقد جعل التنوين في جندل المقصور من جنادل تنوين صرف ، وقد نصَّ بعض النحاة على أنه تنوين عوض ، كهو في جوارٍ وغواشٍ وبابهما والأساور جمع سوار .
قوله : « ولُؤْلُؤاً » قرأ نافع وعاصم بالنصب ، والباقون بالخفض . فأما النصب ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه منصوب بإضمار فعل تقديره : ويؤتون لؤلؤاً ، ولم يذكر الزمخشري غيره ، وكذا أبو الفتح حمله على إضمار فعل .
الثاني : أنه منصوب نسقاً على موضع « مِنْ أَسَاوِرَ » وهذا كتخريجهم « وَأَرْجُلَكُم » بالنصب عطفاً على محل « برؤوسكم » ، ولأن { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } في قوة : يلبسون أساور ، فحمل هذا عليه .
الثالث : أنه عطف على « أَسَاوِرَ » ، لأن « من » مزيدة فيها كما تقدم .

الرابع : أنه معطوف على ذلك المفعول المحذوف ، التقدير يحلون فيها الملبوس من أساور ولؤلؤاً ف « لُؤلُؤاً » عطف على الملبوس .
وأما الجر فعلى وجهين :
أحدهما : عطفه على « أَسَاوِر » .
والثاني : عطفه على « مِنْ ذَهَب » ، ( لأنَّ السوار يتخذ من اللؤلؤ أيضاً بنظم بعضه إلى بعض . فقد منع أبو البقاء أن يعطف على « ذَهَب » ) . قال : لأنَّ السوار لا يكون من اللؤلؤ في العادة . قال شهاب الدين : بل قد يتخذ منه في العادة السوار .
واختلف الناس في رسم هذه اللفظة في الإمام فنقل الأصمعي أنها في الإمام « لؤلؤ » بغير ألف بعد الواو . ونقل الجحدري أنها ثابتة في الإمام بعد الواو وهذا الخلاف بعينه قراءة وتوجيهاً جارٍ في حرف فاطر أيضاً . وقرأ أبو بكر في رواية المعلى بن منصور عنه « لؤلؤاً » بواو أولاً وياء آخراً ، والأصل « لؤلؤاً » أبدل الهمزتين واوين ، فبقي في آخر الاسم واو بعد ضمة ، ففعل فيها ما فعل بأدل جمع دلو بأن قلبت الواو ياء والضمة كسرة .
وقرأ ابن عباس « وَليلياً » بياءين فعل ما فعل الفياض ثم أتبع الواو الأولى للثانية في القلب وقرأ طلحة « وَلُولٍ » بالجرِ عطفاً على المجرور قبله ، وقد تقدم ، والأصل وَلُولُو بواوين ثم أعل إعلال أَدْلٍ . واللؤلؤ قيل : كبار الجوهر ، وقيل : صغاره .
قوله : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } أي أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم والمعنى أنه تعالى يوصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا . قال عليه السلام « مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ في الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ في الآخرة ، فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه » .
قوله : { وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول } . يجوز أن يكون « من القول » حالاً من « الطيب » ، وأن يكون حالاً من الضمير المستكن فيه . و « من » للتبعيض أو للبيان .
قال ابن عباس : الطيب من القول : شهادة أن لا إله إلا الله ، ويؤيد هذا قوله : { مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً } [ إبراهيم : 24 ] وقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] . وهو صراط الحميد ، لقوله : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] وقال ابن زيد : لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله . وقال السدي : هو القرآن . وقال ابن عباس في رواية عطاء : هو قول أهل الجنة : { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] . { وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد } إلى دين الله وهو الإسلام ، و « الحميد » هو الله المحمود في أفعاله .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } الآية . لما فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت ، وعظم كفر هؤلاء فقال { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام } وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد .
قال ابن عباس : نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية عن المسجد الحرام وعن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهَدْي ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالهم وهو محرم ، ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل .
قوله : « وَيَصدُّونَ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه معطوف على ما قبله ، وحينئذ ففي عطفه على الماضي ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنّ المضارع قد لا يقصد به الدلالة على زمن معين من حال أو استقبال وإنما يُراد به مجرد الاستمرار ، فكأنه قيل : إن الذين كفروا ومن شأنهم الصدّ عن سبيل الله ، ومثله : { الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله } [ الرعد : 28 ] .
الثاني : أنه مؤول بالماضي لعطفه على الماضي .
الثالث : أنه على بابه فإن الماضي قبله مؤول بالمستقبل .
الوجه الثاني : أنه حال من فاعل « كَفَرُوا » ، وبه بدأ أبو البقاء . وهو فاسد ظاهراً ، لأنه مضارع مثبت وما كان كذلك لا تدخل عليه الواو وما ورد منه على قلته مؤول ، فلا يحمل عليه القرآن . وعلى هذين القولين فالخبر محذوف ، واختلفوا في موضع تقديره ، فقدره ابن عطية بعد قوله : « وَالبَادِ » أي : إن الذين كفروا خسروا أو أهلكوا ، ونحو ذلك .
وقدره الزمخشري بعد قوله : « وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ » أي إن الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم ، وإنما قدره كذلك؛ لأن قوله : { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } يدل عليه . إلا أن أبا حيان في تقدير الزمخشري بعد « المَسْجِدِ الحَرَامِ » : لا يصح ، قال : لأن « الَّذِي » صفة للمسجد الحرام ، فموضع التقدير هو بعد « وَالْبَادِ » . يعني أنه يلزم من تقديره الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو خبر « إنَّ » فيصير التركيب : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم الذي جعلناه للناس .
وللزمخشري أن ينفصل عن هذا الاعتراض بأن « الَّذِي جَعَلْنَاه » لا نسلم أنه نعت للمسجد حتى يلزم ما ذكر بل نجعله مقطوعاً عنه نصباً أو رفعاً . ثم قال أبو حيان : لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية ، لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ وابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك .
الوجه الثالث : أن الواو في « وَيَصُدُّونَ » مزيدة في خبر « إنَّ » تقديره : إن الذين كفروا ( يصدون ) .

وزيادة الواو مذهب كوفي تقدم بطلانه . وقال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى المقصود . قال شهاب الدين : ولا أدري فساد المعنى من أي جهة ألا ترى لو صرح بقولنا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَصُدُّونَ ) لم يكن فيه فساد معنى ، فالمانع إنما هو أمر صناعي عند أهل البصرة لا معنوي ، اللهم إلا أن يريد معنى خاصاً يفسد بهذا التقدير فيحتاج إلى بيانه .
قوله : « الَّذِي جَعَلْنَاهُ » يجوز جره على النعت والبيان ، والنصب بإضمار فعل ، والرفع بإضمار مبتدأ . والجعل يجوز أن يتعدى لاثنين بمعنى صيّر ، وأن يتعدى لواحد . والعامة على رفع « سواء » . وقرأ حفص عن عاصم بالنصب هنا ، وفي الجاثية « سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ » وافقه على الذي في الجاثية الأخوان وسيأتي توجيهه . فأما على قراءة الرفع ، فإِن قلنا : إنَّ « جَعَلَ » بمعنى ( صير ) كان في المفعول الثاني ثلاثة أوجه :
أظهرها : أن الجملة من قوله : { سَوَآءً العاكف فِيهِ } هي المفعول الثاني ، ثم الأحسن في رفع « سَوَاءٌ » أن يكون خبراً مقدماً ، و « العاكف » ، والبادي مبتدأ مؤخر ، وإنما وَحَّد الخبر وإن كان المبتدأ اثنين ، لأنَّ « سَواءٌ » في الأصل مصدر وصف به ، وقد تقدم أول البقرة . وأجاز بعضهم أن يكون « سَوَاءٌ » مبتدأ ، وما بعده الخبر ، وفيه ضعف أو منع من حيث الابتداء بالنكرة من غير مسوّغ ، ولأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت المعرفة المبتدأ . وعلى هذا الوجه أعني كون الجملة مفعولاً ثانياً فقوله : « للنَّاس » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بالجعل ، أي : جعلناه لأجل الناس كذا .
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من مفعول « جَعَلْنَاهُ » ، ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجه غير ذلك ، وليس معناه متضحاً .
الوجه الثاني : أنَّ « لِلنَّاسِ » هو المفعول الثاني ، والجملة من قوله : « سَوَاءٌ العَاكِفُ » في محل نصب على الحال ، إما من الموصول وإما من عائده وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ، وفيه نظر؛ لأنه جعل هذه الجملة التي هي محطّ الفائدة فضلة .
الوجه الثالث : أن المفعول الثاني محذوف . قال ابن عطية : المعنى الذي جعلناه للناس قبلة ومتعبداً . فتقدير ابن عطية هذا مرشد لهذا الوجه . إلا أن أبا حيان قال : ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلا إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ؛ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني ، فلا يحتاج إلى هذا التقدير وإن جعلناها متعدية لواحد كان قوله : « لِلنَّاسِ » متعلقاً بالجعل على الغلبة وجوَّز فيه أبو البقاء وجهين آخرين :
أحدهما : أنه حال من مفعول « جَعَلْنَاهُ » .
والثاني : أنه مفعول تعدى إليه بحرف الجر .

وهذا الثاني لا يتعقل كيف يكون « لِلنَّاسِ » مفعولاً عدي إليه الفعل بالحرف هذا ما لا يعقل ، فإن أراد أنه مفعول من أجله فهي عبارة بعيدة من عبارة النحاة . وأما على قراءة حفص فإن قلنا : « جَعَلَ » يتعدى لاثنين كان « سواء » مفعولاً ثانياً . وإن قلنا : يتعدى لواحد كان حالاً من هاء « جَعَلْنَاهُ » وعلى التقديرين ف « العَاكِفُ » مرفوع به على الفاعلية؛ لأنه مصدر وصف به ، فهو في قوة اسم الفاعل المشتق ، تقديره : جعلناه مستوياً فيه العاكف ، ويدل عليه قولهم : مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٍ هُوَ وَالعَدَمُ ، فهو تأكيد للضمير المستتر فيه ، والعدم نسق على الضمير المستتر؛ ولذلك ارتفع ، ويروى : سَوَاءٍ وَالعَدَمُ؛ بدون تأكيد وهو شاذ وقرأ الأعمش وجماعة « سَوَاء » نصباً « العَاكِف » جرًّا ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من الناس بدل تفصيل .
والثاني : أنه عطف بيان ، فهذا أراد ابن عطية بقوله : عطفاً على الناس .
ويمتنع في هذه القراءة رفع « سَوَاءٌ » لفساده صناعة ومعنى ، ولذلك قال أبو البقاء : و « سَوَاء » على هذا نصب لا غير . وأثبت ابن كثير ياء « وَالبَادِي » وقفاً ووصلاً . وأثبتها أبو عمرو وورش وصلاً وحذفاها وقفاً . وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ، وهي محذوفة في الإمام .
فصل
معنى الكلام : ويصدون عن المسجد الحرام الذي جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكاً ومتعبداً كما قال : « وُضِعَ لِلنَّاسِ » وتقدم الكلام على معنى « سَوَاء » باختلاف القراءة .
وأراد ب « العَاكِف » المقيم فيه ، و « البَادِي » الطارئ من البدو ، وهو النازع إليه من غربته . وقال بعضهم : يدخل في « العَاكِف » الغريب إذا جاور ولزمه كالبعيد وإن لم يكن من أهله . واختلفوا في معنى « سَوَاء » فقال ابن عباس في بعض الروايات : إنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها ، فليس أحدهما أحق بالنزول الذي يكون فيه من الآخر إلا أن يكون أحدهما سبق إلى المنزل ، وهو قول قتادة وسعيد بن جبير ، ومن مذهب هؤلاء تحريم كراء دور مكة وبيعها ، واستدلوا بالآية والخبر أما الآية فهذه ، قالوا : إن أرض مكة لا تملك ، فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والباد ، فلما استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد . وأما الخبر فقوله عليه السلام : « مكة مناخ لمن سبق إليه » وهذا مذهب ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وأبي حنفية وإسحاق الحنظلي .
وقال عبد الرحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة أحق بمنزله منهم . وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم وعلى هذا فالمراد ب « المَسْجِدِ الحَرَامِ » الحرم كله؛ لأن إطلاق لفظ المسجد الحرام وإرادة البلد الحرام جائز لقوله تعالى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75