كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

فقوله { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمَسَّهُم عذاب عظيم ، وهذا هو المراد من قوله { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } [ الأنعام : 54 ] وقوله « سبقت رحمتي غضبي » .
وأمَّا على قول المعتزلة : فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر ، فكان معناه { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } في أنَّ من احترزَ عن الكبائر صارت صغائره مغفورة ، وإلاَّ لمسَّهُم عذابٌ عظيمٌ ، وهذا الحكمُ وإن كان ثابتاً في حقِّ جميع المسلمين ، إلاَّ أنَّ طاعات أهل بدر كانت عظيمة ، وهو قبولهم الإسلام ، وانقيادهم لمحمَّدٍ ، وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة فلا يبعد أن يقال : إنَّ الثَّواب الذي استحقُّوهُ على هذه الطاعات كان أزيدَ من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب ، لا جرمٍ صار هذا الذنب مغفوراًن ولو قدّرْنا صدور هذا الذنب من المسلمين ، لما صار مغفوراً ، فبسبب هذا القدر من التفاوت ، حصل لأهْلِ بدر هذا الاختصاص « .
قال ابن إسحاق : لم يكن من المؤمنين أحدٌ ممَّن حضر إلاَّ أحبَّ الفداء ، إلاَّ عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسُول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى ، وسعد بن معاذ قال : يا نَبِيَّ الله الإثْخَان في القَتْلِ أحب إليَّ من استبقاءِ الرِّحالِ ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم » لو نزل من السَّماءِ عذابٌ لما نَجَا منه غير عمر بن الخطاب ، وسعد بن معاذ «
قوله تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } الآية .
روي أنهم أمسكوا أيديهم عمَّا أخذُوا من الفداء ، فنزلت هذه الآية .
فإن قيل : ما معنى » الفاء « في قوله : » فَكُلُوا « ؟ فالجوابُ : التقدير قد أبحت لكم الغنائم فكلوا .
و » مَا « يجُوزُ أن تكون مصدرية ، والمصدرُ واقعٌ موقع المفعول ، ويجوزُ أن تكون بمعنى » الَّذي « وهو في المعنى كالذي قبله ، والعائد على هذا محذوف .

وقوله : « حَلاَلاً » نصبٌ على الحَالِ ، إمَّا من ما الموصولةِ ، أو من عائدها إذَا جعلناها اسمية .
وقيل : هو نعتُ مصدرٍ محذوف ، أي : أكْلاً حلالاً .
وقوله : « واتَّقُوا » قال ابنُ عطية : « وجاء قوله : » واتَّقُوا اللَّهَ « اعتراضاً فصيحاً في أثناء القولِ؛ لأنَّ قوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } متصلٌ بقوله : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } يعني : أنه متصلٌ به من حيث إنه كالعلة له . والمعنى : واتقوا اللَّهَ ولا تُقْدِمُوا بعد ذلك على المعاصي واعلموا أنَّ اللَّه غفور لما أقدمتم عليه من الزلة » .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

قوله تعالى : { ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى } الآية .
لمَّا أخذ الفداء من الأسارى ، وشق عليهم أخذ أموالهم ، ذكر اللَّهُ تعالى هذه الآية استمالة لهم .
قوله : « مِنَ الأسْرَى » قرأه أبو عمرو بزنة « فُعَالى » والباقون بزنة « فَعْلضى » وقد عُرِفَ ما فيهما .
ووافق أبا عمرو قتادة ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو جعفر . واختلف عن الجحدري والحسن . وقرأ ابنُ مُحَيْصنٍ « مِنْ أسْرَى » منكَّراً .
قوله : « يُؤتِكُمْ » جواب الشَّرط . وقرأ الأعمشُ « يُثِبْكم » من الثَّواب ، وقرأ الحسنُ وأبو حيوة وشيبة وحميد « مِمَّا أخَذَ » مبنياً للفاعل ، وهو الله تعالى .
فصل
وهذه الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب؛ وكان قد أسر يوم بدر .
وكان أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام أهل بدر ، وكان يوم بدر نوبته ، وكان خرج بعشرين وقية من ذهب ليطعم بها النَّاسَ ، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا وبقيت العشرون أوقية معه ، فأخذت منه في الحرب ، فكلَّم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه فأبى وقال : « أما شيء خرجت تستعين به علينا ، فلا أتركه » وكلفه فداء ابني أخويه عقيل بن أبي طالبٍ ، ونوفل بن الحارث ، فقال العبَّاسُ : يا محمَّدُ تركتني أتكَفَّفُ قريشاً ما بقيت؟ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وأيْنَ الذهبُ الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكَّة ، فقلت لها : إني لا أدري ما يُصيبني في وجهي هذا فإن حدث لي حدث ، فهو لك ولعبد الله ولعبيد الله والفضل وقُثَم » يعني : بنيه .
« فقال العبَّاس : وما يُدْريك؟ قال : » أخبرني به ربِّي «
قال العباسُ : أشهد أنَّك صادق وأن لا إله إلاَّ الله ، وأنَّك عبده ورسوله ، والله لم يطلعْ عليه أحدٌ إلاَّ الله ، ولقد رفعته إليها في سوادِ الليلِ ، وقد كنتُ مُرْتَاباً في أمرك ، فأمَّا إذْ أخبرتني بذلك ، فلا ريب .
فذلك قوله عز وجل : { ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى } الذين أخذتم منهم الفداء { إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } أي : إيماناً : { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } من الفداء : » ويغْفِرْ لَكُمْ « ذنوبكم : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال العباس فأبدلني اللَّهُ عنها عشرين عبداً كلهم تاجر بمالي ، وإنَّ أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية ، وأعطاني ومزم ، وما أحب أنَّ لي بها جميع أموالهم أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي .
قال قوم : إنَّها في العباس خاصة ، وقال آخرون : إنَّها نزلت في الكلِّ ، وهذا أولى لقوله تعالى : { قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى } ، ولقوله » مِنَ الأسْرَى « ، ولقوله » فِي قُلوبكم « ولقوله : يُؤتِكُمْ خَيْراً » ، ولقوله « مِمَّا أخذَ منكُمْ » ، وقوله : « ويَغْفِر لكُمْ » ، أٌصى ما في الباب أن يقال : سبب نزول الآية هو العباسُ ، إلاَّ أنَّ العبرة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّبَبِ .

فصل
احتج هشام بن الحكم على أنَّهُ تعالى لا يعلم الشَّيء إلاَّ عند حدوثه بهذه الآية ، لأن قوله : { إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } فعل كذا ، وكذا شرط وجزاء ، والشَّرط هو حصول هذا العلم ، والشرط والجزاء لا يصح حصولهما إلا في المستقبل ، وذلك يوجب حدوث علم الله تعالى .
والجواب : أنَّ ظاهر اللفظ وإن كان يقتضي ما ذكره ، إلاَّ أنه لمَّا دلَّ الدليلُ على أن علمالله يمتنع أن يكون محدثاً ، وجب أن يقال : ذكر العلم وأراد به المعلوم من حيث إنَّه يدل حصول العلم على حصول المعلوم .
قوله تعالى : { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } الآية .
الضمير في « يريدوا » يعود على « الأسْرَى » ، لأنهم أقربُ مذكور .
وقيل : على الجانحين .
وقيل : على اليهُود .
وقيل : على كُفَّار قريش .
قال ابن جريج : أراد بالخيانة الكفر أي : إن كفروا بك فقد كفروا باللَّهِ من قبل ، فأمكن منهم المؤمنين ببدر حتى قتلوهم .
وقيل : أراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء .
قال الأزهريُّ : يُقالُ أمكنني الأمْرُ يُمْكنُنِي فهُوا مُمْكِنٌ ، ومفعول الإمكان محذوف ، والمعنى : فأمكن المؤمنين منهم يوم بدر حتى قتلوهم وأسروهم .
ثم قال : « واللَّهُ عليمٌ » أي : ببواطنهم وضمائرهم : « حَكِيمٌ » يجازيهم بأعمالهم .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ } الآية .
اعلم أنَّهُ تعالى قسم المؤمنين في زمان الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - إلى أربعة أقسام وذكر حكم كل واحد منهم ، وتقرير هذه القسمة أنَّهُ - عليه الصلاة والسلام - لما ظهرت نبوته ودعا النَّاس إلى الدِّين ، ثم انتقل من مكَّة إلى المدينة ، فمنهم من وافقه في تلك الهجرة ، ومنهم من لم يوافقه فيها بل بقي في مكة .
أمَّا القسمُ الأوَّلُ : فهم المهاجرون الأوَّلُون ، وقد وصفهم الله بقوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } وإنما قلنا : إن المراد بهم المهاجرون الأولون؛ لأنَّهُ تعالى قال بعد ذلك : { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } وقال تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ } [ الحديد : 10 ] .
وقال : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار } [ التوبة : 100 ] .
القسم الثاني من الموجودين في زمان محمد - عليه الصلاة والسلام - وهم الأنصار؛ لأنَّهُ عليه الصلاة والسلام لمَّا هارج إليهم مع طائفة من أصحابه ، فلولا أنَّهم آووا ، ونصروا ، وبذلوا النَّفٍ والمال في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإصلاح مهمات أصحابه لما تمَّ المقصودُ ألبتَّة فحال المهاجر أعلى في الفضيلة من حال الأنصار؛ لنَّهم السَّابقون إلى الإيمان ، وتحمَّلُوا العناء والمشقة دهراً طويلاً من كفَّار قريش ، وصبروا على أذاهم ، وهذه الحالةُ ما حصلت للأنصارِ ، وفارقوا الأوطان ، والأهل ، والأموال ، والجيران ، ولم يحصل ذلك للأنصار ، وأيضاً فإنَّ الأنصار اقتدوا بهم الإسلام ، وهم السابقون للإيمان .
ولمَّا ذكر الله تعالى هذين القسمين ، قال : { أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } قال الواحديُّ عن ابن عباس وغيره من المفسرين « المراد في المرايث » وقالوا : جعل الله تعالى سببب الإرث الهجرة ، والنصرة دون القرابة ، وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث؛ لأنَّهُ لم يهاجر ولم ينصر .
واعلم أنَّ لفظ الولاية غير مشعرٍ بهذا المعنى؛ لأنَّ اللفظ مشعر بالقرِ على ما تقرَّر في هذا الكتاب .
ويقال : السلطانُ ولي من لا ولي له ولا يفيد الإريث .
وقال تعالى : { ألاا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ يونس : 62 ] ولا يفيدُ الإرث بل الولاية تفيد القرب ، فيمكن حمله على غير الإرث ، وهو كون بعضهم معظماً للبعض ، مهتماً بشأنه ، مخصوصاً بمعاونته ومناصرته ، وأن يكونوا يداً واحدة على الأعداء ، فحمله على الإرث بعيد عن دلالة اللفظ ، لا سيما وهم يقولون إن ذلك الحكم نسخ بقوله في آخر الآية : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } .
فأيُّ حاجة إلى حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به ، ثمَّ الحكم بأنَّهُ صار منسوخاً بآية أخرى مذكورة معه ، هذا في غاية البعد ، اللَّهم إذا حصل إجماع المفسرين على ذلك فيجب المصير إليه ، إلاَّ أنَّ دعوى الإجماع بعيد .

القسم الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا وبقوا في مكة ، وهم المراد بقوله { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } فقال تعالى : { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } ، فالولاية المنفية في هذه الصُّورة ، هي الولاية المثبتة في القسم المتقدم ، فما قيل هناك قيل هنا .
واحتج الذَّاهبون إلى أنَّ المراد من هذه الولاية الإرث ، بأن قالوا : لا يجوزُ أن يكُون المراد منها ولاية النصرة والدلي عليه أنَّه تعالى عطف عليه قوله : { وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر } وذلك عبارة عن الموالاة في الدِّين ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمراً مغايراً لمعنى النصرة ، وهذا استدلال ضعيف لأنا إذَا حملنا تلك الولاية على التَّعظيم والإكرام ، فهو أمرٌ مغاير للنصرة ، لأنَّ الإنسان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض المهمات ، مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم ، وقد ينصر عبده وأمته بمعنى الإعانة ، مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم ، فسقط هذا الاستدلال .
قوله : « مِن ولايتهم » قرأ حمزة هنا ، وفي الكهف « الولاية لِلَّه » هو ، والكسائي بكسر الواو ، والباقون بفتحها . فقيل : لغتان . وقيل : بالفتحِ من « المَوْلَى » يقال : مَوْلَى بيِّن الولاية ، وبالكسر من ولاية السلطان . قاله أبُو عبيد . وقيل : بالفتح من النُّصْرَة والنَّسب ، وبالكسر من الإمارة . قاله الزَّجَّاجُ قال : « ويجوز الكسرُ؛ لأنَّ في تولِّي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل ، وكلُّ ما كان من جنس الصناعة مكسورٌ كالخياطية والقصارة » ، وقد خطَّأ الأصمعيُّ قراءة الكسرِ ، وهو المُخْطِىءُ ، لتواترها .
وقال أبُو عبيدٍ : « والذي عندنا الأخْذُ بالفتح في هذين الحرفين؛ لأنَّ معناهما من الموالاة في الدِّين » .
وقال الفارسي : « الفتحُ أجودُ؛ لأنَّها في الدِّينِ » ، وعكس الفرَّاءُ هذا ، فقال « يُريدُ من مواريثهم ، فكسر الواو أحبُّ إليَّ من فتحها؛ لأنها إنَّما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائيُّ يذهبُ بفتحها إلى النصرة ، وقد سُمع الفتح والكسر في المعنى جَمِيعاً » .
قوله : « حتَّى يُهاجِرُوا » يُوهِمُ أنَّهم لمَّا لمْ يهاجروا مع رسُولِ الله سقطت ولايتهم مطلقاً فأزال الله هذا الوهم بقوله : { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } أي : أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية .
قوله تعالى : { وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر } .
لمَّا بيَّن قطع الولاية بين تلك الطَّائفة من المؤمنين ، بيَّن أنَّ المراد منه ليس هو المقاطعة التَّامة كما في حقِّ الكُفَّارِ ، بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا « لو استنصروكم فانصروهم » ولا تخذلوهم .
قوله : « فَعَليْكُم النَّصْرُ » مبتدأ وخبر ، أو فعل وفاعل عند الأخفش ، ولفظةُ « عَلَى » تُشعرُ بالوُجُوبِ ، وكذلك قدَّره الزمخشريُّ ، وشَبَّهه بقوله : [ الطويل ]

2741 - عَلَى مُكْثِريهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَريهم ... وعِنْدَ المُقلِّينَ السَّماحَةُ والبَذْلُ
قوله : { إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } أي : لا يجوز لكم نصرتهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك .
ثم قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ السلمي والأعرج : « يَعْمَلُون » بياء الغيبةِ وكأنه التفات ، أو إخبار عنهم .
قوله تعالى : { والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ } الآية .
اعلم أنَّ هذا لترتيبٌ في غاية الحسن؛ لأنَّهُ تعالى ذكر للمؤمنين أقساماً ثلاثة :
الأول : المؤمنون من المهاجرين .
والثاني : الأنصار وهم أفضل النَّاس وبيَّن أنه يجب أن يوالي بعضهم بعضاً .
والقسم الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا .
فهؤلاء لهم بسب بإيمانهم فضل ، وبسبب تركِ الهجرة لهم حالة نازلة ، فيكون حكمهم متوسطاً بمعنى أنَّ الولاية للقسم الأوَّل منفية عن هذا القسم ، إلاَّ أنَّهم يكونون بحيثُ لو استنصروا المؤمنين ، واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم ، فهذا الحكم متوسط بين الإجلال ، والإذلال ، وأمَّا الكفار فليس لهم ما يوجب شيئاً من أسباب الفضيلة ، فوجب كون المسلمين منقطعين عنهم من كل الوجوه ، فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصرة .
فصل
قال ابن عباس « يرث المشركون بعضهم من بعض » وهذا إنما يستقيم إذا حملنا الولاية على الإريث ، بل الحق أن يقال : إنَّ كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود فلمَّا ظهرت دعوة محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - تناصروا وتعاونوا على إيذائه ومحاربته ، فالمراد من الآية ذلك .
قوله « إلاَّ تَفْعَلُوه » الهاءُ تعودُ إمَّا على النَّصرِ ، أو الإرث ، أو الميثاق ، أي : حِفْظه أو على جميع ما تقدَّم ذكره ، وهو معنى قول الزمخشري : « ألاَّ تفعلُوا ما أمرتكُم به » .
وقرأ العامة « كبير » بالباء الموحدة ، وقرأ الكسائيُّ فيما حكى عنه أبو موسى الحجازي « كثير » بالثَّاءِ المثلثة ، وهذا قريب ممَّا في البقرة .
والمعنى : قال ابن عبَّاسٍ : « ألاَّ تأخُذُوا في الميراثِ بِمَا أمرتُكُم بِهِ » وقال ابنُ جريجٍ : « إلاَّ تتعاونُوا وتتناصَرُوا » .
وقال غيرهم : إن لم تفعلوا ما أمرتكم به في هذه التَّفاصيل المذكورة تحصل فتنة في الأرض ، قوة الكفر ، وفساد كبير ، وضعف الإسلام . وبيان هذه الفتنة والفساد من وجوه : الأول : أنَّ المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم ، وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم فربما صارت تلك المخالطة سبباً لالتحاق المسلم بالكافر ، وثانيها : أن المسلمين إذا تفرقوا لم يظهر لهم جمع عظيم ، فيصير ذلك سبباً لجراءة الكفار عليهم . وثالثها : إذا اكن جمع المسلمين يزيد كل يوم في العدة والقوة ، صار ذلك سبباً لمزيد رغبتهم في الإسلام ورغبة المخالف في الالتحاق بهم .
قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ } .
زعم بعضهم أنَّ هذه الجملة تكرار للتي قبلها ، وليس كذلك ، فإنَّ التي قبلها تضمنت ولاية بعضهم لبعض ، وتقسيم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام ، وبيان حكمهم في ولايتهم ، وتناصرهم وهذه تضمَّنت الثناء والتشريف والاختصاص ، ومال آل إليه حالهم من المغفرة والرزق الكريم والمعنى : « أولئك هم المُؤمنونَ حقّاً » لا مرية ولا ريب في إيمانهم ، وقيل : حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في الدين ، { لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } الجنة .

فإن قيل : فأي معنى لهذا التكرار . قيل : المهاجرون كانوا على طبقات ، وكان بعضهم أهل الهجرة الأولى ، وهم الذين هاجروا قبل الحديبية ، وبعضهم أهل الهجرة الثانية ، وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكَّة ، وكان بعضهم ذا هجرتين ، هجرة الحبشة ، والهجرة إلى المدينة ، فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى ومن الثانية الهجرة الثانية .
قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ } .
هؤلاء هم القسم الرابع من مؤمني زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، الذين لم يوافقوا الرسول في الهجرة ، إلاَّ أنهم بعد ذلك هاجروا إليه وجاهدوا معه .
واختلفوا في قوله « مِنْ بعْدُ » فقال الواحدي ، عن ابن عبَّاسٍ « بعد الحديبثة وهي الهجرة الثانية » .
وقيل : بعد نزول هذه الآية ، وقيل : بعد يوم بدر ، والأصحُّ أنَّ المراد : والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى ، وهؤلاء هم التابعون ، بإحسان ، كما قال : { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } [ التوبة : 100 ] والصحيح : أنَّ الهجرة انقطعت بفتح مكَّة ، لأنَّ مكة صارت بلد الإسلام .
وقال الحسن : « الهجرة غير منقطعة أبداً » . وأما قوله عليه الصلاة والسلام « لا هجْرةَ بعْدَ الفَتْحِ » فالمراد الهجرة المخصوصة ، فإنَّها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام ، أما لو اتفق في بعض الأمان كون المؤمنين في بلد ، وهم قليلون ، وللكافرين معهم شوكة ، وإن هاجروا المسلمون من تلك البلدة إلى بلد آخر ضعفت شوكة الكفار فهاهنا تلزمهم الهجرة على ما قاله الحسن؛ لأنَّ العلة في الهجرة من مكة إلى المدينة قد حصلت فيهم .
قوله { فأولئك مِنكُمْ } أي : معكم ، يريد : أنتم منهم وهو منكم .
ثم قال : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } .
قالوا : المراد بالولاية ولاية الميراث ، قالوا هذه الآية ناسخة؛ لأنَّهُ تعالى بيَّن أنَّ الإرث كان بسبب الهجرة والنصرة ، والآن بعد نسخ ذلك فلا يحصل الإرث إلاَّ بسبب القرابة .
وقوله : { فِي كِتَابِ الله } أي : السهام المذكورة في سورة النّساء ، وأمَّا الذين فسَّرثوا الولاية بالنَّصرة والتَّعظيم قالوا « : إنَّ تلك الولاية لمَّا كانت محتملة للولاية بسبب الميراث بين الله تعالى في هذه الآية أنَّ ولاية الإرث إنَّما تحصل بسبب القرابة ، إلاَّ ما خصَّ الدليل ، فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة هذا الوهم .
فصل
تمسَّك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام ، وأجيبوا بأن قوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } مجمل في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية .
فلما قال : { فِي كِتَابِ الله } كان معناه في الحكم الذي بيَّنه اللَّهُ في كتابه فصارت هذه الأولوية مقيَّدة بالأحكام التي بيَّنها اللَّهُ في كتابه وتلك الأحكام ليست إلاَّ ميراث العصبات ، فيكونُ المرادُ من هذه المجمل هو ذلك فقط ، فلا يتعدَّى إلى توريث ذوي الأرحام .

فإن قيل تمسكوا بهذه الآية في أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب ، لقوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } [ الأنفال : 75 ] فدل على ثبوت الأولوية ، وليس في الآية شيء معين في ثبوت هذه الأولوية؛ فوجب حمله على الكل ، إلاَّ ما خصّه الدَّليل ، فيندرج فيه الإمامة ، ولا يجوزُ أن يقال : إنَّ أبا بكر من أولي الأرحام ، لما نقل أنَّهُ عليه الصلاة والسلام أعطاءه سورة براءة ليبلغها إلى القوم ثم بعت علياً خلفه وأمر أن يكون المبلغ هو علي ، وقال : « لا يُؤدِّيها إلاَّ رجلٌ مِنِّي » وذلك يدلُّ على أنَّ أبا بكر ما كان منه .
والجوابُ : إن صحَّت هذه الدلالة كان العباس أولى بالإمامةِ؛ لأنَّهُ كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عليٍّ .
قول : { فِي كِتَابِ الله } يجوزُ أن يتعلَّق بنصّ أولها أي : أحق في حكم الله أو في القرن ، أو في اللوح المحفوظ ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هذا الحكمُ المذكور في كتاب الله .
ثم قال : { إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : أنَّ هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب ، وليس فيها شيء من العبث؛ لأنَّ العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلاَّ بالصَّواب .
روى أنس قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورة الأنفال وبراءة فأنَّا شَفِيعٌ لَهُ يوم القيامة ، وشاهد أنَّه بريءٌ منَ النِّفاق وأعطي من الأجْرِ بعددِ كُلِّ مُنافقٍ ومُنافِقَةٍ في دارِ الدُّنْيَا عشر حسناتٍ ، ومُحِيَ عنه عشرُ سيئاتِ ، ورفع لهُ عشرُ درجاتٍ ، وكان العَرْشَ وحملته يُصَلُّون عليه أيَّام حياتِهِ في الدنيا »

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)

قوله تعالى : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } الآية .
الجمهور على رفع بَراءَةٌ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّها رفعٌ بالابتداء ، والخبرُ قوله { إِلَى الذين } وجاز الابتداءُ بالنَّكرة؛ لأنَّها تخَصَّصَتْ بالوَصْفِ بالجارِّ بعدها ، وهو قوله مِنَ اللهِ كما تقولُ رجُلٌ من بني تميم في الدَّارِ .
والثاني : أنَّها خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : هذه الآياتُ براءةٌ ، ويجوز في مِنَ اللهِ أن يكون متعلقاً بنفس براءةٌ؛ لأنها مصدرٌ ، كالثَّناءة والدَّناءة . وهذه المادة تتعدَّى ب « مِنْ » ، تقولُ : بَرِئتُ من فلانٍ ، أبرأ براءةً ، أي : انقطعتِ العُصبةُ بَيْنَنَا ، وعلى هذا ، فيجوزُ أن يكون المُسوِّغُ للابتداء بالنَّكرة على الوجه الأوَّل هذا . وإلى الَّذينَ متعلقٌ بمحذوف على الأوَّلِ ، لوقوعهِ خبراً ، وبنفس « بَرَاءَةٌ » على الثَّاني ، ويقال : بَرِئْتُ ، وبَرَأتُ من الدين ، بالكسْرِ والفتح ، وقال الواحديُّ : « ليس فيه إلاَّ لغةٌ واحدة ، كسرُ العينِ في الماضي وفتحُها في المستقبل » . وليس كذلك ، بل نقلهما أهلُ اللغةِ ، وقرأ عيسى بن عمر « بَرَاءَةٌ » بالنصب على إضمار فعل أي اسمعُوا براءةً .
وقال ابنُ عطيَّة « أي : الزموا براءة ، وفيه معنى الإغراء » وقرىء « مِن اللهِ » بكسر نون « مِنْ » على أصل التقاءِ السَّاكنينِ ، أو على الإتباع لميم « مِنْ » وهل لُغَيَّةٌ ، فإنَّ الأكثر فتحها مع لام التَّعريفِ ، وكسرها مع غيرها ، نحو « مِن ابنك » ، وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما ، وحكى أبُو عُمَرَ عن أهل نجران أنَّهم يَقْرَءُونَ كذلِك ، بكسر النونِ مع لام التَّعريف .
فإن قيل : ما السَّبب في أنَّ نسب البراءة إلى الله ورسوله ، ونسب المُعاهدةِ إلى المشركين؟ فالجوابُ : قد أذن اللهُ في معاهدة المشركين ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدهم ، ثم إنَّ المشركين نقضُوا العهد؛ فأوجَبَ اللهُ النَّبْذَ إليهم ، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك ، وقيل لهم : اعلموا أنَّ الله ورسوله قد برئا ممَّا عاهدتم من المشركين . روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا خرج إلى تبوك وتخلف المنافقون ، وأرجفوا بالأراجيف ، وجعل المشركون ينقضون العهد ، فأمر الله تعالى بنقض عهودهم ، التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الزجاج : « بَراءَةٌ » أي : قد بَرِىء الله ورسولهُ من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا .
فإن قيل : كيف يجوزُ أن ينقض النبي صلى الله عليه وسلم العهد؟ .
فالجوابُ : لا يجوز أن ينقض العهد إلاَّ على ثلاثة أوجه :
فالأول : أن يظهر له منهم خيانةٌ مستورة ويخاف ضررهم ، فينبذ العهد إليهم ، حتَّى يستووا في معرفة نقض العهد ، لقوله { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } [ الأنفال : 58 ] وقال أيضاً : { الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ }

[ الأنفال : 56 ] .
الثاني : أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم بما أمر الله به ، فلمَّا أمر الله تعالى بقطع العهدِ بينهم قطع لأجل الشرط .
الثالث : أن يكون مؤجلاً فتنقضي المدَّةُ وينقضي العهدُ ، ويكونُ الغرض من إظهار البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود للعهد ، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة ، فأمَّا فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوزُ نقض العهد ألبتَّةَ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول ، والله ورسوله بريئان منه؛ ولهذا المعنى ألبتَّةَ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول ، والله ورسوله بريئان منه؛ ولهذا المعنى قال تعالى : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } [ التوبة : 4 ] ، وقيل : إنَّ أكثر المشركين نقضوا العهد إلاَّ بنُو ضمرة وبنُو كنانة .
قوله : { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين } الخطاب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم؛ لأنه عاهدهم وأصحابه بذلك راضون ، فكأنَّهم « عَاقَدُوا » وعاهدوا .
قوله : « فَسِيحُواْ » . قال ابنُ الأنباري : « هذا على إضمار القولِ ، أي : قل لهم فسيحوا » ويكون التفاتاً من الغيبة إلى الخطابِ ، كقوله : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } [ الإنسان : 21-22 ] ، ويقال : سَاحَ يَسيحُ سِياحةً وسُيُوحاً وسَيحَاناً أي : انساب ، لِسَيْح الماء في الأماكن المنبسطة ، قال طرفة : [ السريع ]
2742- لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَني ... حتَّى ترى خَيْلاً أمَامِي تَسِيحْ
و « أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ » ظرف ل « سِيحُوا » ، وقرىء « غَيْرُ مُعْجِزي اللهَ » بنصب الجلالةِ على أنَّ النون حُذفتْ تخفيفاً ، وقد تقدَّم تحريره .
فصل
المعنى : قال لهم سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين ، آمنين غير خائفين : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } أي : غير فائتين ولا سابقين : { وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين } أي : مذلهم بالقتال في الدُّنيا والعذاب في الآخرة .
واختلفوا في هذه الأشهر الأربعة ، فقال الزهريُّ : « إن براءةَ نزلت في شوال ، وهي أربعة أشهر : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم » ، والصَّواب الذي عليه الأكثرون : أنَّ ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر ، وانقضاؤه إلى عشرين من ربيع الآخر ، ومن لم يكن له عهد ، فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم ، وذلك خمسون يوماً ، وقيل : ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول؛ لأنَّ الحجَّ في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النَّسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السَّنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع ويدلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام :
« ألا إنَّ الزَّمَانَ قَد اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَق اللهُ السَّمَاوَاتِ والأرْض » .
فصل
اختلف العلماء في هذا التأجيل ، وفي هؤلاء الذين برىء الله ورسوله من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال جماعة : هذا تأجيلٌ للمشركين ، فمن كانت مدةُ عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر ، ومن كانت مدته أكثر من أربعة أشهر حطه إلى أربعة أشهر ، ثمَّ هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله ، فيقتل حيثُ يدرك ويؤسر إلاَّ أن يتوب .
وقال الكلبيُّ : إنما كانت الأربعةُ أشهر من كان له عهد دون أربعة فأتموا له أربعة أشهر ، فأمَّا من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله : { فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } .
قال الحسنُ « أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال مَنْ قاتله من المشركين ، فقال : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } [ البقرة : 190 ] وكان لا يقاتلُ إلاَّ من قاتله ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم ، وأجلهم أربعة أشهر ، فلم يكن لأحدٍ منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البراءة ، ولا من لم يكن له عهد ، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر ، وأحل دماء جميعهم من أهل العهود وغيرهم بعد انقضاء الأجل » .
والمقصود من هذا الإعلام أمور :
أولها : أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر ، ويعلموا أنَّه ليس لهم بعد هذه المدة إلاَّ أحد أمور ثلاثة :
إمَّا الإسلامُ أو قبول الجزية أو السيف ، فيصير ذلك حاملاً لهم على الإسلام .
وثانيها : لئلاَّ ينسب المسلمون إلى نكث العهد .
وثالثها : أراد اللهُ أن يعمَّ جميع المشركين بالجهاد ، فعمَّ الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر ، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار ، ولا يصحُّ ذلك إلا بنقض العهود .
ورابعها : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج في السَّنة الآتية ، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلاَّ يشاهدة العراة ، وقيل : نزل هذا قبل تبوك .
وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما : نزلت في أهل مكَّة . وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً عام الحديبية ، على أن يضعوا الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ودخلت خزاعةُ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عدتْ بنو بكر على خزاعة فنالت منها ، وأعانتهم قريش بالسِّلاح فلمَّا تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ، ونقضوا العهد ، خرج عمرو بن سالم الخزاعيُّ ، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : [ الرجز ]
2743- لا هُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّداَ ... حِلْفَ أبينَا وأبيهِ الأَتْلَدَا
كنتَ لَنَا أباً وكُنَّا وَلَدَا ... ثُمَّتَ أسلَمْنَا ولمْ نَنْزِعْ يَدَا
فانصُرْ هَداكَ اللهُ نَصْراً أبَدَا ... وادْعُ عِبَادَ اللهِ يأتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... فِي فَيْلقٍ كالبَحْرِ يَجْرِي مُزبدَا
أبْيَضَ مثلَ الشَّمسِ يَسْمُو صَعدَا ... إن سيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَربَّدَا
إنَّ قُريشاً أخلفُوكَ المَوْعِدَا ... ونَقَضُوا ميثاقَك المُؤكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بالهَجيرِ هُجَّدَا ... وقَتلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا
وزعَمُوا أنْ لسْتَ تَدْعُو أحَدَا ... وهُمْ أذَلُّ وأقَلُّ عَدَدَا

فقال رسُول الله « لا نُصِرتُ إنْ لَمْ أنصرْكم » ، ثمَّ تجهَّز إلى مكة ، ففتح مكَّة سنة ثمان من الهجرة ، فلمَّا كانت سنة تسع أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحُجَّ ، ثم قال : إنَّه يحضر المشركون ، فيطوفون عراةً .
فبعث أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم ، ليقيم للنَّاس الحجَّ ، وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة « براءة » ليقرأها على أهل الموسم ، ثم بعث عليّاً على ناقته العضباء ليقرأ على النَّاس « براءة » وأمره أن يؤذن بمكَّة ، ومنى ، وعرفة أن قد برئت ذمة الله ، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلِّ مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان ، فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أنزل في شأني شيء؟ قال : لا ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلاَّ رجل من أهلي ، أما ترضى يا أبا بكر أنَّك كنت معي في الغار ، وأنَّك صاحبي على الحوضِ؟ قال : بَلَى يا رسول الله ، فسار أبو بكر أميراً على الحجِّ ، وعليّ ليُؤذن ب « براءة » فلمَّا كان قبل التَّرْوية بيوم خطب أبو بكر النَّاس ، وحدَُّهم عن مناسكهم ، وأقام للنَّاس الحجَّ ، والعرب في تلك السنةِ على منازلهم التي كانُوا عليها في الجاهلية من الحجِّ ، حتَّى إذا كان يوم النَّحر ، قام عليُّ بنُ أبي طالب فأذَّن في النَّاسِ بالذي أمر به ، وقرأ عليهم سورة « براءة » .
قال زيدُ بن يثيع : سألنا عليّاً بأي شيء بعثت في الحجِّ؟ قال « بعثتُ بأربع : ألاَّ يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النَّبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، ولا يدخلُ الجنَّة إلاَّ نفسَّ مؤمنةٌ ، ولا يجتمعُ المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا » . ثمَّ حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع .
وكان السَّبب في بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليّاً ، أنَّ العرب تعارفُوا فيما بينهم في العهود ونقضها ألاَّ يتولَّى ذلك إلا سيدهم ، أو رجل من رهطه ، فبعث عليّاً إزاحة للعلَّة ، لئلاَّ يقولوا هذا خلاف ما نعرفه في نقض العهود .
والدليل على أنَّ أبا بكر كان هو الأمير ، أنَّ عليّاً لمَّا لحقهُ قال : أمير أو مأمور؟ فقال : مأمور ، ثم ساروا وقال أبو هريرة « بعثني أبو بكر في تلك الحجَّة في مؤذنين يوم النَّحْر ، يؤذِّن بمنى ألاَّ يحجَّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان » .
قوله وأذانٌ . رفع بالابتداء ، أي : أذان صادر ، أو إعلام واصل ، ومِنَ اللهِ إمَّا صفةً ، أو متعلقٌ به ، وإلى النَّاسِ الخبر ، ويجوزُ أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ أي : وهذا إعلامٌ ، والجارَّان متعلقان به ، كما تقدَّم في براءة .

قال أبو حيَّان : « ولا وجه لقولِ من قال : إنه معطوف على » بَرَاءَةٌ « ، كما لا يقال » عمرو « معطوف على » زيد « في : زيد قائم وعمرو قاعد » .
وقرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل « وإذْن » بكسر الهمزة وسكون الذَّال ، وقرأ العامَّةُ « أنَّ الله » بفتح الهمزة على أحد وجهين ، إمَّا كونه خبراً ل « أذانٌ » ، أي : الإعلامُ من اللهِ براءة من المشركين . وضعَّف أبو حيان هذا الوجه ، ولم يذكر تضعيفه . وإمَّا على حذف حرفِ الجرِّ ، أي : بأنَّ الله ، ويتعلَّقُ هذا الجارَّ إمَّا بنفس المصدر ، وإمَّا بمحذُوفٍ على أنه صفة ويَوْمَ منصوبٌ بما تعلَّق به الجارُّ في قوله إلى النَّاسِ . وزعم بعضهم أنَّه منصوبٌ ب « أذَانٌ » وهو فاسدٌ من وجهين :
أحدهما : وصفُ المصدر قبل عمله .
الثاني : الفَصْلُ بينه وبين معموله بأجنبي ، وهو الخبرُ ، وقرأ الحسنُ والأعرج بكسر الهمزة وفيه المذهبان المشهوران ، مذهبُ البصريين إضمارُ القول ، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ الأذانِ مُجْرَى القول .
فصل
والأذانُ : الإعلامُ ، قال الأزهري : « آذنْتُه إيذاناً . فالأذانُ يقوم مقام الإيذان ، وهو المصدر الحقيقي » ومنه : أذان الصَّلاة ، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام للاّتي غسَّلن ابنته زينب : « فإذا فَرغتن فآذنَّني » أي : أعلمنني ، فلمَّا فرغنا آذنَّاهُ ، أي : أعلمناه ، والأذانُ معروفٌ .
ونقل النووي في « التهذيب » عن الهرويِّ قال : ويقال فيه الأذان ، والأذين ، والإيذان قال : وقال شيخي : الأذينُ هوالمؤذن المعلم بأوقات الصلوات « فعيل » بمعنى « مفعل » [ وقوله عليه السلام : « ما أذِن الله كأذنه » بكسر الذال منه ، وقوله : « كأذَنِهِ » بفتح الذال ، والأذن بضم الذال وسكونها : أذن الحيوان ، مؤنثة ، وتصغيرها : أذينة . و « إذن » في قوله عليه السلام : « فلا إذن » حرف مكافأة وجواب ، يكتب بالنون ، وإذا وقفت على « إذن » قلت كما تقول : رأيت زيداً . قال الجوهري ] .
قوله : « مِنَ المُشركِينَ » متعلقٌ بنفس « بَرِيءٌ » ، ما يقال : بَرئْتُ منه ، وهذا بخلاف قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله } [ التوبة : 1 ] فإنَّها هناك تحتمل هذا ، وتحتمل أن تكون صفة ل « بَراءَةٌ » .
قوله ورسُولُهُ الجمهور على رفعه ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ ، والخبرُ محذوفٌ أي : ورسوله بريءٌ منهم ، وإنَّما حذف ، للدلالةِ عليه .
والثاني : أنه معطوفٌ على الضمير المستتر في الخبر ، وجاز ذلك للفصل المسوِّغ للعطف ، فرفعه على هذا بالفاعلية والتقدير : برئ الله ورسوله [ من المشركين ] .
الثالث : أنه معطوف على محلِّ اسم « أنَّ » وهذا عند من يجيز ذلك في المفتوحة قياساً على المكسورةِ ، قال ابنُ عطيَّة « ومذهبُ الأستاذ - يعني ابن البَاذشِ - على مقتضى كلام سيبويه أن لا موضع لما دخلت عليه [ » أنَّ « إذ هو معربٌ ، قد ظهر فيه عمل العامل ، وأنه لا فرق بين » أنَّ « وبين » لَيْتَ « والإجماعُ على أن لا موضع لما دخلتْ عليه ] هذه » .

قال أبو حيَّان : « وفيه تعقُّبٌ؛ لأنَّ كون » أنَّ « لا موضع لما دخلتْ عليه ليس ظهور عمل العامل بدليل » لَيْسَ زيد بقائم « وما في الدَّار من رجل ، فإنه ظهرعمل العامل ولهما موضع وقوله : » بالإجماع « يريد أنَّ » ليت « لا موضع لما دخلت عليه بالإجماع ، وليس كذلك؛ لأن الفراء خالف ، وجعل حكم » لَيْتَ « وأخواتها جميعاً حكم » إنَّ « بالكسر » .
قال شهابُ الدين قوله : « بدليل ليس زيد بقائم . . » إلى آخره قد يظهر الفرقُ بينهما ، فإنَّ هذا العامل ، وإن ظهر عمله في حكم المعدُومِ ، إذ هو زائد ، فلذلك اعتبرنا الموضع معه ، بخلاف « أنَّ » بالفتح ، فإنَّه عاملٌ غيرُ زائد ، وكانَ ينبغي أن يردَّ عليه قوله : وأنْ لا فرق بين « أنَّ » وبين « لَيْتَ » فإنَّ الفرق قائمٌ ، وذلك أنَّ حكم الابتداء قد انتسخ مع « لَيْتَ » ، و « لَعلَّ » ، و « كأنَّ » لفظاً ومعنًى ، بخلافه مع « إنَّ » ، و « أنَّ » ، فإنَّ معناه معهما باقٍ . وقرأ عيسى بن عمر ، وزيد بن علي وابن أبي إسحاق « ورسوله » بالنَّصبِ ، وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطفٌ على لفظ الجلالة ، والثاني : أنه مفعولٌ معه .
قال الزمخشريُّ . وقرأ الحسنُ « ورسُولِهِ » بالجرِّ ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه مقسمٌ به ، أي : ورسوله إن الأمر كذلك ، وحذف جوابه لفهم المعنى .
والثاني : أنه على الجواز ، كما أنهم نَعَتُوا وأكَّدوا على الجواز ، وقد تقدَّم تحقيقه . وهذه القراءةُ يبعدُ صحتُها عن الحسن ، للإبهام ، حتَّى يحكى أنَّ أعرابياً سمع رجلاً يقرأ « ورَسُولِهِ » بالجر ، فقال الأعرابيُّ : إن كان الله قد بَرِىء من روسله فأنا بريء منه ، فَلَبَّبه القارىء إلى عمر - رضي الله عنه - فحكى الأعرابيُّ الواقعة ، فحينئذ أمر عمرُ بتعليم العربيَّة . ويحكى أيضاً هذه عن أمير المؤمنين عليّ ، وأبي الأسود الدُّؤلي - رضي الله عنهما - قال أبُو البقاءِ : « ولا يكون عطفاً على » المشركين « لأنَّه يؤدي إلى الكفر » . وهذا واضح .
فصل
قال بعض المفسرين قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين } جملة تامة مخصوصة بالمشركين ، وقوله : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر } جملة أخرى ثانية معطوفة على الجملة الأولى ، وهي عامة في حق جميع النَّاسِ؛ لأنَّ ذلك يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك ، من حيثُ إنَّ الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعاً ، فيجبُ على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يباحُ فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه ، فأمره تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر ، وهو الجمع الأعظم ، ليصل ذلك الخبر إلى الكل ، فيشتهر .

وفي هذا العطف الإشكال الذي ذكره أبو حيان في صدر الآية عند قوله { وَأَذَانٌ مِّنَ الله } .
فصل
اختلفوا في يوم الحجِّ الأكبر ، فقال ابن عباس في رواية عكرمة « إنَّه يومُ عرفةَ » وهو قول عُمر ، وسعيد بن المسيب ، وابن الزبير ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وإحدى الروايتين عن علي ، ورواية المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيَّة عرفة ، فقال : « أمَّا بعدُ فإنَّ هذا يوم الحج الأكبر » لأنَّ معظم أفعال الحج فيه ، وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقف يوم النَّحر عند الجمرات ، وقال : « هذا يومُ الحج الأكبر » وقال عليه الصلاة والسلام « الحج عرفةُ » ولأنَّ أعظم أعمال الحج الوقوف بعرفة؛ لأ ، َّ من أدركه ، فقد أدرك الحجَّ ، ومن فاته فقد فاته الحجُّ .
وقال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء يوم الحج الأكبر : يوم النحر ، وهو قول النخعيّ ، والشعبيّ ، والسديّ ، وإحدى الروايتين عن عليٍّ ، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير .
وروى ابن جريج عن مجاهد أنه قال : يوم الحجِّ الأكبر أيَّام منى كلها ، وهو مذهب سفيان الثَّوريّ ، وكان يقول : يوم الحجِّ الأكبر : أيامه كلها ، كما يقال : يوم صفين ، ويوم الجمل ، ويراد به الحين والزمان .
وأما تسيمته بيوم الحج الأكبر ، فإن قلنا : إنَّه يوم عرفة؛ فلأنه أعظم واجباته ، ومن فاته الحجُّ ، وكذلك إن قلنا : إنَّه يوم النحر ، لأن معظم أفعال الحج يفعل فيه ، وقال الحسنُ : سُمِّيَ بذلك لاجتماعِ المسلمين والمشركين فيه ، وموافقته لأعياد أهل الكتاب ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمنٍ وكافر ، وطعن الأصم في هذا الوجه وقال : عيدُ الكفَّارِ فيه سخط . وهذا الطَّعن ضعيفٌ؛ لأنَّ المرادَ أنَّ ذلك اليوم استعظمه جميع الطوائف ، فلذلك وصف بالأكبر .
وقيل سُمِّي بذلك؛ لأن المسلمين والمشركين حَجُّوا في تلك السَّنة ، وقيل : الأكبرُ الوقوف بعرفة والأصغر النَّحر ، قاله مجاهدٌ ، ونقل عن مجاهدٍ : الأكبر القرانُ ، والأصغر الإفراد ، فإن قيل : قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين } وقوله { أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ } لا فرق بينهما ، فما فائدة هذا التكرار؟
فالجواب من وجوه :
الأولُ : أنَّ المقصودَ من الأوَّلِ البراءة من العهد ، ومن الثاني : البراءة التي هي نقيض الموالاة ، ويدلُّ على هذا الفرقِ في البراءة الأولى برىء إليهم ، وفي الثانية برئ منهم .
الثاني : أنَّهُ تعالى في الكلام الأوَّل ، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد ، وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معيّن ، تنبيهاً على أنَّ الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم .

قوله « فإن تُبْتُمْ » عن الشكر ، وأخلصتم التَّوحيدَ : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أعرضتم عن الإيمان { فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } وذلك وعيد عظيم .
ثم قال { وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } في الآخرة ، والبشارةُ - ههنا - وردت على سبيل الاستهزاء كما يقال : تحيتهم الضرب ، وإكرامهم الشَّتم .
قوله { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين } في هذا الاستثناء ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه استثناءٌ منقطعٌ ، والتقديرُ : لكن الذين عاهدتم فأتمُّوا إليهم عهدهم ، وإلى هذا نحا الزَّمخشري ، فإنه قال : « فإن قلت : ممَّا استثنى قوله : » إلاَّ الذينَ عاهَدتُّم « ؟ قلت : وجهه أن يكون مستثنى من قوله : » فسيحُوا في الأرضِ « ؛ لأنَّ الكلام خطابٌ للمسلمين ومعناه : براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، فقولوا لهم : سِيحُوا إلاَّ الذين عاهدتم منهم ، ثُمَّ لَمْ ينقصوا فأتموا إليهم عهدهم ، والاستثناءُ بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل بعد أن أمروا في النَّاكثين ، ولكن الذين لم ينكثوا ، فأتمُّوا إليهم عهدهم ، ولا تجروهم مجراهم .
الثاني : أنَّه استثناءٌ متصلٌ ، وقبلهُ جملةٌ محذوفة ، تقديره : اقتلوا المشركين المعاهدين إلاَّ الذين عاهدتم ، وفيه ضعفٌ؛ قاله الزَّجَّاجُ ، فإنَّه قال : » إنَّه عائد إلى قوله : « براءةٌ » والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلاَّ الذين لم ينقضوا العهد « .
الثالث : أنَّه مبتدأ ، والخبر قوله : » فأتمُّوا إليهِمْ « قاله أبو البقاءِ ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الفاء تزاد في غير موضعها ، إذ المبتدأ لا يشبه الشَّرط؛ لأنَّه لأناسٍ بأعيانهم ، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش ، إذ يُجوِّز زيادتها مطلقاً ، والأولى أنَّهُ منقطعٌ ، لأنَّا لو جعلناهُ متصلاً مستثنى من المشركين في أوَّل السُّورة ، لأدَّى إلى الفصل بين المستثنى ، والمستثنى منه بجملٍ كثيرة .
قوله { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } الجمهور » يَنقصُوكُم « بالصَّاد المهملة ، وهو يتعدَّى لواحدٍ ، ولاثنين ، ويجوزُ ذلك فيه هنا ف » كُمْ « مفعولٌ أول ، و » شَيْئاً « إمَّا معفول ثان ، وإمَّا مصدرٌ ، أي : شيئاً من النقصان ، أو : لا قليلاً ، ولا كثيراً من النقصان .
وقرأ عطاءُ بن السائب الكوفي وعكرمة ، وابن السَّمَيْفع ، وأبو زيد » يَنقُضُوكم « بالضَّاد المعجمة وهي على حذف مضاف ، أي : ينقضُوا عهدكم ، فحذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه .
قال الكرمانيُّ : » وهي مناسبة لذكر العهد « . أي : إنَّ النقضَ يُطابق العهد ، وهي قريبة من قراءة العامَّة ، فإنَّ من نقض العهد فقد نقص من المدة ، إلاَّ أنَّ قراءة العامة أوقعُ لمقابلها التمام .
فصل
ومعنى قوله : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين } وهم بنو ضمرة حي من كنانة ، أمر الله ورسوله بإتمام عهدهم إلى مدتهم ، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشعر وكان السَّبب فيه أنهم لم ينقضوا ، أي : لم ينقضوا شيئاً من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه ، » ولمْ يُظاهِرُوا « لم يعامونا » عَليكُمْ أحَداً « من عدوكم ، » فأتمُّوا إليهم عهدَهُم « الذي عاهدتموهم عليه ، أي : أوفوقا بعهدهم : » إلى مُدتِهِم « إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه » إنَّ الله يحبُّ المُتَّقِينَ « أي : إنَّ هذه الطائفة لما اتقوا النقض ، ونكث العهد ، استحقوا من اللهِ أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث .

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)

قوله تعالى : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } الآية .
قال الليثُ « يقال سلختُ الشهر : إذا خرجت منه » . و « الانسلاخُ » هنا من أحسن الاستعارات ، وقد بيَّن ذلك أبو الهيثم ، فقال : « يقال : أهْللنا شهر كذا ، أي : دخلنا فيه ، فنحنُ نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفه لباساً ، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ » ؛ وأنشد : [ الطويل ]
2744- إذا مَا سَلخْتُ الشَّهْرَ أهلَلتُ مِثلهُ ... كَفَى قَاتِلاً سَلْخِي الشُّهُورَ وإهْلالِي
والألف واللام في « الأشهر » يجوز أن تكون للعهد ، والمراد بها : الأشهرُ المتقدمة في قوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التوبة : 2 ] ، والعربُ إذا ذكرت نكرة ، ثم أرادت ذكرها ثانياً أتت بضميره؛ أو بلفظه مُعرَّفاً ب « أل » ، ولا يجوز حينئذ أن نصفهُ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة ، فلو قيل : « رأيت رجلاً ، فأكرمتُ الرَّجل الطَّويل » لمْ تُرد بالثَّاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز ، كقولك : فأكرمت الرجل المذكور ، ومنه هذه الآية ، فإنَّ « الأشهر » قد وصفت ب « الحُرُم » ، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة ، ويجوزُ أن يراد بها غيرُ الأشهر المتقدمة ، فلا تكون « أل » للعهد وقد ذكر المفسرون الوجهين .
قالوا : المرادُ بالأشهر الحرم : الأربعة ، رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم .
وقال مجاهدٌ وابن إسحاق : « هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوماً » .
وقيل لها حرم : لأنَّ الله حرَّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتَّعرض لهم .
فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم ، واللهُ تعالى يقول : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } . قيل : لمَّا كان القدر متصلاً بما مضى أطلق عليه اسم الجمع ، ومعناه : مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم .
قوله { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } .
اعلم أنَّه تعالى أمر بعد انقضاءِ الأشهر الحرم بأربعة أشياء :
أولها : قوله : { فاقتلوا المشركين } أي : على الإطلاق في أي وقت كان في الحل أو الحرمِ .
وثانيها : « وَخُذُوهُمْ » أي : أسروهم .
وثالثها : « واحصروهم » والحصر : المنع ، أي : امنعوهم من الخروج إن تحصنوا ، قاله ابن عباس .
وقال الفرَّاءُ « امنعوهم من دخول مكَّة والتَّصرف في بلاد الشام » .
ورابعها : قوله { واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } . في انتصاب « كل » وجهان :
أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرف المكاني .
قال الزجاج « نحو : ذهبت مذهباً » . وردَّ عليه الفارسيُّ هذا القول من حيث إنَّه ظرف مكان مختص ، والمكانُ المختصُّ لا يصلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة؛ في نحو : صَلَّيْتُ في الطريق وفي البيت ، ولا يصل بنفسه إلاَّ في ألفاظٍ محصورةٍ بعضها ينقاس ، وبعضها يسمع ، وجعل هذا نظير ما فعل سيبويه في بيت ساعدة : [ الكامل ]

2745- لَدْنٌ بِهزِّ الكفِّ يعْسِلُ متنهُ ... فيهِ كما عسل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ
وهو أنَّهُ جعله ممَّا حذف فيه الحرفُ اتِّساعاً ، لا على الظرف ، لأنه ظرف مكان مختص .
قال أبو حيَّان « إنه ينتصبُ على الظرف؛ لأنَّ معنى » واقعُدُوا « لا يراد به حقيقةُ القعود ، وإنما يراد : ارصدوهم ، وإذا كان كذلك فقد اتفق العامل والظرف في المادة ، ومتى أتفقا في المادة لفظاً ، أو معنًى ، وصل إليه بنفسه ، تقول : جلست مجلس القاضي ، وقعدت مجلس القاضي ، والآيةُ من هذا القبيل » .
والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر ، وهو « على » ، أي : على كلِّ مرصد قاله الأخفشُ ، وجعله مثل قول الآخر : [ الطويل ]
2746- تَحِنُّ فتبدي مَا بِهَا مِنْ صبابَةٍ ... وأخْفِي الذي لَوْلاَ الأسَى لَقَضانِي
وهذا لا ينقاس ، بل يقتصر فيه على السَّماع ، كقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ } [ الأعراف : 16 ] ، أي : على صراطك ، اتفق الكل على تقدير « على » ، وقال بعضهم : هو على تقدير الباء ، أي : بكل مرصد ، نقله أبو البقاء ، وحينئذٍ تكون الباء بمعنى « في » فينبغي أن تقدَّر « في » لأنَّ المعنى عليها؛ وجعله نظير قول الشاعر : [ الوافر ]
2747- نُغَالِي اللَّحْمَ للأَضْيَافِ نَاسِياً ... أنَّ المنيَّةَ للْفَتَى بالمَرْصَدِ
والمِرْصَادُ : المكانُ المختص بالترصُّد ، والمرصد : يقع على الرَّاصد ، سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً ، وكذلك يقع على « المرصُودِ » . وقوله تعالى : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ الجن : 27 ] يحتمل كلَّ ذلك؛ وكأنَّهُ في الأصل مصدر ، فلذلك التزم فيه الإفرادُ والتذكيرُ .
ومعنى الآية : اقعدوا لهم على كلِّ طريق - والمرصدُ : الموضعُ الذي يرقب فيه العدو يريد : كونُوا لهم رصداً ، لتأخذوهم من أي وجه توجهوا .
قوله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي : دعوهم ليتصرفوا في أمصارهم ، ويدخلوا مكَّة « إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ » لمن تاب « رَحيمٌ » به .
واحتجُّوا بهذه الآية على قتل تارك الصَّلاة؛ لأنَّ اللهَ تعالى أباح دم الكفَّار مطلقاً ثم حرَّمها عند التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فإذا لم توجد الثلاثة ، فإباحة الدَّم بحالها .
قال الحسينُ بن الفضلِ : « هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصَّبر على أذى الأعداء » .
قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } الآية .
روى ابن عباس : أنَّ رجلاً من المشركين قال لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - : إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله ، أو لحاجة أخرى ، فهل نقتل؟ فقال عليٌّ - رضي الله عنه - : « لا » لأنَّ الله قال : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } أي : فأمنه حتى يسمع كلام اللهِ .

فتقرير النظم : أنه لما أوجب بانسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين ، دلَّ ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم ، وأن ما ذكره عليه الصَّلاة والسَّلام قبل ذلك من الدلائل كفى في إزاحة عذرهم ، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدَّليل والحجة لا يلتفت إليه ، بل يطالب إمَّا بالإسلام ، وإمَّا بالقتل ، فذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لهذه الشبهة ، وبيَّن أنَّ الكافر إذا جاء طالباً الدَّليل والحجة ، أو طالباً لاستماع القرآن ، فإنَّه يجب إمهاله ويحرم قتله .
قوله : { وَإِنْ أَحَدٌ } كقوله { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] في كونه من باب الاشتغال عند الجمهور .
قال ابنُ الخطيب : « أَحَدٌ » مرتفع بفعل مضمر يفسِّرهُ الظَّاهرُ ، وتقديره : « وإن استجارك أحد ، ولا يجُوز أن يرتفع بالابتداء ، لأنَّ » إنْ « من عوامل الفعل لا تدخل على غيره » . قوله « حتَّى يسمَعَ » يجوز أن تكون هنا للغاية ، وأن تكون للتَّعليلِ ، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بقوله « فَأجِرهُ » ، وهل يجُوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب التَّنازع أم لا؟ وفيه غموضٌ ، وذلك أنَّه يجوز من حيث المعنى أن تعلَّق « حتَّى » بقوله « استجاركَ » ، أو بقوله « فأجرهُ » إذ يجوز تقديره : وإن استجارك أحدٌ حتَّى يسمع كلام اللهِ فأجرهُ ، حتَّى يسمع كلام الله . والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور ، لأمر لفظي من جهة الصناعة لا معنوي ، فإنَّا لو جعلناه من التَّنازع ، وأعملنا الأوَّل مثلاً ، لاحتاج الثَّاني إليه مضمراً على ما تقرَّر ، وحينئذٍ يلزمُ أنَّ « حتَّى » تجرُّ المضمر ، و « حتَّى » لا تجرُّهُ إلاَّ في ضرورة شعر كقوله : [ الوافر ]
2749- فَلا واللهِ لا يَلْقَى أنَاسٌ ... فتًى حتَّاكَ يا ابْنَ أبي يزيدِ
وأمَّا عند من يُجيزُ أن تجرَّ المضمر؛ فلا يمتنع ذلك عندهُ ، ويكون من إعمال الثَّاني لحذفه ، ويكون كقولك : فَرحْتُ ومررتُ بزيدٍ ، أي : فرحْتُ به ، ولو كان مِنْ إعمالِ الأوَّلِ لمْ يحذفْهُ من الثَّاني ، وقوله : « كَلاَمَ الله » من بابِ إضافة الصِّفةِ لموصوفها ، لا من بابِ إضافة المخلوقِ للخالِقِ ، و « مَأْمنَهُ » يجوزُ أن يكون مكاناً ، أي : مكان أمنه ، وأن يكون مصدراً ، أي : ثُمَّ أبلغْه أْمْنَهُ .
فصل في المراد من الآية
معنى الآية : وإن استجاركَ أحدٌ من المشركينَ الذين أمرتكَ بقتالهم وقتلهم أي : استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، ليسمع كلام الله « فأجرهُ » ، وأمنه « حتَّى يسمع كلام الله » فيما له وعليه من الثواب والعقاب . « ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ » أي : إن لم يسلم أبلغه الموضع الذي يأمنُ فيه ، وهو دار قومه ، فإن قاتلك بعد ذلك ، وقدرت عليه فاقتله .

« ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ » ، لا يعلمون دين الله وتوحيده ، فهم محتاجون إلى سماع كلام الله .
قال الحسنُ « هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة » .
فصل
قالت المعتزلةُ : هذه الآية تدلُّ على أنَّ كلام اللهِ يسمعه الكافرُ ، والمؤمنُ ، والزنديقُ ، والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق؛ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، فدلَّ ذلك على أنَّ كلام اللهِ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، ثمَّ من المعلوم بالضرورة ، أنَّ الحروف والأصوات لا تكون قديمة ، لأنَّ تكلم الله بهذه الحروف ، إمَّا أن يكون معاً ، أو على الترتيب ، فإن تكلَّم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم؛ لأن الكلام لا يحصل مُنتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجودِ على التعاقب ، فلو حصلت معاً ، لما حصل الانتظام ، فلم يحصل الكلام ، وإن حصلت متعاقبةً؛ لزم أن ينقضي المتقدم ، ويحدث المتأخر ، وذلك يوجب الحدوث ، فدلَّ هذا على أنَّ كلام الله مُحدثٌ - قالوا فإن قلتم : إنَّ كلام الله شيءٌ مغايرٌ لهذه الحروف والأصوات فهو باطلٌ؛ لأن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يشير بقوله { كَلاَمَ الله } [ التوبة : 6 ] إلا إلى هذه الحروف والأصوات .
وقال آخرون : ثبت بهذه الآية أنَّ كلام الله ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، وثبت أن كلام الله قديمٌ ، فوجب القولُ بقدم الحروف والأصوات .
وقال ابنُ فورك : « إنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات ، فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى » . وأنكروا عليه هذا القول؛ لأنَّ الكلام القديم ، إمَّا أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات ، وإمَّا أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها .
والأول قول الزجاج ، وهو باطلٌ ، لأنَّ ذلك لا يليقُ بالعقلاء .
والثاني باطلٌ ، لأنَّا على هذا التقدير ، لمَّا سمعنا هذه الحروف والأصوات ، فقد سمعنا شيئاً آخر يخالفُ ماهيَّة هذه الحروف والأصوات لكنَّا نعلم بالضرورةِ أنا عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم يدرك سمعنا شيئاً مغايراً لها ، فسقط هذا الكلام .
والجواب عن كلام المعتزلة : أن يقال هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم؛ لأنَّ كلام الله ، ليس الحروف والأصوات التي خلقها أولاً ، بل تلك الحروف والأصوات انقضت ، وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان ، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم .
فصل
قال الفقهاءُ : إذا دخل الكافر الحربي دار الإسلامِ ، كان مَغْنُوماً مع ماله ، إلاَّ أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي ، كاستماع كلام الله رجاء الإسلام ، أو دخل لتجارة ، فإن دخل بأمان صبي أو مجنون ، فأمانهما شبهة أمان؛ فيجب تبليغه مأمنه ، وهو أن يبلغ مَحْرُوساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له ، ومن دخل منهم دار الإسلام رسُولاً ، فالرسالة أمانٌ ، ومن دخل ليأخذ مالاً له في دار الإسلام ، ولماله أمان ، فأمان ماله أمان له .

{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ } الآية .
في خبر « يكون » ثلاثةُ أوجهٍ :
أظهرها : أنَّهُ « كيف » ، و « عَهْدٌ » اسمُها والخبر هنا واجبُ التقديم ، لاشتماله على ما لهُ صدر الكلام ، وهو الاستفهامُ ، بمعنى الاستنكار ، كقولك : كيف يُسْتفتَى مثلك؟ أي : لا ينبغي أن يستفتى .
و « للمشركين » على هذا يتعلق إمَّا ب « يكُونُ » ، عند من يجيزُ في « كانَ » أن تعمل في الظَّرف وشبهه ، وإمَّا بمحذوفٍ ، على أنَّها صفةٌ ل « عَهْدٌ » ، في الأصلِ ، فلمَّا قُدِّمتْ نصبت حالاً ، و « عِند » يجوز أن تكون متعلقةً ب « يكون » أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل « عَهْدٌ » أو متعلقة بنفس « عَهْدٌ » لأنه مصدرٌ .
والثاني : أن يكون الخبرُ « للمشركين » ، و « عند » على هذا فيها الأوجه المتقدمة ، ويزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوزُ أن يكون ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به « للمُشركين » .
والثالث : أن يكون الخبرُ « عِندَ اللهِ » ، و « للمُشركينَ » على هذا إمَّا تبيين ، وإمَّا متعلقٌ ب « يكون » عند من يُجيز ذلك - كما تقدَّم - وإمَّا حالٌ من « عَهْدٌ » . وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر ، ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبر على الاسم لكونه حرف جرّ ، « كَيْفَ » على هذين الوجهين مُشْبهةٌ بالظَّرفِ ، أو بالحال ، كما تقدَّم تحقيقه في : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] .
ولمْ يذكُرُوا هنا وجْهاً رابعاً - وكان ينبغي أن يكون هو الأظهر - وهو أن يكون الكونُ تاماً ، بمعنى : كيف يوجدُ عهدٌ للمشركينَ عند اللهِ؟ والاستفهام هنا بمعنى النَّفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء ب « إلاَّ » ومن مجيئه بمعنى النفي أيضاً قوله :
2750- فَهَذِي سُيوفٌ يا صُدَيُّ بن مالكٍ ... كثيرٌ ، ولكنْ كيف بالسَّيْفِ ضَارِبُ
أي : ليس ضاربٌ بالسَّيْفِ ، وفي الآية محذوفٌ تقديره : كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد .
قوله : { إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام } في الاستثناء وجهان :
أحدهما : أنَّهُ منقطعٌ ، أي : لكن الذين عاهدتم ، فإنَّ حكمهم كيت وكيت .
والثاني : أنَّهُ متَّصلٌ ، وفيه حينئذٍ احتمالان :
أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ على أصْلِ الاستثناء من المُشركينَ .
والثاني : أنه مجرورٌ على البدل منهم؛ لأنَّ معنى الاستفهام المتقدم نفيٌ ، أي : ليس يكونُ للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا ، وقياسُ قول أبي البقاءِ فيما تقدَّم أن يكون مرفوعاً بالابتداء ، والجملةُ من قوله « فَمَا استقاموا » خبره .
فصل
معنى الآية : أي : لا يكون لهم عهد عند الله ، ولا عند رسوله وهم يغدرون ، وينقضون العهد ، ثم استثنى فقال : { إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام } .

قال ابنُ عباسٍ : « هُمْ قُريْش » .
وقال قتادة « هم أهلُ مكَّة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبيةِ » .
قال تعالى : { فَمَا استقاموا لَكُمْ } أي : على العهد { فاستقيموا لَهُمْ } [ يعني ما أقاموا على العهد ثم إنهم لم يستقيموا ] ونقضوا العهد ، وأعانوا بني بكر على خزاعة ، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم ، وإمَّا أن يلحقوا بأي بلاد شاءوا ، فأسلموا قبل الأربعة أشهر .
وقال السدي والكلبي وابن إسحاق : إنهم قبائل من بني بكر وهم خزيمةُ ، وبنو مدلج من ضمرة ، وبنو الديل ، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم يكن نقض إلاَّ قريش ، وبنو الديل من بكرٍ؛ فأمر بإتمام العهد لمنْ لم ينقض وهو بنو ضمرة ، وهذا القول أقرب إلى الصواب؛ لأنَّ هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكَّة؛ لأنَّ بعد الفتح كيف يقول قد مضى : { فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ } .
وإنَّما هم الذين قال الله - عزَّ وجلَّ - فيهم : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } [ التوبة : 4 ] كما نقصكم قريش ، ولم يظاهروا عليكم كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة ، وهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله « فَمَا استقاموا » يجوزُ في « ما » أن تكون مصدرية ظرفيةً ، وهي محلِّ نصب على ذلك أي : فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ، ويجوزُ أن تكون شرطيةً ، وحينئذٍ ففي محلِّها وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ نصب على الظَّرف الزماني ، والتقدير : أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، ونظَّره أبو البقاءِ بقوله : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } [ فاطر : 2 ] .
والثاني : أنها في محلِّ رفع بالابتداء ، وفي الخبر الأقوال المشهورة ، و « فاستقيمُوا لهُم » جواب الشرط ، وقد نحا إليه الحوفيُّ ، ويحتاجُ إلى حذف عائد ، أي : أي زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، وقد جوَّز ابنُ مالكٍ في « ما » المصدرية الزمانية أن تكون شرطية جازمة ، وأنشد على ذلك : [ الطويل ]
2751- فَمَا تَحْيَ لا تَسْأمْ حَيَاةٌ وإنْ تَمُتْ ... فَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا ولا العَيْشِ أَجْمَعَا
ولا دليل فيه ، لأنَّ الظاهر الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدريَّة وزمانٍ .
قال أبُو البقاءِ : « ولا يجوز أن تكون نافيةً ، لفساد المعنى ، إذ يصير المعنى استقيموا لهم؛ لأنَّهم لم يستقيموا لكم » . ثم قال تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } أي : من اتقى الله فوفى بعهده لمن عاهده .

كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)

قوله تعالى : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } الآية .
المستفهمُ عند محذوفٌ ، لدلالة المعنى عليه ، فقدَّره أبو البقاءِ « كيف تَطْمئنون ، أو كيف يكونُ لهم عهدٌ » ؟ وقدَّره غيره : كيف لا تقاتلونهم؟ . والتقدير الثاني مِنْ تقديري أبي البقاء أحسنُ؛ لأنَّه من جنس ما تقدَّم ، فالدلالةُ عليه أقْوى .
وقد جاء الحذفُ في هذا التركيب كثيراً ، وتقدَّم منه قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } [ آل عمران : 25 ] ، { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا } [ النساء : 41 ] ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
2752- وخَبَّرْتُمَاني أنَّما الموتُ في القُرَى ... فكيْفَ وهاتا هَضْبَةٌ وكَثِيبُ
أي : كيف مات؟ وقال الحطيئةُ : [ الطويل ]
2753- فَكيْفَ ولمْ أعلمْهُم خَذلُوكُمُ ... علَى مُعظمٍ ولا أديمَكُمُ قدُّوا
أي : كيف تلومونني في مدحهم؟
قال أبُو حيَّان : « وقدَّر أبو البقاءِ الفعل بعد » كيف « بقوله : » كيف تطمئنون « ، وقدَّره غيره ب » كيف لا تقاتلونهم « ؟ .
قال شهابُ الدِّين : » ولم يقدره أبُو البقاء بهذا وحده ، بل به ، وبالوجه المختار كما تقدَّم منه « .
قوله » كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا « » كيف « تكرار ، لاستبعاد ثبات المشركينَ على العهد ، وحذف الفعل ، لكونه معلوماً ، أي : كيف يكون لهم عهد وحالهم أنَّهُمْ إن يظهروا عليكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق ، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولا يبقوا عليكم . والجملة الشرطية من قوله : » إِن يَظْهَرُوا « في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، أي : كيف يكونُ لهم عهدٌ ، وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } [ الأعراف : 169 ] ، و » لا يرْقُبوا « جوابُ الشرط ، وقرأ زيد بن علي : » وإن يُظهَرُوا « ببنائه للمفعول ، من أظهره عليه ، أي : جعله غالباً له ، يقال : ظهرت على فلان : إذا علوته ، وظهرت على السطح : إذا صرت فوقه .
قال اللَّيْثُ : » الظُّهور : الظَّفر بالشَّيء ، وأظهر اللهُ المسلمين على المشركين ، أي : أعلاهُم عليهم « . قال تعالى : { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } [ الصف : 14 ] وقوله : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] أي : ليعليه .
قوله : » لاَ يَرْقُبُواْ « قال الليثُ » رقبَ الإنسانَ يرقبُ رقْبةً ورِقْبَاناً ، هو أن ينتظره « .
والمعنى : لا ينتظروا ، قاله الضحاكُ ، ورقيب القوم : حارسهم ، وقوله : { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [ طه : 94 ] أي : لم تحفظه .
وقال قطربٌ : » لا يراعوا فيكم إلاَّ « . قوله : » إلاًّ « مفعولُ به ب » يَرْقُبُوا « . وفي » الإِلِّ « أقوالٌ » .
أحدها : أنَّ المراد به العهد ، قاله أبو عبيدة ، وابن زيد ، والسديُّ وكذلك الذمة ، إلاَّ أنه كرر ، لاختلاف اللفظين؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
2754- لَوْلاَ بنُو مالكٍ ، والإِلُّ مَرْقبةٌ ... ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ
أي : الحِلْف؛ وقال آخر : [ المتقارب ]
2755- وجَدْناهُمُ كَاذِباً إلُّهُمْ ... وذُو الإِلِّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ

وقال آخر : [ الرمل ]
2756- أفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا ... قَطَعُوا الإِلَّ وأعْرَاقَ الرَّحِمْ
وفي حديث أمِّ زرع بنت أبي زرع : « وفيُّ الإلِّ ، كريمُ الخِلِّ ، بَرُودُ الظِّلِّ » أي؛ وفَيُّ العهد .
الثاني : أنه القرابةُ ، قاله ابنُ عبَّاسٍ والضحاك ، وبه قال الفراء وأنشدوا لحسان : [ الوافر ]
2757- لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُريشٍ ... كإِلِّ السَّقْبِ من رَألِ النَّعَامِ
وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله : [ الرمل ]
2758- . ... قَطَعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ
والظَّاهر أنَّ المراد به العهد - كما تقدَّم - لئلاَّ يلزم التكرار .
الثالث : أنَّ المراد به الله - تعالى - أي : هو اسم من أسمائه ، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عرض عليه كلام مُسَيْلمة - لعنه الله - « إنَّ هذا الكلام لم يخرج من إلّ » ، أي : الله - عز وجل - قاله أبو مجْلزٍ ، ومجاهد وقال عبيد بن عمير : يُقرأ جِبْرَئل بالتشديد ، يعني عبد الله ولم يرتض هذا الزجاج ، قال : « لأنَّ أسماءه - تعالى - معروفة في الكتابِ والسُّنَّةِ - ولم يُسمَعْ أحدٌ يقول : يا إلُّ ، افعلْ لي كذا » .
الرابع : أنَّ : « الإلَّ » الجُؤار ، وهو رفعُ الصَّوت عند التحالُف ، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا ، وتحالفوا ، جأرُوا بذلك جُؤاراً . ومنه قول أبي جهل : [ الطويل ]
2759- لإلِّ عَليْنَا واجب لا نُضيعُهُ ... مَتِينٍ قُوَاهُ غَيْرِ مُنْتكِثِ الحَبْلِ
الخامس : أنه من : ألَّ البرقُ ، أي : لَمَعَ .
قال الأزهريُّ : « الأليل : البريق ، يقال : ألَّ يؤلُّ ، أي : صَفَا ولَمَعَ » ، ومنه الألَّة ، للمعانها .
وقيل : الإلّ من التحديد ، ومنه « الألَّةٌ » الحَرْبة ، وذلك لحدَّتها ، وقد جعل بعضهم بين هذه المعاني قدراً مشتركاً ، يرجعُ إليه جميعُ ما تقدَّم ، فقال الزَّجَّاجُ : « حقيقةُ الإلِّ عندي على ما تُوحيه اللغة : التحديد للشيء ، فمن ذلك الألَّةُ : الحَرْبَةُ ، وأذنٌ مُؤلَّلَة ، فالإلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد ، والقرابةِ ، والجُؤارعلى هذا ، فإذا قلت في العهد : بينهما إلٌّ ، فتأويلُه أنَّهُمَا قد حَدَّدَا في أخْذ العهود ، وكذلك في الجُؤار والقرابة » .
وقال الرَّاغبُ : « الإِلُّ » كلُّ حالةٍ ظاهرة من عَهْدٍ ، وحِلْفٍ ، وقرابة تَئِلُّ ، أي : تَلْمَعُ ، وألَّ الفرسُ : أسرع . والألَّةُ : الحرْبَةُ اللاَّمعة « وأنشد غيرُهُ على ذلك قول حماس بن قيسٍ يوم فتح » مكَّة « : [ الرجز ]
2760- إنْ تَقْتلُوا اليوْمَ فَمَا لِي عِلَّه ... سِوَى سِلاحٍ كاملٍ وألَّه ... وذِي غِرَارَيْنِ سَريعِ السَّلَّه ... قال : وقيل : الإلُّ والإيلُ : اسماه لله - تعالى - ، وليس ذلك بصحيحٍ .
قال الأزهريُّ » « إيل » من أسماء الله بالعبرانية؛ فجاز أن يكون عُرِّب ، فقيل : « إلّ » والأللان : صفحتا السكّين « . انتهى ، ويجمع الإلُّ في القلَّة على آلِّ ، والأصل : » أألُل « بزنة » أفْلُس « ، فأبدلت الهمزةُ الثانية ألفاً ، لسكونها بعد أخرى مفتوحة ، وأدغمت اللاَّمُ في اللام ، وفي الكثرة على » إلالٍ « ك » ذِئْب وذِئَاب « .

و « الألُّ » بالفتح : قيل : شدَّة القنوط . قال الهرويُّ في الحديث : « عجب ربكم من ألِّكُم وقُنوطكم » . قال أبو عبيدة : المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة ، والمحفوظ عندنا فَتَحُها ، وهو أشبَهُ بالمصادرِ ، كأنَّه أرادَ : من شدَّة قنوطكم ، ويجوزُ أن يكون من رفع الصَّوت ، يقال : ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ ، وأللاً ، وألِيلاً ، إذا رفع صوته بالبكاء ، ومنه يقال له : الويل والألِيل؛ ومنه قول الكميت : [ البسيط ]
2761- وأنتَ مَا أنتَ فِي غَبْراءَ مُظْلِمَةٍ ... إذَا دَعَتْ أَلَلَيْهَا الكَاعِبُ الفُضُلُ
انتهى .
وقرأ فرقة « ألاَّ » بالفتح ، وهو على ما ذكر من كونه مصدراً ، من « ألَّ يَؤلُّ إذا عاهد . وقرأ عكرمة : » إيلاً « بكسر الهمزة ، بعدها ياءٌ ساكنة ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه اسمُ الله تعالى ، ويُؤيِّده ما تقدم في : { لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] ، و { إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 40 ] أنَّ المعنى : عبدُ اللهِ .
الثاني : يجوزُ أن يكون مشتقاً مِن : آل يَؤُولُ : إذا صَارَ إلى آخر الأمر ، أو من : آل يؤولُ : إذا سَاسَ ، قاله ابنُ جني ، أي : لا يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة ، وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فقُلبتء ياءً ، ك : » ريح « .
الثالث : أنه هو » الإِلُّ « المضعف ، وإنَّما اسْتُثقل التَّضعيفُ ، فأبدل إحداهما حرف علةٍ ، كقولهم : أمْلَيْتُ الكتاب ، وأمْلَلْتُه .
وقال الشاعر : [ البسيط ]
2762- يَا لَيْتَمَا أمَّنَا شالتْ نَعامتُهَا ... أيْمَا إلى جنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ
قوله : » وَلاَ ذِمَّةً « الذِّمَّة قيل : العَهْد ، فيكون ممَّا كُرِّرَ لاختلافِ لفظه ، إذا قلنا : إنَّ الإلَّ العهدُ أيضاً ، فهو كقوله تعالى : { صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] ، وقوله : [ الوافر ]
2763- . . ... وألْقَى قولَها كَذِباً ومَيْنَا
وقوله : [ الطويل ]
2764- . ... وهندٌ أتَى من دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وقيل : الذِّمَّة : الضَّمان ، يقال : هو في ذمَّتي ، أي : في ضماني ، وبه سُمِّي أهل الذِّمَّة ، لدخولهم في ضمانِ المسلمين . ويقال : له عليَّ ذمَّةٌ ، وذِمام ومذمَّة ، وهي الذمُّ قال ذلك ابن عرفة ، وأنشد لأسامة بن الحارث : [ الطويل ]
2765- يُصَيِّحُ بالأسْحَارِ في كلِّ صارةٍ ... كمَا نَاشَدَ الذَّمَّ الكَفيلَ المُعَاهِدُ
وقال الرَّاغِبُ » الذِّمامُ : ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته من عهدٍ ، وكذلك الذِّمَّة ، والمَذمَّة والمِذمة ، يعني بالفتح والكسر . وقيل : لي مَذَمَّةٌ فلا تهتكها « وقال غيره : » سُمِّيَتْ ذِمَّة ، لأنَّ كُلَّ حُرْمة يلزمك من تضييعها الذَّمُّ ، يقال لها : ذِمَّة ، وتجمع على « ذِمِّ » ، كقوله : [ الطويل ]
2766- . . ... كَمَا نَاشَدَ الذَّمِّ
وعلى ذممٍ ، وذِمَامٍ « . وقال أبو زيد : » مَذِمَّة ، بالكسْرِ من الذِّمام ، وبالفتح من الذَّمِّ « .
وقال الأزهري : » الذِّمَّة : الأمان « . وفي الحديث : » ويسعى بذمَّتِهم أدْناهُمْ « .
قال أبو عبيد : » الذِّمَّة : الأمانُ ههنا ، يقول إذا أعطى أدنى الناسُ أماناً لكافر نفذَ عليهم ، ولذلك أجاز عمر - رضي الله عنه - أمان عبدٍ على جميع العسكر « .

وقال الأصمعي « الذِّمَّة : ما لَزِم أن يُحفظَ ويُحْمَى » .
قوله : « يُرْضُونَكُم » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنفٌ ، وهذا هو الظاهر ، أخبر أنَّ حالهم كذلك .
والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل « لاَ يَرْقُبُواْ » .
قال أبُو البقاءِ : « وليس بشيءٍ؛ لأنَّهم بعد ظهورهم لا يُرْضُون المؤمنين » .
ومعنى الآية : يعطونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم .
قوله : « وتأبى قُلُوبُهُمْ » يقالُ : أبَى يَأبَى ، أي : اشتد امتناعه ، فكلَّ إباءٍ امتناعٌ من غير عكس ، قال : [ الطويل ]
2767- أبَى اللهُ إلاَّ عَدْلَهُ ووفاءهُ ... فَلاَ النُّكْر مَعْروفٌ ولا العُرْفُ ضَائِع
وقال آخر : [ الطويل ]
2768- أَبَى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نَابَهُ ... عَليْهِ فأفْضَى والسُّيوفُ مَعَاقِلُهْ
فليس مَنْ فسَّره بمطلق الامتناع بمصيبٍ . ومجيءُ المضارعِ منه على « يفعل » بفتح العين شاذٌّ ، ومثله « قَلَى يَقْلَى في لغة » .
فصل
المعنى : « وتأبى قُلُوبُهُمْ » الإيمان « وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ » وفيه سؤالان :
السؤال الأول : أنَّ الموصوفين بهذه الصفة كفار ، والكفر أقبح وأخبث من الفسق ، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة؟
السؤال الثاني : أنَّ الكفار كلُّهم فاسقون ، فلا يبقى لقوله : « وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ » فائدة ، والجواب عن الأوَّلِ : أنَّ الكافِر قد يكونُ عَدْلاً في دينه ، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه ، فالمرادُ أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود ، « أكثرُهُمُ فَاسقُون » في دينهم ، وذلك يوجب المبالغة في الذَّم .
والجوابُ عن الثَّاني عين الأوَّل؛ لأنَّ الكافر قد يكون محترزاً عن الكذب ، ونقض العهد ، والمكر ، والخديعة وقد يكون موصوفاً بذلك ، ومثل هذا الشَّخص يكون مذموماً عند جميع النَّاسِ ، وفي جميع الأديان .
ومعنى الآية : أنَّ أكثرهم موصوف بهذه الصفات الذميمة . وقال ابنُ عبَّاسٍ « لا يبعدُ أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم ، وتاب ، فلهذا السبب قال : » وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ « . ليخرج عن هذا الحكم ، أولئك الذين أسْلَمُوا » .
قوله { اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
قال مجاهدٌ « أطعم أبو سفيان حلفاءه ، وترك حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة » . وقال ابنُ عبَّاسٍ : « إنَّ أهل الطائف أمدرهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم » .
وقيل : لا يبعدُ أن تكون طائفة من اليهود ، أعانوا المشركين على نقض العهود ، فكان المراد من هذه الآية ، ذم أولئك اليهود ، وهذا اللفظُ في القرآن ، كالأمر المختص باليهود ، ويتأكد هذا بأنَّ الله تعالى أعاد قوله : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } ولو كان المراد منه المشركين ، لكان هذا تكراراً محضاً ، وإذا حمل على اليهود لم يكن تكراراً ، فكان أوْلَى .

ثم قال : « إِنَّهُمْ سَآءَ » أي : بئس « مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ » .
قال أبُو حيَّان : يجوزُ أن تكون على بابها من التَّصرُّف والتعدِّي ، ومفعولها محذوفٌ ، أي : ساءهم الذي كانُوا يعملُونه ، أو عملُهم ، وأن تكون الجارية مَجْرى « بِئْسَ » فتُحَوَّل إلى « فَعُل » بالضمِّ ، ويمتنع تصرُّفها ، وتصيرُ للذَّم ، ويكون المخصوص بالذم محذوفاً ، كما تقرَّر مراراً .
قوله : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } أي : لا تبقوا عليهم أيها المؤمنون كما لا يبقُون عليكم لو ظهروا . { وأولئك هُمُ المعتدون } لنقض العهد ، وتعديهم ما حدّ اللهُ في دينه ، وما يوجبه العقد والعهد .

فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)

قوله تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين } .
لمَّا بيَّن تعالى حال من لا يرقبُ في الله إلاًّ ولا ذمَّةً ، وينقض العَهْدَ ، ويتعدَّى ما حُدّ له . بيَّن بعده أنهم إن تابوا ، وأقاموا الصَّلاة ، وآتوا الزماة ، فهم : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين } .
فإن قيل : المعلق على الشيء بكلمة « إنْ » عدم عند عدم ذلك الشيء ، فهذا يقتضي أنَّهُ متى لم توجد هذه الثلاثة ، ولا تحصل الأخوة في الدِّين ، وهو مُشْكلٌ؛ لأنَّه ربَّما كان فقيراً ، أو كان غنيّاً ، لكن قبل انقضاءِ الحول ، لا تلزمه الزكاة .
فالجوابُ : أنَّه قد تقدَّم في تفسير قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] أن المعلق على الشَّيء بكلمة « إن » لا يلزم منه عدم ذلك الشَّيء ، كذلك ههنا ، ومن النَّاس من قال : إنَّ المعلق على الشَّيء بكلمة « إنْ » عدم عند عدم ذلك الشيء ، فها هنا قال : المؤاخاة بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعاً ، فإنَّ الله شرطها في إثبات المؤاخاة ، ومنْ لمْ يكن أهلاً لوجوب الزكاة عليه؛ وجب عليه أن يقرَّ بحكمها فإذا أقرَّ بهذا الحكم دخل في الشَّرط الذي به تجبُ الأخوة .
قوله : فإِخوَانُكُم خبرُ مبتدأ محذوف ، أي : فهم إخوانكم ، والجملةُ الاسمية في محلِّ جزمٍ على جواب الشرط ، وفِي الدِّينِ متعلِّقٌ ب « إخْوانُكُمْ » لِمَا فيه من معنى الفعل .
فصل
قال أبو حاتم « قال أهل البصرة أجمعون : الإخوة في النَّسب ، والإخوان في الصَّداقة » . وهذا غلطٌ ، يقال للأصدقاء وغير الأصدقاء إخوة ، وإخوان ، قال الله تعالى { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ولم يَعْنِ النَّسبَ ، وقال تعالى : { أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ } [ النور : 61 ] وهذا في النسب .
قال ابن عبَّاسٍ : « حرمت هذه الآية دماء أهل القبلةِ » ومعنى قوله : « فَإِخْوَانُكُمْ » أي : فهم إخوانكم « فِي الدين » لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، قال ابنُ مسعودٍ « أمرتم بالصَّلاةِ والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له » .
وروى أبو هريرة قال : لمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر ، وكفر من كفر من العرب فقال عمرُ : كيف تقاتل النَّاس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أمِرْتُ أنْ أقاتل النَّاس حتَّى يقُولُوا لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، فمَنْ قَالهَا فقد عَصَمَ منِّي مالهُ ونَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّها وحِسابُهُ على اللهِ » فقال : والله لأقاتلنَّ مَنْ فرَّق بين الصلاةِ والزكاةِ ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعه ، قال عمر : « فوالله ما هو إلاَّ أن شرح الله صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحقّ » .

قوله { وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } قال الزمخشريُّ : وهذا اعتراض واقع بين الكلامين ، والمقصود : الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها .
قوله { وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم } نقضوا عهودهم ، « الأيمان » جمع « يمين » بمعنى : الحلف . « مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ » عقدهم . يعني : مشركي قريش . قال الأكثرون : المرادُ : نكثهم لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : المرادُ : حمل العهد على الإسلام ، ويؤيدهُ قراءة من قرأ « وإن نكثُوا إيمانَهُم » بكسر الهمزة والأول أولى ، للقراءة المشهورة؛ ولأنَّ الآية وردت في ناقضي العهد ، وقوله : { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } أي : عابوه ، وهذا دليلٌ على أنَّ الذِّمِّي إذا طعن في دين الإسلام ظاهراً لا يَبْقَى له عهد .
قوله : { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أي : متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « أئِمَّة » بهمزتين ثانيتهما مُسهَّلة بَيْنَ بَيْنَ ، ولا ألف بينهما .
والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما ، من غير إدخال ألف بينهما ، وهشام كذلك ، إلاَّ أنَّه أدخل بينهما ألفاً ، هذا هو المشهور بين القراء السبعة ، وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى ، ونقل أبو حيان عن نافع ومن معه ، أنَّهم يبدلون الثانية ياء صريحة ، وأنَّهُ قد نُقِلَ عن نافعٍ المدُّ بينهما ، أي : بين الهمزة والياء . فأمَّا قراءةُ التحقيق ، وبينَ بينَ ، فقد ضعَّفها جماعةٌ من النحويين ، كأبي علي الفارسي ، وتابعيه ، ومن القرَّاء أيضاً من ضعَّف التَّحقيق مع روايته له وقراءتِهِ به لأصحابه ، ومنهم من أنكر التسهيل بينَ بينَ ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف ، وقرءوا بياء خفيفة الكسر ، نَصُّوا على ذلك في كتبهم ، وأمَّا القراءةُ بالياء فهي التي ارتضاها الفارسيُّ ، وهؤلاء الجماعة؛ لأنَّ النُّطقَ بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل ، وهمزة بينَ بينَ بزنة المخففة .
والزمخشري جعل القراءة بصريح الياء لَحْناً ، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين ، قال : « فإن قلت : كيف لفظ » أئمة « ؟ قلت : بهمزة بعدها همزةُ بين بين ، أي : بين مخرج الهمزة والياء وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة ، وإن لم تكنْ مقبولةً عند البصريين ، وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوزُ أن تكون ، ومن قرأ بها فهو لاحن مُحرِّفٌ » .
قال أبُو حيَّان : « وذلك دَأبه في تلحين المقرئين ، وكيف يكون لحناً ، وقد قرأ بها رَأسُ النُّحاة البصريين أبو عمرو بن العلاءِ ، وقارىءُ أهْلِ مكة ابنُ كثير ، وقارىءُ أهل المدينة نافعٌ » ؟
قال شهابُ الدِّين : « لايُنقَمُ على الزمخشريُّ شيءٌ ، فإنه إنَّما قال : إنَّها غيرُ مقبولة عند البصريين ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يقبلها ، غاية ما في الباب أنَّه نقل عن غيره ، وأمَّا التصريحُ بالياء فإنَّه معذورٌ فيه ، لما تقدَّم من أنه اشتُهِر بين القراء التسهيل بين بين ، لا الإبدال المحض ، حتَّى إنَّ الشَّاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين ، لا للقراء ، فالزمخشري إنما اختار مذهب القراء لا مذهب النُّحاة في هذه اللَّفظة » .

وقد رَدَّ أبو البقاء قراءة التَّسهيل بينَ بينَ ، فقال : « ولا يجوزُ هنا أن تجعل بين بين ، كما جعلت همزةث » أئذا « ؛ لأنَّ الكسرة هنا منقولة ، وهناك أصليةٌ ، ولو خُفِّفت الهمزةُ الثانية على القياس لقُلبت ألفاً ، لانفتاح ما قبلها ، ولكن تُرِكَ ذلك لتتحرك بحركةِ الميم في الأصل » .
قال شهابُ الدِّين « قوله » منقولةٌ « لا يُفيد؛ لأنَّ النقل هنا لازم ، فهو كالأصل ، وقوله » ولوْ خُفِّفَتْ على القياس « إلى آخره ، لا يُفيد أيضاً؛ لأنَّ الاعتناء بالإدغام سابقٌ على الاعتناء بتخفيف الهمزة » .
ووزن « أئِمَّة » « أفْعِلة » ، لأنَّها جمع « إمام » ك « حمار وأحْمِرة » والأصل : « أأمِمَة » فالتقى ميمان ، فأريد إدغامهما فنُقلت حركةُ الميم الأولى للسَّاكن قبلها ، وهو الهمزة الثانية ، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة ، فالنحويون البصريون يوجبون إبدال الثانية ياء ، وغيرهم يحقق ، أو يسهِّل بين بين ، ومنْ أدخلَ الألف فللخفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين ، والأحسنُ أن يكون ذلك في التحقيق ، كما قرأ هشام ، وأمَّا ما رواه أبو حيان عن نافع من المدِّ مع نقله عنه أنَّه يصرِّح بالياء فللمبالغة في الخفة .
قوله : « لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ » قرأ ابنُ عامر « لا أيمان » بكسر الهمزة ، وهو مصدرُ آمَن يُؤمن إيمانً . هل هو من الأمان؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنهم لا يؤمنون في أنفسهم ، أي : لا يُعطون أماناً بعد نُكثهم وطعنهم ، ولا سبيل إلى ذلك .
والثاني : الإخبار بأنهم لا يُوفُون لأحدٍ بعهدٍ يعقدُونَه له ، أو من التصديق أي : إنَّهم لا إسلام لهم ، واختار مكيٌّ التأويل الأوَّل ، لما فيه من تجديد فائدة لمْ يتقدَّم لها ذكرٌ؛ لأنَّ وصفهم بالكفر وعدم الإيمان قد سَبَقَ وعُرِف .
وقرأ الباقون بالفتح ، وهو جمعُ يمين وهذا مناسب للنكث ، وقد أُجمع على فتح الثَّانية ، ويعني نفي الأيمان عن الكُفَّارِ ، أنَّهم لا يُوفُون بها وإن صدرتْ منهم وثَبتَتْ؛ وهذا كقول الآخر : [ الطويل ]
2769- وإِنْ حَلَفْتَ لا يَنْقُضُ النَّأيُ عَهْدَهَا ... فَليْسَ لِمخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ
وبذلك قال الشَّافعي ، وحمله أبو حنيفةَ على حقيقته أنَّ يمين الكافرِ لا تكونُ يميناً شرعيةً ، وعند الشافعي يمينٌ شرعيةٌ .
فصل في المراد من الآية
معنى الآية : قاتلوا الكفار بأسرهم ، وإنَّما خصَّ الأئمة ، والسَّادة بالذِّكر ، لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على الأفعال الباطلة .
قال ابنُ عبَّاسٍ : « نزلت في أبي سفيان بن حربٍ ، والحارث بن هشام ، وسهل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسائر رؤساء قريش يومئذٍ ، والذين نقضُوا العهد ، وهم الذين همُّوا بإخراج الرسول » ، وقال مجاهدٌ « هم أهل فارس والروم » وقال حذيفة بن اليمان « ما قُوتل أهل هذه الآية ، ولم يأت أهلها بعد » .

{ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } أي : لا عهود لهم . ثم قال : { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } وهو متعلق بقوله : { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أي : ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عن الكفر .
قوله تعالى : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ } لما قال { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أتبعه بذكر السبب الباعث على مقاتلتهم ، فقال { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ } نقضُوا عهودهم ، وهم الذين نقضوا عهد الصُّلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة ، { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } من مكة حين اجتمعُوا في دار النَّدوة . وقيل : المراد من المدينة ، لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل ، وقيل : بل همُّوا على إخراجه من حيثُ أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج ، وهو نقيضُ العهدِ ، وإعانة أعدائه ، فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الدَّاعية إليه .
وقوله : { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } إمَّا بالفعل ، وإمَّا بالعزم عليه ، وإن لمْ يُوجَدْ ذلك الفعل بتمامه ، واعلم أنَّه ذكر ثلاثة أشايء ، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم إذا انفرد ، فكيف إذا اجتمعت؟
أحدها : نكثهم العهد .
والثاني : أنهم همُّوا بإخراج الرسول ، وهذا من أوكد موجبات القتال .
والثالث : قوله { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني : بالقتال يوم بدر؛ لأنَّهم حين سلم العير ، قالوا : لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه .
وقال ناسٌ من المفسِّرين : أراد أنَّهُم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الحسنُ : لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة .
وقوله : « أَوَّلَ مرَّةٍ » نصبٌ على ظرف الزَّمانِ ، وأصلها المصدر من « مَرَّ يَمُرُّ ، كما تقدم [ الأنعام : 94 ] .
قوله : { أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } الجلالةُ مبتدأ ، وفي الخبر أوجهٌ :
أحدها : أنَّهُ » أحَقُّ « ، و » أن تخْشَوْهُ « على هذا بدل من الجلالة بدل اشتمال ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، والتقدير : فخشية اللهِ أحَقُّ مِنْ خَشيتهم .
الثاني : أَنَّ » أَحَقُّ « خبر مقدم ، و » أَن تَخْشَوهُ « مبتدأ مؤخر ، والجملةُ خبرُ الجلالة .
الثالث : أنَّ » أَحَقُّ « مبتدأ ، و » أن تَخْشَوهُ « خبره ، والجملةُ أيضاً خبر الجلالة ، قاله ابن عطية ، وحسن الابتداء بالنكرة ، لأنها أفعل تفضيل ، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو : اقصد رجلاً خيرٌ منه أبوه .
الرابع : أنَّ » أن تخشوه « في محلِّ نصب ، أو جرٍّ ، بعد إسقاطِ الخافضِ ، إذ التقدير : أحقُّ بأن تخشوه ، وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } شرطٌ حذف جوابه ، أو قُدِّم على حسب الخلاف [ الأنفال : 1 ] .
فصل
هذا الكلامُ يقوي داعية القتال من وجوه :
الأول : أنَّ تقرير الموجبات القويَّة ، وتفصيلها ممَّا يُقَوِّي هذه الداعية .

الثاني : أنَّك إذا قلت للرجل : أتخشى خصمك؛ فكأنك تحرضه على القتال ، أي : لا تخف منه .
والثالث : قوله { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } أي : إن كنت تَخْشَى أحَداً فالله أحقُّ أن تخشاه ، لكونه في غاية القدرة ، فالضَّررُ المتوقع منهم غايته القتل ، وأمَّا المتوقع من اللهِ فالعقابُ الشديد في القيامة ، والذم اللازم في الدُّنيا .
والرابع : قوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } أي : إن كنتم موقنين بالإيمان ، وجب عليكم القتال ، أي : إنكم إن لم تقدموا على القتال ، وجب أن لا تكونوا مؤمنين .
فصل
حكى الواحديُّ عن أهل المعاني أنهم قالوا : « إذا قلت : ألا تفعل كذا ، فإنَّما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده ، وإذا قلت : ألست تفعل ، فإنَّما تقول ذلك في فعل تحقَّق وجوده ، والفرقُ بينهما أنَّ » لا « ينفى بها المستقبل ، فإذا أدخلت عليها الألف كان تحضيضاً على فعل ما يستقبل ، و » ليس « إنما تستعمل لنفي الحال ، فإذا أدخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال » .
فصل
نقل عن ابن عباس أنه قال قوله : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً } ترغيب في فتح مكَّة وقوله : { قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ } أي : عهدهم ، يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة ، كما تقدم .
وقال الحسنُ « لا يجوزُ أن يكون المرادُ منه ذلك؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة » .
فصل
قال الأصم « دلَّت الآية على أنَّهم كرهوا هذا القتال ، لقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] فأمنهم الله تعالى بهذه الآيات » . قال القاضي « إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له ، ولا مُقصراً فيه ، فإن أراد أن مثل هذا التحريض على الجهاد لا يقع إلاَّ وهناك كره للقتال ، لا يصح أيضاً ، لأنَّهُ يجوز أن يحث تعالى بهذا الجنس على الجهاد ، لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع » .
فصل
قال القرطبيُّ « استدلُّوا بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدِّين ، إذ هو كافر ، والطعنُ هو أن ينسب إليه ما لا يليقُ به ، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدِّين ، لما ثبت بالدليل القطعي على صحَّة أصوله ، واستقامة فروعه » قال ابنُ المنذر : « أجمع عامَّةُ أهل العلم على أنَّ من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقتل » . قال القرطبيُّ : « وأمَّا الذِّمي إذا طعن في الدِّين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك ، لقوله تعالى : { وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } [ التوبة : 13 ] الآية ، فأمر بقتلهم وقتالهم ، وهو مذهب الشَّافعي وقال أبو حنيفة : يستتابُ ، وإنَّ مجرَّد الطَّعن لا ينقض به العهد إلاَّ مع وجود النَّكث » .

فصل
[ إذا حارب الذميُّ انتقض عهده ، وكان ماله وولده فيئاً معه ] .
فصل
قال القرطبيُّ : « أكثر العلماء على أنَّ من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذِّمة ، أو عرَّض ، أو استخفَّ بقدره ، أو وصفه بغير الوجه الذي نعت به فإنه يقتل؛ لأنَّا لَمْ نُعْطِه الذِّمة أو العهد على هذا ، لقوله تعالى : { وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم } الآية ، وقال أبو حنيفة والثوريُّ وأتباعهما من أهل الكوفة : لا يقتلُ ، لأنَّ ما هو عليه من الشرك أعظم ، ولكن يؤدَّب » .
فصل
قال القرطبي : « اختلفوا فيما إذا سبَّه ثم اسلم تقية من القتل ، فقيل : يسقطُ القتل بإسلامه ، وهو المشهور من المذاهب؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله . بخلاف المسلم إذا سبَّه ثم تاب ، قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . وقيل : لا يسقط الإسلام قتله ، قاله في العتيبة » .
قوله تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } الآية .
اعلم أنَّه تعالى لمَّا قال في الآية الأولى : « ألاَ تُقاتِلُونَ » وذكر الأشياء التي توجبُ إقدامهم على القتالِ ، ذكر في هذه الآية خمسة أنواع من الفوائد ، كلُّ واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف إذا اجتمعت؟ .
أولها : قوله : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } وسمى ذلك عذاباً؛ لأنَّ اللهَ تعالى يعذب الكافرين ، إن شاءَ في الدُّنيا ، وإن شاء في الآخرة ، والمراد من هذا العذاب القتل تارةً ، والأسر أخرى ، واغتنام الأموال ثالثاً .
فإن قيل : أليس قد قال تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] فكيف قال ههنا : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } ؟ .
فالجواب : المراد من قوله { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] عذاب الاستئصال والمراد من قوله : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } عذاب القتل والحرب ، والفرق بين البابين : أنَّ عذابَ الاستئصال قد يتعدَّى إلى غير المذنب ، وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب ، أمَّا عذابُ القتل ، فالظَّاهر أنه مقصورٌ على المُذْنب .
فصل
احتج أهل السنة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى بقوله : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } فإنَّ المراد من هذا العذاب ، القتل والأسر ، وظاهر هذا النص يدلُّ على أنَّ ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى ، يدخله في الوجود على أيدي العباد .
وأجاب الجبائيُّ عنه فقال : لو جاز أن يقال إنَّهُ يعذب الكُفَّار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال : إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكُفار ، ولجاز أن يقال : إنَّهُ يكذب الأنبياء على ألسنة الكُفَّار ، ويلعن المؤمنين على ألسنتهم ، لأنَّه تعالى خالق لذلك ، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك عند المجبرة ، علم أنَّه تعالى لم يخلق أعمال العباد ، وإنَّما نسب ما ذكر إلى نفسه على سبيل التوسع من حيثُ إنَّهُ حصل بأمره وألطافه ، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير .
وأجيب : بأنَّ الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك ، إلاَّ أنا لا نقوله باللِّسانِ ، كما نعلم أنه تعالى هو الخالقُ لجميع الأجسام ، ثم إنا لا نقول : يا خالق الأبوال والعذرات ، ويا مكون الخنافس ، والديدان ، فكذا ههنا ، وأيضاً : أنا توافقنا على أن الزِّنا واللِّواط وسائر القبائح ، إنما حصلت بتقدير الله وتيسيره ، ثمَّ لا يجوز أن يقال : يا مسهل الزنا واللواط ، ويا دافع الموانع عنها .

وأما قوله : المراد إذن الإقدارُ ، فهذا صرف للكلام عن ظاهره ، وذلك لا يجوزُ إلاَّ لدليل قاهر ، والدَّليل القاهر من جانبنا ، فإنَّ الفعل لا يصدر إلاَّ عند الدَّاعية الحاصلة ، وحصول تلك الدَّاعية ليس إلاَّ من الله تعالى .
وثانيها : قوله : « ويُخْزِهِمْ » أي : يذلهم بالأسر والقهر ، قال الواحديُّ « إنهم بعد قتلكم إيَّاهم » وهذا يدلُّ على أنَّ الإخزاء وقع بهم في الآخرة ، هذا ضعيف لما تقدَّم من أنَّ الإخزاء حاصلٌ في الدنيا .
وثالثها : قوله : « وينصُرْكُم عليْهِمْ » أي : لمَّا حصل لهم الخزي ، بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين [ بسبب ] كونهم قاهرين .
فإن قيل : لمَّا كان حصُولُ الخزي مستلزماً لحصول النصر ، كان إفراده بالذِّكرِ عبثاً .
فالجوابُ : ليس الأمر كذلك؛ لأنه يحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين ، إلاَّ أنَّ المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر ، فلمَّا قال : « وينصُرْكم عليْهِمْ » دلَّ على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر .
ورابعها : قوله { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } . قرأ الجمهور بياء الغيبة ، رَدّاً على اسم الله تعالى ، وقرأ زيد بن علي « نشف » بالنُّون ، وهو التفات حسن ، وقال : « قَوْمٍ مُؤمنينَ » شهادة للمخاطبين بالإيمان ، فهو من باب الالتفات ، وإقامة الظَّاهر مقام المضمر ، حيث لم يقل « صدوركم » .
والمعنى : ويبرىء داء قلوب قَوْمٍ مُؤمنين مِمَّا كانُوا ينالُونه من الأذى منهم .
ومعلوم أنَّ من طال تأذِّيه من خصمه ، ثم مكَّنه الله منه على أحسنِ الوجوه ، فإنَّهُ يعظم سروره به ، ويصير ذلك سبباً لقوة النفس ، وثبات العزيمة .
وقال مجاهدٌ والسديُّ « أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله ، حيث أعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكّلوا بهم ، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم » .
وخامسها : قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } كرْبَهَا ووَجْدهَا بمعونة قريش بني بكر عليهم .
فإن قيل : قوله { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } وبين قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } فهذه المنافع الخمسة ترجع إلى تسكين الدَّواعي الناشئة من القوَّة الغضبيَّة ، وهي التَّبشفي ، ودرك الثَّأر وإزالة الغيظ ، ولم يذكر فيها وجدان المال ، والفوز بالمطاعم والمشارب؛ لأنَّ العرب جبلوا على الحميّة والأنفة ، فرغبهُم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم .
وقرأ الجمهور : « ويُذْهب » بضمِّ الياء وكسرِ الهاء مِنْ : « أذْهَبَ » ، و « غَيْظَ » مفعول به وقرىء « ويَذْهَب » بفتح الياء والهاء ، جعله مضارعاً ل « ذَهَبَ » ، و « غيظُ » فاعل به وقرأ زيد بن علي كذلك ، إلاَّ أنَّه رفع الفعل مستأنفاً ، ولم ينسقْه على المجزم قبله ، كما قَرَءُوا « ويتوبُ » بالرفع عند الجمهور .

قوله : { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ } قرأ الجمهور بالرَّفع ، وقرأ زيدُ بنُ علي ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وعمرو بن عبيد ، وعمرو بن فائد ، وعيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية ويعقوب « ويتُوبَ » بالنَّصب ، فأمَّا قراءةُ الجمهور فإنَّهَا استئنافُ إخبارٍ ، وكذلك وقع ، فإنه قد أسلم ناسٌ كثيرون ، كأبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو وغيرهم .
قال الزجاج : وأبُو الفتح : وهذا أمرٌ موجودٌ ، سواءٌ قوتلوا ، أمْ لمْ يقاتلوا ، ولا وجه لإدخال التوبة في جواب الشرط الذي في : « قَاتِلُوهم » . يعنيان بالشَّرط : ما فُهِمَ من الجملة الأمرية . قالوا : ونظيره : { فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } [ الشورى : 24 ] وتمَّ الكلامُ ههنا ، ثم استأنف فقال : { وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] وأمَّا قراءةُ زيد ومنْ ذُكر معه فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلة في جواب الأمر من طريقِ المعنى ، وفي توجيه ذلك غموضٌ ، فقال بعضهم : إنَّه لمَّا أمرهُمْ بالمقاتلة شقَّ ذلك على بعضهم ، فإذا أقدموا على المقاتلةِ صار ذلك العملُ جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة ، قاله الأصمُّ . فيصير المعنى : إن تقاتلوهم يُعذِّبهمُ الله ، ويتُبء عليكم من تلك الكراهة لقتالهم ، وقال آخرون - في توجيه ذلك - : إنَّ حصول الظَّفَر وكثرة الأموال لذَّةٌ تطلبُ بطريقٍ حرام ، فلمَّا حصلتْ لهُم بطريقٍ حلالٍ ، كان ذلك داعياً لهم إلى التَّوبة ممَّا تقدم ، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة .
وقال ابنُ عطية - في توجيه ذلك - : « يتوجه عندي إذا ذهب إلى أنَّ التوبة يراد بها هنا قتل الكافرين والجاهد في سبيل الله ، هو توبةٌ لكم أيها المؤمنون ، وكمالٌ لإيمانكم ، فتدخلُ التسوية على هذا في شرطِ القتال » .
قال أبُو حيان « وهذا الذي قرروه من كون التَّوبة تدخلُ تحت جواب الأمر بالنسبة للمؤمنين الذين أمِرُوا بقتال الكُفَّارِ ، والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكُفَّار ، والمعنى : على من يشاء من الكفار ، لأنَّ قتال الكفارِ ، وغلبة المسلمين إياهم قد يكونُ سبباً لإسلام كثير ، ألا ترى إلى فتح مكَّة ، كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون ، وحسنُ إسلامُ بعضهم جدّاً ، ك : ابن أبي سرح ، ومن تقدم ذكره ، وغيرهم » فيصير المعنى : إن تقاتلوهم يتب الله على من يشاء من الكُفَّار ، أي : يُسْلمُ من يشاء منهم ، والمرادُ بالتَّوبة هنا : الهداية إلى الإسلام كما ذكره جمهور المفسرين ، ثمَّ قال { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } عليم بكل ما يفعل في ملكه « حَكِيمٌ » مصيب في أحكامه وأفعاله .
قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ } الآية .
قال الفراء : « أمْ » من الاستفهام الذي يتوسط الكلام ، ولو أريد به الابتداء لكان ب « الألفط أو ب » هل « .

فصل
هذا ترغيبٌ في الجهاد قيل : هذا خطابٌ للمنافقين ، وقيل : للمؤمنين الذي شق عليهم القتال ، فقال : أحسبتم أن تتركوا فلا تأمروا بالجهاد ، ولا تمتحنوا ، ليظهر الصادق من الكاذب ، « ولمَّا يعلم اللهُ » أي يرى اللهُ الذين جاهدوا منكم ، وذكر العلم والمراد منه : المعلوم ، فالمراد أن يصدر الجهاد عنهم ، إلاَّ أنه لما كان وجود الشيء يلزمه أن يكون معلوم الوجود عند الله ، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده .
قوله { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } يجوزُ في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّها داخلةٌ في حيِّز الصلة ، لعطفها عليها ، أي : الذين جَاهَدُوا ولم يتَّخذُوا .
الثاني : أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من فاعل : « جَاهدُوا » أي : جَاهَدُوا حال كونهم غير متخذين وليجَةً .
و : « وَليجَةً » مفعول ، و « مِن دُونِ اللهِ » إمَّا مفعول ثان ، إن كان الاتخاذُ بمعنى التَّصْيير ، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ ، إن كان على بابه ، والوليجة : فَعِيلة ، مِن الوُلُوج ، وهُو الدُّخُولُ ، و « الوَليجَةُ » من يداخلك في باطن أمورك ، وقال أبو عبيدة : « كُلُّ شيءٍ أدخلته في شيءٍ وليس منهُ ، والرجل في القوم وليس منهم ، يقال له وليجة » ويستعملُ بلفظٍ واحدٍ ، للمفردِ ، والمثنى ، والمجموع ، وقد يجمعُ على « ولاَئِج » و وُلُج ، ك : صحيفة ، وصحائف ، وصحف وأنشدوا لعبادة بن صفوان الغنوي : [ الطويل ]
2770- ولائجُهُمْ في كُلِّ مَبْدَى ومَحْضَرٍ ... إلى كُلِّ مَنْ يُرْجَى ومَنْ يَتخوَّفُ
فصل
معنى الآية : { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً } بطانة ، وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم .
وقال قتادةُ : « وَليجةً » خيانة . وقال الضَّحَّاك . « خديعة » . والمقصودُ من ذكر هذا الشَّرط : أنَّ المجاهد قد يجاهد ولا يكون مُخْلصاً ، بل يكون منافقاً باطنه خلاف ظاهره ، فبيَّن أنَّهُ لا بد وأن يأتُوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن الرياءِ ، والنفاقِ ، والتَّودُّدِ إلى الكفار .
والمقصودُ : بيان أنَّه ليس الغرضُ منه إيجاب القتالِ فقط ، بل الغرض أن يُؤتَى به انقياداً لأمر اللهِ ، ولحكمه وتكليفه ، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله فحينئذٍ يحصل به الانتفاع .
قوله : { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قرأ الحسنُ « بِمَا يَعْملُون » بالغيبةِ على الالتفات؛ وبها قرأ يقعوبُ في رواية سلاَّم ، أي : عالم بنياتهم ، وأغراضهم ، لا يَخْفَى عليه منها شيءٌ .
قال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّ الله لا يَرْضَى أن يكون الباطنُ خلاف الظَّاهِرِ ، ولا الظَّاهر خلاف الباطن ، وإنَّما يريدُ من خلقه الاستقامة ، كما قال { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] ، قال : ولمَّا فرض القتالُ ، تميَّز المنافقُ من غيره ، وتميَّز من يوالي المؤمنين ممَّن يعادِيهمْ .

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } الآية .
اعلم أنَّهُ تعالى بَدَأ السُّورة بذكر البراءة من الكُفَّار ، وبالغ في ذلك ، وذكر من أنواع قَبَائِحِهمْ مَا يوجب تلك البراءةَ ، ثمَّ إنَّه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها في أنَّ هذه البراءة غير جائزةٍ ، وأنَّهُ يجبُ مخالطتهم ومناصرتهم ، فأولها هذه الآية ، وذلك أنَّهم ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدةٍ توجبُ مخالطتهم ومعاونتهم ، ومناصرتهم ، ومن جملةِ تلك الصِّفات ، كونهم عامرين للمسجدِ الحرامِ .
قال ابنُ عبَّاسٍ : لمَّا أسر العبَّاسُ يوم بدرٍ ، وعيَّرَهُ المسلمون بالكُفرِ ، وقطيعة الرَّحمِ ، وأغلظ له عليٌّ القول ، فقال العبَّاسُ : ما لكم تذكرون مساوئنا ، ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليٌّ : ألكُم محاسن؟ فقال : نعم ، إنَّا لنعْمُرُ المسْجِدَ الحَرامَ ، ونحجب الكَعْبَة ، ونسْقِي الحاجَّ ، ونفكُّ العاني؛ فأنزل اللهُ تعالى ردّاً على العبَّاسِ : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } أي : ما ينبغي للمشركين أن يعمرُوا مساجد الله ، أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأنَّ المساجد تعمر لعبادة ا لله وحده .
واعلم أنَّ عمارة المَسْجِد قسمان :
إمَّا بلزومها وكثرة إتيانها ، يقال : فلان يعمرُ مجلس فلان إذا كثر غشيانه ، وإمَّا بالعمارة المعروفة بالبناء ، فإن كان المراد هو الثاني كان المعنى أنَّه ليس للكافر أن يقدم على مرمَّةِ المسجد ، لأنَّ المسجد موضع العبادة ، فيجب أن يعظم ، والكافرُ يهينه ، وأيضاً فالكافرُ نجس في الحكم ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وتطهير المسجد واجبٌ ، لقوله تعالى : { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ } [ البقرة : 125 ] ، وأيضاً فالكافرُ لا يحترز من النَّجاسة ، فدخوله المسجد تلويث للمسجد ، وقد يؤدّي إلى فسادِ عبادة المصلين .
وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الإنعام على المُصلين ، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنّة على المسلمين ، وقد ذهب جماعةٌ منهم الواحديُّ؛ إلى أنَّ المُرادَ منه : العمارة المعروفة من بناء المسجدِ ، ومرمته عند الخراب ، فيمنع منه الكافر ، حتى ولو أوصى بها لم تقبل ، ويمنع من دخول المساجدش ، وإن دخل بغير إذن استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظيمُ المساجد ، ومنعهم منها ، وقد أنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد وهم كفَّار ، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد ، وهو كافر ، وحمل بعضهم العمارة على المسجد على الوجه الأول .
« أَن يَعْمُرُواْ » اسم « كان » . قرأ ابنُ السميفع « يُعْمِرُوا » بضم الياء وكسر الميم ، من : « أعمر » رباعياً ، والمعنى : أن يعينوا على عمارته . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو « مسجد اللهِ » بالإفراد ، وهي تحتملُ وجهين ، أن يُراد به مسجدق بعينه ، وهو المسجد الحرام ، لقوله { وَعِمَارَةَ المسجد الحرام } [ التوبة : 19 ] ، وأن يكون اسم جنسٍ ، فيندرج فيه سائر المساجد ، ويدخل المسجدُ الحرامُ دخولاً أوليّاً وقرأ الباقون : « مَساجِد » بالجمع ، وهي أيضاً محتملةٌ للأمرين ، ووجه الجمع إمَّا لأنَّ كُلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام يقال لها : مسجدٌ ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد ، فصَحَّ أن يُطْلقَ عليه لفظُ الجمع لذلك .

[ قال الفرَّاءُ : ربما ذهب العربُ بالواحد إلى الجمع ، وبالجمع إلى الواحد ألا ترى إلى الرجل يركب البرذون؛ فيقول : أخذت في ركوب البراذين ، وفلان يجالس الملوك ، وهو لا يجلس إلا مع ملك واحد ، ويقال : فلان كثير الدرهم والدينار يريد : الدراهم والدنانير ] .
قوله : « شَاهِدِينَ » الجمهور على قراءته بالياء نصباً على الحال من فاعل : « يَعْمُرُوا » أراد : وهم شاهدون . وقرأ زيد بن علي : « شَاهِدُون » بالواو رفعاً على خبر ابتداءٍ مضمر ، والجملةُ حالٌ أيضاً .
قوله « على أَنْفُسِهِمْ » الجمهور على « أنفُسهم » جمع « نَفْس » وقرىء « أنفسهم » بضم الفاء ، ووَجْهُهَا أن يُرادَ ب « الأنْفَس » - وهو الأشرف الأجل من النَّفَاسة - : رسولُ صلى الله عليه وسلم .
قيل : لأنه ليس بطنٌ من بطون العرب إلاَّ وله فيهم ولادة ، وهذا المعنى منقولٌ في تفسير قراءة الجمهور أيضاً ، وهو مع هذه القراءة أوضح .
فصل
قال الحسنُ : « لم يقولوا نحن كفار ، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر » .
وقال الضحاك عن ابن عبَّاسٍ : « شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام ، فكانوا يطوفون بالبيت عراة ، وكانت أصنامهم منصوبة بخارج البيت الحرام عند القواعد ، وكلَّما طافُوا شَوْطاً سَجَدُوا لأصْنَامِهِمْ ، ولم يَزْدَادُوا بذلك من الله إلاَّ بُعْداً » .
وقال السدي : « شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، هو أن النصراني يسأل من أنت؟ فيقول : أنا نصراني ، واليهودي يقول أنها يهودي ، ويقال للمشرك ما دينك؟ فيقول : مشرك » .
وقيل : إنَّهم كانُوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلاَّ شريك هو لك تملكه وما ملك ، ونقل عن ابن عباس أنه قال : « المرادُ أنهم يشهدون على الرسول بالكفر ، قال : وإنَّما جازَ هذا التفسيرُ ، لقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] .
قال القاضي » هذا عدول عن الحقيقة ، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذَّر إجراءُ اللفظ على حقيقته ، أمَّا لما بيَّنا أنَّ ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز « .
قوله { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } لأنها لغير الله ، ثم قال : { وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ } هذه جملةٌ مستأنفة و » في النَّارِ « متعلقٌ بالخبرِ ، وقُدِّم للاهتمام به ، ولأجل الفاصلة .
وقال أبُو البقاءِ : » وهم خالدون في النَّارِ ، وقد وقع الظرفُ بين حرف العطف والمعطوف « وفيه نظرٌ ، من حيثُ إنَّه يوهم أنَّ الجملة معطوفةٌ على ما قبلها ، عطف المفرد على مثله تقديراً ، وليس كذلك ، بل هي مستأنفةٌ ، وإذا كانت مستأنفة فلا يقال فيها : فصل الظَّرف بين حرف العطف والمعطوف ، وإنَّما ذلك في المتعاطفين المفردين ، أو ما في تأويلهما ، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى :

{ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] وفي قوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } [ النساء : 58 ] .
وقرأ زيد بن علي خالدين بالياء ، نصباً على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ قبله ، لأنَّ الجارَّ صار خبراً ، كقولك : في الدار زيد قاعداً ، فقد رفع زيد بن علي « شاهدين » ، ونصب « خالدون » عكس قراءة الجمهور فيها .
فصل
احتج أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الفاسق من أهل الصَّلاة ، لا يخلد في النار من وجهين :
الأول : أن قوله { وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ } يفيد الحصر ، أي : هم فيها خالدون لا غيرهم؛ لأنَّ هذا الكلام إنَّما ورد في حق الكفار .
الثاني : أنَّه تعالى جعل الخلود في النار للكافر جزاء على كفره ، ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الكفار ، لما صحَّ تهديد الكافر به .
قوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله } جمهورُ القراء على الجمع ، وقرأ الجحدريُّ ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإفراد ، والتَّوجيهُ يؤخذ ممَّا تقَدَّم ، والظَّاهر أن الجمع هنا حقيقةٌ؛ لأن المراد : جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض .
فصل
اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن أنَّ الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد ، بيَّن أنَّ المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربع ، فقال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } فبين أنه لا بُدَّ من الإيمان بالله؛ لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه ، والكافرُ يمتنع منه ذلك ، وأمَّا كونه مؤمناً باليوم الآخر ، لأنَّ عبادة الله إنَّما تفيد في القيامة ، فمن أنكر القيامة ، لم يعبد الله ، ومن لم يعبد الله ، لم يَبْنِ بناءً لعبادة الله .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر الإيمان بالرَّسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -؟ .
فالجوابُ : من وجوه :
الأول : أنَّ المشركين كانوا يقولون : إنَّ محمداً إنَّما ادَّعى الرِّسالةَ طلباً للرئاسة ، فذكر ههنا الإيمان باللهِ واليوم الآخر ، وترك ذكر النُّبوةِ ، كأنه يقولُ : مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلاَّ الإيمان بالمبدأ والمعاد ، فذكر المقصود الأصليّ ، وحذف ذكر النبوة ، تنبيهاً للكفار على أنَّه لا مطلوب له من الرسالة إلاَّ هذا القدر .
الثاني : أنه لمَّا ذكر الصَّلاة ، والصلاة لا تتم إلاَّ بالأذان والإقامة والتشهد ، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة ، فكان كافياً .
الثالث : أنَّه ذكر الصلاة ، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق ، والمعهود عند المسلمين هي الأعمال التي كان يأتي بها محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فكان ذكر الصَّلاة دليلاً على النبوة ، وأمَّا قوله « وأَقَامَ الصَّلاةَ » فلأنَّ المقصود الأعظم من بناء المسجد إقامة الصلاة ، وأمَّا قوله « وآتَى الزَّكاةَ » فلأنَّ الإنسانَ إذا كان مقيماً للصلاة ، فإنَّه يحضرُ في المسجد ، وفي المسجد طوائف الفقراء والمساكين ، لطلب أخذ الزَّكاةِ ، فتحصُل عمارة المسجد ، وإن حملنا العمارة على البناء ، فلأن الظَّاهرَ أنَّ الإنسان إذا لم يؤدّ الزكاة لا يعمر مسجداً .

وأما قوله { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } أي : لا يبني المسجد لأجل الرِّياء والسمعة ، ولكن يبنيه لمجرد طلب رضوان الله .
روي أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - بنى في أول الإسلام على باب داره مسجداً ، فكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن ، والكفار يؤذونه بسببه ، فيحتمل أن يكون المراد منه تلك الحالة ، ولمَّا حصر عمارة المساجد فيمن كان موصوفاً بهذه الصفات الأربع ، نبَّه بذلك على أنَّ المسجد يجبُ صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث ، وإصلاح مهمات الدنيا . قال عليه الصلاة والسلام : « يأتِي في آخر الزمانِ ناسٌ من أمتِي يأتُون المساجدَ فيقعُدُون فيها حلقاً ، ذكرُهُم الدُّنْيَا ، وحُبُّ الدُّنْيَا ، لا تُجالِسُوهُم فليْسَ للهِ بِهِمْ حَاجَة » وقال عليه الصلاة والسلام « الحديثُ في المسْجِدِ يَأكلُ الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش » ، وقال عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى : « إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإنَّ زُوَّاري فيها عُمَّارها ، فطُوبَى لعبدٍ تطهَّر في بيتهِ ثمَّ زَارنِي في بَيْتِي ، فحقٌّ على المَزُورِ أن يُكرم زائرهُ » ، وقال عليه الصلاة والسلام « مَنْ ألفَ المَساجِد ألفهُ الله » ، وقال عليه الصلاة والسلام « إذَا رأيْتُم الرَّجلَ يعتادُ المسجدَ فاشْهَدُوا له بالإيمان » ، وقال عليه الصلاة والسلام « مَنْ أسرجَ في مسجدٍ سراجاً لم تزلِ الملائِكةُ وحملةُ العرشِ يَسْتغفرُونَ لهُ ما دامَ في ذلك المسْجدِ ضَوؤهُ » ، وهذه الأحاديث نقلها الزمخشريُّ .
قوله : { فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } قال المفسرون : « عسى » من الله واجب ، لكونه متعالياً عن الشّك والتردد .
وقال أبو مسلم : « عسى » ههنا راجع إلى العباد ، وهو يفيدُ الرجاء ، فكان المعنى : إنَّ الذين يأتون بهذه الطاعات ، إنَّما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء ، لقوله تعالى : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } [ السجدة : 16 ] والتحقيق فيه : أنَّ العبد عند الإتيان بهذه الأعمال ، لا يقطعُ على الفوز بالثَّواب؛ لأنه يجوزُ من نفسه أنه قد أخَلَّ بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول ، وقال الزمخشريُّ « المرادُ منه تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء ، وحسم لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها » . فبيَّن تعالى أنَّ الذين آمنوا وضَمُّوا إلى إيمانهم العمل بالشرائع ، والخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين « لَعَلَّ » و « عَسَى » ، فما بالُ هؤلاء المشركين ، يقطعون بأنَّهم مهتدون ، ويجزمون بفوزهم بالخير من عند اللهِ تعالى .

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)

قوله تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج } الآية .
الجمهور على قراءة « سِقايةَ » ، و « عِمارةَ » مصدرين على « فِعالةٍ » ، ك : الضِّيافة ، والوِقاية والتِّجارة ، ولم تقلب الياء همزة ، لتَحصُّنها بتاء التأنيث ، بخلاف « رِدَاءة ، وعِباءة » ، لطروء تاء التأنيث فيهما ، قاله الزمخشريُّ . واعلم أنَّ : السِّقاية فعلٌ ، وقوله { مَنْ آمَنَ بالله } [ التوبة : 18 ] إشارة إلى الفاعل ، فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل ، والصفة بالموصوف ، وإنّه محالن وحينئذ فلا بُدَّ من حذف مضاف ، إمَّا من الأول ، وإمَّا من الثَّاني ، ليتصادق المجعولان ، والتقدير : أجعلتم أهل سقايةِ الحاجِّ ، وعِمارة المسجد الحرام كمَنْ آمَنَ ، أو أجعلتم السقاية والعِمارة كإيمان مَنْ آمَنَ ، أو كعملِ من آمَنَ ، ونظيره : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله } [ البقرة : 177 ] ، وقيل : السٌِّاية والعمارة يعني : السَّاقي والعامر ، وهذا كقوله : { والعاقبة للتقوى } [ طه : 132 ] ، أي : للمتقين ، والمعنى : أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام ك { كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } . ويدلُّ عليه قراءة أبي وابن الزبير والباقين كما يأتي قريباً .
وقرأ ابنُ الزُّبير ، والباقر ، وأبو وجزة « سُقَاة . . . وعمرة » بضمِّ السين ، وبعد الألف تاء التأنيث ، و « عَمَرة » بفتح العين والميم دون ألف ، وهما جمع « ساقٍ » ، و « عامر » ، كما يقال : قاضٍ وقُضاة ، ورَام ورُمَاة ، وبارٌّ وبَرَرة ، وفاجِر وفَجَرة .
والأصل : سُقَيَة ، فقُلبت الياء ألفاً ، لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ولا حاجة هنا إلى تقدير حذف مضافٍ ، وإن احتيج إليه في قراءة الجمهور .
وقرأ سعيد بن جبير كذلك ، إلاَّ أنه نصب « المسجِد الحرَام » ب « عَمَرَة » ، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين؛ كقوله : [ المتقارب ]
2771- .. ولا ذَاكِرَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً
وقوله : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1-2 ] . وقرأ الضحاك « سُقَاية » ، « عمرة » ، وهما جمعان أيضاً ، وفي جمع « ساقٍ » على « فُعَالة » نظرٌ لا يَخْفى ، والذي ينبغي أن يقال : أن يُجْعل هذا جمعاً ل « سِقْي » و « السِّقْي » هو الشيء المَسْقِي ك « الرِّعْي ، والطِّحن » . و « فِعْل » يُجمع على « فُعال » ، قالُوا : ظِئْر وظُؤار ، وكان من حقه ألا تدخل عليه تاء التأنيث ، كما لم تدخل في : « ظُؤار » ، ولكنه أنَّث الجمع ، كما أنَّث في قولهم : « حِجَارة ، وفُحولة » ، ولا بُدّ حينئذٍ من تقدير مضافٍ ، أي : أجعلتم أصحاب الأشياءِ المَسقيَّة كمَنْ آمَنَ؟ .
فصل
روى النُّعْمانُ بنُ بشيرٍ قال : كُنْتُ عِنْدَ منبَرِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ : لا أُبَالِي ألاَّ أعملَ عملاً بعد الإسلام ، إلا أن أسقي الحاج ، وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام ، وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل ممَّا قلتم ، فزَجرهُمْ عمرُ وقال : لا تَرفعُوا أصوَاتكُم عندَ مِنبرِ رسُول الله صلى الله عليه وسلم وهُو يَوْمُ الجُمعةِ - ولكنْ إذا صَلَّيتُ دخلتُ واستَفْتيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمَا اختَلَفْتُم فيه ، فدخل ، فأنزلَ الله عزَّ وجلَّ هذه الآية إلى قوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } .

وقال ابنُ عبَّاسٍ « إنَّ عليّاً أغلظ الكلام للعبَّاس حين أسر يوم بدر ، فقال العبَّاسُ : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام ، والهجرة ، والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله هذه الآية . وأخبر أنَّ عمارتهم المسجد الحرام ، وقيامهم على السقاية ، لا ينفعهم مع الشرك بالله ، وأنَّ الإيمان بالله ، والجهاد مع نبيه خيرٌ مِمَّا هُمْ عليه » .
وقال الحسنُ والشعبيُّ ومحمدُ بن كعبٍ القرظيُّ « نزلت في عليٍّ بن أبي طالب ، والعباس ، وطلحة بن أبي شيبة ، افتخروا ، فقال طلحةُ : أنا صاحبُ البيتِ ، بيدي مفتاحه ، ولو أردتُ بتُّ فيه ، وقال العبَّاس : أنا صاحبُ السِّقاية ، والقائم عليها ، وقال علي : لا أدري ما تقولون ، لقد صلَّيْتُ إلى القبلة ستة أشهر قبل النَّاس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله هذه الآية » .
وقيل : إنَّ عليّاً قال للعباس بعد إسلامه : يا عم ألا تهاجرون ، ألا تحلقُون برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألستُ في أفضل من الهجرةِ؟ أسقي الحاج ، وأعمر البيت الحرام؟ فنزلت هذه الآية ، فقال العباس : ما أراني إلاَّ تارك سقايتنا ، فقال عليه الصلاة والسلام : « أقيمُوا على سقَايتكُم فإنَّ لَكُم فيهَا خَيْراً » .
وقيل : إنَّ المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج ، وعمار المسجد الحرام ، فنحن أفضل أم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ فقالت اليهودُ لهم : أنتُمْ أفْضَلُ .
قال ابن الخطيب : « هذه المفاضلة تحتملُ أن تكون جرت بين المسلمين ، ويحتمل أن تكون جرت بين المسلمين والكفار ، أمَّا كونها جرت بين المسلمين ، فلقوله تعالى بعد ذلك { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } ، وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح درجة أيضاً عند الله ، وذلك لا يليق إلاَّ بالمؤمنين ، وأمَّا احتمال كونها جرت بين المؤمنين والكفار ، فلقوله تعالى { كَمَنْ آمَنَ بالله } وهذا يدل على أنَّ هذه المفاضلة وقعت بين من لم يُؤمن بالله وبين من آمن بالله » .
وهذا هو الأقرب؛ لأن المفسرين نقلوا في تفسير قوله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله } [ التوبة : 18 ] أنَّ العباس احتجَّ على فضائل نفسه ، بأنَّهُ عمر المسجد الحرام ، وسقي الحاج ، فأجاب الله عنه بوجهين :
الأول : ما تقدَّم في الآية الأولى : أنَّ عمارة المسجد الحرام توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن ، أمَّا إذا صدرت عن الكافر ، فلا فائدة فيها ألبتة .
والثاني : هذه الآية ، وهو أن يقال : سَلَّمنا أنَّ عمارة المسجد الحرام ، وسقي الحاج ، يوجب نوعاً من الفضيلة ، إلاَّ أنها بالنسبة إلى الإيمان والجهاد كمقابلة الشيءِ الشَّريف الرفيع جدّاً بالشَّيء الحقير التافه جدّاً ، وإنَّه باطل ، وبهذا الطريق حصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها .

فصل
روى عكرمةُ عن ابن عبَّاسٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السِّقاية فاستسقى ، فقال العبَّاسُ يا فضل اذهب إلى أمك فأتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها ، فقال : اسقني . فقال يا رسُول الله : إنَّهم يجعلون أيديهم فيه ، قال : اسقني ، فشرب منه ، ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها ، فقال : اعملوا فإنَّكم على عملٍ صالح ، ثم قال : لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا ، يعني : عاتقه وأشار إلى عاتقه .
وعن بكر بن عبد الله المزنيّ : قال : كنتُ جالساً مع ابنِ عبَّاسٍ عند الكعبة فأتاه أعرابيّ فقال : ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمِنْ حاجةٍ بكم؟ أمِنْ بُخْلٍ؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ : الحمدُ للهِ ما بِنَا من حاجة ولا بخل ، إنَّما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته ، وخلفه أسامة ، فاستسقى ، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب ، وسقى فضله أسامة ، فقال : أحسنتم وأجملتم ، كذا فاصْنَعُوا ، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحسنُ : « كانت السِّقاية بنبيذ الزبيب » .
وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديداً ، فكسر منه بالماء ثلاثاً ، وقال : إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء . وأمَّا عمارة المسجد الحرامِ فهي تجهيزه وتحسين صورة جدرانه .
قوله { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله } في الجملة وجهان :
أظهرهما : أنَّها مستأنفةٌ ، أخبر تعالى بعدم تساوي الفريقين .
والثاني : أن يكون حالاً من المفعولين للجعل ، والتقدير : سَوَّيْتُم بينهم في حال تفاوتهم ، ولمَّا نفى المساواة بينهما ، وذلك لا يفيد من هُوَ الرَّاجح؛ فنبَّه على الرَّاجح بقوله { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } أي : إنَّ الكافرين ظلمُوا أنفسهم ، لأنهم تركُوا الإيمان ، ورضُوا بالكفر فكانوا ظالمين ، لأنَّ الظُّلمَ عبارةٌ عن وضع الشيء في غير موضعه ، وأيضاً ظلموا المسجد الحرام ، فإنَّه تعالى جعله موضعاً لعبادة الله تعالى ، فجعلوه موضعاً لعبادة الأوثان .
قوله تعالى : {
1649;لَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله } الآية .
لمَّا ذكر ترجيح الإيمان ، والجهاد على السِّقاية وعمارة المسجد الحرام على طريق الرمز؛ أتبعه بذكر هذا التَّرجيح بالتَّصريح ، أي : مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممَّن اتَّصف بالسِّقاية والعمارة ، والسَّبب فيه؛ لأن الإنسان ليس له إلاَّ الروح ، والبدن ، والمال ، فأمَّا الرُّوح فإنه لمَّا زال عنه الكفر ، وحصل فيه الإيمان ، فقد وصل إلى مراتب السعادات وأما البدن والمال ، فبالهجرة والجهادِ صارا معرَّضين للهلاك ، ولا شكَّ أنَّ النفس والمال محبوب الإنسان ، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلاَّ عند الفوز بمحبوب أكمل من الأوَّلِ ، فلولا أنَّ طلب الرضوان أتمُّ عندهم من النفس والمال؛ وإلاَّ لما رجَّحُوا جانب الآخرة على النفس والمال طلباً لمرضاة الله تعالى ، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السِّقاية والعمارة بمجرد الاقتداء بالآباء ، وطلب الرياسة والسُّمعة؟
قوله : { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } لم يقُلْ : أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة؛ لأنَّه لو ذكرهم ، أوهم أن تلك الفضيلة بالنسبة إليهم ، فلمَّا ترك ذكر المرجوح ، دلَّ ذلك على أنَّهُمْ أفضل من كل من سواهم على الإطلاق .

فإن قيل : لمَّا أخبرتم بأنَّ هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين ، فكيف قال في وصفهم : « أعْظَمُ دَرَجَةً » ؟ .
فالجوابُ من وجوه :
الأول : أن هذا ورد على ما قدَّرُوا لأنفسهم من الدَّرجة والفضيلة عند الله ، ونظيره قوله تعالى : { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 59 ] ، وقوله { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } [ الصافات : 63 ] .
الثاني : أنَّ المراد : أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات ، تنبيهاص على أنَّهم لمَّا كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى .
الثالث : أن المراد ، أنَّ المؤمن المُهاجِرَ المجاهد أفضل ممَّن على السقاية والعمارة ، والمراد منه : ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال ، ولا شك أنَّ السِّقاية والعمارة من أعمال الخير ، وإنَّما بطل ثوابها في حقِّ الكفار؛ لأن الكفر منع من ظهور ذلك الأثر ، ثُم بيَّن تعالى أنهم : « هُمُ الفائِزُون » وهذا للحصر ، والمعنى : أنهم هم الفائزون بالدرجة العلية المشار إليها بقوله : « عِنْدَ اللهِ » وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان .
وقد تقدَّم اختلاف القراء في : « يُبَشِّرهُم » وتوجيه ذلك في « آل عمران » وكذلك في الخلاف في { وَرِضْوَانٌ } [ آل عمران : 15 ] .
وقرأ الأعمش « رضُوان » بضمِّ الراء والضَّاد ، وردَّها أبُو حاتم ، وقال : « لا يجوز » . وهذا غيرُ لازم للأعمش فإنه رواها ، وقد وُجِد ذلك في لسان العرب ، قالوا : « السُّلُطان » بضم السين واللام .
قوله { لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ } يجوز أن تكون هذه الجملةُ صفةً ل « جَنَّاتٍ » وأنْ تكون صفةً ل « رَحْمَة » ؛ لأنَّهم جَوَّزُوا في هذه الهاء أن تعود للرَّحمة ، وأنْ تعود للجنات ، وجوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله : « يُبَشِّرهُمْ » ، كأنَّه قيل : لهم في تلك البشرى . وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً ، وحالاً إن قدَّرْتَه معرفةً . ويجوزُ أن يكون « نعيمٌ » فاعلاً بالجارِّ قبله ، وهو أولى ، لأنَّه يصير من قبيل الوصف بالمفرد ، ويجوزُ أن يكون مبتدأ ، وخبره الجار قبله ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك مراراً [ الأنفال : 72 ] . قوله : « خَالِدِينَ » حالٌ من الضمير في « لهم » .
واستدل أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الخلود يدلُّ على طول المكث ، ولا يدل على التأبيد ، قالوا : لأنَّهُ لو كان الخلود يفيد التَّأبيد ، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخُلُود تكراراً ، وإنه لا يجوز

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ } الآية .
والمقصود من هذه الآية : أن تكون جواباً عن شبهة أخرى ، ذكروها في أن البراءة من الكافر غيرُ ممكنة ، فإنَّ المسلم قد يكون أبوه كافراً أو ابنُه والكافر قد يكون أبوهُ أو أخوه مسلماً والمقاطعة بين الرَّجُلِ وأبيه وابنه وأخيه كالمتعذر ، فأزال اللهُ تعالى هذه الشبهة بهذه الآية . ونقل المفسِّرون عن ابنِ عبَّاسٍ « أنَّه تعالى لمَّا أمر المسلمين بالهجرةِ قبل فتح مكَّة ، فمنْ لم يهاجر لم يقبل اللهُ إيمانه ، حتى يجانب الآباء والأقرباء إن كانُوا كفاراً » .
قال ابنُ الخطيب « وهذا مشكل؛ لأنَّ الصحيح أنَّ هذه السورة إنَّما نزلت بعد فتح مكة ، فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه؟ وإنَّما الأقربُ أنَّهُ تعالى أمر المؤمنين بالتبرِّي عن المشركين بسبب الكفر ، لقوله : { إَنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان } أي : اختاروا الكفر على الإيمان ، والاستحباب : طلب المحبة ، يقال استحب له ، بمعنى : أحبه ، كأنه طلب محبته » .
ولمَّا نهى الله عن مخالطتهم ، وكان النَّهي يحتملُ أن يكُون نَهْيَ تنزيهٍ وأن يكون نهي تحريم ، ذكر ما يزيل الشبهة فقال : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون } . قال ابن عباسٍ « يريدُ : مشركاً مثلهم ، لأنه رضي بكفرهم ، والرَّضى بالكُفرِ كفر ، كما أنّض الرضا بالفسقِ فسق » .
قال القاضي : « هذا النَّهي لا يمنعُ أن يتبرأ المرءُ من أبيه في الدُّنيا ، كما لا يمنع من قضاء دين الكافرن ومن استعمله في الأعمال » .
قوله : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ } « آباؤكم » وما عطف عليه اسم « كان » ، و « أحب » خبرها ، فهو منصوبٌ ، وكان الحجاجُ بنُ يوسف يقرها بالرفع ، ولحَّنَه يحيى بن يعمر فنفاه .
قال أبو حيَّان « إنَّما لحَّنَه باعتبار مخالفةِ القراء النَّقلة ، وإلاَّ فهي جائزةٌ في العربية ، يُضمر في » كان « اسماً ، وهو ضميرُ الشأن ، ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر ، وحينئذٍ تكونُ الجملة خبراً عن » كان « .
قال شهاب الدِّين . فيكون كقول الشاعر : [ الطويل ]
2772- إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ شَامِتٌ ... وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كُنتُ أصْنَعُ
وهذا في أحد تأويلي البيت .
والآخر : أنَّ » صنفان : خبرٌ منصوب ، وجاء به على لغةِ بني الحارث ، ومن وافقهم .
والحكاية التي أشار إليها الشَّيْخُ من تلحين يحيى للحجَّاج هي : أنَّ الحجاج كان يَدَّعي فصاحةً عظيمة ، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه : هل تجدني ألحن؟ فقال : الأميرُ أجَلُّ من ذلك ، فقال : عَزمْتُ عليك إلاَّ ما أخبرتني ، وكانوا يُعظِّمون عزائم الأمراء ، فقال : نعم ، فقال : في أي شيءٍ؟ فقال : في القرآن ، فقال : ويْلَك!! ذلك أقبحُ بي ، في أيِّ آية؟ قال : سَمعتُك تقر : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ } إلى أن انتهيت إلى « أحَبّ » فرفعتها ، فقال : إذن لا تسمعني ألْحَنُ بعدها ، فنفاهُ إلى « خراسان » فمكث بها مدةً ، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة ، فجاءهم جيش ، فكتب إلى الحجاج كتاباً ، وفيه : « وقد جاءنا العدوُّ فتركناهم بالحضيض ، وصعدنا عُرعُرة الجبل » ، فقال الحجاج : ما لابن المهلب ولهذا الكلام ، فقيل له : إنَّ يحيى هناك ، فقال : إذن ذاك .

وقرأ الجمهور « عَشيرَتُكُمْ » بالإفراد ، وأبو بكر عن عاصم « عَشِيراتكم » جمع سلام . [ ووجه الجمع أنَّ لكلِّ من المخاطبين عشيرة ، فحسن الجمع ، وزعم الأخفشُ أنَّ « عشيرة » لا تجمع بالألف والتاء ، وإنَّما تكسيراً على « عشائر » ، وهذه القراءة حجةٌ عليه ، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وأبي رجاء .
وقرأ الحسن « عَشائرُكُم » قيل : وهي أكثر مِنْ « عشيراتكم » ] .
و « العَشِيرةُ » : هي : الأهلُ الأدنون . وقيل : هم أهلُ الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم ، أي : يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل ، وذلك أنَّ العشيرة هي العددُ الكاملُ ، فصارت العشيرةُ اسماً لأقارب الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم ، سواءً بلغوا العشرة أم فوقها .
وقيل : هي الجماعةُ المجتمعة بنسبٍ ، أو وداد ، لعقد العشرة .
فصل
هذه الآية هي تقريرُ الجواب المذكور في الآية الأولى ، وذلك لأنَّ جماعة المؤمنين ، قالوا : يا رسُول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكليَّة؟ وهذه الآية توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا ، وإن نحن فعلنا ذلك ، ذهبت تجارتنا ، وهلكت أموالنا ، وخربت ديارنا ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ } أي : تَسْتوطنُونَها راضين بسكناها { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ } فانتظروا { حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } . قال عطاءٌ : « بقضائه » .
وقال مجاهدٌ ومقاتلٌ : « بفتح مكَّة » .
وهذا أمر تهديد ، فبيَّن تعالى أنَّه يجب تحمل جميع هذه المضارّ في الدُّنيا ، ليبقى الدِّين سليماً . ثم قال { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } أي : الخارجين عن الطاعةِ ، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه إذا وقع التَّعارضُ بين مصلحةٍ واحدة من مصالح الدِّين ، وبين مهمات الدُّنيا؛ وجب ترجيح الدِّين على الدنيا .

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)

قوله تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } الآية .
لمَّا ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء ، والإخوان ، والعشيرة ، وعن الأموال ، والتجارات ، والمساكن ، رعاية لمصالح الدِّين ، وعلم أنَّ ذلك يشقّ على النفوس ، ذكر ما يدلُّ على أنَّ من ترك الدُّنيا لأجل الدِّين ، فإنَّهُ تعالى يوصله مطلوبه .
وضرب لهذا مثلاً ، وذلك أنَّ عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقعة حنين ، كانوا في غاية الكثرةِ والقوَّةِ ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم ، صارُوا منهزمين ، فلمَّا تَضَرَّعُوا في حال الانهزام إلى اللهِ تعالى قوَّاهم حتَّى هزموا عسكر الكُفَّارِ ، وذلك يدلُّ على أنَّ الإنسان متى اعتمد على الدُّنيا ، فاته الدِّين والدنيا ، ومتى أطاع الله ، ورجَّحَ الدِّين على الدُّنيا ، آتاه اللهُ الدِّين والدُّنيا على أحسن الوُجوه فكان هذا تسلية لأولئك المأمورين بمقاطعة الآباءِ والأبناءِ ، لأجل مصلحة الدِّين ، وعداً لهم بأنهم إن فعلُوا ذلك أوصلهم اللهُ تعالى إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه .
قال الواحديُّ : « النّصر : المعونةُ على العدوِّ خاصة » « المواطن » : جمع « مَوْطِن » بكسر العين ، وكذا اسم مصدره ، وزمانه ، لاعتلال فائه ك « المَوْعد » ، قال : [ الطويل ]
2773- وكَمْ مَوْطنٍ لوْلايَ طِحْتَ كَما هَوَى ... بأجْرَامِهِ مِنْ قُنَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي
و « حُنَيْن » : اسمُ وادٍ بين مكة والطائف ، فلذلك صرفه ، وبعضهم جعله اسماً للبقعة ، فمنعه في قوله : [ الكامل ]
2774- نَصَرُوا نَبيَّهُمُ وشَدُّوا أزْرَهُ ... بِحُنينَ يَوْمَ تواكُلِ الأبْطالِ
وهذا كما قال الآخرُ في « حراء » : اسم الجبل المعروف ، اعتباراً بتأنيث البقعة في قوله : [ الوافر ]
2775- ألَسْنَا أكْثَرَ الثَّقليْنِ رَجْلاً ... وأعْظَمَهُمْ بِبطْنِ حِرَاءَ نَارَا
فصل
المرادُ بالمواطن الكثيرة : غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقال : إنها ثمانون موطناً ، فأعلمهم أنه تعالى هو الذي تولَّى نصر المؤمنين ، ومن نصره الله فلا غالب له ، ثم قال « وَيَوْمَ حُنَيْنٍ » أي : واذكر يوم حُنَيْن من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم ، و « حنين » واد بين مكة والطائف .
وقيل : إلى جنب ذي المجاز . قال الرواةُ : لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة ، وقد بقيت أيامٌ من شهر رمضان ، خرج متوجهاً إلى حنين ، لقتال هوازن وثقيف ، في اثني عشر ألفاً ، عشرة آلاف من المهاجرين ، وألفان من الطلقاءِ .
وقال عطاءٌ : عن ابن عباس « كانوا ستة عشر ألفاً » .
وقال الكلبيُّ « كانوا عشرة آلاف » . وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف ، وعلى هوازن : مالكُ بن عوف النضري ، وعلى ثقيف : كنانة بن عبد ياليل الثقفي ، فلما التقى الجمعان ، قال رجلٌ من الأنصار يقال له : سملة بنُ سلامة بن وقش : لن نغلب اليوم عن لقَّةٍ ، وهو المراد من قوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } ، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ، ووكلوا إلى كلمة الرجل ، وفي رواية : لم يرض الله قوله ، ووكلُوا إلى أنفسهم ، فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ فانهزم المشركون وتخلّوا عن الذراري ، ثم نادوا يا حماة السواد اذكروا الفضائح ، فتراجعوا ، وانكشف المسلمون .

قال قتادةُ : وذكر لنا أنَّ الطُّلقاء انجفلوا يومئذ بالنَّاسِ .
قوله : « وَيَوْمَ حُنَيْنٍ » فيه أوجه :
أحدهما : أنَّهُ عطفٌ على محلِّ قوله : « فِي مَوَاطِنَ » عطف ظرف الزمان من غير واسطة « في » على ظرف المكان المجرور بها ، ولا غرو في نسق ظرف زمان على مكان ، أو العكس ، تقول : سرت أمامك ويوم الجمعة ، إلاَّ أنَّ الأحسن أن يُتركَ العاطفُ في مثله .
الثاني : زعم ابنُ عطية : أنَّه يجوز أن يُعطف على لفظ « مَواطِنَ » بقتدير : « وفِي يَوْمِ » ، فحذف حرف الخفض ، وهذا لا حاجة إليه .
الثالث : قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : كيف عطف الزمان على المكان ، وهو » يَوْمَ حُنينٍ « على » مَواطِنَ « ؟ .
قلت : معناه : وموطن يوم حنين ، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين » .
الرابع : أن يُراد ب « المواطِن » : الأوقاتُ ، فحينئذٍ إنَّما عطف زمانٌ على زمان .
قال الزمخشريُّ - بعدما تقدَّم عنه - : « ويجوزُ أن يُراد ب » المواطن « : الوقت ، ك : مقتل الحسين ، على أنَّ الواجب أن يكون : » يَوْمَ حُنينٍ « منصوباً بفعل مضمر ، لا بهذا الظَّاهر ، ومُوجِبُ ذلك أنَّ قوله : » إِذْ أَعجَبَتْكُمْ « بدلٌ من » يَوْمَ حُنَينٍ « ، فلو جعلتَ ناصبَه هذا الظاهر ، لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ، ولم يكونوا كثيرين في جميعها ، فبقي أن يكون ناصبُه فعلاً خاصاً به » .
قال شهابُ الدِّين : « لا أدري ما حمله على تقدير أحد المضافين ، وعلى تأويل » المواطن « بالوقت ، ليصحَّ عطفُ زمانٍ على زمان ، أو مكان على مكان ، إذ يصحُّ عطفُ أحدُ الظرفين على الآخر؟ وأمَّا قوله : » على أنَّ الواجب أن يكون « إلى آخره؛ كلامٌ حسنٌ ، وتقريره أنَّ الفعل مُقيدٌ بظرف المكان ، فإذا جعلنا » إذْ « بدلاً من » يَوْم « كان معمولاً له؛ لأنَّ البدل يَحُلُّ محلَّ المُبْدل منه؛ فيلزم منه أنه نصرهم إذ أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة ، والفرض أنَّهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة ، إلاَّ أنَّه قد ينقدح ، فإنَّه - تعالى - لم يقل في جميع الموطن ، حتَّى يلزم ما قاله » .
ويمكن أن يكون أراد بالكثرةِ : الجميع ، كما يُراد بالقلة العدمُ .
قوله : « بِمَا رَحُبَتْ » « ما » مصدريةٌ ، أي : رَحْبُها وسعتها .

وقرأ زيد بن علي في الموضعين « رَحْبَت » بسكون العين ، وهي لغة تميم ، يسكنون عين « فَعُل » فيقولون : في « شَرُف » « شَرْف » . و « الرُّحْب » بالضمِّ : السَّعَة ، وبالفتح : الشيء الواسع ، يقال : رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابَةٌ ، وهو قاصر . فأمَّا تعدِّيه في قولهم : رَحُبَتكم الدار « فعلى التضمين ، لأنه بمعنى » وسعتكم « .
فصل
قوله : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } الإغناء : إعطاء ما يدفع الحاجة ، أي : فلم يُعطِكم شيئاً يدفع حاجتكم . والمعنى : أنه تعالى أعلمهم أنَّهُم لا يغلبون بكثرتهم ، وإنما يغلبون بنصر الله ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم ، صاروا منهزمين ، ثم قال : { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } أي : مع رحبها ، و » ما « ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر ، والمعنى : إنكم لشدَّةِ ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرضُ ، فلم تجدُوا فيها موضعاً يصلح لفراركم من عدوكم .
قال البراء بن عازب : كانت » هوازن « رماة ، فلما حملنا انكشفوا وأكببنا على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام ، وانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان بن الحارث . قال [ البراء ] : والذي لا إله إلاَّ هو ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ، قال : رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب ، والعباس آخذ بلجام دابته البيضاء وهو يقول : » أنَا النبيُّ لا كذِبْ ، أنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب « وطفق يركضُ بغلته نحو الكفار ، ثم قال للعبَّاس : نادِ المهاجرين والأنصار - وكان العباس رجلاً صَيِّتاً - فجعل يُنَادِيك يا عباد الله ، يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرةِ ، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً ، وأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده كفاً من الحَصَى ، فرماهم بها ، وقال : » شَاهتِ الوُجوهُ « فما زال أمرهم مدبراً ، وحدهم كليلاً حتى هزمهم اللهُ ، ولم يبق منهم أحد يومئذ إلاَّ وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب ، فذلك قوله : { ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين } .
والمراد بالسّكينة : ما يسكن إليه القلبُ ، ويوجب الأمنة ، ووجه الاستعارة فيه : أنَّ الإنسان إذا خاف فرَّ وفُؤاده متحرك ، وإذا أمن؛ سكن وثبت؛ فلمَّا كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السَّكينة كناية عن الأمن . ثم قال تعالى : { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } والمراد : أَنْزَلَ الملائِكة ، وليس في هذه الآية ما يدلُّ على عدّة الملائكة ، كما هو في قصة بدر ، فقال سعيد بن جبير : » أيَّد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة « ولعله إنَّما قاسه على يوم بدر .
وقال سعيدُ بن المسيبِ : حدَّثني رجلٌ كان في المشركين يوم حنين قال : لمَّا كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم ، فلمَّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، تلقانا رجال بيض الوجوه ، فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا ، واختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم؟ فالذي روي عن سعيد بن المسيب يدلُّ على أنهم قاتلوا ، وقال آخرون : إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر ، وفائدة نزولهم في هذا اليوم : هو إبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين .

ثم قال تعالى : { وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ } والمرادُ من هذا التَّعذيب : قتلهم وأسرهم ، وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم .
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق لله تعالى؛ لأنَّ المراد من هذا التَّعذيب ليس إلا الأخذ والأسر ، وقد نسب تلك الأشياء إلى نفسه .
قوله : { وذلك جَزَآءُ الكافرين } تَمسَّك الحنفيَّةُ في مسألة الجلد مع التعزير بقوله { الزانية والزاني } [ النور : 2 ] قالوا : الفاءُ تدلُّ على كون الجلد جزاء ، والجزاء اسم للكافي ، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه ، وأجيبوا بأن الجزاء ليس اسماً للكافي؛ لأنه تعالى سمَّى هذا التعذيب جزاء مع أنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ العقوبة الدائمة في القيامة مُدَّخرة لهم ، فدلت هذه الآية على أنَّ الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية .
قوله { ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ } أي : أنَّ الله تعالى مع كل ما جرى عليهم من الخذلان يتوب عليهم ، بأن يزيل عن قلبهم الكفر ، ويخلق فيه الإسلام ، وقال القاضي : معناهُ : أنَّهُ بعد ما جرى عليهم ما جرى ، إذا أسلمُوا وتابُوا فإنَّ الله يقبل توبتهم « وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله : » ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ « ظاهره يَدُلُّ على أنَّ تلك التبوة إنَّما تحصل لهم من قبله تعالى ، وتقدَّم الكلامُ على المعنى في البقرة عند قوله { فَتَابَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 37 ] ثم قال : { والله غَفُورٌ } أي : لمن تاب { رَّحِيمٌ } لِمَنْ آمن وعمل صالحاً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } الآية .
اعلم أنه عليه الصَّلاة والسَّلام ، لمَّا أمر عليّاً أن يقرأ على مشركي مكَّة أول سورة براءة ، وينبذ إليهم عهدهم ، وأنَّ الله بريء من المشركين ورسلوه ، قال أناس : يا أهل مكَّة ستعلمون ما تلقونه من الشِّدَّة لانقطاع السبل وفقد الحمولات؛ فنزلت هذه الآية ، لرفع الشُّبهةِ ، وأجاب الله تعالى عنها بقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي : فَقْراً وحاجةً ، { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } قال الأكثرون : لفظ المشركين يتناولُ عبدة الأوثانِ ، وقال قومٌ : يتناولُ جميع الكُفَّارِ ، وقد تقدم ذلك .
قال الضحاكُ وأبو عبيدةَ : « نَجَسٌ » قذر .
وقيل : خَبِيثٌ ، وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى ، والتثنية والجمع . جعلوا نفس النَّجَس ، على المبالغة ، أو على حذفِ مضاف .
وقرأ أبو حيوة « نِجْسٌ » بكسر النُّون وسكون الجيم ، وجهه أنَّه اسمُ فاعل في الأصلِ على « فَعِل » مثل : « كَتِف وكَبِد » ثم خُفِّف بسكون عَيْنه بعد إتباع فائه ، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مقامه ، أي : فريق نجس ، أو جنس نجس ، فإذا أفرد قيل « نَجس » بفتح النون .
قال البغوي « ولا يقال على الانفراد ، بكسر النُّون وسكون الجيم ، إنَّما يقال » رِجْسٌ نِجْسٌ « ، فإذا أفرد قيل » نَجِسٌ « بفتح النون وكسر الجيم » وقرأ ابن السَّميفع « أنْجَاس » بالجمع ، وهي تحتمل أن تكون جمع قراءةِ الجمهور ، أو جمع قراءةِ أبي حيوة ، وأراد به نجاسة الحكم ، لا نجاسة العين ، سُمُّوا نجساً على الذَم .
وقال ابنُ عبَّاس وقتادةُ « سماهم نجساً » ؛ لأنَّهم يجنبون ، فلا يغتسلون ، ويحدثون فلا يتوضؤون « ونقل الزمخشري عن ابن عباسٍ » أنَّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير « وعن الحسنِ » مَنْ صَافحَ مشركاً توضَّأ « وهذا قول الهادي من أئمة الزَّيدية .
وأمَّا الفقهاءُ : فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم ، وهذا هلاف ظاهر القرآن ، فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصلٍ ، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا من الخلاف .
واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم ، وأيضاً لو كان نجساً ، لما تبدل ذلك بالإسلام ، وأجاب القائلون بالنجاسة : بأنَّ القرآن أقوى من خبر الواحد وبتقدير صحَّةِ الخبر؛ يجب أن يعتقد أن حل الشرب من إنائهم كان متقدماً على نزول هذه الآية من وجهين :
الأول : أنَّ هذه السُّورة من آخر ما نزل من القرآن ، وأيضاً كانت المخالطة مع الكُفَّار جائزة فحرَّمها الله تعالى ، وكانت المعاهدة حاصلة معهم ، فأزالها الله؛ فلا يبعد أن يقال أيضاً : الشرب من أوانيهم ، كان جائزاً فحرمه اللهُ .

الثاني : أنَّ الأصل حل الشرب من أي إناء كان ، فلو قلنا إنه حرم بحكم الآية ، ثم حل بحكم الخبرِ ، فقد حصل نسخان ، أما لو قلنا إنَّه كان حلالاً بحكم الأصل ، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل ، ثم جاء التَّحريمُ بهذه الآيةِ ، لم يحصل النَّسخ إلاَّ مرة واحدة؛ فوجب أن يكون هذا أولى .
وأما قولهم : لو كان الكافرُ نجس العين ، لما تبدَّلت النجاسةُ بالطَّهارة بسبب الإسلام . فهذا قياس في معارضة النَّص الصَّريح ، وأيضاً فالخمرةُ نجسة العين ، فإذا انقلبت بنفسها خلاًّ طهرت ، وأيضاً إنَّ الكافر إذا أسلم؛ وجب عليه الاغتسالُ ، إزالة للنجاسةِ الحاصلة بحكم الكفر ، وهذا ضعيفٌ؛ فإنَّ الأعيانَ النجسة لا تقبل التَّطهير بالغسل ، إنما يطهر بالغسل ما ينجس .
فصل
قالت الحنفيَّةُ : أعضاءُ المحدث نجسة نجاسة حكمية ، وبنوا عليه أنَّ الماء المستعمل في رفع الحدث نجس ، ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة : أنَّهُ نجاسة خفيفة ، وروى الحسنُ بن زيادٍ : أنَّه نجس نجاسة غليظة ، وهذه الآية تدلُّ على فساد هذا القول؛ لأن كلمة « إِنَّمَا للحصر ، فاقتضى أن لا نجس إلاَّ المشرك ، فالقولُ بأنَّ أعضاءَ المحدث نجسة ، يخالف هذا النَّص ، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس ، وفي أنَّ المؤمن ليس بنجس ، ثم إنَّ قوماً قلبوا القضية ، وقالوا : المشرك طاهرٌ ، والمؤمن حال كونه محدثاً نجس ، وزعموا أنَّ المياه التي يستعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة ، والمياه التي يستعملها أكابرُ الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة ، مع مخالفة قوله عليه الصلاة والسلام : » المُؤمنُ لا يَنْجُسُ حيّاً ، ولا ميتاً « وأجمعوا على أنَّ إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته ، ولو كان يده رطبة فوصلت إلى يدِ مُحدث لم تنجس يده ، ولو عرق المحدثُ ووصل العرقُ إلى ثوبه لم ينجس الثوب ، والقرآن ، والخبر ، والإجماع ، تطابقت على القول بطهارة وأعضاء المحدث ، فكيف يمكن مخالفته؟
فصل
قيل المرادُ بالمسجدِ الحرام : نفس المسجدِ ، وقيل : جميع الحرم ، وهو الأقربُ لقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد؛ فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة ، لما خافُوا بسبب هذا المنع من العَيْلَة ، وإنَّما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواقِ والمواسم ، ويؤكد هذا قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] مع أنَّهم أجمعُوا على أنه إنَّما رفع الرسول من بيت أم هانىء ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام » لا يجتمع دينان في جزيرة العربِ « وهي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولاً ، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشَّام عرضاً ، واعلم أنَّ جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام :
أحدها : الحرم ، فلا يجوزُ للكافر أن يدخله بحال ذمِّيّاً كان أو مستأمناً ، لظاهر هذه الآية ، وإذا جاء رسول من دار الكُفرِ إلى الإمام ، والإمام في الحرمِ ، لا يأذن له في دخول الحرم ، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم ، وإن دخلَ مشكر الحرم متوارياً فمرض فيه ، أخرجناه مريضاً ، وإن مات ودفن ولم نعلم نبشناه ، وأخرجنا عظامه إذا أمكن ، وجوَّز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم .

والقسم الثاني من بلاد الإسلام : الحجازُ ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ، ولكن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيَّامٍ ، مقام السفرِ ، لما روي عن عمر بن الخطابِ ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لَئِنْ عِشْتُ إنْ شاءَ الله لأخرجنَّ اليهُودَ والنَّصارى من جزيرةِ العربِ ، حتى لا أدعُ إلاَّ مُسْلِماً » فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال : « أخرجُوا المُشركينَ مِنْ جزيرةِ العرب » فلم يتفرَّغ لذلك أبو بكر ، وأجلاهم عمر في خلافته ، وأحل لمن يقدم منهم تاجراً ثلاثاً .
والقسم الثالث : سائر بلاد الإسلام؛ فيجوزُ للكافر أن يقيم فيها بذمَّة أو أمان ، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم .
فصل
والمراد بقوله « بَعْدَ عامهم هذا » يعني العام الذي حجَّ فيه أبو بكرٍ بالنَّاس ، ونادى علي بالبراءة ، وهو سنة تسع من الهجرةِ .
قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } . العيلةُ : الفقرُ ، يقالك عَالَ الرَّجُل يَعِيلُ عَيْلَةً : إذا افتقر . والمعنى : إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار : « فسَوْفَ يغنيكُم الله مِنْ فَضْلِهِ » قال مقاتل « أسلم أهلُ جدة وصنعاء وحنين ، وحملوا الطعام إلى مكَّة ، فكفاهم الله ما كانوا يخافون » .
وقال الحسنُ والضحاكُ وقتادةُ : « عوَّضهم الله عنها بالجزية » وقيل : أغناهم بالفيء . وقال عكرمة : « أنزل اللهُ عليهم المطر ، وكثر خيرهم » .
فإن قيل : الغرضُ بهذا الخبر ، إزالة الخوف بالعيلة ، وقوله « إن شَاء اللهُ » يمنع من فائدة هذا المقصود .
فالجوابُ من وجوه :
الأول : ألاَّ يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب؛ فيكون الإنسان أبداً متضرّعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات ، وفي دفع الآفات .
الثاني : أنَّ المقصود من ذكر هذا الشَّرط تعليم رعاية الأدب ، كقوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله } [ الفتح : 27 ] .
الثالث : المقصودُ : التَّنبيه على أنَّ حصول هذا المعنى لا يكون في كلِّ الأوقات ، وفي جميع الأمكنة؛ لأنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام - قال في دعائه : { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات } [ البقرة : 126 ] وكلمة « مِنْ » للتبعيض ، فقوله ههنا « إن شَاءَ اللهُ » المراد منه ذلك التبعيض .
ثم قال : { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بأحوالكم ، « حَكِيمٌ » أي : لا يعطي ولا يمنع إلاَّ عن حكمة وصواب .
قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } الآية .
لمَّا بيَّن تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام ، ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية .

قال مجاهدٌ « نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الرُّوم ، فغزا بعدها غزوة تبوك » وقال الكلبيُّ « نزلت في قريظة والنَّضير من اليهودِ ، فصالحهم ، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين » .
فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ، فكيف أمر بقتالهم؟ .
فالجوابُ : لا يؤمنون كإيمان المؤمنين؛ فإنَّهم إذا قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، لا يكون ذلك إيماناً باللهِ .
قوله : { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } أي : لا يُحرِّمُون ما حرَّم الله في القرآن ، وبينه الرسول ، وقال أبو زيدٍ : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم .
قوله { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق } أي : لا يدينون الدِّين الحق ، أضاف الاسم إلى الصَّفةِ وقال قتادة : « الحَقّ » هو الله - عزَّ وجلَّ -؛ أي : لا يدينون دين الله ، ودينه الإسلام . قال أبو عبيدة : معناه : لا يطيعون الله طاعة أهل الحقّ .
قوله : { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بيانٌ للموصول قبله ، والمرادُ : اليهودُ والنصارى { حتى يُعْطُواْ الجزية } وهي الخراجُ المضروب على رقابهم ، و « الجِزْيةُ » : « فِعْلَة » ، لبيان الهيئة ، ك « الرِّكْبَة » . قال الواحديُّ : « الجزيةُ : ما يعطى المعاهد على عهده ، وهي » فِعْلة « من جزى يجزي إذا قضى ما عليه » .
قوله : « عَن يَدٍ » حالٌ ، أي : يُعْطُوها مقهورين أذِلاَّء ، وكذلك : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
قال الزمخشريُّ « قوله : » عن يدٍ « إمَّا أن يراد به عن يد المُعْطِي ، أو يد الآخذ ، فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان :
أحدهما : عن يد غير ممتنعة؛ لأنَّ مَنْ أبى وامتنع لم يعط عن يده ، بخلافِ المطيع المنقاد .
وثانيهما : حتى يعطوها عن يد إلى يدٍ نقداً غير نسيئة ، ولا مبعوثاً على يد أحدٍ ، ولكن عن يد المُعطي إلى يد الآخذ .
وإن كان المرادُ به : يد الآخذ ، ففيه وجهان :
الأول : حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم ، كما تقولُ : اليد في هذا لفلان .
وثانيها : أنَّ المراد : عن إنعام عليهم؛ لأنَّ قبول الجزية منهم ، وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم » .
قوله { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : تؤخذ الجزية منهم على الصغار والذل والهوان ، يأتي بها بنفسه ماشياً إلا راكباً ، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ، ويؤخذ بلحيته ويقال له أدِّ الجزية .
وقال الكلبيُّ : « إذا أعْطَى يصفعُ في قفاهُ » . وقيل : يكتب ويجرُّ إلى موضع الإعطاء .
وقيل : إعطاؤه إيَّاها هو الصِّغار؛ وقال الشافعيُّ « الصِّغارُ : جريان أحكام الإسلام عليهم » .

فصل
الكفار فريقان ، منهم عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا ، فهؤلاء لا يقرَّون على دينهم بأخذ الجزية؛ ويجب قتالهم حتى يقولوا : لا إله إلاَّ الله ، ويصيروا مؤمنين .
والثاني : أهل الكتاب وهم اليهودُ والنصارى؛ فهؤلاء يقرون بالجزية ، والمجوسُ أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « سُنُّوا بِهمْ سُنَّة أهْلِ الكِتابِ » ، وأخذه الجزية من مجوس هَجَرَ .
فصل
اتَّفَقَتْ الأمةُ على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب ، وهم اليهودُ والنصارى إذا لم يكونوا عرباً ، واختلفوا في أهل الكتابِ العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم؛ فذهب الشافعيُّ إلى أنَّ الجزية على الأديان لا على الأنساب ، فتؤخذُ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً ، ولا يؤخذ من أهل الأوثان بحال؛ لأنَّ النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذها من أَكَيْدِر دُومَةَ - وهو رجل من العرب يقال : غسان - ، وأخذ من أهل دومة اليمنِ وعامتهم عرب؛ وذهب مالكٌ والأوزاعي إلى أنَّها تؤخذ من جميع الكُفَّارِ .
وقال أبُو حنيفة : تؤخذُ من أهل الكتابِ على العموم ، وتؤخذُ من مشركي العجم ، ولا تؤخذ من مشركي العربِ . وقال أبو يوسف : لا تؤخذُ من العربي كتابياً كان أو مشركاً وتؤخذ من العجمي كتابيّاً كان أو مشركاً ، وأمَّا المجوس فاتفقت الصَّحابةُ على أخذ الجزية منهم؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : « سُنُّوا بِهمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ » .
فصل
قال القاضي : قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم ديناراً ، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً ، وعلى الأوْساطِ أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين ، ولمَّا بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن أمرهُ أن يأخذَ من كلِّ حالم ديناراً ، أي : بالغ ، ولم يفرِّق بين الغني والفقير والوسط ، وذلك دليل على أنها لا تجب على الصبيان ، وكذلك لا تجب على النساء ، إنَّما تؤخذ من الأحرار البالغين العقلاء من الرجالِ .
فصل
تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة في أوَّل السنة ، وعند الشافعي وغيره في آخرها . وتسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة وغيره لقوله عليه الصلاة والسلام « لَيْسَ عَلى المُسلمِ جزيةٌ » وعند الشافعي - رضي الله عنه - لا تسقطُ .
فصل
قال بعضُ العلماءِ : هؤلاء إنَّما أقرُّوا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل ، وأيضاً فكتابهم في أيديهم ، فربَّما يتفكرون فيه فيعرفون صدق محمد ونبوته ، فأمهلوا لهذا المعنى .
فصل
طعن ابنُ الراوندي في القرآن وقال : إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى ، قوله : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } [ مريم : 90-91 ] فبيَّن أنَّ إظهارهم لهذا القولِ بلغ إلى هذا الحدِّ ، ثم إنَّه أخذ منهم ديناراً واحداً وأقرهم عليه ، وما منعهم منه .
والجواب : ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكُفرِ ، بل المقصودُ حقن دمه وإمهاله مدَّة ، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسنِ الإسلام وقوَّة دلائله؛ فينتقل من الكفر إلى الإيمان .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

{ وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله } الآية .
قرأ عاصم والكسائيُّ بتنوين « عُزَيْرٌ » ، والباقون من غير تنوين ، فأمَّا القراءةُ الأولى فيحتمل أن يكون اسماً عربياً مبتدأ ، و « ابنُ » خبره ، فتنوينه على الأصل ، ويحتمل أن يكون أعجمياً ، ولكنهُ خفيفُ اللَّفظِ ، ك « نُوحِ » ، و « لُوطٍ » ، فصُرفَ لخفَّة لفظه ، وهذا قول أبي عبيد ، يعني : أنَّهُ تصغيرُ « عَزَر » ، فحكَمه حكم مُكَبَّره ، وقال : هذا ليس منسوباً إلى أبيه ، إنَّما هو كقولك : زيد ابن الأمير ، وزيد ابن أخينا ، و « عُزَيْرٌ » مبتدأ وما بعده خبره ، ورُدَّ هذا بأنَّه ليس بتصغير ، إنَّما هو أعْجَمي ، جاء على هيئة التَّصغيرِ في لسان العرب ، ك « سُلَيْمَان » ، جاء على مثال « عُثَيْمَان ، وعُمْيَران » .
وأمَّا القراءةُ الثانية؛ فيحتمل حذفُ التنوين ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه حذف التنوين لالتقاء الساكنين على حدِّ قراءة { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1-2 ] . قال الفرَّاء : نون التنوين في « عُزَيْرٌ » ساكنة ، والباء في قوله « ابْنُ اللهِ » ساكنة ، فالتقى ساكنان ، فحذف نون التنوين للتخفيف؛ وأنشد : [ المتقارب ]
2776- وألْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... ولا ذَاكِرٍ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً
وهو اسمٌ منصرفٌ مرفوعٌ بالابتداء ، و « ابن » خبره .
الثاني : أنَّ تنوينه حذف ، لوقوع الابن صفة له ، فإنَّه مرفوعٌ بالابتداء ، و « ابن » صفته ، والخبرُ محذوفٌ ، أي : عُزَيرٌ ابْنُ الله نَبيُّنا ، أو إمامُنَا ، أو رسولُنَا ، وقد تقدَّم أنَّه متى وقع « الابن » صفة بين علمين ، غير مفصولٍ بينه وبين موصوفه ، حذفت ألفه خطّاً ، وتنوينه لفظاً ، ولا تثبت إلاَّ ضرورة ، وتقدم الاشتشهادُ عليه آخر المائدة . ويجوز أن يكون « عُزَيْرٌ » خبر مبتدأ مضمر ، أي : نَبيُّنا عُزير ، و « ابن » صفةٌ له ، أو بدل ، أو عطف بيان .
الثالث : أنه إنَّما حذف ، لكونه ممنوعاً من الصَّرف ، للتعريف والعجمة . ولم يرسم في المصحف إلاَّ بإثبات الألف ، وهي تنصرُ من يجعله خبراً .
وقال الزمخشري : « عزير ابن » مبتدأ وخبره ، كقوله : { المسيح ابن الله } و « عُزَيْرٌ » اسم أعجمي ، : « عَزرَائيل ، وعيزار » ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه ، ومن صرفه جعله عربياً . وقول من قال بسقوط التنوين؛ لالتقاء الساكنين ، كقراءة { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1 ، 2 ] ولأنَّ « الابن » وقع وصفاً ، والخبر محذوف ، وهو « معبودنا » فتمحُّلٌ عن مندوحة « .
فصل
لمَّا حكم تعالى في الآيةِ المتقدِّمة على اليهودِ والنَّصارى بأنهم لا يُؤمنونَ بالله ، شرح ذلك في هذه الآية ، بأن نقل عنهم أنهم أثبتُوا للهِ ابناً ومنْ جوَّز ذلك في حق الإله ، فقد أنكر الإله في الحقيقة ، وأيضاً بيَّن تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة ، إذ لا فرق بين من يعبد الصَّنم وبين من يعبد المسيح وغيره ، لأنه لا معنى للشرك إلاَّ أن يتَّخذ الإنسانُ مع الله معبوداً ، وهذا معنى الشِّرك ، بل لو تأمَّلنَا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخَفّ من كفر النصارى؛ لأنَّ عابد الوثن لا يقولُ : إنَّ هذا الوثن خالق للعالم ، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسَّلُ به إلى طاعة الله ، والنَّصارى يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح؛ فثبت أنَّه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين .

فإن قيل : اليهودُ قسمان : منهم مشبهة ، ومنهم موحدة ، كما أنَّ المسلمين كذلك ، فهَبْ أنَّ المشبهة منهم منكرون لوجود الإله ، فما قولكم في موحدة اليهود؟ .
فالجوابُ : أولئك لا يكونوا داخلين تحت هذه الآية ، وإنما وجبت الجزيةُ عيهم؛ لأنَّه لمَّا ثبت وجوب الجزية على بعضهم؛ وجب القول به في حل الكلِّ؛ لأنه لا قائل بالفرق .
وأما النَّصارى فيقولون بالأب والابن وروح القُدسِ ، والحلول والاتحاد ، وذلك ينافي الإلهيَّة .
وإنَّما خصَّ الله الطائفتين بقبول الجزية منهم؛ لأنَّهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ، وادَّعُوا أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل؛ فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين ، وكتابيهما المعظمين ، ولتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى ، لأنهم كانوا على الدِّين الحق ، حكم الله بقبول الجزية منهم ، وإلاَّ ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين .
فصل
في قوله : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله } أقوال :
أحدها : قال عبيد بن عمير : إنَّما قال هذا رجلٌ واحد من اليهود اسمه : فنحاص بن عازوراء ، وهو الذي قال : { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [ آل عمران : 181 ] .
وثانيها : روى سعيدُ بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : « أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود سلام بن مشكم ، والنعمان بن أبي أوْفَى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، ولا تزعم أنَّ عُزيراً ابن الله؟ فنزلت هذه الآية . وعلى هذين القولين ، فالقائل بهذا بعض اليهود ، وإنما نُسب ذلك إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحدِ ، يقال : فلانٌ ركبَ الخيولَ وجالسَ السَّلاطينَن ولعله لم يركب ولم يجالس إلا واحداً .
وثالثها : لعلَّ هذا المذهب كان فَاشياً فيهم ثمَّ انقطع ، فحكى الله ذلك عنهم ، ولا عبرة بإنكار اليهُودِ ذلك ، فإنَّ حكاية الله عنهم أصدق ، والسَّبب في ذلك ما روى عطية العوفي عن ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق ، فأنساهم الله التوراة ، ونسخها من صدورهم ، فتضرَّع عزير إلى الله وابتهل إليه ، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ، فأنذر قومه به فلمَّا حرَّبُوه وجدوه صادقاص فيه ، ثم إنَّ التابوت نزل بعد دعائه منهم ، فلمَّا رأوا التَّابُوتَ عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير؛ فوجدوه مثله ، فقالوا : ما أوتي عزير هذا إلاَّ أنه ابن الله .

وقال الكلبيُّ : « لمَّا قتل بُخْتنصَّر علماءهم ، فلمْ يبق فيهم أحدٌ يعرف التوراة ، وكان عزير ابن ذاكَ صغيراً؛ فاستصغره فلم يقتله ، فلمَّا رجع بنو إسرائيل إلى بيتِ المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله عزيراً ، ليجدِّد لهم التوراة ، ويكون لهم آية بعدما أماته مائة عام ، يقال : أتاهُ ملكٌ بإناءٍ فيه ماء؛ فسقاه ، فمثلت التوراة في صدره ، فلمَّا أتاهُم وقال : أنا عُزَيرٌ فكذَّبُوه وقالوا : إنْ كنت كما تزعُمُ فأملِ علينا التوراة فكتبها لهم ، ثمَّ إنَّ رجلاً قال : إنَّ أبي حدَّثَنِي عن جدِّي أنَّ التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم ، فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعرضوها على ما كتب عزير ، فلم يغادر حرفاً ، فقالوا : إنَّ الله لم يقذف التوراة في قلب رجلٍ إلاَّ أنه ابنه ، فقالوا : عُزيرٌ ابنُ الله » .
فصل
وأمَّا قولُ النَّصارى المسيح ابن اللهِ ، فظاهرٌ ، وفيه إشكال ، وهو أنَّا نقطع أن المسيح عليه الصلاة والسلام كان مبرأً من دعوة النَّاس إلى الأبوة والبنوة؛ فإنَّ هذا أفحش أنواع الكُفْرِ ، فكيف يليق بأكابر الأنبياء؟ وإذا كان كذلك ، فكيف يعقلُ إطباق محبي عيسى من النصارى عليه ، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسدَ؟
وأجاب المفسِّرُون عن هذا : بأنَّ أتباع عيسى - عليه الصلاة والسلام - كانُوا على الحقِّ بعدما رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له : بولص قتل جماعةً من أصحاب عيسى ، ثم قال لليهود : إن كان الحقُّ مع عيسى؛ فقد كفرنا ، والنَّار مصيرنا ، ونحن مغبونون إنْ دخلوا الجنَّة ودخلنا النارَ ، وإني أحتال؛ فأضلهم حتى يدخلوا النَّار ، وكان له فرس يقال له : العقاب ، يقاتلُ عليه ، فعرقب فرسه ، وأظهر الندامة ، ووضع التراب على رأسه ، فقالت له النَّصارى : مَنْ أنتَ؟ قال : بولص عدوكم ، تبتُ ، فنوديت من السَّماء ليس لك توبة إلاَّ أنْ تَتَنَصَّر؛ وقد تبت ، فأدخلوه الكنيسة ، ومكث سنةً لا خرج ليلاً ولا نهاراً ، حتَّى تعلَّم الإنجيل وقال : نوديت أنَّ الله قبل توبتك؛ فصدقوه وأحبوه .
ثم مضى إلى بيتِ المقدسِ ، واستخلف عليهم رجلاً اسمه : نسطور ، وعلمه أنَّ عيسى ، ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الرُّوم وعلَّمهم اللاهوت والنَّاسوت ، وقال : ما كان عيسى إنساناً ، ولا جسماً ولكنه ابن الله ، وعلَّم رجلاً يقال له : يقوبُ ذلك ، ثم دعا رجلاً يقال له ملكا فقال له : إنَّ الإله لم يزل ، ولا يزال عيسى ، ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكلِّ واحد منهم أنت خالصتي فادع النَّاس إلى إنجيلك ، ولقد رأيتُ عيسى في المنام ورضي عنِّي ، وإنِّي غداً أذبح نفسي لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح ، فذبح نفسه ، فلمَّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم النَّاس إلى مذهبه؛ فتبع كلُّ واحد منهم طائفة ، فاختلفوا واقتتلوا ، هذا ما حكاه الواحديُّ وغيره .

قال ابنُ الخطيبِ : « والأقربُ عندي أن يقال : لعلَّه ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التِّشريفِ ، ثم إنَّ القومَ لأجل عداوة اليهود؛ ولأجل أن يقاتلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطَّرف الثاني ، فبالغوا وفسَّرُوا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية ، والجهال قبلوا ذلك ، وفشا هذا المذهبُ الفاسدُ في أتباع عيسى ، والله أعلم بحقيقة الحال » .
قوله : { ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } واعلم أنَّ كلَّ قول إنَّما يقال بالفمِ ، فما معنى تخصيصهم بهذه الصفة؟ والجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ معناه قول لا يعضده برهانٌ ، وإنّما هو لفظ يفوهُون به فارغ من معنى معتبر لحقه؛ لأن إثبات الولد للإله مع أنه مُنزَّهٌ عن الحاجة والشهوة ، والمضاجعة ، والمباضعة قولٌ باطلٌ ، ليس له تأثير في العقل ، ونظيره قوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] .
وثانيها : أنَّ الإنسان قد يختار مذهباً إمَّا على سبيل الكناية ، وإمَّا على سبيل الرَّمز ، وأمَّا إذا صرَّح بلسانه فهو الغاية في اختيار ذلك المذهب ، والمعنى على هذا : أنَّهم يُصرِّحون بهذا المذهبِ ولا يخفونه ألبتة .
وثالثها : أنَّ المعنى : أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواه والألسنة والمرادُ : مبالغتهم في دعوة الخلقِ إلى هذا المذهب .
قال أهل المعاني : لم يذكر اللهُ قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلاَّ كان ذلك زوراً .
قال ابنُ العربي : « في هذه الآية دليلٌ من قول ربنا تبارك وتعالى على أنَّ من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدىء به لا حرج عليه؛ لأنَّه إنَّما ينطق به على سبيل الاستعظام له والرَّد عليه ، ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد ، فإذا أمكن من إطلاق الألسنة به فقد أذن بالإخبار عنه ، على معنى إنكاره بالقلب واللسان ، والردّ عليه بالحجَّة » .
قوله « يُضَاهِئُونَ » قرأ العامة « يُضَاهُون » بضمِّ الهاءِ ، بعدها واو ، وعاصم بهاءٍ مكسورة ، بعدها همزةٌ مضمومة ، بعدها واو ، فقيل : هما بمعنى واحدٍ ، وهو المشابهة ، وفيه لغتانِ : « ضَاهَأتُ وضَاهَيْتُ » بالهمز والياءِ ، والهمزُ لغة ثقيف .
وقيل : الياء فرع عن الهمزةِ ، كما قالوا : قرأ وقَرَيْت ، وتوضَّأت وتوضَّيت ، وأخْطَأت وأخْطَيْت . وقيل : بل « يُضَاهِئُونَ » بالهمزِ مأخوذ من « يُضَاهِيونَ » ، فلمَّا ضُمَّت الياء قُلبتْ همزةً ، وهذا خطأٌ؛ لأنَّ مثل هذه الياء لا تَثْبُتُ في هذا الموضع حتى تقلبَ همزةً ، بل يؤدي تصريفه إلى حذف الياء ، نحو : يُرامُونَ ، من « الرمي » ، ويُماشُونَ ، من « المشي » وزعم بعضهم : أنَّهُ مأخوذٌ من قولهم : « امرأة ضَهْيَا » بالقصر ، وهي التي لا ثَدْيَ لها ، أو الَّتي لا تحيضُ ، سُمِّيت بذلك ، لمشابهتها الرجال ، يقال امرأة ضَهْيَا ، بالقصر وضَهْيَاء ، بالمد ، ك : حمراء ، وضَهْيَاءة ، بالمدِّ وتاءِ التأنيث ، ثلاث لغات ، وشذِّ الجمعُ بين علامتي تأنيث في هذه اللَّفظة ، حكى اللغة الثالثة الجرميُّ ، عن أبي عمرو الشيباني .

قيل : وقولُ من زعم أنَّ المضاهأة بالهمز مأخوذةٌ من : امرأة ضَهْيَاء ، في لغاتها الثلاث ، فقوله خطأ ، لاختلاف المادتين ، فإنَّ الهمزة في « امرأة ضَهْيَاء » زائدة في اللُّغاتِ الثلاث ، وهي في « المضاهأة » أصلية .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يُدَّعَ أنَّ همزة « ضهياء » وباؤها زائدة؟ .
فالجوابُ : أنَّ « فَعْيَلاً » بفتح الياء يَثْبُتْ .
فإن قيل : فَلِمَ لم يُدَّعَ أنَّ وزنها « فَعْلل » ، ك : « جَعْفَرٍ » ؟ .
فالجوابُ : أنه قد ثبت زيادة الهمة في « ضَهْيَاء » بالمدِّ ، فثبت في اللُّغة الأخرى ، وهذه قاعدة تصريفية ، والكلامُ على حذف مضاف تقديره : يُضَاهي قولهم قول الذين ، فحذف المضاف وأقيم المضافُ إليه مقامه ، فانقلب ضمير رفع بعد أن كان ضمير جرٍّ .
والجمهور على الوقف على « بأفواههم » ، ويبتدئون ب « يُضَاهِئُونَ » .
وقيل : الباء تتعلَّق بالفعل بعدها ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف هذا المضاف . واستضعف أبو البقاءِ قراءة عاصم ، وليس بجيِّدٍ لتواترها ، وقال أحمدُ بنُ يحيى : لم يتابع أحد عاصماً على الهمز .
والمضاهاة : المشابهة ، في قول أكثر أهل اللُّغة . وقال شمرُ : « المضاهاة : المتابعة ، يقال : فلان يضاهي فلاناً ، أي : يتابعه » .
فصل
قال مجاهدٌ : « » يضاهئون « قول المشركين من قبلن كانوا يقولون : اللاَّت والعُزَّى بنات الله » .
وقال قتادة والسديُّ : « ضاهت النصارى قول اليهود من قبل ، فقالوا : المسيحُ ابنُ الله ، كقول اليهود من قبل عزير ابنُ الله؛ لأنهم أقدم منهم » وقال الحسنُ : « شبَّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة » كما قال في مشركي العرب : { كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] .
وقال القتيبي : « يريد من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ، يقولون ما قال أسلافهم » .
قوله : « قَاتَلَهُمُ الله » قال ابنُ عبَّاسٍ : لعنهم الله . وقال ابن جريج : قتلهم اللهُ .
وقيل : هذا بمعنى التَّعجب من شناعةِ قولهم ، كما يقال : ركبوا شنيعاً ، قاتلهم اللهُ ما أعجب فعلهم ، وهذا التعجب إنَّما هو راجع إلى الخلقِ ، والله لا يتعجَّبُ من شيء ، ولكن هذا الخطابُ على عادة العرب في مخاطبتهم ، والله عجب منهم في تركهم الحق وإصرارهم على الباطل .
« أنى يُؤْفَكُونَ » أي : كيف يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه .
قوله { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } .
الأحْبَارُ : العلماءُ . قال أبو عبيد : « الأحبارُ : الفقهاءُ قد اختلفوا في واحده ، فقال بعضهم : » حَبْرٌ « ، وقال بعضهم » حِبْرٌ « .

وقال الأصمعيُّ : لا أدري أهو الحِبْرُ أو الحَبْرُ « . وكان أبو الهيثم يقول : » واحد « الأحبار » « حَبْرٌ » بالفتح لا غير ، وينكر الكسر « وكان الليثُ ، وابن السِّكيت يقولان » حِبْر « و » حَبْر « للعالم ذِمِّيّاً كان أو مسلماً ، بعد أن يكون من أهل الكتاب » . وقال أهل المعاني : « الحبر » : العالم الذي صناعتُه تحبير المعاني بحس البيان عنها ، وإتقانها ، ومنه : ثوب محبر ، أي : جمع الزينة ، والرَّاهبُ : الذي تمكنت الخشية والرهبة في قلبه ، وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه . وفي عرف الاستعمال ، صار الأحبارُ مختصاً بعلماء اليهود من ولد هارون .
والرُّهبان : علماء النَّصارى أصحاب الصَّوامع . ومعنى اتخاذهم أرباباً : أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، واستحلُّوا ما أحلوا ، وحرموا ما حرموا .
قال أكثرُ المفسرين : « ليس المراد من الأرباب أنَّهم اعتقدوا إلهيتهم ، بل المراد : أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم » .
قال عدي بن حاتم : « أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب وهو يقرأ سورة براءة ، فقال : » يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك « فطرحته ، ثم انتهى إلى قوله : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } فقلت : إنّا لنسا نعبدهم ، فقال : » أَلَيْسَ يحرِّمون مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ ويُحلون ما حرَّم اللهُ؛ فَتَسْتحلُّونَهُ؟ « قال قلت : بلى ، قال : » فَتِلْكَ عبادتُهُمْ « .
وقال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالفُ أقوال الأحبار والرهبان؛ فكانوا يأخذون بأقوالهم ويتركون حكم كتابِ الله تعالى . فإن قيل : إنَّه تعالى لمَّا كفرهم بسبب طاعتهم للأحبار والرُّهبان ، فالفاسقُ يطيع الشيطانَ؛ فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارجِ .
فالجوابُ : أنَّ الفاسق إن كان يطيع الشيطان إلاَّ أنَّه لا يُعظِّمه ، لكنه يلعنه ، فظهر الفرق .
فصل
قوله { والمسيح ابن مَرْيَمَ } عطف على » رُهبانهم « ، والمفعول الثَّاني محذوف ، والتقدير : اتخذ اليهودُ أحبارهم أرباباً ، والنصارى رهبانهم والمسيح ابن مريم أرْبَاباً ، وهذا لأمْنِ اللَّبْس خلط الضمير في » اتَّخَذُوا « ، وإن كان مقسماً لليهود والنَّصارى ، وهذا مراد أبي البقاءِ في قوله : » أي : واتخذوا المسيح ربًّا ، فحذف الفعل وأحد المفعولين « . وجوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي : وعبدُوا المسيح ابن مريم .
ثم قال : { وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : سبحانه أن يكون له شريك في الأمر والتكليف ، وفي كونه معبوداً ، وفي وجوب نهاية التعظيم .
قوله : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ } الآية .
ذكر عن رؤساء اليهود والنصارى نوعاً ثالثاً من أفعالهم القبيحة ، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد عليه الصلاة والسلام .

والمراد من « النور » قال الكلبيُّ : هو القرآن ، أي : يردُّوا القرآن بألسنتهم تكذيباً . وقيل : النور : الدَّلائل الدَّالة على صحة نبوته وشرعه وقوة دينه . وسمى الدلائل نوراً؛ لأنَّ النور يهتدي به إلى الصَّواب .
قوله : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } « أن يتمّ » مفعول به ، وإنَّما دخل الاستثناء المفرغ في الموجب؛ لأنَّهُ في معنى النفي ، فقال الأخفشُ الصغيرُ « معنى يأبَى : يمنع » وقال الفرَّاء : « دخلتْ » إلاَّ « لأن في الكلام طرفاً من الجحد » وقال الزمخشريُّ : « أجْرَى » أبَى « مُجْرى » لَمْ يُرِدْ « ، ألا ترى كيف قُوبل : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } بقوله : { ويأبى الله } ، وأوقع موقع : ولا يريد الله إلا أن يتمَّ نوره؟ » .
والتقدير : لا يريد إلا أن يتمَّ نوره ، إلاَّ أنَّ الإبَاءَ يفيد زيادة عدم الإرادة ، وهي المنع والامتناع .
والدليل عليه قوله عليه السلام : « وإذا أرادوا ظلمنا أبينا » فامتدح بذلك ، ولا يجوز أن يمتدح بأنَّه يكره الظلم؛ لأنَّ ذلك يصح من القوي والضعيف .
وقال الزَّجاج « إنَّ المستثنى منه محذوفٌ ، تقديره : ويَأبَى أي : ويكره كلَّ شيء إلاَّ أن يُتمَّ نوره » وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج ، ومذهب غيره فجعلهما مذهباً واحداً فقال : « يَأبَى بمعنى : يَكْره ، ويكره بمعنى يمنع ، فلذلك استثنى ، لما فيه من معنى النَّفْي ، والتقدير : يأبَى كُلَّ شيء إلاَّ إتمام نوره » . أي : يعلي دينه ويظهر كلمته ، ويتم الحق الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } .
قوله تعالى : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق } . يعني : الذي يأبى إلاَّ إتمام دينه ، هو الذي أرسل رسوله محمداً : « بالهُدَى » ، أي : القرآن ، وقيل : ببيان الفرائض « ودين الحقِّ » وهو الإسلام ، « لِيُظهِرَهُ » ليعليه وينصره ، { عَلَى الدين كُلِّهِ } على سائر الأديان كلها { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } فإن قيل : ظاهر قوله { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } يقتضي كونه غالباً لجميع الأديان ، وليس الأمر كذلك ، فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين وسائر أراضي الكفرة .
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال ابن عباسٍ « الهاءُ في » لِيُظهِرَهُ « عائدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي : ليعلمه شرائع الدِّين كلها ، فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء » .
وثانيها : قال أبو هريرة والضحاك : هذا وعدٌ من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا يحصلُ عند خروج عيسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى قال : « ويهلكُ في زمانِهِ الملل كُلُّهَا إلاَّ الإسلام » .

وروى المقدادُ قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ : « لا يَبْقَى على ظهْرِ الأرض بيتُ مدر ولا وبرٍ إلاَّ أدخلهُ الله كلِمَة الإسلام ، بِعِزِّ عزيز ، أو بذُلِّ ذليلٍ ، إمَّا أن يُعزَّهمُ اللهُ فيجعلهُمْ من أهْلِهِ فيعزُّوا بهِ ، وإمَّا أن يُذلَّهُمْ فيَدِينُون لَهُ » .
وقال السديُّ : ذلك عند خروج المهدي ، لا يبقى أحد إلاَّ دخل في الإسلام ، أو أدَّى الخراج .
وثالثها : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } في جزيرة العربِ ، وقد حصل ذلك ، فإنَّه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكُفَّارِ .
ورابعها : أنَّهُ لا يدين يخالف دين الإسلام ، إلاَّ وقد قهرهم المسلمون ، وظهروا عليهم في بعض المواضع ، وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم ، فقهروا اليهُود ، وأخرجوهم من بلاد العرب ، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الرُّوم والغرب ، وغلبوا المجوس على ملكهم ، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم ممَّا يلي الترك والهند .
وخامسها : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } بالحُجَّةِ والبيانِ ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ هذا وعد بأنه تعالى سيفعله ، والقوة بالحُجَّة والبيان كانت حاصلة من أوَّلِ الأمْرِ . ويمكن أن يجاب عنه ، بأنَّهُ في مبدأ الأمر كثرت الشبهات ، بسبب ضعف المؤمنين ، واستيلاء الكُفَّارِ ، ومنعهم للنَّاسِ من التأمل في تلك الدلائل ، وأمَّا بعد قوة الإسلام ، وعجز الكُفَّار ، ضعفت الشبهات فقوي دلائل الإسلام .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل } الآية .
لمَّا وصف اليهود والنصارى بالتكبّرِ وادعاءِ الربوبية ، وصفهم في هذه الآية بالطَّمع والحرص على أخذ أموالِ الناس بالباطل . فقوله : « كثيراً » يدلُّ على أنَّ هذه طريقة بعضهم ، لا طريقة الكل ، فإنَّ العالم لا يخلو عن الحق ، وإطباق الكُل على الباطل ، كالممتنع ، وهذا يدلُّ على أنَّ إجماع هذه الأمة على الباطل ، لا يحصلُ؛ فكذلك في سائر الأمم ، وعبَّر عن أخذ الأموال ب « الأكلِ » ؛ إمَّا لأنَّ المقصود الأعظم من جمع الأموال الأكل ، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده ، وإمَّا لأنَّ من أكل شيئاً ، فقد ضمَّه إلى نفسه ، ومنع غيره من الوصول إليه؛ وإمَّا لأنَّ من أخذ أموال الناس ، إذا طولب بردّها ، قال : أكلتها ، فلهذه الوجوه سمى الأخذ بالأكل .
واختلفوا في تفسير هذا « الباطل » . فقيل : كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام ، والمسامحة في الشرائع ، وقيل : كانوا يدَّعُون عند العوام منهم ، أنَّه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلاَّ بخدمتهم وطاعتهم ، وبذل الأموال في مرضاتهم ، والعوامُ كانوا يغْتَرُّونَ بتلك الأكاذيب ، وقيل : كانوا يُغَيِّرُونَ الآيات الدَّالة على مبعث محمد - عليه الصلاة والسلام - ، وعلى صدقه ، ويذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدةً ، ويُطَيِّبُون قلوب عوامهم بهذا السَّبب ، ويأخذون الرشوة عليهم ، وقيل : كانوا يُحرِّفُون كتاب الله ، ويكتبون كتباً ويقولون هذه من عند الله ، ويأخذون بها ثمناً قليلاً من سفلتهم .
قوله « وَيَصُدُّونَ » يحتمل أن يكون متعدياً ، أي : يصدُّون النَّاسَ ، وأن يكون قاصراً ، كذا قال أبو حيان ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّه متعدٍّ فقط ، وإنَّما يحذف مفعوله ، ويراد ، أو لا يُراد ، كقوله { كُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 60 ] .
قوله { والذين يَكْنِزُونَ الذهب } الجمهورُ على قراءته بالواو ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنَّها استئنافيةٌ ، و « الذينَ » مبتدأ ضُمِّنَ معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاءُ في خبره .
الثاني : أنَّه من أوصافِ الكثير من الأحبارِ والرُّهبان ، وهو قول عثمان ومعاوية .
قال زيدُ بنُ وهبٍ : مررتُ بأبي ذر بالربذة ، فقلت : يا أبا ذرّ ما أنزلك هذه البلاد؟ فقال : كنت بالشام ، فقرأت : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } فقال معاويةُ : هذه الآية في أهل الكتابِ ، فقلتُ : إنها فيهم وفينا ، فصار ذلك سبباً للوحشة بين وبينه ، فكتب إليَّ عثمان أن أقبل إليَّ ، فلمّا قدمت المدينة انحرف النَّاس عنِّي؛ كأنهم لم يَرَوْنِي من قبل ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تنح قريباً ، فقلت : والله إنّي لم أدع ما كنت أقول .
ويجوزُ أن يكون « الَّذينَ » منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، يُفسِّره ، « فَبشِّرهُم » وهو أرجحُ ، لمكان الأمر .
وقرأ طلحة بن مصرف « الَّذينَ » بغير واو ، وهي تحتملُ الوجهين المتقدمين ، ولكنَّ كونها من أوصافِ الكثير من الأحبار والرُّهبان أظهر من الاستئناف ، عكس التي بالواو .

و « الكَنْزُ » الجمعُ والضَّم ، ومنه : ناقة كناز ، أي : منضمَّة الخَلْق . ولا يختص بالذهب والفضة ، بل يقال في غيرهما ، وإن غلب عليهما؛ قال : [ البسيط ]
2777- لا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أطعَمْتُ جَائِعَهُمْ ... قِرْفَ الحَتِيِّ وعِنْدِي البُرُّ مَكْنُوزُ
وقال آخر : [ الرجز ]
2778- على شَديدٍ لحمُهُ كِنَاز ... بَاتَ يُنَزِّينِي على أوفَازِ
قوله : « وَلاَ يُنفِقُونَهَا » تقدَّم شيئان وعاد الضمير مفرداًن فقيل : إنه من باب ما حذف ، لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه . وقيل : يعود على المكنوزات ، ودلَّ على هذا جُزْؤه المذكورُ؛ لأنَّ المكنوزَ أعمُّ من النقدين وغيرهما ، فلمَّا ذكر الجزءَ دلَّ على الكُل ، فعاد الضميرُ جمعاً بهذا الاعتبار؛ ونظيره قول الآخر : [ الطويل ]
2779- ولَوْ حَلفَتْ بَيْنَ الصَّفَا أمُّ عَامِرٍ ... ومَرْوَتِهَا باللهِ بَرَّتْ يَمينَهَا
أي : ومروة مكة ، عاد الضميرُ عليها لمَّا ذُكِر جزؤها ، وهو الصَّفا ، كذا استدل به ابن مالك ، وفيه احتمالٌ ، وهو أن يكون الضميرُ عائداً على « الصَّفا » ، وأنَّثَ حملاً على المعنى ، إذْ هو في معنى البقعة والحدبة .
وقيل : الضميرُ يعودُ على الذهب؛ لأنَّ تأنيثه أشهر ، ويكون قد حذف بعد الفضة أيضاً .
وقيل : إنَّ كلَّ واحد منهما جملة وافية ، دنانير ودراهم ، فهو كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
وقيل : التقدير : ولا ينفقون الكنوز .
وقال الزجاجُ : « ولا ينفقون تلك الأموال » وقيل : يعودُ على الزَّكاة .
وقال القرطبيُّ « قال ابنُ الأنباريّ » قصد الأغلب والأعم وهي الفضة ، ومثله قوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] .
ردَّ الكناية إلى الصلاة؛ لأنَّها أعم ، ومثله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] فأعاد الهاء إلى التجارة؛ لأنها الأهم « . وردَّ هذا بعضهم ، قال : ليس هذا نظيره؛ لأنَّ » أو « فصلت التجارة عن اللَّهْو ، فحسن عود الضمير على أحدهما » .
وإنَّما خصَّ الذهبَ والفضة بالذِّكر من بين سائر الأموالِ؛ لأنهما الأصل المعتبر في الأموال ، وهما اللذان يقصدان بالكنز ، ثم قال : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : فأخبرهم على سبيل التَّهكم لأنَّ الذين يكنزون الذَّهب والفضة ، إنَّما يكنزوهما ، ليتوسَّلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة فقيل : هذا يوم الفرج ، كما يقال : تحيتهم ليس إلاَّ الضرب ، وإكرامهم ليس إلا الشتم وأيضاً : فالبشارةُ : عبارة عن الخيرِ الذي يؤثر في القلبِ؛ فيتغير بسببه لون بشرة الوجهِ وهذا يتناول ما إذا تغيَّرت البشرة بسبب الفرح أو بالغم .
قوله : « يَوْمَ يحمى » منصوبٌ بقوله : « بِعَذَابٍ أَلِيمٍ » .
وقيل : بمحذوفٍ يدلُّ عليه « عذاب » أي : يُعذَّبُون يوم يُحْمَى ، وقيل : هو منصوبٌ ب « أليم » . وقيل : الأصلُ : عذاب يوم ، و « عذاب » بدل من « عذاب » الأوَّلُ ، فلمَّا حذف المضافُ أقيم المضافُ إليه مُقامه .

وقيل : منصوبٌ بقولٍ مضمر ، وسيأتي بيانه .
و « يحمى » يجوزُ أن يكون من « حَمَتْيُ أوْ أحْمَيْتُ ثلاثياً ورباعياً ، يقالُ : حَمَيْتُ الحديدة ، وأحميتُهَا ، أي : أوْقَدْتُ عليها ، لِتَحْمَى ، والفاعلُ المحذوفُ هو » النَّارُ « تقديره : يوم تُحْمَى النارُ عليها ، فلما حذف الفاعل ، ذهب علامةُ التأنيث ، لذهابه كقولك : رُفِعَت القضية إلى الأمير ، ثم تقول : رُفع إلى الأمير .
وقيل : لأنَّ تأنيثَ » النَّار « مجازي ، والفعل غيرُ مسند في الظَّاهر إليه ، بل إلى قوله » عَلَيْهَا « فلهذا حسن التَّذكير والتأنيث .
وقيل : المعنى : يُحْمَى الوقود . وقرأ الحسنُ » تُحْمَى « بالتَّاءِ من فوق ، أي : النَّار ، وهي تؤيد التأويل الأوَّل .
وقرأ أبو حيوة » يُكْوى « بالياء من تحت؛ لأنَّ تأنيث الفاعل مجازيٌّ .
وقرأ الجمهور : » جِباهُهُم « بالإظهارِ وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه بالإدغام ، كما أدغم { سَلَكَكُمْ } [ المدثر : 42 ] ، و { مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، ومثل » جِباهُهم « ، { وُجُوهُهُمْ } [ آل عمران : 106 ] ، والمشهور الإظهار .
قوله : { هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } أي : جزاء ما كنتم؛ لأنَّ المكنوز لا يُذاق و » ما « يجوزُ أن تكون بمعنى » الذي « ، فالعائدُ محذوفٌ ، وأن تكون مصدرية . وقرىء » تَكْنُزُون « بضم عين المضارع ، وهما لغتان ، يقال : كَنَزَ يَكْنِزُ ، ويَكْنُزُ ، ك : يقتل .
فصل
أصل الكنز في كلام العرب : الجمع ، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز . واختلف علماءُ الصحابة في المرادِ بهذا الكَنْزِ المذموم ، فقال الأكثرون : هو المالُ الذي لم تؤد زكاته ، قال عمرُ بنُ الخطَّابِ : » ما أدِّي زكاته فليس بكنز وإن كن تحت سبع أرضين ، وكلُّ ما لم تؤد زكاتُه فهو كنز وإن كان فوق الأرضين « . وقال ابنُ عبَّاسٍ في قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } يريد : الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم . وروى أبُو هرية قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : » مَا مِنْ صاحبِ ذهَبٍ ولا فضَّةٍ لا يُؤدِّي منْهَا حقَّها إلاَّ إذا كانَ يَوْمَ القيامةِ صُفِّحَتْ لهُ صَفَائِحُ من نارٍ فأحْمِيَ عليْها في نَارِ جهنَّم فيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وجَبِينُهُ وظهرُه كُلَّما بَردتْ أعيدتْ لهُ في يوْم كان مقدارُهُ خَمسينَ ألفَ سنةٍ حتَّى يُقْضَى بيْنَ العبادِ فَيَرَى سبيلهُ إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النَّارِ « .
قال القاضي » تخصيص هذا المعنى بمنع الزَّكاة لا سبيل إليه ، بل الواجب أن يقال : الكنزُ : هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه ، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات ، وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة ، وبين ما يجبُ إخراجه في الديون والحقوق ، والإنفاق على الأهل والعيال ، وضمان المتلفات ، وأروش الجنايات؛ فيجب دخول كل هذه الأقسام في هذا الوعيد « .

وروي عن علي بن أبي طالب أنَّه قال : كل مال زاد على أربعة آلاف درهم؛ فهو كنز ، أدِّيتُ منه الزكاة أو لم تُؤدِّ ، وما دونها نفقة . وروي عن أبي ذرٍّ أنَّهُ كان يقولُ : « مَنْ ترك بيضاء أو حمراء كُوي بها يوم القيامةِ » وقيل : ما فضل عن الحاجةِ كنز ، لما روى أبو أمامة قال : « مات رجلٌ من أهل الصفة فوجدَ في مئزَرِهِ دينارٌ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : كَيُّةٌ ، ثم توفي آخر فوجدَ في مِئْزره ديناران ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كَيتانِ » والقولُ الأول أصح ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « نِعمَ المالُ الصَّالح للرجلِ الصَّالحِ » وقوله عليه الصلاة والسلام : « ما أدي زكاتُهُ فليْسَ بِكَنْزٍ » وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ قال : لمَّا نزلت هذه الآيةُ كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيعُ أحد منَّا أن يدع لولده شيئاً ، فذكر ذلك عمر للرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « إنَّ الله لمْ يفْرضِ الزَّكاةَ إلاَّ ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكُم » وسئل ابنُ عمر عن هذه الآية فقال : كان هذا قبل أن تنزل الزَّكاة ، فلمَّا نزلت جعلها اللهُ طُهْراً للأموال . وقال ابنُ عمر : « مَا أبَالي لوْ أنَّ لي مثلَ أحُدٍ ذهباً أعلم عددهُ أزكيه ، وأعمل بطاعة الله عزَّ وجلَّ » .
وكان في زمان الرسول - عليه الصلاة والسلام - جماعة مياسير كعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه الصلاة والسلام يعدُّهم من أكابر المؤمنين ، وندب عليه الصلاة والسلام إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض ، ولو كان جمع المال محرماً لكان عليه الصلاة والسلام يأمر المريض بالتَّصدق بكله ، بل كان يأمر الصحيحَ في حال صحته بذلك ، وقال عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص : « إنَّك إن تَدعْ ورثَتَكَ أغْنياءَ خيرٌ مِنْ أنْ تدعهُم عالة يتكَفَّفُون النَّاسَ » .
فصل
اختلفوا في وُجُوب الزَّكاةِ في الحليّ ، فقال مالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور وأبو عبيد : لا زكاة فيه . وهو قول الشافعي بالعراقِ ، ووقف فيه بعد ذلك بمصر ، وقال الثوريُّ وأبو حنيفة والأوزاعي : فيه الزكاة .
فإن قيل : مَنْ لمْ يكنُزْ ولم يُنفِقْ في سبيل الله وأنفقَ في المعاصي ، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم يُنْفق في سبيل الله . قيل : إنَّ ذلك أشدّ ، فإن من بذل ماله في المعاصي ، عصى من جهتين : بالإنفاق والتناول ، ك : شراء الخَمْرِ وشربها . بل من جهات إذا كانت المعصية ممَّا تتعدَّى كمنْ أعانَ على ظُلْمِ مسلم من قتله أو أخذ ماله .
فإن قيل : لِمَ خُصت هذه الأعضاءُ؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ المقصودَ من كسب الأموال ، حصول فرح القلب ، فيظهر أثره في الوجه ، وحصول الشبع ينفتح بسببه الجنبان ، وليس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم ، فلمَّا طلبوا تزيين هذه الأعضاء الثلاثة ، حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور .
وثانيها : أنَّ هذه الاعضاء مجوفة وفي داخلها آلات ضعيفة يعظم تألُّمها بسبب وصول أدنى أثر غليها ، بخلاف سائر الأعضاء .
وثالثها : قال أبُو بكر الوراق : خصت هذه المواضع بالذكر؛ لأنَّ صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقيرُ بجنبه تباعد عنه وولَّى ظهره .
ورابعها : أنهم يُكوون على الجهات الأربع ، أمَّا من مقدمه فعلى الجبهة ، وأمَّا من خلفه فعلى الظهر ، وأما من يمينه ويساره فعلى الجنبين .

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)

قوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } الآية .
« العِدَّة » مصدر بمعنى « العَدَد » . و « عِندَ اللهِ » منصوبٌ به ، أي : في حُكْمه . و « اثْنَا عشرَ » خبرُ « إنَّ » ، وقرأ ميسرة عن حفص ، وهي قراءةُ أبي جعفر « اثْنَا عَشْرَ » بسكون العين مع ثبوتِ الألف قبلها ، واستكرهتْ من حيثُ الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما ، كقولهم : « التقَتْ حَلْقتَا البطانِ » بإثباتِ الألف من « حَلْقتَا » . وقرأ طلحة بسكون الشين كأنه حمل « عشر » في المذكر على « عشرة » في المؤنث ، و « شَهْراً » نصب على التمييز ، وهو مؤكِّد؛ لأنه قد فُهِم ذلك من الأول ، فهو كقولك : عندي من الدَّنانير عشرون ديناراً . والجمعُ متغاير في قوله « عِدَّة الشُّهورِ » وفي قوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ } [ البقرة : 197 ] ؛ لأنَّ هذا جمعُ كثرة ، وذاك جمعُ قلة .
قوله : { فِي كِتَابِ الله } يجوزُ أن يكون صفةً ل « اثْنَا عَشَرَ » ، والتقديرُ : اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله . ثمَّ لا يجوزُ أن يعنى بهذا الكتاب كتاب من الكتب ، لأنَّه متعلقٌ بقوله : { يَوْمَ خَلَقَ السماوات } وأسماء الأعيان لا تتعلَّق بالظروفِ ، فلا تقول : غلامك يوم الجمعة ، بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير : إنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله ، أي : في حكمه الواقع يوم خلق السموات والأرض .
ويجوزُ أن يكون بدلاً من الظرفِ قبله ، وهذا لا يجوزُ ، أو ضعيفٌ ، لأنَّه يلزمُ منه أن يخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيل البدلية ، وعلى تقدير صحة ذلك من جهة الصناعة ، فكيف يصحُّ من جهة المعنى؟ ولا يجوزُ أن يكون « فِي كتابِ اللهِ » متعلقاً ب « عِدَّة » لئلاَّ يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بخبره وقياس مَنْ جوَّز إبداله من الظرف أن يجوِّز هذا ، وقد صرَّح بجوازه الحوفيُّ .
قوله : « يَوْمَ خَلَقَ » يجوز فيه أن يتعلَّق ب « كِتَاب » على أنَّه يُرادُ به المصدر ، لا الجثة ويجوزُ أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور ، وهو « في كِتابِ الله » ويكونُ الكتابُ جثةً لا مصدراً ، وجوَّز الحوفيُّ أن يكون متعلقاً ب « عِدَّة » وهو مردودٌ بما تقدَّم ، ويجوزُ أن يتعلَّق بفعل مقدر ، أي : كتب ذلك يوم خلق .
فصل
هذه الآية أيضاً من شرح قبائح اليهود والنَّصارى والمشركين ، وهو إقدامهم على تغيير أحكام الله تعالى؛ لأنَّه تعالى ، حكم في كل وقت بحكم خاص ، فإذا غَيَّرُوا تلك الأوقات بسبب النَّسيء ، كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السَّنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وجرأتهم .

فإنَّ السَّنة عند العربِ : عبارة عن اثني عشر شهراً قمرية ، ويدُلُّ عليه هذه الآية وقوله تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] فجعل تقدير القمر بالمنازل دليلاً على السنين ، وإنَّما يصح ذلك إذا كانت السَّنة معلقة بسير القمر ، وقال تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] وعند سائر الطوائف : السَّنة عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة من فصل إلى فصل ، فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرَّة ، وفي الصيف أخرى ، فشقَّ الأمر عليهم بهذا السَّبب .
وأيضاً إذا حضروا الحجَّ حضروا للتجارة ، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الشمسية ، فلذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت معين موافق لمصلحتهم ، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم ، فهذا النَّسيء وإن كان سبباً لحصولِ المصالحِ الدنيوية ، إلاَّ أنَّه لزم منه تغيير حكم الله تعالى ، لمَّا خصَّ الحجَّ بأشهر معلومة على التّعيين ، وكان بسبب ذلك النَّسيء يقع في سائر الشُّهور تغيير حكم الله تعالى وإبطال تكليفه؛ فلهذا المعنى استوجبُوا الذَّمَّ العظيمَ في هذه الآية . والمرادُ بالكتابِ : حكمه وإيجابه . قال ابن عباس « إنه اللَّوحُ الحفوظ » وقيل : القرآن .
فصل
قال القرطبيُّ : قوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور } وهي جمع شهر . فإذا قال الرجل لأخيه : لا أكلمك الشهور ، وحلف على ذلك فلا يكلمه حَوْلاً ، قالهُ بعض العلماء وقيل : لا يكلمه أبداً . قال ابنُ العربي : وأرى إن لم يكن له نيّة أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر ، لأنَّه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة « فُعول » في جمع « فَعْل » .
قوله { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون صفةً ل « اثْنَا عَشَرَ » .
الثاني : أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار .
الثالث : أن تكون مستأنفة . والضمير في « منها » عائدٌ على اثنا عشر شهراً ، لأنه أقربُ مذكورٍ ، على « الشُّهور » والضمير في « فيهنَّ » عائدٌ على « الاثني عشر » أيضاً . وقال الفرَّاءُ ، وقتادةُ : يعودُ على الأربعةِ الحُرُم وهذا أحسنُ ، لوجهين :
أحدهما : أنه أقرب مذكور . والثاني : أنه قد تقرَّر أنَّ معاملة جمع القلة غير العاقل معاملة جمع الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة ، والجمعُ الكثيرُ بالعكس ، تقول الأجذاع انكسرن ، والجذوع انكسرت ، ويجوزُ العكس .
فصل
أجمعُوا على أنَّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد ، وهي : ذُو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، وواحد فرد ، وهو : رجبٌ ، ومعنى الحرم : أنَّ المعصية فيها أشد عقاباً ، والطَّاعةُ فيها أشد ثواباً ، والعربُ كانوا يُعظِّمُونها حتَّى لو لقي الرجلُ قاتل أبيه لم يتعرَّض له .
فإن قيل : أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة ، فما السَّببُ في هذا التَّمييز؟
فالجوابُ : هذا المعنى غير مُسْتَبعَدٍ في الشَّرائع ، فإنه ميَّز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمةِ ، وميَّز يوم الجمعة عن سائر الأيام بمزيد الحرمة ، وميَّز يوم عرفة عن سائر الأيام بعبادة مخصوصة ، وميز شهر رمضان عن سائر الشُّهور بمزيد حرمة ، وميز بعض ساعات اليوم والليلة بوجوب الصلاة فيها ، وميز ليلة القدر عن سائر الليالي ، وميَّز بعض الأشخاص بإعطاء الرِّسالة ، فأي استبعاد في تخصيصِ بعض الشهور بمزيد الحرمة .

وفيه فائدة أخرى وهي : أنَّ الطباع مجبولة على الظلم والفساد ، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاقٌّ عليهم ، فخص تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام ، حتى إنَّ الإنسانَ ربما امتنع في تلك الأزمنة ، وفي تلك الأمكنة عن فعل القبائح ، وذلك يوجب أنواعاً من الفوائد .
أحدها : أنَّ ترك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب؛ لأنه يقل القبائح .
وثانيها : أنَّ تركها في تلك الأوقات ربما صار سبباً لميل طبعه إلى الإعراضِ عنها مطلقاً .
وثالثها : أنَّه إذا أتى بالطَّاعات فيها وأعرض عن المعاصي فيها ، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في المعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناءِ والمشقَّةِ في أداء الطَّاعات في تلك الأوقات ، والظَّاهر من حال العاقل أنَّه لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلِّية ، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأزمنة ، وبعض الأمكنة ، بمزيد التعظيم .
قوله { ذلك الدين القيم } أي : الحساب المستقيم ، يقال : « الكَيِّسُ من دَانَ نَفسَهُ » أي : حاسبها ، وقال الحسنُ : « ذلكَ الدِّينُ القَيّم » الذي لا يبدلُ ولا يُغير ، « القَيِّم » - ههنا - بمعنى : القائم الدائم الذي لا يزول ، وهو الدِّينُ الذي فَطَرَ الناس عليه .
قوله { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } بفعل المعصية ، وترك الطَّاعاتِ ، قال ابنُ عبَّاسٍ : « المراد ، فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم ، والمراد : منع الإنسان من الإقدام على الفساد في جميع العمر » . وقال الأكثرون الضَّمير في قوله « فِيهِنَّ » عائدٌ على الأربعة الحرم ، وقد تقدَّم . وقيل : المرادُ ب « الظلم » النَّسيء الذي كانُوا يعملونه ، فينقلون الحجَّ من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهرٍ آخر ، وقيل : المرادُ ب « الظُّلمِ » ترك المقاتلة في هذه الأشهر .
قوله : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } نصب « كَافَّةً » على الحالِ ، إمَّا من الفاعل ، أو من المفعول ، وقد تقدَّم أن « كَافَّةً » لا يُتصرَّف فيها بغير النصب على الحال ، وأنَّها لا تدخلها « أل » ؛ لأنها بمعنى قولك : قامُوا جميعاً ، وقامُوا معاًن وأنَّها لا تُثَنَّى ، ولا تُجْمع ، وكذلك « كافة » الثانية ، ومعنى « كافة » أي : جميعاً .
فصل
معنى الآية : قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم ، كما أنَّهم يقاتلونكم على هذه الصِّفة ، أي : تعاونوا وتناصروا على ذلك؛ ولا تتخاذلوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء .

وقال ابنُ عبَّاسٍ : « قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال ، كما أنَّهُم يستحلُّون قتال جميعكم » { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي : مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطَّاعات والاجتناب عن المحرمات .
واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، فقيل : كان مُحرماً ثم نسخ بقوله تعالى { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } أي : فيهن ، وفي غيرهن ، وهو قول قتادة ، وعطاء الخراساني ، والزهريُّ وسفيان الثوري ، وقالوا : لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين ، وثقيفاً بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة . وقال آخرون : غير منسوخ . قال ابن جريج « حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنَّهُ ما يحلُّ للنَّاس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم إلاَّ أن يقاتلوا فيها ، وما نسخت » .
قوله { إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر } في « النَّسِيء » قولان :
أحدهما : أنَّه مصدرٌ على « فَعِيل » مِن : « أنْسأ » ، أي : أخَّرَ ، ك « النذير » من أنذر ، و « النكير » من أنْكَر ، وهذا ظاهرُ قول الزمخشري فإنَّه قال : « النَّسيء : تأخيرُ حرمة الشهر إلى شهر آخر » ، وحينئذٍ . فالإخبارُ عنه بقوله « زيادة » واضحٌ ، لا يحتاج إلى إضمار .
وقال الطبريُّ : « النَّسيء - بالهمز - معناه : الزيادة » ؛ لأنَّه تأخير في المدة ، فيلزمُ منه الزيادة ، ومنه النَّسيئة في البيع ، يقال : أنْسَأ الله أجلهُ ، ونسأ في اجله أي أخّر وهو ممدود عند أكثر القراء .
الثاني : أنَّه « فَعِيلٌ » بمعنى « مَفْعُول » مِنْ نسأهُ أي : أخَّره فهو منسوءٌ ، ثم حُوِّل « مفعول » إلى « فَعِيلٍ » ، وإلى ذلك نَحَا أبُو حاتمٍ ، والجوهري - وهذا القول ردَّه الفارسي فإنَّه يكون المعنى : إنَّما المؤخَّر زيادة ، والمؤخَّر الشهر ، ولا يكون الشهرُ زيادة في الكفرِ ، وأجيب عن هذا بأنَّه على حذف مضاف إمَّا من الأول ، أي : إنَّما إنساءُ النَّسيء زيادة في الكفر ، وإمَّا من الثاني ، أي : إنما النسيء ذُو زيادة . وقرأ الجمهورُ « النَّسيء » بهمزة بعد الياءِ ، وقرأ ورش عن نافع « النسيّ » بإبدال الهمزة ياء وإدغام الياء فيها ، ورُويت هذه عن أبي جعفر ، والزهري وحميد ، وذلك كما خفّفوا « برية » و « خطية » .
وقرأ السلمي ، وطلحة ، والأشهب ، وشبل ، « النَّسْء » بإسكان السين . وقرأ مجاهدٌ والسلمي وطلحةُ أيضاً « النَّسُوء » بزنة « فعُول » بفتح الفاءِ ، وهو التأخير ، و « فعول » في المصادر قليل ، قد تقدَّم منه ألفاظ في أوائل البقرة ، وتقدَّم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة ، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشُّهُور عن بعض؛ قال : [ الوافر ]

2780- ألَسْنَا النَّاسِئِينَ على مَعَدٍّ ... شُهُورَ الحِلِّ نجعَلُهَا حَرَامَا
وقال آخر : [ الكامل ]
2781- نَسَئُوا الشُّهُورَ بها وكانُوا أهلهَا ... مِنْ قبلِكُم والعِزُّ لمْ يتحوَّلِ
قوله « يُضَلُّ بِهِ » قرأ الأخوان ، وحفص « يُضَلُّ » مبنياً للمفعول وأبو عمرو في رواية ابن مقسم « يُضِلّ » مبنياً للفاعل ، وفيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : يضل اللهُ به الذين كفروا .
والثاني : يضل الشيطان به الذين كفروا .
والثالث : يضل به الذين كفروا تابعيهم . والباقون مبنياً للفاعل ، والموصول فاعل به . وقرأ ابن مسعود والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ويعقوب ، وعمرو بن ميمون « يُضِلّ » مبنياً للفاعل ، من « أضَلَّ » وفي الفاعل وجهان :
أحدهما : ضمير الباري تعالى ، أي : يُضِلُّ اللهُ الذين كفروا .
والثاني : أنَّ الفاعل « الذينَ كفرُوا » وعلى هذا فالمفعولُ محذوف ، أي يُضل الذين كفروا أتباعهم .
وقرأ أبُو رجاء « يَضَلُّ » بفتح الياء والضَّاد ، وهي مِنْ « ضَلِلْتُ » بكسر اللام ، « أضَلُّ » بفتحها ، والأَصْلُ « فَنُقِلت فتحة اللام إلى الضَّاد ، لأجل الإدغام ، وقرأ النَّخغي ، والحسن في رواية محبوب » نُضِلُّ « بضم نون العظمة ، و » الَّذشينَ « مفعول ، وهذه تقوِّي أنَّ الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود .
قوله : » يُحِلُّونه « فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الجملة تفسيريةٌ للضلال .
والثاني : أنها حاليةٌ . وقوله : » ليواطِئُوا « في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنها متعلقةٌ ب » يُحَرِّمُونَه « وهذا مقتضى مذهب البصريين فإنهم يعملون الثاني من المتنازعين .
والثاني : أنَّها تتعلَّق ب » يُحِلُّونَهُ « وهذا مقتضى مذهب الكوفيين ، فإنهم يعملون الأول ، لسبقه . وقول من قال : إنَّها متعلقةٌ بالفعلين معاً ، فإنَّما يعني من حيث المعنى ، لا اللفظ . وقرأ أبُو جعفرٍ » ليُواطِئُوا « بكسر الطَّاءِ وضمِّ الياءِ الصَّريحة .
والصحيحُ أنه ينبغي أن يقرأ بضمِّ الطاء وحذف الياء؛ لأنَّه لمَّا أبدل الهمزة ياءً استثقل الضمة عليها فحذفها ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الياء ، وضمت الطاء ، لتجانس الواو والمواطأة : الموافقةُ والاجتماع ، يقال : تواطئوا على كذا ، أي : اجتمعوا عليه كأنَّ كلَّ واحدٍ يَطَأ حيث يَطَأ الآخر ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } [ المزمل : 6 ] . وسيأتي إن شاء الله تعالى .
وقرأ الزهريُّ » لِيُواطِيُّوا « بتشديد الياء ، هكذا ترجموا قراءته ، وهي مشكلةٌ ، فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء ، وتخليصها من الهمز دون التضعيف ، فلا أعرف وجهها وهو كما قال .
قوله : » زُيِّنَ « الجمهور على » زُيِّنَ « ببنائه للمفعول ، والفاعل المحذوف هو الشيطان . وقرأ زيد بن علي » زَيَّن « ببنائه للفاعل ، وهو الشيطان أيضاً ، و » سوء « مفعوله .
فصل
معنى النَّسيء : هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر ، وذلك أنَّ العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم ، وكان ذلك ممَّا تمسكت به من ملة إبراهيم ، وكانت معايشهم من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية ، وربَّما وقعت لهم حرب في الأشهر الحرم ، فيكرهون تأخير حربهم ، فنسئوا ، يعني : أخَّرُوا تحريم ذلك الشَّهر إلى شهر آخر ، وكانوا يؤخِّرُون تحريم المحرم إلى صفر ، فيحرمون صفر ، ويستحلُّون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخَّرُوه إلى ربيع الأوَّل؛ فكانوا يصنعون هكذا شهراً بعد شهر حتَّى استدار التَّحريم إلى السَّنة كلها ، فقام الإسلامُ وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وذلك بعد دهر طويل ، فخطب النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال :

« ألاّ إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السَّنة اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ ثلاث متواليات ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان . . . » الحديث . فأمرهم بالمحافظة لئلاَّ يتبدل في مستأنف الأيام .
واختلفوا في أوَّل من نسأ النَّسيء . فقال ابنُ عباس والضحَّاك وقتادة ومجاهد « أوَّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة » .
وقال الكلبيُّ « أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة ، وكان يقومُ على الناس بالموسم ، فإذا همَّ الناسُ بالصدودِ ، قام فخطب ، فقال : لا مردّ لما قضيتُ ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون : لبيك ، ثم يسألونه أن ينسأهم شهراً يغيرون فيه ، فيقول : إنَّ صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ، ونزعوا الأسنة والأزجة ، وإن قال حلال ، عقدوا الأوتار ، وشدوا الأزجة ، وأغاروا وكان من بعد نعيم رجل يقال له : جنادة بن عوف ، وهو الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من كنانة يقال له : القَلَمَّسُ . قال شاعرهم : [ الوافر ]
2782- ومِنَّا نَاسِىءُ الشَّهْرِ القَلمَّسْ ... وكانوا لا يفعلون ذلك إلاَّ في الحجِّ إذا اجتمعت العرب في الموسم . وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : » إنَّ أول من سنَّ النَّسيء : عمرو بن لُحَيّ بن قمعة بن خندف « .
ثم قال : { إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ } تقدَّم الكلام عليه . { يُحِلُّونَهُ عَاماً } يعني : النَّسيء { وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ } أي : يوافقوا . { عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } أي : إنهم لم يحلوا شهراً من الحرام إلاَّ حرَّمُوا مكانه شهراً من الحلال ، ولم يحرِّمُوا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرام ، لئلاَّ يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر ، فتكون الموافقة في العدد .
{ زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ } قال ابنُ عبَّاس : زين لهم الشيطان : { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } الآية . لمَّا ذكر فضائح الكفار عاد إلى التَّرغيب في مقاتلتهم .
قال ابنُ عبَّاس : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك لأنَّهُ عليه الصلاة والسلام لمَّا رجع من الطائف أقام بالمدينة أمر بجهاد الرُّوم وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر ، حين طابت ثمار المدينة ، واستعظم النَّاسُ غزو الرُّوم وهابوه ، وكان ذلك في حر شديد ، وسفر بعيد ، ومفاوز ، وعدُو كثير ، وذلك حين طابت ثمار المدينة ، وظلالها فأمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم ، فشقَّ عليهم الخروج ، وتثاقلُوا ، فنزلت هذه الآية .
ومعنى : « إِذَا قِيلَ لَكُمُ » أي : قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم « انفِرُوا » اخرجوا ، واسم القوم الذين يخرجون النفير .
قوله : « اثاقلتم » أصله « تثَاقلْتُم » فلمَّا أريد الإدغام سكنت الثَّاءُ فاجتلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم في { فادارأتم } [ البقرة : 72 ] ، والأصل : « تَدَارَأتُم » . وقرأ الأعمشُ « تثاقَلْتُم » بهذا الأصل و « ما » في قوله : « مَا لَكُمْ » استفهامية ، وفيها معنى الإنكار .
وقيل : فاعله المحذوف هو الرسول . « اثَّاقَلْتُمْ » ماضي اللَّفظ ، مضارع المعنى ، أي : تتثاقلون ، وهو في موضع الحالِ ، وهو عاملٌ في الظَّرف ، أي : ما لكم متثاقلين وقت القول .
وقال أبُو البقاءِ : « اثَّاقلتم : ماض بمعنى المضارع أي : ما لكم تتثاقلون ، وهو في موضع نصب ، أي : أيُّ شيء لكم في التَّثاقل ، أو في موضع جر على رأي الخليلِ . وقيل : هو في موضع حال » .
قال أبو حيان : وهذا ليس بجيد؛ لأنه يلزم منه حذفُ « أنْ » لأنه لا ينسبِكُ مصدرٌ إلاَّ من حرف مصدري والفعل وحذفُ « أنْ » في هذا قليلٌ جداً ، أو ضرورة . وإذا كان التقديرُ في التثاقل ، فلا يمكن عمله في « إذا » لأنَّ معمول المصدر الموصول لا يتقدَّمُ عليه ، فيكون النَّاصب ل « إذا » والمتعلِّق به في التثاقل ما تعلَّق به « لَكُم » الواقعُ خبراً ل « ما » وقرىء « أثَّاقلْتُم » بالاستفهام الذي معناه الإنكار ، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يعمل في « إذا » ؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله ، فيكونُ العاملُ في هذا الظَّرف إمَّا الاستقرارُ المقدَّر في « لكم » ، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللَّفظ ، والتقدير : ما تصنعون إذا قيل لكم ، وإليه نحا الزمخرشي .
والظَّاهر أن يقدَّر : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم ، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى .
وقوله : « إِلَى الأرض » ضُمِّنَ اثَّاقلتم معنى المَيْلأ والإخلاء ، فعدي ب « إلى » والمعنى : تباطأتم إلى الأرض ، أي : لزمتم أرضكم ومساكنكم ، وملتم إلى الدنيا وشهواتها ، وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه ، ونظيره قوله { أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } [ الأعراف : 176 ] قال المفسِّرون : معناه : اثاقلتم إلى نعيم الأرض ، وإلى الإقامة وبالأرض .

قوله { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا } أي : بخفض الدنيا ودعتها . وقوله : { إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } جناس لفظي ] ، وكذا قوله : { اصبروا وَصَابِرُواْ } [ آل عمران : 200 ] ، وقوله : { أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [ هود : 48 ] وقوله : { ياأسفا عَلَى يُوسُفَ } [ يوسف : 84 ] ، وقوله : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } [ النمل : 44 ] ، وقوله : { أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] ، وقوله : { على عِلْمٍ عَلَى العالمين } [ الدخان : 32 ] وقوله { مَالِكَ الملك } [ آل عمران : 26 ] .
قوله « مِنَ الآخرة » تظاهرت أقوالُ المعربين ، والمفسرين على أنَّ « مِنْ » بمعنى « بدل » كقوله { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } [ الزخرف : 60 ] ، أي : بدلكم؛ ومثلة قول الآخر : [ الرجز ]
2783- جَارِيةٌ لَمْ تأكُلِ المُرقَّقَا ... ولمْ تَذُقْ مِن البُقُولِ الفُسْتُقَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
2784- فَليْتَ لَنَا مِنْ ماءِ زَمْزمَ شَرْبَةٌ ... مُبرَّدَةً باتَتْ على طَهَيَانِ
إلاَّ أنَّ أكثر النَّحويين لم يثبتُوا لها هذا المعنى ، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك ، والتقدير هنا : اعتصمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياةِ الدُّنيا ، وكذلك باقيها .
وقال أبُو البقاءِ : « مِنَ الآخرة » في موضع الحال ، أي : بدلاً من الآخرة . فقدَّر المتعلَّقَ كوناً خاصاً ، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى . ثم قال : « فما متاع الحياة الدنيا » أي : لذاتها . وقوله « فِي الآخرةِ » متعلقٌ بمحذوفٍ من حيثُ المعنى ، تقديره : فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة ف « محسوباً » حالٌ مِنْ « متاعُ » .
وقال الحوفي : إنَّه متعلق ب « قَلِيلٌ » ، وهو خبر المبتدأ قال : « وجاز أن يتقدَّم الظَّرفُ على عامله المقترن ب » إلاَّ « ؛ لأنَّ الظروف تعمل فيها روائحُ الأفعال ، ولو قلت : ما زيدٌ عمراً إلاَّ يضرب ، لم يَجُزْ » .
فصل
الدَّليلُ على أنَّ متاع الدُّنيا في الآخرة قليل ، أنَّ لذات الدُّنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفاتِ والبليات ، ومنقطعة عن قريبٍ لا محالة ، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفاتِ ، ودائمة أبدية سرمدية ، وذلك يوجب القطع بأنَّ متاع الدُّنيا في جنب متاع الآخرة قليل حقير .
قوله : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } .
في الآخرة ، وقيل : هو احتباس المطر عنهم في الدنيا .
قال القرطبيُّ : « هذا شرطٌ ، فلذلك حذفت منه النُّون . والجوابُ » يُعذِّبْكُم « و { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } وهذا تهديدٌ ووعيدٌ لتارك النَّفير » . { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } خيراً منكم وأطوع .
قال ابنُ عبَّاسٍ : « هم التابعون » .
وقال سعيدُ بن جبير : « هم أبناء فارس » وقيل : هم أهلُ اليمن . « وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً » بترككم النفير .
قال الحسنُ « الكناية راجعة إلى الله تعالى ، أي : لا تضروا الله » ، وقال غيره تعود إلى الرسول؛ لأنَّ الله عصمه من الناس ، ولا يخذله إن تثاقلتم عنه .

{ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
قال الحسنُ وعكرمةُ : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] وقال المحقِّقون : الصحيح أنَّ هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا ، وعلى هذا فلا نسخ .
قوله : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } . هذا الشرط جوابه محذوف ، لدلالة قوله : { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } عليه ، والتقدير : إلاَّ تنصروه فسينصره . وذكر الزمخشريُّ فيه وجهين :
أحدهما : ما تقدَّم . والثاني : قال « إنه أوجب له النُّصْرَة ، وجعله منصوراً في ذلك الوقتِ ، فلنْ يُخْذَلَ من بعده » . قال أبُو حيَّان : « وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشَّرط؛ لأنَّ إيجابَ النصرة له أمْرٌ سبق ، والماضي لا يترتَّب على المستقبل والذي يظهرُ الوجهُ الأول » . وهذا إعلام من الله أنَّه المتكفلُ بنصر رسوله ، وإعزاز دينه ، أعانوه ، أو لَمْ يُعينُوه ، وأنه قد نصرهُ عند قلة الأولياءِ ، وكثرة الأعداء ، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَدِ والعُدَدِ .
وقوله : { إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ } أي : أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخُروج من مكَّة ، حين مكروا به وأرادوا تثبيته ، وهمُّوا بقتله .
قوله « ثَانِيَ اثنين » منصوبٌ على الحالِ من مفعول « أخْرَجهُ » وقد تقدَّم معنى الإضافة في نحو هذا التَّركيب عند قوله : { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] .
وقرأت جماعة « ثَانِي اثنَيْنِ » بسكون الياء . قال أبُو الفَتْحِ : « حكاها أبو عمرو » .
ووجهها أنَّ يكون سكَّن الياء تشبيهاً لها بالألفِ وبعضهم يخصُّه بالضرورة ، والمعنى : هو أحد الاثنين ، والاثنان أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخر أبو بكر الصديق .
قوله : { إِذْ هُمَا فِي الغار } . و « الغارُ » بيت يكون في الجبل ، وهو هنا بيت في جبل ثور بمكَّة ، ويجمع على « غِيران » ، ومثله : « تاج وتِيجَان » ، و « قاعٌ وقيعان » ، والغارُ أيضاً : نَبْتٌ طيبُ الريح ، والغارُ أيضاً : الجماعة والغاران : البطنُ والفرجُ . وألف « الغَارِ » عن واو .
قوله : « إِذْ يَقُولُ » بدل ثان من « إذْ » الأولى . وقال أبُو البقاءِ : أي : إذ هما في الغار ، و « إذْ يَقُول » ظرفان ل « ثَانِي اثنَيْنِ » .
فصل
عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : « أنت صاحبي في الغارِ وصاحبِي على الحَوْضِ » . قال الحسينُ بن الفضل « من قال إنَّ أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله فهو كافر؛ لإنكاره نص القرآن ، وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً » .
فإن قيل : إنَّ الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن في قوله : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ } [ الكهف : 37 ] .
فالجوابُ : أنَّ هناك وإن وصفه بكونه صاحباً إلاَّ أنَّه أردفهُ بما يدلُّ على الإهانة والإذلال وهو قوله : « أكفرتَ » ؟ أمَّا ههنا فبعد أن وصفه بكون صاحباً ذكر بعده ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } فأيّ مناسبة بين البابين؟ .

روي أنَّ قريشاً لمَّا بيَّتُوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أول الليل إلى الغار ، وأمر عليّاً أن يضطجع على فراشه ، ليمنعهم السواد من طلبه ، جعل أبُو بكر يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « ما لك يا أبا بكر؟ فقال : أذكر الطلب؛ فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك؛ فلما انتهينا إلى الغار دخل أبو بكر أولاً ، يلتمس ما في الغار ، فقال له رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، ما لك؟ فقال بأبي أنت وأمِّي ، الغيرَانُ مأوى السِّباع والهوام ، فإن كان فيه شيء كان بِي لا بِكَ وكان في الغارِ حجر ، فوضع عقبه عليه ، لئلا يخرج ما يؤذي الرسول ، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا ، بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام » لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنَا « فقال أبو بكر : إن الله لمعنا ، فقال الرسول » نعم « فجعل يمسح الدموع عن خدِّه ، ولم يكن حزن أبي بكر جبناً منه ، وإنَّما إشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إن أقتل فأناً رجلٌ واحدٌ ، وإن قتلت هلكت الأمة . »
وروي أنَّ الله تعالى بعث حمامتين فباضتا في أسفل باب الغارِ ، والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اللَّهُمَّ أعْمِ أبصارهم » فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً .
فصل
دلَّت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه :
أحدها : أنَّه عليه الصلاة والسلام لمَّا ذهب إلى الغار كان خائفاً من الكفار أن يقتلوه ، فلولا أنه عليه الصلاة والسلام كان قاطعاً بأنَّ أبا بكر من المؤمنين المحقين الصادقين الصِّيقين ، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك؛ لأنه لو جوز أن يكون باطنُه بخلاف ظاهره ، لخافه أن يدل أعداءه عليه ، أو لخافه أن يقدم هو على قتله ، فلمَّا استخلصه لنفسه في تكل الحالة ، دلَّ على أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان قاطعاً بأنَّ باطنه على وفق ظاهره .
وثانيها : أن الهجرة كانت بإذن الله ، وكن في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين ، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول اله صلى الله عليه وسلم ، أقرب من أبي بكر ، فلولا أنَّ الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في هذه الواقعة الصعبة ، وإلاَّ لكان الظاهر ألاَّ يخصه بهذه الصُّحبة وتخصيص الله إيَّاه بهذا التشريف يدلُّ على علو منصبه في الدِّين .

وثالثها : أنَّ كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمَّا أبو بكر فما فارق رسول الله كغيره ، ولا تخلَّف عنه كغيره ، بل صبر على مؤانسته ، وملازمته ، وخدمته عند الخوفِ الشَّديد الذي لم يبق معه أحد ، وذلك يوجب الفضل العظيم .
ورابعها : أنَّه تعالى سمَّاه : « ثَانِيَ اثْنَيْنِ » فجعله ثاني محمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - في أكثر المناصب الدينية ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا أرسل إلى الخلقِ وعرض الإسلام على أبي بكر فآمن؛ وذهب وعرض الإسلام على طلحة ، والزبير ، وعثمان ، وجماعة من كبار الصحابة فآمن الكلُّ على يده ، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام قلائل ، فكان هو - رضي الله عنه - « ثَانِي اثْنَيْن » في الدَّعوة إلى الله تعالى ، وكلَّما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، كان أبو بكر يقف في خدمته ، فكان « ثَانِيَ اثنين » في المواقف كلِّها ، وكلما صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقف خلفه ، وكلَّما جلسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان « ثَانِيَ اثنين » في مجلسه ، ولمَّا مرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قام مقامه في الإمامة ، فكان « ثَانِيَ اثْنَيْنِ » ولمَّا مات دفن بجنبه ، فكان « ثاني اثنين » هناك .
وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال : كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله رابعاً لكل ثلاثة في قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] الآية . ثم إن هذا الحكم عام في حق المؤمن والكافرن فلمَّا لم يكن هذا المعنى من الله دالاًّ على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي عليه الصلاة والسلام على فضيلة الإنسان أولى؟ .
والجوابُ : أنَّ هذا تعسف بارد؛ لأنَّ المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير ، وكونه مطلقاً على ضمير كل أحد ، أمَّا هنا فالمراد بقوله تعالى : { ثَانِيَ اثنين } تخصيصه بهذه الصِّفة في معرض التعظيم .
قوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } فالضمير في « عَلَيْه » يعودُ على أبي بكر؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليه السكينة دائماً ، وقد تقدَّم القولُ في السكينة . والضميرُ في « أيَّدهُ » للنبي صلى الله عليه وسلم وهو إشارة إلى قصَّة بدر ، وهو معطوف على قوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } . وقرأ مجاهد « وأيَدَه » بالتَّخفيف . و « لَمْ تَرَوْهَا » صفة ل « جُنُود » .
قوله : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى } كلمتهم : الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة ، { وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } إلى يوم القيامة . قال ابنُ عبَّاسٍ « هي قول : لا إله إلاَّ الله » .

وقيل : كلمة الذين كفروا ما قدروا في أنفسهم من الكيدية ، وكلمة الله : وعده أنه ناصره .
والجمهور على رفع « كَلِمة » على الابتداء ، و « هي » يجوزُ أن تكون مبتدأ ثانياً ، و « العُليا » خبرها ، والجملة خبر الأوَّل . ويجز أن تكن « هي » فصلاً « ، و » العُليا « الخبر . وقرأ يعقوب » وكلمةَ اللهِ « بالنَّصب ، نسقاً على مفعولي » جعل « أي : وجعل كلمة الله هي العليا .
قال أبُو البقاء : وهو ضعيفٌ ، لثلاثة أوجه :
أحدها : وضعُ الظَّاهر موضع المضمر ، إذ الوجه أن يقول : وكلمته .
الثاني : أنَّ فيه دلالةً أنَّ كلمة الله كانت سُفْلَى ، فصارت عليا ، وليس كذلك .
الثالث : أنَّ توكيد مثل ذلك ب » هي « بعيد ، إذ القياسُ أن يكون » إياها « .
قال شهابُ الدِّين : أما الأولُ فلا ضعف فيه؛ لأنَّ القرآن ملآن من هذا النَّوعِ ، وهو من أحسن ما يكون؛ لأنَّ فيه تعظيماً وتفخيماً .
وأمَّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر ، وهو أن يكون الشَّيء المصيَّر على الضد الخاص ، بل يدلُّ التَّصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة .
وأمَّا الثالثُ ف » هِيَ « ليست تأكيداً ألبتة ، إنما هي ضمير فصل على حالها ، وكيف يكونُ تأكيداً ، وقد نصَّ النحويون على أنَّ المضمر لا يؤكد المظهر؟ .
ثم قال : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : قاهر غالب » حَكِيمٌ « لا يفعل إلاَّ الصَّواب .

انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)

قوله تعالى : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } الآية .
لمَّا توعد من لا ينفر مع الرسول ، أتبعه الأمر الجزم ، فقال : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } نصبهما على الحال من فاعل « انفرُوا » . قال الحسنُ ، والضحاكُ ، ومجاهد ، وقتادة وعكرمة : « شُباناً وشُيوخاً » . وعن ابن عباسٍ : نشاطاً وغير نشاط . وقال عطيةُ العوفي : ركباناً ومشاةً . وقال أبو صالحٍ : « خفافاً من المال ، أي : فقراء » ثقالاً « أي : أغنياء » . وقال ابن زيد « الثقيل : الذي له الضيعة ، والخفيف : الذي لا ضيعة له » .
وقيل : « خفافاً » من السلاح أي : مقلين منه ، و « ثِقالاً » مستكثرين منه . وقال مرة الهمداني : صحاحاً ومراضاً .
وقال يمان بن رباب « عزاباً ومتأهلين » ، وقيل غير ذلك . والصحيح أنَّ الكلَّ داخل فيه؛ لأنَّ الوصف المذكور وصف كلّي؛ فيدخل فيه كل هذه الجزئيات ، فقد روى ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعَلَيَّ أنَّ أنفر؟ قال : « ما أنت إلاَّ خفيفٌ أو ثقيلٌ » فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ، ووقف بين يديه؛ فنزل قوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } [ النور : 61 و الفتح : 17 ] .
وقال مجاهدٌ : « إنَّ أبا أيُّوب شهد بدراً مع الرسول ، ولم يتخلف عن الغزوات مع المسلمين ، ويقول قال الله تعالى : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } فلا أجدني إلاَّ خفيفاً أو ثقيلاً » . وعن صفوان بن عمرو قال : كنت والياً على حمص ، فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه ، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو ، فقلت : يا عم أنت معذور عند الله ، فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، إلا أنَّ من أحبَّه ابتلاه . وعن الزهري : خرج سعيدُ بنُ المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنَّك عليل صاحب ضرر ، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع . وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور ، فقال : أنْزلَ اللهُ علينا في سورة براءة : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] والقائلون بهذا القول يقولون : إنَّ هذه الآية نسخت بقوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } [ النور : 61 ] وبقوله : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ } [ التوبة : 91 ] الخراساني نسخت بقوله { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] .
ولقائل أن يقول : اتفقوا على أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك ، واتفقوا على أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواماً ، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا الوجوب ليس على الأعيان ، بل من فروض الكفايات ، فمنْ أمره الرسولُ بالخروج ، لزمه خفافاً وثقالاً ، ومن أمره بأن يبقى ترك النفير . وحينئذٍ لا حاجة إلى التزام النسخ .

وأيضاً فقوله : { وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } [ التوبة : 42 ] دليل على أنَّ قوله : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } إنَّما يتناولُ من كان قادراً متمكناً ، إذ لو لم تكن الاستطاعة معتبرة في ذلك التكليف ، لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذراً في التخلف ، فدلَّ على عدم النسخ فيها .
قوله : { وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله } .
فيه قولان :
الأول : أنَّها تَدُلُّ على أنَّ الجهادَ يجبُ على من له المال والنفس ، ومن لم يكن له ذلك ، لم يجب عليه الجهاد .
والثاني : أنَّ الجهاد بالنفس يجب إذا انفرد وقوي ، ويجب بالمالِ إذا ضعف عن الجهادِ بنفسه؛ فيلزمه أن ينيبَ من يغزُو عنه بنفقة من عنده ، وذهب إلى هذا كثيرٌ من العلماء .
ثم قال : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
فإن قيل : كيف يصح أن يقال : الجهادُ خير من القعُودِ ع نه ، ولا خير في القعود؟
فالجوابُ : من وجهين :
الأول : أنَّ لفظ « خير » يستعمل في شيئين :
أحدهما : بمعنى : هذا خير من الآخر . والثاني : أنه خير في نفسه ، كقوله تعالى { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .
وقوله : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، وعلى هذا سقط السُّؤال .
والثاني : سلمنا أنَّ المراد كونه خيراً من غيره ، إلا أن التقدير : أن ما يستفاد من نعيم الآخرة بالجهاد خير ممَّا يستفيده القاعد عنه من الرَّاحة والتنعم بها ، ولذلك قال تعالى : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
قوله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً } الآية .
لمَّا بالغ في ترغيبهم في الجهادِ ، وأمرهم بالنَّفير ، عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين ، بقوله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً } اسم « كان » ضميرٌ يعودُ على ما دل عليه السِّياق ، أي : لو كان ما دعوتَهم إليه .
والعرض : ما عرض لك من منافع الدُّنيا ، والمراد هنا : غنيمة قريبة المتناول ، { وَسَفَراً قَاصِداً } أي : سَهْلاً قريباً ههنا . { لاَّتَّبَعُوكَ } لخرجوا معك . ومثل بالقاصد ، لأنَّ المتوسط ، بين الإفراد والتفريط ، يقال له : مُقتصدٌ . قال تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ فاطر : 32 ] ومعنى القاصد : ذو قصد ، كقولهم : لابنٌ ، وتامرٌ ، ورابحٌ { ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة } . قرأ عيسى بن عمر ، والأعرج « بَعِدَت » بكسر العين . وقرأ عيسى « الشِّقَّة » بكسر الشين أيضاً قال أبو حاتمٍ : هما لغة تميم .
والشُّقَّة : الأرض التي يُشَقُّ ركوبُها ، اشتقاقاً من المشقَّة .
وقال الليثُ ، وابن فارسٍ : هي الأرضُ البعيدة المسير ، اشتقاقاً من الشِّق ، أو من المشقَّة ، والمعنى : بعدت عليهم المسافة وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن غزوة تبوك .
قوله : { وَسَيَحْلِفُونَ بالله } الجارُّ متعلقٌ ب « سَيَحْلِفُونَ » .
وقال الزمخشريُّ « بِاللهِ » متعلقٌ ب « سَيحْلفُونَ » ، أو هو من جملة كلامهم ، والقولُ مرادٌ في الوجهين ، أي : سَيحْلِفُون ، يعني : المتخلِّفين عند رجوعك معتذرين يقولون : باللهِ لو استطعنا أو سَيحْلفُونَ بالله يقولون : لو اسْتَطعْنَا .
وقوله : « لَخَرجْنَا » سدَّ مسدَّ جواب القسم ، و « لَوْ » جميعاً .

قال أبو حيان : قوله : « لخَرجْنَا » سدَّ مسدَّ جواب القسمِ ، و « لو » جميعاً « ؛ ليس بجيد ، بل للنحويين في هذا مذهبان :
أحدهما : أنَّ » لَخَرجْنَا « جوابُ القسم وجوابُ » لَوْ « محذوفٌ ، على قاعدة اجتماع القسم والشَّرط ، إذا تقدَّم القسم على الشَّرط ، وهذا اختيارُ ابن عصفورٍ . والآخر : أنَّ » لخَرجْنَا « جوابُ » لَوْ « و » لَوْ « وجوابها جواب القسم ، وهذا اختيارُ ابن مالكٍ . أمَّا أنَّ » لخَرَجْنَا « سد مسدَّهما فلا أعلمُ أحداً ذهب إلى ذلك ، ويحتمل أن يتأول كلامه على أنَّه لمَّا حذف جواب » لو « ودلَّ عليه جواب القسم جعل كأنَّهُ سدَّ مسدَّ جواب القسمِ ، وجواب » لو « .
وقرأ الأعمشُ ، وزيدُ بنُ عليٍّ » لوُ استطَعْنَا « بضم الواو ، كأنَّهما فَرَّا من الكسرة على الواو وإن كان الأصل ، وشبَّها واو » لَوْ « بواو الضَّمير ، كما شبَّهوا واو الضَّمير بواو » لَوْ « حيث كسرُوها ، نحو : { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] ، لالتقاء الساكنين . وقرأ الحسنُ : { اشتروا الضلالة } ، و { لَوِ استطعنا } بفتح الواو تخفيفاً .
ولو قلت : » وأنا قائمٌ « حالاً من ضمير » ليفعلنَّ « لم يجز ، وكذا عكسه ، نحو : حلفَ زيدٌ لأفعلنَّ يقوم ، تريد : قائماً ، لم يجز .
وأمَّا قوله : » وجاء به على لفظ الغائب؛ لأنه مُخْبرٌ عنهم « فمغالطةٌ ، ليس مخبراً عنهم بقوله : » لَوِ استطَعْنَا لخَرجْنَا « ، بل هو حاكٍ لفظ قولهم . ثمَّ قال : ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا ، لكان سديداً . . . إلى آخره . كلامٌ صحيحٌ ، لكنه - تعالى - لم يقل ذلك إخباراً عنهم ، بل حكايةٌ ، والحالُ من جملة كلامهم المحكيّ ، فلا يجوزُ أن يخالف بين ذي الحال وحاله ، لاشتراكهما في العامل ، لو قلت : قال زيدٌ : خرجت يضربُ خالداً ، تريد : اضرب خالداً ، لم يجز . ولو قلت : قالت هندٌ : خرج زيد أضرب خالداً ، تريد : خرج زيد ضارابً خالداً ، لم يَجُزْ ، انتهى .
الرابعُ : أنَّها جملةٌ استئنافيةٌ ، أخبر اللهُ عنهم بذلك .
فصل
معنى الآية : أنَّه لو كانت المنافع قريبة ، والسَّفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوزِ بتلك المنافع ، ولكن طال السفرُ ، وكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة ، بسبب استعظامهم غزو الرُّوم ، فلهذا تخلَّفُوا ، ثمَّ أخبر تعالى أنه إذا رجع من الجهادِ يجدهم : { سَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } إمَّا عند ما يعاتبهم بسبب التخلف ، وإمَّا ابتداءً على طريقة إقامة العذر في التخلف ، ثم بيَّن أنَّهم يهلكون أنفسهم بسبب الكذب والنِّفاق ، وهذا يَدُلُّ على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام » اليمينُ الغموسُ تدعُ الدِّيارَ بلاقعَ « ثم قال : { والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج ، فكانوا كاذبين في أيمانهم .

فصل
قالوا : الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - أخبر عنهم أنَّهم سيحلفون ، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل ، والأمر لمَّا وقع كما أخبر كان إخباراً عن الغيب ، فكان معجزاً .
قوله تعالى : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } الآية .
لمَّا بيَّن تعالى بقوله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ } أنه تخلف قوم عن ذلك الغزو ، وليس فيه بيان أنَّ ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا؟ فلمَّا قال بعده : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } دلَّ هذا ، على أنَّ فيهم من تخلَّف بإذنه .
قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } « لِمَ » ، و « لَهُمْ » كلاهما متعلقٌ ب « أذِنْتَ » ، وجاز ذلك؛ لأنَّ معنى اللاَّمين مختلف؛ فالأولى للتعليل ، والثانية للتبليغ . وحذفت ألفُ « ما » الاستفهامية لانجرارها ، وتقديمُ الجارِّ للأول واجبٌ؛ لأنَّه جرَّ ما له صدرُ الكلام ، ومتعلَّقُ الإذن محذوفٌ ، يجوزُ أن يكون القُعود ، أي : لِمَ أذنت لهم في القعود ، ويدل عليه السِّياق من اعتذارهم عن تخلُّفِهم عنه عليه السلام . ويجوزُ أن يكون الخروج ، أي : لِمَ أذنت لهم في الخروج ، لأنَّ خروجهم فيه مفسدةٌ من التخذيل ، وغيره ، يدلُّ عليه : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } [ التوبة : 47 ] .
قوله : { حتى يَتَبَيَّنَ } يجوزُ في « حتى » أن تكون للغاية ، ويجوز أن تكون للتعليل ، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ ، إمَّا بمعنى « إلى » ، وإمَّا بمعنى اللام ، و « أنْ » مضمرةٌ بعدها ، ناصبة للفعل ، وهي متعلقة بمحذوفٍ .
قال أبُو البقاءِ : « تقديرهُ : هَلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يَتبيَّنَ ، أو ليتبيَّن ، وقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } يدُلُّ على المحذوف ، ولا يجُوزُ أن تتعلَّق » حتَّى « ب » أذِنْتَ « لأنَّ ذلك يوجب أن يكون أذنَ لهم إلى هذه الغاية ، أو لأجل التَّبيين ، وذلك لا يُعاتبُ عليه » وقال الحوفيُّ : « حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ ، أي : ما كان له أن يأذن لهم ، حتى يتبيَّن له العُذْر » .
وفي هذه العبارة بعضُ غَضَاضةٍ .
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع ، ولدخوله عليه الصلاة والسلام تحت قوله تعالى : { فاعتبروا ياأولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] والرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان سيداً لهُم ، ثمَّ أكَّدُوا ذلك بهذه الآية فقالوا : إمَّا أن يقال : إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن ، أو منعه عنه ، أوْ مَا أذن له فيه وما منعهُ عنه والأول باطلٌ ، وإلاَّ امتنع أن يقول له : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ، والثاني باطل؛ لأنه يلزم منه أن يقال : إنَّه حكم بغير ما أنزل الله ، فيدخل تحت قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله } [ المائدة : 44-47 ] الآيات . وذلك باطل بصريح القول .

فلمْ يبق إلاَّ أنَّه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه ، فإمَّا أن يكون ذلك عن اجتهاد ، أو لا ، والثاني باطل؛ لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل كقوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات } [ مريم : 59 ] فلمْ يبق إلاَّ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن في تلك الواقعة بالاجتهاد .
فإن قيل : الآية تدلُّ على أنَّهُ لا يجوز له الاجتهاد؛ لأنه تعالى منعه بقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ؟ فالجوابُ : أنه تعالى ما منعه من الإذن مطلقاً ، لقوله تعالى : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين } [ التوبة : 43 ] والحكم الممدود إلى غاية ب « حتّى » يجب انتهاؤه عند حصول الغاية فدلَّ على صحة قولنا .
فإن قالوا : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ من ذلك التَّبيين هو التَّبيين بطريق الوحي؟ .
فالجواب : ما ذكرتموه محتمل؛ إلاَّ أنه على تقديركم ، يصير تكليفه ، أن لا يحكم ألبتة ، حتى ينزل الوحين فلمَّا ترك ذلك ، كان كبيرة ، وعلى تقديرنا يكون ذلك الخطأ خطأ في الاجتهاد فيؤجر عليه ، لقوله : « ومن اجتهد فأخطأ فله أجر » فكان حمل الكلامِ عليه أولى .
فصل
دلَّت هذه الآية على وجوب التثبت ، وعدم العجلة ، والتَّأنِّي ، وترك الاغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتَّى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه .
فصل
قال قتادةُ : عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية ، ثمَّ رخَّص له في سورة النُّور فقال : { فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } [ النور : 62 ] .
فصل
قال أبُو مسلم الأصفهاني في قوله { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } : ليس فيه ما يدل على أنَّ الإذن في ماذا؟ فيحتمل أن بعضهم استأذن في القُعُودِ؛ فأذن له ، ويحتملُ أن بعضهم استأذن في الخروجِ؛ فأذن له ، مع أنَّ ما كان خروجهم معه صواباً ، لكونهم عيوناً للمنافقين على المسلمين ، وكانوا يثيرون الفتنَ ، فلهذا ما كان خروجهم مع الرَّسُول مصلحة ، قال القاضي « هذا بعيدٌ؛ لأن هذه الآية نزلتْ في غزوة تبوك على وجه الذَّم للمتخلفين ، والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم » .

لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)

قوله تعالى : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } الآية .
أي : لا يستأذنوك في التخلف { والله عَلِيمٌ بالمتقين } .
قوله : « أَن يُجَاهِدُواْ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ متعلقُ « الاستئذان » ، أي : لا يستأذنوك في الجهادِ ، بل يمضُون فيه غير مترددين .
والثاني : أن متعلق « الاستئذان » محذوف و « أن يُجاهدُوا » مفعولٌ من أجله ، تقديره : لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعود كراهة أن يجاهدوا ، بل إذا أمرتُهم بشيءٍ بادروا إليه . وقال بعضهم : لا بدّ في الكلام من إضمار آخر؛ لأنَّ ترك استئذان الإمام في الجهادِ غير جائز ، فلا بدَّ من إضمار ، والتقديرُ : لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا ، إلاَّ أنَّه حذف حرف النفي كقوله : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ويدلُّ على هذا المحذوف أنَّ ما قبل الآية ، وما بعدها يدل على أن هذا الذم إنَّما كان على الاستئذان في القعود .
قوله تعالى : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } الآية .
بيَّن أنَّ هذا الاستئذان لا يصدر إلاَّ عند عدم الإيمان باللهِ واليوم الآخر ، ولمَّا كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشَّك فيه ، وقد يكون بسبب القطع والجزم بعدمه ، بيَّن تعالى أنَّ عدم إيمان هؤلاء ، إنَّما كان بسبب الشك والريب ، فدلَّ على أنَّ الشَّاك المرتاب غير مؤمن بالله وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة في سورة الأنفال عند قوله : { أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً } [ الأنفال : 4 ] ثم قال : { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي : متحيرين .
قوله : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } .
قرأ العامة « عُدَّة » بضمِّ العين وتاء التأنيث ، وهي الزَّادُ والراحلةُ ، وجميعُ ما يحتاج إليه المسافرُ .
وقرأ محمد بنُ عبد الملك بن مروان ، وابنه معاوية « عُدَّهُ » كذلك ، إلاَّ أنَّهث جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب ، يعود على « الخُرُوجِ » . واختلف في تخريجها ، فقيل : أصلها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث ، ولكنهم يحذفونها للإضافةِ ، كالتَّنوين ، وجعل الفراء من ذلك قوله تعالى : { وَإِقَامَ الصلاة } [ الأنبياء : 73 ] .
ومنه قول زهير : [ البسيط ]
2785- إنَّ الخليطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا ... وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذي وعَدُوا
يريد : عدة الأمْرِ .
وقال صاحبُ اللَّوامح « لمَّا أضاف جعل الكناية نائبةً عن التاء ، فأسقطها ، وذلك لأن العُدَّ بغير تاء ، ولا تقديرها ، هو » البئرُ الذي يخرج في الوجه « . وقال أبو حاتم : » هو جمع « عُدَّة » ، ك : « بُرّ » جمع « بُرّة » ، و « دُرّ » جمع « دُرَّة » والوجهُ فيه « عُدَد » ولكن لا يوافق خطَّ المصحف « . وقرأ زر بن حبيش ، وعاصم في رواية أبان » عِدَّهُ « بكسر العين ، مضافة إلى هاء الكناية .

قال ابن عطيَّة : هو عِنْدِي اسمٌ لما يُمَدُّ ، ك « الذَّبْح » ، و « القِتْل » .
وقُرىء أيضاً « عِدَّة » بكسر العين ، وتاء التأنيث ، والمرادُ : عدة من الزَّاد والسلاح ، مشتقاً من « العَدَدِ » .
قوله : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } . الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمُّلٍ ، فلذلك قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف موقعُ حرفِ الاستدراك؟ قلتُ : لمَّا كان قوله : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج } معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو . قيل : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } كأنه قيل : ما خرجوا ، ولكن تَثَبَّطُوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم ، : « ما أحْسَنَ زَيْدٌ إليَّ ولكن أساءَ إليَّ » . انتهى . يعني أنَّ ظاهرَ الآية يقتضي أنَّ ما بعد « لكن » موافقٌ لما قبلها ، وقد تقرَّر فيها أنَّها لا تقع إلاَّ بين ضدين ، أو نقيضين ، أو خلافين ، على خلاف في هذا الأخير ، فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور .
قال أبُو حيان « وليست الآيةُ نظير هذا المثالِ - يعني : ما أحْسَنَ زيدٌ إليَّ ، ولكن أساء - ، لأنَّ المثال واقعٌ فيه » لكن « بين ضِدَّيْن ، والآيةُ واقعٌ فيها » لكن « بين متفقين من جهة المعنى » .
قال شهابُ الدِّين « مُرادُهم بالنقيضين : النفيُ والإثبات لفظاً ، وإن كانا يتلاقيان في المعنى ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً » .
والانبعاثُ : الانطلاقُ ، يقال : بعثتُ البعير فانبعث ، وبعثته لكذا فانبعث ، أي : نفذ فيه والتَّثْبِيطُ : التَّعْويق ، يقالُ : ثَبَّطْتُ زيداً ، أي : عُقْتُه عمَّا يريده ، من قولهم : ناقة ثَبِطَة أي : بطيئة السير ، والمراد بقوله : « اقْعُدُوا » : التَّخْلية ، وهو كنايةٌ عن تباطئهم ، وأنَّهم تشبهوا بالنساء ، والصبيان ، والزَّمْنَى ، وذوي الأعذار ، وليس المرادُ قعوداً؛ كقوله : [ البسيط ]
2786- دَعِ المكَارِمَ لا تَقْصِدْ لبُغْيتهَا ... واقْعُدْ فإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي
والمعنى : أنَّه تعالى كره خروجهم مع الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - ، فصرفهم عنه .
فإن قيل : خروجهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إمَّا أن يقال إنَّه كان مفسدة ، وإمَّا أن يقال إنه مصلحة ، فإن كان مفسدة ، فلمَ عاتبَ الرسول في إذنه لهم بالقعود؟ وإن كان مصلحة فَلِمَ قال تعالى : إنه كره انبعاثهم وخروجهم؟
والجوابُ : أنَّ خروجهم مع الرَّسولِ ما كان مصلحة؛ لأنَّه تعالى صرَّح بعد هذه الآية بذكر المفاسد بقوله : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } ، بقي أن يقال : فلمَّا كان الأصلح أن لا يخرجوا ، فلِمَ عاتب الرسول في الإذن؟ فنقولُ : قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال : ليس في قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] أنه عليه الصلاة والسلام ، قد أذن لهم بالقُعُود ، بل يحتمل أن يقال : إنهم استأذنوه في الخروج معه ، فأذن لهم ، وعلى هذا يسقط السؤال .
قال أبو مسلم « ويدلُّ على صحَّة ما قلنا أنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ خُروجَهُمْ معه كان مفسدةً؛ فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه » ويؤكد ذلك قوله تعالى :

{ فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] وقوله تعالى : { سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } [ الفتح : 15 ] فاندفع السُّؤال على طريق أبي مسلم .
والجوابُ على طريقة غيره ، وهو أن نسلم أنَّ العتاب في قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] يوجب أنَّهُ عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود ، فنقولُ : ذلك العتابُ ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة ، بل لأجل أنَّ إذنه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك القعود مفسدة ، وبيانه من وجوه :
الأول : أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل ، ولهذا قال تعالى { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين } [ التوبة : 43 ] .
والثاني : أن التقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود ، فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ، ولم يغتَرُّوا بقولهم ، فلمَّا أذن الرَّسولُ في ذلك القعود بقي نفاقهم مخفياً ، وفاتت تلك المصالح .
والثالث : أنَّهم لمَّا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليهم وقال : { اقعدوا مَعَ القاعدين } ثم إنَّهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا : قد أذن لنا ، فقال تعالى : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] أي : لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى غرضهم .
الرابع : أن الذين يقولون إن الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ، قالوا : إنه إنَّما أذن بمجرد الاجتهاد وذلك غير جائز؛ لأنهم لمَّا تمكنوا من الوَحْيِ ، وكان الإقدامُ على الاجتهاد مع التَّمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حضور النَّص ، فلمَّا كان هذا غير جائز فكذا ذاك .
ثم قال تعالى : { وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين } . واختلفوا في تأويل هذا القول ، فقيل : هو الشيطان على طريق الوسوسة ، وقيل : قاله بعضهم لبعضٍ . وقيل : قاله الرسُول - عليه الصلاة والسلام - ، لمَّا أذن لهم في التخلف ، فعاتبه الله . وقيل : القائل هو الله تعالى؛ لأنه كره خروجهم؛ لأجل الإفساد ، فأمرهم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص . ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } أي : في جيشكم ، وفي جمعكم . وقيل : « فِي » بمعنى « مع » أي : معكم .
قوله : « إِلاَّ خَبَالاً » جَوَّزُوا فيه أن يكون استثناء متصلاً ، وهو مفرَّغٌ؛ لأنَّ زاد يتعدى لاثنين .
قال الزمخشري المُسْتَثنى منه غيرُ مذكورٍ ، فالاستثناءُ من أعمِّ العام ، الذي هو الشيء فكان استثناء متصلاً ، فإنَّ « الخبال » بعض أعمِّ العام ، كأنه قيل : « ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً » وجوَّزُوا فيه أن يكون منقطعاً ، والمعنى : ما زادوكم قوةً ولا شدةً ، ولكنْ خبالاً .

وهذا يجيءُ على قول من قال : إنَّه لم يكن في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبال ، كذا قال أبو حيان . وفيه نظرٌ؛ لأنه إذا لم يكن في العسكر خبال أصلاً ، فكيف يُسْتثنى شيءٌ لم يكن ولم يتوهَّمْ وجوده؟ . وتقدم تفسير « الخبال » في آل عمران . قال الكلبيُّ : إلاَّ شراً وقال يمان : إلاَّ مكراً ، وقيل : إلاَّ غيّاً ، وقال الضحاك : إلاَّ غَدْراً .
وقرأ ابن أبي عبلة : « ما زادكُمْ إلاَّ خَبَالاً » ، أي : ما زادكم خروجهم .
قوله : { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } . الإيضاعُ : الإسراعُ ، يقال : أوضع البعيرُ ، أي : أسرعَ في سيرهِ؛ قال امرؤ القيس : [ الوافر ]
2787- أرَانَا مُوضِعينَ لأمْرِ عَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ
وقال آخر : [ منهوك الرجز ]
2788- يَا لَيْتنِي فيهَا جَذَعْ ... أخُبُّ فيها وأضَعْ
ومفعول : « أوْضَعُوا » محذوف ، أي : أوضعوا ركائبهم؛ لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي .
قال الواحديُّ « قال أكثر أهل اللُّغةِ : إن الإيضاع حمل البعير على العدو ، ولا يجوزُ أن يقال : أوضع الرَّجلُ إذا سار بنفسه سَيْراً حثيثاً . يقال : وضع البعيرُ : إذا عدا ، وأوضعه الراكب : إذا حمله عليه » .
وقال الفرَّاءُ : « العرب تقول : وضعتْ النَّاقةُ ، وأوضع الراكبُ ، وربَّما قالوا للرَّاكب : وضَعَ » .
وقال الأخفشُ وأبو عبيد : يجوزُ أن يقال : أوضع الرَّجُلُ : إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد وضع ناقته . روى أبو عبيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم « أفاض من عرفة وعليه السَّكينة وأوضعَ في وادي مُحَسِّر » . قال الواحديُّ « والآية تشهد لقول الأخفشِ وأبي عبيد » والمراد من الآية : السَّعي بينهم بالعداوة والنميمة .
و « الخِلال » جمع « خَلَل » ، وهو الفُرْجَةُ بين الشيئين . ومنه قوله : { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [ النور : 43 ] ، وقرىء « مِنْ خلله » وهي مخارج صب القطر . ويستعار في المعاني فيقال : في هذا الأمْر خلل .
وقرأ مجاهدٌ ، ومحمد بن زيدٍ « ولأوْفَضُوا » ، وهو الإسراع أيضاً؛ من قوله تعالى : { إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [ المعارج : 43 ] .
وقرأ ابنُ الزبير « ولأرْفَضُوا » بالفراء والفاء والضاد المعجمة ، من : رفض ، أي : أسرع أيضاً؛ قال حسَّان : [ الكامل ]
2789- بِزُجَاجةٍ رفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا ... رَفَضَ القَلُوصِ بِراكبٍ مُسْتعْجِلِ
وقال : [ الكامل ]
2790- . . ... والرَّافِضَاتِ إلى مِنى فالغَبْغَبِ
يقال : رَفَضَ في مشيه رفْضاً ، ورَفَضاناً .
فإن قيل : كتب في المصحفِ « ولاَ أوْضَعُوا » بزيادة ألف . أجاب الزمخشريُّ « أنَّ الفتحة كانت تُكْتَب ألفاً قبل الخطِّ العربي ، والخطُّ العربي اخترع قريباً من نزول القرآن ، وقد بقى من ذلك الألف أثرٌ في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً ، وفتحتها ألفاً أخرى ، ونحوه { أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] . يعني : في زيادة الألف بعد » لا « وهذا لا يجوزُ القراءةُ به ومن قرأ به متعمداً بكفّر » .
قوله : « يَبْغُونَكُمُ » في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، من فاعل « أوْضَعُوا » أي : لأَسْرعُوا فيما بينكم ، حال كونهم باغين ، أي : طالبين الفتنة لكم ، ومعنى الفتنة : افتراقُ الكلمة .

قوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول « يَبْغُونكُمْ » أو من فاعله ، وجاز ذلك؛ لأنَّ في الجملة ضميريهما . ويجوزُ أن تكون مستأنفةً ، والمعنى : أنَّ فيكم من يسمع لهم ، ويُصْغِي لقولهم .
فإن قيل : كيف يجوزُ ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟
فالجوابُ : لا يمتنع لمنْ قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ، أو يكون بعضهم مجبولاً على الجبن والفشل؛ فيؤثر قولهم فيهم ، أو يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساءِ المنافقين فينظرون إليهم بعض الإجلال والتَّعظيم؛ فلهذا الأسباب يؤثر قول المنافقين فيهم ويجوز أن يكون المراد : وفيكم جواسيس منهم ، يسمعون لهم الأخبار منكم ، فاللاَّمُ على الأوَّلِ للتقوية لكون العامل فرعاً ، وفي الثاني للتعليل ، أي : لأجلهم . ثم قال تعالى : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم ، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات .
فصل
{ لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ } . أي : طلبُوا صد أصحابك عن الدِّين وردهم إلى الكُفْرِ ، وتخذيل النَّاس عنكَ قبل هذا اليوم ، كفِعْلِ عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه . وقال ابنُ جريج : هو أنَّ اثني عشر رجلاً من المنافقين ، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ، ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : { وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور } . قرأ مسلمة بن محارب « وقلبُوا » مخففاً . والمرادُ بتقليب الأمر : تصريفه وترديده ، لأجل التدبر والتأمل فيه ، أي : اجتهدوا في الحيلةِ والكيدِ لك يقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل : فلان حُوَّلٌ قلبٌ ، أي : يتقلب في وجوه الحيل .
ثم قال تعالى : { حتى جَآءَ الحق } أي : النصرُ والظفرُ .
وقيل : القرآن . { وَظَهَرَ أَمْرُ الله } دين الله . { وَهُمْ كَارِهُونَ } حالٌ ، والرَّابط الواو؛ أي : كارهون لمجيء الحق ولظهور أمر الله .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)

قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } الآية .
{ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي } كقوله : « يَا صالحُ ائتنا » من أنه يجوزُ تحقيقُ الهمزة ، وإبدالها واواً ، لضمة ما قبلها ، وإن كانت منفصلةً من كلمةٍ أخرى . وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة ، وقد كان قبلها همزة وصلٍ سقطت درجاً .
قال أبو جعفرٍ « إذا دخلت » الواو « و » الفاء « على » ائذن « فهجاؤها : ألف وذال ونون ، بغير ياء . أو » ثم « فالهجاءُ : ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونونٌ . والفرق : أنَّ » ثُمَّ « يوقف عليها وينفصل ، بخلافهما » .
قال شهابُ الدِّين « يعني إذا دخلت واوُ العطف ، أو فاؤه ، على هذه اللفظة اشتدَّ اتصالهما بها ، فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً ، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ ، فتكتب » فأذَنْ « ، و » أذَنْ « فهذه الألف هي صورة الهمزة ، التي هي فاء الكلمة » .
وإذا دخلت عليها « ثم » كُتِبَتْ كذا : ثم ائتُوا ، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة .
قال شهابُ الدين : وكأنَّ هذا الحُكْمَ الذي ذكره مع « ثم » يختصُّ بهذه اللَّفظة ، وإلاَّ فغيرها مما فاؤه همزةٌ ، تسقط صورة همزة وصله خطّاً ، فيكتب الأمرُ من الإتيان مع « ثم » هكذا : « ثُمَّ أتُوا » ، وكان القياس على « ثُم ائْذَانْ » « ثم ائْتُوا » ، وفيه نظرٌ ، وقرأ عيسى بن عمر ، وابن السَّميفع ، وإسماعيل المكي ، فيما روى عنه ابن مجاهد « ولا تُفْتِنِّي » بضم حرف المضارعة ، من « أفتنه » رباعياً . قال أبُو حاتم « هي لغة تميمٍ » وقيل : أفتنه : أدخله فيها ، وقد جمع الشاعر بين اللغتين ، فقال : [ الطويل ]
2791- لَئِنْ فَتَنَتْني لَهْيَ بالأمْسِ أفْتَنَتْ ... سَعِيداً فأمْسَى قَدْ قَلاَ كُلَّ مُسْلِمِ
ومتعلق « الإذن » : القعودُ ، أي : ائذن لي في القعود والتخلف عن الغزو ، ولا تَفْتِنِّي بخروجي معك . أي : لا تهلكني بخروجي معك ، فإنَّ الزمانَ شديد الحرّ ، ولا طاقة لي به . وقيل : لا تفتنيِّي؛ لأنِّي إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي ، وقيل : نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا تجهَّز لغزو تبوك ، قال له : « يا أبا وهب ، هل كل في جلاد بني الأصفر؟ يعني : الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء » فقال جدُّ : يا رسول الله ، لقد عرف قومي أني رجل مغرمٌ بالنِّساءِ ، وإنِّي أخشى إن رأيت بنات الأصفر ألاَّ أصبر عنهنَّ ، ائذن لي في القعود ، ولا تفتنِّي بهنّ ، وأعينكم بمالي .
قال ابن عباسٍ : « اعتلَّ جدُّ بن قيس ، ولم تكن علته إلا النفاق ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال :

« قد أذنت لك » ، فأنزل الله عز وجل : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي } الآية .
قوله : { أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ } أي : في الشّرك والإثم وقعوا بنفاقهم ، وخلافهم أمر الله ورسوله .
وفي مصحف أبي « سَقَطَ » لأنَّ لفظة « مِنْ » موحد اللفظ ، مجموع المعنى ، وفيه تنبيه على أنَّ مَنْ عصى الله لغرض ، فإنَّهُ تعالى يبطل عليه ذلك الغرض؛ لأنَّ القوم لمَّا اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة ، بيَّن اللهُ تعالى أنهم واقعون ساقطون في عينِ الفتنة - ثم قال { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } مطبقة عليهم .
قوله : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ } نصر وغنيمة « تَسُؤهُمْ » تُحزنهم ، يعني المنافقين { وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } نكبة وشدة ومكروه ، يفرحوا ، و { يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ } أي : حذرنا ، « ويتَولَّوا » يدبروا عن مقام التحدث بذلك إلى أهليهم { وَّهُمْ فَرِحُونَ } مسرورون .
ونقل عن ابن عبَّاسٍ « أنَّ الحسنة في يوم بدرٍ ، والمصيبة في يوم أحدٍ ، فإن ثبت أنَّ المراد هذا بخبر وجب المصير إليه ، وإلاَّ فالواجب حمله على كل حسنة ، وعلى كل مصيبة » .
قوله : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ } قال عمر بن شقيق : سمعت « أعين » قاضي الرَّيِّ يقرأ « لن يُصيبنَّا » بتشديد النون .
قال أبُو حاتم : ولا يجوزُ ذلك؛ لأنَّ النُّونَ لا تدخلُ مع « لَنْ » ، ولو كانت لطلحة بن مصرف ، لجاز ، لأنها مع « هل » ، قال الله تعالى { هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ الحج : 15 ] .
يعني أبو حاتم : أنَّ المضارع يجوز توكيده بعد أداة الاستفهام ، وابن مصرف يقرأ « هَلْ » بدل « لَنْ » ، وهي قراءة ابن مسعود . وقد اعتذر عن هذه القراءة بأنَّها حملت « لن » على « لم » و « لا » النافيتين ، و « لم » و « لا » يجوز توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما .
أمَّا « لا » فقد تقدم تحقيق الكلام عليها في الأنفال . وأما « لم » فقد سمع ذلك فيها؛ وأنشدوا : [ الرجز ]
2792- يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلمَا ... شَيْخاً عَلَى كُرسيِّهِ مُعَمَّمَا
أراد : « يَعْلمَنْ » فأبدل الخفيفة ألفاً بعد فتحة ، كالتنوين . وقرأ القاضي أيضاً ، وطلحة « هَلْ يُصَيِّبنا » بتشديد الياء . قال الزمخشريُّ : ووجهه أن يكون « يُفَيْعِل » لا « يُفَعِّل » لأنَّهُ من ذوات الواو ، كقولهم : الصَّواب ، وصَابَ يَصوبُ ، ومَصَاوب ، في جمع « مصيبة » فحقُّ « يُفَعِّل » منه « يُصَوِّب » ، ألا ترى إلى قولهم : صوَّب رأيه ، إلاَّ أن يكون لغة من يقول : صَابَ السَّهْمُ يصيبُ؛ كقوله : [ المنسرح ]
2793- . ... أسْهُمِيَ الصَّائِبَاتُ والصُّيُبُ
يعني : أن أصله « يُصَوْيب » فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياءً ، وأدغم فيها .

وهذا كما تقدم في « تَحَيَّزَ » أنَّ أصله « تَحَيْوزَ » ، وأمَّا إذا أخذناه من لغة من يقول : صَاب السَّهم يصيب ، فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة « فَعَّلط .
فصل
المعنى : قل لهم يا محمد { لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } أي : علينا ، وقدره في اللوح المحفوظ ، أو يكون المعنى » لنْ يُصيبنَا إلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنَا « أي : في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو ، والاستيلاء عليهم . وقال الزجاج : المعنى : إذا صرنا مغلوبين ، صرنا مستحقين للأجر العظيم ، والثَّواب الكثير ، وإن صرنا غالبين ، صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير ، والثناء الجميل في الدنيا والصحيح الأول .
ثم قال : » هُوَ مَوْلاَنَا « ناصرنا ، وحافظنا . قال الكلبي » هو أوْلَى بنا من أنفسنا ، في الحياة والموت « . { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك ، وأنهم لا يتوكلون إلا على الأسباب الدنيوية الفانية .
فصل
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين } الآية .
هذا الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين ، أي : » هَلْ تَربَّصُونَ « ، أي : تنتظرون ، » بنا « أيها المنافقون ، { إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين } إمَّا النصر والغنيمة ، فيحصل لنا الفوز بالأموال في الدنيا والنصر ، والفوز بالثواب العظيم في الآخرة ، وإمَّا الشهادة ، فيحصل لنا الثواب العظيم في الآخرة .
قوله : { إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين } مفعول » تربَّص « ، فهو استثناء مفرغ . وقرأ ابن محيصنٍ : » إلاَّ احدى « بوصل ألف » إحدى « ؛ إجراءً لهمزة القطع مجرى همزة الوصل؛ فهو كقول الشاعر : [ الرجز ]
2794- إنْ لَمْ أقَاتِلْ فالبسُونِي بُرقَعَا ... وقول الآخر : [ الكامل ]
2795- يَا بَا المُغيرةَ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ ... فرَّجْتهُ بالمكْرِ مِنِّي والدَّهَا
قوله : { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } إحدى السوأتين إمَّا { أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ } فيهلككم كما أهلك تلك الأمم الخالية ، { أَوْ بِأَيْدِينَا } أي : بأيدي المؤمنين ، إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق ، فيقع بكم القتلِ والنَّهب مع الخزي والذلّ ، ومفعول : التربص » أَن يُصِيبَكُمُ « ثم قال : » فتربصوا « أي : إحدى الحالتين الشريفتين { إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } أي : مواعيد الله من إظهار دينه ، واستئصال من خالفه ، فقوله : » فتربصوا « وإن كان صيغة أمر ، إلاَّ أنَّ المراد منه : التهديد ، كقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] .
قوله تعالى : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْها } الآية .
» طوعاً ، أو كرهاً « مصدران في موضع الحال ، أي : طائعين ، أو كارهين . وقرأ الأخوان » كُرهاً « بالضَّمِّ ، وقد تقدم تحقيقُ ذلك في النساء . وقال أبُو حيان هنا : » قرأ الأعمش وابن وثاب « كُرهاً » بضم الكاف « . وهذا يُوهم أنَّها لم تُقْرأ في السبعة . قال الزمخشري : هو أمرٌ في معنى الخبر ، كقوله :

{ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } [ مريم : 57 ] ، ومعناه لن يُتقبَّل منكم؛ أنفقتم طوعاً أو كرهاً ، ونحوه قوله تعالى : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] ؛ وقول كثير عزة : [ الطويل ]
2796- أسيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَة ..
أي : لن يغفر اللهُ ، استغفرت لهم ، أو لم تستغفر . ولا نلومُكِ أحسنتِ إلينا ، أم أسَأتِ؛ وفي معناه قول القائل : [ الطويل ]
2797- أخُوكَ الذي إنْ قُمْتَ بالسَّيفِ عَامِداً ... لِتضْربَهُ لَمْ يَسْتغشَّكَ في الوُدِّ
وقال ابن عطيَّة « هذا أمرٌ في ضمنه جزاءٌ ، والتقدير : إنْ تنفقوا لن يُتقبَّل منكم . وأمَّا إذا عَرِي الأمرُ من الجواب فليس يصحبه تضمُّنُ الشَّرط » قال أبُو حيَّان « ويقَدْح في هذا التَّخريجِ ، أنَّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط ، كان الجواب كجواب الشرط . فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب : » فلن يتقبل « بالفاء ، لأنَّ » لَنْ « لا تقعُ جواباً للشَّرط إلاَّ بالفاء فكذلك ما ضُمِّنَ معناه؛ ألا ترى جزمه الجواب ، في قوله : اقصد زيداً يُحْسِنْ إليكَ » .
قال شهابُ الدِّينِ « إنَّما أراد أبو محمد تفسير المعنى ، وإلا فلا يجهلُ مثل هذه الواضحات ، وأيضاً فلا يلزمُ أن يعطى الأمر التقديري حكم الشَّيء الظاهر من كل وجه » .
وقوله : « إنَّكمُ » وما بعده جارٍ مجرى التعليل . وقوله : { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } يحتملُ أن يكون المراد أن الرسُول - عليه الصلاة والسلام - لا يتقبل تلك الأموال منهم ، ويحتملُ أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله تعالى .
قيل : نزلت في جد بن قيس حين استأذن في القعود ، وقال : أعينكم بمالي ، والمرادُ بالفسق هنا : الكفر ، لقوله بعده { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ } [ التوبة : 54 ] .

وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)

قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ } الآية .
« أنْ تُقْبَلَ » فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعول ثانٍ ، ل « مَنَعَ » إمَّا على تقدير إسقاطِ حرف الجر ، أي : من أن يقبل ، وإمَّا لوصول الفعل إليه بنفسه؛ لأنَّك تقول : منعتُ زيداً حقَّه ومن حقه . والثاني : أنَّهُ بدلٌ من « هم » في : « مَنَعَهُمْ » ، قاله أبو البقاءِ ، كأنَّهُ يريد : بدل الاشتمال ، ولا حاجة إليه . وفي فاعل « مَنَعَ » وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ { إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ } أي : ما منعهم قبول نفقتهم إلاَّ كفرهم .
والثاني : أنَّهُ ضمير الله تعالى : أي وما منعهم الله ، ويكون « إِلاَّ أَنَّهُمْ » منصوباً على إسقاط حرف الجر ، أي : لأنَّهم كفروا . وقرأ الأخوان « أن يُقْبَلَ » بالياءِ من تحت . والباقون بالتَّاء من فوق . وهما واضحتان ، لأنَّ التأنيث مجازي . وقرأ زيد بن علي كالأخوين إلاَّ أنَّه أفرد النفقة . وقرأ الأعرج « تُقبل » بالتاء من فوق ، « نَفَقَتهُم » بالإفراد . وقرأ السُّلمي « يَقْبل » مبنياً للفاعل ، وهو الله تعالى . وقرىء « نَقْبل » بنون العظمة ، « نفقتهم » بالإفراد .
فصل
ظاهر اللفظ يدل على أنَّ منع القبول معلل بمجموع الأمور الثلاثة ، وهي الكفر بالله ورسوله ، وإتيان الصَّلاة وهم كسالى ، والإنفاق على سبيل الكراهية .
ولقائل أن يقول : الكفر بالله سبب مستقل في المنع من القبولِ ، فلا يبقى لغيره أثر ، فكيف يمكن إسناد الحكم إلى السببين الباقيين؟ .
وجوابه : أنَّ هذا الإشكالِ إنما يتوجَّهُ على قول المعتزلةِ ، حيث قالوا : إنَّ الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم ، أما عند أهْلِ السُّنَّةِ : فإنَّ شيئاً من الأفعال لا يوجب ثواباً ولا عقاباً وإنَّما هي معرفات ، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز .
فصل
دلَّت الآية على أنَّ شيئاً من أعمال البر لا يقبل مع الكفر بالله تعالى .
فإن قيل : كيف الجمع بينه وبين قوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] ؟ فالجوابُ : أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقابِ ، ودلت الآية على أنَّ الصلاة تجب على الكافر ، لأنه تعالى ذمَّ الكافر على فعل الصَّلاة على وجه الكسل .
قال الزمخشريُّ « كُسَالَى » بالضمِّ والفتح جمع : « كَسْلان » نحو « سَكَارى » . قال المفسِّرون : معنى هذا الكسل ، أنَّهُ إن كان في جماعة صلَّى ، وإن كان وحده لم يصلِّ .
وقوله : { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } أي : لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة .
قوله تعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ } الآية .
لمَّا قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة ، بيَّن ههنا أنَّ الأشياء التي يظنونها من منافع الدنيا؛ فإنه تعالى جعلها أسباباً لتعذيبهم في الدُّنيا .

والإعجاب : هو السرور بالشَّيء من نوع الافتخار به ، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه . قوله { فِي الحياة الدنيا } فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ ب « تُعْجِبْكَ » ، ويكون قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ } جملة اعتراض ، والتقدير : فلا تعجبك في الحياةِ ، ويجوز أن يكون الجارُّ حالاً من « أمْوالُهُمْ » وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي وابن قتيبة ، قالوا في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، والمعنى : فلا تعجبك أموالهم ، ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنَّما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة .
قال أبو حيان : « إلاَّ أنَّ تقييد الإعجاب المنهيَّ عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنَّه لا يكون إلاَّ في الحياة الدُّنيا ، فيبقى ذلك كأنَّهُ زيادة تأكيد بخلاف التَّعذيب ، فإنَّه قد يكون في الدنيا ، كما يكون في الآخرة ، ومع أنَّ التقديم والتأخير يخصُّه أصحابنا بالضرورة » .
قال شهابُ الدين : « كيف يقال - مع نصِّ من قدَّمتُ ذكرهم - أصحابنا يخصُّون ذلك بالضَّرورة؟ على أنه ليس من التقديم الذي يكون في الضرورة في شيءٍ ، إنَّما هو اعتراض ، والاعتراض لا يقال فيه تقديم وتأخير ، بالاصطلاح الذي يخصُّ بالضرورة . وتسميتهم - أعني : ابن عباس ، ومن معه رضي الله عنهم - إنَّما يريدون به الاعتراض المشار إليه ، لا ما يخصه أهل الصناعة بالضرورة » .
والثاني : أنَّ « فِي الحياةِ » متعلقٌ بالتعذيب ، والمراد بالتعذيب الدنيويِّ : مصائبُ الدُّنيا ورزاياها أو ما لزمهم من التكاليف الشَّاقة ، فإنَّهم لا يرجون عليها ثواباً ، قاله ابنُ زيد : أو ما فُرِض عليهم من الزكوات ، قاله الحسنُ . وعلى هذا فالضميرُ في « بها » يعود على الأموال فقط ، وعلى الأول يعود على « الأولاد ، والأموال » .
فإن قيل : أيُّ تعذيب في المال والولد وهما من جملة النّعم؟ .
فالجوابُ : على القول الأول بالتقديم والتأخير ، فالسؤالُ زائل . وعلى الثاني المصائب الواقعة في المال والولد . وقيل : بل لا بدَّ من تقدير حذف ، بأن يقال : أراد بالتعذيب بها من حيث كانت سبباً للعذاب ، أمَّا في الدُّنيا ، فإن من أحب شيئاً كان تألمه على فراقه شديداً ، وأيضاً يحتاج في تحصيلها إلى تعب شديد ، ومشاقّ عظيمة ، ثم في حفظها كذلك ، وأمَّا في الآخرة فالأموال حلالها حساب ، وحرامها عذابٌ .
فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكلِّ ، فما فائدة تخصيص المنافقين؟ .
فالجوابُ : أن المنافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فلا ينفق ماله في سبيل الله لأنَّهُ يراه ضياعاً لا يرجو ثوابه ، وأما المؤمن فينفق ماله طيبة بها نفسه ، يرجو الثواب في الآخرة والمنافق لا يجاهدث في سبيل الله خوفاً من أن يقتل ، والمؤمن يُجَاهدُ ، يرجو ثواب الآخرة ثم قال : { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي : تخرجُ أنفسهم وهم كارهون .

أي : يموتون على الكفر .
قوله : { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } على دينكم { وَمَا هُم مِّنكُمْ } أي : ليسوا على دينكم { ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا .
قوله : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ } . « المَلْجَأ » : الحِصْن . وقال عطاءٌ : المَهْرب وقيل : الحِرْز وهو « مَفْعَل » ، مِنْ : لَجَأ إليه ، يلجأ ، أي : انحاز . يقال : ألجَأتُهُ إلى كذا أي : اضطررته إليه فالتَجَأ . و « الملجأ » يصلحُ للمصدر ، والزمان ، والمكان . والظَّاهرُ منها - المكان . و « المغارات » جمع « مغارة » ، وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه ، أي : يستقر . وقال أبُو عبيدٍ : كل شيءٍ جزتَ فيه فغبتَ فهو مغارة لك ، ومنه : غار الماء في الأرض ، وغارت العين . وهي مفعلة ، مِنْ : غَارَ يغُورُ ، فهي كالغَار في المعنى . وقيل : المغارة : السِّرْب ، كنفق اليربوع .
والغار : النَّقْبُ في الجبل . والجمهورُ على فتح ميم « مغارات » . وقرأ عبدُ الرحمن بن عوف « مُغارات » بالضم ، وهو من : أغار ، و « أغار » يكون لازماً ، تقول العربُ : « أغار » بمعنى « غار » أي : دخل . ويكون متعدّياً ، تقول العرب : أغرت زيداً ، أي : أدخلته في الغار ، فعلى هذا يكون من « أغار » المتعدِّي ، والمفعول محذوف ، أي : أماكنُ يغيرون فيها أنفسهم ، أي : يُغَيِّبُونها . و « المُدَّخل » : « مُفْتَعَل » مِنَ : الدخول ، وهو بناء مبالغة في هذا المعنى ، والأصل : « مُدْتَخل » فأدغمت « الدال » في « تاء » الافتعال ك : « ادَّانَ » من « الدَّين » . وقرأ قتادة ، وعيسى بن عمر ، والأعمش « مُدَّخَّلاً » بتشديد الدال والخاء معاً . وتوجيهها أن الأصل « مُتدَخَّلاً » ، من : تدخَّل « بالتَّضعيف ، فلمَّا أدغمت التاء في الدال صار اللفظ » مُدخَّلاً « نحو » مُدَّيَّن « من » تَديَّن « .
وقرأ الحسنُ أيضاً ، ومسلمةُ بن محاربٍ ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وابن كثير ، في رواية » مَدْخَلاً « بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء خفيفة ، مِنْ » دخل « . وقرأ الحسنُ في رواية محبوب كذلك ، إلاَّ أنه ضمَّ الميم ، جعله من » أدخل « . وهذا من أبدع النَّظم ، ذكر أولاً الأمر الأعم ، وهو » الملجأ « من أي نوع كان ، ثم ذكر الغيران التي يُخْتفى فيها في أعلى الأماكن ، وهي الجبالُ ، ثم ذكر الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة ، وهي السُّروب ، وهي التي عبَّر عنها ب » المُدَّخل « . وقال الزجاج : يصحُّ أن تكون » المغارات « من قولهم : » حَبل مُغار « أي : محكم الفتل ، ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم فيجيء التأويل على هذا : لو يجدون نصرة ، أو أموراً مشددة مرتبطة تعصمهم منكم وجعل » المُدَّخَل « أيضاً قوماً يدخلون في جملتهم .

وقرأ أبي « مُنْدَخَلاً » بالنون بد الميم ، من « انْدخَلَ » ؛ قال : [ البسيط ]
2798- . . ... ولا يَدِي في حَميتِ السَّمْنِ تَنْدخِلُ
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه ، وقال : إنَّما هي بالتاء ، وهو معذورٌ ، لأنَّ « انفعل » قاصر لا يتعدى ، فكيف يبنى منه اسم مفعول؟ وقرأ الأشهب العقيلي « لوالَوْا » ، أي : لتتابعوا وأسرعوا وكذلك رواها ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل ، عن أبيه ، عن جده وكانت له صحبة من الموالاة . وهذا مما جاء فيه « فعَّل » ، و « فاعل » بمعنى ، نحو : ضَعَّفْتُه ، وضَاعَفْتُه .
قال سعيد بن مسلم : أظنها « لَوألُوا » بهمزة مفتوحة بعد الواو ، من « وأل » ، أي : التجأ وهذه القراءةُ نقلها الزمخشري عن أبيّ ، وفسَّرها بما تقدم من الالتجاء . و « الجُموح » النُّفُور بإسراع؛ ومنه : فرس جمُوحٌ ، إذا لم يرُدَّهُ لِجَامٌ؛ قال : [ المتقارب ]
2799- سَبُوحاً جَمُوحاً وإحْضَارُهَا ... كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُوقَدِ
وقال آخر : [ البسيط ]
2800- وقد جَمَحْتُ جِمَاحاً في دِمَائِهِمُ ... حتَّى رأيتُ ذوي أحْسابِهِمْ جَهَزُوا
وقرأ أنس بن مالك ، والأعمش : يَجْمِزُون . قال ابن عطية يُهرولُونَ في مَشيهمْ وقيل : يَجْمِزُونَ ، ويَجْمَحُونَ ، ويشتدُّون بمعنى « .
وفي الحديث : » فلمَّا أذْلقَتهُ الحجارةُ جَمَزَ « وقال رؤبة : [ الرجز ]
2801- إمَّا تَرَيْنِي اليومَ أمَّ حَمْزٍ ... قَاربْتُ بين عَنقي وجمْزِي
ومنه » يَعْدُو الجَمَزَى « وهو أن يجمع رجليه معاً ، ويهمز بنفسه ، هذا أصله في اللغة وقوله : » إليهِ « عاد الضميرُ على » الملجأ « أو على » المُدَّخل « ، لأنَّ العطف ب » أوْ « ، ويجوز أن يعود على » المغارات « لتأويلها بمذكر . ومعنى الآية : أنهم لو يجدون مخلصاً منكم أو مهرباً لفارقوكم .
قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } الآية .
قرأ العامة » يَلْمِزُكَ « بكسر الميم ، من : لَمَزه يَلْمِزه ، أي . عابه ، وأصله : الإشارة بالعين ونحوها .
قال الأزهري أصله : الدفع ، لَمَزتُهُ دفعته وقال الليث هو الغمز في الوجه ومنه : هُمزةٌ لُمَزَة . أي : كثيرُ هذين الفعلين . وقال أبو بكر الأصم » اللَّمز : أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه . والهمز : أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه « . وقرأ يعقوب ، وحماد بن سلمة عن ابن كثير ، والحسن ، وأبو رجاء ، ورويت عن أبي عمرو بضمها ، وهما لغتان في المضارع . وقرأ الأعمش » يُلْمِزُكَ « مِنْ » الْمَز « رباعياً . وروى حماد بن سلمة » يُلامِزُكَ « على المفاعلة من واحدٍ ، ك : سافرَ ، وعاقب .
هذا شرح نوع آخر من طباعهم وأفعالهم ، وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات ، ونزلت في ذي الخويصرة التميمي ، واسمه : حرقوص بن زهير ، أصل الخوارج .

قال أبو سعيد الخدري بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالاً إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي ، وقال : يا رسول الله اعدل ، فقال : « ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟ » فنزلت هذه الآية .
وقال الكلبي : قال رجل من المنافقين ويقال له : أبو الجواظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتزعم بأن الله أمرك بأن تضع صدقات في الفقراء والسماكين ، فلم تعضها في رعاة الشاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا أبا لك ، فإنما كان موسى راعياً وإنما كان داود راعياً » ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فلما ذهب قال عليه السلام : « احذروا هذا وأصحابه ، فإنهم منافقون » .
وروى أبو بكر الأصم في تفسيره أنه عليه السلام قال لرجل من أصحابه : « ما علمك بفلان؟ » قال ما لي به علم إلا أنك تدينه في المجلس وتجزل له العطاء ، فقال عليه السلام : « إنه منافق أداريه عن نفاقه ، وأخاف إفساده . »
قال ابن عباس « يلمزك » : يغتابك ، وقال قتادة : يطعن عليك ، وقال الكلبي : يعيبك في أمرٍ ما ، قال أبو علي الفارسي : هنا محذوف والتقدير : يعيبك في تفريق الصدقات فإن أعطوا كثيراً فرحوا ، وإن أعطوا قليلاً فإذا هم يسخطون . وقد تقدم الكلام على « إذا » الفجائية ، والعامل فيها . قال أبو البقاء : « يسخطون » لأنه قال : إنها ظرف مكان ، وفيه نظر تقدم نظيره .
قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ } . الظاهر أنَّ جواب « لَوْ » محذوفٌ ، تقديره : لكان خيراً لهم .
وقيل : جوابها « وقالوا » ، والو مزيدةٌ ، وهذا مذهبُ الكوفيين . والمعنى { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ } ما نحتاج إليه { إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ } هاتانِ الجملتان كالشَّرح لقولهم : « حَسبُنَا اللهُ » ، فلذلك لم يتعاطفا ، لأنَّهُمَا كالشَّيء الواحد ، فشدَّه الاتصال منعت العطف .

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)

قوله تعالى : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين } الآية .
اعلم أنَّ المنافقين لمَّا لمزوا الرسول عليه الصلاة والسلام في الصدقات ، بيَّن لهم أنَّ مصرف الزكاة هؤلاء ، ولا تعلق لي بها ، ولا آخذ لنفسي نصيباً منها .
وقد ذكر العلماء في الحكمة في وجوب الزكاة أموراً :
منها : قالوا : شكر النِّعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم ، والزكاة شكر النعمة . فوجب القولُ بوجوبها؛ لأنَّ شكر المنعم واجب .
ومنها : أنَّ إيجاب الزكاة توجب حصول الألفة بالمودَّة ، وزوال الحقد والحسد بين المسلمين فهذه وجوهٌ معتبرةٌ في الحكمة الناشئة لوجوب الزَّكاة .
ومنها : أنَّ الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان عطَّله عن المقصود الذي لأجله خلق المالُ ، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى ، وهو غير جائز ، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتَّى لا تتعطل تلك الحكمة .
ومنها : أنَّ الفقراء عيالُ الله ، لقوله تعالى { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] والأغنياء خزان الله؛ لأنَّ الأموال التي في أيديهم لله تعالى ، ولولا أن الله ألقاها في أيديهم ، لما ملكوا منها حبة واحدة .
ومنها : أنَّ المال بالكليَّة في يد الغني مع أنَّه غير محتاج إليه ، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكليَّة ، لا يليقُ بحكمة الرحيم؛ فوجب أن يجب على الغنيّ صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير .
ومنها : أنَّ الأغنياء لو لم يقوموا بمهمات الفقراء ربّما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين ، أو على الإقدامِ على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها؛ فإيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة؛ فوجب القول بوجوبها وقيل غير ذلك .
فصل
كلمة « إنَّما » للحصر ، فدلَّت على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلاَّ لهذه الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه ، ويدلُّ على أنَّ كلمة « إنَّما » للحصر؛ لأنها مركبة من « إن » و « ما » ، و « إن » للإثبات و « ما » للنفي « ، واجتماعهما يوجب بقاءهما على ذلك المفهوم ، وكذلك تمسَّك ابنُ عبَّاسٍ في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصلاة والسلام » إنَّما الرِّبَا في النَّسيئَةِ « ، وتمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عليه الصلاة والسلام » إنما الماءُ من الماءِ « ، ولولا إفادتها الحصر ، لما كان كذلك ، وقال تعالى { إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ } [ النساء : 171 ] فدلَّت على نفي إلهية الغير؛ وقال الأعشى : [ السريع ]
2802- ولسْتَ بالأكْثَرِ منهُم حَصًى ... وإنَّما العِزَّةُ لِلكَاثِرِ
وقال الفرزدق : [ الطويل ]
2803- أنَا الذَّائدُ الحَامِي الذِّمارَ وإنَّما ... يدافعُ عنْ أحسابهِمْ أنَا أوْ مِثْلِي
فدلَّت هذه الوجوه على أنَّ كلمة » إنَّما « للحصر .
وروى زياد بن الحارث الصُّدانئي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصَّدقة فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم

« إنَّ اللهَ لَمْ يرضَ بحُكْم نبي ، ولا غيره في الصَّدقاتِ حتَّى حكم فيها فجَزَّأها ثمانيةَ أجزاء ، فإنْ كنتَ من تلكَ الأجزاءِ أعطيتُك حقَّك » .
فصل
مذهب أبي حنيفة : أنه يجوز صرف الصَّدقة إلى بعض الأصناف ، وهو قول عمر وحذيفة ، وابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، والنخعي . قال سعيدُ بن جبير : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقرأ متعففين فحبوتهم بها كان أحب إليَّ وقال الشافعي لا بُدَّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية وهو قوك عكرمة ، والزهري وعمر بن عبد العزيز واحتج بظاهر الآية . قال ولا بدَّ في كلِّ صنف من ثلاثة ، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث ، وهو ثلث سهم الفقراءِ قال : ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية ، مثاله لو وجد خمسة أصناف ، ولزمه أن يتصدَّق بعشرة دراهم؛ لزمه أن يجعل العشرة خمسة أسهم .
واختلفوا في صفة الفقير والمسكين ، فقال ابن عباسٍ ، والحسنُ ، ومجاهدٌ ، وعكرمةُ والزهريُّ : الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين : السَّائل . قال ابن عمر : ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة ، ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على شيء : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } [ البقرة : 273 ] .
وقال قتادة : الفقير : المحتاج الزَّمِنُ ، والمسكين : الصحيح المحتاج . وروي عن عكرمة الفقراء من المسلمين ، والمساكين من أهل الكتاب . وقال الشافعي الفقير من لا مال ولا حرفةَ تقع منه موقعاً زمناً كان أو غير زمن ، والمسكين من له مال أو حرفة لا تغنيه سائلاً كان أو غير سائل .
واستدل بقوله : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } [ الكهف : 79 ] فأثبت لهم ملكاً ، وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ من الفقر ، وقال : كاد الفقرُ أن يكون كُفْراً . وكان يقول : اللَّهُمَّ أحْيِني مِسْكيناً وأمِتْنِي مسْكِيناً ، فكيف كان يتعوذ من الفقر ، ويسأل ما هو دونه وهذا تناقض؟
وقال أصحاب الرأي : الفقيرُ أحسن حالاً من المسكين . وقيل : الفقير من له المسكن والخادم والمسكين من لا ملك له ، وقالوا كل محتاج إلى شيء فهو فقير إليه ، وإن كان غنياً عن غيره قال تعالى : { ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله } [ فاطر : 15 ] ، والمسكين المحتاج إلى كلِّ شيءٍ ألا ترى كيف حضَّ على طعامه ، وجعل طعام الكفارة له ، ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة .
وقال إبراهيمُ النخعيُّ : الفقراء هم المهاجرون ، والمسكين من لم يهاجر ، وقيل : لا فرق بين الفقراء والمساكين فالله تعالى وصفهم بهذين الوصفين ، والمقصود شيءٌ واحد ، وهو قول أبي يوسف ومحمد .
وفائدة الخلاف تظهر في مسألة : وهي أنَّه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين ، فالذين قالوا : الفقراء غير المساكين ، قالوا : لفلان الثلث ، والذين قالوا : الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف .

واختلفوا في حدِّ الغني الذي يمنع أخذ الصَّدقة ، فقال الأكثرون : حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة ، وهو قول مالك ، والشافعي . وقال أصحاب الرأي : حدُّه أن يملك مائتي درهم . وقيل : من ملك خمسين درهماً ، لا يحلُّ له أخذ الصدقة . روي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ سَألَ النَّاسَ ولهُ ما يُغْنِيه جاء يوم القيامةِ ومسْألتُهُ في وجهه خُموش أو خُدُوش . قيل : وما يُغنيهِ؟ قال : » خَمْسُونَ دِرْهماً أو قيمتها من الذَّهب « ، وهو قول الثوري ، وابن المباركِ ، وأحمد وإسحاق وقالوا : لا يجوزُ أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين ، وقيل : أربعون درهماً لقول النبي صلى الله عليه وسلم » مَنْ سَأل ولهُ أوقيةٌ أو عَدْلُهَا فقدْ سَألَ إلْحَافاً « .
قوله : { والعاملين عَلَيْهَا } وهم السُّعاةُ لجباية الصدقة ، يعطون بقدر أجور أمثالهم .
وقال مجاهدٌ والضحاكُ : يعطون الثمن ، ولا يجوزُ أن يكُون العاملُ على الصدقة هاشمياً ولا مطلبياً؛ لأنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - أبَى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصَّدقاتِ وقال : أما علمت أن مولى القومِ منهم .
قوله : { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } قال ابنُ عباسٍ : هم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، وكانوا خمسة عشر رجلاً : أبُو سفيانَ ، والأقرعُ بنُ حابسٍ ، وعيينةُ بن حصنٍ ، وحويطبُ بنُ عبد العزى ، وسهلُ بنُ عمرو من بني عامر ، والحارثُ بنُ هشام ، وسهيلُ بن عمرو الجهنيُّ ، وأبُو السنابل ، وحكيم بن حزامٍ ، ومالكُ بن عوف وصفوانُ ابنُ أمية ، وعبد الرحمن بنُ يربوع ، والجدُّ بنُ قيس ، وعمرو بنُ مرداس ، والعلاءُ بنُ الحرث ، » أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام ، إلاَّ عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل ، وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل ، فقال : يا رسول الله ما كنت أرى أنَّ أحداً من النَّاس أحق بعطائك مني فزاده عشرة ، وهكذا حتى بلغ مائة ، ثم قال حكيمٌ : يا رسول الله ، أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها؟ فقال عليه الصَّلاة والسَّلام : بل التي رغبت عنها ، فقال : والله لا آخذ غيرها « فقيل : مات حكيم وهو أكثر قريش مالاً ، وشقَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العطايا ، لكن ألفهم بذلك . قال ابنُ الخطيبِ : وهذه العطايا إنَّما كانت يوم حنين ، ولا تعلق لها بالصدقات ، ولا أدري لأي سبب ذكر ابنُ عبَّاسٍ هذه القصة في تفسير هذه الآية وإنَّما ذكر ابنُ عباسٍ ذلك بياناً للمؤلَّفة من هم ، فذكر ذلك مثالاً .
واعلم أنَّ المؤلفة قسمان ، مسلمون وكفار ، فأمَّا المسلمون فيعطون لأجل قوَّة إيمانهم أو معونتهم على أخْذِ الزَّكاة ممَّن امتنع عن دفعها ، أو ترغيباً لأمثالهم في الإسلام وأما الكُفَّار؛ فيعطون ترغيباً لهم في الإسلام ، أو خشية من شرهم ، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية لمَّا رأى من ميله في الإسلام .

قال الواحديُّ إنَّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين ، فإن رأى الإمامُ في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز ، ويعطون من الفيء لا من الزَّكاة .
واعلم أنَّ المؤلفة قسمان ، مسلمون وكفار ، فأمَّا المسلمون فيعطون لأجل قوَّة إيمانهم أو معونتهم على أخْذِ الزَّكاة ممَّن امتنع عن دفعها ، أو ترغيباً لأمثالهم في الإسلام وأما الكُفَّار؛ فيعطون ترغيباً لهم في الإسلام ، أو خشية من شرهم ، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية لمَّا رأى من ميله في الإسلام .
قال الواحديُّ إنَّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين ، فإن رأى الإمامُ في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز ، ويعطون من الفيء لا من الزَّكاة .
وقال جماعةٌ من أهل العلم : إنَّ المؤلفة منقطعة ، وسهمهم ساقط ، روي ذلك عن عمر وهو قول الشعبي ، وبه قال مالكٌ ، والثوريُّ ، وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه وقال قومٌ : سهمهم ثابت مروي ذلك عن الحسنِ ، وهو قول الزهري ، وأبي جعفر محمد بن علي ، وأبي ثور ، وقال أحمدُ : يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك .
قوله : وفِي الرقابِ قال الزجاجُ فيه محذوف ، والتقديرُ : « وفي فك الرقاب » وقد تقدم الكلامُ في تفسير « الرقاب » في قوله : { والسآئلين وَفِي الرقاب } [ البقرة : 177 ] . ثمَّ في تفسير « الرقاب » أقوال :
أحدها : أنَّهم المكاتبون ليعتقوا من الزكاة ، وقال مالكٌ وغيره : إنه لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب؛ لأن قوله : { وَفِي الرقاب } يقتضي أن يكون له فيه مدخل ، وذلك يُنَافِي كونه تاماً فيه ، وقال الزهريُّ : سهم الرقاب نصفان ، نصف للمكاتبين المسلمين ، ونصفٌ يشترى به رقاب ممَّن صلوا وصاموا .
قال بعض العلماء : والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السَّيد بإذن المكاتب؛ لأنَّه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة المتقدم ذكرهم بلام التمليك بقوله : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين } ولمَّا ذكر « الرقاب » أبدل حرف اللام بحرف « في » فقال : « وفِي الرِّقابِ » فلا بدَّ لهذا الفرق من فائدة ، وهي أنَّ الأصنافَ الأربعة يدفع إليهم نَصِيبُهُمْ . وأما الباقون فيصرف نصيبهم في المصالح المتعلقةِ بهم لا إليهم .
قال الزمخشري : « فإن قلت : لِمَ عدل عن اللاَّمِ إلى » فِي « في الأربعة الأخيرة؟ قلت : للإيذان بأنَّهم أرسخُ في استحقاقِ التصدُّق عليهم ممَّن سبق ذكرهُ؛ لأنَّ » في « للوعاء ، فنبَّه على أنهم أحقاءُ بأن توضع فيهم الصدقات وجعله مظِنَّة لها ومصَبّاً » .

ثم قال : « وتكرير » في « في قوله : { وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل } فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين » .
قوله : والغَارمينَ قال الزجاجث : أصل الغرم في اللغةِ : لزوم ما يشق ، والغرام العذاب اللاَّزم ، وسمي العشق غراماً ، لكونه شاقاً على الإنسان ولازماً له ، ومنه : فلان مغرم بالنِّساءِ إذا كان مولعاً بهنَّ ، وسمي الدَّين غراماً ، لكونه شاقاً ، والمرادُ بالغارمين المديونون ، فالدِّيْنُ إن حصل بسبب معصيةٍ لا يدخلُ في الآية؛ لأنَّ المقصود من صرف المال إليه الإعانة ، والمعصية لا تستوجب الإعانة ، وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان : دينٌ حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة ، ودين بسبب حمالات وإصلاح ذات بين ، والكل داخل في الآية .
روى الأصمُّ في تفسيره « أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قضى بالغرة في الجنين قالت العاقلة : لا نملك الغرَّة يا رسول الله ، فقال لحمل بن مالك بن النَّابغة أعنهم بغرة من صدقاتهم » وكان حمل على الصدقة يومئذ .
قوله : { فِي سَبِيلِ الله } قال المفسِّرون : يعني الغزاة ، قال أكثرُ العلماء : يجوز له أن يأخذ من الزَّكاة وإن كان غنياً . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطى الغازي إلاَّ مع الحاجة .
ونقل القفالُ في تفسيره عن بعض العلماء أنَّهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى ، وبناء الحصون ، وعمارة المساجد؛ لأن قوله : { وَفِي سَبِيلِ الله } عام في الكل وقال أكثر أهل العلم : لا يعطى منه شيء في الحج . وقال قومٌ : يجوزُ أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج ، يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن ، وأحمد ، وإسحاق .
قوله : { وابن السبيل } وهو كل من يريدُ سفراً مباحاً ولم يكن له ما يقطعُ به المسافة يعطى له قدر ما يقطع به تلك المسافة ، وإن كان ذا يسار في بلده . وقال قتادةُ : ابن السبيل : هو الضعيف وقال فقهاءُ العراقِ : ابن السبيل : الحاج المنقطع .
واعلم أنَّ مال الزَّكاة لا يخرج عن هذه الثمانية . واختلفوا هل يجوزُ وضعه في بعض الأصناف؟ إذا قلنا يجوز وضعه في بعض الأصناف ، فإنَّما يجوز في غير العامل ، فأمَّا وضعه بالكليَّةِ في العامل فلا يجوز بالاتفاق .
فإن قيل : ما الحكمةُ في أنه تعالى ذكر الأصناف الستة وهم : الفقراء ، والمساكين ، والعاملون والمؤلفة ، والرقاب ، والغارمون ، بصيغة الجمع ، وذكر الصنفين الآخرين ، وهما : في سبيل الله وابن السبيل بصيغة الإفراد؟
فالجوابُ : أنَّ المراد بهما الجنس هو جمع حقيقة ، ولا يقال : هلاَّ ذكر الأصناف الستَّة بصيغة الإفراد ويكون المراد الجنس كهذين؛ لأنا نقول : لو أفرد في الجميع ، فلا يخلو إمَّا أن يفردهم معرفين بالألف واللام للعهد؛ فينصرف بين السَّامع إلى صرف الزَّكاة إلى معهودٍ سابق معين وليس هو المقصود من الآية بالإجماع ، وإن أفردهم منكرين ، فهم منه أنَّ الزَّكاة لا يجوز دفعها إلى فقير واحد ، أو مسكين واحد ، وكذلك سائرها ، ولا يجوزُ دفعها لاثنين فما زاد ، وهو خلاف الإجماع
فصل
والسَّبيل : الطريقُ ، ونسب المسافر إليها لملازمته إيَّاها ، ومروره عليها قال بعضُ العلماءِ : إذا كان المسافر غنيّاً في بلده ، ووجد من يسلفه فلا يعطى وهو الصحيح .

ولا يلزمه أن يدخل تحت مِنَّة أحد إذا وجد منة تعالى .
فصل
إذا جاء وادَّعى وصفاً من الأوصاف الثمانية ، هل يقبل قوله أو يقال : أثبت ما تقولُ؟ أمَّا الدَّينُ فلا بدّ أن يثبته ، وأمَّا البقية فظاهرُ الحال يَكْفِي .
قوله : « فَرِيضَةً » في نصبها وجهان :
أحدهما : أنَّها مصدرٌ على المعنى لأنَّ معنى { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ } في قوة : فرض الله ذلك .
والثانيك أنَّها حالٌ من الفقراء ، قاله الكرماني ، وأبُو البقاءِ .
يعنيان من الضمير المستكن في الجار ، لوقوعه خبراً ، أي : إنَّما الصدقاتُ كائنة لهم حال كونها فريضة ، أي : مفروضة . ويجوزُ أن يكون فريضةً حينئذٍ بمعنى مفعولة ، وإنَّما دخلت التاءن لجريانها مجرى الأسماء ، ك « النَّطيحة » . ويجوزث أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال ، ونُقل عن الفرَّاء أنَّها منصوبة على القطع . ثم قال : { والله عَلِيمٌ } بمقادير المصالح { حَكِيمٌ } لا يشرع إلاَّ ما هو الأصوب والأصلح .
فصل
وهذه الآية المراد بها فريضة الزكاة ، فأمَّا صدقة التطوع فيجوزُ دفعها إلى هؤلاء وإلى غيرهم ، من بني هاشم ومواليهم ، ومن لا يجوز لهم أخذ الزكاة الواجبة ، يجوزُ له الأخذ إذا كان غارماً أو مؤلفاً ، أو عاملاً .
قوله تعالى : { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي } الآية .
وهذا نوع آخر من طعن المنافقين ، وهو أنَّهُم كانُوا يقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أذن . نزلت في جماعة من المنافقين ، كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي ، فقال بعضُهم لا تفعلوا فإنَّا نخافُ أن يبلغه ما نقولُ ، فيقع بنا فقال الجلاس بنُ سويد : نقول ما شئنا ، ثم نأتيه ونُنْكر ما قلنا ، ونحلف فيصدِّقنا بما نقول ، إنَّما محمدٌ أذنٌ ، أي سامعة ، يقال : فلان « أذنٌ وأذنٌ » على وزن « فُعُل » ، إذا كان يسمع كل ما قيل ويقبله .
وأصله من « أذن » له « أذَناً » إذا استمع ، وقال محمد بن إسحاق بن يسار : « نزلت في رجل من المنافقين يقال له : نبتل بن الحارث ، وكان رجُلاً أزلم ، ثائر الشعر ، أحمر العينين ، أسفع الخدين ، مشوَّه الخلقة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث . »
وكان ينمّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين ، فقيل له : لا تفعل فقال : إنَّما محمد أذن ، فمن حدَّثه شيئاً صدَّقه؛ فنقول ما شئنا ، ثُمَّ نأتيه فنحلف له ، فيصدقنا ، فنزلت الآية .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75