كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

قرأ العامة بفتح الميم ، وهو مكان القيام . وقتادة والأعرج بضمها وهو مكان الإقامة . والمراد ب « الكَرِيم » : الحسن .
قال المفسرون : هي مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت تحفها الأتباع .
وقيل : المواضع التي كانوا [ يتنعمون فيها ] .
قوله : « كَذَلِكَ » . فيه ثلاثة أوجه : قال الزمخشري : يحتمل ثلاثة أوجه : النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه والجر على أنه وصف ل « مَقَام » أي : ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك . قال أبو حيان : فالوجه الأول لا يسوغ ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه ، وكذلك الوجه الثاني؛ لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم ، فلا يشبه الشيء بنفسه . قال شهاب الدين : وليس في ذلك تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن المراد في اأول : أخرجناهم إخراجاً مثل الإخراج المعروف المشهور ، وكذلك الثاني .
قوله : « وَأَوْرَثْنَاها » عطف على « فَأَخْرَجْنَاهُمْ » أي : وأورثناها بهلاكهم بني إسرائيل وذلك أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصل بعدما أغرق فرعون وقومه وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن .
قوله : « فَأَتْبَعُوهُمْ » . قرأ لعامة بقطع الهمزة من « أَتْبعه » أي : ألحقه نفسه ، فحذف الثاني . وقيل : يقال : أَتْبعه بمعنى « اتبعه » بوصل الهمزة ، أي : لحقه .
وقرأ الحسن والحارث الذَّمَّارِيّ بوصلها وتشديد التاء ، وهي بمعنى اللحاق .
وقوله : « مُشْرِقِينَ » أي : داخلين في وقت الشروق من : شَرَقت الشمس شروقاً : إذا طلعت ك « أصبح ، وأمسى » : إذا دخل في هذين الوقتين . وقيل : داخلين نحو المشرق ك « أَنْجَد ، وأَتْهَم » . و « مُشْرِقِين » منصوب على الحال ، والظاهر أنه من الفاعل . وقيل : « مُشْرِقِين » بمعنى : مضيئين . وفي التفسير : أنّ بني إسرائيل كانوا في نور ، والقبط في ظلمة ، فعلى هذا يكون « مُشْرِقِين » حالاً من المفعول . قال شهاب الدين : وعندي أنه يجوز أن يكون حالاً من الفاعل والمفعول إذا جعلنا « مُشْرِقِين » : داخلين في وقت الشروق ، أو في مكان المشرق ، لأن كلاً من القبيلين كان داخلاً في ذلك الزمان ، أو في ذلك المكان .
قوله : { فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان } أي : تقابلا ورأى بعضهما بعضاً . قرأ العامة : « تَرَاءَى » بتحقيق الهمزة . وابن وثاب والأعمش من غير همزة ، بأن تكون الهمزة مخففة بين بين ، لا بالإبدال المحض ، لئلا يجتمع ثلاث ألفات ، الأولى الزائدة بعد الراء ، والثانية المبدلة من الهمزة ، والثالثة لام الكلمة ، لكن الثالثة لا تثبت وصلاً لحذفها لالتقاء الساكين ، ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فنقول : هذا الحرف إما أن يوقف عليه أو لا ، فإن وقف عليه فحمزة يميل ألفه الأخيرة؛ لأنها طرف منقبلة عن ياء .

ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الهمزة المسهلة ، لأنه إذا وقف على مثل هذه سهلها على مقتضى مذهب ، وأمال الألف الأولى إتباعاً لإمالة فتحة الهمزة . ومن شرورة إمالتها إمالة فتحة الراء قبلها ، وهذا هو الإمالة لإمالة . وغيره من القراء لا يميل شيئاً من ذلك . وقياس مذهب الكسائي أن يميل الألف الأخيرة ، وفتحة الهمزة قبلها ، وكذا نقله ابن الباذش عنه وعن حمزة .
وإن وصل فإن الألف الأخيرة تذهب لالتقاء الساكنين ، ولذهابها تذهب إمالة فتحة الهمزة ، وتبقى إمالة الألف الزائدة ، وإمالة فتحة الراء قبلها عنده اعتداداً بالألف المحذوفة ، وعند ذلك يقال : حذف السبب وبقي المسبب؛ لأن إمالة الألف الأولى إنما كان لإمالة الألف الأخيرة [ كما تقدم تقريره ، وقد ذهبت الأخيرة ] فكان ينبغي ألا تمال الأولى لذهاب المقتضي لذلك ، ولكنه راعى المحذوف وجعله في قوة المنطوق؛ ولذا تجرأ عليه أبو حاتم فقالك وقراءة هذا الحرف بالإمالة محال . وقد تقدم في الأنعام عند « رَأَى القَمَرَ » و « رَأَى الشَّمْسَ » ما يشبه هذا العمل .
قوله : « لَمَدْرَكُونَ » . العامة على سكون الدال ، اسم مفعول من « أَدْركَ » أي : لملحقون . وقرأ الأعرج وبيد بن عمرو بفتح الدال مشددة وكسر الراء .
قال الزمخشري : المعنى : متتابعون في الهلاك على أيديهم ، ومنه بيت الحماسة :
3909 - أَبَعْدَ بَنِي أُمِّي الَّذِينَ تَتَابَعُوا ... أُرَجِّي الحَيَاةَ أَمْ مِنَ المَوْتِ أَجْزَعُ
يعني : أن « ادَّرَك » على « افتعل » لازم بمعنى فني واضمحلّ ، يقال : ادَّرَكَ الشيء يدَّرك فهو مدَّرَك ، أي : فني متتابعا ، ولذلك كسرت الراء . وممن نص على كسرها أبو الفضل الرازي ، قال : « وقد يكون » ادَّرَك « على » افتعل « بمعنى » أفعل « متعدياً ، ولو كانت القراءة من هذا لوجب فتح الراء ولم يبلغني عنهما - يعني : عن الأعرج وعبيد - إلا الكسر » .
فصل
المعنى { فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان } ، أي : رأى كل فريق صاحبه .
وقرىء { فَلَمَّا تَرَاءْتِ الفِئَتَانِ } قال أصحاب موسى : « إنَّا [ لَمُدْرَكُونَ » أي ] لَمُلْحَقُون ، وقالوا : يا موسى { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا } [ الأعراف : 129 ] كانوا يذبحون أبناءنا ، { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } [ الأعراف : 129 ] يدركوننا في هذه الساعة فيقتلوننا ، ولا طاقة لنا بهم ، فعند ذلك قال موسى ثقة بوعد الله إياه « كَلاَ » وذلك كالمنع مما توهموه ، أي : لن يدركونا { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } يدلني على طريق النجاة .

فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

قوله : [ { فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر } . لما قال موسى : { } بين تعالى كيف هداه ونجّاه وأهلك أعداءه ، فقال ] : { فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق } ولا بد قبله من جملة محذوفة ، أي : فضرب فانفلق . وزعم ابن عصفور ان المحذوف إنما هو : « ضرب » وفاء : « انفلق » . وأن الفاء الموجودة هي فاء « فَضَرَبَ » فأبقى من كل فعل ما يدلّ على المحذوف ، أبقى الفاء من « فَضَرَبَ » ليدلّ على « ضَرَبَ » وأبقى « انْفَلَقَ » ليدل على الفاء المتصلة به .
قوله : { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ } اختلف القراء في ترقيق راء « فرق » فروي عن ورش الترقيق لأجل القاف . وقرىء : « فِلْق » بلام بدل الراء ، لموافقة « فانفلق » والطود : الجبل العظيم المتطاول في السماء .
فصل
قال ابن جريرج : لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح والبحر يرمي بموج كالجبال قال يوشع : يا مكلم الله ، أين أمرت؟ فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا ، فقال موسى : هاهنا . فخاض يوشع الماء وجاز البحر ما يواري حافر دابته الماء ، وقال الذي يكتم إيمانه : يا مكلم الله ، أين أمرت؟ قال : هاهنا . فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه ، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء ، وصنع القوم مثل ذلك ، فلم يقدروا ، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع ، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه لا يبتلّ سرجه ولا لبده ، وهذا معجز عظيم من وجوه :
أحدها : أن تفرق ذلك الماء معجز .
وثانيها : ثبت في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم ، فاحتبسوا القدر الذي يتكامل معه عدد بني إسرائيل ، وهذا معجز ثالث .
ورابعها : أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر بعضهم إلى بعض ، وهذا معجز رابع .
وخامسها : أن بقّى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب آل فرعون فطمعوا أن يتخلّصوا من البحر كما تخلّص موسى - عليه السلام - فهو معجز خامس .
قوله : « وَأَزْلَفْنَا » أي : قربنا من النجاة ، و « ثَمَّ » ظرف مكان بعيد ، و « الآخرِينَ » هم موسى وأصحابه . وقرأ الحسن وأبو حيوة : « وَزَلَفْنَا » ثلاثياً .
وقال أبو عبيدة : أَزْلَفْنَا : جمعنا ، ومنه : ليلة المزدلفة ، أي : ليلة الجمع .
وفي القصة أن جبريل كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون ، وكان يسوق بني إسرائيل ويقول : ليلحق آخركم بأولكم ، ويستقبل القبط ، ويقول : رويدكم لكي يلحق آخركم . وقرأ أبيّ وابن عباس وعبد الله بن الحراث بالقاف ، أي : أزللنا ، والمراد ب « الآخرين » جعله لبني إسرائيل يبساً فيزلقهم فيه .

قوله : { وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ } . والمعنى : أنه تعالى جعل البحر يبساً في حق موسى ، حتى خرجوا عنه ، وأغرق فرعون ومن معه ، لأنه لما تكامل دخولهم في البحر انطبق الماء عليهم فغرقوا .
قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي : إن في الذي حدث في البحر آية عجيبة من الآيات العظام الدالة على قدرة الله تعالى؛ لأن أحداً من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته ، وكون وقوعه مصلحة في الدين والدنيا ، وعلى صدق موسى لكونه معجزة له ، وعلى التحذير عن مخالفة أمر الله ورسوله ، وفيه تسلية للنبي - عليه السلام - لأنه قد يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات عليه ، فنبهه الله تعالى بهذا الذكر على أن له أسوة بموسى وغيره .
ثم قال : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } أي : من أهل مصر . قيل : لم يكن من أهل مصر إلا آسية امرأة فرعون وحزقيل المؤمن ، ومريم بنت ناموشا التي دلت على عظام يوسف - ( عليه السلام ) - { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } في الانتقام من أعدائه « الرَّحيمُ » بعباده ، لأنه تعالى أفاض عليهم أصناف نعمه ، وكان قادراً على أن [ يهلكهم ، فدل على كمال رحمته وسعة جوده وفضله .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)

قوله تعالى : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ . . . الآيات } .
اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة شدة حزن محمد - عليه السلام - ثم ذكر قصة موسى ليعرِّف محمداً أن مثل تلك المحنة كانت حاصلة لموسى ، ثم ذكر عقيبها قصة إبراهيم ليعرف محمد أن حزن إبراهيم بهذا السبب كان أشد من حزنه .
قوله : « إذْ قَالَ » العالم في « إِذْ » « نَبأَ » أو « اْتلُ » قاله الحوفي وهذا لا يتأتى إلا على كون « إذْ » مفعولاً به . وقيل : « إذ » بدل من « نبأ » بدا اشتمال ، وهو يؤول إلى أن العامل فيه « اتْلُ » بالتأويل المذكور .
قوله : « وَقَوْمِهِ » الهاء تعود على إبراهيم ، لأنه المحدث عنه .
وقيل : تعود على « أَبِيهِ » لأن أقرب مذكور ، أي : قال لأبيه وقوم أبيه ، ويؤيده { إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ } [ الأنعام : 74 ] حيث أضاف القوم إليه .
قوله « مَا تَعْبُدُونَ » أي : أيّ شيء تعبدون؟ وهو يعلم أنهم عبدة الأصنام ، ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة ، كما تقول ( لتاجر الرقيق ) : ما مالك؟ وأنت تعلم أن ماله الرقيق ، ثم تقول : الرقيق جمال وليس بمال .
قوله : « نَعْبُدُ أَصْنَاماً » أتوا في الجواب بالتصريح بالفعل ليعطفوا عليه قولهم : « فَنَظَلُّ » افتخاراً بذلك ، وإلاَّ فكان قولهم : « نَعْبُدُ أَصْنَاماً » كافياً كقوله تعالى : « قُلِ العَفْوَ » ، « قَالُوا خَيْراً » .
قوله : { فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } . العكوف : الإقامة على الشيء . قال بعض العلماء : إنما قالوا : ( فَنَظَلُّ ) لأنهم يعبدونها بالنهار دون الليل ، يقال : ظل يفعل كذا : إذا فعل بالنهار . فقال إبراهيم - عليه السلام - منبهاً على فساد مذهبهم : « هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ » لا بد من محذوف ، أي : يسمعون دعاءكم ، أو يسمعونكم تدعون ، فعلى الأول هي متعدية لواحد اتفاقاً . وعلى الثاني هي متعدية لاثنين قامت الجملة المقدرة مقام الثاني ، وهو قول الفارسي .
وعند غيره : الجملة المقدرة حال . وتقدم تحقيق القولين .
وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بضم الياء وكسر الميم ، والمفعول الثاني : محذوف ، أي : يسمعونكم الجواب .
قوله : « إذْ تَدْعُونَ » منصوب بما قبله ، فما قبله وما بعده ماضيان معنى وإن كانا مستقبلين لفظاً لعمل الأول في « إذْ » ولعمل « إذْ » في الثاني .
وقال بعضهم : « إذ » هنا بمعنى : « إذا » وقال الزمخشري : إنه على حكاية الحال الماضية ، معناه : استحضروا الأحوال التي كنتم تدعونها فيها ، هل سمعوكم إذا سمعوا؟ وهو أبلغ في التبكيت ، وقد تقدم أنه قرىء بإدغام ذال « إذْ » وأظهارها في التاء . وقال ابن عطية : ويجوز فيه قياس « مذكر » ونحوه ، ولم يقرأ به أحد ، والقياس أن يكون اللفظ به « إدَّدْعون » والذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل فكثرت المتماثلات ، يعني : فيكون اللفظ بدال مشددة مهملة ، ثم بدال ساكنة مهملة أيضاً .

قال أبو حيان : وهذا لا يجوز ، لأن هذا الإبدال إنما هو في تاء الافتعال بعد الدال والذال والزاي نحو : ادَّهَن ، واذّكر ، وازْدَجَر ، وبعد جيم شذوذاً نحو : « اجْدَمعوا » في « اجتمعوا » ، وفي تاء الضمير بعد الدال والزاي نحو : « فُزْدَ في فُزْتَ » و « جَلَدُّ في جَلَدْتُ » أو تاء « تَوْلَج » قالوا فيها : « دَوْلَج » وتاء المضارعة ، ليس شيئاً مما ذكر وقوله : « والذي منع . . . إلى آخره » يقتضي جوازه لو لم يوجد ما ذكر ، فعلى مقتضى قوله يجوز أن تقول في « إذْ تَخْرُج » : « إذَّ خْرُج » ولا يقول ذلك أحد ، بل يقولون : اتّخرج فيدغمون الذال في التاء .
فصل
تقرير هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم - عليه السلام - أن من عبد غيره لا بد أن يلتجىء إليه في المسألة ليعرف مراده أو يسمع دعاءه ، ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة ، فقال لهم : إذا كان الذي تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم ، ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرر ، فكيف تعبدون ما هذا صفته؟ فعند هذه الحجة الباهرة لم يجدوا ما يدفعون به حجته إلا التقليد ، فقالوا : { وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } .
وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال ، إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا الاستدلال لكان ذلك مدحاً لطريقة الكفار التي ذمها الله ، وذماً لطريقة إبراهيم التي مدحها الله .
قوله : « كَذَلِكَ » منصوب ب « يَفْعَلُونَ » أي : يفعلون مثل فعلنا ، و « يَفْعَلُون » في محل نصب مفعولاً ثانياً ل « وَجَدْنَا » .
قوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون } . أراد به أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديماً أو حديثاً ، ولا بأن يكون في فاعليه كثيرة أو قلة .
قوله : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } اللغة الغالبة إفراد « عَدُوّ » وتذكيره ، قال تعالى : { هُمُ العدو } [ المنافقون : 4 ] وإنما فعل به ذلك تشبيهاً بالمصادر نحو : « الوَلُوعُ ، والقَبُول » وقد يقال : أعداءٌ ، وعَدُوَّةٌ ، وقوله : « عَدُوٌّ لي » على أصله من غير تقدير مضاف ولا قلب ، لأن العدو والصديق يجيئان في معنى الواحدة والكثرة ، قال الشاعر :
3910 - وَقَوْمٌ عَلَى ذَوِي مِئْرَةٍ ... أَرَاهُمْ عَدُوّاً وَكَانُوا صَدِيقَا
وتقدم الكلام في نظيره عند قوله : « إنَّا رَسُولُ » .
وقيل : المعنى : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } لو عبدتهم يوم القيامة ، كقوله :

{ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] . ( وقيل : الأصنام لا تُعادى لأنها جماد ، والتقدير : فإن عبادهم عدو لي ) . وقيل : بل في الكلام قلب تقديره : فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لهم وهذان مرجوحان لاستقامة الكلام بدونهما ، فإن قيل : لم قال : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } ولم يقل فإنها عدو لكم؟ فالجواب : أنه - عليه السلام - صور المسألة في نفسه ، بمعنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها ، وأراهم أنها نصيحة نصح بها نفسه ، فإذا تفكروا وقالوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون أدعى إلى القبول .
قوله : { إِلاَّ رَبَّ العالمين } فيه وجهان :
أحدهما : أنه منقطع ، أي : لكن رب العالمين ليس بعدوٍّ لي . وقال الجرجاني : فيه تقديم وتأخير ، أي : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا ربّ العالمين فإنهم عدو لي ، و « إلاَّ » بمعنى « دُونَ ، وسِوَى » .
والثاني : أنه متصل ، وهو قول الزجاج ، لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام ، فقال إبراهيم : كل من تبعدون أعداء لي إلا رب العالمين .
وقال الحسن بن الفضل : معناه : إلا من عبد رب العالمين . وقيل : معناه : فإنهم غير معبود لي إلا رب العالمين . ثم وصف معبوده ، وهو قوله : « الذَّي خَلَقَنِي » يجوز فيه أوجه : النصب على النعت ل « رَبّ العَالَمِينَ » ، أو البدل ، أو عطف البيان ، أو على إضمار « أعني » . والرفع على خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو الذي خلقني ، أو على الابتداء . و « فَهُوَ يَهْدِين » جملة اسمية في محل رفع خبراً له .
قال الحوفي : ودخلت الفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط . وهذا مردود . لأن الموصول معيَّنٌ ليس عاماً ، وأن الصلة لا يمكن فيها التجدد ، فلم يشبه الشرط وتابع أبو البقاء الحوفيَّ ، ولكنه لم يتعرض للفاء ، فإن عنى ما عناه الحوفي فقد تقدم ما فيه ، وإن لم يفعله فيكون تابعاً للأخفش في تجويزه زياة الفاء في الخبر مطلقا نحو : « زيدٌ فاضربه » وقد تقدم تجويزه .

الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

واعلم أن إبراهيم - عليه السلام - لما استثنى رب العالمين وصفه بما يستحق العبادة لأله بأوصاف :
أحدهما : قوله { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } ، وذلك لأن الله تعالى أثنى عليه نفسه بهذين الأمرين في قوله : { الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 2 - 3 ] .
وقال : « خَلَقَنِي » بلفظ الماضي ، لأن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا ، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم .
وقال : « فَهُوَ يَهْدِيْن » بلفظ المستقبل ، لأن الهداية مما تتكرر كل حين وأوان ، سواء كانت تلك الهداية من المنافع الدنياوية بتمييز الناف عن الضار ، أو من المنافق الدينية بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر .
قوله : { والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } . يجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف وكذلك ما بعده ، ويجوز أن تكون أوصافاً ل « الَّذِي خَلَقَنِي » ودخول الواو جائز ، وقد تقدم تحقيقه في أول البقرة كقوله :
3911 - إلَى المَلِك القَرْمِ وَابنِ الهَمَامِ ... وَلَيْثَ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ
وأثبت ابن إسحاق - وتروى عن عاصم أيضاً - ياء المتكلم في : « يَسْقِينِ ، ويَشْفِينِ ، ويُحْيِينِ » .
فصل
المعنى : يرزقني ويغدوني بالطعام والشراب ، ونبه بذكر الطعام والشراب على ما عداهما .
قوله : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } أضاف المرض إلى نفسه ، وإن كان المَرض والشفاء كله من الله استعمالاً لحُسن الأدب كما قال الخضر : { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } [ الكهف : 79 ] ، وقال : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا } [ الكهف : 82 ] .
وأجاب ابن الخطيب بأجوبة أخر ، منها : أن أكثر أسباب المرض تحدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك ، ومن ثم قال الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم؟ لقالوا : التخَم . ومنها : أن الشفاء محبوب ، وهو من أصول النعم ، والمرض مكروه وليس من النعم وكان مقصود إبراهيم - عليه السلام - تعديد النعم ، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إلى الله ، فإن نقضته بالأمانة فجوابه : أن الموت ليس بضرر ، لأن شرط كونه ضرراً وقوع الإحساس به ، وحال حصول الموت لا يحصل الإحساس به ، إنما الضرر في مقدماته ، وذلك هو عين المرض ، ولأن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر ، وخلاصتها عنها عين السعادة ( بخلاف المرض ) .
قوله : { والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } . والمراد منه : الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها ، والمراد من الإحياء : المجازاة ، ولذلك أدخل « ثُمَّ » للتراخي ، أي يميتني وحيين في الآخرة .
قوله : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين } قرأ العامة : « خَطِيئَتِي » بالإفراد . والحسن : « خَطَايَايَ » جمع تكسير . فإن قيل : لم يقال : « والَّذِي أَطْمَعُ » والطمع عبارة ن الظن والرجاء ، وهو عليه السلام كان قاطعاً بذلك؟ فالجواب : هذا الكلام يستقيم على مذهب أهل السنة ، حيث قالوا : لا يجب على الله لأحد شيء ، وأن يحسن منه كل شيء ، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله .

وأجاب الجبائي عنه من وجهين :
الأول : أن قوله : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي } أراد به سائر المؤمنين ، لأنهم الذين يطعون ولا يقطعون به .
والثاني : المراد من الطمع : اليقين ، وهو المروي عن الحسن .
وأجاب الزمخشري بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليماً لأمته كيفية الدعاء .
قال ابن الخطيب : وهذه وجوه ضعيفة ، أما الأول فإن الله تعالى حكى الثناء أو والمدح ثانياً ، ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم - عليه السلام - فجعل الشيء الواحد وهو كقوله : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي يَوْمَ الدين } كلام غيره ممّا يبطل نظم الكلام ويفسده .
وأما قوله : إن الطمع هو اليقين ( فهذا ) على خلاف اللغة .
وأما الثالث وهو أن المراد تعليم الأمة فباطل أيضاً ، لأن حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة ، وإنه باطل أيضاً . فإن قيل : لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزهون عن الخطايا؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : قال مجاهد : هي قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] وقوله لسارة : « هذه أختي » وزاد الحسن قوله للكوكب : { هذا رَبِّي } [ الأنعام : 76 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ، لأن نسبة الكذب إليه غير جائز .
وثانيها : أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ، لأنه إن كان صادقاً في هذا التواضع فقد لزم الإشكال ، وإن كان كاذباً فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به ، وهو منزه عن المعصية .
وقال : وثالثها ، وهو الجواب الصحيح : أن يحمل ذلك على ترك الأولى ، وقد يسمى ذلك خطأ ، فإن من ملك جوهرة أمكنه أن يبيعها بألف ألف دينار ، فباعها بدينار ، وقيل : إنه أخطأ ، وترك الأولى على الأنبياء جائز .
فإن قيل : ما فائدة قوله : « يَغْفِرَ لِي » ؟
فالجواب من وجوه : الأول : أن الأأب إذا عفا عن ولده ، والسيد عن عبده ، والزوج عن زوجته فإنما يكون ذلك طلباً للثواب ، أو لحسن الثناء والمحمدة ، أو دفعاً للألم الحاصل من الرقة الجنسية ، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية جانب نفسه ، إما لتحصيل ما ينبغي ، أو لدفع ما لا ينبغي ، وأما الإله سبحانه فإنه كامل بذاته فيستحيل أن تحدث له صفات كمال لم تكن ، أو يزول عنه نقصان كان ، وإذا كان كذلك لم يكن فعوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه .
فقوله : « يَغْفِر لِي » معناه : أن غفرانه لي ولأجلي ، لا لأجل أمر عائد إليه ألبتة .
وثانيها : كأنه قال : خلقتني لا لي ، فإنك حين خلقتني لم أكن موجوداً ، فإذا عفوت كان ذلك العفو لأجلي ، فلما خلقتني أولاً مع أني ما كنت محتاجاً إلى ذلك الخلق ، فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى .

وثالثها : أن إبراهيم - عليه السلام - كان مع شدة استغراقه في المعرفة شديد الفرار عن الوسائط ، ولذلك لما قال له جبريل : « ألك حاجة؟ » قال : « أما إليك فلا » فهاهنا قال : { أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي } أي : بمجرد عبوديتي واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي ، لا أن تغفرها بواسطة شفاعة شافع ، فإن قيل : لم علق غفران الخطيئة بيوم الدين وإنما تغفر في الدنيا؟
فالجواب : لأن أثرها يظهر يوم الدين ، وهو الآن خفي لا يعلم .

رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

قوله تعالى : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } . لما حكى عن إبراهيم عليه السلام - ثناءه على الله - ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته ، وذلك تبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات . فإن قيل : لِمَ لَمْ يقتصر إبراهيم على الثناء ولا سيما يروى عنه أنه قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي؟
فالجواب : أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين اشتغاله بدعوة الخلق إلى الحق لأنه قال : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين } [ الشعراء : 77 ] ثم ذكر الثناء ، ثم ذكر الدعاء لأن الشارع لا بد له من تعليم الشرع ، فأما حين ( ما ) خلا بنفسه ولم يكن غرضه تعلم الشرع اقتصر على قوله : « حسبي من سؤالي علمه بحالي » واعلم أن قوله : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } أجابه الله تعالى بقوله { وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } [ البقرة : 130 ] .
والمراد ب « الحكم » : إدراك الحق والعلم ، لأن النبوة كانت حاصلة له ، وتحصيل الحاصل محال ، وهذا قول مقاتل . وقال ابن عباس : معرفة حدود الله وأحكامه .
وقال الكلبي : النبوّة « وَأَلْحِقْنِي بالصَّالِحِينَ » من قبلي من النبيين في المنزلة والدرجة .
قوله : { واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } . أي : ثناء حسناً ، وذكراً جميلاً ، وقبولاً عاماً في الأمم التي تجيء بعدي . قال ابن عباس : أعطاه الله بقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين } [ الصافات : 108 ] فأهل الأديان يتولونه ويثنون عليه .
قال القتيبي : وضع اللسان موضع القول على الاستعارة ، لأن القول يكون به .
وقيل : المراد منه : أن يجعل في ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى الله تعالى وذلك هو محمد - عليه السلام - فالمراد من قوله : { واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } بعثه محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : { واجعلني ( مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم } « مِنْ وَرَثَةِ » إما أن يكون مفعولاً ثانياً ، أي : مستقراً أو كائناً من ورثة . وإما أن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني ، أي : وارثاً من ورثة . واعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا طلب بعدها سعادة الآخرة ، وهي جنة النعيم ، وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا ، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا .
قوله : { واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين } . لما فرغ من طلب السعادت الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقاً به ، وهو أبوه ، وفيه وجهان :
الأول : أن المغفرة مشروط بالإسلام ، وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط ، فقوله « واغْفِر لأَبِي » كأنه دعاء له بالإسلام .
الثاني : أن أباه وعده بالإسلام لقوله : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } [ التوبة : 14 ] فدعا له قبل أن يتبين له ( أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّه ) ، كما سبق في سورة التوبة .

وقيل : إن أباه قال له : إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً تقيَّة وخوفاً ، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك ، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ولذلك قال في دعائه : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين } فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك .
قوله : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } ( قال الزمخشري ) : الإخزاء من الخزي ، وهو الهوان ، ومن الخزاية ، وهي الحياء . وهذه الآية تدل على أنه لا يجب على الله شيء كما تقدم في قوله : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين } . فإن قيل : لما قال أولاً : { واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم } كان كافياً عن قوله : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } . وأيضاً فقد قال الله تعالى : { إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين } [ النحل : 27 ] فما كان نصيب الكفار فقط كيف يخافه المعصوم؟
فالجواب : أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فكذا درجات الأبرار خزي المقربين ، وخزي كل واحد بما يليق به .
قال الزمخشري : في ( يبعثون ) ضمير العباد لأنه معلوم ، أو ضمير الضالين .
قوله : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ . . . الآية } . { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ } بدل من « يوم » قبله وجعل ابن عطية هذا من كلام الله تعالى إلى آخر الآيات مع إعرابه { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ } بدلا من « يَوْمَ يُبَعَثُون » . وردّه أبو حيان بأن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه آو آخر مثله مقدر . وعلى كلا هذين القولين لا يصح لاختلاف المتكلمين . واعلم أن الله تعالى قد أكرمه بهذا الوصف حيث قال : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 83 - 84 ] .
قوله : { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله } فيه أوجه :
أحدها : أنه منقطع ، أي { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } فإنه ينفعه ذلك .
وقال الزمخشري : ولا بد مع ذلك من تقدير المضاف ، وهو الحال المراد بها سلامة القلب ، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن البنين والمال لا ينفعان ، وإنما ينفع سلامة القلب ، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل لاستثناء معنى .
قال أبو حاين : ولا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف كما ذكر .
قال شهاب الدين : إنما قدر المضاف ليتوهم دخول المستثنى في المستثنى منه لأنه متى لم يتوهم ذلك لم يقع الاستثناء ، ولهذا منعوا : صَهَلَتِ الخَيْلأُ إلاَّ الإِبِلَ . إلاَّ بتأويل .
الثاني : أنه مفعول به قوله : « لاَ يَنْفَعُ » أي : لا ينفع المال والبنون إلا هذا الشخص فإن هينفعه ماله المصروف في وجوه البِرِّ وبنوه الصلحاء ، لأنه علَّمهم وأحسن إليهم .
الثالث : أنه بدل من المفعول المحذوف ، أو مستثنى منه ، ( إذ التقدير : لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلا من كانت هذه صفته ، والمستثنى منه ) يحذف كقوله
3912 - وَلَمْ يَنْجُ إِلاَّ جَفْنُ سَيْفٍ وَمِئْزَرا ...

أي : ولم ينج بشيء .
الرابع : أنه بدل من فاعل « يَنْفَعُ » فيكون مرفوعاً . قال أبو البقاء : وغلب من يعقل فيكون التقدير : إلاّ مالُ من ، أو بنون من فإنه ينفع نفسه وغيره بالشفاعة .
قال شهاب الدين : وأبو البقاء خلط وجهاً بوجه ، وذلك أنه إذا أردنا أن نجعله بدلاً من فاعل « يَنْفَعُ » قلنا : فيه طريقتان :
إحداهما : طريقة التغليب ، أي : غلَّبنا البنين على المال ، فاستثنى من البنين فكأنه قيل : لا ينفع البنون إلا من أتى من البنين بقلب سليم فإنه ينفع نفسه بصلاحه وغيره بالشفاعة .
والطريقة الثانية : أن نقدر مضافاً محذوفاً قيل « من » أي : إلاّ مال من ، أو بنو من ، فصارت الأوجه خمسة . ووجه الزمخشري اتصال الاستثناء بوجهين :
أحدهما : إلا حالة { مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وهو من قوله :
3913 - تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ... وما ثوابه إلا السيف ، ومثاله أن يقال : هل لزيدٍ مالٌ وبنون؟ فيقال : مالُه وبنُوه سلامة قلبِهِ ، يريد نَفْيَ المالِ والبنين عنه ، وإثبات سلامة قلبه بدلاً عن ذلك .
والثاني : قال : وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى ، كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا من أتى الله ، لأن غنى الرجل في دينه بسلامه قلبه ، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه .
فصل
وفي « السليم » ثلاثةأوجه :
قال ابن الخطيب : أصحها : أن المراد منه سلامه النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة . وقيل : السليم : الخالص من الشرك والشك ، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد ، وهذا قول أكثر المفسرين . وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو الصحيح ، وهو قلب المؤمن ، لأن قلب الكافر والمنافق مريض ، قال الله تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [ البقرة : 10 ] [ المائدة : 52 ] [ الأنفال : 49 ] . وقيل : السليم : هو اللديغ من خشية الله . وقيل : السليم : هو الذي سَلَّم وأَسْلَم وسَالَم واسْتَسْلَم .

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

قوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ } أي : أن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها . { وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ } أي : أُظْهِرَت .
وقرأ مالك بن دينار : « وبَرَزت » بفتح الباء والراء خفيفة مبنياً للفعل مسنداً ل « الجحيم » ، فلذلك رفع ، والمراد ب « الغاوين » الكافرون .
{ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ } : يمنعونكم من العذاب بنصرتهم ، أو ينفعون أنفسهم بانتصارهم .
قوله : « فَكُبْكِبُوا » أي : أُلْقوا وَقُلِبَ بعضهم على بعض . قال الزمخشري : الكَبْكَبَة . تَكرِير الكبِّ ، جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى .
وقال ابن عطية نحواً منه ، قال : وهو الصحيح ، لأن تكرير الفعل بَيِّنٌ نحو : صَرَّ وَصَرْصَرَ ، وهذا هو مذهب الزجاج .
وفي مثل هذا البناء ثلاثة مذاهب :
أحدها : هذا .
والثاني : وهو مذهب البصريين أن الحروف كلها أصول .
والثالث : وهو قول الكوفيين : أن الثالث مبدل من مثل الثاني : فأصل « كَبْكَبَ » : كَبَّبَ ، بثلاث باءات ، ومثله « لَمْلَمَ ، وَكَفْكَفَ » ، هذا إذا صح المعنى بسقوط الثالث ، فأما إذا لم يصح المعنى بسقوطه كانت كلها أصولاً من غير خلاف نحو : « سِمْسِم ، وخِمْخِم » . وواو « كُبْكِبُوا » قيل : للأَصنام ، إجراء لها مجرى العقلاء . وقيل : ( لعابديها ) .
فصل
قال ابن عباس : جمعوا . وقال مجاهد : دُهْوِرُوا . وقال مقاتل : قذفوا وقال الزجاج : طُرِحَ بعضُهم على ( بعض ) . وقال القتيبي : أُلْقُوا على رؤوسهم « هُمْ والغَاوُوْن » يعني : الشياطين ، قاله قتادة ومقاتل . وقال الكلبي : كَفَرَةُ الجن . { وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } أتباعه من الجن والغنس . وقيل : ذريته .
قوله : { وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } جملة حالية معترضة بين القول ومعموله ومعمول الجملة القسمية .
قوله : { إِن كُنَّا لَفِي } . مذهب البصريين : أن « إن » مخففة ، واللام فارقة . ومذهب الكوفيين : أن « إن » نافية ، واللاام بمعنى « إلا » .
فصل
المعنى : قال الغاوون للشياطين والمعبودين { وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } مع المعبودين ، ويجادل بعضهم بعضا : { تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } يذكرون ذلك حين يروا صورها على وجه الاعتراف ( بالخطأ العظيم وعلى ) وجه الندامة لا على وجه المخاطبة ، لأنها جماد لا تخاطب ، وأيضاً فلا ذَنْبَ لها بأن عَبَدها غيرها . ومما يدل على أن ذلك ليس

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } الآيات . لما قصَّ على محمد - صلى الله عليه وسلم - خبر موسى وإبراهيم - عليهما السلام - تسلية له مما يلقاه من قومه قص عليه أيضاً نبأ نوح ، فقد كان نبؤه أعظم من نبأ غيره ، لأنه دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، ومع ذلك كذبه قومه .
قوله : « كَذَّبَتْ » إنما أَنتَ فعل القوم لأنه مؤنث بدليل تصغير « القوم » على ( قُوَيْمَة ) وقيل : لأن القوم بمعنى أُمَّةٍ ، ولما كانت آحاده عقلاء ذكوراً وإناثاً عاد الضمير عليه باعتبار تغليب الذكور ، فقيل : لهم أخوهم . وحكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين :
أحدهما : أنهم وإن كذبوا نوحاً لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره ، لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف من حيث المعنى؛ لأن كل واحد من المرسلين جاء بما جاء به الآخر ، فلذلك حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين .
وثانيهما : أن قوم نوح كذبوا جميع رسل الله ، إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة .
قوله : « أَخُوهُمْ » لأنه كان منهم ، من قول العرب : يا أخا بني تميم . يريدون يا واحداً منهم ، فهو أخوهم في النسب لا في الدين « أَلاَ تَتَّقُونَ » أي : عقاب الله ، فحذف مفعول ( تَتَّقُونَ ) .
{ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي : على الوحي ، وكان مشهوراً فيهم بالأمانة كمحمد - صلى الله عليه وسلم - في قريش ، فكأنه قال : كنتُ أميناً من قبل ، فكيف تتهمونني اليوم؟ ثم قال : « فاتَّقُوا الله » بطاعته وعبادته « وأَطِيْعُون » فيما أمرتكم به من الإيمان والتوحيد ، { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي : على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة . لئلا يظن به أنه دعاهم رغبة في الدنيا ، ثم قال : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } . فإن قيل : فلماذا كرر الأمر بالتقوى؟
فالجواب : لأنه في الأول أراد : ألا تتقون مخالفتي ، وأنا رسول الله ، وفي الثاني : ألا تتقون مخالفتي ولست آخذاً منكم أجراً ، فهو في المعنى مختلف ، ولا تكرار فيه ، وقد يقول الرجل لغيره : ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً ، ألا تتقي الله وقد علمتك كبيراً . وإنما قدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته ، لأن تقوى الله علة لطاعته ، فقدم العلة على المعلول .
قوله { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } « وَاتَّبَعَ » جملة حالية من كاف « لك » .
قال الزمخشري : والواو للحال ، وحقها أن يضمر بعدها ( قد ) وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة : « وَأَتْبَاعُكَ » مرفوعاً جمع تابع « كَصَاحِبٍ وَأَصْحَاب » أو تَبيع ك « شَرِيْف وأَشْرَاف » ، أو « تبع » ك ( برم وأَبْرام ) وفي رفعه وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ ، و « الأَرْذَلُونَ » خبره ، والجملة حالية أيضاً .

والثاني : أنه عطف على الضمير المرفوع في « نُؤْمِنُ » ، وحسَّنَ ذلك الفصل بالجار ، و « الأَرْذَلُونَ » صفته .
وقرأ اليمانيُّ : « وأَتْبَاعِكَ » بالجر عطفاً على الكاف في « ذَلِكَ » وهو ضعيف أو ممنوع عند البصريين ، وعلى هذا فيرتفع « الأَرْذَلُونَ » على خبر ابتداء مضمر ، أي : هم الأرذلون وقد تقدم مادّةُ « الأَرْذَلِ » في هود .
فصل
الرذالة : الخِسَّة والذِّلة ، وإنما استرذلوهم لاتّضاع نسبهم وقلة نصيبهم في الدنيا .
وقيل : كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحِجَامَة .
وهذه الشبهة في غاية الركاكة ، لأن نوحاً - عليه السلام - بعث إلى الخلق كافة ، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب وخستها ، فأجابهم نوح عنه بالجواب الحق ، وهو قوله : { وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : ما أعلم أعمالهم وصنائعهم ، وليس عليّ من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء ، إنما كُلِّفت أن أدعوهم إلى الله ولي منهم ظاهر أمرهم .
قوله : « وَمَا عِلْمِي » يجوز في « مَا » وجهان :
أظهرهما : أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء ، و « عِلْمِي » خبرها ، والباء متعلقة به .
والثاني : أنها نافية ، والباء متعلقة ب « علمي » أيضاً ، قاله الحوفي . ويحتاج إلى إضمار خبر ليصير الكلام به ( جملة ) .
قوله : { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي } « إِنْ » نافية ، أي : ما حسابهم إلا على ربي ، ومعناه : لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى .
قوله : « لَوْ تَشْعُرُوْن » جوابها محذوف ، ومفعول « تشعرون » أيضاً ، والمعنى « لَوْ تَشْعُرُونَ » تعلمون ذلك ما عبتموهم بصنائعهم .
قال الزجاج : الصناعات لا تَضُرُّ في الدِّيَانَاتِ . وقيل : معناه : إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ، ويوفقهم ويخذلكم .
وقرأ الأعرج وأبو زُرعة : « لَوْ يَشْعُرُونَ » بياء الغيبة ، هو التفات ، ولا يحسُنُ عَوْدُه على المؤمنين .
قوله : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين } وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم فبيّن أن الدين يمنعه عن طردهم ، وقد آمنوا به ، وبيَّن أن الغرض من تحمل الرسالة كونه نذيراً : فقال : { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : إني أُخَوِّف من كذبني ولم يقبل مني ، فمن قبل فهو القريب ، ومن رد فهو البعيد ، فلما أجابهم بهذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد فقالوا : { لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المجرمين } .
قال مقاتل والكلبي : من المقتولين بالحجارة .
وقال الضحاك : من الشمئومين . فعند ذلك حصل اليأس لنوح من فلاحهم ، وقال : { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ } . وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه بأنه عالم الغيب والشهادة ، ولكنه أراد : لا أدعوك عليهم لما آذوني ، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوك في وحيك ورسالتك : { فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } أي : فاحكم بيني وبينهم .

و « فَتْحاً » يجوز أن يكون مفعولاً به بمعنى المفتوح ، وان يكون مصدراً مؤكداً . والفَتَاحَةُ : الحكومة . والفَتَّاح : الحكم ، لأنه يفتح المستغلق . والمراد إنزال العقوبة عليهم لقوله عقيبه : « وَنَجِّنِي » ، ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى .
قوله : « وَنَجِّنِي » المُنجَّى « منه محذوف لفهم المعنى ، أي : مما يَحِلُّ بقومي ، و » مِنَ المُؤْمِنِينَ « بيان لقوله : » مَنْ مَعِيَ « .
قوله : { فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون } .
قال الزمخشري : الفُلك : السفينة ، واحدها : فُلْك ، قال الله تعالى : { وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ } [ النحل : 14 ] فالواحد بوزن ( قُفْل ) والجمع بوزن ( أًسْد ) وَالمَشْحُون : » المَمْلُوء المُوقَر « ، يقال : شَحَنَها عليهم خَيْلاً ورجَالاً أي ملأها والشَّحْنَاء : العداغوة لأنهما تملأ الصدور إحناً . والفُلْك هنا مفرد بدليل وصفه بالمرفد ، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة .
فصل
دلَّت الآية على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة ، وأن الفك امتلأ بهم وبما صحبهم من الحيوانات ، ثم إنه تعالى بعد أن نجاهم أغرق الباقين فقال : { ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } .

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)

قوله تعالى : { كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين } الآية . الكلام في فاتحة هذه القصة كالكلام في فاتحة قصة نوح . وقوله : « تَعْبَثُون » جملة حالية من فاعل « تبنون » . والرِّيعْ - بكسر الراء وفتحها - : جمع « رِيْعَة » وهو في اللغة : المكان المرتفع ، قال ذو الرمّة .
3916 - طِرَاقُ الخَوَافِي مُشْرِقٌ فَوْقَ رِيْعَةٍ ... نَدَى لَيْلِهِ فِي ريْشِهِ يَتَرَقْرَقُ
وقال أبو عبيدة : وهو الطريق ، وأنشد للمسيَّب بن علس يصف ظعناً :
3917 - فِي الآلِ يَخْفِضُهَا وَيَرفَعُهَا ... رِيْعٌ يَلُوْحُ كَأَنَّهُ سَحْلُ
والرَّيع - بالفتح - : ما يحصل في الخراج .
فصل
قال الوالبي عن ابن عباس : الرَّيْع : كل شرف . وقال الضحاك ومقاتل : بكل طريق وهو رواية العوفي عن ابن عباس . وعن مجاهد قال : هو الفج بين جبلين وعنه أيضاً أنه المنظر . و « الآية » : العَلَم .
قال ابن عباس : كانوا يبنون بكل ريع علماً يعبثون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود - عليه السلام - . وقيل : كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم ، فنهُوا عنه ، ونسبوا إلى العبث . وقال سعيد بن جبير ومجاهد : هي بروج الحمام ، لأنهم كانوا يلعبون بالحمام .
قوله : { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } قال مجاهد : قصوراً مُشَيَّدة .
واحدتها مَصْنَعة . « لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون » . العامة على تخفيفه مبنياً للفاعل . وقتادة : بالتشديد مبنياً للمفعول ، ومنه قور امرىء القيس :
3918 - وَهَلْ يَنْعَمَنْ إِلاَّ سَعِيْدٌ مُخَلَّدٌ ... قَلِيْلُ الهُمُوْم مَا يَبيْتُ بِأَوْجَال
و « لَعَل » هنا على بابها . وقيل : للتعليل . ويؤيده قراءة عبد الله : « كَيْ تَخْلِدُون » .
وقيل : للاستفهام ، قاله زيد بن عليّ ، وبه قال الكوفيون . وقيل : معناه التشبيه ، أي : كأنكم تخلدون . ويؤيده ما في حرف أبيّ : « كَأَنَّكم تُخلدون » بضم التاء مخففاً ومشدداً . وقرىء : « كأَنَّكُم خَالِدُونَ » ولم يعلم من نصب عليها أنها تكون للتشبيه . والمعنى : كأنكم تبقون فيها خالدين . قوله : « وَإِذَا بَطَشْتُم » أي : وإذا أردتم ، وإنما احتجنا إلى تقدير الإرادة لئلا يتحد الشرط والجزاء ، و « جَبَّارِين » حال . واعلم أن اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب الدنيا ، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء ، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو ، وهذه صفات الإِلهية وهي ممتنعة الحصول للعبد ولما ذكر هود هذه الأشياء قال : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } زيادة في دعائهم إلى الآخرة ، وزجراً لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالسرف والتجبر ، ثم وصل هذا الوعظ بما يؤكد القبول بأن نبههم على نعم الله تعالى عليهم فقال : { واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ } أي : أعطاكم من الخير ما تعلمون ، ثم فصل ذلك الإعطاء فقال ] : { أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي : بساتين وأنها ، { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ } .

قال ابن عباس : « إِن عَصَيْتُمُوني » عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم .
قوله : « أَمَدَّكُم بأَنْعَام » فيه وجهان :
أحدهما : أن الجملة الثانية بيان للأولى وتفسير لها .
والثاني : أن « بأنعام » بدل من قوله : « بِمَا تَعْلَمُون » بإعادة العامل ، كقوله : { اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ ( أَجْراً ) } [ يس : 20 - 21 ] .
قال أبو حيان : والأكثرون لا يجعلون هذا بدلاً وإنما يجعلونه تكريراً ، وإنما يجعلون بدلاً بإعادة العامل إذا كان حرف جر من غير إعادة متعلقه نحو : « مَرَرْتُ بزيد بأخيك » ولا يقولون : « مررت بزيد مررت بأخيط » على البدل .
قوله : { أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين } معادلة لقوله : « أَوَعَظْتَ » . وإنما أتى بالمعادل كذا دون قوله : « أم لم تعظ » لتواخي الفواصل . وأبدى له الزمخشري معنى فقال : وبينهما فرق ، لأن المعنى : سواء علينا أفلعت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ومباشريه ، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك : « أم لم تعظ » .
وقرأ العامة : « أَوَعَظْتَ » بإظهار الظاء قبل التاء . وروي عن أبي عمرو والكسائي وعاصم ، وبها قرأ الأعمش وابن محيصن بالإدغام . وهي ضعيفة ، لأن الظاء أقوى ، ولا يدغم الأقوى في الأضعف ، على أنه قد جاء من هذا في القرآن العزيز أشياء متواترة يجب قبولها نحو : « زُحْزِحَ عَنْ » و « لَئِنْ بَسَطْتَ » .
فصل
لما وعظهم ورغبهم وخوفهم أجابهوه بقولهم : « سَوَاءٌ عَلَيْنَا » أي : مستو عدنا أوعظت أم لم تكن من الواعظين أظهروا قلة أكتراثهم بكلامه ، ثم قالوا : { إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين } . قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الخاء وسكون اللام ، أي : اختلاق الأولين وكذبهم ، كقوله : « وَتَخْلُقُونَ إفْكاً » والباقون بضمتين . فقيل : معناهما : الاختلاق ، وهو الكذب . وكذا قرأ ابن مسعود . وقيل : عادة الأولين من قبلنا حياة وموت هو خلق الأولين وعادتهم . وروى الأصمعي عن نافع ، وبها قرأ أبو قلابة ضم الخاء وسكون اللام ، وهي تخفيف المضمومة . ثم قالوا : { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أظهروا بذلك تقوية نفسوهم فيما تمسكوا به من إنكار المعاد ، فعند هذا بين الله تعالى أنه أهلكهم ، وقد سبق بيان كيفية الهلاك .

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

قوله تعالى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين } تقدم نظيره .
وقُوله : { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا [ هَاهُنَآ آمِنِينَ } أي : أتظنون أنكم تتركون ] في دياركم « آمِنِينَ » وتطعمون في أنه لا دار [ للمجازاة ] .
وقوله : { فِي مَا هَاهُنَآ } : في الذي استقر في هذا المكان من النعيم ، ثم فسَّره [ بقوله : { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } ] .
قوله : « فِي جَنَّاتٍ » بدل في « فِي ما ههُنَا » بإعادة العامل ، فصّل بعدما أجمل كما في القصة قبلها ، و « ما » موصولة وظرف المكان صلتها .
قوله : « وَنَخْل » يجوز أن يكون من باب ذكر الخاص بعد العام ، لأن الجنات تشمل النخل ، ويجوز أن يكون تكريراً للشيء الواحد بلفظ آخر ، فإنهم يطلقون الجنة ولا يريدون إلا النخيل ، قال زهير :
3919 - كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ ... مِنَ النَّوَاضِعِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا
و « سُحُقاً » : جمع سَحُوق ، ولا يوصف به إلا النخيل . وقيل : المراد ب « الجَنَّات » غيرها من الشجر ، لأن اللفظ يصلح لذلك ، ثم يعطف عليها النخل . والطلع الكفرى وهو : عنقود التمر قبل خروجه من الكم . وقال الزمخشري : الطلع : هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو والقنو : هو اسم للخارج من الجذع كما هو بِعُرْجُونه ، و « الهضيم » : قال ابن عباس : هو اللطيف ، ومنه قولهم : كشح هضيم . وروى عطية عنه : يانع . وقال عكرمة : اللين . وقيل : المتراكب . قال الضحاك ومقاتل : قد ركب بعضه بعضاً حتى هضم بعضه بعضاً ، أي : كسره .
وقال أهل المعاني : هو المنضم بعضه إلى بعض في وعائه قبل أن يظهر .
وقال الأزهري : الهضيم : هو الداخل بعضه في بعض من النضج والنعامة . وقيل : هضيم ، أي : هاضم يهضهم الطعام ، وكل هذا للطافته .
قوله : « وَتَنْحَتُونَ » . العامة على الخطاب وكسر الحاء . والحسن وعيسى وأبو حيوة يفتحها . وعن الحسن أيضاً : « تَنْحَاتُونَ » بألف للإشباع . وعنه وعن أبي حيوة « يَنْحِتُونَ » بالياء من تحت ، وتقدم ذلك كله في الأعراف .
قوله : « فَارِهِينَ » . قرأ الكوفيون وابن ذكوان : « فارهين » بالألف ، كما قرءوا : « حَاذِرُونَ » بها . والباقون : « فَرِهِينَ » بدون ألف ، كما قرءوا : « حَذِرُونَ » بدونها .
والفراهة : النشاط والقوة . وقيل : الحذق ، يقال دابة فاره ، ولا يقال : فارهة ، وقد فره يفره فراهة و « فارهين » حال من الناحتين .
فصل
من قرأ : « فرهين » قال ابن عباس : أشِرين بطرين . وقال عكرمة : ( ناعمين ) . وقال مجاهد : شرهين . وقال قتادة : معجبين بصنيعكم . وقال السدي : متجبرين . وقال الأخفش : فرحين ، والعرب تعاقب بين الحاء والهاء مثل : مدحته ومدهته . وقال الضحاك : كيسين . { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين } .

قال ابن عباس : المشركين . وقال مقاتل : هم التسعة الذين عقروا الناقة ( وهم الَّذِينَ ) يُفْسِدُونَ فِي الأَرْض بالمعاصي « ولا يُصْلِحُونَ » مع قوله : { الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض } ؟ فالجواب : أن فسادهم خالص ليس معه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح . ثم إن القوم أجابوه بقولهم : { إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين } . قال مجاهد .
وقتادة : من المسحورين : من المخدوعين ، أي : ممن سحر مرة بعد مرة . وروى أبو صالح عن ابن عباس : أي : من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب . قال المؤرج :
المسحَّر : المخلوق بلغة بجيل ، يريد : أنك تأكل الطعام والشراب ، أي : لست بملك ، بل أن تبشر مثلنا .
والمعنى : « من المسحرين » أي : ممن له سحر ، وكل دابة تأكل فهي سحرة ، والسحر : أعلى البطن . وعن الفراء : المسحَّر : من له جوف ، أراد : وإنك تأكل الطعام والشراب { مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } فكيف تكون نبياً؟ « فَأْتِ بِآيَةٍ » على صحة ما تقول { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أنك رسول الله إلينا . فقال صالح : { هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ } يجوز أن يكون الوصف وحده الجا روالمجرور ، وهو قوله : ( « لَهَا شِرْبٌ » ) و « شِرْبٌ » فاعل به لاعتماده . ويجوز أن يكون « لَهَا شِرْبٌ » صفة ل « ناقة » .
وقرأ ابن أبي عبلة : « شُرْبٌ » بالضم فيهما . والشِّرْب - بالكسر - النصيب من الماء كالسِّقي ، وبالضم : المصدر .
فصل
روي أنهم قالوا : نريد ناقة عشراء تخرج من الصخرة فتلد سقباً . فتفكر صالح ، فقال له جبريل - عليه السلام - صلِّ ركعتين ، وسل ربك الناقة . ففعل ، فخرجت الناقة ، وبركت بين أيديهم ، وحصل سقب مثلها في العظم ، ثم قال لهم صالح : { هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ } حظ ونصيب من الماء { وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمِ مَعْلُومٍ } . قال قتادة : كانت يوم شربها تشرب ماءهم كلهم وشربهم في اليوم الذي لاَ تشرب هي . { وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء } بعقر أو ضرب أو غيرهما { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } روي أن مسطعاً ألجأها إلى مضيف فرماها بسهم ، فسقطت ، ثم ضربها قدار . { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ } على عقرها . فإن قيل : لم أخذهم العذاب وقد ندموا؟ فالجواب : أن ندمهم كان عند معاينة العذاب حين لا ينفع الندم . وقيل : لم يكن ندمهم ندم [ التائبين ، لكن ندم ] [ الخائفين ] من العقاب العاجل . { فَأَخَذَهُمُ العذاب إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } .

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)

قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين } الآيات .
قوله : « مِنَ العالِمينَ » . يحتمل عوده إلى الآتي ، أي : أنتم من جملة العالمين مخصوصون بهذه الصفة ، وهي إتيان الذكران . [ ويحتمل عوده إلى المأتى ، أي : أنتم اخترتم الذكران ] من العالمين لا الإناث منهم .
قوله : « مِنْ أَزْوَاجِكُمْ » . يصلح أن يكون تبييناً ، وأن يكون للتبعيض ، ويُراد بِمَا خلق العضو المباح منهن ، وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم . { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } . معتدون مجاوزون الحلال إلى الحرام ، والعادي : المعتدي في ظلمه .
والمعنى : أتركبون هذه المعصية على عظمها { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } في جميع المعاصي { قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين } أي : من جملة من أخرجناه من بلدنا ، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ الأحوال .
قوله : « لِعَمَلِكُمْ » كقوله : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] وقد تقدم . وقيل : « مِنَ القَالِينَ » صفة لخبر محذوف ، هذا الجار متعلق به ، أي : إني قال : { لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين } المبغضين . والقِلَى : البغض الشديد ، كأنه بُغْضٌ يقلي الفؤاد والكبد . وقوله « مِنَ القَالِينَ » أبلغ من أن يقول : إني لعملكم قالٍ ، كما تقول : فلان من العلماء ، أبلغ من قولك : فلان عالم .
ويجوز أن يراد : من الكاملين في قِلاكم . [ والقَالِي : المُبْغِضُ ، يقال : قَلاَهُ يَقْلِيهِ قِلًى ، وَيَقْلاَهُ ، وهي شاذة ، قال :
3920 - وَتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ ... وَتقْلِينَنِي لكِنَّ إيَّاكِ لاَ أقْلِي
وقال آخر :
3921 - والله مَا فَارَقْتكُمْ عَنْ قِلَى لكم ... وَلكنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ
واسم المفعول فيه : « مَقْلِيّ » والأصل : « مَقْلُويٌّ » فأدغم ك « مَرْمِيٍّ » قال :
3922 - وَلَسْتُ بِمَقْليِّ الخِلاَلِ ولاَ قَالِي ... وغلط بعضهم فجعل ذلك من قولهم : قَلَى اللَّحْمَ ، أي شَوَاهُ ، فكأنه قلى كبده بالبغض ووجه الغلط أن هذا من ذوات الياءن وذلك من ذوات الواو .
يقال : قَلَى اللحمِ يَقْلُوه قَلْواً ، فهو قال كَغَازٍ ، و « مَقْلُوّ » كما تقدم ] ، ثم دعا فقال : { رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ } من العمل الخبيث .
قال الله تعالى : « فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ » من عقوبة عملهم { إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين } وهي امرأة لوط ، بقيت في الهلاك والعذاب ، فإنْ قيل : « فِي الغَابِرينَ » صفة لها ، كأنه قيل : إلاَّ عَجُوزاً [ غابرة ، وإن لم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم؟ فالجواب : معناه : إلاَّ عجوزاً ] مقدراً غبورها . قيل : إنما هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر من الحجارة . { ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين } أي : أهلكناهم { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين } والمخصوص بالذم محذوف ، أي : ( مَطَرُهُمْ ) قال وهب بن منبه : الكبريت والنار . { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } .
فصل
قال القاضي عبد الجبار في تفسير قوله : { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } دليل على بطلان الجبر من وجوه :
الأول : أنه لا يقال : « تَذَرُونَ » إلاَّ مع القدرة على خلافه ، ولذلك لا يقال للمرء : لم تذر الصعود إلى السماء ، كما يقال : لم تذر ( الدخول و ) الخروج .

الثاني : أنه قال : { مَا خَلَقَ لَكُمْ } ولو كان الفعل لله تعالى لكان الذي خلقه لهم ما خلقه فيهم ووجبه لا ما لم يفعلوه .
الثالث : قوله تعالى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } لإن كان تعالى خلق فيهم ما كانوا يعملون ، فكيف ينسبون إلى أنهم تعدوا؟ وهل يقال للأسود : إنك متعد في لونك؟ وأجيب بأن حاصل هذه الوجوه يرجع إلى أن العبد لو لم يكن موجداً لأفعال نفسه لما توجه المدح والذم والأمر والنهي عليه ، ( وليس لهذه ) الآية في هذا المعنى خاصية أزيد مما ورد من الأمر والنهي والمدح والذم في قصة إبراهيم وموسى ونوح وسائر القصص ، فكيف خَصَّ هذه القصة بهذه الوجوه دون سائِر القصص . وإذا ثبت أن هذه الوجوه هي ذلك الوجه المشهور فالجواب عنها هما الجوابان المشهوران :
الأول : أنَّ اللَّهَ تعالى لمّا علم وقوع هذه الأشياء فعدمها محال ، لأَنّ عدمها يستلزم انقلاب العلم جهلاً ، وهو محال ، والمفضي إلى المحال محال ، وإن كان عدمها محالاً كان التكليف بالترك تكليفاً بالمحال .
الثاني : أنَّ القادر لما كان قادراً على الضدين امتنع أن يرجح أحد المقدورين على الآخر لا لمرجح ، والمرجح : هو الداعي والإرادة ، وذلك المرجح مرجح محدث ، فله مؤثر ، وذلك المؤثر إن كان هو العبد لزم التسلسل ، وهو محال ، وإن كان هو الله تعالى فذاك الجبر على قولك ، فثبت بهذين البرهانيين القاطعين سقوط ما قاله .

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

قوله تعالى : { كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين } .
قرأ نافع وابن كثير وابن عامر : « لَيْكَةَ » بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسماً غير مُعَرَّفٍ ب « أل » مضافاً إليه « أَصْحَاب » هنا وفي « ص » خاصة .
والباقون : « الأَيْكَةِ » معرفاً ب « أل » مُوافقةً لما أُجْمَعَ عليه في الحِجْر وفي « ق » .
وقد اضطربت أقوال الناس في القراءة الأولى ، وتجرأ بعضهم على قرائها .
ووَجْهُهَا على ما قال أبو عُبَيد : أن ( ليكة ) اسم للقرية التي كانوا فيها و ( الأَيْكَة ) .
اسم للبلد كُلِّه . قال أبو عُبَيد : لا أحب مفارقة الخط في شيءٍ من القرآن إلاَّ ما يخرُجُ من كلام العرب وهذا ليس بخارج من كلامها مع صحة المعنى في هذه الحروف ، وذلك أَنَّا وجدنا في بعض التفاسير الفرق بين « لَيْكَة » ، و « الأيكة » ، فقيل : « لَيْكَةُ » هو اسمٌ للقرية التي كانوا فيها . والأَيْكَة : البلاد كلها ، فصار الفرق بينهما شبيهاً بما بين ( مَكَّةَ ، وبكَّةَ ) ورأيتهن مع هذا في الذي يقال : إنه الإمام - مصحف عثمان - مفترقان ، فوجدت التي في « الحِجْر » والتي في « ق » : « الأَيْكَة » ، ووجدت التي في « الشعراء » والتي في « ص » « لَيْكَة » ثم اجتمعت عليها مصاحف الأَمْصَار بعدُ ، فلا نعلمها إذاً اختلفت فيها ، وقرأ أهل المدينة على هذا اللفظ الذي قَصَصْنا ، يعني : بغير ألف ولام ، ولا إجراء .
انتهى ما قاله أبو عبيدة . قال أبو شامة بعد نقله كلام أبي عبيدة : هذه عبارته ، وليست سديدة ، فإن اللام موجودة في « لَيْكَة » وصوابه : بغير ألف وهمزة . قال شهاب الدين : بل هي سديدة ، فإنه يعني بغير ألفٍ ولامٍ مُعَرفَةٍ لا مطلق لامٍ في الجملة .
وقد تُعقِّبَ قول أبي عُبيد وأنكروا عليه ، فقال أبو جعفر : اجمع القراء على خفض التي في « الحِجر » و « ق » فيجب أن يُرَدَّ ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه إذ كان البلد كله ، فشيء لا يثبت ولا يُعْرَفُ مَنْ قاله ولو عُرِف لكان فيه نظر ، لأَنَّ أهل العلم جميعاً من المفسرين والعالمين بكلام العرب على خلافه ، ولا نعلم خلافاً بين أهل اللغة أن « الأَيْكَة » الشجر المُلْتَفُّ .
فأما احتجاج بعض من احتج لقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح ، لأنه في السواد « لَيْكَةَ » فلا حجة فيه ، والقول فيه : إن أصله : « الأَيْكَة » ثم خففت الهمزة ، فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل ، لأَنَّ اللام قد تحركت فلا يجوز على هذا إِلاَّ الخفض ، كما تقول : « مَرَرْتُ بِالأَحْمَر » على تحقيق الهمزة ثم تخففها فتقول : « بِلحْمَر » ، فإن شئت كتبته في الخط على كتبته أولاً ، وإِنْ شئت كتبته بالحذف ، ولم يَجُرْ إلاَّ الخف ، فلذلك لا يجوز في « الأَيْكَة » إلاَّ الخَفْض ، قال سيبويه : واعلم أَنَّ كل ما لم ينصرف إذا دَخَلَتْهُ الألف واللام أو أضفته ( انصرف ) .

ولا نعلم أحداً خالف سيبويه في هذا وقال المبرّد في كتاب الخط : كتبوا في بعض المواضع : « كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةَ } بغير ألف ، لأن الألف تذهب في الوصل ، ولذلك غلط القارىء بالفتح فتوهم أن » لَيْكَة « اسم شيء ، وأن اللام أصل فقرأ : » أَصْحَابُ لَيْكَة « . ؟
وقال الفراء : نرى - والله أعلم - أنها كتبت في هذين الموضعين بترك الهمز ، فسقطت الألفُ لتحريك اللام . قال مكيّ : تعقَّبَ ابن قتيبة على أبي عبيدة فاختار » الأَيْكَة « بالألف والهمزة والخفض ، وقال : إِنَّمَا كُتِبَتْ بغير ألف على تخفيف الهمزة ، قال : وقد أجمع الناس على ذلك ، يعني : في » الحِجْر « و » ق « فوجب أن يُلحَق ما في » الشعراء « و » ص « بما أجمعُوا عليه ، فما أجمعوا عليه شاهد لما اختلفوا فيه . وقال أبو إسحاق : القراءة بِجَرِّ لَيْكَةِ وأنت تريد » الأَيْكَةِ « أجود من أن تجعلها » لَيْكَه « وتفتحها؛ لأَنَّها لا تتصرف لأن » لَيْكَة « لا تُعرَّفُ ، وإنما هي » أَيْكَة « للواحد ، و » أَيكٌ « للجمع ، مثل : أَجمة وأَجَم . والأَيْكُ : الشجر الملتف ، فأجود القراءة فيها الكسر وإسقاط الهمزة لموافقة المصحف؛ ولا أعلمه إلا قد قرىء به .
وقال الفارسي : قول من قال : » لَيْكَة « بفتح التاء مُشكِلٌ ، لأنه فتح مع لحاق اللام الكلمة ، وهذا في الامتناع كقول من قال : مَرَرْت بِلَحْمَر . فيفتح الآخر مع لحاق لام المعرفة ، وإنما كتبت » لَيْكَة « على تخفيف الهمز ، والفتح لا يصح في العربية لأنه فتح حرف الإعراب في موضع الجرّ مع لام المعرفة ، فهو على قياس قول من قال : مَرَرْتُ بِلَحْمَر ، ويبعد أن يفتح نافع ذلك مع ما قال عنه ورش . يعني أنَّ وَرْشاً نقل عن نافع نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها حيث وُجِدَ بشروط مذكورة ، ومن جملة ذلك ما في سورة » الحِجْر « و » ق « لفظ » الأَيْكَة « ، فقرأ على قاعدته في السورتين بنقل الحركة وطرح الهمزة وخفض التاء ، فكذلك ينبغي أن يكون الحكم في هذين الموضعين أيضاً .
وقال الزمخشري : قرىء » أَصْحَابُ الأَيْكَةِ « بالهمزة وبتخفيفها وبالجر على الإضافة ، وهو الوجه ، ومن قرأ بالنصب وزعم أنَّ » لَيْكَة « بوزن : » لَيْلَة « - اسم البلد - فتوهُّمٌ قاد إليه خط المصحف . .

وإنما كتبت على حكم لفظ اللافظ ، كما يكتب أصحاب ( النحو ) لان ولاولى على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف . وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة ، على « أنَّ لَيْكَةَ » اسم لا يعرف ، وروي أَنَّ « أَصْحَابَ الايْكَةِ » كانوا أصحاب شجر مُلْتَفٍّ ، وكان شجرهم الدَّوم ، وهو شَجَرُ المُقل . يعني أن مادة ( ل ي ك ) مفقودة في لسان العرب . كذا قال الثقات ممن تتبَّع ذلك .
قال : وهذا كما نصُّوا على أنَّ الخاء والذال المعجمتين لم يجامعا الجيم في لغة العرب ، ولذلك لم يذكرها صاحب « الصحصاح » مع ذكره التفرقة المتقدمة عن أبي عبيد ، ولو كانت موجودة في اللغة لذكرها مع ذكره التفرقة المتقدمة لشدة الاحتياج إليها . وقال الزجاج أيضاً : أهل المدينة يفتحون على ما جاء في التفسير أنَّ اسم المدينة التي كان فيها شعيب ( « لَيْكَة » ) .
قال أبو علي : لو صح هذا فلم أجمع القراء على الهمز في قوله : { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة } [ الحجر : 78 ] ، و « الأَيْكَةُ » التي ذكرت هاهنا هي « الأيْكَة » التي ذكرت هناك ، وقد قال ابن عباس : الأَيْكَةُ : الغَيْضَة ولم يفسرها بالمدينة ولا البلد . قال شهاب الدين : وهؤلاء كلُّهم كأنهم زعموا أنَّ هؤلاء الأئمة الأثبات إنما أخذوا هذه القراءة من خط المصاحف دون أفواه الرجال ، وكيف يظنُّ بمثل أسنِّ القرّاء وأعلاهم إسناداً ، والآخذ القرن عن جملة من ( جلّة ) الصحابة أبي الدَّرداء وعثمان بن عفان وغيرهما ، وبمثل إمام مكّة - شرّفها الله تعالى - وبمثل إمام المدينة ، وكيف ينكر على أبي عبيد قوله أو يتَّهم في نقله؟ ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ؛ والتواتر قطعيٌّ فلا يعارض بالظني ، وأما اختلاف القراءة مع اتحاد القصة فلا يضر ذلك ، عبِّر عنها تارةٌ بالقرية خاصة وتارة بالمصر الجامع للقرى كلها ، الشامل هو لها ، وأما تفسير ابن عباس فلا ينافي ذلك ، لأنَّه عبر عنها بما كثر فيها .
قوله : { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ } ولم يقل : أخوهم؛ لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب ، فلما ذكر مدين قال : « أَخَاهُمْ » لأنه كان منهم ، وكأن الله تعالى بعثه إلى قومه - أهل مدين - وإلى أصحاب الأيكة .
وفي الحديث : « إِنَّ شُعَيْباً أَخَا مَدْيَن أرسا إليهم وإلى أصحاب الأيكة » .
[ قال ابن كثير : ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره أنَّ أصحاب الأيكة أمة أخرى غير أهل مدين فقول ضعيف ، وإنما عمدتهم شيئان .
أحدهما : أنه قال : { كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ } ولم يقل : « أَخُوهُمْ » كما قال : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ] .
والثاني : أنه ذكر عذابهم ب « يَوْم الظُّلَّةِ » وذكر في أولئك « الرجفة والصيحة » والجواب عن الأول : أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله : « أَصْحَابُ الأَيْكَةِ » لأنه وصفهم بعبادة الأيكة ، فلا يناسب ذكر الأخوة هاهنا ، ولما نسبهم إلى القبيلة ساغ ذكر شعيب بأنه أخوهم .

وأما احتجاجهم ب « يَوْمِ الظُّلَّةِ » فإن كان دليلاً على أنهم أمة أخرى فليكن تعداد « الرجفة ، والصيحة » دليلاً على أنهما أمتان ، ولا يقول أحد .
وأيضاً فقد ذكر الله عن أهل الأيكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان ، فدلّ على أنهم أمة واحدة أهلكوا بأنواع من العذاب ، وذكر في كل موضع ما يناسب ذلك الخطاب ، فاجتمعوا تحت الظلّة ، ورجفت بهم الأرض من تحتهم ، وجاءتهم صيحة من السماء ] .
قوله : { أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين } الناقصين لحقوق الناس بالكيل والوزن . واعلم أنَّ الكيل على ثلاثة أضرب : وافٍ ، وطفيف ، وزائد . فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله : « أَوْفُوا الكَيْلَ » ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله : { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين } ، ولم يذكر الزائد ، لأنه إن فعله فقد أحسن ، وإن لمك يفعله فلا إثم عليه . ثم لما أمر بالإيفاء بين كيف يفعل ، فقال : { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } . قرىء : « بالقُسْطَاسِ » مضموماً ومكسوراً ، وهو : الميزان وقيل : القَرَسْطُون { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ } . يقال بخسه حقه : إذا نقصه إياه ، وهذا عام في كل حق . { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } وقد تقدم .
قوله : « وَالجِبِلَّةَ » العامة على كسر الجيم والباء وشد اللام . وأبو حصين والأعمش والحسن بضمّهما وشد اللام . والسُّلمي بفتح الجيم أو كسرها مع سكون الباء وهذه لغات في هذه الحرف ، ومعناه : الخلق المتَّحد الغليظ ، مأخوذٌ من الجبل قال الشاعر :
3923 - وَالمَوْتَ أَعْظَمُ حَادِثٍ ... مِمَّا يَمُرُّ على الجِبِلَّهْ
وقال الهروي : الجِبِلُّ والجُبُلُّ والجَبْلُ لغات ، وهو الجمع الكثير العدد من الناس . وقيل : « الجِبِلَّةُ » من قولهم : جُبِلَ على كذا ، أي : خُلِقَ وطُبِعَ عليه . ، وسيأتي في « يس » إن شاء الله تعالى تمام الكلام على ذلك عند قوله : « جِبِلاًّ كَثِيراً » . والمراد ب « الجِبِلَّةِ الأَوَّلِينَ » : الأمم المتقدمين ، أي : أنه المنفرد بخلقهم وخلق من تقدمهم .
قوله : { قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } . جاء في قصة هود « مَا أَنْتَ » بغير واو ، وهاهنا بالواو . فقال الزمخشري : إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مخالف للرسالة عندهم : التَّسحير والبشرية ، وأنَّ الرسول لا يجوز أن يكون مُسَحَّراً ولا بَشَراً ، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد ، وهو كونه مسحَّراً ، ثم ( قرر ) بكونه بَشَراً . ثم قالوا : { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين } ومعناه ظاهر . ثم إنَّ شعيباً - عليه السلام - كان يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فقالوا : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء } وقد تقدم كلام في « كِسَفاً » والشتقاقه في الإسراء .

وإنما طلبوا ذلك لاسبتعادهم وقوعه فقال شعيب : { ربي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : من نقصان الكيل والوزن ، وهو مجازيكم بأعمالكم ، وليس العذاب إليَّ ، وما عليّ إلا الدعوة . فلم يدع عليهم ، بل فوض الأمر فيه إلى الله تعالى .
قوله : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة } . وذلك أنَّه أخذهم حرّ شديد ، فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أشد حرّاً ، فخرجوا ، فأظلتهم سحابة ، وهي الظُّلَّة ، فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليها ناراً فاحترقوا . فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنَّ العذاب النازل بعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ما كان بسبب كفرهم ، بل بسبب تأثيرات الكواكب واتصالاتها على ما أتفق عليه المنجمون؟ وإذا قام هذا الاحتمال لم يحصل الاعتبار بهذه القصص ، لأنَّ الاعتبار إنما يحصل إذا علمنا أنَّ نزول العذاب كان بسبب كفرهم ، وأيضاً فيحتمل أن ينزل العذاب محنة للمكلّفين كما قال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين } [ محمد : 31 ] وقد ابتلي المؤمنون بالبلاء العظيم في مواضع كثيرة ، وإذا كان كذلك لم يدلّ نزول البلاء بهم على كونهم مبطلين؟ فالجواب : هذا سؤال باطل ، لأنه يقال : ما الاتصالات التي أوجبت نجاة بني إسرائيل من البحر وأغرقت فرعون وقومه في ساعة واحدة ، وما الاتصالات التي أوجبت الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم على القبط دون بني إسرائيل وهم معهم في بلد واحد ، وما الاتصالات التي نجّت لوطاً ومن معه وأهلكت قومه وهم قريب منهم ، وما الاتصالات التي أوجبت حمل الطير الأبابيل حجارة من سجيل ورمت بها أصحاب الفيل دون غيرهم ، وما الاتصالات التي فرقت البحر اثني عشر فرقاً بعدد أسباق بني إسرائيل ، وقلبت العصا حية تسعى ، وتلقفت ما صنعته السحرة ، ونتقت الجبل فوق بني إسرائيل كأنه ظلّة ، وأخرجت الناقة من الحجر ، وأطفأت نار إبراهيم ، وكل ذلك ثابت بالتواتر لا يمكن إنكاره .
وأيضاً فإنَّ الله تعالى أنزل هذه القصص على محمد - عليه السلام - تسلية له وإزالة للحزن عن قلبه . فلما أخبر الله تعالى محمداً أنه هو الذي أنزل العذاب عليهم جزاءً على كفرهم علم أنَّ الأمر كذلك ، وحينئذ حصل له التسلي .

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)

قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين } . الهاء تعود على القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به . و « تَنْزِيلٌ » بمعنى مُنَزَّلٌ ، أو على حذف مضاف أي : ذُو تَنزيل ، وقوله : « نَزَلَ » قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص : « نَزَلَ » مخففاً ، و « الرُّوحُ الأمينُ » مرفوعان على إسناد الفعل ل « الروج » و « الأمِين » نعته ، والمراد به جبريل .
وباقي السبعة : بالتشديد مبنياً للفاعل ، وهو الله تعالى ، و « الرُّوح الأَمِين » منصوبان على المفعول به ، و « الأَمِين » صفته أيضاً ، وقرىء : « نُزِّلَ » مشدداً مبنياً للمفعول ، و « الرُّوحُ الأَمِينُ » مرفوعان على ما لم يسم فاعله . و « بِهِ » إمَّا متعلق ب « نَزَل » أو بمحوذف على أنه حال .
قوله : { على قَلْبِكَ لِتَكُونَ } . قال أبو حيان : الظاهر تعلُّق « عَلَى قَلْبِكَ » و « لِتَكُونَ » ب « نَزَل » . ولم يذكر ما يقابل هذا الظاهر . وأكثر ما يتخيَّل أنه يجوز أن يتعلقا ب « تنزيل » أي : وإنه لتنزيل ربِّ العالمين على قلبك لتكون ، ولكن فيه ضعفٌ من حبث الفصل بين المصدر ومعموله بجملة : « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ » .
وقد يجاب عنه بوجهين :
أحدهما : أنَّ هذه الجملة اعتراضية ، وفيها تأكيد وتشديد ، فليست بأجنبية .
والثاني : الاغتفار في الظرف وعديله . وعلى هذا فلا يبعد أن يجيء في المسألة باب الإعمال ، فإن كلاًّ من « تَنْزِيل » و « نَزَل » يطلب هذين الجارين .
فصل
لما ذكر قصص الأنبياء لمحمد - عليه السلام - أتبعه بما يدل على نبوته فقال : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين } لأنه لفصاحته معجز فيكون من رب العالمين . وأيضاً فلأنه إخبار عن الأمم الماضية من غير تعلم ألبتة ، وذلك إلاَّ بوحي من الله تعالى . وأيضاً فقوله { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين } مؤكد لما ذكرنا ، لأن ذكر هذه القصص على ما هي في زبر الأولين من غير تفاوت أصلاً مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستفادة دليل على أنه ليس إلا من عند الله ، { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } عَلَى قَلْبِكَ يا محمد ، أي : فهمك إياه وأثبته في قلبك كي لا تنساه كقوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] { لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } : المخوِّفين . وسمي جبريل روحاً ، لأنه خلق من الروح . وقيل : لأنه نجاة الخلق في باب الدين ، فهو كالروح التي تستتبع الحياة . وقيل : لأنه روح كله ، لا كالناس في أبدانهم روح . وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه للأنبياء - ( عليهم السلام ) - .
فصل
روي أنَّ جبريل - عليه السلام - نزل على آدم - عليه السلام - اثنا عشرة مرة ، وعلى إدريس أربع مرات ، وعلى نوح خمسين مرة ، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة ، وعلى موسى أربعمائة مرة ، وعلى عيسى عشر مرات وعلى محمد - عليه السلام - أربع عشرة ألف مرة .

فإن قيل : لم قال : « عَلَى قَلْبِكَ » وهو إنما أنزل عليه؟
فالجواب : ليؤكد أنّ ذلك المنزل محفوظ للرسول متمكن من قبله لا يجوز عليه التغيير ، ولأنَّ القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار ، وأما سار الأعضاء فمسخّرة له ، ويدل على ذلك القرآن والحديث والمعقول ، أما القرآن فقوله تعالى : { نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ } [ البقرة : 97 ] ، { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ } ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] واستحقاق الجزاء ليس إلاَّ على ما في القلب ، قال تعالى : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] والتقوى في القلب لقوله تعالى : { أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } [ الحجرات : 3 ] وقوله : { وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور } [ العاديات : 10 ] . وحكى عن أهل النار قولهم : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير } [ الملك : 10 ] والعقل في القلب ، والسمع منفذٌ إليه ، وقال : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] والسمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب ، وقال : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } [ غافر : 19 ] ولم تخن الأعين إلا بما تضمر القلوب إلى غير ذلك من الآيات .
وأما الحديث فقوله - عليه السلام - : « أَلاَ وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فسد الجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ »
وأما المعقول فإنَّ القلب إذا غشي عليه ، فإذا قطع سائر الأعضاء لم يحصل به الشعور ، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات .
وأيضاً فإذا فرح القلب أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك . وأيضاً فإن القلب منبع المشيئات الباعثة على الأفعال الصادر عن سار الأعضاء .
قوله : « بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ » . يجوز أن يتعلق ب « المُنْذِرينَ » أي : لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان العربي ، وهم : هود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، ومحمد - صلى الله عليه وسلّم - ( و ) يجوز أن يتعلق ب « نَزَلَ » أي : نزل باللسان العربي لتنذر به ، لأنه لو نزل بالأعجمي لقالوا : لم نزل علينا ما لا نفهمه؟ وجوز أبو البقاء أن يكون بدلاً من « بِهِ » بإعادة العامل ، قال : أي نزل بلسان عربي ، أي : برسالة أو لغة . قال ابن عباس : بلسان قريش ليفهموا ما فيه .
قوله : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين } . أي : وإن القرآن . وقيل : وإن محمداً ونعته { لَفِي زُبُرِ الأولين } أي : كتب الأولين . وقيل : المراد وجوه التخويف ، لأن ذكر هذه الأشياء بأسرها قد تقدم ، وفيه التفات ، إذ لو جرى على ما تقدم لقيل : « وإنك لفي زبر » . وقرأ الأعمش : « زُبْرِ » بسكون الباء ، وهي مخففة من المشهور .

أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)

قوله : { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً } . قرأ ابن عامر « تَكُنْ » بالتاء من فوقه « آيَةٌ » بالرفع . والباقون « يَكُنْ » بالياء من تحت « آيَةً » بالنصب . وابن عباس : « تَكُنْ » بالتاء من فوق « آيَةٌ » بالنصب . فأما قراءة ابن عامر فتكون يحتمل أن تكون تامة ، وأن تكون ناقصة . فإن كانت تامة جاز أن يكون « لَهُمْ » متعلقاً بها ، و « آيَةٌ » فاعلاً بها ، و « أَنْ يَعْلَمَهُ » إما بدل من « آيَةٌ » وإما خبر مبتدأ مضمر ، أي : أو لم تحدث لهم علامةُ علم علماء بني إسرائيل . وإن كانت ناقصة جاز فيها أربعة أوجه :
أحدها : أن يكون اسمها مضمراً فيها بمعنى القصة ، و { آيَةً أَن يَعْلَمَهُ } جملة قدم فيها الخبر واقعةٌ موقع خبر « تَكُنْ » .
الثاني : أن يكون امسها ضمير القصة أيضاً و « لَهُمْ » خبر مقدم ، و « آيَةٌ » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر « تَكُنْ » ، و « أَنْ يَعْلَمَهُ » إما بدل من « آيَةٌ » وإما خبر مبتدأ مضمر ، أي : أن يعلمه .
الثالث : أن يكون « لَهُمْ » خبر « تَكُنْ » مقدماً على اسمها ، و « آيَةٌ » امسها ، و « أنْ يَعْلَمَهُ » على الوجهين المتقدمين : البدلية ، وخبر ابتداء مضمر .
الرابع : أن تكون « آيَةٌ » اسمها ، و « أَنْ يَعْلَمَهُ » خبرها . وقد اعترض هذا بأنه يلزم جعل الاسم نكرة والخبر معرفة وقد نص بعضهم على أنه ضرورة كقوله :
3924 - وَلاَ يَكُ مَوْقِفٌ مِنْكِ الوَدَاعَا ... وقوله :
3925 - يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءٌ ... وقد اعتذر عن ذلك بأنَّ « آيَةٌ » قد تخصصت بقوله : « لَهُمْ » فإنه حال منها ، والحال صفة ، وبأن تعريف الخبر ضعيف لعمومه . وهو اعتذار باطل ، ولا ضرورة تدعو إلى هذا التخريج ، بل التخريج ما تقدم . وأما قراءة الباقين فواضحة جداً ، ف « آيَةٌ » خبر مقدم ، و « أَنْ يَعْلَمَهُ » اسمها مؤخر ، و « لَهُمْ » متعلق ب « آيَةٌ » حالاً من « آية » . وأما قراءة ابن عباس كقراءة : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] ، وكقول لبيد :
3926 - فَمَضَى وَقَدَّمَهَا وَكَانَتْ عَادَةً ... مِنْهُ إذَا هِيَ عَرَّدَتْ أَقْدَامُهَا
إما لتأنيث الاسم لتأنيث ( الخبر ) ، وإما لأنه بمعنى المؤنث ، ألا ترى أنَّ « أَنْ يَعْلَمَهُ » في قوة المعرفة ، و { إِلاَّ أَنْ قَالُواْ } في قوة مقالتهم ، وإِقْدَامُهَا بإقْدَامَتِهَا .
وقرأ الجحدريّ : « أَنْ تَعْلَمَهُ » بالتاء من فوق ، شبَّه البنين بجمع التكسير في تغيّر واحده صورةً ، فعامل فعله المسند إليه معاملة فعله في لحاق علامة التأنيث ، وهذا كقوله :

3927 - قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ خَالُوا بَنِي أَسَدٍ ... يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّاراً لأَقْوَامِ
وكتبوا في الرسم الكريم : « عُلَمواء » بواو بين الميم والألف . قيل : هو على لغة من يميل الألف نحو الواو ، وهذا كما فعل في « الصَّلاة والزَّكْاة » .
فصل
المعنى : أو لم يكن لهؤلاء المنكرين علم بني إسرائيل علامة ودلالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنّ العلماء الذين كانوا من بني إسرائيل كاناو يخبرون بوجود ذكره في كتبهم ، كعبد الله بن سلام ، وابن يامين ، وثعلبة ، وأسد ، وأسيد . قال ابن عباس : بعث أهل مكة إلى اليهود بالمدينة فسألوهم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إنَّ هذا لزمانه ، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته ، فكان ذلك آية على صدقه .
قوله : { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ الأعجمين } . قال صاحب التحرير : الأعجمين : جمع أعجمي بالتخفيف ، ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة .
قال شهاب لادين : وكأنَّ سبب منع جمعه أنه من باب : أفعل فعلاء ، ك « أَحْمَرَ حَمْرَاءَ » . والبصريون لا يجيزون جمعه جمع سلامة إلاّ ضرورة ، كقوله :
3928 - حَلاَئِلَ أَسْوَدِينَ وَأَحْمَرِينَا ... فلذلك قدره مسنوباً مخفف الياء . وقد جعله ابن عطية « أَعْجَم » فقال : الأعجمون : جمع أعجم ، وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب يقال له : أعجم ، وذلك يقال للحيوانات ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « العَجْمَاء جُبَار » وأسند الطَّبريّ عن عبد الله بن مطيع أنه كان واقفاً بعرفة وتحته جمل ، فقال : جَمَلِي هذا أَعْجَمٌ ، ولو أنَّه أنزل عليه ما كانوا يؤمنون .
والعجميُّ : هو الذي نسبته في العجم وإن كان أفصح الناس .
وقال الزمخشري : الأعجم : الذي لا يفصح ، وفي لسانه عجمة واستعجام ، والأعجمي مثله لا أنَّ فيه زيادة ياء النسب توكيداً . وقتدم نحو من هذا في سورة النحل وقد صرَّح أبو البقاء يمنع أن يكون « الأعْجَمِينَ » جمع أعجم ، وإنما هو جمع أعجمي مخففاً من « أَعْجَمِيّ » « كَالأَشْعَرُون » في الأَشْعَرِيّ . قال : « الأعجمين » الأعجميِّين ، فحذف ياء النسب ، كما قالوا : ( الأَشْعَرُونَ أي ) : الأَشْعَرِيُّون ، وواحده ( أَعْجَمِي ) ولا يجوز أن يكون جمع ( أَعْجَم ) لأنَّ مؤنثه ( عَجْمَاء ) ، ومثل هذا لا يجمع جمع التصحيح . قال شهاب الدين : وفيما قاله ابن عطية نظر ، وأام الزمخشري فليس في كلامه أنه جمع ( أَعْجَم ) مخففاً أو غير مخفف ، وإن كان ظاهره أنه جمع ( أعجم ) من غير تخفيف ، ولكن الذي قاله ابن عطية تبع فيه الفراء فإنَّه قال : الأعجمين : جمع ( أَعْجَم ) أو ( أَعْجَمِي ) على حذف ياء النسب ، كما قالوا : الأشعرين وواحدهم . ( أشعري ) وأنشد للكميت :
3929 - وَلَوْ جَهَّزتَ قَافِيةً شَرُوداً ... لَقَدْ دَخَلَتْ بيُوتَ الأَشْعَرِينَا
لكن الفراء لا يضره ذلك ، فإنه من الكوفيين ، وقد تقدم عنهم أنهم يجيزون جمع ( أَفْعَل فَعْلاَء ) .

وقرأ الحسن وابن مقسم : « الأَعْجَمِيِّينَ » بياء النسب - وهي مؤيدة لتخفيفه منه في قراءة العامة .
فصل
قوله « وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ » يعني : القرآن على رجل ليس بعربي اللسان « فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ » بغير لغة العرب { مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } وقالوا ما نفقه قولك ، وجعلوه عذراً لجحودهم ، ونظيره : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } [ فصلت : 44 ] .
وقيل : معنا : ولو أنزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة من اتباعه .
قوله : « كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ » أي : قيل ذلك ، أو الأمر كذلك . والضمير في « سَلَكْنَاهُ » عائد على القرآن ، وهو الظاهر ، أي : سلكناه في قلوب المجرمين ( كما سلكناه في قلوب المؤمنين ) ، ومع ذلك لم ينجع فيهم . وقال ابن عباس والحسن ومجاهد : أدخلنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين .
وهذه الآية تدل على أنّ الكل بقضاء الله وخلقه . قال الزمخشري : إراد به أنه صار ذلك التكذيب متمكناً في قلوبهم أشدّ التمكن ، فصار ذلك كالشيء الجبلِّي .
والجواب : أنه إما أن يكون قد فعل الله تعالى فيهم ما يقتضي الترجيح أم لا ، فإن كان الأول فقد دللنا في سورة الأنعام على أنَّ الترجيح لا يتحقق ما لم يثب إلى حد الوجوب ، وحينئذ يحصل المقصود ، وإن لم يفعل فيهم ما يقتضي الترجيح البتة امتنع قوله : « كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ » .
قوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } في الجملة وجهان :
أحدهما : الاستئناف على جهة البيان والإيضاح لما قبله .
والثاني : أنها حال من الضمير في « سَلَكْنَاهُ » أي : غير مُؤْمِنٍ بِهِ .
ويجوز أن يكون حالاً من « المُجْرِمِينَ » لأنَّ المضاف جزء من المضاف إليه { حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } يعني : الموت .
قوله : « فَيَأْتِيَهُمْ » و « فَيَقُولُوا » عطف على « يَرَوا » .
وقرأ العامة بالياء من تحت . والحسن وعيسى بالتاء من فوق .
أنّث ضمير العذاب . لأنه في معنى العقوبة . وقال الزمخشري : أنّثَ على أن الفاعل ضمير الساعة . قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى التعقيب في قوله : « فَيَأْتِيَهُمْ » ؟ قُلْت : ليس المعنى التعقيب في الوجود ، بل المعنى ترتُّبها في الدشة ، كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب أشدَّ منها ، ومثال ذلك أن تقول : إنْ أَسَأتَ مَقَتَكَ الصَّالِحُونَ فمَقَتَكَ اللَّه فإنك لا تقصد أنّ مَقْتَ اللَّهِ بعد مَقْتِ الصَّالِحينَ ، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة المر على المسيء .
وقرأ الحسن : « بَغَتَةً » بفتح الغين .
فصل
المعنى : يَأْتِيَهُمْ العذاب « بَغْتَةً » أي : فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } به في الدنيا ، { فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ } أي : لنؤمن ونصدق ، يتمنون الرجعة والنظرة ، وإنما يقولون ذلك استرواحاً عند تعذر الخلاص ، لأنهم يعلمون في الآخرة ألاَّ ملجأ لهم . قال مقاتل : لما وعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب قالوا : إلى متى توعدنا بالعذاب؟ ومتى هذا العذاب؟ قال الله تعالى : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } .

أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)

قوله : « أَفَرَأيْتَ » تقدم تحقيقه وقد تنازع « أَفَرَأَيْتَ » و جَاءَهُمْ « في قوله : { مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } فإن أعملت الثاني وهو » جَاءَهُمْ « رفعت به » مَا كَانُوا « فاعلاً به ، ومفعول » أَرَأَيْتَ « الأول ضميره ، ولكنه حذف ، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية في قوله : { مَآ أغنى عَنْهُمْ } ، ولا بدَّ من رابط بين هذه الجملة وبين المفعول الأول المحذوف ، وهو مقدر تقديره : أفرأيت ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم تمتُّعهم حين حلَّ ، أي : الموعود به ، ودلَّ على ذلك قوة الكلام .
وإن أعملت الأول نصبت به { مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } وأضمرت في » جَاءَهُمْ « ضميره فاعلاً به ، والجملة الاستفهامية مفعول ثانٍ أيضاً ، والعائد مقدر على ما تقرر في الوجه قبله ، والشرط معترض ، وجوابه محذوف ، وهذا كله مفهوم مما تقدم في سورة الأنعام وإنما ذكرناه هنا لأنه تقديرٌ ( عَسِرٌ يحتاج ) إلى تأمل . وهذا كله إنما يتأتيى على قولنا : » مَا « استفهامية ، ولا يضير تفسيرهم لها بالنفي ، فإن الاستفهام قد يرد بمعنى النفي . وأما إذا جعلتها نافية حرفاً ، كما قاله أبو البقاء فلا يتأتي ذلك ، لأنَّ مفعول » أَرَأَيْتَ « الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كما تقرر . قوله : { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } كثيرة في الدنيا ، يعني كفار مكة ، ولم نهلكهم { ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } يعني : العذاب { مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } في تلك السنين ، أي : إنهم وإن طال تمتعهم بنعم الدنيا ، فإذا أتاهم العذاب لم يغن طول التمتع عنهم شيئاً ، ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط .
قوله : { مَآ أغنى عَنْهُمْ } يجوز أن تكون » مَا « استفهامية في محل نصب مفعولاً مقدماً ، و » مَا كَانُوا « هو الفاعل ، و » مَا « مصدرية بمعنى : أيُّ شَيْءٍ أغنى عنهم كونهم متمتعين . وأن تكون نافية ، والمفعول محذوف ، أي : لَمْ يُغْنِ عنهم تمتعهم شيئاً . وقرىء » يُمْتَعُونَ « بإسكان الميم وتخفيف التاء من : أمْتَعَ اللَّهُ زَيداً بكذا .
قوله : { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } يجوز أن تكون الجملة صفة ل » قَرْيَةٍ « وأن تكون حالاً منها . وسوغ ذلك سبق النفي . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عزلت الواو عن الجملة بعد » إلاَّ « ولم تعزل عنها في قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] ؟ قلت : الأصل عزل الواو ، لأنَّ الجملة صفة ل » قَرْيَةٍ « وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف ، كما في قوله : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] . قال أبو حيان : ولو قدرنا » لَهَا مُنْذِرُونَ « جملة لم يجز أن تجيء صفة بعد ( إلاَّ ) ، ومذهب الجمهور أنه لا تجيء الصفة بعد » إلاَّ « معتمدة على أداة الاستثناء ، نحو : مَا جَاءَنِي أحدٌ إلاَّ رَاكِبٌ ، وإذا سمع مثل هذا خرّجوه على البدل ، أي : إلاَّ رجل راكب ، ويدل على صحة هذا المذهب أنَّ العرب تقول : ما مررت بأحدٍ إلاَّ قائماً ولا يحفظ عنهم » إِلاَّ قَائِم « يعني : بالجر ، فلو كانت الجملة صفة بعد » إلاَّ « ( لَسُمِعَ الجَرُّ ) في هذا .

وأيضاً فلو كانت الجملة صفة للنكرة لجاز أن تقع صفة المعرفة بعد « إِلاَّ » . يعني نحو : مَا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ إِلاَّ العَاقِلِ .
ثم قال : فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة جاءت الصفة بعد « إلاَّ » نحو : ما جاءني أحدٌ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمرٍو ، والتقدير : ما جاءني أحدٌ خيرٌ من عمرٍو إلاَّ زيدٌ .
وأمَّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف فغير معهود في عبارة النحويين ، لو قلت : جاءني رجلٌ وعاقلٌ . لم يجز ، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازاً إذا عطف بعضها على بعض وتغاير مدلولها ، نحو : « مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الشجع والشاعر » .
وأما { وثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] فتقدم الكلام عليه .
قال شهاب الدين : أما كون الصفة لا تقع بعد ( إلاَّ ) معتمدةً فالزمخشري يختار غير هذا ، فإنَّها مسألة خلافية ، وأما كونه لم يقل ( إلاَّ قائماً ) بالنصب دون « قَائِم » بالجر فذلك على أحد الجائزين ، وليس فيه دليل على المنع من قسيمه . وأما قوله : فغير معهود في كلام النحويين . فممنوع ، هذا ابن جنِّي نصَّ عليه في بعض كتبه ، وأما إلزامه أنها لوكانت الجملة صفة بعد ( إلاَّ ) للنكرة ، لجاز أن تقع صفة المعرفة بعد ( إلاَّ ) فغير لازم ، لأنَّ ذلك مختص بكون الصفة جملة ، وإذا كانت جملة تعذر كونها صفة للمعرفة ، وإنَّما اختص ذلك بكون الصفة جملة ، لأنها لتأكيد وصل الصفة والتأكيد لائق بالجمل .
وأمَّا قوله : لو قلت : جاءني رجلٌ وعاقلٌ . لم يجز ، فمسلَّم ، ولكن إنما امتنع ذلك في الصفة المفردة لئلا يلبس أإن الجائي اثنان : رجدلٌ وآخر عاقلٌ ، بخلاف كونها جملة فإنَّ اللبس منتفٍ ، وقد تقدم ( الكلام في ) { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ } الكهف : 22 ] .
قوله : « ذِكْرضى » يجوز فيها أوجه :
أحدها : أنها مفعول من أجله ، وإذا كانت مفعولاً من أجله ففي العامل فيها وجهان : أحدهما : « مُنْذِرُونَ » على أنَّ المعنى : منذرون لأجل الموعظة والتذكرة .
الثاني : « أَهْلَكْنَا » .
قال الزمخشري : والمعنى : وَمَا أَهْلَكْنَا من أهل قريةٍ ظالمين إلاَّ بعد ما ألزمناهم الحجَّة بإرسال المنذرين إليهم ، ليكون تذكرة وعبرةً لغيرهم ، فلا يعصون مثل عصيانهم : ثم قال : وهذا الوجه عليه المُعَوَّل . قال أبو حيان : وهذا لا معوَّل عليه ، فإنَّ مذهب الجمهور أنَّ ما قبل إلاَّ لا يعمل فيما بعدها إلاَّ أن يكون مستثنى أو مستثنى منه ، أو تابعاً له غير معتمدٍ على الأداة نحو : ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمرٍو .

والمفعول له ليس واحداً من هذه .
ويتخرَّج مذهبه على مذهب الكسائي والأخفش ، وإن كانا لم ينصَّا على المفعول له بخصوصيته . قال شهاب الدين : والجواب ما تقدم قبل ذلك من أنه يختار مذهب الأخفش .
الثاني من الأوجه الأول : أنها في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هذه ذكرى ، وتكون الجملة اعتراضية .
الثالث : أنها صفة ل « مُنْذِرُونَ » إمَّا على المبالغة ، وإمَّا على الحذف ، أي : مُنْذِرُونَ ذوو ذكرى ، أو على وقوع المصدر وقوع اسم الفاعل . أي : منذرون مذكِّرن . وتقدم تقريره .
الرابع : أنها ي محل نصب على الحال ، اي : مذكِّرين ، أو ذوي ذكرى ، أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة .
الخامس : أنها مصنوبة على المصدر المؤكد ، وفي العامل فيها حينئذ وجهان :
أحدهما : لفظ « مُنْذِرُونَ » لأنه من معناها ، فهما ك ( قَعَدْتُ جُلُوساً ) .
والثاني : أنه محذوف من لفظها ، أي : يُذَكِّرُونَ ذكرى ، وذلك المحذوف صفة ب « مُنْذِرُوَن » .
قوله : { وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } في تعذيبهم ، حيث قدمنا الحجة عليهم ، وأعذرنا إليه ، أو : ما كنا ظالمين فنهلك قوماً غير ظالمين .

وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)

قوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } . العامة على الياء ورفع النون ، وهو جمع تكسير .
وقرأ الحسن البصري وابن السميفع والأعمش بالواو مكان الياء والنون مفتوحة ، إجراء له مجرى جمع السلامة وهذه القراءة ( قَدْ ردَّها ) جمع كثير من النحويين .
قال الفراء : غلط الشَّيخ ، ظنَّ أنَّها النون التي على هجائين . فقال النضر بن شميل : إن جاز أن يحتجَّ بقول العجاج ورؤبة فهلا جاز أن يحتجَّ بقول الحسن وصاحبه - يعني : محمد بن السميفع - مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ به إلاَّ وقد سمعا فيه . وقال النحاس : هو غلظ عند جميع النحويين .
وقال المهدوي : هو غير جائز في العربية . وقال أبو حاتم : هي غلطٌ منه أو عليه . وقد أثبت هذه القراءة جماعة من أهل العلم ودفعوا عنها الغلط ، فإنَّ القارىء بها من العلم بمكان مكينٍ . وأجابوا عنها بأجوبة صالحة .
فقال النضر بن شميل : قال يونس بن حبيب : سمعت أعرابياً يقول : دخلت بساتين من ورائها بَسَاتُون . فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن .
وخرَّجها بعضهم على أنها جمع ( شَيَّاطٍ ) بالتشديد ، مثال مبالغة . مثل : ( ضَرَّاب وقَتَّال ) على أن يكون مشتقاً من : شَاطَ يَشِيطُ ، أي : أُحرق ، ثم جُمِع جمع سلامة مع تخفيف الياء ، فوزنه : ( فَعَالُونَ ) مخففا من ( فَعَّالِينَ ) بتشديد العين .
ويدل على ذلك أنَّهما وغيرهما قرءوا بذلك ، أعني : بتشديد الياء ، وهذا منقول عن مؤرج السَّدوسيّ . ووجَّهها آخرون بأنَّ ( آخره لما ) كان يشبه يبرين ، وفلسطين ، أجري إعرابه تارة على النون ، وتارة بالحرف ، كما قالوا : هذه يبرين وفلسطين ويبرون وفلسطون ، وتقدم القول في ذلك في البقرة . والهاء في « بِه » تعود على القرآن . وجاءت هذه الجمل الثلاثة منفية على أحسن ترتيب ، نَفَى أوَّلاً تنزيل الشياطين به ، لأنَّ النفي في الغالب يكون في الممكن ، وإن كان الإمكان هنا منتفياً ثم نفى ثانياً ابتغاء ذلك ، أي : ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلاً له . ثم نفى ثالثاً الاستطاعة والقدرة ، ثم ذكر علة ذلك وهي انعازلهم عن السماع من الملأ الأعلى ، لأنهم يرجمون بالشهب لو ( تَسَمَّعُوا ) .
فصل
لما احتج على صدق محمد - عليه السلام - بكون القرآن تنزيل رب العالمين ، لوقوعه في الفصاحة القصوى ، ولاشتماله على قصص المتقدمين من غير تفاوت ، مع أنه - عليه السلام - لم يتعلم من أحد ، وكان الكفار يقولون : هذا من إلقاء الجنّ والشياطين كسائر ما ينزل به على الكهنة ، فأجاب الله تعالى بأنَّ ذلك لا يستهل للشياطين ، لأنهم معزولون عن استماع كلام اهل السماء برجمهم بالشهب . فإن قيل : العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بخبر النبي الصادق فإذا أثبتنا كون محمد - عليه السلام - صادقاً بفصاحة القرآن ، وإخباره عن الغيب ، ولا يثبت كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزاً إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك .

( فلزم الدور .
فالجواب : لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك ) لا يستفاد إلا من قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأنا نعلم بالضرورة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يلعن الشياطين ، ويأمر الناس بلعنهم ، فلو كان ذلك إنما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم ، فيجب أن يكون اقتار الكفار على مثله أولى . ولما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون ، لأنهم معزولون عن تعرف الغيوب . ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب خاطب الرسول - عليه السلام - فقال : { فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين } . قال ابن عباس : يحذر به غيره ، يقول : أنت أكرم الخلق عليَّ ولو اتخذت إلهاً غيري لعذبتك . وقوله : « فَتَكُونَ » منصوب في جواب النهي .

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

قوله تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } . روى عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم - { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « يا عليّ ، إنَّ اللَّه أمرني أَنْ أنذر عشيرتي الأقربين ، وضقت بذلك ذرعاً ، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال : يا محمد : إلاَّ تفعل ما تؤمر يعذبك ربك ، فاصنع لنا صاعاً من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عُسَّا من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب عت أبلغهم ما أمرت به » . ففعلت ما أمرني به ، ثم دعوتهم له وهم يؤمئذٍ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً او ينقصونه ، فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب ، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعت ، فجئت به ، فلما وضعته تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَذْبَةً من اللحم ، فشقها بأسنانه ، ثم ألقاها في نواحي الحصفة ، ثم قال : خذوا باسم الله ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة ، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم ، ثم قال : اسْقِ القومَ . فجئت بذلك العُسْ فشربوا حتى رووا جميعاً ، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله ، فلما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكلمهم بَدَرهُ أبو لهب فقال : سحركم صاحبكم : فتفرق القوم ، ولم يكلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : الغد يا علي ، إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فأعدّ لنا من الطعام مثل ما صنعت ثم اجمعهم ففعلت ، ثم دعاني بالطعام فقدمته ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا وشربوا ، ثم تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي عبد المطلب : إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فإيكم يؤازرني على أمري ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعاً ، فقلت وأنا أحدثهم سنّاً : أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عيله ، قال : فأخذ برقبتي ثم قال : إنَّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب . قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع «
وعن ابن عباس قال : لما نزلت : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } » خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا ، فهتف : يا صَبَاحَاه ، فقالوا : من هذا؟ فاجتمعوا إليه ، فقال : « أرأيتم إنْ أَخبرتكم أن خَيْلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقِيَّ » ؟ قالوا : ما جَرَّبْنَا عليك كذباً . قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب : تبّاً لك ما جمعتنا إلا لهذا «

، ثم قام ، فنزلت { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } [ المسد : 1 ] .
قوله : { واخفض جَنَاحَكَ } : ألن جانبّك { لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } . واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط كسر جناحه وخفضه ، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه ، فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب .
قوله : « فِإِنْ عَصَوْكَ » : في هذه الواو وجهان :
أحدهما : أنها ضمير الكفار ، أي : فإن عصاك الكفار في أمرك لهم بالتوحيد .
والثاني : أنها ضمير المؤمنين ، أي : فإن عصاك المؤمنون في فروع الإسلام وبعض الأحكام بعد تصديقك والإيمان برسالتك ، وهذا في غاية البعد { إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ } ( من الكفر وعبادة غير الله ) .
فصل
قال الجُبَّائيّ : هذا يدل على أنه - عليه السلام - كان بريئاً من معاصيهم ، وذلك يوجب أن الله تعالى أيضاً بريء من عملهم كالرسول ، وإلا كان مخالفة لله ، كما لو رضي عن شخص فإن الله راضٍ عنه ، وإذا كان تعالى بريئاً من عملهم فلا يكون فاعلاً له . والجواب : أنه تعالى بريء من المعاصي ، بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها ، فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم ، بدليل انه علم وقوعها ، وكل ما كان معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع ، وإلاَّ لانقلب علمه جهلاً ، وهو محال ، والمفضي إلى المحال محال ، وعلم ما هو واجب الوقوع لا يراد عدم وقوعه ، فثبت قولنا .
قوله : « وَتَوَكَّلْ » . قرأ نافع وابن عامر بالفاء . والباقون بالواو .
فأما قراءة الفاء فإنه جُعِل فيها ما بعد الفاء كالجزاء لما قبلها مترتباً عليه . وقراءة الواو لمجرد عطف جملة على أخرى . والتوكل : عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يكل أمره ويقدر على نفعه وضره . ثم قال : { عَلَى العزيز الرحيم } ليكفيك كيد الأعداء بعزته وينصرك عليهم برحمته .
قوله : « الَّذِي يَرَاَكَ » يجوز أن يكون مرفوع المحل خبراً لمبتدأ محذوف ، أو منصوبه على المدح ، أو مجرورة على النعت أو البدل أو البيان .
قال أكثر المفسرين : معناه : يراك حين تقوم إلى صلاتك . وقال مجاهد : يراك أينما كنت . وقيل : حين تقوم لدعائهم .
قوله : « وَتَقَلُّبَكَ » . عطف على مفعول « يَرَاكَ » أي : ويرى تَقَلُّبَكَ ، وهذه قراءة العامة . وقرأ جماح بن حبيش بالياء من تحت مضمومة ، وكسر اللام ، ورفع الباء ، جعله فعلاً ، مضارع ( قَلَّبَ ) بالتشديد ، وعطفه على المضارع قبله ، وهو « يَرَاكَ » أي : الذي يُقَلِّبُكَ .
فصل
معنى تقلبه أي : تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك ، قال عكرمة وعطية عن ابن عباس : « فِي السَّاجِدِينَ » أي : في المصلين .

وقال مقاتل والكلبي : أي : مع المصلين في الجماعة ، أي : يراك حين تقوم وحدك للصلاة ، ويراك إذا صليت مع المصلين جماعة .
وقال مجاهد : يرى تقلب بصرك في المصلين ، فإِنَّهُ كان يبصر من خلفه كما يبصر من أمامه . قال عليه السلام : « واللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ ولا رُكُوعُكُمْ ، وإِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي » وقال الحسن : « تقلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ » أي : تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين . وقال سعيد بن جبير : يعني : وتصرّفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك . والسَّاجدون : هم الأنبياء .
وقال عطاء عن ابن عباس : أراد : وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة . { إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } السميع لما تقوله ، العليم بما تنويه .

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)

قوله تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } الآية . أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين :
الأول : قوله : { تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } كما تقدم من أنَّ الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان ، ومحمد يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة منه .
والثاني : قوله : { يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } ومعناه : أنهم كانوا يقيسمون حال النبي - صلى الله عليه وسلم - على حال الكهنة ( فكأنه قيل : إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب ، فجيب أن تكون حال الرسول كذلك ، فلما لم يظهر في إخبار الرسول عن المغيبات إلا الصدق علمنا أنَّ حاله بخلاف حال الكهنة ) .
قوله : « عَلَى مَنْ » متعلق ب « تَنَزَّلُ » بعده . وإنما قُدِّم ، لأَنَّ له صدر الكلام ، وهو مُعلقٌ لما قبله من فِعْل التَّنْبِئَة ، لأنها بمعنى العلم .
ويجوز أن تكون هنا متعدية لاثنين ، فتسد الجملة المشتملةُ على الاستفهام مسدّ الثاني ، لأنَّ الأول ضمير المخاطبين . وأن تكون متعديةً لثلاثة فتسد مسدّ اثنين .
وقرأ البَزِّيُّ : { عَلَى مَنْ تَّنزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَّنَزَّلُ } بتشديد التاء من « تنزل » في الموضعين والأصل : « تَتَنَزَّل » بتاءين فأدغم ، والإدغام في الثاني سهل ، لتحرك ما قبل المدغم ، وفي الأول صُعُوبةٌ لسكون ما قبله وهو نُونُ « مَنْ » . وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } [ البقرة : 267 ] .
قوله : « يُلْقُونَ » . يجوز أن يعود الضمير على « الشَّيَاطِين » فيجوز أن تكون الجملة « يُلْقُونَ » حالاً ، وأن تكون مستأنفة . ومعنى إلقائهم السمعَ : إنصاتهم إلى الملأ الأعلى لِيَسْتَرِقُوا شيئاً ، أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة .
ويجوز أن يعود على { كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } من حيث إنه جمعٌ في المعنىن فتكون الجملة إما مستأنفة ، وأما صفة ل « كُلِّ أَفَّاكٍ » . ومعنى الإلقاء ما تقدم .
وقال أبو حيان : حال عود الضمير على « الشَّيَاطين » ، وبعد ما ذكر المعنيين المتقدمين في إلقاء السمع قال : فعلى معنى الإنصات يكون « يُلْقُونَ » استئناف إخبارٍ ، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة يحتمل الاستئناف ، واحتمل الحال من « الشَّيَاطِينَ » أي : تَنزَّلُ على كُلِّ أفَّاكٍ أثِيمٍ مُلْقِينَ ما سَمِعُوا . انتهى .
وفي تخصيصه الاستئناف بالمعنى الأول وتجويزه الوجهين في المعنى الثاني نظرٌ ، لأنَّ جواز الوجهين جارٍ في المعنيين فيحتاج في ذلك إلى دليل ، فإن قيل : كيف قال : « وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ » بعد ما حكم عليهم أنَّ كل واحد منهم أفّاك؟
فالجواب : أنَّ الأَفاكين هم الذين يكثرون الكذب ، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب ، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني ، وأكثرهم يفتري عليه .

وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

قوله تعالى : { والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } . قد تقدم أن نافعاً بتخفيف التاء ساكنة وفتح الباء في سورة الأعراف عند قوله : « لا يَتَّبِعُوكُمْ » والفرق بين المخفف والمثقل . وسكن الحسنُ العينَ ، ورويت عن أبي عمرو ، وليست ببعيدة عنه ك « يَنْصُرْكُمْ » وبابه وروى هارون عن بعضهم نصب العين ، وهي غلط ، والقول بأن الفتحة للإتباع خطأ ، والعامة على رفع « الشُّعَرَاءُ » بالابتداء ، والجملة بعده الخبر . وقرأ عيسى بالنصب على الاشتغال .
فصل
لمّا قال الكفار : لم لا يجوز أن يقالك الشياطين تنزل بالقرآن على محمد ، كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة ، وعلى الشعراء بالشعر؟ ثم إنه تعالى فرق بين محمد - عليه السلام - وبين الكهنة ، ذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه وبين الشعراء : بأن الشعراء يتبعهم الغاوون ، وهم : الضالون : ثم بيَّن أنَّ ذلك لا يمكن القول به لأمرين :
الأول : { أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } والمراد منه : الطرق المختلفة ، كقولك : أنا في يعظمونه بعدما يستحقرونه وبالعكس وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق ، بخلاف أمر محمد - عليه السلام - فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحدة ، وهو الدعوة إلى الله ، والترغيب في الآخرة ، والإعراض عن الدنيا .
والثاني : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } .
وذلك أيضاً من علامات الغواية ، فإنهم يرغِّبُون في الجود ، ويرغبون عنه ، وينفرون عن البخل ويصيرون إليه ، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عنهم وعن واحد من أسلافهم . ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش ، وذلك يدل على الغواية والضلالة ، وأما محمد - عليه السلام - فإنه بدأ بنفسه { فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين } [ الشعراء : 213 ] ثم بالأقرب فالأقرب فقال : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وكل ذلك خلاف طريقة الشعراء ، فظهر بهذا البيان أنَّ حال محمد - عليه السلام - لم يشبه حال الشعراء .
قوله : « يَهِيمُونَ » . يجوز أن تكون هذه الجملة خبر « أَنَّ » وهذا هو الظاهر ، لأنه محط الفائدة ، و « فِي كُلِّ وَادٍ » متعلق به . ويجوز أن يكون { فِي كُلِّ وَادٍ } هو الخبر ، أو نفس الجار كما تقدم في نظيره . ويجوز أن تكون الجملة خبراً بعد خبر عند من يَرَى تَعَدُّد الخبر مطلقاً . وهذا من باب الاستعارة البليغة ، والتمثيل الرائع ، شبَّه جَوَلاَنَهم في أفانين القول ، وطرائق المدح والذم ، والتشبيب ، وأنواع الشعر بِهَيْمِ الهائم في كل وجهٍ وطريق . وقيل : أراد ب « كُلِّ وَادٍ » أي : على كل حرف من حروف الهجاء يصوغون ( القوافي ) .
والهائم : الذي : يَخبِطُ في سَيْرِهِ ولا يقصد موضعاً معيناً ، يقال هام على وجهه ، أي : ذهب والهائم : العاشق من ذلك ، والهَيْمَان : العطشان والهُيَامُ داءٌ يأخذ الإبلَ من العطش ، وجَمَلٌ أَهْيَمُ وناقةٌ هَيْمَاءُ والجمع فيهما هِيمٌ قال تعالى : « شُرْبَ الهِيم » من الرمل : اليابس ، فإنهم يخيلون فيه معنى العطش .

فصل
قال المفسرون : أراد شعراء الكفار ، وكانوا يهجون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر مقاتل أسمائهم فقال : منهم عبد الله بن الزِّبعرَى السهمي ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ، ومسافع بن عبد مناف ، وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي ، وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب والباطل ، وقالوا : نحن نقول كما قال محمد ، وقالوا الشعر ، واجتمع إليهم غواة من قومهم يشمعون أشعارهم حين يهجون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، ويروون عنهم ذلك فذلك قوله : « يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ » وهم الرواة الذين يريدون هجاء المسلمين . وقال قتادة : هم الشياطين .
ثم إنه تعالى لما وصف شعراء الكفار بهذه الأوصاف استثنى شعراء المسلمين الذي كانوا يجيبون شعراء الجاهلية ، ويهجون الكفار ويكافحون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منهم حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، فقال : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } .
روي عن كعب بن مالك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ قد أنزل في الشعراء ما أنزل ، فقال : النبي صلى الله عليه وسلم - : » إِنَّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نصح النبل « وفي رواية قال له : » اهْجُهُمْ فالواذي نفسي بيده هو أشد عليهم من النبل «
وكان يقول لحسان : » قُلْ فإنَّ روح القدس معك « .
واعلم أن الله تعالى وصفهم بأمور :
الأول : الإيمان ، وهو قوله : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ } .
وثانيها : العمل الصالح ، وهو قوله : » وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ « .
وثالثها : أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ، ودعوة الحق ، وهو قوله : [ { وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } ] .
ورابعها : أنْ لا يذكروا هجواً إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم وهو ] { وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } قال الله تعالى : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] . وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : » إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً « وقالت عائشة : الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح . وقال الشعبي : كان أبو بكر يقول الشعر ، [ وكان عمر يقول الشعر ] ، وكان عليٌّ أشعر الثلاثة . وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده .
وقوله : { وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً } أي : لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ، { وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } أي : انتصروا من المشركين ، لأنهم بدأوا بالهجاء ، ثم أوعد شعراء المشركين فقال : { وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا } أشركوا وهجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } أيّ مرجع يرجعون بعد الموت .

قال ابن عباس : إلى جهنم والسعير .
قوله : « أَيَّ مُنْقَلَبٍ » منصوب على المصدر ، والناصب له « يَنْقَلِبُونَ » وقُدِّم ، لتضمنه معنى الاستفهام ، وهو معلق ل « سَيَعْلَمُ » سادّاً مسدّ مفعوليها .
وقال أبو البقاء : « أيَّ مُنْقَلَبٍ » صفة لمصدر محذوف ، أي : ينقلبون انقلاباً أي منقلب ، ولا يعمل في « سَيَعْلَمُ » لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله .
وهذا مردود بأن أيّاً الواقعة صفة لا تكون استفهامية ، وكذلك استفهامية لا تكون صفة لشيء بل كل منهما قسم برأسه .
و « أي » تنقسم إلى أقسام كثيرة ، وهي : الشرطية ، والاستفهامية ، والموصولة ، والصفة ، والموصوفة عند الأخفش خاصة ، والمناداة نحو : يا أيهذا والمُوصّلة لنداء ما فيه ( أل ) نحو : يا أيُّهَا الرجلُ . عند غير الأخفش ، والأخفش يجعلها في النداء موصولة .
وقرأ ابن عباس والحسن { أَيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُونَ } بالفاء والتاء من فوق من الانفلات .
روى الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : » أُعْطيتُ السورة التي يذكر فيها البقرة من الذكر الأول ، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى ، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي يذكر فيها البقرة من تحت العرش ، وأعطيت المفصل نافلة «
وعن أنس » أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إنَّ اللَّه تعالى أعطاني السبع مكان التوراة ، وأعطاني الطواسين مكان الزبور ، وفضلني بالحواميم والمفصل ، ما قرأهن نبي قبلي »
وعن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به ، وهو : وشعيب ، وصالح ، وإبراهيم ، وبعدد من كذب بعيسى ، وصدق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - «

طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)

قوله تعالى : { طس تِلْكَ آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } . « تلك » إشارة إلى آيات السورة أي : هذه آيات القرآن .
قوله : « وَكِتَابٍ » العامة على جره عطفاً على « القُرْآنِ » ، وهل المراد به نفس القرآن فيكون من عطف بعض الصفات على بعض ، والمدلول واحد ، أو اللوح المحفوظ ، أو نفس السورة ، أقوال . وقيل : القرآن والكتاب علمان للمنزل على نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهما كالعباس وعباس ، يعني فيكون « أل » فيهما للمح الصفة ، وهذا خطأ؛ إذ لو كانا علمين لما وصفا بالنكرة ، وقد وصف « قرآن » بها في قوله : { آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } [ الحجر : 1 ] - الحجر - ووصف بها « كتاب » كما في هذه الآية الكريمة . والذي يقال إنه نكر هنا لإفادة التفخيم ، كقوله : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } [ القمر : 55 ] .
وقرأ ابن أبي عبلة : « وكِتَابٌ مُبِينٌ » برفعها عطفاً على « آيَاتٌ » المخبر بها عن « تِلْكَ » .
فإن قيل : كيف صَحَّ أن يشار لاثنين أحدهما مؤنث ، والآخر مذكر باسم إشارة المؤنث . ، ولو قلت : تلك هند وزيد لم يجز؟
فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : ( أن المراد بالكتاب ) هو الآيات ، لأن الكتاب عبارة عن آيات مجموعة ، فلما كانا شيئاً واحداً ، صحت الإشارة إليهما بإشارة الواحد المؤنث .
الثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : وآيات كتاب مبين .
الثالث : أنه لما ولي المؤنث ما يصح الإشارة به إليه ، اكتفى به وحسن ، ولو أولي المذكر لم يحسن ، ألا تراك تقول : جاءتني هند وزيد ، ولو حذفت ( هند ) أو أخّرتها لم يجز تأنيث الفعل .
قوله : « هُدًى وبُشْرَى » يجوز فيهما أوجه :
أحدها : أن يكونا منصوبين على المصدر بفعل مقدر من لفظهما ، أي : يهدي هدى ، ويبشر بشرى .
الثاني : أن يكونا في موضع الحال من « آيَات » والعامل فيها ما في « تِلْكَ » من معنى الإشارة .
الثالث : أن يكونا في موضع الحال من « القُرْآن » وفيه ضعف ، ومن حيث كونه مضافاً إليه .
الرابع : أن يكونا حالاً من « كِتَاب » ، في قراءة من رفعه ، يوضعف في قراءة من جره ، لما تقدم من كونه في حكم المضاف إليه ، لعطفه عليه .
الخامس : أنَّهما حالان من الضمير المستتر في « مبين » سواء رفعته ( أم جررته ) .
السادس : أن يكونا بدلين من « آيَاتُ » .
السابع : أن يكونا خبراً بعد خبر .
الثامن : أن يكونا خبري ابتداء مضمر ، أي : ( هي ) هُدًى وبُشْرَى للمؤمنين .
فصل
المراد يهديهم إلى الجنة وبشرى لهمن كقوله تعالى : ( { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ ) مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [ النساء : 175 ] ، ولهذا خص به المؤمنين ، وقيل : إنما تكون للمؤمنين أو لأنهم تمسكوا به ، كقوله :

{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] ، أو أنه يزيد في هداهم ، كقوله تعالى : { وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى } [ مريم : 76 ] .
قوله : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة } يجوز أن يكون مجرور المحل ، نعتاً للمؤمنين ، أو بدلاً أو بياناً ، أو منصوبة عل المدح ، أو مرفوعة على تقدير مبتدأ ، أي : هم الذين ، والمراد بها : الصلوات الخمس ، وكذا القول في الزكاة ، فإنها هي الواجبة ، لأن التعريف بالألف واللام يقتضى ذلك . وإقامة الصلاة أن يؤديها بشرائطها ، والزكاة بوضعها في مواضعها .
قوله : { وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } « هم » الثاني تكرير للأول على سبيل التوكيد اللفظي ، وفهم الزمخشري منه الحصر ، أي : لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء ، المتصفون بهذه الصفات . ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية ، وكرر فيها المبتدأ الذي هو « هم » حتى صار معناها : وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق .
و « بالآخِرَةِ » متعلق ب « يوقنون » ، ولا يضر الفصل بينهما بالتوكيد .
وهذه الجملة يحتمل أن تكون معطوفة على اصلة ، داخلة في حيز الموصول ، وحينئذ يكون قد غاير بين الصِّلأَتين لمعنى ، وهو أنه لما كان إقامة الصلاة ، وإيتاه الزكاة مما يتكرَّر ويتجدَّد بالصتين جملة فعلية ، فقال : « يُقِيمُونَ » ، وَ « يُؤْتُونَ » .
ولما كان الإيقان بالآخرة أمراً ثابتاً مطلوباً دوامه ، أتى بالصلة جملة اسمية ، مكرراً فيها المسند إليه ، مقدماً الموقن به ، الدال على الاختصاص ، ليدل على الثبات والاستقرار ، وجاء بخبر المبتدأ في هذه الجملة فعلاً مضارعاً ، دلالة على أن ذلك متجدد كل وقت ، غير منقطع . ويحتمل أن تكون مستأنفة غير داخلة في حيز الموصول . قال الزمخشري : ويحتمل أن تتم الصلة عنده ، أي : عند قوله : « وَهُمْ » ، قال : وتكون الجملة اعتراضية .
يريد أن الصلة تمت عند الزكاة ، فيجوز فيه ذلك ، وإلا فكيف يصح - إذا أخذنا بظاهر كلامه - أن الصلة تمت عند قوله : « وَهُمْ » وتسمية هذا اعتراضاً : يعني من حيث المعنى وسياق الكلام ، وإلا فالاعتراض في الاصطلاح : إنما يكون بين متلازمين من مبتدأ أو خبر ، وشرط وجزاء ، وقسم وجوابه ، وتابع ومتبوع ، وصلة وموصول ، وليس هنا شيء من ذلك .
فإن قيل : إن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لا بد وأن يكونوا متيقنين بالآخرة ، فما وجه ذكره مرة أخرى؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن الذي يستفاد منه طرق للنجاة هو معرفة المبدأ ، ومعفرة المعاد ، والعمل الصالح ، وأشرفه الطاعة بالنفس والطاعة بالمال ، فقوله : « لِلْمُؤْمِنِينَ » ، أي الذين يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وهو إشارة إلى معرفة المبدأ ، وقوله : ( { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة } ، إشارة إلى الطاعة بالنفس والمال ، وقوله : { وَهُم ) بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } إشارة إلى علم المعاد ، فكأنه تعالى جعل معرفة المبدأ طرفاً أولاً ، ومعرفة المعاد طرفاً أخيراً ، وجعل الطاعة بالنفس والمال متوسطاً بينهما .
الثاثني : أن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة منهم من هو جازم بالحشر والنشر ، ومنهم من يكون شاكاً فيه ، إلا أنه يأتي بهذه الطاعة احتياطاً ، فيقول : إن كنت مصيباً فيها فقد فزت بالسعادة ، وإن كنت مخطئاً فيها لم يفتني إلا خيرات قليلة في بالقرآن ، ( وما من كان جازماً بالآخرة كان مهدياً به ) . فلهذا ذكر هذا القيد .

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)

قوله : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } الآية .
لما بيّن ما للمؤمنين من البشرى أتبعه بما للكفار من سوء العذاب ، فقال : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } القبيحة ، حتى رأوها حسنة ، « فهم يعمهون » يترددون فيها متحيرين . فإن قيل : كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته مع أنه أسنده إلى الشيطان في قوله { زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } [ الأنفال : 48 ] ؟ .
فالجواب : أما أهل السنة فأجروا الآية على ظاهرها ، لأن الإنسان لا يفعل شيئاً ألبتة إلا إذا دعاه الداعي إلى الفعل والمعقول من الداعي هو العلم والاعتقاد ، أو الظن بكون الفعل مشتملاً على منفعة ، وهذا الداعي لا بد وأن يكون من فعل الله تعالى لوجهين :
الأول : أنه لو كان لافتقر فيه إلى داع آخر ، ولزم التسلسل ، وهو محال .
الثاني : أن العلم إما أن يكون ضرورياً ، أو كسبياً ، فإن كان ضرورياً فلا بد من تصورين والتصور يمتنع أن يكون مكتسباً ، لأن المكتسب إن كان شاعراً به ، فهو متصور له ، وتحصيل الحاصل محال ، وإن لم يكن متصوراً ، كان غافلاً عنه ، والغافل عن الشيء يمتنع أن يكون طالباً له . فإن قيل : هو مشعور به من وجه ، قلنا : فالمشعور به غير ما هو غير مشعور به ، فيعود التقسم المتقدم في كل واحد من هذين الوجهين .
وإذا ثبت أن التصور غير مكتسب ألبتة ، والعلم الضروري هو الذي يكون مكتسباً ، فإن كل واحد من تصوُّريه كاف في حصول التصديق ، فالتصورات غير مكتسبة فهي مستلزمة التصديقات ، فإذن متى حصلت التصورات البديهية ، كان التصديق بها بديهياً فهي مستلزمة التصديقات ، فإذن متى حصلت التصورات البديهية ، كان التصديق بها بديهياً وليس كسبياً . ثم إن التصديقات البديهية إن كانت مستلزمة التصديقات النظرية ، كانت كسبية ، لأن لازم الضروري ضروري ، وإن لم تكن مستلزمة لها لم تكن تلك الأشياء التي فرضناها علوماً نظرية كذلك ، بل هي اعتقادات تقليدية ، لأنه لا معنى لاعتقاد المقلد إلا اعتقاد تحسيني بفعله ابتداء من غير أن يكون له موجب ، فثبت بهذا أن العلوم بأسرها ضرورية ، وثبت أن مبادىء الأفعال هي العلوم ، وأفعال العباد بأسرها ضرورية فالإنسان مضطر في صورة مختار ، فثبت أن الله تعالى هو الذي ( زين لكل عامل عمله ، والمراد من التزيين هو الذي ) المضار والآفات ، فثبت بهذه الدلائل العقلية القاطعة وجوب إجراء هذه الآية على ظاهرها . وأما المعتزلة فتأولوها بوجوه :
أحدها : أن المراد بينا لهم أمر الدين ، وما يلزمهم أن يتمسكوا به ، وزيناه بأن بينا حسنه وما لهم فيه من الثواب ، لأن التزيين من الله للعمل ليس إلا وصفه بأنه حسن واجب وحميد العاقبة ، وهو المراد من قوله : { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ }

[ الحجرات : 7 ] .
وقوله : « فَهُمْ يَعْمَهُونَ » يدل على ذلك ، إذ المراد : فهم يعدلون ويتخيرون عما زينا من أعمالهم .
وثانيها : أنه تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق ، جعلوا إنعام الله عليها بذلك ذريعة إلى اتباع شهواتهم ، وعدم الانقياد لما يلزمهم من التكاليف ، فكأنه تعالى زين بذلك أعمالهم ، ولذلك أشارت الملائكة عيلهم السلام بقولهم : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ } [ الفرقان : 18 ] { وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ } [ الفرقان : 18 ] { الذكر } [ الفرقان : 18 ] .
وثالثها : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين ، فأسند إليه .
والجواب عن الأول : أن قوله تعالى : { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } صيغة عموم ، فوجب أن يكون الله تعالى قد زين لهم كل أعمالهم حسناً أو قبيحاً .
وعن الثاني : أن الله تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق فهل لهذه الأمور في ترجيح فاعلية المعصية على تركها أثر ، وليس لها أُر ، وليس لها أثر فيه ، فإن كان الأول فقد دللنا على أن التحصيل متى حصل فلا بد أن ينتهي إلى حد الوجودب والاستلزام وحينئذ يحصل الغرض - وإن لم يكن له فيه أُر - صارت هذه الأشياء بالنسبة إلى أعمالهم كصرير الباب ونعيق الغراب ، بالنسبة إلى أعمالهم ، وذلك يمنع من إسناد فعلهم إليها ، وهذا بعينه هو الجواب عن التأويل الثالث الذي ذكروه .
قوله : { أولئك الذين لَهُمْ سواء العذاب } أي : القتل والأسير يوم بدر ، وقيل : المراد مطلق العذاب ، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة ، وسوء العذاب : شدته .
قوله : « الأَخْسَرُونَ » في ( أَفَعَلَ ) قولان : أظهرهما : أنها على بابها من التفضيل ، وذلك بالنسبة إلى الكفار ، من حيث اختلاف الزمان والمكان ، يعني : أنهم أكثر خسراناً في الآخرة منهم في الدنيا ، أي أن خسرانهم في الآخرة أكثر من خسرانهم في الدنيا .
وقال جماعة - منهم الكرماني - هي هنا للمبالغة لا للشَّركة ، لأن المؤمن لا يخسران له في الآخرة ألبتة ، وقد تقدم جواب ذلك ، وهو أن الخسران راجع إلى شيء واحد ، باعتبار اختلاف زمانه ومكانه . وقال ابن عطية : « الأَخْسَرُونَ » جمع ( « أَخْسَرَ » ، لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف ، فتقوى رتبته في الأسماء ، وفي هذا نظر . قال أبوحيان : ولا نظر في أنه يجمع جمع سلامة أو جمع تكسير إذا كان ب ( ال ) ، بل لا يجوز فيه إلا ذلك إذا كان قبله ما يطابقه في الجمعية ، فيقول : الزيدون هم الأفضلون والأفاضل ، والهندات هنّ الفضليات والفضل ، وأما قوله : لا يجمع إلا أن يضاف ) فلا يتعين إذ ذاك جمعه ، بل إذا أضيف إلى نكرة فلا يجوز جمعه ، وإن أضيف إلى معرفة جاز فيه الجمع والإفراد .

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

قوله : « وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى » : ( لقي ) مخفَّفاً يتعدى لواحد ، وبالتضعيف يتعدى لاثنين ، فأقيم أولهما هنا مقام الفاعل ، والثاني « القرآن » ، وقول من قال : إنَّ أصله ( تُلَقَّن ) بالنون تفسير معنى ، فلا يتعلّق به متعلق بأن النون أبدلت حرف عِلَّة .
فصل
المعنى لتؤتاه وتلقنه من عند أي حكيم وأي عليم ، وهذا معنى مجيئهما منكرتين ، وهذه الآية تمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من القصص كأنه قال على أثر ذلك : خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى ، فإن قيل : الحكمة إما أن تكون نفس العلم ، وإما أن يكون العلم داخلاً فيها ، فبعد ذكر الحكمة لم ذكر العلم؟
فالجواب : أن الحكمة هي العلم بالأمور العملية فقط ، والعلم أعم منه؛ لأن العلم قد يكون عملياً وقد يكون نظرياً ، والعلوم النظرية أشرف من العلوم العملية ، فذكر الحكمة على العموم ثم ذكر العليم وهو البالغ في كمال العلم ، وكمال العلم من جهات ثلاثة : وحدتها ، وعمون تعلقها بكل المعلومات ، وبقاؤها مصونة عن كل التغيرات وما حصلت هذه الكمالات الثلاثة إلا في علمه ( سبحانه ) .
قوله تعالى : { إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ . . . } الآيات ، يجوز أن يكون « إذْ » منصوباً بإضمار اذكر ، أو ( يعلم ) مقدر مدلولا عليه ب « عليم » ، ( أو ب « عليم » ) وفيه ضعف لتقيد الصفة بهذا الظرف .
فصل
{ إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ } في مسيره من مدين إلى مصر ، قيل : إنه لم يكن مع موسى - عليه السلام - غير امرأته ابنة شعيب - عليه السلام - ، وقد كنى الله عنها بالأهل ، فتبع لك ورود الخطاب بلفظ الجمع ، وهو قوله : { امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً } [ طه : 10 ] : أبصرت ناراً ، وذلك أنهما كانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما ، والوقت وقت برد ، وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار لما يرجى فيها من زوال الحيرة في أمر الطريق ، ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء ، فلذلك بشرها فقال : { إني آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } والخبر : ما يخبر به عن حال الطريق؛ لأنه كان قد ضله . ثم في كلام حذف ، وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها ، وقال : سآتيكم منها بخبر يعرف به الطريق .
قوله : { أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ } قرأ الكوفيون بتنوين « شِهَاب » ، على أن « قَبَس » بدل من « شِهَابٍ » أو صفة له ، لأنه بمعنى مقبوس ، كالقبض والنفض ، والباقون بالإضافة على البيان ، لأنَّ الشِّهاب يكون قبساً وغيره .
والشِّهَابُ : الشُّعلة ، والقَبَسُ : القطعة منها يكون في عودٍ وغير عود . و « أو » : على بابها من التنويع ، والطاء في « تَصْطَلُونَ » : يدل من تاء الافتعال ، لأنه من صَلِيَ بالنار .

فإن قيل : قال هاهنا : { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } ، وفي موضع آخر ، { لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ } [ القصص : 29 ] وهما كالمتدافعين ، لأن أحدهما تَرَجٍّ والآخر تيقن .
فالجواب : قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه : سأفعل كذا ، وسيكون كذا ، مع تجويزه الخيبة . فإن قيل : كيف جاء بسين التسويف؟
فالجواب : عدة لأهله أنه يأتيهم به ، وإن أبطأ ، أو كانت المسافة بعيدة ، وأدخل « أو » بين الأمرين المقصودين ، يعني الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين ، ظفر بأحدهما ، إما هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ، ثقة منه بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده . « لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ » تستدفئون من البرد .
قوله : « نُودِي » في القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضمير موسى ، وهو الظاهر ، وفي « أن » حينئذ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها المفسرة ، لتقدم ماهو بمعنى القول .
والثاني : أنها الناصبة للمضارع ، ولكن وصلت هنا بالماضي ، وتقدم تحقيق ذلك ، وذلك على إسقاط الخافض ، أي : نودي موسى بأن بورك .
الثالث : إنها المخففة ، واسمها ضمير الشأن ، و « بورك » خبرها ، ولم يحتج هنا إلى فاصل ، لأنه دعاء ، وقد تقدم نحوه في النور ، في قوله : { أَنَّ غَضَبَ } [ النور : 9 ] - في قراءته فعلاً ماضياً - قال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، اولتقدير : بأنه بورك ، والشمير ضمير الشأن والقصة؟
قلت : لا؛ لأنَّه لا بدَّ من ( قَدْ ) ، فإن قلت : فعلى إضمارها؟
قلت : لا يصحّن لأنها علامة ، والعلامة لا تحذف انتهى .
فمنع أن تكون مخففة لما ذكر ، وهذا بناء منه على أنَّ « بُورِكَ » خبر لا دعاء ، أما إذا قلنا إنه دعاءكما تقدم في النور فلا حاجة إلى ( الفاصل كما تقدم ، وقد تقدم فيه استشكال ، وهو الطلب أن لا يقع خبراً في هذا الباب ، فكيف وقع هذا خبراً ل ( أن ) المخففة ، وهو دعاء .
الثاني من الأوجة الأول : انَّ القائم مقام ) الفاعل نفس « أَنْ بُورِكَ » على حذف حرف الجرّ ، أي : بأن بورك ، ف ( أَنْ ) حينئذ إمّا ناصبة في الأصل ، وإمّا مخففة .
الثالث : أنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل ، أي : نودي النِّداء ، ثم فسِّر بما بعده ومثله { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ } [ يوسف : 35 ] .
قوله : { مَنْ فِي النَّارِ } مَنْ قَائمٌ مقام الفاعل ل « بُورِكَ » ، وبَارَكَ يتعدى بنفسه ، ولذلك بُنِيَ للمفعول ، يقال : بَارَكك اللَّهُ ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ ، وبَارَكَ فِيكَ ، وَبَارَكَ لَكَ ، وقال الشاعر :
3930 - فَبُورِكْتَ مَولُوداً وبُورِكْتَ نَاشِئاً ... وبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيبِ إذْ أَنْتَ أَشْيَبُ
وقال عبد الله بن الزبير :
3931 - فبُرك في بَنِيكَ وفي بَنِيهِمْ ... إذا ذُكِرُوا ونَحْنُ لَكَ الفِدَاءُ
وقال آخر :
3932 - فَبُورِكَ في المَيتِ الغَرِيبِ كَمَا ... بُورِكَ نبع الرُّمَّانِ والزَّيْتُون

فصل
والمراد ب « مَنْ » إما الباري تعالى ، وهو على حذف مضاف ، أي من قدرته وسلطانه في النار ، وقيل المراد به موسى والملائكة ، وكذلك ب « مَنْ حَوْلَهَا » ، وقيل المراد ب « مَنْ » غير العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها ، فالأول من مروي عن ابن عباس ، وروى مجاهد عنه أنه قال : معناه بوركت النار . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أيضاً ، قال : سمعت أبيّاً يقرأ : { أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا } و « مَنْ » : قد تأتي بمعنى ( ما ) كقوله : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ } [ النور : 45 ] ، و ( مَا ) قد تكون صلة في الكلام ، كقوله : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ } [ ص : 11 ] ، ومعناه : بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وفيمَنْ حَوْلَهَا وهم الملائكة وموسى عليهم السلام ، وقال الزمخشري : { بُورِكَ مَن فِي النار } : بورك من في مكان النار ومن حولها : مكانها ، ومكانها : هي البقعة التي حصلت فيها ، وهي البقة المذكورة في قوله تعالى : { مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة } [ القصص : 30 ] وتدل عليه قراءة أبيّ .
قوله : « وَسُبْحَانَ اللَّهِ » فيه أوجه :
أحدها : أنه من تتمّة النداء : أي : نودي بالبركة وتنزيه ربِّ العزَّة ، أي : نودي بمجموع الأمرين .
الثاني : أنه من كلام الله تعالى مخاطباً لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو على هذا اعتراض بين أثناء القصة .
الثالث : أنّ معناه وبُورِكَ من سَبَّحَ اللَّهَ ، يعني أنه حذف ( مَنْ ) وصلتها ، وأبقى معمول الصلة ، إذ التقدير : بُورِكَ مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ، ومن قال : سُبْحَانَ اللَّهِ و « سُبْحَانَ » في الحقيقة ليس معمولاً لقال ، بل لفعل من لفظه ، وذلك الفعل هو المنصوب بالقول .
فصل
روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن في قوله : { بُورِكَ مَن فِي النار } يعني : قُدِّس من في النار ، وهو الله ، عنى به نفسه على معنى : أنه نادى موسى منها ، وأسمعه كلامه من جهتها ، كما روي أنه مكتوب في التوراة : « جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فران » ، فمجيئه من سيناء بعثته موسى منها ، ومن ساعير بعثته المسيح ، ومن جبال فاران بعثته المصطفى منها ، وفاران : مكة . وهل كان ذلك نوره عز وجل؟
قال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها ، والنار إحدى حجب الله تعال ، كما جاء في الحديث : « حجابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انتهى إليه بَصَرُهُ من خلقه » والسبب الذي لأجله بوركت البقعة ، وبورك من فيها وحواليها : حدوث هذا الأمر العظيم فيها ، وهو تكليم موسى وجعله رسولاً ، وإظهار المعجزات عليه ، ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأنبياء : 7 ] وحقت أن تكون كذلك ، فهي مبعث الأنبياء عليهم السلام ومهبط الوحي ، وكفاتهم أحياء وأمواتاً .

ولما نزه نفسه ، - وهو المنزه من كل سوء وعيب - تعرف إلى موسى بصفاته في قوله : { ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم } . في اسم « إنَّ » وجهان : أظهرهما أنَّه ضمير الشأن ( « وَأَنَّا اللَّهُ » مبتدأ ) وخبره ، و « العزيز الحَكِيمُ » صفتان لله .
والثاني : أنه ضمير راجع إلى دلَّ عليه ما قبله ، يعني : إن مكلِّمك أنا ، و « الله » بيان ل « أَنَا » ، و « العَزِيزُ الحَكِيمُ » : صفتان للبيان قاله الزمخشري . قال أبو حيان ، وإذا حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فلا يجوز أن يعود الضمير على ذلك المحذوف : إذ قد غيِّر الفعل عن بنائه له وعزم على أن لا يكون محدِّثاً عنه ، فعود الضمير إليه ممَّا ينافي ذلك؛ إذ يصير معتنًى به . قال شهاب الدين : وفيه نظر ، لأنه قد يلتفت إليه ، وقد تقدم ذلك في البقرة عند قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } [ البقرة : 178 ] ، ثم قال : « وَأَدَاءٌ إلَيْهِ » ، قيل : إلا الذي عفي له وهو وليُّ الدم ما تقدم تحريره ولئن سلِّم ذلك ، فالزمخشري لم يقل إنه عائد على ذلك الفاعل ، إنما قالك راجع إلى ما دل عليه ما قبله يعني من ( السِّياق ) .
وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون ضمير ربِّ : أي : إن الرب أنا الله ، فيكون « أنَا » فصلاً أو توكيداً أو خبر إن ، والله بدل منه . وقيل : الهاء في قوله « إنَّهُ » عماد ، وليست كناية ، فإن قيل : هذا النداء قد يجوز أن يكون من عند غير الله ، فكيف علم موسى أنه من الله؟
فالجواب : لأهل السنة فيه طريقان : الأول : أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة كلام المخلوقين ، فعلم بالضرورة أنه صفة الله .
الثاني : قول أئمة ما وراء النهر ، وهو أنه - عليه السلام - سمع الصوت من الشجرة ، فنقول : إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور :
أحدها : أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة ، علم أنه من قبل الله تعالى : لأن أحداً منا لا يقدر عليه ، وهذا ضعيف ، لاحتمال أن الشيطان دخل في النار والشجرة ، ثم نادى .
والثاني : يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً ، وهو أيضاً ضعيف ، لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين ، فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم .
وثالثها : أنه قد يقترن به معجز دل على ذلك ، وقيل : إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق ، فصار ذلك لكالمعجزة وهذا أيضاً في غاية الضعف والبعد ، لأنه كيف تنادي النار أو الشجرة ، وتقول : يا موسى إني أنا ربك ، أو إني أنا الله رب العالمين!!

وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

قوله : { وَأَلْقِ } عطف على ما قبله من الجملة الاسمية الخبرية ، وقد تقدم أن سيبويه لا يشترط تناسب الجمل ، وأنه يجيز : جاء زيدٌ ومن أبوك ، وتقدمت أدلته أول البقرة .
وقال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف قوله : « وَأَلْقِ عَصَاكَ » ؟ قلت : على قوله : « بُورِكَ » لأن معنى : نودي أن بورك ، وقيل له : ألق عصاك ، والدليل على ذلك قوله : { وأن ألق عصاك } ، بعد قوله : أن يا موسى إني أنا الله على تكرير حرف التفسير ، كما يقول : كتبت إليه أن حجَّ واعتمر ، وإن شئت ، أن حجَّ وأن اعتمر . قال أبو حيان : وقوله إنه معطوف على « بُورِكَ » مُنَافٍ لتقديره ، وقيل له : ألق عصاك ، لأن هذه جملة معطوفة على « بُورِكَ » وليس جزؤها الذي هو معمول ، وقيل : معطوفاً على « بُرِكَ » ، وإنما احتاج إلى تقدير : وقيل له : ألق ، ليكون جملة خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها ، كأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة . والصحيح أنه لا يشترط ذلك ، ثم ذكر مذهب سيبويه .
{ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } ، وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها ، سميت جانّاً ، لأنها تستر عن الناس . وقرأ الحسن ، والزهري ، وعمرو بن عبيد « جَأنٌّ » بهمزة مكان الألف ، وقد تقدم تقرير هذا عند { وَلاَ الضآلين } [ الفاتحة : 7 ] على لغة من يهرب من التقاء الساكنين ، فيقول شأبَّة ودأبَّة . « وَلَّي مُدْبِراً » هرب من الخوف ، و « وَلَمْ يُعَقِّبْ » : لم يرجع ، يقال : عقب فلان : إذا رجع ، وكل راجع معقب .
وقال قتادة : ولم يلتفت ، فقال الله : { ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون } ، يريد : إذا أمَّنتهم لا يخافون ، وقيل : المراد إذا أرمتهم بإظهار معجز أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك ، وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة ، لأن الخوف الذي هو شرط الإيمان لا يفارقهم ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « أنا أخاشكم لله »
قوله : « تَهْتَزُّ » جملة حالية من ( هاء ) « رآها » ، لأن الرؤية بصريَّة ، وقوله : « كَأنَّهَا جَانٌّ » : يجوز أن تكون حالاً ثانية ، وأن تكون حالاً من ضمير « تَهْتَزُّ » ، فيكون حالاً متداخلة ، وقوله : « وَلَمْ يُعَقّبْ » يجوز أن يكون عطفاً على « وَلَّى » ، وأن يكون حالاً أخرى ، والمعنى : ولم يرجع على عقبه ، كقوله :
3933 - فَمَا عَقَّبُوا إذْ قِيلَ هَلْ مِنْ مُعَقِّب ... وَلاَ نَزلُوا يَومَ الكَرِيهَةِ مَنْزِلا
قوله : { إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه استثناء منقطع ، لأنَّ المرسلين معصومون من المعاصي ، وهذا هو الظاهر الصحيح ، والمعنى : لكن من ظلم من سائر الناس ، فإنه يخاف فإنه تاب وبدل حسناً بعد سوء فإنِّي غفورٌ رحيمٌ .

والثاني : أنَّه متصلٌ ، وللمفسرين فيه عبارات ، قال الحسن : إنَّ موسى ظلم بقتل القبطي ، ثم تاب فقال : { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي } [ القصص : 22 ] .
وقال ابن جريح : قال الله لموسى : أخفتك لقتلك النفس ، وقال : معنى الآية : لا يخيف الله الأنبياء إلاّ بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يتوب .
وقيل : محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل . وقال بعض النحويين : « إلا » هاهنا بمعنى ولا ، يعني : لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون ، كقوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } [ البقرة : 150 ] . يعني ولا الذين ظلموا . وعن الفراء أنه متصل ، لكن من جملة محذوفة تقديره : وإنما يخاف غيرهم إلاَّ من ظلم .
وردَّه النحاس : بأنه لو جاز هذا لجاز : لا أضربُ القوم إلاَّ زيداً أي : وإنما أضرب غيرهم إلا زيداً ، وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه .
وقدره الزمخشري ب « لكن » ، وهي علامة على أنه منقطع - وذكر كلاماً طويلاً - فعلى الانقطاع يكون منصوباً فقط على لغة الحجاز ، وعلى لغة تميم يجوز فيه النصب والرفع على البدل من الفاعل قبله ، وأما على الاتصال : فيجوز فيه الوجهان على اللغتين ، ويكون الاختيار البدل ، لأن الكلام غير موجب .
وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم « أَلاَ » بفتح الهمزة وتخفيف اللام - جعلاها حرف تنبيه - و « مَنْ » شرطية ، وجوابها : « فَإِنِّي غَفُورٌ » والعامة على تنوين « حُسْناً » ، ومحمد بن عيسى الأصبهاني غير منوّن ، جعله فعلى مصدراً كرجعى ، فمنعها الصَّرف لألف التأنيث ، وابن مقسم بضم الحاء والسين منوناً ، ومجاهد وأبو حيوة ورويت عن أبي عمرو بفتحهما ، وتقدم تحقيق القراءتين في البقرة .
قوله : « تَخْرُجْ » الظاهر أنه جواب لقوله « أَدْخِلْ » أي : إن أدْخلْتها تَخْرُجُ على هذه الصفة ، وقيل : في الكلام حذفٌ تقديره : وادْخِلْ يَدَكَ تَدْخُل ، وأخرجها تخرج ، فحذف من الثاني ما أثبته في الأول ، ومن الأول ما أثبته في الثاني ، وهذا تقدير ما لا حاجة إليه .
قوله : « بَيْضَاء » حال من فاعل « تَخْرُجْ » ، و « مِنْ غَيْرِ سُوءٍ » يجوز أن يكون حالاً أخرى أو من الضمير في « بَيْضَاءَ » ، أو صفة ل « بَيْضَاءَ » والمراد بالجيب : جيب القميص ، قال المفسرون كانت عليه مدرعة من صوف لا كم لها ولا إزار ، فأدخل يده في جيبه وأخرجها ، فإذا هي تبرق مثل البرق . قوله : « في تِسْعِ » فيه أوجه :
أحدها : أنه حال ثالثة ، قاله أبو البقاء يني من فاعل « تخرج » ، أي آية في تسع آيات ، كذا قدره .

الثاني : أنه متعلق بمحذوف ، أي : اذهب في تسع آياتٍ ، وقد تقدم اختيار الزمخشري كذلك عند ذكر البسملة ، ونظره بقوله الآخر :
3934 - فَقُلْتُ إلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ ... وقولهم : بالرَّفاء والبنين وجعل هذا التقدير أقرب وأحسن .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : وألْقِ عَصَاكَ وَأَدْخِلْ يَدَكَ في تِسْع آيَاتٍ ، أي : في جملة تسع آياتٍ . ولقائل أن يقول : كانت الآيات إحدى عشرة منها اثنتان اليد والعصا ، والتِّسع الفَلْقُ ، والطُّوفان ، والجراد ، والقُمَّل ، والضَّفادع ، والدَّم ، والطَّمسة ، والجدب في بواديهم ، والنقصان من مزارعهم انتهى .
وعلى هذا تكون ( في ) بمعنى ( مَعَ ) أي : هذه آية مع تسع آيات أنت مرسل بهن إلى فرعون وقومه ، لأن اليد والعصا حينئذ خارجتان من التسع ، وكذا قال ابن عطية ، أعني أنه جعل « فِي تِسْعِ » متصلاً ب « أَلْقِ » و « أَدْخِلْ » ، إلا أنه جعل اليد والعصا من جملة التسع ، وقال : تقديره : تُمَهِّدُ لك ذلك وتيسِّر في تسع ، وجعل في الزجاج ( في ) بمعنى ( من ) ، قال كما تقول : خذ لي من الإبل عشراً فيها فحلان ، أي منها فحلان .
قوله : « إلَى فِرْعَونَ » هذا يتعلق بما تعلق به « فِي تِسْع » إذا لم نجعله حالاً ، فإن جعلناه حالاً علقناه بمحذوف ، فقدّره أبو البقاء مرسلاً إلى فرعون . وفيه نظر ، لأنه كونٌ مقيَّدٌ ، وسبقه إلى هذا التقدير الزجاج ، وكأنهما أرادا تفسير المعنى دون الإعراب .
وجوَّز أبو البقاء أيضاً أن تكن صفة ل « آيَاتٍ » ، وقدَّره : واصلةً إلى فرعون ، وفيه ما تقدم .
قوله : « مُبْصِرَةً » حال ، ونسب الإبصار إليها مجازاً ، لأن بها يبصر ، وقيل : بل هي من أبصر المنقولة بالهمزة من بصر ، أي : أنها تبصر غيرها لما فيها من الظهور ، ولكنه مجاز آخر غير الأول ، وقيل : هو بمعنى مفعول ، نحو « مَاءٌ دَافِقٌ » أي : مدفوق .
وقرأ عليّ بن الحسين وقتادة بفتح الميم والصاد ، أي : على وزن أرض مسبعةٌ ، ذات سباعٍ ، ونصبها على الحال أيضاً ، وجعلها أبو البقاء في هذه القراءة مفعولاً من أجله ، وقد تقدم ذلك . ومعنى « مُبْصِرَةً » : بينة واضحة .
{ قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } ظاهر .
قوله : « وَجَحَدُوا بِهَا » أي : أنكروا الآيات ، ولم يقروا أنها من عند الله .
قوله : « وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ » يجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها ، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل « جَحدُوا » ، وهو أبلغ في الذم ، واستفعل هنا بمعنى « تَفَعَّلَ » ، نحو : استعظم واستكبر ، والمعنى : أنهم علموا أنها من عند الله ، وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوا بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم ، والاستيقان أبلغ من الإيقان .
قوله : « ظُلْماً وَعُلُواً » يجوز أن يكونا في موضع الحال ، أي : ظالمين عالين ، وأن يكونا مفعولاً من أجلهما ، أي : الحامل على ذلك الظلم والعلو .

وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة : « وَعِليّاً » بكسر العين واللام وقلب الواو ياء ، وتقدم تحقيقه في « عِتِيّاً » في مريم ، وروي عن الأعمش وابن وثاب ضم العين كما في « عِتيّاً » .
وقرىء : « وَغُلُوّاً » بالغين المعجمة ، وهو قريب من هذا المعنى ، وأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات بينة من عند الله ثم كابر بتسميتها سحراً بيناً؟
والعلو : الترفع عن الإيمان ، والشرك وعدم الإيمان بما جاء به موسى ، كقوله : { فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ } [ المؤمنون : 46 ] .
{ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } . قوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } « كَيْفَ » خر مقدم ، و « عَاقِبَةُ » اسمها ، والجملة في محل نصب على إسقاط الخافض لأنها معلقة ل « انْظُرْ » بمعنى تَفَكَّرْ .

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } الآية . . والمراد بالعلم أي : علم القضاء ومنطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ، والمعنى : طائفة من العلم ، او علماً سنياً عزيزاً .
قوله : « وَقَالاَ » ، قال الزمخشري : فإن قلت : أليس هذا موضع الفاء دون الواو ، كقولك : أعطيته فشكر ، ومنعته فصبر؟ قلت : بلى ، ولكن عطفه بالواو إشعار بأنَّ ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيءٌ من مواجبه ، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد ، قال : ولقد آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفاه حقَّ معرفته ، وقالا الحمد لله ، انتهى .
وإنَّما نكر « عِلْما » تعظيماً له ، أي علماً سنياً ، أو دلالة على التبعيض ، لأنه قليل جداً بالنسبة إلى علمه تعالى .
فصل
المعنى : { وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا } بالنبوة والكتاب وتسخير الشياطين ، والجن والإنس { على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } ، ولم يفضلوا أنفسهم على الكل ، وذلك يدل على حسن التواضع . قوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ، قال الحسن : المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث ، وقال غيره : بل النبوة والعلم والملك دون سائر أولاده ، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال لا يورث من الأنبياء ، لقوله عليه السلام : « نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُورَث مَا تَرَكْنَاهُ صدقة » ، وأيضاً فإن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى ، ولذلك يرثه الولد إذا كان مؤمناً ، ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً ، ولا كذلك النبوة ، لأن الموتا لا يكون سبباً لنبوة الولد ، وكان لداود تسعة عشر ابناً ، واعطي سليمان ما أعطي داود من الملك ، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين ، قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبداً من سليطان ، وكان سليمان شاكراً لنعم الله .
{ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير } ، يعني صوته ، سمي صوت الطير منطقاً ، لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس ، روي عن كعب قال : صاح ورشان عند سليمان عليه السلام ، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا ، قال : إنه يقول : لدوا للموت ، وابنوا للخراب ، وصاحت فاختة ، فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا لا ، قال فإنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح الطاووس فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : كما تدين تدان ، قال : وصاح هدهد ، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، وصاحت طيطوى ، فقال أتدرون ما تقول؟ قالوا لا ، قال فإنه يقول : كل حي ميت ، وكل جديد بال وصاح خطاف ، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا ، قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ( ملء سمائة وأ { ضه ، وصاح قمري ، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : سبحان ربي الأعلى ) ، قال : والغراب يدعو على العشَّار ، والحدأة تقول :

{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببعاء : ويلٌ لِمَنِ الدُّنْيَا هَمُّهُ ، والضفدع يقول : سبحان ربِّي القدُّوس ، والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده . وعن مكحول قال : صاح دُرَّاج عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا لا ، قال : فإنه يقول : { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] .
قوله : { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } تؤتى الأنبياء والملوك ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا والآخرة . وقال مقاتل : يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والريح { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } ، والمراد بقوله : { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } كثرة ما أوتي ، لأن كثرة المشاركة سبب لجواز الاستعارة ، فلا جرم يطلق لفظ الكلم على الكثرة ، كقوله { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] وقوله : { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } ، أي : الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا ، روي أن سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة ( سنة ) وستة أشهر ، ملك جميع أهل الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع ، وأعطي على ذلك منطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة .
فقوله : { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } تقرير لقوله : { الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا } والمقصود منه : الشكر والمحمدة ، كما قال عليه السلام : « أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ »
فإن قيل : كيف قال « عُلِّمنا » و « أُوتِينَا » ، وهو كلام المتكبر؟ فالجواب من وجهين ، الأول : أن يريد نفسه وأباه .
والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع ، وكان ملكاً مطاعاً .
قوله : « وَحُشرَ لسُلَيْمَانَ » : وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسير له ، فقوله : « مِن الجَنّ » وما بعده بيان ل « جنوده » فيتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون هذا الجار حالاً ، فيتعلق بمحذوف أيضاً .
قوله : « فهم يُوزَعُون » أي : يمنعنون ويكفُّون ، والوزع : الكف والحبس ، يقال : وزعه يزعه فهو وازع وموزوع ، وقال عثمان - رضي الله عنه - : « مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَعُ القُرْآنُ » ، وعنه : « لاَ بُدَّ لِلقَاضِي مِنْ وَزَعَةٍ » وقال الشاعر :
3935 - وَمَنْ لَمْ يَزَعْهُ لُبُّهُ وحَيَاؤُهُ ... فَلَيْسَ لَهْ مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْهِ وَازعُ
وقوله : { أوزعني أَنْ أَشْكُرَ } بمعنى ألهمني من هذا ، لأنَّ تحقيقه : اجعلني من حيث أزع نفسي عن الكفر فقوله : « فَهُمْ يُوزَعُونَ » معناه : يحبسون ، وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع متسلط على من يرده ويكفيه . وقال قتادة : كان كل صنف من جنوده وزعة ترد أولها على آخرها لئلا يتقدمون في المسير ، والوازع : الحابس والنقيب ، وقال ، وقال مقاتل يوزعون يساقون ، وقال السدي : يوقفون ، وقيل يجمعون .
قوله : « حَتَّى إذَا » في المُغَيَّا ب « حتى » وجهان :
أحدهما : هو « يُوزَعُونَ » ، لأنه مضمن معنى فهم يسيرون ممنوعاً بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا .

والثاني : أنه محذوف ، أي فساروا حتى وتقدم الكلام في حتى الداخلة على إذا ، هل هي حرف ابتداء أو حرف جر .
قوله : « عَلَى وَادِي » متعلق ب « أَتَوا » ، وإنما عدِّي ب « عَلَى » ، لأنَّ الواقع كذا ، لأنهم كانوا محمولين على الريح ، فهم مستعلون . وقي : هو من قولهم : أتيت عليه ، أي استقصيته إلى آخره ، والمعنى أنهم قطعوا الوادي كله وبلغوا آخره .
ووقف القراء كلهم على « وَادِ » دون ياء اتباعاً للرسم ، ولأنها محذوفة لفظاً لالتقاء الساكنين في الوصل ، ولأنها قد حذفت حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين ( نحو { جَابُواْ الصخر بالواد } [ الفجر : 9 ] فحذفها وقفاً ، وقد عهد حذفها دون التقاء الساكنين ) ، فحذفها عند التقاء الساكنين أولى ، إلا الكسائي ، فإنه وقف بالياء ، قال : لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل ، وقد زال ، فعادت اللام ، واعتذر عن مخالفة الرسم بقوة الأصل .
والنَّملُ : اسم جنس معروف واحده نملةٌ ، ويقال : نُمْلَةٌ ونُمْلٌ بضم النون وسكون الميم ، ونُمُلَة ونُمُل بضمّهما ، ونَمْلَة بالفتح ، والضم بوزن سمرة ، ونَمُل بوزن رجل ، واشتقاقه من : التَّنمُّل ، لكثرة حركته ، ومنه قيل للواشي : المُنَمِّل ، يقال : أنْمَلَ بين القوم مُنْمِل ، أي : وشَى وَنَمَّ ، لكثرة تردده ، وحركته في ذلك ، قال :
3936 - وَلَسْتُ بِذِي فِيهِمُ ... وَلاَ مُنْمِشٍ منهم مُنْمِلِ
ويقال أيضاً : نَمِل يَنْمِلُ ، فهو نَمِلٌ ونَمَّالٌ ، وتَنَمَّلَ القومُ : تفرقوا للجميع تفرُّق النمل ، وفي المثل : « أجْمَعُ مِنْ نَمْلَةٍ » والنَّمْلةُ أيضاً : قرحةٌ تخرج في الجنب ، تشبيهاً بها في الهيئة ، والنملة أيضاً شقٌّ في الحافر ، ومنه : فرسٌ منمول القوائم ، والأنْمُلة : طرف الإصبع من ذلك؛ لدقتها وسرعة حركتها ، والجمع : أنامل .
فصل
قال كعب : كان سليمان إذا سار بعسكره حملته الريح تهوي بهم فسار من اصطخر إلى اليمن ، فمرّ على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فقال سليمان : هذه دار هجرة نبي الله في آخر الزمان ، طوبى لمن آمن به ، وطوبى لمن اتبعه ، ورأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله ، فلما جاوز سليمان البيت بكى فأوحى الله إلى البيت : ما يبكيك؟ قال : يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا عليّ فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك ، فأوحى الله إليه ، لا تبك ، فإني سوف أملأك وجوهاً سجداً ، وأنزل فيك قرآناً جديداً ، وأبعث منك في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني ، وأفرض على عبادي فريضة يزفون إيلك زفيف النسور إلى أوكارها ، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها ، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان ، ثم مضى سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف ، فأتى على وادي النمل ، هكذا قال كعب إنه واد بالطائف ، وقال مقاتل : إنه وادٍ بالشام كثير النمل ، وقيل وادٍ كان يسكنه الجن ، وأولئك النمل مراكبهم .

قوله : « قَالَتْ نَمْلَةٌ » هذه النملة هنا مؤنثة حقيقة ، بدليل لحاق علامة التأنيث فعلها ، لأن نملة تطلق على الذكر وعلى الأنثى ، فإذا أريد تمييز ذلك قيل : نملة ذكر ، ونملة أنثى ، نحو : حَمامَة ويَمَامة . وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه وقف على قتادة وهو يقول : سلوني ، فأمر من سأله عن نملة سليمان : هل كانت ذكراً أو أنثى ، فلم ايجب ، فقيل لأبي حنيفة في ذلك ، فقال : كانت أنثى ، واستدل بلحق العلامة .
قال الزمخشري : وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على المذكر والمؤنث ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى ، وهو وهي ، انتهى .
وقد ردَّ هذا أبو حيان ، فقال : ولحاق التاء في « قالت » لا يدلّ على أن الملة مؤنثة ، بل يصح أن يقال في المذكر : قالت نملة؛ لأن نملة وإن كانت بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث ، وما كان كذلك كاليمامة والقملة ممابينه في الجمع وبين واحدة تاء التأنيث من الحيوان ، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث ، ( ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث ) على أنه ذكر أو أنثى ، لأن التاء دخلت فيه للفرق لا للدلالة على التأنيث الحقيقي ، بل دالة على اواحد من هذا الجنس ، قال : وكان قتادة بصيراً بالعربية ، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذ علم أن النملة يخبر عناه إخبار المؤنث وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين ، ولحاق العلامة لا يدل ، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله ، قال : وإنما استنباط تأنيثه من كتاب الله ب « قالت » ، ولو كان ذكراً لقيل : « قال » فكلام النحاة على خلافه ، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبارا المؤنث ، سواء كان ذكراً أم أنثى .
قال : وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة ، فبينهما قدر مشترك يتميز فيهما المذكر من المؤنث فيمكن أن تقول : حمامة ذكر ، وحمامة أنثى فتميزه بالصفة ، وأما تميزه ب « هو » و « هي » فإنه لا يجوز ، لا تقول هو الحمامة ، ولا هو الشاة ، وأما النملة والقملة فلا يتميز فيه المذكر من المؤنث ، ولا يجوز فيه في الإخبار إلا التأنيث وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان نحو : المرأة ، أو غير العاقل كالدابة ، إلا إن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك ، فيجوز أن تلحق العلامة وأن لا تلحقها ، على ما تقرر في علم العربية . انتهى .
قال شهاب الدين : اما ما ذكره ففيه نظر ، من حيث إن التأنيث إما لفظي أو معنوي ، واللفظي لا يتبر ( في لحاق العلامة ) البتة ، بدليل أنه لا يجوز ( قامت رَبْعَةٌ وأنت تعني رجلاً ، وكذلك ) لا يجوز : قامت طلحة ، ولا حمزة - على مذكر - فتعين أن يكون اللحاق إنما هو للتأنيث المعنوي ، وإنما يعتبر لفظ التأنيث والتذكير في بابا العدد على معنى خاص أيضً ، وهو أنا ننظر إلى ما عاملت العرب ذلك اللفظ به من تذكير أو تأنيث من غير نظر إلى مدلوله ، فهناك له هذا الاعتبار ، وتحقيقه هنا يخرجنا عن المقصود وإنما نبهتك على القدر المحتاج إليه .

وأما قوله : وأما النملة والقملة فلا يتميَّز ، يعني لا يتوصَّلُ لمعرفة الذكر منهما ولا الأنثى بخلاف الحمامة والشاة ، فإن الاطلاع على ذلك ممكن ، فهو أيضاً ممنوع إذ قد يمكن الاطلاع على ( ذلك ، وأن الاطلاع على ذكورية الحمامة والشاة أسهل من الاطلاع على ) ذكورية النملة والقملة ، ومنعه أيضاً أن يقال هو الشاة وهو الحمامة ممنوع .
وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان : « النّمُلُ » و « نَمُلَة » بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة ، وسليمان التيمي بضمتين فيهما ، وتقدم ان ذلك لغات في الواحد والجمع . قوله « لاَ يَحْطِمَنَّكُم » ، فيه وجهان :
أحدهما : أنه نهي .
والثاني : أنه جواب للأمر .
وإذا كان نهياً ففيه وجهان :
أحدهما : أنه نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله من حيث الإعراب ، وإنما هو نهي للجنود في اللفظ ، وفي المعنى للنمل ، أي لا تكونوا بحيث يحطمونكم ، كقولهم : لا أَرَينَّك ههُنَا .
والثاني : أنه بدل من جملة الأمر قبله ، وهو « ادْخُلُوا » ، وقد تعرض الزمخشري لذلك ، فقال : فإن قلت : لا يحطمنكم ما هو؟ قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر ، والذي جوَّز أن يكون بدلاً منه أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم ، على طريقة : لاَ أَرَيَنَّكَ ههُنَا ، أرادت : لا يحطمنكم جنود شسليمان ، فجاءت بما هو أبلغ ، ونحوه :
3937 - عَجِبْتُ مِن نَفْسِي وَمِنْ إشْفَاقِهَا ... قال أبو حيان : اما تخريجه على أنه جواب الأمر ، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش ، فإنه مجزوم مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نهي يعني أن الأعمش قرأ : « لاَ يَحْطَمْكُمْ » بجزم الميم دون نون توكيد ، قال : وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا إن كان في شعر ، وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر فأحرى أن لا جوز في جواب الأمر إلا في الشعر ، وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في علم النحو . ومثال مجيء النون في جواب الشرط قوله الشاعر :
3938 - نَبَتُّمْ نَبَاتَ الخَيْزُرَانَةِ في الثَّرَى ... حَدِيثاً مَتَى مَا يَأْتِكَ الخَيْرُ يَنْفَعَا
وقول الآخر :

3939 - فَمَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تُعْطِكُمْ ... ومَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تَمْنَعَا
قال سيبويه : وهو قليل في الشعر شبهوهُ بالنهي حيث كان مجزوماً غير واجب ، قال : وأما تخريجه على البدل فلا يجوز ، لأن مدلول « لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ » مخالف لمدلول « ادخُلُوا » ، وأما قوله : لأنه بمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم ، فتفسير معنى لا إعراب ، والبدل من صفة الألفاظ ، نعم لو كان اللفظ القرآني : لا تكونوا بحيث لا يحطمنكم ، لتُخُيِّل فيه البدل ، لأن الأمر بدخول المساكين نهي عن كونهم بظاهر الأرض .
وأما قوله : إنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخره ، فيسوغ زيادة الأسماء ، وهو لا يجوز ، بل الظاهر إسناد الحطم إلى جنوده ، وهو على حذف مضاف ، أي : خيل سليمان وجنوده ، إو نحو ذلك مما يصح تقديره ، انتهى .
أما منعه كونه جواب الأمر من أجل النون ، فقد سبقه إليه أبو البقاء ، فقال : وهو ضعيف ، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار . وأما منعه البدل بما ذكر فلا نسلم تغاير المدلول بالنسبة لما يؤول إليه المعنى . وأما قوله : فيسوغ زيادة الأسماء فهو لم يسوغ ذلك ، وإنما فسر المعنى - وعلى تقدير ذلك - فقد قيل به شائعاً . وجاء الخطاب في قولها « ادخلوا » كخطاب العقلاء لما عوملوا معاملتهم . وقرأ أُبَيّ : { ادْخُلْنَ مَساكِنَكُنَّ لاَ يَحْطمنَّكُن } - بالنون الخفيفة - جاء به على الأصل . وقرأ شهر به حوشب : « مَسْكَنَكم » بالإفراد وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء والنون مضارع حطمه بالتشديد . وقرأ الحسن أيضاً قراءتان : فتح الياء وتشديد الطاء مع سكون الحاء وكسرها والأصل : يَحطمَنَّكُمْ ، فأدغم وإسكان الحاء مشكل تقدم نظيره في « لا يَهديِّي » ونحوه ، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد . والحطم : الكسرُ ، يقال منه : حطمتهُ ، ثم استعمل لكل كسر معناه ، والحطام : ما تكسر يبساً وغلب على الأشياء التافهة ، والحُطَم : السائق السريع ، كأنه يحطم الإبل ، قال :
3940 - قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بسواقٍ حَطَمْ ... لَيْسَ برَاعِي إبِلٍ وَلاَ غَنَمْ
ولا بِجَزَّارٍ ظَهْرٍ وَضَمْ
والحُطَمَة : من دركات النار ، ورجل حُطَمَةٌ للأكول ، تشبيهاً لبطنه بالنار ، كقوله :
3941 - كَأَنَّمَا فَي جَوْفِهِ تَنُّورُ ... وقوله : « وهُمْ لا يشعُرُونَ » جملة حالية .
فصل
قال الشعبي : كانت تلك النملة ذات جناحين ، فنادت { ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } ، ولم تقل : ادخلن ، لأنها لما جعلت لهم قولاً كالآدميين خوطبوا بخطاب الآدميين ، « لاَ يَحْطِمَنَّكُنمْ » لا يكسرنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ، فسمع سليمان قولها ، وكان لا يتكلم خلق إلا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان . فإن قيل : كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده ، وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض؟ قيل : كانت جنوده ركباناً وفيهم مشاة على الأرض تطوى بهم ، وقيل يحتمل أن يكون هذا قبل تسخير الله الريح لسليمان .

وقال المفسرون : علم النمل أن سليمان نبي ليس فيه جبرية ولا ظلم ، ومعنى الآية : أنكم لو لم تدخلوا مساكنكم وطئوكم ولم يشعروا بكم ، وروي أن سليمان لما دخل وادي النمل حبس جنده ، حتى دخل النمل بيوتهم . قال أهل المعاني : في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة : نادت ، ونبّهت ، وسمت ، وأمرت ، ونصت ، وحذرت ، وخصت ، وعمت ، وأشارت ، وأعذرت ، ووجهه : نادت : « يا » نبهت : « ها » سمت : « النمل » ، أمرت « ادخلوا » ، نصت : « مساكنكم » ، حذرت : « لا يحطمنكم » ، خصت : « سليمان » ، عمت و « جنوده » ، أشارت : « وَهُمْ » ، أعذرت : « لا يشعرون » .
قوله : « ضاحكاً » قيل : هي حال مؤكدة لأنها مفهومة من ( تبسم ) ، وقيل : بل هي حال مقدرة ، فإن التبسم ابتداء الضحك ، وقيل : لما كان التبسم قد يكون للغضب ، ومنه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الغضبان ، أي تضاحكاً مسبباً له ، قال عنترة :
3942 - لَمَّا رَآنِي قَدْ قَصَدْتُ أُرِيدُهُ ... أَبْدَى نَوَاجِذَهُ لِغَيْرِ تَبَسُّمِ
وتبسَّم : تَفَعَّلَ بمعنى بَسَمَ المجرّد ، قال :
3943 - وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّراً ... تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ لَهُ نَدِي
وقال بعض المولدين :
3944 - كَأَنَّمَا تَبْسِمُ عَنْ لُؤْلُؤٍ ... مُنَضَّدٍ أَوْ بَرَدِ أَوْ أَقَاح
وقرأ ابن السميفع : « ضحكاً » مقصوراً ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مصدر مؤكد معنى تبسم ، لأنه بمعناه .
والثاني : أنه في موضع الحال ، فهو في المعنى كالذي قبله .
الثالث : أنه اسم فاعل كفرح ، وذلك لأن فعله على فَعِل بكسر العين ، وهو لازم ، فهو كفرح وبطِر . قوله : « أن أشكر » مفعول ثان ل « أوزعني » ، لأن معناه : ألهمني ، وقيل معناه : اجعلني أزع شكر نعمتك ، أي : أكفه وأمنعه حتى لا ينفلت مني ، فلا أزال شاكراً ، وتفسير الزجاج له بامنعني أن أكفر نعمتك من باب تفسير المعنى باللازم .
فصل
قال الزجاج أكثر ضحك الأنبياء التبسم ، وقوله : « ضاحكاً » أي : مبتسماً ، وقيل : كان أوله التبسم وآخره الضحك ، قال مقاتل : كان ضحك سليمان من قول النملة تعجباً ، لأن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك ، وإنما ضحك لأمرين :
أحدهما : إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وعلى شهرة حاله وحالهم في التقوى ، وهو قولها : « وهم لا يشعرون » .
والثاني : سروره بما آتاه الله ما له يؤت أحداً ، من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه . ثم حمد سليمان ربه على ما أنعم عليه ، فقال : { رَبِّ أوزعني } ألهمني . { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين }
وهذا يدل على أن دخول الجنة ببرحمته وفضله ، لا باستحقاق العبد ، والمعنى : أدخلني في جملتهم ، وأثبت امسي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم ، قال ابن عباس : يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين . فإن قيل : درجات الأنبياء أفضل من درجات الأولياء والصالحين ، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين ، فقال يوسف : { تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } [ يوسف : 101 ] ، وقال سليمان : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } ؟ .
فالجواب : الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله ولا يهم بمعصية ، وهذه درجة عالية .

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)

قوله تعالى : { وَتَفَقَّدَ الطير } الآية « تَفَقَّدَ الطَّيْرَ » : طلبها وبحث عنها وبحث عنها ، والتفقد طلب ما فقد ، والمعنى طلب ما فقد من الطير ، واختلفوا فيما تفقده من أجله ، فقيل : لأنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها ، وقيل : لأن هندسة الماء كانت لديه ، وكان يرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاج وكان يعرف قربه وبعده في عمق الأرض . قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق : يا وصاف ، انظر ما يقول : إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب ، فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ ، حتى يقع في عنقه ، فقال له ابن عباس : ويحك إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر ، وهذا القول فيه نظر ، لأن الجن أعرف بالأرض من الهدهد ، فإنهم سكانها ، وقيل : لأنه كان يظله من الشمس .
قوله : { مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد } ، هذا استفهام توقيف ولا حاجة إلى ادعاء القلب وأن الأصل : ما للهدهد لا أراه؟ إذ المعنى قوي دونه ، والهدهد معروف ، وتصغيره على هديهد ، وهو القياس ، وزعم بعض الحويين أنه تقلب ياء تصغيره ألفاً ، فيقال : هداهد ، وأنشد :
3945 - كَهُدَاهِدٍ كَسَرَ الرُّمَاةُ جَنَاحَهُ ... يَدْعُوا بِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ هَدِيلاً
كما قالوا : دُوَابَّة وشُوَابَّة ، في : دُوَيْبَة وشُوَيْبَة ، ورده بعضهم بأن الهداهد الحمام الكثير ترجيع الصوت . تزعم العرب أن جارحاً في زمن الطوفان اختطف فرخ حمامة
تسمى الهديل ، قالوا : فكل حمامة تبكي فإنما تبكي على الهديل .
قوله : « أم كان » ، هذه « أم » المنقطعة ، وتقدم الكلام فيها ، وقال ابن عطية : قوله { مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد } مقصد الكلام : الهدهد غاب ، ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز ، والاستفهام الذي في قوله « مَالِيَ » ناب مناب الألف التي تحتاجها « أم » ، قال أبو حيان : فظاهر كلامه أن « أم » متصلة ، وأن الاستفهام الذي في قوله : « مالي » ناب مناب ألف الاستفهام ، فمعناه : أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل ، ولم أشعر بغيبته؟ .
قال شهاب الدين : ولا يظن بأبي محمد ذلك ، فإنه لا يجهل أن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام أو التسوية لا مطلق الاستفهام .
قوله : « عذاباً » ، أي تعذيباً ، فهو اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد ك { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، وقد كتبوا : « أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ » بزيادة ألف بين لام ألف والذال ، ولا يجوز أن تُقْرَأ بها ، وهذا كما تقدم أنهم كتبوا : { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } [ التوبة : 47 ] بزيادة ألف بين لام ألف والواو .
قوله : « أو لَيَأْتِينِّي » ، قرأ ابن كثير بنون التوكيد المشددة بعدها نون الوقاية ، وهذا هو الأصل ، واتبع مع ذلك رسم مصحفه ، والباقون بنون مشددة فقط ، والأظهر أنها نون التوكيد الشديدة ، توُصِّلَ بكسرها لياء المتكلم ، وقيل : بل هي نون التوكيد الخفيفة أدغمت في نون الوقاية ، وليس بشيء لمخالفة الفعلين قبله ، وعيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة لم يصلها بالياء .

فصل
قال المفسرون : معنى الآية : ما للهدهد لا أراه ، تقول العرب : مالي أراك كثيباً؟ فقال : ما لي لا أرى الهدهد ، على تقدير أنه مع جنوده وهو لا يراه ، ثم أدركه الشك في غيبته فقال : أم كان من الغائبين ، يعني أكان من الغائبين؟ والميم صلة ، وقيل : أم بمعنى بل ، ثم أوعد على غيبته ، فقال : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } ، فقيل : بنتف ريشه ووضعه لهوام الأرض ، وقيل : بحبسه في القفص ، وقيل : بأن يفرق بينه وبين إلفه ، وقيل : بحبسه مع ضده ، { أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } حُجَّة ظاهرة .
قوله : « فَمَكَثَ » قرأ عاصم بفتح الكاف ، والباقون بضمها ، وهما لغتان ، إلا أن الفتح أشهر ، ولذلك جاءت الصفة على ماكث ، دون كيث ، واعتذر عنه بأن فاعلاً قد جاء لفَعُل بالضم ، نحو : حَمُضَ فهو حامض ، وخَثُر فهو خاثر ، وفَرُهَ فهو فاره .
قوله : « غَيْرَ بعِيدٍ » ، يجوز أن يكون صفة للمصدر ، أي مكثراً غير بعيد ، وللزمان أي : زماناً غير بعيد ، وللمكان أي : مكاناً غير بعيد ، والظاهر أن الضمير في مكث للهدهد ، وقيل : لسليمان - عليه السلام - فقال : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } ، والإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته ، يقول : علمت ما لم تعلم ، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك .
قوله : « مِنْ سَبَأ » ، قرأ البزِّيّ ، وأبو عمرو بفتح الهمزة ، جعلاه اسماً للقبيلة أو البقعة ، فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث ، وعليه قوله :
3946 - مِنْ سَبَأَ الحَاضِرِينَ مَأْربَ إِذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دُون سَيْلِهِ العَرِمَا
وقرأ قُنْبُل بسكو الهمزة ، كأنه نوى الوقف وأجرى الوصل مجراه ، والباقون بالجر والتنوين ، جعلوه اسماً للحيِّ او المكان ، وعليه قوله :
3947 - الوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ ... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الجَوَامِيسِ
وهذا الخلاف جارٍ بعينه في سورة سبأ .
وفي قوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } فيه من البديع التجانس ، وهو : تجنيس التصريف ، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف كهذه الآية ، ومثله : { تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [ غافر : 75 ] .
وفي الحديث : « الخَيْلُ مَعْقُود بِنَواصِيهَا الخَيْرُ » ، وقال آخر :
3948 - لِلَّهِ مَا صَنَعَتْ بِنَا ... تِلْكَ المَعَاجِرُ وَالمَحَاجِرْ
وقال الزمخشري : وقوله { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعاً ، أو يصنعه عالم بجوهر هذا الكلام ، يحفظ معه صحة المعنى وسداده ، ولقد جاء هنا زائداً على الصحة ، فحسن وبدع لفظاً ومعنى ، ألا ترى أنه لو وضع مكان : « بنبأ » : « بخبر » لكان المعنى صحيحاً ، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال .

يريد بالزيادة : أن النبأ أخص من الخبر ، لأأنه لا يقال إلا فيما له شأن من الأخبار ، بخلاف الخبر ، فإنه يطلق على ما له شأن ، وعلى ما لا شأن له ، فكلّ نبأ خبر من غير عكس . وبعضهم يعبر عن نحو : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } في علم البديع بالترديد ، قاله صاحب التحرير ، وقال غيره : إن الترديد عبارة عن رد أعجاز البيوت على صدورها ، أو ردّ كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني ، فمثال الأول قوله :
3949 - سَرِيعٌ إِلَى ابْنِ العَمِّ يَلْطمُ وَجْهَهُ ... وَلَيْسَ إلَى دَاعِي الخَنَا بِسَرِيعِ
ومثال الثاني قوله :
3950 - وَاللَّيَالِي إِذَا نَأَيْتُمْ طِوَالٌ ... واللَّيَالِي إذَا دَنَوْتُمْ قِصَارُ
وقرأ ابن كثير في رواية : « مِنْ سباً » مقصوراً منوناً ، وعنه أيضاً : « مِنْ سَبْأَ » بسكون الباء وفتح الهمزة ، جعله على فَعْل ومنعه من الصرف ، لما تقدم . وعن الأعمش : « من سَبَإِ » بهمزة مكسورة غير منونة ، وفيها إشكال؛ إذ لا وجه للبناء ، والذي يظهر أن تنوينها لا بد وأن يقلب ميماً وصلاً ، ضرورة ملاقاته للباء ، فسمعها الراوي؛ فظن أنه كسر من غير تنوين . وروي عن أبي عمرو : « مِنْ سَبَا » بالألف صريحة ، كقولهم : تفرقوا أيدي سبا . وكذلك قرىء « بِنَبَا » بألف خالصة ، وينبغي أن يكونا لقارىء واحد وسبأ في الأًل : اسم رجل من قحطان ، واسمه : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وسبأ لقلب له ، وإنما لقلب به : لأنه أول من سبأ .
قوله : { إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ } لما قال الهدهد لسليمان : { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } ، قال سليمان : وما ذاك؟ قال : { إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ } وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك أرض اليمن من نسل يعرب بن قحطان ، وكان ملكاً عظيم الشأن ، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤاً لي ، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه امرأة من الجن يقال لها : ريحانة بنت السكن ، فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها ، وفي الحديث : « إن أحد أبوي بلقيس كان جنِّياً » وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس ، والضمير في « تملكهم » راجع إلى « سبأ » ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر ، وإن أريد المدينة فمعناه : تملك أهلها ، قال عليه السلام لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى : « لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة »
قوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } يجوز أن يكون معطوفاً على « تَمْلِكُهُمْ » ، وجاز عطف الماضي على المضارع ، ( لأن المضارع ) بمعناه ، أي : ملكتهم ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من مرفوع « تملكهم » .

و « قَدْ » معها مضمرة عند من يرى ذلك .
وقوله : { مِن كُلِّ شَيْءٍ } عام مخصوص بالعقل؛ لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان . قوله : « وَلَهَا عَرْشٌ » يجوز أن تكون هذه جملة مستقلة بنفسها سيقت للإخبار بها ، وأن تكون معطوفة على « أُوتِيَتْ » ، وأن تكون حالاً من مرفوع « أُوتِيَتْ » ، والأحسن أن يجعل الحالَ الجارُّ ، « وعَرْشٌ » مرفوع به ، وبعضهم يقف على « عَرْشٌ » ويقطعه عن نعته . قال الزمخشري : ومن نَوْكى القُصَّاصِ من يقف على قوله : « وَلَهَا عَرْشٌ » ، ثم يبتدىء ، « عَظِيمٌ وَجَدْتها » ، يريد : أمرٌ عظيم أَنْ وجدتها ، فرَّ من استعظام الهدهد عرشها ، فوقع في عظيم ، وهي مسخ كتاب الله .
قال شهاب الدين : النَّوكَى : الحمقى جمع َنْوَك وهذا الذي ذكره من أمر الوقف نقله الدّاني عن نافع وقرره أبو بكر بن الأنباري ورفعه إلى بعض أهل العلم ، فلا ينبغي أن يقال ( نَوْكَى القُصَّاص ) ، وخرجه الداني على أن يكون « عَظِيمٌ » مبتدأ ، و « وَجَدْتُهَا » الخبر ، وهذا خطأ ، كيف يبتدىء بنكرة من غير مسوِّغ ، ويخبر عنها بجملة لا رابط بينهما وبينه ، والإعراب ما قاله الزمخشري من أن عظيماً صفة لمحذوف خبراً مقدماً ، و « وَجَدْتُهَا » مبتدأ مؤخراً مقدراً معه حرف مصدري أي : أمر عظيم وجداني إياها وقومها غير عابدي الله .
قوله : « وَجَدْتُهَا » ، هي التي بمعنى لقيت وأصبت ، فيتعدى لواحد ، فيكون « يَسْجُدُونَ » حالاً من مفعولها وما عطف عليه ، فإن قيل : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان ، وأيضاً : فكيف سوَّى بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟ .
فالجواب عن الأول : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان ، فاستعظم لها ذلك العرش ويجوز أن يكون لسليمان - مع جلالته - مثله كما قد يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله للسلطان .
وعن الثاني : أنه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، وَوَصْفُ عرشِ اللَّهِ بالعظم تعيمٌ له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض .
قال المفسرون : العرش السرير الضخم كان مضروباً من الذهب مكلّلاً بالدرّ والياقوتالأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد ، وعليه سبعة أبواب على كل بيت باب مغلق .
قال ابن عباس : كان عرشها ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثون ذراعاً . واعلم أن قوله : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم } [ النمل : 26 ] إن قلنا : إنه من كلام الهدهد ، فالهدهد قد استدرك على نفسه ، واستقلّ عرشها بالنسبة إلى عظمة عرش الله ، وإن قلنا : إنه من كلام الله تعالى ، فالله رد عليه استعظامه لعرشها .

فصل
طعنت الملاحدة في هذه القصة من وجوه :
أحدها : أَنَّ هذه الآيات اشتملت على أنَّ النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك إلاَّ عن العقلاء وذلك يجر إلى السَّفْسَطَة ، فإنَّا لوجوَّزنا ذلك لما أمِنّا من النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أَنْ تكون أعلم بالهندسة من إقليدس ، وبالنحو من سيبويه ، وكذا القول في القملة والضئبان ، ولجوزنا أن يكون فيهم الأنبياء والمعجزات والتكاليف ، ومعلوم أنَّ مَنْ جوّزه كان إلى الجنون أقرب .
وثانيها : أنَّ سليمان - عليه السلام - كان بالشام ، فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ، ثم رجع إليه؟ .
وثالثها : كيف خفي على سليمان ( عليه السلام ) ؟ تلك المملكة العظيمة مع أنَّ الجن والإنس كانوا في طاعته ، وأنه - عليه السلام - كان ملك الدنيا كلها ، وكان تحت طاعة بلقيس - على ما يقال - اثنا عشر ألف تحت يد كل واحد منهم مائة ألف ، مع ما يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلاَّ مسيرة ثلاثة أيام؟
رابعها : من أين حصل للهدهد إنكار سجودهم للشمس وإضافته للشيطان وتزيينه؟
والجواب عن الأول : أنّ ذلك الاحتمال قائم في أول العقل ، وإنما يدفع ذلك بالإجماع . وعن البواقي : أنَّ الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك .
فصل
قالت المعتزلة : قوله { يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } يدل على أنَّ فعل العبد من جهته ، لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم ، وأورده مورد الذم ، وبين أنهم لا يهتدون .
والجواب من جوه :
أحدها : أَنَّ هذا قول الهدهد فلا يكون حجة .
وثانيها : أنه متروك الظاهر : فإنه قال : { فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } ، وعندكم الشيطان ، فإنه ما صدّ الكافر عن السبيل ، إذ لو صدّه الشيطان عن السبيل لكان معذوراً ممنوعاً ، فيسقط عنه التكليف فلم يبق إلاَّ التمسك بالمدح والذم ، وجوابه قد تقدم .
قوله : « ألاَّ يَسْجُدُوا » قرأ الكسائي بتخفيف « أَلاَ » ، والباقون بتشديدها ، فأمَّا قراءة الكسائي ، « أَلاَ » فيها تنبيه واستفتاح ، و « يَا » بعدها حرف نداء ، أو تنبيه أيضاً على ما سيأتي ، و « اسْجُدُوا » : فعل أمرٍ ، فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون يَا اسجُدُوا ، ولكن الصحابة أسقطوا ألف « يَا » وهمزة الوصل من « اسْجُدُوا » خَطاً لما سقط لَفْظاً ، ووصلوا الياء بسين « اسْجُدُوا » ، فصارت صورته « يَسْجُدُوا » كما ترى ، فاتحدث القراءتان لفظاً وخطّاً ، واختلفا تقديراً . واختلف النحويون في « يَا » هذه ، هل هي حرف تنبيه أو للنداء والمنادى محذوف ، تقيدره : يَا هَؤُلاَءِ اسْجُدُوا ، وقد تقدم ذلك عند قوله في سورة النساء : « يَا لَيْتَنِي » والمُرَجَّحُ أَنْ تكون للتنبيه ، لِئَلاَّ يؤدي إلى حذفٍ كثير من غير بقاءِ ما يدلّ على المحذوف ، ألا ترى أنَّ جملة النداء حذفت ، فلو ادَّعَيْتَ حَّذْفَ المنَادى كَثُرَ الحذف ، ولم يبق معمولٌ يدل على عامله؛ بخلاف ما إذا جعلتَها للتنبيه .

ولكن عَارَضنا هنا أَنَّ قبلها حرف تنبيه آخر ، وهو « أَلا » وقد اعتُذِر عن ذلك بأنه جُمِعَ بينهما تأكيداً ، وإذا كانوا قد جمعوا بين حرفن عاملين للتأكيد ، كقوله :
3951 - فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنْنِي عَنْ بِمَا بِهِ ... فغير العاملين أولى ، وأيضاً فقد جمعوا بين حرفين عاملين مُتّحدي اللفظ والمعنى كقوله :
3952 - فَلاَ وَاللَّهِ لاَ يُلْفَى لِمَا بِي ... وَلاَ لِلما بِهِمْ أَبَداً دَوَاءُ
فهذا أولى ، وقد كثر مباشرة « يا » لفعل الأَمر ، وقبلها « أَلاَ » التي للاستفتاح ، كقوله :
3953 - أَلاَ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ... ثَلاَثَ تَحِيَّاتٍ وَإِنْ لَمْ تَكَلَّمِ
وقوله :
3954 - أَلاَ يَا اسْلَمِي دَارَ مَيٍّ عَلَى البِلَى ... وَلاَ زالَ مُنْهَلاًّ بِجَرْعَائِكَ القَطْرُ
وقوله :
3955 - أَلاَ يا اسْلَمِي ذَات الدَّمَالِيحجِ وَالعُقَد ... وذات اللثاث الحُمِّ والفَاحِمِ الجَعْدِ
وقوله :
3956 - أَلاَ يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ ... وَإِنْ كَانَ حَيَّانا عِدًى آخِرَ الدَّهْرِ
وقوله :
3957 - أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ خَيْلِ أَبِي بَكْر ... لَعَلَّ مَنَايانَا قَرُبنَ ولاَ نَدْرِي
وقوله :
3958 - أَلاَ يا اسْقِيانِي قَبْلَ غَارَةٍ سنجال ... [ وقوله :
3959 - فَقَالَتْ أَلاَ يَا اسْمَعْ أَعِظْكَ بخطبةٍ ... وقلتُ سمِعْنَا فَانطِقِي وأَصِيبِي ]
وقد جاء ذلك وإن لم يكن قبلها « أَلاَ » ، كقوله :
3960 - يا دَارَ هِنْدٍ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ... بِسَمْسَمٍ أَوْ عَنْ يَمِينِ سَمْسَمِ
فعلم أنه قراءة الكسائي قوية ، لكثرة دَوْرِها في لغتهم ، وقد سمع ذلك في النَّثْر ، سُمِعَ بَعْضُهم يقول : أَلاَ يَا ارحَمُوني ، أَلاَ يا تصدَّقُوا علينا ، وأما قوله :
3961 - يَا لَعْنَةُ اللَّهِ والأَقْوَامِ كُلِّهِم ... والصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جِارِ
فيحتمل أن تكون « يَا » للنداء ، والمنادى محذوف ، وأن يكون للتنبيه ، وهو الأرجح لِمَا مَرَّ . واعلم أَنَّ الوقف عند الكسائي على « يَهْتَدُونَ » تام ، وله أن يقف على « أَلاَ يَا » معاً ، ويبتدىء « اسْجُدُوا » بهمزة مضمومة . وله أن يقف على « أَلاَ » وحدها ، وعلى « يَا » وحدها ، لأنهما حرفان منفصلان وهذا الوقفان وقفاً اخْتبارٍ لا اختيار ، لأنهما حرفان لا يتم معناهما إلاَّ بما يتصلان به ، وإنما فعله القراء امتحاناً وبياناً . فهذا توجيه قراءة الكسائي ، والخَطْبُ وفيها سهل . وأما قراءة الباقين فتحتاج إلى إِمْعَان نظرٍ ، وفيها أوجه كثيرة :
أحدها : أنَّ « أَلاَّ » أصلها : أَنْ لا ، فأَنْ ناصبة للفعل بعدها ، ولذلك سقطت نون الرفع ، و « لاَ » بعدها حرفُ نَفْي ، وأَنْ وما بعدها في موضع مفعول « يَهْتَدُونَ » على إسقاط الخافض أي : إلى أَنْ لا يسجُدُوا ، و « لاَ » مزيدة كزيادتها في :

{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] ، والمعنى : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا .
الثاني : أنه بدل من « أَعْمَالَهُمْ » وما بينهما اعتراض تقديره : وزَيَّنَ لهم الشيطانُ عدم السجود لله .
الثالث : أنه بدل من « السَّبِيلِ » على زيادة « لاَ » أيضاً ، والتقدير : فَصَدَّهُمْ عن السجود لله .
الرابع : أَنَّ « أَلاَّ يَسْجُدُوا » مفعولاً له ، وفي متعلّقه وجهان :
أحدهما : أنه « زَيَّنَ » أي : زيَّنَ لهم لأجل أَلاَّ يسجدوا .
والثاني : انها متعلق ب « صَدَّهُمْ » ، أي : صَدَّهُمْ لأجل أن لاَ يسجُدُوا ، وفي « لاَ » حينئذٍ وجهان :
أحدهما : انها ليست مزيدة ( بل باقية على معناها من النفي .
والثاني : أنها مزيدة ) والمعنى : وزيَّنَ لهم لأجل توقعه سجودهم ، أو لأجل خوفه من سُجُودهم ، وعدم الزيادة أظهر .
الخامس : أنه خبرأ مبتدأ مضمر ، وهذا المبتدأ إما أن يُقَدَّر ضميراً عائداً على « أَعْمَالَهُمْ » ، والقدير هي ألا يسجدوا ، فتكون « لاَ » على بابها من النفي ، وإما أن يُقَدَّر ضميراً عائداً على « السَّبِيل » ، التقدير : هو أن لا يسجدوا ، فتكون « لاَ » مزيدة - على ما تقدم - ليصح المعنى .
وعلى الأوجه الأربعة المتقدمة لا يجوز الوقفُ على « يَهْتَدُونَ » ، لأنَّ ما بعده إمَّا معمول له أو لِمَا قبله من « زَيَّنَ » و صَدَّ « أو بدل مما قبله أيضاً من » أَعْمَالَهُمْ « أو من » السَّبِيل « على ما قُرِّرَ ، بخلاف الوجه الخامس ، فإنه مَبنيٌّ على مبتدأ مضمر ، وإنْ كان ذلك الضمير مُفَسراً بما سبق قبله ، وقد كتبت » أَلاَّ « مصولة غير مفصولة ، فلم تُكْتَبْ » أَنْ « منفصلة من » لاَ « ، فمن ثَمَّ : امتنع أن يُوقَف هؤلاء في الابتلاء والامتحان على » أَنْ « وحدها ، لاتصالها بلا في الكتابة ، بل يُوقَف لهم على » أَلاَّ « بجملتها ، كذا قال القُرَّاءُ ، والنحويون متى سُئِلوا عن مثل ذلك وقفوا لأجل البيان على كل كلمةٍ على حدتها . لضرورة البيان ، كونها كُتِبَت متصلة ب » لا « غير مانعٍ من ذلك . ثُمَّ قول القُرَّاءِ : كتبت متصلة فيه تجوُّزٌ وتسامُح ، لأَنَّ حقيقة هذا أن يُثْبِتُوا صورة نُونٍ ويصلونها بلاء ، فيكتبونها » أَنْلاَ « ، ولكن لما أدغمت فيما بعدها لفظاً ، وذهب لفظها إلى لفظ ما بعدها قالوا ذلك تسامحاً . وقد رتَّبَ أبو إسحاق على القراءتين حُكْماً ، وهو وجوب سجود التلاوة وعدمه ، فَأَوْجَبَهُ مع قراءة الكسائي ، وكأنه لأجل الأمرِ بِهِ ، ولم يوجبه في قراءة الباقين لعدم وجود الأمر فيها ، إِلاَّ أَنَّ الزمخشري لم يرتضه منه ، فإنه قال : فَإِنْ قُلْتَ : أَسَجدةُ التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً أو في واحدة منهما؟ قُلْتُ : هي واجبة فيهما .

وإحدا القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك ، وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد مرجوع إليه .
قال شهاب الدين : وكأن الزجاج أخذ بظاهر الأمر ، وظاهره الوجوب وهذا لو خلينا الآية لكان السُّجُودُ واجباً ، ولكن دلَّت السنةُ على استحبابه دون وجوبه ، على أَنَّا نقول : هذا مبنيٌّ على نظر آخر ، وهو أَنَّ هذا الأمر من كلام الله تعالى أو من كلام الهدهد محكيّاً عنه ، فإن كان من كلام الله تعالى فيقال : يقتضي الوجوب إلاَّ أَنْ يجيء دليل يصرفه عن ظاهره ، وإنْ كان من كلام الهدهد - وهو الظاهر - ففي انتهاضة دليلاً نظر ، وهذا الذي ذكروه ليس بشيء ، لأنَّ المراد بالسجود ههنا عبادة الله لا عبادة الشمس ، وعبادة الله واجبة وليس المراد من الآية سجود التلاوة ، وأين كانت التلاوة في زمن سليمان عليه السلام ولم يكن ثم قرآن .
وقرأ الأعمش « هَلاَّ » و « هَلاَ » بقلب الهمزة هاء مع تشديد « لاَ » وتخفيفها ، وكذا هي في مصحف عبد الله ، ( وقرأ عبد الله ) « تَسْجُدُونَ » بتاء الخطاب ونون الرفع ، وقرىء كذلك بالياء من تحت ، فَمَنْ أَثْبَتَ نون الرفع ف « أَلاَّ » بالتشديد أو التخفيف للتحضيض ، وقد تكون المخففة للعرض أيضاً نحو أَلاَ تنزلُ عندنا فتحدَّثُ ، وفي حرف عبد الله أيضاً { أَلاَ هَلْ تَسْجُدُونَ } بالخطاب . قوله : { الذي يُخْرِجُ الخبء } يجوز أن يكون مجرور المحل نعتاً « للَّه » أو بدلاً منه أو بياناً ، و « منصوبة على المدح ، ومرفوعة على خبر ابتداءٍ مضمر . و » الخَبْءَ « مصدر خَبَأْتُ الشيء أَخْبَؤُهُ خَبْئاً أي : سَتَرَْتُهُ ، ثم أطلِقَ على الشيء المَخْبُوءِ وَنَحْوُهُ { هذا خَلْقُ الله } [ لقمان : 11 ] قال المفسرون : الخَبْء في السَّمواتِ المطر ، وفي الأرض النبات ، والخَابِيَةُ من هذا إلاَّ أَنَّهُم التزموا فيها ترك الهمزة كالبَريَّة والذّريّة عند بعضهم . وقيل : الخبء الغيب أي : يعلم غيب السموات والأرض ، وقرأ أبيّ وعيسى » الخَبَ « بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة فيصير نحو : رأيت لَبَ ، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار » الخَبَا « بألفٍ صريحةٍ ، وجهها أنه أبدل الهمزة ألفاً فلزم تحريك الباء ، وذلك على لغة مَنْ يقف من العرب بإبدال الهمزة حرفاً يجانس حركتها ، فيقول : هذا الخَبُو ، ورأيت الخبا ، ومررت بالخبي ، ثم أُجْرِي الوَصْلُ مَجْرَى الوقْفِ ، وقيل : إنه لمَّا نَقَلَ حركة الهمزة إلى الساكن قبلها لم يحذفها بل تركها ، فَسَكَنَتْ بعد فتحةٍ فَدُبِرَتْ بحركة ما قبلها وهي لغة ثابتة ، يقولون : المرأة والكماة بألف مكان الهمزة بهذه الطريقة ، وقد طعن أبو حاتم على هذه القراءة وقال : لا يجوز في العربية ، لأَنَّه إن حذف الهمزة أَلْقَى حركتها على الباء ، فقال الخَبَ ، وإن حوَّلَها قال الخَبْي ، بسكون الباء وياء بعدها .

قال المبرد : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ، لم يَلْحَقْ بهم إلاَّ أنه إذا خرج من بلدهم لم يلق أَعْلَم منه .
قوله : « في السَّماوَاتِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب « الخَبْءَ » ، أي؛ المَخْبُوءُ في السموات .
والثاني : أنه متعلق ب « يُخْرِجُ » على أنَّ معنى ( في ) بمعنى ( مِنْ ) ، أي : يخرجه من السموات ، و « مِنْ » و « فِي » يتعاقبان ، يقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم ، أي منكم - قاله الفراء - ، وقرأ عبد الله : { يُخْرِجُ الخَبْءَ مِنَ السَّماواتِ } .
قوله : « مَا تُخْفُونَ » قرأ الكسائي وحفص بالتاء من فوق فيهما ، والباقون بالياء من تحت ، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي ، لأن ما قبله أَمرهُمْ بالسجود وخطابهم به والغيبة على قراءة الباقين غير حفص ظاهرة أيضاً ، لتقدم الضمائر الغائبة في قوله : « لَهُمْ » ، و « أَعْمَالَهُمْ » و « صَدَّهُمْ » و « فَهُمْ » وأما قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أَتَمَّ قصة أهل سبأ ، ويجوز أن يكون التفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر ، فخاطبه ملتفتاً إليه .
وقال ابن عطية : القراءة بيان الغيبة تُعْطِي أَنَّ الية من كلام الهدهد ، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله لأُمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم أن الظاهر أنه من كلام الهدهد مطلقاً .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)

قوله تعالى : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } هل هو من كلام الهدهد استدراكاً منه لمَّا وصف عرش بلقيس بالعظم ، أو من كلام الله تعالى رَدّاً عليه في وصفه عرشها بالعظم . والعامة على جر « العَظِيمِ » تابعاً للجلالة ، وابن محيصن ، بالرفع وهو يحتمل وجهين : أن يكون نعتاً للربّ ، وأن يكون مقطوعاً عن تبعيَّةِ « العرش » إلى الرفع بإضمار مبتدأ .
فصل
دلّ قوله : { يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض } [ النمل : 25 ] ( على كمال القدرة ، وسمي المخبوء بالمصدر ليتناول جميع الأرزاق والأموال ، فدلَّ قوله : { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ النمل : 25 ] على كمال العلم ، وإذا كان قادراً على كل المقدرات عالماً بكل المعلومات ، وجب أن يكون إلهاً ، والشمس ليست كذلك ، فلا تكون إلهاً ، وإذا لم تكن إلهاً ، لم تستحق العبادة . فإن قيل : إنَّ إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلالة الأنفس على دلالة الآفاق ، فإِنَّ إبراهيم قال : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ، ثم قال : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق } [ البقرة : 258 ] ، وموسى - عليه السلام - قال { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } [ الشعراء : 26 ] ، ثم قال : { رَبُّ المشرق والمغرب } [ الشعراء : 28 ] وههنا قدم خبأ السموات على خبء الأرض ، فجوابه ، أَن إبراهيم وموسى ناظرا من ادعى إلهية البشر ، فابتدءا بإبطال إلهية البشر ، ثم انتقلا إلى إلهية السماء ، وههنا الكلام مع من ادعى إلهية الشمس ، قوله { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله } [ النمل : 24 ] فلا جرم ابتدأ بذكر السماويات ، ثم بالأرضيات .
قوله : { أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ } الجملة الاستفهامية في محل نصب ب « نَنْظُرُ » ، لأنَّها مُعلّقة لها ، و « أَمْ » هنا متصلة ، وقوله : { أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } أبلغ من قوله : « أَمْ كَذَبْتَ » - وإن كان هو الأصل - لأنّ المعنى من الذين اتصفوا وانخرطوا في سلك الكاذبين . وقوله : « سَنَنْظُرُ » من النظر الذي هو التأمل . قوله : « هذَا » يجوز أن يكون صفة ل « كِتَابِي » أو بدلاً منه أو بياناً له .
قال المفسرون : إن سليمان - عليه السلام - كتب كتاباً فيه : « من عند سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ ، بسم الله الرحمن الرحيم ، السَّلامُ على من اتَّبع الهُدَى ، أما بعد ، أَلاَّ تَعْلُوا عليَّ وَأْتُوني مُسلمين » . قال ابن جريرج : لم يزد سليمان على ما قصّة الله في كتابه ، ثم ختمه بخاتمه ، ثم قال للهدهد : « اذْهَبْ بِكَتَابِي هذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ » .
قوله : « فَأَلْقِهِ » ، قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر بإسكان الهاء ، وقالون بكسرها فقط من غير صلة بلا خلاف عنه ، وهشام عنه وجهان : القصر والصلة ، والباقون بالصلة بلا خلاف ، وتقدم توجيه ذلك في « آل عمران » و « النساء » وغيرهما ، عند

{ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [ آل عمران : 75 ] و { نُوَلِّهِ مَا تولى } [ النساء : 115 ] . وقرأ مسلم بن جندب بضم الهاء موصولة بواو « فَأَلْقِهُو إِلَيْهِمْ » ، وقد تقدمخ ان الضم الأصل ، وقال « إليهم » - على لفظ الجمع - لأنه قال : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ } [ النمل : 24 ] والمعنى : فألقه إلى الذين هذا دينهم .
قوله : { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } ، زعم أبو علي وغيره أن في الكلام تقديماً ، وأن الأصل : فانظر ماذا يرجعون ، ثم تول عنهم . ولا حاجة إلى هذا ، لأن المعنى بدونه صحيح ، أي : قف قريباً منهم لتنظر ماذا يكون .
قوله : « مَاذَا يَرْجِعُونَ » إن جعلنا ( انظر ) بمعنى : تأمل وتفكر كانت « ما » استفهامية ، وفيها حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أن يجعل مع « ذا » بمنزلة اسم واحد ، وتكون مفعولة ب « يرجعون » تقديره : أي شيء ترجعون .
والثاني : أن يجعل « ما » مبتدأ ، و « ذا » بمعنى الذي ، و « يرجعون » صلتها ، وعائدها محذوف تقديره : أي شيء الذي يرجعونه ، وهذا الموصول هو خبر ما الاستفهامية وعلى التقديرين فالجملة الاستفهامية مُعَلِّقة ل « انظر » فمحلّها النصب على إٍقاط الخافض أي : انظر في كذا وفكر فيه وإن جعلناه بمعنى انتظر من قوله { انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [ الحديد : 13 ] كانت « مَاذَا » بمعنى الذي ، ( و « يَرْجعُونَ » صلتها وعائدها محذوف ) ، والعائد مقدّر كما تقرر وهذا الموصول مفعول به ، أي : انتظر الذي يرجعون . قال أبو حيان : و « ماذا » إن كان معنى « فانظُر » معنى التأمل بالفكر كان انظر معلقاً ، و « ماذا » إما أن يكون كلمة استفهام في موضع نصب ، وإما أن يكون « ما » استفهاما ، و « ذا » موصولة بمعنى الذي ، فعلى الأول يكون « يرجعون » خبراً عن « ماذا » ، وعلى الثاني يكون « ذا » هو الخبر ، و « يرجعون » صلة انتهى .
وهذا غلط إما من الكاتب ، وإما من غيره؛ وذلك أن قوله : « فعلى الأول » يعني به أن « ماذا » كلمة استفهام في موضع نصب يمنع قوله : « يَرْجِعُونَ » خبراً عن « ماذا » ، كيف يكون خبراً عنه وهو منصوب به كما تقرر ، وقد صرَّح هو بأنه منصوب يعني بما بعده ولا يعمل فيه ما قبله ، وهذا نظير ما تقدم في آخر السورة قبلها في قوله : { وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] في كون اسم الاستفهام معمولاً لما بعده ، وهو معلق لما قبله ، فكما حكمت على الجملة من « يَنْقَلِبُونَ » وما اشتملت عليه من اسم الاستفهام المعمول لها بالنصب على سبيل التعليق ، كذلك يحكم على « يَرْجِعُونَ » فكيف تقول : إنها خبر؟

إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)

قوله : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ } العامة على كسر الهمزتين على الاستئناف جواباً لسؤال قومها ، كأنهم قالوا : ممن الكتاب؟ وما فيه؟ فأجابتهم بالجوابين . وقرأ عبد الله : { وَإِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } بزيادة واو عاطفة { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } على قوله : { إني أُلْقِيَ إِلَيَّ } [ النمل : 29 ] . وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتح الهمزتين ، صرح بذلك الزمخشري وغيره . ولم يذكر أبو البقاء إلا الكسر في { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } وكأنه سكت عن الثانية ، لأنها معطوفة على الأولى ، وفي تخيرج الفتح فيهما أوجه :
أحدهما : أنه بدل من « كِتَاب » بدل اشتمال ، أو بدل كلٍّ من كلّ ، كأنه قيل : ألقي إليَّ أنه من سليمان ، وأنه كذا وكذا ، وهذا هو الأصح .
والثاني : أنه مرفوع ب « كَرِيم » ذكره أبو البقاء .
الثالث : أنه على إسقاط حرف العلة .
قال الزمخشري : ويجوز أن يريد لأنه من سليمان ولأنه ، كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره باسم الله . وقال مكي : وأجاز الفراء الفتح فيهما في الكلام ، كأنه لم يطلع على أنها قراءة وقرأ أُبيّ : أنْ من سليمان وأنْ بسم الله بسكون النون فيهما ، وفيها وجهان :
أظهرهما : أنها « أن » المفسرة ، لتقدم ما هو بمعنى القول .
والثاني : أنها المخففة واسمها محذوف ، وهذا لا يتمشى على أصول البصريين؛ لأن اسمها لا يكون إلا ضمير شأن وضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزئيها .
فصل
قال المفسرون : أخذ الهدهد هذا الكتاب ، وأتى به إلى بلقيس ، وكان بأرض يقال لها : « مأرب » من صنعاء ، فرمى بالكتاب إليها ، فأخذته بلقيس ، وكانت قارئة ، ومن ثم اتخذ الناس البطائق ، فلما رأت الخاتم أرعدت وخضعت ، لأن ملك سليمان كان في خاتمه ، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها ، لطاعة الطير وهيبة الخاتم ، فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد ، فقعدت على سرير ملكها ، وجمعت الملأ من قومها ، وقالت لهم : { إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [ النمل : 29 ] قال عطاء والضحاك : سمته كريماً ، لأنه كان مختوماً .
وروى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « كرمه ختمه » وقال مقاتل والزجاج : كريم أي : حسن ما فيه ، وروي عن ابن عباس أي : شريف لشرف صاحبه .
وقيل سمته كريماً ، لأنه مصدر ب « بسم الله الرحمن الرحيم » ، ثم بينت ممن الكتاب ، فقالت : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } ، وبينت المكتوب فقالت : { وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } . فإن قيل : لم قد سليمان اسمه على قوله : { بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ؟
فالجواب : حاشاه من ذلك ، بل ابتدأ الكتاب ب { بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ، وإنما كتب اسمه عنواناً بعد ختمه ، لأن بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه كما هو المعهود ، ولذلك قالت : { وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ، أي : إنّ الكتاب . . .

فالتقديم واقع في حكاية الحال . واعلم أن قوله : { بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } مشتمل على إثبات الصانع سبحانه ، وإثبات كونه عالماً قادراً حياً مريداً حكيماً رحيماً .
فصل
وقد استنبط الشيخ الإمام العالم شرف الدين محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري من أسرار البسملة ما أبطل به مذهب النصارى ، فقال : بلغني أن بعض النصارى انتصر لدينه ، وانتزع من البسملة الشريفة دليلاً على تقوية اعتقاده في المسيح وصحة يقينه فقلب حروفها ونكر معروفها وفرق مألوفها وقدم فيها وأخر وفكّر وقدر فتقل كيف قدر ، ثم عبس وبسر ، ثم أدبر واستكبر ، فقال : قد انتظم من البسملة : « المسيح ابن الله المحرر » . وظن ذلك سراً في قلب البسملة مضمراً ، وعلى جبين الكتاب العزيز مسطراً ، فنظرت إلى ما عزاه إلى البسملة واستخرجه من حروفها المستعملة والمهملة فإذا هو : « لا ما المسيح ابن الله محرر » ، فأسقط في يده ، ونكص على عقبيه ، وقامت حجته من لسانه عليه ، ثم عاد إليّ رسوله يخبر أن الذي صح له نظمه وتمت عنده منها حكمه : « ألم المسيح ابن الله محرراً » ، فقلت : ورسل الله كلهم ألموا وأنبياؤه ، فأي خصوصية لربك بالنبوة ، وأي رتبة زدته بهاعلى النبوة ، فقال : أردت بالألم إثبات ما أنكرته من الصلب ، ونقيته عنه من ألم الطعن والضرب ، وقد شهدت به كتب الله المنزلة ، وشافهتك به حروف البسملة ، فقلت : وهل شهدت لك إلا بالنقيض ، ورحت منها بأخيب قداح المفيض ، وحيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكماً وجوزت منها أحكاماً عليك وحكماً ، فالتنصرن البسملة الأخيار منا على الأشرار ، ولتفضلن أصحاب الجن على أصحاب النار ، وحيث كان مقصودك من ذكر الألم الإفصاح عما أردته من الصلب والطعن والضرب والثلب وسقيه من الخل الممزوج بالمرار بئس الشراب فخذ الجواب عنه ، والله الموفق للصواب : أما دعواك النبوة فقد قالت لك البسملة بلسان حالها : لا ما المسيح ابن الله محرر ، وألحقته بقولها : الحلم ربح رأس المال ، لحملة الإيمان ، الحلم ربح رأس مال الإيمان ، ليس برّاً من أَحَلَّ ما حرم الله ، المسلم له نبي حرم الراح لنبيه ، سلم بالله من يحرم الراح ، لله نبي مسلم حرم الراح ، المسلم للرحمانية رابح ، لا مرحمة للئام أبناء السحرة ، رحم حر مسلم أناب إلى الله ، إنما الله رب للمسيح راحم . وزعمت أنه ربك ، فقالت : حرم من لا رب له إلا المسيح ، وقالت أيضاً : النحر لأمم لها المسيح رب ، وقلت : إنه حمل الله ، فقالت : أسمي لله ابن المحرر حملاً ، وقالت ما أسلم الرب حمله يسخر ، وقالت : ألا يحرس الرب حمله من ألم؟ وقلت : إنه ألم ، فقالت المحرر من ربه حل الألم ، وقالت : سل حمرنا أربهم يحل الألم؟ وقالت : حرم حمار ينسب لله الألم ، وقلت : إنه طعن بالحربة مسمراً ، فقالت : من رأى المسيح ألم للحربة ، وقالت : إن ربّاً حلل مسمره لحليم ، وقالت : أحالل ربنا الحليم مسمره؟ وقالت : أمحالل الرب الحي من سمره ، وقلت : إنه إله يحلل ويحرم ، فقالت : ابن سليل رحم لا غله محرم ، وقالت : سل ابن مريم أحل الحرام ، وقالت : أمحلل لم حرمه رب الناس ، وإن قلت : إنه رسول صدقتك ، وقالت : أيل أرسل الرحمة من بلحم ويرحمه؛ أيل اسم من أسماء الله تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم « بيت لحم » الذي ولد في المسيح .

وقلت : إنه ركب الحمار ، فقالت : سلم أن الرب لا يحمله حمار ، وقالت للناس : رب لم يحمله حمار وباهيتها ببسملتك التي لفقها الفلاسفة للأساقفة ، فقالت لم نر أحبار الملة المسيح ، وقالت : أحبار الملة محل مرسلين ، وقال : ما حرر إلا المسيح الأمانة وقلت : إن النصارى لا تمسهم النار ، فقالت : حر لهب النار لأمم المسيح ، وكهرت الإسلام بإيمان ، وقالت : من حرم الإسلام لا ربح له ، وقالت : إن المسلم لحري بالرحمة ، وقالت : ما برح الله راحم المسلمين ، وقالت : إن ملة الإسلامة رحم رحيب ، وقالت : لا راحة لمحارب المسلمين ، وقالت : إن ملة الإسلام رحم رحيب ، وقالت : لا راحة لمحارب المسلمين ، وقالت : الإسلام حرم لا رأي لمحاربه . وقالت : المسلم حرب للنار الحامية ، وقالت : حن المسلم إلى رحمة الرب ، وقالت : الأحبار رحمة للمسلمين ، وقالت : المحراب راحة للمسلمين ، ونَقِمْتَ قيام الدين بالسيف ، فقالت : أم الحسام للنبي الرحمة ، وأثنت البسملة على نفسها فقالت : البسملة لأرحم الراحمين ، وقالت : الحرُّ ينال الرحمة ما بسمل . فانظر إلى البسملة قد لاحت لك بارقة من أنوارها وحلت لك عقدة من إزار أسرارها تخبر أن من وارء رجلها خيولاً وليوثاً ، ومن دون طلبها سيولاً وغيوثاً ، وأما بسملتك فلو كان على أصل ثابت ، أو لم تغرس من الكفر على أخبث المنابت ، لهززت إليك بجذعها ، واستدللت عل طيب أصلها بخير فروعها ، لكنّي ودتها شجرة خبيثة ، وثمرة لا تسوغها القديمة ولا الحديثة ، ألفاظها تصم الأسماع ومعانيها تحلّ عقود الإجماع ، والنظر فيها يصدىء الأفهام والعقول ، ويعلم كل غائب ما يقول ، ولذلك ضربت عن ذكرها صفْحاً ، وعددت الإعراض عنها غنيمةً وربحاً ، فكفرها قائم وقاعد ، والمعترف بها سواء والجاحد ، والثلاثة الآلهة فيها يوصفون بالواحد ، وأما بسملة المسلمين : فإنّ الله أودعها من العلوم والحكم ما فضلهم به على سائر الأمم ، وأعلم أنّ منها ألفات اختصرت ، وبين الهجاء مواضعها غابت أو حضرت ، وقد استعملت بعضها في بعض المواضع؛ لأبين حكمها وأحيي رسمها ، وصرفتها للمسألتين ، وصارت كعبة فضلها للقبلتين ، وتارة توافق حروفها في العدد والعادة ، وتارة تقضي على ألفات الوصل بالزيادة ، وما أخطأت - بحمد الله - منها واحدة صواباً ، ولا عييت جواباً ولا خرجت عن حدها كتابة ولا حساباً ، ولا تحسبني استحسنت كلمتك الباردة ، فنسجت على منوالها ، وقابلت الواحدة منها بعشر أمثالها ، وما كان ذلك الهذيان مما يُجاب ، لولا ما يداخلك من التيه والإعجاب ، فتظن أنّك جِئْتَ بشيء عُجاب ، أو حكمة كلمك الله بها وحياً أو من وراء حجابٍ ، وتقول لإخوانك الذين يمدُّونك في الغَيّ ويحسبون أنك على شيء : قد أفحمت بكلمتي المسلمين ، وأسكت بمسألتي فُضلاء المتكلمين ، فتذر قومك في طغيانهم ، وتقرهم على فساد إيمانهم ، ولا أنت ممن يجري بمحاكاة كفرك قلمي ، ولا أحرّك به لساني ، ولا أفغر به فمي ، وقد أتيتك بما يتعبك فيبهتك ويسمعك ما يصمّك عن الإجابة ، ويصمتك على أسلوب رأيته في كتب أنبيائك ، وتفاسير علمائك تعلم به أنّ هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون ، ومستودع لجوهر سرِّها المكنون ، أَلاَ ترى أَنَّ البسملة إذا حصلت جُمَلها كان عدده سبعمائة وستة وثمانين ب ، س ، م ، ا ، ل ، ل ، ه ، ا ، ل ، ر ، ح ، م ، ن ، ا ، ا ، ل ، ر ، ح ، ي ، م ، 2 ، 60 ، 40 ، 1 ، 30 ، 30 ، 5 ، 1 ، 30 ، 200 ، 8 40 ، 50 ، 1 ، 30 ، 200 ، 8 ، 10 ، 40 وإذا قُلتَ إِنّ مثل عيسى كآدم وافق جملها سبعمائة وستّة وثمانين ، وإنْ باهيتها ببسملتك التي ترعد من كفرها الفرائص ، وتجوز بالبهتان ما لا يجوز على الله من النقائص ، ردت عليه وقالت : ليس لله من شريك ، جملها سبعمائة وستة وثمانين ، بحساب الألف التي بعد لامي الجلالة ، وقالت : ولا أشر ربّي أحداً سبعمائة وستة وثمانين ، وقالت : ما لِعُلُومِ الفلسفة أنوار هداية ، سبعمائة وستة وثمانين ، وقالت : يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ : سبعمائة وستة وثمانين ، بإسقاط ألف الجلالة .

ولو استشهدت ببسملتك لشهدت لي بالحقّ عليك ، وشكت إلى الله وإلى النّاس مما نسبت من الإفك والبهتان إليك ، إذا ألفاظها - وحاكي الكفر ليس بكافر - تنافي المعقول والمنقول ، وتنافر : « بسم الب والابن وروح القدس ، إله واحد » ، وباطنها يقول : « ما سبح إلاّ بنور ، الإله القدوس واحد » ، وتقول : بسملوا بالقرآن ، ووحّدُوا الله قبله العذاب ، ونظرت في محصلها من العدد ، فإذا جملته ستمائة وستة وتسعون ، فإذا قلت : أُفٍّ لها بسملة ما نزّل اللَّه بها من سُلطَانٍ ، وافقت المعنى وطابقت العدد ، وكانت ستمائة وستة وتسعون ، وكذلك ما عطفته عليها من الكلام ، وهو : { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } [ الحجرات : 11 ] موافق للمعنى مطابق للعدد : ستمائة وستة وتسعون ، وكذلك قولك : « لا بسملة بحقّ كبسملةِ المسلمين » ستمائة وستة وتسعون ، وقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خُبراً ، وجاءتك بما لم تستطع عليه صبراً ، على الأسلوب الذي تضمنته شريعتكم ، فإنّي رأيت في إنجيلك وقد سَأَلَتْ بنو إسرائيل المسيح أن يُرِيهم آية ، ليؤمنوا به وهو في بيت المقدس ، فقال : تهدمون هذا الهيكل ، وأنا أٌقِيمُه في ثلاثة أيام ، فقالوا : بيت بني في خمسة وأربعين سنة ، يقيمه في ثلاثة أيام!! وعلله في الإنجيل أنه أشار إلى هيكل نفسه الذي هو هيكل آدم ، وحمله خمسة وأربعون وفي هذا ردّ عليهم ليس هذا موضعه .

ورأيتُ في التوراة في البشارة بإسماعيل بعد قوله : « وأكبره وأنميه بماد ماد » ومعناه بحد جدلها بل اشار بها إلى اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، بطريق الحمل ، إذ هو اثنان وتسعون في الموضعين ، وفي قصة يعقوبإذ قال لبنيه { مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } [ البقرة : 133 ] ، فقالوا له : أعلم إسرائيل ( الله أحد ) فطابت نفسه ، وعلم أن بنيه الاثني عشر سبطاً يعبدون الله وحده ، لأنّهم عَدَلُوا عن قولهم : « اللَّه واحدٌ » إلى قولهم : « اللَّهُ أَحَدٌ » ، إذ جملها ثلاثة عشر ، وهي إشارة إلى أنّ الاثني عشر سبطاً يعبدون الله الواحد . وفيه أنّ المصلّي إذا دخل في الصلاة تكون على رأسه طيلسان يسمى : « صيصيت » ، وفي طرفه خمسة خيوط وثمان عقد ليجتمع له من جمع صيصت وهو ستمائة ومن خمسة خيوط وثمان عقد ثلاثة عشر لتتمة ما عليهم من الفرائض ، وهي ستمائة ، وثلاث عشرة فريضة ، ليذكورا بها ما كتب الله عليهم من الفرائض ، والتزموا ( بها ) . ولنرجع إلى الإعراب والتفسير .
قوله : « أَلاَّ تَعْلوا » فيه أوجه :
أحدها : أن « أَنْ » مفسرة كما تقدم في أحد الأوجه في « أَنْ » قبلها في قراءة عكرمة ، ولم يذكر الزمخشري غيره ، وهو وجه حسن ، لما في ذلك من المشاكلة ، وهو عطف الأمر عليه ، وهو قوله : « وَأْتُونِي » .
الثاني : أنها مصدرية في محل رفع بدلاً من « كِتَاب » ، كأنّه قيل : ألقي إليَّ أن لا تعلُوا عَلَيَّ .
الثالث : أنها في موضع رفع على خبر ابتداء مضمر ، أي هو أن لا تعلوا .
الرابع : أنها على إسقاط الخافض ، أي : بأن لا تعلوا ، فيجيء في موضعها القولان المشهوران .
والظاهر أن « لا » في هذه الأوجه الثلاثة للنهي ، وقد تقدّم أن « أَنْ » المصدرية توصل بالمتصرف مطلقاً . وقال أبو حيان : و « أَنْ » في قوله : { أَن لاَّ تَعْلُواْ } في موضع رفع على البدل من « كتاب » ، وقيل في موضع نصب على : { بأَنْ لاَّ تَعْلُوا } ، وعلى هذين التقديرين تكون « أن » ناصبة للفعل . فظاهر هذا أنّها نافية ، إذ لا يتوصر أن تكون ناهية بعد « أن » الناصبة للمضارع ، ويؤيّد هذا ما حكاه عن الزمخشري ، فإنّه قال : وقال الزمخشري : و « أن » في أن لا تَعْلُوا مفسرة ، قال : فَعَلَى هذا تكون « لا » في : « لاَ تَعْلُوا » للنهي ، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه فقوله : « فعلى هذا » : إلى آخره صريح بأنّها على غير هذا يعني الوجهين المتقدمين ليس للنهي فيهما ، ثم القول بأنّها للنفي لا يظهر ، إذ يصير المعنى - على الإخبار منه عليه السلام - بأنّهم لا يعلون عليه ، وليس هذا مقصوداً ، وإنّما المقصود أن ينهاهم عن ذلك .

وقرأ ابن عباس والعقيلي : « تغلوا » - بالغين المعجمة ، من الغلو ، وهو مجاوزة الحد .
فصل
قال ابن عباس : « لا تتكبروا عليَّ » ، وقيل : لا تتعظموا ولا ترتفعوا عليَّ أي : لا تمتنعوا من الإجابة ، فإنّ ترك الإجابة من العلوّ والتكبر ، « وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ » : مؤمنين طائعين ، قيل : هو من الإسلام ، وقيل : من الاستسلام . فإنْ قيل : النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولاً حقاً يدل على الاكتفاء بالتقليد .
فالجواب : معاذ الله أن يكون هناك تقليد؛ وذلك لأنّ رسول سليمان إلى بلقيس الهدهد ، ورسالة الهدهد معجزة ، والمعجزة تدل على وجود الصانع وصفاته ، وتدل على صدق المُدَّعِي للرسالة ، فلمَّا كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة ، لا جرم لم يذكر في الكتاب دليل آخر .
قوله : { ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي } أشيروا عليَّ فيما عرض لي ، وأجيبوني فيما أشاوركم ، والفتوى هي الجواب في الحادثة ، استفتت ، على طريق الاستفادة من الفتي في السن ، أي : أجيبوني في الأمر الفتي ، وقصدت بذلك استطلاع آرائهم وتطييب قولبهم .
{ مَا كُنتُ قَاطِعَةً } قاضية وفاصلة ، { حتى تَشْهَدُونِ } تحضرون . « قَالُوا » مجيبين لها ، { نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ } في القتال ، { وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } ، في الحرب ، قال مقالت : أرادوا بالقوة كثرة العدد ، وأرادوا بالبأس الشديد : الشجاعة ، والبأس : النجدة والبلاء في الحرب ، وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك ، ثم قالوا : « وَالأَمْرُ إِلَيْكِ » أيتها الملكة في التقال وتركه .
قوله : « مَذَا تَأْمُرِينَ » ماذا هو المفعول الثاني ل « تأمرين » ، والأول محذوف تقديره : « تأمريننا » ، والاستفهام معلق للنظر ، ولا يخفى حكمه مما تقدم قبله ، والمعنى : فانظري في الرأي ماذا تأمرين تجدينا لأمرك طائعين . قالت - مجيبة لهم - عن التعريض بالقتال - :

قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)

قوله تعالى : { إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً } بالقهر « أَفْسَدُوهَا » : خرّبوها ، { وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } ، فذكرت لهم عاقبة الحرب ، وحذرتهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم .
قوله : « وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ » أي : مثل ذلك الفعل يفعلون ، وهل هذه الجملة من كلامها - وهو الظاهر - فتكون منصوبة بالقول ، أو من كلام الله تعالى ، فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب ، وهي معترضة بين قولها .
قوله : { وكذلك يَفْعَلُونَ } : ما بعث على وجه الإكرام ، وهي اسم للمهدى ، فيحتمل أن يكون اسماً صريحاً ، ويحتمل أن تكون - في الأصل - ( مصدراً أطلق على اسم المفعول ، وليست مصدراً قياسياً ، لأن الفعل منه : أهدى رباعياً ، فقياس ) مصدره : إهداء .
فصل
اعلم أنَّ بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ } ، أي : لسليمان وقومه « بِهَديَّةٍ » أصانعه على ملكي وأختبره بها أَمَلِكٌ أَم نبيّ ، فإن يكن ملكاً قبل الهديّة وانصرف ، وإن يكن نبيّاً لم يقبل الهديّة ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه ، فذلك قوله : { فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون } ، ( وهذا الكلام يدل على أنّها لم تثق بالقبول وجوّزت الرد ، وأرادت أن ينكشف لها غرض سليمان ) .
قوله : « فَنَاظِرَةٌ » عطف على « مُرْسِلَة » ، و « بم » متعلق ب « يرجع » ، وقد وهم الحوفي فجعلها متعلقة ب « نَاظِرَةٌ » ، وهذا لا يستقيم ، لأن اسم الاستفهام له صدر الكلام و « بم يرجع » معلق لناظرة .
قوله : { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ } أي : فلما جاء الرسول ، أضمره لدلالة قولها « مرسِلة » فإنه يستلزم رسولاً ، والمراد به الجنس لا حقيقة رسول واحد ، بدليل خطابه لهم بالجمع في قوله : « أَتَمِدُّونَنِي . . » إلى آخره ، وكذلك قرأ عبد الل : فلما جاءوا ، وقرأ : « فارجعوا إليهم » ، اعتباراً بالأصل المشار إليه .
قوله : « أَتُمِدُونَنِي » استفهام إنكار ، وقرأ حمزة بإدغام نون الرفع في نون الوقاية ، وأام الياء فإنه يحذفها وقفاً ، ويثبتها وصلاً على قاعدته في الزوائد ، والباقون بنونين - على الأصل - وأما الياء فإن نافعاً وأبا عمرو كحمزة يثبتانها وصلاً ويحذفانها وقفاً ، وابن كثير يثبتها في الحالين ، والباقون يحذفونها في الحالين .
وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة ، فتكملت ثلاثة قراءات كما في : { تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] .
قال الزمخشري : ما الفرق بين قولك : أتمدونني بمال وأنا أغنى منكم ، وبين أن تقوله بالفاء؟ قلت : إذا قلته بالواو فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى ، وهو - مع ذلك - يمدني بالمال ، وإذا قلته بالفاء فقد جعلته ممن خفي عليه حالي ، وإنما أخبره الساعة بما لا أحتاح معه إلى إمداده ، كأني أقول له : أنكر عليك ما فعلت فإني غني عنه ، وعليه ورد قوله : { فَمَآ آتَانِي الله خَيْرٌ } انتهى .

وفي هذا الفرق نظر ، إذ لا يفهم ذلك بمجرد الواو والفاء ، ثم إنه لم يجب عن السؤال الأول ، وهو أنه : لم عدل عن قوله : وأنا إغنى منكم إلى قوله : { فَمَآ آتَانِي الله } ؟
وجوابه : أنه أسند إيتاء الغنى إلى الله ، إظهاراً لنعمته عليه ، ولو قال : وأنا أغنَى منكم ، كان فيه افتخار من غير ذكر لنعمة الله عليه ، فأظهر - بهذا الكلام - قلة الاكتراث بذلك المال . قوله : « بَلْ أَنْتُم » إضراب انتقال ، قال الزمخشري : فإن قلت : فما وجه الإضراب؟ قلت : لما أنكر عليهم الإمداد ، وعلل إنكاره ، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه ، وهو أنهم لا يعرفوهم سبب رضى إلا مما يهدى إليهم من حظوظ الدنيا التي لا يعرفون غيرها ، والهدية : يجوز إضافتها إلى المهدي وإلى المهدى إليه ، وهي هنا محتملة للأمرين . قال أبو حيان : وهي هنا مضافة للمهدى إليه ، وهذا هو الظاهر ، ويجوز أن تكون مضافة إلى المهدي ، أي : بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار .
قال شهاب الدين : كيف يجعل الأول هو الظاهر ، ولم ينقل أن سليمان - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليهم هدية في هذه الحالة ، حتى يضيفها إليهم ، بل الذي يتعين إضافتها إلى المهدي . ومعنى الآية : { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } ، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ومكاثرة بها تفرحون بإهداء بعضكم لبعض ، وأما أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي ، لأن الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحداً ، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة . قوله : « ارْجِعْ » الظاهر أن الضمير يعود على الرسول ، وتقدمت قراءة عبد الله : « ارجعوا » ، وقيل : يعود على الهدهد . « فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ » وهذا جواب قسم مقدر ، وكذلك قوله : « ولَنُخْرَجَنَّهُم » . قوله : « لاَ قِبَلَ » صفة ل « جُنُود » ، أي : فيجري مجرى المؤنثة الواحدة كقولهم : الرِّجَالُ وأعضَادَها . وقرأ عبد الله « بهم » على الأصل . « ولَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا » أي من بلادهم وأرض سبأ « أَذِلَّةً » حال ، والذل : أن يذهب عنهم ما كان عندهم من العز والملك . وقله : « وَهُمْ صَاغِرُون » حال ثانية ، والظاهر أنها مؤكدة ، لأن « أَذِلَّةً » تغني عنها . فإن قيل : قوله « فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ » ، و « لَنُخْرِجَنَّهُمْ » قسم ، فلا بد أن يقع
فالجوابك أنه معلق على شرطٍ حُذِفَ لفهم المعنى ، أي : إن لم يأتوني مسلمين ، والصغار : أن يقعوا في أسر واستبعاد .
فصل
قال ابن عباس : لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان ، قالت : قد عرفت والله ما هذا بملك ، ولا لنا به من طاقة ، وبعثت إلى سليمان : إني قادمة عليك بملوك قومي ، حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ثم آذنت بالرحيل إلى سليمان ، فلما قربت منه على فرسخ ، قرأى سليما رهجاً قريباً ، فقال ما هذا؟ قالوا بلقيس قد نزلت منا بهذا المكان . قال ابن عباس : وكان بن الكوفة والحيرة قدر فرسخ ، فأقبل سليمان حينئذٍ على جنوده ، فقال : { قَالَ ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ؟ .

قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

قال ابن عباس : طائعين ، واختلوفا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها ، فقال أكثرهم : لأن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليها مالها ، فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها ، وقيل : ليريها قدرة الله تعالى وعظيم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها . وقال قتادة : لأنه أعجبه صفته لما وصفه الهدهد ، فأحب أن يراه . وقال ابن زيد : أراد أن يأمر بتنكيرها وتغييرها ، فيختبر بذلك عقلها ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتديا } [ النمل : 41 ] .
قوله : « قَالَ عِفْرِيتٌ » العامة على كسر العين وسكون الفاء بعدها تاء مجبورة .
وقرأ أبو حيوة : بفتح العين ، وأبو رجاء وأبو السمال - ورويت عن أبي بكر الصديق - « عفرية » مفتوحة بعدها تاء التأنيث المنقبلة هاء وقفاً ، وأنشدوا على ذلك قول ذي الرمة :
3962 - كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عِفْرِيَةٍ ... مَصَوَّبٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ مُنْقَضِبُ
قرأت اطائفة « عِفْر » بحذف الياء والتاء ، فهذه أربع قراءات قد قرىء بهن ، وفيه لغتان أخريان ، وهما : عُفَارِيَّةٌ ، وطيّىء وتميم يقولون : عِفْرَى بألف التأنيث كذكرى ، واشتقاقه من العفر ، وهو التراب ، يقال : عافره فعفره أي : صارعه فصرعه وألقاء في العفر وهو التراب . وقيل : من العفر ، وهو القوة . والعفريت من الجن المارد الخبيث ، ويقال : عفريت نفريت ، وهو إتباع كشيطان ليطان ، وحسن بسن . ويستعار للعارم من الإنس ، ولاشتهار هذه الاستعارة وصف في الآية بكونه من الجن ، تمييزاً له . قال ابن قتيبة : العفرية الموثق الخلق . وعفرية الديك والحبارى للشعر الذي على رأسهما . وعَفَرْنَى للقويّ ، ورجل عِفِرٌّ - بتشديد الراء - للمبالغة ، مثل : شرّ شِمرٌّ . قيل : إِنَّ الشيطان أقوى من الجن ، وإن المردة أقوى من الشياطين ، وإن العفريت أقوى منهما . قال بعض المفسرين : العفريت من الرجال الخبيث المنكر ، وقال ابن عباس : العفريت ، الداهية ، وقال الربيع : الغليظ ، وقال الفراء : القوي الشديد .
قوله : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ } يجوز أن يكون فعلاً مضارعاً ، فوزنه أفعل ، نحو : أضرب ، والأصل : أأتيك - بهمزتين - فأبدلت الثانية ألفاً ، وأن يكون اسم فاعل ، ووزنه فاعل ، والألف زائدة ، والهمزة أصلية عكس الأول . وأمال حمزة « آتيك » في الموضعين في هذه السورة بخلاف عن خلاد .
فصل
قوله : { قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } أي : مجلسك الذي تقضي فيه ، قال ابن عباس : كان له في كل غداة مجلس يقضي فيه إلى انتصاف النهار ، « وإِنِّي عليهِ » على حمله ، « لَقويٌّ أَمين » به على ما فيه من الجواهر ، فقال سليمان : أريد أسرع من هذا ، ف { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب } ، فقيل : هو جبريل - عليه السلام - وقيل : ملك من الملائكة أيَّد الله به نبيه سلمان - عليه السلام - وقال أكثر المفسرين : هو آصف بن برخياء ، وكان وزير سليمان ، وكان صدّيقاً يعلم اسم الله الأعظم ، إذا دعا به أجيب ، وقيل : بل هو سليمان نفسه ، والمخاطب هو العفريت الذي كلمه ، وأراد سليمان - عليه السلام - إظهار معجزة ، فتحداهم أولاً ، ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت .

( قال محمد بن المنكدر : إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله علماً وفهماً : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } ، قال سليمان : هاتِ ، قال : أنت النبي ابن النبي ، وليس أحد أوجه عند الله منك ، فإن دعوت الله وطلبت إليه كان عندك ، قال : صدقت ، ففعل ذلك ، فجيء بالعرش في الوقت . وضعف السهيلي ذلك بأنه لا يصح من سياق الكلام ) ، قال ابن الخطيب : وهذا القول أقرب لوجوه :
الأول : أن لفظة « الذي » موضوعة في اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفها بقضية معلومة ، والشخص المعروف بأنه عنده علم من الكتاب هو سليمان - عليه السلام - فوجب انصرافه إليه أقصى ما في الباب أن يقال : كان آصف كذلك أيضاً ، لكنا نقول : إن سليمان كان أعرف بالكتاب منه ، لأنه هو النبي ، فكان صرف اللفظ إلى سليمان أولى .
الثاني : أن غحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية ، فلو حصلت لآصف دون سليمان ، لاقتضى ذلك قصور حال سلميان في أعين الخلق .
الثالث : أن سليمان قال { هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلونيا أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } فظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان .
فصل
واختلفوا في الكتاب ، فقيل : هو اللوح المحفوظ ، والذي عنده علم الكتاب جبريل - عليه السلام - وقيل : كتاب سليمان ، أو كتاب بعض الأنبياء ، وفي الجملة فإنّ ذلك مدح ، وإن لهذا الوصف تأثيراً في نقل ذلك العرش ، ولذلك قيل : إنَّه اسم الله الأعظم ، وإن عنده وقعت الإجابة من الله تعالى في أسرع الأوقات .
قوله : { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الجفن عُبِّر به عن سرعة الأمر كما تقول لصاحبك : افعل ذلك في لحظة ، وهذا قول مجاهد ، وقال الزمشخري : وهو تحريكك أجفانك إذا نظرت ، فوضع موضع النظر .
الثاني : أنه بمعنى المطروف ، أي : الشيء الذي تَنْظُره ، والأول هو الظاهر ، لأن الطرف قد وصف بالإرسال في قوله :
3963 - وَكُنْتَ إَذَا أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً ... لِقَلْبكَ يوماً أَتْعَبَتْكَ المَناظِرُ
رَأيتَ الَّذِي لا كلّه أَنْتَ قَادِر ... عَليْه ولاَ عن بعضهِ أَنْتَ صَابِرُ
قال سعيد بن جبير « من قبل أن يرتد » أي : من قبل أن يرجع إليك أقصى ( من ترى ، وهو أن يصل إليك من كان منك على مدّ بصرك .

وقال مجاهد : يعني إدامة النظر ) حتى يرتد الطرف خاسئاً . وقال وهب : تمد عينك فلا ينتهي طرفك إلى مداه ، حتى أمثله بين يديك . فإن قيل : هذا يقتضي ( إما القول بالطفرة ) أو حصول الجسم الواحد دفة واحدة ي مكانين .
والجواب : أن المهندسين قالوا : كرة الشمس مثل كرة الأرض مائة وأربعة وستين مرة ثم إن زمان طلوعها زمان قصير ، فإن زمان طلوع تمام القرص على زمان البعد الذي بين الشام واليمن كانت تلك اللمحة كثيرة فلما ثبت عقلاً إمكان وجود هذه الحركة السريعة وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات زال السؤال .
قوله : « فَلَما رآهُ » يعني سليمان ، العرش « مستقراً » عنده محمولاً إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف ، ف « مُسْتَقِراً » حال ، لن الرؤية بصرية ، و « عنده » معمول له ، لا يقال إذا وقع الظرف حالاً وجب حذف متعلقه ، فكيف ذكر هنا؟ لأن الاستقرار هنا ليس هو ذلك الحصول المطلق ، بل المراد به هنا الثابت الذي لا يتقلقل ، قاله أبو البقاء . وقد جعله ابن عطية هو العامل في الظرف الذي كان يجب حذفه ، فقال : وظهر العامل في الظرف من قوله « مُسْتَقِراً » ، وهذا هو المقدر أبداً مع كل ظرف جاء هنا مظهراً ، وليس ي كتاب الله مثله ، وما قاله أبو البقاء أحسن على أنه قد ظهر العامل المطلق في قوله :
3964 - فَأَنْتَ لَدَى بُحْبوحَةِ الهُونِ كَائِن ... وقد تقدم ذلك محققاً في أول الفاتحة .
قوله « أأشكر » معلق « ليبلوني » ، وأم متصلة ، وكذلك قوله : { نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ } [ النمل : 41 ] . قوله : { ومَنْ شَكَر . . . ومن كفر } يحتمل أن تكون « من » شرطية ، أو موصولة مضمّنة معنى الشرط ، فلذلك دخلت الفاء في الخبر ، والظاهر أن جواب الشرط : الثاني : أو خبر الموصول قوله : { فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } ولا بد حينئذ من ضمير يعود على « من » تقديره غني عن شكره ، وقيل الجواب محذوف تقديره : فإنما كفر عليه ، لدلالة مقابله ، وهو قوله { فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } عليه .
فصل
تقدم معنى الابتلاء ، وقوله : أشكر نعمته أم أكفرها فلا أشكرها ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، أي : يعود نفع شكره إليه وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها ، لأن لاشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة ، ومن كفر فإن ربي غني عن شكره كريم بالإفضال لعى من يكفر نعمه .

قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)

قوله : { قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } أي : غيّروا لها سريرها إلى حال تُنْكِرُه إذا رأته ، وذلك أنه إذا تُرِك على حاله معرفتها لا محالة . وإذا غُيّر دلت معرفتها على فضل عقل .
قوله : « نَنْظُرْ » العامة على جزمه جواباً للأمر قبله ، وأبو حيوة بالرفع ، جعله استئنافاً .
فصل
روي أنه جعل أسفله أعلاه ، وأعلاه أسفله ، وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ، ومكان الأخضر أحمر . « نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي » إلى عرشها فتعرفه ، أم تكون من الجاهلين الذين لا يهتدون إليه ، وقيل : أتعرف به نبوة سليمان ولذلك قال : { أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ } إليه ، وذلك كالذم ، ولا يليق إلا بطريق الدلالة ، فكأنه - عليه السلام - أحب أن تنظر فتعرف به نبوته ، حيث صار منتقلاً من المكان البعيد إلى هناك ، وذلك يدل على كمال قدرة الله تعالى ، وعلى صدق سليمان - عليه السلام - . ويعرف بذلك أيضاً فضل عقلها ، لأنه روي أنه ألقِي إليه نقصان عقلها ، لكي لا يتزوجها - كما ذكر وهب ومحمد بن كعب وغيرهما - أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن ، وذلك أن أمّها كانت جنية ، وإذا ولدت ولداً لا ينكفون من تسخير سليمان وذريته من بعده ، فأساءوا الثناء عليها ، ليزهّدوه فيها ، وقالوا : إن في عقلها شيئاً ، وإن رجلها كحافر الحمار ، وإنها شعراء الساقين ، فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها ، وينظر إلى قدميها ببناء الصرح .
قوله : « أَهَكَذَا » ثلاث كلمات - حرف التنبيه وكأن التشبيه واسم الإشارة - فُصِل ( بحرف الجرِّ بيْنَ حرف التنبيه واسم الإشارة ، والأصل : أَكَهَذا ، أي : ( أ ) مِثْل هذا عرشُكن ولا يجوز ذلك في غير الكاف لو قُلت : أَبهذا مَرَرْت ، وأَلهذا فعلتُ لم يجز أن تفصِل ) بحرف الجرّ بين « ها » و « ذا » فتقول : أَهَا بِذَا مَرَرْتُ وأَهَا لِذَا فَعَلْتُ .
قوله : { قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } ، قال مقاتل : عرفتْه ، ولكنها شبَّهت عليهم كما شبَّهوا عليها ، وقال عكرمة : كانت حكيمة لم تقل ، ولكنها شبَّهت من أن تكذب ، ولم تقل : لا ، خوفاً من التكذيب ، قالت كأنه هو ، فعرف سليمان كمال عقلها ، حيث توقفت في محل التوقف ، قيل لها : فإنه عرشك ، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب عليه ، وكانت قد أغلقت عليه الأبواب وأخذت مفاتيحها . قوله : { وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا } فيه وجهان :
أحدهما : أنه من كلام بلقيس ، فالضمير في « قَبْلِهَا » راجع للمعجزة والحالة الدَّالة عليها السياق والمعنى : وأُوتينا العلم بنبوة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة ، وذلك لِمَا رأَت قبل ذلك من أمر الهُدهد ورد الهدية والرسل « من قَبْلِهَا » من قبل الآية في العرض ، « وَكُنَّا مُسْلِمِينَ » منقادين طائعين لأمر سليمان .

الثاني : أنه من كلام سليمان وأتباعه ، فاضمير في قبلها عائد على بلقيس ، فكأن سليمان وقومه قالوا : إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة ، وقد رزقت الإسلام ، ثم عطفوا على ذلك قولهم : وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة مثل علمها ، وغرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزيد التقدم في الإسلام ، قاله مجاهد .
قوله : { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله } في فاعل « صَدَّ » ثلاثة أوجه :
أحدها : ضمير الباري .
والثاني : ضمير سليمان ، أي منعها ما كانت تعبد من دون الله ، وهو الشمس ، وعلى هذا ف { مَا كَانَتْ تَعْبُدُ } منصوب على إسقاط الخافض ، أي : وصدّها الله أو سليما عما كانت تعبدُ من دون الله ، قاله الزمخشري مجوزاً له . وفيه نظر من حيث إن حذف الجار ضرورة ، كقوله :
3965 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا ... كذا قاله أبو حيان ، وقد تقدم آيات كثيرة من هذا النوع .
الثالثك أن الفاعل هو « ما كانت » أي : صدها ما كانت تعبد عن الإسلام ، ( أي : صدها عبادة الشمس عن التوحيد ) . والظاهر أنّ الجملة من قوله : « وصدّها » معطوفة على قوله « وأُوتِينَا » . وقيل : هي حال من قوله : أم تكون من الذين و ( قد ) مضمرة ، وهذا بعيد جداً . وقيل : هو مستأنف إخباراً من الله تعالى بذلك .
قوله : { إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ } يعبدون الشمس ، والعامة على كسر « إنّها » استئنافاً وتعليلاً : وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوة بالفتح ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنها بدل من { مَا كَانَتْ تَعْبُدُ } أي : وصدّها « أنّها كانت » .
والثاني : أنها على إسقاط حرف العلة ، أي : لأنّها ، فهي قريبة من قراءة العامة .

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

قوله : { قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح } تقدّم الخلاف في الظرف الواقع بعد « دخل » هل هو منصوب على الظرف ، وشذّ ذلك مع دخل خاصة - كما قاله سيبويه - أو مفعول به كَهَديت البيت كما قاله الأخفش . والصَّرحُ : القصر ، أو صحن الدار ، أو بلاط متخذ من زجاج وأصله من التصريح ، وهو الكشف ، وكذِبٌ « صُرَاحٌ » ، أي : ظاهر مكشوف ولومٌ صُراحٌ . والصريحُ مقابل الكناية ، لظهوره واستتار ضده . وقيل : الصريح الخالص من قولهم : لبنٌ صَرِيحٌ بيّن الصراحة والصروحة . وقال الراغب : الصَّرحُ بيت عالٍ مُزوّق ، سمي بذلك اعتباراً بكونه صرحاً عن البيوت ، أي : خالصاً .
قوله : « سَاقَيْهَا » العامة على ألف صريحة ، وقُنْبُل روى همزها عن ابن كثير ، وضعَّفَها أبو علي ، وكذلك فعل قنبل في جمع ساق في : ص ، وفي الفتح ، همز واوه ، فقرأ « بالسُّؤْقِ والأَعْنَاق » ، { فاستوى على سُوقِهِ } [ الفتح : 29 ] بهمزة مكان الواو ، وعنه وجه آخر : السُّؤوق ، وسُؤُوقِهِ - بزيادة واو بعد الهمز - ، وروي عنه أنه كان يهمزه مفرداً في قوله : { يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } [ القلم : 42 ] فأما همزة الواو ففيها أوجه :
أحدها : أن الواو الساكنة المضموم ما قبلها يقلبها بعض العرب همزة ، وتقدم تحقيق هذا أول البقرة عند « يوقِنُونَ » ، وأنشد عليه :
3966 - أَحَبُّ المؤقدينَ إِلَيَّ مُؤْسَى ... وكان أبو حيّة النميري يهمزُ كُلَّ واوٍ في القرآن هذا وصفها .
الثانيك أَنَّ ساقاً على « فَعَل » كأسد ، فجمع على « فُعُل » بضم العين ، كأسد والواو المضمومة تطلب همزة ، نحو : « وُجُوه » ، و « وُقِّتَتْ » ثم بعد الهمزة سكنت .
الثالث : أن المفرد سمع همزه كما سيأتي تقريره ، فجاء جمعه عليه .
وأما سؤوق - بالواو بعد الهمزة - فإن ساقاً جمع على سووق بواو ، فهمزت الأولى لانضمامها وهذه الرواية غريبة عن قنبل . وأما « ساقها » فوجه الهمزة أحد أوجه : إما لغة من يقلب الألف همزة ، وعليه لغة العجاج في : العألم و « الخأتم » ، وأنشد :
3967 - وَخِنْدفُ هَامَة هذَا العَأْلَم ... وسيأتي تقريره في : { مِنسَأَتَهُ } [ سبأ : 14 ] - إن شاء الله - وتقدم طرف منه في الفاتحة ، وإما على التشبيه برأس ، وكأْسٍ ، كما قالوا : حلأْتُ السَّويقَ ، حملاً على حلأْته عن الماء ، أي : طردته وإما حملاً للمفرد والمثنى على جمعها ، وقد تقرر في جمعها الهمز .
فصل
لما حكى تعالى إقامتها على الكفر مع الدلائل المتقدمة ، ذكر أنَّ سليمان أظهر أمراً آخر داعياً لها إلى الإسلام ، فأمر الشياطين فبنوا صرحاً أي : قصراً من زجاج ، كأنه الماء بياضاً وأجري تحته الماء ، وألقى فيه كل شيء من دواب البحر من السمك والضفادع وغيرها ، ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، وقيل : اتخذ صحناً من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع ، فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء ، فلما جلس على لسرير دعا بلقيس ، فلما جاءت قِيل لها : ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ، وهي معظم الماء ، { وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَاَ } لتخوضه ، فقيل كان المقصود من بناء الصرح تهويل المجلس وتعظيمه ، وحصل كشف الساق على سيبيل التبع ، وقيل : إن سليمان أراد أن ينظر إلى ساقيها من غير أن يسألها كشفها لما قالت الشياطين له إن رجلها كحافر الحمار ، وهي شعراء الساقين ، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً ، إلا أنها كانت شعراء الساقين ، فلما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنها وناداها أنّه صرح « مُمرَّد » ، أي : مُمَلَّسٌ ، ومنه الأمرد لملاسة وجهه من الشعر وبريَّةٌ مرداء لخلوها من النبات ، ورملةٌ مرداء ، لا تنبيت شيئاً ، والمارد من الشياطين من تَعَرَّى من الخير وتجرد منه .

ومارد حصنّ معروف ، وفي أمثال الزَّبَّاء : « تَمَرَّدَ مَارِدٌ وَعَزَّ الأَبْلَقُ » قالتها في حصنين امتنع فتحهما عليها . والقوارير ، وهي الزجاج الشفاف ، و « مِنْ قَوَارِيرَ » صفة ثانية ل « صرح » .
قوله : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِيَ } قال مقاتل : لما رأت السرير والصرح ، علمت أن ملك سليمان من الله ، فقالت ربِّ إنِّي ظلمتُ نَفْسِي بعبادة غيرك ، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ، وأخلصت لك التوحيد .
وقيلك إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت في نفسها إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا ، فقولها : « ظَلَمْتُ نَفْسِي » تعني ذلك الظن .
واختلفوا : هل تزوجها سليمان أم لا؟ وأنه تزوجها في هذه الحال ، ومن قبل أن يكشف عن ساقيها؟ والأظهر من كلام الناس أنه تزوجها ، وروي عن ابن عباس لما أسلمت ، قال لها : اختاري من قومك من يتزوجك ، فقالت : مثلي لا تنح الرجال - مع سلطاني - فقال : النكاح من الإسلام ، فقالت : إن كان كذلك فزوجني لتبع ملك همدان ، فزوجها إياه ، ثم ردهما إلى اليمن .
وروي أن الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة .
قوله : « مَعَ سُلَيْمَانَ » متعلق بمحذوف على أنه حال ، ولا يتعلق : « أَسْلَمْتُ » ، لأنَّ إسلامه سابق إسلامها بزمان ، وهو وجه لطيف ، وقال ابن عطية : و « مَعَ » ظرف بُني على الفتح ، وأمَّا إذا أسكنت العين ، فلا خلاف أنه حرفٌ . وقد تقدم القول في ذلك وقال مكي هنا نحواً من قول ابن عطية .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً } الآية .
قوله : { أَنِ اعبدوا الله } أي : وحدوه ، ويجوز في « أَنْ » أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية ، أي بأن اعبدوا فيجيء في محلها القولان .
قوله : { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ } تقدم الكلام في « إذَا » الفجائية ، والمراد بالفريقين قوم صالح ، وأنهم انقسموا فريقين : مؤمن وكافر ، وقد صرح بذلك في الأعراف في قوله : { قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ } [ الأعراف : 75 ] . وجعل الزمخشري الفريق الواحد صالحاً وحده والآخر جميع قومه؛ وحمله على ذلك العطف بالفاء ، فإنه يؤذن أنه بمجرد إرسالة صاروا فريقين ، ولا يصير قومه فريقين إلا بعد زمان ولو قليلاً .
و « يَخْتَصِمُونَ » صفة ل « فَرِيقَان » على المعنى ، كقوله : { هذان خَصْمَانِ اختصموا } [ الحج : 19 ] و { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] واختير هنا مراعاة الجمع ، لكونها فاصله .
قوله : { ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ } أي : قال لهم صالح يا قوم لم تستعجلون بالسيئة بالبلاء والعقوبة ، أي أن الله قد مكنكم من التوصّل إلى رحمته وثوابه فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه ، وقيل : إنّهم كانوا يقولون إن العقوبة التي يعدّها صالح - إن وقعت على زعمه - تُبْنَا حينئذ واستغفرنا فحينئذ يقبل الله توبتنا ، ويدفع العذاب عنا ، فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم ، فقال : هلاّ تستغفرون الله قبل نزول العذاب ، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر ، ووصف العذاب بأنّه سيئة مجازاً ، إمّا لأنّ العقاب من لوازمه ، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً ، وأمّا وصف الرحمة بأنّها حسنة ، فقيل : حقيقة ، وقيل : مجاز . ثم إن صالحاً عليه السلام لما قرّر هذا الكلام الحقّ أجابوه بكلام فاسد ، فقالوا « اطّيَّرنَا بِكَ » أي : تشاءمنا بك ، لأنّ الذي يصيبنا من شدة وقحط شؤمك وشؤم من معك . وقرىء : « تطيّرنّا بِكَ » ، وهو الأصل ، وأدغم ، وتقدّم تقريره ، قال الزمخشري : كان الرجل يخرج مسافراً فيمرُّ بطائر فيزجره ، فإن مرّ سانحاً تيمّن ، وإن مرَّ بارحاً تشاءم ، فلمّا نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان للخير والشر ، وهو قدر الله وقسمته ، فأجاب صالح - عليه السلام - بقوله : طائركم عند الله ، أي السبب الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله ، وهو قضاؤه وقدره وهو مكتوب عليكم . سمي طائراً لسرعة نزوله بالإنسان ، لأنّه لا شيء أسرع من قضاء محتوم . قال ابن عباس : الشؤم أتاكم من عند الله بكفركم . وقيل طائركم : عملكم عند الله ، سمى طائراً لسرعة صعوده إلى السماء ، وقيل : إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم ، وقيل : لأنه أمسك عنهم المطر في ذلك الوقت وقطحوا .
قوله : « تُفْتَنُونَ » داء بالخطاب مراعاةً لتقدّم الضمير ، ولو روعي ما بعده لقيل « يُفْتَنُونَ » بياء الغيبة ، وهو جائز ولكنه مرجوح ، ويقول : أنت رجل يفعل وتفعل بالباء والياء ، ونحن قوم نقرأ ويقرأون .

والمراد من هذا الكلام أن صالحاً - عليه السلام - بين بهذا الكلام جهلهم بقوله : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } ، فيحتمل أن غيرهم دعاءهم إلى هذا القول ، ويحتمل أن المراد أن الشيطان يفتنكم بوسوسته .
وقال ابن عباس : يُخْتَبرون بالخير والشر كقوله : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ، وقال محمد بن كعب : يعذبون .
قوله : « وكان في المدينة تسعة رهط } يعني : مدينة ثمود ، والأكثر أن يتميز ، والعدد مجرور ب » من « ، كقوله : { أَرْبَعَةً مِّنَ الطير } [ البقرة : 260 ] وفي المسألة مذاهب :
أحدها : أنه لا يجوز إلا في قليل .
الثاني : أنه يجوز ولكن لا ينقاس .
الثالث : التفصيل بين أن تكون للقلة كرهط ونفر ، فيجوز ، أو للكثرة فقط ، أو لها وللقلة فلا يجوز نحو : تسعة قوم . ونصب سيبويه على امتناع ثلاث غنم .
قال الزمخشري : وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط ، لأنه في معنى الجمع ، كأنه قيل : تسعة أنفس . قال أبو حيان : وتقدير غيره تسعة رجال هو الأولى؛ لأنه من حيث أضاف إلى أنفس كان ينبغي أن يقول : تِسع أنفس - على تأنيث النفس - إذا الفصيح فيها التأنيث ، ألا تراهم عدوا من الشذوذ قول الشاعر :
3968 - ثَلاَثَةُ أَنْفُسٍ وثَلاثُ ذَوْدٍ ... قال شهاب الدين : وإنما أراد تفسير المعنى . وقال ابن الخطيب : والأقرب أن يكون المراد تسعة جمع؛ إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد ، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد ، لاختلاف وصفهم وأحوالهم ، لا لاختلاف النسب .
قوله : » يُفْسِدُونَ « يجوز أن يكون نعتاً للمعدود أو العدد ، فيكون في موضع جر أو رفع .
قوله : » ولا يصلِحُون « قيل : مؤكد للأول ، وقيل : ليس مؤكداً؛ لأن بعض المفسدين قد يصلح في وقت ما ، فأخبر عن هؤلاء بانتفاء توهم ذلك ، وهم الذي اتفقوا على عقر الناقة ، وهم غواة قوم صالح ، ورأسهم : قُدَار بن سالف ، وهو عاقر الناقة .
قوله : » قَالُوا تَقَاسَمُوا « يجوز في » تَقَاسَمُوا « أن يكون أمراً ، قال بعضهم لبعض : احلفوا على كذا ، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً ، وحينئذ يجوز أن يكون مفسراً ل » قَالُوا « كأنه قيل : ما قالوا؟ فقيل : تقاسموا . ويجوز أن يكون حالاً على إضمار » قد « ، أي : قالوا ذلك متقاسمين ، وإليه ذهب الزمشخري ، فإنه قال : يحتمل أن يكون أمراً وخبراً في محل الحال بإضمار » قد « . قال أبو حيان : أما قوله : وخبراً . فلا يصح؛ لأن الخبر أحد قِسْمَي الكلام لأنه ينقسم إلى الخبر والإنشاء ، وجميع معانيه إذا حققت راجعة إلى هذين القسمين قال شهاب الدين : ولا أدري عدم الصحة مماذا؟ لأنه جعل الماضي خبراً ، لاحتماله الصدق والكذب ، مقابلاً للأمر الذي لا يحتملهما ، أما كون الكلام لا ينقسم إلا إلى خبر وإنشاء وأن معانيه إذا حققت ترجع إيلهما ، فأي مدخل لهذا في الرد على الزمخشري .

ثم قال أبو حيان : والتقييد بالحال ليس إلا من باب نسبة التقييد ، لا من نسبة الكلام التي هي الإسناد ، فإذا أطلق عليها الخبر كان ذلك على تقدير أنها لو لم تكن حالاً لجاز أن تستعمل خبراً ، وكذلك قولهم في الجملة الواقعة صلة : هي خبرية ، فهو مجاز والمعنى : أنها لو لم تكن صلة لجاز أن تسعتمل خبراً ، وهذا فيه عوض .
قال شهاب الدين : مسلم أن الجملة ما دامت حالاً أو صلة لا يقال لها خبرية ، بمعنى أنها تستقلّ بإفادة الإسناد ، لأنها سيقت مساق القيد في الحال ومساق حد كلمة في الصلة ، وكان ينبغي أن يذكر أيضاً الجملة الواقعة صفة ، فإن الحكم فيها كذلك ، ثم قال : وأما إضمار « قد » فلا يحتاج إليه ، لكثرة وقوع الماضي حالاً دون « قد » ، كثرة ينبغي القياس عليها .
قال شهاب الدين : الزمخشري مَشَى مع الجمهور فإنّ مذهبهم أنه لا بدَّ من « قد » ظاهرةً أو مضمرةً لتقرّبه من الحال . وقرأ ابن أبي ليلى : « تَقَسَّمُوا » - دون ألف مع تشديد السين - والتَّقاسم والتقسُّم كالتَّظاهر والتَّظَهُّر .
قوله : « بِاللَّهِ » إن جعلت « تَقَاسَمُوا » أمراً ، تعلق به الجار قولاً واحداً ، وإن جعلته ماضياً احتمل أن يتعلق به ، ولا يكون داخلاً تحت القول ، والمقول هو « لنُبَيِّتنَّهُ » ( إلى آخره ، واحتمل ان يتعلق بمحذوف هو فعل القسم ، وجوابه : « لنُبَيِّتَنَّهُ » فعلى هذا يكون ما بعده داخلاً تحت المقول .
قوله : « لنُبيِّتَنَّهُ » ) قرأ الأخوان بتاء الخطاب المضمومة وضم التاء ، والباقون بنون المتكلم وفتح التاء . « ثُمَّ لَنَقُولَنَّ » : قرأ الأخوان بتاء الخطاب المضمومة وضم اللام والباقون بنون المتكلم وفتح اللام ، ومجاهد وابن وثاب والأعمش كقراءة الأخوين . ( إلا أنّه بياء الغيبة في الفعلين ، وحميد بن قيس كهذه القراءة في الأول ، وقراءة غير الأخوين ) من السبعة في الثاني . فأمَّا قراءة الأخوين فإن جعلنا « تقاسموا » فعل أمرٍ ، فالخطاب واضح ، رجوعاً بآخر الكلام إلى أوله ، وإن جعلناه ماضياً ، أو أمراً فالأمر فيهما واضح وهو حكاية إخبارهم عن أنفسهم وأمّا قراءة الغيبة فيهما فظاهرةٌ على أن يكون « تَقَاسَمُوا » ماضياً رجوعاً بآخر الكلام إلى أوله في الغيبة ، وإن جعلناه أمراً كان « لنُبَيَّتنهُ » جواباً لسؤال مقدر ، كأنّه قيل : كيف تقاسموا؟ فقيل : لَنُبَيِّتَنَّه . وأما غيبة الأول والمتكلم في الثاني : فتعليله مأخوذ ممّا تقدّم في تعليل القراءتين ، وقال الزمخشري : وقرىء « لتُبَيِّتنَّهُ » بالتاء والياء والنون ، ف « تَقَاسَمُوا » مع التاء والنون يصح ( فيه الوجهان ، يعني يصح ) في « تَقَاسَمُوا » أن يكون أمراً وأن يكون خبراً ، قال : ومع الياء لا يصح إلاّ أن يكون خبراً .

قال شهاب الدين : وليس كذلك لما تقدّم من أنه يكون أمراً وتكون الغيبة فيما بعده جواباً لسؤال مقد . وقد تابع الزمخشريَّ أبو البقاء على ذلك فقال : « تَقَاسَمُوا » فيه وجهان :
أحدهما : هو أمرٌ أي : أمر بعضهم بذلك بعضاً ، فعلى هذا يجوز في « لنُبَيِّتَنَّهُ » النون بتقدير : قولوا لنُبَيِّتَنَّهُ ، والتاء على خطاب الأمر المأمور ، ولا يجوز التاء .
والثاني : هو فعل ماض ، وعلى هذا يجوز الأوجه الثلاثة . يعني بالأوجه : النون والتاء والياء ، قال : وهو على هذا تفسير ، أي : وتقاسموا على كونه ماضياً مفسّراً لنفس « قَالُوا » وقد سبقهما إلى ذلك مكي - رحمه الله - وتقدم توجيه ما منعوه ولله الحمد ، وتنزيل هذه الأوجه بعضها على بعض مام يصعب استخراجه من كلام القوم ، وتقدّم الكلام في « مَهْلِكَ أَهْلِهِ » في الكهف .
فصل
من جعله أمراً فموضع « تَقَاسَمُوا » جزم على الأمر ، أي : احلفوا ، ومن جعله فعلاً ماضياً فمحله نصب أي : تحالفوا وتوافقوا لنبيتّنه لنقتلنه ، بياتاً أي : ليلاً ، وأهله : أي : قومه الذين أسلموا معه ، { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ } : أي لولي دمه ، « مَا شَهِدْنَا » ما حضرنا ، « مَهْلِكَ أَهْلَهِ » إهلاكهم ، ولا ندري من قتله ، ومن فتح الميم فمعناه : هلاك أهله ، « وَإِنَّا لَصَادِقُونَ » : في قولنا ما شهدنا ذلك .
قوله : « وَمَكَرُوا مَكْرً » غدروا غدراً حين قصدوا تبييت صالح والفتك به ، « وَمَكَرْنَا مَكْراً » جازيناهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم ، « وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ » فشبّه إهلاكهم من حيث لا يشعرون بمكر الماكر على سبيل الاستعارة . وقيل : إنّ الله تعالى أخبر صالحاً بمكرهم فتحرز عنهم ، فذلك مكر الله في حقهم .
قوله : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ } : قرأ الكوفيون بفتح « أَنَّا » ، والباقون بالكسر ، فالفتح من أوجه :
أحدها : أن يكون على حذف الجر ، لأنَّا دمّرناهم ، و « كَانَ » تامّة ، و « عَاقِبَةُ » فاعل بها ، و « كَيْفَ » : حال .
الثاني : أن يكون بدلاً من « عَاقِبَةُ » ، أي : كيف كان تدميرنا إيّاهم ، بمعنى كيف حدث .
الثالثك أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي أنَّا دمَّرناهم ، أي : العاقبة تدميرنا إياهم ، ويجوز مع هذه الأوجه الثلاثة أن تكون كان ناقصة ، ويجعل « كَيْفَ » خبرها ، فتصير الأوجه ستة ، ثلاثة مع تمام « كَانَ » وثلاثة مع نقصانها ، ونزيد مع الناقصة وجهاً آخر ، وهو ان يجعل « عَاقِبَة » اسمها ، و « أَنَّا دَمَّرناهُم » خبرها ، و « كَيْفَ » : حال ، فهذه سبعة أوجه ، والثامن : أن تكون « كان » زائدة ، و « عاقبة » مبتدأ ، وخبره « كَيْفَ » ، و « أَنَّا دَمَّرنَاهُم » بدل من « عاقبة » أو خبر مبتدأ مضمر ، وفيه تعسُّف .

التاسع : أنها على حذف الجار أيضاً ، إلا أنه الباء ، أي : بأنَّا دمَّرناهم ، ذكره أبو البقاء .
العاشر : أنها بدل من « كَيْفَ » ، وهذا وهم من قائله ، لأن المبدل من اسم الاستفهام يلزم معه إعادة حرف الاستفهام ، نحو : كم مالكم أعشرون أم ثلاثون؟ وقال مكي : ويجوز في الكلام نصب « عَاقِبَة » ويجعل « أَنَّا دَمَّرنَّاهُم » اسم كان . انتهى .
بل كان هذا هو الأرجح كما كان النصب في قوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ العنكبوت : 24 ] ونحوه أرجح ، لما تقدّم شبهه بالمضمر ، لتأويله بالمصدر ، وتقدّم تحقيق هذا . وقرأ أُبيّ : « أنْ دَمَّرْنَاهُمْ » وهي : أن المصدرية التي يجوز أن تنصب المضارع ، والكلام فيها كالكلام فيها كالكلام على « أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ » وأمّا قراءة الباقين ، فعلى الاستئناف ، وهو تفسير للعاقبة ، وكان يجوز فيها التمام والنقصان والزيادة ، و « كَيْفَ » وما في حيّزها في محل نصب على إسقاط الخافض ، لأنّه معلق للنظر ، و « أَجْمَعِينَ » : تأكيد للمعطوف والمعطوف عليه .
فصل
قال ابن عباس : أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه ، فأتى التسعة دار صارح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة ، فقتلتهم . وقال مقاتل : نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضاً ، ليأتوا دار صالح ، فجثم عليه الجبل فأهلكهم وأهلك الله قومهم بالصيحة .
قوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } العامة على نصب « خَاوِيَةً » حالاً ، والعامل فيها معنى اسم الإشارة ، وقرأ عيسى : « خَاوِيَةٌ » بالرفع ، إمّا على خبر « تلك » ، و « بُيُوتُهُمْ » بدل من « تِلْك » ، وإمّا خبر ثان ، و « بُيُوتُهُم » خبر أول ، وإمّا على خبر مبتدأ محذوفن أي : هي خاوية ، وهذا إضمار مستغنًى عنه ، و « بِمَا ظَلَمُوا » متعلق ب « خاوية » ، أي بسبب ظلمهم . و « خَاويَةً » أي : خالية « بِمَا ظَلَمُوا » بظلمهم وكفرهم ، { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً } لَعِبْرَةً ، « لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » قدرتنا : { وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } قيل : كان الناجون منهم أربعة آلاف .

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)

قوله تعالى : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } الآية ، « ولُوطاً » إمّا منصوب عطفاً على « صالحاً » أي : وأرسلنا لوطاً ، وإمّا عطفاً على « الَّذِينَ آمَنُوا » ، أي : وأنجينا لوطاً ، وإمّا « باذْكُر » مضمرة ، و « إذْ قَالَ » : بدل اشتمال من « لُوطاً » ، وتقدّم نظيره في مريم وغيرها .
« أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ » استفهام على وجه الإنكار ، والتوبيخ بمثل هذا اللفظ أبلغ ، و « الفَاحِشَةِ » : الفعلة القبيحة .
قوله : « وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ » جملة حالية من فاعل « تَأْتُونَ » أو من « الفَاحِشَةَ » ، والعائد محذوف ، أي : وأنتم تبصرونها لستم عثمياً عنها جاهلين بها ، وهو أشْنَعُ . وقيل : المعنى يرى بعضكم بعضاً ، وكانوا لا يستترون ، عنوّاً منهم . فإن قيل : إذا فسرت « تُبْصِرُونَ » بالعلم ، وبعده : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } فكيف يكون علماً جهلاً؟ فالجواب :
تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك ، أو تجهلون العاقبة ، أو أراد بالجهل : السفاهة والمجانة التي كانوا عليها .
قوله : « شَهْوَةً » : مفعول من أجله ، أو في موضع الحال ، وقد تقدّم .
قوله : فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ : خبر مقدم ، و { إِلاَّ أَن قالوا } في موضع الاسم . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق برفعه اسماً ، و { إِلاَّ أَن قالوا } خبر وهو ضعيف ، لما تقدّم تقريره . وتقدّم قراءتا « قَدَّرْنَا » تشديداً وتخفيفاً ، والمخصوص بالذم محذوف في قوله : { فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين } أي : مَطَرُهُمْ .
فصل
لما بيَّن تعالى جهلهم ، بيّن أنهم أجابوا بما لا يصلح أن يكون جواباً ، فقال :
{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } ، أي : يتطهرون من هذا الصنيع الفاحش . وقيل : قالوا ذلك على وجه الهزء .
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا } قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا « مِنَ الغَابِرِينَ » ، أي : الباقين في العذاب ، و { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً } ، وهو الحجارة { فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين } .

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)

قوله تعالى : { قُلِ الحمد لِلَّهِ } الآية ، العامة على كسر لام قل ، لالتقاء الساكنين ، وأبو السمال بفتحها تخفيفاً ، وكذا في قوله : { وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } [ النمل : 93 ] ، « وَسَلاَمٌ » : مبتدأ ، سوَّغ الابتداء به كونه دعاء .
فصل
المعنى : « الحمد لله » على هلاكهم ، وهذا خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية ، و { وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى } بأن أرسلهم ونجّاهم . وقيل : هذا كلام مبتدأ ، فإنه تعالى لما ذكر أحوال الأنبياء - عليهم السلام - وكان محمد - عليه السلام - كالمخالف لمن قبله - في العذاب؛ لأن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه - أمره الله تعالى بأن يشكر ربّه على ما خصّه به من هذه النعم ، وبأن يسلم على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة .
قوله : { وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى } قال مقاتل : هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى : { وَسَلاَمٌ على المرسلين } [ الصافات : 181 ] . وقال ابن عباس - في رواية أبي مالك - هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال الكلبي : هم أمة محمد وقيل : هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين .
قوله : « أَمّا » أمْ هذه متصلة عاطفة ، لاستكمال شروطها ، والتقدير : أَيُّهُمَا خَيْرٌ ، و « خَيْرٌ » إمَّا تفضيل - على زعم الكفار - وإلزام الخصم ، أو صفةٌ لا تفضيل فيها . و « مَا » في « أَمْ مَا » بمعنى الذين ، وقيل : مصدرية ، وذلك على حذف مضاف من الأول ، أي أتوحيد الله خير أم شرككم؟ وقرأ أبو عمرو وعاصم : « أَمَّا يُشْرِكُونَ » بالغيبة حملاً على ما قبله من قوله : « وَأَمْطَرنَا عَلَيْهِمْ » ، وما بعده من قوله : « بَلْ أَكْثَرَهُمْ » ، والباقون على الخطاب ، وهو التفات للكفار ، بعد خطاب نبيه - عليه السلام - وهذا تبكيت للمشركين بحالهم ، لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ، ولا يؤثر عاقل شيئاًعلى شيء إلا لزيادة خير ومنفعة ، فقيل لهم هذا الكلام تنبياً لهم على نهاية ضلالهم وجهلهم ، وروي أنّ رسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأها قال : « بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم » .
قوله : « أَمَّن خَلَقَ » « أَمْ » هذه منقطعة ، لعدم تقدّم همزة الاستفهام ولا تسوية ، و « مَنْ خَلَقَ » مبتدأ وخبره محذوف ، فقدَّره الزمخشري : خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ، فقدر ما أثبت في الاستفهام الأوّل ، وهو حَسَنٌ ، وقَدَّرَهُ ابن عطية : يُكفَر بنعمته ويُشْرك به ، ونحو هذا من المعنى . وقال أبو الفضل الرازي : لا بُدَّ من إضمار جملة معادلة ، وصار ذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه ، وتقدير تلك الجملة : أم مَّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرْض كَمَنْ لَمْ يَخْلُقُ؟ وكذلك أخواتها ، وقد أُظْهِرَ في غير هذا المواضع ما أُضْمِر فيها ، كقوله :

{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] . وقال أبو حيان : وتسمية هذا المقدر جملة إن أراد أنّها جملة من جهة الألفاظ فصحيح ، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو ، فليس بصحيح ، بل هو مضمر من قبيل المفرد . وقرأ الأعمش : « أَمَنْ » بتخفيف الميم جعلها ( مَنْ ) الموصولة داخلة عليها همزة الاستفهام ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون مبتدأ والخبر محذوف وتقديره ما تقدم من الأوجه ، قاله أبو حيان .
والثاني : أنها بدل من « الله » ، كأنه قيل : أمن خلق السموات والأرض خَيْر أمَّا يشركون ، ولم يذكر الزمخشري غيره . ويكون قد فصل بين البَدَل والمُبْدَل منه بالخبر وبالمعطوف على المبدل منه ، وهو نظير قولك : أَزيدٌ خَيْرٌ أَمْ عَمْرٌوا أأخوك ، على أن يكون أأخوك بدلاً من : أزيد ، وفي جواز مثل هذا نظر .
قوله : « فَأَنْبَتْنَا » هذا التفات من الغيبة إلى المتكلم ، لتأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته ، والإيذان بأنَّ إنْبات الحدائق المختلفة الألوان والطُّعوم - مع سقيها بماءٍ واحدٍ - لا يقدر عليه إلاّ هو وحده ، ولذلك رشحه بقوله : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } . فإن الإنسان ربما يقول : أنا الذي ألقي البذر في الأرض وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها ، وفاعل السبب فاعل المسبب ، فإذن أنا المنبت للشجرة ، فلمّا كان هذا الاحتمال قائماً ، لا جرم أزال الله تعالى هذا الاحتمال ، فرجع من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم ، والحدائق : جمع حديقةٍ وهي البستان ، وقيل القطعة من الأرض ذات الماء . قال الراغب : سُمِّيَتْ بذلك تشبيهاً بحَدقةِ العين في الهيئة وحصول الماء فيه . وقال غيره : سُمِّيت بذلك لإحداق الجدارن بها .
وليس بشيء ، لأنها يطلق عليها ذلك م عدم الجدران ووقف القراء على « ذَات » من « ذَاتِ بَهْجَة » بتاء مجهورة ، والكسائي بها ، لأنها تاء تأنيث . وقيل : « ذات » ، لأنه بمعنى جماعة حدائق ذات بهجة كما تقول : النساء ذهبت ، و « البهجة » : الحسن ، لأن حسّ الناظر يبتهج به . وقرأ ابن أبي عبلة : « ذَوَاتِ بَهَجَةٍ » بالجمع ، وفتح هاء « بَهَجَةٍ » . قوله : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ } ، « أَنْ تُنْبِتُوا » اسم كان و « لَكُمْ » خبر مقدم ، والجملة المنفية يجوز أن تكون صفة ل « حدائق » ، وأن تكون حالاً ، لتخصصها بالصفة .
قوله : { أإله مَّعَ الله } استفهام بمعنى الإنكار ، هل معبود سواه أعانه على صنعه ، بل ليس معه إله ، وقرىء : أإلهاً مَعَ اللَّهِ ، أي : تدعون أو تشركون ، { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } : يعني كفار مكة ، يَعْدِلُون : يشركون ، أي : يعدلون بالله سواه ، وقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر ، ونظير هذه الآية أول سورة الأنعام .

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)

قوله : { أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً } ، قال الزمخشري : « أَمَّنْ » وما بعده بدل من « أَمَّنْ خَلَقَ » ، وحكمها حكمه . ومعنى قراراً : لا تميد بأهلها ، فإنها لو كانت متحركة لما استقر أحد بالسكنى على الأرض . قوله : « خِلاَلَهَا » : يجوز أن يكون ظرفاً ، ل « جعل » بمعنى خلق المتعدية لواحد ، وأن يكون في محلّ المفعول الثاني على أنها بمعنى صيّر ، وخلالها : وسطها أنهاراً . واعلم أنّ المياه المنبعثة في الأرض أربعة .
الأوّل : مياه العيون السيالة ، قال ابن الخطيب : وهي تنبيعث من أبخرة كثيرة المادة قوية الاندفاع تفجر الأرض بقوة .
الثاني : ماء العيون الراكدة ، وهي تحدث من أبخرة بلغت قوتها إلى وجه الأرض ، ولم يبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد ( تاليها سابقها ) .
الثالث : ماء القنى والأنهار ، وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة عن أن تشق الأرض ، فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صار حينئذ لتلك الأبخرة منفذاً يندفع إليه بأدنى حركة .
الرابع : مياه الآبار ، وهي منبعثة كمياه الأنهار إلاّ أنه لم يحصل لها ميل إلى موضع تسيل إليه . ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون السيالة إلى العيون الراكدة .
قوله : « بَيْنَ البَحْرَيْنِ » : يجوز فيه ما جاز في « خِلاَلَهَا » ، والحاجز : الفاصل : حجز بينهم يحجز أي : منع وفصل ، والمراد بالبحرين : العذب والملح : { أإله مَّعَ الله } قرىء « أَإِلهٌ » بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية ، وإدخال ألف بينهما تخفيفاً وتسهيلاً . وهذا كله معروف من أوّل هذا الكتاب ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } توحيد ربهم .
قوله : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } المضطر : اسم مفعول مأخوذ من اضطر ، ولا يستعمل إلا مبنياً للمفعول ، وإنّما كرر الجعل هنا ، ولم يشرك بين المعمولات في عامل واحد ، لأن كل واحدة من هذه مِنّة مستقلة ، فأبرزها في جملة مستقلة بنفسها ، قال الزمخشري الضرورة الحال المحوجة إلى الالتجاء ، والاضطرار : افتعال منها ، فيقال : اضطُرّ إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر . فإن قيل : هذا يعم المضطرين ، وكم من مضطر يدعو فلا يجاب ، فالجواب :
أنه ثبت في أصول الفقه أن المفرد المعرّف لا يفيد العموم ، وإنما يفيد الماهية فقط ، والحكم المثبت للماهية يكفي في صدقه ثبوته في فرد واحد من أفراد الماهية فقط ، فإنه تعالى وعد بالاستجابة ، ولم يذكر أنه يستجيب في الحال .
قوله : « وَيَكْشِفُ السُوءَ » كالتفسير للاستجابة ، فإنّه لا يقدر أحد على كشف ما دفع إليه من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة ، إلاَّ القادر الذي لا يعجز ، والقاهر الذي لا ينازع ، { وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرض } اي : يورثكم سكناها والتصرف فيها قرناً بعد قرن ، وأراد بالخلافة الملك والتسليط . قوله { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } قرأ أبو عمرو وهشام : « يَذكرُونَ » بالغيبة والباقون بالخطاب ، وهما واضحتان ، وأبو حيوة : « تَتَذكرون » بتاءين .

أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)

قوله : { أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر } يهديكم بالنجوم في السماء والعلامات في البحر إذا سافرتم بالليل في البر والبحر . و { وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } ، وهي المطر ، وتقدّم الكلام في « بُشْراً » في الأعراف ، { أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
قوله : { أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ } لما عدد نعم الدنيا أتبع ذلك بنعم الآخرة ، وهي لا تتم إلا بالإعادة بعد الابتداء والإبلاغ إلى حد التكليف ، فقد تضمن الكلام كل نعم الدنيا والآخرة ، وهي لا تتمّ إلا بالإرزاق ، فلذلك قال : { وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض } « مِنَ السَّمَاءِ » : المطر ، ومن الأرض : النبات ، { أإله مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } حجتكم على قولكم : إن مع الله إلهاً آخر ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ولا برهان لكم فإذاً أنتم مبطلون .
فإن قيل : كيف قيل لهم : أم من يبدؤ الخلق ثم يعيده ، وهم ينكرون الإعادة؟ فالجواب : كانوا معترفين بالابتداء ، ودللة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية ، فلما كان الكلام مقروناً بالدلالة الظاهرة ، صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في الإنكار .

قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)

قوله ( تعالى : { قُل ) لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } لما بين أنه مختص بالقدرة ، بين أنه المختص بعلم الغيب ، وإذا ثبت ذلك ، ثبت أنه الإله المعبود .
وفي هذا الاستثناء أوجه :
أحدها : أنه فاعل « يعلم » ، و « من » مفعوله ، و « الغيب » بدل من « من في السموات » أي : لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله ، أي : الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم ، وهو وجه غريب ذكره أبو حيان .
الثاني : أنه مستثنى متصل من « من » ، ولكن لا بد من الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة على هذا الوجه ، وبيانه أن الظرفية المستفادة من « مَنْ في » حقيقة بالنسبة إلى غير الله تعالى ، ومجاز بالنسبة إلى الله تعالى بمعنى : أن علمه في السموات والأرض فيندرج ( في ) { مَن فِي السماوات والأرض } بهذا الاعتبار ، وهو مجاز ، وغيره من مخلوقاته في السموات والأرض حقيقة ، فبذلك الاندراج المؤول استثني من « مَنْ » ، وكان الرفع على البدل أولى ، ( لأن الكلام غير موجب ، قال مكي : الرفع في اسم الله - عز وجل - على البدل ) من من .
ورد الزمخشري هذا بأنه جمع بين الحقيقة والمجاز وأوجب أن يكون منقطعاً ، فقال : فإن قلت : لم رفع اسم الله ، والله يتعالى أن يكون ممن في السموات والأرض؟ قلت : جاء على لغة بني تميم ، حيث يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار ، يريدون : ما فيها إلا حمار ، كأنَّ أحداً لم يذكر ، ومنه قوله :
3969 - عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ... وَلاَ النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ
وقولهم : ما أتاني زيد « إلا عمرو » ، وما أعانني أخوانكم إلا إخوانه ، فإن قلت : ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت : دعيت إليه نكتة سريرة ، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله : إلاَّ اليَعَافِيرُ ، بعد قوله : لَيْسَ بِهَا أنِيس : ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان الله ممن في السموات والأرض ، فهم يعلمون الغيب يعني أن علمهم الغيب - في استحالته - كاستحالة أن يكون الله منهم ، كما أن معنى « ما في البيت » إن كانت اليعافير أنيساً ففيها أنيس بتّاً للقول بخلوها من الأنيس . فإن قلت : هلا زعمت أن الله ممن في السموات والأرض ، كما يقول المتكلمون : « إن الله في كل مكان » على معنى : أن علمه في الأماكن كلها ، فكأن ذاته فيها حتى لا يحمل على مذهب بني تميم؟ قلت : يأبي ذلك أن كونه في السموات والأرض مجاز ، وكونهم فيهن حقيقة ، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازاً غير صحيح ، على أن قولك : من في السموات والأرض ، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد فيه إيهام وتسوية ، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته ، ألا ترى كيف قال عليه السلام لمن قال : ومن يعصهما فقد غوى : « بئْسَ خَطِيبُ القَوْمِ أنْت » .

فقد رجح الانقطاع ، واعتذر في ارتكاب مذهب التميميين بما ذكر ، وأكثر العلماء أنه لا يجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة ، وقد قال به الشافعي .
فصل
نزلت هذه الآية في المشركين ، حيث سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وقت قيام الساعة . و « مَا يَشْعُرُون » صفة لأهل السموات والأرض نفى أن يكون لهم علم بالغيب ، وذكر في جملة الغيب : متى البعث؛ بقوله : « أيَّانَ يُبْعَثُونَ » ، و « أَيَّانَ » بمعنى متى ، وهي كلمة مركبة من : أي والآن ، وهو الوقت . وقرىء : « إيّان » بكسر الهمزة ، قرأ بها السلمي ، وهي لغة قومه بني سليم ، وهي منصوبة ب « يُبْعَثُونَ » ومعلقة ل « يَشْعُرُونَ » فهي مع ما بعدها في محل نصب بإسقاط الباء ، أي ما يشعرون بكذا .
قوله : « ادّارَكَ » قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : « أَدْرَك » كأكرم ، والباقون من السبعة « ادَّارَكَ » بهمزة وصل وتشديد الدال المفتوحة بعدها ألف - والأصل ( تدارك ) وبه قرأ أبي ، فأريد إدغام التاء في الدال ، فأبدلت دالاً وسكنت ، فتعذر الابتداء بها ، لسكونها ، فاجتلبت همزة الوصل ، فصار : « ادَّارك » كما ترى - وتقدم تحقيق هذا في قوله : { فادارأتم فِيهَا } [ البقرة : 72 ] . وقراءة ابن كيثير ، قيل : يحتمل أن يكون « أفعل » فيها بمعنى « تفاعل » ، فتتحد القراءتان ، وقيل : ادرك ، بمعنى بلغ وانتهى .
وقرأ سليمان وعطاء ابنا يسار : « بَل ادّرك » بفتح لام « بَلْ » وتشديد الدال دون ألف بعدها وتخريجها : أن الأصل : ( ادْتَرَكَ ) على وزن افْتَعَل ، فأبدلت تاء الافتعال دالاً ، لوقوعها بعد الدال ، قال أبو حيان : فصار فيه قلب الثاني للأول ، كقولهم : أثَّرَدَ ، وأصله : اثترد من الثرد ، انتهى .
قال شهاب الدين : ليس هذا مما قلب فيه الثاني للأول لأجل الإدغام ، كاثَّرَدَ في اثترد ، لأن تاء الافتعال تبدل دالاً بعد أحرف منها الدال ، نحو : ادَّانَ في افْتَعَلَ من الدين ، فالإبدال لأجل كون الدال فاء لا للإدغام ، فليس مثل اثَّرَدَ في شيء ، فتأمله فإنه حسن ، فلما أدغمت الدال في الدال أدخلت همزة الاستفهام ، فسقطت همزة الوصل ، فصار اللفظ ، أَدْرَكَ يهمزة قطع مفتوحة ، ثم نقلت حركة هذه الهمزة إلى لام « بَلْ » فصار اللفظ : « بَلْ دَّرَكَ » . وقرأ أبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج وابن عباس وتروى عن عاصم كذلك إلا أنه بكسر لام « بَلْ » على أصل التقاء الساكنين ، فإنهم لم يأتوا بهمزة استفهام .

وقرأ عبد الله بن عباس والحسن وابن محيصن « آدَّرَكَ » بهمزة ثم ألف بعدها ، وأصلها همزتان أبدلت ثانيهما ألفاً تخفيفاً ، وأنكرها أبو عمرو . وقد تقدم أول البقرة أنه قرىء « أَأَنْذَرْتَهُمْ » بألف صريحة - فلهذه بها أسوة .
وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام بعد « بَلْ » ، ( لأن « بَلْ » ) إيجاب ، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى : « لَمْ يَكُنْ » كقوله تعالى : { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } [ الزخرف : 19 ] أي : لم يشهدوا ، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار . قال شهاب الدين : وفي منع هذا نظر ، لأن « بَلْ » لإضراب الانتقال ، فقد أضرب عن الكلام الأول ، وأخذ في استفهام ثانٍ ، وكيف ينكر هذا والنحويون يقدرون « أَمْ » المنقطعة ببل والهمزة ، وعجبت من الشيخ - يعني أبا حيان - كيف قال هنا : وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد « بَلْ » ، وشبهه بقول القائل : أَخُبْزاً أكَلْتَ بَلْ أَمَاءً شَرِبْتَ؟ على ترك الكلام الأول ، والأخذ في الثاني انتهى . فتخصيصه ببعض المتأخرين يؤذن بأن المتقدّمين وبعض المتأخرين يمنعونه ، وليس كذلك لما حكيت عنهم في « أم » بأن المتقدّمين وبعض المتأخرين يمنعونه ، وليس كذلك لما حكيت عنهم في « أم » المنقطعة . وقرأ ابن مسعود : « أَأَدْرَكَ » بتحقيق الهمزتين ، وقرأ ورش في رواية : « بَل ادْرَكَ » بالنقل ، وقرأ ابن عباس أيضاً : « بَلَى أَدْرَكَ » بحرف الإيجاب أخت نعم ، و « بَلَى آأدْرَكَ » بألف بين همزتين ، وقرأ أبي ومجاهد « أن » بدل ( « بَلْ » ) وهي مخالفة للسواد .
قوله : « فِي الآخِرَةِ » فيه وجهان :
أحدهما : أن « فِي » على بابها و « أَدْرَكَ » وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معنى ، لأنه كائن قطعاً ، كقوله : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ، وعلى هذا ف « فِي » متعلق ب « أدْرَكَ » .
والثاني : أنّ « فِي » بمعنى الباء ، أي : بالآخرة ، وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم ، كقولك : على يزيد كذا . وأمّا قراءة من قرأ « بَلَى » ، فقال الزمخشري : لمّا جاء ببلى بعد قوله : « وَمَا يَشْعُرُونَ » كان معناه : بلى يشعرون ، ثم فسر الشعور بقوله : { ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة } على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم ، ثم قال : وأمّا قراءة : « بَلَى أأَدْرَكَ » على الاستفهام فمعناه : بَلَى يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصّل لهم شعور بوقت كونها ، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن ، ثم قال : فإن قلت ما معنى هذه الإضرابات الثلاثة؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم ، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنّهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية انتهى .

فإن قيل : ( عَمِيَ ) يتعدى ب ( عَنْ ) تقول : عَمِي فلان عن كذا ، فلم عدي ب ( مِنْ ) قوله « مِنْهَا عَمُونَ » ؟ فالجواب : أنّه جعل الآخرة مبدأ عَمَاهُم ومنشأه .
فصل
المعنى على قراءة ابن كثير : « أَدْرَكَ » أي بلغ ولحق ، كما تقول : أدركه علمي ، إذَا لحقه وبلغه يريد : ما جهلوا في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة . قال مجاهد : يدريك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها ، حين لا ينفعهم علمهم .
وقال مقاتل : بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكّوا وعمُوا عنه في الدنيا . كقوله { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا } ، أي هم اليوم في شك من الساعة . وعلى قراءة « ادَّارَكَ » ، تتابع علمهم في الآخرة أنها كائنة { هُمْ فِي شَكٍّ } في وقتهم . وقيل استفهام معناه : هل تدارك وتتابع بذلك في الآخرة يعني لم يتتابع ، وضلّ وغاب علمهم به ، فلم يبلغوه ولم يُدركوه ، لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد . وقال علي بن عيسى : بل ههنا لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة لم يشكُّوا بل هُم مِنْهَا عَمُونَ جمع عمٍ ، وهو الأعمى القلب .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)

قوله : { وَقَالَ الذين كفروا } يعني مشركي مكة ، « أَئِذَا » تقدم الكلام في الاستفهامين إذا اجتمعا في سورة الرعد . والعامل في « إِذَا » محذوف يدلّ عليه « لَمُخْرجُونَ » تقديره : نبعث ونخرجن ولا يجوز أن يعمل فيها « مُخْرجُونَ » لثلاثة موانع : الاستفهام ، وأنّ ، ولام الابتداء ، وفي لام الابتداء في خبر إنّ خلاف ، وذكر الزمخشري هنا عبارة حُلوة ، فقال : لأنّ بين يدي عمل اسم الفاعل فيها عقاباً ، وهي همزة الاستفهام ، وإن ، ولام الابتداء ، وواحدة منها كافية ، فكيف إذا اجتمعن؟ وقال أيضاً : فإنْ قلت : لم قَدّم في هذه الآية « هذَا » على « نَحْنُ وآبَاؤُنَا » وفي آية أخرى قدّم « نَحْنُ وَآبَاؤُنَا » على « هَذَا » ؟ قلت : التقديم دليل على أن المقدّم هو المعنى المعتمد بالذكر وأن الكلام إنّما سيق لأجله : ففي إحدى الآيتين دلّ على اتخاذ البعث الذي هو يعمد بالكلام ، وفي الأخرى على اتخاذ المبعوث بذلك الصدد . و « آبَاؤُنَا » عطف على اسم كان ، وقام الفصل بالخبر قمام الفصل بالتوكيد .
فصل
« إِنَّا لَمُخْرَجُونَ » من قبورنا أحيا ، { لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ } أي : من قبل محمد : وليس ذلك بشيء ، « إِنْ هذَا » ما هذَا ، { إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها ، { فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين } . فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل ( كيف كانت ) عاقبة المجرمين؟ فالجواب أنّ تأنيثها غير حقيقي ، ولأنّ المعنى : كيف كان آخر أمرهم؟ . فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل عاقبة الكافرين؟ فالجواب : أنّ هذا يحصل في التخويف لكل العصاة . ثم إنّه تعالى صبّر رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يناله من الكفار ، فقال : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } على تكذيبهم إيّاك ، { وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا أعقاب مكة ، و « الضِّيقُ » : الحرج ، يقال : ضاق الشيء ضَيقاً وضِيقاً بالفتح والكسر . { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ذكروا ذلك على سبيل السخرية فأجاب الله تعالى بقوله : { عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ } .
قوله : « رَدِفَ لَكُمْ » فيه أوجه :
أظهرها : أنَّ « رَدِفَ » ضُمّن معنى فعل يتعدى باللام ، أي : دَنا وقرب وأزف ، وبهذا فسّره ابن عباس ، و « بَعْضُ الَّذِي » فاعلٌ به ، وقد عدّي ب ( من ) أيضاً على تضمنه معنى « دَنَا » ، قال :
3970 - فَلَمَّا رَدِفْنَا مِن عُمَيْرٍ وَصَحْبِهِ ... تَوَلَّوْا سِرَاعاً وَالمَنِيَّةُ تَعْنِقُ
أي : دنونا من عمير .
والثاني : أنّ مفعوله محذوف واللام للعلّة : أي : ردف الخلق لأجلكم ولشؤمكم .
الثالث : أنّ اللام مزيدة في المفعول تأكيداً كزيادتها في قوله :
3971 - أَنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَمَيْنَا ...

وكزيادتها في قوله : { لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } [ الأعراف : 154 ] وكزيادة الباء في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] وعلى هذه الأوجة الوقف على « تَسْتَعْجِلُونَ » .
الرابع : أن فاعل « رَدِفَ » ضمير الوعد ، أي : ردف الوعد ، أي : قرب ودنا مقتضاه و « لَكُمْ » خبر مقدّم ، و « بَعْضُ » مبتدأ مؤخر ، والوقف على هذا على « رَدِفَ » وهذا فيه تفكك للكلام .
والخامس : أنّ الفعل محمول على مصدره ، أي : الرادفة لكم ، وبعض على تقرير ردافة بعض ، يعني : حى يتطابق الخبر والمخبر عنه ، وهذا أضعف مما قبله .
وقرأ الأعرج : « رَدَفَ » بفتح الدال ، وهي لغة ، والكسر أشهر . { بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ } من العذاب حل بهم ذلك يوم بدر .
قوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } قال مقاتل : على أهل مكة ، حيث لم يعجل عليهم العذاب . والفصل : الإفضال ومعناه أنه متفضل ، وهذه الآية تبطل قول من قال : إنه لا نعمة لله على الكفار .
قوله : « لاَ يَشْكُرُونَ » يجوز أن يكون مفعوله محذوفاص ، أي : لا يشكرون نعمه ، ويجوز أن لا يقدر بمعنى : لا يعترفون بنعمةٍ ، فعبّر عن انتفاء معرفتهم بالنعمة بانتفاء ما يترتبت على معرفتها ، وهو الشكر .
قوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ } العامة على ضم تاء المضارعة من : أَكنَّ ، قال تعالى : « أَوْ أَكْنَنْتُمْ ، وابن محيصن وابن السميفع وحُميد بفتحها وضم الكاف ، يقال : كَنَنْتُهُ وَأَكْنَنْتُهُ ، بمعنى : أخفيت وسترت .
قوله : { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ } في هذه التاء قولان :
أحدهما : أنّها للمبالغة ، كراويةٍ وعلاّمة ، وقولهم : ويل للشاعر من رواية السوء ، كأنه تعالى قال : وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد عَلِمه الله .
والثاني : أنها كالتاء الداخلة على المصادر نحو : العافية والعاقية ، قال الزمخشري : ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرّمية في أنها أسماء غير صفات . { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي : في اللوح المحفوظ والمبين : الظاهر المبين لمن ينظر فيه من الملائكة .

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

قوله : { إِنَّ هذا القرآن } الآية ، لما تمَّمَ الكلام في إثبات المبدأ والمعاد ، ذكر بعده ما يتعلق بالنبوة ، ولمَّا كانت العمدة الكبرى في إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن لا جرم بيّن الله تعالى أولاً كونه معجزة من وجوه .
أحدها : أنّ الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة للمذكور في التوراة والإنجيل ، مع العلم بأنه - عليه السلام - كان أُمّيّاً - ولم يخالط العلماء ، ولم يشتغل بالاستفادة والتعلّم ، فإذن لا يكون ذلك إلاّ من قِبَل الله تعالى ، وأراد ما اختلفوا فيه وتباينوا ، وقبل ما حرّفه بعضهم ، وقيل : إخبار الأنبياء .
وثانيها : قوله { وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ } ، وذلك لأنّا تأملنا في القرآن فوجدنا فيه من الدلائل العقلية على التوحيد والحشر والنشر والنبوّة وشرح صفات الله ما لم نجده في كتاب من الكتب ، ووجدناه مبرءاً من النقص والتهافت ، فكان هدى ورحمة من هذه الوجوه ، ووجدنا القوى البشرية قاصرة عن جمع كتاب على هذا الوجه ، فعَلمنا أنه ليس إلا من عند الله تعالى ، فكان القرآن معجزاً من هذه الجهة .
وثالثها : { إِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ } لبلوغه في الفصاحة إلى حيث عجزُوا عن معارضته وذلك معجزة .
قوله : « بحُكْمِهِ » العامة لعى ضم الحاء وسكون الكاف ، وجناح بن حبيش بكسرها وفتح الكاف ، جمع حكمة ، أي : نقضي بين المختلفين يوم القيامة بحكمة الحق « وَهُوَ العَزِيزُ » والمنيع فلا يرد له أمر ، « العَلِيمُ » بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء . فإنْ قيل : القضاء والحكم شيء واحد ، فقوله : { يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ } كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه!!
فالجواب : معنى قوله : « بِحُكْمِهِ » أي : بما يحكم به وهو عدله لا يقضي إلا بالعدل ، أو أراد بحكمه على القراءة بكسر الحاء .
قوله : { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين } أي البيّن ، { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } يعني الكفار ، وإنّما حسن جعله سبباً للأمر بالتوكل ، لأن الإنسان ما دام يطمع في أخذ شيء فإنه لا يقوى قلبه على إظهار مخالفته ، فإذا قطع طمعه عنه قوي قلبه على إظهار مخالفته ، فاللَّه تعالى قطع طمع محمد - عليه السلام - بأ بيَّن أنهم كالموتى وكالصم والعمي فلا يسمعون ولا يفهمون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل ، وهذا سبب لقوة قلبه - عليه السلام - على إظهار الدين كما ينبغي .
قوله : { وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء } قرأ ابن كثير : « لاَ يَسْمَعُ » بالياء مفتوحة ، وفتح الميم « الصُّمُّ » رفع وكذلك في سورة الروم ، وقرأ الباقون بالتاء وضمها وكسر الميم « الصُّمَّ » نصب { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } : معرضين . فإن قيل : ما معنى قوله : « وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ » وإذا كانوا صمّاً لا يسمعون سواء ولوا أو لم يولوا؟ قيل ذكره تأكيداً ومبالغة ، وقيل : الأصم إذا كان حاضراً قد يسمع برفع الصوت ويفهم بالإشارة ، فإذا ولّى مُدبراً لم يسمع ولم يفهم .

قال قتادة : الأصم إذا ولّى مُدبراً ثم ناديته لم يسمع ، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان . والمعنى : إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميّت الذي لا سبيل إلا إسماعه والأصم الذي لا يسمع . قوله : { وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي } العامة على « بِهَادِي » مضافاً ل « العُمْي » ، وحمزة « تَهْدِي » فعلاً مضارعاً و « العُمْيَ » نصب على المفعول به . وكذلك التي في الروم . ويحيى بن الحارث وأبو حيوة « بِهَادِ » منوناً « العُمْيَى » منصوب به وهو الأصل . واتفق القراء على أن يقفوا على « هَادٍ » في هذه السورة بالياء ، لأنها رُسمت في المصحف ثابتةً ، واختلفوا في الروم ، فوقف الأخوان عليها بالياء أيضاً كهذه ، أما حمزة ، فلأنه يقرأها « تَهْدِي » فعلاً مضارعاً مرفوعاً فياؤه ثابتة . قال الكسائي : من قرأ « تَهْدِي » لزمه أن يقف بالياء ، وإنّما لزمه ذلك لأن الفعل لا يدخله تنوين في الوصل تحذف له الياء ، فيكون في الوقف كذلك ، كما يدخل التنوين على « هَادٍ » ونحوه ، فتذهب الياء في الوصل ، فيجري الوقف على ذلك لمن وقف بغير ياء انتهى . ويلزم على ذلك أن يوقف على « يقضي الحقّ » و { وَيَدْعُ الإنسان } [ الإسراء : 11 ] بإثبات الياء والواو ، ولكن يلزم حمزة مخالفة الرسم دون القياس ، وأمّا الكسائي فإنه يقرأ « بِهَادِي » اسم فاعل كالجماعة ، فإثباته للياء بالحمل على « هَادِي » في هذه السورة ، وفيه مخالفة الرسم السلفي .
قوله : « عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب « تَهْدِي » وعدي ب ( عن ) لتضمنه معنى تصرفهم .
الثاني : أنه متعلق بالعمي ، لأنك تقول : عمى عن كذا ذكره أبو البقاء .
فصل
المعنى : ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان أن يسمع { إلا من يؤمن بآياتنا } إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله ، « فَهُم مُسْلِمُونَ » مخلصون لله .
« مِنْ » في قوله : { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ } [ البقرة : 112 } يعني سالماً لله خالصاً لله .

وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)

قوله : { وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم } أي : مضمون القول ، أو أطلق المصدر على المفعول ، أي : المقول . ومعنى وقع القول عليهم : وجب العذاب عليهم ، وقال قتادة : إذا غضب الله عليهم { أخرجنا لهم دابة من الأرض } .
قوله : « تُكَلِّمُهُمْ » العامة على التشديد ، وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه من الكلام والحديث ، ويؤيده قراءة أُبيّ : « تُنَبِّئُهُمْ » وقراءة يحيى بن يلام : « تحدثهم » - وهما تفسيران لها .
الثاني : « تجرحهم » ويدل عليه قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد وأبي زرعة والجحدري « تَكْلُمُهُمْ » - بفتح التاء وسكون الكاف وضم اللام - من الكَلْمِ وهو الجرح ، وقد قراء « تجرحهم » وجاء في الحديث : إنها تسم الكافر .
قوله : « أنَّ النَّاسَ » قرأ الكوفيون بفتح « أن » والباقون بالكسر ، فأما الفتح فعلى تقدير الباء ، أي : بأن الناس ، ويدل عليه التصرح بها في قراءة عبد الله « بأنَّ النَّاسَ » . ثم هذه الباء يحتمل أن تكون معدية وأن تكون سببيّة ، وعلى التقديرين يجوز أن تكون « تُكَلِّمُهُمْ » بمعنييه من الحديث والجرح أي : تحدثهم بأن الناس أو بسبب أن الناس أو تجرحهم بأن الناس ، أي : تسمهم بهذا اللفظ أو تسمهم بسبب انتفاء الإيمان . وأما الكسر فعلى الاستئناف ، ثم هو يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى - وهو الظاهر - وأن يكون من كلام الدابة ، فيعكر عليه « بِآيَاتِنَا » ويجاب عنه إما باختصاصها صح إضافة الآيات إليها ، كقولك : اتباع الملوك ودوابنا وخيلنا وهي لملكهم ، وإما على حذف مضاف أي : بآيات ربنا ، و « تُكَلِّمُهُمْ » إن كان من الحديث فيجوز أن يكون إما لإجراء « تُكَلِّمُهُمْ » مجرى تقول لهم ، وإما على إضمار القول أي : فتقول كذا ، وهذا القول تفسير لتكلمهم .
فصل
قال السدي : تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام . وقيل : تقول للواحد هذا مؤمن وهذا كافر . وقيل كلامهم ما قال { أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا } تخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث . قال ابن عمر : وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « بَادِرُوُا بالأَعْمَالِ ستّاً . طلوعَ الشمس من مغربها ، والدجالَ ، والدخانَ والدابةَ وخاصةَ أحدكم ، وأمرَ العامة » وقال عليه السلام : « إنّ أولَ الآياتِ خروجاً طلوعُ الشمس من مغربها ، وخروجُ الدابة على الناس ضحًى ، فأيتهما ما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى على أثرها » وقال عليه السلام : « يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر ، فتخرج خروجاً في أقصى المين ، فيفشوا ذكرها بالبادية ، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن زماناً طويلاً ، ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة ، فيفشوا ذكرها بالبادية ، ويدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم بينا الناس يوماً في أعظم المساجد على الله حرمه ، وأكرمها على الله عزَّ وجلَّ يعني المسجد الحرام ، ثم لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنوا وتدنو »

- قال الراوي : ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك - « فارفضّ الناس عنها ، وثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله ، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عنهم عن وجوههم ، حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب ، حتى إن الرجل ليقوم يتعوذ منها بالصلاة ، فتأتيه من خلفه ، فتقول : يا فلان الآن تصلي ، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه ، فيتجاور الناس في ديارهم ، ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال ، يُعرَف الكافر من المؤمن ، فيقال للمؤمن يا مؤمن ، وللكافر يا كافر » وقال عليه السلام : « تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتجلو وجه المؤمن بالعصا ، وتخطم أنف الكافر بالخاتم ، حتى إن أهل الخوان ليجتمعوا ، فيقولون هذا : يا مؤمن ، ويقول هذا : يا كافر » وروي عن عليّ قال : ليس بدابة لها ذَنَب ، ولكن لها لحية ، كأنه يشير إلى أنها رجل ، والأكثرون على أنها دابة ، لما روى ابن جريج عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس الثور ، وعينها عين الخنزير ، وأن لها أذناً ، قيل : وقرنها قرن أيل وصدرها صدر أسد ، ولونها لون النمر ، وخاصرتها خاصرة هو ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين اثني عشر ذراعاً ، معها عصا موسى وخاتم سليمان ، وذكر باقي الحديث . وروى حذيفة بن اليمان قال : « ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدابة ، قلت : يا رسول الله : من أين تخرج؟ قال : » من أعظم حرمة المساجد على الله بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم وينشق الصفا مما يلي المشعر ، وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدوا منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمناً وكافراً ، أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري ، وتكتب بين عينيه مؤمن ، وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه : كافر «
وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصا - وهو محرم - وقال : إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : » بئس الشعب شعب جياد « ، مرتين أو ثلاثاً ، قيل : ولم ذاك يا رسول الله؟ قال : » تخرج منه الدابة ، فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين «

وقال وهب : وجهها وجه الرجل ، وسائر خلقها خلق الطير فتخبر من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون . قوله : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً } ، أي من كل قرن جماعة . و { مِن كُلِّ أُمَّةٍ } يجوز أن يكون متعلقاً بالحشر ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « فَوْجاً » لأنه يجوز أن يكون صفة له في الأصل ، والفوج الجماعة كالقوم ، وقيدهم الراغب فقال : الجماعة المارة المسرعة . وكأن هذا هو الأصل ثم انطلق ، ولم يكن مرور ولا إسراع ، والجمع . أفواج وفووج . و « مِمَّن يُكَذِّبُ » صفة له ، و « مِنْ » في « مِنْ كُلِّ » تبعيضية ، وفي « مِمَّن يُكَذِّبُ » تبيينية .
قوله : « فَهُمْ يُوزَعُونَ » أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يساقون إلى النار ، { حتى إِذَا جَآءُوا } يوم القيامة ، قَالَ لَهُمُ اللَّهُ : { أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً } ولم تعرفوها حتى معرفتها . والواو في « وَلَمْ تُحِيطُوا » يجوز أن تكون العاطفة وأن تكون الحالية ، و « عِلْماً » تمييز . قوله : « أمَّاذَا » أم هنا منقطعة ، وتقدم حكمها ، و « مَاذَا » يجوز أن يكون برمته استفهاماً منصوباً ب « تَعْملون » الواقع خبراً عن « كُنْتُم » ، وعائده محذوف ، أي : أي شيء الذي كنتم تعملونه؟ وقرأ أبو حيوة « أمَا » بتخفيف الميم ، جعل همزة الاستفهام داخلة على امسه تأكيداً كقوله :
3972 - أَهَلْ رَأَوْنَا بِوَادِي القُفِّ ذِي الأَكَمِ ... قوله : { أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } حين لم يتفكروا فيها ، كأنه قال : ما لم تشتغلوا بذلك العمل المهم فأي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ثم قال : { وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم } ، أي : وجب العذاب الموعود عليهم « بِمَا ظَلَمُوا » ، أي بسبب ظلمهم وتكذيبهم بآيات الله ، ويضعف جعل « مَا » بمعنى الذي { فَهُمْ لاَ يُنطِقُونَ } ، قال قتادة ، كيف ينطقون ولا حجة لهم ، نظيره قوله تعالى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35 - 36 ] ، وقيل : « لاَ يَنْطِقُونَ » لأن أفواههم مختومة . ثم إنه تعالى لما خوّفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة ، مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر ، فقال : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً } مضيئاً يبصر فيه . قوله : « لِيَسْكُنُوا فِيهِ » قيل : فقيه حذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول ، إذا التقدير : جعلنا الليل و « لتتصرفوا » لدلالة « ليسكنوا » . وقوله : « مُبْصِراً » كقوله : { آيَةَ النهار مُبْصِرَةً } [ الإسراء : 12 ] ، وتقدم تحقيقه في الإسراء ، قال الزمخشري : فإن قلت : ما للتقاليل لم يراع في قوله : « لِيَسْكُنُوا » و « مُبْصِرَةٌ » حيث كان أحدهما علة ، والآخر حالاً؟ قلت : هو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف يريد لم لا قال : والنهار لتتصرفوا فيها ، وأجاب غيره بأن السكون في الليل هو المقصود ( من الليل وأما الإبصار في النهار فليس هو المقصود ) لأنه وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية . { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يصدقون فيعتبرون ، وخص المؤمنين بالذكر - وإن كانت الأدلة للكل - لأن المؤمنين هم المنتفعون ، كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75