كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

قوله : { خُذِ العفو } .
قال عبدُ الله بنُ الزُّبير : أمر اللَّهُ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم بأخذ العفو من أخلاق النَّاسِ .
قال مجاهدٌ : يعني خذ العفو من أخلاق النَّاسِ وأعمالهم من غير تَجَسُّسِ وذلك مثل قبول الاعتذار ، والعفو المتساهل ، وترك البَحْثِ عن الأشياء ونحو ذلك . روي أنَّهُ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : « ما هذا؟ قال : لا أدْرِي حتى أسْألَ ثم رجع فقال : » إنَّ اللَّهَ يأمر أنَّ تصلَ مَنْ قطعك ، وتُعْطي مَنْ حَرَمكَ ، وتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمكَ «
قال العلماءُ : تفسيرُ جبريل - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - مطابق للفظ الآية؛ لأنَّك إن وصلت من قطعك فقد عفوت عنه ، وإن أعطيت من حرمك فقد أتيت بالمعروف ، وإذا عفوت عمَّن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين .
وقال ابنُ عباَّسٍ ، والسدُّ ، والضحاك ، والكلبيُّ : والمعنى خُذ ما عفا لك من أموالهم وهو الفضل من العيال ، وذلك معنى قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] ثم نسخت هذه الآية بالصَّدقات المفروضات .
قوله : { وَأْمُرْ بالعرف } ، أي : بالمعروف ، وهو كلُّ ما يعرفه الشَّرع ، وقال عطاءٌ : { وَأْمُرْ بالعرف } بلا إله إلا الله وأعرض عن الجاهلين » يعني أبا جهل وأصحابه ، نسختها آية السَّيْفِ ، وقيل : إذا تسفه عليك الجاهل ، فلا تقابله بالسَّفهِ كقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] .
قال جعفرُ الصَّادق : ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاقِ من هذه الآية .
فصل
اعلم أنَّ تَخْصِيصَهُمْ قوله : « خُذِ العَفْوَ » بما ذكروه من أخذ الفضل تقييد للمطلق من غير دليل ، وأيضاً إذا حملناه على أداء الزَّكَاةِ كالمقادير المخصوصة مُنافياً لذلك؛ لأنَّ أخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم الأموال ولا يشدد الأمر على المزكي ، فلم يك إيجاب الزَّكاةِ ناسخاً لهذه الآية .
وأمَّا قوله : { وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } فالمقصودُ منه أمر الرَّسُول بأن يصبر على سوء أخلاقهم ، وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة وأفعالهم الخسيسة بأمثالها وليس فيه دلالة على المنع من القتالِ؛ لأنَّهُ لا يمتنع أن يؤمؤ عليه الصَّلاة والسَّلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنَّهُ لا تناقض بأن يقول الشَّارعُ لا تُقابلْ سفاهتهم بمثلها ولكن قاتلهم ، وإذا أمكن الجمع بين الأمرين؛ فلا حاجة إلى التزامِ النَّسْخٍ .
قوله تعالى : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ } الآية .
قال : عبدُ الرحم بن زيد : لما نزل قوله : « خُذِ العَفْوَ » الآية : قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم « كيف يا رب بالغضب؟ »
فنزل قوله : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ } الآية والنَّزْغُ : أدنى حركة تكونُ ، قاله الزَّجَّاجُ ، ومن الشَّيطان أدنى وسوسة وقال عبد الرحمن بن زيد لما نزلت : قوله وأكثر ما يُسْند للشيطان؛ لأنه أسرعُ في ذلك وقيل النَّزْغُ الدخول في أمر لإفساده .

وقال الزمخشري : والنَّزغُ والنِّسْغُ : الغَرْزُ والنَّخْسُ ، وجعل النزغ نازغاً كما قيل « جَدَّ جَدُّه » يعني : قصد بذلك المبالغة .
وقيل : النَّزغ : الإزعاج ، وأكثرُ ما يكون عند الغضب وأصله الانزعاج بالحركة إلى الشَّرِّ ، وتقريره : أنَّ الآمر بالمعروف إذا أمر بما يهيج السفيه ويظهر السَّفاهة فعند ذلك أمره اللَّه بالسكوت عن مقابلته فقال : { وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } ثُمَّ أمره الله تعالى بما يجري مجرى العلاجِ بهذا المرض إن حدث فقال : فاستَعِذْ باللَّهِ « وهذا الخطابُ وإن كان للرَّسُول إلاَّ أنه عام لَجميع المكلفين . وقد تقدَّم الكلامُ في الاستعاذة؛ وقوله : { إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يدلُّ على أنَّ الاستعاذة باللِّسانِ لا تفيدُ إلاَّ إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة ، فكأنَّه تعالى يقول : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك ، فإني سميع ، واستحضر معنى الاستعاذة بقلبك ، وعقلك فإني عليمٌ بما في ضميرك .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ } الآية .
بيَّن تعالى في هذه الآية أنَّ حال المُتَّقينَ يزيدُعلى حال الرسُول في هذا الباب؛ لأنَّ الرسول لا يحصل له من الشَّيطان إلاَّ النزغ الذي هو كالابتداءِ في الوسوسةِ ، وجوز على المتقين ما يزيدُ عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطانِ .
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائيُّ : طَيْفٌ ، والباقون طائفٌ بزنة فاعل .
فأما طَيْفٌ ففيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنَّهُ مصدر من : طَافَ يَطِيفُ ك » بَاعَ يَبِيعُ وأنشد أبو عبيدة : [ الكامل ]
2660 - أنَّى ألمَّ بِكَ الخيالُ يَطِيفُ ... ومطَافُهُ لَكَ ذُكْرَةٌ وشُغُوفُ
والثاني : أنَّهُ مُخففٌ من فَيْعِل والأصل : طَيِّف بتشديد الياءِ فحذف عين الكلمة ، كقولهم في : مَيِّت مَيْت ، وفي : لَيِّن لَيْن ، وفي : هَيِّن هَيْن .
ثم « طَيِّف » الذي هو الأصل يَحْتَمِل أن يكون من : طافَ يطيف ، أو من : طَافَ يَطُوفُ والأصل : طَيْوِف فقلب وأدغم .
وهذا قول ابن الأنباري ويشهد لقول ابن الأنباري قراءةُ سعيد بن جبير طيف بتشديد الياء .
والثالث : أنَّ أصله طَوْف من طاف يَطُوفُ ، فقلبت الواو ياءً .
قال أبُو البقاءِ قلبت الواو ياءً وإن كانت ساكنة كما قلبت في أيْد وهو بعيدٌ .
قال شهابُ الدينِ : وقد قالُوا أيضاً في : حَوْل حَيْل ، ولكن هذا من الشُّذُوذِ بحيث لا يقاس عليه .
وقوله : وإن كانت ساكنة ليس هذا مقتضياً لمنع قلبها ياء ، بل كان ينبغي أن يقال : وإن كان ما قبلها غير مكسورٍ . وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل يحتمل أن يكون من : طاف يطُوف ، فيكون ك : قائم وقائلٍ . وأن يكون من : طاف يطيفُ ، فيكون ك : بَائعٍ ومائل وزعم بعضهم أنَّ : طَيْفاً وطَائِفاً بمعنى واحد ويُعْزَى للفرَّاءِ ، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفاً ل : طَيْف فيجعلهما مصدرين ، وقد جاء فاعل مصدراً ، كقولهم : أقائماً وقد قعد النَّاسُ ، وأن يَرُدَّ طَيْفاً ل : طائف أي : فيجعله وصْفاً على فَعْل .

وقال الفارسي : الطَّيْف كالخَطْرة ، والطَّائف كالخَاطر ففرَّق بينهما ، وقال الكسائيُّ الطَّيف : اللَّمَم ، والطَّائف : ما طاف حول الإنسان .
قال ابنُ عطيَّة : وكيف هذا؛ وقد قال الأعشى : [ الطويل ]
2661 - وتُصْبِحُ مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنَّهَا ... ألمَّ بهَا من طائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ
ولا أدري ما تَعَجُّبُه؟ وكأنه أخذ قوله ما طاف حول الإنسان مقيَّداً بالإنسان وهذا قد جعله طائفاً بالنَّاقة ، وهي سَقْطة؛ لأنَّ الكسائيَّ إنَّما قاله اتفاقاً لا تقييداً .
وقال أبُو زيدٍ النصاريُّ : طَافَ : أقبل وأدبر ، يَطُوف طَوْفاً ، وطَوَافاً ، وأطاف يُطِيفُ إطَافةً : استدار القومُ من نواحيهم ، وطافَ الخيالُ : أمَّ يطيف طَيْفاً . فقد فرَّق بين ذي الواو ، وذي الياء ، فخصَّص كلَّ مادة بمعنى ، وفرَّق أيضاً بين فَعَل وأفْعَل كما رأيت .
وزعم السُّهَيْليُّ : أنه لا يُسْتَعمل من طاف الخيالُ اسم فاعل ، قال : « لأنَّهُ تَخَيُّلٌ لا حقيقة له » قال : فأما قوله تعالى : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [ القلم : 19 ] فلا يقالُ فيه « طَيف » ؛ لأنه اسم فاعل حقيقة؛ وقال حسان : [ السريع ]
2662 - جنَّيَّةٌ أرَّقَنِي طَيْفُهَا ... يَذهَبُ صُبْحاً ويُرى في المنَامْ
وقال السدُّ : الطَّيْفُ الجنون ، والطائِفُ : الغضب ، وعن ابن عباس - رضي الله عنما - هو بمعنى واحد ، وهو النَّزغُ .
فصل
قال المفسرون : الطَّيفُ اللمة والوسوسة .
وقيل : الطَّائِفُ ما طافَ به من سوسة الشيطان ، والطيف اللم والمسُّ وقال سعيدُ بن جبير : هو الرَّجلُ يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى ، فيكظم الغيظ .
وقال مجاهدٌ : هو الرَّجلُ يهم بالذنبِ ، فيذكر اللَّهَ تعالى فيدعه .
{ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } هذه « إذَا » الفُجائيَّة كقولك : خرجتُ فإذا زيد ، والمعنى : يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتَّفكر ، وقال السديُّ : إذا زلوا تابُوا وقال مقاتلٌ : إنَّ المتقي إذا مسه نزع من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر فنزع عن مخالفة الله .
واعلم أنَّ إذَا في قوله : { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ } تستدعي جزاءً .
قوله : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } . في هذه الآيةِ أوجهٌ :
أحدها : أنَّ الضمير في : « إخوانهم » يعودُ على الشَّياطين لدلالةِ لفظ الشيطانِ عليهم ، أو على الشَّيطان نفسه؛ لأنَّهُ لا يُراد به الواحدُ ، بل الجِنْسُ .
والضميرُ المنصوبُ في يَمُدُّونهُم يعودُ على الكُفَّارِ ، والمرفوعُ يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدَّم ، والتقديرُ : وإخوان الشياطين يمدُّهم الشيطان ، وعلى هذا الوجه فالخبرُ جارٍ على غير من هو له في المعنى ، ألا ترى أنَّ الإمداد مسند إلى الشياطين في المعنى وهو في اللفظ خبر عن إخوانهم ومثله : [ البسيط ]
2663 - قَوْمً إذا الخَيْلأُ جَالُوا في كَواثبِهَا .. . . .
وقد تقدم البحث في هذا مع مكي وغيره من حيث جريانُ الفعل على غير من هو له ، ولم يَبْرُزْ ضمير .
وهذا التأويلُ الذي ذكرناهُ : هو قول الجمهور وعليه عامة المفسِّرين .
قال الزمخشريُّ : هو أوجهُ؛ لأنَّ إخوانهم في مقابلة : « الَّذينَ اتَّقَوا » .

الثاني : أنَّ المراد بالإخوان الشياطين ، وبالضَّمير المضاف إليه : الجاهلُون ، أو غير المتَّقين لأن الشيء يدلُّ على مقابله ، والواو تعودُ على الإخوان ، والضميرُ المنصوبُ يعود على الجاهلين ، أو غير المتَّقين؛ والمعنى : والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المُتَّقين في الغيِّ ، والخبر في هذا الوجه جارٍ على من هو لهُ لفظاً ومعنى ، وهذا تفسير قتادة .
الثالث : أن يعود الضميرُ المجرور والمنصوب على الشياطين ، والمرفوع على الإخوان وهم الكُفَّارث .
قال ابنُ عطيَّة : ويكون المعنى : وإخوان الشَّياطين في الغيِّ بخلاف الإخوة في اللَّهِ يَمُدُّون الشَّياطين أي : بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ، ولا يترتَّب هذا التَّأويل على أن يتعلَّق في الغيِّ بالإمدادِ؛ لأنَّ الإنسَ لا يغوون الشياطين ، يعني يكون في الغيِّ حالاً من المبتدأ ، أي : وإخوانهم حال كونهم مستقرِّين في الغيّ ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف ، والأحسنُ أن يتعلَّق بم تضمنه أخوانُهُمْ من معنى المؤاخاة والأخوة ، وسيأتي فيه بحث لأبي حيان .
قال أبُو حيَّان : ويمكن أن يتعلَّق في الغيِّ على هذا التَّأويل ب : يمدُّونهم على جهة السببية ، أي : يمدُّونهم بسبب غوايتهم ، نحو : دَخلَتِ امْرأةٌ النَّارَ في هرَّةٍ ، أي : بسبب هرَّةٍ ، ويُحتملُ أن يكون في الغيِّ حالاً ، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي : كائنين في الغيّ ، فيكون في الغيِّ في موضعه ، ولا يتعلَّق ب : إخوانهم وقد جوَّز ذلك ابن عطية .
وعندي في ذلك نظرٌ .
فلو قلت : مُطْعِمُكَ زيدٌ لَحْماً ، مُطْعِمُكَ لحماً زيدٌ ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر ، لكان في جوازه نظر ، لأنَّكَ فصلتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاص ، وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما وهو المبتدأ .
قال شهاب الدين : ولا يظهر منعُ هذا ألبتة لعدم أجنبيته وقرأ نافع يُمِدُّونهُمْ بضم الياء وكسر الميم من أمدَّ والباقون : بفتح الياء وضم الميم ، وقد تقدم الكلام على هذه المادة هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل الكتاب [ البقرة : 155 ] .
فقيل : أمَدَّ ومَدَّ لغتان .
وقيل : مَدَّ معناه : جذب ، وأمَدَّ معناه من : الإمداد .
قال الواحدي عامة ما جاء في التنزيل ممَّا يحمد ويتسحب أمددتُ على أفعلتُ ، كقوله { أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } [ المؤمنون : 55 ] وقوله { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ } [ الطور : 22 ] { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } [ النمل : 36 ] وما كان بخلافه فإنَّه يجيء على : مددت؛ قال تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] فالوجه ههنا قراءة العامة ، ومن ذمَّ الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وقرأ الجحدريُّ : يُمَادُّونهُم من : مادَّهُ بزنة : فاعله ، وقرأ العامَّةُ يُقْصِرُون من : أقْصَرَ ، قال الشاعر : [ الطويل ]
2664 - لَعَمْرُكَ ما قَلْبِي إلى أهْلِه بِحُرْ ... ولا مُقْصِرٍ يَوْماً فَيَأتِينِي بِقُرْ
وقال امرؤُ القيس : [ الطويل ]
2665 - سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعدَ ما كانَ أقْصَرَا ... وحلَّتْ سُلَيْمَى بَطْنَ قَوٍّ فَعَرْعَرَا
أي : ولا نازع ممَّا هو فيه ، وارتفع شوقك بعد ما كان قد نزع وأقلع ، وقرأ عيسى ابن عمر ، وابن أبي عبلة « ثُمَّ لا يَقصُرون » بفتح الياء مِن : قَصرَ ، أي : لا يَنْقُصُونَ من قوله

{ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } [ الأعراف : 192 ] وهو تكلف بعيد .
وقوله « فِي الغيِّ » قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل ، أو ب « إخوانهم » أو بمحذوف على أنه حال إمَّا من « إخوانهم » وإمَّا من واو « يَمُدُّونهُم » وإمَّا من مفعوله .
فصل
قال اللَّيث : الإقصارُ : الكَفُّ عن الشَّيء ، وأقْصَرَ فلانٌ عن الشَّيءِ يُقْصِرُ إقصاراً إذا كفَّ عنه وانتهى .
قال ابنُ عبَّاسٍ : ثُم لا يُقْصِرُون عن الضَّلالِ والإضلال ، أمَّا الغاوي ففي الضَّلال ، وأمَّا المغوي ففي الإضلال . قال الكلبيُّ لكل كافر أخٌ من الشياطين يَمُدُّونهُمْ أي : يُطيلُون لهم في الإغواء حتَّى يستمرُّوا عليه .
وقيل : يزيدونهم في الضَّلالة .
قوله { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ } يعني إذا لم تأتِ المشركين بآيةٍ { قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } أي : هلاَّ افتعلْتَهَا ، وأنشأتها من قبل نفسك ، والاجتباء : افتعال من : جباهُ يَجْبيه ، أي : يجمعه مختاراً له ، ولهذا يقال : أجْتَبَيْتُ الشيء ، أي : اخترته .
وقال الزمخشريُّ : اجْتَبَى الشيء ، بمعنى جباهُ لنفسه ، أي جمعه ، كقولك : اجتمعه أو جُبِيَ إليه ، فاجتباه : أي أخذهُ ، كقولك : جليْتُ له العروس فاجتلاها ، والمعنى هلاَّ اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك .
قال الفراء : تقول العرب : اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك؛ لأنهم كانوا يقولون : { إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه } [ الفرقان : 4 ] أو يقال : هلاَّ اقترحتها على إلهك إن كنت صادقاً ، وأنَّ الله تعالى يَقْبَلُ دعاءك ويجيبُ التمسك وذلك أنَّهم كانوا يطلبون منه آيات معينة على سبيل التعنت كقوله : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] . وعند هذا أمر رسوله أن يجيبهم بالجواب الشافي ، فقال : { قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي } أي ليس عليّ أن أقترح على ربي وإنما أنا أنتظر الوحي .
ثُمَّ بيَّن أنَّ عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدُ في الغرض؛ لأنَّ ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة قاهرة ، فهي كافية في تصحيح النبوة ، فطلب الزيادة تعنت؛ فلا جرم قال : قل هذا يعني : القرآن بَصائرُ حجج ، وبيان ، وبرهان لذوي العقول في دلائل التَّوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، والبصائرُ : جمع بصيرة ، أوصلها ظهور الشَّيء واستحكامه حتى يبصر الإنسان فيهتدي به ، أي : هذه دلائلُ تقودكم إلى الحقِّ؛ فأطلق على القرآن لفظ البصيرةِ تسمية للسبب باسم المسبب .
قال بُو حيَّان : وأطلق على القرآن بصائر إمَّا مبالغةً؛ وإمَّا لأنَّهُ سبب البصائر ، وإمَّا على حذف مضاف أي : ذو بصائر ثم قال : وهُدىً والفرقُ بين هذه المرتبة وما قبلها إنَّ النَّاس في معارف التوحيد ، والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام :
إحدها : الذين بلغوا في هذه المعارف بحيث صاروا كالمشاهدين لها ، وهم أصحاب عين اليقين .
والثاني : الذين بلغُوا إلى ذلك الحد إلاَّ أنهم وصلوا إلى درجات المستدلِّين ، وهم أصحاب علم اليقين فالقرآنُ في حقِّ الأولين وهم السَّابقُون بصائر ، وفي حق القسم الثاني هُدىً ، وفي حق عامَّة المؤمنين رحمة ، ولمَّا كانت الرفق الثلاث من المؤمنين قال : « قَوْمٍ يُؤمنُونَ » .

وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ } الآية .
لمَّا عظَّم شأن القرآن بقوله : « هَذَا بصائرُ » أردفهُ بقوله : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن } .
قوله له متعلقٌ ب : استَمِعُوا على معنى لأجله ، والضمير للقرآن ، وقال أبو البقاءِ : يجوزُ أن يكون بمعنى للَّه ، أي لأجله فأعاد الضمير على الله وفيه بعدٌ ، وجوَّز أيضاً أن تكون اللام زائدةً : أي فاستمعُوهُ ، وقد تقدَّم أنَّ هذا لا يجوزُ عند الجمهور إلا في موضعين إمَّا تقديم المعمولِ ، أو كون العامل فرعاً ، وجوَّز أيضاً أن تكون بمعنى إلى ، ولا حاجة إليه .
قوله « وأنصتُوا » الإنصاتُ : السُّكوت للاستماعِ . قال الكميتُ : [ الطويل ]
2666 - أبُوكَ الذي أجْدَى عَلَيَّ بِنصْرِهِ ... فأنْصَتَ عَنِّي بعده كُلَّ قَائِلِ
قال الفراء : ويقال : نصت ونصت بمعنى واحدٍ ، وقد جاء أنْصَت متعديّاً .
فصل
فقوله : { فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } أمرٌ ، وظاهر الأمر للوجوب ، فيقتضي أن يكون الاستماعُ والسكوتُ واجباً ولعله يجوز أن تكون بحسب المخاطبين ، وأن تكون للتعليل وفيه أقوال .
أحدها : قال الحسنُ وأهلُ الظاهر : يجب الاستماعُ والإنصات لكل قارئ ، سواء كان معلم صبيان أو قارئ طريق .
الثاني : تحريم الكلام في الصَّلاة .
قال أبو هريرة : كانوا يتكلَّمون في الصَّلاة فنزلت هذه الآية ، فأمروا بالإنصات .
وقال قتادةُ : كان الرَّجُلُ يأتي وهُم في الصَّلاةِ ، فيسألهم : كم صلَّيتم وكم بقي؟ وكانُوا يتكلَّمون في الصَّلاةِ بحوائجهم فأنزل اللَّهُ هذه الآية .
الثالث : نزلت في ترك الجَهْر بالقراءة وراء الإمام .
قال ابنُ عبَّاسٍ : قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة المكتوبةِ ، وقرأ أصحابه وراءهُ رافعينَ أصواتهم؛ فخلطوا عليهم فنزلت هذه الآية ، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه .
وقال الكلبيُّ : كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار ، وعن ابن مسعود أنَّهُ سمع ناساً يقرءون مع الإمام فلمَّا انصرف ، قال : أما آن لكم أن تفقهوا { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } وهو قول الحسن والزهري والنخعي وقال سعيد بن جبير ، وعطاء ، ومجاهد : إنَّ الآية في الخطبة ، أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة ، وهذا بعيدٌ لأنَّ الآية مكَّية والجمعة وجبت بالمدينة .
فصل
اختلفوا في القراءة خلف الإمام في الصَّلاةن فروي عن عمر ، وعثمان ، وعليِّ ، وابن عباسٍ ومعاذ ، وجوب القراءة سواء جهر الإمامُ بالقراءة أو أسرَّ ، وهو قول الأوزاعي ، والشافعي؛ وروي عن ابن عمر ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد : أنَّ المأموم يقرأ فيما أسر الإمام فيه ، ولا يقرأ إذا جهر ، وبه قال الزهري « : ومالك ، وابن المبارك ، وأحمد وإسحاق ، وروي عن جابر أنَّ المأموم لا يقرأ سواء أسر الإمام أم جهر ، وبه قال الثَّوري ، وأصحابُ الرأي ، وتمسك من لا يرى القراءة خلف الإمام بظاهر هذه الآية ، ومن أوجبها قال : الآية في غير الفاتحةِ ، ويقرأ الفاتحة في سكتاتِ الإمام ولا ينازعُ الإمام في القراءة .

قوله تعالى : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } الآية .
قال ابن عباس : يعني بالذِّكر : القراءة في الصلاة ، يريد يقرأ سراً في نفسه .
قوله « تَضَرُّعاً وخيفَةً » في نصبهما وجهان :
أظهرهما : أنَّهُمَا مفعولان من أجلهما ، لأنَّهُ يتسببُ عنهما الذِّكر . والثاني : أن ينتصبا على المصدر الواقع موقع الحال ، أي : مُتضرعين خائفين ، أو ذوي تضرع وخيفة .
وقرئ « وخفيَةً » بتقديم الفاءِ ، وقيل : هما مصدران للفعل من معناه لا من لفظه ذكره أبو البقاءِ . وهو بعيدٌ .
قوله : « ودُونَ الجَهْرِ » قال أبُو البقاءِ : معطوف على تَضَرُّع ، والتقديرُ ، ومقتصدين . وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ دُوَ ظرفٌ لا يتصرَّف علىلمشهور ، قال فالذي ينبغي أن يجعل صفة لشيء محذوف ذلك المحذوف هو الحال ، كما قدَّرهُ الزمخشري فقال : ودُونَ الجهْرِ ومتكلماً كلاماً دُونَ الجهْرِ ، لأنَّ الغخفاء أدخلُ في الإخلاص ، وأٌربُ إلى حسن التفكر .
فصل
معنى تضرُّعاً وخيفَةً أي : تتضرَّعُ إليَّ وتخافُ منِّي ، هذا في صلاة السِّر وقوله ودُونَ الجهْرِ أرادَ في صلاة الجهرِ لا تَجْهَر جَهْراً شديداً ، بل في خفضٍ وسُكونٍ تُسمعُ من وقال مجاهدٌ وابن جريجٍ : أمروا أن يذكروه في الصدورِ بالتضرع في الدُّعاء والاستكانة دون رعف الصوت والصياح في الدعاء .
قوله بالغُدُوِّ والآصالِ متعلق ب : اذْكُر أي : اذكُرْهُ في هذين الوقتين وهما عبارةٌ عن اللَّيل والنَّهارِ .
ومعناهما : البكرات والعشيَّات .
وقال أبُو البقاءِ : بالغُدُوِّ متعلق ب : ادعُو وهو سبقُ لسانٍ ، أو قلم ، إذ ليس نظمُ القرآن كذا ، والغُدُوُّ : إما جمع غدوة ، ك : قمح وقمحة ، وعلى هذا فيكون قد قابل الجمع بالجمع والمعنوي .
وقيل هو مصدرٌ ، قال تعالى : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } [ سبأ : 12 ] فيقدَّرُ زمانٌ مضاف إليه حتَّى يتقابل زمان مجموع بمثله تقديره : بأوقات الغدو ، والآصال جمع : أصُل ، وأصُل جمع : أصيل ، فهو جمع الجمع ولا جائزٌ أن يكون جمعاً ل : أصِيل ، لأنَّ فعيلاً ، لا يجمع على أفعال وقيل : هو جمعٌ ل : أصِيل ، وفَعِيلٌ يجمع على أفْعَال نحو : يَمِينٌ وأيمانٌ ، وقيل : آصال جمع ل : أصُل ، وأصُل مفرد ، ثبت ذلك من لغتهم ، وهو العَشِيُّ وفُعُل يجمع على « أفْعَال » قالوا : عُنُق وأعْنَاق ، وعلى هذا فلا حاجة إلى دَعْوَى أنَّه جمعُ الجمع ، ويجمعُ على « أصْلأان » ك : رغيفٍ ورُغْفَان ، ويُصَغَّر على لفظه؛ كقوله : [ البسيط ]
2667 - وقَفْتُ فيهَا أصَيْلاناً أسَئِلُهَا ... عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحَدِ
واستدلَّ الكوفيُّون بقولهم : أصيلان على جواز تصغير جمع الكثرةِ بهذا البيت ، وتأوَّلَهُ البصريُّون على أنَّه مفرد ، وتُبْدَل نونه لاماً . ويروى أصيلاً كَيْ .
وقرأ أبو مجلز واسمه : لاحقُ بنُ حُميدٍ السدوسيُّ البصري : والإيصَال مصدرُ : أصَلَ أي : دَخَلَ في الأصيلِ ، والأصيلُ : ما بين العصر والمغرب .
ثمَّ قال تعالى { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين } والمرادُ منه أنَّ العبد يجبُ أن يكون ذاكراً لِلَّهِ تعالى في كلِّ الأوقات لأنه حثّه على الذكرِ الغدوات وبالعشيات ثم عمَّمَ بقوله : { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين } يعني أنَّ الذكر القلبي يجب أن يكون دائماص ، وأن لا يغفل الإنسانُ عنه لحظةً واحدةً بحسب الإمكان .

قوله : { إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ } يعني الملائكة المُقرَّبين : « لا يسْتكبرُونَ » لا يتكبَّرُون عن عبادته . لمّضا رغَّب رسولهُ في الذِّكر ذكر عُقيبه ما يُقوِّي دواعيه فقال : { إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ } أي أنَّ الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم وبراءتهم من بواعثِ الشَّهوَةِ والغضب ، والحقدِ ، والحسدِ ، مُواظبُونَ على العبوديَّة والسُّجودِ ، والخُضُوعِ ، فالإنسانُ المُبتَلَى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعداً للذات البشرية أوْلَى بالمُواظبةِ على الطَّاعةِ ، والمرادُ بالعندية القرب الشَّرف
واستدلُّوا بهذه الية على أنَّ الملائكة أفضلُ من البشرِ ، لأنَّهُ تعالى لمَّا أمر رسولهُ بالعبادة والذكر قال : { إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي : فأنت أحقّ وأولَى بالعبادِة ، وهذا إنَّما يصحُّ إذا كانت الملائكةُ أفضل منه .
قوله : « ويُسَبِّحُونهُ » أي : يُنزِّهُونه ويقولون سبحان الله : « ولهُ يَسجُدُون » .
فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله : { فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ } [ الحجر : 30 ، 31 ] والمراد أنهم سجدوا لآدم؟
فالجوابُ : قال بعضُ العلماءِ : الذين سجدُوا لآدم - عليه السلامُ - ملائكة الأرض ، وأمَّا ملائكة السَّموات فلا ، وقيل : إنَّ قوله « ولهُ يسجُدُون » يفيدُ أنَّهم ما سجدُوا لغيرِ اللَّهِ بهذا العمومِ ، وقوله : فسجدُوا لآدم خاص والخاصُّ مقدمٌ على العام .
فصل
روى أبُو صالح عن أبي هريرة قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم « إذا قَرَأ ابنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فسجد اعتزلَ الشيطان يبكي يقول يا ويلهُ! أمر ابنُ آدمَ بالسجُودِ فسجد فلهُ الجنَّةُ وأمِرْتُ بالسُّجثود فعصيْت فلِيَ النَّارُ »
وعن معدان قال : « سألتُ ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : حَدِّثني حديثاً ينفعني اللَّهُ به .
قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سجدةً إلاَّ رفعهُ اللَّهُ بها درجةً وحطَّ عنهُ بها خطيئةً »
وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ قَرَأ سُورة الأعرافِ جعل الله بينهُ وبين إبليسَ سِتْراً وكانَ آدمُ شَفِيعاً لهُ يَوْمَ القيامةِ قَرِيباً منهُ »

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

قوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } الآية .
فاعل : يَسْأل يعوُد على معلومٍ ، وهم من حَضَرَ بَدْراً ، وسَألَ تارةٌ تكون لاقتضاءِ معنى في نفسِ المسئول فتتعدَّى ب « عَنْ » كهذه الآية؛ وكقول الشاعر : [ الطويل ]
2668 - سَلِي - إنْ جَهلْتِ - النَّاسَ عنَّا وعنْهُم ... فَليْسَ سواءً عالمٌ وجَهُولُ
وقد تكُون لاقتضاءِ مالٍ ونحوه؛ فتتعدَّى لاثنين ، نحو : سألتُ زيداً مالاً ، وقد ادَّعَى بعضهم : أنَّ السُّال هنابهذا المعنى .
وزعم أنَّ « عَنْ » زائدةٌ ، والتقدير : يَسْألونك الأنفالَ ، وأيَّد قوله بقراءة سعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وعلي بن الحسين ، وزيد ولده ، ومحمد الباقر ولده أيضاً ، وولده جعفر الصَّادق ، وعكرمة وعطاء « يَسألونكَ الأنفالَ » دون « عَنْ » .
والصحيح أنَّ هذه القراءة على إرادة حرف الجرِّ ، وقال بعضهم : « عَنْ » بمعنى « مِنْ » . وهذا لا ضرورة تدعو إليه .
وقرأ ابنُ محيصنِ « عَلَّنْفَالِ » والأصل ، أنَّه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف ، ثم اعتدَّ بالحركةِ العارضة ، فأدغمَ النُّونَ في اللاَّم كقوله : { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم } [ العنكبوت : 28 ] وقد تقدم ذلك في قوله { عَنِ الأهلة } [ البقرة : 189 ] .
والأنفالُ : جمع : نَفَل ، وهي الزِّيادةُ على الشيءِ الواجب ، وسُمِّيت الغنيمة نفلاً ، لزيادتها على الحوزة .
قال لبيدٌ : [ الرمل ]
2669 - إنَّ تَقْوَى ربَّنَا خَيْرُ نَفَلْ ... وبإذْنِ اللَّهِ ريثي وعَجَلْ
وقال آخر : [ الكامل ]
2670 - إنَّا إذا أحْمَرَّ الوغَى نروي القَنَا ... ونَعِفُّ عند تقاسُم الأنفالِ
وقيل : سُمِّيت الأنفال؛ لأنَّ المسلمين فُضِّلُوا بها على سائر الأمم .
وقال الزمخشريُّ : والنَّفَل ما ينفلُهُ الغازي ، أي : يعطاه ، زيادةً على سهمه من المغنم ، وقال الأزهريُّ « النَّفَل ، والنَّافلة ما كان زيادةً على الأصلِ ، وسُمِّيت الغنائمُ أنفالاً؛ لأنَّ المسلمين فُضِّلُوا بها على سائر الأمم ، وصلاةُ التطوع نافلةٌ؛ لأنَّها زيادةٌ على الفرض » وقال تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] أي : زيادة على ما سأل .
قال القرطبي : النَّفَلُ - بتحريك الفاءِ - والنَّفْل : اليمينُ ، ومنه النَّفَل في الحديث « فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم » والنَّفل : الانتفاءُ ، ومنه الحديث فانتفلَ من ولده . والنَّفلُ : نبت معروف .
فصل
في هذا السؤال قولان :
أحدهما : أنَّهم سألوا عن حكم النفال ، كيف تُصرفُ؟ ومن المستحقُّ لها؟ نظيره قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض } [ البقرة : 222 ] و { عَنِ اليتامى } [ البقرة : 220 ] فقال في المحيض : { قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } [ البقرة : 222 ] وقال في التيامى { قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] . فأجابهم بالحكم المعيَّن في كل واقعةٍ فدلَّ الجواب المعيَّن على أنَّ السؤال كان عن مخالطة النساء في المحيض ، وعن التصرُّفِ في مال اليتامى ومخالطتهم في المؤاكلة .
الثاني : هذا سؤال استعطاء ، و « عَنْ » بمعنى « مِنْ » ، وهذا قول عكرمة كما تقدم في قراءته .

فأمَّا القولُ الأولُ : وهو أنَّ السؤال كان عن حكم الأنفال ومصرفها ، فهو قول أكثر المفسرين لأنَّ قوله { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ] يدُلُّ على أنَّ المقصود منه منع القومِ عن المخاصمة والمنازعة .
وقوله : { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } يدلُّ على أنَّ السُّؤال كان بعد وقوع الخصومة بينهم ، وقوله : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يدلُّ على ذلك أيضاً . وإذا عرف ذلك فيحتمل أن يكون المراد بهذه الأنفال قسمة الغنائم ، وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهراً ، ويحتمل أن يكون المراد غيرها .
أما الأوَّلُ ففيه وجوه :
أحدها : أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلام قسم ما غنموه يوم بدر على من حضر وعلى أقوامٍ لم يحضرُوا أيضاً ، وهم ثمانيةُ أنفسٍ : ثلاثةُ من المهاجرين ، وخمسة من الأنصار ، فالمهاجرون : عثمانُ - رضي الله عنه - تركه عليه الصلاة والسلام على ابنته وكانت مريضةً ، وطلحةُ وسعيدُ بن زيد فإنَّه عليه الصلاة والسلام بعثهما للتَّجسس عن خبرِ العدوّ وخرجا في طريق الشَّام .
وأما الأنصارُ : فأبو كنانة بن عبد المنذر ، وخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ، وعاصم خلفه على العالية ، والحارث بن حاطب : ردَّهُ من الرَّوحاء إلى عمر بن عوفٍ لشيء بلغه عنه والحارث بن الصمة أصابته علةٌ بالروحاء ، وخوات بن جبير ، فهؤلاء لم يحضروا ، وضرب لهم النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغنائم بسهم ، فوقع من غيرهم فيه منازعة ، فنزلت هذه الآية .
ثانيها : روي أنَّ الشَّبابَ يوم بدر قتلُوا وأسرُوا ، والأشياخ وقفُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصاف فقال الشبانُ : الغنائمُ لنا لأنَّ قتلنا وأسرنا وهزمنا . فقال سعد بن معاذ : والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ، ولكن كرهنا أن تعرى مصافك ، فتعطف عليك خيلٌ من المشركين فيصيبوك .
وروي أنَّ الأشياخ قالوا : كُنَّا رِدْءاً لكم ولو انهزمتم لانحزتم إلينا ، فلا تذهبُوا بالغنائم ، فوقعت المخاصمة بهذا السَّبب فنزلت هذه الآية .
وثالثها : قال الزجاج : « الأنفالُ الغنائمُ ، وإنَّما سألُوا عنها؛ لأنها كانت حراماً على من كان قبلهم » .
وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ بيَّنَّا في هذا السؤال أنه كان مسبوقاً بمنازعة ومخاصمة ، وعلى قول الزجاج يكونُ السُّؤال عن طلب حكم فقط وأما الاحتمالُ الثاني : وهو أن يكون المرادُ بالأنفالِ شيئاً سوى الغنائمِ ، وعلى هذا أيضاً فيه وجوه :
أحدها : قال ابنُ عباس في بعض الروايات : « المرادُ بالأنفال ما شذَّ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال من أموالهم ، فهو إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضعهُ حيثُ يشاءُ » .
وثانيها : الأنفالُ : الخُمس ، وهو قول مجاهد .
قال القومُ إنما سألوهُ عن الخمس فنزلت الآية .
وثالثها : أنَّ الأنفال هي السَّلب الذي يأخذه الغازي زائداً على سهمه من المغنم ترغيباً لهُ في القتال كقول الإمام : مَنْ قتلَ قَتِيلاً فلهُ سلبُهُ وقوله للسرية « ما أصبتُمْ فهُو لكُمْ ، أو فلكم نصفه أو ربعه » ولا يخمس النفل .

وعن سعد بن أبي وقَّاصِ قال : « قتل أخي عمير يوم بدر فقتلتُ به سعد بن العاص بن أمية وأخذت سيفه ، وكان يسمَّى ذا الكتيفةِ فأعجبني فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : إنَّ الله شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف ، فقال : » ليس هُو لِي ، ولا لك اطراحهُ في القبض « فطرحته ورجعت ، وبي ما لا يعلمه إلا اللَّه من قتل أخي ، وأخذ سلبي ، وقلتُ وعسى أن يعطي هذا من لم يبل بلائي ، فما جاوزت إلاَّ قليلاً حتى جاءنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل اللَّهُ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } فقال : يا سعدُ إنَّك سألتني السيف ، وليس لي ، وإنه قد صار لي فخذه »
قال القاضي : « وكلُّ هذه الوجوه تحتمله الآية ، وليس فيها دلالةٌ على ترجيح بعضها على البعض .
فإن صحَّ دليلٌ على اليقين قضي به ، وإلاَّ فالكلُّ محتملٌ ، وإرادة الجميع جائزة فلا تناقض فيها » .
قوله : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } أي : حكمها للَّهِ ورسوله يقسمانها كما شاءا .
قال مجاهد ، وعكرمة ، والسديُّ : إنها نسخت بقوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] .
وهو قول ابن عباس في بعض الروايات .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي ثابتةٌ غير منسوخة ، ومعنى الآية : قل الأنفال للَّه في الدنيا والآخرة ، وللرسُول يضعها حيُ أمره اللَّهُ ، أي : الحكمُ فيها لله ورسوله ، وقد بيَّن الله مصارفها في قوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] الآية .
قوله : { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } وتقدَّم الكلام على ذات في آل عمران ، وهي هنا صفةٌ لمفعولٍ محذوف تقديره : وأصلِحُوا أحْوالاً ذات افتراقكم وذات وصلكم أو ذات المكان المتصل بكم ، فإنَّ « بَيْن » قد قيل : إنه يراد به هنا : الفِراقُ أو الوصلُ ، أو الظَّرف ، وقال الزجاج وغيره : إنَّ ذات هنا بمنزلة حقيقة الشَّيء ونفسه ، وقد أوضح ذلك ابنُ عطيَّة .
وقال أبُو حيَّان : « والبينُ الفراقُ ، وذات نعت لمفعولٍ محذوف ، أي : وأصلحُوا أحوالاً ذات افتراقكم ، لمَّا كانت الأحوالُ ملابسةً للبين أضيفت صفتها إليه ، كما تقول : اسقني ذا إنائك ، أي : ماءً صاحب إنائك ، لمَّا لابس الماءُ الإناءَ وصف ب » ذَا « وأضيفَ إلى الإناءِ ، والمعنى : اسْقِنِي ما في الإناءِ من الماء » .
قوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } .
قال ابن عطيَّة : جواب الشرط المتقدم في قوله وأطيعُوا هذا مذهبُ سيبويه ، ومذهب المبردك أنَّ الجواب محذوفٌ متأخر ، ومذهبه في هذا ألاَّ يتقدَّم الجوابُ على الشرط وهذا الذي ذكرهُ نقل النَّاسُ خلافه ، نقلوا جواز تقديم جواب الشرط عليه عن الكوفيين ، وأبي زيد ، وأبي العبَّاس ، واللَّهُ أعلمُ .
ويجوز أن يكون للمبرِّد قولان ، وكذا لسيبويه؛ لأنَّ قوله : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } يقتضي أن تكون الغنائم كلها للرسول .
ومعنى الآية : اتَّقُوا اللَّه بطاعته وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة ، والمخالفة ، وتسليم أمر القسمة إلى الله والرسول : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : إنَّ الإيمان الذي دعاكم الرسول إليه لا يتم إلا بالتزام الطَّاعة ، فاحذروا الخروج والمخالفة .
واحتجَّ من قال : ترك الطَّاعة يوجب زوال الإيمان بهذه الآية؛ لأنَّ المعلَّق بكلمة « إنْ » على الشَّيء عدم عند عدم الشَّيء .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)

قوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية .
لمَّا بيَّن أن الإيمان لا يحصل إلا بالطاعة قال : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } يقال : « وَجِلَ » الماضي بالكسر « يَوْجَلُ » بالفتح ، وفيه لغة أخرى ، قُرىء بها في الشَّاذ وجَلَتء بفتح الجيم في الماضي وكسرها في المضارع ، فتحذف الواو ، ك : وعَدَ يَعِدُ ، ويقال في المشهورة : وجِلَ يَوْجَل ، ومنهم من يقول « يَاجَلُ » بقلب الواو ألفاً ، وهو شاذٌّ؛ لأنَّه قلْبُ حرفِ العلّة بأحد السَّببينِ وهو انفتاحُ ما قبل حرفِ العلَّةِ دون تحركه وهو نظيرُ « طَائِيٍّ » في النَّسب إلى « طَيِّىء » .
ومنهم من يقول : « يبجَلُ » بكسر حرف المضارعة ، فتقلب الواوُ ياءً ، لسكونها وانكسرا ما قبلها ، وقد تقدَّم في أول الكتاب أنَّ من العرب من يكسرُ حرف المضارعةِ بشروطٍ منها : أن لا يكون حرفُ المضارعة ياءً إلاَّ في هذه اللَّفظةِ ، فقال « يَيَجَلُ » فأخذ قلب الواو ممَّن كسر حرف المضارعة ، وأخذ فتحَ الياءِ من لغة الجمهور .
والوَجَلُ : الفزَعُ .
وقيل : استشعارُ الخوف يقال منه : وجِلَ يُوْجَلُ ، ويَاجَلُ ، ويَيْجَلُ ، ويِيجَلُ ، وَجَلاً فهو وَجِلٌ .
فصل
معنى الآية : إنَّما المؤمنون الصَّادقون في إيمانهم : { إالذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } خافت وفرقت ، وقيل : إذا خوفوا باللَّهِ انقادُوا خوفاً من عقابه . { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } وتصديقاً ويقيناً ، قال عمر بن حبيب وكانت له صحبة : إن للإيمان زيادةً ونقصاصناً ، قيل فما زيادته؟ قال : إذا ذكرنا الله وحمدناه فذلك زيادته ، وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه .
وكتب عمرُ بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي : « إنَّ للإيمان فرائضَ وشرائعَ وحدوداً وسنناً ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان » .
ثم قال : { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يفوضون إليه أمورهم ، ويثقون به ، ولا يرجون غيره ، فالتَّقديمُ يفيدُ الاختصاص ، أي : عليه لا على غيره ، وهذه الجملةُ يحتمل أن يكونَ لها محلٌّ من الإعراب ، وهو النَّصْبُ على الحالِ من مفعول : زادَتْهُم ، ويحتمل أن تكون مستأنفة ، ويحتمل أن تكون معطوفة على الصِّلةِ قبلها ، فتدخل في حيِّز الصلاتِ المتقدِّمةِ . وعلى الوجهين فلا محلَّ لها من الإعراب .

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

قوله : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } ذكر الصَّلاة؛ لأنَّها رأسُ الطاعات الظاهرة ثم بذل المار في مرضاة اللَّهِ؛ فيدخل فيه الزكاة والصدقات ، والنَّفقة في الجهادِ ، وعلى المساجد والقناطر .
قال المعتزلة : أجمعت الأمةُ على أنَّه لا يجوزُ الإنفاق من الحرامِ ، فدلَّ على أنَّ الحرامَ لا يكن رزقاً وقد تقدم البحثُ فيه . وقوله : « الَّذين يُقيمُونَ » فيجوزُ في هذ الموصول أن يكون مرفوعاً على النَّعْتِ للموصول أو على البدلِ ، أو على البيان له ، وأن يكون منصوباً على القطع المُشعِر بالمدْح .
قوله : { أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً } يجوز في حقّاً أن يكون صفة لمصدر محذوف ، أي : هم المؤمنون إيماناً حقاً ، ويجوز أن يكون مؤكداً لمضمون الجملة ، كقولك : هو عبد الله حقاً ، والعاملُ فيه على كلا القولين مُقدَّرٌ ، أي : أحقُّه حقاً ، ويجوز وهو ضعيفٌ جدّاً أن يكون مؤكِّداً لمضمون الجملة الواقعةِ بعده وهي : لَهُم درجاتٌ ويكون الكلامُ قد تمَّ عند قوله : هُمُ المُؤمِنُونَ ثم ابتدأ ب { حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ } وهذا إنَّما يجوزُ على رأي ضعيف ، أعني تقديم المصدر المؤكِّد لمضمون جملة عليها .
قوله : عِندَ ربِّهِمْ يجوزُ أن يكون متعلقاً ب « دَرَجَاتٌ » ، لأنَّها بمعنى أجُورٌ ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّها صفةٌ ل « درجاتٌ » أي : اسْتقرَّت عند ربهم ، وأن يتعلَّق بما تعلَّق به لَهُمْ من الاستقرار .
فصل
قوله : { أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً } أي : يقيناً ، قال ابنُ عبَّاسٍ : برءوا من الكفر ، قال مقاتل : حَقّاً لا شكَّ في إيمانهم ، وفيه دليلٌ على أنَّه ليس لكل أحد أن يصف نفسه بكونه مؤمناً حقّاً؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما وصف بذلك أقواماً مخصوصين على أوصاف مخصوصة ، وكلُّ أحدٍ لا يتحقَّقُ وجود ذلك الأوصاف فيه وقال ابنُ أبي نجيح : سألَ رجلٌ الحسن فقال : أمؤمن أنت؟ فقال : إن كنت تسألني عن الإيمان باللَّه وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والجنَّة ، والنَّار ، والبعث ، والحساب ، فأنا بها مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنفال : 2 ] الآية ، فلا أدري أمنهم أنا أم لا؟ . وقال علقمةُ : كنا في سفر فلقينا قوماً فقلنا : من القومُ؟ فقالوا : نحنُ المؤمنون حقاً ، فلم ندر ما نجيبهم حتَّى لقينا عبد الله بن مسعود ، فأخبرناه بما قالوا : قال : فما رَدَدْتُمْ عليهم؟ قلنا : لم نردّ عليهم شيئاً ، قال : أفلا قلتم أمِنْ أهلِ الجنَّة أنتم؟ إنَّ المؤمنين أهلُ الجنَّةِ .
وقال سفيانُ الثوريُّ : من زعم أنَّهُ مؤمن حقاً عند الله ، ثم لم يشهدْ أنَّه في الجنَّة فقد آمن بنصف الآية دون النِّصف .
ثم قال تعالى : { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } قال عطاءٌ : بمعنى : درجات الجنَّةِ ويرتقونها بأعمالهم ، قال الربيعُ بنُ أنس : سبعون درجة بين كلِّ درجتين حر الفرس المضر سبعين سنة « ومَغْفرةٌ » لذنوبهم وَرِزقٌ كريمٌ حسن .
قال الواحديُّ : قال أهل اللُّغةِ : الكريمُ : اسم جامع لكل ما يحمدُ ويستحسنُ ، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه فاللَّهُ تعالى موصوفٌ بأنه كريم ، والقرآنُ موصوف بأنَّه كريم ، قال تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [ الواقعة : 77 ] وقال تعالى : { مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ الشعراء : 7 ] { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] وقال : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [ الإسراء : 23 ] فالرزق الكريم هو الشريفُ الفاضل الحسن .

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)

في قوله { كَمَآ أَخْرَجَكَ } عشرون وجهاً :
أحدها : أنَّ الكاف نعتٌ لمصدر محذوف تقديرهُ : الأنفالُ ثابتةٌ للَّه ثبوتاً كما أخرجك ، أي : ثبوتاً بالحقِّ كإخراجك من بيتك بالحقِّ ، يعني لا مرية في ذلك ، ووجه هذ التَّشبيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا رأى كثرة المشركين يوم بدرٍ ، وقلَّة المؤمنين قال : مَنْ قتل قتيلاً فله كذا ، ومَنْ أسر أسيراً فله كذا ، لِيرغِّبَهُم في القتال ، فلمَّا انهزم المشركون قال سعدٌ : يا رسول اللَّهِ إنَّ جماعة من أصحابك وقومك فدوك بأنفسهم ، ولم يتأخَّرُوا عن القتال جُبْناً ، ولا بُخْلاً ببذل مهجتهم ، ولكنَّهم أشفقوا عليك من أن تُغتال ، فمتى أعطيت هؤلاء ما سميته لهم؛ بَقِيَ خلقٌ من المسلمين بغير شيء؛ فأنزل اللَّهُ تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ] يصنعُ فيها ما يشاء ، فأمسك المسلمون عن الطَّلبِ ، وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهة وحين خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقالتة على ما سنشرحه ، فلمَّا قال : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ] كان التقدير : أنَّهم رضوا بهذا الحكم في الأنفالِ وإن كانُوا كارهين له كما أخرجك ربك من بيتك بالحقِّ إلى القتال ، وإن كانُوا كارهين .
الثاني : قال عكرمةُ : تقديره : وأصلحوا ذات بينكم إصلاحاً كما أخرجك ، وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد .
والثالث : تقديرهُ : وأطيعوا اللَّهَ ورسولهُ طاعةً محققةً ثابتةً كما أخرجك ، أي : كما أنَّ إخراج اللَّه إياك لا مرية فيه ولا شبهة .
الرابع : تقديره : يتوكَّلون توكلاً حقيقياً كما أخرجك ربُّك .
الخامس : تقديره : هم المؤمنون حقّاً كما أخرجك فهو صفةٌ ل « حقاً » .
السادس : تقديره : استقرَّ لهم درجاتٌ وكذا استقراراً ثابتاً كاستقرار إخراجك .
السابع : أنَّهُ متعلقٌ بما بعده تقديره : يجادلونك مجادلةً : كما أخرجك ربك ، قال الكسائيُّ « الكاف » تتعلَّقُ بما بعده وهو قوله : { يُجَادِلُونَكَ فِي الحق } [ الأنفال : 6 ] والتقدير : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق } على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه .
الثامن : تقديره : لكارهون كراهيةً ثابتةً : كما أخرجك ربُّك أي : إنَّ هذين الشيئين الجدال والكراهية ثابتان لا محالة كما أنَّ إخراجك ثابت لا محالة .
التاسع : أنَّ « الكافَ » بمعنى « إذ » ، و « مَا » زائدة ، والتقديرُ : اذكر إذ أخرجك وهذا فاسدٌ جدّاً ، إذ لم يثبتْ في موضعٍ أنَّ « الكاف » تكون بمعنى « إذ » وأيضاً فإنَّ « ما » لا تزاد إلاَّ في مواضعَ ليس هذا منها .
العاشر : أنَّ « الكافَ » بمعنى : « واو » القسم ، و « ما » بمعنى « الذي » واقعةٌ على ذي العلم مُقْسَماً به .

وقد وقعت على ذي العلم في قوله : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] { وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } [ الليل : 3 ] والتقدير : والذي أخرجك ، ويكون قوله : يُجَادلُونكَ جواب القسمِ وهذا قول أبي عبيدة .
وقد ردَّ النَّاسُ عليه قاطبةً ، وقالوا : كان ضعيفاً في النَّحو . ومتى ثبت كون الكافِ حرف قسمٍ ، بمعنى « الواو » ؟ وأيضاً فإن : يُجَادلُونكَ لا يصحُّ كونه جواباً؛ لأنَّهُ على مذهب البصريين متى كان مضارعاً مثبتاً؛ وجب فيه شيئان : اللاَّمُ ، وإحدى النونين نحو : { لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين } [ يوسف : 32 ] وعند الكوفيين إمَّا اللاَّمُ ، وإمَّا إحدى النونين ، ويُجادلُونكَ عارٍ عنهما .
الحادي عشر : أنَّ الكاف بمعنى « على » ، و « ما » بمعنى : الذي ، والتقديرُ : امْضِ على الذي أخرجك ، وهو ضعيفٌ؛ لأنه لم يثبت كونُ الكاف بمعنى « على » ألبتة إلاَّ في موضع يحتمل النزاع كقوله { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] .
الثاني عشر : أنَّ الكاف في محل رفع ، والتقدير : كما أخرجك ربك فاتَّقُوا الله ، كأنَّهُ ابتداءٌ وخبر .
قال ابن عطيَّة : « وهذا المعنى وضعهُ هذا المفسِّر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر » .
الثالث عشر : أنَّها في موضع رفعٍ أيضاً والتقدير : لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريم هذا وعدٌ حقٌّ كما أخرجك ، وهذا فيه حذفُ مبتدأ وخبر ، ولو صرَّح بذلك لم يلتئم التشبيه ولم يحسن .
الرابع عشر : أنَّها في موضع رفع أيضاً والتقدير : وأصلحُوا ذات بينكم ، ذلكم خيرٌ لكم ، كما أخرجك ، فالكافُ في الحقيقة نعتٌ لخبر مبتدأ محذوف ، وهو ضعيفٌ لطولِ الفصلِ بين قوله : « وأصْلِحُوا » ، وبين قوله : « كما أخرجك » .
الخامس عشر : أنّضها في محل رفع أيضاً عى خبر ابتداء مضمر ، والمعنى : أنَّه شبَّه كراهية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لخروجه من المدينة ، حين تحققوا خروج قريشٍ للدفع عن أبي سفيان وحفظ غيره بكراهيتهم لنزع الغنائم من أيديهم ، وجعلها للَّه ورسوله ، يحكم فيها ما يشاء . واختار الزمخشري هذا الوجه وحسَّنه .
فقال : « يرتفع محلُّ الكاف على أنه خبر ابتداء محذوف تقديره : هذه الحالُ كحالِ إخراجك ، يعني أنَّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجهم للحرب » . وهذا الذي حسَّنه الزمخشريُّ هو قول الفرَّاءِ - وقد شرحه ابنُ عطيَّة بنحو ما تقدَّم من الألفاظ - فإنَّ الفرَّاء قال : « هذه الكاف شبَّهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصَّة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال » .
السادس عشر : أنَّها صفةٌ لخبر مبتدأ أيضاً ، وقد حذف المبتدأ وخبره ، والتقديرُ : قسمتك الغنائم حق كما كان إخراجك حقاً .
السابع عشر : أنَّ التَّشبيه وقع بين إخراجين ، أي : إخراج ربك إيَّاك من بيتك ، وهو مكَّة وأنت كارهٌ لخروجك ، وكان عاقبة ذلك الإخراج النَّصر والظفر كإخراجه إيَّاك من المدينة وبعضُ المؤمنين كارهٌ ، يكون عقيب ذلك الخروج الظفرُ والنصرُ والخيرُ ، كما كان عقيب ذلك الخروج الأول .

الثامن عشر : أن تتعلَّق الكافُ بقوله : « فاضْربُوا » ، وبسْطُ هذا على ما قالهُ صاحب هذا الوجه أن تكون الكاف للتشبيه على سبيل المجاز كقول القائل لعبده : كما رجعتك إلى أعدائي فاستضعفوك ، وسألت مدداً فأمددتُكَ ، وأزحت عللك ، فخذهم الآن وعاقبهم ، كما أحْسنْتُ إليك وأجريتث عليك الرزق ، فاعملْ كذا ، واشكرني عليه ، فتقدير الآية : كما أخرجك ربُّك من بيتك بالحق وغشَّاكم النُّعاسَ أمَنَةً منه ، وأنزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به وأنزل عليكم من السَّماء ملائكة مردفين فاضربوا فوق الأعناق ، واضربوا منهم كُلَّ بنان . كأنه يقولُ : قد أزَحْتُ عللكم ، وأمددتكم بالملائكة ، فاضربُوا منهم هذه المواضع وهو القتل ، لتبلغوا مراد الله في إحقاق الحقِّ ، وإبطال الباطلِ ، وهذا الوجه بعد طوله لا طائل تحته لبُعدِه من المعنى وكثرة الفواصل .
التاسع عشر : التقدير : كما أخرجك ربك من بيتك بالحقِّ ، أي : بسبب إظهار دين اللَّهِ ، وإعزاز شريعته ، وقد كرهوا خروجك تَهَيُّباً للقتال وخَوْفاً من الموت إذ كان أمر النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - بخروجهم بغتةً ، ولم يكونُوا مُسَْعِدِّين للخروج ، وجادلوك في الحقِّ بعد وضوحه نصرك اللَّهُ وأمدَّك بملائكته ودلَّ على هذا المحذوفِ الكلامُ الذي بعده ، وهو قوله { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } [ الأنفال : 9 ] الآيات .
وهذا الوجهُ استحسنه أبو حيَّان ، وزعم أنه لمْ يُسْبَق به .
ثم قال : « ويظهرُ أنَّ الكاف ليست لمحضِ التَّشبيه ، بل فيها معنى التَّعليل » .
وقد نصَّ النحويُّون على أنَّها للتعليلِ وخرَّجُوا عليه قوله تعالى : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } .
وأنشدوا : [ الرجز ]
2671 - لا تَشْتُمِ النَّاسَ كَمَا لا تُشْتَمُ ... أي : لانتفاءِ شتم النَّاس لك لا تشتمهم .
ومن الكلام الشَّائِعِ : كما تطيع اللَّه يدخلك الجنَّة ، أي : لأجل طاعتك الله يدخلك الجنَّة ، فكذا الآية ، والمعنى : لأنْ خرجت لإعزاز دين اللَّهِ ، وقتل أعدائه ونصرك وأمدَّك بالملائكة .
العشرون : تقديره : وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما إخرجُك في الطَّاعة خيرٌ لكم كما كان إخراجك خيراً لهم ، وهذه الأقوالُ ضعيفة كما بينا .
قوله : « بالحَقِّ » فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بالفعل ، أي : بسبب الحقِّ ، أي : إنَّه إخراجٌ بسبب حق يظهر وهو علوُّ كلمة الإسلام ، والنَّصرُ على أعداء اللَّهِ .
والثاني : أن يتعلق بمحذوفٍ على أنَّهُ حال من مفعول : « أخْرَجَكَ » أي : ملتبساً بالحقِّ .
قوله : وإن فريقاً الواو للحال ، والجملة في محلِّ نصب ، ولذلك كُسرت « إنَّ » ومفعول « كَارِهُونَ » محذوفٌ ، أي : لكارهون الخروج ، وسببُ الكراهية : إمَّا نفرة الطبع ممَّا يتوقَّع من القتال ، وإمَّا لعدم الاستعداد . والمراد ب « بيته » بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها .
فصل
روى ابنُ عبَّاس ، وابنُ الزُّبير ، ومحمَّد بنُ إسحاق ، والسُّديُّ أنَّ أبا سفيان أقبل من الشَّام في عير لقريش في أربعين راكباً من كفَّارِ قريش منهم : عمرُو بن العاصِ ، ومخرمة ابنُ نوفل ، وفيها أموال كثيرة ، حتَّى إذا كانوا قريباً من بدر ، أخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبهم تلقي العير ، لكثرة الخير ، وقلة العدوِّ ، فانتدب النَّاس ، فخفَّ بعضهم وثقل بعضهم؛ لأنهم لم يظنُّوا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً .

فلمَّا سمع أبُو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وسلم ، استأجرَ ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكَّة وأمره أن يأتي قريشاً يستنفرهم ، ويخبرهم أنَّ محمداً قد عرض عليرهم في أصحابه ، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكَّة .
وقد رأت عاتكة بنت عبد المطالب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها ، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له : يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وخشيت أن يدخل على قومك منها شرّ ومُصيبة فاكتم عليَّ ما أحدثك .
قال لها : وما رأيتُ؟ قالت : رأيتُ راكباً أقبل على بعيرٍ لهُ حتَّى وقف بالأبطح ثمَّ صرخ بأعلى صوته ألا فانفرُوا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى النَّاس قد اجتمعُوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ، فبينما هم حولهُ مثل به بعيره على ظهر الكعبةِ ، ثمَّ صرخ بمثلها أعلى صوته ألا فانفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاثٍ ، ثمَّ مثل به بغيره على رأس أبي قبيس ، ثمَّ صرخ بمثلها ثم أخذ صخرة ، فأرسلها فأقبلت تهوي حتّضى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت فما بقي بيت من بيوت مكَّة إلاَّ دخلته منها فلقةٌ ، فحدَّث بها العباس الوليد ، فذكرها الوليدُ لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش .
قال العباس : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل في رهط من قريش قعود يتحدَّثُون برؤيا عاتكة ، فلمَّا رأني أبو جهل قال : با أيا الفضل إذا فرغت من طوافك أفقبل إلينا .
قال : فلمَّا فرغتُ أقبلتُ حتَّى جلست مهم .
فقال أبو جهل : ييا بني عبد المطلب متى حدثت هذه النبية فيكم قلت : وما ذاك؟ .
قال : الرُّؤيَا التي رأتها عاتكة قلت : وما رأت؟
قال : يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتَّى تتنبأ نساؤهم لقد زعمت عاتكةُ في رؤياها أنَّهُ قال : انْفِرُوا في ثلاثٍ ، فسنتربّص بكم هذه الثلاث ، فإن يكُ ما قالت حقَّا فسيكونُ ، وإن تَمْضِ الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء؛ نكتب عليكم كتاباً أنَّكُمْ أكذبُ هل بيت في العرب قال العباس : فواللَّهِ ما كان منِّي إليه كبير فلمَّا كان بعد ثلاث إذْ هو يسمعُ صوتَ ضمضمٍ بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره وقد جدع بعيره ، وحول رحله ، وشق قميصه ، وهو يقولُ : يا معشر قريش اللَّطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان ، قد عرض لها مُحَمَّدٌ في أصحابه ولا أرى أن تدركوها الغوث .

فخرج أبو جهلٍ بجميع أهل مكَّة وهم النَّفيرُ ، وفي المثل السَّائر : لا في العير ، ولا في النفير ، فقيل له : إنَّ العير قد أخذت طريق السَّاحل ، ونجتْ ، فارجع بالنَّاس إلى مكة ، فقال : لا والله لا يكونُ ذلك أبداً حتَّى ننحرَ الجزور ، ونشرب الخُمُورَ ، ونقيم القينات والمعازف ببدر ، فيتسامع العربُ بخروجنا ، وأنَّ محمداً لم يُصِب العير ، فمضى بهم إلى بدرٍ ، وبدرٌ كانت العربُ تجمع فيه يوماً في السَّنةِ لسوقهم .
« ونزل جبريلُ وقال : إنَّ القوم قد خرجوا من مكَّة على كلِّ صعبٍ وذلولٍ ، وإن الله قد وعدكم أحدى الطائفتين فالعيرُ أحب إليكم أم النفير؟ .
قالوا : بل العيرُ أحبُّ إلينا من لقاء العدو ، فتغيَّر وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنَّ العير قدمضت على ساحلِ البَحْرِ ، وهذا أبو جهل قد أقبل .
فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودَع العدُوَّ فقام عند غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر لإأحسنا ، ثمَّ قام سعدُ بنُ عبادة وقال : امْضِ لِمَا أمرك اللَّهُ به ، فواللَّهِ لو سرت إلى عدن ما تخلَّف رجلٌ عنك من الأنصار ، ثم قال المقدادُ بنُ عمرو : يا رسول الله امض لما امرك اللَّهُ؛ فإنَّ معك حيث أردت ، لا نقولُ لك كما قالت بَنُو إسرائيل لموسى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ولكن نقول : اذْهَبْ أنت وربُّك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون ما دامت عين منَّا تطرف ، فضحك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم قال : » سِيرُوا على بركةِ الله ، وأبشروا ، فإنَّ اللَّهَ اللَّهَ قد وعدنِي إحْدَى الطائفتين ، واللَّهِ لكَأنِّي الآن أنظرُ إلى مصارعِ القوْمِ «
عن أنس قال رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم » هذا مصرعُ فُلانٍ قال : ويضعُ يدهُ على الأرض ههنا وههنا ، قال : فَمَا مَاطَ أحدهم عن موضع يَدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولمَّا فرغ نبيُّ الله من بدر قال بعضهم : عليك بالعير ، فناداهُ العبَّاسُ وهو في وثاقه : لا يصلحُ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لِمَ؟ قال : لأنَّ اللَّهَ وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك «
إذا عرف ذلك نقولُ كانت كراهية القتال حاصلة لبعضهم لقوله تعال : { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ } [ الأنفال : 5 ] والحق الذي جادلوك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تليق النفير لايثارهم العير .

يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)

قوله : { بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } المرادُ منه : إعلام رسُول اللَّهِ بأنَّهم ينصرون ، وجدالهم قولهم : ما كان خُروجنا إلاَّ للعير ، وهلاَّ قلت لنا لنستعدّ ونتأهبّ للقتالِ؛ لأنَّهم كانُوا يكرهون القتال ثُم إنَّه تعالى شبَّه حالهم في فرط فزعهم بحال من يُجَرّ غلى القتل ، ويُسَاق إلى الموت وهو شاهد لأسبابه ناظر إلى موجبته ، ومنه قوله عليه السَّلأامُ : « من نفى ابنه وهو ينظر إليه » أي يعلم أنَّه ابنه ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [ النبأ : 40 ] أي يعلم وكان خوفهم لأمور :
أحدها : قلَّة العدد .
وثانيها : كانوا رجَّالة ، روي أنه ما كان فيهم إلا فارسان . وثالثها : قلة السلاح .
قوله : يُجالدُونك يحتمل أن يكون مُسْتأنفاً إخباراً عن حالهم بالمجادلةِ ، ويحتمل أن يكون حالاً ثانية أي : أخرجك في حال مجادلتهم إيَّاك ، ويحتمل أن يكون حالاً من الضَّمير في لكارهُون ، أي : لكارِهُونَ في حال جدالٍ .
والظاهرُ أنَّ الضميرَ المرفوع يعودُ على الفريق المتقدِّم .
ومعنى المجادلة قولهم : كيف تُقاتل ولم نستعد للقتال؟ ويجوزُ أن يعود على الكفَّارِ ، وجدالهم ظاهر .
قوله : بَعْدَ ما تبيَّن منصوب بالجدال ، و « ما » مصدرية ، أي : بعد تَبينِهِ ووضوحه ، وهو أقبحُ من الجدال في الشَّيء قبل إيضاحه .
وقرأ عبد الله « بُيِّن » مبنياً للمفعول من : بَيَّنتُهُ أي : أظهرته ، وقوله : « وهُمُ ينظرُونَ » حالٌ من مفعول يُساقُونَ .

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)

قوله « وإذْ يعدُكُمُ » « إذْ » منصوب بفعل مقدر ، أي : اذكر إذْ ، والجمهور على رفع الدال؛ لأنَّه مضارع مرفوع .
وقرأ مسلمة بنُ محاربٍ : بسكونها على التَّخفيفِ لتوالي الحركاتِ .
وقرأ ابنُ محيصن « يعدكم اللَّهُ احدى » يوصل همزة أحْدَى تخفيفاً على غير قياس ، وهي نظير قراءة من قرأ : { إِنَّهَا لإِحْدَى } [ المدثر : 35 ] بإسقاط الهمزة أجرى همزة القطع مُجْرَى همزة الوصل ، وقرأ أيضاً أحَد بالتَّذكير؛ لأنَّ الطائفة مؤنث مجازي .
فصل
إحدى الطائفتين أي : الفرقتين :
أحدهما : أبو سفيان مع العير ، الأخرى أبو جهل مع النَّفيرِ ، و « أنَّها لَكُمْ » منصوبُ المحلِّ على البدلِ مِنْ إحْدَى أي : يَعِدُكم أنَّ إحدى الطائفتين كائنة لكم ، أي : تتسلَّطُون عليها تسلُّط المُلاَّكِ ، فهي بدل اشتمال وتوَدُّونَ تريدون : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ } يعني : العير التي ليس فيها قتال والشَّوكةُ : السلاح كسِنان الرُّمح ، والنصل والسَّيف ، وأصلها من النَّبتِ الحديدِ الطرف ، ك : « شَوْكِ السَّعدان » ، يقال منه : رَجُلٌ شائِكٌ ، فالهمزة مِنْ « واوٍ » ، ك : قائم ، ويجوزُ قلبه بتأخير عينه بعد لامه ، فيقال : شاكٍ ، فيصير ك : غازٍ ، ووزنهُ حينئذ فالٍ .
قال زهيرٌ : [ الطويل ]
2672 - لَدَى أسَدٍ شَاكِي السِّلاحِ مُقذَّفٍ ... لهُ لبدٌ أظفارهُ لمْ تُقلَّمِ
ويُوصفُ السلاحُ : بالشَّاكي ، كما يوصف به الرَّجُل ، فيقال : رجلٌ شاكٌ ، وشاكٍ ، وسلاحٌ شاكٌ ، وشاكٍ . فأمَّا « شاكٌ » غير معتل الآخر ، وألفه منقلبةٌ عن عين الكلمة ، ووزنهُ في الأصل على فَعِل بكسر العين ، ولكن قلبت ألفاً ، كما قالوا : كبشٌ صافٌ أي صوف ، وكذلك « شاكٌ » أي : شَوِكٌ .
ويحتمل أن يكون حذوف العين ، وأصله « شَائِكٌ » ، فحذفت العين ، فبقي « شاكاً » فألفه زائدةٌ ، ووزنه على هذا « فالٍ » .
وأمَّا : « شاكٍ » فمنقوصٌ ، وطريقته بالقلب كما تقدم ومن وصف السلاح بالشاك قوله : [ الوافر ]
2673 - وألْبِسُ من رضاهُ في طريقِي ... سلاحاً يَذْعَرُ الأبطالَ شَاكَا
فهذا يحتمل أن يكون محذوف العين ، وأن يكون أصله « شوكاً » ، ك : صَوِف . ويقال أيضاً : هو شاكٌّ في السلاح ، بتشديد الكافِ ، من « الشِّكَّة » ، وهي السلام أجمع ، نقله الهرويُّ ، والرَّاغبُ .
قال : إنَّكُم تريدون الطائفة التي لا حدة لها ، يعني : العير ، ولكن الله يريدُ التَّوجُّهَ إلى الطائفة الأخرى ليحق الحقَّ بكلماته .
وقرأ مسلمة بن محارب : « بكلمته » على التَّوحيد ، والمراد به : اسم الجنس فيؤدِّي مؤدَّى الجمع ، والمراد بقوله : « بِكلماتِهِ » أي : بأمره إيَّاكم بالقتالِ ، وقيل : بهدايته التي سبقت من إظهار الدّين وإعزازه : { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } والدَّابرُ الآخر من دبر ، ومنه دابرة الطَّائر وقطع الدَّابر عبارة عن الاستئصال أي : ليستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد .

لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)

قوله : « لِيُحِقَّ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلقٌ بما قبله ، أي : ويقطع ليحق الحقَّ ، والثاني : أن يتعلَّق ، بمحذوفٍ تقديره : ليحقَّ الحقَّ فعل ذلك ، أي : ما فعله إلاَّ لهما ، وهو إثباتُ الإسلامِ وإظهاره وزوالُ الكُفْرِ ومحقه .
قال الزمخشريُّ : « ويجب أن يُقدَّر المحذوفُ مؤخراً ليفيد الاختصاص وينطبق عليه المعنى » . وهذا على رأيه ، وهو الصحيحُ .
فإن قيل : قوله : { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } ثم قوله بعد ذلك « لِيُحِقَّ الحقَّ » تكرير محضٌ .
فالجوابُ : أنَّ المراد بالأوَّل سبب ما وعد اللَّه به هذه الواقعة من النَّصر والظَّفر بالأعداد .
والمراد بالثاني : تقوية القرآن والدِّين ونصرة هذه الشَّريعةِ؛ لأنَّ الذي وقع مع المؤمنين يوم بدر بالكافرين سبب لعزة الدِّين وقوته ، ولهذا قرنه بقوله : « ويُبْطِلَ الباطلَ » الذي هو الشرك ، وذلك في مقابلة : « الحقّ » الذي هو الدين والإيمان .
فإن قيل : الحقُّ حقٌّ لذاته ، والباطلُ باطلٌ لذاته ، وما ثبت للشيء لذاته؛ فإنَّه يمتنع تحصيله بجعل جاعل فما المرادُ من تحقيق الحقِّ وإبطال الباطل .
الجوابُ : المرادُ من تحقيق الحقِّ وإبطال الباطل إظهار كون ذلك الحقِّ حقّاً ، وإظهار كون الباطل باطلاً ، وذلك يكون تارةً بإظهار الدَّلائل والبينات ، وتارةً بتقوية رؤسَاءِ الباطل .
فصل
احتجوا بقوله : « لِيُحِقَّ الحَقَّ » في مسألة خلْقِ الأفعال .
قالوا : يجبُ حمله على أنه يوجدُ الحقَّ وبكونه ، والحقُّ ليس إلاَّ الدين والاعتقاد ، فدل على أنَّ العقائد الحقة لا تحصل إلاَّ بتكوين الله ، ولا يمكنُ حمل تحقيق الحقِّ على إظهار آثاره؛ لأنَّ ذلك الظُّهُورَ حصل بفعل العبادِ ، فامتنع إضافة ذلك الإظهار إلى اللَّهِ تعالى ، ولا يمكنُ أن يقال : المرادُ من أظهاره وضع الدلائل عليها ، لأنَّ هذا المعنى حاصلٌ في حق الكافر والمسلم .
وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يَبْقَى لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلاً .
قالت المعتزلةُ : هذه الآيةُ تدلُ على أنَّهُ يريدُ تحقيق الباطل وإبطال الحق ألبتَّة ، إنَّما يريد تحقيق الحقِّ ، وإبطال الباطل ، وذلك يبطلُ قول من يقول إنَّه لا باطل ولا كفر إلاَّ والله تعالى مريدٌ له .
وأجيبوا : بأنه ثبت في أصول الفقة أنَّ المفرد المحلى بالألف واللاَّم ينصرفُ إلى المعهود السَّابقِ فهذه الآية دلَّ على أنَّه تعالى أراد تحقيق الحق ، وإبطال الباطل في الصُّورة ، فلم قُلْتُم إنَّ الأمر كذلك في جميع الصُّور؟
وقد بيَّنا أيضاً بالدَّليلِ أنَّ هذه الآية تدلُّ على صحَّة قولنا .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } أي : المشركون .

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)

قوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } الآية .
في « إذْ » خمسة أوجه :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ ب « اذْكر » مضمراً ، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً ، أي : إنَّهُ منقطعٌ عمَّا قبله .
والثاني : أنَّهُ منصوب ب « يُحِقَّ » أي : يحقُّ الحقَّ وقت استغاثتكم ، وهو قول ابن جرير وهو غلط؛ لأن « لِيُحِقَّ » ، مستقبل؛ لأنَّه منصوبٌ بإضمار « أنْ » و « إذْ » ظرف لما مضى ، فكيف يعمل المستقبل في الماضي؟ .
الثالث : أنَّهُ بدلٌ من « إذ » الأولى ، قاله الزمخشري ، وابن عطيَّة ، وأبُو البقاءِ وكانوا قد قدَّمُوا أنَّ العامل في « إذْ » الأولى « اذكر » مقدراً .
الرابع : أنَّهُ منصوب ب « يَعِدُكُمُ » قاله الحوفيُّ ، وقبله الطبري .
الخامس : أنَّهُ منصوب بقوله « تَوَدُّونَ » قاله أبو البقاء ، وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصْلِ .
واستاث : يتعدَّى بنفسه ، وبالباءِ ، ولم يجىء في القرآن إلاَّ متعدِّياً بنفسه ، حتَّى نقم ابن مالك على النحويين قولهم : المستغاث له ، أو به ، والمستغاث من أجله ، وقد أنشدوا على تعدِّيه بالحرف قول الشاعر : [ البسيط ]
2674 - حَتَّى اسْتَغَاثَتْ بماءٍ لا رشاءَ لَهُ ... من الأبَاطِحِ في حَافَاتِهِ البُرَكُ
مُكَلَّلٌ بأصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... ريحٌ خريقٌ لضاحِي مائِهِ حُبُكُ
كَمَا استغاثَ بِسَيءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ ... خَافَ العُيُونَ ولمْ يُنظَرْ بِه الحِشَكُ
فدلَّ هذا على أنَّهُ يتعدَّى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره .
فصل
الاستغاثةُ : طلبُ الغَوْث ، وهو النَّصرُ والعونُ ، وقيل : الاستغاثةُ : سدُّ الخَلَّةِ وقتَ الحاجةِ ، وقيل : هي الاستجارةُ ، ويقالُ : غَوْثٌ ، وغواثٌ ، والغَيْث من المطرِ ، والغَوْثُ من النُّصرةِ ، فعلى هذا يكون « اسْتَغَاثَ » مشتركاً بينهما ، ولكن الفرقَ بينهما في الفعل ، فيقال : اسْتَغثْتُهُ فأغاثني من الغَوث ، وغَاثَني من الغَيْث ، وفي هذه الاستغاثَةُ قولان :
الأول : أنَّ هذه الاستغاثة كانت من الرَّسُولِ - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
قال ابن عبَّاسٍ : حدّثني عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - قال : « لمَّا كان يوم بدرٍ نظر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، وهم ألف وإلى أصحابه ، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، واستقبل القبلة ، ومد يده ، فجعل يهتف بربّه : » اللَّهُمَّ أنْجِزْ لِي ما وعدْتَنِي ، اللَّهُمَّ إنْ تُهلِكْ هذه العصابة لا تُعْبَدُ في الأرضِ « فلم يزل كذلك حتّضى سقط رداؤهُ عن منكبه ، وردَّه أبو بكر ثمَّ التزمه ، ثم قال : كفاكَ يا نبيَّ اللَّهِ مناشَدَتكَ ربَّك ، فإنَّه سَيُنْجِزُ لك ما وعدكَ » ؛ فأنزل اللَّهُ الآية ، ولما اصطفّ القومُ قال أبُو جهلٍ : اللَّهُمَّ أولانا بالحقَّ فانْصُرهُ .
الثاني : أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين؛ لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلاً فيهم ، بل خوفهم كان أشَدّ من خوف الرسول ، ويمكن الجمع بينهما بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا وتضرع ، والمؤمنون كانوا يُؤمِّنونَ على دعائه .

قوله : « أنِّي » العامةُ على فتح الهمزةِ بتقدير حذف حرف الجرّ ، أي : فاستجاب بأني .
وقرأ عيسى بن عمر ، وتروى عن أبي عمرو أيضاً « إنِّي » بكسرها ، وفيها مذهبان ، مذهب البصريين : أنَّهُ على إضمار القول ، أي : فقال : إني ممدُّكم .
ومذهب الكوفيين : أنَّها مَحكيَّةٌ ب « اسْتَجَابَ » إجراءً له مُجْرَى القولِ؛ لأنَّه بمعناه .
قوله : « بألفٍ » العامَّةُ على التَّوحيدِ ، وقرأ الجحدريُّ « بآلفٍ » بزنة « أفْلُسِ » وعنه أيضاً ، وعن السدي « بآلاف » بزنة : أحْمَال « ، وفي الجمع بين القراءتين ، وقراءة الجمهور أن تحمل قراءةُ الجمهورِ على أنَّ المرادَ ب » بالألْفِ هم الوجوه ، وباقيهم كالأتباع لهم ، فلذلك لم يَنُصَّ عليهم في قراءة الجمهور ، ونصَّ عليهم في هاتين القراءتينِ ، أو تحمل الألف على من قاتل من الملائكة دون من لم يقاتل ، فلا تَنَافِي حينئذٍ بين القراءاتِ .
قوله : « مُردفينَ » قرأ نافع ، ويروى عن قنبل أيضاً : « مُردَفينَ » بفتح الدَّال ، والباقون بكسرها ، وهما واضحتان؛ لأنه يُروى أنه كان وراء كلّ ملكٍ رديفٌ له ، فقراءة الفتحِ تُشعر بأنَّ غيرهم أردفهم ، لركوبهم خلفهم ، وقراءة الكسر تشعر بأنَّ الراكب خلف صاحبه قد أردفه فصحَّ التَّعبيرُ باسم الفاعل تارةن وباسم المعفول أخرى ، وجعل أبو البقاءِ مفعول « مُردفين » يعني بالكسر محذَوفاً أي : مُردفين أمثالهم ، وجوَّز أن يكون معنى الإرداف : المجيء بعد الأوائل ، أي : جعلوا ردفاً للأوائل . ويطلب جواب عن كيفيَّةِ الجمع بين هذه الآية ، وآية آل عمران حيث قال هناك « بخَمْسَة » وقال هنا : « بألفٍ » والقصّة واحدة؟
والجوابُ : أنَّ هذه الألف مردفةٌ لتلك الخمسة؛ فيكون المجموعُ ستة آلاف ، ويظهر هذا ، ويقوى في قراءة : « مُردِفينَ » بكسر الدَّالِ .
وقد أنكر أبو عبيدٍ : أنْ تكون الملائكةُ أردفت بعضها أي : ركَّبَتْ خلفها غيرها من الملائكةِ .
وقال الفارسيُّ : من كسر الدَّال احتمل وجهين :
أحدهما : أن يكونوا مردفين مثلهم كما تقول : أردفتُ زيداً دابتي ، فيكون المفعولُ الثَّاني محذوفاً ، وحذفُ المفعولِ كثيرُ ، والوجه الآخرُ : أن يكونوا جَاءُوا بعد المسلمين .
وقال الأخفشُ « بنو فلان يَردفوننا ، أي : يَجيئُون بعدنا » .
وقال أبُو عبيدة « مُردفينَ » جاءوا بعدُ ، وردفني ، وأردفني واحد .
قال الفارسي : هذا الوجه كأنه أبْيَنُ لقوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } فقوله : « مُردفينَ » أي : جائين بعد ، لاستغاثتكم ، ومن فتح الدَّال فهم مُردفُون على أرْدِفُوا الناسَ ، أي : أنْزِلُوا بعدهم .
وقرأ بعض المكيين فيما حكاه الخليلُ : « مُردِّفينَ » بفتح الرَّاء وكسر الدَّالِ مشدَّدة ، والأصلُ : « مُرتدفينَ » فأدغم .
وقال أبو البقاءِ : إنَّ هذه القراءة مأخوذةٌ من « رَدَّفَ » بتشديد الدَّال على التكثير وإنَّ التضعيف بدلٌ من الهمزة ك : « أفْرحتَهُ وفرَّحْته » .

وجوَّز الخليلُ بنُ أحمد : ضمَّ الراءِ إتباعاً لضم الميم ، كقولهم : « مُخُضِم » بضم الخاءِ ، وقد قراء بها شذوذاً .
وقرىء « مُرِدِّفين » بكسر الرَّاءِ وتشديد الدَّالِ مكسورة ، وكسر الراء يحتمل وجهين : إمَّا لالتقاءِ الساكنين ، وإمَّا للإتباع .
قال ابنُ عطيَّة : « ويجوزُ على هذه القراءةِ كسرُ الميم إتباعاً للرَّاءِ ، ولا أحفظه قراءة » .
قال شهابُ الدِّين : وكذلك الفتحة في « مُردِّفينَ » في القراءة التي حكاها الخليلُ تحتمل وجهين :
أظهرهما : أنَّها حركةُ نقلٍ من التَّاء - حين قصد إدغامها - إلى الرَّاءِ .
والثاني : أنَّها فُتِحَتْ تخفيفاً وإن كان الأصلُ الكسر على أصل التقاء السَّاكين ، كما قد قُرىء به ، وقرىء « مِرِدِّفين » بكسر الميم ، إتباعاً لكسرةِ الرَّاءِ .
و « الإرداف » الإتباع ، والإركاب ، وراءك .
وقال الزَّجَّاجُ : « أردفْتُ الرَّجُلَ إذا جئت بعده » .
ومنه : { تَتْبَعُهَا الرادفة } [ النازعات : 7 ] ويقال : رَدِف ، وأرْدَفَ .
واختلف اللغويون : فقيل هما بمعنى واحد ، وهو قول ابن الأعرابي نقله عنه ثعلب .
وقولُ أبي زيْد نقله عنه أبو عبيدٍ ، قال : يقال : ردفْتُ الرَّجُلَ وأردفتُهُ ، إذا ركِبْتُ خَلْفَهُ؛ وأنشد : [ الوافر ]
2675 - إذَا الجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بآل فَاطِمَةَ الظُّنُونَا
أي : جاءت على رِدْفِها ، وقيل : بينهما فرقٌ فقال الزَّجَّاجُ : « يقال : رَدِفْتُ الرَّجل إذا ركبتُ خلفه ، وأرْدَفتُه أركبته خَلْفِي » . وهذا يُناسبُ قول مَنْ يُقدِّر مفعولاً في : « مُرْدِفين » بكسر الدَّال وأرْدَفْتُه إذا جئتَ بعده أيضاً فصار « أرْدَفَ » على هذا مشتركاً بين معنين .
وقال شمر : « رَدِفْتُ وأرْدَفْتُ إذَا فَعَلْتَ ذلك بنفسكَ ، فأمَّا إذَا فعلتهما بغيركَ فأرْدَفْتُ لا غير » .
وقوله : « مُرْدَفينَ » بفتح الدَّال فيه وجهان ، أظهرهما : أنَّهُ صفةٌ ل « ألْف » أي : ارْدَفَ بعضهم لبعض ، والثاني : أنَّه حالٌ من ضمير المخاطبين في ممدكم .
قال ابن عطية : « ويحتمل أن يراد بالمُرْدَفين : المؤمنون ، أي : أرْدِفُوا بالملائكة » .
وهذا نصٌّ فيما ذكر من الوجه الثاني .
وقال الزمخشري : وقرئ « مُرْدفين » بكسر الدَّال وفتحها من قولك : رَدِفه ، إذا تبعه ، ومنه قوله تعالى { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] أي : ردفكم ، وأرْدَفْتُه إيَّاه : إذا تَبِعْتَه ، ويقال : أرْدَفته كقولك ، اتَّبَعْته : إذا جِئْتَ بعده ، ولا يخلُو المكسورُ الدَّالِ من أن يكون بمعنى : مُتْبِعِين ، أو مُتَّبِعين .
فإن كان بمعنى مُتْبعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى مُتْبِعين بعضهم بعضاً ، أو مُتْبِعِين بعضهم لبعض ، أي بمعنى مُتْبِعِين إياهم المؤمنين ، بمعنى يتقدَّمونهم فيتبعونهم أنفسهم ، أو مُتْبِعين لهم يُشيِّعُونهم ويُقدِّمُونهُم بين أيديهم ، وهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحِفْظِهم أو بمعنى مُتْبِعِين أنفسهم ملائكة آخرين ، أو متبعين غيرهم من الملائكة ، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران

{ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملاائكة مُنزَلِينَ } [ آل عمران : 124 ] { بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] .
ومن قرأ « مُرْدَفين » بالفتح فهو بمعنى مُتْبعينَ أو مُتَّبعينَ .
وهذا الكلامُ على طوله ، شرحُهُ أنَّ « أتْبع » بالتخفيف ، يتعدَّى إلى مفعولين ، و « اتَّبَع » بالتَّشديد ، يتعدى لواحدٍ ، و « أردف » قد جاء بمعناهما ، ومفعوله أو مفعولاه ، محذوفٌ ، لفهم المعنى ، فيقدَّر في كل موضع ما يليق به ، إلاَّ أنَّ أبا حيَّان عابَ عليه قوله : « مُتْبِعين إيَّاهم المؤمنين » .
وقال : « هذا ليس من مواضعِ فصل الضميرِ ، بل ممَّا يتصل ، وتُحْذف له النُّونُ ، لا يقال : هؤلاء كاسون إيَّاك ثوباً بل : كاسوك ، فتصحيحه أن يقول : متبعيهم المؤمنين ، أو متبعين أنفسهم المؤمنين » .

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

قوله : « وما جَعَلَهُ » الهاء تعود على الإمداد ، أي : وما جعل اللَّهُ الإمدادَ ، ثُمَّ هذا الإمدادُ يحتمل أن يكون المنسبكَ من قوله : « إنِّي مُمِدُّك » إذ المعنى : فاستجاب بإمدادكم ، ويحتمل أن يكون مدلولاً عليه بقوله : « مُمِدُّكم » كما دلَّ عليه فعلُهُ في قوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] وهذا الثَّاني أولَى؛ لأنَّه مُتأتٍّ على قراءة الفتح والكسر في : « إني » بخلاف الأول فإنَّهُ لا يتّجه عودُهُ على الإمداد على قراءة الكسر إلاَّ بتأويلٍ ذكره الزمخشريُّ : وهو أنَّه مفعول القول المضمر ، فهو في معنى القول .
وقيل يعودُ على المدد قاله الزَّجَّاجُ ، وهذا أولى؛ لأنَّ بالإمداد بالملائكةِ كانت البُشْرَى .
وقال الفرَّاءُ : إنَّهُ يعودُ على الإرداف المدلول عليه ب « مُرْدفين » .
وقيل : يعودُ على : « الألف » .
وقيل : على المدلول عليه ب « يَعِدُكم » .
وقيل : على جبريل ، أو على الاستجابة لأنَّها مؤنثٌ مجازي ، أو على الإخبار بالإمداد ، وهي كلُّهَا محتملة وأرجحها الأوَّلُ ، والجعل هنا تصييرُ .
فصل في قتال الملائكة يوم بدر .
اختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا يوم بدر؟ فقال قومٌ : نزل جبريلُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - في خمسمائة ملك على الميمنة ، وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرِّجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض ، وقد أرخوا أطرافهم بين أكتافهم وقاتلوا ، وقيل : قاتلُوا يوم بدر ولم يقاتلُوا يوم الأحزاب ، ويوم حنين .
رُوي أنَّ أبّا جهل قال لابنِ مسعُودٍ : مِنْ أينَ كان الصَّوت الذي كُنَّا نسمعُ ولا نرى شخصاً؟ .
قال : من الملائكة .
فقال أبُو جهْلٍ : هُم غلبونَا لا أنتم .
« وروي أنَّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذْ سمع صوت ضربة السَّوْط فوقه ، فنظر إلى المشرك وقد خرَّ مستلقياً وشُق وجهه ، فحدَّث الأنصاريُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » صَدقتَ ذاكَ من مددِ السَّماءِ «
وقال آخرون لم يُقاتلُوا وإنَّما كانوا يكثرون السَّواد ويثبتون المؤمنين ، وإلاَّ فملك واحد كافٍ في إهلاك أهل الدنيا كلهم فإنَّ جبريل - عليه السلام - أهلكَ بريشةٍ من جناحه مدائن قوم لوطٍ ، وأهلك بلاد ثمود ، وقوم صالح بصحية واحدة .
وقد تقدَّم الكلامُ في كيفية هذا الإمداد في سورة آل عمران ، ويدلُّ على أنَّ الملائكة لم يقاتلوا قوله { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى } إذا جعلنا الضمير عائداً على الإرداف .
قال الزَّجَّاجُ : » وما جعل الله المردفينَ إلا بشرى « وهذا أولى؛ لأنَّ الإمدادَ بالملائكة حصل بالبشرى .
{ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } والمقصود التَّنبيه على أنَّ الملائكةَ وإن كانُوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين ، إلاَّ أنَّ الواجب على المؤمنِ أنْ لا يعتمد على ذلك ، بل يجبُ أن يكون اعتماده على اللَّهِ ونصره وكفايته؛ لأنَّ الله هو العزيزُ الغالب الحكيم فيما ينزل من النُّصْرَةِ فيضعها في موضعها .

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)

قوله : « إذْ يُغَشِّيكمُ » في « إذ » وجوه :
أحدها : أنَّهُ بدلٌ من « إذ » في قوله : « وإذْ يَعِدُكُم » قال الزمخشريُّ : « إذْ يغشاكُمُ » بدلٌ ثانٍ من « إذ يعدكُم » .
قوله : « ثَانس » ؛ لأنه أبدل منه « إذْ » في قوله : « إذْ تستغيثُونَ » ووافقه على هذا ابنُ عطيَّة ، وأبو البقاء .
الثاني : أنَّهُ منصوبٌ ب « النصر » .
الثالث : بما في عند الله من معنى الفعل .
الرابع : ب « ما جعله اللَّهُ » .
الخامس : بإضمار « اذكُر » ذكر ذلك الزمخشريُّ . وقد سبقه إلى الرابع : الحُوفِيُّ . وقد ضعَّف أبو حيان الوجه الثَّاني بثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَ فيه إعمال المصدر المقرون ب « أل » قال : وفيه خلاف : ذهب الكوفيُّون إلى أنَّه لا يعمل .
الثاني : أنَّ فيه فصلاً بين المصدر ومعموله بالخير ، وهو قوله : { إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } [ الأنفال : 10 ] [ آل عمران : 126 ] ولو قلت : « ضَرْب زيدٍ شديدٌ عمراً » لَمْ يَجُرْ .
الثالث : أنه عمل ما قبل « إلاَّ » فيما بعدها ، وليس أحد الثلاثة الجائز ذلك فيها؛ لأنَّه لا يعملُ ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى ، أو مستثنى منه أو صفة له .
وقد جوَّز الكسائيُّ والأخفش : إعمال ما قبل « إلاَّ » فيما بعدها مطلقاً ، وليس في هذه الأوجه أحسنُ من أنَّهُ أخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، وضعَّف الثَّالث بأنَّهُ يلزم منه أن يكون استقرارُ النَّصْرِ مُقَيَّداً بهذا الظَّرفِ ، والمنَّصرُ من عند اللَّه لا يتقيَّدُ بوقت دون وقت وهذا لا يضعفُ به؛ لأنَّ المراد بهذا النَّصر نصرٌ خاص ، وهذا النصرُ الخاصُّ كان مقيَّداً بذلك الظرف . وضعَّف الرابع بطولِ الفصلِ ، ويكون معمولاً لما قبل « إلاَّ » .
السادي : أنَّهُ منصوبٌ بقوله : « ولتَطْمئنَّ بِهِ » قاله الطَّبريُّ .
السابع : أنَّهُ منصوبٌ بما دلَّ عليه : « عزيزٌ حكيمٌ » قاله أبُو البقاءِ ونحا إليه ابن عطيَّة قبله .
وقرأ ابنُ كثير ، وأبو عمرو : « يغْشاكُمُ النُّعاس » ، ونافع « يُغشِيكُمُ » بضمِّ الياءِ ، وكسر الشِّين خفيفة « النَّعاسَ » نصباً والباقون « يُغَشِّكُمُ » كالذي قبله ، إلاَّ أنه بتشديد الشِّين . فالقراءة الأولى من : « غَشِيَ يَغْشَى » ، و « النَّعاسُ » فاعل ، وفي الثانية من : « أغْشَى » وفاعله ضميرُ الباري تعالى ، وكذا في الثالثة من : « غَشَّى » بالتشديدن و « النُّعاس » فيهما مفعول به . و « أغْشَى وغَشَّى » لغتان .
قال الواحديُّ : « من قرأ » يَغْشَاكم « فلقوله : { أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى } [ آل عمران : 154 ] فكما أنسد الفعل هناك إلى » النُّعاس « ، و » الأمَنَة « التي هي سبب النُّعاس كذلك ههنا ، ومن قرأ » يُغشيكم « ، أو » يُغشِّيكم « فالمعنى واحدٌ ، وقد جاء التَّنْزِيلُ بهما في قوله :

{ فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 8 ] وقال : { فَغَشَّاهَا مَا غشى } [ النجم : 54 ] .
قوله : « أمَنَةً » في نصبها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه مصدرٌ لفعلٍ مقدر ، أي : فأمِنْتُم أمَنَةً .
الثاني : أنَّها منصوبةٌ على أنَّها واقعةٌ موقع الحال إمَّا من الفاعل ، وإمَّا من المفعول ، فإن كان الفاعل ُ « النعاس » فنسبةُ الأمنة إليه مجازٌ ، وإن كان الباري تعالى كما هو في القراءتين الأخيرتين فالنسبةُ حقيقيةٌ ، وإن كان من المفعولِ فعلى المبالغةِ ، أي : جعلهم نفس الأمنة ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوي أمنة .
الثالث : أنَّه مفعولٌ من أجله ، وذلك إمّضا أن يكون على القراءتين الأخريين أو على الأولى ، فعلى القراءتين الأخريين أمرها واضحٌ ، وذلك أن التَّغشية ، أو الإغشاء من اللَّهِ تعالى ، والأمنةُ منه أيضاً ، فقد اتَّحد الفاعل فصحَّ النَّصْبُ على المفعول له ، وأمَّا على القراءة الأولى ففاعل « يَغْشَى » النُّعاس وفاعل « الأمنة » الباري تعالى ، ومع اختلافِ الفاعل يمتنع النَّصْبُ على المفعولِ له على المشهُورِ ، وفيه خلاف اللَّهُمَّ إلاَّ أن يتجوَّز فيجوز .
وقد أوضح ذلك الزمخشريُّ فقال : و « أمَنَةً » مفعولٌ له .
فإن قلت : أما وجب أن يكون فاعلُ الفعل المُعَلَّلِ والعلَّة واحداً؟ قلتُ : بلى ، ولكن لمَّا كان معنى : « يَغْشَاكُمُ النعاسُ » تنعسون ، انتصب « أمَنَةً » على معنى أنَّ النُّعَاس والأمَنَةَ لهم ، والمعنى : إذ تنعسون أمنة بمعنى أمناً .
ثم قال : « فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب على أنَّ الأمنة للنُّعاسِ الذي هو فاعل » يَغْشَاكُم؟ أي : يغشاكم النُّعاسُ لأمنة على أنَّ إسنادَ الأمْن غلى النعاس إسنادٌ مجازي ، وهو لأصحاب النُّعاس على الحقيقة ، أو على أنه أنامكم في وقتٍ كان من حق النعاس في ذلك الوقتِ المخوف أن لا يقدم على غشيانكم ، وإنَّما غشَّاكم أمنةً حاصلةً له من اللَّهِ لولاها لم يغشكم على طريقة التَّمثيل ، والتخييل « .
قال شهابُ الدين : لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله ، وله فيه نظائرُ ، ولقد ألمَّ به بعضهم؛ فقال : [ الوافر ]
2676 - يَهَابُ النَّوْمُ أنْ يَغْشَى عُيُوناً ... تَهَابُكَ فهو نفَّارٌ شَرُودُ
قوله : » مِنْهُ « في محلِّ نصب ل » أمَنَةً « والضميرُ في : » منهُ « يجوز ان يعود على الباري تعالى ، وأن يعود على » النُّعاسِ « بالمجازِ المذكور آنفاً ، وقرأ ابنُ محيصن ، والنَّخعي ، ويحيى بنُ يعمُر : » أمْنَةً « بسكون الميم ، ونظير : أمِنَ أمَنَةً بالتحريك : حَيِيَ حياة ، ونظير : أمِنَ أمْنَة بالسُّكُون : رَحِمَ رَحْمَةً .
فصل
كلُّ نوم ونعاس فإنه لا يحصلُ إلاَّ من قبل الله تعالى فتخصيصُ هذا النعاس بأنَّهُ من الله تعالى لا بدَّ منه من فائدة جديدة ، وذكرُوا فيه وجوهاً :
أولها : أن الخائف من عدوه خوفاً شديداً لا يأخذه النَّومُ ، فصار حصول النَّومِ في وقت الخوفِ الشديد دليلاً على زوال الخوف وحصول الأمنِ .

وثانيها : أنَّهُم خافُوا من جهات كثيرة : قلة المسلمين ، وكثرة الكُفَّارِ ، وكثرة الأهبة ، والآلة ، والعدة للكافرين ، والعطش الشديد ، فلولا حصول النُّعاس ، وحصول الاستراحة حتّضى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تمَّ الظفرُ .
وثالثها : أنهم ما ناموا نوماً غرقاً يتمكن العدو منهم ، بل كان ذلك نعاساً يزيل الإعياء والكلالة بحيث لو قصدهم العدو لعرفوه ، ولقدروا على دفعه .
ورابعها : أنَّ النعاس غشيهم دفعةً واحدةً مع كثرتهم وحصول النُّعاس للجمع العظيم على الخوف الشَّديد أمرٌ خارق للعادة .
فلهذا قيل : إنَّ ذلك النُّعاس في حكم المُعْجِز .
فإن قيل : فإذا كان الأمر كذلك فلم خافوا بعد ذلك؟
فالجواب : لأنَّ المعلوم أنَّ الله تعالى يجعل جُنْدَ الإسلامِ مظفراً منصوراً ، وذلك لا يمنع من ضرورة بعضهم مقتولين .
قال ابنُ عباسٍ : « النُّعاس في القتال أمَنَة من اللَّهِ ، وفي الصَّلاةِ وسوسة من الشَّيطانِ » .
قوله : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } العامَّةُ على « ماءً » ، و « ليطُهِّركُم » متعلقٌ ب : « يُنَزّل » .
وقرأ الشعبيُّ : « مَا ليُطهركُم » بألفٍ مقصورة ، وفيها تخريجان ، أشهرهما وهو الذي ذكره ابن جني وغيره - « أنَّ » « مَا » بمعنى « الَّذي » و « لِيُطهِّركُم » صلتها .
قال بعضهم : تقديره : الذي هو ليطهركم . فقدَّر الجار خبراً لمبتدأ محذوف ، والجملة صلة ل « مَا » وقد ردَّ أبو حيانهذين التخريجين بأنَّ لامَ « كَيْ » لا تقعُ صلةً .
والثاني : أن « ما » هو ماء بالمدّ ، ولكن العرب قد حذفتْ همزته فقالوا : « شَرِبْتُ مًا » بميم منونة حكاه ابن مقسم .
وهذا لا نظير له ، إذ لا يجُوزُ أن يُنتهك اسمٌ معربٌ بالحذفِ حتَّى يبقى على حرفٍ واحدٍ ، إذا عرف هذا؛ فيجُوزُ أن يكون قصر « ماء » ، وإنَّما لم يُنونهُ إجراء للوصل مجرى الوقف ، ثم هذه الألفُ تحتملُ أن تكون عين الكلمة ، وأنَّ الهمزة محذوفةٌ ، وهذه األفُ بدلٌ من الواوِ التي في « مَوَهَ » في الأصل ، ويجوزُ أن تكون المبدلة من التَّنوين ، وأجرى الوصل مُجْرَى الوقف ، والأوَّلُ أوْلَى ، لأنَّهم يُرَاعُونَ في الوقف ألاَّ يتركُوا الموقوف عليه على حرفٍ واحدٍ نحو : « مُرٍ » اسم فاعل من : أرَى يُري .
فصل
رُوي أنَّهم حَفَرُوا موضعاً في الرَّملِ ، فصار كالحوض الكبير ، واجتمع فيه الماء حتَّى شربُوا منه وتطهروا وتزودوا .
وقيل : إنَّهم لمَّا عطشوا ولم يجدوا الماء ثمَّ نامُوا واحتلمُوا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إنَّ المطر نزل وزالت عنهم تلك البليّة والمِحْنَة .

ومن المعلومِ بالعادة أنَّ المؤمن يستقذر نفسه إذا كان جُنُباً ، ويغتم إذا لم يمكن من الاغتسال ، وقد يستدل بهذا على حصول اليسر وزوال العسر .
قوله : « ويُذْهِبُ عنكُمْ » نسق على « لِيُطَهِّركُم » وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ : « ويذْهِبْ » بسكون الباء وهو تخفيف سمَّاهُ أبُو حيَّان : جَزْماً . والعامة على « رِجْزَ » بكسر الرَّاءِ وبالزاي .
وقرأ ابنُ محيصن : بضمِّ الراءِ ، وابنُ أبي عبلة بالسِّين ، وقد تقدَّم الكلامُ على كلِّ واحد منهم .
ومعنى : رجز الشيطانِ ههنا : ما ينشأ عن وسوسته ، وقيل : الاحتلام ، وقيل : إن الكفار لمَّا نزلوا على الماءِ وسوس الشَّيطانُ للمسلمينِ وخوَّفَهُم من الهلاكِ ، فلمَّا نزل زالت تلك الوسوسة . فإن قيل : فأيُّ هذه الوجوه أوْلَى؟ .
فالجوابُ : أنَّ قوله « لِيُطهِّركُم » معناه ليزيلَ الجنابة عنكم ، فلوْ حملنا قوله { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } على الجنابةِ لزم التَّكرار ، وهو خلافُ الأصل .
ويمكن أنْ يُجابَ بأنَّ المُرادَ من قوله « لِيُطهِّركُم » حصولُ الطَّهارةِ الشَّرعيةِ ، والمرادُ : { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } إزالة عين المَنِيّ عن أعضائهم فإنَّهُ شيء مُسْتَخْبَثٌ .
ثم نقول حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة؛ لأن تأثير الماءِ في إزالة العينِ عن العضو تأثير حقيقيّ ، وتأثيره في إزالة الوسوسةِ عن القلبِ تأثير مجازي ، وحمل اللفظِ على الحقيقةِ أولى من حمله على المجازِ .
قوله : { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } أي بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوفُ عنهم ، ومعنى الرَّبط في اللغة : الشَّد ، وقد تقدَّم في قوله : { وَرَابِطُواْ } [ آل عمران : 20 ] .
قال الواحديُّ : « ويشبه أن تكون » على « ههنا صلة ، والمعنى : وليربط قلوبكم بالصَّبر وما أوقع فيها من اليقين » .
وقال ابن الخطيب : ويشبه ألاَّ يكون صلة؛ لأنَّ كلمة « عَلَى » تفيد الاستعلاء ، فالمعنى أنَّ القلوب امتلأتْ من ذلك الربط حتَّى كأنَّهُ عَلاَ عليها وارتفع فوقها .
قوله : { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام } قيل : إنَّ ذلك المطرَ لبَّد ذلك الرَّمل ، وصيَّرهُ بحيث لا تغوص أرجلهم فيه فقدروا على المشي عليه كيفما أرادوا ، ولولا هذا المطر لما قدروا عليه ، وعلى هذا فالضَّمير في « بِهِ » عائدٌ على المطرِ .
وقيل : إنَّ ربط قلوبهم أوجب ثبات الرَّبْطِ .
وقيل : لمَّا نزل المطرُ حصل للكافرينَ ضدَّ ما حصل للمؤمنين؛ لأنَّ الموضع الذي نزل الكفارُ فيه كان موضع التُّرابِ والوحل ، فلمَّا نزل المطرُ عظم الوحْلُ؛ فصار ذلك مانعاً لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله : { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام } يدلُّ دلالة المفهوم على أنَّ حال الأعداءِ كان بخلاف ذلك .

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)

قوله : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملاائكة } في « إذْ » أوجهٌ :
أحدها : أنَّهُ بدلُّ ثالث من قوله { وَإِذْ يَعِدُكُمُ } .
الثاني : أن ينتصب بقوله « يُثَبِّتَ » .
قالهما الزمخشريُّ ولم يبن ذلك على عودِ الضمير .
وأمَّا ابنُ عطية : فبناه على عَوْدِ الضَّمير في قوله « بِهِ » فقال : العاملُ في « إذْ » العاملُ الأول على ما تقدَّم فيما قبلها ، ولو قدَّرناهُ قريباً لكان قوله : « ويُثَبِّتَ » على تأويل عوده على الرَّبْطِ .
وأمَّا على تأويل عوده على : « المَاءِ » فيقلق أن يعمل « ويُثَبِّتَ » في « إذ » وإنَّما قلق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي ، فإنَّ إنزالَ المطر وما تعلَّق به من تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النُّعاس ، وهذا الوحيُ وتغشيةُ النُّعاس والإيحاءُ كانا وقت القتال .
قوله : « أنِّي معَكُمْ » مفعولٌ ب « يُوحِي » أي : يوحي كوني كعكم بالغلبةِ والنصر .
وقرأ عيسى بن عمر - بخلافٍ عنه - « أنِّي مَعَكُمْ » بكسرِ الهمزةِ وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّ ذلك على إضمار القول ، وهو مذهب البصريين .
والثاني : إجراء « يُوحِي » مُجْرَى القول؛ لأنَّهُ بمعناه ، وهو مذهب الكوفيين .
فصل
في المعنى وجهان : أحدهما : أنَّه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنَّهُ تعالى معهم أي مع الملائكة حال إرسالهم رِدْءاً للمسلمين .
والثاني : أنَّهُ تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم ، وثبتوهم ، وهذا أولى؛ لأن المقصود إزالة التَّخويف ، والملائكةُ لم يخافوا الكُفَّار ، وإنَّما الخائف هم المسلمون .
ثم قال : { فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } في كيفيَّةِ هذا التَّثْبيت وجوهٌ : فقيل : إنَّهم عرَّفُوا الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّ الله ناصر المؤمنين والرَّسول عرَّف المؤمنين ذلك ، فهذا هو التثبيتُ .
وقيل : إنَّ الشيطان كما يُمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان ، فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهامِ إليه ، فالتثبيت من هذا الباب .
وقيل : إنَّ الملائكة كانوا يتشبَّهُون بصورِ رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنَّصر والفتح ، والظَّفَرِ .
قول : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } وهذا من النعم الجليلة ، لأنَّ أمير النفس هو القلب فلمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى أنَّهُ ربط قلوب المؤمنين أي : قوَّاها ، وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرُّعْبَ في قلوب الكافرينَ ، فكان ذلك من أعظمِ نعم الله تعالى على المؤمنين .
قوله : « فاضْرِبُوا » قيل : هذا أمر للملائكة متصلٌ بقوله تعالى : « فَثَبِّتُوا » .
وقيل : أمر للمؤمنين وهو الصَّحيح لما تقدَّم من أنَّ الملائكة لم ينزلوا للمقاتلة ، بل لتقوية قُلُوبِ المؤمنين وتثبيتهم .
قوله : « فوْقَ الأعناقِ » فيه أوجه :
أحدها : أنَّ « فوْقَ » باقيةٌ على ظرفيتها والمفعولُ محذوفٌ ، أي : فاضربوهم فوق الأعناقِ . علَّمَهُم كيف يضربونهم .

والثاني : أنَّ « فوْقَ » مفعولٌ به على الاتَّساع؛ لأنه عبارةٌ عن الرَّأسِ ، كأنَّه قيل : فاضربوا رُءوسهم ، وهذا ليس بجيد؛ لأنَّهُ لا يتصرَّف .
وزعم بعضهم أنه يتصرَّف ، وأنك تقول : فوقُك رَأسُك برفع فوقك ، وهو ظاهرُ قول الزمخشريِّ ، فإنه قال : « فَوْقَ الأعْنَاقِ » أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنَّها مفاصلٌ .
الثالث : - وهو قول أبي عبيدة - : أنَّها بمعنى « على » أي : على الأعناقِ ويكون المفعولُ محذوفاً تقديره : فاضربوهم على الأعناق ، وهو قريبٌ من الأول .
الرابع : قال ابنُ قتيبة : هي بمعنى : « دون » .
قال ابن عطيَّة : « وهذا خطأ بيِّنٌ وغلطٌ فاحشٌ ، وإنَّما دخل عليه اللَّبْس من قوله : { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [ البقرة : 26 ] أي : فما دونها وليست » فوق « هنا بمعنى » دون « وإنَّما المرادُ : فَمَأ فوقها في القلَّة والصِّغَرِ » .
الخامس : أنها زائدةٌ أي : اضْرِبُوا الأعناقَ ، وهو قول أبي الحسنِ . وهذا عند الجمهور خطأ؛ لأنَّ زيادة الأسماءِ لا يجوزُ .
قوله : { . . . مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يجوزُ أن يتعلَّق : « مِنْهُمْ » بالأمر قبله ، أي : ابتدئوا الضَّرب من هذه الأماكن ، وهذا الكلامُ مع ما قبله معناه : اضربوهم في جميع الأماكن والأعضاءِ من أعاليهم إلى أسافلهم ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال من : « كُلَّ بنانٍ » لأنَّهُ في الأصل يجوزُ أن يكون صفةً لو تأخَّر ، قال أبُو البقاءِ : « ويَضْعُفُ أن يكون حالاً من » بَنَانٍ « إذْ فيه تقديمُ حالِ المضافِ إليه على المضاف » . فكأنَّ المعنى : اضربوهم كيف ما كان .
قال الزمخشريُّ : يعني ضرب الهام .
قال : [ الوافر ]
2677 - ... وأضْرِبُ هَامَة البْطَلِ المُشِيحِ
وقال : [ البسيط ]
2678 - غَشَّيْتُهُ وهْوَ في جَأواء بَاسِلَةٍ ... عَضْباً أصَابَ سَواءَ الرَّأسِ فانْفلقَا
وقال ابن عطية : ويُحتمل أن يريد بقوله : « فوق الأعْنَاقِ » وصْف أبلغِ ضرباتِ العنقِ ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس .
ثم قال : ومنه قوله : [ الوافر ]
2679 - جَعَلْتُ السَّيْفَ بَيْنَ الجِيدِ مِنْهُ ... وبَيْنَ أسِيلِ خَدَّيْهِ عِذَارَا
وقيل : هذا مِنْ ذكرِ الجزء وإرادة الكل؛ كقول عنترة : [ الكامل ]
2680 - عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهار كأنَّمَا ... خُضِبَ البنَانُ ورأسُهُ بالعِظْلِمِ
والبَنَان : قيل : الأصابعُ ، وهو اسمُ جنسٍ ، الواحد : بنانةٌ؛ قال عنترةُ : [ الوافر ]
2681 - وأنَّ الموتَ طوْعُ يَدِي إذا مَا ... وصَلْتُ بنانَهَا بالهِنْدُوَانِي
وقال أبو الهيثم : « البنانُ : المفاصِلُ ، وكل مفصل بنانة » .
وقيل : البنانُ الأصابع من اليدين والرِّجلين ، وجميع المفاصل من جميع الأعضاء ، وأنشد لعنترة : [ الطويل ]
2682 - وقَدْ كانَ فِي الهَيْجَاءِ يَحْمِي دِمَاءَهَا ... ويَضْرِبُ عِنْدَ الكَرْبِ كُلَّ بنانِ
وقد تُبْدلُ نونُه الخيرة ميماً؛ قال رؤبةُ : [ الرجز ]
2683 - يَا هَالَ ذاتَ المَنْطِقِ التَّمْتَامِ ... وكَفِّكِ المُخَضَّبِ البَنَامِ

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)

قوله : « ذَلِكَ بأنَّهُمْ » ، « ذلكَ » مبتدأ وخبر ، والإشارةُ إلى الأمر بضربهمٍ ، والخطابُ يجوزُ أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون للكفَّارِ ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً .
كذا قال أبُو حيَّان وفيه نظر لوجهين :
أحدهما : أنه يلزمُ من ذلك خطابُ الجمع بخطاب الواحد ، وهو ممتنعٌ أو قليلٌ ، وقد حُكِيَتْ لُغَيَّة .
والثاني : أنَّ بعده : { بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله } فيكون التفت من الغيبةِ إلى الخطاب في كلمة واحدة ، ثمَّ رجع إلى الغيبة في الحال ، وهو بعيدٌ .
قوله : { وَمَن يُشَاقِقِ الله } « مَنْ » مبتدأ ، والجملةُ الواقعة بعدها خبرها ، أو الجملة الواقعة جزءً أو مجموعهما ، ومن التزم عود ضمير من جملة الجزاءِ على اسمِ الشَّرط قدَّرهُ هُنَا محذوفاً تقديره : فإنَّ الله شديدُ العقاب له .
واتفق القُّراءُ على فكِّ الإدغام هنا في : « يُشاقِقِ » ؛ لأنَّ المصاحفَ كتبته بقافين مفكوكتين ، وفَكُّ هذا النوعِ لغةُ الحجاز ، والإدغامُ بشروطه لغة تميم .
فصل
والمعنى : أنَّه تعالى ألقاهم في الخزي والنَّكال من هذه الوجوه الكثيرة؛ لأنهم شَاقُّوا الله ورسوله قال الزَّجَّاجُ جانبوا ، وصاروا في شقّ غير شقِّ المؤمنين والشِّقُّ الجانب و « شَاقوا اللَّهَ » مجاز ، والمعنى : شاقُّوا أولياءَ اللَّهِ ، ودين اللَّهِ .
ثم قال : { وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } يعني أنَّ هذا الذي نزل بهم في ذلك اليَوْمِ شيءٌ قليلٌ بالنسبة لِمَا أعدَّ لهم من العقاب يوم القيامةِ .
قوله : { ذلكم فَذُوقُوهُ } يجوز في : « ذَلِكُمْ » أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكون مرفوعاً على خبر ابتداء مضمر ، أي : العقاب ذلكم ، أو الأمر ذلكم .
الثاني : أن يرتفع بالابتداء ، والخبرُ محذوفٌ ، أي : ذلكم العقابُ وعلى هذين الوجهين؛ فيكون قوله « فَذُوقُوهُ » لا تعلُّق لها بما قبلها من جهة الإعراب .
والثالث : أن يرتفع بالابتداء ، والخبرُ قوله : « فَذُوقُوهُ » وهذا على رأي الأخفشِ فإنَّهُ يرى زيادة الفاء مطلقاً أعني سواءً تضمَّن المبتدأ معنى الشَّرط أمْ لا ، وأمَّا غيرُهُ فلا يُجيز زيادتها إلاَّ بشرط أن يكون المبتدأ مشبهاً لاسم الشرك ما تقدَّم تقريره .
واستدلَّ الأخفشُ على ذلك بقول الشاعر : [ الطويل ]
2684 - وقَائِلَةٍ : خَولاَنُ فانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ... وأكرُومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا
وخرَّجه الآخرون على إضمار مبتدأ تقديره : هذه حَوْلاَنُ .
الرابع : أن يكون منصوباً بإضمار فعل يُفسِّرهُ ما بعده ، ويكون من باب الاشتغال .
وقال الزمخشريُّ : « ويجوز أن يكون نصباً على : عليكم ذلكم فذوقوه كقولك : زيداً فاضربهط .
قال أبو حيان : » ولا يَصِحُّ هذا التقدير ، لأنَّ « عليكم » من أسماء الأفعال وأسماءُ الأفعالِ لا تُضْمَر ، وتشبيهُهُ بقولك : زيداً فاضربهُ ، ليس بجيّد؛ لأنَّهم لم يُقدِّرُوهُ ب « عليك زيداً فاضربه » وإنَّما هذا منصوبٌ على الاشتغالِ « .

قال شهابُ الدِّين : يجوزُ أن يكون نَحَا الزمخشريُّ نحو الكوفيين؛ فإنَّهم يجرونهم مجرى الفعل مطلقاً ، ولذلك يُعْمِلُونه متأخراً نحو { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] .
وقال أبُو البقاء : « ويجوز أن يكون في موضع نصب ، أي ذُوقُوا ذلكم ، ويجعل الفعلُ الذي بعده مُفَسِّراً له ، والأحسن أن يكون التقدير : بَاشِرُوا ذلكم فذوقوه ، لتكون الفاءُ عاطفةً »
قدَّر الفعل ير وافقٍ لما بعده لفظاً مع إمكانه ، وأيضاً فقد جعل الفاء عاطفةً لا زائدةً وقد تقدَّم تحقيقُ الكلام في هذه الفاء عند قوله : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] .
قوله { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار } الجمهورُ على فتح « أنَّ » وفيها تخريجات أحدها : أنها ، وما في حيَّزها في محل رفع على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : حَتْمٌ استقرارُعذاب النار للكافرين .
الثاني : أنها خبر مبتدأ محذوف أي : الحتم ، أو الواجب أنَّ للكافرين عذاب النَّارِ .
الثالث : أن تكون عطفاً على : « ذَلِكُمْ » في وجهيه قاله الزمخشريُّ . ويعني بقوله « في وجهيه » أي : وجهي الرفع وقد تقدَّما .
الرابع : أن تكون في محلِّ نصب على المعيَّة .
قال الزمخشريُّ : « أو نصب على أنَّ الواوَ بمعنى » مع « والمعنى : ذُوقُوا هذا العذابَ العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة ، فوضع الظاهرَ موضع المضمر » : يعني بقوله : « وضع الظَّاهر موضع المضمر » أنَّ أصل الكلام فذوقوه وأنَّ لكم فوضع « لِلْكافِرينَ » موضع « لَكُمْ » شهادةً عليهم بالكفر ومنبهةً على العلّة .
الخامس : أن يكون في محل نصب بإضمار « واعلموا » .
قال الفراءُ : يجوزُ نصبه من وجهين :
أحدهما : على إسقاط الباء ، أي : بأنَّ للكافرين .
والثانيك على إضمارِ « اعلموا » ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
2685 - تَسْمَعُ للأخشَاءِ عنه لغطاً ... وللْيَديْنِ جُسْأةَ وبَدَدَا
أي : وترى لليدين بدَدا ، فأضمر « تَرَى » كذلك : « فَذُوقُوهُ » واعلموا : « أنَّ لِلْكافِرينَ » .
وأنكره الزجاج أشدَّ إنكارٍ .
وقال : لو جاز هذا لجاز : زيدٌ قائمٌ وعمراً منطلقاً ، أي : وترى عمراً منطلقاً ولا يُجيزه أحدٌ .
ونبَّه بقول « فَذُوقُوه » وهو ما عجل من القتل والأسر على أنَّ ذلك يسير بالإضافة إلى عذاب القيامة فلذلك سمَّاه ذوقاً لأن الذوق لا يكون إلاَّ لتعرف الطعم ، فقوله : « فَذُوقُوهُ » يدلَّ على أنَّ الذوق يكون في إدراك غير المطعوم كقوله { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

قوله تعالى : { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً } الآية .
في « زَحْفاً » وجهان :
أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدر ، وذلك النّاصب له في محلِّ نصب على الحال ، والتقديرُ : إذا لقيتُمُ الذين كَفَرُوا زَاحِفينَ زَحْفاً أو يَزْحَفُونَ زحفاً .
والثاني : أنه منصوبٌ على الحال بنفسه ، ثُمَّ اختلفوا في صاحب الحال ، فقيل : الفاعلُ أي وأنتم زَحْفٌ من الزُّحوفِ ، أي : جماعة ، أو وأنتم تمشون إليهم قليلاً قليلاً ، على حسب ما يُفَسَّر به الزَّحْف ، وسيأتي .
وقيل : هو المفعول ، أي : وَهُمْ جَمٌّ كثير ، أو يمشون إليكم .
وقيل : هي حالٌ منهما ، أي : لقيتموهم مُتزاحفين بعضكم إلى بعض ، والزَّحْفُ الدُّنو قليلاً قليلاً ، يقال : زَحَفَ يَزْحَفُ إليه بالفتح فيها فهو زَاحفٌ زَحْفاً ، وكذلك تَزَحَّفَ وتَزَاحَفَ وأزْحَفَ لنا عَدُوُّنَا ، أي : دَنَوا لقتالنا .
وقال اللَّيْثُ : الزَّحْفُ : الجماعةُ يمشون إلى عدوِّهم؛ قال الأعشى : [ الكامل ]
2686 - لِمَنْ الظَّعَائنُ سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ ... مِثْلَ السَّفينِ إذَا تَقَاذَفُ تَجْدِفُ
وهذا من باب إطلاق المصدر على العين ، والزَّحْفُ : الدَّبيب أيضاً ، مِنْ زَحَفَ الصبيُّ قال امرؤُ القيس : [ المتقارب ]
2687 - فَزَحْفاً أتَيْتُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ ... فَثَوْباً لَبِسْتُ وثَوْباً أجُرّ
ويجوزُ جمعُهُ على : زُحُوف ومَزَاحِف ، لاختلافِ النوع؛ قال الهذليُّ : [ الوافر ]
2688 - كَأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فِيهِ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ آثَارُ السِّيَاطِ
ومَزاحِف : جمع « مَزْحف » اسم المصدر .
قوله : { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } مفعول : « تولُّوهم » الثَّاني هو « الأدْبار » ، وكذا « دُبُره » مفعول ثان ل : « يُولِّهِمْ » وقرأ الحسن : بالسُّكونِ كقولهم : عُنْق في عُنُق ، وهذا من باب التَّعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ من فاعلها؛ فأتى بلفظ الدُّبُر دُونَ الظَّهر لذلك ، وبعضهم من أهل علم البيان سمَّى هذا النوع كنايةً ، وليس بشيء .
قوله : « إلاَّ مُتَحرفاً » في نصبه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ حال .
والثاني : أنه استثناء وقد أوضح ذلك الزمخشري .
فقال : « فإن قلت : بِمَ انتصبَ : » إلاَّ مُتَحرِّفاً « ؟ قلتُ : على الحالِ و » إلاَّ « لغوٌ ، أو على الاستثناءِ من المُولِّين : أي ومنْ يُولِّهم إلا رجلاً منهم مُتَحرفاً أو مُتَحيزاً » .
قال أبُو حيان : « لا يردُ بقوله » إلاَّ « لغوٌ أنَّها زائدةٌ ، إنَّما يريد أنَّ العامل وهو » يُولِّهِمْ « وصل لِمَا بعدها كقولهم في » لا « من قولهم : جئت بلا زاد - إنَّها لغوٌ . وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال محذوف والتقدير : ومَنْ يُولِّهِم ملتبساً بأية حال إلاَّ من حال كذا ، وإن لم تُقدَّرُ حالٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ » إلاَّ « لأن الشَّرط عندهم واجبٌ ، والواجبُ حكمُهُ ألاَّ تدخل » إلاَّ « فيه لا في المفعول ، ولا في غيره من الفضلات ، لأنه استثناء مُفرغ ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب ، إنَّما يكون مع النفي أو النهي أو المؤول بهما ، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤوَّل » .

قال شهابُ الدِّينِ : « قوله لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات ، لا حاجة إليه لنَّ الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإيجاب مطلقاً ، سواءٌ أكان ما بعد إلاَّ فضلةً أو عمدةً فذكرُ الفضلةِ والمفعول يوهم جوازه في غيرهما » .
وقال ابنُ عطيَّة : « وأمَّا الاستثناءُ فهو من المُولِّين الذين تتضمَّنهم » مَنْ « فجعل نصبه على الاستثناء » .
وقال جماعةٌ : إنَّ الاستثناءَ من أنوع التولِّي ، ورُدَّ هذا بأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون التركيبُ : إلاَّ تحيُّزاً أو تحرُّفاً ، والتَّحيُّزُ والتَّحَوُّزُ : الانثمامُ ، وتحوَّزت الحيَّة : انطوَتْ ، وحُزْتُ الشَّيء : ضَمَمْتُهُ ، والحَوْزَةُ : ما يَضُمُّ الأشياء ، ووزنُ « متحيَّز » « مُتَفَيعِل » والأصل « مُتَحيْوِز » فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون فقلبت الواو ياءً ، وأدغمت في الباء بعدها ، ك : مَيِّت ، ولا يجوزُ أن يكون : « مُتفَعِّلاً » ؛ لأنَّه لو كان كذلك لكان « متحوِّزاً » ، فأمَّا متحوِّز ف « متفعِّل » .
فصل
معنى الآية : إذا ذهبتم للقتال ، فلا تولوهم الأدْبَارَ : أي لا تنهزموا ، فتجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم ثم بيَّن أنَّ الانهزام محرم إلاَّ في حالتين :
إحداهما : أن يكون مُتحَرّفاً للقتال ، أي : أنه يجعل تحرفه أنه منهزم ، ثم ينعطف عليه ، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها . يقال : تحرَّف وانحرف إذا زالَ عن وجهة الاستواء . والثانية : قوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } والتَّحيز الانضمام كما تقدَّم ، والفئة الجماعةُ ، فإذا كان هذا المنهزم منفرداً ، وفي الكفار كثرة ، وغلب على ظنه أنه إن ثبت قتل من غير فائدة ، وإن انضمَّ إلى جمع من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال ، فربَّمَا وجب عليه التَّحيُّز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون جائزاً .
والحاصل أن الانهزام من العدو حرام ، إلاَّ في هايتن الحالتين ، وهذا ليس بانهزام في الحقيقة ثمَّ قال تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } إلاَّ في هاتين الحالتين { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ } في الآخرة { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } [ الأنفال : 16 ] .
فصل
قال أبو سعيد الخدري : هذا في أصحاب بدر خاصة؛ لأن ما كان يجوز لهم الانهزام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولم يكن فئة يتحيّزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم وقد وعده الله بانّصر والظّفر فلم يكن لهم التحيّز إلى فئةٍ أخرى .
وأيضاً فإنَّ اللَّه شدد الأمر على أهل بدرٍ؛ لأنه كان أول جهاد ، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه ، لزم منه الخلل العظيم .
فلهذا وجب التشديدُ والمبالغة ، ومنع اللَّهُ في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى لهذا السَّبب ، وهذا قول الحسنِ وقتادة والضحاك .

قال يزيدُ بن أبي حبيب : أوجب اللَّهُ النار لِمَنْ فَرَّ يوم بدر ، فلمَّا كان يوم أحد قال : { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } [ آل عمران : 155 ] . ثم كان يوم حنين بعده فقال : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] ثم قال بعده { ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ } [ التوبة : 27 ] .
وقال عبدُ الله بنُ عُمَرَ : « كُنَّا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص النَّاسُ حَيْصَةً ، فانْهَزَمْنَا ، فقُلْنَا يا رسول الله : نَحْنُ الفَرَّارُونَ ، فقال : » لا بَلْ أنتُمْ العَكَّارُونَ « أنَّا فِئَةُ المُسلمينَ »
وقال محمدُ بن سيرين : « لما قُتل أبو عبيدة جاء الخبر على عمر فقال : لو انحاز إليَّ كنتُ له فئةٌ فأنا فئةُ كلِّ مُسْلمٍ »
وقيل : حكم الآية عام في كل حرب ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : « من الكبائر الفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ » والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب .
وقال عطاءُ بن أي رباح : « هذه الآية منسوخةٌ بقوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } [ الأنفال : 66 ] فليس للقوم أن يفرُّوا من مثلهم فنسخت تلك إلاَّ في هذه العدة .
وعلى هذا أكثر أهل العلم أنَّ المسلمين إذا كانوا على الشطر من عددهم لا يجوز لهم الفرار غلاَّ مُتحرفاً أو مُتحيِّزاً إلى فئةٍ ، وإن كانوا أقلَّ من ذلك جاز لهم أن يولوا عنهم وينحازوا عنهم » . قال ابن عباس : « مَنْ فرَّ من ثلاثة فلم يفر ، ومن فَرَّ من اثنين فقد فرّ » .

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)

قوله تعالى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } في هذه « الفاء » وجهان :
أحدهما - وبه قال الزمخشري - : أنَّهَا جوابُ شرطٍ مقدر ، أي : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم .
قال أبو حيان : « وليست جواباً ، بل لِرْطِ الكلامِ بعضه ببعضٍ » .
قوله { ولكن الله قَتَلَهُمْ } قرأ الأخوان ، وابن عامر : { ولكن الله قَتَلَهُمْ } ، { ولكن الله رمى } بتخفيف « لكن » ورفع الجلالة ، والباقون بالتَّشديد ونصب الجلالةِ ، وقد تقدَّم توجيه القراءتين في قوله : { ولكن الشياطين } [ البقرة : 102 ] وجاءت « لكن » هنا أحسن مجيءٍ لوقوعها بين نفي وإثبات .
قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } نفى عنه الرمي ، وأثبته له ، وذلك باعتبارين ، أي : ما رَمَيْتَ على الحقيقة إذا رَمَيْتَ في ظاهرِ الحال ، أوْ مَا رَميْتَ الرُّعْبَ في قلوبهم إذْ رَمَيْتَ الحَصَيَات والتراب .
وقوله : « ومَا رَمَيْتَ » هذه الجملة عطفٌ على قوله : « فَلَمْ تَقْتلُوهُمْ » ؛ لأنَّ المضارع المنفي ب « لَمْ » في قوة الماضي المنفي ب « مَا » فإنَّك إذا قلت : « لَمْ يَقُمْ » كان معناه : ما قَامَ ولم يقل هنا : فَلَمْ تقتلوهم إذ قتلموهم ، : ما قال : « إذْ رَمَيْتَ » مبالغةً في الجملة الثانية .
فصل
قال مجاهد : « سبب نزول هذه الآية أنَّهم لمَّا انصرفُوا من القتالِ كان الرَّجُلُ يقولُ : أنا قتلتُ فلاناً ، ويقول الآخر مثله فنزلت الآية » ومعناها : فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكنَّ الله قتلهم بنصره إياكم وتقويته لكم .
وقيل : ولكن الله قتلهم بإمدادِ الملائكة .
وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } في سبب نزولها ثلاث أقوال :
الأول : وهو قول أكثر المفسِّرين « أنَّ رسول الله صلى اله عليه وسلم ندب النَّاس ، فانطلقُوا حتَّى نزلوا بدراً ، ووردت عليهم روايا قريش ، وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج ، وأبو يسار غلام لبني العاص بن سعد ، فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أين قريش؟
قالا : هم وراء الكَثيبِ الذي ترى بالعدوة القصوى ، والكثيب : العقنقل .
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لهما : كم القومُ؟ قالا : كثيرٌ .
قال : ما عددهم؟ قالا : لا ندري .
قال : كم ينحرون كلَّ يوم؟ قالا : يوماً عشرة ، ويماً تسعة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال : فَمَنْ فيهم من أشراف قريش؟ قالا : عتبةُ بن ربيعة ، وشيبةُ بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشامُ ، وحكم بن حزام ، والحارثُ بن عامر ، وطعمة بن عديّ ، والنضر بن الحارث ، وأبُو جهل بن هشام ، وأميةُ بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسُهَيل بن عمرو .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » هَذِه مَكَّةُ قَدْ ألْقَتْ إلَيْكُمْ أفْلاذَ كَبدِهَا « فلما أقبلت قريش ، ورآها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل ، وهو الكثيبُ الذي جاءوا منه إلى الوادي .
فقال : » اللَّهم هذه قريشُ قَدْ بخُيلائِهَا وفَخْرِهَا تُحادكَ ، وتُكذب رسُولكَ ، اللَّهُمَّ فَنصرُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي « ، فأتاه جبريل ، فقال : خُذْ قبضةً من تراب ، فارمهم بها ، فلمَّا التقى الجمعان ، تناول رسولُ الله كفاً من الحصى عليه تراب ، فرمَى به وجوه القوم وقال : شاهتِ الوجوه ، فلم يق مشرك إلاَّ ودخل في عينه وفمه ومنخريه منها . فانهزمُوا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم . »

وقال قتادةُ وابن زيد : ذكر لنا « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدرٍ ثلاث حصيات فرمَى بحصاة في ميمنة القوم ، وبحصاة في ميسرة القوم ، وبحصاة بين ظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه فانهزموا » فذلك قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] . إذْ ليس في وُسْع أحد من البشر أن يَرْمي كَفّاص من الحصى إلى وجوه جيش ، فلا تبقى فيهم عينٌ إلاَّ ويُصِيبُهَا منه شيء . وقيل : المعنى : وما بلغت إذ رميت ولكن اللَّه بلغ ، وقيل : وما رميتَ بالرُّعْبَ في قلوبهم إذ رميت بالحصاء ولكن اللَّه رمى الرُّعب في قلوبهم حتى انهزموا .
القول الثاني : أنَّهَا نزلت يوم خيبر . « روي أنّه عليه الصَّلاة والسَّلام أخَذَ قوساً وهو على باب خيبر ، فرمى سهماً ، فأقبل السّهمُ حتّى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه » ، فنزلت الآية .
القول الثالث : أنَّهَا نزلت في يوم أحد ، « وذلك أن أمية بن خلف أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعظم رميمٍ وقَتَّةٍ ، وقال : يا محمَّدُ ، من يُحْيي هذا وهو رميمٌ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : » يُحييه اللَّهُ يُميتُكَ ثم يُحْييك ثم يدخلك النَّار « فأسر يوم بدر ، فلما افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّ عندي فرساً أعلفها كلَّ يوم فرقاً من ذرة كي أقتلك عليها .
فقال عليه السَّلامُ : » بَلْ أنا أقْتُلكَ إنْ شاءَ اللَّهُ « فلمَّا كان يوم أحد أقبل أبَيّ يركض على ذلك الفرس حتى دنا من رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اسْتَأخِرُوا « ورماه بحربة فكسر ضِلعاً من أضلاعه » ، فحمل فمات ببعض الطري ففي ذلك اليوم نزلت الآية .
والصَّحيحُ أنَّها نزلت في يوم بدر وإلاَّ لدخل في أثناء القصَّة كلام أجنبي عنها ، وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقئع؛ لأنَّ العبرة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّببِ .
فصل
ومعنى الآية : أنَّ القبضةَ من الحصباءِ الَّتي رميتها ، فأنت ما رميتها في الحقيقة؛ لأنَّ رمْيَكَ لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر ، ولكن اللَّه رماها حيثُ أنفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم ، فصورة الرمية صدرت من الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأثرها إنَّما صدر من الله تعالى ، فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات .

واحتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى؛ لأنَّ الله تعالى قال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } [ الأنفال : 17 ] .
ومن المعلوم أنهم جرحوا ، فدلَّ هذا على أان حدوث تلك الأفعال إنما حصل من اللَّه تعالى .
وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } أثبت كونه عليه الصَّلاة والسَّلام رامياً ونفى عنه كونه رامياً ، فوجب حمله على أنه رماه كسباً وأنه ما رماه خلقاً .
فإن قيل : أما قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } فيه وجوه :
أحدها : أنَّ قتل الكُفَّارِ إنما تيسَّر بمعونة الله ونصره وتأييده ، فصحت هذه الإضافة .
وثانيها : أن الجرح كان إليهم وإخراج الروح كان إلى الله ، والتقدير : فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم .
وأما قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } .
قال القاضي : قيل : فيه أشياء : منها أنَّ الرمية الواحدة لا توجب وصول التُّراب إلى عيونهم ، فكان وصول أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلاَ بإيصالِ اللَّهِ تعالى ، ومنها : أنَّ التُرابَ الذي رماه كان قليلاً فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل ، فدل على أنَّ الله تعالى ضمَّ إليها سائر أجزاء التُّرابِ ، فأوصلها إلى عيونهم . ومنها : أنَّ عند رميه ألقى الله الرُّعْبَ في قلوبهم ، فكان المُرَادُ من قوله : { ولكن الله رمى } هو أنه تعالى رمى قلوبهم الرُّعْب .
فالجوابُ : أنَّ كلَّ ما ذكروه عدولٌ عن الظَّاهرِ ، والأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ .
قوله : { وَلِيُبْلِيَ المؤمنين } متعلقٌ بمحذوفٍ ، أي : وليبلي فعل ذلك ، أو يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة ، أي : ولكن اللَّه رمى ليمحق الكفار ، وليُبْلي المؤمنين ، والبلاء في الخير والشَّر ، قال زهير : [ الوافر ]
2689 - ... وإبْلاهُمَا خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو
والهاءُ في « مِنْهُ » تعود على الظفر بالمشركين .
وقيل : على الرمي قالهما مكيٌّ ، والظَّاهر أنها تعود على الَّهِ تعالى .
وقوله : « بَلاَءً » يجوزُ أن يكون اسم مصدر ، أي : إبلاء ، ويجوزُ أن يكون أريد بالبلاء نفس الشيء المبلو به ، والمرادُ من هذا البلاء الإنعام أي : ولينعم على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر .
قال القاضي : ولولا أنَّ المفسرين اتفقوا على حمل البلاءِ هنا على النعمة ، وإلاَّ لكان يحتمل المِحْنَة بالتكليف فيما بعده من الجهاد ثمَّ قال تعالى : { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لدعائكم « عَلِيمٌ » بنيّاتكم .
قوله : ذَلِكُمْ « يجوز فيه الرفعُ على الابتداء أي : ذلكم الأمر ، والخبر محذوف قاله الحوفيُّ ، والأحسنُ أن يقدَّر الخبر ذلكم البلاء حق وحتمٌ .
وقيل : هو خبر مبتدأ ، أي : الأمر ذلكم ، وهو تقدير سيبويه .
وقيل : محلُّه نصب بإضمار فعلٍ أي : فعل ذلكم ، والإشارةُ ب » ذَلِكُمْ « إلى القتل والرمي والإبلاء .

قوله : « وأنَّ اللَّه » يجوزُ أن يكون معطوفاً على : « ذَلِكُمْ » فيحكم علىمحلِّه بما يحكمُ على محلِّك « ذَلِكُمْ » ، وأن يكون في حلِّ نصبٍ بفعل مقدَّر أي : واعلموا أنَّ الله ، وقد تقدم ما في ذلك .
وقال الزمخشريُّ : « إنَّه معطوف على : » وليُبْلي « والمعنى : أنَّ الغرضَ إبلاءُ المؤمنين ، توهينُ كيد الكافرين » . وقرأ ابنُ عامر والكوفيون : « مُوهِن » بسكون الواوِ وتخفيف الهاءِ ، من « أوهَن » ك : أكْرَم ، ونوَّن « موهن » غير حفص ، وقرأ الباقون : « مُوهِّن » بفتح الواو ، وتشديد الهاءِ ، والتنوين ، ف « كَيْد » منصوبٌ على المفعول به في قراءة غير حفص ، ومخفوضٌ في قراءة حفص ، وأصله النَّصْبُ وقراءة الكوفيين جاءت على الأكثرر؛ لأن ما عينه حرف حلقٍ غير الهمزة تعديته بالهمزة ولا يُعَدَّى بالتَّضعيف إلاَّ كلمٌ محفوظ نحو : وهَّنْتُه وضعَّفْتُه .
فصل
توهينُ الله كيدهم يكون بأشياء :
بإطلاع المؤمنين على عوراتهم .
وإلقاء الرعب في قلوبهم وتفريق كلمتهم .
ونقض ما أبرموا بسبب اختلاف عزائمهم .
قال ابن عبَّاسٍ : ينبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول : « إنّي قد أوْهَنْتُ كَيْدَ عدوك حتى قتلت خيارهم وأسرت أشرافهم »

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

قوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } قال الحسنُ ، ومجاهد ، والسُّدِّي : إنه خطابٌ للكافرين ، وذلك أنَّ أبا جهل قال يوم بدر : اللَّهم ، انصر أفضل الفريقين وأحقَّه بالنَّصْر .
وروي أنه قال : اللَّهم ، أينا كان أقطع للرَّحمِ وأفجر؛ فأهلكه الغداة .
وقال السدي : « لمَّا أراد المشركون الخروج إلى بدر تعلَّقُوا بأستار الكعبة وقالوا : اللَّهُمَّ انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ، فأنزل الله تعالى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أي : تستنصروا لإحدى القبيلين ، فقد جاءكم النصر » .
وقال آخرون : المعنى : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء .
قال عبد الرحمن بن عوف : إني لَفِي الصَّف يوم بدر ، فالتفت ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السِّنِّ وكأني لم آمن لمكانهما ، فتمنيت أن أن أكون بين أضلع منهما ، إذ قال لي أحدهما سرّاً من صاحبه ، أي عم أرني أبا جهل ، فقلت : يا ابن أخي ما تصنعُ به؟ .
قال : عاهدت الله إن رأيته أن أقتله ، أو أموت دونه ، وقال لي الآخر سرّاً من صاحبه مثله ، فما سَرَّني أنني بين رجلين مكانهما فأشرت لهما عيله ، فشدَّا عليه مثل الصقرين حتَّى ضرباهُ ، وهما ابنا عفراء .
وقال عكرمةُ : قال المشركون : والله ما نعرف ما جاء به فافتح بيننا وبينه بالحق ، فأنزل الله تعالى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } الآية ، أي : إن تسْتَفتِحُوا فقد جاءكم القضاء .
وقال أبيّ بن كعب : هذا خطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله للمسلمين : { إِنْ تَسْتَفْتِحُواْ } أي تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر . روى قيس عن خباب قال : « شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا له : ألا تدعو الله لنا ، ألا تستنصر لنا ، فجلس مُحْمرّ الوجه ، فقال لنا : » لقَد كانَ مَنْ قَبْلكُم يُؤخَذُ الرجُ فيُحْفَر لهُ في الأرضِ ثُمَّ يُجاءُ بالمنشَارِ فيجعلُ فوق رأسِهِ ثُمَّ يُجعَلُ نِصفيْنِ ما يَصْرفهُ عنْ دينهِ ، ويُمَشَّطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ ما يصرفهُ عن دينهِ ، والله ليُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتَّى يسير الرَّاكبُ مِنْكُم من صنعاء إلى حضْرموت لا يخافُ إلا اللَّه ، ولكنَّكُم تَسْتَعْجِلُونَ «
قال القاضي : وهذا القول أوْلَى؛ لأن قوله { فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } لا يليق إلا بالمؤمنين اللهم إلاَّ أن يحمل الفتحُ على الحكم والقضاء ، فيمكن أن يراد به الكفار .
قوله : { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } .
فإن قلنا : إن ذلك الخطاب للكفار ، كان المعنى وإن تنتهوا عن قتال الرَّسول وعداوته؛ فهو خير لكم في الدّين بالخلاص من العقاب ، وفي الدّنيا بالخلاص من القتل والأسر والنَّهْبِ .
» وإن تَعُودُوا « إلى القتال : » نَعُدْ « أي : إلى تسليطه عليكم : { وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ } كثرة الجموع كما لم يغن ذلك يوم بدر .

وإن قلنا ذلك خطاب للمؤمنين كان المعنى : إن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وتنتهوا عن طلب الفداء على الأسْرَى ، فقد كان وقع بينهم نزاع يوم بدر في هذه الأشياء حتى عاتبهم اللَّهُ بقوله : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } [ الأنفال : 68 ] .
فقال تعالى : { وَإِن تَنتَهُواْ } عن مثله : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ } أنتم إلى تلك المنازعات « نَعُدْ » إلى ترك نصرتكم؛ لأن الوعد بنصركم مشروط بشرط استمراركم على الطَّاعة ، وترك المخالطة ثمَّ لا تنفعكم الفئة والكثرة ، فإنَّ الله لا يكون إلاَّ مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب .
قوله : « ولَن تُغْنِيَ » قرأ الجمهورُ بالتَّاءِ من فوق ، لتأنيث الفئة .
وقرىء « ولن يُغْنِيَ » بالياء من تحت لأن تأنيثه مجازي ، وللفصل أيضاً : « ولو كَثُرَتْ » هذه الجملة الامتناعية حالية ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك .
قوله : { وَلَن تُغْنِيَ } قرأ نافعٌ ، ابن عامر ، وحفصٌ عن عاصم ، بالفتح . والباقون : بالكسر ، فالفتحُ من أوجه :
أحدها : أنه على لام العلَّة تقديره : ولأنَّ الله مع المؤمنين كان كيت وكيت .
والثَّاني : أن التقدير : ولأنَّ اللَّهَ مع المؤمنين امتنع عنادهم .
والثالث : إنه خبرُ مبتدأ محذوف أي : والأمر أنَّ الله مع المؤمنين ، وهذا الوجهُ الأخيرُ يقربُ في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

قوله تعالى : { اأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } الآية .
لمَّا خاطب المؤمنين بقوله : { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ الأنفال : 19 ] أتبعه بتأديبهم فقال : { أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } ولم يبين ماذا يسمعون إلاَّ أنَّ الكلام من أول السورة إلى ههنا لما كان واقعاً في الجهاد علم أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد .
قوله { وَلاَ تَوَلَّوْا } الأصلُ : تتولُّوا فحذف إحدى التَّاءين ، وقد تقدَّم الخلافُ في أيتهما المحذوفة .
وقوله : { وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } جملةٌ حالية ، والضميرُ في « عَنْهُ » يعود على الرَّسول؛ لأنَّ طاعته من طاعة الله .
وقيل : يعودُ على الله ، وهذا كقوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وقيل : يعودُ على الأمر بالطَّاعةِ .
قوله { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي : لا تكونوا كالذين يقولون بألسنتهم إنَّا قبلنا تكاليف الله تعالى : ثمَّ إنَّهم بقلوبهم لا يقبلونها ، وهذه صفة المنافقين .
قوله : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ } .
قيل : شبَّههم بالدَّواب لجهلهم ، وعدولهم عن الانتفاعِ بما يسمعونه وبما يقولونه ، ولذلك وصفهم بالصُّمِّ والبكم ، وبأنهم لا يعقلون .
وقيل : سمَّاهم دواباً لقلة انتفاعهم بعقولهم كما قال : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] .
قال ابن عبَّاسٍ : هم نفرٌ من عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صمٌّ بكم عمي عمَّا جاء به محمَّد؛ فقتلوا جميعاً بأحدٍ وكانوا أصحاب اللِّواء ، ولم يسلم منهم إلاَّ رجلان : مصعب بن عمير ، وسويد بن حرملة .
وقيل : بل هم من الدَّواب؛ لأنه اسم لما يدبّ على الأرض ولم يذكره في معرض التَّشبيه ، بل وصفهم بصفة تليقُ بهم على طريق الذَّمِّ ، كما يقال لمن لا يفهم الكلام : هو شبحٌ وجسد وطلل على طريق الذمّ .
وإنمَّا جُمع على جهة الذَّم وهو خبر « شَرّ » لأنه يُراد به الكثرةُ ، فجمع الخبر على المعنى . ولو كان الأصم لكان الإفرادُ على اللَّفظ ، والمعنى على الجمع .
قوله : { الذين لاَ يَعْقِلُونَ } يجوز رفعه أو نصبه على القطع .
قوله : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } سماع الفهم والقبول ، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك ، ولتولَّوا وهم معرضون لعنادهم وجحدوهم الحقَّ بعد ظهوره .
وقيل : إنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أحي لنا قُصَيّاً فإنَّه كان شيخاً مباركاً حتى نشهد لك بالنُّبوَّة من ربك فقال اللَّه - عزَّ وجلَّ - : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ } كلام قصيٍّ : { لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } .
فصل
اعلم أنَّهُ تعالى حكم عليهم بالتَّولي عن الدلائل ، وبالإعراض عن الحق ، وأنَّهُم لا يعقلونه البتَّة ولا ينتفعون به ألبتَّة ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون صدور الإيمان منهم مُحَالاً؛ لأنَّهُ لو صدر منهم الإيمان ، لكان إمّضا أن يوجد إيمانهم مع بقاء هذا الخبر صدقاً ، أو مع انقلابه كذباً ، والأول محالٌ؛ لأنَّ وجود الإيمان مع الغخبار عن عدم الإيمان يكون جميعاً بين النَّقيضيْنِ وهو محالٌ ، والثاني محالٌ؛ لأن انقلاب خبر اللَّهِ الصدق كذباً محالٌ ، لا سيَّمَا في الزَّمانِ المنقضي وهكذا القول في انقلاب علم اللَّه جهلاً ، كما تقدَّم تقريره .

فصل
قال النُّخحاة : كلمة « لو » وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره .
فإذا قلت : لو جئتني لأكرمتك ، أفاد أنَّه ما حصل المجيءُ ، وما حصل الإكرامُ ، ومن الفقهاء مَنْ قال : إنَّه يفيد الاستلزام ، فأمَّا الانتفاء لأجل انتفاء الغير ، فلا يفيده هذا اللَّفْظُ ، ويدل عليه الآية والخبر .
أمَّا الآية فهذه وتقريره : أنَّ كلمة « لَوْ » لو أفادت ما ذكروه لكان قوله : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } يقتضي أنَّهُ تعالى ما علم خيراً وما أسمعهم ، ثمَّ قال { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } فيكون معناه : أنه ما أسمعهم ، وأنهم ما تولَّوا لكن عدم التولي خير من الخيرات ، فأوَّل الكلام يقتضي نفي الخير ، وآخره يقتضي حصول الخير ، وذلك متناقض .
فثبت القولُ : بأنَّهُ لو كانت كلمة : « لَوْ » تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره لوجب هذا التناقص؛ فوجب أن لا يُصار إليه .
وأمَّا الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : « نِعْم الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لو لمْ يَخَفِ اللَّه لَمْ يَعْصِهِ » فلو كانت لفظه « لَوْ » تفيدُ ما ذكروه لصار المعنى أنَّهُ خاف الله وعصاه ، وذلك متناقض .
فثبت أنَّ كلمة « لَوْ » لا فتيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، وإنَّما تفيدُ مجرد الاستلزام ، وهذا دليل حسن إلاَّ أنَّهُ خلاف قول الجمهور .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } الآية .
قال أبو عبيدة ، والزجاج : « استَجِيبُوا » معناه : أجيبوا؛ وأنشدوا قول الغنوي : [ الطويل ]
2690 - .. فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجِيبُ
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الأمر يفيدُ الوجوب؛ لأنها تدل على أنه لا بُدَّ من الإجابة في كل ما دعاه الله إليه .
فإن قيل : قوله { استجيبوا للَّهِ } أمرٌ . فلم قلتم : إنَّه على الوجوب؟ وهل النّزاع إلا فيه ، فيرجع حاصل هذا الكلام إلى إثباتِ أنَّ الأمر للوجوب بناء على أنَّ هذا الأمر يفيدُ الوجوب فيقتضي إثبات الشيء بنفسه ، وهو مُحال .
فالجواب : أنَّ من المعلوم بالضَّرورة أنَّ كل ما أمر اللَّهُ به فهو مرغب فيه مندوب إليه ، فلو حملنا قوله « اسْتَجِيبوا » على هذا المعنى كان ذلك جارياً مجرى إيضاح الواضحات وهو عبثٌ ، فوجب حمله على فائدة زائدة ، وهي الوجوب صوتاً لهذا النصّ عن التعطيل .
ويؤيده ما روى أبو هريرة « أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ على باب أبي بن كعب فناداه وهو في الصَّلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال : » ما منعكَ عَنْ إجابتِي « ؟ فقال : كنتُ أصلِّي ، فقال : » أليس الله يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } فلامه على ترك الإجابة « متمسكاً بهذه الآية .
فإن قيل : مسألةُ الأمر - يفيد الوجوب - مسألةٌ قطعيَّةٌ ، فلا يجوز التمسك فيها بخبر الواحد .
فالجوابُ : لا نسلم أنَّ مسألة الأمر - يفيدُ الوجوب - مسألة قطعيةٌ ، بل هي ظنيَّةٌ؛ لأن المقصود منها العمل ، والدلائل الظنية كافية في العمل .
فإن قيل : إنَّ الله تعالى ما أمر بالإجابة مطلقاً ، بل بشرط خاص ، وهو قوله : { إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } فلم قلتم إنَّ هذا الشرط الخاص حاصلٌ في جيمع الأوامر؟
فالجواب : أنَّ قصة أبي تدلُّ على أنَّ هذا الحكم عام ليس مخصصاً بشرط معين ، وأيضاً فلا يمكن حمل الحياة ههنا على نفس الحياة؛ لأنَّ إحياء الحيِّ محالٌ؛ فوجب حملُه على شيء آخر وهو الفوز بالثواب ، وكل ما دعا اللَّهُ إليه ورغب فيه مشتمل على الثواب ، فكان هذا الحكم عاماً في جميع الأومر .
فصل
في المُرادِ بقوله » لِمَا يُحْييكُم « وجوه :
أحدها : قال السُّديُّ : هو الإيمان والإسلامُ وفيه الحياة ، وقال قتادةُ : يعني القرآن فيه الحياة والنَّجاة . وقال مجاهدٌ : هو الحق .
وقال ابن إسحاق : الجهادُ أعزكم اللَّهُ فيه بعد الذُّلِّ ، وقال القتيبيُّ : الشَّهادةُ ، قال تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] .
قوله { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } قال الواحديُّ حكاية عن ابن عباس ، والضحاك : يحولُ بين المرءِ الكافرِ وطاعته ، ويحولُ بين المطيع ومعصيته ، فالسَّعيدُ من أسعده اللَّهُ ، والشقيُّ من أضله الله ، والقلوب بيده يقلبها كيف يشاء .

وقال السُّديُّ : يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعطاءٌ : يحولُ بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان .
وقيلك إنَّ القوم لمَّا دعوا إلى القتال في حالة الضعف ساءت ظنونهم واختلجت صدورهم ، فقيل لهم : قاتلُوا في سبيل اللَّهِ ، واعلموا أنَّ الله يحُولُ بين المرءِ وقلبه فيبدلُ الله الخوف أمناً ، والجبن جراءة .
قوله : « بَيْنَ المَرْءِ » العامَّةُ على فتح الميم .
وقرأ ابن أبي إسحاق : بكسرها على إتباعها لحركة الهمزة ، وذلك ان في « المَرْءِ » لغتين : أفصحهما : فَتْح الميم مطلقاً ، والثانية : إتباع الميم لحركة الإعراب فتقول : هذا مُرْءٌ - بضم الميم ، ورأيت مَرْءاً - بفتحها ، ومررت بِمِرْءٍ - بكسرها ، وقرأ الحسن ، والزهري : بفتح الميم وتشديد الرَّاءِ . وتوجيهها : أن يكون نقل حركة الهمزة إلى الرَّاءِ ، ثم ضعَّف الراء ، وأجرى الوصل مُجْرى الوقف .
قوله « وأنَّهُ » يجوز أن تكون الهاء ضمير الأمر والشأن ، وأن تعود على الله تعالى ، وهو الأحسن لقوله : « إلَيْهِ تُحْشَرُونَ » أي إلى اللَّهِ؛ ولا تتركون مهملين .
قوله { بَيْنَ المرء } .
في « لا » وجهان :
أحدهما : أنَّها ناهيةٌ ، وعلى هذا ، فالجملةُ لا يجوزُ أن تكون صفةً ل « فِتْنَةً » لأنَّ الجملةًَ الطلبية لا تقعُ صفةً ، ويجوز أن تكون محمولة لقول ، ذلك القولُ هو الصِّفة أي : فتنةً مقولاً فيها : لا تُصيبن ، والنَّهيُ في الصورة للمصيبة ، وفي المعنى للمخاطبين ، وهو في المعنى كقولهم : لا أرَيَنَّكَ ههنا ، أي : لا تتعاطوا أسباباً يُصيبكم بسببها مصيبة لا تخص ظالمكم ، ونونُ التوكيد على هذا في محلِّها ، ونظيرُ إضمار القول قوله : [ الرجز ]
2691 - جاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَط ... أي مقول فيها ما رأيت .
والثاني : أن « لا » نافية ، والجملةُ صفة ل « فِتْنَةٌ » وهذا واضحٌ من هذه الجهة إلاَّ أنَّهُ يشكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ، ولا طلب ، ولا شرط ، وفيه خلافٌ : هل يجري المنفيُ ب « لا » مجرى النَّهي؟ فقال بعضهم : نعم؛ واستشهد بقوله : [ الطويل ]
2692 - فَلا الجَارةُ الدُّنْيَا بها تَلْحَينَّهَا ... ولا الضَّيْفُ فيها إن أنَاخَ مُحَوِّلُ
وقال الآخر : [ الطويل ]
2693 - فَلاَ ذَا نَعِيمٍ يُتْرَكنْ لِنعيمِهِ ... وإنْ قال قَرِّظْني وخُذْ رِشْوةً أبَى
وَلاَ ذَا بئِيسٍ يتركنَّ لِبُؤْسِهِ ... فَيَنْفَعَهُ شَكُوٌ إليه إن اشْتَكى
فإذا جاز أن يُؤكد المنفيُّ ب « لا » مع انفصاله ، فلأن يؤكَّد المنفيُّ غيرُ المفصول بطريق الأولى إلاَّ أنَّ الجمهور يحملون ذلك على الضرورة .
وزعم الفرَّاءُ أنَّ : « لا تُصِيبَنَّ » جواب للأمر نحو : انزلْ عن الدَّابة لا تَطْرَحَنَّكَ ، أي : إن تنزل عنها لا تَطْرَحنك ، ومنه قوله تعالى { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ }

[ النمل : 18 ] أي : إن تدخلوا لا يَحْطِمنَّكُم ، فدخلت النُّونُ لِما فيه من معنى الجزاء .
قال أبو حيان . وقوله « لا يحطمنَّكُم » وهذا المثالُ ، ليس نظير { فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين } ؛ لأنه ينتظم من المثالِ والآيةِ شرطٌ وجزاءٌ كما قدَّر ، ولا ينتظمُ ذلك هنا ، ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تقدير : إن تتقوا فتنة لا تُصِبِ الذين ظلموا ، لأنه يترتَّبُ على الشرط غيرُ مقتضاه من جهة المعنى .
قال الزمخشري : « لا تُصِيبَنَّ » لا يخلو إمَّا أن يكون جواباً للأمر ، أو نهياً بعد أمرٍ ، أو صفة ل « فِتْنَةً » فإن كان جواباً فالمعنى : إن أصابتكُم لا تُصيب الظَّالمين منكم خاصة بل تَعُمُّكُم .
قال أبو حيان « وأخذ الزمخشريُّ قول الفرَّاءِ ، وزاده فساداً وخبَّط فيه » فذكر ما نقلته عنه ثم قال : « فانظر إليه كيف قدَّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو : » اتَّقُوا « ثمَّ قدَّر أداة الشطرِ داخلةً على غير مضارع » اتقُوا « ؟ فقال المعنى : إن أصابتكُم يعني : الفتنة . وانظر كيف قدَّر الفرَّاءُ ، انزل عن الدَّابَّةِ لا تَطْرَحَنَّكَ ، وفي قوله : { ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } [ النمل : 18 ] فأدخل أداة الشَّرط على مضارع فعل الأمر ، وهكذا يُقدَّر ما كان جواباً للأمر » .
وقيل : « لا تُصِيبَنَّ » جوابُ قسم محذوف ، والجملةُ القسميةُ صفةٌ ل « فِتْنَةً » أي : فتنة واللَّه لا تُصيبنَّ ، ودخولُ النُّون أيضاً قليلٌ ، لأنه منفيٌّ .
وقال أبُو البقاءِ « ودخلتِ النُّونُ على المنفي في غير القسم على الشُّذُوذِ » وظاهرُ هذا أنَّهُ إذا كان النَّفي في جواب القسم يَطَّرد دخولُ النُّونِ ، وليس كذلك ، وقيل : إنَّ اللام لامُ التَّوكيد والفعلُ بعدها مثبتٌ ، وإنَّما أشبعتْ فتحةُ اللاَّمِ؛ فتولَّدت ألفاً ، فدخول النُّون فيها قياسٌ ، وتأثر هذا القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة « لتُصِيبنَّ » وهي قراءة أمير المؤمنين ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، والباقر ، والربيع بن أنس ، وأبي العالية ، وابن جماز .
وممَّن وجَّه ذلك ابنُ جني ، والعجبُ أنه وجَّه هذه القراءة الشَّاذَّة بتوجيهٍ يَرُدُّهَا إلى قراءةِ العامَّة ، فقال : « يجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود ، ومن ذكر معه مخففةً من » لا « يعني حذفت ألفُ » لا « تخفيفاً واكتفي بالحركة » .
قال : « كما قالوا : أم واللَّه ، يريدون : أما واللَّهِ » .
قال المهدويُّ « كما حذفت مِنْ » ما « وهي أخت » لا « في نحو : أم والله لأفعلنَّ وشبهه » .
قوله « أخت لا » ليس كذلك؛ لأنَّ « أما » هذه للاستفتاح ، ك « ألاَ » ، وليست من النَّافية في شيءٍ ، فقد تحصَّل من هذا أنَّ ابن جني خرَّج كلاًّ من القراءتين على الأخرى . وهذا لا ينبغي أن يجوز ألبتَّة ، كيف يُوجدُ لفظ نفي ، ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسه؟ وهذا ممَّا يقلب الحقائق ، ويُؤدِّي إلى التَّعمية .

وقال المبرِّدُ ، والفرَّاءُ ، والزَّجَّاجُ : في قراءة العامَّة « لا تُصِيبنَّ » الكلام قد تمَّ عند قوله : « فِتْنَةً » وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين ، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمة خاصةً عن التعرُّض للظُّلم فتصيبهم الفتنةُ خاصة ، والمرادُ هنا : لا يتعرَّض الظَّالم للفتنة فتقع إصابتُها له خاصة .
قال الزمخشريُّ في تقدير هذا الوجه : « وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ؛ فكأنه قيل : واحذروا ذنباً أو عقاباً .
ثم قيل : لا تتعرَّضُوا للظلم فيصيب العقابُ أو أثر الذَّنب من ظلم منكم خاصة » .
وقال عليُّ بن سليمان : هو نَهْيٌ على معنى الدُّعاءِ ، وإنَّما جعله نهياً بمعنى الدُّعاء لأنَّ دخول النون في النفي ب « لا » عنده لا يجوز ، فيصير المعنى : لا أصابت الفتنة الظالمين خاصة ، واستلزمت الدُّعاء على غير الظَّالمينَ ، فصار التقدير : لا أصابت ظالماً ولا غير ظالم فكأنَّه قيل : واتقوا فتنةً لا أوقعها اللَّهُ بأحدٍ .
وقد تحصَّلت في تخريج هذه الكلمة أقوال : النَّهْي بتقديريه ، والدُّعاء بتقديريه ، والجواب للأمر بتقديريه وكونها صفةً بتقدير القول .
قوله : « مِنكُمْ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أظهرها : أنَّها للبيان مطلقاً ، والثاني : أنَّها حالٌ ، فيتعلَّقُ بمحذوف .
وجعلها الزمخشريُّ : للتبعيض على تقدير ، وللبيان على تقدير آخر ، فقال « فإن قلت : فما معنى » مِنْ « في قوله : { الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ } ؟ قلت : التبعيضُ على الوجه الأوَّلِ ، والبيان على الثاني؛ لأنَّ المعنى : لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم ، لأن الظلم منكم أقبحْ من سائر النَّاسِ » يعني بالأولِ كونه جواباً للأمر ، وبالثاني كونه نهياً بعد أمرٍ ، وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهين دون الآخر ، وكذا الثاني : نظرٌ ، إذ المعنى يصح بأحد التقديرين مع التَّبعيض والبيان .
قوله : « خَاصَّةً » فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنها حالٌ من الفاعل المستكنِّ في قوله : « لا تُصيبَنَّ » وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ ، تقديره : إصابةً خاصة .
الثاني : أنَّها حالٌ من المفعولِ وهو الموصولُ ، تقديره : لا تصيبنَّ الظَّالمين خاصة ، بل تعمُّهم ، وتعمُّ غيرهم .
الثالث : أنها حالٌ من فاعل « ظَلَمُوا » قاله ابن عطية . قال أبو حيان : « ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ » .
قال شهابُ الدِّين : « ولا أدري ما عدمُ تعقُّله؟ فإنَّ المعنى : واتقُوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا ، ولا يظلم غيرهم ، بمعنى : أنَّهم اختصوا بالظُّلْمِ ، ولم يشاركهم فيه غيرهم ، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ إصابتها لهؤلاء ، بل تصبهم ، وتُصيبُ مَنْ لَمْ يظلم ألبتَّة ، وهذا معنى واضح » .
فإن قيل : إنَّه تعالى خوَّفهم بعذابٍ لو نزل عمَّ المذنب ، وغيره ، وكيف يليقُ بالرحيم الحليمِ أن يوصل العذاب إلى من لم يذنب؟
فالجوابُ : أنَّهُ تعالى قد ينزل الموت ، والفقر ، والعمى ، والزمانة بعبده ابتداء ، إمَّا لأنَّهُ يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكيَّةِ ، أو لأنَّه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع الصلاة على اختلاف المذهبين .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } الآية .
لمَّا ذكر أنَّه رزقهم من الطَّيبات ، فههنا منعهم من الخيانةِ ، واختلفوا في تلك الخيانةِ .
فقال ابنُ عبَّاسٍ : نزلت في أبي لبابة حين بعثه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى قريظة لمَّا حاصرهم وكان أهله وولده فيهم ، فقالوا : ما ترى لنا ، أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه ، إنَّه الذبح فلا تفعلوا ، فكان منه خيانة لله ورسوله .
وقال السديُّ « كانُوا يسمعون الشيء من النبي صلى الله عليه وسلم فيفشونه ويبلغونه إلى المشركين فنهاهم الله عز وجل عن ذلك » .
وقال ابن زيد : « نَهاهُم الله أن يخُونُوا كما صنع المنافقون يظهورن الإيمان ، ويسرون الكُفْرَ » .
وقال جابرُ بن عبد الله : « إنَّ أبا سفيان خرج من مكَّة فعلم النبي صلى الله عليه وسلم خروجه ، وعزم على الذهاب إليه ، فكتب رجلٌ من المنافقين إليه أنَّ محمداً يريدكم ، فخذوا حذركم فنزلت الآية » . وقال الكلبيُّ والأصمُ والزهريُّ « نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكَّة لمَّا همَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخروج إليها » .
فصل
قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ « الخيانة » في القرآن بإزاء خمسة معانٍ :
الأول : أنَّ المراد بالخيانة : الذَّنب في الإسلام ، كهذه الآية ، لمَّا نزلت في أبي لبابة .
الثاني : الخيانة : السرقة ، قال تعالى : { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] نزلت في طعمة ، لمَّا سرق الدرعين .
الثالث : نقض العهد ، قال تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } [ الأنفال : 58 ] .
الرابع : الخيانة : المخالفة ، قال تعالى : { فَخَانَتَاهُمَآ } أي : خالفتاهما في الدين؛ لأنه يروى أنه ما زنت امرأةٌ نبي قط .
الخامس : الخيانة : الزِّنا ، قال تعالى : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } [ يوسف : 52 ] يعني : الزنا .
فصل
قال القاضي : « الأقربُ : أنَّ خيانة الله غير خيانة رسوله ، وخيانة الرَّسُولِ غير خيانة الأمانة؛ لأنَّ العطف يقتضي المغايرة » .
وإذا عرف ذلك فنقول : إنَّه تعالى أمرهم أن لا يخونوا الغنائم ، وجعل ذلك خيانة للَّه؛ لأنَّهُ خيانة لعطيته وخيانة لرسوله؛ لأنه القيم بقسمها ، فمن خانها فقد خان الرَّسُول ، وهذه الغنيمة قد جعلها الله أمانة في أيدي الغانمين ، وألزمهم أن لا يتناولوا لأنفسهم منها شيئاً فصارت وديعة .
والوديعة أمانةٌ في يد المودع ، فمن خان منهم فيها قد خان أمانة النَّاس .
إذ الخيانةُ ضد الأمانة .
قال : ويحتمل أن يريد بالإمانة كل ما تعبد به ، وعلى هذا التقدير : فيدخل فيه الغنيمة وغيرها ، فكان معنى الآية : إيجاب أداء التكاليف تامة كاملة .
قال ابن عباس : « لا تخونوا الله بترك فرائضه ، والرسول بترك سنته » « وتخُونُوا أماناتِكُم » .

قال ابن عباس : « هي ما يخفى عن أعين النَّاس من فرائض الله تعالى » .
والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد المذكورة في سبب النُّزول داخلة فيها ، لكن لا يجب قصر الآية عليها لأنَّ العبرةَ بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّببِ .
قال الزمخشريُّ « ومعنى الخون النقص ، كما أن معنى الوفاء التَّمام ، ومنه تخوَّنه إذا تنقصه ثم استعمل في ضد الأمانة؛ لأنك إذا خُنتَ الرَّجُلَ في شيءٍن فقد أدخلت النُّقصان فيه » .
قوله : « وتَخُونُوا » يجوزُ فيه أن يكون منصوباً بإضمارِ « أنْ » على جواب النَّهي ، أي : لا تجمعوا بين الخيانتين .
كقوله : [ الكامل ]
2694 - لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتأتِيَ مِثلَهُ ... عَارٌ علَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
والثاني : أن يكون مجزوماً نسقاً على الأوَّل ، وهذا الثاني أولى؛ لأن فيه النهي عن كلِّ واحدٍ على حدته بخلاف ما قبله فإنَّه نهيٌ عن الجمع بينهما ، ولا يلزمُ من النهي عن الجمع بين الشيئين النهيُ عن كلٍّ واحدٍ على حدته ، وقد تقدَّم تحريره في قوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] أول البقرة .
و « أماناتكم » على حذف مضاف ، أي : أصحاب أماناتكم ، ويجوزُ أن يكونوا نهوا عن خيانة الأماناتِ مبالغةً كأنَّها جعلت مخونةً .
وقرأ مجاهدٌ ورويت عن أبي عمرو « أمَانتكُم » بالتَّوحيد ، والمراد الجمع .
وقوله : « وأنتُمْ تَعْلَمُونَ » جملة حالية ، ومتلَّقُ العلم يجوزُ أن يكون مراداً أي : وأنتم تعلمون قُبْحَ ذلك أو أنكم مؤاخذون بها ، ويجوزُ ألاَّ يُقَدَّر ، أي : وأنتم من ذوي العلمِ .
قوله : { واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } .
لمَّا كان الدَّاعي إلى الإقدام على الخيانةِ هو حب الأموالِ ، والأولاد ، نبَّه تعالى على أنه يجبُ على العقال أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك .
فقال : { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } لأنَّها تشغل القلب بالدُّنيا .
ثم قال : { وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : أنَّ سعادة الآخرة خيرٌ من سعاداتِ الدُّنيا ، لأنَّ سعادات الآخرة لا نهاية لها ، وسعادات الدنيا تفني وتنقضي .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

قوله تعالى : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } الآية .
لمَّا حذَّر من الفتنة بالأموال ، والأولاد ، رغَّب في التَّقوى الموجبة لترك الميل ، والهوى في محبَّة الأموال والأولاد .
فإن قيل : إدخالُ الشَّرط في الحكم إنَّما يحسن في حقِّ من كان جاهلاً بعواقب الأمورِ وذلك لا يليق باللَّهِ تعالى .
فالجوابُ : أنَّ قولنا إن كان كذا كان كذا لا يفيدُ إلاَّ كون الشَّرطِ مستلزماً للجواب ، فإمَّا أنَّ وقوع الشَّرط مشكوك فيه ، أو معلوم فذلك غير مستفاد من هذا اللَّفظ ، سلَّمنا أنَّه يفيد هذا الشَّك إلاَّ أنه تعالى يُعامل العباد في الجزاء معاملة الشَّاك ، وعليه يخرَّج قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين } [ محمد : 31 ] .
قال أبو العباس المقرىء : « الفرقان » على أربعة أوجهٍ :
الأول : الفرقان النور ، كهذه الآية أي : يجعل لكم نوراً في قلوبكم تُفرِّقون به بين الحلال والحرام .
والثاني : الحجة .
قال تعالى : { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان } [ البقرة : 53 ] أي : الحجة .
الثالث : القرآنُ . قال تعالى { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ } [ الفرقان : 1 ] أي : القرآن .
الرابع : يوم بدر قال تعالى { يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان } [ الأنفال : 41 ] أي : يوم بدر .
فصل
ومعنى الآية : إن تتَّقُوا الله بطاعته وترك معصيته يجعل لكم فرقاناً .
قال مجاهد : « مَخْرَجاً في الدُّنيا والآخرة من الضَّلال » وقال مقاتل : « مَخْرَجاً في الدَِّين من الشُّبهات » .
وقال عكرمة « نجاة ، أي : يفرق بينكم وبين ما تخافون » .
وقال الضحاك : « بياناً » .
وقال ابن إسحاق : « فصلاً بين الحق والباطل . يُظهر الله به حقكم ويطفىء باطل من خالفكم » قال مُزرد بن ضرار : [ الخفيف ]
2695 - بَادَرَ الأفْق أنْ يَغيبَ فَلَمَّا ... أظْلَمَ اللَّيْلُ لَمْ يَجِدْ فُرقَانَا
قال آخر : [ الرجز ]
2696 - مَا لَك مِنْ طُولِ الأسَى فُرقَانُ ... بَعْدَ قَطِينٍ رَحَلُوا وبَانُوا
وقال آخر : [ الطويل ]
2697 - وكَيْفَ أرَجِّي الخُلْدَ والمَوْتُ طَالِبِي ... ومَا لِيَ مِنْ كَأسٍش المَنِيَّةِ فُرْقَانُ
والفرقان : مصدر كالرُّجحان والنُّقصان ، وتقدم الكلام عليه أول البقرة .

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)

قوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } الآية .
هذا الظرفُ معطوفٌ على الظَّرف قبله؛ لأنّ هذه السُّورة مدنيَّة ، وهذا المكر والقول إنما كان بمكَّة ولكنَّ الله ذكرهم بالمدينة لقوله تعالى : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } [ التوبة : 40 ] .
واعلم أنه لمَّا ذكَّر المؤمنين بنعمه عليهم بقوله : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } [ الأنفال : 26 ] فكذلك ذكر رسوله بنعمه عليه وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين .
قال ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقتادة وغيرهم : أن قريشاً فزعوا - لمَّا أسلمت الأنصار - أن يتفاقهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت رُءُوسهُم عتبة ، وشيبه ابنا ربيعة ، وأبو جهل ، وأبو سفيان ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسودِ ، وحكيم بن حزام ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأمية بن خلف فاعترضهم إبليسُ في صورة شيخ ، فلما رَأوْهُ قالوا : من أنت؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منّي رأياً ونصحاً ، قالوا : ادخل فدخل ، فقال أبو البختري : أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتُقَيِّدُوه ، وتحبسوه في بيت وتسدُّوا باب البيت غير كوة وتلقون إليه طعامه وشرابه ، وتَتربَّصُوا به رَيْبَ المنُون حتَّى يهلك فيه كما هلك من قبلهُ من الشعر ، فصرخ عدوُّ الله الشيخُ النَّجدي وقال : بئس الرأي والله إن حبستموه في بيت ليخرجن أمره من وراء البيت إلى أصحابه ، فيوشك أن يَثِبُوا عليكم فيقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم .
قالوا : صدق الشَّيخُ .
وقال بعضهم : أخرجوه من عندكم تستريحُوا من أذاه لكم .
فقال إبليس : ما هذا برأي ، تعمدُون إلى رجلٍ قد أفسد سفهاءكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ، ألَمْ تَرَوْا حلاوة منطقه ، وطلاقة لسانه ، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه؟ والله لَئِن فعلتم ذلك لاستمال قلوب قومٍ ثم يسير بهم إليكم ويخرجكم من بلادكم قالوا : صدق والله الشيخ .
فقال أبو جهل : إنِّي أرى أن تأخذُوا من كلِّ بطنٍ من قريش شابّاً نسيباً وسطاً فتيّاً ثم يُعْطى كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يضربوه ضربة رجل واحدٍ ، فإذا قتلوهُ تفرَّق دمهُ بين القبائلِ كلها ، ولا أظن هذا الحيّ من بني هاشم يَقوونَ على حرب قريش كلها فيرضونَ بأخذ الدِّية فتؤدي قريش ديته .
فقال إبليس : صدق هذا التفى وهو أجودكم رأياً ، فتفرقوا على رأي أبي جهل فأوْحَى اللَّهُ تعالى إلى نبيِّه بذلك ، وأذن له في الخُرُوج إلى المدينة ، وأمره لاَّ يبيت في مضجعه ، فأمر الرسُول عليّاً أن يبيت في مضجعه وقال : اتَّشح ببُرْدَتي؛ فإنَّه لنْ يصلَ إليك أمرٌ تكرهه ، ثمَّ خرج النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من ترابٍ ، وأخذ اللَّهُ أبصارهم عنه وجعل ينثر التُّراب على رءوسهم ، وهو يقرأ

{ إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } [ يس : 8 ] إلى قوله : { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 9 ] ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر ، وخلف عليّاً بمكَّة حتَّى يؤدِّي عنه الودائع التي كانت توضع عنده لصدقه وأمانته ، وباتُوا مُترصِّدين ، فلمَّا أصبحوا ثَارُوا إلى مضجعه فأبصروا عليّاً فبهتوا .
وقالوا له : أيْنَ صاحبُك؟
قال : لا أدري فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلما بلغوا الغار رَأوْا على بابه نسخ العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه؛ فمكث فيه ثلاثاً ثم قدم المدينة فذلك قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } .
وقوله « لِيُثُبِتُوكَ » متعلِّقٌ ب « يَمْكُرُ » والتثبيتُ هنا الضَّربُ ، حتَّى لا يبقى للمضروب حركة؛ قال : [ البسيط ]
2698 - فَقلتُ : ويْحَكَ ماذا فِي صَحيفتكُمْ؟ ... قالوا : الخَليفَةُ أمْسَى مُثْبَتاً وجِعَا
وقرأ ابن وثَّابٍ « لِيُثِّبتُوكَ » فعدَّاهُ بالتضعيف ، وقرأ النخعي « لِيبيتُوك » من البيات والمعنى :
قال ابنُ عبَّاسٍ : ليوثقوك ومن شد فقد أثبت؛ لأنَّهُ لا يقدر على الحركة ، ولهذا يقال لمن اشتدَّتْ به علة أو جراحة تمنعه من الحركة قد أثْبِتَ فلانٌ ، فهو مُثْبَتٌ .
وقيل : ليسجنوك ، وقيل : ليثبتوك في بيتٍ ، أو يقتلوك ، وهو ما حكي من أبي جهل « أو يُخْرِجُوكَ » من مكَّة كما تقدم .
ثم قال : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } قال الضحاكُ : يصنعون ويصنع اللَّهُ ، والمكرُ من الله التدبير بالحقِّ ، وقيل : يجازيهم جزاء المكر . { والله خَيْرُ الماكرين } وقد تقدَّم الكلام في تفسير « المَكْرِ » في حق الله تعالى في آل عمران عند قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] .
فإن قيل : كيف قال { والله خَيْرُ الماكرين } ولا خير في مكرهم؟
فالجوابُ من وجوه : أحد : أنَّ المراد أقوى الماكرين ، فوضع « خَيْرٌ » موضع « أقْوَى » تنبيهاً على أنَّ كُلَّ مكر ، فإنَّهُ يبطل في مقابلة فعل اللَّهِ تعالى .
وثانيها : أنَّ المُرادَ لو قدر في مكرهم ما يكون خيراً .
وثالثها : أنَّ المراد ليس هو التفضيل ، بل المرادُ أنَّهُ في نفسه خير كقولك : الزبد خير من الله ، أي : من عند اللَّهِ .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)

قوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } الآية .
لمَّا حكى مكرهم في ذاتِ محمَّدٍ ، حكى مكرهم في دين محمَّدٍ .
روي أنَّ النَّضْرَ بن الحارث كان يختلف تاجراً إلى فارس والحيرةِ فيسمع أخبار رستم وسفنديار ، وأحاديث العجمِ ، واشترى أحاديث كليلة ودمنة ، ويمر باليهود والنصارى فيراهم يقراءون التوراة والإنجيلن ويركعون ويسجدون فجاء مكَّة فوجد محمداً صلى الله عليه وسلم يصلِّي ويقرأ القرآن ، وكان يقعدُ مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عيلهم ساطير الأوَّلين أخبار الأمم الماضية وأسماءهم ، وما سطر الأولون في كتبهم .
وكان يزعمُ أنها مثل ما يذكره مُحمَّدٍ من قصص الأولين ، فهذا هو المراد من قوله { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } ، والأساطير : جمع أسطورة وهي المكتوبة .
فإن قيل : الاعتمادُ على كون القرآن معجزاً هو أنَّ الله تعالى تحدَّى العرب بمعارضته فلم يأتوا بها ، وهذا الآيةُ تدلُّ على أنه أتى بالمعارضة .
فالجواب : أن كلمة « لو » تفيدُ انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فقوله : { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } يدلُّ على أنه ما شاء ذلك القول ، وما قالوا؛ فثبت أنَّ النضر بن الحارث أقرَّ أنَّهُ ما أتى بالمعارضة ، وإنَّما أخبر أنه لو شاء أتى بها ، والمقصود إنَّما يحصل لو أتى بالمعارضة امَّا مجرَّد هذا القول ، فلا فائدة فيه .

وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)

قوله : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق } .
نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدَّارِ .
قال ابنُ عباسٍ : لمَّا قصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية قال النَّضْرُ : لو شئت لقلتُ مثل هذا إن هذا إلا ما سطر الأوَّلُونَ في كتبهم .
فقال له عثمانُ بن مظعون : اتق الله فإن محمداً يقول الحقَّ ، قال : وأنا أقول الحق .
قال عثمان : فإنَّ محمداً يقول : لا إله إلاَّ الله ، قال : وأنا أقول : لا إله إلا الله ولكن هذه بنات الله ، يعني : الأصنام .
ثم قال : { اللهم إِن كَانَ هذا } الذي يقوله محمد « هُو الحقَّ من عندكَ » .
فإن قيل : في الآية إشكال من وجهين :
أحدهما : أن قوله { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق } الآية . حكاهُ الله عن كلام الكُفَّار ، وهو من جنس نظم القرآن ، فقد حصلت المعارضة في هذا وحكي عنهم في سورة الإسراء قولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآيات ، وهذا أيضاً كلامُ الكُفَّار فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرن ، فدلَّ على حصول المعارضة .
الوجه الثاني : أنَّ كفار قريش كانُوا معترفين بوجود الإله ، وقدرته ، وكانوا قد سمعوا التَّهديد الكثير من محمد صلى الله عليه وسلم في نزول العذاب ، فلو كان القرآن معجزاً لعرفوا كونه معجزاً ، لأنهم أرباب الفصاحةِ والبلاغةِ ، ولو عرفوا ذلك لكان أقلّ الأحوال أن يَشُكُّوا في نبوَّة محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، ولو كانُوا كذلك لما أقدموا على قولهم : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } ؛ لأن الشَّاك لا يتجاسر على مثل هذه المبالغة وحيث أتوا بهذه المبالغة علمنا أنَّه ما لاح لهم في القرآن وجه من الوجوه المعجزة .
فالجواب عن الأول : أنَّ الإتيان بهذا القدر من الكلامِ لا يكفي في حصول المعارضة؛ لأنَّ هذا القدر كلام قليل لا يظهر فيه وجوه الفصاحة والبلاغة .
والجوابُ عن الثَّانِي : هَبْ أنَّه لم يظهر لهم الوجه في كون القرآن معجزاً إلاَّ أنَّهُ لما كان معجزاً في نفسه ، فسواء عرفوا ذلك الوجه أو لم يعرفوا فإنه لا يتفاوت الحال .
قوله « هُو الحقَّ » العامَّةُ على نصب « الحقَّ » وهو خبر الكون ، و « هُوَ » فصل ، وقد تقدَّم الكلام عليه .
وقال الأخفشُ : « هو » زائد ، ومرادُه ما تقدَّم من كونه فصلاً .
وقرأ الأعمش ، وزيدُ بن علي : برفع « الحقَّ » ووجهها ظاهرٌ ، برفع « هُوَ » بالابتداء و « الحق » خبره ، والجملةُ خبرُ الكونِ؛ كقوله : [ الطويل ]
2699 - تَحِنُّ إلَى لَيْلَى وأنْتَ تَركْتَهَا ... وكُنْتَ عليْهَا بالمَلا أنْتَ أقْدَرُ

وهي لغةُ تميم . وقال ابن عطية : ويجوز في العربية رفع « الحقّ » على خبر « هو » والجملة خبر ل « كان » .
قال الزَّجَّاجُ « ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز » ، وقد ظهر من قَرأَ به وهما رجلان جليلان .
قوله : « مِنْ عندِكَ » حال من معنى « الحَقّ » : أي : الثَّابت حال كونه من عندك .
وقوله « مِنَ السَّماءِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ متعلقٌٌ بالفعل قبله .
والثاني : أنه صفة ل « حِجَارةً » فيتعلقُ بمحذوفٍ .
وقوله : « مِنَ السَّماءِ » مع أنَّ المطر لا يكون إلاَّ منها ، قال الزمخشريُّ : « كأنه أراد أن يقال : فأمطرْ علينا السِّجِّيلَ ، فوضع حجارة من السماء موضع السِّجِّيل كما يقالك صب عليه مسرودةً من حديد ، تريدُ درعاً » .
قال أبو حيان : « إنَّهُ يريد بذلك التَّأكيد » قال : « كَمَا أنَّ قوله : » من حديد « معناه التأكيد؛ لأنَّ المسرودَ لا يكون إلاَّ من حديدٍ ، كما أنَّ الأمطارَ لا تكونُ إلاَّ من السَّماءِ » .
وقال ابنُ عطيَّة : « قولهم » مِنَ السَّماءِ « مبالغة وإغراق » .
قال أبو حيَّان : « والذي يظهر أنَّ حكمة قولهم : » مِنَ السَّماءِ « هي مقابلتُهم مجيءَ الأمطارِ من الجهة التي ذكر عليه الصلاة والسلام أنه يأتيه الوحي من جهتها ، أي : إنَّك تذكر أن الوحي يأتيك من السَّماءِ ، فأتِنَا بالعذاب من الجهة التَّي يأتيك الوحي منها ، قالوه استبعاداً له » .
فصل
قال عطاءٌ : « لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر » .
قال سعيدُ بنُ جبيرٍ « قتل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ ثلاثةً من قريشٍ صبراً طعيمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيطٍ ، والنَّضْر بن الحارث » . وروى أنس أن الذي قال هذا الكلام أبُو جُهْلٍ .
قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } اللاَّم في « ليُعَذِّبهُمْ » قد تقدَّم أنها لامُ الجحود ، والجمهورُ على كسرها ، وقرأ أبُو السَّمَّال : بفتحها .
قال ابن عطية عن أبي زيد : « سمعت من العرب من يقول » ليُعَذِّبهُمْ « بفتح اللاَّم ، وهي لغةٌ غيرُ معروفةٍ ولا مستعملةٍ في القرآن » . يعني في المشهور منه ، ولمْ يَعْتَدَّ بقراءة أبي السمال ، وروى ابن مجاهد عن أبي زيد فَتْحَ كلِِّ لامٍ عن بعض العربِ إلاَّ في { الحمد للَّهِ } [ الفاتحة : 2 ] وروى عبد الوارث عن أبي عمرو : فتح لام الأمر من قوله : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } [ عبس : 24 ] ، وأتى بخبر « كان » الأولى على خلاف ما أتى به في الثانية فإنَّه إمَّا أن يكون محذوفاً ، وهو الإرادة كما يقدِّره البصريون أي : ما كان الله مُريداً لتعذيبهم وانتفاءُ إرادة العذاب أبلغُ من نفي العذاب ، وإمَّا أنه أكَّدَهُ باللاَّم على رأي الكوفيين لأنَّ كينونته فيهم أبلغُ من استغفارهمن فشتَّان بين وجودِه عليه الصَّلاة والسَّلام ، وبين استغفارهم .

وقوله « وأنتَ فيهِمْ » حال ، وكذلك « وهُمْ يَسْتَغفرُونَ » .
والظَّاهر أنَّ الضمائرَ كلَّها عائدةٌ على الكفار .
وقيل : الضمير في « يُعذِّبَهُمْ » و « مُعَذِّبَهُمْ » للكفَّارِ ، والضمير من قوله « وهُمْ » للمؤمنين .
وقال الزمخشريُّ : « وهُمْ يَسْتَغفرُونَ » في موضع الحال ، ومعناه : نفيُ الاستغفار عنهم أي : ولو كانوا ممَّن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذَّبهم ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 117 ] ولكنهم لا يستغفرون ، ولا يؤمنون ولا يتوقَّع ذلك منهم . وهذا المعنى الذي ذكره منقولٌ عن قتادة ، وأبي زيد ، واختاره ابنُ جريرٍ .
فصل
قال أبُو العباس المقرىءُ : ورد لفظ « في » في القرآن بإزاء ستَّةِ أوجه :
الأول : بمعنى « مع » كهذه الآية ، وقوله تعالى : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } [ النمل : 19 ] أي : مع عبادك ، ومثله : { فادخلي فِي عِبَادِي } [ الفجر : 29 ] .
الثاني : بمعنى « على » . قال تعالى { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] أي : على جذوع النخل ، ومثله : { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } [ الطور : 38 ] . أي : عليه .
الثالث : بمعنى « إلى » قال تعالى { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } [ النساء : 97 ] أي : أليها .
الرابع : بمعنى « عن » قال تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى } [ الإسراء : 72 ] أي : عن هذه الآيات .
الخامس : بمعنى « من » قال تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ } [ النحل : 89 ] أي : مِنْ كل أمة « شَهِيداً » .
السادس : بمعنى « عند » قال تعالى { كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا } [ هود : 62 ] .
فصل
اختلفوا في معنى هذه الآيةِ : فقال محمدُ بنُ إسحاق : هذا حكايةٌ عن المشركين ، وهذه الآية متصلة بالآية التي قبلها ، وذلك أنَّهُم كانوا يقولون إنَّ الله لا يعذبنا ونحن نستغفره ، ولا يعذب الله أمة ونبيها معها ، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يُذكِّره جهالتهم وغرتهم قال : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية وقال { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] ثم قال ردّاً عليهم { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله } وإن كنت بين اظهرهم ، وإن كانوا يستغفرون { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } .
وقال آخرون : هذا الكلام مستأنف يقول الله إخباراً عن نفسه : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ } واختلفوا في تأويلها .
فقال الضحاكُ ، وجماعة : تأويلها : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مُقيم بين أظهرهم ، قالوا : نزلت هذه الآية على النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكَّةَ ثمَّ خرج من بين أظهرهم وبقيت به بقيَّة من المسلمين يستغفرون الله؛ فأنزل اللَّهُ { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ثم خرج أولئك من بينهم فعُذِّبوا وأذن اللَّهُ في فتح مكَّة ، وهو العذاب الأليم الذي وعدهم اللَّهُ « .

قال ابن عباس « لم يعذِّب الله قيةً حتى يخرج النبي منها ، والذين آمنوا ويلحق بحيث أمرَ » .
قال أبو موسى الأشعريُّ : كان فيكم أمانان : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فأمَّا النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى ، والاستغفار كائن فيكم إلى يومِ القيامةِ .
فإن قيل : لمَّأ كان حضوره مانعاً من نزول العذاب بهم ، فكيف قال : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] ؟
فالجوابُ : المرادُ من الأوَّلِ عذاب الاستئصال ، ومن الثاني : العذاب الحاصل بالمحاربة والمقاتلة .
وقال السديُّ : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } أي : لو استغفروا ، ولكنهم لم يكونوا مستغفرين ولو أقرُّوا بالذَّنب واستغفروا لكانوا مؤمنين .
وقال عكرمةُ : « وهُمْ يَستَغْفرُونَ » يسلمون ، يقول : لو أسلموا لما عذبوا ، وروى الوالبي عن ابن عبَّاسٍ : أي : وفيهم من سبق له من الله أنه يؤمن ويستغفر كأبي سفيان ، ومصعب بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام ، وغيرهم .
وروى عبد الوهاب عن مجاهدٍ : « وهُمْ يستغْفِرُونَ » أي : وفي أصلابهم من يستغفر .
قوله تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله } الآية .
في « أن » وجهان :
أظهرهما : أنَّها مصدريةٌ ، وموضعها إما نصبٌ ، أو جرٌّ؛ لأنَّها على حذف حرف الجر ، إذ التقدير : في ألاَّ يُعذِّبهم ، وهذا الجارُّ متعلقٌ بما تعلَّ به : « لَهُمْ » من الاستقرار ، والتقديرُ : أيَّ شيءٍ استقر لهم في عدم تعذيبِ اللَّهِ ياهم؟ بمعنى : لا حظ لهم في انتفاء العذاب .
والثاني : أنَّها زائدةٌ وهو قول الأخفش .
قال النَّحَّاسُ « : لو كانت كما قال لرفع » يُعذِّبهم « . يعني النَّحاس : فكان ينبغي أن يرتفع الفعلُ على أنه واقعٌ موضع الحال ، كقوله : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله } [ المائدة : 84 ] ولكن لا يلزمُ من الزيادةِ عدمُ العمل ، ألا ترى : » أنَّ « مِنْ » و « الباء » يعملان وهما مزيدتان .
وقال أبُو البقاءِ : « وقيل هو حال ، وهو بعيدٌ ، لأنَّ » أنْ « تُخلِّص الفعل للاستقبال »
والظَّاهرُ أنَّ « ما » في قول « وَمَا لهُمْ » استفهامية ، وهو استفهامٌ معناه التقرير ، أي : كيف لا يُعذَّبُونَ وهم مُتَّصفون بهذه الحال؟ .
وقيل : « ما » نافية ، فهي إخبارٌ بذلك ، أي : ليس عدمُ التَّعذيب ، أي : لا ينتفي عنهم التعذيب مع تلبسهم بهذه الحال .
فصل
معنى الآية : وما يمنعهم من أن يعذبوا ، أي : بعد خروجك من بينهم : { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } أي : يمنعون المؤمنينَ من الطَّواف ، وقيل : أراد بالعذاب بالأوَّلِ عذاب الدُّنيا ، وبهذا عذاب الآخرة .

وقال الحسن : قوله { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ } [ الأنفال : 33 ] منسوخة بقوله { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله } [ الأنفال : 34 ] .
قوله { وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ } في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّها استئنافيةٌ ، والهاء تعود على المسجد أي : وما كانُوا أولياءَ المسجد .
والثاني : أنَّها نسقٌ على الجملة الحاليَّة قبلها وهي : « وهُم يَصُدُّونَ » والمعنى : كيف لا يُعذِّبهُم اللَّه ، وهم مُتَّصفون بهذين الوَصْفيْنِ : صدِّهم عن المسجد الحرام ، وانتفاءِ كونهم أولياءه؟ ويجوزُ أن يعود الضَّميرُ على الله تعالى ، أي : لم يكونوا أولياءَ الله .
فصل
قال الحسن : كان المشركون يقولون : نحن أولياء المسجد الحرام ، فردَّ الله عليهم بقوله : { وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ } أي : أولياء البيت : « إنْ أوْلياؤُهُ » أي : ليس أولياء البيت « إلاَّ المُتَّقُون » يعني المؤمنين الذين يتَّقُون الشرك ، ويحترزون عن المنكرات ، كالذي كانوا يفعلونه عند البيتن فلهذا قال بعده : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 5 ] ولكن أكثرهم لا يعلمون .

وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

لمَّا ذكر أنَّهم ليسُوا أولياء البيتِ الحرام بيَّن ههنا ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت ، وهو أنَّ صلاتهم عند البيت إنَّما كان بالمكاء والتَّصديةِ .
أي : ما كان شيءٌ ممَّا يعُدَّونه صلاةً وعبادةً إلا هذين الفعلينِ ، وهما المكاء والتصدية أي : إن كان لهم صلاةٌ فلا تكن إلاَّ هذين ، كقول الشَّاعر : [ الطويل ]
2700 - ومَا كُنْتُ أخْشَى أن يكثونَ عَطَاؤُهُ ... أدَاهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرَا
فأقام القيود ، والسِّياط مقام العطاء ، والمُكَاء : مصدر مَكَا يَمْكُوا ، أي : صفر بين أصابعه أو بين كفَّيه .
قال الأصمعي : قلت لمنتجع بن نبهان : ما تَمْكُوا فريصتُه؟ .
فشبَّك بين أصابعه ، وجعلها على فِيهِ ، ونفخ فيها . يريد قول عنترة : [ الكامل ]
2701 - وحَلِيْلِ غَانِيَةٍ تَركْتُ مُجَدَّلاً ... تَمْكُو فَريصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلمِ
يقال : مكت الفريصة ، أي : صَوَّتت بالدَّمِ ، ومكت استُ الدَّابة ، أي : نفخت بالرِّيحِ .
وقال مجاهدٌ : المُكاءٌ : صفيرٌ على لحنِ طائرٍ أبيض يكون بالحجاز؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
2702 - إذَا غرَّدَ المُكَّاءُ في غَيْرِ روْضَةٍ ... فَوَيلٌ لأهْلِ الشَّاءِ والحُمُراتِ
المُكَّاء : فُعَّال ، بناء مبالغةٍ؛ قال أبو عبيدة : « يقال : مَكَا يَمْكُوا مُكُوّاً ومُكَّاءً : صَفَرَ ، والمُكاء : بالضَّمِّ ، كالبُكاءِ والصُّراخ » .
قال الزمخشريُّ : « المُكاء » : فُعال ، بوزن : الثُّغَاء والرُّغَاء ، من مَكَا يَمْكُوا : إذا صَفَر والمُكاء : الصَّفيرُ « ومنه : المُكَّاء : وهو طائر يألف الرِّيف ، وجمعهُ المَكَاكِيُّ .
قيل : ولم يشذَّ من أسماء الأصوات بالكسر إلاَّ الغِنَاء ، والنِّداء . والتَّصدية فيها قولان :
أحدهما : أنها من الصَّدى ، وهو ما يُسْمع من رجع الصَّوْتِ في الأمكنة الخالية الصُّلبةِ يقال منه : صَدَى يصدي تصديةً ، والمراد بها هنا : ما يسمع من صوت التَّصفيق بإحدى اليدينِ على الأخرى .
وقيل : هي مأخوذةٌ من التَّصدد ، وهي الضَّجيجُ ، والصِّياحُ ، والتصفيق ، فأبدلت إحدى الدَّالين ياءً تخفيفاً ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } [ الزخرف : 57 ] في قراءة من كسر الصَّاد ، أي : يضجُّونَ ويلغطون ، وهذا قول أبي عبيدة ، وردَّه عليه أبو جعفر الرُّسْتمي ، وقال : إنَّما هو مِن الصَّدْي ، فكيف يُجعل من المضعَّف؟ وقد ردَّ أبو عليّ على أبي جعفر ردَّهُ وقال » قد ثبت أنَّ يصُدُّونَ من نحو الصَّوْتِ ، فأخذهُ منه ، وتصدية : تَفْعِلَة « ثم ذكر كلاماً كثيراً .
والثاني : أنَّها من الصَّدِّ ، وهو المنعُ؛ والأصل : تَصْدِدَة ، بدالين أيضاً ، فأبدلت ثانيتهما ياء ويُؤيِّدُ هذا قراءةُ من قرأ » يَصُدُّونَ « بالضَّمِّ ، أي : يمنعون . وقرأ العَامَّةُ : » صلاتُهُم « رفعاً ، » مُكَاءً « نَصْباً .
وأبان بن تغلب والأعمش وعاصم بخلاف عنهما : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ } نصباً ، » مُكَاءٌ « رفعاً وخطَّأ الفارسيُّ هذه القراءة ، وقال : لا يجوزُ أن يُخْبَر عن النَّكرةِ بالمعرفةِ إلاَّ في ضرورة؛ كقول حسَّانٍ : [ الوافر ]
2703 - كأنَّ سَبيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأسٍ ... يَكُونُ مزاجَهَا عسلٌ ومَاءُ

وخرَّجها أبو الفتحِ على أنَّ « المُكَاء » و « التصدية » اسما جنس ، يعني : أنَّهُمَا مصدران .
قال : واسم الجنْسٍ تعريفُه وتنكيرُهُ متقاربانِ ، فلمَ يقالُ بأيِّهمَا جعل اسماً ، والآخر خبراً؟ وهذا يقرُب من المعرَّف ب « أل » الجنسيَّة ، حيث وُصِفَ بالجملة ، كما يُوصَف به النكرة ، كقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] ؛ وقول الآخر : [ الكامل ]
2704 - ولقد أمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ « لا يَعْنِينِي
وقال بعضهم : وقد قرأ أبو عمرو : » إلاَّ مُكاً « بالقصرِ والتنوين ، وهذا كما قالوه : بُكاءً ، وبُكّى . بالمدِّ والقصر .
وقد جمع الشَّاعر بين اللغتين ، فقال : [ الوافر ]
2705 - بَكَتْ عَيْنِي وحُقَّ لها بُكَاهَا ... ومَا يُغْنِي البُكَاءُ ولا العَوِيلُ
فصل
قال ابن عبَّاسٍ » كانت قريش يطوفون بالبيت عُراة ، يُصفرون ويصفِّقُون « .
وقال مجاهدٌ : » كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطّواف ويتسهزئون به ويصفِّرون ، ويصفِّقُونَ ، ويخلطون عليه طوافه وصلاته « .
وقال مقاتلٌ : » كان النبي صلى الله عليه وسلم إذَا صلَّى في المسجد الحرام ، قام رجلان عن يمينه ، ورجلان عن يساره يصفقون ليخلطوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم صلاته ، وهم من بني عبد الدَّارِ « .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : » التصديةُ : صدهم المؤمنين عن المسجد الحرامِ ، وعلى هذا ف « التَّصددةُ » بدالين ، كما يقال : تظننت من الظن « .
فعلى قول ابن عباسٍ كان المكاءُ والتصديةُ نوع عبادة لهم ، وعلى قول مجاهد ومقالت : كان إيذاءاً للنبي صلى الله عليه وسلم . والأول أقرب ، لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } .
فإن قيل : » المُكَاءُ « و » التَّصديةُ « ليسا من جنس الصَّلاة ، فكيف يجوزُ استثناؤهما من الصَّلاة؟ فالجوابُ : من وجوه ، أحدها : أنهم كانوا يعتقدون أنَّ المكاء والتصدية من جنس الصَّلاة ، فحسن الاستثناء على حسب معقتدهم .
قال ابنُ الأنباري : » إنَّما سمَّاه صلاة؛ لأنَّهُمْ أمروا بالصَّلاةِ في المسجدِ؛ فجعلوا ذلك صلاتهم « .
وثانيها : أنَّ هذا كقولك : زرتُ الأمير؛ فجعل جفائي صلتي ، أي : أقام الجفاء مقام الصلة ، كذا ههنا .
وثالثها : الغرضُ منه أن من كان المكاء والتَّصدية صلاته فلا صلاة له ، كقول العربِ : ما لفلان عيب إلاَّ السخاء ، أي : مَنْ كان السخاء عيبه فلا عَيْبَ فيه .
ثم قال تعالى { فَذُوقُواْ العذاب } أي : عذاب السيف يوم بدر ، وقيل : يقال لهم في الآخرة { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } الآية .
لمَّا شرح أحوال الكفَّار في طاعاتهم البدنية ، أتبعها بشرح أحوالهم في الطَّاعات الماليَّةِ .
قال مقاتل والكلبيُّ : نزلت في المُطعمين يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلاً من كبار قريش ، كان يطعم كلُّ واحد منهم يوم عشر جزر .
وقال سعيدُ بن جبيرٍ : نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد يوم أحد ، وكان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العربِ ، وأنفق عليهم أربعين أوقية ، والأوقية : اثنان وأربعون مثقالا ، هكذا قاله الزمخشريُّ . ثُم بيَّن تعالى أنهم إنَّما ينفقون المال : { لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي : غرضهم من الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله ، وإن لم يكن عندهم كذلك .
قال : { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } أي : أنَّ هذا الإنفاق يكون عاقبته حسرة؛ لأنَّهُ يذهب المال ولا يحصل المقصودُ ، بل يغلبون في آخر الأمر . { والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } وإنَّما خصَّ الكفار ، لأن فيهم من أسلم .
قوله { لِيَمِيزَ الله الخبيث } قد تقدَّم الكلامُ فيه في آل عمران : [ 179 ] . والمعنى : ليميزَ اللَّهُ الفريق الخبيث من الكُفَّارِ من الفريق الطَّيب من المؤمنين ، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً ، أي : يجمعهم ويضمُّهم حتَّى يتراكموا .
« أولَئِكَ » إشارةً إلى الفريق الخبيثِ ، وقيل : المرادُ في جهاد الكفار ، كإنفاقِ أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فيضم تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنَّم ، ويعذبهم بها ، كقوله تعالى : { فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } [ التوبة : 35 ] فاللاَّمُ في قوله { لِيَمِيزَ الله الخبيث } على القول الأوَّلِ متعلقة بقوله تعالى : { يُحْشَرُونَ } أي : يحشرون ليميز اللَّهُ الفريق الخبيث من الفريق الطيب ، وعلى القول الثاني متعلقة بقوله : { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } و « يَجْعَلَ » يحتمل أن تكون تصييريةً ، فتنصبَ مفعولين ، وأن تكون بمعنى الإلقاء ، فتتعدَّى لواحد ، وعلى كلا التقديرين ف « بَعْضَهُ » بدل بعضٍ من كل ، وعلى القول الأوَّلِ يكون « عَلَى بعضٍ » في موضع المفعول الثَّاني ، وعلى الثَّاني يكون متعلقاً بنفس الجَعْل ، نحو قولك : ألقَيْتَ متاعك بعضه على بعض .
وقال أبُو البقاءِ ، بعد أن حكم عليها بأنَّها تتعدَّى لواحدٍ :
« وقيل : الجار والمجرور حالٌ تقديره : ويجعل الخبيث بعضه عالياً على بعض؟ .
ويقال : مَيَّزْتُه فتمَيَّزَ ، ومزْنُه فانمازَ ، وقرىء شاذاً : { وامتازوا اليوم } [ يس : 59 ] ؛ وأنشد أبو زيدٍ : [ البسيط ]
2706 - لمَّا نَبضا اللَّهُ عَنِّي شرَّ غُدْرَتِهِ ... وانْمَزْتُ لا مُنْسِئاً ذُعْراً ولا وَجِلا
وقد تقدَّم الفرق بين هذه الألفاظ في آل عمران [ 179 ] .
قوله » فَيَرْكُمَهُ « نسقٌ على المنصوبِ قبله ، والرَّكْمُ جمعك الشَّيء فوق الشيء ، حتى يصير رُكَاماً مركوماً كما يُركم الرمل والسحاب ، ومنه : { سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] والمُرْتَكَم : جَادَّة الطريق للرَّكْم الذي فيه أي : ازدحام السَّبابلة وآثارهم ، و » جَمِيعاً « حالٌ ، ويجوزُ أن يكون توكيداً عند بعضهم ثم قال تعالى : { أولئك هُمُ الخاسرون } إشارة إلى الذين كفرُوا .

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)

قوله تعالى { قُل لِلَّذِينَ كفروا } الآية .
فصل
لمَّا بينَّ ضلالهُم في عباداتهم البدنية ، والمالية ، أرشدهم إلى طريق الصَّواب ، وقال : { قُل لِلَّذِينَ كفروا } . وفي هذه اللاَّم الوجهان المشهوران :
الأول : أنَّها للتبليغ ، أمر أن يُبلِّعَهُم معنى هذه الجملة المحكيةِ بالقول ، وسواء اوردها بهذا اللفظ أم بلفظٍ آخرَ مؤدٍّ لمعناها .
والثاني : أنها للتعليل ، وبه قال الزمخشريُّ . ومنع أن تكون للتبليغ ، فقال : « أي قل لأجلهم هذا القول : » إن ينتَهُوا « ن ولو كان بمعنى خاطبهم به ، لقيل : إن تَنْتَهُوا يغفر لكم وهي قراءةُ ابن مسعود ، ونحو { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ } [ الأحقاف : 11 ] خاطبوا به غيرهم لِيسمْعَوهُ » وقرىء « يَغْفره » مبنياً للفاعل ، وهو ضمير يعود على الله تعالى .
فصل
المعنى : قُل للَّذين كفرُوا إن ينتهوا عن الكُفْر وعداوة الرَّسُولِ ويسلموا { يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } من كفرهم وعداوتهم للرَّسُولِ ، وإن عَادُوا إليه ، وأصَرُّوا عليه : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ } في نُصرةِ الله أنبياءه ، أولياءه ، وإهلاك أعداءه؛ فليتوقَّعُوا مثل ذلك .
وقال يحيى بنُ معاذ الرازي : توحيد ساعة لم يعجز عن هدم ما قبله من كُفْرٍ ، وأرجو ألاَّ يعجز عن هدم ما بعده من ذنب .
واستدلُّوا بهذه الآية على صحَّة توبة الزِّنديقِ ، وأنها تقبل ، واستدلوا بها أيضاً على أنَّ الكفَّار ليسوا مخاطبين بالفروع؛ لأنَّها لا تصح منهم في حال الكفر ، وبعد الإسلام لا يلزم قضاؤها .
واحتجُّوا بها أيضاً على أنَّ المرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء العبادات الَّتي تركها في حال الردَّةِ .
قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } الآية .
لمَّا بينَّ أن الكفار إن انتهوا عن الكفر غفر لهم ، وإن عادوا فهم متوعدون ، أتبعه بأن أمر بقتالهم ذا أصروا ، فقال : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } .
وقال عروة بن الزبير : « كان المؤمنون يفتنون عن دين اللَّهِ في مبدأ الدَّعْوَة ، فافتتن بعض المسلمين ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشةِ ، وفتنة ثانية وهي أنه لمَّا بايعت الأنصارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة ، أرادت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكَّة عن دينهم؛ فأصاب المؤمنين جهدٌ شديدق ، فهذا هو المراد من الفتنةِ؛ فأمر اللَّهُ بقتالهم حتَّى تزول هذه الفتنة » .
قال المفسِّرُون : { حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : شِرْك .
وقال الربيعُ : « حتَّى لا يفتن مؤمن عن دينه » .
قال القاضي « إنه تعالى أمر بقتالهم ، ثم بيَّن له قتالهم ، فقال : { حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ويخلص الدِّين الذي هو دينُ الله من سائر الأديانِ ، وإنَّما يحصل هذا المقصود إذا زال الكفر بالكليَّة » ، « ويكون » العامَّةُ على نصبه ، نسقاً على المنصُوبِ مرفوعاً على الاستئناف .

قوله « فإن انتهَواْ » عن الكُفْرِ والمعاصي ، بالتَّوبة والإيمان ، فإنَّ اللَّه عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم .
قرأ الحسنُ ويعقوبُ وسليمانُ بن سلام : « بما تَعْمَلُون » بتاء الخطابِ؛ « وإن تولَّوْا » أي : عن التوبة والإيمان ، { فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ } أي : وليكم وهو يحفظكم ، ويدفع البلاء « عَنْكُم » .
وفي « مَولاكُمُ » وجهان :
أظهرهما : أنَّ « مَولاكُم » هو الخبر ، و « نِعْمَ المَوْلَى » جملةٌ مستقلةٌ سيقت للمدح .
والثاني : أن يكون بدلاً من « اللَّه » والجملةُ المدحيَّةُ خبر ل « أنَّ » والمخصوصُ بالمدح محذوف ، أي : نِعْمَ المولى اللَّهُ ، أو ربُّكُم . وكلُّ ما كان من حماية هذا المولى ، ومن كان في حفظه ، كان آمناً من الآفات مصوناً عن المخوفات .

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

قوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } الآية .
لمَّا أمر بقتال الكفار بقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ } وعند المقاتلة قد تحصل الغنيمة ، ذكر تعالى حكم الغنيمة ، والظَّاهرُ أنَّ « ما » هذه موصولةٌ بمعنى « الَّذي » ، وكان من حقِّها أن تكتب منفصلةً من « أنَّ » كما كُتبت : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } [ الأنعام : 134 ] منفصلةً ، ولكن كذا رُسِمَت . و « غَنِمْتُم » صلتها ، وعائدها محذوف لاستكمال الشُّروطِ ، أي : غَنِمْتُمُوه .
وقوله « فأنَّ لِلَّهِ » الفاءُ مزيدةٌ في الخبر؛ لأنَّ المبتدأ ضُمِّن معنى الشَّرطِ ، ولا يَضُرُّ دخولُ الناسخ عليه؛ لأنه لَمْ يُغَيِّر معناه ، وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } ثم قال : « فَلَهُم » والأخفش مع تجويزه زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً ، يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشَّرط إذا دخلت عليه « إنَّ » المكسورة ، وآية البروج [ 10 ] حُجَّةٌ عليه .
وإذا تقرَّر هذا ف « أنَّ » وما علمتْ فيه في محلِّ رفع على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : فواجبٌ أنَّ لله خمسهُ ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبر خبر ل « أنَّ » .
وظاهر كلام أبي حيان أنه جعل الفاء داخلةً على : « أنَّ للَّهِ خُمُسَهُ » من غير أن يكون مبتدأ وخبرها محذوف ، بل جعلها بنفسها خبراً ، وليس مرادهُ ذلك ، غذ لا تدخل هذه الفاءُ على مفردٍ ، بل على جملةٍ ، والذي يُقَوِّي إرادته ما ذكرنا أنه حكى قول الزمخشريِّ ، أعني كونه قدَّر أنَّ « أنَّ » ، وما في حيِّزها مبتدأٌ ، محذوفُ الخبر ، فجعلهُ قولاً زائداً على ما قدَّمه .
ويجوز في « ما » أن تكون شرطيةً ، وعاملُها « غَنِمْتُم » بعدها ، واسمُ « أنَّ » حينئذٍ ضميرُ المرِ والشَّأنِ وهو مذهبُ الفرَّاءِ ، إلاَّ أنَّ هذا لا يجوزُ عند البصريين إلاَّ ضرورةً ، بشرط ألاَّ يليها فعل؛ كقوله : [ الخفيف ]
2707 - إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكَنِيسَة يَوْماً ... يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وظِبَاءَ
وقول الآخَرِ : [ الخفيف ]
2708 - إنَّ مَنْ لامَ بَنِي بنتِ حَسَّا ... نَ ألُمْهُ وأعُصِهِ في الخُطُوبِ
وقيل : الفاءُ زائدةٌ ، و « أنَّ » الثانيةُ بدلٌ من الأولى .
وقال مكي : « وقد قيل » إنَّ الثانية مؤكدةٌ للأولى ، وهذا لا يجوز لأنَّ الولى تبقى بغير خبر؛ ولأنَّ الفاء تحول بين المؤكَّد والمؤكِّد وزيادتها لا تَحْسُن في مثل هذا « .
وقيل : » ما « مصدريَّةٌ ، والمصدر بمعنى المفعول أي : أنَّ مغنومكم هو المفعول به ، أي : واعلموا أنَّ غُنمكم ، أي : مغنومكم .
والغنيمةُ : أصلها من الغُنْمِ ، وهو الفوزُ ، يقال : غنم يغنم فهو غانم ، وأصلُ ذلك من الغنم هذا الحيوان المعروف ، فإنَّ الظفر به يُسَمَّ غُنْماً ، ثم اتُّسِع في ذلك ، فَسُمِّي كلُّ شيء مظفورٍ به غُنْماً ومَغْنَماً وغَنيمة؛ قال علقمةُ بنُ عبدةَ : [ البسيط ]

2709 - ومُطْعَمُ الغُنْمِ يَوْمَ الغُنْمِ مُطعمُهُ ... أنَّى توَجَّهَ والمَحْرُومُ مَحْرُومُ
وقال الآخر : [ الوافر ]
2710 - لَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى ... رَضيتُ من الغنيمة بالإياب
قوله « مِنْ شيءٍ » في محلِّ نصبٍ على الحال من عائد الموصول المقدَّر ، والمعنى : ما غنمتموه كائناً من شيء ، أي : قليلاً أو كثيراً . وحكى ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم . وحكى غيره عن الجعفيِّ عن هارون عن أبي عمرو : « فإنَّ لِلَّهِ » بكسر الهمزةِ ، ويُؤيدُ هذه القراءة قراءة النخعي « فللَّه خُمُسهُ » فإنها استئناف ، وخرجها أبُو البقاءِ على أنَّها وما في حيَّزها في محلِّ رفع ، خبراً ل « أنَّ » الأولى .
وقرأ الحسنُ وعبدُ الوارث عن أبي عمرو : « خُمْسَهُ » بسكون الميم ، وهو تخفيفٌ حسن .
وقرأ الجعفيُّ « خِمْسه » بكسر الخاء . قالوا : وتخريجها على أنَّهُ أتبعَ الخاءَ لحركة ما قبلها ، وهي هاء الجلالة من كلمة أخرى مستقلة ، قالوا : وهي كقراءة من قرأ { والسمآء ذَاتِ الحبك } [ الذاريات : 7 ] بكسر الحاء إتباعاً لكسرة التاء من « ذاتِ » ولمْ يعتدُّوا بالساكن ، وهو لامُ التعريف ، لأنه حاجزٌ غير حصين .
قال شهاب الدين « ليت شعري ، وكيف يقرأ الجعفيُّ والحالةُ هذه؟ فإنه إن قرأ كذلك مع ضم الميم فيكون في غاية الثقل ، لخروجه من كسرٍ إلى ضمٍّ ، وإن قرأ بسكونها وهو الظَّاهرُ فإنه نقلها قراءةً عن أبي عمرو ، أو عن عاصم ، ولكن الذي قرأ : » ذاتِ الحِبُكِ « يبقى ضمَّه الباء ، فيؤدي إلى » فِعُل « بكسر الفاء وضمِّ العين ، وهو بناءٌ مرفوض » .
وإنما قلت : إنه يقرأ كذلك؛ لأنه لو قرأ بكسر التاء لما احتاجوا إلى تأويل قراءته على الإتباع؛ لأن في « الحُبُك » لغتين : ضمُّ الحاءِ والباءِ ، وكسرهما ، حتَّى زعم بعضهم أنَّ قراءة الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ من التَّداخل .
فصل
والغنيمةُ في الشريعةِ ، والفيء ، اسمان لما يُصيبه المسلمون من أموال الكفار .
فذهب جماعة إلى أنهما واحد ، وذهب قومُ إلى أنَّ الغنيمة ، ما أصابه المسلمُونَ منهم عَنْوَةً بقتال ، والفيء : ما كان من صلح بغير قتال .
قوله « مِن شيءٍ » يعني : من أي شيء كان حتَّى الخيط : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } ذهب أكثر المفسِّرين والفقهاء إلى أنَّ قوله : « لِلَّه » افتتاح على سبيل التبرُّك ، وأضاف هذا المال لنفسه لشرفه . وليس المراد أن سهماً من الغنيمة « لِلَّهِ » مفرداً ، فإن الدنيا والآخرة لله عز وجل وهو قول قتادة والحسن وعطاء وإبراهيم والشعبي قالوا : سهم الله وسهم الرسول واحد والغنيمة تقسم خمسة أخماس أربعة أخماسها لِمنْ قاتل عليها ، والخُمْسُ لخمسة أصناف كما ذكر الله تعالى { وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } .

وقال أبو العالية ، وغيرهك يقسم الخُمْس على ستة أسهم : سهم لله تعالى ، ثم القائلون بهذا القول منهم من قال : يُصرف سهم الله إلى الرسول ، ومنهم من قال : يصرفُ لعمارة الكعبة .
وقال بعضهم : إنه عليه الصلاة والسلام كان يضربُ بيده في هذا الخُمْس فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة ، وهو الذي سُمِّي « لِلَّهِ » .
فصل
قل القرطبي « هذه الآية ناسخة لأول السُّورة عند الجمهور ، وقد ادَّعى ابن عبد البر : الإجماع على أن هذه الآي نزلت بعد قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } [ الأنفال : 1 ] وأنَّ أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين ، وأن قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر ، على ما تقدم .
وقيل : إنها مُحكمة غير منسوخة ، وأنَّ الغنيمة لرسُولِ الله ، وليست مقسومة بين الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة ، حكاه الماورديُّ عن كثير من أصحاب مالكٍ ، واحتجوا بفتح مكَّة وقصَّة حنين ، وكان أبو عبيد يقول : افْتَتَحَ رسولُ الله مكَّة عنوةً ومنَّ على أهلها ، فردها عليهم ، ولم يَقْسِمها ، ولم يجعلها فَيْئاً » .
فصل
أجمع العلماءُ على أن قولهُ : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } ليس على عمومه ، وأنَّهُ مخصوصٌ باتفاقهم على أنَّ سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمامُ ، وكذلك الأسارى الإمام فيهم مخيَّرٌ ، وكذلك الأراضي المغنومة .
فصل
قال الإمامُ أحمدُ : لا يكون السَّلب للقاتل إلاَّ في المبارزة خاصَّة ، ولا يخمس وهو قول الشافعيِّ - رضي الله عنه-؛ ولا يعطى القاتل السَّلب ، إلاَّ أن يقيم البيَّنة على قتله .
قال أكثرُ العلماء : يجوزُ شاهد واحد؛ لحديث أبي قتادة ، وقيل : شاهدان .
وقيل : شاهد ويمين ، وقيل : يقضى بمجرد دعواه .
قوله : « ولِذِي القُرْبَى » أي : أنَّ سَهْماً من خمس الخمس لذوي القربى ، وهم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلفوا فيهم .
فقال قومٌ : هم جميع قريش ، وقال قومٌ : هم الذين لا تحل لهم الصَّدقة .
وقال مجاهدٌ وعلي بنُ الحسينِ : هم بنُو هاشمٍ وبنو المطلب ، وليس لبني عبد شمس ، ولا لبني نوفل منه شيء ، وإن كانوا إخوة ، لما روي عن جُبير بن مطعم قال « قسَّم رسولُ الله - عليه الصَّلاة والسَّلام - سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ولم يعط أحداً من بني عبد شمس ، ولا لبني نوفل؛ ولما روى محمدُ بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : لمَّا قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشمٍ وبني المطلب أتيته أنا ، وعثمان بنُ عفان ، فقلنا يا رسُول الله : هؤلاء إخواننا من بني المُطلَّلِبِ أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا ، وإنَّما قرابتنا وقرابتهم واحدةً ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : » إنَّما بنُو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحدٌ هكذا « وشبَّك بين أصابعه »

واختلف العلماءُ في سهم ذوي القربى ، هل هو ثابتٌ اليوم؟ فذهب أكثرهم إلى أنَّهُ ثابت وهو قول مالك والشافعي ، وذهب أصحابُ الرَّأي إلى أنَّهُ غير ثابت ، وقالوا سهم رسول الله وسهم ذوي القرى مَرْدُودان في الخُمس ، فيقسم خمس الغنيمة لثلاثةِ أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل .
وقال بعضهم : يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء ، أي : يعطى لفقره لا لقرابته ، والكتاب والسنة يدلاَّن على ثبوته وكذا الخلفاء بعد رسُول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه ، ولا يُفَضل فقير على غني؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله ، وألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة ، غير أنه يعطى القريب والبعيد .
وقال : يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين ، والأنثى سهماً .
قال القرطبي : « ليست اللاَّم في » لِذِي القُرْبَى « لبيان الاستحقاق والملك ، وإنّضما هي للمصرف والمحل » .
قوله : { واليتامى والمساكين وابن السبيل } اليتامى : جمع « يَتيمٍ وهو الصغير المسلم الذي لا أب له إذا كان فقيراً ، و » المَسَاكِين « هم أهْلُ الفاقة والحاجة من المسلمين ، و » ابْنِ السَّبيلِ « هو المسافر البعيد عن مالهِ ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدُوا الوقعة ، للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه ، وللرَّاجل سهمح لما روى ابنُ عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم » أسْهَمَ لرجلٍ ولفرسه ثلاثة أسهم سَهْماً له وسهمين لفرسه «
وهذا قولُ أكثر أهل العلم ، وإليه ذهب الثوريُّ ، والأوزاعيُّ وابن المبارك والشافعيُّ واحمد وإسحاق .
وقال أبو حنيفة : للفارس سهمان وللرَّاجلِ سهم ، ويرضخ للعبيد ، والنسوان ، والصبيان إذا حضروا القتال .
قال القرطبيُّ : » إذا خرج العبدُ ، وأهلُ الذِّمة وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس « لأنه لم يوجب عليهم خيل ولا ركاب .
ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقولِ ، وعند أبي حنيفة يتخيَّرُ الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم وبين أن يجعله وقْفاً على المصالح .
وظاهر الآية لا يفرق بين العقار والمنقول ، ومن قتل مُشركاً استحقَّ سلبه من رأس الغنيمة لما روي عن أبي قتادة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : » من قَتل قتيلاً له عليه بيِّنة فله سلبه «
والسَّلبُ : كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح وفرسه الذي يركبه .
ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة لزيادة عناءٍ وبلاء يكون منهم في الحرب يخُصُّهم به من بين سائر الجيش ، ويجعلهم أسوة الجماعة في سائر الغنيمة ، لما روى ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم » كان يُنفِّلُ بعض من يبعث من السَّرايا لأنفسهم خاصة سوى عامة الجيش «

وروى حبيب بن مسلمة الفهري قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم « نَفَّلَ الرُّبعَ في البَدْأة والثُّلثَ في الرَّجْعَةِ »
واختلف في النفل من أين يعطى؟ .
فقال قوم : يعطى من خمس الخمس من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي ، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : « مَا لي مِمَّا أفاء الله عليكم إلا الخمس والخُمسُ مردودٌ فيكم »
وقال قومٌ : هو من الأربعة أخماس بعد إفراد الخمس كسهام الغزاة وهو قول أحمد وإسحاق .
وذهب بعضهم إلى أنَّ النَّفْلَ من رأس الغنيمةِ قبل التخميس كالسّلب للقاتل .
فصل
دلَّت هذه الآية على جوازِ قسمة الغنيمة في دار الحربِ ، لقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية . فاقتضى ثبوت الملك لهؤلاء في الغنيمة وإذا ثبت لهم الملك وجب جواز القسمة .
وروى الزمخشريُّ عن الكلبيِّ : « أنَّ هذه الآية نزلت ببدرٍ » .
وقال الواقديُّ « كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة » .
فصل
قال القرطبيُّ : « لمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى حكم الخمس وسكت عن الأربعة أخماس دل على أنها ملك للغانمين . وملك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، إلاَّ أن الإمام مخير في الأسرى بين المن بالأمان كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بثمامة بن أثال ، وبين القتل كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي مُعيط من بين الأسرى صبراً ، وقتل ابن الحرث صبراً ، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم الغانمين حضر أو غاب ، وسهم الصفيّ يصطفي سيفاً أو خادماً أو دابة ، وكانت صَفية بنت حُيَيّ من الصَّفيِّ من غنائم خيبر ، وكذلك ذو الفقار كان منه ، وقد انقطع إلا عند أبي ثور فإنه رآه باقياً للإمام يجعله حيث شاء [ وكان أهل الجاهلية ] يرون للرئيس ربع الغنيمة قال شاعرهم : [ الوافر ]
2710 - لكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفايَا ... وحُكْمُكَ والنَّشيطةُ والفُضُول
يقال ربع الجيش يربعه : إذا أخذ ربع الغنيمة . قال الأصمعي : ربع في الجاهلية وخمّس في الإسلام ، فكان يأخذ منها ثم يتحكم بعد الصَّفيِّ في أي شيء أراد ، وكان ما فضل منها من خرثيّ ومتاع له ، فأحكم الله تعالى الدين بقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } فأبقى سهم الصَّفيِّ لنبيّه وأسقط حكم الجاهلية .
قوله : » إن كُنتُم « شرطٌ ، جوابه مقدرٌ عند الجمهور ، لا متقدم ، أي : إن كنتم آمنتتم فاعلموا أنَّ حكم الخمس ما تقدَّم ، أو : فاقبلوا ما أمرتم به .
والمعنى : واعلمُوا أنَّما غَنِمْتُم من شيءٍ فانَّ للَّهِ خُمُسَه وللرَّسُولِ يأمر فيه ما يريد ، فاقبلوه إن كنتم آمنتم باللَّهِ ، وبالمنزل على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ، وهو قوله :

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } [ الأنفال : 1 ] لمَّا نزلت في يوم بدر ، وهو يوم الفرقان فرق اللَّهِ فيه بين الحقِّ والباطل ، وهو يوم التقى الجمعان ، حزب الله وحزب الشيطان ، وكان يوم الجمعة سبع عشر مضت من رمضان .
وقوله « ومَا أنزلْنَا » عطفٌ على الجلالة ، فهي مجرورةُ المحلِّ ، وعائدُها محذوف ، وزعم بعضهم أنَّ جواب الشَّرطِ متقدم عليه ، وهو قوله ف { نِعْمَ المولى } [ الأنفال : 40 ] . وهذا لا يجوز على قواعد البصريين .
قوله : « يَوْمَ الفُرقِانِ » يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكُون منصوباً ب « أنزَلْنَا » أي : أنزلْنَاهُ في يوم بدر ، الذي فُرِقَ فيه بين الحق والباطل .
الثاني : أن ينتصبَ بقوله « آمنتُم » أي : إن كنتم آمنتم في يوم الفرقانِ ، ذكره أبُو البقاءِ .
الثالث : يجوزُ أن يكون منصوباً ب « غَنِمْتُم » .
قال الزَّجَّاجُ : أي : ما غنمتم في يومِ الفرقان فحكمه كذا وكذا .
قال ابن عطية : « وهذا تأويلٌ حسنٌ في المعنى ، ويعترضه أنَّ فيه الفصل بين الظرف وما يعمل فيه بهذه الجملةِ الكثيرةِ الألفاظِ » ، وهو ممنوعٌ أيضاً من جهةٍ أخرى أخصّ من هذه . وذلك أنَّ « ما » إمَّا شرطية ، كما هو رأي الفرَّاءِ ، وإمَّا موصولة ، فعلى الأوَّل يُؤدِّي إلى الفصل بين فعل الشَّرط ، ومعموله بجملة الجزاء ، ومتعلَّقاتها ، وعلى الثَّاني يُؤدِّي إلى الفصلِ بين فعل الصلة ومعموله بخبر « أنَّ » .
قوله { يَوْمَ التقى الجمعان } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ بدل من الظرف قبله .
والثاني : أنه منصوب ب « الفرقان » ؛ لأنَّه مصدرٌ ، فكأنه قيل : يوم فرق فيه في يوم التقى الجمعان أي : الفرق في يوم التقاء الجمعين .
وقرأ زيد بن علي : « عَلَى عُبُدنَا » بضمتين ، وهو جمع « عَبْد » وهذا كما قد قرىء { وَعَبَدَ الطاغوت } [ المائدة : 60 ] ، والمراد بالعُبُد في هذه القراءة هنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين ، والمراد ب « مَا أنزلْنَا » أي : الآيات والملائكة ، والفتح في ذلك اليوم . { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : يقدر على نصركم وأنتم قليلون .
قوله « إذْ أنتُم » في هذا الظَّرف أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ ب « اذكُرُوا » مُقدراً ، وهو قول الزَّجَّاجِ .
الثاني : أنَّهُ بدلٌ من « يَوْمَ الفرقانِ » أيضاً .
الثالث : أنه منصوب ب « قديرٌ » وهذا ليس بواضحٍ؛ إذ لا يتقيَّ اتِّصافه بالقدرة بظرفٍ من الظُّروف .
الرابع : أنه منصوبٌ ب « الفُرْقَانِ » أي : فرق بين الحقِّ والباطل إذْ أنتم بالعُدَّوَةِ .
قوله : « بالعُدْوَةِ » متعلقٌ بمحذوف؛ لأنَّهُ خبر المبتدأ ، والباء بمعنى : طفي كقولك : زيد بمكة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « بالعِدْوَةِ » بكسر العينِ فيهما ، والباقون بالضم فيهما وهما لغتان في شطِّ الوادي وشفيره وضِفَّته ، كالكُسْوة والكِسْوة ، والرُّشوة والرِّشوة ، سُمِّيت بذلك لأنَّها عدتْ ما في الوادي من ماءٍ ونحوه أن يتجاوزها ، أي : منعته؛ قال الشَّاعرُ : [ الوافر ]

2711 - عَدَتْنِي عَنْ زيارتها العَوَادِي ... وحَالَتْ دُونهَا حَرْبٌ زُبُونُ
وقرأ الحسنُ وزيد بن علي ، وقتادة وعمرو بن عبيد بالفتح ، وهي كلها لغاتٌ بمعنى واحد .
هذا هو قولُ جمهور اللغويين ، على أنَّ أبا عمرو بن العلاء أنكر الضمَّ ، ووافقه الأخفش ، فقال : « لَمْ يُسْمَعْ من العرب إلاَّ الكسرُ » . ونقل أبو عبيد اللغتين ، إلاَّ أنه قال : الضَّمُّ أكثرهما ، وقال اليزيديُّ : « الكسر لغةُ الحجازِ » ؛ وأنشدوا قول أوس بن حجرٍ : [ البسيط ]
2712 - وفَارسٍ لمْ يَحُلَّ القومُ عُدْوتَهُ ... ولَّوْا سِرَاعاً ومَا هَمُّوا بإقْبَالِ
بالكسر ، والضم . وهذا هو الذي ينبغي أن يقال ، فلا وجهَ لإنكار الضَّمِّ ، ولا الكسْرِ ، لتواتر كلٍّ منهما ، ويحمل قول أبي عمرو على أنَّهُ لم يبلُغْه ، ويحتمل أن يقال في قراءةِ من قرأ بفتح العين أن يكون مصدراً سُمِّي به المكان .
وقُرىء شاذّاً « بالعِدْيَة » بقلب الواو ياءً لانكسار ما تقدَّمها ، ولا يُعتبر الفاصلُ؛ لأنَّه ساكن ، فهو حاجز غير حصين ، وهذا كما قالوا : « هو ابن عمي دِنيا » بكسر الدَّال ، وهو من الدنو ، وكذلك : قِنْيَة ، وصِبْيَة ، وأصله السَّلامة ، كالذِّرْوَة ، والصِّفْوة والرِّبُوَة ، وقد تقدَّم الكلام على لفظ « الدُّنْيَا » .
قول « القُصْوَى » تأنيث « الأقصى » ، والأقصى : الأبعد ، والقَصْوُ : البعد وللصَّرفيين عبارتان ، إلبهما أن « فُعْلَى » من ذوات الواو ، إن كانت اسماً أبدلَتْ لامُها ياءً ، ثم يُمَثِّلُون بنحو : الدُّنْيَا ، والعُلْيَا ، والقُصْيَا ، وهذه صفاتٌح لأنَّها من باب أفعل التَّفضيل ، وكأنَّ العذر لهم أنَّ هذه وإن كانت في الأصْلِ صفاتٍ ، إلاَّ أنَّها جرتْ مجرى الجوامد .
قالوا : وإنْ كانت « فُعْلَى » صفةً أقرَّتْ لامُها على حالها ، نحو : الحُلْوى ، تأنيث الأحلى ونصُّوا على أن « القُصْوَى » شاذة ، وإن كانت لغة الحجاز ، وأنَّ « القُصْيَا » قياسٌ وهي لغة تميم ، وممَّنْ نصَّ على شذوذ : « القُصْوَى » يعقوب بن السِّكِّيت .
وقال الزمخشريُّ : وأمَّا « القُصْوَى » فكالقَوَد في مجيئه على الأصل ، وقد جاء « القُصْيَا » إلاَّ أنَّ استعمال « القُصوى » أكثر ، كما كثر استعمال « استصوب » مع مجيء « استَصَابَ » ، و « أغيَلت » مع « أغَالَتْ » انتهى .
وقد قرأ زيد بن عليٍّ : « بالعُدْوةِ القُصْيَا » فجاء بها على لغة تميم ، وهي القياسُ عند هؤلاء .
والعبارة الثانية - وهي القليلةُ - العكس ، أي : إن كانت صفةً أبدلتْ ، نحو : العُلْيَا والدُّنيا ، والقُصْيا ، وإن كانت اسماً أقرَّتْ؛ نحو « حُزْوَى » ؛ كقوله : [ الطويل ]
2713 - أدَاراً بِحُزْوَى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً ... فَمَاءُ الهَوَى يرفَضُّ ، أو يَتَرقْرَقُ

وعلى هذا ف « الحُلْوَى » شاذة؛ لإقرار لامها مع كونها صفة ، وكذا « القُصْوَى » أيضاً ، عند هؤلاء؛ لأنها صفة وقد ترتَّب على هاتين العبارتين أنَّ « قُصْوَى » على خلافِ القياس فيهما وأن « قًصْيَا » هي القياس؛ لأنها عند الأولين من قبيل الأسماء ، وهم يقلبونها ياء وعند الآخرين من قبيل الصفات ، وهم يقلبونها أيضاً ياءً ، وإنَّما يظهر الفرقُ في « الحُلْوى » و « حُزْوَى » ف : « الحُلْوَى » عند الأولين تصحيحها قياسٌ ، لكونها صفةً ، وشاذة عند الآخرين ، لأنَّ الصفةَ عندهم تُقْلبُ واوُها ياءً . و « الحُزْوَى » عكسُها ، فإنَّ الأولين يقلبُون في الأسماء ، دون الصفات ، والآخرون عكسُهم . وهذا موضعٌ حسنٌ ، يختلط على كثير من النَّاس ، فلذلك شرحناه .
ونعني بالشذوذِ : شذوذ القياس ، لا شذوذ الاستعمال ، ألا ترى إلى استعمال التواتر ب « القُصْوَى » .
قوله { والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ } الأحسنُ في هذا الواو ، والواو التي قبلها الداخلة على « هم » : أن تكون عاطفة ما بعدها على « أنتُم » ؛ لأنَّها مبدَأ تقسيم أحوالهم ، وأحوال عدوِّهم ويجوزُ أن يكونا وَاوَي حال ، و « أسْفَلَ » منصوبٌ على الظَّرف النَّائب عن الخبرِ ، وهو في الحقيقة صفةٌ لظرف مكان محذوفٍ ، أي : والرَّكْبُ مكاناً أسفل مِنْ مكانكم .
وقرأ زيد بنُ عليٍّ « أسْفَلُ » بالرَّفعِ ، على سبيل الاتِّساع ، جعل الظرف نفس الركب مبالغةً واتساعاً .
وقال مكيٌّ : « وأجاز الفرَّاءُ ، والأخفشُ ، والكسائي رحمهم الله تعالى » أسْفَلُ « بالرَّفع على تقدير محذوفٍ ، أي : موضعُ الرَّكب أسفل » ، والتخريجُ الأوَّل أبلغُ في المعنى ، والرَّكْبُ : اسمُ جمعٍ ل « رَاكبٍ » لا حمع تكسر له؛ خلافاً للأخفش؛ كقوله : [ الرجز ]
2714 - بَنَيْتُهُ مِنْ عُصْبَةٍ مِنْ ماليَا ... أخْشَى رُكَيْباً ورُجَيْلاً عَادِيَا
فصَغَّره على لفظه ، ولو كان جمعاً لما صُغِّر على لفظه .
قوله « ولكِن ليَقْضِيَ » متلِّقٌ بمحذوف ، أي : ولكن تلاقَيْتُم لِيقْضِي ، وقدَّرَ الزمخشريُّ ذلك المحذوف فقال : « أي : ليقضي اللَّهُ أمراً كان واجباً أن يفعل ، وهو نصرُ أوليائه وقهرُ أعدائه دبر ذلك » ، و « كَانَ » يحتمل أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزَّمانِ الماضي ، وأن تكون بمعنى « صار » ، فتدُلَّ على التحوُّلِ ، أي : صار مفعولاً بعد أن لم يكن كذلك .
قوله « لِيَهْلِكَ » فيه أوجه :
أحدها : أنَّهُ بدلٌ من قوله : « ليَقضيَ اللَّهُ » بإعادة العاملِ فيتعلَّق بما تعلَّق به الأول .
الثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بقوله « مَفْعُولاً » ، أي : فعل هذا الأمر لِكَيْتَ وكَيْتَ .
الثالث : أنَّهُ متعلِّق بما تعلَّ به « لِيَقْضِيَ » على سبيل العطفِ عليه بحرفِ عطفٍ محذوف ، تقديره : وليهلكَ ، فحذف العاطفَ ، وهو قليلٌ جدّاً ، وتقدَّم التنبيه عليه .

الرابع : أنَّهُ متعلِّق ب « يَقْضِي » ذكره أبُو البقاءِ رحمه الله تعالى .
وقرأ الأعمشُ وعصمة عن أبي بكر عن عاصم « لِيَهْلَكَ » بفتح اللاَّم ، وقياسُ ما مضى هذا « هَلِكَ » بالكسر ، والمشهور إنما هو الفتح ، قال تعالى : { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] { حتى إِذَا هَلَكَ } [ غافر : 34 ] .
قوله « مَنْ حَيَّ » قرأ نافعٌ وأبو بكر عن عاصم ، والبزيُّ عن ابن كثير بالإظهار والباقون بالإدغام ، والإظهارُ والإدغام في هذا النَّوْعِ لغتان مشهورتان ، وهو كُلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة؛ نحو : « حَيِيَ ، وعَيِيَ » ، ومن الإدغام قول المتلمِّس : [ الطويل ]
2715 - فَهَذَا أوانُ العِرضْ حَيَّ ذُبابُه .. . . .
وقال الآخرُ : [ مجزوء الكامل ]
2716 - عَيُّوا بأمْرِهِمْ كَمَا ... عَيَّتْ ببَيْضَتِهَا الحَمامَهْ
فأدغم « عَيُّوا » ، وينُشدُ « عَيَّتْ ، وعَييَتْ » بالإظهارِ والإدغام ، فمن أظهر؛ فلأنه الأصلُ ولأن الإدغامَ يُؤدِّي إلى تضعيف حرفِ العلَّةِ ، وهو ثقيلٌ في ذاته؛ ولأن الياء الأولى يتعينَّ فيها الإظهارُ في بعض الصُّورِ ، وذلك في مضارع هذا الفعل؛ لانقلاب الثَّانية ألفاً في يَحْيَا ، ويَعْيَا ، فحمل الماضي عليه طرداً للباب؛ ولأنَّ الحركةَ في الثَّانية عارضةٌ؛ لزوالها في نحو : حَيِيتُ ، وبابه؛ ولأنَّ الحركتين مختلفتان؛ واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين .
قالوا وكذلك : لَحِحَت عينه وضببَ المكان ، وألِلَ السِّقَاءُ ، ومشِشَتْ الدَّابة .
قال سيبويه : « أخبرنا بهذه اللُّغةِ يونسُ » يعني بلغة الإظهار .
قال : « قد سمعت بعض العرب يقولُ : أحْيِيا ، وأحْيِيَة ، فيظهر » . وإذا لم يدغم مع لزوم الحركةِ فمع عروضها أوْلضى ، ومنْ أدغم فلاستثقال ظهور الكسرةِ في حرف يُجانسه؛ ولأنَّ الحركة الثانية لازمةٌ لأنَّهَا حركةُ بناء ، ولا يضُرُّ زوالها في نحو : « حَيِيْتُ » ، كما لا يَضُرُّ ذلك فيما يجب إدغامُه من الصحيح ، نحو : حَلَلْتُ وظَللْتُ ، وهذا كلَّه فيما كانت حركتُه حركة بناءٍ ، ولذلك قُيِّد به الماضي .
أمَّا إذا كانت حركة إعراب فالإظهارُ فقط ، نحو : لن يُحْيِي ولن يُعْيِيَ .
فصل
قوله « عَن بيِّنَةٍ » متعلق ب « يَهْلِكَ » و « يَحْيَا » ، والهلاكُ ، والحياةُ عبارةُ عن الإيمان والكفرِ ، والمعنى : ليصدرَ كُفْرُ من كفر عن وضوحٍ وبيان ، لا عن مُخالطةِ شبهة ، وليصدر إسلامُ من أسلم عن وضوحٍ لا عن مُخالطة شبهة .
معنى الآية : « إذْ أنتُمْ » أي : اذكرُوا يا معشر المسلمين : { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا } أي : بشفير الوادي الأدنى من المدينة ، والدُّنْيَا : تأنيثُ الأدْنَى ، « وهُم » يعني : المشركين . « بالعُدُوَةِ القُصْوَى » بشفير الوادي الأقصى من المدينة ممَّا يلي جانب مكَّة ، وكان الماءُ في العدوة التي نزل بها المشركون ، فكان استظهارهم من هذا الوجه أشد ، « والرَّكْبُ » العير التي خرجوا إليها : « أسْفَلَ مِنكُمْ » أي : في موضع أسفل إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر .

« ولوْ توَاعَدتُّمْ » أنتم ، وأهل مكَّة « لاخْتَلَفْتُمْ » لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم ، وكثرتهم ، أول أن المسلمين خرجوا ليأخُذُوا العير ، وخرج الكفَّارُ ليمنعوها ، فالتقوا على غير ميعاد ، ولكن الله جمعكم على غير ميعاد ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، لنصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } .
وذلك أن عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر ، كانوا في غاية الضَّعْفِ والخوف بسبب القلَّةِ ، وعدم الأهبة ، ونزلُوا بعيداً عن الماءِ ، وكانت الأرض الَّتي نزلُوا فيها رَمْلاً تغوصُ فيه أرجُلُهُمْ ، والكُفَّارُ كانوا في غاية القُوَّةِ ، لكثرتهم في العدد والعدة ، وكانوا قريباً من الماء وكانت الأرض التي نزلوا فيها صالحة للمضي ، والعير كانوا خلف ظهورهم وكانوا يتوقَّعُون مجيء المدد ساعةً فساعةً ، ثُمَّ إنَّه تعالى قلب القصَّة ، وجعل الغلبة للمسلمين ، والدَّمار على الكافرين ، فصار ذلك من أعظم المعجزات ، وأقوى البيِّنات على صدق محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر .
وقوله : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ } إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنَّ الذين هلكوا إنَّما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة ، والذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة ، والمراد من البيِّنةِ : المعجزة ، ثم قال : { وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : يسمع دعاءكم ، ويعلم حاجتكم وضعفكم ويصلح مهمكم .
النَّاصب ل « إذْ » يجوزُ أن يكون مضمراً ، أي : اذكُرْ ، ويجوزُ أن يكون « عليم » ، وفيه بعدٌ من حيث تقييدُ هذه الصفةِ بهذا الوقتِ ، ويجوزُ أن تكون « إذْ » هذه بدلاً من « إذْ » قبلها ، والإراءة هنا حُلُمية .
واختلف فيها النُّحاةُ : هل تتعدَّى في الأصل لواحدٍ كالبصريَّةِ ، أو لاثنين ، كالظَّنِّيَة؟ .
فالجمهورْ على الأوَّلِ . فإذا دخلت همزةُ النَّقْلِ أكسبتْهَا ثانياً ، أو ثالثاً على حسب القولين فعلى الأوَّلِ تكون الكافُ مفعولاً أول ، و « هُمْ » مفعولٌ ثان ، و « قَلِيلاً » حال ، وعلى الثَّاني يكون « قَلِيلاً » نصباً على المفعول الثالث ، وهذا يَبْطُلُ بجواز حذف الثالث في هذا الباب اقتصاراً ، أي : من غير دليل تقول : أراني الله زيداً في مَنَامِي ، ورأيتك في النوم ، ولو كانت تتعدَّى لثلاثةٍ ، لما حُذفَ اقتصاراً؛ لأنه خبر في الأصل .
فصل
المعنى : إذْ يريك اللَّهُ يا محمد المشركين في منامك ، أي : نَوْمك .
قال مجاهد : أرَى الله النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - كفار قريش في منامه قليلاً ، فأخبر بذلك أصحابه ، فقالوا : رُؤيَا النَّبي حق ، القومُ قليل ، فصار ذلك سبباً لقوَّةِ قلوبهم .
فإن قيل : رؤية الكثيرة قليلاً غلط ، فكيف يجوزُ من اللَّه تعالى أن يفعل ذلك؟ .
فالجوابُ : أنَّ الله تعالى يفعلُ ما يشاءُ ، ويحكم ما يريدُ ، ولعلَّه تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون .

وقال الحسنُ : هذه الإراءة اكنت في اليقظة ، قال : والمراد من المنامِ : العين؛ لانَّها موضع النَّوْمِ .
{ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم « ولتنَازَعْتُمْ » اختلفتم « فِي الأمْرِ » أي : في الإحجام والإقدام { ولكن الله سَلَّمَ } أي : سَلَّمكُم من المخالفة والفشل .
وقيل : سلَّمهم من الهزيمة يوم بدر .
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
قال ابنُ عبَّاسٍ : عليم بما في صدوركم من الحُبِّ لِلَّهِ تعالى وقيل : يعلم ما في صدوركم من الجراءة ، والجُبن والصَّبر والجزع .
قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ } الإراءةُ - هنا - بَصرية ، والإتيان هنا بصلة ميم الجمع واجبٌ ، لاتصالها بضمير ، ولا يجوزُ التَّسكينُ ، ولا الضَّمُّ من غير واوٍ ، وقد جوَّز يونس ذلك فيقول : « أنْتُم ضرَبْتُمهُ » بتسكين الميم وضمها ، وقد يتقوَّى بما روي عن عثمان - رضي الله عنه - : « أراهُمُنِي الباطِلُ شَيْطَاناً » وفي هذا الكلام شذوذ من وجهٍ آخر ، وهو تقديمُ الضمير غير الأخصِّ على الأخصِّ مع الاتصال .
فصل
قال مقاتل - رضي الله عنه - « إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، رأى في المنام أنَّ العدد قليلٌ قبل لقاء العدو ، وأخبر أصحابه بِمَا رأى ، فلمَّ التقوا ببدر قلَّل اللَّهُ المشركين في أعين المؤمنين »
قال ابنُ مسعودٍ : « لقد قللُوا في أعيننا حتى قلتُ لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين؟ قال أراهم مائة ، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا له : كم كنتم؟ قال : ألفاً » .
« ويُقَلِّلُكُمْ » يا معشر المؤمنين « فِي أعينهم » .
قال السُّدي : « قال ناسٌ من المشركين إنَّ العير قد انصرفت ، فارجعُوا ، فقال أبو جهلٍ : الآن إذ برز لكم محمدٌ وأصحابه؟ فلا ترجعوا ، حتَّى تستأصلوهم ، إنَّما محمدٌ وأصحابه أكلة جزور ، فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال » ، والحكمة في تقليل عدد المشركين في أعين المؤمنين : تصديق رُؤيَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولتقوى قلوبهم ، وتزداد جراءتهم على المشركين ، والحكمة في تقليل عدد المؤمنين في أعينِ المشركين : لئلاَّ يُبالغُوا في الاستعداد والتأهُّب والحذر ، فيصيرُ ذلك سَبَباً لاستيلاء المؤمنين عليهم .
ثم قال : { لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } .
فإن قيل : ذكرث هذا يفْهَمُ من الآية المتقدمة ، فكان ذكره - ههنا - محض التكرار .
فالجوابُ : أنَّ المقصودَ من ذكره في الآية المتقدمة ، هو أنَّهُ تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالَّة على صدق الرسول وههنا المقصود من ذكره ، أنه إنَّما فعل ذلك ، لئلاَّ يبالغ الكفار في الاستعداد والحذر فيصيرُ ذلك سَبَباً لانكسارهم .
ثمَّ قال { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } والغرضُ منه التَّنبيه على أنَّ أحوال الدُّنْيَا غير مقصودة لذاتها ، بل المراد منها ما يصلحُ أن يكون زاداً ليوم المعاد .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا } الآية .
لمَّا ذكر نعمه على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين يوم بدر ، علَّمهم - إذا التقوا - نوعين من الأدبِ ، الأوَّل : الثَّبات وهو أن يُوَطِّنُوا أنفسهم على اللَّقاء ، ولا يحدثوها بالتولِّي .
والثاني : أن يذكروا اللَّه كثيراً ، فقال : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا } فيه ، أي : جماعة كافرة « فاثبتُوا » لقتالهم .
{ واذكروا الله كَثِيراً } ادعوا الله بالنصر والظفر بهم .
وقيل : المرادُ أن يذكروا الله كثيراً بقلوبهم ، وبألسنتهم .
ثم قال تعالى : { لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } أي : كونوا على رجال الفلاح .
فإن قيل : هذه الآية تُوجب الثَّبات على كلِّ حال ، وهذا يُوهمُ أنَّها ناسخةٌ لآية التَّحرف والتحيُّز .
فالجوابُ : أنَّ هذه الآية توجب الثَّبات في الجملة ، وهو الجدّ في المحاربة ، وآيةُ التحرّف والتحيّز لا تقدحُ في حصول الثبات في المحاربة ، بل الثبات في هذا المقصود ، لا يحصل إلاَّ بذلك التحرف والتحيز ، ثمَّ أكد ذلك بقوله : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } فيما يأمر به؛ لأن الجهاد لا ينفع إلاَّ مع التَّمسُّك بسائر الطاعات ، « ولاَ تَنَازعُوا » لا تختلفوا ، فإنَّ النزاعَ يوجب أمرين .
أحدهما : الفشل ، وهو الجُبن والضَّعف .
والثاني : « تَذْهبَ ريحُكُمْ » .
قال مجاهدٌ : نصرتكم .
وقال السُّديُّ : جراءتكم وجدكم .
وقال مقاتل : حدَّتكم .
وقال النضرُ بنُ شُميلٍ : قُوَّتكم . وقال الأخفشُ : دولتكم . و « الرِّيح » هاهنا - كنايةٌ عن بقاء الأمر وجريانه على المرادِ؛ تقول العربُ : « هَبَّت ريحُ فلان » إذا أقبل أمره على ما يريدُ ، وهو كنايةُ عن الدَّوْلة والغلبة؛ قال : [ الوافر ]
2717 - إذَا هَبَّتْ رياحُكَ فاغْتَنِمْهَا ... فإنَّ لِكُلِّ عَاصِفَةٍ سُكُونَا
ورواه أبو عبيدٍ « رُكُوداً » .
وقال آخر : [ البسيط ]
2718 - أتَنْظُرانِ قَلِيلاً رَيْثُ غَفْلتِهِم ... أو تَعْدُونِ فإنَّ الرِّيحَ للْعَادِي
وقال : [ البسيط ]
2719 - قَدْ عَوَّدْتُهُمْ ظبَاهُمْ أن يكُونَ لَهُمْ ... ريحُ القتالِ وأسْلابُ الَّذينَ لَقُوا
وقيل : الريح : الهيبةُ ، وهو قريبٌ من الأولِ؛ كقوله : [ البسيط ]
2702 - كَمَا حَميناكَ يْوْمَ النَّعْفِ من شَطَطِ ... والفَضلُ لِلْقومِ منْ ريحٍ ومِنْ عَدَدِ
وقال قتادة وابن زيد : « هو ريح النصر ، ولم يكن نصر قط إلاَّ بريحٍ يبعثُهَا اللَّهُ تضرب وجوه العدوّ » .
ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « نُصِرْتُ بالصَّبَا أهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ »
وقال النعمانُ بنُ مقرن : « شَهِدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذَا لم يُقاتِل في أول النَّهارِ ، انتظر حتَّى تزولَ الشَّمسُ ، وتهب الريح ، وينزل النّصر »
تَفْشَلُوا « يحتملُ وجهين :
أحدهما : نصبٌ على جواب النَّهي .
والثاني : الجزم عطفاً على فعل النَّهْي قبله ، وقد تقدَّم تحقيقهما في » وتَخُونُوا « قبل ذلك ، ويدُلُّ على الثاني قراءة عيسى بن عمر » ويَذْهَبْ « بياء الغيبة وحزمه ، ونقل أبو البقاء قراءة الجزم ولم يُقيِّدها بياء الغيبة .

وقرأ أبُو حيوة وأبان وعصمة « ويَذْهَبَ » بياء الغيبة ونصبه .
وقرأ الحسنُ « فَتَفْشِلُوا » بكسر الشين ، قال أبو حاتمٍ : « هذا غيرُ معروفٍ » وقال غيره : إنَّها لغةٌ ثانية .
فصل
احتجَّ نُفاة القياسِ بهذه الآية فقالوا : القياس يفضي إلى المنازعةِ ، والمنازعةُ محرَّمةٌ بهذه الآية؛ فوجب أن يكون العمل بالقياس محرماً ببيان الملازمة ، فإنّا نشاهد الدُّنيا مَمْلُوءةً من الاختلافات بسبب القياس .
وأيضاً القائلون بأنَّ النَّص لا يجوز تخصيصه بالقياس تَمَسَّكُوا بهذه الآية ، وقالوا : قوله تعالى : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نصَّا عليه ، ثم أتبعه بقوله : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } ومَنْ تمسَّك بالقياس المخصص بالنَّصِّ فقد ترك طاعة اللَّهِ وطاعة رسوله ، وتمسَّك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل ، وكلُّ ذلك حرام . والجوابُ : بأنَّهُ ليس كلُّ قياس يوجب المنازعة .
قوله : « ولا تنَازَعُوا » معطوف على قوله : « فاثْبُتُوا » وهو جواب الشَّرطِ في قوله : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } فالمحرَّم التنازع عند لقاء فئة الكُفَّارِ ، فلا حجة فيها ، وأيضاً : فقد ترتَّب على التنازع الفشل وذهاب الريح التي هي الدولة ، وذلك لا يترتَّب على القياس .
ثم قال : { واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين } والمقصودُ أنَّ كمال أمر الجهادِ مبنيٌّ على الصَّبْرِ فأمرهم بالصبر . كما قال في آية أخرى : { اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } [ آل عمران : 200 ] . عن سالم أبي النضر مولى عُمَر بن عُبيدِ اللَّهِ وكان كاتباً له ، قال : كتب إليه عبدُ الله بن أبِي أوفَى « أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيَّامِهِ الَّتي لقيَ فيها العَدُو ، انتظر حتَّى مالتِ الشَّمْسُ ، ثمَّ قام في النَّاس ، فقال : » يا أيُّهَا النَّاسُ لا تَتمنوا لقاء العدُوّ ، وأسْألُوا اللَّهَ العَافيةَ فإذا لقِيتُمُوهم فاصْبِرُوا ، واعلَمُوا أنَّ الجنَّة تحتَ ظلالِ السُّيُوفِ « ثم قال : » اللَّهُمَّ مُنزلَ الكتابِ ، ومُجْرِي السَّحابِ ، وهازِمَ الأحْزابِ ، اهزمْهُمْ ، وانْصُرْنا عليْهِمْ «

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)

قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } .
نزلت في المشركين حين أقْبَلُوا إلى بدر ، ولهم بغي وفخرٌ . فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم « اللهم هذه قريشٌ قد أقبلت بخيلائها ، وفخرها تُجادل وتُكذِّب رسولك ، اللَّهُمَّ فنصرك الذي وعدتني » .
ولمَّا رأى أبُو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش إنكم إنَّما خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجَّاها اللَّهُ ، فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتَّى نردَ بَدْراً - فننحر الجزور ، ونطعم الطَّعام ، ونسقى الخمر ، وتعزف علينا القيانُ ، وتسمع بنا العربُ ، فلا يزالُونَ يهابوننا أبَداً . فوافوها فَسُقُوا كئوس المنايا مكان الخمر ، وناحَتْ عليهم النَّوائحُ مكان القيان ، فنهى اللَّهُ تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم ، وأمرهم بإخلاص النِّية ، والحسبة في نصر دينه ومؤازرة نبيه .
واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء :
أحدها : البطر .
قال الزَّجَّاجُ : البَطَرُ : الطغيان في النعمة وترك شكرها .
وثانيها : الرِّئاءُ ، وهو أظهار الجميل ليرى ، مع أنَّ باطنهُ يكون قبيحاً .
والفرق بينه وبين النفاق : أنَّ النفاق : إظهار الإيمان مع إبطان الكفر ، والرئاء : إظهار الطَّاعة مع إبطان المعصية .
وثالثها : صدهم عن سبيل اللَّهِ ، وهو كونهم مانعين عن دين محمد - عليه الصلاَّة والسَّلام - .
قوله : « بَطَراً ورِئاءَ » منصوبان على المفعول له ، ويجوزُ أن يكونا مصدرين في موضع نصبٍ على الحال ، من فاعل : « خَرَجُوا ، أي : خَرُجوا بطرينَ ومُرائين ، و » رئَاءَ « مصدرٌ مضاف لمفعوله .
قوله » ويَصُدُّونَ « : يجوزُ أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون عطفاً على : » بَطَراً ورِئَاءَ « وحفَ المفعولُ للدَّلالةِ عليه .
فإن قيل : » يَصُدُّون « فعل مضارع ، وعطف الفعل على الاسم غير حسن . فذكر الواحديُّ في الجواب ثلاثة أوجه :
الأول : أن » يَصُدُّون « بمعنى : صادين ، أي : بطرين ومرائين وصادين .
والثاني : أن يكون قوله » بَطَراً ورِئَاءَ « حالان على تأويل : مبطرين ومرائين ، ويكون قوله » ويصدون « أي : وصادين .
الثالث : أن يكون قوله » بَطَراً ورِئَاءَ « بمنزلة : يبطرون ويراؤون .
قال ابنُ الخطيبِ : » إن شيئاً من هذه الوجوه لا يشفي الغليل؛ لأنَّهُ تارةً يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها .
وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبَّر عن الأولين بالمصدر ، وعن الثالث بالفعل . قال : إنَّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني ، ذكر أنَّ الاسم يدلُّ على التَّمكين والاستمرار ، والفعل على التجدد والحدوث ، مثاله في الاسم قوله تعالى { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة ، ومثال الفعل قوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض }

[ يونس : 31 ] وذلك يُدلُّ على أنه تعالى يوصل الرِّزق إليهم ساعة فساعة .
وإذا عرفت ذلك فنقول : إنَّ أبا جهلٍ ورهطهُ كاناو مجبولين على البطرِ ، والمفاخرة والعجب وأما صدهم عن سبيل اللَّهِ فإنما حصل في الزَّمانِ الذي ادَّعى محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيه النبوة ، فلهذا ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم ، وذكر الصد بصيغة الفعل « .
واعلم أنَّ الذي قاله ابن الخطيب لا يخدش فيما أجاب به الواحديُّ؛ لأنَّ الواحدي إنَّما أراد من حيث الصِّناعة ، لا من حيث المعنى .
ثم قال : { والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : أنه عالم بما في دواخل القلوب ، وذلك كالتَّهديدِ والزَّجر عن الرئاء .
قوله تعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } الآية .
وهذه من جملة النعم التي خصَّ اللَّهُ أهل بدر بها ، وفي العامل في » إذْ « وجوه : قيل : تقديره اذكر إذْ زيَّن لهم ، وقيل : عطف على ما تقدم من تذكير النعم ، وتقديره : واذكروا إذ يريكموهم وإذْ زيَّن .
وقيل : هو عطف على قوله : { خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس } تقديره : ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس وإذ زيَّن لهم الشيطان أعمالهم؛ فتكون الواو للحال ، و » قد « مضمرة بعد الواو ، عند من يشترط ذلك والله أعلم
فصل
في هذا التَّزيين وجهان :
الأول : أن الشيطان زيَّن بوسوسته من غير أن يتحوَّل في صورة إنسان ، وهو قول الحسن والأصم .
والثاني : أنَّه ظهر في سورة إنسان .
قالوا : إن المشركين حين أرَادُوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة؛ لأنَّهُم كانوا قتلوا منهم واحداً ، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتصوَّر لهم إبليسُ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، وهو في بني بكر بن كنانة من أشرافهم في جند من الشياطين ، ومعه راية ، وقال لا غالِبَ لَكُمْ اليَوْمَ من النَّاسِ وإني جار لكم ، مجيركم ، من بني كنانة ، { فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان } أي : التقى الجمعان ، رأى إبليسُ الملائكة نزلوا من السماء ، فعلم أنْ لا طاقةَ لهم بهم { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } وكانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نَكَصَ ، قال الحارثُ : أتَخْذلنا في هذه الحال؟
فقال : إني أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحارث وانهزموا .
قوله { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم } لكم خبر » لا « فيتعلق بمحذوف ، و » اليَوْمَ « منصوب بما تعلَّق به الخبر ، ولا يجوزُ أن يكون » لكم « أو الظرف متعلقاً ب » غَالِبَ « ؛ لأنه يكون مُطَوَّلأاً ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب نَصْباً .
قوله » مِنَ النَّاس « بيان لجنس الغالبِ .
وقيل : هو حالٌ من الضَّميرِ في » لَكُمُ « لتضمُّنه معنى الاستقرار ، ومنع أبو البقاءِ أن يكون » من النَّاس « حالاً من الضمير في » غَالِبَ « ، قال : » لأنَّ اسم « لا » إذا عمل فيما بعده أعرب « والأمر كذلك .

قوله { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكُون معطوفةً على قوله { لاَ غَالِبَ لَكُمْ } فيكون قد عطف جملة مثبتة على أخرى منفيَّة ، ويجوزُ أن تكون الواو للحال ، وألف « جارٌ » من واو ، لقولهم : « تَجاورُوا » وقد تقدَّم تحقيقه [ النساء : 36 ] . و « لكم » متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنَّهُ ل « جارٌ » ، ويجُوز أن يتعلَّق ب « جار » لما فيه من معنى الفعل ، ومعنى « جار لكم » أي : مجير لكم من كنانة .
قوله { فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان } أي : التقى الجمعان؛ { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } « نَكَصَ » : جواب « لمَّا » والنُّكُوص : قال النضر بنُ شميلٍ : الرُّجوع قَهْقَرَى هارباً ، قال بعضهم : هذا أصله ، إلاَّ أنه قد اتُّسِع فيه ، حتى استُعْمل في كلِّ رجوع ، وإن لم يكن قَهْقَرَى؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
2721 - هُمْ يَضْربُونَ حَبيكَ البَيْض إذْ لَحِقُوا ... لا يَنْكُصُونَ إذَا مَا استُلْحِمُوا وحَمُوا
وقال مُؤرِّج : « النُّكُوصُ : الرجوعُ بلغة سُلَيْم » ؛ قال : [ البسيط ]
2722 - لَيْسَ النُّكُوصُ على الأعقابِ مَكْرُمَةً ... إنَّ المكارِمَ إقْدَامٌ على الأسَلِ
فهذا إنَّما يريدُ به مُطْلَق ارُّجوع؛ لأنَّهُ كنايةٌ عن الفرارِ ، وفيه نظر؛ لأنَّ غالب الفرار في القتال إنَّما هو كما ذُكِر ، رجوعُ القَهْقَرَى ، كخوف الفَار .
و « عَلَى عَقبَيْهِ » حال ، إمَّا مؤكدةٌ ، عند من يَخُصُّه بالقهقرى ، أو مُؤسِّسةٌ ، عند من يستعمله في مطلق الرُّجُوعِ .
ثم قال : { إِنِّي برياء مِّنْكُمْ إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ } .
قيل : رأى الملائكة فخافهم .
وقيل : رأى أثر النُّصْرَة والظَّفر في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، فعلم أنه لو وقف لنزلت عليه بليّة .
وقيل : رأى جبريل فخافه .
وقيل : لمَّا رأى الملائكة ينزلون من السماء ظنَّ أنَّ الوقت الذي أنظر إليه قد حضر ، وأشفق على نفسه ، وقيل « أرَى مَا لاَ تَرَوْنَ » من الرأي .
وقوله : { إني أَخَافُ الله } قال قتادة : « قال إبليس » إنِّي أرَى ما لا ترَوْنَ « وصدق ، وقال { إني أَخَافُ الله } وكذب ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة ، فأوردهم وأسلمهم » .
وقال عطاءٌ : إنّي أخاف اللَّهَ أن يهلكني فيمن هلك .
وقال الكلبيُّ : خاف أن يأخذه جبريل ويعرفهم حاله ، فلا يطيعوه .
وقيل : معناه إنِّي أخافُ الله ، أي : أعلم صدق وعده لأوليائه؛ لأنه كان على ثقة من أمره ، وقيل : معناه إنِّي أخاف الله عليكم .
وقوله : { والله شَدِيدُ العقاب } .
قيل : انقطع الكلام عند قوله « أخَافُ اللَّه » ثم قال { والله شَدِيدُ العقاب } ويجُوز أن يكون من بقيِّة كلام إبليس .
روى طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

« مَا رُئيِ الشيطانُ يوماً هُو فيه أصغرُ ، ولا أدحرُ ، ولا أحقَرُ ، ولا أغْيَظُ مِنْهُ في يَوْمِ عرفةَ ، وما ذاكَ إلاَّ لِمَا رَأى من تنزُّلِ الرَّحْمَة وتجاوزُ الله عن الذُّنُوبِ العظام ، إلاَّ ما كان من يَوْمِ بدرٍ »
فقيل : وَمَا رأى يَوْمَ بدرٍ؟ قال : « أما إنَّهُ رَأى جبريلَ وهُوَ يَنْزعُ المَلائِكَة » ، حديث مرسل .
قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ المنافقون } العامل في « إذْ » إمَّا « زيَّن » ، وإمَّا « نَكَصَ » وإما « شديدُ العقاب » وإما « اذكروا » .
قال ابنُ الخطيب : « وإنما لم تدخل الواو في قوله » إذْ يقُولُ « ودخلت في قوله » وإذْ زَيَّن « ؛ لأنَّ قوله : » وإذْ زيَّن « عطف التزين على حالهم وخروجهم بطراً ورئاء النَّاس .
وأما قوله { إِذْ يَقُولُ المنافقون } فليس فيه عطف على ما قبله ، بل هو ابتداء كلام منقطع عما قبله » .
فصل
المنافقون : قوم الأوس والخزرجِ ، وأمَّا الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم ، وكانوا بمكَّة مستضعفين ، قد أسلموا وحبسهم أقرباؤهم عن الهجرة فلما خرجت قريش إلى بدرٍ أخرجوهم كُرْهاً ، فلمَّا نظروا إلى قلّة المسلمين ارتابوا وارتدوا ، وقالوا { غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } . و { غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } منصوب المحل بالقول .
قال ابن عباس - رضي الله عنه - : « معناه أنه خرج بثلاث مائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل » وقيل المرادُ : إن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم ، رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموتِ ، ويثابون على هذا القَتْلِ . فقالوا : غرَّ هؤلاء دينهم . فقتلوا جميعاً ، منهم : قيسُ بنُ الوليد بن المغيرة ، وأبُو قيس بنُ الفاكه بن المغيرة المخزميان ، والحارثُ بن زمعة بن الأسود بن المطلب ، وعلي بنُ أميّة بن خلف الجمحيُّ ، والعاصي بن منبه بن الحجَّاج .
ثم قال : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي : يسلم أمره إلى اللَّه ، ويثقُ به ، فإنَّ اللَّهَ حافظه وناصره؛ لأنَّهُ عزي لا يغلبه شيء ، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه ، والرحمة والثواب إلى أوليائه .
قوله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملاائكة } الآية .
لمَّا شرح أحوال الكُفَّار ، شرح أحوال موتهم ، والعذاب الذي يصل إليهم .
قرأ ابن عامر والأعرج « تَتَوفَّى » بتاء التأنيث ، لتأنيث الجماعة ، والباقون بياء الغيبة وفيها تخريجان ، أظهرهما - لموافقة قراءة من تقدَّم - : أنَّ الفاعل هم الملائكة ، وإنما ذُكِّرَ للفصل؛ ولأنَّ التأنيث مجازي .
والثاني : أنَّ الفاعل ضمير الله تعالى : لتقدم ذكره و « الملائكةُ » مبتدأ ، و « يَضْرِبُونَ » خبره ، وفي هذه الجملةِ حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنَّها حالٌ من المفعول .
والثاني : أنَّها استئنافيةٌ ، جواباً لسؤالٍ مقدر ، وعلى هذا فيوقف على « الَّذين كَفَرُوا » بخلاف الوجهين قبله .

وضعَّف ابنُ عطية وجه الحالِ بعدم الواو ، وليس بضعيفٍ لكثرة مجيء الجملة الحالية مشتملة على ضمير ذي الحال خاليةً من « واو » نظماً ونثراً ، وعلى كون « الملائكةُ » فاعلاً ، يكون « يَضْربُونَ » جملةً حاليةً ، سواءً قرىء بالتأنيث أم بالتذكير ، وجوابُ « لَوْ » محذوفٌ للدلالة عليه ، أي : رأيت أمراً عظيماً .
فصل
المعنى : ولو عاينت؛ لأنَّ « لو » ترد المضارع إلى الماضي ، كما ترد « إن » الماضي إلى المضارع .
قال الواحديُّ - رحمه الله - : « معنى يتوفى الذين كفروان يقبضون أرواحهم » قيل : عند الموت تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم . وقيل : أراد المشركين الذين قتلوا ببدر ، كانت الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم .
قال سعيدُ بن جبيرٍ ، ومجاهد : يريدُ : أستاههم ولكن الله تعالى حَييٌّ يُكَنِّي .
وقال ابن عباس « كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف وإذا ولَّوْا أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم وقال ابن جريح » يريدُ ما أقبل منهم وما أدبر يضربون أجسادهم كلها « . والمراد بالتوفي : القتل .
قوله { وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } هذا منصوب بإضمار قول الملائكة ، أي : يضربونهم ويقولون لهم : ذوقوا . وقيل : الواو في » يَضْربُونَ « للمؤمنين أي : يَضْربونهم حال القتال ، وحال توفِّي أرواحهم الملائكة .
قيل : كان مع الملائكة مقامع من حديد ، يضربون بها الكُفَّار ، فتلتهب النَّار في جراحاتهم؛ فذلك قوله : { وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } ، وقال الحسن - رضي الله عنه - : » هذا يوم القيامة ، تقولُ لهم خزنةُ جهنم : ذوقوا عذاب الحريقِ « وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله تعالى عنهما - : » يقولون لهم ذلك بعد الموت « .
قوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } .
أي : ذلك الضرب الذي وقع بكم ، أو عذاب الحريق : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } بما كسبت أيديكم وهذا إخبار عن قول الملائكة - عليهم السلام - .
قال الواحديُّ : » يجوز أن يقال « ذلك » مبتدأ ، وخبره { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } ويجوز أن يكون خبره محذوفاً ، والتقدير : ذلك جزاؤكم بما قدمت أيديكم ، ويجوزُ أن يكون محل « ذلك » نَصْباً والتقدير : فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم « .
فصل
فإن قيل : قوله { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } يقتضي أنَّ فاعل هذا الفعل هو اليد ، وذلك ممتنع لوجوه ، أولها : أنَّ هذا العذاب إنما وصل إليهم بسبب كفرهم ، ومحل الكفر هو القلب لا اليد وثانيها : أن اليد ليست محلاًّ للمعرفة والعلم ، فلا يتوجَّه التكليف عليها ، فلا يمكن إيصال العذاب إليها .
فالجوابُ : أن اليد ههنا عبارة عن القدرة وحسن هذا المجاز كون اليد آلة العمل ، والقدرة هي المؤثرة في العمل ، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة .
واعْلَمْ أن الإنسان جوهر واحد ، وهو الفعال ، وهو الدراك ، وهو المؤمن ، وهو الكافر وهو المطيعُ ، وهو العاصي ، وهذ الأعضاء آلات لهُ ، وأدوات له في الفعل؛ فأضيف الفعل في الظَّاهر إلى الآله ، وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذاتِ الإنسان .

فإن قيل : إنَّه جعل هذا العقاب ، إنَّما تولَّد من الفعل الذي صدر عنه ، والعقاب إنما يتولَّد من العقائد الباطلة .
فالجوابُ : أنَّا بيَّنا أنَّ الفعل إنما ينشأ عن الاعتقاد ، فأطلق على المسبب اسم السَّببِ وهذا من أشهر وجوه المجاز .
قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } .
في محل « أنَّ » وجهان :
أحدهما : النصبُ بنزع الخافض يعني : بأنَّ اللَّهَ .
والثاني : أنَّكَ إن جعلت قوله : « ذلك » في موضع رفع ، جعلت « أنَّ » في موضع رفع أيضاً ، أي : وذلك أنَّ الله .
قال الكسائيُّ : « ولو كسرت ألف » أنَّ « على الابتداء كان صواباً ، وعلى هذا التقدير يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّ قبله » .
فصل
قالت المعتزلةُ : لو كان اللَّه تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يعذبه عليه لكان ظالماً ، وأيضاً قوله تعالى : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } يدلُّ على أنه تعالى إنَّما لم يكن ظالماً بهذا العذاب؛ لأنَ العبد قدَّم ما استوجب عليه هذا العذاب ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ لو لم يصدر منه تعالى ذلك التقديم لكان ظالماً في هذا العذاب ، وأيضاً : لو كان موجد الكفر والمعصية هو الله لا العبد لوجب كون الله ظالماً ، وهذه المسألة قد سبق ذكرها مُسْتَقْصَاةً في آل عمران .
قوله تعالى : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } الآية .
لمَّا بيَّن ما أنزله بأهل بدر من الكفَّار عاجلاً وآجلاً ، أتبعه بأن بيَّن أنَّ هذه طريقته وسنته ودأبه في الكل فقال : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } .
قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما « هو أن آل فرعون أيقنوا أنَّ موسى نبي الله فكذبوه ، كذلك هؤلاء جاءهم محمد بالصِّدق فكذَّبوه ، فأنزل الله عقوبته ، كما أنزل بآل عمران » .
{ والذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : كعادة الذين من قبلهم ، وتقدَّم الكلامُ على « كَدَأبِ » في آل عمران .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب } والغرضُ منه : التَّنبيه على أن لهم عذاباً مُدْخراً سوى ما نزل بهم من العذاب العاجل ، ثمَّ ذكر ما يجري مجرى العلَّة في العقاب الذي أنزله بهم ، فقال : { ذلك بِأَنَّ الله } ، « ذلك » مبتدأ وخبر أيضاً ، كنظيره أي : ذلك العذابُ أو الانتقامُ بسبب أنَّ اللَّه .
قوله « لَمْ يَكُ » قال أكثرُ النحاةِ : إنَّما حذفت النون؛ لأنَّها لم تشبه الغُنَّة المحضة فأشبهت حروف اللين ووقعت طرفاً ، فحذفت تشبيهاً بها ، كما تقولُ : لَمْ يَدْعُ ، ولمْ يَرْمِ .
قال الواحدي - رحمه الله تعالى - : « هذا ينتقض بقولهم : لَمْ يَزنْ ، ولمْ يَخنْ ، ولم يسمع حذف النون ههنا » .

وأجاب علي بن عيسى فقال : إنَّ « كان » و « يكون » أم الأفعال ، من أجل أن كل فعل قد حصل فيه معنى « كان » ، فقولنا : ضرب ، معناه : كان ضرب ، ويضرب معناه يكون ضرب ، وهكذا القول في الكُلِّ؛ فثبت أنَّ هذه الكلمة أم الأفعال ، فاحتيج إلى الاستعمال في أكثر الأوقات ، فاحتملت هذا الحذف ، بخلاف قولنا : لم يخُنْ ، ولم يزن ، فإنَّه لا حاجة إلى ذكرها كثيراً ، فظهر الفرق .
فصل
معنى الآية إنَّ الله لا يُغَيِّر ما أنعم على قوم ، حتى يُغَيِّرُوا ما بهم بالكفران وترك الشكر ، فإذا فعلوا ذلك غيَّر اللَّهُ ما بهم ، فسلبهم النعمة
فصل
قال القاضي « معنى الآية : أنه تعالى أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع ، وتسهيل السبل ، والمقصودُ : أن يشتغلوا بالعبادة والشَّكْرِ ، ويعدلوا عن الكفر ، فإذا صرفوا هذه الأمور إلى الكفر والفسق ، فقد غيَّروا نعم اللَّهِ على أنفسهم فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم ، والمنح بالمحن » .
قال : « وهذا من أوكد ما يدلُّ على أنه تعالى لا يبتدأ أحداً بالعذاب والمضرة ، وأنَّ الذي يفعله لا يكون إلاّ َجزاء على معاصٍ سلفت ، لو كان تعالى خلقهم ، وخلق جسمانهم وعقولهم ابتداء للنَّار كما يقوله القومُ لما صحَّ ذلك » .
وأجيب : بأن ظاهر الآية مشعر بما قاله القاضي؛ إلاَّ أنَّا لو حملنا الآية عليه لزم أن يكون صفةُ اللَّهِ تعالى مُعَلَّلَةً بفعل الإنسان؛ لأنَّ حكمَ اللَّهِ بذلك التغيير وإرادته ، لمَّا كان لا يحصل إلاَّ عند إتيان الإنسان بذلك الفعل ، فلو لم يصدر عنه ذلك الفعل لم يحصل للَّه تعالى ذلك الحكم وتلك الإرادة ، فحينئذٍ يكون فعل الإنسان مؤثراً في حدوث صفة في ذات اللَّهِ تعالى ، ويكون الإنسان مغيراً صفة اللَّهِ ومؤثراً فيها ، وذلك محال في بديهة العقل؛ فثبت أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره ، بل الحقُ أنَّ صفة الله غالبة على صفات المحدثات ، فلولا حكمه وقضاؤه أولاً لما أمكن للعبد أن يأتي بشيء من الأفعال والأقوال .
ثم قال : { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع لأقوالهم ، عليم بأفعالهم .
قوله : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } .
فإن قيل : إنه تعالى ذكر : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } مرتين ، فما فائدة؟
فالجوابُ من وجوه ، منها : أنَّ الكلام الثَّاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول؛ لأنَّ الأول فيه ذكرُ أخذهم ، وفي الثاني ذكر إغراقهم ، وذلك تفصيل ، ومنها : أنَّهُ أريد بالأوَّلِ ما نزل بهم من العقوبة في حال الموت ، وبالثاني ما ينزلُ بهم في القبر وفي الآخرة ، ومنها : أنَّ الكلام الأول هو قوله : { كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } والكلام الثاني هو قوله : { كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ } فالأوَّلُ إشارة إلى أنَّهم أنكروا دلائل الإلهية ، والثاني إشارة إلى أنَّهُ سبحانه ربَّاهم وأنعم عليهم بالوجوه الكثيرة ، فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها ، وتواليها عليهم فكان الأثر اللازم من الأول الأخذ ، والأثر اللازم من الثاني هو الإهلاك والإغراق وذلك يدلُّ على أنَّ للكفر أثراً عظيماً في حصول الإهلاك ، ومنها : أنَّ الأول دَأبٌ في أن هلكوا لمَّا كفروا ، وهذا دأبٌ في أن لم يُغيِّر اللَّهُ نعمتهم حتَّى يُغيروها هم .

ومنها : قال الكرمانيُّ : « يحتملُ أن يكون الضميرُ في : » كفرُوا « في الآية الأولى عائداً على قريش ، والضمير في : » كذَّبُوا « في الثانية عائداً على آل فرعون والذين من قبلهم ، كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم ، أهلكنا بعضهم بالرجفةِ ، وبعضهم بالخسف ، وبعضهم بالريحِ ، وبعضهم بالغرق ، وكذلك أهلكنا كفار بدر بالسيفِ لما كذبوا ، وأغرقنا آل فرعون » .
{ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } جمع الضمير في : « كانوا » ، وجمع : « ظالمين » مراعاةً لمعنى « كُل » لأنَّ « كُلاًّ » متى قطعت عن الإضافة جاز مراعاةُ لظفها تارةٌ ، ومعناها أخرى . وإنَّما اختير هنا مراعاةُ المعنى؛ لأجل الفواصل ، ولو رُوعي اللَّفظُ فقيل مثلاً وكلٌّ كان ظالماً ، لَمْ تتَّفِق الفواصل .

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)

قوله تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ } الآية .
لمَّا وصف كُلَّ الكفار بقوله : { وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } [ الأنفال : 54 ] أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد فقال : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله } أي : في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان :
الأولى : الكافر المستمر على كفره مصرّاً عليه .
الثانية : أن يكون ناقضاً للعهد ، فقوله : { الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون } إشارة إلى استمرارهم على الكفر ، وصرارهم عليه ، وقوله : { الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } إشارة إلى نقض العهد .
قال الكلبيُّ ومقاتلٌ : يعني يهود بني قريظة ، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه .
{ الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ } أي : عاهدنهم .
قيل : عاهدت بعضهم ، وقيل : أدخل « مِنْ » لأن معناه : أخذت منهم العهد . { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } .
قال ابنُ عباسٍ « هم بنو قريظة ، نقضوا العقد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا فعاهدهم ثانياً ، فنقضوا العهد ومالوا مع الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فوافقهم على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } لا يخافون الله في نقض العهد .
قوله » الَّذينَ عاهدَتَّ « يجوزُ فيه وجهان :
أحدها : الرَّفْعُ على البدل من الموصول قبله ، أو على النَّعت له ، أو على عطف البيان ، او النصبُ على الذَّمِّ ، أو الرفع على الابتداء ، والخبرُ قوله » فإمَّا تَثْقَفَنَّهُم « بمعنى : من تعاهد منهم ، أي : من الكفار ثم ينقضون عهدهم ، فإن ظفِرتَ بهم فاصنعْ كيت وكيت ، فدخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط ، وهذا ظاهر كلام ابن عطية رحمه الله تعالى .
و » مِنْهُمْ « يجوز أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف ، إذ التقدير : الذين عادتهم ، أي : كائنين منهم ، ف » مِنْ « للتبعيض . وقيل : هي بمعنى : » مع « .
وقيل : الكلام محمول على معناه ، أي : أخذت منهم العهد .
وقيل : زائدةٌ أي : عاهدتهم . والأقوالُ الثلاثةُ ضعيفةٌ ، والأول أصحُّ .
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } .
قال ابن عباس { فنكل بهم من خلفهم } .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : { أنذر بهم من خلفهم } .
العامَّةُ على الدال المهملة في » فَشرِّدْ . وأصل التَّشْرِيدِ ، التَّطريدُ والتفريقُ والتبديدُ .
وقيل : التفريق مع الاضطراب ، والمعنى : فرق بهم جمع كل ناقض ، أي : افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك وجَاءُوا لحربك فعلاً من الحرب والتمكين ، يفرقُ منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن ، « لَعَلَّهُم يذَّكرُون » يتذكرون ويعتبرون فيا ينقضون العهد .
وقرأ الأعمش بخلاف عنه : « فَشَرِّذْ » بالذال المعجمة .

وقال أبُو حيَّان رحمه الله تعالى : « وكذا هي في مصحف عبد الله » .
قال شهاب الدين : « وقد تقدَّم أنَّ النَّقْطَ والشَّكْلَ أمرٌ حادثٌ ، أحدثه يحيى بن يعمر ، فكيف يُوجد ذلك في مصحف ابن مسعود؟ » .
قيل : وهذه المادة - أعني : الشين ، والرَّاء ، والذال المعجمة - مهملة في لغة العرب وفي هذه القراءةِ أوجه ، أاحدها : أنَّ الذَّال بدلُ من مجاورتها ، كقولهم : خراديل وخراذيل .
الثاني : أنه مقلوبٌ مِنْ « شذر » ، من قولهم : تَفرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ ، ومنه : الشَّذْر المُلتقط من المعدن؛ لتفرُّقِهِ؛ قال : [ الطويل ]
2723 - غَرَائِرُ فِي كِنٍّ وَصوْنٍ ونَعْمَةٍ ... يُحَلَّيْنَ يَاقُوتاً وشَذْراً مُفَقَّرا
الثالث : أنه من ذر في مقاله ، إذا أكثر فيه ، قاله أبو البقاءِ ، ومعناه غير لائق هنا .
وقال قطرب : « شرّذ » بالمعجمة ، التنكيل ، وبالمهملة : التَّفريق . وهذا يُقَوِّي قول من قالك إن هذا المادَّة ثابتةٌ في لغة العربِ .
قوله « مَنْ خَلْفَهُمْ » مفعول : « شرِّدط . وقرأ الأعمشُ بخلاف عنه وأبو حيوة » مِنْ خلفهم « جاراً ومجروراً ، والمفعولُ على هذه القراءة محذوفٌ ، أي : فشرِّدُ أمثالهم من الأعداء ، وأناساً يعملون بعملهم ، والضميران في » لَعَلَّهُم يذكَّرُون « الظَّاهِرُ عودهما على » مَنْ خَلْفَهُمْ « ، أي : إذا راوا ما حلَّ بالمناقضين تذكَّرُوا . وقيل : يعودان على المثقفين ، وليس له معنى طائل .
قوله : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } .
مفعول انبذ محذوف ، أي : انبذ إليهم عهودهم ، أي : اطرحها ، ولا تكترث بها و » عَلَى سواءٍ « حال إمَّا من الفاعل ، أي انبذها ، وأنت على طريقٍ قصدٍ ، أي : كائناً على عدل ، فلا تَبْغتهُمْ بالقتالِ بل أعلمهم به ، وإمَّا من الفاعل والمفعول معاً ، أي : كائنين على استواء في العلم ، أو في العداوةِ .
وقرأ العامَّةُ بفتح السِّين ، وزيد بن علي بكسرها ، وهي لغة تقدم التنبيه عليها أول البقرة .
فصل
المعنى : وإمَّا تعلمنَّ يا محمد » من قومٍ « معادين : » خيانةً « نقض عهد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر ، كما يظهر من قريظة والنضير : » فانبِذْ إليْهِمْ « فاطرح » إليهمْ « عهدهم » على سواءٍ « .
يقول : أعلمهم قبل حربك إيَّاهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتَّى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصبِ الحرب معهم .
وقوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } هذه الجملة يحتمل أن تكون تعليلاً معنوياً للأمر بنبذ العهد على عدل ، وهو إعلامهم ، وأن تكون مستأنفة ، سيقت لذمِّ من خان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونقض عهده .
قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ } الآية .
قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم » يَحْسبنَّ « بياء الغيبة هنا ، وفي النور في قوله :

{ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ } [ النور : 57 ] كذلك ، خلا حفصاً ، والباقون بتاء الخطابِ ، وفي قراءة الغيبة تخريجاتٌ كثيرة سبق نظائرها في أواخر آل عمران ، ولا بدَّ من التنبيه هنا على ما تقدَّم ، فمنها ، أنَّ الفعل مسندٌ إلى ضميرٍ يُفسِّره السياق ، تقديره : ولا يحسبنَّ هو أي : قبيل المؤمنين ، أو الرسول ، أو حاسب .
أو يكون الضمر عائداً على : « مَنْ خَلفهُمْ » .
وعلى هذه الأقوالِ ، فيجوزُ أن يكون « الذينَ كفرُوا » مفعولاً أول و « سَبَقُوا » جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً .
وقيل : الفعلُ مسندٌ إلى « الذينَ كفرُوا » ثم اختلف هؤلاء في المفعولين ، فقال قوم : الأول محذوفٌ تقديره : ولا يَحْسبنَّهم الذين كفروا سبقوا ، ف « هَم » مفعول أول ، و « سَبَقُوا » في محل الثاني : أو يكون التقدير : لا يحسبنَّ الذين كفروا أنفسهم سبقُوا . وهو في المعنى كالذي قبله .
وقال قومٌ : بل « أنْ » الموصولة محذوفة ، وهي وما في حيَّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين ، والتقدير : ولا سحبن الذين كفروا أن سبقُوا ، فحذفت « أنْ » الموصولة وبقيت صلتها ، كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] وقوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] .
قاله الزجاج : والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقونا ، وحذف « أن » الموصولة في القرآن ، وفي كلام العرب كثير ، فأمَّا القرآن فكالآيات ، ومن كلام العربِ : تسمعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه؛ وقوله : [ الطويل ]
2724 - ألاَ أيُّهذا الزَّاجِرِي أحضرُ الوغَى .. . .
ويؤيد هذا الوجه قراءة عبد الله « أنهم سبقوا » .
وقال قومٌ : بل « سَبَقُوا » في محلِّ نصب على الحال ، والسادُّ مسدَّ المفعولين : { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } ، وتكون « لا » مزيدةً ليصح المعنى .
قال الزمشخري - بعد ذكره هذه الأوجه - « وليست هذه القراءةُ التي تفرَّد بها حمزةُ بنيِّرة » وقد ردَّ عليه جماعةٌ هذا القول ، وقالوا : لم ينفرد بها حمزةُ ، بل وافقه عليها من قُرَّاء السبعة ابنُ عامر أسنُّ القراءة وأعلاهُم إسناداً ، وعاصمُ في رواية حفص ثم هي قراءة أبي جعفر المدني شيخ نافع ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وابن محيصن وعيسى ، والأعمش ، والحسن البصرين ، وأبي رجاء ، وطلحة ، وابن أبي ليلى . وقد ردَّ عليه أبو حيان أيضاً أنَّ « لا يحْسبَنَّ » واقع على « أنهم لا يُعْجِزون » وتكون « لا » صلة ، بأنَّهُ لا يتأتَّى على قراءة حمزة ، فإنَّهُ يقرأ بكسر الهمزة ، يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج .
قال شهابُ الدِّين : « هو لم يلتزم التخريج على قراءة حمزة في الموضعين ، أعني : » لا يَحْسبنَّ « وقوله : » أنهم لا يعجزون « ، حتى نلزمه ما ذكر » وأما قراءةُ الخطاب فواضحةٌ ، أي : لا تحسبنَّ يا محمدُ ، أو يا سامعُ ، و « الذين كفرُوا » مفعول أول ، والثاني : « سبقوا » ، وقد تقدَّم في آل عمران وجهُ أنه يجوز أن يكون الفاعل الموصول ، وإنَّما أتى بتاءِ التأنيث ، لأنه بمعنى « القوم » ، كقوله :

{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] . وقرأ الأعمش « ولا يَحْسبَ الذينَ كَفَرُوا » بفتح الباء .
وتخريجها على أن الفعل مؤكدٌ بنون التَّوكيد الخفيفة ، فحذفها؛ لالتقاء الساكنين ، كما يحذفُ له التنوين؛ فهو كقوله : [ المنسرح ]
2725 - لا تُهِينَ الفَقيرَ علَّكَ أنْ ... تَرْكعَ يوماً والدَّهْرُ قد رفعهْ
أي : لا تُهينن ، ونقل بعضهم : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين } من غير توكيدٍ ألبتَّة ، وهذه القراءةُ بكسر الباءن على أصل التقاء الساكنين .
قوله : « سَبَقُوا » أي : فاتوا . نزلت في الذين انهزموا يوم بدرٍ من المشركين ، فمن قرأ بالياء ، يقول لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا ، ومن قرأ بالتَّاءِ فعلى الخطاب .
قوله { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قرأ ابن عامر بالفتح ، والباقون بالكسر . فالفتح إمَّا على حذفِ لام العلة ، أي : لأنهم . واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ، ووجهُ الاستبعادِ أنَّها تعليلٌ للنَّهْي ، أي : لا تحسبنَّهم فائتينح لأنَّهم لا يعجزون ، أي : لا يقع منك حُسبانٌ لفوتهم؛ لأنَّهم لا يعجزون ، وإمَّا على أنَّها بدلٌ من مفعولي الحسبان .
وقال أبُو البقاء : « إنَّه متعلقٌ ب » حسب « ، إمَّا مفعولٌ ، أو بدلٌ من سَبَقُوا » .
وعلى كلا الوجهين تكون « لا » زائدة « ، وهو ضعيفٌ ، لوجهين :
أحدهما : زيادة » لا « .
والثاني : أن مفعول » حسبن « إذا كان جملة ، وكان مفعولاً ثانياً كانت » إنَّ « فيه مكسورة؛ لأنَّه موضع ابتداء وخبر .
وقرأ العامة : » لا يُعْجِزُونَ « بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ ، وهي نونُ الرفع . وقرأ ابن مُحَيْصِن » يُعْجِزُوني « بنون واحدة ، بعدها ياء المتكلم ، وهي نون الوقاية ، أو نون الرفع ، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في : » أتحاجُّوني « .
قال الزجاج : ألاختيارُ الفتحُ في النُّونِ ، ويجوزُ كسرها ، على أنَّ المعنى : لا يُعجزُونَنِي وتحذف النون الأولى ، لاجتماع النونين » ؛ كما قال عمر بن أبي ربيعة : [ الوافر ]
2726 - تَراهُ كالثَّغَامِ يعلُّ مِسْكاً ... يسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْنِي
وقال متمم بنُ نُويرَةَ : [ الكامل ]
2727 - ولقَدْ علمْتِ ولا مَحَالَة أنَّنِي ... للحَادِثاتِ فَهَلْ تَرَيْنِي أجْزَعُ
قال الأخفشُ : « فهذا البيتُ يجوز على الاضطرار » . وقرأ ابنُ محيصن أيضاً « يُعجزُونِّ » بنون مشددة مكسورةٍ ، أدغم نون الرفع في نون الوقاية ، وحذف ياء الإضافة مُجْتَزِئاً عنها بالكسرة ، وعنه أيضاً فتحُ العين وتشديدُ الجيم وكسر النون ، مِنْ « عَجَّزَ » مشدداً .
قال أبو جعفرٍ : « وهذا خطأ من وجهين :
أحدهما : أنَّ معنى » عَجّضزه « ضعَّفه وضعَّف أمره . والآخر : كان يجب أن يكون بنونين » .
قال شهابُ الدِّين : « أمَّا تخطئة النَّحاس لهُ فخطأٌ؛ لأن الإتيان بالنُّونين ليس بواجب بل هو جائز ، وقد قرىء به في مواضع في المتواتر ، سيأتي بعضها ، وأمَّا » عجَّز « بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر ، بل نقل غيره من أهل اللغة أن معناه نسبني إلى العجز ، أو معناه : بَطَّأ ، وثبَّط ، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين » . قرأ طلحة بكسر النون خفيفة .

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)

قوله : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ } .
لمَّا أوجب على رسوله أن يُشرِّد من صدر منه نقض العهدِ ، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النَّقض أمره في هذا الآية بالإعداد للكُفَّارِ .
قويل : إنَّ الصحابة لمَّا قصدوا الكفار يوم بدر بلا آلة ولا عدة أمرهم الله تعالى ألاَّ يعودوا لمثله ، وأن يعدُّوا للكفرا ما أمكنهم من آلة وعدة وقوة . والإعداد : اتخاذ الشيء لوقت الحاجة . والمراد بالقوة : الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاح .
قال - عليه الصَّلاة والسلام - على المنبر « ألا إنَّ القُوَّة الرَّمي ألا إنَّ القُوَّة الرَّمي ألا إنَّ القُوَّة الرَّميُ »
وقال بعضهم : القوة هي الحصون .
وقال أهل المعاني : هذا عام في كل ما يتوقى به على الحرب .
وقوله عليه الصلاة والسلام « القُوَّةُ هي الرَّمْيُ » لا ينفي كون غير الرمي معتبراً ، كقوله عليه الصلاة والسلام : « الحَجُّ عرفة » و « النَّدمُ توْبةٌ » لا ينفي اعتبار غيره .
فإن قيل : قوله : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم } كان يكفي ، فلم خصَّ الرمي والخيل بالذكر؟ .
فالجوابُ : أنَّ الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها الَّتي عقد الخير في نواصيها ، وهي أقوى الدّواب وأشد العدة وحصون الفرسان ، وبها يُجالُ في الميدان ، خصَّها بالذِّكر تشريفاً وأقسم بغبارها تكريماً ، فقال : { والعاديات ضَبْحاً } [ العاديات : 1 ] الآياتُ ، ولمَّا كانت السهامُ من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدوَّ ، وأقربها تناولاً للأرواح ، خصَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر لها؛ ونظير هذا قوله تعالى : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 89 ] بعد ذكر الملائكة ، ومثله كثير .
قوله « مِن قُوَّةٍ » في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنَّهُ الموصول ، والثاني : أنه العائد عليه ، إذ التقديرُ : ما استطعتموه حال كونه بعض القوة ، ويجوزُ أن تكون « مِنْ » لبيان الجِنْسِ .
قوله : « ومِن ربَاطِ » ، جوَّزُوا فيه أن يكون جمع « رَبْط » مصدر : رَبَط يَربط ، نحو : كَعْب وكِعَاب ، وكَلْب وكِلاب ، وأن يكون مصدراً ل « رَبَطَ » ، نحو : صَاحَ صِيَاحاً .
قالوا : لأنَّ مصادر الثلاثي لا تنقاس ، وأن يكون مصدر : « رَابِط » ، ومعنى المفاعلة : أنَّ ارتباط الخيل يفعله كلُّ واحد لفعل الآخر ، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً ، قال معناه ابن عطيَّة .
قال أبُو حيَّان : قوله « مصادرُ الثلاثي غير المزيد لا تَنْقَاسُ » ليس بصحيحٍ ، بل لها مصادر منقاسةٌ ذكرها النحويون .
قال شهابُ الدِّين : « في المسألة خلافٌ مشهور ، وهو لم ينقل الإجماع على عدم القياسِ حتى يرُدَّ عليه بالخلاف؛ فإنَّهُ قد يكون اختيار أحد المذاهب ، وقال به ، فلا يُردُّ عليه بالقول الآخر » .

وقال الزمخشريُّ : « والرِّباط : الخَيْلُ التي تُرْبط في سبيل الله ويجوز أن يُسمَّى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوزُ أن يكون جمع : رَبيط يعني : بمعنى مَربُوط ، ك : فَصِيل وفِصَال . والمصدرُ هنا مضافٌ لمفعوله »
وقرأ الحسنُ ، وأبو حيوة ، ومالك بن دينار : « ومِنْ رُبُط » بضمتين ، وعن الحسن أيضاً « رُبْط » بضم وسكون ، نحو : كتاب وكُتْب .
قال ابنُ عطيَّة « وفي جَمْعه ، وهو مصدرٌ غيرُ مختلفٍ نظرٌ » .
قال شهابُ الدِّين « لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنه مصدرن بل حكى أبو زيدٍ أنَّ » الرِّبَاط « الخمسةُ من الخيلِ فما فوقها ، وأن جمعها » رُبُط « ولو سُلِّم أنَّهُ مصدرٌ فلا نُسَلِّم أنَّهُ لم تختلف أنواعه ، وقد تقدَّم أنَّ » رباطاً « يجوزُ أن يكون جمعالً ل » رَبْط « المصدر ، فما كان جواباً هناك ، فهو جوابٌ هنا » .
فصل
قال القرطبي : « روى أبُو حاتمٍ عن أبي زيد : الرِّباطُ من الخيل : الخَمْسُ فما فوقها ، وجماعته » رُبُط « ، وهي التي ترتبط ، يقال منه : رَبَطَ يَرْبط ربطاً ، وارتبط يرتبط ارتباطاً ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو » قال : [ الكامل ]
2728 - أمَرَ الإلهُ بربْطِهَا لعَدُوِّهِ ... في الحَرْبِ إنَّ اللَّهَ خَيْرُ مُوفِّقِ
روي أنَّ رجلاً قال لابن سيرين : إنَّ فلاناً أوْصَى بثلثِ ماله للحصون ، فقال : هي للخيل؛ ألم تسمع قول الشاعر : [ الكامل ]
2729 - ولَقَدْ علِمْتُ عَلَى تَجَنُّبِيَ الرَّدَى ... أنَّ الحُصُونَ الخَيْلُ لا مَدَرُ القُرَى
قال عكرمة : « رباط الخَيْلِ : الإناث » وهو قول الفرَّاء؛ لأنها اولى ما يربط لتناسها ونمائها ، ذكرهُ الواحديُّ .
ولقائل أن يقول : بل حمل اللَّفظ على الفُحُولِ أولى؛ لأنَّ المقصود برباط الخَيْلِ المحاربة عليها ، والفحول أقوى على الكر والفر والعدو ، فوجب تخصيص هذا اللفظ بها .
ولمَّا تعارض هذان الوجهان وجب حمل اللفظ على مفهومه الأصلي ، وهو كونه خيلاً مربوطاً سواء كانت فحولاً أو إناثاً .
وروي عن خالد بن الوليد « أنه كان لا يركبُ في القتال إلا الإناث ، لقلَّة صهيلها » .
روى ابن محيريز قال : « كان الصَّحابةُ يستحبُّون ذكور الخيل عند الصفوف ، وإناث الخيل عند الشتات والغارات » .
قال عليه الصَّلاة والسَّلام : « الخَيْلُ مَعْقُودٌ بنواصيها الخَيْرُ إلى يومِ القيامةِ الأجْرُ والمَغْنَمُ » وروى أبو هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَن احتبس فرساً في سبيل اللَّهِ إيماناً باللَّهِ ، وتصْديقاً بوعْدِهِ ، كان شبعه وريُّةُ وبولُهُ حسنات في ميزانِهِ يوَْ القيامةِ »
فصل
وهذه الآية تدل على جواز وقف الخيل والسلاح ، واتخاذ الخزائن والخزان [ لها عدة ] للأعداء ، ويؤيدهُ حديث ابن عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله ، وقوله عليه الصلاة والسلام في حقِّ خالد : « وأمَّا خَالدٌ فإِنَّكُم تَظْلمُونَ خالِداً فإنَّه قَد احْتبسَ أدْراعَهُ وأعْتَادَهُ في سبيلِ اللَّهِ » .

وما روي أنَّ امرأة جعلت بعيراً في سبيل اللَّهِ ، فأرادَ زوجُها الحجَّ ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ادفعيه إليه ليحج عليه فإن الحجَّ فريضةٌ من اللَّهِ » ؛ ولأنَّهُ مال ينتفع به في وجه قربة ، فجاز أن يوقف كالرباع .
ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء . فقال : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } ؛ لأنَّ الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ، مستعدين له بجميع الأسلحة والآلات هابوهم .
قوله « تُرْهِبُونَ » يجوزُ أن يكون حالاً من فاعل : « أعِدُّوا » ، أي : حَصِّلُوا لهم هذا حال كونكم مُرْهِبين ، وأن يكُون حالاً من مفعوله ، وهو الموصولُ ، أي : أعِدُّوه مُرْهَباً بِهِ .
وجاز نسبته لكلٍّ منهما؛ لأنَّ في الجملة ضميريها ، هذا إذا أعدنا الضمير من « بِهِ » على « ما » الموصولة ، أمَّا إذا أعَدْنَاه على الإعِدادِ المدلُولِ عليه ب « أعِدُّوا » ، أو على « الرِّباط » ، أو على : « القُوَّةِ » بتأويل الحول؛ فلا يتأتَّى مجيئُها من الموصول ، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير « لَهُمْ » ، كذا نقله أبو حيَّان عن غيره ، فقال : « تُرْهبون » قالوا : حال من ضمير في « لَهُمْ » ولا رابط بينهما؟ ولا يصحُّ تقدير ضمير في جملة « تُرهبون » لأخذه معموله . وقرأ الحسنُ ويعقوبُ ، ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو : « تُرَهَّبُون » مضعَّفاً عدَّاه بالتضعيف ، كما عدَّاه العامَّةُ بالهمزةِ ، والمفعول الثَّاني على كلتا القراءتين محذوف؛ لأنَّ الفعل قبل النَّفْلِ بالهمزة ، أو بالتَّضعيف متعدٍّ لواحد ، نحو : « رَهَّبْتُك » والتقدير : تُرهِّبون عدوَّ اللَّه قتالكم ، أو لقاءكم .
وزعم أبو حاتم أنَّ أبا عمرو نقل قراءة الحسن بياء الغيبة وتخفيف « يُرْهبن » ، وهي قراءة واضحة ، فإنَّ الضمير حينئذٍ يرجع إلى من يرجع إليهم ضمير « لَهُمْ » ، فإنَّهُم إذا خافوا خَوَّفُوا من وراءهم .
قوله « عَدُوَّ اللَّهِ » العامَّة قراءوا بالإضافة ، وقرأ السلميُّ منوناً ، و « لِلَّه » بلام الجرِّ ، وهو مفرد ، والمراد به الجنس ، فمعناه : أعداء لله .
قال صاحبُ اللَّوامح « وإنما جعله نكرةً بمعنى العامَّة؛ لأنَّها نكرةٌ أيضاً لم تتعرَّف بالإضافة إلى المعرفة؛ لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الحالِ ، أو الاستقبال ، ولا يتعرَّف ذلك وإن أضيف إلى المعارف ، وأمَّا » وعَدُوَّكُمْ « فيجوزُ أن يكون كذلك نكرة ، ويجوز أن يتعرَّف لأنه قد أُعيد ذكره ، ومثله : رأيت صاحباً لكم ، فقال لي صاحبكم » يعني : أن « عَدُوّاً » يجوز أن يُلمحَ فيه الوصفُ فلا يتعرَّف ، وألاَّ يلمح فيتعرف .
قوله « وآخَرِينَ » نسق على « عَدُوَّ اللَّهِ » ، و « مِن دُونِهِمْ » صفة ل « آخرينَ » .

قال ابن عطيَّة : « مِن دُونِهم » بمنزلة قولك : دون أن تكون هؤلاء ، ف « دون » في كلام العرب ، و « مِنْ دُونِ » تقتضي عدم المذكور بعدها من النَّازلة التي فيها القول؛ ومنه المثل : [ الكامل ]
2730- . . ... وأمِرَّ دُونَ عُبَيْدةَ الوَذَمْ
يعني : أنَّ الظَّرفية هنا مجازية ، لأنَّ « دون » لا بد أن تكون ظرفاً حقيقة ، أو مجازاً .
قوله { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } في هذه الآية قولان :
أحدهما : أنَّ « علم » هنا متعدِّيةٌ لواحدٍ؛ لأنها بمعنى « عرف » ، ولذلك تعدَّت لواحد .
والثاني : أنَّها على بابها ، فتتعدى لاثنين ، والثاني محذوفٌ ، أي : لا تعلمونهم فازعين ، أو محاربين .
ولا بُدَّ هنا من التَّنبيه على شيءٍ ، وهو أنَّ هذين القولين لا يجوز أن يكونا في قوله « اللَّهُ يَعْلمُهُم » بل يجب أن يقال : إنَّها المتعدية إلى اثنين ، وأنَّ ثانيهما محذوف ، لما تقدَّم من الفرق بين العِلْم والمعرفة . منها : أنَّ المعرفة تستدعي سَبْقَ جهل ، ومنها : أن متعلقها الذوات دون النسب ، وقد نصَّ العلماءُ على أنهُ لا يجوزُ أن يطلق ذلك - أعني الوصف بالمعرفةِ - على اللَّهِ تعالى .
فصل
قوله تعالى : { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } .
قال الحسن وابن زيد : « هم المُنافقون » . « لا تعلمُونَهم » ؛ لأنهم معكم يقولون : لا إله إلا الله وقال مجاهدٌ ومقاتل : « هم بنُو قريظة » وقال السديُّ : « هم أهل فارس » .
وروي ابنُ جريجٍ عن سلمان بن موسى قال : هم كُفَّارُ الجِن ، لما روي « أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } فقال : إنَّهم الجنُّ ، ثم قال : » إنَّ الشَّيطانَ لا يُخَبِّل أحداً في دار فيها فرس حبيس « وعن الحسنِ : أنه قال : » صهيلُ الفرس يرهب الجن «
وقيل : المرادُ العدو من المسلمين ، فكما أنَّ المسلم يعاديه الكافر ، فقد يعاديه المسلم أيضاً .
ثم قال تعالى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله } فهذا عام في الجهادِ وفي سائر وجوه الخيرات : » يُوفَّ إليْكُم « .
قال ابنُ عبَّاسٍ : » يُوفَّ لكُم أجره « أي : لا يضيع في الآخرة أجره؛ { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي : لا تنقصون من الثَّواب . ولما ذكر ابن عباس هذا التفسير تلا قوه تعالى { آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً } [ الكهف : 33 ] .
قوله تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } الآية .
لمَّا بيَّن ما يهرب به العدو من القوة ، بيَّن بعده أنَّهم عند هذا الإرهاب إذا مالوا إلى المصالحة ، فالحكمُ قبولُ المصالحِة ، والجنوحُ : المَيْلُ ، وجَنَحَتِ الإبلُ : أمالت أعناقها؛ قال ذو الرُّمَّةِ : [ الطويل ]
2731 - إذَا مَاتَ فوقَ الرَّحْلِ أحْيَيْتِ رُوحَهُ ... بِذكْراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ جُنَّحُ

يقال : جَنَحَ اللَّيْلأُ : أقْبَلَ .
قال النضرُ بن شميلٍ : « جنح الرَّجلُ إلى فلانٍ ، ولفلان : إذا خضع له » والجُنُوح الاتِّباع أيضاً لِتضمُّنه الميل؛ قال النَّابغة - يصفُ طيراً يتبع الجيش : [ الطويل ]
2732 - جَوَانِحُ قَدْ أيْقَنَّ أنَّ قبيلهُ ... إذا ما التقَى الجَمْعَانِ أوَّلُ غَالِب
ومنه « الجَوانِحُ » للأضلاع ، لميلها على حشو الشخص ، والجناحث من ذلك ، لميلانه على الطَّائر ، وقد تقدَّم الكلامُ على بعض هذه المادة في البقرة .
قوله « لِلسَّلْمِ » تقدَّم الكلام على « السلم » في البقرة ، وقرأ أبو بكر عن عاصم هنا بكسر السين ، وكَذا في القتال : { وتدعوا إِلَى السلم } [ محمد : 35 ] ، ووافقه حمزة ما في القتال و « لِلسَّلْم » متعلق ب « جَنَحُوا .
فقيل : يتعدَّى بها ، وب » إلى « .
وقيل : هنا بمعنى » إلى « . وقرأ الأشهبُ العقيليُّ : » فاجْنُحْ « بضمِّ النُّون ، وهي لغة قيس ، والفتح لغة تميم .
والضمير في » لها « يعود على » السلم « ؛ لأنَّها تذكَّرُ وتُؤنث؛ ومن التَّأنيث قوله [ المتقارب ] .
2733 - وأقْنَيْتُ لِلْحربِ آلاتِهَا ... وأعْدَدْتُ للسِّلْمِ أوزارَها
وقال آخر : [ البسيط ]
2734 - السِّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا ما رضيتَ بِهِ ... والحَرْبُ يَكْفيكَ منْ أنْفَاسِهَا جُرَعُ
وقيل : أثبت الهاء في » لها « ؛ لأنَّهُ قصد بها الفعلة والجنحة ، كقوله : { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأعراف : 153 ] أراد : من بعد فعلتهم .
وقال الزمخشريُّ : » السِّلْمُ تُؤنَّث تأنيث نقيضها ، وهي الحربُ « . وأنشد البيت المتقدم : السِّلم تأخذ منها .
فصل
قال الحسنُ وقتادةُ : هذه الآية نسخت بقوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] .
وقوله { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } [ التوبة : 29 ] .
وقال غيرهما : ليست منسوخة؛ لكنها تتضمَّنُ الأمر بالصُّلح إذا كان الصلاح فيه ، فذا رأى مصالحتهم ، فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة وإن كانت القوة للمشركين جاز مهادنتهم عشر سنين ، ولا يجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه هادن أهل مكَّة عشر سنين ، ثم إنهم نقضُوا العهد قبل كمال المُدَّة .
وقوله { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي : فوِّض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله .
{ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } نبَّه بذلك على الزَّجر عن نقض العهد؛ لأنَّهُ عالم بما يضمير العبد سميع لما يقوله .
قال مجاهدٌ : » نزلت في قريظة والنضير « وورودها فيهم لا يمنع من إجرائها على ظاهر عمومها .
قوله تعالى { وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ } الآية .
أي : يريدوا ان يغدروا ويمكروا بك .
قال مجاهدٌ : يعني : بني قريظة { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين } أي : بالأنصارِ .
فإن قيل : لما قال : { هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين ، حتَّى قال » وبالمؤمنين « .
فالجوابُ : أنَّ التَّأييدَ ليس إلا من الله ، لكنه على قسمين :
أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معتادة .

والثاني : ما يحصلُ بواسطة أسباب معتادة .
فالأول : هو المراد بقوله : « أيَّدكَ بنصْرِهِ » .
والثاني : هو المرادُ بقوله : « وبالمؤمنين » .
ثم بيَّن كيف أيد بالمؤمنين فقال { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : بين الأوس والخزرج ، كانت بينهم إحن وخصومات ، ومحاربة في الجاهليَّة ، فصيَّرهم الله إخواناً بعد أن كانوا أعداءً ، وتبدلت العداوة بالمحبة القوية ، والمخالصة التَّامة ، ممَّا لا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى .
{ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : قادر قاهر ، يمكنه التصرف في القلوب ، ويقلبها من العداوة إلى الصداقة ومن النفرة إلى الرغبة ، حكيم يقول ما يقوله على وجه الإحكام والإتقان ، أو مطابقاً للمصلحة والصَّواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر .
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد ، والإرادات كلها من خلق الله تعالى؛ لأن تلك الألفة ، والمودة ، إنَّما حصلت بسب الإيمان ومتابعة الرسول - عليه الصلاة والسلام - فلو كان الإيمانُ فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى ، لكانت المحبَّة المترتبة عليه فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى ، وذلك خلاف صريح الآية .
فقال القاضي : « لَوْلاَ ألطافُ الله تعالى ساعةً فساعةً ، لما حصلت هذه الأحوال ، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى بهذا التَّأويل ، كما يضافُ علم الولد وأدبه إلى أبيه ، لأجل أنَّه لم يحصل ذلك إلاَّ بمعونة الأبِ وتربيته ، فكذا ههنا » .
وأجيب : بأن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر ، وحمل الكلام على المجاز ، وأيضاً فكل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكُفار ، مثل حصولها في حقِّ المؤمنين ، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف؛ لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة ، وأيضاً فالبرهانُ العقلي مقوٍّ لهذا الظَّاهر؛ أن القلب يصح أن يصير موصوفاً بالرَّغْبَةِ بدلاً عن النُّفرة والعكس .
فرجحان أحدِ الطَّرفين على الآخر لا بدَّ له من مرجِّح ، فإن كان المرجح هو العبدُ عاد التقسيم وإن كان هو الله تعالى ، فهو المقصود .
فعلم أنَّ صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي ، فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

قوله تعالى : { ياأيها النبي حَسْبُكَ الله } الآية .
لمَّا وعده بالنَّصر عند مخادعة الأعداء ، وعده بالنَّصر والظفر في هذه الآية مطلقاً ، وعلى هذا التقرير لا يلزمِ منه التكرار ، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، والمرادُ بقوله { وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } الأنصار .
وعن ابنِ عبَّاسٍ : « نزلت في إسلامِ عُمر » .
قال سعيدُ بن جبير : « أسلم مع النَّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ، ثم أسلم عمر ، فنزلت هذه الآية » .
قال المفسِّرُون : فعلى هذا القول هذه الآية مكية ، [ كتبت في ] سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله « ومن اتَّبعكَ » فيه أوجهٌ .
أحدها : أن يكون « مَنْ » مرفوع المحلِّ ، عطفاً على الجلالة ، أي : يكفيك الله والمؤمنون . وبهذا فسّره الحسن البصري وجماعة وهو الظاهر ولا محذور في ذلك حيث المعنى .
فإن قالوا : من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله ، أو ينقص بسبب نصرة غير الله ، وأيضاً إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أنَّ الواحدَ من ذلك المجموع لا يكفي في حصولِ ذلك المهم وتعالى الله عنه .
ويجابُ : بأنَّ الكُلَّ من اللَّهِ ، إلاَّ أنَّ من أنواع النُّصرة ما يحصل بناء على الأسباب المألوفةِ المعتادةِ ، ومنها ما يحصلُ لا بناءً على الأسباب المألوفة المعتادة؛ فلهذا الفرق اعتبر نصر المؤمنين ، وإن كان بعضُ الناس استصعب كون المؤمنين يكونون كافين النبي صلى الله عليه وسلم وتأوَّل الآية على ما سنذكره .
الثاني : أنَّ « مَنْ » مجرورُ المحلِّ ، عطفاً على الكافِ في : « حَسْبُكَ » ، وهذا رأي الكوفيين وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد ، قالا : « معناه : وحسبُ من اتَّبعك » .
الثالث : أنَّ محلَّه نصبٌ على المعيَّة .
قال الزمخشري : « ومنِ اتَّبعكَ » الواو بمعنى « مع » وما بعدهُ منصوبٌ ، تقول : حَسْبُكَ وزَيْداً درهمٌ ، ولا تَجُرُّ؛ لأنَّ عطف الظّاهر المجرور على المكنيّ ممتنعٌ؛ وقال : [ الطويل ]
2735 - .. . .
فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ ... والمعنى : كَفَاك وكَفَى تُبَّاعكَ المؤمنين اللَّه ناصراً .
قال أبو حيَّان : « وهذا مخالفٌ لكلام سيبويه؛ فإنَّه قال » حَسْبُك وزَيْداً درهم « لمَّا كان فيه معنى : كفاك ، وقبُحَ أن يحملوه على الضمير دون الفعل ، كأنَّهُ قال : حسبك وبحسبِ أخاك » ثم قال : « وفي ذلك الفعل المضمير ضميرٌ يعودُ على الدرهم والنيةُبالدرهم التقديمُ ، فيكون من عطف الجمل ، ولا يجوزُ أن يكون من باب الإعمال ، لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل ، أو ما جرى مجراه ، ولا عمله فلا يُتوهَّم ذلك فيه » .
وقد سبق الزمخشريَّ إلى كونه مفعولاً معه الزجاج ، إلاَّ أنه جعل « حسب » اسم فعلٍ ، فإنه قال : « حَسْبُ » اسمُ فعل ، والكافُ نصبٌ ، والواو بمعنى « مع » .

وعلى هذا يكون « اللَّهُ » فاعلاً ، وعلى هذا التقدير يجوز في « ومَنْ » أن يكون معطوفاً على الكاف ، لأنَّها مفعول باسم الفعل ، لا مجرورٌ ، لأنَّ اسم الفعل لا يُضاف .
ثم قال أبو حيان : « إلاَّ أنَّ مذهب الزجاج خطأٌ ، لدخول العوامل على » حَسْب « نحو : بِحَسْبك درهم ، وقال تعالى : { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } ، ولم يثبت في موضع كونه اسم فعل ، فيحمل هذا عليه » .
وقال ابنُ عطية - بعدما حكى عن الشعبي ، وابن زيد ما تقدَّم عنهما من المعنى - : ف « مَنْ » في هذا التأويل في محلِّ نصب ، عطفاً على موضع الكاف؛ لأنَّ موضعها نصبٌ على المعنى ب : « يَكْفِيكَ » الذي سَدَّتْ « حسبك » مَسَدَّه .
قال أبو حيان « هذا ليس بجيد؛ لأنَّ » حَسْبك « ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب ، بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب ، و » حَسْبك « مبتدأ مضافٌ إلى الضمير وليس مصدراً ، ولا اسم فاعل ، إلاَّ إن قيل : إنَّه عطف على التوهم كأنه توهَّم أنه قيل : يكفيك الله ، أو كفاك الله ، لكن العطف على التوهُّم لا ينقاسُ » .
والذي ينبغي أن يحمل عليه كلامُ الشعبي وابن زيد أن تكون « مَنْ » مجرورة ب « حَسْب » محذوفة ، لدلالة « حَسْبك » عليها؛ كقوله : [ المتقارب ]
2736 - أكُلَّ امرىءٍ تَححسَبينَ امْرَأً ... ونارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا
أي : وكلَّ نار ، فلا يكُونُ من العطفِ على الضمير المجرور .
قال ابن عطيَّة : « وهذا الوجهُ من حذفِ المضاف مكروه بأنه ضرورةٌ » .
قال أبو حيان : « وليس بمكروهٍ ، ولا ضرورة بل أجازه سيبويه ، وخرَّج عليه البيت وغيره من الكلام » .
قال شهابُ الدين : « قوله : » بل هذه إضافةٌ صحيحة ، ليست من نصب « فيه نظر؛ لنَّ النَّحويين على أنَّ إضافة » حَسْب « وأخواتها إضافةٌ غيرُ محضة ، وعلَّلُوا ذلك بأنها في قوة اسم فاعل ناصبٍ لمفعولٍ به ، فإنَّ » حَسْبكَ « بمعنى : كافيك ، و » غيرك « بمعنى مُغايرك ، و » قيد الأوابد « بمعنى : مُقيدها .
قالوا : ويدلُّ على ذلك أنَّها تُوصفُ بها النَّكرات ، فيقال : مررت برجلٍ حسبك من رجلٍ » .
وجوَّز أبو البقاء : الرفع من ثلاثة أوجهٍ : أنَّهُ نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم ، إلاَّ أنَّهُ قال : فيكون خبراً آخر ، كقولك : القائمان زيد وعمرو ، ولم يُثَنِّ « حَسْبك » ؛ لأنه مصدرٌ .
وقال قومٌ : هذا ضعيفٌ؛ لأن الواو للجمع ، ولا يَحْسُن ههنا ، كما لا يَحْسُن في قولهم : « مَا شَاء اللَّهُ وشِئْتَ » ، « ثم » هاهنا أولى .

يعني أنَّهُ من طريق الأدل لا يُؤتَى بالواو التي تقتضي الجمع ، بل يأتي ب « ثم » التي تقتضي التراخي والاحديثُ دالٌّ على ذلك .
الثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : وحسب من اتبعك .
الثالث : هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره : ومن اتبعك كذلك ، أي : حسبهم الله .
وقرأ الشعبيُّ « ومَنْ » بسكون النون « أْتْبَعك » بزنة « أكْرَمَكَ » .
قوله تعالى : { ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال } الآية .
لمَّا بيَّن أنه تعالى كافيه بنصره ، وبالمؤمنين ، بيَّن ههنا أنه ليس من الواجب أن يتكل على ذلك إلا بشرط أن يحرض المؤمنين على القتال؛ فإنه تعالى كفيل بالكفاية بشرط أن يحصل منهم التعاون على القتال ، والتحريض كالتحضيض والحث .
يقال : حَرَّضَ وَحَرَّشَ وحرَّكَ وحثَّ بمعنىً واحد .
وقال الهرويُّ « يقال : حَارَضَ على الأمر ، وأكَبَّ ، وواكبَ ، وواظبَ ، وواصبَ بمعنىً » .
قيل : وأصله من الحَرَض ، وهو الهلاك ، قال تعالى : { حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين } [ يوسف : 85 ] .
2737 - إنِّي امْرؤٌ نَابَنِي همٌّ فأحْرَضَنِي ... حتَّى بَليتُ وحتَّى شَفَّنِي سَقَمُ
قال الزجاج : « تأويل التحريض في اللُّغةِ أن يُحَثَّ الإنسان على شيءٍ حتى يُعلمَ منه أنَّه حارضٌ والحارض : المقاربُ للهلاك » واستبعد النَّاسُ هذا منه ، وقد نَحَا الزمخشريُّ نحوه ، فقال : « التَّحريضُ : المبالغةُ في الحثِّ على الأمر ، من الحرَض ، وهو أن ينهكه المرض ، ويتبالغ فيه حتى يُشْفِيَ على الموت أو تُسَمِّيه حَرضاً ، وتقولُ له : ما أراك إلاَّ حَرضاً » .
وقرأ الأعمش « حَرِّصْ » بالصاد المهملة ، وهو من « الحِرْصِ » ، ومعناه مقارب لقراءة العامة .
قوله : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } الآيات .
أثبت في الشرط الأول قيداً ، وهو الصبرُ ، وحذف من الثاني : وأثبت في الثاني قيداً ، وهو كونهم من الكفر ، وحذف من الأوَّلِ ، والتقديرُ : مائتين من الذين كفروا ، ومائة صابرة فحذف من كلٍّ منهما ما أثبت في الآخر ، وهو في غاية الفصاحة .
وقرأ الكوفيون : { وإن يكُنْ منْكُم مائةٌ يَغلِبُوا } ، { فإنْ يكنْ منكُم مائةٌ صابرةٌ } بتذكير « يكن » فيهما ، ونافع وابن كثير وابن عامر بتأنيثه فيهما ، وأبو عمرو في الأولى كالكوفيين وفي الثانية كالباقين .
فَمَنْ ذكَّر فللفصل بين الفعل وفاعله بقوله : « مِنكُمْ » ؛ لأنَّ التأنيث مجازي ، إذ المراد ب « المائة » الذُّكور ، ومنْ أنَّثَ فلأجل اللفظِ ، ولم يلتفت للمعنى ، ولا للفصل .
وأمَّا أبو عمرو فإنَّما فرٌَّ بين الموضعين فذكَّر في الأول ، لما ذكر؛ ولأنَّهُ لحظ قوله : « يغلبوا » وأنَّثَ في الثاني ، لقوة التأنيث بوصفه بالمؤنث في قوله : « صَابِرَةٌ » ، وأمَّا : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ } و { وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ } فبالتذكير عند جميع القرَّاء ، إلاَّ الأعرج ، فإنه أنَّثَ المسند إلى « عشرون » .

فصل
هذا خبرٌ والمراد به الأمر ، كقوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] .
والمعنى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } فليصبروا وليجتهدوا في القتالِ حتَّى « يَغلبُوا مائتيْنِ » ويدلُّ على أن المراد الأمر وجوه .
أولها : لو كان المرادُ الخبر ، لزم أن يقال لم يغلب قط مائتان من الكُفَّارِ عشرين من المؤمنين ، وذلك باطل .
وثانيها : قوله تعالى : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } نسخ والنسخُ لا يليق إلاَّ بالأمر .
وثالثها : قوله تعالى { والله مَعَ الصابرين } وذلك ترغيب في الثبات على الجهادِ .
فصل
قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } يدُلُّ على أنَّهُ تعالى ما أوجبَ هذا الحكم إلاَّ بشرط كونه صابراً قادراً على ذلك ، وإنَّما حصل هذا الشَّرط عند حصول أشياء .
منها : أن يكون شديد الأعضاء ، قوياً جلداً ، وأن يكون قوي القلب شجاعاً غير جبان ، وأن يكون غير متحرّفٍ إلاَّ لقتال أو متحيزاً إلى فئة؛ فعند حصول هذه الشرائط كان يجبُ على الواحد أن يثبتَ للعشرةِ .
وإنَّما حسن هذا التكليف؛ لأنه مسبوق بقوله : { حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] فلمَّا وعد المؤمنين بالكفاية والنُّصرةِ كان هذا التكليف سهلاً؛ لأنَّ من تكفَّل بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه .
فإن قيل : هذه الآية تدلُّ على جوب ثبات الواحد للعشرة ، فما الفائدة في العدولِ عن هذه اللَّفظةِ الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة؟ .
والجوابُ : أن هذا الكلام إنَّما ورد على وفْق الواقعة؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث السَّرايا ، والغالبُ أن تلك السَّرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين ، وما كانت تزيدُ على المائة فلهذا ذكر الله هذين العددين .
قوله : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } وهذا كالعَّة لتلك الغلبة؛ لأنَّ من لا يؤمنُ باللَّهِ ولا يؤمنُ بالمعاد ، فالسعادةُ ليست عنده إلاَّ هذه الحياة الدنيويَّة ، ومن كان هذه معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال .
وأمَّا من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة وأنَّ السعادة لا تحصل إلاَّ في الدَّار الآخرة ، فإنَّه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ، ولا يقيم لها وزناً ، فيقدم على الجهاد بقلب قوي عزم صحيح ، وإذا كان الأمر كذلك ، كان الواحد في الثبات يقاوم العدد الكثير .
وأيضاً : فإن الكُفَّار إنَّما يعولُون على قوتهم وشوكتهم ، والمسلمون يستغيثون بربهم بالدعاء ، والتضرع ، ومنْ كان كذلك كان النصر الظفر به أليق وأولى .
فصل
كان هذا يوم بدر فرض الله على الرَّجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين فثقلت على المؤمنين ، فخفَّف اللَّهُ عنهم فقال : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف .
وقرأ المفضل عن عاصم « وعُلِمَ » مبنياً للمفعول ، و { أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } في محلِّ رفع لقيامه مقام الفاعل ، وهو في محلِّ نصبِ على المفعول به في قراءة العامة؛ لأن فاعل الفعل ضميرٌ يعودُ على اللَّهِ تعالى .

قوله : « ضَعْفاً » قرأ عاصم وحمزة هنا ، وفي الرُّوم في كلماتها الثلاث { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً } [ الروم : 54 ] بفتح الضاد والباقون بضمها . وعن حفص وحده خلافٌ في الروم .
وقرأ عيسى بن عمر : « ضُعُفاً » بضم الضاذ والعين وكلها مصادر .
وقيل : الضَّعْفُ - بالفتح - في الرأي والعقل ، وبالضم في البدن .
وهذا قول الخليل بن أحمد ، هكذا نقله الراغب عنه . ولمَّا نقل ابنُ عطية هذا عن الثعلبي ، قال : « وهذا القول تردُّه القراءة » . وقيل : هما بمعنى واحد ، لغتان : لغةُ الحجاز الضَّمُّ ، ولغةُ تميم الفتح ، نقله أبو عمرو ، فيكونان ك : الفَقْر والفُقْر ، والمَكْث والمُكْث ، والبَخَل والبُخْل .
وقرأ ابن عباس فيما حكى عنه النقاش وأبو جعفر « ضُعَفَاء » جمعاً على « فُعَلاءَ » ك « ظَرِيف وظُرفُاء .
قوله » يكُن مِنكُم « » يكن « في هذه الأماكن يجوز أن تكون التامَّة ، ف » مِنكُمْ « إمَّا حالٌ من » عِشْرثون « لأنها في الأصل صفةٌ لها ، وإمَّا متعلق بنفس الفعل ، لكونه تاماً ، وأن تكون الناقصة فيكون » مِنكُمْ « الخبرَ ، والمرفوعٌ الاسمَ ، وهو » عِشْرُونَ « ، و » مائة « ، و » ألف « .
فصل
روى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ : » لما نزلت التكليف الأوَّلُ ضَجَّ المهاجرون ، وقالوا : يا ربَّنا نحن جياع ، وعدونا شباع ، ونحن في غربة وعدونا في أهلهم ، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ، وعدونا ليس كذلك ، وقال الأنصارُ : شُغلْنَا بعَدُوِّنَا ، وواسينا إخواننا ، فنزل التَّخفيف « .
وقال عكرمةُ : » إنَّما أمر الرجل أن يصبر لعشرة ، والعشرةُ لمائةٍ حال ما كان المسلمون قليلين ، فلمَّا كثروا خفف الله عنهم ، ولهذا قال ابن عباس : « أيُّمَا رجلٌ فرَّ من ثلاثة فلم يفر ، فإن فر من اثنين فقد فَرَّ » . والجمهورُ ادَّعُوا أن قوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } ناسخ للآية المتقدمة « .
وأنكر أبو مسلم الأصفهانيُّ هذا النسخ ، وقال : » إن قوله في الآية الأولى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } فهذا الخبر محمول على الأمر ، لكن بشرط كون العشرين قادرين على الصَّبر لمُقاتلةِ المائتين ، وقوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } يدلُّ على أنَّ ذلك الشرط غير حاصل في حقِّ هؤلاء ، فالآية الأولى دلَّت على ثبوت حكم بشرط مخصوص ، وهذه الآية دلَّت على أنَّ ذلك الشَّرط مفقود في حقِّ هذه الجماعة ، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ ألبتة « .

فإن قيل : قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } معناه : ليكن العشرون صابرون لمقابلة المائتين ، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم .
فالجوابُ : لم لا يجوزُ أن يكون المرادُ من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم؟
والحاصلُ أنَّ لفظ الآية ورد بلفظ الخبر؛ خالفنا هذا الظَّاهر وحملناه على الأمر ، أما على رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره ، وتقديره : إن يحصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين ، فليشتغلوا بمقاومتهم ، وعلى هذا فلا نَسْخَ .
فإن قيل : قوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } مشعر بأن هذا التَّكليف كان متوجهاً عليهم فالجوابُ : لا نسلم أنَّ لفظ التخفيف يدلُّ على حصول التثقيل قبله؛ لأنَّ عادة العرب الرخصة بهذا الكلام ، كقوله تعالى عند الرُّخْصَةِ للحر في نكاح الأمة ، لمن لا يستطيع نكاح الحرة : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } [ النساء : 25 ] فكذا ههنا .
وتحقيقه أنَّ هؤلاء العشرين كانوا في محلِّ أن يقال إنَّ ذلك الشرط حاصِلٌ فيهم ، فكان ذلك التكليف لازماً عليهم فلمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى أنَّ ذلك الشرط غير حاصل فيهمن وأنَّه تعالى علم أن فيهم ضعفاً لا يقدرون على ذلك الشرط غير حاصل فيهم ، وأنَّه تعالى علم أن فيهم ضعفاً لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك الخوف ، فصحَّ أن يقالك خفَّف اللَّهُ عنهم ، وممَّا يدل على عدم النَّسْخِ أنَّهُ تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى ، وجعل النَّاسِخ مقارناً للمنسوخ لا يجوزُ .
فإن قيل : المعتبر في النَّاسخِ والمنسوخ بالنُّزُولِ دون التلاوة ، فقد يتقدم الناسخ وقد يتأخرن ألا ترى في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ .
فالجوابُ : أنَّ الناسخ لمَّا كان مقارنته للمنسوخ لا يجوز في الوجود ، وجب ألا يكون جائزاً في الذكر ، اللهم إلاَّ لدليل قاهر ، وأنتم ما ذكرتم ذلك . وأمَّا قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ ، فأبوا مسلم ينكر كلّ أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه؟ فهذا تقرير قول أبي مسلم .
قال ابن الخطيب : « إن ثبت إجماع الأمَّة على الإطلاق قبل أبي مسلمٍ على النَّسْخِ فلا كلام ، فإن لم يحصل الإجماعُ القاطع؛ فنقولُ : قول أبي مسلمٍ حسن صحيح » .
فصل
احتجَّ هشام على قوله : إنَّ الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلاَّ عند وقوعها بقوله { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } فإنَّ معنى الآية : الآن علم اللَّهُ أن فيكم ضَعْفاً ، وهذا يقتضي أنَّ علمه تعالى بضعفهم ما حصل إلاَّ في هذا الوقتِ
وأجاب المتكلمون بأنَّ معنى الآية : أنَّهُ تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حادثاً واقعاً .
فقوله { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } معناه : أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله ، وقبل ذلك كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع او سيحدث .

فصل
الذي استقر عليه حكم التكليف بمقتضى هذه الآية أنَّ كلَّ مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء كافرين ، عبداً كان أو حراً فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل ، فإن لم يبق معه سلاح ، فله أن ينهزم ، وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمةُ والصبر أحسن .
روى الواحديُّ في البسيط : « أنه وقف جيش مؤتة ، وهم ثلاثة ألاف وأمراؤهم على التَّعاقب زيد بن حارثة ثمَّ جعفر بن أبي طالب ثمَّ عبد الله بن رواحة لمائتي ألف من المشركين ، مائة ألأف من الرُّومِ ، ومائة ألف من المستعربة ، وهم لخم وجذام » .
قوله : « بإذنِ اللَّهِ » أي : أنه لا تقع الغلبةُ إلاَّ بإذن اللَّهِ ، والإذن ههنا هو الإرادة وذلك يدل على مسألة خلق الأفعال ، وإرادة الكائنات .
ثم ختم الآية بقوله : { والله مَعَ الصابرين } والمرادُ ما ذكره في الآية الأولى في قوله { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } فبيَّن ههنا أنَّ الله مع الصَّابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا ، فإنَّ نصري معهم وتوفيق مقارن لهم وهذا يدلُّ صحَّة مذهب أبي مسلم ، وهو أن ذلك الحكم لم ينسخ ، بل هو ثابت كما كان فإنَّ العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين ، بقي ذلك الحكم ، وإنْ لم يقدروا على مصابرتهم فالحكمُ المذكور هنا زائل .

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } الآية .
قرأ أبو عمرو « تكون » بالتأنيث ، مراعاةً لمعنى الجماعة ، والباقون بالتَّذكير ، مراعاةً للفظ الجمع ، والجمهورُ هنا على « أسْرَى » وهو قياس « فعيل » بمعنى « مفعول » دالاَّ على أنه ك : جَريح وجَرْحَى .
وقرأ ابنُ القعقاع والمفضَّل عن عاصم « أسَارَى » شبَّهُوا « أسير » ب : « كَسْلان » فجمعوهُ على « فُعَالَى » كَ : « كُسَالَى » ، كما شَبَّهُوا به « كسلان » فجمعوه على « كَسْلَى » ، وقد تقدَّم القولُ فيهما في البقرة .
قال الزمخشري : « وقرىء » ما كان للنَّبي « على التعريف »
فإن قيل : كيف حسن إدخال لفظه « كان » على لفظة « يكون » في هذه الآية؟ فالجوابُ : قوله « مَا كَان » معناه النفي والتنزيه ، أي : ما يجب وما ينبغي أن يكون المعنى المذكور ، كقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] .
قال أبو عبيدة « يقول : لم يكن لنبي ذلك ، فلا يكن لك ، ومن قرأ { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ } فمعناه : أنَّ هذا الحكم ما كان ينبغي حصوله لهذا النبي ، وهو محمد عليه الصلاة والسلام » .
قوله : « حتَّى يُثخِنَ » قرأ العامَّةُ « يُثْخنَ » مخففاً ، عدوهُ بالهمزة .
وقرأ أبُو جعفر ويحيى بن وثاب ويحيى بن يعمر « يُثَخِّنَ » بالتشديد ، عدوهُ بالتضعيف ، وهو مشتقٌّ من الثَّخانة ، وهي الغِلَظ والكثافة في الأجسام ، ثمَّ يُسْتَعار ذلك في كثرة لاقتل ، والجراحات ، فيقال : أثْخَنَتْه الجراح ، أي : أثقلته حتى أثْبَتَتْه ، ومنه « حتَّى إذا أثخنتموهم » .
وقيل : حتى يقهر ، والإثخان : القهرُ .
وأنشد المفضلُ : [ الطويل ]
2738 - تُصَلِّي الضُّحَى ما دَهْرُهَا بتَعَبُّدٍ ... وقَدْ أثْخَنَتْ فرعَونَ في كُفُرِهِ كُفْرَا
كذا أنشده الهروي شاهداً على القهر ، وليس فيه معنى ، إذا المعنى على الزِّيادة والمبالغةِ المناسبةِ لأصل معناه ، وهي الثَّخانة .
ويقال منه : ثَخُنَ يَثْخُنُ ثَخَانَة فهو ثَخِين ، ك : ظَرُفَ يَظْرُف ظَرَافَةً ، فهو ظريفٌ .
قوله { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة } . الجمهورعلى نصب « الآخرة » .
وقرأ سليمانُ بن جماز المدني بجرِّها ، وخُرِّجتْ على حفِّ المضاف وإبقاء المضاف إليه على جرِّه . وقدَّره بعضهم عرض الآخرة ، فعيب عليه؛ إذْ لا يحسن أن يقال : والله يريد عرض الآخرة فأصلحه الزمخشريُّ بأنْ جعلهُ كذلك؛ لأجل المقابلة ، قال : « يعني ثوابها » وقدَّره بعضهم ب « أعمال » ، أو « ثواب » ، وجعله أبُو البقاءِ كقول الآخر : [ المتقارب ]
2739 - . ... ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا
وقدَّر المضاف : « عَرَضَ الآخِرَةِ » .
قال أبُو حيان : « ليست الأيةُ مثل البيت ، فإنهُ يجوزُ ذلك ، إذَا لمْ يُفْصل بين حرف العطف وبين المجرور بشيء كالبيت ، أو يفصل ب » لا « نحو : » ما مثل زيد ولا أخيه يقولان لك « أمَّا إذَا فُصِل بغيرها كهذه القراءةِ فهو شاذٌّ قليل » .

قال الزجاج : « أسْرَى » جمع ، و « أسَارَى » جمع الجمع . والإثخان : قال الواحديُّ : « الإثخان » في كُلِّ شيء : عبارة عن قوَّته وشدَّته .
يقال : قد أثخنه المرض : إذا اشتد قوة المرض عليه وكذلك أثخنته الجراح .
فقوله : { حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } أي : حتى يقوى ويشتد ويغلب ويقهر .
قال أكثر المفسرين : المرادُ منه : أين يبالغ في قتل أعدائه ، قالوا : وإنَّما جعلنا اللَّفظ يدل عليه؛ لأنَّ الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل؛ قال الشَّاعرُ :
2740 - لا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفيعُ من الأذَى ... حتَّى يُراقَ على جوانبِهِ الدَّمُ
وكثرة القتل توجب قوة الرهب وشدة المهابة ، وكلمة « حتّى » لانتهاء الغايةِ ، فقوله { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } يدُلُّ على أنَّ بعد حصول الإثخان في الأرض فله أن يقدم على الأسارى .
وقوله : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } المرادُ منه : الفداء ، وإنّضما سمى منافع الدنيا عرضاً؛ لأنَّهُ لا ثبات له ولا دوام ، فكأنه يعرض ثم يزول ، ولذلك سمَّى المتكلمون الأعراض أعراضاً ، لأنها لا ثبات لها كثبات الأجسام؛ لأنها تطرأ على الأجسام ، وتزول عنها والأجسام باقية .
وقوله : { والله يُرِيدُ الآخرة } أي : أنه تعالى لا يريدُ ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول ، وإنَّما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الدائمة الباقية المصونة عن التبدل والزوال .
ثم قال : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم؛ لأنَّ الله عزيز لا يقهر ولا يغلب ، حكيم في تدبير مصالح العالم .
قال ابنُ عبَّاسٍ : « هذا الحكم إنَّما كان يوم بدر؛ لأنَّ المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل اللَّهُ بعد ذلك في الأسارى : { حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } [ محمد : 4 ] .
قال ابنُ الخطيبِ : » هذا الكلامُ يوهم أنَّ قوله : { فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } يزيدُ على حكم الآية التي نحن في تفسيرها ، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّ كلتا الآيتين متوافقتان ، فإنهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ، ثم بعده أخذ الفداء « .
فصل
احتج الجبائيُّ والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول : كلُّ ما يكون من العبد فاللَّهُ يريدُه؛ لأنَّ هذا الأسر وقع منهم على هذا الوجه ، ونصَّ اللَّهُ على أنَّهُ لا يرييده ، بل يريد منهم ما يؤدي إلى ثواب الآخرة وهو الطاعة .
وأجيبوا : بأنه تعالى ما أراد أن يكون هذا الأمر منهم طاعة وعملاً جائزاً مأذوناً فيه ، فلا يلزم من نفي الإرادة كون هذا الأمر طاعة ، نفي كونه مراد الوجود .

فصل
روي عن عبد الله بن مسعود قال : « لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم » ما تقُولُون في هؤلاءِ الأسْرَى « فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك اسْتَبْقِهِمْ ، واستأن بهم لعلَّ الله أن يتوب عليهم ، وخُذْ منهم فدية تكون لنا قوة على الكُفَّارِ .
وقال عمرُ : يا رسول الله : كذبوك وأخرجوك ، فَدَعْنَا نضرب أعناقهم ، مكِّن عليّاً مِنْ عقيلٍ فيَضْرب عنقَهُ ، ومكْنِي من فلانٍ : » نَسيباً لِعمَرَ « فأضْرِبَ عُنُقَهُ ، فإن هؤلاء أئِمَّةُ الكفرِ .
وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب؛ فأدخلهم فيه ، ثم أضرم عليهم ناراً ، فقال له العباس : قطعت رحمك . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال » إنَّ اللَّهَ ليليِّن قلوب رجال حتَّى تكون ألين من اللبن ، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم ، قال : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى ، قال : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] ومثلك يا عمر ، كمثل نوح ، قال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ومثلك كمثل موصى ، قال : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ } [ يونس : 88 ] الآية «
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أنتم اليوم عالة فلا ينقلبن أحد منهم إلاَّ بفداء أو ضرب عنق « .
قال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليَّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم ، حتَّى قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء .
قال ابن عباس : قال عمر بن الخطاب : فَهَوِيَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكرٍ ولمْ يَهْوَ ما قلت ، فلمَّا كان من العد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعديْن يبكيانِ ، قلتُ : يا رسُول الله ، أخبِرْنِي مِنْ أيِّ شيءٍ تَبْكِي أنتَ وصاحبُكَ ، فإنْ وجَدْتُ بكاءً بكَيْتُ ، وإنْ لَمْ أجِدْ بكاءً تَباكَيْتُ لبكائِكُما .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » أبكي للَّذي عَرَ عليَّ أصحابُكَ مِنْ أخذهم الفداءَ ، لقد عُرِضَ عليَّ عذابُهُم أدْنَى مِنْ هذه الشجَّرةِ « شجرةٍ قريبةٍ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } إلى قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } وأحَلَّ الله الغنيمةَ لهُمْ .

وكان الفداء لكل أسيرٍ أربعين أوقية ، والأوقيةُ : أربعون ردهماً .
قوله : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
قال ابنُ عباسٍ : كانت الغنائمُ حراماً على الأنبياء؛ فكانُوا إذَا أصابوا مَغْنَماً جعلوه للقربان فكانت تتنزل نار من السماءِ فتأكله ، فلمَّا كان يوم بدر أٍرع المؤمنون في الغنائم ، وأخذ الفداء ، وفأنزل اللَّهُ تعالى : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } .
يعني : لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنَّهُ تحلُّ لكم الغنائم لمَسَّكُم العذاب .
وهذا مشكل؛ لأنَّ تحليل الغنائم والفداء ، هل كان حاصلاً في ذلك الوقت ، أو ما كان حاصلاً فيه؟ فإن كان ذلك التَّحليل والإذن حاصلاً في ذلك الوقت امتنع إنزال العذاب عليهم؛ لأنَّ ما كان مأذوناً فيه من قبل الشرع لم يحصل العقابُ على فعله .
وإن قلنا : إنَّ الإذن ما كان حاصلاً في ذلك الوقت كان ذلك الفعل حراماً في ذلك الوقت ، أقصى ما في الباب أنَّهُ سيحكم بحله بعد ذلك ، إلاَّ أنَّ هذا لا يقدح في كونه حراماً في ذلك الوقت .
فإن قالوا : إنَّ كونه بحيثُ يصير بعد ذلك حلالاً ، يوجبُ تخفيف العقابِ .
قلنا : فإذا كان الأمر كذلك امتنع إنزال العقاب بسببه ، وذلك يمنع من التخويف بسبب ذلك العقاب .
قال ابنُ العربيِّ : « في هذه الآية دليلٌ على أنَّ العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراماً ممَّا هو في علم اللَّه حلال له لا عقوبة عليه ، كالصَّائم إذا قال : هذا يوم نَوْبي فأفطر الآن ، وتقولُ المرأة : هذا يوم حيضتي فأفطر ، ففعلا ذلك ، وكان النوب والحيضُ الموجبان للفطر ، فمشهور المذهب أن فيه الكفارة ، وهو قول الشافعيِّ .
وقال أبُو حنيفة : لا كفارة عليه . وجه الأوَّل أنَّ طريق الإباحة لا يثبت عذراً غير عقوبة التَّحْريمِ عند الهتكِ ، كما لَوْ وَطىء امرأة ثمَّ نكحها .
ووجه قول أبي حنيفةَ : أنَّ حرمة اليوم ساقطة عند الله - عزَّ وجلَّ - ، فصادق الهَتْكَ محلاًّ لا حرمةَ له في عِلْمِ اللَّه تعالى ، كما لو قصد وطء امرأة زُفَّت إليه ، وهو يعتقدُ أنَّها ليست بزوجةٍ له فإذا هي زوجته » .
قال القرطبيُّ : « وهذا أصحُّ » .
وقال ابن جريح : « لولا كتابٌ من اللَّهِ سبقَ » أنَّهُ لا يضلُّ قوماً بعد إذْ هداهم حتَّى يبين لهم ما يتقون ، وأنَّهُ لا يأخذ قوماً فعلوا شيئاً بجهالة ، وأنَّهُ لا يعذب إلا بعد النهي ، لعذبكم فيما صنعتم ، وأنَّهُ تعالى ما نهاهم عن أخْذِ الفداءِ . وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لانَّا نقول حاصل هذا القول أنه ما وجد دليل شعري يوجب حرمة ذلك افداء . فهل حصل دليل عقليّ يقتضي حرمته أم لا؟
فإن قلنا : حصل ، فيكون اللَّهُ تعالى قد بيَّن تحريمه بواسطة ذلك الدَّليل العقلي ، فلا يمكن أن يقال : إنَّهُ تعالى لم يُبيَِّن تلك الحرمة ، وإن قلنا : إنه ليس في العقل ولا في الشَّرع ما يقتضي المنع؛ فحينئذ امتنع أن يكون المنع حاصلاً وإذا كان الإذن حاصلاً فكيف يمكن ترتيب العقاب على فعله؟
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } أنَّهُ لا يعذِّب أحداً شهد بدراً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهذا أيضاً مشكلٌ؛ لأنَّهُ يقتضي أن يقال : إنهم ما منعُوا عن الكُفْرِ والمعاصي والزِّنا والخمر ، وما هددوا بترتيب العذابِ على هذه القبائح ، وذلك يوجبُ سقوط التَّكاليف عنهم ، ولا يقوله عاقل ، وأيضاً فلو كان كذلك ، فكيف أخذهم اللَّهُ في ذلك الموضع بِعَيْنه في تلك الواقعةِ بعينها؟
قال ابنُ الخطيب : « واعلمْ أنَّ النَّاس أكثروا فيه ، والمعتمد في هذا الباب أن نقول :
أمَّا على قول أهل السنة : فيجوز أن يعفُو اللَّهُ عن الكبائر .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75