كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)

قوله تعالى : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين } . العامة على نصب « قَوْلَ » خبراً ل « كَانَ » ، والاسم « أنْ » المصدرية وما بعدها . وقرأ أمير المؤمنين والحسن وابن أبي إسحاق برفعه على أنه الاسم ، و « أَنْ » وما في حَيِّزها الخبر ، وهي عندهم مرجُوحَةٌ ، لأنه متى اجتمع مَعْرِفَتَان فالأولى جعل الأعرف الاسم ، وإن كان سيبويه خيَّر في ذلك بين كل معرفتين ، ولم يفرِّق هذه التفرقة ، وتقدم تحقيق هذا في « آل عمران » .
فصل
قوله : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله } أي : إلى كتاب الله { وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } وهذا ليس على طريق الخبر ، ولكنه تعليم أدب الشرع ، بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا ، { أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي : سمعنا الدعاء وأطعنا بالإجابة ، { وأولئك هُمُ المفلحون وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } قال ابن عباس : فيما ساءه وسره « وَيخْشَى اللَّهَ » فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي « وَيَتَّقِه » فيما بقي من عمره { فأولئك هُمُ الفآئزون } الناجون .
قوله : « وَيَتَّقِهِ » . القراء فيه بالنسبة إلى القاف على مرتبتين :
الأولى : تسكينُ القاف ، ولم يقرأ بها إلاّ حفص . والباقون بكسرها .
وأما بالنسبة إلى هاء الكناية فإنهم فيها على خمس مراتب :
الأولى : تحريكُهَا مَفْصُولةً قولاً واحداً ، وبها قرأ ورشٌ وابن ذَكْوَانَ وخَلَفٌ وابن كثير والكسائيّ .
الثانية : تسكينها قولاً واحداً ، وبها قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم .
الثالثة : إسكان الهاء أو وصلها بياء ، وبها قرأ خلاَّد .
الرابعة : تحريكها من غير صلة ، وبها قرأ قالون وحفص .
الخامسة : تحريكها موصولة أو مقصورة ، وبها قرأ هشام .
فأمَّا إسكان الهاء وقصرها وإشباعها فقد مرَّ تحقيقه مستوفًى . وأما تسكين القاف فإنهم حملوا المنفصل على المتَّصل ، وذلك أنهم يُسَكِّنُون عين « فَعل » فيقولون : كَبْد ، وكتف ، وصبر في كَبِد وكَتِف وصبِر ، لأنها كلمة واحدة ، ثم أجري ما أشبه ذلك من المنفصل مُجْرَى المتصل ، فإن « يَتَّقِه » صار منه « تَقِه » بمنزلة « كَتِف » فسكن كما يسكن ، ومنه :
3849- قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا ... بسكون الراء كما سكن الآخر :
3850- فَبَاتَ مُنْتَصباً وَمَا تَكَرْدَسَا ... وقول الآخر :
3851- عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ
يريد : « مُنْتَصِباً » ، و « لَمْ يَلِدْهُ » .
وتقدم في أول البقرة تحرير هذا الضابط في قوله : « فهي كالحجارة » و « هي » و « هو » ونحوها :
وقال مكيٌّ : كان يجب على من سَكَّنَ القاف أن يضُمَّ الهاء ، لأنَّ هاء الكناية إذا سُكِّن ما قبلها ولم يكن الساكن ياءً ضُمَّتْ نحو « مِنْهُ » و « عَنْهُ » ، ولكن لما كان سكون القاف عارضاً لم يعتدَّ به ، وأبقى الهاء على كسرتها التي كانت عليها مع كسر القاف ، ولم يصلها بياء ، لأنَّ الياء المحذوفة قبل الهاء مُقَدَّرَةٌ مَنْويَّةٌ ، ( فبقي الحذف الذي في الياء قبل الهاء على أصله ) .

وقال الفارسيُّ : الكسرة في الهاء لالتقاء الساكنين ، وليست الكسرة التي قبل الصلة ، وذلك أنَّ هاء الكناية ساكنةٌ في قراءته ، ولما أَجْرَى « تَقِهِ » مجرى كَتِفٍ ، وسكَّن القاف التقى ساكنان ، ولمَّا التقيا اضطر إلى تحريك أحدهما ، فإمَّا أن يحرِّك الأول أو الثاني ، ( و ) لا سبيل إلى تحريك الأول ، لأنه يعود إلى ما فرَّ منه ، وهو ثقل « فَعِل » فحرَّك ثانيهما ( على غير ) أصل التقاء الساكنين ، فلذلك كسر الهاء ، ويؤيده قوله :
3852- .. . . . لَمْ يَلْدَه أبَوَانِ
وذلك أن أصله : لم « يَلِدْه » بكسر اللام وسكون الدال للجزم ، ثم لما سكن اللام التقى ساكنان ، فلو حرك الأول لعاد إلى ما فرَّ منه ، فحرك ثانيهما وهو الدال ، وحركها بالفتح وإن كان على خلاف أصل التقاء الساكنين مراعاة لفتحة الياء . وقد ردَّ أبو القاسم بن فيره قول الفارسي وقال : لا يصحُّ قوله : إنه كسر الهاء لالتقاء الساكنين ، لأن حفصاً لم يسكِّن الهاء في قراءته قطُّ وقد رد أبو عبد الله شارح قصيدته هذا الردَّ ، وقال : وعجبت من نفْيِهِ الإسكان عَنْهُ مع ثُبُوتِهِ عَنْهُ في « أَرْجِهْ » و « فَأَلْقِهْ » ، وإذا قَرَأَهُ في « أَرْجِهْ » و « فَأَلْقِهْ » احتمل أن يكون « يَتَّقِهْ » عنده قبل سكون القاف كذلك ، وربما يرجَّحَ ذلك بما ثبت عن عاصم من قراءته إيَّاه بسكون الهاء مع كسر القاف . قال شهاب الدين : لم يَعْنِ الشاطبيُّ بأنَّه لم يسكن الهاء قطّ ، الهاء من حيث هي هي ، وإنما ( عَنَى هَاء ) « يَتَّقِهْ » خاصة ، وكان الشاطبيّ أيضاً يعترض التوجيه الذي تقدم عن مكيّ ، ويقول : تعليله حذف الصلة بأن الياء المحذوفة قبل الهاء مقدَّرةٌ منويَّةٌ ، فبقي في حذف الصلة بعد الهاء على أصله غير مستقيم من قبل أنَّه قرأ « يُؤَدِّهِي » وشبَّهه بالصلة ، ولو كان يعتبر ما قاله من تقدير الياء قبل الهاء لم يصلها .
قال أبو عبد الله : هو وإن قرأ « يُؤَدِّ هِي » وشبَّهَهُ بالصلة فإنه قرأ : « يَرْضَهُ » بغير صلةٍ ، فَألحق مكيّ « يَتَّقِه » ب « يَرْضَهْ » ، وجعله مما خرج فيه عن نظائره لاتّباع الأثر ، والجمع بين اللغتين ، ويرجح ذلك عنده لأنّ اللفظ عليه ، ولما كانت القاف في حكم المكسورة بدليل كسر الهاء بعدها صار كأنه « يَتَّقِهِ » بكسر القاف والهاء من غير صلةٍ ، كقراءة قالون وهشام في أحد وجهيه ، فعلَّله بما يُعَلَّل به قراءتهما ، والشاطبيُّ يرجح عنده حمله على الأكثر مما قرأ به ، لا على ما قلَّ وندر ، فاقتضى تعليله بما ذكر .

قوله تعالى : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } . في « جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ » وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على المصدر بدلاً من اللفظ بفعله ، إذ أصل : أقسم بالله جهد اليمين : أقسم بجهد اليمين جهداً ، فحذف الفعل وقدَّم المصدر موضوعاً موضعه ، مضافاً إلى المفعول ك « ضَرْبَ الرِّقَابِ » ، قاله الزمخشري .
والثاني : أنه حال ، تقديره : مُجتهدين في أيمانهم ، كقولهم : افعل ذلك جهدك وطاقتك . وقد خلط الزمخشريّ الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعد ما تقدَّم عنه : وحكم هذا المنصوب حكم الحال ، كأنه قيل : جاهدين أيمانهم وتقدم الكلام على « جَهْد أيْمَانِهِم » في المائدة .
فصل
قال مقاتل : من حلف بالله فقد أجهد في اليمين ، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أينما كنت نكن معك ، لئن خرجت خرجنا ، وإن أقمت أقمنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا » فقال الله تعالى : « قُلْ » لهم « لاَ تُقْسَمُوا » لا تحلفوا ، وهاهنا تم الكلام .
ولو كان قسمهم لما يجب لم يجز النهي عنه ، لأنّ من حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أن ينهى عنه ، فثبت أنّ قسمهم كان لنفاقهم ، وكان باطنهم بخلاف ظاهرهم ، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح .
قوله : « طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ » . في رفعها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : « أَمْرُنَا طَاعَةٌ » ، أو « المطلوب طَاعَةٌ » .
والثاني : أنها مبتدأ والخبر محذوفٌ ، أي : ( أَمْثَل أَوْ أَوْلَى ) .
وقد تقدَّم أَنَّ الخبر متى كان في الأصل مصدراً بدلاً من اللفظ بفعل وجب حذف مبتدأه ، كقوله : « صَبْرٌ جَمِيلٌ » ، ولا يبرز إلاّ اضطراراً ، كقوله :
3853- فَقَالَتْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ أَمرُكَ طَاعَةٌ ... وإنْ كُنْتُ قَدْ كُلِّفْتُ مَا لَمْ أُعَوَّدِ
على خلاف في ذلك .
والثالث : أن يكون فاعله بفعل محذوف ، أي : ولتكن طاعة ، ولتوجد طاعة .
واستضعف ذلك بأنَّ الفعل لا يحذف إلاَّ ( إذا ) تقدَّم مشعر به ، كقوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 36 ] في قراءة من بناه للمفعول ، أي : يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ . أو يجاب به نفيٌ ، كقولك : بلى زيدٌ لمن قال : « لم يقم أحدٌ » . أو استفهام كقوله :
3854- أَلاَ هَلْ أَتَى أُمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَل ... بَلَى خَالِدٌ إنْ لَمْ تَعُقْه العَوَائِق
وقرأ زيد بن علي واليزيديّ : « طاعةً » بنصبها بفعل مضمر ، وهو الأصل . قال أبو البقاء :
ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً في العربية ، وذلك على المصدر ، أي : أطيعوا طاعةً وقولوا قولاً ، وقد دلَّ عليه قوله بعدها : { قُلْ أَطِيعُواْ الله } قال شهاب الدين : ( قوله : ( ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً ) قد تقدم النقل لقراءته ) .

وأما قوله : ( وقولوا قولاً ) فكأنه سبق لسانه إلى آية القتال ، وهي : { فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } [ محمد : 20 - 21 ] ولكن النصب هناك ممتنع أو بعيد .
فصل
المعنى : هذه طاعة بالقول باللسان دون الاعتقاد ، وهي معروفة ، أي : أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون ، قاله مجاهد . وقيل : طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل . وقال مقاتل بن سليمان : لتكن منكم طاعة معروفة . هذا على قراءة الرفع . وأما على قراءة النصب فالمعنى : أطيعوا الله طاعةً و { الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : لا يخفى عليه شيء من سرائركم ، فإنه فاضحكم لا محالة ، ومجازيكم على نفاقكم ، ثم قال : { قُلْ أَطِيعُواْ الله ( وَأَطِيعُواْ ) الرسول فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : عن طاعة الله ورسوله « فَإِنَّمَا عَلَيْه » أي : على الرسول « مَا حُمِّلَ » كلِّف وأمر به من تبليغ الرسالة { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } من الإجابة والطاعة . وقرأ نافع في رواية : { فَإنَّمَا عَلَيْهِ مَا حَمل } بفتح الحاء والتخفيف أي : فعليه إثم ما حمل من المعصية .
{ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } أي : تصيبوا الحق ، وإن عصيتموه ، ف { مَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } ، و « البَلاَغُ » بمعنى : التبليغ . و « المُبِينُ » : الواضح .
قوله : « فَإِنْ تَوَلَّوا » يجوز أن يكون ماضياً ، وتكون الواو ضمير الغائبين ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، وحسَّن الالتفات هنا كونه لم يواجههم بالتولِّي والإعراض ، وأن يكون مضارعاً حذفت إحدى تاءيه ، والأصل : « تَتَوَلَّوا » ، ويُرَجّح هذا قراءة البزِّيِّ : بتشديد ( التاء « فَإنْ ) تَّولَّوا » . وإن كان بعضهم يستضعفها للجمع بين ساكنين على غير حدِّهما .
ويرجّحه أيضاً الخطاب في قوله : { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } ، ودعوى الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ثانياً بعيد .

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)

قوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية .
تقدير النظم : بلِّغ أيها الرسول وأطيعوا أيها المؤمنون فقد { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ } أي : الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أن يستخلفهم في الأرض فيجعلهم الخلفاء والغالبين والمالكين ، كما استخلف عليها من قبلهم في زمن داود وسليمان عليهما السلام - وغيرهما ، وأنه يمكن لهم دينهم ، وتمكينه ذلك بأن يؤيدهم بالنصر والإعزاز ، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدوّ أمناً ، بأن ينصرهم عليهم فيقتلوهم ، ويأمنوا بذلك شرهم .
قال أبو العالية : مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الوحي بمكة عشر سنين مع أصحابه ، وأمروا بالصبر على أذى الكفار ، فكانوا يصبحون ويمسون خائفين ، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة ، وأمروا بالقتال ، وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه ، فقال رجل منهم : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع السلاح فأنزل الله هذه الآية : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة ، يعني : والله ليستخلفنهم في الأرض ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فيجعلهم ملوكها وسكانها { كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } .
( قال قتادة : داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء .
وقيل ) : { كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : بني إسرائيل ، حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام ، وأورثهم أرضهم وديارهم . روى عدي بن حاتم قال : « أتينا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتى إليه رجل فشكى إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع النسل ، فقال : » يا عدي هل رأيت الحيرة؟ « قلت : لم أرها وقد أتيت فيها : قال : » فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله « قلت فيما بيني وبين نفسي : فأين قد سعوا البلاد ، » وإن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى « . قلت : كسرى بن هرمز ، » ولئن طالت بك حياة لترين الرجل من مكة يخرج ملأ كفه من ذهب ، أو ذهب يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله ، وليلقين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ، وليقولن : « ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول : بلى ، فيقول : ألم أعطك مالاً وأتفضل عليك » فيقول : بلى ، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا الجنة ، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم « قال عدي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » اتقوا النار ولو بشقّ تمرة ، فمن لم يجد تمراً فبكلمة طيبة « - قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله تعالى وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -

« يخرج ( الرجل ملأ كفه ) » .
قوله : « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : هو جواب قسم مضمر ، أي : أقسم ليستخلفنهم ، ويكون مفعول الوَعْدِ محذوفاً تقديره : وَعَدَهُم الاسْتِخْلاَف ، لدلالة قوله : « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ » عليه .
والثاني : أن يُجْرَى « وَعَدَ » مجرى القسم لتحقُّقه ، فلذلك أجيب بما يجاب به القسم .
قوله : « كَمَا اسْتَخْلَفَ » أي : اسْتِخْلاَفاً كَاسْتِخْلاَفِهِمْ . والعامة على بناء اسْتَخْلَفَ للفاعل .
وأبو بكر بناه للمفعول . فالموصول منصوب على الأول ومرفوع على الثاني .
قوله : « ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ » . قرأ ابن كثير وأبو بكر : « وَليُبْدلَنَّهُمْ » بسكون الباء وتخفيف الدال من أبدل وتقدم توجيهها في الكهف في قوله : { أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } [ الكهف : 81 ] .
قوله : « يَعْبُدُونَنِي » فيه سبعة أوجه :
أحدها : أنه مستأنف ، أي : جواب لسؤالٍ مقدر ، كأنه قيل : ما بالهم يُسْتَخْلَفُونَ ويؤمنون؟
فقيل : « يَعْبُدُونَنِي » .
والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم يَعْبُدُونَنِي ، والجملة أيضاً استئنافية تقتضي المدح .
الثالث : أنه حال من مفعول « وَعَدَ اللَّهُ » .
الرابع : أنه حال من مفعول « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ » .
الخامس : أن يكون حالاً من فاعله .
السادس : أن يكون حالاً من مفعول « لَيُبَدِّلَنَّهُمْ » .
السابع : أن يكون حالاً من فاعله .
قوله : « لاَ يُشْرِكُونَ » . يجوز أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون حالاً من فاعل « يَعْبُدُونَنِي » أي : يعبدونني موحدين ، وأن يكون بدلاً من الجملة التي قبله الواقعة حالاً ، وتقدم ما فيها .
فصل
دلّ قوله : « وَعَدَ اللَّهُ » على أنه متكلم ، لأن الوعد نوع من أنواع الكلام ، والموصوف بالنوع موصوف بالجنس ، ولأنه تعالى ملك مطاع ، والملك المطاع لا بُدّ وأن يكون بحيث يمكنه وعد أوليائه ووعيد أعدائه ، فثبت أنه سبحانه متكلم .
فصل
ودلت الآية على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً لهشام بن الحكم ، فإنه قال : لا يعلمها قبل وقوعها . ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إخباراً على التفصيل . وقد وقع المخبر مطابقاً للخبر ، ومثل هذا الخبر لا يصح إلا مع العلم .
فصل
ودلت الآية على أنه تعالى حي قادر على جميع الممكنات لقوله : « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً » وقد فعل كل ذلك ، وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل الممكنات المقدورات .
فصل
ودلت الآية على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة ، لأن قال : « يَعْبُدُونَنِي » .
وقالت المعتزلة : الآية تدل على أن فعل الله تعالى معلل بالغرض ، لأنَّ المعنى : لكي يعبدونني . وقالوا أيضاً : الآية تدل على أنه سبحانه يريد العبادة من الكل ، لأنّ من فعل فعلاً لغرض ، فلا بدَّ وأن يكون مريداً لذلك الغرض .

فصل
ودلت الآية على أنه سبحانه منزه عن الشريك ، لقوله : { لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } وذلك يدل على نفي الإله الثاني ، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله سبحانه .
فصل
ودلت الآية على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر عن الغيب بقوله : { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض } { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } وقد وجد هذا المخبر موافقاً للخبر ، ومثل هذا الخبر معجز ، والمعجز دليل الصدق ، فدل على صدق محمد عليه السلام .
فصل
دلت الآية على أنّ العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان ، خلافاً للمعتزلة ، لأنه عطف العمل الصالح على الإيمان ، والمعطوف خارج عن المعطوف عليه .
فصل
دلت الآية على إمامة الأئمة الأربعة ، لأنه تعالى وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمان محمد - عليه السلام - بقوله : « مِنْكُمْ » بأنه يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وأن يمكن لهم دينهم المرضي ، وأن يبدلهم بعد الخوف أمناً ، ومعلوم أن المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء ، لأن استخلاف غيره لا يكون إلا بعده ، ومعلوم ألا نبيّ بعده ، لأنه خاتم الأنبياء ، فإذن المراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة ، ومعلوم أن بعد الرسول لا يحصل هذا الاستخلاف إلاّ في أيام أبي بكر وعمر وعثمان ، لأنّ في أيامهم كان الفتوح العظيم ، وحصل التمكن ، وظهر الدين والأمن ، ولم يحصل ذلك في أيام عليّ - كرم الله وجهه - لأنه لم يتفرغ لجهاد الكفار ، لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة ، فثبت بهذا دلالة الآية على صحة خلافة هؤلاء . فإن قيل : الآية متروكة الظاهر ، لأنها تقتضي حصول الخلافة لكل من آمن وعمل صالحاً ، ولم يكن الأمر كذلك ، نزلنا عنه ، ولكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ » هو أنه تعالى أسكنهم في الأرض ، ومكنهم من التصرف ، لأنّ المراد خلافة الله ، ويدل عليه قوله : { كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } واستخلاف من كان قبلهم لم يكن بطريق الأمانة ، فوجب أن يكون الأمن في حقهم أيضاً ، كذلك نزلنا عنه ، لكن هاهنا ما يدل على أنه لا يجوز حمله على خلافة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن من مذهبكم أنه - عليه السلام - لم يستخلف أحداً ، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : « أنزلتكم كما نزلت نبي الله » فعبر عنه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم كقوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] ، وقال في حق علي - رضي الله عنه - : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ المائدة : 55 ] ، نزلنا عنه ، ولكن محمله على الأئمة الاثني عشر؟
والجواب عن الأول : أن كلمة « مِنْ » للتبعيض ، فقوله : « مِنْكُمْ » يدل على أنَّ المراد من هذا الخطاب بعضهم .

وعن الثاني : أن الاستخلاف بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق ، والمذكور هاهنا في معرض البشارة ، فلا بدَّ وأن يكون مغايراً له .
وأما قوله تعالى : { كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } فالذين كانوا قبلهم قد كانوا خلفاء تارة بسبب النبوة وتارة بسبب الملك ، فالخلافة حاصلة في الصورتين .
وعن الثالث : أنه وإن كان مذهبنا أنه عليه السلام لم يستخلف أحداً بالتعيين ، ولكن قد استخلف بذكر الوصف والأمر والإخبار ، فلا يمتنع في هؤلاء أنه تعالى استخلفهم ، وأن الرسول استخلفهم ، وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر - رضي الله عنه - خليفة رسول الله ، والذي قيل : إنه عليه السلام لم يستخلف أريد به على وجه التعيين ، وإذا قيل : استخلف فالمراد على طريق الوصف والأمر .
وعن الرابع : أن حمل لفظ الجمع على الواحد مجاز ، وهو خلاف الأصل .
وعن الخامس : أنه باطل لوجهين :
أحدهما : قوله تعالى : « مِنْكُمْ » يدل على أنّ الخطاب كان مع الحاضرين ، وهؤلاء الأئمة ما كانوا حاضرين .
الثاني : أنه تعالى وعدهم القوة والشوكة والبقاء في العالم ، ولم يوجد ذلك فيهم . فثبت بهذا صحة إمامة الأئمة الأربعة ، وبطل قول الرافضة الطاعنين على أبي بكر وعمر وعثمان ، وعلى بطلان قول الخوارج ، الطاعنين على عثمان وعلي .
قوله : { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك } أراد كفر النعمة ، ولم يرد الكفر بالله تعالى ، { فأولئك هُمُ الفاسقون } العاصون لله عز وجل . قال المفسرون : أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان ، فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخواناً . روى حميد بن هلال قال : قال عبد الله بن سلام في عثمان : إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى اليوم ، فوالله لئن قتلتموه لتذهبون ثم لا تعودون أبداً ، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له ، وإن سيف الله لم يزل مغموداً عنكم ، والله لئن قتلتموه ليسللنه الله - عز وجل - ثم لا يغمده عنكم إما قال أبداً ، وإما قال إلى يوم القيامة ، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفاً ، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفاً .
وروى علي بن الجعد قال : أخبرني حماد - وهو ابن سلمة - عن ابن دينار عن سعيد بن جهمان عن سَفِينَة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « الخلافة ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً ، ثم قال : أمسك خلافة أبي بكر سنتين ، وخلافة عمر عشر ، وعثمان اثني عشر ، وعلي ست » قال علي : « قلت لحماد : سفينة القائل لسعيد : أمسك؟ قال : نعم » .

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على { أَطِيعُواْ الله ( وَأَطِيعُواْ ) الرسول } [ النور : 54 ] وليس ببعيدٍ أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل ، وإن طال ، لأنّ حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ، قاله الزمخشري . قال شهاب الدين : وقوله : ( لأن حقَّ المعطوف . . . إلى آخره ) لا يظهر عِلَّةً للحكم الذي ادَّعاه .
والثاني : أَنَّ قوله : « وَأَقِيمُوا » من باب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، وحسنه الخطاب في قوله قبل ذلك : « مِنْكُمْ » ثم قال : { وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : افعلوها على رجاء الرحمة .
قوله : « لاَ تَحْسَبَّن » . قرأ العامة : « لاَ تَحْسَبَّنَ » بتاء الخطاب ، والفاعل ضمير المخاطب ، أي : لا تحسبن أَيُّها المخاطب ، ويمتنع أو يبعد جعله للرسول - عليه السلام - لأنَّ مثل هذا الحُسبان لا يُتصوَّرُ منه حتى يُنْهى عنهُ . وقرأ حمزة وابن عامر : « لاَ يَحْسَبَّن » بياء الغيبة ، وهي قراءة حسنةٌ واضحةٌ ، فإنَّ الفاعل فيها مضمرٌ ، يعودُ على ما دلَّ السياق عليه ، أي : « لاَ يَحْسَبَّن حاسِبٌ واحدٌ » . وإما على الرسول لتقدُّمِ ذكره ، ولكنه ضعيف للمعنى المتقدم ، خلافاً لمن لَحَّنَ قارئ هذه القراءة كأبي حاتم وأبي جعفر والفراء . قال النحاس : ما عَلِمْت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلا وهو يُلَحِّنُ قراءة حمزة ، فمنهم من يقول : هي لحنٌ ، لأنه لم يأت إلا مفعولُ واحدٌ ل « يَحْسَبن » . وقال الفراء : هو ضعيفٌ ، وأجازه على حذف المفعول الثاني والتقدير : « لاَ يَحْسَبن الذين كفروا أنفسهم معجزين » قال شهاب الدين : وسبب تلحينهم هذه القراءة : أنهم اعتقدوا أنَّ « الَّذِينَ » فاعل ، ولم يكن في اللفظ إلا مفعولٌ واحدٌ ، وهو « مُعْجِزِينَ » فلذلك قالوا ما قالوا .
والجواب عن ذلك من وجوهٍ :
أحدها : أنَّ الفاعل مضمر يعود على ما تقدم ، أو على ما يفهم من السياق ، كما سبق تحريره .
الثاني : أنَّ المفعول الأول محذوف تقديره : ولاَ يَحْسَبن الَّذِين كفروا أنفسهم معجزين ، إلاّ أن حذف أحد المفعولين ضعيف عند البصريين ، ومنه قول عنترة :
3855- وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي : تظني غيره واقعاً . ولما نحا الزمخشريُّ إلى هذا الوجه قال : وأن يكون الأصل : لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين . ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكان الذي سوّغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث . فقدّر المفعول الأول ضميراً متصلاً . قال أبو حيان : وقد رَدَدْنَا هذا التخريج في أواخر « آل عمران » في قوله : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } [ آل عمران : 188 ] في قراءة من قرأ بالغيبة ، وجعل الفاعل : « الَّذِين يَفْرَحُونَ » ، وملخصه : أنَّ هذا ليس من الضمائر التي يُفَسِّرها ما بعدها ، فلا يتقدَّر « لاَ يَحْسَبَنَّهُمْ » إذ لا يجوز ظنَّهُ زيدٌ قائماً ، على رفع ( زيدٌ ) ب ( ظنه ) .

وقد تقدم هذا الرد في الموضع المذكور .
الثالث : أن المفعولين هما قوله : { مُعْجِزِينَ فِي الأرض } قاله الكوفيون . ولما نحا إليه الزمخشري قال : والمعنى : لا يحسبن الذين كفروا أحداً يُعْجِزُ الله في الأرض يطمعوهم في مثل ذلك ، وهذا معنى قويٌّ جَيِّدٌ . قال شهاب الدين : قيل : هو خطأ ، لأنَّ الظاهر تعلق « فِي الأَرْض » ب « مُعْجِزينَ » فجعلهُ مفعولاً ثانياً كالتهيئة للعمل والقطع عنه ، وهو نظير : « ظَنَنْتُ قَائِماً فِي الدَّارِ » .
قوله : « وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن هذه الجملة عطفٌ على الجملة التي قبلها من غير تأويل ولا إضمار ، وهو مذهب سيبويه ، أعني : عطف الجمل بعضها على بعض وإن اختلفت أنواعها خبراً وطلباً وإنشاءً . وقد تقدم تحقيقه في أول الكتاب .
الثاني أنها معطوفة عليها ، ولكن بتأويل جملة النهي بجملة خبرية ، والتقدير : الذين كفروا لا يَفُوتُونَ اللَّهَ ومأواهم النارُ . قاله الزمخشري ، كأنه يرى تناسب الجمل شرطاً في ( صحة ) العطف ، هذا ظاهر حاله .
الثالث : أنها معطوفة على جملة مقدرة .
قال الجرحاني : لا يحتمل أن يكون « وَمَأْوَاهُم » متصلاً بقوله : « لاَ يَحْسَبن » ذلك نهيٌ وهذا إيجابٌ ، فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله ، تقديره : « لاَ يَحْسَبن الَّذين كفروا مُعْجزين في الأرض بل هم مَقْهُورُونَ ومَأْوَاهُمُ النَّارُ » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

قوله تعالى : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم } الآية .
قال ابن عباس : وجَّه رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غلاماً من الأنصار يقال له : « مُدْلج بن عمرو » إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل ، فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك ، فأنزل الله هذه الآية . وقال مقاتل : نزلت في أسماء بنت مَرْثَد ، كان لها غلام كبير ، فدخل عليها في وقت كرهته ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إنّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها ، فأنزل الله { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ } اللام للأمر « مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ » يعني : العبيد والإماء .
قال القاضي : هذا الخطاب وإن كان ظاهره للرجال ، فالمراد به الرجال والنساء ، لأنّ التذكير يغلب على التأنيث . قال ابن الخطيب : والأولى عندي أنّ الحكم ثابت في النساء بقياس جليّ ، لأنّ النساء في باب ( حفظ ) العورة أشد حالاً من الرجال ، فهو كتحريم الضرب بالقياس على حرمة التأفيف . وقال ابن عباس : هي في الرجال والنساء يستأذنون على كل حال في الليل والنهار . واختلف العلماء في هذا الندب : فقيل للأمر . وقيل : للوجوب ، وهو الأظهر . قوله : { والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ } أي : من الأحرار ، وليس المراد : الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ، بل الذين عرفوا أمر النساء ، ولكن لم يبلغوا .
واتفق الفقهاء على أنّ الاحتلام بلوغ . واختلفوا في بلوغ خمس عشرة سنة إذا لم يوجد احتلام : قال أبو حنيفة : لا يكون بالغاً حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ، ويستكملها الغلام والجارية تستكمل سبع عشرة . وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : في الغلام والجارية خمس عشرة سنة إذا لم يحتلم ، لما روى ابن عمر أنه عرض على النبي يوم أحد ، وهو ابن أربع عشرة سنة ، فلم يجزه ، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة ، فأجازه . قال أبو بكر الرازي : هذا الخبر مضطرب ، لأنّ أُحُداً كان في سنة ثلاث ، والخندق كان في سنة خمس ، فكيف يكون بينهما سنة؟ ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ ، فقد لا يؤذن للبالغ لضعفه ، ويؤذن لغير البالغ لقوته ولطاقته لحمل السلاح ، ولذلك لم يسأله النبي - عليه السلام - عن الاحتلام والسن . واختلفوا في الإنبات : هل يكون بلوغاً؟ فأصحاب الرأي لم يجعلوه بلوغاً ، لقوله - عليه السلام - : « وعن الصبي حتى يحتلم » وقال الشافعي : هو بلوغ ، لأنّ النبي - عليه السلام - : أمر بقتل من أنبت من بني قريظة . قال الرازي : الإنبات يدل على القوة البدنية ، فالأمر بالقتل لذلك لا للبلوغ .
فصل
قال أبو بكر الرازي : دلَّت هذه الآية على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع ، وينهى عن ارتكاب القبائح ، فإن الله تعالى أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات .

وقال عليه السلام : « مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع ، واضربوهم على تركها وهم أبناء عشر » .
وقال ابن عمر : يعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله . وقال ابن مسعود : إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له حسناته ، ولا تكتب عليه سيئاته حتى يحتلم . واعلم أنه إنما يؤمر بذلك تمريناً ليعتاده ويسهل عليه بعد البلوغ .
فصل
قال الأخفش : الحلم : من حلم الرجل بفتح اللام ، ومن الحلم : حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام .
قوله : « ثَلاَثَ مَرَّاتٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه منصوب على الظرف الزماني ، أي : ثلاثة أوقات ، ثم فسَّر تلك الأوقات بقوله : { مِّن قَبْلِ صلاة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ ( ثيابكم مِّنَ الظهيرة ) وَمِن بَعْدِ صلاة العشآء } .
والثاني : أنه منصوب على المصدرية ، أي ثلاثة استئذانات .
ورجح أبو حيان هذا فقال : والظاهر من قوله : ثَلاثَ مرَّاتٍ : ثلاثة استئذاناتٍ ، لأنك إذا قلت : ضربتُ ثَلاثَ مراتٍ ، لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضرباتٍ ، ويؤيده قوله عليه السلام : « الاستئذانُ ثَلاَثٌ » قال شهاب الدين : مسلَّم أنّ الظاهر كذا ، ولكن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة ، وهي التفسير بثلاثة الأوقات المذكورة .
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية : « الحُلْم » بسكون العين ، وهي تميمية .
قوله : { مِّن قَبْلِ صلاة الفجر } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدلٌ من قوله : « ثَلاَثَ » فيكون في محل نصب .
الثاني : أنه بدلٌ من « مَرَّاتٍ » فيكون في محل جرّ .
الثالث : أنه خبرُ مبتدأ مضمر ، أي : هي من قَبْلُ ، أي : تلكَ المرات ، فيكون في محل رفع .
وقوله : « وَحِينَ تَضَعُونَ » عطف على محل { مِّن قَبْلِ صلاة الفجر } .
قوله : « من الظَّهِيرةِ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّ « مِنْ » لبيان الجنس ، أي : حين ذلك الذي هو الظهيرة .
الثاني : أنها بمعنى « في » أي : تضعونها في الظهيرة .
الثالث : أنها بمعنى اللام ، ( أي ) : من أجل حرّ الظهيرة .
وقوله : { وَمِن بَعْدِ صلاة العشآء } : عطف على ما قبله . والظَّهيرةُ شِدّةُ الحرِّ ، وهو انتصاف النهار .
قوله : « ثلاث عورات » . قرأ الأخوان وأبو بكر : « ثَلاَثَ » نصباً . والباقون رفعاً . فالأولى تحتمل ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها بدلٌ من قوله : « ثَلاَثَ مَرَّاتٍ » .
قال ابن عطية : إنما يصح البدلُ بتقدير : أوقاتُ ثلاث عوراتٍ ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وكذا قدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء ، ويحتمل أنه جعل نفس ثلاث المرات نفس ثلاث العورات مبالغة فلا يحتاج إلى حذف مضاف ، وعلى هذا الوجه - أعني : وجه البدل - لا يجوز الوقف على ما قبل « ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ » لأنه بدل منه وتابع له ، ولا يوقف على المتبوع دون تابعه .

الثاني : أنَّ « ثَلاَثَ عَوْراتٍ » بدل من الأوقات المذكورة ، قاله أبو البقاء . يعني قوله : { مِّن قَبْلِ صلاة الفجر } وما عُطِفَ عليه ، ويكون بدلاً على المحل ، فلذلك نصب .
الثالث : أن ينْتصب بإضمار فعل .
فقدره أبو البقاء : « أعني » وأحسن من هذا التقدير : اتقوا ، أو احذروا ثلاث .
فأمّا الثانية : ف « ثَلاَثُ » خبر مبتدأ محذوف تقديره : « هُنَّ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ » .
وقدره أبو البقاء مع حذف مضاف ، فقال : أي : هي أوقات ثلاث عورات ، فحذف المبتدأ والمضاف . قال شهاب الدين : وقد لا يحتاجُ إليه على جعلِ العَوْرات نَفْسَ الأوقاتِ مبالغةً ، وهو المفهوم من كلام الزمخشري ، وإن كان قد قدَّر مضافاً ، كما تقدم عنه .
قال الزمخشري : ويسمى كل واحد من هذه الأحوال عَوْرةً ، لأنَّ الناس يختل تسترهم وتحفظُهم فيها . والعَوْرةُ : الخللُ ، ومنه أعور الفارسُ ، وأعور المكانُ . والأعور : المختل العين . فهذا منه يؤذن بعدم تقدير « أوقاتٍ » مضاف ل « عوراتٍ » بخلاف كلامه أولاً فيؤخذ من مجموع كلاميه وجهان .
وعلى قراءة الرفع وعلى الوجهين قبلها في تخريج قراءة النصب يوقف على ما قبل « ثَلاَثَ عوراتٍ » لأنها ليست تابعة لما قبلها . وقرأ الأعمش : « عَورَاتٍ » بفتح الواو ، وهي لغة هذيل وبني تميم ، يفتحون عين « فَعْلاء » واواً أو ياءً ، وأنشد :
3856- أَخُو بَيَضَاتٍ رَائِحٌ مُتَأَوِّبٌ ... رَفِيقٌ بِمَسْحِ المِنْكَبَيْنِ سَبُوحُ
فصل
المعنى : يستأذنوا في ثلاثة أوقات : من قبل صلاة الفجر ، ووقت القيلولة ، ومن بعد صلاة العشاء . وخصَّ هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب ، فربما يبدو من الإنسان ما لا يحب أن يراه أحد من العبيد والصبيان ، فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات ، فأما غيرهم فيستأذنون في جميع الأوقات . وسميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته .
فصل
قال بعضهم : إن قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } [ النور : 27 ] يدل على أنّ الاستئذان واجب في كل حال ، فنسخ بهذه الآية في غير هذه الأحوال الثلاثة . قال ابن عباس : لم يكن للقوم ستور ولا حجاب ، وكان الخدم والولائد يدخلون ، فربما يرون منهم ما لا يحبون ، فأمروا بالاستئذان ، وقد بسط الله الرزق ، واتخذ الناس الستور ، فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان .
وقال آخرون : الآية الأولى أريد بها المكلف ، لأنه خطاب لمن آمن ، والمراد بهذه الآية غير المكلف ، لا يدخل في بعض الأحوال إلاّ بإذن ، وفي بعضها بغير إذن ، ولا وجه للنسخ . فإن قيل : قوله : { الذين مَلَكَتْ أيمانكم } يدخل فيه من بلغ ، فالنسخ لازم؟
فالجواب أن قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } [ النور : 27 ] لا يدخل تحته العبيد والإماء ، فلا يجب النسخ .

قال أبو عبيد : لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ . وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال : ثلاث آيات من كتاب الله تركهن الناس لا أرى أحداً يعمل بهن ، قال عطاء : حفظت آيتين ونسيت واحدة ، وقرأ هذه الآية ، وقوله { ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } [ الحجرات : 13 ] ذكر سعيد بن جبير أن الآية الثالثة : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى . . . } [ النساء : 8 ] الآية .
قوله : « لَيْسَ عَلَيْكُمْ » هذه الجملة يجوز أن يكون لها محل من الإعراب ، وهو الرفع نعتاً ل « ثَلاَثُ عَوْرَات » في قراءة من رفعها ، كأنه قيل : هُنَّ ثَلاَثُ عَوْراتٍ مخصوصةٌ بالاستئذان ، وأَلاَّ يكون لها محل ، بل هي كلام مقرر للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة ، وذلك في قراءة من نصب « ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ » .
قوله : « بعدهن » . قال أبو البقاء : التقدير : بعد استئذانهم فيهن ، ثم حذف حرف الجر والفاعل فبقي « بعد استئذانهم » ثم حذف المصدر .
يعني بالفاعل : الضمير المضاف إليه الاستئذان ، فإنه فاعل معنوي بالمصدر ، وهذا غير ظاهر ، بل الذي يظهر أن المعنى : ليس عليكم جناح ولا عليهم أي : العبيدُ والإماءُ والصبيانُ « جُنَاحٌ » في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة ، ولا حاجة إلى التقدير الذي ذكره .
قوله : « طَوَّافُونَ » خبر مبتدأ مضمر تقديره : « هُمْ طَوَّافُونَ » ، و « عَلَيْكُم » متعلق به .
قوله : { بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ } . في « بَعْضُكُم » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ ، و « عَلَى بَعْضٍ » الخبر ، فقدره أبو البقاء : « يَطُوفُ على بعض » وتكون هذه الجملة بدلاً مما قبلها ، ويجوز أن تكون مؤكدة مبينة ، يعني : أنها أفادت إفادة الجملة التي قبلها ، فكانت بدلاً أو مؤكدة . وردّ أبو حيان هذا بأنه كونٌ مخصوص ، فلا يجوز حذفه .
والجواب عنه : أن الممتنع الحذف إذا لم يدل عليه دليل ، وقُصِدَ إقامةُ الجار والمجرور مقامه . وهنا عليه دليل ولم يُقْصَد إقامة الجار مقامه . ولذلك قال الزمخشري : خبره « عَلَى بَعْضٍ » على معنى : طائف على بعض ، وحذف لدلالة « طوافون » عليه .
الثاني : أن يرتفع بدلاً من « طَوَّافُونَ » قاله ابن عطية قال أبو حيان : ولا يصحُّ إن قدَّر الضميرَ ضمير غيبةٍ لتقدير المبتدأ « هم » لأنه يصير التقدير : هُمْ يطوفُ بعضكُم على بعضٍ وهو لا يصح ، فإن جعلت التقدير : أنتم يطوف بعضكم على بعض ، فَيَدْفَعهُ أنَّ قوله : « عَليْكُم » يدل على أنهم هم المطوفُ عليهم ، و « أنتُمْ طَوَّافُونَ » يدل على أنهم طائفون ، فتعارضا . قال شهاب الدين : الذي نختار أن التقدير : أنتم ، ولا يلزمُ محذور ، وقوله : فيدفعه إلى آخره ، لا تعارض فيه ، لأن المعنى : كل منكم ومن عبيدكم طائف على صاحبه ، وإن كان طوافُ أحد النوعين غير طواف الآخر ، لأنَّ المراد الظهور على أحوال الشخص ، ويكون « بعضكم » بدلاً من « طَوَّافُونَ » و « على بعض » بدلاً من عليكم بإعادة العامل ، فأبدلت مرفوعاً من مرفوع ومجروراً من مجرور ، ونظيره قوله :

3857- فَلَمَّا قَرَعْنَا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بَعْضَهُ ... بِبَعْضٍ أَبَتْ عيدَانُه أَنْ تَكَسَّرَا
ف « بعضه » بدل من « النَّبع » المنصوب ، و « ببعض » بدل من المجرور بالياء .
الثالث : أنه مرفوعٌ بفعل مقدر ، أي : يطوفُ بعضُكُم على بعض ، لدلالة « طَوَّافُونَ » عليه ، قاله الزمخشري . وقرأ ابن أبي عبلة : « طَوَّافينَ » بالنصب على الحال من ضمير « عَلَيْهِمْ » .
فصل
المعنى « ليس عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهم » يعني : العبيد والإماء والصبيان « جُنَاحٌ » في الدخول عليكم بغير استئذان « بَعْدَهُنَّ » أي : بعد هذه الأوقات الثلاثة ، « طَوَّافُونَ علَيْكُمْ » أي : العبيد والخدم يطوفون عليكم : يترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالهم بغير إذن { بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ } . فإن قيل : هل يقتضي ذلك إباحة كشف العورة ( لهم؟ فالجواب ، لا ، وإنما أباح تعالى ذلك من حيث كانت العادة لا تكشف العورة ) في غير تلك الأوقات ، فمتى كشفت المرأة عورتها مع ظن دخول الخدم فذلك يحرم عليها . فإن كان الخادم مكلفاً حرم عليه الدخول إن ظن أن هناك كشف عورة .
فإن قيل : أليس في الناس من جوَّز للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مولاته؟
فالجواب : من جوَّز ذلك فالشعر عنده ليس بعورة في حق المماليك كما هو في حق الرحم ، إذ العورة تنقسم أقساماً وتختلف بالإضافات .
فصل
هذه الإباحة مقصورة على الخدم دون غيرهم .
وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ } هذا الحكم مختص بالصغار دون البالغين ، لقوله بعد ذلك : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ } .
قوله : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم } أي : الاحتلام ، يريد : الأحرار الذين بلغوا « فَلْيَسْتَأْذِنُوا » أي : يستأذنون في جميع الأوقات في الدخول عليكم { كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ } من الأحرار ( الكبار ) . وقيل يعني الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى ( عليهم السلام ) { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ } دلالاته . وقيل : أحكامه « واللَّهُ عَلِيمٌ » بأمور خلقه « حَكِيمٌ » بما دبر لهم . قال سعيد بن المسيب : يستأذن الرجل على أمه ، فإنما أنزلت الآية في ذلك وسئل حذيفة : أيستأذن الرجل على والدته؟ قال : « نعم وإن لم تفعل رأيت منها ما تكره » .
قوله : { والقواعد مِنَ النسآء } . القواعدُ : من غير تاء تأنيث ، ومعناه : القواعدُ عن النكاح ، أو عن الحيض ، أو عن الاستمتاع ، أو عن الحبل ، أو عن الجميع ولولا تخصيصهُنَّ بذلك لوجبت التاء نحو ضاربة وقاعدة من القعود المعروف .

وقوله : « مِنَ النِّسَاءِ » وما بعده بيان لهن . و « القَوَاعِدُ » مبتدأ ، و « مِنَ النِّسَاءِ » حال ، و « اللاَّتِي » صفة القواعد لا للنساء ، وقوله : « فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ » ، الجملة خبر المبتدأ ، وإنما دخلت الفاء لأن المبتدأ موصوف بموصول ، لو كان ذلك الموصول مبتدأ لجاز دخولها في خبره ، ولذلك منعت أن تكون « اللاتي » صفة للنساء ، إذ لا يبقى مسوغ لدخول الفاء في خبر المبتدأ .
وقال أبو البقاء : ودخلت الفاءُ لما في المبتدأ من معنى الشرط ، لأن الألف واللام بمعنى الذي وهذا مذهب الأخفش ، وتقدم تحقيقه في المائدة ، ولكن هنا ما يُغني عن ذلك ، وهو وصف المبتدأ بالموصول المذكور ، و « غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ » حال من « عليهن » . ( والتَّبرُّجُ الظهور من البُرْج ) وهو البناء الظاهر ، والتبرج : سعة العين يرى بياضها محيطاً بسوادها كله ، لا يغيب منه شيء والتبرج : إظهار ما يجب إخفاؤه بأن تكشف المرأة للرجال ( بإبداء ) زينتها وإظهار محاسنها . و « بزينة » متعلق به . قوله : « وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ » مبتدأ بتأويل : « اسْتِعْفَافُهُنَّ » ، و « خَيْرٌ » خبره .
فصل
قال المفسرون : القواعد : هن اللواتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر ، ولا مطمع لهن في الأزواج .
والأولى ألا يعتبر قعودهن عن الحيض ، لأن ذلك ينقطع ، والرغبة فيهن باقية ، والمراد : قعودهن عن الأزواج ، ولا يكون ذلك إلا عند بلوغهن إلى حيث لا يرغب فيهن الرجال لكبرهن قال ابن قتيبة : سميت المرأة قاعداً إذا كبرت ، لأنها تكثر القعود وقال ربيعة : هنَّ العجز اللواتي إذا رآهنَّ الرجل استقذرهن ، فأما من كانت فيها بقية من جمال ، وهي محل الشهوة ، فلا تدخل في هذه الآية . { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } عند الرجال ، يعني : يضعن بعض ثيابهن ، وهي الجلباب ، والرداء الذي فوق الثياب ، والقناع الذي فوق الخمار ، فأما الخمار فلا يجوز وضعه لما فيه من كشف العورة .
وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب : { أن يضعن من ثيابهن } . وروي عن ابن عباس أنه قرأ : { أن يضعن جلابيبهن } . وعن السدي عن شيوخه : أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن وإنما خصهن الله بذلك لأن التهم مرتفعة عنهن ، وقد بلغن هذا المبلغ ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهنّ وضع الثياب ، ولذلك قال : { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } وإنما جعل ذلك أفضل لأنه أبعد عن الظنة ، فعند الظنة يلزمهن ألا يضعن ذلك كما يلزم الشابة ، والله سميع عليم .

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } الآية .
قال ابن عباس : لما أنزل الله - عزَّ وجلَّ - { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ النساء : 29 ] تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعُمْي والعرج وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله - عزَّ وجلَّ - عن أكل المال بالباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض يضعف عن التناول ، فلا يستوفي الطعام ، فأنزل الله هذه الآية . وعلى هذا التأويل تكون « على » بمعنى « في » أي : ليس في الأعمى ، أي : ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج . وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما : « كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء ، لأن الناس يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم ، ويقول الأعمى : ربما أكل أكثر ، ويقول الأعرج : ربما أخذ مكان اثنين ، فنزلت هذه الآية » .
وقال مجاهد : نزلت هذه الآية ( ترخيصاً لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله بهذه الآية ) لأن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب العلم ، فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم ، أو بعض من سمى الله - عزَّ وجلَّ - في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون : ذهب بنا إلى بيت غيره ، فأنزل الله هذه الآية وقال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا غزوا اختلفوا منازلهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غيب ، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم . وقال الحسن : نزلت الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد ، وقال : تم الكلام عند قوله : { وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } وقوله تعالى : « وَعَلى أَنْفسكُمْ » كلام منقطع عما قبله .
وقيل : لما نزل قوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ البقرة : 188 ] قالوا : لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } ، أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم ، نسب بيوت الأولاد إلى الآباء كقوله عليه السلام : « أنت ومالك لأبيك » .
فصل
دلَّت هذه الآية بظاهرها على إباحة الأكل من هذه المواضع بغير استئذان ، وهو منقول عن قتادة ، وأنكره الجمهور ، ثم اختلفوا : فقيل : كان ذلك في صدر الإسلام ، فنسخ بقوله عليه السلام : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه » ويدل على هذا النسخ قوله تعالى { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ }

[ الأحزاب : 53 ] وكان في أزواج الرسول من لهنَّ الآباء والأخوات ، فعم بالنهي عن دخول بيوتهن إلا بالإذن في الأكل . فإن قيل : إنما أذن الله تعالى في هذه الآية ، لأن المسلمين لم يكونوا يمنعون قراباتهم هؤلاء من أن يأكلوا في بيوتهم ، حضروا أو غابوا ، فجاز أن يرخص في ذلك؟
فالجواب : لو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص هؤلاء الأقارب بالذكر معنى ، لأن غيرهم كهم في ذلك . وقال أبو مسلم : المراد من هؤلاء الأقارب إذا لم يكونوا مؤمنين ، لأنه تعالى نهى من قبل عن مخالطتهم بقوله : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } [ المجادلة : 22 ] ثم إنه تعالى أباح في هذه الآية ما حظره هناك ، قال : ويدل عليه أن في هذه السورة ( أمر بالتسليم على أهل البيوت فقال : { حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } [ النور : 27 ] وفي بيوت هؤلاء المذكورين لم يأمر بذلك ، بل ) أمر أن يسلموا على أنفسهم ، فالمقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات .
وقيل : لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم ، والعادة كالإذن ، فيجوز أن يقال : خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأصل توجد منهم ، ولذلك ضم إليهم الصديق ، ولما علمنا أن هذه الإباحة إنما حصلت لأجل حصول الرضا فيها ، فلا حاجة إلى النسخ .
قوله : { أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } .
قال ابن عباس : عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته ، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته ، ولا يحمل ولا يدخر ، وملك المفتاح : كونه في يده وحفظه قال المفضل : « المفاتح » واحدها « مَفْتَح » بفتح الميم ، وواحد المفاتيح : مِفْتح ( بكسر الميم ) . وقال الضحاك : يعني : من بيوت عبيدكم ومماليككم ، لأن السيد يملك منزل عبده والمفاتيح : الخزائن ، لقوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب } [ الأنعام : 59 ] ، ويجوز أن يكون الذي يفتح به . وقال عكرمة : « إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن ، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير » .
وقال السُّديّ : الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه ، فلا بأس أن يأكل منه . وقيل : { أو ما ملكتم مفاتحه } : ما خزنتموه عندكم . قال مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم مما أحرزتم وملكتم .
قوله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } العامة على فتح الميم واللام مخففة . وابن جُبير : « مُلِّكْتُم » ، بضم الميم وكسر اللام مشدّدة؛ أي : « مَلَّكَكُمْ غَيْرُكُمْ » . والعامة على « مَفَاتِحَه » دون ياء ، جمع « مَفْتَح » . وابن جُبَير « مَفَاتِيحَهُ » بالياء بعد التاء ، جمع « مِفْتَاح » .

وجوَّز أبو البقاء أن يكون جمع « مِفْتَح » بالكسر ، وهو الآلة ، وأن يكون جمع « مَفتح » بالفتح ، وهو المصدر بمعنى الفتح . والأول أقيس . وقرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه : « مِفْتَاحَهُ » بالإفراد ، وهي قراءة قتادة .
قوله : « أَوْ صَدِيقكُمْ » . العامة على فتح الصاد . وحُمَيد الجزَّارُ روى كسرها إتباعاً لكسرة الدّال والصديق : يقع للواحد والجمع كالخليط والفطين وشبههما .
فصل
الصديق : الذي صدقك في المودة . قال ابن عباس : نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازياً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهوداً ، فسأله عن حاله فقال : تحرجت من أكل طعامك بغير إذنك ، فأنزل الله هذه الآية وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية . والمعنى : ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتحملوا . يحكى أن الحسن دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد أخرجوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة مكبون عليها يأكلون ، فتهلل أسارير وجهه سروراً وضحك ، وقال : « هكذا وجدناهم » يعني : كبراء الصحابة . وعن ابن عباس : الصديق أكبر من الوالدين ، لأن أهل جهنم لمّا استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات ، بل قالوا : { مَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 - 101 ] .
وحكي أن أخا الربيع بن خيثم دخل منزله في حال غيبته فانبسط إلى جاريته حتى قدمت إليه ما أكل ، فلما قدم أخبرته بذلك ، فانسر لذلك وقال : إن صدقت فأنت حرة .
فصل
احتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع ، لأن الله تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم ، ودخولها بغير أذنهم ، فلا يكون ماله محرزاً منهم . فإن قيل : فيلزم ألا يقطع إذا سرق من مال صديقه؟
فالجواب : من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له .
قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } قال الأكثرون : نزلت في بني ليث بن عمرو حي من كنانة ، كان الرجل منهم لا يأكل وحده ، ويمكث يومه حتى يجد ضيفاً يأكل معه ، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً ، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل . هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج . وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأحتج ، أي : أتحرج أن آكل معك ، وأنا غني وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية وقال عكرمة وأبو صالح : « نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلاّ مع ضيفهم ، فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا جميعاً مجتمعين ، أو اشتاتاً متفرقين » .

وقال الكلبي : « كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً على حدة ، وكذلك المزمن والمريض ، فبيّن الله لهم أن ذلك غير واجب » . قوله : « جَمِيعاً » حال من فاعل « تَأْكُلُوا » ، و « أَشْتَاتاً » عطف عليه ، وهو جمع « شَتّ » و « شَتَّى » جمع « شَتيت » . و « شَتَّانَ » تثنية « شت » . قال المفضل : وقيل : الشت : مصدر بمعنى : التفرق ، ثم يوصف به ويجمع .
قوله : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } . أي : ليسلم بعضكم على بعض ، جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة ، كقوله تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] . قال ابن عباس : « فإن لم يكن أحد فعلى نفسه يسلم ، ليقل : السلام علينا من قبل ربنا » .
قال جابر وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار : « إذا دخل الرجل بيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته » . وقال قتادة : « إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك ، فهم أحق من سلمت عليهم ، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، حدثنا أن الملائكة ترد عليه » وعن ابن عباس في قوله : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } قال : « إذا دخلت المسجد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » . قال القفال : « وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل : السلام على من اتبع الهدى » .
قوله : « تَحيَّةً » منصوب على المصدر من معنى « فَسَلِّمُوا » فهو من باب : قَعَدْتُ جُلُوساً ، كأنه قال : فحيوا تحية ، وتقدم وزن « التحية » . و { مِّنْ عِندِ الله } يجوز أن يتعلق بنفس « تَحية » أي : التحية صادرة من جهة الله ، و « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً إلا أنه يعكر على الوصف تأخر الصفة الصريحة عن المؤولة ، وتقدم ما فيه .
فصل
{ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله } أي : مما أمركم الله به . قال ابن عباس : من قال : السلام عليكم ، ( معناه : اسم الله عليكم « مُبَارَكَةً طَيِّبَةً » . قال ابن عباس ) : « حسنة جميلة » وقال الضحاك : « معنى البركة فيه تضعيف الثواب » { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات } أي : يفصل الله شرائعه « لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » عن الله أمره ونهيه . قال أنس : « وقفت على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - أصب الماء على يديه ، فرفع رأسه وقال : » ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها « ؟ فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، بلى . قال : » من لقيت من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتاً فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين « .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

قوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ } أي : مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { على أَمْرٍ جَامِعٍ } يجمعهم من حرب حضرت ، أو صلاة جمعة ، أو عيد ، أو جماعة ، أو تشاور في أمر نزل . فقوله « أَمْرٍ جَامِع » من الإسناد المجازي ( لأنه لما كان سبباً في جمعهم نسب الفعل ) إليه مجازاً .
وقرأ اليماني : { عَلَى أَمْرٍ جَميعٍ } فيحتمل أن يكون صيغة مبالغة بمعنى « مُجمع » وألا يكون . والجملة الشرطية من قوله : « وَإِذَا كَانُوا » وجوابها عطف على الصلة من قوله : « آمَنُوا » .
والأمر الجامع : هو الذي يعم ضرره أو نفعه ، والمراد به : الخطب الجليل الذي لا بُدَّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أرباب التجارب ( والآراء ) ليستعين بتجاربهم ، فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يَشُق على قلبه .
فصل
قال الكلبي : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعَرِّضُ في خطبته بالمنافقين ويعيبهم ، فينظر المنافقون يميناً وشمالاً ، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا ، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفاً ، فنزلت الآية ، فكان المؤمن بعد نزول هذه الآية لا يخرج لحاجته حتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان المنافقون يخرجون بغير إذن .
فصل
قال العلماء : كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلاّ بإذن ، وهذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام ، ( فإن حدث سبب يمنعه من المقام ) بأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة ، أو يجنب رجل ، أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان .
فصل
قال الجبائي : دلَّت الآية على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ، ولولا ذلك لجاز أن يكونوا كاملي الإيمان .
والجواب : هذا بناء على أن كلمة « إنما » للحصر ، وأيضاً فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافاً ، وذلك كفر .
قوله : { إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ } تعظيماً لك ورعاية للأدب { أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } أي : يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه . قال الضحاك ومقاتل : المراد : عمر بن الخطاب ، وذلك أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله ، فأذن له ، وقال : « انطلق ، فوالله ما أنت بمنافق » يريد أن يُسْمِع المنافقين ذلك الكلام ، فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم ، وإذا استأذناه أبى ، فوالله ما نراه يعدل .
قال ابن عباس : « إن عمر استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العمرة ، فأذن له ، ثم قال : » يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك « .
قوله : » لِبَعْض شَأْنِهِمْ « تعليل ، أي : لأجل بعض حاجتهم .

وأظهر العامةُ الضادَ عند الشين . وأدغمها أبو عمرو فيها ، لما بينهما من التقارب ، لأن الضاد من أقصَى حافة اللسان والشين من وسطه . وقد استضعف جماعة من النحويين هذه الرواية واستبعدوها عن أبي عمرو - رأس الصناعة - من حيث إن الضادَ أقوى من الشين ، ولا يدغم الأقوى في الأضعف وأساء الزمخشري على راويها السوسيّ . وقد أجاب الناس عنه ، فقيل : وجه الإدغام أن الشين أشد استطالة من الضاد ، وفيها تَفَشِّي ليس في الضاد ، فقد صارت الضاد أَنْقَصَ منها ، وإدغام الأنقص في الأزْيَدِ جائز ، قال : ويُؤَيّد هذا أن سيبويه حكى عن بعض العرب « اطَّجَع » في « اضْطَجع » ، وإذا جاز إدغامها في الطاء فإدغامها في الشين أولى .
والخصم لا يسلم جميع ما ذكر ، ومستند المنع واضح .
فصل
{ فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } أمرهم { فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } بالانصراف ، أي : إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن ، { واستغفر لَهُمُ الله } وهذا تنبيه على أن الأولى ألا يستأذنوا وإن أذن ، لأن الاستغفار يكون عن ذنب . ويحتمل أن يكون أمره بالاستغفار لهم مقابلة على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان .
فصل
قال مجاهد : قوله : فأذن لمن شئت منهم نسخت هذه الآية . وقال قتادة : نسخت هذه الآية بقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] . والآية تدل على أنه تعالى فوض إلى رسول الله بعض أمر الدين ليجتهد فيه رأيه .
قوله : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } . قال سعيد بن جبير وجماعة كثيرة : لا تنادونه باسمه فتقولون : يا محمد ، ولا بكنيته فتقولون : يا أبا القاسم ، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير : يا رسول الله ، يا نبي الله . وعلى هذا يكون المصدر مضافاً لمفعوله . وقال المبرد والقفال : لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض فتتباطؤون كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر ، بل يجب عليكم المبادرة لأمره ، ويؤيده قوله : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } . وعلى هذا يكون المصدر مضافاً للفاعل .
وقال ابن عباس : « احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه ، فإن دعاءه موجب لنزول البلاء بكم ليس كدعاء غيره » . وروي عنه أيضاً : « لا ترفعوا أصواتكم في دعائه » . وهو المراد من قوله : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله } [ الحجرات : 3 ] وقول المبرد أقرب إلى نظم الآية . وقرأ الحسن : « نبيكم » بتقديم النون على الباء المكسورة ، بعدها ياء مشددة مخفوضة مكان « بينكم » الظرف في قراءة العامة ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من الرسول .
الثاني : أنه عطف بيان له ، لأَنَّ النبيَّ بإضافته إلى المخاطبين صار أشهر من الرسول .
الثالث : أنه نعتٌ .
لا يقال : إنه لا يجوز لأن هذا كما قَرَّرتم أعرف ، والنعت لا يكون أعرف من المنعوت بل إمَّا أقلُّ أو مساوٍ ، لأنَّ الرَّسول صار علماً بالغلبة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد تساويا تعريفاً .

قوله : { قَدْ يَعْلَمُ الله } . « قد » تدل على التقليل مع المضارع إلاّ في أفعال الله فتدل على التحقيق كهذه الآية . وقد ردَّها بعضهم إلى التقليل ، لكن إلى متعلَّق العلم ، يعني : أن الفاعلين لذلك قليل ، فالتقليل ليس في العلم بل في متعلِّقه .
قوله : لِوَاذاً فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول ، إذ التقدير : يتسلّلون منكم تَسَلُّلاً ، أو يُلاَذُون لواذاً .
والثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : مُلاَوِذين .
واللِّواذُ : مصدر لاَوذَ ، وإنما صحَّت الواو وإن انكسر ما قبلها ولم تُقلب ياءً كما قُلبَتْ في « قِيَام » و « صِيَام » ، لأنه صحَّت في الفعل نحو « لاَوَذَ » ، فلو أُعِلَّتْ في الفعل أُعِلَّتْ في المصدر نحو « القيام » و « الصِّيَام » لقلبها ألفاً في « قام » و « صام » . وأما مصدر : « لاَذَ بكذا يَلُوذُ به » فمعتل نحو : « لاَذَ لِيَاذاً » مثل : « صَامَ صِياماً ، وقام قِياماً » . واللِّوَاذُ والمُلاَوَذَةُ : التَّستُّر ، يقال : لاَوَذَ فلانٌ بكذا : إذا استتر بِهِ . واللَّوذُ : ما يُطيفُ بالجبل . وقيل : اللِّوَاذُ : الرَوَغَان من شيءٍ إلى شيءٍ في خفيةٍ ، ووجه المفاعلة أَنَّ كُلاًّ منهم يلُوذُ بصاحبه ، فالمشاركة موجودة .
وقرأ يزيد بن قطيب : « لَوَاذاً » بفتح اللام ، وهي محتملة لوجهين :
أحدهما : أن يكون مصدر « لاذ » ثلاثياً ، فيكون مثل « طاف طوافاً » .
والثاني : أن يكون مصدر « لاَوَذَ » إلاّ أنه فتحت الفاء إتباعاً لفتحة العين . وهو تعليل ضعيف يصلح لمثل هذه القراءة .
فصل
المعنى : قال المفسرون : إن المنافقين كانوا يخرجون مستترين بالناس من غير استئذان حتى لا يروا . قال ابن عباس : كان المنافقون يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار وقال مجاهد : يتسللون من الصف في القتال . وقيل : كان هذا في حفر الخندق ينصرفون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختفين . وقيل : يعرضون عن الله وعن كتابه وعن ذكره وعن نبيه .
قوله : « فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ » فيه وجهان :
أشهرهما ، وهو الذي لا يعرف النحاة غيره : أن الموصول هو الفاعل و « أن تصيبهم » مفعوله ، أي : فليحذر المخالفون عن أمره إصابتهم فتنة .
والثاني : أن فاعل « فَلْيَحْذَر » ضمير مستتر ، والموصول مفعول به . وردَّ هذا بوجوهٍ :
منها : أن الإضمار خلاف الاصل . وفيه نظر ، لأنَّ هذا الإضمار في قوة المنطوق به ، فلا يقال : هو خلاف الأصل ، ألا ترى أن نحو : « قُمْ » و « ليقُمْ » فاعله مضمر ، ولا يقال في شيء منه هو خلاف الأصل ، وإنما الإضمار خلاف الأصل فيما كان حذفاً نحو : « وَاسْأَلِ القَرْيَةَ » .

ومنها : أنَّ هذا الضمير لا مرجع له ، أي : ليس له شيء يعود عليه ، فبطل أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً . وأجيب بأن الذي يعود عليه الضمير هو الموصولُ الأول ، أي : فَلْيَحْذَر المُتَسَلِّلُونَ المخالفين عن أمره ، فيكونون قد أمروا بالحذر منهم ، أي : أُمرُوا باجتنابهم ، كما يُؤْمَرُ باجتناب الفُسَّاقِ . وردُّوا هذا بوجهين :
أحدهما : أنَّ الضمير مفرد ، والذي يعود عليه جمع ، ففاتت المطابقةُ التي هي شرطٌ في تفسير الضمائر .
الثاني : أن المُتَسلِّلينَ هم المُخالِفُون ، فلو أمروا بالحذر عن الذين يخالفون لكانوا قد أُمِرُوا بالحذر عن أنفسهم ، وهو لا يجوز ، لأنه لا يمكن أن يُؤْمَرُوا بالحذر عن أنفسهم . ويمكن أن يُجاب عن الأول بأن الضمير وإن كان مفرداً فإنما عاد على جمع باعتبار أن المعنى : فليحذر هو ، أي من ذكر قبل ذلك ، وحكى سيبويه : « ضَرَبَني وضربت قومك » أي : ضَرَبَني من ثمَّ ومن ذكر ، وهي مسألة معروفة في النحو . أو يكون التقدير : فَلْيَحْذَر كلُّ واحد من المتسللين .
وعن الثاني : بأنه يجوز أن يُؤْمَر الإنسانُ بالحذر عن نفسه مجازاً ، يعني : أنه لا يطاوعها على شهواتها ، وما تُسوِّلُه له من السوء ، وكأنه قيل : فليحذر المخالفون أنفسهم فلا يطيعوها فيما تأمرهم به ، ولهذا يقال : أمَرَ نفسهُ ونَهَاهَا ، وأَمرتهُ نفسهُ باعتبار المجاز .
ومنها : أنه يصير قوله : { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مفلَّتاً ضائعاً ، لأنَّ « يحذر » يتعدى لواحد ، وقد أخذه على زعمكم ، وهو الذين يخالفون ولا يتعدى إلى اثنين حتى يقولوا : إن { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } في محل مفعوله الثاني ، فيبقى ضائعاً . وفيه نظرٌ ، لأنَّا لا نُسلِّم ضياعهُ ، لأنه مفعول من أجله . واعترض على هذا بأنه لا يستكمل شروط النصب لاختلاف الفاعل ، لأن فاعل الحذر غير فاعل الإصابة .
وهو ضعيف ، لأن حذف حرف الجر يطرد مع « أَنَّ » و « أَنْ » منقول مسلمٌ : شروط النصب غير موجودةٍ ، وهو مجرور باللام تقديراً ، وإنما حُذفت مع أَنْ لطولها بالصلة . و « يُخَالِفُونَ » يتعدى بنفسه نحو : خَالَفْتُ أَمْر زيدٍ ، وب « إِلَى » نحو : خالفتُ إلى كذا ، فكيف تعدَّى هذا بحرفِ المجاورة؟ وفيه أوجه :
أحدها : أنه ضُمِّنَ معنى « صَدَّ » و « أَعْرَضَ » أي : صدَّ عن أمره ، وأَعْرَضَ عنه مُخَالِفاً له .
الثاني : قال ابن عطية : معناه : يقعُ خلافُهُمْ بعدَ أَمْرِه ، كما تقول : كان المطر عَنْ ريح كذا ، و « عن » لِمَا عدا الشي .
الثالث : أنها مزيدة ، أي : يخالفون أمره ، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة . والزيادة خلافُ الأصل . وقُرِئ : « يُخَلِّفُونَ » بالتشديد ، ومفعوله محذوف ، أي : يُخَلِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ .

فصل
المعنى : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ } أي : يعرضون « عَنْ أَمْرِهِ » ، أو يخالفون أمره وينصرفون عنه بغير إذنه { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } أي : لئلا تصيبهم فتنة .
قال مجاهد : بلاء في الدنيا . { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وجيع في الآخرة . والضمير في « أمره » يرجع إلى « الرسول » . وقال أبو بكر الرازي : الأظهر أنه لله تعالى لأنه يليه .
فصل
الآية تدل على أن الأمر للوجوب ، لأن تارك المأمور مخالف للأمر ، ومخالف الأمر يستحق العقاب ، ولا معنى للوجوب إلا ذلك .
قوله تعالى : { ألاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } أي : ملكاً وعبيداً ، وهذا تنبيه على كمال قدرته تعالى عليهما ، وعلى ما بينهما وفيهما .
قوله : { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } . قال الزمخشري : أدخل « قد » ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد ، وذلك أن « قد » إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى « رُبَّما » فوافقت « ربما » في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله :
3858- فَإِنْ يُمْسي مَهْجُورَ الفَنَاءِ فَرُبَّمَا ... أقام به بَعْدَ الوُفُودِ وُفُودُ
ونحو من ذلك قول زهير :
3859- أَخِي ثِقَةٍ لاَ تُهْلِكُ الخَمْرُ مَالَهُ ... وَلكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُه
قال أبو حيان : وكونُ « قَدْ » إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قولٌ لبعض النحاة ، وليس بصحيح ، وإنما التكثير مفهوم من السياق . والصحيح أن رُبَّ لتقليل الشيء أو لتقليل نظيره ، وإن فُهِمَ تكثير فمن السياق لا منها .
قوله : « وَيَوْمَ يُرجَعُونَ » ، في « يَوْمَ » وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به لا ظرف ، لعطفه على قوله : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } ، أي : يعلم الذي أنتم عليه من جميع أحوالكم ، ويعلم يوم يرجعون ، كقوله { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] .
وقوله : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] .
والثاني : أنه ظرف لشيء محذوف . قال ابن عطية : ويجوز أن يكون التقدير : والعلم الظاهر لكم أو نحو : هذا يومَ ، فيكون النصب على الظرف . انتهى .
وقرأ العامة « يُرْجَعُونَ » مبنياً للمفعول ، وأبو عمرو في آخرين مبنيًّا للفاعل ، وعلى كلتا القراءتين فيجوز وجهان :
أحدهما : أن يكون في الكلام التفات من الخطاب في قوله : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } إلى الغيبة في قوله « يرجعون » .
والثاني : أنَّ { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } خطاب عام لكل أحد ، والضمير في « يرجعون » للمنافقين خاصة ، فلا التفات حينئذ .
فصل
المعنى : { يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } من الإيمان والنفاق و « قَدْ » صلة { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } يعني يوم البعث ، { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } من الخير والشر ، { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ } .
روي عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلموهن الكتابة ، وعلموهن الغَزْلَ وسورة النور » .
وروى الثعلبي عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن فيما مضى وفيما بقي » .

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)

قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ } الآية . اعلم أنه تعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة ثم ختمها بذكر العباد المخلصين المؤمنين . قال الزجاج : « تبارك » تفاعل من البركة . والبركة كثرة الخيرة وزيادته ، وفيه معنيان :
أحدهما : تزايد خيره وتكاثره . قال ابن عباس : معناه : جاء بكل بركة ، قال تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] .
والثاني : قال الضحاك : تعظّم الذي نزل الفرقان ، أي : القرآن على عبده . وقيل : الكلمة تدل على البقاء ، وهو مأخوذ من بروك البعير ، ومن بروك الطير على الماء . وسميت البركة بركة ، لثبوت الماء فيها ، والمعنى : أنه سبحانه باق في ذاته أزلاً وأبداً ممتنع التغير ، وباق في صفاته ممتنع التبدل .
فإن قيل : كلمة « الذي » موضوعة في اللغة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه بقضية معلومة ، وإذا كان كذلك فالقوم ما كانوا عالمين بأنه - سبحانه - الذي نزل الفرقان . فالجواب : أنه لما ظهر الدليل على كونه من عند الله ، فلقوة الدليل وظهوره أجراه مجرى المعلوم .
فصل
وصف القرآن بالفرقان ، لأنه فرق بين الحق والباطل في نبوة محمد - عليه السلام - وبين الحلال والحرام ، أو لأنه فرق في النزول كقوله : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ } [ الإسراء : 106 ] ، وهذا أقرب ، لأنه قال : { نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ } ولفظة « نزل » تدل على التفريق ، ولفظة « أنزل » تدل على الجمع ، ولهذا قال في سورة آل عمران : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ( مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) } [ آل عمران : 3 ] { وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل } [ آل عمران : 3 ] . والمراد بالعبد ههنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : « ليكون » . اللام متعلقة ب « نزَّل » ، وفي اسم « يكون » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضمير يعود على « الَّذِي نزّل » ، أي : ليكون الذي نزل الفرقان نذيراً .
الثاني : أنه يعود على « الفرقان » وهو القرآن ، أي : ليكون الفرقان نذيراً ( أضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله : { إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي } [ الإسراء : 9 ] وهذا بعيد؛ لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف ، ووصف القرآن به مجاز ، وحمل الكلام على الحقيقة أولى ) .
الثالث : أنه يعود على « عبده » ، أي : ليكون عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - نذيراً . وهذا أحسن الوجوه معنى وصناعة لقربه مما يعود عليه الضمير على أقرب مذكور . و « لِلعَالَمِين » متعلق ب « نَذِيراً » ، وإنما قدم لأجل الفواصل ، ودعوى إفادة الاختصاص بعيدة ، لعدم تأتيها هنا ، ورجح أبو حيان عوده على « الذي » ، قال : لأنه العمدة المسند إليه الفعل ، وهو من وصفه تعالى كقوله :

{ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [ الدخان : 3 ] ، و « نذيراً » الظاهر فيه أنه بمعنى منذر ، وجوَّزوا أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار ، ومنه { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } [ القمر : 16 ] فإن قوله : « تبارك » يدل على كثرة الخير والبركة ، فالمذكور عقيبه لا بد وأن يكون سبباً لكثرة الخير والمنافع ، والإنذار يوجب الغم والخوف ، فكيف يليق ذكره بهذا الموضع؟ فالجواب : أن الإنذار يجري مجرى تأديب الولد ، كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر ( كان الإحسان إليه أكثر ، لما أن ذلك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة ، فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيراً ) كان رجوع الخلق إلى الله أكثر ، وكانت السعادة الأخروية أتم وكثر ، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة؛ لأنه تعالى لما وصف نفسه بأنه معطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين ، ولم يذكر منافع الدنيا البتّة .
قوله : { الذي لَهُ مُلْكُ } يجوز في « الّذِي » الرفع نعتاً للذي الأول ، أو بياناً ، أو بدلاً ، أو خبراً لمبتدأ محذوف ، أو النصب على المدح .
وما بعد بدل من تمام الصلة فليس أجنبياً ، فلا يضر الفصل به بين الموصول الأول والثاني إذا جعلنا الثاني تابعاً له .
فصل
{ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه حال حدوثها ، وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء .
{ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } أي : هو الفرد أبداً ، ولا يصح أن يكون غيره معبوداً ووارثاً للملك عنه ، وهذا رد على النصارى . { ولم يكن له شريك في الملك } أي : هو المنفرد بالإلهية ، وإذا عرف العبد ذلك انقطع رجاؤه عن كل ما سواه ، ولم يشتغل قلبه إلا برحمته وإحسانه ، وفيه رد على الثنوية ، والقائلين بعبادة النجوم والأوثان .
قوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } الخلق هنا عبارة عن الإحداث والتهيئة لما يصلح له ، لا خلل فيه ولا تفاوت حتى يجيء قوله : « فقدره تقديراً » مفيداً إذ لو حملنا { خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام : وقدر كل شيء فقدره .
فصل
قوله : { خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } يدل على أنه تعالى خلق الأعمال من وجهين :
الأول : أن قوله : « كل شيء » يتناول جميع الأشياء ، ومن جملتها أفعال العباد .
والثاني : أنه تعالى نفى الشريك ، فكأن قائلاً قال : ههنا أقوام معترفون بنفي الشريك والأنداد ومع ذلك يقولون بخلق أفعال أنفسهم ، فذكر الله تعالى هذه الآية رداً عليهم . قال القاضي : الآية تدل عليه لوجوه :
أحدها : أنه تعالى صرح بكون العبد خالقاً فقال : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } [ المائدة : 110 ] ، وقال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] وتمدح بأنه قدره تقديراً ، ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره . فظاهر الآية لا يدل إلا على التقدير ، لأن الخلق عبارة عن التقدير ، فلا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير وهو الأجسام لا الأعراض . والجواب : أن قوله : « إِذْ تَخْلُقُ » ، وقوله : « أَحْسَنُ الخَالِقِينَ » معارض بقوله : { الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] وبقوله : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } [ فاطر : 3 ] وقولهم : لا يجوز التمدح بخلق الفساد ، فالجواب : لم لا يجوز أن يتمدح به من حيث نفاذ القدرة .

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)

قوله تعالى : { واتخذوا } يجوز أن يعود الضمير على الكفار الذين تضمنهم لفظ العالمين ، وأن يعود على من ادَّعى لله شريكاً وولداً ، لدلالة قوله : { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } [ الفرقان : 2 ] وأن يعود على المنذرين ، لدلالة « نذيراً » عليهم .
قوله : « لا يَخْلُقُونَ » صفة ل « آلهة » ، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لأن الكفار كانوا يعبدون العقلاء كعزير والمسيح والملائكة وغيرهم كالكواكب والأصنام . ومعنى « لا يخلقون » لا يقدرون على التقدير ، والخلق يوصف به العباد قال زهير :
3860- ولأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْت وبع ... ضُ القَوم يخلُق ثم لا يَفْرِي
ويقال : خلقت الأديم : أي : قدرته ، وهذا إذا أريد بالخلق التقدير ، فإن أريد به الإيجاد فلا يوصف به غير الباري - تعالى - وقد تقدم .
وقيل : بمعنى يختلقون كقوله : « وتَخْلُقُون إفْكاً » .
فصل
لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردفه بتزييف مذهب عبدة الأوثان من وجوه : منها : أنها ليست خالقة للأشياء ، والإله يجب أن يكون قادراً على الخلق والإيجاد ومنها : أنها مخلوقة ، والمخلوق محتاج ، والإله يجب أن يكون غنياً . ومنها : أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً ، ومن كان كذلك لا يملك موتاً ولا حياةً ولا نُشُوراً . أي : لا يقدر على الإحياء والإماتة لا في زمن التكليف ، ولا في زمن المجازاة ، ومن كان كذلك كيف يسمى إلهاً ، وكيف يستحق العبادة؟ .
فصل
احتج أهل السنة بقوله : « ولا يَخْلُقُونَ شَيْئاً » على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأنه عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يَخْلُق شيئاً ، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد ، فلو كان العبد خالقاً لكان معبوداً إلهاً . وأجاب الكعبي بأنا لا نطلق اسم الخالق إلا على الله تعالى ، ( وقال بعض أصحابنا في الخلق : إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب ولا يكون ذلك إلا لله تعالى .
ثم قال : قد قال الله تعالى ) : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] في وصف الأصنام ، أفيدل ذلك على أن كل من له رجل يستحق أن يعبد . فإذا قالوا : لا . قيل : فكذلك ما ذكرتم ، وقد قال الله تعالى : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] هذا كله كلام الكعبي .
والجواب : قوله : لا نطلق اسم الخالق على العبد . قلنا : بل يجب ذلك ، لأن الخلق في اللغة هو التقدير ، والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان ، فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في العبد مجازاً في الله ، فكيف يمكنهم منع إطلاق لفظ الخالق على العبد؟ . وأما قوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] فالعيب إنما وقع عليهم ، فلا جرم أن من تحقق العجز في حقه من بعض الوجوه لم يحسن عبادته . وأما قوله : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] فتقدم الكلام عليه . واعلم أن في استدلال أهل السنة بالآية نظر ، لاحتمال أن الغيب إنما حصل بمجموع الأمرين ، وهو كونهم ليسوا بخالقين ، وكونهم مخلوقون ، والعبد وإن كان خالقاً إلا أنه مخلوق ، فلا يلزم أن يكون العبد إلهاً معبوداً .
فصل
دلَّت الآية على البعث ، لأنه تعالى ذكر النشور ، ومعناه : أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين ، والعقاب إلى العصاة ، فمن لا يكون كذلك يجب أن لا يصلح للإلهية .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)

قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه } الآية . لما تكلم أولاً في التوحيد وثانياً في الرد على عبدة الأوثان ، تكلم ههنا في مسألة النبوة ، وحكى شبه الكفار في إنكار نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - . فالشبهة الأولى : قوله : { وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } .
قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث هو الذي قال هذا القول { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } يعني : عامر مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار غلام عامر بن الحضرمي ، وجبير مولى عامر ، هؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب ، وكانوا يقرؤون التوراة ، فلما أسلموا ، وكان النبي يتعهدهم ، فمن أجل ذلك قال النضر ما قال . وقال الحسن : عبيد بن الحصر الحبشيّ الكاهر . وقيل : جبر ويسار وعداء عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب ، فزعم المشركون أن محمداً يأخذ منهم .
قوله : « افتراه » الهاء تعود على « إفك » وقال أبو البقاء : الهاء تعود على « عبده » في أول السورة . قال شهاب الدين : ولا أظنه إلا غلطاً وكأنه أراد أن يقول الضمير المرفوع في « افتراه » فغلط .
قوله « ظلماً » فيه أوجه :
أحدها : أنه مفعول به ، لأن جاء يتعدى بنفسه ( وكذلك أتى ) .
والثاني : أنه على إسقاط الخافض ، أي : جاءوا بظلم . قاله الزجاج .
الثالث : أنه في موضع الحال ، فيجيء فيه ما في قولك : جاء زيد عدلاً .
قال الزمخشري : { فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } أي : أتوا ظلماً وكذباً كقوله : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 89 ] فانتصب بوقوع المجيء . أما كونه « ظلماً » فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه ، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه ، وذلك هو الظلم . وأما كونه « زوراً » فلأنهم كذبوا ، قال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول .
الشبهة الثانية : قوله تعالى : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين . اكتتبها } الآية . يجوز في « اكْتَتَبَهَا » ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون حالاً من « أساطير » ، والعامل فيها معنى التنبيه أو الإشارة المقدرة ، فإن « أَسَاطِير » خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذه أساطير الأولين مكتتبة .
الثاني : أن يكون في موضع خبر ثان ل « هذه » .
الثالث : أن يكون « أساطير » مبتدأ و « اكْتَتَبَها » خبره . و « اكْتَتَبَها » الافتعال هنا يجوز أن يكون بمعنى : أمر بكتابتها كافتصد واحتجم إذا أمر بذلك ويجوز أن يكون بمعنى كتبها ، وهو من جملة افترائهم عليه ، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، ويكون كقولهم : ( استكبه واصطبه ، أي : سكبه وصبه ) ، والافتعال مشعر بالتكليف . ويجوز أن يكون من كتب بمعنى جمع من الكتب ، وهو الجمع لا من الكتابة بالقلم .

وقرأ طلحة « اكتُتِبهَا » مبنياً للمفعول .
قال الزمخشري : والمعنى : اكتتبها له كاتب ، لأنه كان أمياً لا يكتب بيده ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير ، فصار اكتُتِبها إياه كاتب ، كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ، ثم بنى الفعل للضمير الذي هُوَ إيَّاه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً ، وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار « اكتُتِبَها » كما ترى . قال أبو حيان : ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين ، لأن « اكتَتَبها » له كاتب ، وصل الفعل فيه المفعولين : أحدهما : مسرح ، وهو ضمير الأساطير والآخر مقيّد ، وهو ضميره عليه السلام - ثم اتسع في الفعل ، فحذف حرف الجر ، فصار « اكْتَتَبَها إياه كاتبٌ » ، فإذا بني هذا للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراً ، لا المسرح لفظاً المقيد تقديراً ، فعلى هذا كان يكون التركيب ( اكتَتَبه ) لا ( اكتَتَبها ) ، وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع ، قال الفرزدق :
3861- ومنَّا الَّذِي اختير الرجال سماحةً ... وجوداً إذا هبَّ الرياحُ الزّعازعُ
ولو جاء على ما قدره الزمخشري لجاء التركيب : ومنَّا الذي اختيره الرجال . لأن ( اختير ) تعدى إلى الرجال بإسقاط حرف الجر؛ إذ تقديره : اختير من الرجال . وهو اعتراض حسن بالنسبة إلى مذهب الجمهور ، ولكن الزمخشري قد لا يلتزمه ، ويوافق الأخفش والكوفيين ، وإذا كان الأخفش وهم يتركون المسرح لفظاً وتقديراً ، ويقيمون المجرور بالحرف مع وجوده ، فهذا أولى .
والظاهر أن الجملة من قوله { اكتتبها فهي تملى } من تتمة قول الكفار .
وعن الحسن أنها من كلام الباري تعالى ، وكان حق الكلام على هذا أن يقرأ « أَكْتَتَبَها » بهمزة مقطوعة مفتوحة للاستفهام كقوله : { أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ } [ سبأ : 8 ] . ويمكن أن يعتذر عنه أنه حذف الهمزة للعلم بها كقوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] . وقول الآخر :
3862- أفْرَحُ أَنْ أُرزأَ الكرام وأن ... أُورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبلاَ
يريد : أو تلك ، أو أأفرح ، فحذف لدلالة الحال ، وحقه أن يقف على « الأولين » قال الزمخشري : كيف قيل : { اكتَتَبها فهي تملى عليه } وإنما يقال : أمليت عليه فهو يكتبها . قلت فيه وجهان :
أحدهما : اراد اكتِتَابها وطلبه ، فهي تملى عليه ، أو كتبت له ، وهو أمر فهي تملى عليه ، أي : تلقى عليه من كتاب يتحفظها ، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب .
وقرأ عيسى وطلحة « تُتْلَى » بتاءين من [ فوق من التلاوة . و « بُكْرَةً وأَصِيلاً » ظرفا زمان للإملاء ، والياء في « تُمْلَى » بدل من ] اللام ، كقوله : « فَلْيُمْلِلِ » وقد تقدم .
فصل
المعنى : أن هذا القرآن ليس من الله ، إنما هو مما سطره الأولون كأحاديث رستم واسفنديار ، جمع أسطار وأسطورة كأحدوثة استنسخها محمد من أهل الكتاب { فَهِيَ تملى عَلَيْهِ } أي : تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها « بُكْرَةً وأَصِيلاً » غدوة وعشيًّا .

قوله : { قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر } الآية . وهذا جواب عن شبههم ، وذلك أنه - عليه السلام - تحداهم بالمعارضة وأظهر عجزهم عنها ، ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن من عند نفسه ، أو استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بأحد ، فيأتوا بمثل هذا القرآن ، فلما عجزوا عنه ثبت أنه وحي الله وكلامه ، فلهذا قال : « قُلْ أَنْزَلَهُ » يعني : القرآن { الذي يَعْلَمُ السر } أي : الغيب { فِي السماوات والأرض } ؛ لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لا بد وأن يكون عالماً بكل المعلومات ظاهرها وخفيها ، { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ثم قال : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } ، فذكر الغفور في هذا الموضع لوجهين :
أحدهما : قال أبو مسلم : إنه لما أنزله لأجل الإنذار وجب أن يكون غفوراً رحيماً ، غير مستعجل بالعقوبة .
الثاني : أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العقاب صبًّا ، ولكن صرف عنهم كونه غفوراً رحيماً ، يمهل ولا يعاجل .
الشبهة الثالثة : قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام } . الآية . « ما » استفهامية مبتدأة ، والجار بعدها خبر ، و « يأكل » جملة حالية ، وبها تتم فائدة الإخبار ، كقوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وقد تقدم في النساء أن لام الجر كتبت مفصولة من مجرورها ، وهو خارج عن قياس الخط . والعامل في الحال الاستقرار العامل في الجر ، أو نفس الجر ذكره أبو البقاء .
قوله : « فَيَكُونَ » . العامة على نصبه ، وفيه وجهان :
أحدهما : نصبه على جواب التحضيض .
والثاني : قال أبو البقاء : « فَيَكُونَ » منصوب على جواب الاستفهام . وفيه نظر ، لأن ما بعد الفاء لا يترتب على هذا الاستفهام ، وشرط النصب أن ينعقد منهما شرط وجزاء . وقرئ « فَيَكُونُ » بالرفع وهو معطوف على « أُنْزِلَ » ، وجاز عطفه على الماضي؛ لأن المراد بالماضي المستقبل إذ التقدير : لولا ينزل .
قوله : « أَوْ يُلقَى . . . أَوْ تَكُون » معطوفان على « أنزل » لما تقدم من كونه بمعنى ينزل ، ولا يجوز أن يُعطفا على « فَيَكُون » المنصوب في الجواب؛ لأنهما مندرجان في التحضيض في حكم الواقع بعد « لولا » ، وليس المعنى على أنهما جواب للتحضيض ، فَيُعْطَفا على جوابه . وقرأ الأعمش وقتادة { أَوْ يَكُونُ لَهُ } بالياء من تحت؛ لأن تأنيث الجنة مجازي .
قوله : « يَأْكُلُ مِنْهَا » الجملة في موضع الرفع صفة ل « جَنّة » . وقرأ الأخوان « نَأْكُلُ » بنون الجمع ، والباقون بالياء من تحت أي : الرسول .
قوله : « وَقَالَ الظَّالِمُون » وضع الظاهر موضع المضمر؛ إذ الأصل « وَقَالُوا » .
قال الزمخشري : وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم .

قال أبو حيان : وقوله ليس تركيباً سائغاً بل التركيب العربي أن يقول أرادهم بأعيانهم .
فصل
وهذه الشبهة التي ذكروها في نهاية الرذالة ، فقالوا : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } يلتمس المعاش كما نلتمس فمن أين له الفضل علينا؟ وكيف يمتاز عنّا بالنبوة ، وهو مثلنا في هذه الأمور .
وقالوا : { لولاا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ } هلاّ أنزل إليه ملك { فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } يصدقه ويشهد له ، ويرد على من خالفه . { أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ } من السماء ، فينفعه ولا يحتاج إلى تردد لطلب المعاش ، وكانوا يقولون له : لستَ أنتَ بملك ، لأنك تأكل والملك لا يأكل ، ولست بملك؛ لأن الملك لا يتسوق ، وأنت تتسوق وتتبذل . وما قالوه فاسد؛ لأن أكله الطعام لكونه آدمياً ، ومشيه في الأسواق لتواضعه ، وكان ذلك صفة له . وقالوا : { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } ، والمعنى : إن لم يكن له كنز فلا أقلّ أن يكون كواحد من الدهاقين ، فيكون له بستان يأكل منه { وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } مخدوعاً ، وقيل : مصروفاً عن الحق . وتقدمت هذه القصة في آخرِ بني إسرائيل . ثم أجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } يعني الأشباه فضلوا عن الحق { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } إلى الهدى ومخرجاً عن الضلالة .
وبيان وجه الجواب كأنه تعالى قال : انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها : لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوَّتِك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلاً البتّة ، إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول .

تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)

قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك } الآية وهذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة ، أي : تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ الذي قالوا ، وأفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا ، أي : أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما ذكروه ، ولكنه تعالى يعطي عباده بحسب المصالح ، أو على وفق المشيئة ، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله .
قال ابن عباس : { خَيْراً مِّن ذلك } أي : مما عيَّروك بفقد الجنة الواحدة ، وهو سبحانه قادر على أن يعطيك جنات كثيرة . وقال في رواية عكرمة : { خَيْراً مِّن ذلك } أي : من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش .
وقوله : « إِنْ شَاءَ » معناه : أنه تعالى قادرٌ على ذلك لا أنه شاكٌّ ، لأن الشك لا يجوز على الله تعالى . وقيل : « إِنْ » ههنا بمعنى ( قَدْ ) ، أي : قد جعلنا لك في الآخرة جنات ومساكن ، وإنما أدخل ( إن ) تنبيهاً للعبادة على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته ، وأنه معلق على محض مشيئته ، وليس لأحد من العباد حق على الله لا في الدنيا ولا في الآخرة .
قوله : « جَنَّاتٍ » . يجوز أن يكون بدلاً من « خَيْراً » وأن يكون عطف بيان لذلك الخير عند من يجوزه في النكرات ، وأن يكون منصوباً بإضمار أعني . و { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } صفة .
قوله : « وَيَجْعَل لَكَ » قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع « يَجْعَلُ » ، والباقون بإدغام لام « يَجْعَل » في لام « لك » وأما الرفع ففيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف .
والثاني : أنه معطوف على جواب الشرط . قال الزمخشري : لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع ، كقوله :
3863- وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ ... يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
قال الزمخشري : وليس هذا مذهب سيبويه بل مذهبه أن الجواب محذوف ، وأن هذا المضارع مَنْوِيٌّ به التقديم ، ومذهب المبرد والكوفيين أنه جواب على حذف الفاء ، ومذهب آخرين أنه جواب لا على حذفها بل لما كان الشرط ماضياً ضعف تأثير ( إن ) فارتفع . فالزمخشري بنى قوله على هذين المذهبين . ثم قال أبو حيان : وهذا التركيب جائز فصيح ، وزعم بعض أصحابنا أنه لا يجيء إلا في ضرورة . وأما القراءة الثانية فتحتمل وجهين :
أحدهما : أن سكون اللام للجزم عطفاً على محل ( جعل ) ؛ لأنه جواب الشرط .
والثاني : أنه مرفوع ، وإنما سكن لأجل الإدغام . قاله الزمخشري وغيره . وفيه نظر من حيث إن من جملة من قرأ بذلك وهو نافع والأخوان وحفص ليس من أصولهم الإدغام حتى يدعى لهم في هذا المكان . نعم أبو عمرو أصله الإدغام وهو يقر هنا بسكون اللام فيحتمل ذلك على قراءته ، وهذا من محاسن علم النحو والقراءات معاً وقال الواحدي : وبين القراءتين فرق في المعنى ، فمن جزم فالمعنى : إن شاء يجعل لك قصوراً في الدنيا ، ولا يحسن الوقف على « الأَنْهَارُ » ومن رفع حسن الوقف ( على « الأَنْهَار » ) واستأنف { وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } في الآخرة .

وقرأ ابن سليمان وطلحة بن سليمان « وَيَجْعَلَ » بالنصب ، وذلك بإضمار أن على جواب الشرط ، واستضعفها ابن جنيّ ، ومثل هذه القراءة قوله :
3864- فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبيعُ النَّاسِ والبَلَدُ الحَرَامُ
وَنَأْخُذ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
بالتثليث في ( نأخذ ) .
فصل
القصور جماعة القصر ، وهو المسكن الرفيع . قال المفسرون : القصور هي البيوت المشيدة ، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً . ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر فيكون مسكناً ومنتزهاً ، ويجوز أن يكون القصور مجموعة والجنات مجموعة .
وقال مجاهد : « إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ جَنَّاتٍ » في الآخرة وقصوراً في الدنيا .
روي أنه - عليه السلام - قال : « عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكة ذَهَباً ، فقلتُ : لا يَا رَبِّ ، وَلكِنْ أَشْبَعُ يَوْماً وأَجُوعُ يَوْماً - أَوْ قال ثَلاثاً ، أَوْ نَحْوَ هَذَا - فإِذا جعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَدَعَوْتُكَ ، وإذا شَبِعْت حَمِدْتُك وشَكَرْتُكَ » وروت عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لو شئتُ لسارت معي جبالُ الذهب جاءني ملكٌ فقال : إنَّ ربك يقرأ عليك السلام ويقول إِنْ شِئْتَ كنت نبياً عبداً ، وإن شئْتَ نبياً مَلكاً ، فنظرت إلى جبريل - عليه السلام - فأشار إليَّ أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ ، فقلت : نبياً عبداً قالت : وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك لا يأكل متكئاً ، ويقول : آكل كما يَأْكُلُ العبدُ وأجلس كما يجلس العبد وعن ابن عباس قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وجبريل - عليه السلام - معه فقال جبريل : » هذا مَلَكٌ قَدْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ استأْذَنَ رَبَّهُ فِي زِيَارَتك « فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاءَ المَلَكُ وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : » إِنَّ اللَّهَ يُخيركَ أَنْ يُعْطِيكَ مفاتيحَ كلِّ شيءٍ لَمْ يُعْطَ أحد قبلك ولا يعطيه أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما أداك شيئاً « فقال عليه السلام : بل يجمعهما لي جميعاً في الآخرة » فنزل { تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ } الآية . قوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة } أي : بالقيامة ، فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً فلا يتكلفون النظر والفكر ولهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل . { وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً } . قال أبو مسلم : « أَعْتَدْنَا » أي : جعلناها عتيداً ومعدة لهم ، والسعير : النار الشديدة الاستعار ، وعن الحسن : أنه اسم جهنم .

فصل
احتج أهل السنة على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] وعلى أن النار التي هي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية .
قال الجبائي : يحتمل في قوله : « وَاَعْتَدْنَا » أن المراد منه نار الدنيا ، وبها نعذب الكفار والفساق في قبورهم ، ويحتمل نار الآخرة ، ويكون المعنى : « وأَعْتَدْنَا » أي : سنعدّها ، كقوله تعالى : { ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار } [ الأعراف : 44 ] . وهذا جواب ساقط ، لأن المراد من السعير إما نار الدنيا ، أو نار الآخرة ، فإن كان الأول فإما أن يكون المراد أنه تعالى يعذبهم في الدنيا بنار الدنيا ، والثاني - أيضاً - باطل؛ لأنه لم يقل أحد من الأمة إنه تعالى يعذب الكفرة في الآخرة بنيران الدنيا . فثبت أن المراد نار الآخرة وأنها معدة .
وأما حمل الآية على أن الله تعالى سيجعلها معدة فترك للظاهر من غير دليل . قوله : « إِذَا رَأَتْهُمْ » هذه الجملة الشرطية في موضع نصب صفة ل « سَعِيراً » ، لأنه مؤنث بمعنى النار .
قوله : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } فإن قيل : التَّغَيُّظُ لا يُسمع . فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على حذف مضاف ، أي : صوت تغيظها .
والثاني : أنه على حذف تقديره : سمعوا ورأوا تغيظاً وزفيراً ، فيرجع كل واحد إلى ما يليق به ، أي : رأوا تغيظاً وسمعوا زفيراً .
والثالث : أن يضمن « سَمِعُوا » معنى يشمل الشيئين ، أي : أدركوا لها تغيظاً وزفيراً .
وهذان الوجهان الأخيران منقولان من قوله :
3865- وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ في الوَغَى ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحَا
ومن قوله :
3866- عَلَفْتُها تِبْناً وَمَاءً بَارداً ... أي : ومعتقلاً رمحاً ، وسقيتها ماء ، أو يُضَمَّن ( مُتَقَلِّداً ) معنى متسلحاً ، و ( علفتها ) معنى أطعمتها تبناً وماءً بارداً .
فصل
معنى { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } . قال الكلبي والسديّ من مسيرة عام . وقيل : من مسيرة مائة سنة . روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « مَنْ كَذَب علَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأ بَيْنَ عَيْنَي جهنمَ مَقْعَدا » قالوا : وهل لها من عينين؟ قال : نعم ألم تسمع قول الله - عزَّ وجلَّ - { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } « .
وقيل : إذا رأتهم زبانيتها . قال الجبائي : إن الله تعالى ذكر النار وأراد الخزنة الموكلين بتعذيب أهل النار ، لأن الرؤية تصح منهم ولا تصح من النار ، فهو كقوله » وَاسْأَلِ القَرْيَةَ « وأراد أهلها .
قوله : { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً } . » مَكَاناً « منصوب على الظرف ، و » منها « في محل نصب على الحال من » مكاناً « . لأنه في الأصل صفة له . و » مُقَرَّنينَ « حال من مفعول » أُلْقُوا « ، و » ثُبُوراً « مفعول به ، فيقولون : واثبوراه ، ويجوز أن يكون مصدراً من معنى » دعوا « ، وقيل : منصوب بفعل من لفظه مقدر تقديره ثبرنا ثبوراً .

وقرأ معاذ بن جبل « مُقَرَّنُونَ » بالواو ، ووجهها أن تكون بدلاً من مفعول « أُلْقُوا » وقرأ عمرو بن محمد « ثَبُوراً » بفتح الثاء ، والمصادر التي على ( فعول ) بالفتح قليلة جداً ، وينبغي أن يضم هذا إليها ، وهي مذكورة في البقرة عند قوله { وَقُودُهَا الناس } [ البقرة : 24 ] .
فصل
قال ابن عباس : يُضَيق جهنم عليهم كما يضيق الزج على الرمح ، وهو منقول أيضاً عن ابن عمر . وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : « إِنَّهُمْ يُسْتَكْرَهُونَ في النار كما يُسْتَكْرَه الوتد في الحائط » .
قال الكلبي : الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يخفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب . قال الزمخشري : الكرب مع الضيق كما أن الفرج مع السعة ، ولذلك وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض .
وقوله : « مُقَرَّنِينَ » ( أي : مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال . وقيل : مقرنين ) مع الشياطين في السلاسل ، كل كافر مع شيطان ، فعندما يشاهدون هذا العذاب دعوا بالويل والثبور .
قال ابن عباس : يقولون : ويلاً . وقال الضحاك : هلاكاً . فيقولون : واثبوراه فهذا حينك وزمانك ، فيقال لهم : { لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً } أي : هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة فادعوا أدعية كثيرة .
قال الكلبي : نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات .

قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)

قوله تعالى : { أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد } الآية . لما وصف العقاب المعد للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة فقال : « أَذَلِكَ خَيْرٌ » .
فإن قيل : كيف يقال : العذاب خير أم جنة الخلد؟ وهل يجوز أن يقول العاقل : السكر أحلى أم الصبر؟ فالجواب : هذا يحسن في معرض التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر فضربه ويقول له : أهذا خير أم ذلك؟
فصل
قال أبو مسلم : جنة الخلد : هي التي لا ينقطع نعيمها ، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور ، قال تعالى : { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } [ الإنسان : 9 ] . فإن قيل : الجنة اسم لدار مخلدة ، فأي فائدة في قوله : « جَنَّةُ الخُلْدِ » ؟ فالجواب : الإضافة قد تكون للتبيين ، وقد تكون لبيان صفات الكمال ، كقوله تعالى : « الخَالِقُ البَارِئ » وهذا من هذا الباب .
فصل
احتج المعتزلة بهذه الآية على إثبات الاستحقاق من وجهين :
الأول : اسم الجزاء لا يتناول إلا المستحق ، فأما الموعود بمحض التفضيل فلا يسمى جزاء .
والثاني : لو كان المراد بالجزاء ما صرتُم إليه بمجرد الوعد فلا يبقى بين قوله : « جَزَاءً » وبين قوله : « مَصِيراً » تفاوت ، فيصير ذلك تكريراً من غير فائدة .
والجواب : أنه لا نزاع في كونه جزاء إنما النزاع في أن كونه جزاء ثبت بالوعد أو بالاستحقاق ، وليس في الآية ما يدل على التعيين .
فإن قيل : إن الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيراً لكنها بعد ما صارت كذلك ، فلم قال الله { كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً } ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن ما وعده فهو في تحققه كأنه قد كان؛ ولأنه قد كان مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ( ومصيراً ) .
قوله : { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ } هو نظير قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ } [ فصلت : 31 ] ، { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس } [ الزخرف : 71 ] . فإن قيل : أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها ، فإذا سألوها ربهم ، فإن أعطاها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة ، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ } ، وأيضاً فالأب إذا كان ولده في دركات النيران وأشد العذاب فلو اشتهى أن يخلصه الله تعالى من ذلك العذاب ، ( فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه ) ، فإن فعل قدح ذلك في أن عذاب الكافر مخلد ، وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ } [ فصلت : 31 ] ، وفي قوله : ( { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ } ) .
والجواب أن الله تعالى يزيل هذا الخاطر عن قلوب أهل الجنة ويشتغلون بما هم فيه من اللذات عن الالتفات إلى حال غيرهم .
قوله : « خَالِدينَ » منصوب على الحال ، إما من فاعل « يَشَاءونَ » وإما من فاعل « لَهُمْ » ، لوقوعه خبراً ، والعائد على « ما » محذوف ، أي : لهم فيها الذي يشاءونه حال كونهم خالدين .

قوله : { كَانَ على رَبِّكَ } في اسم « كَانَ » وجهان :
أحدهما : أنه ضمير « ما يشاءون » ذكره أبو البقاء .
والثاني : أن يعود على الوعد المفهوم من قوله « وُعِدَ المُتَّقُونَ » . و « مَسْؤولاً » على المجاز ، يسأل هل وفى لك أم لا ، أو يسأله من وعد به .
فصل
قوله : { كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق كما تقدم . وقوله : « مَسْؤولاً » أي : مطلوباً ، قيل : إن المتقين سألوا ربهم في الدنيا فقالوا : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } [ آل عمران : 194 ] وقال محمد بن كعب القرظي : الملائكة سألوا ربهم للمؤمنين بقولهم : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ } [ غافر : 8 ] .
وقيل : إن المكلفين سألوه بلسان الحال؛ لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعة الله كان ذلك قائماً مقام السؤال ، قال المتنبي :
3867- وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وَفِيكَ فَطَانَةٌ ... سُكُوتِي كَلاَمٌ عَنْدَهَا وَخِطَابُ
وقيل : « وَعْداً مَسؤولاً » أي : واجباً وإن لم يسأل . قاله الفراء وقيل : « مَسْؤولاً » أي : من حقه أن يكون مسؤولاً ، لأنه حق واجب إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة ، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الآية قرأ ابن عامر « نَحْشَرُهُمْ . . . فَنَقُولُ » بالنون فيهما ، وابن كثير وحفص بالياء من تحت فيهما ، والباقون بالنون في الأوّل وبالياء في الثاني . وهُنّ واضحات .
وقرأ الأعرج « نَحْشِرهُمْ » بكسر الشين في جميع القرآن .
قال ابن عطية : هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس ، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعُل بضم العين . وقال أبو الفضل الرازي : وهو القياس في الأفعال الثلاثية المتعدية؛ لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فَعُل بضمها في الماضي . قال أبو حيان : وليس كما ذكرا بل فعل المُتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ، ولا حلقي عين ولا لام فإنه جاء على يفعِل ويفعُل كثيراً ، فإن شُهِرَ أحد الاستعمالين اتُّبع وإلا فالخيار حتى إن بعض أصحابنا خيَّر فيهما سُمِعَا للكلمة أم لم يُسْمَعَا .
قال شهاب الدين : الذي خيَّر في ذلك ابن عصفور ، فيجيز أن يقول : زيد يفعِل بكسر العين ، ويَضْرِب بكسر الراء مع سماع الضم في الأول والكسر في الثاني وسبقه إلى ذلك ابن درستويه ( إلا أن ) النحاة على خلافه .
قوله : « وَمَا يَعْبُدُونَ » عطف على مفعول « يَحْشُرُهُمْ » ، ويضعف نصبه على المعية ، وغلب غير العاقل عليه فأتي ب « ما » دون « من » .
فصل
ظاهر قوله : « وَمَا يَعْبُدُونَ » أنها الأصنام ، لأن ( ما ) لما لا يعقل . وظاهر قوله : { فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ } أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وعزير وغيرهم؛ لأن الإضلال وجد بهم فلهذا اختلفوا .
فقال مجاهد : أراد الملائكة والجن والمسيح وعزير . وقال عكرمة والضحاك والكلبي : يعني الأصنام . فقيل لهم : كيف يخاطب الله تعالى الجماد فأجابوا بوجهين :
أحدهما : أنه تعالى يخلق الحياة فيها ويخاطبها .
والثاني : أن يكون ذلك بالكلام النفساني لا بالقول اللساني بل بلسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات ، وكلام الأيدي والأرجل ، وكما قيل سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك؟ فإن لم يحصل جواباً أجابتك اعتباراً .
وقال الأكثرون : المراد الملائكة وعيسى وعزير - عليهم السلام - قالوا : ويتأكد هذا القول بقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] فإن قيل : لفظة « ما » لا تستعمل في العقلاء . فالجواب من وجهين :
الأول : لا نسلم أن كلمة « ما » لا تستعمل لمن لا يعقل؛ لأنهم قالوا : « مَنْ » لمن لا يعقل في قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] .
الثاني : أنه أريد به الوصف كأنه قيل : ومعبودهم .

وقال تعالى : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] ، { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] وهذا لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين .
فصل
قالت المعتزلة : ( وفيه كسر بيّن لقول من يقول إن ) الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقول : إلهنا ههنا قسم ثالث غيرهما هو الحق ، وهو أنّك أضللتهم فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا ضلالهم إلى أنفسهم ، علمنا أنه تعالى لا يضل أحداً من عباده ، فإن قيل : لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه ، وقالوا : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر } ، وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم ، وهو أنه تعالى متَّعهم وآباءهم بنعيم الدنيا . قلنا : لو كان الأمر كذلك لكان يلزم أن يصير الله محجوجاً في يد أولئك المعبودين ، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملوماً .
وأجاب أهل السنة بأن القدرة على الضلالة إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله ، وإن صلحت له لم يترجح اقتدارها للضلال على اقتدارها على الاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى ، وعند ذلك يزول السؤال .
وأما ظاهر الآية وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظوهر المطابقة لقولنا .
قوله : « هؤلاء » يجوز أن يكون نعتاً ل « عِبَادي » أو بدلاً أو بياناً .
قوله : « ضلّوا السَّبِيلَ » على حذف حرف الجر وهو « عن » كما صرح به في قوله { يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 117 ] ثم اتُّسع فيه فحُذِف نحو هَدَى ، فإنَّه يتعدَّى ب ( إلى ) وقد يُحْذَف اتساعاً . و « ضلَّ » مطاوع ( أَضَلَّ ) . فإن قيل : إِنَّهُ تعالى كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال؟
فالجواب : هذا سؤال تقريع للمشركين كما قيل لعيسى { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] . فإن قيل : فما فائدة « أَنْتُمْ » ، وهلاَّ قيل : أَأَضْلَلْتُمْ عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؟
فالجواب : هذا سؤال عن الفاعل فلا بدَّ من ذكره حتى يعلم أنه المسؤول عنه .
وقوله : « أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ . . . أَمْ هُمْ ضَلُّوا » ( إنما قدم الاسم على الفعل ) كما تقدم في قوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] .
قوله : « يَنْبَغِي » العامة على بنائه للفاعل ، وأبو عيسى الأسود القارئ « يُنْبَغَى » مبنيًّا للمفعول . قال ابن خالويه : زعم سيبويه أنَّ « يُنْبَغَى » لغة .
قوله : « أَنْ نَتَّخِذَ » فاعل « يَنْبَغِي » ، أو مفعول قائم مقام الفاعل في قراءة الأسود وقرأ العامة « نَتَّخِذَ » مبنيًّا للفاعل ، و « مِنْ أَوْلِيَاء » مفعوله وزيدت فيه ( مِنْ ) ويجوز أن يكون مفعولاً أوَّلَ على أن ( اتَّخَذَ ) متعدياً لاثنين .
ويجوز أن لا تكون المتعدية لاثنين بل لواحد ، فعلى هذا « مِنْ دُونِكَ » متعلق بالاتخاذ ، أو بمحذوف على أنه حال من « أَوْلِيَاء » .

وقرأ أبو الدرداء ، وزيد بن ثابت ، وأبو رجاء ، والحسن ، وأبو جعفر في آخرين : « نُتَّخَذَ » مبنيًّا للمفعول . وفيه أوجه :
أحدها : أنها المتعدية لاثنين ، فالأول : « هُمْ » ضمير الاثنين ، والثاني : قوله : « مِن أَوْلِيَاء » و « مِنْ » للتبعيض ، أي : ما كان ينبغي أن نتخذ بعض أولياء ، قاله الزمخشري .
الثاني : أنَّ « مِنْ أَوْلِيَاء » هو المفعول الثاني - ( أيضاً - إلاَّ أن « مِنْ » مزيدة في المفعول الثاني ) . وهذا مردود بأن « مِنْ » لا تزاد في المفعول الثاني إنما تزاد في الأول . قال ابن عطية : ويضعف هذه القراءة دخول « مِنْ » في قوله : « مِنْ أَوْلِيَاء » اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره . قال الزجاج : أخطأ من قرأ بفتح الخاء وضم النون ، لأنَّ « مِنْ » إنما تدخل في هذا الباب إذا كانت مفعولةً أولاً ولا تدخل على مفعول الحال ، تقول : ما اتخذت من أحدٍ ولياً ، ولا يجوز ما اتخذت أحداً من وليٍّ .
الثالث : أن يكون « مِنْ أَوْلِيَاء » في موضع الحال قاله ابن جني إلاَّ أنه قال : ودخلت « مِنْ » زيادة لمكان النفي المتقدم كقولك : ما اتخذت زيداً من وكيل . فظاهر هذا أنه جعل الجار والمجرور ( في موضع الحال ، وحينئذ يستحيل أن تكون « مِنْ » مزيدة ولكنه يريد أن هذا المجرور ) هو الحال نفسه و « مِنْ » مزيدة فيه إلاَّ أنه لا يحفظ زيادة « مِنْ » في الحال وإن كانت منفية وإنما حفظ زيادة الباء فيها على خلاف في ذلك . فإن قيل : هذه القراءة غير جائزة ، لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء . قلنا : المراد أنا لا نصلح لذلك ، فكيف ندعوهم إلى عبادتنا؟ وقرأ الحجاج : نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ [ أولياء ] فبلغ عاصماً فقال : مَقَّتَ المُخْدجُ ، أو ما علم أنَّ فيها « مِنْ » .
فصل
أجابوا بقولهم : « سُبْحَانَكَ » . وفيه وجوه :
أحدها : أنه تعجب منهم ، تعجبوا مما قيل لهم؛ لأنهم ملائكة ، والأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختصٌّ بإبليس وجنوده .
وثانيها : أنهم نطقوا ب « سُبْحَانَكَ » ليدلوا على أنهم المسبحون الموسومون بذلك ، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده .
وثالثها : قصدوا بالتسبيح تنزيهه عن الأنداد سواء كان المسبح وثناً أو نبياً أو ملكاً .
ورابعها : قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إبراء من كان بريئاً من الجرم ، بل إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم .
وقولهم : { مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } .
معناه : إذا كنا لا نرى أن يتخذ من دونك ولياً ، فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك ، أي ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك .

وقيل : ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين . وقيل : ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء ، أي : إنا علمنا أنك لا ترضى بهذا فما فعلنا ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : قالت الملائكة : ( إنَّا وهم عبيدك ، ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك ولياً ولا حبيباً فضلاً عن أن يتخذ عبداً آخر إلهاً . وقيل : قالت الأصنام ) : إنا لا يصلح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادعاؤنا من المعبودين .
قوله : « وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ » . لمَّا تضمَّن كلامهم أنَّا لم نضلهم ولم نحملهم على الضلال حسن هذا الاستدراك ، وهو أن ذكروا سببه ، أي : أنعمت عليهم وتفضلت فجعلوا ذلك ذريعةً إلى ضلالهم عكس القضية . والمعنى متعتهم وآباءهم في الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة . { حتى نَسُواْ الذكر } تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن . وقيل : تركوا ذكرك وغفلوا عنه .
قوله : { وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } أي : هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان . و « بُوراً » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه جمع بائر كعائذ وعوذ .
والثاني : أنه مصدر في الأصل كالزور ، فيستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ، وهو من البوار والهلاك .
وقيل من الفساد ، وهي لغة الأزد ، يقولون : بَارَتْ بِضَاعَتَهُ أي : فسدت ، وأمرنا بائر ، أي : فاسد ، وهذا معنى قولهم : كسدت البضاعة .
وقال الحسن : هو من قولهم : أرض بورٌ ، أي : لا نبات بها . وهذا يرجع إلى معنى الهلاك والفساد .
قوله تعالى : « فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ » هذا خطاب مع المشركين ، أي : كَذَّبَكُمُ المعبودون في قولكم إنهم آلهة وإنهم أضلوكم . وقيل : خطاب للمؤمنين في الدنيا ، أي : فقد كذبوكم أيها المؤمنون الكفار بما تقولون من التوحيد في الدُّنيا ، وهو معنى قوله « بِما تَقُولُونَ » . وهذه الجملة من كلام الله تعالى اتفاقاً ، فهي على إضمار القول والالتفات . قال الزمخشري : هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنةٌ رائعةٌ وخاصة إذا انضمَّ إليها الالتفات وحذف القول ، ونحوها قوله : { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ [ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ] } [ المائدة : 19 ] ، وقول القائل :
3868- قالوا خُراسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ القُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
انتهى .
يريد أنَّ الأصل في الآية الكريمة فقلنا فقد كذبوكم ، وفي البيت : فقلنا قد جئنا . وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت عنه بالياء من تحت ، أي : « فَقَدْ كَذَبَكُم الآلِهَةُ بِمَا يَقُولُونَ ( سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ » إلى آخره وقيل : المعنى : فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار بما يقولون ) من الافتراء عليكم .
قوله : « فَمَا يَسْتَطِيعُونَ » .

قرأ حفص بتاء الخطاب ، والمراد عبَّادها ، والمعنى فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم . وقيل : الصرف : التوبة ، وقيل : الحيلة . وقرأ الباقون باء الغيبة ، والمراد الآلهة التي كانوا يعبدونها من عاقل وغيره ، ولذلك غلب العاقل وأتى بواو الضمير ، والمعنى : فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب وأن يحتالوا لكم .
قوله : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ } . قرأ العامة « نُذِقْهُ » بنون العظمة ، وقرئ بالياء ، وفي الفاعل وجهان :
أظهرهما : أنه الله تعالى لدلالة قراءة العامة على ذلك .
والثاني : أنه ضمير الظلم المفهوم من الفعل ، وفيه تجوز بإسناد إذاقة العذاب إلى سببها وهو الظلم ، والمعنى : ومن يشرك منكم نذقه عذاباً كبيراً .
فصل
تمسك المعتزلة بهذه الآية ( في القطع بوعيد أهل الكبائر ، قالوا : ثبت أن كلمة « مَنْ » في معرض الشرط للعموم ، وثبت أن الكافر ظالم لقوله { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، والفاسق ظالم لقوله : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون } [ الحجرات : 11 ] فثبت بهذه الآية ) أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة .
والجواب : أنا لا نسلم أن كلمة « مَنْ » في معرض الشرط للعموم ، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه ، سلمنا أنه للعموم لكن قطعاً أم ظاهراً؟ ودعوى القطع ممنوعة ، فإنا نرى في العرف العام والاستعمال المشهور استعمال صيغ العموم مع إرادة الأكثر أو لأن المراد أقوام معينون ويدل عليه قوله تعالى { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] ثم إن كثيراً من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع أن يقال : قولنا « الَّذِينَ كَفَرُوا » كان يفيد العموم ، لكن المراد منه إمَّا الغالب أو المراد منه أقوام مخصصون .
وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة ، وذلك لا ينفي تجويز العفو .
سلمنا دلالته ، لكن أجمعنا على أن قوله : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } مشروط بأن لا يزيل ذلك الظلم بتوبة أو بطاعة هي أعظم من ذلك الظلم ، فيرجع حاصل الأمر إلى أن قوله : « يَظْلِمْ مِنْكُمْ » مشروط بأن لا يعاجل ما يزيله وعند هذا فنقول : هذا مسلم ، لكن لم قلتم : إنه لم يوجد ما يزيله؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور الثلاثة التي تزيله ، وذلك هو أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً } [ الكهف : 107 ] .
فإن قيل : آيات الوعيد أولى ، لأن السارق يُقْطع على سبيل التنكيل ، وإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب محبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال . قلنا : لا نسلم أنَّ السارق يقطع على سبيل التنكيل ، ألا ترى أنه لو تاب فإنه ( لا ) يقطع على سبيل التنكيل ( بل على سبيل المحنة ) .

نزلنا عن هذه المقامات ، ولكن قوله تعالى : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } خطاب مع قوم مخصوصين معينين ، فهب أنه لا يعفو عن غيرهم .
قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين } الآية هذا جواب عن قولهم : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] أي : هذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن .
قوله : { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ } حق الكلام أن يقال : إلاَّ أنَّهُمْ . بفتح الألف ، لأنه متوسط ، والمكسورة لا تليق إلاَّ بالابتداء ، فلهذا ذكروا في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في محل نصب صفة لمفعول محذوف ، فقدره الزجاج والزمخشري : « وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ أحَداً مِن المُرْسَلِين إلا آكِلِين وَمَاشِينَ » . وإنما حذف ، لأن في قوله : « مِنَ المُرْسَلِينَ » دليلاً عليه ، نظيره قوله تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] بمعنى : مَا مِنَّا أحدٌ . وقدره ابن عطية : رجالاً أو رسلاً . والضمير في « إنَّهم » وما بعده عائد على هذا الموصوف المحذوف .
والثاني : قال الفراء : إنها لا محل لها من الإعراب ، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول ( ل « أَرْسَلْنَا » ) ، تقديره : إلا من أنهم . فالضمير في « إنَّهُمْ » وما بعده عائد على معنى « مَنْ » المقدرة ، واكتفي بقوله : « مِنَ المُرْسَلِينَ » عنه كقوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً ) } [ مريم : 71 ] ، أي : إلاَّ من يردها .
فعلى قول الزجاج الموصوف محذوف ، وعلى قول الفراء الموصول هو المحذوف ، ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين إلاَّ في مواضع ، تقدَّم التنبيه عليها في البقرة .
الثالث : أن الجملة محلها النصب على الحال ، وإليه ذهاب ابن الأنباري قال : التقدير : إلاَّ وإنهم ، يعني أنها حالية ، فقدَّر معها الواو بياناً للحالية ، فكسر بعد استئناف . وردَّ بكون ما بعد « إلاَّ » صفة لما قبلها ، وقدره أبو البقاء أيضاً . والعامة على كسر « إنَّ » ، لوجود اللام في خبرها ، ولكون الجملة حالاً على الراجح . قال أبو البقاء : وقيل : لَوْ لَمْ تكن اللام لكسرت أيضاً لأن الجملة حالية ، إذ المعنى : إلاَّ وَهُمْ . وقيل : المعنى : إلا قيل أنهم .
وقرئ « أنَّهُمْ » بالفتح على زيادة اللام وأن مصدرية ، والتقدير : إلاَّ لأنَّهُمْ أي : ما جعلنا رسلاً إلى الناس إلا لكونهم مثلهم .
وقرأ العامة « يَمْشُونَ » خفيفة ، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وعبد الله « يُمَشُّونَ » مشدداً مبنيًّا للمفعول ، أي : تُمَشِّيهِمْ حَوَائِجُهُمْ أو الناس .
وقرأ عبد الرحمن : « يَمشُّونَ » بالتشديد مبنيًّا للفاعل ، وهي بمعنى « يَمْشُونَ » قال الشاعر :
3869- وَمَشَّى بِأَعْطَانِ المِيَاهِ وابْتَغَى ... قَلاَئِصَ مِنْهَا صَعْبَةٌ وَرَكُوبُ
قال الزمخشري : ولو قرئ « يَمَشُّونَ » لكان أوجه لولا الرواية . يعني بالتشديد .

قال شهاب الدين : قد قرأ بها السُّلَمِيّ ولله الحمد .
فصل
روى الضحاك عن ابن عباس قال : لمَّا عيَّر المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] أنزل الله هذه الآية . يعني : ما أنا إلا رسول ، وما كنت بدعاً من الرسل ، وهم كانوا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، كما قال في موضع آخر : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] . { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } أي : بلية ، فالغني فتنة للفقير ، ( ويقول الفقير ) : ما لي لم أكن مثله؟ والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة للوضيع . قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم وتتبعون الهدى .
وقال الكلبي والزجاج والفراء : نزلت في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة فإذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أَنِفَ أن يسلم ، وأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه ، ويدل عليه قوله تعالى : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] وقيل : هذا عام في جميع الناس ، روى أبو الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « ويل للعالم من الجاهل ، وويل للسلطان من الرعية ، ( وويل للرعية من السلطان ) ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للشديد من الضعيف ، وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة » وقرأ هذه الآية .
وروي عن ابن عباس والحسن هذا في أصحاب البلاء والعافية ( هذا يقول لِمَ لَمْ أجعل مثله ) في الخلق ، والخلق ، وفي العقل ، وفي العلم ، وفي الرزق ، وفي الأجل .
وقيل : هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته لهم في البشريّة وصفاتها ، فالمرسلون يتأذون من المرسل إليهم بأنواع الأذى على ما قال : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } [ آل عمران : 186 ] ، والمرسل إليهم يتأذون أيضاً ( من الرسل ) بحسب الحسد ، وصيرورته مكلفاً بالخدمة وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيساً مخدوماً .
والأولى حمل الآية على الكل ، لأن بين الجميع قدراً مشتركاً .
قال عليه السلام : « إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ والجَسدِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ دُونَهُ في المالِ والجَسَدِ » .
قوله : { أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } . « أَتَصْبِرُونَ » المعادل محذوف ، أي : أم لا تصبرون وهذه الجملة استفهام ، والمراد منه : التقرير بأن موقعه بعد الفتنة موقع أيّكم بعد الابتلاء في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] بمعنى : أنها معلِّقة لما فيها من معنى فعل القلب ، فتكون منصوبة المحل على إسقاط الخافض والمعنى : « أَتَصْبِرُونَ » على البلاء ، فقد علمتم ما وعد الصابرون ، { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أي : عالم بمن يصبر ، وبمن لا يصبر فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب .

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)

قوله تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } الآية . هذه هي الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحاصلها : لم ( لم ) تنزَّل الملائكة حتى يشهدوا أن محمداً محق في دعواه ، { أَوْ نرى رَبَّنَا } حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا؟
فصل
قال الفراء : قوله تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } أي : لا يخافون لقاءنا ، فوضع الرجال موضع الخوف لغة تهاميّة إذا كان معه جحدٌ ، ومنه قوله تعالى : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] أي : لا تخافون لله عظمةً
قال القاضي : لا وجه لذلك ، لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز ، والمعلوم من حال عبّاد الأصنام أنهم كانوا لا يخافون العقاب ، لتكذيبهم ( بالمعاد ) ، فكذلك لا يرجون الثواب لمثل ذلك ، فقوله : { لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } محمول على الحقيقة ، وهو أنهم لا يرجون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب والجنة ، ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضاً ، فالخوف تابع ( للرجاء ) .
فصل
دلَّ ظاهر الآية على جواز الرؤية ، لأن اللقاء جنس تحته أنواع ، أحد أنواعه الرؤية ، والآخر الاتصال والمماسّة . وهما باطلان ، فدلَّ على جواز الرؤية ، لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمي الرؤية لقاء . وقالت المعتزلة : تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة ، لأنه يقال في الدعاء : لقاك الله الخير . ويقول القائل : لم أَلْقَ الأمير . وإن رآه من بعد إذا حجب عنه ، ويقال في الضرير : لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب ، وقد يلقاه في الليلة الظلماء ولا يراه ، بل المراد من اللقاء هنا المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم { لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } [ الانفطار : 19 ] لا أنه رؤية البصر . قال ابن الخطيب وهذا كلام ضعيف ، لأنَّ اللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة ينطلق على كل واحد من تلك المعاني ، فيصح قوله : لقاك الخير ، ويصح قول الأعمى : لقيت الأمير ، ويصح قول البصير : لقيته ( بمعنى رأيته ، وما لقيته ) بمعنى ما وصلت إليه ، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } مذكور في معرض الذم لهم ، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلاً ، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني وبين الوصول بالرؤية ، وقد بطل الأول فتعيّن الثاني .
وقولهم : المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه . صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل ، فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل على وجوبها ، بل على أنّ إنكار الرؤية ليس إلا من دين ( الكفار ) .
قوله : « لَوْلاَ أُنْزِلَ » : هلاّ أنزل « عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ » فيخبرونا أن محمداً صادق { أَوْ نرى رَبَّنَا } فيخبرنا بذلك { لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ } ( أي : تعظموا في أنفسهم ) بهذه المقالة .

قال الكلبي ومقاتل : نزلت الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما المنكرين للنبوة والبعث .
قوله : « عُتُواً » مصدر وقد صحَّ هنا وهو الأكثر وأُعِلَّ في مريم في « عِتِيًّا » ، لمناسبة ذكرت هناك ، وهي تواخي رؤوس الفواصل .
فصل
قال مجاهد : « عُتُوًّا » طغواً . وقال مقاتل : « عتوًّا » غلوًّا في القول .
والعتو : أشد الكفر وأفحش الظلم ، وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به .
وقوله : « فِي أَنْفُسِهِمْ » ، لأنهم أضمروا الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه ، كما قال : { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ( بِبَالِغِيهِ ) } [ غافر : 56 ] . وعتوا : تجاوزوا الحد في الظلم .
فصل
وهذا جواب عن شبهتهم وبيانه من وجوه :
أحدها : أن القرآن لما ظهر كونه معجزاً فقد تمت نبوة محمد - عليه السلام - فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض التعنت والاستكبار .
وثانيها : أنَّ نزول الملائكة لو حصل لكان أيضاً من جملة المعجزات ، فل يدل على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزاً فيكون قبول ذلك المعجز وردّ المعجز الآخر ترجيحاً لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجِّح ، وهو محض الاستكبار والتعنت .
وثالثها : أنهم بتقدير أن يروا الرب ، ويسألوه عن صدق محمد - عليه السلام - وهو سبحانه يقول : نعم هو رسولي ، فذلك لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد - عليه السلام - لأنَّا بيَّنَّا أن المعجزة تقوم مقام التصديق بالقول ، إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول : اللهم إن كنت صادقاً فأحْيِ هذا الميت ، فيحييه الله تعالى ، ( والعادة لم تجر بمثله ) ، وبين أن يقول له : صدقت . وإذا كان التصديق بالقول والتصديق الحاصل بالمعجز ( سيّين ) في كونه تصديقاً للمدعى ، كان تعيين أحدهما محض استكبار وتعنت .
ورابعها : يمكن أن يكون المراد أنَّ الله تعالى قال : لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم ، ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت ، فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به ، فلا جرم لا أعطيهم ذلك .
وخامسها : لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن الله لا يُرَى ، وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق ، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل الاستهزاء .
فصل
استدل المعتزلة بهذه الآية على عدم الرؤية ، لأنّ رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتواً . قالوا : فقوله : { لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } ليس إلا لأجل سؤال الرؤية ، واستعظم في آية أخرى قولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } [ البقرة : 55 ] . فثبت أن الاستكبار والعتو هاهنا إنما حصل لأجل سؤال الرؤية ، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة . ونقول هاهنا : إنّا بينا أن قوله : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } يدل على الرؤية ، وأمّا الاستكبار والعتو فلا يدل ذلك على أن الرؤية مستحيلة ، لأنَّ من طلب شيئاً محالاً لا يقال : إنه عَتَا واستكبر ، ألا ترى قولهم :

{ اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] لم يثبت لهم بطلب هذا المحال عتوًّا واستكباراً بل قال : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ الأعراف : 138 ] .
ومما يدل على ذلك أن موسى - عليه السلام - لما قال : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] ما وصفه الله بالاستكبار والعتوّ ، لأنه - عليه السلام - طلب الرؤية شوقاً ، وهؤلاء لمَّا طلبوها امتحاناً وتعنتاً لا جرم وصفهم بذلك .
قوله : « يَوْمَ يَرَونَ » فيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب بإضمار فعل يدل عليه قوله : « لاَ بُشْرَى » أي : يُمْنَعُونَ البُشْرَى يَوْمَ يَرَونَ .
الثاني : أنه منصوب ب ( اذكر ) ، فيكون مفعولاً به .
الثالث : أنَّه منصوب ب ( يعذبون مقدراً .
ولا يجوز أن يعمل فيه نفس « البُشْرَى » لوجهين :
أحدهما : أنها مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله .
والثاني : أنَّها منفية ب ( لا ) ، ( وما بعد ( لا ) ) لا يعمل فيما قبلها .
قوله : « لاَ بُشْرَى » هذه الجملة معمولة لقول مضمر ، أي : يَرَون الملائكة يقولون لا بُشْرَى ، فالقول حال من « المَلاَئِكَة » ، وهو نظير التقدير في قوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ } [ الرعد : 23 ] إلى قوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 24 ] .
قال أبو حيان : واحتمل « بُشْرَى » أن يكون مبنيًّا مع « لاَ » ، واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإنه كان مبنيًّا مع « لا » احتمل أن يكون « يَوْمَئِذٍ » خبراً و « لِلْمُجْرِمِينَ » خبراً بعد خبر ، أو نعتاً ل « بُشْرَى » ، أو متعلقاً بما تعلَّق به الخبر ، وأن يكون « يَوْمَئِذٍ » صفة ل « بُشْرَى » والخبر « لِلْمُجْرِمِينَ » ، ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس « لاَ » أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع « لاَ » وما بني معها .
وإن كان في نية التنوين وهو معرب ، ( جاز أن يكون « يَوْمَئِذٍ » ، و « لِلْمُجْرِمِينَ » خبرين ، و ) جاز أن يكون « يَوْمَئِذٍ » خبراً و « لِلْمُجْرِمِينَ » صفة ، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنياً لنفس « لاَ » بإجماع . قال شهاب الدين : قوله : واحتمل أن يكون في نية التنوين إلى آخره لا يتأتَّى إلاَّ على قول أبي إسحاق ، وهو أنه يرى أنَّ اسم ( لاَ ) النافية للجنس معربٌ ، ويعتذر عن حذف التنوين بكثرة الاستعمال ويستدل عليه بالرجوع إليه في الضرورة ، وينشد :
3870- أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً ... ويتأوله البصريون على إضمار : ألا ترونني رجلاً ، وكان يمكن الشيخ أن يجعله معرباً كما ادّعى بطريق أخرى ، وهو : أن يجعل « بُشْرَى » عاملة في « يَوْمَئِذٍ » أو في « لِلْمُجْرِمِينَ » ، فيصير من قُبَيْل المطوَّل ، والمطوَّل معربٌ ، لكنه لم يلم بذلك ، وسيأتي شيء من هذا في كلام أبي البقاء رحمه الله .

ويجوز أن يكون « بُشْرَى » معرباً منصوباً بطريق أخرى ، وهي أن تكون منصوبة بفعل مقدَّر ، أي : لا يُبَشَّرُونَ بُشْرَى ، كقوله تعالى : { لاَ مَرْحَباً ( بِهِمْ ) } [ ص : 59 ] ، ( و ) لا أهلاً ولا سهلاً ، إلاَّ أن كلام الشيخ لا يمكن تنزيله على هذا لقوله : جاز أن يكون « يَوْمَئِذٍ » و « لِلْمُجْرِمِينَ » خبرين ، فقد حكم أن لها خبراً ، وإذا جُعِلَت منصوبة بفعل مقدر لا يكون [ ل ( لا ) ] حينئذ خبر ، لأنها داخلة على ذلك الفعل المقدر ، وهذا موضع حسنٌ .
قوله : « يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ » قد تقدَّم في « يَوْمَئِذٍ » أوجه : وجوَّز أبو البقاء أن يكون منصوباً ب « بُشْرَى » ، قال : إذا قدَّرت أنها منونة غير مبنيَّة مع ( لا ) ، ويكون الخبر « لِلْمُجْرِمِينَ » . وجوَّز - أيضاً - هو والزمخشري أن يكون « يَوْمَئِذٍ » تكريراً ل « يَوْم ) يَرَوْنَ » وردَّه أبو حيان سواء أريد بالتكرير التوكيد اللفظيّ أم أريد به البدل قال : لأنَّ « يَوْمَ » منصوب بما تقدم ذكره من ( اذكر ) ( أو من ) ( يَعْدَمُونَ ) البشرى ، وما بعد ( لاَ ) العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها ، وعلى تقدير ما ذكراه يكون العامل فيه ما قبل ( لاَ ) . وما ردَّه ليس بظاهر ، لأنَّ الجملة المنفية معمولةٌ للقول المضمر الواقع حالاً من « المَلاَئِكَةِ » ، و « الملائكة » معمولةٌ ل « يَرَوْنَ » ، و « يَرَوْنَ » معمول ل « يَوْمَ » خُصِّصَا بالإضافة ، ف ( لا ) وما في حيزها من تتمة الظرف الأول من حيث إنها معمولة لبعض ما في حيزه ، فليست بأجنبية ولا مانعةٍ من أن يعمل ما قبلها فيما بعدها .
والعجب له كيف تخيل هذا وغفل عما تقدم فإنه واضح مع التأمل . و « لِلْمُجْرِمِينَ » من وضع الظاهر موضع المضمر شهادةً عليهم بذلك . والضمير في « يقُولُونَ » يجوز عوده للكفار ( أو للملائكة ) . و « حِجْراً » من المصادر الملتزم إضمار ناصبها ، ولا يتصرَّف فيه نحو معاذ الله ، وقعدك ، وعمرك ، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوٍّ وهجوم نازلة ، ونحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة ، قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل : أتفعل كذا فيقول : حِجْراً وهي من حجره : إذا منعه ، لأنَّ المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه ولا يلحقه ، وكان المعنى : أسأل الله أن يمنعه منعاً ويحجره حجراً . والعامة على كسر الحاء ، والضحاك ، والحسن ، وأبو رجاء على ضمِّها وهو لغة فيه .
قال الزمخشري : ومجئيه على فِعْل أو فُعْل في قراءة الحسن تصرُّفٌ فيه لاختصاصه بموضع واحد كما كان قعدك وعمرك كذلك وأنشد لبعض الرجاز :

3871- قَالَتْ وَفِيهَا حَيْدَةٌ وذُعْرُ ... عَوْذٌ بِرَبِّي مِنْكُم وَحُجْرُ ... وهذا الذي أنشده الزمخشري يقتضي تصرُّف « حِجْراً » . وقد تقدم نص سيبويه على أنه يلتزم النصب . وحكى أبو البقاء فيه لغةً ثالثةً وهي الفتح ، قال : وقد قرئ بها . فعلى هذا كمل فيه ثلاثة لغاتٍ مقروء بهنَّ .
و « مَحْجُوراً » صفة مؤكدة للمعنى كقولهم : ذيل ذائل ، والذيل : الهوان ، ومَوْتٌ مَائِتٌ ، والحِجْرُ : العقل ، لأنه يمنع صاحبه .
فصل
قوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة } عند الموت . قاله ابن عباس ، وقال الباقون : يريد يوم القيامة { لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ } للكافرين . قالت المعتزلة : الآية تدلّ على القطع بوعيد الفساق وعدم العفو ، قوله : « لاَ بُشْرَى . . . لِلْمُجْرِمِينَ » نكرة في سياق النفي فتعمّ جميع أنواع البشر في جميع الأوقات ، بدليل أن من أراد تكذيب هذه القضية قال : بل له بُشْرَى في الوقت الفلاني ، فلما كان ثبوت البشرى في وقت من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية ، علمنا أن قوله : « لاَ بُشْرَى » يقتضي نفي جميع البشرى في كل الأوقات ، وشفاعة الرسول لهم من أعظم البشرى فوجب أن لا يثبت ذلك لأحد من المجرمين ، والكلام على التمسك بصيغ العموم ، وقد تقدم مراراً .
فصل
اختلفوا في القائلين « حِجْراً مَحْجُوراً » : فقال ابن جريج : كانت العرب إذا نزلت بهم شدة ، ورأوا ما يكرهون ، قالوا : « حِجْراً مَحْجُوراً » ، فهم يقولونه إذا عاينوا الملائكة .
قال مجاهد : يعني : عوذاً مَعَاذاً ، فيستعيذون به من الملائكة .
وقال ابن عباس : تقول الملائكة : حراماً محرماً أن يدخل الجنة إلا من قال : لا إله إلا الله . قال مقاتل : إذا خرج الكفار من قبورهم قالت لهم الملائكة « حِجْراً مَحْجُوراً » أي : حرام محرم عليكم أن تكون لكم البشرى .
قوله : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ } أي : وعمدنا إلى عملهم .
قوله : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } . الهَبَاءُ والهَبْوَةُ : التراب الدقيق . قاله ابن عرفة .
قال الجوهري : يقال فيه : هَبَا يَهْبُو : إذا ارتفع ، وأَهْبَبْتُهُ أَنَا إِهْبَاءً .
وقال الخليل والزجاج : هو مثل الغبار الداخل في الكوَّة يتراءى مع ضوء الشمس فلا يمس بالأيدي ولا يرى في الظل . وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد .
وقيل : الهَبَاءُ ما تطاير من شرر النَّار إذا أُضْرِمَتْ ، والواحدة هباءة على حد تَمْر وتَمْرَة . و « مَنْثُوراً » أي : مفرَّقاً ، نثرت الشيء فرَّقته . والنَّثْرَةُ لنجوم متفرقة . والنَّثْرُ : الكلام غير المنظوم على المقابلة بالشعر .
قال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير : هو ما تسفيه الرياح ، وتذريه من التراب ، ( وحطام الشجر ) .
وقال مقاتل : هو ما يسطع من حوافر الدواب عند السير .
وفائدة الوصف به أنَّ الهَبَاءَ تراه منتظماً مع الضوء ، فإذا حرّكته تفرَّق ، فجيء بهذه الصفة لتفيد ذلك .

وقال الزمخشري : أو مفعول ثالث ل « جَعَلْنَاهُ » أي : فَجَعَلْنَاهُ جامعاً لحقارة الهَبَاء والتناثر ، كقوله : « كُونُوا » { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ الأعراف : 66 ] أي : جامعين للمسخ والخسأ .
قال أبو حيان : وخالف ابن درستويه ، فخالف النحويين في منعه أن يكون ل ( كان ) خبران وأزيد ، وقياس قوله في ( جعل ) أن يمنع أن يكون لها خبر ثالث .
قال شهاب الدين : مقصوده أن كلام الزمخشري مردودٌ قياساً على ما منعه ابن درستويه من تعديد خبر ( كَانَ ) .
قوله : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } أي : من هؤلاء المشركين المستكبرين . « وَأَحْسَن مَقِيلاً » موضع قائلة . وفي ( أَفْعَل ) هاهنا قولان :
أحدهما : أنها على بابها من التفضيل ، والمعنى : أن المؤمنين خير في الآخرة مُسْتَقَراً من مُسْتَقَرِّ الكفار « وَأَحْسَنُ مَقِيلاً » من مقيلهم ، لو فرض أن يكون لهم .
والثاني : أن يكون لمجرَّد الوصف من غير مفاضلةٍ .
فصل
قال المفسرون : يعني أن أهل الجنة لا يمرّ بهم يوم إلا قدر النهار من أوله إلى قدر القائلة حتى يسكنوا مساكنهم من الجنة .
قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، وقرأ : « ثُمَّ إن مَقِيلَهُمْ لإلى الجَحِيمِ » وهكذا كان يقرأ .
وقال ابن عباس في هذه الآية : الحساب ذلك اليوم في أوله . وقال قوم : حين قالوا في منازلهم .
قال الأزهري : القيلولة والمقيل : الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن مع ذلك نوم ، لأن الله قال : « وَأَحْسَنُ مَقِيلاً » والجنة لا نوم فيها .
وروي « أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس » .

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)

قوله : « وَيَوْمَ تَشَقَّقُ » العامل في « يَوْمَ » إمّا ( اذكر ) ، وإمّا ينفرد الله بالمُلْكِ يَوْمَ تشقق ، لدلالة قوله : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن } عليه . وقرأ الكوفيون وأبو عمرو [ هنا وفي ( ق ) « تَشَقَّقُ » بالتخفيف ، والباقون بالتشديد ، وهما واضحتان ، حذف الأولون ] تاء المضارعة أو تاء التفعل على خلاف في ذلك ، والباقون أدغموا تاء التفعل في الشين لما بينهما من المقاربة ، وهما ك « تَظَاهَرُونَ » و « تَظَّاهَرُونَ » حذفاً وإدغاماً ، وقد مضى في البقرة . قوله : « بِالغَمَامِ » في هذه الباء ثلاثة أوجه :
أحدها : على السببية ، أي : بسبب الغمام ، يعني بسبب طلوعها منها ، ونحوه السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] كأنه الذي يتشقق به السماء .
الثاني : أنها للحال ، أي : مُلتَبِسَةً بالغمام .
الثالث : أنها بمعنى ( عَنْ ) ، أي : عن الغَمَام كقوله : { ( يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ ) } [ ق : 44 ] ، [ والباء وعن يتعاقبان ، تقول : رميت عن القوس وبالقوس ] .
قوله : « وَنُزِّلَ المَلاَئِكَةُ » فيها اثنتا عشرة قراءة ثنتان في المتواتر ، وعشر في الشاذ . فقرأ ابن كثير من السبعة « وَنُنْزِلُ » بنون مضمومة ثم أخرى ساكنة وزاي خفيفة مكسورة مضارع ( أَنْزَلَ ) ، و « المَلاَئِكَةَ » بالنصب مفعول به ، وكان من حق المصدر أن يجيء بعد هذه القراءة على ( إِنْزَال ) . قال أبو علي : لما كان ( أَنْزَلَ ) و ( نَزَّلَ ) يجريان مجرى واحداً أجزأ مصدر أحدهما عن مصدر الآخر ، وأنشد :
3872- وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الحِضْبِ ... لأنَّ تَطَوَّيْتُ وانْطَويْتُ بمعنى ، ومثله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] [ أي : تَبَتُّلاً ] وقرأ الباقون من السبعة « وَنُزِّلَ » بضم النون وكسر الزاي المشددة وفتح اللام ماضياً مبنيًّا للمفعول ، « المَلاَئِكَةُ » بالرفع لقيامه مقام الفاعل ، وهي موافقةٌ لمصدرها .
وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء « وَنَزَّلَ » بالتشديد ماضياً مبنيًّا للفاعل ، وهو الله تعالى ، « المَلاَئِكَةَ » مفعول به . وعنه - أيضاً - « وَأَنْزَلَ » مبنيًّا للفاعل عداه بالتضعيف مرة ، وبالهمزة أخرى ، والاعتذار عن مجيء مصدره على التفعيل كالاعتذار عن ابن كثير . وعنه - أيضاً - « وَأُنْزِلَ » مبنيًّا للمفعول .
وقرأ هارون عن أبي عمرو « وَتُنَزِّلُ المَلاَئِكَةُ » بالتاء من فوق وتشديد الزاي ورفع اللام مضارعاً مبنيًّا للفاعل ، « المَلاَئِكَةُ » بالرفعِ مضارع « نَزَّلَ » بالتشديد ، وعلى هذه القراءة ، فالمفعول محذوف ، أي : وتُنَزِّلُ المَلاَئِكَةُ ما أُمِرَتْ أن تُنَزِّله .
وقرأ الخفَّاف عنه ، وجناح بن حبيش « وَنَزَلَ » مخففاً مبنيًّا للفاعل ، « المَلاَئِكَةُ » بالرفع . وخارحة عن أبي عمرو - أيضاً - وأبو معاذ « ونُزِّلَ » بضم النون وتشديد الزاي ، ونصب « المَلاَئِكَةَ » ، والأصل : ونُنْزِلُ بنونين حذفت ( إحداهما ) وقرأ أبو عمرو وابن كثير في رواية عنهما بهذا الأصل « ونُنَزِّلَ » بنونين وتشديد الزاي .

وقرأ أُبيّ « وَنُزِّلَتْ » بالتشديد مبنيًّا للمفعول ، « وَتُنُزِّلَتْ » بزيادة تاء في أوله ، وتاء التأنيث ( فيهما ) .
وقرأ أبو عمرو في طريقة الخفاف عنه « وَنُزِلَ » بضم النون وكسر الزاي خفيفة مبنيًّا للمفعول . قال صاحب اللوامح : فإن صحت هذه القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، تقديره : ونُزِلَ نُزُول الملائكة ، فحذف النزول ونقل إعرابه إلى « المَلاَئِكَة » بمعنى : نَزَلَ نَازِلُ الملائكة ، لأنَّ المصدر يجيء بمعنى الاسم ، وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه ترتيب بناء اللازم للمفعول به ، لأنَّ الفعل يدل على مصدره . قال شهاب الدين : وهذا تمحُّلٌ كثير دعت إليه ضرورة الصناعة . وقال ابن جني : وهذا غير معروف ، لأنَّ ( نَزَلَ ) لا يتعدى إلى مفعول فيبنى هنا للملائكة ، ووجهه أن يكون مثل زكم الرَّجُلُ وجنَّ ، فإنه لا يقال إلا أزكمه ، وأجنّه الله ، وهذا باب سماع لا قياس . ونظير هذه القراءة ما تقدم في سورة الكهف في قراءة من قرأ { فَلاَ يَقُومُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً } بنصب الوزن من حيث تعدية القاصر ، وتقدم ما فيها .
فصل
الغَمَامُ : هو الأبيض الرقيق مثل الضباب ، ولم يكن إلاَّ لبني إسرائيل في تيههم . والألف واللام في « الغمام » ليس للعموم بل للمعهود ، وهو ما ذكره في قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام } [ البقرة : 210 ] قال ابن عباس : تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها ، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس ، [ ثم تشقق السماء ثانية ، فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجن والإنس ] ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها ، ثم ينزل الكَرُوبِيُّون ، ثم حملة العرش .
فإن قيل : ثبت بالقياس أن نسبة الأرض إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة ، فكيف بالقياس إلى الكرسي والعرش ، فملائكة هذه المواضع ( بأسرها ، فكيف تتسع الأرض لكل هؤلاء ) ؟
فالجواب : قال بعض المفسرين : الملائكة يكونون في الغمام ، والغمام يكون ) مقرّ الملائكة .
قوله : « المُلْكُ يَوْمَئذٍ » فيها أوجه :
أحدها : أن يكون « المُلْكُ » مبتدأ والخبر « الحَقُّ » و « يَوْمَئِذٍ » متعلق ب « الملك » ، و « للرَّحْمَنِ » متعلق ب « الحَقّ » ، أو بمحذوف على التبيين ، أو بمحذوف على أنه صفة للحق .
الثاني : أنَّ الخبر « يَوْمَئِذٍ » ، و « الحَقُّ » نعت للملك ، [ و « للرحمن » على ما تقدم ] .
[ الثالث : أنَّ الخبر « للرَّحْمَن » و « يَوْمَئِذٍ » متعلق ب « الملك » ، و « الحَقُّ » نعت للملك ] .
قيل : ويجوز نصب الحق بإضمار ( أَعْنِي ) .

فصل
المعنى : أَنَّ الملك الذي هو الملك حقاً ملك الرحمن يوم القيامة .
قال ابن عباس : يريد أَنَّ يوم القيامة لا ملك يقضي غيره . ومعنى وصفه بكونه حقاً : أنه لا يزول ولا يتغير . فإن قيل : مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن ، فما الفائدة في قوله : « يَوْمَئِذٍ » ؟ . فالجواب لأَنّ في ذلك اليوم لا مالك له سواه لا في الصورة ، ولا في المعنى ، فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه ، وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام . { وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً } أي : شديداً ، وهذا الخطاب يدلُّ على أنه لا يكون على المؤمنين عسيراً؛ جاء في الحديث « أنه يهوّن يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أَخَفَّ عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا » قوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم } يَوْمَ معمول لمحذوف ، أو معطوف على « يَوْمَ تَشَقَّقُ » . و « يَعضُّ » مضارع عَضَّ ، ووزنه فَعِل بكسر العين بدليل قولهم : عَضِضْتُ أَعَضُّ . وحكى الكسائي فتحها في الماضي ، فعلى هذا يقال : أَعِضُّ بالكسر في المضارع . والعَضُّ هنا كناية عن شدة الندم ، ومثله : حَرَقَ نَابَهُ ، قال :
3873- أَبى الضَّيْم والنُّعْمَان يَحْرِقُ نَابَهُ ... عَلَيْهِ فَأَفْضَى والسّيُوفُ مَعَاقِلُه
وهذه الكناية أبلغ من تصريح المكني عنه .
فصل
( أل ) في « الظَّالم » تحتمل العهد والجنس على خلاف في ذلك . فالقائلون بالعهد اختلفوا على قولين :
الأول : قال ابن عباس : « أراد بالظالم : عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس ، كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً ، ودعا إليه جيرته وأشراف قومه ، وكان يكثر مجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعجبه حديثه ، فقدم ذات يوم من سفر ، فصنع طعاماً ، ودعا الناس ، ودعا الرسول ، فلما قرب الطعام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله « فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أَنّ محمداً رسول الله ، فأكل الرسول من طعامه ، وكان عقبة صديقاً لأبيّ بن خلف ، فلما أتى أُبي بن خلف قال له : يا عقبة صبأت ، قال : لا والله ما صبأت ، ولكن دخل عليّ فأبَى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له ، فطعم . فقال : ما أنا بالذي أرضى منك أبداً إلا أن تأتيه وتبزق في وجهه ، وتطأ على عنقه ، ففعل ذلك عقبة ، فقال عليه السلام : لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوتك بالسيف » ، فقتل عقبة يوم بدر صبراً ، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده يوم أحد .
قال الضحاك : لما بزق عقبةُ في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد بزاقه في وجهه ، فاحترق خداه ، فكان أثر ذلك فيه حتى الموت .

وقال الشعبي : كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية بن خلف فأسلم عقبة فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمداً ، فكفر وارتد ، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } يعني : عُقبة ، يقول : { ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً } ، أي : ليتني اتبعت محمداً فاتخذت معه سبيلاً إلى الهدى . وقرأ أبو عمرو { يَا لَيَتَنِي اتَّخَذْتُ } بفتح الياء ، والآخرون بإسكانها .
الثاني : قالت الرافضة : الظالم هو رجل بعينه ، وإن المسلمين عرفوا اسمه وكتموه ، وجعلوا فُلاناً بدلاً من اسمه ، وذكروا فاضلين من أصحاب الرسول .
ومن حمل الألف واللام على العموم ، لأنها إذا دخلت على الاسم المفرد أفادت العموم بالقرينة ، وهي أنَّ ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف ، فدلّ على أنَّ المؤثر في العض على اليدين كونه ظالماً ، فيعم الحكم لعموم علته .
وهذا القول أولى من التخصيص بصورة واحدة ، ونزوله في واقعة خاصة ( لا ينافي العموم ) ، بل تدخل فيه تلك الصورة وغيرها . والمقصود من الآية زجر الكل عن الظلم ، وذلك لا يحصل إلا بالعموم .
فصل
قال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ، ولا يزال هكذا كلما أكلها نبتت وقال المحققون : هذه اللفظة للتحسر والغم ، يقال : عَضَّ أنامله ، وعضَّ على يديه .
قوله : « يَقُولُ » هذه الجملة حال من فاعل « يَعَضُّ » وجملة التمني بعد القول محكيةٌ به ، وتقدم الكلام في مباشرة ( يَا ) ل « لَيْتَ » في النساء .
قوله : « يَا وَيْلَتَى » . قرأ الحسن « يَا وَيْلَتِي » بكسر التاء وياء صريحة بعدها ، وهي الأصل . وقرأ الدَّوْرِيُّ بالإمالة .
قال أبو علي : وترك الإمالة أحسن ، لأن أصل هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفاً فراراً من الياء ، فَمَنْ أَمَالَ رجع إلى الذي منه فَرَّ أولاً . وهذا منقوض بنحو ( بَاعَ ) فإن أصله الياء ، ومع ذلك أمالوا ، وقد أمالوا { ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ } [ الزمر : 56 ] و « يَا أَسَفَى » وهما ك ( ياء ) « وَيْلَتِي » في كون ألفهما عن ياء المتكلم . و « فُلاَن » كناية عن عَلَمِ من يعقل ، وهو متصرف . و « فُلُ » كناية عن نكرة مَنْ يعقل من الذكور ، و « فُلَةُ » عن مَنْ يعقل من الإناث . والفُلاَنُ والفُلاَنةُ بالألف عن غير العاقل ، ويختص ( فُلُ ) ، و ( فُلَةُ ) بالنداء إلاَّ في ضرورة كقوله :
3874- فِي لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاَناً عَنْ فُلِ ... وليس ( فُلُ ) مرخماً من ( فلان ) خلافاً للفراء . وزعم أبو حيان أنَّ ابن عصفور وابن مالك ، وابن العلج وهموا في جعلهم ( فُلُ ) كناية عن عَلَمِ مَنْ يعقل ( فلان ) . ولام ( فُلُ ) و ( فُلاَنُ ) فيها وجهان :
أحدهما : أنها واو .
والثاني : أنها ياء .

فصل
تقدم الكلام في « يَا وَيْلَتَى » في هود . { لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } يعني أبيّ بن خلف { لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر } عن الإيمان والقرآن ، { بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي } يعني الذكر مع الرسول « وَكَانَ الشَّيْطَانُ » وهو كل متمرد عاتٍ من الجن والإنس ، وكل من صدَّ عن سبيل الله فهو شيطان . وقييل : أشار إلى خليله . وقيل : أراد إبليس ، فإنه الذي حمله على أن صار خليلاً لذلك المُضِل ، ومخالفة الرسول ، ثم خذله ، وهو معنى قوله : « للإنْسَانِ خَذُولاً » أي : تاركاً يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب .
وقوله : « وَكَانَ الشَّيْطَانُ » يحتمل أَنْ تكون هذه الجملة من مقول الظالم فتكون منصوبة المحل بالقول . وأن تكون من مقول الباري تعالى فلا محل لها ، لاستئنافها .

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)

قوله تعالى : { وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن } .
قال أكثر المفسرين : إنَّ هذا القول وقع مع الرسول . وقال أبو مسلم : بل المراد أنَّ الرسول يقوله في الآخرة كقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] . والأول أولى ، لأنَّ قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين } تسلية للرسول ، ولا يليق ذلك إلا إذا وقع القول منه . و « مَهْجُوراً » مفعول ثان ل « اتَّخَذُوا » ، أو حال . وهو مفعول من الهجر - بفتح الهاء - وهو التَّرْكُ والبُعْدُ . أي : جعلوه متروكاً بعيداً ، لم يؤمنوا به ، ولم يقبلوه ، وأعرضوا عن استماعه . وقيل : هو من الهُجر - بالضم - أي : مهجوراً فيه . ثم حذف الجار بدليل قوله : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ } [ المؤمنون : 67 ] . وهجرهُم فيه : قولهم فيه : إنه شعر ، وسحر ، وأساطير الأولين ، وكذب وهُجْر ، أي : هذيان .
قال عليه السلام : « من تعلم القرآن وعلق مصحفاً ، ولم يتعاهده ، ولم ينظر فيه ، جاء يوم القيامة متعلقاً به ، يقول : يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه » وجعل الزمخشري « مَهْجُوراً » هنا مصدراً بمعنى الهجر قال كالمَجْلُود والمعقول . قال شهاب الدين : وهو غير مقيسٍ ، ضَبَطَهُ أهل اللغة في أُلَيْفاظ فلا يُتعدى إِلاَّ بنقل .
قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً } الآية . جعل ذكر ذلك تسلية للرسول ، وأن له أسوة بسائرة الرسل ، فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبر أولُو العزم من الرسل . { وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } .
قال المفسرون : الباء زائدة بمعنى كفى ربك « هَادِياً ونَصِيراً » منصوبان على الحال ، وقيل : على التمييز « هَادِياً » إلى مصالح الدين والدنيا ، « ونَصِيراً » على الأعداء .
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر ، لأنَّ قوله : { جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً } يدل على أن تلك العداوة من جعل الله تعالى ، وتلك العداوة كفر . قال الجبائي : المراد من الجعل التبيين ، لأنه تعالى لمَّا بيّن أنهم أعداؤه ، فقد جعل أنهم أعداء ، كما إذا بيَّن الرجل أَنَّ فلاناً لص ، فقد جعله لصاً ، وكما يقال في الحاكم : إنه عدّل فلاناً ، وفسّق فلاناً ، وجرّحه .
وقال الكعبي : إنه تعالى لما أمر ( الأنبياء ) بعداوة الكفار ، وعداوتهم للكفار تقتضي ( عداوة الكفار ) لهم ، فلهذا جاز أن يقول : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين } ، لأنه - سبحانه - هو الذي حمله ودعاه إلى ما استعقب تلك العداوة .
وقال أبو مسلم : يحتمل في العدو أنه البعيد الغريب ، إذ المعاداة المباعدة ، كما أن النصرة قرب من المظاهرة ، وقد باعد الله بين المؤمنين والكافرين . والجواب عن الأول : أنَّ التبيين لا يسمى التيه جعلاً ، لأن من بين لغيره وجود الصانع وقدمه لا يقال : إنه جعل الصانع وجعل قدمه .

والجواب عن الثاني : أنَّ الذي أمره الله تعالى ( بِهِ ) هل له تأثير في وقوع العداوة في قلوبهم ، أو ليس له فيه تأثير؟ .
فإن كان الأول فقد تم الكلام ، لأنّ عداوتهم للرسول كفر ، فإذا أمر الله الرسول بما له أثر في تلك العداوة ، فقد أمر بما له أثر في وقوع الكفر ، وإِنْ لم يكن له فيه تأثير ألبتة كان منقطعاً عنه بالكلية ، فيمتنع إسناده إليه ، وهذا هو الجواب عن أبي مسلم . فإن قيل : قوله - عليه السلام - : ( « يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً » في المعنى كقول نوح - عليه السلام ) - { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 5 - 6 ] فكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا هنا ، فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] .
فالجواب : أن نوحاً - عليه السلام - لما ذكر ذلك دعا عليهم وأما محمد - عليه السلام - لما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر ، فلما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً } ( من المجرمين ) كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم ( فافترقا ) . فإن قيل : قوله : « جعلنا » صيغة تعظيم ، والعظيم إذا ذكر نفسه في معرض التعظيم ، وذكر أنه يعطي ، فلا بد وأن تكون العطية عظيمة كقوله : ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم وقوله : « إنا أعْطَيْنَاكَ » ، فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة التي هي منشأ الضرر في الدين والدنيا؟
فالجواب : خلق العدو تسبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)

قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن } الآية .
هذه شبهة خامسة لمنكري النبوة؛ فإن أهل مكة قالوا : تزعم أنك رسول من عند الله ، فهلا تأتينا بالقرآن جملة ( واحدة ) ، كما أتي موسى بالتوراة جملة ، وكما أتي عيسى بالإنجيل جملة ، وداود بالزبور . قال ابن جريج : من أوله إلى آخره في ثنتين أو ثلاث وعشرين سنة . و « جملة » حال من « القرآن » ؛ إذ هي في معنى مجتمعاً .
قوله : « كذلك » الكاف إما مرفوعة المحل ، أي : الأمر كذلك ، و « لِنُثَبِّتَ » علة لمحذوف ، أي : لنثبت فعلنا ذلك . وإما منصوبته على الحال ، أي : أنزل مثل ذلك ، أو على النعت لمصدر محذوف ، و « لنثبت » متعلقة بذلك الفعل المحذوف وقال أبو حاتم : هي جواب قسم . وهذا قول مرجوح نحا إليه الأخفش ، وجعل منه « ولتصغى » ، وقد تقدم في الأنعام . وقرأ عبد الله « ليثبت » بالياء أي الله تعالى .
فصل
هذا جواب عن شبهتهم ، وبيانه من وجوه :
أحدها : أنه - عليه السلام - لم يكن من أهل الكتابة والقراءة ، فلو نزل ذلك عليه جملة واحدة كان لا يضبطه وجاز عليه فيه الخطأ والغلط .
وثانيها : أن من كان الكتاب عنده ، فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ ، فالله تعالى ما أعطاه الكتاب جملة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة ، ليكون حفظه له أكمل ، فيكون أبعد عن المساهمة وقلة التحصيل .
وثالثها : أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة لنزلت الشرائع بأسرها دفعة على الخلق ، فكان يثقل عليهم ذلك فلما نزل مفرقاً منجماً نزلت التكاليف قليلاً قليلاً ، فكان تحملها أسهل .
ورابعها : أنه إذا شاهد جبريل حالاً بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته على أداء ما حمل ، وعلى الصبر على عوارض النبوة ، وعلى احتمال الأذى وعلى التكاليف الشاقة .
وخامسها : أنه لما تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجماً ثبت كونه معجزاً؛ فإنه لو كان ذلك مقدوراً للبشر لوجب أن يأتوا بمثله منجماً مفرقاً ، ولما عجزوا عن معارضة نجومه المفرقة ، فعن معارضة الكل أولى .
وسادسها : كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم ووقائعهم ، فكانوا يزدادون بصيرة ، وكان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب .
وسابعها : أن السفارة بين الله وبين أنبيائه ، وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم ، فيحتمل أن يقال : إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة لبطل المنصب على جبريل - عليه السلام - فلما أنزله مفرقاً منجماً بقي ذلك المنصب العالي عليه ، فلذلك جعلة الله تعالى منجماً .
فصل
قوله : « كذلك » يحتمل أن يكون من تمام كلام المشركين ، أي : جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل .

ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ذكره جواباً لهم ، أي : كذلك أنزلناه ، مفرقاً . فإن قيل : « كذلك » إشارة إلى شيء تقدمه ، والذي تقدمه هو إنزالة جملة ، ( فكيف فسره ب « كَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ » ) مفرقاً؟
فالجواب : أن الإشارة ( إلى الإنزال مفرقاً لا إلى جملة . قوله : « ورتلناه ترتيلاً » الترتيل : التفريق ومجيء الكلمة بعد الأخرى بسكوت ) يسير دون قطع النفس ، ومنه ثغر رَتِلٌ ومُرتل ، أي : مفلج الأسنان بين أسنانه فرج يسيرة . قال الزمخشري : ونزل هنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلا تدافعا . يعني أن نزل بالتشديد يقتضي بالأصالة التنجيم والتفريق ، فلو لم يجعل بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك ، لتدافع مع قوله « جُمْلَةً » لأن الجملة تنافي التفريق ، وهذا بناء منه على معتقده ، وهو أن التضعيف يدل على التفريق ، وقد نص على كذلك في مواضع من الكشاف في سورة البقرة ، وأول آل عمران ، وآخر الإسراء ، وحكى هناك عن ابن عباس ما يقوي ظاهره صحة قوله .
فصل
« وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً » قال ابن عباس : بيناه بياناً . والترتيل التبيين في ترسل وتثبيت . وقال السديّ : فصلناه تفصيلا . وقال مجاهد : بعضه في أثر بعض . وقال النخعي والحسن وقتادة : فرقناه تفريقاً آية بعد آية . قوله : « ولا يَأْتُونَك » يعني المشركين « بمثل » يَضربونه في إبطال أمرك { إلا جئناك بالحق } الذي يدفع ما جاءوا به من المثل ويبطله كقوله { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [ الأنبياء : 18 ] في ما يريدون من الشبه ( مثلاً ، وسمى ما يدفع به الشُّبَه ) حقاً .
قوله : { إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق } هذا الاستثناء مفرغ ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي : لا يأتونك بمثل إلا في حال إيتائنا إياك كذا ، والمعنى : ولا يأتونك بسؤال عجيب إلا جئناك بالأمر الحق ، « وأحْسَنَ تَفْسِيراً » أي : بياناً وتفضيلاً ، و « تفسيراً » تمييز . والمفضّل عليه محذوف : تفسيراً من مثلهم .
والتفسير : تفعيل من الفَسْرِ ، وهو كشف ما قد غطي .
ثم ذكر مآل المشركين فقال : { الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ } بساقون ويجرُّون إلى جهنم ، روي أنهم يمشون في الآخرة مقلوبين وجوههم على القفا ، وأرجلهم إلى فوق ، وقال عليه السلام : « إنّ الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم » والأولى أولى ، لأنه ورد أيضاً .
قوله : « الّذِينَ يُحْشَرُونَ » يجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين ويجوز نصبه على الذم ، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة من قوله { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً } ، ويجوز أن يكون « أُولَئِكَ » بدلاً أو بياناً للموصول ، و « شَرٌّ مَكَاناً » خبر الموصول .
قوله : { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً } منزلاً ومصيراً من أهل الجنة « وأضل سبيلاً » وأخطأ طريقاً وههنا سؤال كما تقدم في قوله : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] .
ولما تكلم في التوحيد ، ونفي الأنداد وإثبات النبوة وأحوال القيامة شرع في ذكر القصص على الطريقة المعلومة .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } الآية . لما قال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين } [ الفرقان : 31 ] وذكر ذلك في معرض التسلية له ، ذكر جماعة من الأنبياء ، وعرفه تكذيب أممهم ، والمعنى : لست يا محمد بأول من أرسلنا فكذب ( وآتيناه الآيات فرُدّ ) : فقد آتينا موسى الكتاب ، وقوينا عضده بأخيه هارون ( ومع ذلك فقد رُدّ ) . فإن قيل : كون هارون وزيراً كالمنافي لكونه شريكاً ، بل يجب أن يقال : إنه لما صار ( شريكاً ) خرج عن كونه وزيراً . فالجواب : لا منافاة بين الصنفين ، لأنه لا يمنع أن يشركه في النبوة ويكون وزيراً ، وظهيراً ، ومعيناً له . ولا وجه لقول من قال في قوله : « فَقُلْنَا اذْهَبا » إنه خطاب لموسى عليه السلام وحده بل يجري مجرى قوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } [ طه : 43 ] .
قوله : « هَارونَ » بدل ، أو بيان ، أو منصوب على القطع و « وَزِيراً » مفعول ثان ، وقيل : حال ، والمفعول الثاني قوله « معه » . قال الزجاج : الوزير في اللغة الذي يرجع إليه ويعمل برأيه ، والوزر ما يعتصم به ، ومنه : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 11 ] أي : لا منجى ولا ملجأ . قال القاضي : ولذلك لا يوصف تعالى بأن له وزيراً .
قوله : { فَقُلْنَا اذهبآ إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } يعني القبط .
قوله : « فَدمَّرْنَاهُمْ » . العامة على « فَدَمَّرْنَا » فعلاً ماضياً معطوفاً على محذوف ، أي : فذهب فكذبوهما « فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْميراً » أهلكناهم إهلاكاً . وقرأ عليّ - كرم الله وجهه - « فدمِّراهم » أمر لموسى وهارون ، وعنه أيضاً : « فَدَمِّرَانِّهِمْ » كذلك أيضاً ، ولكنه مؤكد بالنون الشديدة ، وعنه أيضاً : « فدمِّرا بِهِم » بزيادة باء الجر بعد فعل الأمر ، وهي تشبه القراءة قبلها في الخط ، ونقل عنه الزمخشري « فَدَمَّرْتُهم » بتاء المتكلم . فإن قيل : الفاء للتعقيب ، والإهلاك لم يحصل عقيب بعث موسى وهارون إليهم بل بعد مدة مديدة .
فالجواب : فاء التعقيب محمولة هنا على الحكم بالإهلاك لا على الوقوع . وقيل : إنه تعالى أراد اختصار القصة فذكر المقصود منها أولها وآخرها ، والمراد إلزام الحجة ببعثة الرسل ، واستحقاق التدمير بتكذيبهم . واعلم أن قوله : « كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا » إن حملنا تكذيب الآيات على تكذيب الآيات الإلهية فلا إشكال ، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة ، فاللفظ وإن كان للماضي فالمراد به المستقبل .

وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)

قوله تعالى : { وَقَوْمَ نُوحٍ } الآية . يجوز أن يكون « قَوْمَ » منصوباً عطفاً على مفعول « دَمَّرْنَاهم » ، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر قوله : « أَغْرَقْنَاهُمْ » وترجح هذا بتقديم جملة فعلية قبله . هذا إذا قلنا : إن « لما » ظرف زمان ، وأما إذا قلنا إنها حرف وجوب لوجوب فلا يتأتى ذلك ، لأن « أَغْرَقْنَاهُمْ » حينئذ جواب « لما » ، وجوابها لا يفسر ، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدر لا على سبيل الاشتغال ، أي : اذكر قوم نوح .
فصل
إنما قال : « كذبوا الرسل » إما لأنهم كانوا من البراهمة المنكرين لكل الرسل ، أو لأن تكذيبهم لواحد تكذيب للجميع ، لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع الرسل .
وقوله « أَغْرَقْنَاهُمْ » . قال الكلبي : أمطرنا عليهم السماء أربعين يوماً ، وأخرج ماء الأرض أيضاً في تلك الأربعين ، فصارت الأرض بحراً واحداً . « وَجَعَلْنَاهُمْ » أي : جعلنا إغراقهم وقصتهم « للناس آية » للظالمين أي : لكل من سلك سبيلهم ، « وأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمينَ » في الآخرة « عَذَاباً أَلِيماً » .
قوله تعالى : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس } الآية ، « وعَادَاً » فيه ثلاثة أوجه :
أن يكون معطوفاً على « قَوْمِ نُوح » ، وأن يكون معطوفاً على مفعول « جَعَلْنَاهُمْ » وأن يكون معطوفاً على محل « لِلظَّالِمِينَ » لأنه في قوة وعدنا الظالمين بعذاب . قوله : « وأَصْحَابَ الرَّسِّ » فيه وجهان :
أحدهما : ( أنه ) من عطف المغاير ، وهو الظاهر .
والثاني : أنه من عطف بعض الصفات على بعض .
والمراد ب « أَصْحَابَ الرَّسِّ » ثمود ، لأن الرّسّ البئر التي لم تطو عن أبي عبيدة ، وثمود أصحاب آبار . وقيل : « الرَّسُّ » نهر بالمشرق ( وكانت قرى أصحاب الرس على شاطئ فبعث الله إليهم نبياً من أولاد يهودا بن يعقوب فكذبوه ، فلبثت فيهم زماناً يشتكي إلى الله منهم ، فحفروا بئراً ورسوه فيها ، وقالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا ، وكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم وهو يقول : إلهي ترى ضيق مكاني ، وشدة كربي ، وضعف قلبي ، وقلة صلتي فجعل قبض روحي حتى مات ، فأرسل الله ريحاً عاصفة شديدة الحر ، وصارت الأرض من تحتهم كبريتاً متوقداً ، وأظلتهم سحابة سوداء ، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص ) ويقال : إنهم أناس عبدة أصنام قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي؛ دسوه فيها وقال قتادة والكلبي : الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم وهو حنظلة بن صفوان وقيل : هم بقية ثمود قوم صالح ، وهم أصحاب البئر التي ذكر الله تعالى في قوله : { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } [ الحج : 45 ] . وقال كعب ومقاتل والسدي : الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيب النجار ، ورسوه في بئر ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة يس .

وقيل : هم أصحاب الأخدود ، والرس هو الأخدود الذي حفروه .
وقال عكرمة : هم قوم رسوا نبيهم في بئر . وقيل : الرس المعدن ، وجمعه رساس وروي عن علي - رضي الله عنه - : أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة الصَّنَوْبَر وسموا أصحاب الرس؛ لأنهم رسوا نبيهم في الأرض . وروى ابن جرير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « أن الله بعث نبياً إلى أهل قرية ، فلم يؤمن به من أهل القرية أحد إلا عبد أسود ، ثم إنهم حفروا للرسول بئراً وألقوه فيها ، ثم طبقوا عليها حجراً ضخماً ، وكان ذلك الرجل الأسود يحتطب ويشتري له طعاماً وشراباً ، ويرفع الصخرة ويدليه إليه ، فكان ذلك ما شاء الله فاحتطب يوماً ، فلما أراد أن يحملها وجد نوماً ، فاضطجع ، وضرب الله على أذنه تسع سنين ، ثم هَبّ واحتمل حزمته واشترى طعاماً وشراباً ، وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحداً ، وكان قومه قد استخرجوه فآمنوا به ، وصدقوه ، وكان ذلك النبي يسألهم عن الأسود ، ويقول لهم إنه أول من يدخل الجنة » .
قوله : ( « وقُروناً » ) أي : وأهلكنا قروناً كثيرة بين عاد وأصحاب الرس والقرون : جمع قرن ، قال عليّ - رضي الله عنه - : القرن أربعون سنة ، وهو قول النخعي . وقيل : مائة وعشرون سنة . وقيل غير ذلك . وتقدم الكلام عليه في سورة سبحان عند قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ } [ الإسراء : 17 ] .
قوله : « بَيْنَ ذَلك » « ذلك » إشارة إلى من تقدم ذكره ، وهم جماعات ، فلذلك حسن دخول « بَيْنَ » عليه . وقد يذكر الذاكر بحوثاً ثم يشير إليها بذلك ، ويحسب الحاسب أعداداً متكاثرة ، ثم يقول : فذلك كيت وكيت ، أي ذلك المحسوب أو المعدود .
قوله : « وكُلاً » يجوز نصبه بفعل يفسره ما بعده ، أي : وحذرنا أو ذكرنا ، لأنها في معنى ضربنا له الأمثال .
ويجوز أن يكون معطوفاً على ما تقدم ، و « ضَرَبْنَا » بيان لسبب إهلاكهم . وأما « كُلاًّ » الثانية فمفعول مقدم .
قوله : { ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال } أي : الأشباه في إقامة الحجة عليهم فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار . وقيل : بيَّنَّا لهم وأزحنا عللهم فلما كذبوا « تَبَّرْنَاهُمْ تَتْبِيرا » أي : أهلكناهم إهلاكاً . وقال الأخفش : كسرنا تكسيرا .
قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتَّتَّه فقد تَبَّرته .

وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ ( مَطَرَ السوء ) } الآية . أراد بالقرية قريات لوط ، وكانت خمس قرى ، فأهلك الله منها أربعاً ونجت واحدة ، وهي ( صقر ) كان أهلها لا يعملون العمل الخبيث . يعني أن قريشاً مَرُّوا مُرُوراً كثيراً إلى الشام على تلك القرى ، { التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء } أي : أهلكت بالحجارة من السماء ، { أفلم يكونوا يرونها } في مرورهم وينظروا إلى آثار عذاب الله ونكاله فيعتبروا ويتذكروا .
قوله : « مَطَرَ السَّوْءِ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مصدر على حذف الزوائد أي : أمطار السوء .
الثاني : أنه مفعول ثان؛ إذ المعنى : أعطيتها وأوليتها مطر السوء .
الثالث : أنه نعت مصدر محذوف ، أي : أمطاراً مثل مطر السوء وقرأ زيد بن عليّ « مُطِرَتْ » ثلاثياً مبنياً ( للمفعول ) ، ومطر متعد قال :
3875- كَمَنْ بِوَادِيهِ بَعْدَ المَحْلِ مَمْطُورُ ... وقرأ أبو السمال « مطر السُّوء » بضم السين ، وتقدم الكلام على السوء والسوء في براءة . وقوله : { أَتَوْا عَلَى القرية } إنما عُدِّي ( أتى ) ب ( على ) ، لأنه ضُمِّن معنى مرَّ .
قوله : { بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } في هذا الرجاء ثلاثة أوجه :
أقواها ما قاله القاضي : وهو أنه محمول على حقيقة الرجاء؛ لأن الإنسان لا يحتمل متاعب التكليف إلا رجاء ثواب الآخرة ، فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يَرْجُ ثوابها فلا يتحمل تلك المشاق .
وثانيها : معناه لا يتوقعون نشورا ، فوضع الرجاء موضع التوقُّع؛ لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن .
وثالثها : معناه : ( لا يخافون ) على اللغة التهامية . وهو ضعيف .
قوله : « وإذَا رَأَوْكَ » الآية . لما بين مبالغة المشركين في إنكار نبوته بإيراد الشبهات بين بعد ذلك أنهم إذا رأوا الرسول اتخذوه هزواً ، ولم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء والاستحقار ، ويقول بعضهم لبعض : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } .
قوله : « إِنْ يَتَّخِذُونَكَ » « إنْ » الأولى نافية ، والثانية مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينهما ، و « هُزُوًّا مفعول ثان ، ويحتمل أن يكون التقدير : موضع هُزْءٍ وأن يكون مهزوءاً بك . وهذه الجملة المنفية تحتمل وجهين :
أحدهما : أنها جواب ( إذا ) الشرطية ، واختصت ( إذا ) بأن جوابها متى كان منفياً ب ( ما ) أو ( إن ) أو ( لا ) لا تحتاج إلى الفاء بخلاف غيرها من أدوات الشرط فعلى هذا يكون قوله : » أَهَذَا الَّذي « في محل نصب بالقول المضمر ، وذلك القول المضمر في محل نصب على الحال ، أي : إن يتخذونك قائلين ذلك .
والثاني : أنها جملة معترضة بين ( إذا ) وجوابها . وجوابُها هو ذلك القول المضمر المحكي به » أهذا الذي « والتقدير : وإذا رأوك قالوا أهذا الذي بعث ، فاعترض بجملة النفي ، ومفعول » بعث « محذوف هو عائد الموصول ، أي : بعثه .

و « رسولاً » على بابه من كونه صفة فينتصب على الحال ، وقيل : هو مصدر بمعنى رسالة ، فيكون على حذف مضاف ، أي ذا رسول بمعنى رسالة ، أو يجعل نفس المصدر مبالغة ، أو بمعنى : مرسل . وهو تكلف .
قوله : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا } تقدم نظيره في سبحان .
قوله : { لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا } جوابها محذوف ، أي : لضللنا عن آلهتنا . قال الزمخشري : و « لولا » في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث الصيغة مجرى التقيد للحكم ( المطلق ) .
فصل
قال المفسرون : إن أبا جهل كان إذا مر بأصحابه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مستهزءاً : « أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً » « إنْ كَادَ » قد كاد « لَيُضِلُّنَا » أي : قد قارب أن يضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها أي : ( أي لو لم نصبر عليها ) انصرافا عنها ، { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } من أخطأ طريقاً . ( واعلم أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا الرسول - عليه الصلاة والسلام - أتوا بنوعين من الأفعال . أحدهما : الاستهزاء ، فيقولون : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } وذلك جهل عظيم ، لأن الاستهزاء إما أن يكون بصورته أو بصفته والأول باطل ، لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان أحسن منها صورة وخلقة ) ، وبتقدير أنه لم يكن كذلك ، لكنه - عليه الصلاة والسلام - ما كان يدعي التميز عنهم بالصورة بل بالحجة . والثاني باطل ، لأنه - عليه الصلاة والسلام - ادَّعى التميز عليهم بظهور المعجز عليه دونهم ، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته ، ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ، ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية ، واستهزءوا بالرسول ، وذلك يدل على ( أنه ليس للمبطل في كل الأوقات ) إلا السفاهة والوقاحة .
والنوع الثاني : قولهم : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } فَسَمُّوا ذلك ضلالاً ، وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم ، ويدل على جده واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان فلهذا قالوا : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } ، وذلك يدل على أنهم كانوا مقهورين بالحجة ، ولم يكن في أيديهم إلا مجرد ( الوقاحة ) .
قوله : « من أضل » جملة استفهامية معلقة ب « يَعْلَمُون » فهي سادَّةٌ مسدّ مفعوليها إن كان على بابها ، ومسدّ واحد إن كانت بمعنى ( عرف ) . ويجوز في « من » أن تكون موصولة ، و « أَضَلَّ » خبر مبتدأ مضمر هو العائد على « من » تقديره : من هو أضل ، وإنما حذف للاستطالة بالتمييز ، كقولهم : ما أنا بالذي قائل لك سوءاً . وهذا ظاهر إن كانت متعدية لواحد ، وإن كانت متعدية لاثنين فيحتاج إلى تقدير ثان ولا حاجة إليه .
فصل
لما وصفوه بالإضلال في قولهم : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا } بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه ، فقال : { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } ، وهذا وعيد شديد على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر .

أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)

قوله تعالى : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } الآية . « أَرَأَيْتَ » كلمة تصلح للإعلان والسؤال ، وههنا تعجب ممن هذا وصفه ونعته .
وقوله : { مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } مفعولا الاتخاذ من غير تقديم ولا تأخير ، لاستوائهما في التعريف . وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أخر « هَوَاهُ » والأصل قولك : اتخذ الهوى إلهاً . قلت : ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية ( به ) كما تقول : علمت منطلقاً زيداً لفضل عنايتك بالمنطلق .
قال أبو حيان : وادعاء القلب ، يعني : أن التقديم ليس بجيد ، لأنه من ضرائر الأشعار . قال شهاب الدين : قد تقدم فيه ثلاثة مذاهب ، على أن هذا ليس من القلب المذكور في شيء إنما هو تقديم وتأخير فقط .
وقرأ ابنُ هُرمز « إِلاَهَةً هَوَاهُ » على وزن فعالة ، والإِلهة بمعنى المَأْلُوه ، والهاء للمبالغة ك « عَلاَّمَة وَنسَّابة ) . و » إِلاَهَةً « مفعول ثاني قدم لكونه نكرة ولذلك صرف . وقيل : إلاهة هي الشمس ، ورد هذا بأنه كان ينبغي أن يمتنع من الصرف للعلمية والتأنيث . وأجيب بأنها يدخل عليها ( أل ) كثيراً فلما نزعت منها صارت نكرة جارية مجرى الأوصاف . ويقال : أُلاهة بضم الهمزة للشمس وقرأ بعض المَدَنيِّين » آلِهَةً هَوَاهُ « جمعُ إله ، وهو أيضاً مفعول مقدم وجمع باعتبار الأنواع ، فقد كان الرجل يعبد آلهة شتى . ومفعول » أَرَأَيْتَ « الأول » مَنْ « والثاني الجملة الاستفهامية .
فصل
قال ابن عباس : الهوى إله يعبد . وقال سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الحجر ، فإذا رأى حجراً أحسن منه طرح الأول وأخذ الآخر وعبده . { أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } أي : حافظاً تحفظه من اتباع هواه ، أي لست كذلك ، ونظيره : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } [ البقرة : 256 ] ، قال الكلبي : نسختها آية القتال . { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون } يسمعون ما تقول سماع طالب الإفهام ، أو يعقلون ما يعاينون من الحجج والأعلام . و » أم « هنا منقطعة بعنى : بل . { إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام } في عدم انتفاعهم بالكلام ، وعدم تدبرهم ، وتفكرهم ، بل هم أضل سبيلاً لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها ، وتَنْقَاد لأربابها التي تتعهدها ، ( وتطلب ما ينفعها ، وتجتنب ما يضرها ، وقلوب الأنعام خالية عن العلم ، وعن الاعتقاد الفاسد ، وهؤلاء قلوبهم خالية عن العلم ومليئة من الاعتقاد والباطل ، وعدم علم الأنعام لا يضر بأحد ، وجهل هؤلاء منشأ للضرر العظيم ، لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله ، والبهائم لا تستحق عقاباً على عدم العلم ، وهؤلاء يستحقون على عدم العلم أعظم العقاب ) ، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم ، ولأن الأنعام تسجد وتسبح الله ، وهؤلاء الكفار لا يفعلون فإن قيل : لم قال : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ } فحكم بذلك على الأكثر دون الكل؟ فالجواب : لأنه كان فيهم من يعرف الله ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لحبّ الرياسة لا للجهل . فإن قيل : إنه تعالى لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين ، وكيف بعث الرسول إليهم ، فإن من شرط التكليف العقل؟ فالجواب : ليس المراد أنهم لا يعقلون بل المراد أنهم لم ينتفعوا بذلك العقل ، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم : إنما أنت أعمى وأصم .

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } الآية . لما بين جهل المعرضين عن دلائل التوحيد ، وبين فساد طريقهم ذكر أنواعاً من الدلائل الدالة على وجود الصانع ، فأولها الاستدلال بحال الظل في زيادته ونقصانه ، وتغير أحواله قوله : « ألم تر » فيه وجهان :
أحدهما : أنه من رؤية العين .
والثاني : أنه من رؤية القلب ، يعني : العلم ، فإن حملناه على رؤية العين ، فالمعنى : أَلَمْ تَرَ إلى الظل كيف مده ربُّك ، وإن حملناه على العلم وهو اختيار الزجاج ، فالمعنى : ألم تعلم ، وهذا أولى ، لأن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله في تمديده غير مرئي بالاتفاق ولكنه معلوم من حيث أن كل مبصر فله مؤثر ، فحمل هذا اللفظ على رؤية القلب أولى من هذا الوجه . وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للرسول فهو عام في المعنى ، لأن المقصود بيان نعم الله تعالى بالظل ، وجميع المكلفين مشتركون في تنبيههم لهذه النعمة و « كَيْفَ » منصوبة ب « مَدَّ » ، وهي معلقة ل « تَرَ » فهي في موضع نصب ، وقد تقدم القول في « أَلَمْ تَرَ » .
فصل
الظل عبارة عن عدم الضوء مما شأنه أن يضيء ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، جعله ممدوداً ، لأنه ظل لا شمس معه ، كما قال في ظل الجنة { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] إذ لم يكن معه شمس ، { وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً } دائماً ثابتاً لا يزول ولا تذهبه الشمس .
وقال أبو عبيدة : الظل ما نسخته الشمس وهو بالغداة ، والفيء ما نسخ الشمس . سمي فيئاً ، لأنه فاء من جانب المغرب إلى جانب المشرق ، { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } ، أي : على الظل دليلاً ، ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرفت الظل ، ولولا النور ما عرف الظلمة ، والأشياء تُعْرَفُ بأضدادها .
قال الزمخشري : فإن قُلتَ : « ثم » في هذين الموضعين كيف موقعها قلت موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاث ، كأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم منهما تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بينهما في الوقت .
قوله : « ثُمَّ قَبَضْنَاهُ » يعني : الظل { إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } بالشمس التي تأتي عليه ، والقبض جمع المنبسط من الشيء ، معناه : أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس ، فإذا طلعت الشمس قبض الله الظل جزءاً فجزءاً « قَبْضاً يَسِيراً » أي : خفياً ، وقيل : المراد من قبضها يسيراً قبضها عند قيام الساعة ، وذلك قبض أسبابها ، وهي الأجرام التي تلقي الظلال . وقوله : « يَسِيراً » كقوله : { حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ ق : 44 ] قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً } الآية . هذا هو النوع الثاني شبه الليل من حيث يستر الكل ويغطي باللباس الساتر للبدن ، ونبه على ( ما لنا فيه ) من النفع بقوله : « والنَّوْمَ سُباتاً » والسبات : هو الراحة ، أي : راحة لأبدانكم ، وقطعاً لعملكم ، وأصل السبت : القطع ، والنائم مسبوت ، لأنه انقطع عمله وحركته .

قال أبو مسلم : السبات : الراحة ، ومنه يوم السبت ، لما جرت به العادة من الاستراحة فيه ، ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت .
وقال الزمخشري : السبات : الموت ، والمسبوت الميت ، لأنه مقطوع الحياة ، قال : وهذا كقوله : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل } [ الأنعام : 60 ] . وإنما قلنا إن تفسيره بالموت أولى من تفسيره بالراحة ، لأن النشور في مقابلته . { وَجَعَلَ النهار نُشُوراً } قال أبو مسلم : هو بمعنى الانتشار والحركة ، كما سمى تعالى نوم الإنسان وفاة فقال : { يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] كذلك وفق بين القيام من النوم والقيام من الموت في التسمية بالنشور .
قوله تعالى : { وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَا } الآية . هذا هو النوع الثالث ، وقد تقدم الكلام على نظيرتها في الأعراف . { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } يعني : المطر ، { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً } قال الزمخشري : فإن قلت : إنزال الماء موصوفاً بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش . قلت : لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصف بالطهارة إكراماً لهم ، وتتميماً للمنّة عليهم .
وطهور : يجوز أن يكون صفة مبالغة منقولاً من ظاهر ، كقوله تعالى : « شَرَاباً طَهُوراً » ، وقال :
3876- إلى رُجَّحِ الأَكْفَالِ غِيدٌ مِنَ الصِّبَا ... عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ
وأن يكون اسم ما يتطهر به كالسحور لما يتسحَّر به ، والفطور لما يتفطَّر به ، قال عليه السلام في البحر : « هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ » أراد به المطهر ، فالماء مطهر ، لأنه يطهر الإنسان من الحدث والنجاسة ، كما قال في آية أخرى { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } [ الأنفال : 11 ] فثبت أن التطهير مختص بالماء .
( وذهب أصحاب الرأي إلى أن الطهور هو الطاهر حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة كالخل وماء الورد ، والمرق ، ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز رفع الحدث بها . وقال عليه السلام : « التّراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج » ولو كان معنى الطهور هو الطاهر لكان معناه التراب طاهر للمسلم ، وحينئذ لا ينتظم الكلام ، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام : « طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه أن يغسل سبعاً » ولو كان الطهور هو الطاهر لكان معناه : طاهر إناء أحدكم ، وحينئذ لا ينتظم الكلام ) .
ويجوز أن يكون مصدراً ك ( القبول والولوع ) .
وقوله : « لِنُحْيِيَ بِهِ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلق بالإنزال . والثاني : وهو صعب أنه متعلق ب ( طهور ) .
ووصف « بَلْدَةً » ب « مَيِّت » وهي صفة للمذكر ، لأنها بمعنى البلد .

قوله : « وَنُسْقِيَهُ » العامة على ضمّ النون ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية عنهما وأبو حيوة وابن أبي عبلة بفتحها ، وقد تقدم أنه قرئ بذلك في النحل والمؤمنون وتقدم الكلام ( على ذلك ) .
قوله : « مِمَّا خَلَقْنَا » يجوز أن يتعلق « مِنْ » ب « نُسْقِيَهُ » ، وهي لابتداء الغاية ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها حال من « أَنْعَاماً » ، ونكرت الأنعام والأناسي ، ( قال الزمخشري ) : لأن علية الناس وجلهم مجتمعون بالأودية والأنهار ، فيهم غنية عن سقي الماء وأعقابهم وهم كثير منهم لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا ( سمائه ) .
قوله : « وَأَنَاسِيَّ » فيه وجهان :
أحدهما : وهو مذهب سيبويه أنه جمع إنسان ، والأصل إنسان ، وأناسين ، فأبدلت النون ياء ، وأدغمت فيها الياء قبلها نحو ظربان وظرابي .
والثاني : وهو قول الفراء والمبرد والزجاج أنه جمع إنسي . وفيه نظر ، لأن فعالي إنما يكون جمعاً لما فيه ياء مشددة لا تدل على نسب نحو كرسي وكراسي ، فلو أريد ب ( كرسي ) النسب لم يجز جمعه على كراسي ، ويبعد أن يقال : إن الياء في إنْسِيّ ليست للنسب ، وكان حقه أن يجمع على ( أناسية ) نحو مهالبة في المهلبي ، وأزارقة في الأزرقي . وقرأ يحيى بن الحارث الذماري والكسائي في رواية « وأناسِيَ » بتخفيف الياء . قال الزمخشري : بحذف ياء أفاعيل ، كقولك ( أناعم في أناعيم ) . قال الزمخشري : فإن قلت : لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي . قلت : لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدم ما هو سبب حياتهم ، ولأنهم إذا ظفروا بسقيا أرضهم ، وسقي أنعامهم لم يعدموا سقياهم فإن قيل : لم خص الإنسان والأنعام هاهنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء؟ فالجواب : لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام ، لأن حوائج الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان الإنعام عليهم ( بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم ) بسقيهم . وقال : « أَنَاسِيَّ كَثيراً » ولم يقل : كثيرين ، لأنه قد جاء فعيل مفرداً ويراد به الكثرة كقوله : { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } [ الفرقان : 38 ] { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)

قوله تعالى : « وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ » في هذه الهاء ثلاثة أوجه :
أحدها : قال الجمهور : إنها ترجع إلى المطر ، ثم هؤلاء قال بعضهم : ( المعنى صرفنا نزول الماء من وابل ، وطل وجود وطشّ ، ورذاذ ، وغير ذلك .
وقال بعضهم ) : « صَرَّفْنَاهُ » أي : أجريناه في الأنهار حتى انتفعوا بالشرب وبالزراعات وأنواع المعاش به . وقال آخرون : معناه : أنه تعالى ينزله في مكان ( دون مكان ) في عام ثم في العام الثاني يقع بخلاف ما وقع في العام الأول ، قال ابن عباس : ما عام بأكثر من عام ، ولكن الله يصرفه في الأرض . ثم قرأ هذه الآية .
وروى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « ما من عام بأمطر من عام ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي » .
الثاني : قال أبو مسلم : الضمير راجع إلى المطر والسحاب والإظلال وسائر ما ذكره الله من الأدلة .
الثالث : أي هذا القول صرفناه بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل ، وهو ذكر إنشاء السحاب ، وإنزال المطر ليتفكروا ويستدلوا به على الصانع .
وقرأ عكرمة : « صَرَفْنَاهُ » بتخفيف الراء . وقيل : التصريف راجع إلى الريح .
« ليذكروا » ويتفكروا في قدرة الله تعالى { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } جحوداً ، وكفرانهم هو أنهم إذا أمطروا قالوا : أُمْطرنا بنوء كذا ، روى زيد بن خالد الجهني قال : « صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : » هل تدرون ما قال ربكم « قالوا : الله ورسوله أعلم » قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال : مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي وكافر بالكواكب ، وأما من قال : مُطِرْنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب « .
فصل
قال الجبائي : قوله : » لِيَذَّكَّرُوا « يدل على أنه تعالى يريد من الكل أن يذكروا ويشكرو ، ولو أراد أن يكفروا أو يعرضوا لما صح ذلك ، وذلك يبطل قول من قال : إن الله مريد لكفر من يكفر قال : ودلَّ قوله : { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } على قدرتهم على فعل هذا التذكر؛ إذ لو لم يقدروا لما جاز أن يقال : أبوا أن يفعلوه ، كما لا يقال في الزمن أبى أن يسعى .
وقال الكعبي : قوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } ( حجة على من زعم أن القرآن وبال على الكافرين ، وأنه لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا ، لأن قوله : » ليذَّكَّروا « ) عامّ في الكل ، وقوله تعالى : { أَكْثَرُ الناس } يقتضي أن يكون هذا الأكثر داخلاً في ذلك العام ، لأنه لا يجوز أن يقال أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفوراً .

والجواب قد تقدم مراراً .
قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } رسولاً ينذرهم ، والمراد من ذلك تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه :
أحدها : أنه تعالى بين أنه مع القدرة على بعثه نذيراً ورسولاً في كل قرية خصه بالرسالة وفضّله بها على الكل ، ولذلك أتبعه بقوله : { فَلاَ تُطِعِ الكافرين } أي : لا توافقهم .
وثانيها : المراد : ولو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة إلى كل العالمين و { لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } ولكنا قصرنا الأمر عليك وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل ، فقابل هذا الإجلال بالتشدُّد في الدين .
وثالثها : أن الآية تقتضي مزج اللطف بالعنف ، لأنها تدل على القدرة على أن يبعث في كل قرية نذيراً مثل محمد ، وأنه لا حاجة بالحضرة الإلهية إلى محمد البتة .
وقوله : « ولَوْ شِئْنَا » يدل على أنه تعالى لا يفعل ذلك . والمعنى : ولكن بعثناك إلى القُرَى كلها وحمَّلناك ثقل نذارة جميعها لتستوجب بصبرك عليه ما أعتدنا لك من الكرامة والدرجة الرفيعة . { فَلاَ تُطِعِ الكافرين } فيما يدعونك إليه من موافقتهم وهذا يدل على أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي عنه مشتغلاً به .
قوله : « وَجَاهِدْهُمْ بِهِ » أي : بالقرآن ، أو بترك الطاعة المدلول عليه بقوله : « فَلاَ تُطِع » ، أو بما دل عليه { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } من كونه نذير كافة القرى ، أو بالسيف .
والأقرب الأول؛ لأن السورة مكية ، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان ، فالمراد بذل الجهد في الدعاء جهاداً كبيراً شديداً .

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)

قوله تعالى : { وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين } الآية . هذا النوع الرابع . في « مَرَجَ » قولان :
أحدهما : بمعنى خلط ومرج ، ومنه مرج الأمر أي : اختلط قاله ابن عرفة .
وقيل : « مرج » أجرى ، وأمرج لغة فيه .
( و ) قيل : مرج لغة الحجاز ، وأمْرَجَ لغة نجد ، وفي كلام بعض الفصحاء : بحران أحدهما بالآخر مَمْرُوج ، وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج . وقيل : أرسلهما في مجاريهما وخلاَّهما كما ترسل الخيل في المرج قاله ابن عباس .
وأصل المرج الخلط والإرسال يقال : مرجت الدابة وأمرجتها إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء .
قوله { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } هذه الجملة لا محل لها ، لأنها مستأنفة جواب لسؤال مقدر كأن قائلاً قال : كيف مرجهما؟ قيل : هذا عذب وهذا ملح .
ويجوز على ضعف أن تكون حالية . والفرات : المبالغ في الحلاوة ، والتاء فيه أصلية لام الكلمة ، ووزنه فعال . وبعض العرب يقف عليها هاء ، وهذا كما تقدم في التابوت . ويقال : سمي الماء الحلو فراتاً ، لأنه يفرت العطش أي : يشقه ويقطعه والأُجاج : المبالغ في الملوحة ، وقيل : في الحرارة ، وقيل في المرارة . وهذا من أحسن المقابلة ، حيث قال تعالى : { عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } وأنشد بعضهم :
3877- فَلاَ واللَّهِ لاَ أَنْفَكُّ أَبكي ... ( إلى أَنْ نَلْتَقِي شُعْثاً عُراتَا )
أَأُلْحَى إنْ نَزَحْتُ أُجَاجَ عَيْنِي ... عَلَى جَدَثٍ حَوَى العَذْبَ الفُرَاتَا
ما أحسن ما كنى عن دمعه بالأجاج ، وعن المبكي عليه بالعذب الفرات وكان سبب إنشاد هذين البيتين أن بعضهم لحن قائلهما في قوله : عراتا . كيف يقف على تاء التأنيث المنونة بالألف؟ فقيل له : إنها لغة مستفيضة يجعلون التاء كغيرها فيبدلون تنوينها بعد الفتح ألفاً ، حكي عن العرب أكلت تمرتاً نحو أكلت زيتاً . وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي « مَلِح » بفتح الميم وكسر اللام ، وكذا في سورة فاطر ، وهو مقصور من ( مالح ) كقولهم : برد في بارد ، قال :
3878- وَصِلْيانا بَرِدا ... وماء مالح لغة شاذة . وقال أبو حاتم : هذه قراءة منكرة .
قوله : « بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً » يجوز أن يكون الظرف متعلقاً بالجعل ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « بَرْزَخاً » .
والأول أظهر . ومعنى « بَرْزَخاً » أي : حاجزاً بقدرته لئلا يختلط أحدهما بالآخر .
قوله : « وَحِجْراً مَحْجُوراً » الظاهر عطفه على « برزخاً » .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت : « حِجْراً مَحْجُوراً » ) ما معناه؟ قلت هي الكلمة التي يقولها المتعوّذ ، وقد فسرناها ، وهي هنا واقعة على سبيل المجاز ، كأن واحداً من البحرين يقول لصاحبه : حجراً محجوراً كأنه يتعوذ من صاحبه ويقول له : حجراً محجوراً . كما قال : « لا يبغيان » . وهي من أحسن الاستعارات .
فعلى ما قاله يكون منصوباً بقول مضمر .

فإن قيل : لا وجود للبحر العذب ، فكيف ذكره الله تعالى هنا؟ لا يقال : هذا مدفوع من وجهين :
أحدهما : أن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون .
الثاني : لعله حصل في البحار موضع يكون أحد جانبيه عذباً والآخر ملحاً ، لأنا نقول : أما الأول فضعيف ، لأن هذه الأودية ليس فيها ماء ملح ، والبحار ليس فيها ماء عذب ، فلم يحصل البتة موضع التعجب وأما الثاني فضعيف؛ لأن موضع الاستدلال لا بد وأن يكون معلوماً ، وأما بمحض التجويز فلا يحسن الاستدلال .
فالجواب : أنا نقول : المراد من البحر العذب هذه الأودية ومن البحر الأجاج البحار الكبار . { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي : حائلاً من الأرض ، ووجه الاستدلال هاهنا أن العذوبة والملوحة إن كانت بسبب طبيعة الأرض والماء ، فلا بد من الاستواء ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة . ويمكن الجواب بطريق آخر ، وهو أنا رأينا نيل مصر داخلاً في بحر ملح أبيض لونه مغاير للون بحر الملح ، ولا يختلط به ويؤخذ منه ويشرب .

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)

قوله تعالى : { وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً } الآية .
هذا نوع خامس ، وفي هذا الماء قولان :
أحدهما : أنه النطفة ، والثاني : أنه الماء الذي تسقى به الأرض فيتولد منه الأغذية ، ويتولد من الأغذية النطفة ، كما تقدم في قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] .
قوله : « مِنَ المَاءِ » يجوز أن يكون متعلقاً ب « خَلَقَ » وأن يتعلق بمحذوف حالاً من ماء ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، أو للتبعيض .
قوله : { فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } أي : جعله ذا نسب وصهر قال الخليل : لا يقال لأهل بيت المرأة إلا الأصهار ، ولا لأهل بيت الرجل إلا أختان . قال : ومن العرب من يطلق الأصهار على الجميع . وهذا هو الغالب .
وقيل : النسب ما لا يحل نكاحه ، والصهر ما يحل نكاحه ، والنسب ما يوجب الحرمة ، والصهر ما لا يوجبها . والصحيح أن النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح ، وقد تقدم أن الله تعالى حرم بالنسب سبعاً وبالسبب سبعاً في قوله عز وجل : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [ النساء : 23 ] { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } حيث خلق من النطفة نوعين من البشر الذكر والأنثى .

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)

قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الآية . لما ذكر دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم فقال « وَيَعْبُدُونَ » أي : هؤلاء المشركون { مَا لاَ يَنفَعُهُمْ } إن عبدوه « وَلاَ يَضرُّهُمْ » إن تركوه ، { وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً } أي : معيناً للشيطان على ربه بالمعاصي . قال الزجاج : يعاون الشيطان على معصية الله ، لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان . فإن قيل كيف يصح في الكافر أن يكون معاوناً للشيطان على ربه بالعداوة . فالجواب أنه تعالى ذكر نفسه وأراد رسوله فقال : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله } [ الأحزاب : 57 ] . وقيل : معناه : وكان الكافر على ربه هيناً ذليلاً ، كما يقول الرجل لمن يستهين به : جعلني بظهر ، أي : جعلني هيناً ، ويقال : ظهرت به : إذا جعلته خلف ظهرك ، كقوله : { واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } [ هود : 92 ] .
قال أبو مسلم : وقياس العربية أن يقال : مظهوراً ، أي : مستخف به متروك وراء الظهر ، فقيل فيه : ظهير بمعنى مظهور ، ومعناه : هين على الله أن يكفر الكافر ، وهو تعالى مستهين بكفره .
والمراد بالكافر قيل : أبو جهل ، لأن الآية نزلت فيه . والأولى حمله على العموم لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ . قيل : ويجوز أن يريد بالظهير الجماعة كقوله : { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] كالصديق والخليط ، فعلى هذا يكون المراد بالكافر الجنس ، وأن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور الله قال تعالى : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } [ الأعراف : 202 ] .
قوله : « عَلَى رَبِّهِ » يجوز أن يتعلق ب « ظَهِيراً » ، وهو الظاهر ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه خبر « كان » و « ظهيراً » حال ، والظهير المعاون .
قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } أي : منذراً ، ووجه تعلقه بما تقدم أن الكفار يطلبون العون على الله ورسوله والله تعالى بعث رسوله لنفعهم ، لأنه بعثه ليبشرهم على الطاعة وينذرهم على المعصية ، فيستحقوا الثواب ، ويحترزوا عن العقاب فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرع جهده في إصلاح مهماته ديناً ودنياً ، ولا يسألهم على ذلك ألبتة أجراً .
قوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ } فيه وجهان :
أحدهما : وهو منقطع ، أي : لكن من يشاء { أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } فليفعل .
والثاني : أنه متصل على حذف مضاف ، يعني : إلا أجر من ، أي : الأجر الحاصل على دعائه إلى الإيمان وقبوله ، لأنه تعالى يأجرني على ذلك . حكاه أبو حيان وفيه نظر ، لأنه لم يسند السؤال المنفي في الظاهر إلى الله تعالى إنما أسنده إلى المخاطبين فكيف يصح هذا التقدير .
فصل
المعنى : ما أسألكم على تبليغ الوحي من أجر ، فتقولوا إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتبعه .
وقوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } استثناء منقطع معناه : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً بإنفاق ماله في سبيله فعل ذلك .

والمعنى : لا أسألكم لنفسي أجراً ، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى جنته .
قوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } الآية . لما تبين أن الكفار يتظاهرون على إيذائه ، وأمره أن لا يطلب منهم أجراً ، أمره بأن يتوكل عليه في دفع جميع المضار ، وفي جلب جميع المنافع ، وإنما قال : { عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } ، لأن من توكل على الحي الذي يموت فإذا مات المتوكَّل عليه صار المتوكِّل ضائعاً ، وأما الله تعالى فهو حي لا يموت فلا يضيع المتوكِّل عليه .
« وَسَبِّحْ بَحَمْدِهِ » قيل : المراد بالتسبيح الصلاة . وقيل : قل سبحان الله والحمد لله . { وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } عالماً ، وهذه كلها يراد بها المبالغة ، يقال كفى بالعلم جمالاً ، وكفى بالأدب مالاً وهو بمعنى حسبك ، أي لا يحتاج معه إلى غيره ، لأنه خبير بأحوالهم قادرٌ على مكافأتهم وهذا وعيد شديد .

الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)

قوله تعالى : { الذي خَلَقَ السماوات والأرض } الآية . لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور منها : أنه حي لا يموت ، وأنه عالم بجميع المعلومات بقوله { وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 58 ] ومنها أنه قادر على كل الممكنات ، وهو قوله : { الذي خَلَقَ السماوات والأرض } وهذا متصل بقوله : { الحي الذي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] لأنه سبحانه لما كان خالقاً للسموات والأرض ولكل ما بينهما ثبت أنه القادر على جميع المنافع ودفع المضار ، وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه . و « الَّذِي خَلَقَ » يجوز أن يكون مبتدأ ، و « الرَّحْمَنُ » خبره ، وأن يكون خبر مبتدأ مقدر ، أي : هو الذي خلق ، وأن يكون منصوباً بفعل مضمر ، وأن يكون صفة للحي الذي لا يموت ، أو بدلاً ، أو بياناً هذا على قراءة « الرَّحْمَنُ » بالرفع ومن قرأه بالجر فيتعين أن يكون « الَّذِي خَلَقَ » صفة للحي فقط .
قوله : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } فيه سؤال ، وهو أن الأيام عبارة عن حركة الشمس في السموات فقيل السموات لاً أيام ، فكيف قال : خلقها في ستة أيام؟
والجواب : في مدة مقدارها ( هذه المدة ) ، لا يقال : الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة لا يكون عدماً محضاً بل لا بد وأن يكون موجوداً فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك يقتضي قدم الزمان ، لأنا نقول : هذا معارض بنفس الزمان ، لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل بخمسة أيام والمدة المتوهمة المحتملة لخمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى ، فلما لم يلزم من هذا قدم الزمان لم يلزم ما قلتموه ، وعلى هذا نقول لعل الله سبحانه خلق المدة أولاً ثم خلق السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام . وقيل : في ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة . وهو بعيد ، لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول . فإن قيل : لم قدر الخلق والإيجاد بهذا المقدار؟
فالجواب على قول أهل السنة المشيئة والقدرة كافية للتخصيص ، وقالت المعتزلة : لا بد وأن يكون من حكمة وهو أن التخصيص بهذا المقدار أصلح ، وهذا بعيد لوجهين :
الأول : أن حصول تلك الحكمة إما أن يكون واجباً لذاته أو جائزاً ، فإن كان واجباً وجب أن لا يتغير فيكون حاصلاً في كل الأزمنة فلا يصلح أن يكون سبباً لزمان معين ، وإن كان جائزاً افتقر حصول تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر ، ولزم التسلسل .
والثاني : أن التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله فحصول ذلك التفاوت لما لم يكن مشعوراً به كيف يقدح في حصول المصالح .

واعلم أنه يجب على المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة ، فإنه بحر لا ساحل له ، كتقدير ملائكة النار بتسعة عشر ، وحملة العرش بثمانية ، والسموات بالسبع ، وعدد الصلوات ، ومقادير النصب في الزكوات ، وكذا في الحدود ، والكفارات ، فالإقرار بكل ما قال الله حق هو الدين ، والواجب ترك البحث عن هذه الأشياء ، وقد نص الله على ذلك في قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } [ المدثر : 31 ] ثم قال : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] ، وهو الجواب أيضاً في أنه لِمَ لَمْ يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك . وعن سعيد بن جبير : إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر أن يخلقها في لحظة تعليماً لخلقه الرفق والتثبت . وقيل : ثم خلقها في يوم الجمعة فجعله الله عيداً للمسلمين .
قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } لا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة؛ لأن أوصاف الله لم تزل ، فلا يصح دخول « ثُمَّ » فيه . ولا على الاستقرار ، لأنه يقتضي التغيير الذي هو دليل الحدوث ، ويقتضي التركيب ، وكل ذلك على الله محال ، بل المراد أنه خلق العرش ورفعه .
فإن قيل : يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات وليس كذلك لقوله تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } [ هود : 7 ] .
فالجواب : كلمة « ثُمَّ » ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات .
قوله : « الرَّحْمَنُ » قرأ العامة بالرفع ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه خبر « الَّذِي » ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي : الرحمن ، ولهذا أجاز الزجاج وغيره الوقف على العرش ثم يبدأ الرحمن ، أي : هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له ، أو يكون بدلاً من الضمير في « استوى » أو يكون مبتدأ وخبره الجملة من قوله « فَاسْأَلْ » على رأي الأخفش كقوله :
3879- وَقَائِلَةٍ خوْلاَنُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ... أو يكون صفة الذي خلق ، إذا قلنا : إنه مرفوع .
وقرأ زيد بن علي « الرَّحْمَنِ » بالجر فيتعين أن يكون نعتاً للذي خلق و « الَّذِي خَلَقَ » صفة للحي فقط ، لئلا يفصل بين النعت ومنعوته بأجنبي .
قوله : « فَاسْأَلْ بِهِ » في الباء قولان : أحدهما : هي على بابها ، وهي متعلقة بالسؤال ، والمراد ب « الخَبِير » الله تعالى ، ويكون من التجريد ، كقولك : لقيت به أسداً والمعنى فاسأل الله الخبير بالأشياء .
قال الزمخشري : أو فاسأل بسؤاله خبيراً كقولك : رأيت به أسداً ، أي برؤيته انتهى . قال الكلبي : فاسأل خبيراً به ، فقوله : « به » يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والاستواء على العرش ، والباء من صلة الخبير ، وذلك الخبير هو الله تعالى؛ لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق السموات والأرض ، ولا يعلمها أحد إلا الله تعالى ، ف « خَبِيراً » مفعول « اسْأَل » على هذا ، أو منصوب على الحال المؤكدة ، واستضعفه أبو البقاء .

قال : ويضعف أن يكون « خَبِيراً » حالاً من فاعل « اسْأَلْ » ؛ لأن « الخبير » لا يسأل إلا على جهة التوكيد كقوله : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً } [ البقرة : 91 ] . ثم قال : ويجوز أن يكون حالاً من « الرَّحْمَنُ » إذا رفعته ب « اسْتَوَى » . والثاني : أن تكون الباء بمعنى « عن » إما مطلقاً وإما مع السؤال خاصة كهذه الآية الكريمة ، وكقول علقمة بن عبدة :
3880- فإنْ تَسَْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
والضمير في « به » لله تعالى ، و « خَبِيراً » من صفات الملك وهو جبريل قال ابن عباس : إن ذلك الخبير هو جبريل - عليه السلام - وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم وهو قول الزجاج والأخفش . ويجوز على هذا أي : كون « خَبِيراً » من صفات جبريل ، أن تكون الباء على بابها ، وهي متعلقة ب « خبير » كما تقدم ، أي : فاسأل الخبراء به .
وقال ابن جرير : الباء في « بِهِ » صلة ، والمعنى : فاسأله خبيراً و « خَبِيراً » نصب على الحال . وقيل : قوله : « بِهِ » يجري مجرى القسم كقوله : { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ } [ النساء : 1 ] .
قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن } الآية . قال أكثر المفسرين : الرحمن اسم من أسماء الله مكتوب في الكتب المتقدمة والعرب ما عرفوه .
قال مقاتل : « إن أبا جهل قال : إن الذي يقول محمد شعر ، فقال عليه السلام : » الشعر غير هذا إن هذا إلا كلام الرحمن « ، فقال أبو جهل : بخ بخ لعمري والله إنه لكلام الرحمن الذي باليمامة هو يعلمك ، فقال عليه السلام : » الرحمن الذي في السماء ومن عنده يأتيني الوحي « ، فقال : يا أبا غالب من يعذرني من محمد يزعم أن الله واحد وهو يقول : الله يعلمني والرحمن ، ألستم تعلمون أنهما إلهان » قال القاضي : والأقرب أن مرادهم إنكار الله لا الاسم ، لأن هذه اللفظة عربية وهم كانوا يعلمون أنها تفيد المبالغة في الإنعام ، ثم إن قلنا : إنهم كانوا منكرين ( لله كان قولهم ) : « وَمَا الرَّحْمَن » سؤال عن الحقيقة كقول فرعون : { وَمَا رَبُّ العالمين } [ الشعراء : 23 ] ، وإن قلنا : إنهم كانوا مقرين بالله لكنهم جهلوا كونه تعالى مسمى بهذا الاسم كان قولهم « وَمَا الرَّحْمَن » سؤال عن هذا الاسم .
قوله : { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } قرأ الأخوان بياء الغيبة ، يعنون محمداً كأن بعضهم قال لبعض : أنسجد لما يأمرنا محمدٌ أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو .

والباقون بالخطاب ، يعني لما تأمرنا أنت يا محمد .
و « ما » يجوز أن يكون بمعنى ( الذي ) ، والعائد محذوف لأنه متصل؛ لأن ( أمر ) يتعدى إلى الثاني بإسقاط الحرف ، ولا حاجة إلى التدرج الذي ذكره أبو البقاء وهو أن الأصل : لما تأمرنا بالسجود له ، ثم بسجوده ، ثم تأمرناه ، ثم تأمرنا ، كذا قدره ، ثم قال : هذا على مذهب أبي الحسن وأما على مذهب سيبويه فحذف ذلك من غير تدريج . قال شهاب الدين : وهذا ليس مذهب سيبويه . ويجوز أن تكون موصوفة ، والكلام في شهاب الدين : وهذا ليس مذهب سيبويه . ويجوز أن تكون موصوفة ، والكلام في عائدها موصوفة كهي موصولة ويجوز أن تكون مصدرية ، وتكون اللام للعلة ، أي : أنسجد من أجل أمرك وعلى هذا يكون المسجود له محذوفاً ، أي : أنسجد للرحمن لما تأمرنا ، وعلى هذا لا تكون « ما » واقعة على العالم ، وفي الوجهين الأوليين يحتمل ذلك وهو المتبادر للفهم .
قوله : « وَزَادَهُمْ نُفُوراً » قول القائل لهم اسجدوا للرحمن . نفوراً عن الدين والإيمان . ومن حقه أن يكون باعثاً على الفعل والقبول ، قال الضحاك : سجد الرسول وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعثمان بن مظعون وعمرو بن عنبسة ، ولما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين من هذا ، وهو المراد من قوله « وَزَادَهُمْ نُفُوراً » أي : فزادهم سجودهم نفوراً .

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)

قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً } الآية .
لما حكى مزيد نفور الكفار عن السجود ، وذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن فقال : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً } تقدم القول في « تَبَارَكَ » ، قال الحسن ومجاهد وقتادة ورواية عن ابن عباس البروج هي النجوم الكبار سميت بروجاً لظهورها ، لأن اشتقاق البرج من التبرج وهو الظهور .
وقال عطية العوفي : البروج هي القصور العالية ، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها ، وهذا أولى لقوله تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا } أي : في البروج فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون قوله « فيها » راجعاً إلى السماء دون البروج؟
فالجواب : لأن البروج أقرب ، فعود الضمير إليها أولى .
وروى عطاء عن ابن عباس : هي البروج الاثنا عشر .
قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً } . قرأ الجمهور بالإفراد ، والمراد به الشمس لقوله تعالى : { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } [ نوح : 16 ] ، ويؤيده أيضاً ذكر القمر بعده . والأخوان « سُرُجاً » بضمتين جمعاً نحو حُمُر في حِمَار ، وجمع باعتبار الكواكب النيرات ، وإنما ذكر القمر تشريفاً له كقوله : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] بعد انتظامهما في الملائكة . وقرأ الأعمش والنخعي وعاصم في رواية عصمة « وقُمْراً » بضمة وسكون وهو جمع قَمْراء كحُمْر في حَمْرَاء ، والمعنى : وذا ليال قمر منيراً ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ثم التفت إلى المضاف بعد حذفه فوصفه تمييزاً ، ولو لم يعتبره لقال : منيرة ، ونظير مراعاته بعد حذفه قول حسان :
3881- يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَرِيصَ عَلَيْهِمْ ... بَرَدَى يُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
الأصل : ماء بردى ، فحذفه ثم راعاه في قوله : ( يصفق ) بالياء من تحت ولو لم يكن ذلك لقال : تصفق بالتاء من فوق على أن بيت حسان يحتمل أن يكون كقوله :
3882- وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَها ... مع أن ابن كيسان يجيزه سعة .
وقال بعضهم : لا يبعد أن يكون القُمْر بمعنى القَمَر كالرُّشد والرَّشد .
قوله تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً } الآية .
في « خِلْفَةً » وجهان : أحدهما : أنه مفعول ثان . والثاني : أنه حال بحسب القولين في « جعل » . و « خلفة » يجوز أن تكون مصدراً من خلفه يخلفه إذا جاء مكانه ، وأن يكون اسم هيئة منه كالرّكبة ، وأن يكون من الاختلاف .
كقوله :
3883- وَلَهَا بِالمَاطِرُونِ إذَا ... أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا
خِلْفَةً حَتَّى إذَا ارْتَبَعتْ ... سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا
في بُيُوتٍ وَسْطَ دَسْكرةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا
ومثله قوله زهير :
3884- بِهَا العِيْنُ والآرامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وأفرد « خِلْفَةً » قال أبو البقاء : لأن المعنى يخلف أحدهما الآخر ، فلا يتحقق هذا إلا منهما .
قال ابن عباس : جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل فيه ، فمن فرط في عمل في أحدهما قضاه في الآخر ، جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال فاتتني الصلاة الليلة فقال : أدرك ما فاتتك من ليلتك في نهارك فإن الله عز وجل جعل الليل والنهار خلفة .

وقال مجاهد وقتادة والكسائي : يقال لكل شيئين اختلفا : هما خلفان ، فقوله : « خلفة » أي مختلفين ، هذا أسود ، وهذا أبيض ، وهذا طويل ، وهذا قصير . والأول أقرب .
{ لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } قراءة العامة بالتشديد ، وقرأ حمزة بالتخفيف ، وعن أبيّ بن كعب « يتذكر » . والمعنى : لينظر الناظر في اختلافهما ، فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال ، من ناقل ومغير فيتعظ .
{ أو أراد شكوراً } قال مجاهد : أي شكر نعمة ربه عليه فيها . والشُّكُور بالضم مصدر شَكَرَ شُكُوراً بمعنى الشُّكر ، وبالفتح صيغة مبالغة .

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)

قوله تعالى : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ } { عِبَادُ الرحمن } رفع بالابتداء ، وفي خبره وجهان :
أحدهما : الجملة الأخيرة في آخر السورة « أُولَئِكَ يُجْزَونَ » ، وبه بدأ الزمخشري و « الَّذِينَ يَمْشُونَ » وما بعده صفات للمبتدأ .
والثاني : أن الخبر « يَمْشُونَ » . والعامة على « عِبَادِ » ، [ واليمانيّ بضم العين وتشديد الباء جمع عابد ، والحسن « عُبُد » بضمتين .
والعامة « يَمْشُون » بالتخفيف مبنياً للفاعل ] ، واليماني والسلمي بالتشديد مبنياً للمفعول .
فصل
هذه الإضافة للتخصيص والتفضيل وإلا فالخلق كلهم عباد الله .
قوله : « هَوْناً » إما نعت مصدر ، أي : مشياً هوناً ، وأما حال أي : هَيِّنينَ ، والهون : اللين والرفق ، أي يمشون بالسكينة والوقار متواضعين ، ولا يضربون بأقدامهم أشراً وبطراً ولا يتبخترون خيلاء . وقال الحسن : علماء حكماء .
وقال محمد ابن الحنفية : أصحاب وقار وعفّة لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا { وإذا خاطبهم الجاهلون } يعني السفهاء بما يكرهونه « قَالُوا سَلاَماً » . قال مقاتل : قولاً يسلمون فيه من الإثم . وقيل : المعنى : لا نجاهلكم . وقيل : المراد حلمهم في مقابلة الجهل . وقال الأصم : « قَالُوا سَلاَماً » أي : سلام توديع لا محبة ، كقول إبراهيم - عليه السلام - لأبيه : « سَلاَمٌ عَلَيْكَ » .
قال الكلبي وأبو العالية : نسختها آية القتال .
قوله : « سَلاَماً » يجوز أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر أي : نسلم سلاماً أو نسلم تسليماً منكم لا نجاهلكم فأقيم السلام مقام التسليم ، ويجوز أن ينتصب على المفعول به ، أي : قالوا هذا اللفظ ، قال الزمخشري : أي قالوا سداداً من القول يسلمون فيه من الأذى ، والمراد سلامتهم من السفه ، كقوله :
3885- أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
ورجح سيبويه أن المراد بالسلام السلامة لا التسليم ، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالتسليم على الكفرة ، وإنما أمروا بالمسالمة ، ثم نسخ ذلك ، ولم يذكر سيبويه نسخاً إلا في هذه الآية .
قوله : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } . لما ذكر وصفهم بالنهار من وجهين :
أحدهما : ترك الإيذاء بقوله : { يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } .
والثاني : تحمل الإيذاء بقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } شرح صفتهم في الليل . قال الزجاج : كل من أدركه الليل قيل : بات وإن لم ينم كما يقال : بات فلان قلقاً . والمعنى يبيتون لربهم سجداً على وجوههم ، وقياماً على أقدامهم قال ابن عباس : من صلى بعد العشاء ركعتين فقد بات ساجداً وقائماً . وروى عثمان بن عفان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة » .
قوله : « سُجَّداً » خبر « يَبِيتُون » ، ويضعف أن تكون تامة .

أي : دخلوا في البيات ، و « سُجَّداً » حال و « لِرَبِّهِمْ » متعلق ب « سُجَّداً » . وقدم السجود على القيام وإن كان بعده في الفعل ، لاتفاق الفواصل . و « سُجَّداً » جمع ساجد كضُرَّاب في ضارب .
وقرأ أبو البرهسيم « سُجُوداً » بزنة قعود ، ويبيت هي اللغة الفاشية ، وأزد السَّراة وبجيلة يقولون : يبات ، وهي لغة العوام اليوم .
قوله : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ } . قال ابن عباس : يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول .
قوله : « غَرَاماً » أي : لازماً دائماً ، وعن الحسن : كل غريم يفارق غريمه إلاّ غريم جهنم . وأنشد بشر بن أبي خازم :
3886- وَيَومَ النِّسَار وَيَوْمَ الجِفَا ... رِ كَانَا عَذَاباً وَكَانَ غرَاما
وقول الأعشى :
3887- إن يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَاماً وإن يُعْ ... طِ جَزِيلاً فإنَّهُ لاَ يُبَالِي
ف ( غَرَاماً ) بمعنى شر لازم ، وقيل : خسراناً ملحّاً لازماً ، ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه ، ويقال : فلان مغرم بالنساء ، إذا كان مولعاً بهن ، وسأل ابن عباس نافع بن الأزرق عن الغرام فقال : هو الوجع .
قوله : { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } . يجوز أن تكون « ساءت » بمعنى أحزنت ، فتكون متصرفة ناصبة المفعول ، وهو هنا محذوف ، أي : أنها يعني جهنم أحزنت صحابها و « مُسْتَقرًّا » يجوز أن تكون تمييزاً وأن تكون حالاً .
ويجوز أن تكون « سَاءَتْ » بمعنى بئست ، فتعطي حكمها ، ويكون المخصوص بالذم محذوفاً ، وفي « ساءت » ضمير مبهم يفسره مستقر و « مستقراً » يتعين أن يكون تمييزاً ، أي : سَاءَتْ هي ، فهي مخصوص وهو الرابط بين هذه الجملة وبين مَا وَقَعَتْ خبراً عنه ، وهو « إنَّها كذا قدَّره أبو حيان ، وقال أبو البقاء : » مُسْتَقَرًّا « تمييز ، و » سَاءَتْ « بمعنى بئْسَ . فإن قيل : يلزم من هذا إشكال ، وذلك أنه يلزم تأنيث فعل الفاعل المذكَّر من غير مسوِّغ لذلك ، فإنَّ الفاعل في » سَاءَتْ « على هذا يكون ضميراً عائداً على ما بعده ، وهو » مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً « ، وهما مذكران ، فن أين جاء التأنيث؟
والجواب : أن المستقرَّ عبارة عن جهنَّم فلذلك جاز تأنيث فعله ، ومثله قوله :
3888- أَوْ حُرَّةٌ عَيْطَلٌ ثَيْجَاءَ مُجْفَرَةٍ ... دَعَائِمَ الزَّوْرِ نِعْمَتْ زَوْرَقُ البَلَدِ
و » مُسْتَقرًّا وَمُقَاماً « قيل : مترادفان ، وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما . وقيل : بل هما مختلفا المعنى ، فالمستقرُّ للعصاة ، فإنهم يخرجون ، والمقام للكُفَّار فإنهم مخلدون . فإن قيل : إنهم سألوا الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم لعلتين : إحداهما : أن عذابها كان غراماً . والثانية : أنها ساءت مستقراً ومقاماً فما الفرق بين الوجهين؟
فالجواب : قال المتكلمون : عقاب الكافر يجب أن يكون مضرّة خالصة عن شوائب النفع ( دائمة ، فقوله : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } إشارة إلى كونه مضرّة خالصة عن شوائب النفع ) وقوله : { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } إشارة إلى كونه دائماً ، فحصلت المغايرة .

وقرأت فرقة « مَقَاماً » بفتح الميم ، أي : مكان قيام .
وقراءة العامة هي المطابقة للمعنى ، أي : مكان إقامة وثُوِيٍّ .
وقوله : { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً } يحتمل أن يكون من كلامهم ، فتكون منصوبة المحل بالقول ، وأن يكون من كلام الله تعالى .
قوله : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } .
قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء من يَقْتُرُوا ، وابن كثير وأبو عمرو بالفتح والكسر ، ونافع وابن عامر بالضم والكسر من أقتر ، وعليه { وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] وأنكر أبو حاتم أقْتَرَ ، وقال : لا يناسب هنا ، فإن أَقْتَرَ بمعنى افتقر ، ومنه { وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] وردَّ عليه بأن الأصمعي وغيره حكوا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّقَ . وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء مشددة من قَتَّر بمعنى ضيَّق ، وكلها لغات ، والقَتْر والإقْتَار والتَّقْتير ( التضييق الذي هو نقيض ) الإسراف ، والإسراف مجاوزة الحد في النفقة .
فصل
المراد من الآية القصد بين الغلو والتقصير ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] . وسأل ابن الورد بعض العلماء ما البناء الذي لا سَرَف فيه؟ قال : ما سترك عن الشمس ، وأكنَّك من المطر . وقال له ما الطعام الذي لا سرف فيه؟ فقال : ما سد الجوعة ، وقال له في اللباس : ما ستر عورتك وأدفأك من البرد .
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : الإسراف في النفقة في معصية الله تعالى ، والإقتار : منع حق الله تعالى .
قال مجاهد : لو أنفق الرجل مثل ( أبي ) قبيس ذهباً في طاعة الله لم يكن مسرفاً . وأنشدوا :
3889- ذِهَابَ المَالِ في حَمْدٍ وَأَجْرٍ ... ذِهَابٌ لاَ يُقَالُ لَهُ ذِهَابُ
وقيل : السرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع وإن كان من حلال ، لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء .
قوله : { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } في اسم « كان » وجهان :
أشهرهما : أنه ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله « أَنْفَقُوا » . أي : وكان إِنْفَاقهم مستوياً قصداً لا إسرافاً ولا تقتيراً ، وفي خبرها وجهان :
أحدهما : هو « قَوَاماً » و « بَيْنَ ذَلِكَ » إما معمول له ، وإما ل « كان » عند من يرى إعمالها في الظرف ، وإما المحذوف على أنه حال من « قَوَاماً » ، ويجوز أن يكون { بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } ، خبرين ل « كان » عند من يرى ذلك ، وهم الجمهور خلافاً لابن درستويه .
والثاني : أن الخبر « بَيْنَ ذَلِكَ » و « قَوَاماً » حال مؤكدة .
والثاني من الوجهين الأولين : أن يكون اسمها « بَيْنَ ذَلِكَ » وبُنِيَ لإضافته إلى غير متمكنٍ ، و « قَوَاماً » خبرها قاله الفراء . قال الزمخشري : وهو من جهة الإعراب لا بأس به ( ولكنه من جهة المعنى ) ليس بقوي؛ لأن ما بين الإسراف والتقتير قَوامٌ لا محالة فليس في الخبر الذي هو مُعْتَمَدُ الفائدة فائدةٌ .
قال شهاب الدين : وهو يشبه قولك : كان سيِّد الجارية مالكها . قال ثعلب : القوام - بالفتح - ( العدل والاستقامة ، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر .
وقال الزمخشري : القوام ) العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ، وبالكسر ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص . وقرأ حسان بن عبد الرحمن « قِوَاماً » يكسر القاف ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : بالكسر اسم ما يقام به الشيء وقيل : بمعنى سداداً وملاكاً .

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)

قوله : { والذين لاَ يَدْعُونَ } الآية . قال ابن عباس : إن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت هذه الآية ، ونزل « يَا عِبَادِيَ » { الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } [ الزمر : 53 ] وروي « أن رجلاً قال : يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله؟ قال : » أن تدعو لله نداً وهو خلقك « قال : ثم أي؟ قال : » ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك « قال : ثم أي؟ قال : » أن تُزَاني حليلة جارك « فأنزل الله تصديقها هذه الآية .
فإن قيل : إن الله تعالى ذكر أن من صفات عباد الرحمن الاحتراز عن الشرك والقتل والزنا ، فلو كان الترتيب بالعكس كان أولى؟ فالجواب : أن الموصوف بتلك الصفات السالفة قد يكون متمكناً بالشرك تديناً ، ويقتل المولود تديناً ، ويزني تديناً ، فبين تعالى أن المرء لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يتجنب هذه الكبائر . وأجاب الحسن فقال : المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال : وعباد الرحمن هم الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، وأنتم تدعون ، » وَلاَ يَقْتُلُونَ « وأنتم تقتلون الموءودة ، » وَلاَ يَزْنُونَ « وأنتم تزنون .
قوله : » إلاَّ بالحَقِّ « يجوز أن تتعلق الباء بنفس » يَقْتلُون « أي : لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، وأن تتعلق بمحذوف على أنها صفة للمصدر ، أي : قَتْلاً مُلْتَبِساً بالحق ، أو على أنها حال أي : إلاَّ مُلْتَبِسِينَ بالحق .
فإن قيل : من حلَّ قتله لا يدخل في النفس المحرمة ، فكيف يصحّ هذا الاستثناء فالجواب : أن المقتضي لحرمة القتل قائم أبداً ، وجواز القتل إنما ثبت بمعارض ، فقوله : » حَرَّمَ اللَّهُ « إشارة إلى المقتضي ، وقوله : » إلاَّ بالحَقِّ « إشارة إلى المعارض والسبب المبيح للقتل هو الردة ، والزنا بعد الإحصان ، وقتل النفس المحرمة .
قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } هذه إشارة إلى جميع ما تقدم ، لأنه بمعنى ما ذكر ( فلذلك وحِّدَ ) .
قوله : » يَلْقَ « قراءة العامة مجزوماً على جزاء الشرط بحذف الألف ، وقرأ عبد الله وأبو رجاء » يَلْقَى « بإثباتها كقوله : » فلا تَنْسَى « على أحد القولين ، وكقراءة { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى } [ طه : 77 ] في أحد القولين أيضاً ، وذلك بأن نقدر علامة الجزم حذف الضمة المقدرة . وقرأ بعضهم » يُلَقَّ « بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقاه كذا . والأثام مفعول على قراءة الجمهور ، ومفعول ثان على قراءة هؤلاء والأثام العقوبة ، قال :

3890- جَزَى اللَّهُ ابْنَ عُرْوَةَ حَيْثُ أَمْسَى ... عُقُوقاً وَالعُقُوقُ لَهُ أَثَامُ
أي عقوبةٌ .
وقيل : هو الإثم نفسه ، أي : يَلْقَ جَزَاءَ إثْمٍ . قال أبو مسلم : والأثام والإثم واحد ، والمراد هاهنا جزاء الأثام ، فأطلق اسم الشيء على جزائه .
وقال الحسن : الأثام اسم من أسماء جهنم ، وقال مجاهد : اسم وادٍ في جهنم وقيل : بئر فيها . وقرأ ابن مسعود : « أَيَّاماً » جمع يومٍ ، يعني شدائد ، والعرب تعبر عن ذلك بالأيَّام ، يقال : يوم ذو أيام لليوم الصعب .
قوله : « يُضَاعَفْ » قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع « يُضَاعَف » و « يَخْلُدُ » على أحد وجهين : إمَّا الحال ، وإمَّا على الاستئناف . والباقون بالجزم فيهما بدلاً من « يَلْقَ » بدل اشتمال ، ومثله قوله :
3891- مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا في دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تأَجَّجَا
فأبدل من الشرط كما أبدل هنا من الجزاء . وابن كثير وابن عامر على ما تقدم لهما في البقرة من القصر والتضعيف في العين . ولم يذكر أبو حيان ابن عامر مع ابن كثير وذكره مع الجماعة في قُرَّائهم . وقرأ أبو جعفر وشيبة « نُضَعِّف » بالنون مضمومة وتشديد العين ، « العذَابَ » نصباً على المفعول به . وطلحة « يضاعف » مبنياً للفاعل ، أي : الله « العذاب » نصباً ، وطلحة بن سليمان « وتَخْلُد » بتاء الخطاب على الالتفات ، وأبو حيوة « وَيُخَلَّد » مشدداً مبنياً للمفعول . وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنه بالتخفيف .
و « مُهَاناً » حال ، وهو اسم مفعول من أَهَانَهُ يُهِينُه ، أي : أَذَلَّه وأَذَاقَهُ الهَوَانَ .
فصل
قال القاضي : بَيّن الله تعالى ( أن ) المضاعفة والزيادة يكون حالها في الزيادة كحال الأصل ، فقوله : « وَيَخْلُد فِيهِ » أي : ويخلد في ذلك التضعيف ، وذلك إنما حصل بسبب العقاب على المعاصي ، فوجب أن يكون عقاب هذه المعاصي في حق الكافر دائماً ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون في حق المؤمن كذلك؛ لأن حاله فيما يستحق به لا يتغير سواء فعل مع غيره ، أو منفرداً .
والجواب : لم لا يجوز أن يكون للإتيان بالشيء مع غيره أثر في مزيد القبح ، ألا ترى أن الشيئين قد يكون كل واحد منهما في نفسه حسناً وإن كان الجميع قبيحاً ، وقد يكون كل واحد منهما قبيحاً ، ويكون الجمع بينهما أقبح . وسبب تضعيف العذاب أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك فيعذب على الشرك وعلى المعاصي ، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه ، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام .
قوله : { إِلاَّ مَن تَابَ } فيه وجهان :
أحدهما : وهو الذي لم يعرف الناس غيره : أنه استثناء متصل؛ لأنه من الجنس .
والثاني : أنه منقطع . قال أبو حيان : ولا يظهر ، يعني الاتصال؛ لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب ( فيصير التقدير : إلاَّ مَنْ تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَلاَ يُضَاعَفُ لَهُ العَذَابُ ) ، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المُضَعَّف ، فالأولى عندي أن يكون استثناءً منقطعاً ، أي : لكن مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيّآتِهِمْ حَسَنَاتٍ وإذا كان كذلك فلا يلقى عذاباً ألبتة .

قال شهاب الدين : والظاهر قول الجمهور ، وأمَّا ما قاله فلا يلزم إذ المقصود الإخبار بأنَّ من فعل كذا فإنه يحلُّ به ما ذكر إلا أن يتوب ، وأمَّا إصابة أصل العذاب وعدمها فلا تعرُّض في الآية له . واعلم أن البحث الذي ذكره أبو حيان ذكره أيضاً ابن الخطيب فقال : دلت الآية على أن التوبة مقبولة ، والاستثناء لا يدل على ذلك ، لأنه أثبت أنه يضاعف له العذاب ضعفين ، فيكفي لصحة الاستثناء أن لا يضاعف للتائب ضعفين ، وإنما يدلّ عليه قوله : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } .
فصل
نقل عن ابن عباس أنه قال : توبة القاتل لا تقبل ، وزعم أن هذه الآية منسوخة ( بقوله تعالى ) : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } [ النساء : 93 ] ، وقالوا : نزلت الغليظة بعد اللينة بمدة يسيرة ، وعن الضحاك ومقاتل بثمان سنين ، وتقدم في سورة النساء .
فإن قيل : العمل الصالح يدخل في التوبة والإيمان فذكرهما قبل العمل الصالح حَشْوٌ؟ فالجواب : أفردهما بالذكر لعلوّ شأنهما ولما كان لا بدَّ معهما من سائر الأعمال لا جرم ذكر عقيبهما العمل الصالح .
قوله : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } .
قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والسدي ومجاهد وقتادة : التبديل إنما يكون في الدنيا ، فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدلهم بالشرك إيماناً ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين ، وبالزنا إحصاناً وعفة . وقيل : يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات .
قال الزجاج : السيئة بعينها لا تصير حسنةً ، فالتأويل : أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة ، والكافر يُحْبِطُ اللَّه عَمَلَهُ ويثبت عليه السَّيِّئَات .
قوله : « سَيِّئَاتِهِمْ » هو المفعول الثاني للتبديل ، وهو المقيد بحرف الجر ، وإنما حذف ، لفهم المعنى ، و « حسنات » هو الأول المسرح ، وهو المأخوذ ، والمجرور بالباء هو المتروك ، وقد صرح بهذا في قوله تعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } [ سبأ : 16 ] وقال :
3892- تَضْحَكُ مِنِّي أُخْتُ ذَاتِ النِّحْييْنِ ... أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِلَوْنِ لَوْنَيْنِ ... سَوَادَ وَجْهٍ وَبَيَاضَ عَيْنَيْنِ ... وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } [ البقرة : 211 ] .
قوله : { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً } الآية . قال بعض العلماء : هذا في التوبة عن غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا ، أي : تاب من الشرك وأدى الفرائض ممن لم يقتل ولم يزن { فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله } يعود إليه بعد الموت « مَتَاباً » حسناً يفضل على غيره ممن قتل وزنا . فالتوبة الأولى وهي قوله : « وَمَنْ تَابَ » رجوعٌ عن الشرك ، والثاني رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة .
وقيل : هذه التوبة أيضاً عن جميع السيئات ، ومعناه من أراد التوبة وعزم عليها فليتب لوجه الله ، فقوله : { يَتُوبُ إِلَى الله } خبر بمعنى الأمر ، أي : ليتب إلى الله ، وقيل : معناه وليعلم أن توبته ومصيره إلى الله .

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)

قوله : { والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به ، أي : لا يحضرون الزُّور ، وفسر بالصَّنم واللهو . وقال أكثر المفسرين : يعني : الشرك .
والثاني : أنه مصدر ، والمراد شهادة الزُّور ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه . قاله علي بن أبي طالب .
وقال ابن جريج : الكذب . وقال مجاهد : أعياد المشركين . وقيل : النوح . وقال قتادة : لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم . وكل هذه الوجوه محتملة .
وأصل « الزُّور » : تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته ، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق .
قوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } أي : بأهله . قال مقاتل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا كقوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] .
وقال الحسن والكلبي : اللغو : المعاصي كلها مما يجب أن يلغى ويتر .
« مَرُّوا كِرَاماً » مسرعين معرضين ، يقال : تكرّم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه .
قوله : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } النفي متسلط على القيد ، وهو الصمم والعمى ، أي : إنَّهم يخرُّون عليها لكن لا على هاتين الصفتين .
قال الزمخشري : فقوله : { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا } ليس بنفي للخرور ، وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى ، كما تقول : لا يلقاني زيد مسلماً . هو نفي للسلام لا للقاء ، والمعنى : أنهم إذا ذكروا بها أكبّوا عليها حرصاً على استماعها ، وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية ويبصرون بعيون واعية ، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها مظهرين الحرص الشديد على استماعها ، وهم كالصُّمِّ والعميان حيث لا يفهمونها ، ولا يبصرون ما فيها ، وفيه تعريض بالمنافقين .

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)

قوله : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا } .
يجوز أن تكون « من » لابتداء الغاية ، أي : هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من طاعة وصلاح ، وأن تكون للبيان ، قاله الزمخشري وجعله من التَّجريد ، أي : هب لنا قُرَّة أعْيُنٍ من أزواجنا كقولك رأيتُ مِنْكَ أسَداً .
وقرأ أبو عمرو والأخوان وأبو بكر « ذُرِّيَّتِنَا » بالتوحيد ، والباقون بالجمع سلامة وقرأ أبو هريرة وأبو الدرداء وابن مسعود « قُرَّاتِ » بالجمع ، وقال الزمخشري : أتى هنا ب « أَعْيُنٍ » صيغة القلة دون ( عُيُونٍ ) صيغة الكثرة ، إيذاناً بأنَّ عيون المتقين قليلة بالنسبة إلى عيون غيرهم . وردَّه أبو حيان بأن أعيُناً يطلق على العشرة فما دونها ، وعيون المتقين كثيرة فوق العشرة . وهذا تحمُّلٌ عليه ، لأنَّه إنما أراد القلة بالنسبة إلى كثرة غيرهم ، ولم يُرِدْ قَدْراً مخصوصاً .
فصل
أراد قرة أعين لهم في الدين لا في الدنيا من المال والجمال ، قال الزجاج : يقال : أقرَّ الله عينك ، أي : صادف فؤادك ما يحبه وقال المفضل : في قرة العين ثلاثة أقوال :
أحدها : برد دمعتها ، وهي التي تكون مع السرور ، ودمعة الحزن حارة .
الثاني : فرحها ، لأنه يكون مع ذهاب الحزن والوجع .
الثالث : قال الأزهري : حصول الرضا .
قوله : { واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } في « إمَاماً » وجهان :
أحدهما : أنه مفرد ، وجاء به مفرداً إرادة للجنس ، وجنسه كونه رأس فاصلة . ( أو المراد : اجعل كل واحد منا إماماً . كما قال { نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ الحج : 5 ] .
قال الفراء : قال « إِمَاماً » ولم يقل : أئمة . كما قال للاثنين { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] . وقيل : أراد أئمة كقوله : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } [ الشعراء : 77 ] ، وإمَّا لاتحادهم واتفاق كلمتهم ، وإمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصل كصيام وقيام .
الثاني : أنه جمع آمٍّ كحالٍّ وحلال ، أو جمع إمامة كقلادة وقلاد .
قال القفال : وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل : اجعلنا حجة للمتقين ، ومثله البينة يقال : هؤلاء بينة فلان .
فصل
قال الحسن : نقتدي بالمتقين ويقتدي بنا المتقون . وقال ابن عباس : اجعلنا أئمة هداة كما قال : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ } [ الأنبياء : 73 ] ولا تجعلنا أئمة ضلالة ، كقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار } [ القصص : 41 ] . وقيل هذا من المقلوب ، أي : واجعل المتقين لنا إماماً واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم قاله مجاهد .
فصل
قيل : نزلت الآية في العشرة المبشرين بالجنة .
قال بعضهم : هذه الآية تدل على وجوب طلب الرياسة في الدين والرغبة فيها ، قال إبراهيم - عليه السلام - { واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } [ الشعراء : 84 ] واحتج أهل السنة بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، لأن الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل ، والعلم والعمل إنما يكون بجعل الله وخلقه .
قال القاضي : المراد من هذا السؤال الألطاف التي إذا كثرت صاروا مختارين لهذه الأشياء فيصيرون أئمة .
والجواب : أن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثاً .
واعلم أنه تعالى لما بيَّن صفات المتقين المخلصين بيَّن بعده إحسانه إليهم .

أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

قوله : { أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة } أي : يثابون الغرفة ، وهي الدرجة العالية . و « الغُرْفَة » مفعول ثان ل « يُجْزَونَ » ، والغُرْفَةُ كُلُّ بِنَاء مرتفع ، والجمع غُرَفٌ .
قوله : « بِمَا صَبَرُوا » أي بِصَبْرِهم ، أي : بِسَببه أو بسبب الذي صبروه ، والأصل : صبروا عليه ، ثم حذف بالتدريج . والباء للسببية كما تقدم ، وقيل : للبدل ، كقوله :
3893- فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْماً .. ولا حاجة إلى ذلك . وذكر الصبر ولم يذكر المصبور عنه ، ليعمّ جميع أنواع المشاقّ ، ولا وجه لقول من يقول : المراد الصبر على الفقر خاصة .
قوله : « وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا » قرأ الأخوان وأبو بكر بفتح الياء وسكون اللام من لَقِيَ يَلْقَى ، والباقون بضمها ، وفتح اللام وتشديد القاف على بنائه للمفعول ، كقوله : { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [ الإنسان : 11 ] . والتحيّة الدعاء بالتعمير ، أي : بقاء دائماً ، وقيل : الملك . والسلام الدعاء بالسلامة ، أو يسلم بعضهم على بعض . وهذه التحيّة والسلام يمكن أن يكون من الله كقوله { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] . ويمكن أن يكون من الملائكة لقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ } [ الرعد : 23 - 24 ] . ويمكن أن يكون بعضهم على بعض .
قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } . وصف ذلك بالدوام بقوله : « خالدين فيها » ، وقوله : { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي : موضع قرار وإقامة ، وهذا في مقابلة قوله : { سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] أي : ما أسوأ ذاك وأحسن هذا .
قوله : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } . قال مجاهد وابن زيد : أي : ما يصنع وما يفعل بكم . قال أبو عبيدة : يقال : ما عَبَأْت به شيئاً ، أي : لم أُبَالِهِ ، فوجوده وعدمه سواء . وقال الزجاج : معناه لا وزن لكم عندي والعبء في اللغة الثقل . وقال أبو عمرو بن العلاء : ما يبالي ربكم ، ويقال : ما عبأت بك ، أي : ما اهتممت ولا اكترثت ، ويقال : عبأت الجيش وعبأته ، أي : هيأته وأعددته . قوله : « لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ » جوابها محذوف لدلالة ما تقدم ، أي : لولا دعاؤكم ما أعبأ بكم ولا أكترث ، و « ما » يجوز أن تكون نافية ، وهو الظاهر ، وقيل : استفهام ، بمعنى النفي ، ولا حاجة إلى التجوز في شيء يصح أن يكون حقيقته بنفسه . و « دُعَاؤُكُمْ » يجوز أن يكون مضافاً للفاعل ، أي : لولا تضرّعكم إليه ، ويجوز أن يكون مضافاً للمفعول ، أي : لولا دعاؤكم إيّاهُ إلى الهدى .
فصل
ومعنى هذا الدعاء وجوه :
الأول : لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كما قال تعالى : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ العنكبوت : 65 ] .
الثاني : لولا شكركم له على إحسانه ، لقوله : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } [ النساء : 147 ] .
الثالث : لولا عبادتكم .
الرابع : لولا إيمانكم .
وقيل المعنى : ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم .

وقيل : المعنى : قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه ، يعني أنه خلقكم لعبادته كما قال : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . قاله ابن عباس ومجاهد . وقيل : معناه ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة ، أو ما يفعل الله بعذابكم لولا شرككم كما قال : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } [ النساء : 147 ] .
قوله : « فَقَدْ كَذَّبْتُمْ » أيها الكافرون يخاطب أهل مكة ، يعني أن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه . وقرئ « فقد كذب الكافرون » قوله : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي : فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم ، وهذا عقاب الآخرة ، ونظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه : إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك .
قوله : « لِزَاماً » قرئ بالفتح يعني اللزوم كالثبات والثبوت .
قال ابن عباس : موتاً . وقال أبو عبيدة : هلاكاً . وقال ابن زيد : قتالاً والمعنى : يكون التكذيب لازماً لمن كذب فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله . وقال ابن جريج : عذاباً دائماً لازماً وهلاكاً مُفْنِياً يلحق بعضكم ببعض . قال ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومجاهد ومقاتل : هو يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة لازماً لهم . وقال عبد الله بن مسعود : خمس قد مضين الدخان والقمر واليوم والبطشة واللزام : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } . روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورة الفرقان بعثه الله يوم القيامة وهو يؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، ودخل الجنة بغير حساب » .

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)

قوله تعالى : { طسم تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } .
أظهر حمزة نُونَ « سِين » قبل الميم ، كأنا ناوٍ الوقف ، وإلاّ فإدغام مثله واجب والباقون يدغمون . وتقدم إعراب الحروف المقطعة . وفي مصحف عبد الله : « ط س م » مقطوعة من بعضها . قيل : وهي قراءة أبي جعفر ، يعنون أنه يقف على كل حرف وقفة يميز بها كل حرف ، وإلا لم يتصور أن يلفظ بها على صورتها في هذا الرسم وقرأ عيسى - وتروى عن نافع - بكسر الميم هنا وفي القصص على البناء . وأمال الطاءَ الأخوان وأبو بكر ، وقد تقدم . روى عكرمة عن ابن عباس قال : ( طسم ) عجزت العلماء عن علم تفسيرها . وروى عليّ بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أنه قسم ، وهو من أسماء الله تعالى . وقال قتادة : اسم من أسماء القرآن . وقال مجاهد : اسم للسورة . وقال محمد بن كعب القرظي : قسمٌ بطوله وسناه وملكه . « تِلْكَ آيَاتُ » أي : هذه الآيات آيات « الكِتَابِ المُبِينِ » قوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } . قرأ قتادة : « بَاخِعٌ نَفْسِكَ » على الإضافة . والمعنى قاتل نفسك { أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي : إن لم يؤمنوا ، وذلك حين كذبه أهل مكة فشق عليه ذلك ، وكان يحرص على إيمانهم ، فأنزل الله هذه الآية ، وهذا تسليَة للرسول ، أي : لا تبالغ في الحزن والأسف ، فصبّره وعزَّاه وعرّفه أن غمه وحزنه لا ينفع ، كما أن وجود الكتاب ووضحوه لا ينفع .
قوله : { إِنْ نَّشَأْ نُنَزِّلْ } . العامة على نون العظمة فيهما . وروي عن أبي عمرو بالياء فيهما ، أي : إِنْ يَشَأ الله يُنزِّل . و « إن » أصلها أن تدخل على المشكوك فيه أو المحقق المبهم زمانه ، والآية من هذا الثاني .
قوله : « فَظَلَّتْ » عطف على « نُنَزِّلْ » فهو في محل جزم . ويجوز أن يكون مستأنفاً غير معطوف على الجزاء . ويؤيد الأول قراءة طلحة : « فَتَظْلَل » بالمضارع مفكوكاً . قوله : « خَاضِعِينَ » . فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر عن « أَعْنَاقُهُمْ » . واستُشكِل جمعه جمع سلامة؛ لأنه مختص بالعقلاء . وأجيب عنه بأوجه :
أحدها : أن المراد بالأعناقِ : الرؤساء كما قيل : لهم وجوه وصدور ، قال :
3894 - فِي مَحْفِلٍ من نواصِي الخَيْلِ مَشْهُودِ ... الثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : فظل أصحاب الأعناق ، ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل حذف المُخْبَرِ عنه مراعاة للمحذوف ، وتقدم ذلك قريباً عند قراءة : { وَقَمَراً مُّنِيراً } [ الفرقان : 61 ] .
الثالث : أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم ، كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله :
3895 - كَمَا شَرَقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ... الرابع : أن « الأعناق » جمع « عُنُقٍ » من الناس ، وهم الجماعة ، فليس المراد الجارحة البتة ، ومنه قوله :

3896 - أَنَّ العِرَاقَ وأَهْلَهُ ... عُنُقٌ إلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا
وهذا قريب من معنى الأول ، إلا أن هذا القائل يطلق « الأعناق » على جماعة الناس مطلقاً ، رؤساء كانوا أو غيرهم .
الخامس : قال الزمخشري : أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين ، فأقحمت « الأعناق » لبيان موضع الخضوع ، وترك الكلام على أصله كقولهم : ذهَبَتْ أهل [ اليمامة ، كأن الأهل غير مذكور . قال شهاب الدين : وفي التنظير بقوله : ذهبت أهل اليمامة ] نظر ، لأن ( أهل ) ليس مقحماً البتة ، لأنه المقصود بالحكم ، وأما التأنيث فلاكتسابه التأنيث ( بالإضافة ) .
السادس : أنها عوملت معاملة العقلاء لمَّا أُسْنِدَ إليهم ما يكون فِعْل العقلاء ، كقوله : « سَاجِدِينَ » و « طَائِعِين » في يوسف وفصلت .
وقيل : إنما قال : « خاضِعِينَ » لموافقة رؤوس الآي .
والثاني : أنه منصوب على الحال من الضمير في « أَعْنَاقُهُم » قال الكسائي وضعفه أبو البقاء ، قال : لأن « خاضِعِين » يكون جارياً على غير فاعل « ظَلَّتْ » فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل ، فكان يجب أن يكون : خاضعين هم .
قال شهاب الدين : ولم يجر « خاضِعِين » في اللفظ والمعنى إلا على من هُوَ له ، وهو الضمير في « أَعْنَاقُهُمْ » ، والمسألة التي قالها : هي أن يجري الوصف على غير من هو له في اللفظ دون المعنى ، فكيف يلزم ما ألزمه به ، على أنه لو كان كذلك لم يلزم ما قاله ، لأن الكسائي والكوفيين لا يوجبون إبراز الضمير في هذه المسألة إذا أمن اللبسن فهو ( لا ) يلتزم ما ألزمه به ، ولو ضعف بمجيء الحال من المضاف إليه لكان أقرب ، على أنه لا يضعف؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه كقوله : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] .

وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

قوله تعالى : { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ } وعظ وتذكر { مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ } أي : محدث إنزاله فهو محدث في التنزيل . قال الكلبي : « كلما نزل من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول » .
وقوله : « إلاَّ كَانُوا » جملة حالية ، وتقدم تحقيق هذا وما قبله في أول الأنبياء . ومعنى « مُعْرِضِينَ » أي : عن الإيمان به .
قوله : « فَقَدْ كَذَّبُوا » أي : بلغوا النهاية في ردّ آيات الله ، « فَسَيَأْتِيهِمْ » أي : فسوف يأيتهم « أَنْبَاءُ » : أخبار وعواقب { مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وذلك إما عند نزول العذاب عليهم في الدنيا ، أو عند المعاينة في الآخرة كقوله تعالى : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ ص : 88 ] . قوله { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي : صنف ، والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه ، يقال : « وجه كريم » إذا كان مرضياً في حسنه وجماله . و « كتاب كريم » : إذا كان مرضياً في فوائده ومعانيه . و « النبات الكريم » : هو المرضيّ في منافعه مما يأكل الناس والأنعام يقال : نخلة كريمة : [ إذا طاب حملها ، وناقة كريمة ] : إذا كثر لبنها . قال الشعبي : الناس مثل نبات الأرض ، فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم .
قوله : « كَمْ أَنْبَتْنَا » . « كَمْ » للتكثير ، فهي خبرية ، وهي منصوبة بما بعدها على المفعول به ، أي : كثيراً من الأزواج أنبتنا ، و { مِن كُلِّ زَوْجٍ } تمييز .
وجوَّز أبو البقاء أن تكون حالاً . ولا معنى له . قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الجمع بين « كَمْ » و « كُلِّ » ولو قيل : أنبتنا فيه من زوج كريم . قلت : قد دل « كُلّ » على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل ، و « كَمْ » على أن هذا المحيط مُتَكَاثِرٌ مُفْرِطٌ في الكثرة .
قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } الذي ذكرت « لآيَةً » دلالة على لوجودي وتوحيدي وكمال قدرتي وقوله : « لِلْمؤْمِنِينَ » كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] لأنهم المنتفعون بذلك { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } : مصدقين ، أي : سبق علمي فيهم أن أكثرهم لا يؤمنون .
وقال سيبويه : ( كان ) هنا صلة ، مجازه : وما أكثرهم مؤمنين . { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } وإنما قدم ذكر « العزيز » على ذكر « الرَّحِيم » لأنه لو لم يقدِّمه لكان ربما قيل : إنه رحيم لعجزه عن عقوبتهم ، فأزال هذا الوهم بذكر « العزيز » وهو لاغالب القاهر ومع ذلك فإنه رحيم بعباده ، فإن الرحمة إذا كانت عن القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً . فإن قيل : حين ذكر الأزواج دلَّ عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة ، وكان لا يحصيها إلا عالم الغيب ، فكيف قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } ؟ وهلا قال : لآيات؟ . فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك مشاراً به إلى مصدر « أنبتنا » فكأنه قال : إن في ذلك الإنبات لآية .
والثاني : أن يراد : إن في كل واحد من تلك الأزواج لآية .

وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)

قوله تعالى : { وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى } الآية . العامل في « إذْ نَادَى » مضمر ، فقدره الزجاج : اتْلُ . وقدره غيره : اذكر . واختلف في النداء الذي سمعه موسى - عليه السلام - من الله تعالى ، فقيل : هو الكلام القديم ، فكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الذوات مع أن الدليل دل على أنها معلومة ومرتبة ، فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحرف والصوت مع أنه مسموع وقيل : كان نداء من جنس الحروف والأصوات .
وقالت المعتزلة : كان ذلك النداء حروفاً وأصواتاً علم به موسى من قبل الله تعالى فصار معجزاً ، علم به موسى أن الله تعالى مخاطب له فلم يحتج مع ذلك إلى واسطة .
قوله : { أَنِ ائت القوم الظالمين } . يجوز أن تكون « أَنْ » مفسِّرة ، وأن تكون مصدرية ، أي : بأن . قوله : « قَوْمَ فِرْعَوْنَ » . بدل أو عطف بيان ل « القَوْمَ الظَّلِمِينَ » . وقال أبو البقاء : إنه مفعول ( تَتَّقُونَ ) على قراءة من ( تَتَّقُونَ ) بالخطاب وفتح النون ، كما سيأتي . ويجوز على هذه القراءة أن يكون ماندى . قوله : « أَلاَ يَتَّقُونَ » . العامة على الياء في « يَتَّقُونَ » وفتح النون ، والمراد قوم فرعون ، والمفعول محذوف ، أي : يتقون عقابي ، [ وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار ، وحماد ، وشقيق بن سلمة بالتاء من فوق على الالتفات ، خاطبهم بذلك توبيخاً ] والتقدير : يا قوم فرعون .
وقرأ بعضهم : « يَتَّقُونِ » بالياء من تحت ، وكسر النون ، وفيها تخريجان :
أحدهما : أن « يَتَّقُونِ » مضارع ، ومفعوله ياء المتكلم اجتزئ عنها بالكسرة .
والثاني : جوَّزه الزمخشري ، أن تكون « يا » للنداء ، و « اتَّقُونِ » فعل أمر ، كقوله : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ } [ النمل : 25 ] أي : يا قوم اتقون ، أو يا ناس اتقون . وسيأتي تحقيق مثل هذا في السورة تحتها . وهذا تخريج بعيد .
وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب .
وجوّز الزمخشري أَن تكون حالاً من الضمير في « الظَّالمِينَ » أي : يظلمون غير متَّقين اللَّهَ وعقابَه ، فأُدخلت همزةُ الإنكار على الحال . وخطأه أبو حيان من وجهين :
أحدهما : أنه يلزم عنه الفصل بين الحال وعاملها بأجنبي منهما ، فإن أعرب « قَوْمَ فِرْعَوْنَ » عطف بيان ل « القَوْمَ الظَّالمينَ » .
والثاني : أنه على تقدير تسليم ذلك لا يجوز أيضاً؛ لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها ، قال : وقولك : ( جئتُ أمسرعاً ) ، إن جعلت ( مسرعاً ) معمولاً ل ( جئت ) لم يجز ، فإن أضمرت عاملاً جاز . والظاهر أن « أَلاَ » للعرض .
وقال الزمخشري : إنها ( لا ) النافية ، دخلت عليها همزة الإنكار . وقيل : هي للتنبيه .
فصل
قوله : { وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى } حين رأى الشجرة والنار { أَنِ ائت القوم الظالمين } أي : الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية ، فحكم عليهم بالظلم من وجهين :
الأول : ظلموا أنفسهم بكفرهم .

والثاني : ظلمهم بني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب . « قَوْمَ فِرْعَوْنَ » عطف « قَوْمَ فِرْعَوْنَ » على « القَوْمَ الظَّالِمينَ » فهما يدلان لفظاً على معنى واحد . « أَلاَ يَتَّقُونَ » أي : يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته . ومن قرأ « تَتَّقُونَ » بالخطاب فعلى الالتفات إليهم وصرف وجوههم بالإنكار والغضب عليهم ، كمن يشكو من جناية والجاني حاضر ، فإذا اندفع في الشكاية ، وحمي غضبه قطع بأنه يخاطب صاحبه ، وأقبل على الجاني يوبخه ويعنفه ويقول له : ألم تتق الله؟ ألم تستحي من الناس؟ فإن قيل : فما الفائدة في هذا الالتفات والخطاب مع موسى - عليه السلام - في وقت المناجاة ، والملتفت إليهم غائبون لا يشعرون؟ . قلنا : أجري ذلك في تكليم المرسل إليهم معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم ، لأنه مبلغهم ، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى ، وكم من آية نزلت في الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبراً بها ، واعتباراً بمواردها .

قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)

قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } لما أمر موسى - عليه السلام - بالذهاب إلى قوم فرعون طلب موسى - عليه السلام - أن يبعث معه هارون - عليه السلام - ثم ذكر الأمور الداعية إلى ذلك السؤال . فقوله : « أَنْ يُكَذِّبُونِ » مفعول « أَخَافُ » أي : أخاف تكذيبهم إياي .
قوله : { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ } الجمهور على الرفع ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف ، أخبر بذلك .
والثاني : أنه معطوف على خبر « إِنَّ » وقرأ زيدُ بن عليّ ، وطلحة ، وعيسى ، والأعمش بالنصب فيهما . والأعرج بنصب الأول ورفع الثاني . فالنصب عطف على صلة « أَنْ » فتكون الأفعال الثلاثة : « يُكَذَّبُونِ » وَ « يَضِيقُ » ، وَ « لاَ يَنْطَلِقُ » في حيَّز الخوف .
قال الزمخشري : « والفرق بينهما ، أي : الرفع والنصب ، أَنَّ الرفع يفيد أن فيه ثلاث عللٍ : خوفُ التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق اللسان ، والنصبُ على أنَّ خوفه متلق بهذه الثلاثة . فإن قلت : في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة ، وفي جُمْلَتِهَا نَفْيُ انطلاق اللسان ، وحقيقه الخوف إِنَّما يلحق الإنسان لأمر سيقع ، وذلك كان واقعاً ، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت : قد عَلَّقَ الخوف بتكذيبهم ، وبما يحصل له من ضيق الصدر ، والحُبْسَة في اللسان زائدة على ما كان به ، على أن تلك الحُبْسَة له من ضيق الصدر ، والحُبْسَة في اللسان زائدة على ما كان به ، على أن تلك الحُبْسَة التي كانت به زالت بدعوته . وقيل : بقيتْ منها بقيَّة يسيرة . فإن قلت : اعتذارك هذا يردّه الرفع ، لأنّ المعنى : إِنِّي خائفٌ ضيِّقُ الصدرِ غيرُ مُنْطَلِق اللسان؟ قلت : يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي » .
قوله : « فَأَرْسِلْ » أي : فأرسل جبريلَ أو الملكَ ، فحذف المعفول به ، أي : ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة . قيل : إن الله تعالى أرسل موسى .
قال السُّدِّيّ : إن موسى - عليه السلام - سار بأهله إلى مصر ، والتقى بهارون وهو لا يعرفه ، فقال : أنا موسى ، فتعارفا ، وأمره أن ينطلق معه إلى فرعون لأداء الرسالة . وقيل : أرسل جبريل إليه كما يرسل إلى الأنبياء - عليه السلام - فلما كان متعيناً لهذا الأمر حذف ذكر المرسل لكونه معلوماً .
قوله : { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } . أي : دعوى ذنب ، وهو قتله للقبطي ، أي : لهم عليَّ ذنب في زعمهم { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } أي : يقتلونني ، فقال الله تعالى : « كَلاَّ » أي : لن يقتلوك .
قوله : « فَاذْهَبَا » عطف على ما دل عليه حرف الردع من الفعل ، كأنه قيل : ارتدع عما تظن فاذهب أنت وأخوك { بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } سامعون ما تقولون قال : « مَعكُمْ » بلفظ الجمع ، وهما اثنان ، أجراهما مجرى الجماعة .

وقيل : أراد معكما ومع بني إسرائيل نسمع ما يجيبكم فرعون ، { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولاا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } إنما أفرد « رَسُول » إمَّا لأنه مصدر بمعنى : رسالة والمصدر يُوَحَّدُ ، ومن مجيء « رَسُول » بمعنى رسالة قوله :
3897 - لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أي برسالة . وإما لأنهما ذَوَا شريعة واحدة فنُزِّلا منزلة رسول .
وإما لأن المعنى : كل واحد منا رسول . وإما لأنه من وضع الواحد موضع التثنية لتلازمهما ، فصارا كالشيئين المتلازمين ، كالعينين واليدين . وحيث لم يقصد هذه المعاني طابق في قوله : { أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } [ طه : 47 ] . وقال أبو عبيد : يجوز أن يكون « الرسول » بمعنى الاثنين والجمع ، تقول العرب : هذا رسولي ووكيلي ، [ وهذان رسولي ووكيلي ] ، وهؤلاء رسولي ووكيلي ، كما قال : { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } [ الكهف : 50 ] . قوله : « أَنْ أَرْسِلْ » . يجوز أن تكون مفسِّرة ل « رَسولُ » إذا قيل : بأنه بمعنى الرسالة ، شرحا الرسالة بهذا وبيَّناها به . ويجوز أن تكون المصدرية ، أي : رسول بكذا ، والمراد من هذا الإرسال : التخلية والإرسال : كقولك : أرسل البازي .

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

قوله تعالى : { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } . العم أن في الكلام حذفاً ، وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به ، فعند ذلك قال فرعون ما قال . روي أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب : إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين . فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه ، فأديا إليه الرسالة ، فعرف موسى ، فعدد عليه نعمه أولاً ثم إساءة موسى إليه . أما النعم فهي قوله : { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } والوليد : الصبي ، لقرب عهده من الولادة . وقيل : الغلام ، تسيمة له بما كان عليه . و « وَلِيداً » حال من مفعول [ نُرَبِّك ] ، وهو فعيل بمعنى مفعول . قوله { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } قرا أبو عمرو في رواية بسكون الميم « عُمْرِكَ تخفيفاً ل » فُعُل « ، و » مِنْ عُمْرِكَ « حال من » سِنِينَ « .
قيل : لبث عندهم ثلاثين سنة ، وقيل : وكَز القبطي ، وهو ابن اثنتي عشرة سنة قوله » وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ « . قرا الشعبي : » فِعْلَتَكَ « بالكسر على الهيئة ، لأنها نوع من القتل ، وهي الوَكْزَةُ { وَأَنتَ مِنَ الكافرين } . يجوز أن يكون حالاً . قال عباس : أي : وأنت من الكافرين لنعمتي أي : وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة ، وقد افترى عليه أو جهل أمره؛ لأنه كان يعاشرهم بالتَّقيَّة ، فإن الكفر غير جائز على الأنبياء قبل النبوة . ويجوز أن يكون مستأنفاً ، ومعناه وأنت ممن عادته كفران النعم ، ومن كانت هذه حاله لم يستبعد منه قتل خواص ولي نعمه . وقيل : » مِنَ الكَافِرينَ « بفرعون وإلاهيَّته ، أو من الذين يكفرون في دينهم ، فقد كانت لهم آلهة يعبدونها بدليل قوله : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] قوله : { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } . » إذاً « هنا حرف جواب فقط . قال الزمخشري : إنها جوابٌ وجزاءٌ معاً قال : فإِنْ قُلْتَ : ( إذاً ) حرف جواب وجزاءً معاً ، والكلام وقع جواباً لفرعون ، فكيف وقع جزاء؟ قلت : قول فرعون : » وفَعَلْتَ فَعْلتكَ « فيه معنى أنك جازيت نعمتي بما فعلت ، فقال له موسى : نعم فعلتها مجازياً لك تسليماً لقوله ، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تُجَازَى بنحو ذلك الجزاء .
قال أبو حيان : وهذا مذهب سيبويه ، يعني : أنها للجزاء والجواب معاً ، قال : ولكن شراح الكتاب فهموا أنها قد تتخلف عن الجزاء ، والجواب معنى لازم لها .
فصل
واعلم أن فرعون عدد عليه نعمه من تربيته وبليغه مبلغ الرجال ، ووبخه بما جرى على يده من قتل أجناده ، وعظم ذلك بقوله : { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ } .
ولما ذكر فرعون التربية ذكر القتل ، وكانت تربيته معلومة ما أنكرها موسى - عليه السلام - وقد تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجزة وحجة لم يتغير حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم ينعم ، صار قول فرعون غير مؤثر فالإعراض عنه أولى ، ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب ، فقال : { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } أي : من الجاهلين ، أي : لم يأتني من عند الله شيء ، أو من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله ، لأأنه وكزه تأديباً ، ومثل ذلك ربما حَسُن .

وقيل : من المخطئين ، فبين أنه فعله على وجه لا تجوز المؤاخذة به ، فيعد كافراً لنعمه .
قوله : { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } . العامة على تشديد ميم « لَمَّا » وهي « لَمَّا » التي هي حرف وجوب عند سيبويه . أو بمعنى « حِينَ » عند الفارسي . روي عن حمزة بكسر اللام وتخفيف الميم ، أي : لِتَخَوُّفِي مِنْكُمْ ، و « ما » مصدرية . وهذه القراءة تشبه قراءته في « آل عمران » : { لَمَآ آتَيْتُكُم } [ آل عمران : 81 ] . وقد تقدمت مستوفاة .
( قال الزمخشري : إنما جمع الضمير في « مِنْكُمْ » و « خِفْتُكُمْ » مع إفراده في « تَمُنُّهَا » و « عَبَّدْتَ » ، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله لقوله : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [ القصص : 20 ] ، وأما الامتنان والتعبد فمنه وحده ) .
فصل
والمعنى : إني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكاً ، وكان مني في حكم السهو ، فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار ، ومع ذلك فررت منكم لما خفتكم عن قولكم : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [ القصص : 20 ] فبين بذلك ألاّ نعمة له عليه في الفلة ، بل بأن يكون مسيئاً فيه أقرب .
فصل
وقد ورد لفظ « الفرار » على أربعة :
الأول : بمعنى الهرب ، كهذه الآية ، ومثله { لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت } [ الأحزاب : 16 ] .
الثاني : بمعنى الكراهية ، قال تعالى : { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ } [ الجمعة : 8 ] أي : تكرهونه .
الثالث : بمعنى اشتغال المرء بنفسه ، قال تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } [ عبس : 34 - 35 ] أي : لا يلتفت إليهم ، لاشتغاله بنفسه .
الرابع : بمعنى التباعد ، قال تعالى : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] أي : تباعداً . ثم بين نعم الله عليه بعد الفرار ، فكأنه قال : أسأتم وأحسن الله إليَّ بأن وهب لي حكماً . قرأ عيسى : « حُكُماً » بضم الكاف إتباعاً . والمراد بالحكم : العلم والفهم ، قاله مقاتل : وقيل : النبوة . والأول أقرب ، لأن المعطوف غير المعطوف عليه ، والنبوة مفهومة من قوله : { وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين } .
قوله : « وَتِلْكَ نِعْمَةٌ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر على سبيل التهكم ، أي : إنْ كَانَ ثمَّ نعمة فليست إلاَّ أنك جعلت قومي عبيداً لك . وقيل : « ثَمَّ » حرف استفهام محذوف لفهم المعنى ، أي : « أَوَ تِلْكَ » ، وهذا مذهب الخفش ، وجعل من ذلك :

3898 - أَفْرَحُ انْ أُرْزَأَ الكِرَامَ ... وقد تقدم هذا مشبعاً في النساء عند قوله : { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] وفي غيره .
قوله : « أَنْ عَبَّدْتَ » فيه أوجه :
أحدها : أنه في محل رفع عطف بيان ل « تِلْكَ » كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ } [ الحجر : 66 ] .
الثاني : أنها في محل نصب مفعولاً من أجله .
الثالث : أنها بدل من « نِعْمَة » .
الرابع : أنها بدل من هاء « تَمُنُّهَا » .
الخامس : أنها مجرورة بباء مقدرة ، أي : بأَنْ عَبَّدْتَ .
السادس : أنها خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي أن عَبَّدْتَ .
السابع : أنها منصوبة بإضمار « أعني » والجملة من « تَمُنُّهَا » صفة ل « نِعْمَة » و « تَمُنُّ » يتعدى بالباء ، فقيل : هي محذوفة ، أي : تَمُنُّ بها .
وقيل : ضُمِّنَ « تَمُنُّ » معنى « تَذْكُرُ » . ويقال : عبّدت الرجل وأعبدته وتعبدته واستعبدته : [ إذا اتخذته عبداً ] .
فصل
اختلفوا في تأويل « أَنْ عَبَّدْتَ » : فحملها بعضهم على الإقرار ، وبعضهم على الإنكار . وعلى كلا القولين فهو جواب لقوله : { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا } [ الشعراء : 18 ] .
فمن قال : هو إقرار ، قال : عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل ، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل ، أي : بلى و { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } وتركتني فلم تستعبدني . ومن قال : هو إنكار قال : قوله : « وَتِلْكَ نِعْمَةٌ » هو على طريق الاستفهام ، كما تقدم في إعرابها ، يعني : أَوَ تِلْكَ نعمة ، فحذفت ألف الاستفهام ، كقوله : { فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] وقال الشاعر :
3899 - تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ ... وَمَاذَا يَضِيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ
أي : أتروح من الحي ، وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة :
3900 - لَمْ أَنْسَ يَوْمَ الرَّحِيلِ وَقْفَتِهَا ... وَطَرْفُهَا فِي دُمُوعِهَا غَرِقُ
وَقَوْلَهَا والرِّكابُ واقِفَةٌ ... تَتْرُكُنِي هكَذَا وَتَنْطَلِقُ
أي : أتتركني . يقول : تمنّ عليَّ أن ربيتني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملة القبيحة . أو يريد : كيف تَمُنُّ عليَّ بالتربية ، وقد استعبدت قومي؟ ومن أُهين قومه ذلّ ، فتعبّدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليّ .
وقال الحسن : إنك استعبدت بني إسرائيل ، فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليَّ فلا نعمة لك بالتربية . وقيل : إن الذي تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا نعمة لك عليَّ ، لأن التربية كانت من قبل أمي ومن قومي ، ليس لك إلا مجرد الاسم ، وهذا ما يعدّ إنعاماً . وقيل : معناه : تَمُنَّ عليَّ بالتربية وأنت لولا استعبادك بني إسرائيل وقتلك أولادهم لما دُفِعْتُ إليك حتى ربيتني وكفلتني ، فإنه كان لي من أهلي من يربِّيني ويكفلني ، ولم يلقوني في اليمِّ ، فأيّ نعمة لك عليَّ . وقيل : معناه أنك تدَّعي أن بين إسرائيل عبيدك ، ولا مِنَّة للمولى على العبد في تربيته .

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)

قوله تعالى : { وَمَا رَبُّ العالمين } إنما أتبى ب « مَا » دون « مَنْ » لأنها يسأل بها عن طلب الماهية ، كقولك : ما العنقاء؟ ولما كان جواب هذا السؤال لا يمكن عدل موسى - عليه السلام - إلى جواب ممكن ، فأجاب بصفاته تعالى ، وخصَّ تلك الصفات لأنه لا يشاركه فيها أحد ، وفيه إبطال لدعواه أنه إله .
وقيل : جهل السؤال فأتى ب « ما » دون « مَنْ » . وليس بشيء .
وليس بشيء ، لأن أهل البيان نَصُّوا على أنها يطلب بها الماهيات ، وقد جاء ب « من » في قوله : { فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } [ طه : 49 ] .
فصل
اعلم أن فرعون لم يقل : { وَمَا رَبُّ العالمين } إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولاا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] فلا بد من أنهما قالا ذلك قين دخلا عليه ، فعند ذلك قال فرعون : { وَمَا رَبُّ العالمين } يقول : أيّ شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله إليّ يستوصفه إلاهه الذي أرسل إليه؟ وهو سؤال عن جنس الشيء ، والله منزَّه عن الجنسية . فأجابه موسى - عليه السلام - بذكر أفعاله التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها ، فقال : { رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } أنه خلقهما .
قال أهل المعاني : كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينوها ، فأيثنوا أن إله الخلق هو الله عزَّ وجل .
قوله : « وَمَا بَيْنَهُمَا » عاد ضمير التثنية على جمعين اعتباراً بالجنسين ، كما فعل ذلك في قوله :
3901 - بَيْنَ رماحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلٍ ... ولمّا ذكر موسى - عليه السلام - هذا الجواب الحق تحير فرعون في جواب موسى ، فقال لمن حوله من أشراف قومه - قال ابن عباس : كانوا خمسمائة - : « ألا تَسْتَمِعُونَ » على سيبل التعجب من جواب موسى ، يعني : أنا أطلب منه الماهية وهو يجيبني بالفاعلية . وقيل : استبعد جواب موصى وقال « أَلاَ تَسْتَمِعُونَ » لأنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم ملوكهم ، فزادهم موسى بياناً فقال : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا ، وذلك لأنه يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين واجبة لذواتها ، فهي غنية عن الخلق ، ولا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده [ كونهم واجبين لذواتهم ، لأن المشاهدة دلَّت على أنهم وجدوا ] بعد العدم ، وعدموا بعد الوجود ، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته ، واستحال وجوده إلا بالمؤثر ، فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى - عليه السلام - إليه فقال فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } يعني : أن المقصود من سؤالنا طلب الماهية والحقيقة ، والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه ، فقال موسى - عليه السلام - : { رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني ، وذلك أنه أراد ب « المَشْرِق » كلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد ب « المَغْرِب » : غروب الشمس وزوالها ، والامر ظاهر؛ لأن التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وهذا بعينه طريقة إبراهيم - عليه السلام - مع نمروذ ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة ، وهو الذي ذكره إبراهيم - عليه السلام - بقوله : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } فأجابه نمروذ :

{ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] فقال : { } وهو الذي ذكره موسى - عليه السلام - بقوله : { رَبُّ المشرق والمغرب } .
وأما قوله { إِنْ كَنْتُم تَعْقِلُونَ } فكأنه - عليه السلام - قال : إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت ، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته ، ولا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ، ولا بأجزاء حقيقته ، فلم يبق إلا أن أُعرِّف حقيقته بآثار حقيقته ، وقد عرّفت حقيقته ، فمن كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرته . واعلم أن حقيقته غير معقولة للبشر ، فيستحيل من موسى - عليه السلام - أن يذكر ما تعرف ( به تلك ) الحقيقة ، إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة ، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق ، وعدل إلى التخويف ، وقال : { لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } : المحبوسين . قال الكلبي : كان سجنه أشد من القتل ، لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فرداً لا يسمع ولا يبصر فيه شيئاً يهوي به في الأرض .
وقال : { لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } ولم يقل : « لأَسْجُنَنَّكَ » وهو أخص منه؛ لأن فيه مبالغة ليست في ذاك ، أو معناه : لأجعلنك ممن عرفت حاله في سجوني فعند ذلك ذكر موسى كلاماً مجملاً ليعلق قبله به فيعدل عن وعيده ، فقال { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } أي : هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بدليلين يدلان على وجوه الله ، وعلى أنِّي رسوله . فعند ذلك قال : { فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } وإنما قال موسى ذلك لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان فقال فرعون : « فَأْتِ بِهِ » فإنا لن نسجنك حينئذ { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فإن قيل : كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول ، وهو قوله : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } أي : بآيةٍ بيِّنة ، والمعجز لا يدل على الله لدلالة سائر ما تقدم؟
فالجواب : بل يدل على ما أراد أن يظهره من انقلاب العَصَا حَيَّةً على الله ، وعلى توحيده ، وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة ، فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم . والواو في قوله : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ } واو الحال ، دخلت عليها همزة الاستفهام ، والمعنى : أتفعل بي ذلك ولو جئتُكَ بشيء مبين؟ أي : جائياً بالمعجزة وقال الحوفي : « هي واو العطف » . وقتدم تحرير هذا عند قوله : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } [ 170 ] في البقرة ، وغالب الجمل هنا تقدم إعرابها .

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)

قوله تعالى : { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } . وعلم أن قوله : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } الشعراء : 30 ] دل على أن الله تعالى عرفه قبل إلقاء العصا بأنها تصير ثعباناً ، فلذلك قال ما قال ، فلما ألقى موسى عصاه وصارت ثعباناً ، روي أنها لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون تقول : يا موسى ، مرني بما شئت ، ويقول فرعون : ( يا موسى ) أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها ، فأخذها فعادت عصا . فإن قيل : كيف قال : « ثُعْبَانٌ مُبِينٌ » وفي آية أخرى : { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } [ طه : 20 ] وفي آية ثالثة : { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [ القصص : 31 ] والجانّ مائل إلى الصغر ، والثعبان إلى الكبر؟
فالجواب : أن الحية اسم الجنس ، ثم لكبرها صارت ثعباناً ، وشببها بالجانّ لخفتها ، وسرعتها ، فصح الكلامان . ويحتمل أنه شببها بالشيطان لقوله : { والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم } [ الحجر : 27 ] . ويحتمل أنها كانت صغيرة كالجانّ ثم عظمت فصارت ثعباناً ثم إن موسى - عليه السلام - لما أراه آية العصا قال فرعون : « هل غيرها » ؟ قال : نعم ، فأراه يده ، ثم أدخلها جيبه ، ثم أخرجها { فَإِذَاْ هِيَ بَيْضَاءُ } تضيء الوادي من شدة بياضها من غير برص ، لها شعاع كشعاع الشمس . فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر أموراً :
أحدها : قال لهم : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } وكان زمانهم زمان السحرة ، فأوهمهم أن هذا كبير من السحرة .
وثانيها : قال : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } وهذا موجب للتنفير عنه لئا يقبلوا قوله ، والمعنى : يفرق جمعكم بما يلقيه من العداوة بينكم ، ومفارقة الوطن أصعب الأمور ، وهذا نهاية ما يفعله المضل المنفر عن المحق .
وثالثها : قوله : « فَمَاذَا تَأْمُرُونَ » أي : ما رأيكم فيه ، فأظهر لهم من نفسه أني متبع لرأيكم ، ومثل هذا يوجب جذب القلوب ، وانصرافها عن العدو قوله : « حَوْلَهُ » حال من « المَلأ » ، ومفعول القول قوله : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } وقيلك صلة « لِلْملأ » ، فإنه بمعنى « الَّذِي » . وقيل : الموصول محذوف . وهما قولان للكوفيين . قال الزمخشري : « فإِننْ قٌلْتَ : قوله تعالى : ( للْمَلأ حَوْلَهُ ) فما العامل في ( حَوْلَه ) ؟ . قلت : هو منصوب نصبين : نصب في اللفظ ، ونصب في المحل . فالعامل في النصب اللفظي ما تقدم في الظرف ، ش والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال » .
قوله : « أَرْجِهْ وَأَخَاهُ » . لما قال لهم فرعون تلك الكلمات اتفقوا على جواب واحد ، وهو قولهم : « أَرْجِهْ » قرىء : « أَرْجِهْ وَأَرْجِئْهُ وأَرْجِهِ » ( بالهمز والتخفيف ، وهما لغتان ، يقال : أرجأته وأرجيته ) إذا أخرته . والمعنى : أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة . وقيل : « احبسه » { وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون السحرة ، ظنّاً منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه وكشفوا حاله .
وعارضوا قوله : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } بقولهم : { بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } فجاءوا بكلمة الإحاطة ، وبصيغة المبالغة ليطيِّبوا قبله .

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)

قوله تعالى : { فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } . اليوم المعلوم : يوم الزينة .
قال ابن عباس : وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة ، وهو يوم النيروز وميقاته : وقت الضحى ، لأنه الوقت الذي وقَّت لهم موسى - عليه السلام - من يوم الزينة في قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } [ طه : 59 ] .
قوله : { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } . والمعنى : أنهم بعثوا على الحضور ليشاهدوا ما يكون من الجانبين ولمن تكون الغلبة ، وكان موسى - عليه السلام - يطلب ذلك ليظهر حجته عليهم عند الخلق العظيم .
قوله : { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة } . أي نرجو أن تكون الغلبة لهم { إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين } لموسى . وقيل : إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء . وأرادوا ب « السَّحَرَة » : موسى وهارون وقومهما . { فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين } . [ فابتدءُوا بطلب الجزاء ، وهو إما المال وإما الجاه ، فبذلك لهم ذلك وأكّده بقوله : { وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين } ] لأنَّ نهاية مطلوبهم البذل ورفع المنزلة .

قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)

قوله تعالى : { قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } . اعلم أنهم لما اجتمعوا كان لا بد من ابتداء موسى أو ابتدائهم ، ثم إنهم تواضعوا فقدّموه على أنفسهم ، وقالوا له : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } [ الأعراف : 115 ] فلما تواضعوا له تواضع هو أيضاً لهم فقدمهم على نفسه ، وقال : { أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مَّلْقُونَ } . فإن قيل : كيف جاز لموسى - عليه السلام - أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصيّ ، وذلك سحر وتلبيس وكفر ، والأمر بمثله لا يجوز؟ فالجواب : ليس ذلك بأمر ، لأن مراد موسى - عليه السلام - منهم أن يؤمنوا به ، ولا يقدموا على ما يجري مجرى المقاتلة ، وإذا ثبت ذلك وجب تأويل صيغة الأمر ، وفيه وجوه :
أحدها : أن ذلك الأمر كان مشورطاً ، والتقدير : ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين ، كقوله : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] أي : إن كنتم قادرين .
وثانيها : لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار جائزاً .
وثالثها : أَنَّ هذا ليس بأمر ، بل هو تهديد ، أي : إن فعلتم ذلك أتينا بما يبطله ، كقول القائل : « لئن رميتني لأفعلن ولأصنعن » ثم يفوق له السهم فيقول له : « ارم » فيكون ذلك منه تهديداً .
ورابعها : أنهم لما تواضعوا ( له ) وقدموه على أنفسهم فقدمهم على نفسه رجاء أن يصير تواضعه سبباً لقبول الحق ، ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب .
قوله : { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ } . روي عن ابن عباس قال : كانت مطلية بالزئبق ، والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق ، فلما حيمت اشتدت حركتها ، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض .
قوله : « بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ » . يجوز أن يكون قَسَماً ، وجوابه : { إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } ويجوز أن يتعلق ب « الغَالِبُونَ » لأن ما في حيز « إِنَّ » لا يتقدم عليها .
قوله : { فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } تقدم خلاف القراء في « تَلْقَفُ » وقال ابن عطية هنا : وقرأ البَزِّيُّ وابنُ فُلَيح بشدِّ التَّاء وفتح اللام وشدِّ القاف ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يَجْلِبَ همزة الوصل ، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة ، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين . قال أبو حيان كأنه يُخَيَّلُ إليه أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل ، [ وهذا ليس بلازم ( و ) كثيراً ما يكون الوصل ] مخالفاً للوقف ، والوقف مخالفاً للوصل ، ومن له تَمَرُّن في القراءات عرف ذلك . قال شهاب الدين : يريد قوله : { فَإِذَا هِيَ تَلَقَّفُ } فإن البَزِّيّ يشدد التاء ، إذ الأصل : « تَتَلَقَّفُ » بتاءين ، فأدغم ، فإذا وقف على « هِيَ » وابتدأ « تَتَلَقَّفُ » فحقه أن يَفُكَّ ولا يدغم لئلا يُبْتَدأ بساكن وهو غر ممكن ، وقول ابن عطية : « ويلزم على هذه القراءة . . .

إلى خره « تضعيف للقراءة لما ذكره هو من أن همزة الوصل لا تدخل على الفعل المضارع ، ولا يمكن الابتداء بساكن ، فمن ثَمَّ ضُعِّفَتْ .
وجواب الشيخ بمنع الملازمة حسن إلا أنه كان ينبغي أن يبدل لفظة الوقف بالابتداء لأنه هو الذي وقع الكلام فيه ، أعني : الابتداء بكلمة [ » تَلَقَّفُ « ] .
قوله : » فَأُلْقِيَ « قال الزمخشري : » فإن قلت : فاعل الإلقاء ما هو لو صرِّح به؟ قلت هو الله - عز وجل - ، ثم قال : ولك ألاَّ تقدِّر فاعلاً ، لأن « أَلْقَوْا » بمعنى : خَرُّوا وسقطوا « . قال أبو حيان : وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا يبنى الفعل للمفعول إلاّ وله فاعل ينوب المفعول به عنه ، أما أنه لا يقدر له فاعل فقول ذاهبٌ عن الصواب .
فصل
تقدم الكلام على نظير هذه الآية ، واعلم أن السحرة لما شاهدوا أمراً خارجاً عن حدّ السحر لما يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين و { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } .
قوله : { رَبِّ موسى وَهَارُونَ } . عطف بيان ل » رَبِّ العَالَمِينَ « لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله . ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام : أنه الذي دعا موسى وهارون - عليهما السلام - إليه .

قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)

قوله : { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } الآيات . لما آمنوا بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول قومه : إن هؤلاء السحرة على كثرتهم وبصيرتهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى - عليه السلام - فيسلكون طريقهم ، فلبَّس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى من وجوه :
أحدها : قوله : { قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } . والمعنى : إن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على ميلكم إليه فتطرَّق التهمة إليهم فلعلهم قصروا في السحر حياله .
وثانيها : قوله : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } هذا تصريح بما رمز به أولاً ، وتعريض منه بأنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى ، وقصروا في السحر ليظهروا أمر موسى ، وإلا ففي قوة السحر أن يفعلوا مثل ما فعل ، وهذا شبهة قوية في تنفير من قَبِلَ .
وثالثها : قوله : « فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ » وهو وعيد وتهديد شديد .
ورابعها : قوله : { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين } وهذا الوعيد المفصل ، وليس في الإهلاك أقوى منه ، ثم إنهم أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين :
الأول : قوله : { لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } والضير والمضرّة واحد ، وليس المراد أن ذلك وقع ، وإنما عنوا بالإضافة إلى ما عفروه من دار الجزاء .
والجواب الثاني : قوله : { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ } وهو إشارة منهم إلى الكفر والسحر وغيرهما . والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين ، كقول إبراهيم - عليه السلام - : « وَالَّذِي أَطْمَعُ » . ويحتمل الظن ، لأن المرء لا يعلم ما سيختاره من بعد . قوله : « أَنْ كُنَّا » . قرأ العامة بفتح « أَنْ » أي : لأن كُنَّا بينوا القول بالإيمان وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ بكسر الهمزة ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنها شرطية ، والجواب محذوف لفهم المعنى ، أو متقدم عند من يجيزه .
نظيره قول القائل : « إنْ كُنْتُ عملتُ فوفِّنِي حَقِّي » مقولة لمن يؤخر جعله .
والثاني : أنها المخففة من الثقيلة ، واستغني عن اللام الفارقة لإرشاد المعنى إلى الثبوت دون النص كقوله :
3902 - وَإِنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامٌ المَعَادِنِ ... وفي الحديث : « إن كان رسول ( الله - صلى الله عليه وسلم ) - يحبُّ العسل » أي : ليحبُّه .
والمعنى على الأول : لأن كنا أول المؤمنين ، من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف ، أو يكون المراد : من السحرة خاصة ، أو من رعية فرعون ، أو من أهل زمانهم .

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)

قوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي } . قرىء « أَسْرِ » بقطع الهمزة ووصلها .
لما ظهر من أمر موسى - عليه السلام - ما شاهدوه أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل ، لما كان في المعلوم من تدبير الله وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم ، ولم يأمن . وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع في فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال ، فلذلك أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل ، وهم الذين آمنوا ، وكانوا من قوم موسى - عليه السلام - . واعلم أن في الكلام حذفاً ، وهو أنه أسرى بهم كما امره الله تعالى ، ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون : « إن لنا في هذه الليلة عيدا » ، ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب ، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر ، فلما سمع فرعون ذلك أرسل في المدائن حاشرين يحشرون الناس ، يعني الشُّرط ليجمعوا السحرة . وقيل : ليجمعوا له الجيش روي أنه كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية . و « حَاشِرِينَ » مفعول « أَرْسَلَ » ثم إنه قوى نفسه ونفس قومه بأن وصف قوم موسى بالذم ، ووصف قوم نفسه بالمدح ، أما وصفه قوم موسى - عليه السلام - بالذم ، فقال : { إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ } [ معمول لقوم مضمر ] أي : قال : إنَّ هؤلاء ، وهذا القول يجوز أن يكون حالاً ، أي : أرسلهم قائلاً ذلك ، ويجوز أن يكون مفسراً ل « أَرْسَلَ » . والشِّرْذِمَةُ : الطائفة من الناس وقيل : كل بقية من شيء خسيس يقال لها : شرذمة . ويقال : ثوب شراذم ، أي : أخلاق ، قال :
3903 - جَاءَ الشِّتَاءُ وَقَمِيصِي أَخْلاقْ ... شَرَاذِمُ تَضْحَكُ مِنْهُ الخُلاقْ
وأنشد أبو عبيدة :
3904 - في شراذم النعال ... وجمع الشرذمة : شراذم ، فذكرهم بالاسم الدال على القلة ، ثم جعلهم قليلاً بالوصف ، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً ، واختار جمع السلامة الذي هو جمع القلة .
ويجوز أن يريد بالقلة : الذلة ، لا قلة العدو ، أي : إنهم لقلتهم لا يبالى بهم .
قال ابن عباس : كان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين سنة ، ولا شيخ يوفي على الستين سوى الحشم ، وفرعون يقللهم لكثرة من معه . وهذا الوصف قد استعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه ، فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حسان وفي عسكره على لون فرسه ثمانمائة ألف .
قوله : { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ } . يقال : غَاظَهُ وَأَغَظَهُ وَغَيَّظَهُ : غذا أغضبه . والغيظ ، الغضب . والمعنى : أنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا . واختلفوا في تلك الأفعال . فقل : أخذهم الحليّ وغيره . وقيل : خروجهم عن عبوديته . وقيل : خروجهم بغير إذنه ، وقيل : مخالفتهم له في الدين .

وقيل : لأنهم لم يتخذوا فرعون إلهاً .
وأما وصفه قومه فهو قوله : { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } . قرأ الكوفيون وابن ذكوان : « حاذرون » بألف . والباقون : « حذرون » بدونها . فقال أبو عبيدة والزجاج : هما بمعنى واحد ، يقال : رجل حذر وحاذر بمعنى .
وقيل : بل بينهما فرق ، فالحذر : المتيقظ . والحاذر : الخائف . وقيل : الحذر : المخلوق مجبولاً على الحذر . والحاذر : ما عرض له ذلك .
وقيل : الحذر : المتسلح الذي له شوكة سلاح ، وأنشد سيبويه في إعمال « حَذِر » على أنه مثال مبالغة محول من حاذر قوله :
3905 - حَذِرٌ أُمُوراً لاَ تَضِيرُ وَآمِنٌ ... مَا لَيْسَ مُنْجِيهِ مِنَ الأَقْدَارِ
وزعم بعضهم أن سيبويه لمَّا سأله : هل يحفظ شيئاً في إعمال « فَعِل » ؟ صنع له هذا البيت ، فعيب على سيبويه : كيف يأخذ الشواهد الموضوعة؟
وهذا غلط ، فإن هذا الشخص قد أقر على نفسه بالكذب ، فلا يقدح قوله في سيبويه . والذي ادعى انه صنع البيت هو الأخفش . و « حَذِر » يتعدى بنفسه ، قال تعالى : { يَحْذَرُ الآخرة } [ الزمر : 9 ] ، وقال العباس بن مرداس :
3906 ... - وَإِنِّي حَاذِرٌ أَنْمِي سِلاَحِي
إلَى أَوْصَالش ذَيَّالٍ مَنِيع ... وقرأ ابن السميفع وابن أبي عمار : « حَادِرُونَ » بالدال المهملة من قولهم عين حدرة ، أي : عظيمة ، كقولهم :
3907 - وَعَيْنٌ لَهَا حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ ... والمعنى : عظيماً . وقيل : الحادر : القوي الممتلىء ، وحكي : رجل حادر ، أي : ممتلىء غيظاً ، ورجل حادر ، أي : أحمق ، كأنه ممتلىء من الحمق قال :
3908 - أُحِبُّ الغُلاَمَ السُّوءَ مِنْ أَجْلِ أُمِّه ... وَأَبْغَضُهُ مِنْ بَغْضِهَا وَهْوَ حَادِرُ
ويقال أيضاً رجل [ حَدُرٌ بزنة يقط مبالغة في ( حادر ) من هذا المعنى ، فصار يقال ] حَذِر وحَذُر وحَاذِرِ بالذال المعجمة والمهملة والمعنى مختلف .
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهو اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحديث . وإذا لم تكن كذلك وهي المشبهة [ أفادت الثبوت . فمن قرأ « حَذِرُونَ » ] ذهب إلى معنى أنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم ومن قرأ : « حَاذِرُون » ذهب إلى معنى : إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا . ومن قرأ : « حَادِرُون » بالدال المهملة ، فكأنه ذهب إلى نفي أصلاً ، لأن الحادر هو السمين ، فأراد : إنا قوم أقوياء أشداء ، أو أراد : إنا شاكون في السلاح . والغرض من هذه التقادير ألا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى ، أو خائف منهم .
قوله : « فَأَخْرَجْنَاهُمْ » . أي : خلقنا في قلوبهم داعية الخروج ، فاستلزمت الداعية الفعل ، فكان الفعل مضافاً إلى الله تعالى لا محالة .
وقوله : { مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ } أي : أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة . قال مجاهد : سماها كنوزاً ، لأنه لم يعط حق الله منها ، وما لم يعط الله منه فهو كنز وإن كان ظاهراً .
قوله : « وَمَقَامٍ » .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75