كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

فإن قيل : لمَّا أجابه الله إلى مطلوبه لزم ألاَّ يموت إلى وقت قيام القيامة ، [ و ] وقت قيام القيامة لا موت ، فلزم ألا يموت بالكلية فالجواب : يحمل قوله { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } : إلى ما يكون قريباً منه ، و [ الوقت ] الذي يموت فيه كلُّ المكلفين قريبٌ من يوم البعث .
وقيل : { يَوْمِ الوقت المعلوم } لا يعلمه إلا الله .
قيل : لم تكن إجابة الله تعالى له في الإمهالِِ إكرماً له ، بل كان زيادة في بلائه وشقائه .
قوله : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } الباء للقسم ، و « مَا » مصدرية ، وجواب القسم { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ } والمعنى : أقسم بإغوائك إيايّ ، لأزينن؛ كقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] إلاَّ أنه في هذا الموضع أقسم بعزة الله تعالى وهي من صفاتِ الذات ، وفي قوله : { بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } ، أقسم بإغواء الله ، وهو من صفات الأفعال ، والفقهاء قالوا : القسم بصفاتِ الذَّات صحيحٌ ، واختلفوا في القسم بصفاتِ الأفعال .
ونقل الواحديُّ هنا عن بعضهم : أنَّ الباء هاهنا سببية ، أي : بسبب كوني غاوياً ، لأزيننَّ؛ كقول القائل : « أقْسمَ فُلانٌ بِمعْصِيتهِ ، ليَدْخُلنَّ النَّار ، وبِطاعَتهِ ليَدْخُلنَّ الجَنَّة » .
ومعنى : { أَغْوَيْتَنِي } : أضْللْتَنِي ، وقيل : خَيَّبْتَنِي من رحمتك ، { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض } حبَّ الدنيا ، ومعاصيك .
والضمير في : « لَهُمْ » لذرية آدم عليه السلام وإن لم يجر لهم ذكر؛ للعلم بهم .
و « لإْغْوِيَنَّهُمْ » : لأضلَّنَّهُم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو : « المُخْلصِينَ » بكسر اللام ، والباقون : بفتح اللاَّم .
ومعنى القراءة الأولى : أنهم أخلصوا دينهم عن الشَّوائب؛ ومن فتح اللاَّم ، فمعناه : الذين أخلصهم الله بالهداية .
فصل
قال ابن الخطيب : « واعلم أنَّ الذي حمل » إبليس « على ذكر هذا الاستثناء ألاَّ يصير كاذباً في دعواه ، فلما احترز » إبليس « عن الكذب ، علمنا أنَّ الكذب في غاية الخساسةِ » .
فصل
قال رويمٌ : « الإخلاص في العمل : وهو الأَّ يريد صاحبه عليه عوضاً في الدَّارين ، ولا عوضاَ من المكلفين » .
وقال الجندي رضي الله عنه : الإخلاص : سرُّ بين العبد ، وبين الله تعالى لا يعلمه ملكٌ فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، ولا هوًى فيمليه .
وذكر القشيريُّ ، وغيره عن النبي صلى الله علي هوسلم أنه قال : « سَألتُ جِبْريلَ عليه السلام عن الإخْلاًِ ما هُو؟ فقالَ : سَألتُ ربَّ العِزَّةِ عَنِ الإخْلاصِ ما هُو؟ فقال : سِرِّي اسْتودَعْتهُ قلبَ مَنْ أحْبَبْتهُ مِنْ عِبَادي » .
قوله تعالى : { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ } « هَذَا » إشارة إلى الإخلاص المفهوم من المخلصين .
وقيل : إلى انتفاء تزْيينه ، وأغوائهه على من مرَّ عليه ، أي : على رضواني ، وكرامتي .
وقيل : « عَلى » بمعنى : « إلَى » ، نقل عن الحسنِ .

وقال مجاهدٌ : الحقُّ يرجع إلى الله تعالى وعليه طريقة ، لا تعرج على شيءٍ .
وقال الأخفش : يعني عليَّ الدَّلالةُ على الصراطِ المستقيم .
وقال الكسائي : هذا على التّهديد والتوعيد؛ كما يقول الرجل لمن يخاصمه : طريقتك علي أن لا تفلت منِّي ، قال تعالى : { لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] .
وقرأ الضحاك ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وأبن سيرين ، ويعقوب في آخرين : « عليُّ » ، أي : عالٍ مرتفعٌ .
وعبَّر بعضهم عنه : رفيع أن ينال « مُسْتقِيمٌ » أن يمال .
قوله تعالى : { عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } أعلم أن إبليس لما قال { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } أوهم أنَّ له سلطاناً على غير المخلصين ، فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطانٌ على أحد م نعبيد الله سواء كان مخلصاً أو غير مخلص ، لكن من اتبع منهم إبليس باختياره؛ ونظيره قوله حكاية عن إبليس : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } [ إبراهيم : 22 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 99 ، 100 ] فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً .
قال الجبائيُّ : « هذه الآية تدلُّ على بطلان قول من زعم أنَّ الشيطان ، والجنَّ يمكنهم صرع الناس ، وإزالة عقولهم » .
وقيل : الاستثناء متصلٌ؛ لأنَّ المراد ب « عِبَادي » العموم ، طائعهم ، وعاصيهم و حينئذ يلزم استثناء الأكثر من الأقلِّ .
وأراد بالعباد الخلَّص؛ لأنه أضافهم إليه إضافة تشريفٍ ، فلم يندرج فيه الغوون؛ للضمير في موعدهم .
قال القرطبي : « قال العلماء في معنى قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } : يعني على قلوبهم » .
وقال ابن عيينة : « يلقيهم في ذنب ثم أمنعهم بعفوي : أو : هم الذين هداهم الله ، واجتباهم ، وأختارهم ، واصطفاهم » .
فإن قيل : قد أخبر الله تعالى ، عن آدم ، وحواء صلوات الله وسلامه عليهما بقوله : { فَأَزَلَّهُمَا الشيطان } [ البقرة : 36 ] وعن جلمة من أصحاب نبيَّه { إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } [ آل عمران : 155 ] .
فالجواب : أنه ليس له سلطان على قلوبهم ، ولا موضع إيمانهم ، ولا يلقيهمخ في ذنب يؤول إلى عدم العفو ، بل يزيله بالتوبة ، ولم يكن خروج آدم عقوبة على ما تقدم بيانه في البقرة .
وأما أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقد مضى القول عليه في « آل عمران » ، ثم إنَّ قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } يحتمل أن يكون حاصلاً فيمن حفظ الله ، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات ، وقد يكون ي تسليطه تفريج كربه ، وإزالة عمه؛ كما فعل ببلالٍ ، إذْ أتاه يهديه ، كما يهدَّى الصبيُّ حتى نام ، ونام النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس ، وفزعوا ، وقالوا : ما كفَّارةُ ما صَنعنَا في تَفْريطِنَا في صَلاتِنَا؟ فقال لهُم النبيُّ صلى الله عليه سلم « ليْسَ في النَّوْمِ تَفْرِيطٌ » ؛ ففرَّج عَنْهُم .

وقال ابن عطيَّة : تأكيد فيه معنى الحال من الضمير في « مَوْعِدهُم » ، والعامل فيه معنى الإضافة ، قاله أبو البقاء « .
وفي مجىء الحال من المضاف إليه ، خلافٌ ، ولا يعمل فيها الموعد ، إن أريد به الكان ، فإن أريد به المصدر ، جاز أن يعمل؛ لأنه مصدرٌ ، ولكن لا بدَّ من حذف مضاف ، عي : مكان موعدهم .
قوله تعالى : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكمون خبراً ثانياً ، ولا يجوز أن تكون حالاً من » جَهنَّم « ؛ لأن » إنَّ : « لا تعمل في الحال ، قال ابو البقاء . وقياس ما ذكروه في » لَيْتَ ، وكأنَّ ، ولعلَّ « من أخواتها من أعمالها في لحال؛ لأنَّها بمعنى : تمنيَّتُ وشبهت ، وترجيت أ ، تعمل فيها » إنَّ « أيضاً؛ لأنَّها بمعنى أكدتُ ، ولذلك عملت عمل الفعل ، وهي أصل الباب .
فصل
قال عليٌّ كرم الله وجهه : هل تدرون كيف أبوا النًَّار؟ ووضع أحدى يديه على الأخرى ، أي : سبعةٌ أبوابٍ ، بضعها فوق بعض ، وأنَّ الله تعالى وضع الجنان على العرض ، ووضع النِّيران بعضها على بعض .
قال ابن جريج : النار سبع دركاتٍ : أولها جهنَّم ، ثمَّ لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية .
قال الضحاك : الطبقة الأولى : فيها أهل التوحيد ، يعذَّبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها ، والثانية : لليهود والثالثة : للنَّصار ، والرابعة : للصابئين ، وروي أن الثانية : للنصارى ، والثالثة : لليهودِ ، والرابعة للصابئين ، والخامسة : للمجوسِِ ، والسادسة : للمشركين ، والسابعة : للمنافقين؛ قال تعالى : { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } [ النساء : 145 ] .
قوله : » مِنهُمْ « يجوز أن يكون حالاً من » جُزءٌ « ؛ لأنَّه في الأصل صفة له ، فلما قدمت ، انتصبت حالاً ، ويجوز أن يكون حالاص من الضمير المستتر في الجارِّ ، وهو : » لكُلِّ بابٍ « ، والعامل في هذه الحال ، ما عمل في هذا الجارِّ ، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في : » مَقسُومٌ « ؛ لأنَّ الصفة لا تعمل فيها قبل الموصوف ، و لا يجوز أن تكون صفة ل » بابٍ « ؛ لأنَّ الباب ليس من النَّاس .
وقرأ أبو جعفر : » جُزٌّ « بتشديد الزَّاي من غير همزٍ ، فكأنه ألقى حركة الهمزة على الزَّاي ، ووقف عليها فشدَّدها؛ كقولك : » خَبّ « في » خبءُ خالد « ثم أجري الوصل مجرى الوقف .
الجُزِْءُ : بعض الشيء ، والجمع : أجزاء ، وجَزَّأتهُ : جعلته أجزاء . والمعنى : أنه تعالى يُجزِّىء أبتاع إبليس أجزاءَ ، أي : يجعلهم أقساماً ، ويدخل في كل باب من أبواب جهنَّم طائفة؛ والسبب في ذلك : أنَّ مراتبَ الكفر مختلفةٌ بالغلظةِ والخفة .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)

قوله تعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } الآياتِ ، لمَّا شرح أحوال أهل العقاب ، أتبعه بصفة أهل الثَّواب .
وروي أنَّ سلمان الفارسيِّ رضي الله عنه لما سمع قوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 43 ] مَرَّ ثلاثةُ أيَّام من الخوفِ لا يعقلُ ، فَجيء به إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم فسأله ، فقال : يا رسول الله ، نزلت هذه الآية : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 43 ] : فوالذي بعثك بالحق نبيًّا ، لقد قطعت قلبي فأنزل الله تعالى { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : [ أراد ] بالمتقين : الذين اتقوا الشِّرك بالله تعالى ، والكفر به ، وبه قال جمهور الصحابة ، والتَّابعين .
وهو الصحيح؛ لأنَّ المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة ، كما أن الضَّارب هو الآتي بالضرب ، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة ، فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضارباً ، وقاتلاً ، أن يكون آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل ، ليس من شرط صدق الوصف بكونه متَّقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى؛ لأنَّ الآتي بفردِ واحدٍ من أفراد التقوى ، يكون آتياً بالتقوى؛ لأنَّ كل فردٍ من أفراد الماهية ، يجب كونه مشتملاً على تلك الماهيَّة ، وبهذا التحقيق استدلُّوا على أنَّ الأمرَ لا يفيد التَّكرار .
وإذا ثبت هذا فنقول : أجمعت الأمة على أنَّ التقوى عن الكفر شرط في حصول المحكم بدخول الجنة .
وقال الجبائي ، وجمهور المعتزلةِ : المتقين : هم الَّذين اتَّقوا جميع المعاصي ، قالوا : لأنه اسم مدحٍ ، فلا يتناولُ إلاَّ من [ كان ] كذلك .
واعلم أنَّ الجنات أربعةٌ؛ لقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] ثم قال : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 62 ] فيكمن [ المجموع ] أربعة .
قوله : « وعُيُونٍ » : قرأ ابن كثيرٍ ، والأخوان ، وأبو بكر ، وابن ذكوان : بكسر عين « عِيُونٍ » منكراً ، والعينُّ معرف حيث وقع؛ والباقون : بالضمِّ ، وهو الأصل .
فصل
الجنَّاتُ : البَساتِينُ ، والعُيونُ : يحتمل أن يكون المراد بها الأنهار المذكمورة في قوله تعالى : { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [ محمد : 15 ] ، ويحتمل أن يكمون امراد من هذه العيون منافع مغايرة لتلك الأنهار .
قوله : { ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ } العامة على وصل الهمزة من : دَخَلَ يَدخُل ، وقد تقدم خلاف القراء في حركة هذا التنوين ، لالتقاءِ السَّاكنين في البقرة : [ 173 ] .
وقرأ يعقوب رحمه الله بفتح التنوين وكسر الخاء ، وتوجيهها : أنَّه أمرٌ من : أدْخَلَ يَدْخلُ فلما وقع بعد « عُيونِ » ألقى حركة الهمزة على التنوين؛ لأنها همزة قطع ثمَّ حذفها ، والأمر من الله تعالى ، للملائكةِ ، أي : أدخلوها أيَّاهم .
وقرأ الحسن ، ويعقوب أيضاً : « أُدخِلُوها » ماضياً مبنياً للمفعول ، إلا أنَّ يعقوب ضمَّ التنوين ووجهه : أنه أخذه من أدخل رباعياً ، فألقى حركة همزة القطع على التنوين كما ألقى حركة المفتوحةِ في قراءته الأولى ، والحسن كسرهُ على أصل التقاءِ الساكنين ، ووجهه : أن يكون أجرى همزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط .

وقراءة الأمر على إضمار القول ، أي : يقال لأهل الجنَّة : أدخلوها ، أو يقال للملائكة : أدخلوها إياهم ، وعلى قراءة الإخبار يكون مستأنفاً من غير إضمارٍ ، وقوله « بِسَلامٍ » حالٌ : أي : ملتبسين بالسلامة أو مسلماً عليكم .
و « آمنِينَ » حال أخرى ، وهي بدلٌ مما قبلها ، إما بدل كلُ من كلِّ وإما بدل اشتمالِ؛ لأن الأمن مشتملٌ على التحية أو بالعكسٍ ، والمعنى : أمنين من الموت ، والخورج ، والآفات .
فإن قيل : إن الله تعالى [ حكم ] قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون ، وإذا كانوا فيها فكيف يقال لهم : « ادْخُلُوها » ؟ .
فالجواب : أنَّهم لما ملكوا جنات كثيرة ، فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم : { ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ } .
قوله تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } الغِلُّ : الشَّحناءُ ، والعداوة الحقد الكامن ف يالقلب ، مأخوذ من قولهم : أغلَّ في جوفه ، وتغلغل .
قوله : « إخْوَاناً » يجوز أن يكون حالاً من « هُمْ » في « صُدُورهِمْ » ، وجاز ذلك‘ لأنَّ المضاف جزءُ المضاف إليه .
وقال أبو البقاءِ : والعامل فيها معنى الإلصاق ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل « ادْخُلوهَا » على أنها حال مقدرة ، قاله أبو البقاء . ولا حاجة إليه بل هو حال مقارنة .
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في قوله : « جَنَّاتٍ » .
قوله « على سُررٍ » ، يجوز أن يتعلق بنفس « إخواناً » ، لانه بمعنى متصافين ، أي : متصافين على سُررٍ ، قاله أبو البقاء؛ وفيه نظر؛ حيث تأويل جامدٍ بمشتقٍّ ، بعيد منه .
و « مُتَقابِلينَ » على هذا حالٌ من الضمير في « إخْواناً » ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة ل « إخْواناً » ، وعلى هذا ف « مُتقَابِلينَ » حالٌ من الضمير المستطنِّ في الجارِّ ، ويجوز أن يتعلق ب « مُتَقَابلينَ » ، أي : متقابلين على سررٍ ، وعلى هذا ف « مُتَقَابلينَ » من الضمير في « إخْواناً » أو صفة ل « إخْوَاناً » .
ويجوزم نصبه على المدحِ ، يعني : أنه لا يمكن أن يكون نعتاً للضمير فلذلك قطعَ .
والسُّررُ : جمع سَريرٍ ، وهو معروفٌ ، ويجوز في « سُررٍ » ، ونحوه مما جمع على هذه الصيغةِ من مضاعف « فَعِيل » فتح العين؛ تخفيفاً؛ وهي لغة بني كلبٍ وتميم ، فيقولون : سُرَرٌ وجُدَدٌ ، وذلك في جمع سرير وجديد .
قال المفضل : لأنَّهم يستثقلون الضمتين المتوالتين في حرفين من جنس واحد .

فصل
قال بعض أهل المعاني : السَّريرُ : مجلسٌ رفيعٌ مهيَّأ للسُّرورِ ، وهو مأخوذ منه؛ لأنه مجلس سرورٍ . متقابلينَ : يقالب بعضهم بعضاً ، ولا ينظر أحد منهم إلى قفا صاحبه ، والتَّقابلُ : التواجه ، وهو نقيضُ التَّدابر .
قوله : { يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } يجوز أن تكون هذه مستأنفة ، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير في « مُتَقَابلينَ » .
والنَّصَبُ : التَّعَبُ ، يقال منه : نَصِبض يَنْصَبُ فهو نَصِبٌ ونَاصِبٌ ، أنصبني كذا ، قال : [ الطويل ]
3278 تَأوَّبَنِي هَمٌّ مَعَ اللَّيْلِ مُنصِبُ ..
وهمَّ ناصبٌ ، أي : ذُو نصبٍ ، كلابن وتامر؛ قال النابغة : [ الطويل ]
3279 كِلينِي لِهَمِّ يَا أمَيْمة نَاصبٍ ... ولْلٍ أقَاسيهِ بَطيءٍ الكَواكِبِ
و « مِنْهَا » متعلقه « بمُخْرجين » .
وهذه الآية أنصُّ آيةٍ في القرآن على الخلود .

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)

قوله تعالى : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم } أثبت الهمزة الساكنة في « نَبِّىء » صورة ، وما أثبت في قوله : « دِفْءٌ » ؛ لأنَّ ما قبلها ساكنٌ ، فهي تحذف كثيراً ، وتلقى حركتها على الساكن قبلها ف « نَبِّىءْ » في الخط على تحقيق الهمزة ، وليس قبل همزة « نَبِّىْ » ساكن؛ فأخَّروها على قياس الأصل .
وقوله : أنَا الغَفورُ « يجوز في » أنَا « أن يكون تأكيداً ، أن يكون فصلاً » .
وقوله : { هُوَ العذاب } يجوزم في « هُوَ » الابتداء ، والفصل ، ولا يجوز التوكيد؛ إذ المظهر لا يؤكَّد بالمضمر .
فصل
ثبت في أصول الفقه أنَّ ترتيب الحكم على الوصف المناصب يشعر بغلبةِ ذلك الوصف ، فهاهنا وصفهم بكونهم عباده ، ثم ذكر عقب هذا الوصف الحكم بكونه غفوراً رحيماً ، وهذا يدلُّ على أنَّ كلَّ من اعترف بالعبودية ، وكان في حقِّه غفوراً رحيماً ، ومن أنكر ذلك ، كان مستوجباً للعذاب الأليم .
وفي الآية لطائف : أولها : أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله : « عِبَادي » وهذا تشريفٌ عظيمٌ ، ويدل عليه قوله : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] .
وثانيها : أنه لما ذكر المغفرة ، والرحمة بالغ في التَّأكيدات بألفاظٍ ثلاثة :
أولها : قوله : « أنِّي » .
وثانيها : « أنَا » .
وثالثها : إدخال الألف واللام على قوله : « الغَفُور الرَّحيمُ » ، ولما ذكر العذاب ، لم يقول : إني إنا ولَمْ يَصفْ نفسهُ بِذلكَ ، بل قال عزَّ وجلَّ : { عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } .
وثالثها : أنه تعالى أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يبلغ إليهم هذا المعنى ، فكأنه أشهد رسوله على نفسه بالتزام المغفرة ، والرحمة .
ورابعها : أنه تعالى لمَّا قال : { نَبِّىءْ عِبَادِي } كان معناه : كلّ من اعترف بعبوديَّتي ، وهنذا يشمل المؤمن ، والعاصي ، وكذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى .
قال قتادة : بلغنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال : « لَو يَعْلمشُ العَبدُ قَدْرِ عَفْوِ الله لمَا تورَّع عن حرامٍ ، ولوْ عَلِمَ قدر عِقابِهِ لبَخَعَ نَفْسَهُ » أي : قتلها .
وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه مرَّ بِنفَرٍ من أصحابه ، وهم يضحكُون ، فقال : أتَْضحَكُون وبيْنَ أيديكمُ النَّارُ « فنزَل جِبريلُ صلوات الله وسلامه عليه بِهذِهِ الآية ، وقال : » يقول لك يا محمَّد : لِمَ تقنط عِبادِي « .
وقال بان عبَّاسِ رضي الله عنهما : معنى : { أَنَا الغفور الرحيم } لمن تاب منهم .

وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

قوله تعالى : { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } القصَّة : لما قرَّر أمر النبوة ، أردفه بدلائل التوحيد ، ثمَّ عقبه بذكر أحوال القيامةِ ، وصفة الأشقياء ، والسعداء ، أتبعه بذكر قصص الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ، ليكن سماعها مرغِّباً للعبادة الموجبة للفوز بدرجاتِ الأولياءِ ، ومحذراً عن المعصية الموجبةِ لاستحقاقِ دركاتِ الأشقياءِ .
فقوله : « ونَبِّئْهُم » ، هذا الضمير راجعٌ إلى قوله عز وجل : عِبَادِي « ، أي : ونبِّىء عبادي ، يقال : أنْبأتُ القوم إنباءً ونَبَّأتهُم تَنْبئةً إذا أخبرتهم .
قوله : » عَن ضَيْفِ « ، أي [ أضياف إبراهيم ] ، والضَّيْفُ في الأص مصدر ضَافَ يضيفُ : إذا أتى إنساناً يطلب القوى ، وهو اسمٌ يقع على الواحدِ ، والاثنين ، والجمع ، والمذكر ، والمؤنَّث .
فِإن قيل : كيف سمَّاهم ضيفاً ، مع امتناعهم من الأكلِ؟ .
فالجواب : لمن ظنَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنَّهم إنَّما دخلوا عليه لطلب الضِّيافة ، جاز تسميتهم ذلك .
وقيل : من دخل [ دار ] إنسان ، والتجأ إليه سمِّي ضيفاً ، ون لم يأكل ، وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه علثيه يكنَّىأبا الضيفان ، كان لقصره أربعة أبوابٍ ، لكي لا فوته أحدٌ .
وسمِّي الضيف ضيفاً؛ لإضافته إليك ، ونزوله عليك .
قال القرطبي رحمه الله : » ضَافهُ مَالَ إليه ، وأضَافهُ : [ أماله ] ، ومنه الحديث : حِينَ تضيفلإ الشَّمسُ للغُروبِ . وضَيفُوفَةُ السَّهم ، والإضافةُ النَّحوية « .
قوله : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } في » إذْ « وجهان :
أحدهما : أنه مفعول لفعل مقدر ، أي : اذكر إذ دخلوا .
والثاني : أنه ظرف على بابه ، وفي العامل فيه وجهان :
أحدهما : أنه محذوف ، تقديره : خبر ضيف .
والثاني : أنه نفس » ضَيْفِ « ، وفي توجيه ذلك وجهان :
أحدهما : أنه لما كان في الأصل مصدراً اعتبر ذلك فيه ، ويدلُّ على اعتبار مصدريته بعد الوصف به : عدم مطابقته لما قبله تثنية ، وجمعاً وتأنيثاً في الأغلب ، ولأنه قائم مقام وصفه ، والوصف يعمل .
والثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : أصحاب ضيف إبراهيم ، أي : ضيافته ، فالمصدر باقٍ على حاله ، فلذلك عمل .
قال أبو البقاء بعد أن قدر أصحاب ضياتفه : والمصدر على هذا مضاف إلى المفعول .
قال شهابُ الدِّين : وفيه نظر ، إذ الظَّاهر إضافته لفاعله؛ لأنه النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { فَقَالُواْ سَلاماً } ، أي نُسلِّم لك سلاماً أو سلَّمتُ سلاماً ، أو سلمُوا سَلاماً ، قاله القرطبي رحمه الله تعالى .
قال : { إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي : خائفون؛ لأنهم لم يأكلوا طعامه ، وقيل : لأنهم دخلوا بغير إذن ، وبغير وقت .
قوله : » لا تَوجَلْ « العامة على فتح التاء من » وجِلَ « ك : » شَرِبَ « يَشربُ ، والفتح قياس » فَعِلَ « إلا أن العرب آثرت [ يفعل بالكسر ] في بعض الألفاظ إذا كانت واواً ، نحو : » نَبِقَ « وقرأ الحسن : » لا تُوجَل « مبنياً للمفعول من الإيجال .

وقرىء : « لا تَأجَلْ » ، والأصل : « تَوْجل » كقراءة العامة ، إلاَّ أبدل من الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها ، وإن لم تتحرَّك كقولهم : « تَابةٌ » ، و « صَامةٌ » في « تَوْبة » ، و « صَوْمة » وسمع : اللَّهُم تقبَّل تَابتِي ، وصَامتِي . وقرىء أيضاً : « لا تُواجِل » من المواجلة .
ومعنى الكلام : لاتخف؛ « إنَّا نَبشِّرُكَ » ، قرأ حمزة : « إنَّا نَبْشُركَ » بفتح النون وتخفيف الباء ، والباقون بضم النون ، وفتح الباء ، و « إنَّا نُبشِّركَ » استئناف بمعنى التعليل للنهي عن الوجل ، والمعنى إنَّك بمثابة الآمن المبشر فلا توةجل .
واعلم أنَّهم بشروهن بأمرين :
أحدهما : أنَّ الولد ذكرٌ ، والثاني : أنه عليمٌ .
فقيل : بشَّروه بنبوته بعده ، وقيل : عليم بالدِّين ، فعجب إبراهيم أمره و { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر } قرأ الأعرج : « بشَّرتُمونِي » بإسقاط أداة الاستفهام ، فيحتمل الأخبار ، ويحتمل الاستفهام ، وإنما حذفت أدلته للعلم به .
وِ « على أنْ مسَّنيَ » في محل نصبٍ على الحال .
وقرأ ابن محيصن : « الكُبْر » بزنة « فُعْقولهخ : » فبمَ تبشّرون « » بِمَ « متعلقٌ ب » تُبشِّرُون « ، وقدم وجوباً؛ [ لأنه ] استفهام وله صدر الكلام .
وقرأ العام : بفتح النون مخففة على أنها نون الرفع؟ ولم يذكر مفعنول التبشير ، وقرأ نافع بكسرها ، والأصل : تبشروني فحذف الياء مجتزئاً عنها بالكسرة .
وقد غلطه أبو حاتم ، وقال : هذا يكون في الشعر اضطراراً .
وقال مكي : » وقد طعن في هذه القراءة قومٌ لبُعدِ مخرجِها في العربيَّة؛ لأنَّ حذف النون التي تصحبُ الياء لا يحسنُ إلاَّ في الشِّعر ، وإن قُدِّر حذف النون الأولى حذفت [ علم ] الرفع من غير ناصب ، ولا جازم؛ ولأنَّ نون الرفع كسرها قبيحٌ ، إنَّما حقُّها الفتح « .
وهذا الطعن لا يتلفت إليه ، لأنَّ ياء المتكلم قد كثر حذفها مجتزءاً عنها بالكسرة ، وقد قرىء بذلك في قوله تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا } [ الزمر : 64 ] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
ووجهه : أنَّه لما اجتمع نونان أحدهما نون الرفع ، والأخرى نون الوقاية استثقل اللفظ ، فمنهم من أدغم ، ومنهم من حذف ، ثم اختلف في المحذوفة ، هل هي الأولى ، أو الثانية ، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام [ الأنعام : 80 ] .
وقرأ ابن كثير بتشديدها مكسورة ، أدغم الأولى في الثانية ، وحذف ياء الإضافة ، والحسن : أثبت الياء مع تشديد النون ، ورجح قراءة من أثبت مفعول : » يُبشِّرُون « وهو الياء .
قوله : { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق } » بَشَّرناكَ « ، و » بالحقِّ « متعلق بالفعل قبله ، وضعف أن يكون حالاً ، أي : قالوا بَشَّرنَاكَ .
ومعنى : » بالحَقِّ « هنا استفهام بمعنى التعجُّب ، كأنه قيل : بأيَّ أعجوبةٍ تبشروني؟ .

فِإن قيل : كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلقِ الولدِ منه في زمانِ الكبرِ؟ وما فائدة هذا الاستفهام مع أنهم قد بينوا ما بشَّروا به؟ .
فِأجاب القاضي : بأنه أراد أن يعرف أنه تعالى هل يعطيه الولد مع أنه يبقيه على سفة الشيخوخة ، أو يقلبه شابًّا ، ثم يعطيه الولد؟ .
وسبب هذا الاستفهام : أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامَّة ، وإنما يحصل في حال الشَّبابِ .
فإن قيل : فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم ، فلم قالوا : { بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين } ؟ .
قلنا : إنهم بيَّنوا أنه تعالى بشَّرهُ بالولد مع إبقائه على صفة الشَّيخوخَةِ ، وقولهم { بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين } لايدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرَّح في جوابهم بما يدلُّ على أنَّه ليس كذلك فقال : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون } .
وأجاب غيره : بأن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيءٍ ، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنِّه حصول المراد فيه ، فإذا بشِّر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه ، وسروره ، ويصير ذلك الفرحُ القويُّ كالمدهش له ، والمزيل لقوَّة فهمه ، وذكائه ، فربَّما تكلم بكلماتٍ مضطربة في ذلك الوقت .
وقيل أيضاً : إنه يستطيب تلك البشارة ، فربَّما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرَّة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة ، أو طلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق ، كقوله : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] وقيل أيضاً : استفهم : أبأمرِ الله تبشروني ، أم من عند أنفسكم ، واجتهادكم .
قوله : { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق } قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما يريد بما قضى الله تعالى .
وقوله : { فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين } نهي لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن القنوطِ ، وقد تقدَّم أنَّ النهي لإنسان عن الشَّيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهيّ عنه ، كقوله جلَّ وعزَّ { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 48 ] { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ القصص : 78 ] .
قوله : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ } هذا استفهام معناه النفي ، ولذلك وقع بعد الإيجاب ب « إلاَ » .
وقرأ أبو عمرو ، والكسائي : « يَقْنِطُ » بكسر عين هذا المضارع حيث وقع ، والباقون بفتحها وزيد بن علي والأشهب بضمها ، وفي الماضي لغتان « قنط » بكسر النون ، « يَقنَطُ » بفتحها ، وقنط « يقْنطُ » بكسرها ، ولولا أن القراءة سنة متبعة ، لكان قياس من قرأ { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } [ الشورى : 28 ] وافلتح في الماضي هو الأكثر ، ولذلك أجمع عليه .
قال الفارسي : فتح النون في الماضي ، وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات ، ويرجحُ قراءة « يَقْنَطُ » بالفتح قراءة أبي عمرو في بعض الروايات « فلا تكن من القنطين » كفَرِحشَ يفرح فهو فَرِحٌ .
والقُنُط : شدَّة اليأسِ من الخَيرٍ ، وحكى أبو عبيدة : « قَنُطَ » يَقْنُطُ بضمِّ النون .

قال ابن الخطيب : « وهذا يدلُّ على أنَّ » قَنَطَ « بفتح النون أكثر؛ لأن المضارع من » فَعَل « يجيء على » يَفْعِلُ ويَفْعُل « مثل : فَسقَ : ويَفْسُقُ ، لا يجيء مضارع فَعَلَ على يَفْعَلُ » .
فصل
جواب إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حق؛ لأنَّ الفنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلاَّ عند الجهل بأمور :
أحدها : أن يجهل كونه تعالى قادراً عليه .
وثانيها : أن يجهل كونه تعالى عالماً باحتياج ذلك العبد إليه .
وثالثها : أ ، يحجهل كونه تعالى ، منزّهاً عن البخل ، والحاجة .
والجهل بكلِّ هذه الأمور سبب للضَّلالِ ، القُنوط من رحمة الله كبيرة ، كالأمن من مكرهِ .
قوله تعالى : { فَمَا خَطْبُكُمْ } الخطب : الشأن ، والأمر ، سألهم عمَّا لأجله أرسلهم الله تعالى .
فِإن قيل : إنَّ الملائكة لما بشَّروه بالولد الذَّكر العليمِ ، كيف قال لهم بعد ذلك « فَمَا خَطْبُكمُ » ؟ .
فالجواب : قال الأصم : معناه : ما الذي وجتهم له سوى البُشْرَى؟ .
وقال القاضي : إنه علم أنه لو كان المقصود أيضاً البشارة ، لكان الواحد من الملائكة كافياً ، فلمَّا رأى جمعاً من الملائكة؛ علم أنَّ لهم غرضاً آخر سوى إيصال البشارة ، فلا جرم قال : « فَما خَطْبكُمْ » ؟ .
قيل : إنَّهم قالوا : إنَّا نُبشِّركَ بغُلامٍ عَليم لإزالة الخوف ، والوجل ، ألا ترى أنّه لما قال : { إنا منكم وجلون } قالوا له : { لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم } ، فلو كان المقصود من المجيء هو البشارة؛ كانوا ذكروا البشارة في أوَّل دخولهم ، فلمَّا لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم صلوات الله وسلام عليه أنَّ مجيئهم ما كان لمجرَّد البشارة ، بل لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض ، قال : { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } مشركين ، وإنَّما اقتصوار على هذا القدر ، لعلم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بأنَّ الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين ، كان ذلك لأهلاكهم .
ويدل ع لى ذلك قوله : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } قوله « إلا آل لُوطٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء متصل علىأنه مسثنى من الضمير المستكن في : « مُجرمِينَ » بمعنى أجرموا كلهم إلاَّ آل لوطٍ؛ فإنَّهم لم يجرموا ، ويكون قولهم « إنَّا لمنجوهم » استئناف إخبار بنجاتهم ، لكنهم لم يجرموا ولكن الإرسال حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لإهلاك أولئك وأنجاء هؤلاء .
والثاني : أنه اسثناء منقطع؛ لأن آل لوط لم يندرجوا في المجرمين آلبتَّة .
قال أبو حيان : وإذا كان استثناء منقطعاً ، فهو مما يجبُ فيه النصب؛ لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن توجيه العامل إلى المستثنى منه؛ لأنهم لم يرسوال إليهم ، إنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصَّة ، ويكون قوله : « إنَّ لمُنجَّوهُمْ » جَرَى مَجْرى خبر لكن في اتِّصاله ب « آل لوطٍ » ؛ لأن المعنى : لكنَّ آل لوط منجوهم ، وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدَّر بلكن ، إذ لم يكن بعده ما يصحُّ أن يكون خبراً : أنَّ الخبر محذوف ، وأنه في موضع رفع لجريان : « إلاَّ » ، وتقديرها ب « لَكِن » .

قال شهابُ الدِّين : « وفيه نظرٌ؛ لأن قوله لا يتوجه إليه العامل أيك لا يمكن ، نحو : ضحك القوم إلا حمارهم ، وصهلت الخيلُ إلا الإبل . أمَّا هذا ، فيمكن الإرسال إليهم من غير منع ، وأمَّا قوله : لأنهم لم يرسلوا إليهم فصحيح؛ لأنَّ حكم الاستثناء كلَّه هكذا ، وهو أن يكون خارجاً عمَّا حكم به على الأوَّل ، لكنَّه لو سلط عليه لصحَّ ذلك بخلاف ما تقدَّم من أمثلتهم » .
قوله : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } قرأ الأخوان : « لمُنْجُوهمْ » مخففاً؛ وكذلك خففا أيضاً فعل هذه الصيغة في قوله تعالى في العنكبوت { لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ العنكبوت : 32 ] ؛ وكذلك خففا أيضاً قوله فيها : { إِنَّا مُنَجُّوكَ } [ العنكبوت : 33 ] فهما جاريتان على سننٍ واحدٍ .
وقد وافقهما ابن كثير ، وأبو بكر على تخفيف : « مُنجوكَ » كأنهما جمعا بَيْنَ اللغتين ، وباقي السبعة بتشديد الكل . والتخفيف والتشديد لغتان مشهورتان من : نَجَّى وأنْجى ، وأنزلَ ، ونزَّل ، وقد نطق بفعلهما ، قال : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ } [ العنكبوت : 65 ] وفي موضع { أَنجَاهُمْ } [ يونس : 23 ] .
قوله : { امرأته } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء من « آل لُوطٍ » . قال أبو البقاء رحمه الله : « والاستنثاء إذا جاء عبد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافاً إلى المبتدا كقولك : » لهُ عِندِي عشرةٌ إلا أربعة إلا درهماً « فإن الدرهم يستثنى من الأربعة ، فهو مضاف إلى العشرة ، فكأنك قلت : أحد عشرة إلاَّ أربعة ، أوعشرة إلاَّ ثلاثة » .
والثاني : أنها مستثناةٌ من الضمير المجرور في قوله « لمُنَجوهمْ » .
وقد منع الزمخشري رحمهن الله الوجه الأول ، وعيَّن الثاني فقال : « فإن قلت : قوله : » إلا امرأتهُ « مِمَّ استثني؟ وهل هو استثناء نم استثناء؟ .
قلت : مستثنى من الضمير المجرور في قوله : » لمُنَجُّوهم « ، وليس من الاستثناء في شيء؛ لأن الاستثناء م الاستثناء إنَّما يكون فيما اتَّحد الحكم فيه ، وأن يقال : أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأتهُ ، كما اتَّحد في قول المطلِّق : أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنين إلا واحدة ، وقول المقرّ : لفلان علي عشرة درارهم إلا ثلاثة إلا درهماً ، اما الآية فقد اختلف الحكمان؛ لأنّ : » آل لوطٍ « متعلق ب » أرْسَلْنَا « أوة ب » مُجرمِينَ « ، و » إلاَّ امْرأتهُ « قد تعلَّق بقوله : » لمُنجوهم « فأنَّى يكون استثناء من استثناء » .
قال أبو حيَّان : ولما استسلف الزمخشري أنَّ « امرأتهُ » استثناء من الضمير في لمُنجُّوهم « أبى أن يكون استثناء من استثناء ، ومن قال : إنه استثناء من استثناء ، فيمكن [ تصحيح قوله ] بأحد وجهين :
أحدهما : أنه لما كان امرأته مستثنى من الضمير في » لمُنَجوهُم « ، وهو عائدٌ على » آل لوطٍ « صار كأنَّه مستثنى من : » آل لوطٍ « ؛ لأنَّ المضمر هو الظاهر .

والوجه الآخر : أن قوله « إلاَّ آل لوطٍ » لمَّا حكم عليهم بغير الحكم الذي حكم به على قوم مجرمين ، اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } تأكيداً لمعنى الاستثناء ، إذ المعنى : إلا آل لوط لم نرسل إليهم بالعذاب ، وجاتهم مرتبة على [ عدم ] الإرسال إليهم بالعذاب ، فصار نظير ذلك : قام القومُ إلاَّ زيداً لم يقم أو إلاَّ زيداً فإنه لم يقم ، فهذه الجملة تأكيدٌ لما تضمَّنهُ الاستثناء من الحكم على ما بعد إلاَّ بضدِّ الحكم السَّابق على المستثنى منه ، ف : « إلاَّ امْرَأتهُ » على هذا التدقير الذي قرَّرناه مستثنى من : « آلَ لُوطٍ » ؛ لأنَّ الاستثناء ممَّا جيء به للتَّأسيس أولى من الاستثناء ممَّا جيء به للتأكيد .
قوله « قدَّرْنَا » قرأ أبو بكر ههنا ، وفي سورة النمل بتخفيف الدَّال ، والباقون بتشديدها ، وهما لغتان : قَدَّر ، وقَدَر .
قوله : « إنَّها » كسرت من أجل اللاّم في خبرها ، ولولا [ لَفُتِحَتْ ] ، وهي معلقة لما قبلها؛ لأنَّ فعل التقدير قد يعلق إجراء له مجرى العلم إمَّا لكونه بمعناه ، وإمَّا لأنه مترتب عليه .
قال الزمخشري : « فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله : { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } ، والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت : لتضمن فعل التقدير معنى العلم » .
قال أبو حيَّان رحمه الله تعالى « وكسرت » إِنَّها « إجراء لفعل التقدير مجرى العلم » .
وهذا لا يصحُّ علة لكسرها ، إنَّما يصحُّ علةً لتعليقها الفعل قبلها .
فصل
معنى التقدير في اللغة : جعل الشيء على مقدار غيره ، يقال : قدر هذا الشيثء بهذا ، أي : اجعله على مقداره ، وقدَّر الله سبحانه الأقوات ، أي : جعلها على مقدار الكفاية ، ثمَّ يفسر التقدير بالقضاء فيقال : قضى الله عليه ، وقَدرَ عليه ، أي : جعله على مقدار ما يكفي في الخير ، والشر . وقيل : معنى : « قَدَّرْنَا » كتبنا . وقال الزجاج : دبرنا . فإن [ قيل ] لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عزَّ وجلَّ؟
فالجواب : إنَّما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله ، كما يقول خاصة الملك : دبرنا كذا [ وأمرنا بكذا ] ، والمدبر ، والآمر هو الملك لا هم ، وإنَّما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك ، فكذا هنا .
قوله تعالى : { إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } في موضع مفعول ، التقدير : قضينا أنها تتخلف ، وتبقى مع من يبقى حتَّى يهلك ، فتلحق بالهالكين .

قوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون } القصة لما بشروا إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بالولد ، وأخبروه بأنهم مرسلون بالعذاب إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط عليه السلام ، وإلى آله ، وإنَّ لوطاً ، وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة لله .
فقالوا : { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ؛ لأنهم لما هجموا عليه؛ استنكرهم ، وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه .
وقيل : خاف؛ لأنهم كانوا شبايا مرداً حسان الوجوه ، فخاف أن يهجم قومه عليهم لطلبهم ، فقال هذه الكلمة .
وقيل : إنَّ النكرة ضدّ المعرفة ، فقوله : { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ، أي : لا أعرفكم ، و أعرف أنكم من أي الأقوام ، ولأي غرض دخلتم عليّ ، فقال : { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } .
قوله : { بَلْ جِئْنَاكَ } إضراب عن الكلام المحذوف ، تقديره : ما جئناك بما ينكر ، { بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا [ كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } ] .
وقد تقدَّم الخلاف في قوله : « فأسْرِ » قعاً ووصلاً في هود : [ 81 ] .
وقرأ اليماني فيما نقل ابن عطية ، وصاحب اللوامح : « فَسِرْ » من السير . وقرأت فرقة بفتح الطاء ، وقد تقدَّم في يونس أنَّ الكسائي ، وابن كثير قرآه بالسكون في قوله « قِطْعاً » والباقون بالفتح .
قوله : قالت الملاكئة { بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } يشكون أنه نازلٌ بهم ، وهو العذاب؛ لأنه كان يوعدهم بالعذاب ، فلا يصدقونه ، ثمَّ أكدوا ذلك بقولهم : { وَآتَيْنَاكَ بالحق } قال الكلبيُّ : بالعذاب ، [ وقيل ] باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو العذاب ] ثم أكدوا هذه التَّأكيد بقولهم { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } .
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل } والقِطْعُ والقَطع : آخر الليل؛ قال : [ الخفيف ]
3280 افْتَحِي البَابَ وانظُرِي في النُّجُومِ ... كَم عليْنَا مِن قِطْعِ ليْلٍ بَهِيمِ
{ واتبع أَدْبَارَهُمْ } ، أي سر خلفهم { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } لئلا ترتاعوا من أمر عظيم فأنزل بهم من العذاب .
وقيل : معناه الإسراع ، وترك الاهتمام لما خلف وراءه ، كما يقول : امض لشأنك ، ولا تعرج على شيءٍ .
وقيل : المعنى لو بقي [ منه ] متاعٌ في ذلك الموضع ، فلا يرجعن بسببه ألبتَّة .
وقيل : جعل الكله ذلك علامة لمن ينجو من آل لوطٍ .
{ وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني « الشَّام » .
وقال المفضل : حيث يقول لكم جبريل . وقال مقاتل : يعني زغر . وقيل : « الأرْدن » .
قوله : { حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } « حَيْثُ » على بابها من كونها ظرف مكان مبهمٍ ، ولإبهامها تعدي إليها الفعل من غير واسطةٍ ، على أنه قد جاء في الشِّعر تعديته إليها ب « في » كقوله : [ الطويل ]
3281 فَأصْبحَ في حَيْثُ التَقيْنَا شَردُهمْ ... طَليقٌ ومكْتوفُ اليَديْنِ ومُزْعِفُ
وزعم بعضهم أنها هنا ظرف زمانٍ ، مستدلاً بقوله : { بِقِطْعٍ مِّنَ الليل } ثم قال { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } أي : في ذلك الزَّمان .
وهو ضعيف ، ولو كان كما قال ، لكان التركيب وأمضوا حيث أمرتهم على أنه لو جاء التَّركيب كذا لم يكن فيه دلالة .

قوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ } ضمَّن القضاء معنى الإيجاء؛ فلذلك تعدَّى تعيدته « إلى » ، ومثله { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإسراء : 4 ] .
و « ذَلكَ الأمْرَ » « ذَلِكَ » مفعول القضاءِ ، والإشارة به إلى ما وعد من إهلاكِ قومه ، و « الأمْرَ » إمَّا بدلٌ منه ، أو عطف بيانٍ له .
قوله : { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ } العامة على فتح « أنَّ » وفيها أوجه :
أحدها : أنها بدل من « ذَلِكَ » إذا قلنا : « الأمْرَ » عطف بيان .
الثاني : أنَّها بدلٌ من « الأمْرَ » سواء قلنا : إنه بيان أو بدل مما قبله .
الثالث : أنه على حذف الجار ، أي : بأنَّ دابر ، ففيه الخلاف المشهور .
وقرأ زيد بن علي ، والأعمش بكسرها؛ لأنه بمعنى القول .
وعلَّله أبو حيان : بأنه لمَّا علق ما هو بمعنى العلم؛ كسر .
وفيه النظر المتقدم .
ويؤيِّد إضمار القول قراءة ابن مسعودٍ : وقلنا إنَّ دابر هؤلاء .
ودابرهم : آخرهم « مَقطوعٌ » مستأصل ، يعني مستأصلون عن آخرهم؛ حتى لا يبقى منهم أحد « مُصْبحينَ » ، أي في حال ظهور الصبح ، فهو حال من الضمير المستتر في : « مَقطُوعٌ » ، وإنَّما جمع حملاً على المعنى ، وجعله الفرَّاء ، وأبو عبيدة خبراً لكان المضمرة ، قالا : تقديره : إذا كانوا مصبحين ، نحو « أنْتَ مَاشِياً أحسنُ مِنْكَ رَاكِباً » .
وهو تكلفٌ ، و « مُصْبحِينَ » داخلين في الصَّباحِ .
قوله : { وَجَآءَ أَهْلُ المدينة } ، أي : مدينة لوط ، يعني : « سدُوم » « يَسْتبشِرُونَ » حالٌ ، أي : يستبشرون بأضياف لوطٍ ، يبشر بعضهم بعضاً في ركوب الفاحشة منهم .
قيل : إنَّ الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم .
وقيل : أخبرتهم امرأة لوطٍ بذلك؛ فذهبوا إلى دارِ لوطٍ؛ طلباً منهم لأولئك المردِ .
فقال لهم لوط صلوات الله وسلامه عليه : « هَؤلاءِ ضَيْفِي » وحق على الرجل إكرام ضيفه ، « فلا تَفْضحُونِ » فيهم .
يقال : فَضحَهُ يَفضحُه فَضْحاص ، وفَضِيحَةً ، إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار ، والفَضِيحُ والفَضِيحةُ : البيان ، والظُّهورُ ، ومنه : فَضِيحَةُ الصُّبْحِ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
3282 وَلاحَ ضَوءُ هِلالِ اللَّيْلِ يَفْضحُنَا ... مِثْلَ القُلامَةِ قَدْ قُصَّتْ مِنَ الظُّفُرِ
إلا أنَّ الفضحية اختصت بما هو عارٌ على الإنسان عند ظهوره .
ومعنى الآية : أن الضيف يجب إكرامه ، فإذا قصدتموه بالسُّوءِ كان ذلك إهانة بي ، ثمَّ أكد ذلك بقوله : { واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ } ولا تخجلون ، فأجابوه بقولهم : { أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين } ، أي : عن أن تضيِّف أحداً من العالمين .
وقيل : ألم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة؛ فإنا نركبُ منه الفاحشة .
قوله : { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } يجوز فيه أوجه :
أحدها : أ ، يكون { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } مفعولاً بفعل مقدرٍ ، أي : تزوَّجُوا هؤلاء ، و « بَناتِي » بدلٌ ، أو بيانٌ .

الثاني : أن يكون { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } مبتدأ وخبراً ، ولا بدَّ من شيء محذوف تتمُّ به الفائدة ، أي : فتزوَّجُوهنَّ .
الثالث : أن يكون « هَولاءِ » مبتدأ ، و « بَناتِي » بدلٌ ، أو بيان والخبر محذوف ، أي : هُنَّ أطهر لكم كما جاء في نظيرتها .
وتقدَّم الكلام على هذه المعاني في هود .
قوله { لَعَمْرُكَ } مبتدأ محذوف الخبر وجوباً ، ومثله : لايْمُن الله ، و « إنَّهُمْ » ، وما في حيزه جواب القسم ، تقديره : لعمرك قسمي ، أو يميني إنهم ، والعُمُرُ والعَمْر بالفتح والضم هو البقاء ، إلا أنَّهم التزموا الفتح في القسم .
قال الزجاج : لأنه اخفُّ عليهم ، وهم يكثرون القسم ب « لعَمْرِي ولعَمْرُكَ » .
وله أحكام كثيرة :
منها : أنه متى اقترن بلام الابتداء؛ ألزم فيه الرفع بالابتداء ، وحذف خبره لسد جواب القسم مسدَّه .
ومنها : أنه يصير صريحاً في القسم ، أي : يتعيَّن فيه ، بخلاف غيره نحو : عَهْدُ اللهِ ومِثَاقُه .
ومنها : أنه يلزم فتح عينه .
فإن لم يقترن به لام الابتداء ، جاز نصبه بفعلٍ مقدرٍ ، نحو : عَمْرُ اللهِ لأفعلنَّ ، ويجوز حينئذٍ في الجلالة وجهان :
النَّصبُ والرفع فالنصب على أنه مصدرٌ مضاف لفاعله ، وفي ذلك معنيان :
أحدهما : أن الأصل : أسألك بعمرك الله ، أي : بوصفك الله تعالى بالبقاء ، ثم حذف زوائد المصدر .
والثاني : أن المعنى : بعبادتك الله ، والعَمْرُ : العِبادةُ .
حكى ابن الأعرابي : إنِّي عمرتُ ربِّي ، أي : عبدته ، وفلان عامر لربِّه ، أي : عابده .
وأمَّا الرفع : فعلى أنه مضاف لمفعوله .
قال الفارسي رحمه الله : معناه [ عَمَّرك ] الله تعميراً ، وقال الأخفش : أصله : أسْألك بِيُعمرك الله ، فحذف زوائد المصدر ، والفعل ، والياء ، فانتصب ، وجاز أيضاً ذكر خبره ، فتقول : عمرك قسمي لأقومن ، وجاز أيضاً ضمُّ عينه ، وينشد بالوجهين قوله : [ الخفيف ]
3283 أيُّهَا المُنْكِحُ الثُريَّا سُهَيلاً ... عَمركَ الله كيْفَ يَلتقِيَانِ
هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا ما استقلَّتْ ... وسُهَيْلٌ إذا اسْتقل يَمانِي
ويجوز دخول باء الجر عليه؛ نحو : بعمرك لأفعلنَّ؛ قال : [ الوافر ]
3284 رُقيَّ بِعمْرِكُم لا تَهْجُرينَا ... ومَنِّينَا المُنَى ثُمَّ امْطُلينا
وهو من الأسماء اللازمة للإضافة ، فلا يقطع عنها ، ويضاف لكل شيء ، وزعم بعضهم : أنه لا يضاف إلى الله تعالى .
قيل : كان هذا يوهم أنه لا يستعمل إلا شفي الانقطاع ، وقد سمع إضافته للباري تعالى . قال الشاعر : [ الوافر ]
3285 إذَا رَضِيَتْ عليَّ بَنُو قُشيْرٍ ... لعَمْرُ الله أعْجَبنِي رِضَاهَا
ومنع بعضهم إضافته إلى ياء المتكلِّم ، قال لأنه حلف بحياة المقسم ، وقد ورد ذلك ، قال النابغة : [ الطويل ]
3286 لعَمْرِي وما عمْرِي عليَّ بِهيِّنٍ ... لقد نَطقَتْ بُطلاً عليَّ الأقَارعُ
وقد قلبته العرب لتقديم رائه على لامه ، فقالوا : وعملي ، وهي رديئة .
« إنَّهُمْ » العامة على كسر « إنَّ » لوقوع اللام في خبرها ، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي له « أنَّ » فتحها ، وتخريجها على زيادة اللام ، وهي كقراءة ابن جبيرٍ ( ألا أنهم ليأكلون الطعام ] بالفتح .

وقرأ الأعمش : « سَكْرهُمْ » بغير تاء ، وابن أبي عبلة « سَكرَاتهِمِ » جمعاً ، والأشهب : « سُكْرتِهِم » بضم السين .
و « يَعْمَهُونَ » حال إمَّا من الضمير المستكن في الجار ، وإمَّا من الضمير المجرور بالإضافة ، والعامل إمَّا نفس سكرة ، لأنَّها مصدر ، وإمَّا معنى الإضافة .
فصل
قيل : إن الملائكة عليهم السلام قالت للوطٍ صلوات الله وسلامه عليه « لعَمُركَ إنَّهم لَفِي سَكرتِهمْ يَعْمَهُونَ » : يتحيَّرون .
وقال قتادة : يلعبون فكيف يعقلون قولك ويتلفتون إلى نصيحتك؟ .
وقيل : إنَّ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحدٍ .
روى أبو الجوزاء عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال ما خلقَ الله نفساً أكرم على الله من محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وما أقْسمَ بحياةِ أحدٍ إلاَّ بحياتهِ .
قال ابن العربي : قال المفسرون بإجماعهم : أقسم الله تعالى ها هنا بحياةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم تشريفاً له ، أنَّ قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حريتهم يترددون ، وقال القاضي عياضٌ : اتفق أهل التفسير في هذا : أنَّه قسم من الله تعالى بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم وأصله ضمُّ العين من العمر ، ولكنها فتحت بكثرة .
قال ابن العربي : ما الذي يمنعُ أن يقسم الله تعالى بحياة لوطٍ ، ويبلغ به من التشريف ما شاء ، وكلُّ ما يعيطه الله للوطٍ من فضل ، يعطي ضعفه لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه أكرم على الله منه؛ أو لات تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلَّة ، وموسى التكليم ، وأعطلى ذلك لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فإذا أقسم بحياة لوطٍ ، فحياة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أرفعُ ، ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكرٌ لغير ضرورةٍ .
قال القرطبيُّ : ما قاله حسنٌ ، فإنَّه كان يكون قسمة سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم ، كلاماً معترضاً في قصَّة لوط .
قال القشيريُّ : يحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوطٍ؛ أي كانوا في سكرتهم يعمهون ، أي لمَّا وعظ لوطٌ قومه وقال : هؤلاء بناتي ، قالت الملائكة : يا لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ، ولا يدرون ما يحلُّ بهم صباحاً .
فإن قيل : فقد أقسم الله تعالى بالتِّين ، والزَّيتونِ ، وطور سنين ، وما في هذا من الفضل؟ قيل له : ما من شيء أقسم الله به ، إلاّ وفي ذلك دلالة على فضل على ما يدخل في عداده ، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم قال : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } ، ولم يذكر في الآية صيحة من هي فإن ثبت بدليل قوي أن تلك صيحة جبريل قيل به وإلا فليس في الآية دليلٌ على أنه جاءتهم صيحة مهلكة .

قوله « مُشْرقينَ » « حال من مفعول » أخَذتْهُمْ « ، أي داخلين في الشروق ، أي : بزوغِ الشَّمسِ .
يقال : شَرَق الشارق يَشْرُق شُرُوقاً لكل ما طلع من جانب الشرع ، ومنه قوله : ما ذرَّ شَارِقٌ ، أي طلع طَالعٌ فكان ابتداء العذاب حين أصبحوا وتمامه حين أشرقوا .
والضمير في : » عَاليهَا وسَافِلهَا « للمدينة . وقال الزمخشريُّ : » لقرى لقوم لوط « .
ورجح الأول بأنه تقدَّم ذكر المدينة في قوله { وَجَآءَ أَهْلُ المدينة } فعاد الضمير إليها بخلاف الثاني ، فإنه لم يتقدَّم لفظ القرى .
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً } تقدم الكلام على ذلك كله في هود : [ 82 ] .
قوله { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } متعلق بمحذوف على أنه صفة ل » آيَاتٌ « وأجود أن يتعلق بنفس » آيَاتٌ « ؛ لأنَّها بمعنى العلامات .
والتوسُّم : تفعل من الوسم ، والوسمُ أصله : التَّثبت ، والتَّفكر مأخوذ من الوسمِ ، وهو التَّأثير بحديد في جلد البعير ، أو غيره .
وقال ثعلب : الوَاسِمُ النَّاظر إليك من [ قرنك ] إلى قدمك ، وفيه معنى التَّثبيت .
وقال الزجاج : حقيقة المتوسِّمين في اللغة : المثبتون في نظرهم حتَّى يعرفوا سمة الشيء ، وصفته وعلامته وهو استقصاءُ وجوه التَّعرف قال : [ الكامل ]
3287 أوَ كُلما وردَتْ عُكاظَ قَبيلَةٌ ... بَعَثَتْ إليَّ عَريفَهَا يَتوسَّم
وقيل : هو تفعُّل من الوسمِ ، وهو العلامة ، توسَّمتُ فيك خيراً ، أي : ظهر لي مِيسَمُهُ عليك .
قال ابن رواحة يمدحُ النبي صلى الله عليه وسلم : [ البسيط ]
3288 إنِّي تَوسَّمْتُ فِيكَ الخَيرَ أعْرفهُ ... واللهُ يَعْلمُ أنِّي ثَابتُ البَصرِ
وقال آخر : [ الطويل ]
3289 تَوسَّمْتهُ لمَّا رَأيْتُ مَهَابَةٌ ... عَليْهِ ، وقُلْتُ المَرْءُ مِنْ آلِ هَاشمِ
ويقال : اتَّسمَ الرَّجلُ ، إذا اتَّخذَ لِنفْسِه عَلامةً يُعرف بِهَا ، وتوسَّم : إذا طلبَ كلأ الوسمي ، أي : العُشْبَ النَّابت في أوَّل المطر .
واختلف المفسِّرون : فقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما للنَّاظرين .
وقال مجاهدٌ للمتفرِّسين ، وقال قتادة للمعتبرين ، وقال مقاتلٌ للمتفكرين .
قوله : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } الظاهر عود الضمير على المدينة ، أو القرى وقيل على الحجارة وقيل : على الآيات ، والمعنى : بطريقٍ قال مجاهد هذا طريق معلم ، وليس بخفيّ ، ولا زائلٍ .
ثم قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } ، إي : كل من آمن بالله ، ويصدق بالأنبياء ، والرُّسلِ صلوات الله وسلامه عليهم؛ عرف أنَّما كان انتقامُ الله من الجُهَّال لأجل مخالفتهم ، وأمَّا الذين لا يؤمنون؛ فيحملونه على حوادث [ العالم ] ، وحصول القرانات الكوكبية ، والاتصالات الفلكية .

وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)

قوله تعالى : { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ } « إنْ » هي المخففة ، واللم فارقة وهي للتأكيد ، وقد تقدَّم حكم ذلك [ البقرة : 143 ] .
و « الأيْكَة » : الشَّجرة الملتفَّّة ، واحدة الإيْكِ . قال : [ الكامل ]
3290 تَجْلُو بِقَادمتَي حَمامَةِ أيْكَةٍ ... بَرَاداً أسِفَّ لِثاتهُ بالإثْمِدِ
ويقال : لَيْكَة ، وسيأتي بيانه عند اختلاف القرَّاء فيه الشعراء : [ 176 ] إن شاء الله تعالى .
وأصحاب الأيكة : قوم شعيب كانوا أصحاب غياضٍ ، وشجرٍ متلفٍّ .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : وكان عامة شجرهم الدوم ، وهو المقل .
{ فانتقمنا مِنْهُمْ } بالعذاب .
روي أنَّ الله تعالى سلَّط عليهم الحر سبعة أيَّام ، مفبعث الله سبحانه سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الرَّوْحَ؛ فبعث الله عليهم ناراً ، فأحرقتهم ، فهو عذابُ يوم الظُّلة .
قوله تعالى : { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } في ضمير التثنية أقوال :
أرجحها : عوده على [ قريتي ] قوم لوطٍ ، وأصحاب الأيكةِ ، وهم : قوم شعيبٍ؛ لتقدُّمها ذكراً .
وقيل : يعود على لوطٍ وشعيبٍ ، [ وشعيبٌ ] لم يجر له ذكر ، ولكن دلَّ عليه ذكر قومه .
وقيل : يعود على الخبرين : خبر هلاك قوم لوطٍ ، وخبر إهلاك قوم شعيبٍ .
وقيل : يعود على أصحاب الأيكةِ ، وأصحاب مدين؛ لأنه مرسلٌ إليهما ، فذكر أحدهما يشعر بالأخرى .
وقوله جل ذكره { لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } أي : بطريق واضح ، والإمام [ اسم لما ] يؤتمُّ به .
قال الفراء ، والزجاج : « إنَّما جعل الطَّريقُ إماماً؛ لأنه يؤمُّ ، ويتبع » .
قال ابن قتيبة : لأنََّ المسافر يأتمُّ به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده .
وقوله : « مُبينٍ » يحتمل أنه مبين في سنفسه ، ويحتمل أنه مبين لغيره ، لأن الطريق تهدي إلى المقصد .

وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)

قوله : { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين } . قال صاحبُ « ديوان الأدبِ » الحِجْر : بكسر الحاء المهملة ، وتسكين الجيم له ستَّة معانٍ :
فالحِجْر : منازل ثمود ، وهو المذكور هاهنا ، والحِجْرُ : الأنثى من الخيل . والحِجْرُ : الكعهبة . والحِجْرُ : لغة في الحجرِ ، هو واحد الحجور في قوله تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ } [ النساء : 23 ] والحِجْرِ : العَقْلُ ، قال تعالى : { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } [ الفجر : 5 ] ، والحِجْرُ : الحرامُ في قوله تعالى : { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 53 ] أي : حراماً محرماً .
فصل
قال « المُرْسلينَ » ، وإنَّما كذبوا صالحاً وحده؛ لأنَّ من كذَّب نبيًّا؛ فقد كذَّب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ملأنهم على دين واحد ولا يجوز التَّفرييقُ بينهم .
وقيل : كذَّبُوا صالحاً ، وقيل : كذَّبوا صالحاً ومن تقدمه من النَّبيين أيضاً ، والله تعالى أعلم .
قال المفسرون : والحِجْرُ : اسم وادٍ كان يسكنه ثمود قوم صالحٍ ، وهو بين المدينة ، والشام ، والمراد ب « المُرْسلينَ » صالحٌ وحده .
قال ابن الخطيب : « ولعلَّ القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل » .
{ وَآتَيْنَاهُمْ } يعني النَّاقة ، وولدها ، والبئر ، والآيات في النَّاقة : خروجها من الصَّخرة ، وعظم خلقها ، وظهور نتاجها عند خروجها ، وقُرب ولادتها ، وغزارة لبنها ، وأضاف الإيتاء إليهم ، وإن كانت النَّاقة آية صالحٍ؛ لأنَّها آيات رسولهم ، فكانوا عنها معضرين؛ فذلك يدلُّ على أنَّ النَّظر ، والاستدلال واجب ، وأنَّ التقليد مذموم .
{ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً } تقدَّم كيفيَّة النَّحت في الأعراف : [ 74 ] ، وقرأ الحسن ، وأبو حيوة : بفتح الحاءِ .
« ءَامِنينَ » من عذاب الله .
وقيل : آمنين من الخرابِ ، ووقوع السَّقف عليهم .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } ، أي : صيحة العذاب « مُصْبِحينَ » ، أي وقت الصُّبح .
قوله : « فَمَا أغْنَى » يجوز أني تكون نافية ، أو استفهامية فيها [ معنى ] التعجب ، وقوله : « مَا كَانُوا » يجوز أن تكون « مَا » مصدرية ، أي : كسبهم ، أو موصوفة ، أو بمعنى « الَّذي » ، وةالعائد محذوف ، أي : شيء يكسبونه ، أو الذي يكسبونه .
فصل
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه « أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا نزل الحجر في غزوة تبوك ، أمرهم ألاَّ يشربوا من بئرها ، ولا يستقوا منها ، فقال واحدٌ : عَجَنَّا ، وأسْتقَيْنَا ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ذلك الماء ، وا ، يطرحوا ذلك العجين » ، وفي رواية : « وأ ، ْ يَعْلِفُوا الإبل العجِين » .
وفي هذا دليل على كراهة دخول تلك المواضع ، وعلى كراهةِ دخول مقابر الكفار ، وعلى تحريم الانتفاع بالماء المسخوط عليه؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإهراقه وطرح العجين ، وهكذا حكم الماء النَّجسِ ، ويدلُّ على أنَّ ما لا يجوز استعماله من الطعام ، والشراب ، يجز أن يعلفه البهائم .

قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق } الآية . لما ذكر أهلاك الكفَّار ، فكأنه قيل : كيف يليق الإهلاك بالرحيم؟ .
فأجاب : بأني ما خلقت الخلق إلا ليشتغلوا بعبادي ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فإذا تركوها ، وأعرضوا عنها؛ وجب في الحكمة إهلاكهم ، وتظهير وجه الأرض منهم .
وهذا النَّظم حسنٌ ، إلا أنَّه إنما يستقيمُ على قوله المعتزلة ، وفي النظم وجه آخر : وهو أنه تعالى إنَّما هذه القصَّة تسلية لنبيِّه صلى الله عليه وسلم و أن يصبره على سفاهة قومه ، فإنه إذا سمع [ أنَّ ] الأمم السَّالفة كانوا يعاملون بمثل هذه المعاملات؛ سهُل تحمُّل تلك السَّفاهات على محمد صلى الله عليه وسلم ثم : إنَّه تعالى لما بيَّن أنه أنزل العذاب على الأمم السَّالفة ، قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : « إنَّ السَّاعةَ لآتيِةٌ » ، وإنَّ الله لينتقم لك من أعدائك ، ويجازيهم ، وإيَّاك ، فإنه ما خلق السماوات ، والأرض ، وما بينهما إلا بالحق ، والعدل والإنصاف ، فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك؟ .
ثم إنَّه تعالى لما صبَّره على أذى قومه ، رغَّبة بعد ذلك في الصَّفح عنهم ، فقال : { فاصفح الصفح الجميل } .
قوله : : إلاَّ بالحقِّ « نعت لمصدر محذوف ، أي : ملتسبة بالحقِّ .
قال المفسِّرون : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، وهو بعيد؛ لأنَّ المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن ، والعفوا ، والصفح ، فكيف يصير منسوخاً؟ .
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم } ، أي خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم ، وتفاوت أحوالهم ، مع علمه بكونهم كذلك وإذا كان كذلك ، فإنَّما خلقهم مع هذا التَّفاوت ، ومع العلم بذلك التَّفاوت ، أمَّا على قول أهل السنة فلمخض مشيئته ، وإرادته ، وعلى قول المعتزلة : لأجل المصلحة ، والحكمة .
وقرأ زيد بن علي ، والجحدري : » إنَّ ربَّك هُو الخَالِقُ « ، وكذا هي في مصحف أبيّ وعثمان .

وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني } يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات ، وأن يكون سبعاً من السُّورِ ، وأن يكون سبعاً من الفوائد ، وليس في اللفظ ما يدلُّ على التَّعيين .
والثاني : صيغة جمع ، واحدة مثناةُ ، والمثناةُ : كل شيءٍ يُثَنَّى ، وأي : يجعل اثنين من قولك : ثَنَيْت الشَّيء ثَنْياً ، أي : عَطفْتهُ ، أو ضممت إليه آخر ، ومنه يقال لرُكْبتَي الدَّابة ومِرْفقَيْهَا مثانِي؛ لأنها تثنى بالفخذ ، والعضد؛ ومثاني الوادي معاطفه .
وإذا عرف هذا ، فقوله : { سَبْعاً مِّنَ المثاني } مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى ، وهذا القدر مجملٌ ، ولا سبيل إلى تعيينه ، إلا بدليلٍ منفصلٍ ، وللنَّاس فيه أقوال :
أحدها : قال عمرُ ، وعليٌّ ، وابن مسعودٍ ، وأبو هريرة ، والحسن ، وأبو العالية ، ومجاهدٌ والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وقتادة رضي الله عنهم : إنه فاتحة الكتاب .
روى أبو هريرة رضي الله عنهم « أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فاتحة الكتاب ، وقال : » هِيَ السَّبْعُ المَثانِي « .
وإنَّما سمِّيت بالسَّبع؛ لأنها سبعُ آياتٍ ، وفي تمسيتها بالمثاني وجوه :
أولها : قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما والحسن ، وقتادة لا ، ها تثنى في الصلاة ، فتقرأ في كلِّ ركعةٍ .
ثانيها : قال الزجاج : لأنَّها تثنى مع ما يقرأ معها .
وثالثها : لأنها قسمت قسمين : نصفها ثناءُ ، ونصفها دعاءٌ ، كما ورد في الحديث المشهور .
ورابعها : قال الحسين بن الفضل : لأنَّها نزلت مرَّتين ، مرة بمكَّة ، ومرة بالمدينة .
وخامسها : لأنَّ كلماتها مثناة ، مثل : { الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } [ الفاتحة : 37 ] .
وفي قراءة عمر : ( غير المغضوب عليهم وغير الضالين ) .
نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنَّه قال : كان ابن مسعودٍ رضي الله عنه لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب؛ رأى أنَّها ليست من القرآن .
قال ابن الخطيب : » لعلَّ حجَّته أنه عطف السَّبع المثاني على القرآن والمعطوف مغاير للمعطوف عليه؛ فوجب أن تكون غير القرآن العظيم « ، ويشكل هذا بقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] ، وكذلك قوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
وللخَصْم أن يجيب بأنه يجوز أن يذكر الكلَّ ، ثمَّ يعطف عليه ذكر بعض أقسامه لكونه أشرف الأقسام ، وأمَّا إذا ذكر شيءٌ ِآخر كان المذكور أولاً مغايراً للمذكور ثانياً ، وها هنا ذكر سبع المثاني . ثم عطف عليه القرآن فوجب التغاير .
ويجاب عليه : بأنَّ بعض الشَّيء مغاير لمجموعه ، فلم لا يكفكي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف؟ .
واعلم أنَّه لمَّا كان المراد بالسَّبع المثاني هو الفاتحة؛ دلَّ على أنَّها أفضل سور القرآن ، لأن إفرادها بالذِّكر مع كونها جزءاً من القرآن؛ يدلُّ على مزيد اختاصها بالفضلية ، وأيضاً : لما أنزلها مرَّتين دلَّ ذلك على أفضليتها ، وشرفها ، ولما واظب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قرءاتها في جميع الصلوات طول عمره ، وما أقام [ سورة أ خرى ] مقامها في شيءٍ من الصلوات ، دل على على وجوب قراءتها ، وألاَّ يقوم شيء من القرآن مقامها .

القول الثاني : السَّبع المثاني : هي السبع الطوال ، قاله ابن عمر ، وسعيد بن جبيرٍ في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما وإنما سميت السبع الطوال مثاني؛ لأنَّ الفرائض ، والحدود ، والأمثال والخبر ، والعبر ثنيت فيها .
وأنكر الربيع هذا القول ، وقال : الآيةُ مكية ، وأكثر هذه السورة مدنيَّة ، وما نزل منها من شيءٌ في مكَّة ، فكيف تحمل هذه الآية عليها؟ .
وأجاب قومٌ عن هذا بأنه تعالى جلَّ ذكره أنزل القرآن كلَّه إلى سماءِ الدنيا ، ثم أنزل على نبيه منه نجوماً ، فلمَّا أنزله إلى سماءِ الدُّنيا ، وحكم بإنزاله عليه فهو جملة من آتاه ، وإن لم ينزل عليه بعدُ .
وفي هذا الجواب نظرٌ ، فإن قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني } ذكره في [ معرض ] الامتنان ، وهذا الكلامُ إنَّما يصدق ، إذا وصل ذلك إلى محمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه فأمَّا ما لم يصله بعد ، فلا يصدق ذلك عليه .
وأما قوله : إنه لما حكم بإنزاله على محمد ، كان ذلك جارياً مجرى ما نزل عليه ، فضعيف؛ لأنَّ إقامة مالم ينزل عليه مقام النَّازل عليه مخالف للظَّاهرِ .
القول الثالث : أنَّ السَّبع المثاني : هون القرآن ، وهو منقولٌ عن ابن عباس رضي الله عنه في بعض الروايات ، وهوق ول طاوس رضي الكله عنه لقوله تعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ } [ الزمر : 23 ] فوصف كلَّ القرآن بكونه مثاني؛ لأنه كرَّر فيه دلائل التَّوحيدِ ، والنبوَّة ، والتَّكاليف .
قالوا : وهو ضعيف؛ لأنه لو كان المراد بالسَّبع المثاني القرآن لكان قوله : { والقرآن العظيم } ، عطفاً على نفسه ، وذلك غير جائزٍ .
وأجيب عنه : بأنه إنَّما حسن العطف فيه لاختلاف اللفظين؛ كقول الشاعر :
3291 إلى المْلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ... وليْثِ الكَتِيبَةِ في المُزدحَم
واعلم أن هذا ، وإن كان جائزاً إلا أنَّهم أجمعوا على أن الأصل خلافه .
القول الرابع : أنه يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة ، وبالمثاني كل القرآن ، ويكون التقدير : ولقد آتيناك سبع آياتٍ هي الفاتحة ، وفي من جملة المثاني الذي هو القرآن ، وهذا عين الأول .
و « مِن » في قوله : « مِنَ المثَانِي » .
قال الزجاج رحمه الله تعالى : فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون للتبعيض من القرآن ، أي : ولقد آتيناك سبع آياتٍ من جملة الآيات التي يثنى بها على الله ، وآتيناك القرآن العظيم .
ويجوز أن تكون « مِن » صفة ، والمعنى : أتيناك سبعاً هي المثاني ، كقوله تعالى :

{ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ، أي اجتنبوا الأوثان؛ لان بعضها رجس .
قوله : « والقرآن » فيه أوجه :
أحدها : أنه من عطف بعض الصفات على بعض ، أي : الجامع بين هذه النعتين .
الثاني : أنه من عطف العام على الخاص ، إذ المراد بالسَّبع : إمَّا الفاتحة ، أو الطوال ، فكأنه ذكر مرتين بجهة الخصوص ، ثم باندراجه في العموم .
الثالث : أنَّ الواو مقحمة ، وقرىء « وَالقُرآنِ » بالجر عطفاً على : « المَثَانِي » .
قوله تعالى : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا } الآية لما عرف رسوله عظيم نعمه عليه فما يتعلق بالدِّين ، وهو أنه تعالى آتاه سبعاً من المثاني ، والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا فقال : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } ، أي لا تشتغل سرك ، وخاطرك بالالتفات إلى الدينا ، وقد أوتيت القرآن العظيم .
قال أبو بكر رضي الله عنه « مَنْ أوتِي القرآن فرَأى أنَّ أحَداً أوتِي مِنَ الدنيَا أفضل ممَّا أوتِي ، فقَد صَغَّرَ عَظِيماً وعَظَّمَ صَغِيراً » . وتأوَّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبي صلى الله عليه وسلم : « ليْسَ مِنَّا من لمْ يتغنَّ بالقُرآنِ » أي لم يستغن .
وقال ابن [ عبَّاسٍ ] رضي الله عنهما : « لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ » ، أي لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدُّنيا .
وقرَّر الواحديُّ هذا المعنى فقال : « إنَّما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء ، إذا أدام النَّظر نحوه ، وإدامةٌ النَّظر إلى الشَّيء تدلُّ على استحسانه ، وتمنِّيه ، وكان النبي صلى لله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا » .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم « نظر إلى نَعَم بَنِي المُصطلقِ ، وقد [ عَبِسَتْ ] في أبْوالِهَا ، وأبْعارِهَا؛ فَتٌنَّعَ في ثَوْبهِ؛ وقَرأ هذِه الآية » .
قوله : « عَبِستْ في أبْوالِهَا وأبْعَارِهَا » هون أن تجف أبعارها ، وأبوالها على أفخاذها ، إذا تركت من العمل أيَّام الربيع؛ فيكثر شحومها ، ولحومها ، وهي أحسن ما تكون .
قوله : { أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } .
قال ابن قتيبة : أي أصنافاً من الكُفَّار ، والزَّوْجُ في اللغة : الصِّنف { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } ؛ لأنهم لم يؤمنوا لم يؤمنوا ، فيتقوى بإسلامهم ، ثم قال عز وجل { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } .
الخفض : معناه في اللغة : نقيض الرفع ، ومنه قوله تعالى في وصف القيامة { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } [ الواقعة : 3 ] ، أي : أنَّها تخفض أهل المعاصي ، وترفع أهل الطَّاعة ، وجناح الإنسان : يدهُ .
قال الليثُ رضي الله عنه يد الإنسان : جناحه ، قال تعالى : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } [ القصص : 32 ] ، وخفض الجناح كناية عن اللِّين ، والرّفقِ ، والتَّواضع ، والمقصود : أنه نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار ، وأمره بالتَّواضع لفقراءِ المؤمنين [ ونظيره ] { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] ، وقوله : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] .
قوله : { وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين } لما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالزُّهدِ في الدنيا ، وخفض الجناح للمؤمنين ، أمره أن يقول للقوم : { أَنَا النذير المبين } ، وهذا يدخل تحته كونه مبلغاً لجميع التَّكاليف ، وكونه [ شارحاً لمراتب ] الثَّواب والعقاب ، والجنَّة والنَّار ، ومعنى « المَبِين » الآتي بجميع البيِّنات الوافية .

قوله : { الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } فيه أقوال :
أحدها : أنََّ الكاف [ تتعلق ] ب « آتَيْنَاكَ » ، وإليه ذهب الزمشخريُّ فإنه قال : « أنزلنا عليك » ، مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب ، وهم المقتسمون : { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين } .
الثاني : أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب « آتَيْنَاكَ » تقديره : آتيناك إتياناً كما أنزلنا .
الثالث : أنه منصوب نعت لمصدر محذوف ، ولكنَّه ملاق ل « آتيْنَاكَ » ومن حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، تقديره : أنزلنا إليك إنزالاً كما أنزلنا؛ لأنَّ « آتَيْنَاكَ » بمعنى أنزلنا إليك .
الرابع : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، والعامل فيه مقدَّر أيضاً ، وتقديره : ومتعناهم تمتيعاً كما أنزلنا ، والمعنى : نعمنا بعضهم كما عذَّبنا بعضهم . الخامس : أنه صفة لمصدر دلَّ عليه التقدير ، والتقدير : أنا النَّذير إنذاراً كما أنزلنا ، أي : مثل ما أنزلنا .
السادس : أنه نعتٌ لمفعول محذوف ، النَّاصب له : « النَّذيرُ » ، تقديره : النَّذيرُ عذاباً { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين } وهم قوم صالح؛ لأنهم قالوا : « لنُبَيتنَّه » وأقسموا على ذلك ، أو يراد بهم قريش حين قسموا القرآن إلى سحرٍ ، وشعرٍ ، وافتراءٍ .
وقد ردَّ بعضهم هذا : بأنه يلزم منه إعمال الوصف موصوفاً ، وهو غير جائز عند البصريين جائز عند الكوفيين ، فلو عمل ثمًَّ وصف جاز عند الجمعي .
السابع : أنَّه مفعول به ناصبه : « النَّذيرُ » أيضاً .
قال الزمخشريُّ : « والثاني : أن يتعلق بقوله : { وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين } ، أي : وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين ، يعني اليهود ، وما جرى على بني قريظة ، و النضيرِ » .
وهذا مدرودٌ بما تقدَّم من إعمال الوصف موصوفاً .
قال ابن الخطيب : وهذا الوجه لا يتمُّ إلاَّ بأحد أمرين : إمَّا التزامُ إضمارٍ ، ِأو التزام حذفٍ .
أمَّا الإضمار فهو أن يكون التقدير : إني أنا النذير [ المبين ] عذاباً ، كما أنزلنا على المقتسمين ، وعلى هذا الوجه : المفعول محذوف ، وهو المشبه ، ودلَّ عليه المشبه به ، كما تقول : رأيت كالقمر في الحسن ، أي : رأيت إنساناً كالقمرِ في الحسن ، وأمَّا الحذف ، فهو أن يقال : الكاف زائدة محذوفة ، والتقدير : إني أنا النذير [ المبين ما ] أنزلناه على المقتسمين ، وزيادة الكاف له نظير ، وهو قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
الثامن : أنه منصوب نعتاً لمفعولٍ به مقدرب ، والناصب لذلك المحذوف مقدرٌ أيضاً لدلالة لفظ « النَّذِير » عليه ، أي : أنذركم عذاباً مثل العذاب المنزَّل على المقتسمين ، وهنم قوم صالحٍ ، أو قريش ، قاله أبو البقاء رحمه الله وكأنه فرَّ من كونه منصوباً بلفظ « النَّذير » كما تقدَّم من الاعتراض البصريّ .

وقد ردَّ ابن عطية على القول السادس بقوله : والكاف في قوله : « كَمَا » متعلقة بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : وقل إنِّي أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلنا ، فالكاف : اسم في موضعِ نصبٍ ، هذا قول المفسِّرين .
وهو غير صحيح؛ لأنَّ : « كما أنزلنا » ليس ممَّا يقوله محمد صلوات الله وسلامه عليه بل هو من كلام الله تعالى فيفصل الكلام ، وإنَّما يترتب هذا القول بأن يقدر أن الله تعالى قال له : أنذر عذاباً كما .
والذي أقول في هذا المعنى : « وقل إنّي أنا النذيرُ المبين كما قال قلبك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك » .
ويحتمل أن يكون المعنى : وقل : إنِّي أنا النذيرُ المبينُ ، كما قد أنزلنا في الكتب أنَّك ستأتي نذيراً على أن المقتسمين ، هم أهل الكتاب ، وقد اعتذر بعضهم عمَّا قاله أبو محمد فقال : الكاف متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى ، تقديره : أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا ، وإن كان المنزل الله ، كما تقول بعض خواصِّ الملكِ : أ/رنا بكذا ، وإن كان الملك هو الآمرُ .
وأما قول أبي محمدٍ : « وأنزلنا عليهم ، كما أنزلنا عليك » ؛ كلامٌ غير منتظم ، ولعلَّ أصله : وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم : ، كذا أصلحه أبو حيان . وفيه نظر ، كيف يقدر ذلك ، والقرآن ناطق بخلافه ، وهو قوله : { عَلَى المقتسمين } .
التاسع : أنه متعلق بقوله : « لنَسَألنَّهُمْ » تقديره : لنسألنَّهم أجمعين ، مثل ما أنزلنا .
العاشر : أنَّ الكاف مزيدة ، تقديره : أنا النذير ما أنزلناه على المقتسمين .
ولا بد من تأويل ذلك على أنَّ « ما » معفولٌ ب « النذير » عند الكوفيين ، فإنَّهم يعملون الوصف للموصوف ، أو على إضمار فعل لائقٍ أي : أنذركم ما أنزلناه كما يليق بمذهب البصريين .
الحادي عشر : أنه متعلق ب « قل » ، التقدير : وقيل قولاً كما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم ، فالقول للمؤمنين في النَّذارةِ كالقول للكفَّار المقتسمين؛ لئلا يظنُّوا أنَّ إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين ، بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة ، تنذر المؤمن ، كما تنذر الكافر ، كأنه قال : أنا النذيرُ لكم ، ولغيركم .
فصل
قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما : المقتسمون : هم الَّذين اقتسموا طرق مكَّة يصدُّون النَّاس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرب عددهم من أربعين .
وقال مقاتل بن سليمان رحمه الله : كانوا ستَّة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيَّام الموسم ، فاقتسموا شعاب مكَّة ، وطرقها يقولون لمن سلكها : لا تغتروا بالخارج منَّا ، والمدعي للنبوَّة ، فإنه مجنونٌ ، وكانوا ينفِّرُونَ النَّاس عنه بأنه ساحرٌ ، أو كاهنٌ ، أو شاعرٌ ، فطائفة منهم تقول : ساحرٌ ، ، وطائفة تقول : إنه كاهنٌ ، وطائفة تقول : إنه شاعرٌ ، فأنزل الله عز وجل بهم خزياً؛ فماتوا أشدَّ ميتة .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنهم اليهود ، والنصارى { جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } جزءوه أجزاء ، فآمنوا بما وافق التَّوراة ، وكفروا بالباقي .
وقال مجاهد : قسموا كتاب الله تعالى ففرقوه ، وبدلوه .
وقيل : قسَّموا القرآن ، وقال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : شعر ، وقال بعضهم : كذبٌ ، وقال بعضهم : ِأساطير الأولين .
وقيل : الاقتسام هو أنهم فرَّقوا القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : شاعرٌ ، وقال بعضهم : كاهنٌ .
قوله : { الذين جَعَلُواْ } فيه أوجه :
أظهرها : أنه نعت ل « المٌقْتَسمِينَ » .
الثاني : أنه بدلٌ منه .
الثالث : أنه بيانٌ .
الرابع : أنه منصوبٌ على الذَّمِّ .
الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمرٍ .
السادس : أنه منصوب ب « النَّذيرُ المبِينُ » كما قاله الزمخشريُّ .
وهو مردود بإعمال الوصف بالموصوف عند البصريين كما تقدَّم .
و « عِضِينَ » جمع عِضَة ، وهي الفرقة ، والعِضِين : الفِرَق ، وتقدم معنى جعله القرآن كذلك ، ومعنى العِضَة : السِّحر بلغة قريش ، يقولون : هو عَاضهُ ، وهي عَاضِهَة ، قال : [ المتقارب ]
3292 أعُودذُ بِربِّي مِنَ النِّافِثَاتِ ... في عٌقَدِ العَاضِهِ المُعْضهِ
وفي الحديث : « لَعنَ اللهُ العَاضِهةً والمُسْتعضِهَة » ، أي السَّاحربة ، والمسُتسْحِرَة وقيل : هو من العضه ، وهو : الكذب ، والبهتان ، يقال : عَضَهُ عَضْهَاً ، وعضيهةً ، أي : رماه بالهتان ، وهذا قول الكسائي رحمه الله تعالى .
وقيل : هو من العِضَاه ، وهو شجر له شوكٌ مؤذٍ ، قاله الفرَّاء .
وفي لام « عِضَة » قولان يشهد لكلِّ منهنما التصريف :
الاول : الواو ، لقولهم : عِضَوات ، وعَاضَة ، وعَاضِهَة ، وعِضَة ، وفي الحديث « لا تَعْضِية في مِيراثٍ » ، وفسِّر : بأ ، لا تفريق فيما يضر بالورثة تفريقه كسيفٍ يكسر نصفين فينقص ثمنه .
وقال الزمخشريُّ : « عِضِينَ » : أجزاء ، جمع عِضَة ، وأصلها عِضْوَة ، فعلة من عضَّى الشاة ، إذا جعلها أعضاءِ؛ قال : [ الزاجر ]
3293 وليْسَ دِينُ اللهِ بالمُعَضَّى ... وجمع « عِضَة » على « عِضِين » ، كما جمع سنة ، وثبة ، وظبة وبعضهم يجري النون بالحركات مع التاء ، وقد تقدم تقرير ذلك ، وحينئذ تثبت نوه في الإضافة ، فيقال : هذه عضينك .
وقيل : واحد العِضِين : عِضَةٌ ، وأصلها : عِضْهَةٌ ، فاستثقلوا الجمع بين هاتين ، فقالوا : عِضَةٌ ، كما قالوا : شَفَةٌ ، والأصل : شَفْهَةٌ ، بدليل قولهم : شافهنا .
قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } يحتمل أن يعود الضمير إلى المقتسمين؛ لأن الأقرب ، ويحتمل أن يعود إلى جميع المكلفين ، لأنَّ ذكرهم تقدَّم في قوله تعالى : { وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين } أي : لجميع [ الخلائق ] .
{ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال القرطبي : في البخاري : قال عدَّة من أهل العلم في وقوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } عن لا إله إلا الله .
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وبين قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }

[ الرحمن : 39 ] .
فأجابوا بوجوه :
أولها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا يسألون سؤال استفهامٍ؛ لأنه تعالى عالم بكلِّ أعمالهم ، بل سؤال تقريع ، فيقال لهم : لم فعلتم كذا؟ .
وهذا ضعيد؛ لأنه لو كان المراد من قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ } [ الرحمن : 39 ] سؤال استفهام ، لما كان في تخصيص هذا النفي بقولهم « يَومئِذٍ » فائدة؛ لأنَّ مثل هذا السؤال على الله محالٌ في كلِّ الأوقات .
وثانيها : أنه يصرف للنفي إلى بعض الأوقات ، والإثبات إلى وقت آخر؛ لأنَّ يوم القيامة ، يوم طويل ، وفيه مواقف يسألون في بعضها ، ولا يسألون في بعضها ، قاله عكرمة عن ابن عباس ونظيره قوله تعالى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } [ المرسلات : 35 ] ، وقال في آية أخرى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [ الزمر : 31 ] .
ولقائلٍ ِأن يقوله : قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ } [ الرحمن : 39 ] الآية : تصريحٌ بأنه لايحصل السؤال في ذلك اليوم ، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء اليوم ، لحصل التَّناقض .
وثالثها : أن قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ } [ الرحمن : 39 ] تفيد الآية النَّفي ، وفي قوله { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ } يعود إلى المقتسمين ، وهذا خاص فيقدم على العام .
قوله : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } أصل الصَّدع : الشَّقُّ ، صدعته فانصدع ، أي : شَقَقتهُ ، فانْشَقّ .
قال ابن السكِّيت : الصَّدعُ في اللغة : الشَّقٌّ ، والفصل؛ وانشد لجرير : [ البسيط ]
3294 هذَا الخَليفَةُ فارضَوْا ما قَضَى لَكُمُ ... بالحَقِّ يَصْدعُ ما فِي قَولهِ جَنَفُ
ومنه التفرقة أيضاً؛ كقوله : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] وقال : [ الوافر ]
3295 . ... كَأنَّ بَياضَ غُرَّتهِ صَدِيعُ
والصَّديعُ : ضوءُ الفجر لانشقاقِ الظُّلمةِ عنه ، يقال : انْصدعَ ، وانْفلقَ ، وانْفجرَ ، وانْفطرَ الصُّبحُ ، ومعنى « فَاصدَعْ » فرق بني الحقِّ والباطلِ وافْصِلْ بينهما .
وقال الراغب : الصَّدعُ : الشقُّ في الأجسام الصَّلبةِ كالزجاج ، والحديد ، وصدّعته بالتشديد ، فتصدع وصَدعتهُ بالتخفيف ، فانْصَدعَ ، وصَدْعُ الرأس لتوهُّم الانشقاق فيه ، وصدع الفلاة ، أي : قطعها ، من ذلك ، كأنَّه تونهم تفريقها .
ومعنى « فاصْدَعُ » اقل ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه : أظهر .
وقال الضحاك : أعلم . وقال الأخفش : فرِّق بين الحقِّ والباطل ، وقال سيبويه : اقْضِ .
و « مَا » في قوله « بِمَا تُؤمَرُ » مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والأصل تؤمر به ، وهذا الفعل يطرد حذف الجار معه ، فحذف العائد فيصح ، وليس هو كقولك : جَاءَ الذي مررتُ ، ونحوه : [ البسيط ]
3296 أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ .. . . .
والأصل : بالخَيْرِ .
وقال الزمخشريُّ : « ويجوز أن تكون » مَا « مصدرية ، أي : بأمرك مصدر مبنيّ للمعفول » انتهى .
وهو كلامٌ صحيحٌ ، والمعنى : فاصدع بأمرك ، وشأنك .
قالوا : وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية .
ونقل أبو حيَّان عنه أنه قال : ويجوز أن يكون المصدر يراد به « أنْ » ، والفعل المبني للمفعول .
ثم قال أبو حيان : « والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز » . قال شهابُ الدين : الخلاف إنَّما هو في المصدر ، والمصرح به هل يجوز أن ينحل بحرف مصدري ، وفعل مبني للمفعول أم لا يجوز .

خلاف المشهور ، أمَّا أنَّ الحرف المصدري هل يجوز فيه أن يوصل بعفلٍ مبني للمفعولٍ ، نحو : يعجبني أن يكرم عمرو أم لا يجوز؟ فليس محل النِّزاع .
ثم قال تعالى : { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } ، أي لا تبال عنهم ، ولا تلتفت إلى لومهم إيَّاك على إظهار الدَّعوة .
قال بعضهم : هذا منسوخٌ بآية القتال ، وهو ضعيف؛ لأنَّ معنى هذا الإعراض ترك المبالاة ، فلا يكون منسوخاً .
قوله : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين } يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } ، ولا تخف أحداً غير الله ، فإن الله كافيك ِأعداءك كما كفاك المستهزيئن ، وهم خمسة نفرٍ من رؤساء قريش : الوليد بن المغيرة المخزوميُّ ، وكان رأسهم ، والعاص بن وائلٍ [ السهمي ] ، والأسود بن عبدالمطلب بن الحارث بن أسد بن عبدالعزى أبو زمعة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه ، فقال : « اللَّهُمَّ أعْمِ بصَرهُ ، وأثْكلهُ بِولَدهِ » ، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد منافٍ بن زهرة ، والحررث بن قيس بن الطلالة؛ فأتى جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم والمستهزءون يطوفون بالبيت ، فقام جبريل صلوات الله وسلامه عليه وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فمرّ به الوليد بن المغعيرة ، فقال جبريل عليه السلام : يا محمد : كيف تجدُ هذا؟ قال : « بئس عبدالله » قال : قد كَفَيْتُكَه ، وأؤْمَأ إلى ساق الوليد ، فمرَّ برجلِ من خزاعة نبَّال يَرِيشُ نَبْلاً ، وعليه برد يمان ، وهو يهز إزاره ، فتعلَّقت شظية نبلٍ بإزاره ، فمنعه الكبرُ أن يتطامن ، فينزعها ، وجعلت تضربُ ساقه؛ فخدشته فمرض منها حتَّى مات . ومرَّ به العاس بن وائلٍ ، فقال جبريلُ : كيف تجد هذا يا محمد؟ قال : بِئْسَ عبد الله ، فأشار جبريل عليه السلام إلى أخْمَصِ رجليه ، وقال : قد كفيتكه ، فخرج على راحلته ، ومعه ابنان له يتنزَّه؛ فنزل شِعْباً من تلك الشِّعاب ، فوطىء على شبرقة ، فدخلت شوكة في أخمص رجله ، فقال : لُدِغْتُ لُدِغْتُ؛ فطلبوا ، فلم يجدوا شيئاً ، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير ، فمات مكانه .
ومرّ به مربد بن الأسود بن المطلب ، فقال جبريل : كيف تجدُ هذا يا محمَّد؟ قال : « عَبْدُ سوءٍ » ، فأشار بيده إلى عينيه ، وقال : قد كَفَيْتُكَهُ ، فعمي .
قال ابن عباس رضي الله عنه : رماه جبريل بورقةٍ خضراء؛ فذهب بصره ، ووجعت عينه ، فجعل يضرب برأسه الجدار حتَّى هلك ، ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث ، فقال جبريل عليه السلام : كَيْفَ تَجِدُ هذا يا محمد؟ قال : بئس عبدالله على أنه [ ابن ] خالي ، فقال جبريل عليه الصلاة والسلام : قد كفيتكه فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات ، ومرَّ به الحارث بن قيسٍ ، فقال جبريل عليه السلام كيف تجد هذا يا محمَّد؟ صلوات الله وسلامه عليك ، قال : عَبدُ سُوءٍ فأومأ ، فامتخط قيحاً؛ فمات .

قيل : استهزاؤهم ، وااقتسامهم أنَّ الله تعالى لمّا أنزل في القرآنِ سورة البقرةِ ، وسرة النحل ، وسورة العنكبوت ، كانوا يجتمعون ، ويقولون استهزاء ، يقول هذا إلى سورة البقرة ، ويقول هذا إلى سورة النحل ، ويقول هذا إلى سورة العنكبوت فأنزل الله تعالى : { نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : فصلّ بأمر ربك : « وكُنْ مِنَ السَّاجدِينَ » المصلين [ المتواضعين ] .
قال بان العربي « ظنَّ بعضه الناس أنَّش المراد هنا بالسجود نفسه ، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن ، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس ظهره الله تعالى يسجدُ في هذا الموضع ، وسجدت معه فيها ، ولم يره [ جماهير ] العلماء » .
قال [ القرطبي ] ، وقد ذكر أبو بكر النقاش أنَّ ههنا سجدة عند أبي حذيفة رضي الله عنه ويمان بن رئاب ، ورأى أنها واجبة ، قال العلماء : إذا أنزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى [ الطاعات ] وروي أن رسول الله صلى لله عليه وسلم « كَانَ إذا حَزبه أمْرٌ فَزع إلى الصَّلاةِ » .
{ واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : يريد الموت؛ لأنه أمر متيقن .
فإن قيل : فأيُّ فائدة لهذا التَّوقيت مع أنَّ كلَّ واجد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟ .
فالجواب : المراد : « واعبد ربَّك » في جميع زمان حياتك ، ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من العبادة .
روى أبيُّ بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورة الحِجْرِ كان لَهُ مِنَ الأجْرِ عَشْرُ حَسناتٍ بِعدَدِ المُهَاجرِينَ والأنصَارِ والمُسْتَهزِئينَ بمُحمَّدٍ » صلى الله عليه وسلّم وشرَّف ، وبجَّل ، ومجَّد ، وعظَّم .

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

قوله : { أتى أَمْرُ الله } في « أتَى » وجهان :
أشهرهما : أنه ماضٍ لفظاً مستقبل معنى ، إذ المراد به يوم القيامة ، وإنَّما أبرز في صورة ما وقع وانقضى تحقيقاً له ولصدق المخبر به .
والثاني : أنَّه على بابه .
والمراد به مقدماته وأوائله ، وهو نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : جاء أمر الله ودنا وقرب .
وقال ابن عرفة : « تقول العرب : أتاك الأمرُ وهو متوقَّع بعد أي : أتى امر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً » .
وقال قومٌ : المراد بالأمر ههنا عقوبة المكذِّبين والعذاب بالسيف وذلك أنَّ النَّصر بن الحارث قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية ، وقتل النضر يوم بدر صبراً .
وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- : قوله تعالى : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] قال الكفار بعضهم لبعض : إنَّ هذا يزعمُ أنَّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتَّى [ ننظر ] ما هو كائن ، فلما لم ينزل ، قالوا : ما نرى شيئاً ، [ فنزل قوله تعالى ] { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] فأشفقوا ، فلما امتدَّت الأيام ، قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوِّفنا به ، فنزل قوله تعالى { أتى أَمْرُ الله } فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رءوسهم وظنُّوا أنها قد أتت حقيقة ، فنزل قوله { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فاطمأنُّوا .
والاستعجال : طلب الشيء قبل حينه . واعلم أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - لمَّا كثر تهديده بعذاب الدنيا والآخرة ولم يروا شيئاً نسبوه إلى الكذب فأجابهم الله - تعالى - بقوله { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } وتقرير هذا الجواب من وجهين :
أحدهما : أنه وإن لم يأتِ العذاب ذلك الوقت إلاَّ أنه واجب الوقوعِ ، والشيءُ إذا كان بهذه الحالة والصِّفة فإنه يقال في الكلام المعتاد : إنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع ، يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها جاء الفوت .
والثاني : أن يقال : إنَّ أمر الله بذلك وحكمه قد أتى وحصل ووقع ، فأمَّا المحكوم به فإنَّما لم يقع ، لأنَّ الله - تعالى - حكم بوقوعه في وقتٍ معينٍ فلا يخرج إلى الوجود قبل مجيء ذلك الوقت ، والمعنى : أن أمر الله وحكمه بنزولِ العذاب قد وجد من الأزلِ إلى الأبدِ إلاَّ أنَّ المحكومَ إنَّما لم يحصل ، لأنَّه - تعالى - خصَّص حصوله بوقتٍ معيَّنٍ { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } قبل وقته ، فكأنَّ الكفار قالوا : سلَّمنا لك يا محمد صحة ما تقول : من أنَّه - تعالى - حكم بإنزال العذاب علينا إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة ، إلاَّ أنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله فنتخلص من العذاب المحكوم به فأجابهم الله - تعالى - بقوله { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .

قوله : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } يجوز أن تكون « ما » مصدرية فلا عائد لها عند الجمهور أي : عن إشراكهم به غيره ، وأن تكون موصولة اسمية .
وقرأ العامة { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } بالتاء خطاباً للمؤمنين أو للكافرين وقرأ ابن جبير بالياء من تحت عائداً على الكفار أو على المؤمنين .
وقرأ الأخوان « تُشْرِكُونَ » بتاء الخطاب جرياُ على الخطاب في « تَسْتَعْجِلُوهُ » والباقون بالياء عوداً على الكفار ، وقرأ الأعمش وطلحة والجحدري وجم غفير بالتاء من فوق في الفعلين .
قوله { يُنَزِّلُ الملاائكة } قد تقدم الخلاف في « يُنَزِّلُ » بالنسبة إلى التشديد والتخفيف في البقرة .
وقرأ زيد بن عليٍّ والأعمش وأبو بكر عن عاصم « تُنَزَّلُ » [ مشدداً ] مبنيًّا للمفعول وبالتاء من فوق . « المَلائِكَةُ » رفعاً لقيامه مقام الفاعل ، وقرأ الجحدري : كذلك إلا أنه خفَّف الزَّاي .
وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو العالية - رحمهم الله - عن عاصم بتاء واحدة من فوق ، وتشديد الزاي مبنياً للفاعل ، والأصل تتنزل بتاءين .
وقرأ ابن أبي عبلة : « نُنَزِّلُ » بنونين وتشديد الزَّاي « المَلائِكةَ » نصباً ، وقتادة كذلك إلاَّ أنَّه بالتخفيف .
قال ابن عطية : « وفيهما شذوذٌ كبيرٌ » ولم يبين وجه ذلك .
ووجهه أنَّ ما قبله وما بعده ضمير غائبٌ ، وتخريجه على الالتفات .
قوله : « بِالرُّوحِ » يجوز أن يكون متعلقاً بنفس الإنزالِ ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الملائكة ، أي : ومعهم الروحُ .
قوله « مِنْ أمْرهِ » حال من الروح ، و « مِنْ » إمَّا لبيانِ الجنس ، وإما للتبعيض .
قوله « أنْ أنْذِرُوا » في « أنْ » ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها المفسرة؛ لأن الوحي فيه ضرب من [ القول ] ، والإنزال بالروح عبارةٌ عن الوحي؛ قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] وقال : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ غافر : 15 ] .
الثاني : أنها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، تقديره : أنَّ الشأن أقول لكم : أنه لا إله إلا أنا ، قاله الزمخشري .
الثالث : أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع ، ووصلت بالأمر؛ كقولهم : كتبت إليه بأن قُمْ ، وتقدم البحث فيه .
فإن قلنا : إنَّها المفسرة فلا محلَّ لها ، وإن قلنا : إنها المخففة ، أو الناصبة ففي محلّها ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها مجرورة المحل بدلاً من « الرُّوحِ » لأنَّ التوحيد روحٌ تحيا به النفوس .
الثاني : أنَّها في محل جرٍّ على إسقاطِ الخافض؛ كما هو مذهب الخليل .
الثالث : أنَّها في محلِّ نصبٍ على إسقاطه؛ وهو مذهب سيبويه .
والأصل : بأن أنذروا؛ فلما حذف الجار جرى الخلاف المشهور .
قوله : { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ } هو مفعول الإنذار ، والإنذار قد يكون بمعنى الإعلام؛ يقال : أنْذرتهُ ، وأنْذَرتهُ بكذا ، أي : أعلموهم بالتوحيد .

وقوله : « فاتَّقُونِ » التفاتٌ إلى التكلم بعد الغيبة .
فصل
وجه النَّظم : أنَّ الله - تعالى - لما أجاب الكفار عن شبهتهم؛ تنزيهاً لنفسه - سبحانه وتعالى - عما يشركون؛ فكأنَّ الكفار قالوا : هب أنَّ الله قضى على بعض عبيده بالشرّ ، وعلى آخرين بالخير ، ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟ .
فأجاب الله - تعالى - بقوله : { يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون } وتقرير هذا الجواب : أنَّه - تعالى - ينزل الملائكة على من يشاء من عباده ، ويأمر ذلك العبد أن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله الخلق كلفهم بالتوحيد ، وبالعبادة ، وبين لهم أنَّهم إن فعلوا ، فازوا بخيرِ الدنيا والآخرة ، فهذا الطريق ضربٌ مخصوصٌ بهذه المعارف من دون سائر الخلق .
فصل
روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : يريد ب « المَلائِكة » جبريل وحده .
وقال الواحديُّ : يسمَّى الواحد بالجمع؛ إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدَّماً جائز ، كقوله تعالى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا } [ القمر : 19 ] ، و { إنَّآ أَنزَلْنَا } [ النساء : 105 ] ، و { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } [ الحجر : 9 ] .
والمراد بالروح الوحي كما تقدم ، وقيل : المراد بالروح هنا النبوة ، وقال قتادة رحمه الله تعالى : الرحمة ، وقال أبو عبيدة : إنَّ الروح ههنا جبريل عليه السلام .
والباءُ في قوله « بِالرُّوحِ » بمعنى « مع » كقولهم : « خَرجَ فلانٌ بِثيَابهِ » أي : ومعه ثيابهُ .
والمعنى : نُنزِّلُ الملائكة مع الروح؛ وهو جبريل ، وتقرير هذا الوجه : أنَّه - تعالى - ما أنزل على محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - جبريل وحدهُ في أكثر الحوالِ؛ بل كان يُنزِّلُ مع جبريل - عليه السلام - أقواماً من الملائكة؛ كما في يوم بدرٍ ، وفي كثيرٍ من الغزواتِ ، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ملك الجبال ، وتارة ملك البحار ، وتارة رضوان ، وتارة غيرهم .
وقوله « مِنْ أمْرهِ » أي أنَّ ذلك النُّزُولَ لا يكون إلا بأمر الله؛ كقوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] وقوله تعالى : { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ، وقوله : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] .
وقوله : { على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } يريد الأنبياء المخصوصين برسالته : « أنْ أنْذِرُوا » قال الزجاج : « أنْ » بدلٌ من « الرُّوحِ » .
والمعنى : ينزِّل الملائكة بأن أنذروا ، أي : أعلموا الخلائق ، أنَّه لا إله إلا أنا ، والإنذار هو الإعلامُ مع التخويف .
« فاتَّقُون » فخافون . يروى أن جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - نزل على آدم - عليه الصلاة والسلام - اثنتي عشرة مرة ، وعلى إدريس أربع مراتٍ ، وعلى نوح - عليه الصلاة والسلام - خمسين مرَّة ، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة وعلى موسى أربع مرات ، وعلى عيسى عشر مراتٍ ، وعلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء أربعة وعشرين ألف مرَّةٍ .

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)

قوله : { خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى } ارتفع { عَمَّا يُشْرِكُونَ } اعلم أنَّ دلائل الإلهيات وقعت في القرآن على نوعين :
أحدهما : أن يتمسَّك بالأظهر مترقياً إلى الأخفى ، فالأخفى كما ذكره في سورة البقرة في قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } [ البقرة : 21 ] فجعل تغير أحوال الإنسان دليلاً على احتياجه إلى الخالق .
ثم استدل بتغير أحوال الآباءِ ، والأمهاتِ؛ قال تعالى : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] .
ثم استدلَّ بأحوال الأرض؛ فقال تعالى : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً } [ البقرة : 22 ] لأن الأرض أقرب إلينا من السماء .
ثُمَّ استدلَّ بأحوال السماء بعد الأرض؛ فقال تعالى : { والسماء بِنَآءً } [ البقرة : 22 ] .
ثم استدلَّ بالأحوال المتولدة من تركيب السماء ، والأرض؛ فقال سبحانه : { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } [ البقرة : 22 ] .
النوع الثاني : أن يستدل بالأشرف ، فالأشرف نازلاً إلى [ الأدون فالأدون ] ؛ كما ذكر في هذه الآية ، فاستدل على وجود الإله المختار بذكر الأجرام الفلكية العلوية ، فقال : { خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقد تقدم الكلام على الاستدلال بذلك أول الأنعام ، ثم استدل ثانياً بخلق الإنسان ، فقال عز وجل : { خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } .
واعلم أنَّ أشرف الأجسام بعد الأفلاكِ والكواكبِ هو الإنسانُ .
وعلمْ أنَّ الإنسان مركبٌ من بدنٍ ونفسٍ ، فقوله تعالى : { خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ } إشارةٌ إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه .
وقوله عز وجل : { خَصِيمٌ مُّبِينٌ } إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره ، أمَّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاءِ بحسب المشاهدة؛ إلاَّ أنَّ بعض الأطباءِ يقول : إنه مختلف الأجزاءِ في الحقيقة؛ لأنَّ النطفة تتولد من فضلة الهضم .
الثالث : أنَّ الغذاء يحصل له : في المعدةِ هضم أولٌ ، وفي الكبد هضمٌ ثانٍ ، وفي العروق هضم ثالثٌ ، وعند وضوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابعٌ .
ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاءِ الغذاء إلى العظمِ ، وظهر فيه أثرٌ من [ الطبيعة ] العظيمة ، وكذا يقول في اللحمِ والعصبِ والعروقِ ، و غيرها .
ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشَّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء؛ وذلك هو النطفة ، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع .
وإذا عُرف هذا ، فالنطفةُ : إمَّا أن تكون جسماً متساوي الأجزاءِ في الطبيعةِ ، والماهيةِ ، أو مختلف الأجزاءِ ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليدِ البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودمِ الطَّمثِ؛ لأنَّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار ، والقوة الطبيعية إذَا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره .
وعلى هذا الحرف عوَّلوا في قولهم : البَسائطُ يجب أن يكون شكلها الكرة؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك؛ علمنا أنَّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة؛ بل فاعل مختار ، وهو يخلق بالتَّدبير ، والحكمة ، والاختيار ، وإن قلنا : إنَّ النطفة جسمٌ مركبٌ من أجزاء مختلفة في الطبيعةِ والماهيةِ ، فنقول : بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فإنه يجب أن يكون تولد البدنِ منها تدبير فاعل مختار حكيم ، وبيانه من وجهين :
الأول : أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة ، وإذا كان كذلك؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل ، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوقُ ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاءِ الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوانِ على هذا الترتيب المعيَّن أمراً دائماً؛ علمنا أنَّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصِّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار .

الوجه الثاني : أنَّ النطفة بتقدير أنَّها جسمٌ مركبٌ من أجسامٍ مختلفة الطبائع إلاَّ أنَّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحدٍ منها في نفسه جسماً بسيطاً .
وإذا كان كذلك ، فلو كان المدبِّر لها قوة طبيعية لكان كل واحدٍ من تلك البسائطِ يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كراتٍ مضمومة بعضها إلى بعض .
وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنَّ مدبِّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك ، لأنَّ تلك التأثيرات متشابهة؛ فعلمنا أنَّ مدبر أبدانِ الحيوانات فاعلٌ مختارٌ حكيمٌ .
قوله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ } متعلق ب « خَلَقَ » و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ .
والنُّطفَةُ : القطرة من الماءِ؛ نطَفَ رَأسهُ مَاءً ، أي : قطر ، وقيل : هي الماء الصافي ، ويعبر بها عن ماءِ الرجل ، ويكنى بها عن اللؤلؤةِ ، ومنه : صَبِي منَطَّفٌ إذا كان في أذنه لؤلؤة ، ويقال : ليلةٌ نطوفٌ إذا جاء فيها المطر ، والنَّاطفُ : ما سال من المائعات يقال : نَطَفَ يَنطفُ ، أي : سال فهو نَاطِف ، وفلانٌ يُنْطَفُ بسُوءٍ .
قوله : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } عطف هذه الجملة على ما قبلها ، فإن قيل : الفاءُ تدل على التعقيب ، ولا سيَّما وقد وجد معها « إذا » التي تقتضي المفاجأة ، وكونه خصيماً مبيناً لم يعقب خلقه من نطفةٍ ، إنما توسَّطتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤولُ إليه ، كقوله تعالى : { أَعْصِرُ خَمْراً } [ يوسف : 36 ] .
والثاني : أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم .
وقيل : ثمَّ وسائط محذوفة .
والذي يظهر أن قوله « خَلقَ » عبارة عن إيجاده ، وتربيته إلى أن يبلغ حدَّ هاتين الصفتين .
و « خَصِيمٌ » : فعيلٌ مثالُ مبالغةٍ من خَصِمَ بمعنى اخْتَصَمَ ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم ، كالخَليطِ والجَليسِ ، ومعنى « خَصِيمٌ » جدولٌ بالبَاطلِ .
فصل
اعلم أنَّه - سبحانه وتعالى - إنَّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيراتٍ كثيرةٍ مذكورة في قوله :

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] الآيات إلاَّ أنِّه - تعالى - اختصرها ها هنا استغناء بذكرها هناك .
قال الواحديُّ رحمه الله : الخصيمُ بمعنى المخاصم . وقال أهل اللغة : خصِيمُكَ الذي يُخاصِمُك ، وفعيل بمعنى مفاعل معروف ، كالنَّسيبِ والعَشيرِ .
ووجه الاستدلال بكونه خصيماً على وجود الإله المدبِّر الحكيم : أنَّ [ النفوس ] الإنسانيَّة في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاةءً من نفوس سائر الحيوانات؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ التصديق والعدوَّ ، ويهرب من الهرَّةِ ، ويلتجيءُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق ، والغذاء الذي لم يوافق .
وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع ، فظهر أن الإنسان في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاءً من نفوس سائر الحيوانات؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ الصديق والعدوَّ ، ويهرب من الهرَّةِ ، ويلتجئُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق ، والغذاء الذي لم يوافق .
وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع ، فظهر أنَّ الإنسان في أول الحدوثِ أنقص حالاً ، وأقلُّ فطنة من سائر الحيوانات .
ثم إنَّ الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض ، وقوى على معرفة الله - عزَّ وجلَّ - وصفاته ، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله - تعالى - والخصومات الشديدة في كل المطالب ، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بدَّ وأن يكون بتدبير مدبر مختارٍ حكيم بنقل الأرواحِ من نقصانها إلى كمالاتها ، ومن جهالاتها غلى معارفها بحسب الحكمةِ والاختيارِ فهذا هو المراد من قوله تعالى : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } .
الأول : أنه يجادل عن نفسه منازعاً للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجماداً ، لا حسَّ فيه ولا حركة ، والمقصود منه أنَّ الانتقال من تلك الحالةِ الخسيسة إلى هذه الحالةِ العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبرٍ حكيم .
والثاني : فإذا هو خصيمٌ لربِّه ، منكر على خالقه ، قائل : { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتَّمادي في كفران النِّعمة .
كما نقل أنَّها نزلت في أبي بن خلفٍ الجمحي؛ وكان ينكر البعث جاء بعظمٍ رميمٍ ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أتقول إنَّ الله - تعالى - يحيي هذه بعدما قد رُمّ؟ .
والصحيح أنَّ الآية عامة؛ لأنَّ هذه الآيات ذكرت لتقرير الاستدلال على وجودِ الصَّانع الحكيم لا لتقرير وقاحةِ النَّاسِ وتماديهم في الكفر والكفران .
قوله تعالى : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ } الآية هذه الدلالة الثالثة؛ لأنَّ أشرف الأجساد الموجودة في العالم السفليِّ بعد الإنسان سائرُ الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة ، وهي الحواسُّ الظاهرة والباطنة والشهوةُ والغضب .

قوله : { والأنعام خَلَقَهَا } العامة على النصب ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه نصب على الاشتغال وهو أرجح من الرفع لتقدم جملة فعليَّة .
والثاني : أنه نصب على عطفه على « الإنْسانَ » ، قاله الزمخشريُّ ، وابن عطيَّة فيكن « خَلقَهَا » على هذا مؤكداً ، وعلى الأول مفسراً .
وقرئ شاذًّا « والأنْعَامُ » رفعاً وهي مرجوحةٌ .
قوله : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } يجوز أن يتعلق « لكم » ب « خلقها » ، أي : لأجلكم ولمنافعكم ، ويكون « فيها » خبراً مقدماً ، و « دفء » مبتدأ مؤخرٌ ، ويجوز أن يكون « لَكُمْ » هو الخبر ، أو يكون حالاً من « دفء » قاله أبو البقاء .
وردَّه أبو حيَّان : بأنَّه إذا كان العاملُ في الحال معنويًّا ، فلا يتقدم على الجملة بأسرها ، ولا يجوز « قَائماً في الدَّارِ زيْدٌ » فإن تأخَّرت نحو « زَيْدٌ في الدَّارِ قَائِماً » جاز بلا خلافٍ ، أو توسَّطت بخلاف أجازه الأخفش ومنعه غيره .
ولقائل أن يقول : لما تقدم العامل فيها ، وهي معه جاز تقديمها عليه بحالها إلا أن نقول : لا يلزم من تقديمها وهو متأخر تقديمها عليه وهو متقدم لزيادة الفتح .
وقال أبو البقاء أيضاً : « ويجوز أن يرتفع » دِفْءٌ « ب » لَكُمْ « أو ب » فِيهَا « والجملة كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب » .
قال أبو حيان « ولا يسمَّى جملة ، لأنَّ التقدير : خلقها كائنٌ لكم فيها دفءٌ ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفءٌ » .
قال شهابُ الدِّين : « قد تقدم الخلاف في تقدير متعلق الجار إذا وقع حالاً أو صفة أو خبراص ، هل يقدر فعلاً أو اسماً ، ولعلَّ أبا البقاءِ نحا إلى الأول فتسميته له جملة صحيحٌ على هذا » .
والدِّفءُ : اسم لما يدفأ به ، أي : يسخنُ .
قال الأصمعيُّ : ويكون الدفءُ السخونة ، يقال : اقعد في دفء هذا الائط ، أي : في كنفه ، وجمعه أدفَاء ، ودَفِئَ يومنا فهو دَفيءٌ ، ودَفِئَ الرَّجُل يَدْفأ فهو دَفْآنُ ، وهي دَفْأى ، كَسَكْران ، وسَكْرَى .
والمُدفِّئَةُ بالتخفيف والتشديد ، الإبل الكثيرة الوبر الكثيرة الوبر والشَّحم ، وقيل : الدِّفْءُ : نِتاجُ الإبل وألبَانُهَا وما ينتفعُ به منها .
وقرأ زيد بن علي : « دِفٌ » بنقل حركة الهمزة إلى الفاءِ ، والزهريُّ : كذلك إلاَّ أنَّه شدَّد الفاء ، كأنَّه أجرى الوصل مجرى الوقف ، نحو قولهم : هذا فرخٌّ بالتشديد وقفاً .
وقال صاحب اللَّوامحِ : « ومنهم من يعوض من الهمزة فيشدِّد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيبٍ وقفاً » .
قال شهابُ الدِّين : والتشديد وقفاً : لغة مستقلة وإن لم يكن ثمَّ حذف من الكلمة الموقوف عليها .

قوله « ومَنافِعُ » أراد النَّسْل ، والدَّرَّ ، والركوب ، والحملَ ، وغيرها ، فعبر عن هذا الوصف بالمنفعة؛ لأنَّه الأعمُّ ، والدر والنسل قد ينتفع به بالبيع بالنقودِ ، وقد ينتفع به بأن تبدَّل بالثياب ، وسائر الضَّرورياتِ ، فعبَّر عن جملة الأقسامِ بلفظ المنافع ليعمَّ الكل .
فصل
الحيوانات قسمان :
منها ما ينتفع به الإنسان ، ومنها ما لا يكون كذلك ، والقسم المنتفع به [ أفضل ] من الثاني ، والمنتفع به إمَّا أن ينتفع به الإنسان في ضروراته ، مثل الأكلِ واللبسِ أو في غير ضروراته ، والأول أشرف وهو الأنعام ، فلهذا يدأ بذكره فقال : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ } وهي عبارة عن الأزواج الثمانية ، وهي الضَّأنُ والمعز والبقر والإبل .
قال الواحديُّ : تمَّ الكلام عند قوله : { والأنعام خَلَقَهَا } ثم ابتدأ وقال : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } .
قال صاحبُ النَّظم : أحسنُ الوجهين أن يكون الوقف عند قوله : « خَلَقَهَا » ؛ لأنه عطف عليه { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } والتقدير : لكم فيها دفءٌ ولكم فيها جمالٌ .
ولما ذكر الأنعام ، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها ، وهي إما ضرورية ، أو غير ضرورية ، فبدأ بذكر المنافع الضرورية؛ فقال : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى ، فقال سبحانه : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ } [ النحل : 80 ] .
والمعنى : ملابسُ ولحفاءُ يستدفئون بها ، ثم قال : « ومَنافِعُ » والمراد ما تقدم من نسلها ودرِّها .
ثم قال : { وَمِنْهَا تَكُلُونَ } ، « مِنْ » ها هنا لابتداء الغاية ، والتبعيض هنا ضعيفٌ .
قال الزمخشري : « فإن قلت : تقديم الظرف مؤذنٌ بالاختصاص ، وقد يؤكل من غيرها ، قلت : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس ، وأمَّا غيرها من البط والدجاج ونحوها من الصَّيد ، فكغير المعتد به؛ بل جارٍ مجرى التَّفكُّهِ » .
قال ابن الخطيب : « ويحتمل أن غالب أطعمتكم منها؛ لأنَّكم تحرثون بالبقر ، والحب والثّمار التي تأكلونها ، وتكتسبون بها ، وأيضاً بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها ، وألبانها ، وجلودها ، وتشترون بها جميع أطعمتكم » .
فإن قيل : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللَّبس ، فلم أخَّر منفعة الأكْلِ في الذكر؟ .
فالجواب : أنَّ الملبوس أكثر من المطعوم؛ فلهذا قدِّم عليه في الذِّكر فهذه المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام ، وأمَّا المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام فأمورٌ :
الأول : قوله { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } كقوله { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } .
و « حِينَ » منصوب بنفس « جمالٌ » أو بمحذوفٍ ، على أنه صفة له ، أو معمولٌ لما عمل في « فِيهَا » أو في « لَكُمْ » .
وقرأ عكرمة ، والضحاك ، والجحدري - رحمهم الله - : « حِيناً » بالتنوين؛ على أنَّ الجملة بعده صفة له ، والعائد محذوف ، أي : حيناً تريحون فيه وحيناً تسرحون فيه ، كقوله : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ } [ البقرة : 281 ] وقدِّمت الإراحة على [ السرح ] ؛ لأنَّ الأنعام فيها أجمل لملءِ بطونها وتحفُّل ضروعها ، بخلاف التسريح؛ فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللَّبن ثم تتفرق وتنتشر .

فصل
قد ورد الحين على أربعة أوجهٍ :
الأول : بمعنى الوقت كهذه الآية .
الثاني : نتهى الأجل ، قال : { وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } [ يونس : 98 ] ، أي : إلى منتهى آجالهم .
الثالث : إلى ستة اشهر ، قال تعالى : { تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } [ إبراهيم : 25 ] .
الرابع : أربعون سنة ، قال تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر } [ الإنسان : 1 ] .
أي : أربعون سنة ، يعني آدم - صلوات الله وسلامه عليه - حين خلقه من طينٍ قبل أن ينفخ فيه الروح .
والجمالُ : مصدر جَمُلَ بضمِّ الميم يجمُل فهو جَمِيلٌ وهي جَمِيلةٌ ، وحكى الكسائي : جَمْلاء كحَمْرَاء؛ وأنشد : [ الرمل ]
3297- فَهْيَ جَمْلاءُ كَبَذرٍ طَالعٍ ... بذَّتِ الخَلْقَ جَمِيعاً بالجَمالِ
ويقال أراح الماشية وهراحها بالهاء بدلاً من الهمزة ، وسرح الإبل يسرحها سرحاً ، أي : أرسلها ، وأصله أن يرسلها لترعى ، والسَّرحُ : شجرٌ له ثمرٌ ، الواحدة سرحةٌ ، قال أبيّ : [ الطويل ]
3298- أبَى الله إلاَّ أنَّ سَرحَة مَالكٍ ... عَلي كُلِّ أفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ
وقال : [ الكامل ]
3299أ- بَطلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ في سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ ليْسَ بِتَوْءَمِ
ثم أطلق على كلِّ إرسالٍ ، واستعير أيضاً للطلاق ، يقال : سَرحَ فلانٌ امْرأتهُ كما استعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإبل من عقلها ، واعتبر من السَّرح المضي فقيل : ناقة [ سرحٌ ] ، أي : سريعة ، وقيل : [ الكامل ]
3299ب- سُرُحُ اليَديْنِ كَانَّهَا . . . .
وحذف مفعولي « تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ » مراعاة للفواصل مع العلم بها .
فصل
الإراحةُ : ردُّ الإبل بالعشيّ إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً ، وسرح القوم إبلهم سرحاً ، إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى .
قال أهل اللغة : هذه الإراحةُ أكثر ما تكون أيَّام الربيع إذا سقط الغيث ، وكثر الكلأُ ، وخرجت العرب للنّجعةِ ، وأحسن ما يكون النعمُ في ذلك الوقت .
ووجهُ التجملِ بها أنَّ الراعيَ إذا روحها بالعشيَّ وسرَّحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية ، وكثر فيها النفاء والرغاء ، وعظم وقعهم عند الناس لكونهم مالكين لها .
والمنفعة الثانية قوله : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ } .
الأثقالُ : جمع ثِقَل ، وهو متاع السَّفر إلى بلدٍ . قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- : « يريد من مكة إلى [ المدينة ] والشام ومصر » .
وقال الواحديُّ - رحمه الله- : « والمراد كلُّ بلدٍ لو تكلفتم بلوغه على غير إبلٍ لشقَّ عليكم » .
وخصَّ ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - هذه البلاد لأنَّها متاجر أهل مكة .
قوله { لَّمْ تَكُونُواْ } صفة ل « بَلدٍ » ، و « إلاَّ بشقِّ » حال من الضمير المرفوع في « بَالغِيهِ » ، أي : لم تبلغوه إلا ملتبسين بالمشقةِ .
والعامة على كسر الشِّين . وقرأ أبو جعفر ورويت عن نافع ، وأبي عمرو بفتحها؛ فقيل : هما مصدران بمعنى واحد ، أي : المشقَّة فمن الكسرِ قول الشاعر : [ الطويل ]
3300- رَأى إبلاً تَسْعَى ويَحْسِبُهَا لَهُ ... أخِي نَصبٍ مِنْ شِقِّهَا ودُءُوبِ

أي : من مشقّتها .
وقيل : المفتوح المصدر ، والمكسور الاسم .
وقيل : بالكسر نصف الشيء . وفي التفسير : إلاَّ بنصف أنفسكم ، كما تقول : لَمْ تَنلهُ إلا بقطعه من كيدك على المجاز .
فصل
أذا حملنا الشقَّ على المشقَّةِ كان المعنى : لم تكونوا بالغيه إلاَّ بالمشقَّة ، وإن حملناها على نصف الشيء كان المعنى : لم تكونوا بالغيه إلا عند ذهاب نصف قوتكم ونقصانها .
قال بعضهم : المراد من قوله تعالى { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ } الإبل فقط ، لأنه وصفها في آخر الآية بقوله - عز وجل - { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } وهذا لا يليق إلاَّ بالإبل فقط .
والجواب : أنَّ هذه الآيات وردت لتعديدِ منافع الأنعام ، فبعض تلك المنافع حاصل في الكلِّ ، وبعضها يختص بالبعض ، لأنَّ قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } حاصل في البقر والغنم أيضاً .
{ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } بخلقه حيث جعل لهم هذه المنافع .
فصل
احتجَّ منكرو كرامات الأولياءِ بهذه الآية ، لأنَّ هذه الآية دلت على أنَّ الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ إلا بشقِّ الأنفس ، وحملِ الأثقالِ على [ الجمال ] ، فيكون الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ بعيدٍ في ليلةٍ واحدةٍ من غير تعبٍ ، وتحمُّل مشقة خلاف هذه الآية ، فيكون باطلاً .
ولمَّا بطل القول بالكرامات في هذه الصورة ، بطل القول بها في سائر الصُّورِ؛ لأنه لا قائل بالفرق .
والجواب : أنَّا نَخُصُّ هذه الآية بالأدلَّة الدالة على وقوع الكرامات .
قوله : { والخيل والبغال والحمير } العامة على نصبها؛ نسقاً على الأنعام ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعها على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي : مخلوقةٌ ومعدَّة لتركبوها ، وليس هذا ممَّا ناب فيه الجارُّ مناب الخبر لكونه كوناً خاصًّا .
قال القرطبي : « وسُمِّيت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها ، وواحد الخيل خائل ، كضَائن واحد ضأن . وقيل : لا واحد له ، ولما أفرد - سبحانه وتعالى - الخيل ، والبغال ، والحمير ، بالذكر؛ دلَّ على أنَّها لم تدخل في لفظ الأنعام . وقيل : دخلتْ؛ ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب ، فإنَّه يكثر في الخيل والبغال والحمير » .
قوله : « وَزِينَةً » في نصبها أوجهٌ :
أحدها : أنه مفعولٌ من أجله وإنَّما وصل الفعل إلى الأول باللام في قوله تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا } وإلى هذا بنفسه لاختلاف الشَّرط في الأول ، وعدم اتحاد الفاعل ، وأنَّ الخالق الله والراكب المخاطبون .
الثاني : أنَّها منصوبة على الحال ، وصاحبُ الحال إمَّا مفعول « خَلَقَهَا » وإمَّا مفعول « لِترْكَبُوهَا » فهو مصدر ، وأقيم مقام الحالِ .
الثالث : أن ينتصب بإضمار فعلٍ ، فقدره الزمخشريُّ - رحمه الله - وخلقها زينة .
وقدره ابن عطيَّة وغيره : وجعلها زينةً .
الرابع : أنَّه مصدرٌ لفعلٍ محذوف أي : « ولتتَزيَّنُوا بِهَا زينةً » .
وقرأ قتادة عن ابن أبي عامر : « لتَرْكَبُوهَا زِينَةً » بغير واوٍ ، وفيها الأوجه المتقدمة؛ ويريد أن يكون حالاً من فاعل « لِترْكبُوهَا » متزينين .

فصل
لمَّا ذكر منافع الحيوان التي ينتفع بها من المنافع الضرورية ، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ليست بضرورية فقال : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } ، والخيل اسم جنسٍ لا واحد له من لفظه كالإبل .
واحتجَّ القائلون بتحريمِ لحومِ الخيلِ؛ وهو قول ابن عباسٍ ، والحكم ، ومالك ، وأبي حنيفة - رضي الله عنهم - بهذه الآيةِ ، قالوا : منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب ، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً؛ لكان هذا المعنى أولى بالذِّكر ، وحيث لم يذكره الله - تعالى - علمنا تحريم أكله .
ويقوِّي هذا الاستدلال : أنَّه قال - تعالى - في صفة الأنعام { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وهذه الكلمة تفيد الحصر ، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعامِ فوجب أن يحرَّم أكل لحوم الخيل بمقتضى هذا الحصرِ .
ثمَّ إنَّه - تعالى - ذكر بعد هذا الكلام الخيل والبغال والحمير ، وذكر سبحانه أنها مخلوقة للركوب ، وهذا يقتضي أن منفعة الأكلِ مخصوصة بالأنعام .
وأيضاً قوله تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا } يقتضي أنَّ تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة ، هو الركوبُ والزينةُ ، ولو حلَّ أكلها لما كان تمامُ المقصود من خلقها هو الركوب ، بل كان حلُّ أكلها أيضاً مقصوداً؛ وحينئذٍ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصودِ؛ بل يصير بعض المقصودِ .
وأجاب الواحديُّ - رحمه الله- : بأنَّه لو دلَّت هذه الآية على تحريم أكل الخيل؛ لكان تحريم أكلها معلوماً في مكَّة؛ لأنَّ هذه السورة مكية .
ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدِّثين إنَّ تحريم لحوم الحمر الأهلية كان عام خيبر باطلاً؛ لأنَّ التحريم لما كان حاصلاًُ قبل هذا اليوم ، لم يبق لتخصيص هذا التَّحريم بهذه [ السنة ] فائدة .
وأجاب غيره : بأنه ليس المراد من الآية بيان التَّحليل والتحريم؛ بل المراد منه أن يعرِّف الله - تعالى - عباده نعمه ، وتنبيههم على كمالِ قدرته وحكمته .
واحتجُّوا بقولِ جابر - رضي الله عنه- : « نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبرٍ عَنْ لَحومِ الحُمرِ ورخَّصَ في لُحومِ الخَيْلِ » .
ولمَّا ذكر - تعالى - أصناف الحيوانات المنتفع بها ، ذكر بعده الأشياء التي لا ينتفع غالباً بها فذكرها على سبيل الإجمال .
فقال سبحانه وتعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وذلك لأنَّ أنواعها وأصنافها خارجة عن الإحصاء؛ فذكر ذلك على سبيل الإجمال .
وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « إنَّ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ نَهْراً مِنْ نُورٍ مِثلَ السَّمواتِ السَّبْع والبِحار السَّبعَة والأرضين السبع يَدخُل فيه جِبْريلُ - عليه الصلاة والسلام - كُلَّ سحرٍ فيزْدادُ نُوراً إلى نُورهِ وجَمالاً إلى جَمالهِ ، ثُمَّ ينتفِضُ فيَخْلقُ الله - سبحانه وتعالى - مِنْ كُلِّ نُقْطَة تقع مِن رِيشهِ كذا وكذا ألْفَ مَلك ، يَدخلُ مِنهُم كُلَّ يَومٍ سَبعُونَ ألفاً البيتَ المَعْمُورَ ، وفي الكَعْبةِ أيضاً سَبْعُون ألفاً لا يعُودُونَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ » .

قوله : { وعلى الله قَصْدُ السبيل } الآية والمعنى : إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها؛ إزاحةً للعذرِ؛ وإزالة للعلَّة { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] .
قوله : { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } الضمير يعود على السبيل؛ لأنَّها تؤنث { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي } [ يوسف : 108 ] أو لأنَّها في معنى سُبلٍ ، فأنَّث على معنى الجمع ، والقَصْدُ مصدرٌ يوصف به فهو بمعنى قاصد ، يقال : سبيلٌ قصدٌ وقاصدٌ ، أي : مستقيمٌ ، كأنه يَقْصِدُ الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه .
وقيل : الضمير يعود على الخلائق؛ ويؤيده قراءة عيسى ، وما في مصحف عبد الله : « ومِنْكُمْ جَائِرٌ » ، وقراءة عليّ : « فَمِنكُْ جَائِرٌ » بالفاء .
وقيل : « ألْ » في « السَّبيلِ » للعهد؛ وعلى هذا يعود الضمير على السبيل التي تتضمنها معنى الآية؛ لأنَّه قيل : ومن السبيل فأعاد عليها ، وإن لم يجر له ذكر؛ لأنَّ مقابلها يدلُّ عليها ، وأما إذا كانت « ألْ » للجنس فيعود على لفظها .
والجَوْرُ : العدول عن الاستقامة؛ قال النابغة : [ الطويل ]
3301- . ... يَجُورُ بِهَا المَلاَّحُ طَوْراً ويَهْتَدِي
وقال آخر : [ الكامل ]
302- ومِنَ الطَّريقَةِ جَائِرٌ وهُدًى ... قَصْدُ السَّبيلِ ومِنْهُ ذُو دَخْلِ
وقال أبو البقاء : و « قَصْدُ » مصدرٌ بمعنى إقامة السَّبيل ، أو تعديل السبيل ، وليس مصدر قصدته بمعنى أتَيْتهُ .
فصل
قوله : { وعلى الله قَصْدُ السبيل } يعني بيان طريق الهدى من الضَّلالة ، وقيل : بيان الحقِّ من الباطل بالآيات والبراهين ، والقصد : الصراط المستقيم .
{ وَمِنْهَا جَآئِرٌ } يعني : ومن السَّبيل جائر عن الاستقامة معوجّ ، والقصد من السبيل دينً الإسلامِ ، والجائر منها : اليهوديَّة والنَّصرانيةُ وسائر مللِ الكفرِ .
قال جابر بن عبد الله : « قَصْدُ السَّبيلِ » بيانُ الشَّرائع والفرائض .
وقال ابن المبارك وسهل بن عبد الله : « قَصْدُ السَّبيلِ » السنة ، « ومِنْهَا جَائِرٌ » الأهواء والبدع؛ لقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ } [ الأنعام : 153 ] .
فصل
قالت المعتزلة : دلت الآية على أنَّه يجب على الله الإرشاد والهداية إلى الدِّين وإزالةُ العلل [ والأعذار ] ؛ لقوله { وعلى الله قَصْدُ السبيل } وكلمة « عَلَى » للوجوب ، قال تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضلُّ أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه ، لأنه لو كان - تعالى - فاعلاً للضَّلال؛ لقال { وعلى الله قَصْدُ السبيل } وعليه جائرها ، أو قال : وعليه الجائر فلمَّا لم يقل ذلك ، بل قال في قصد السبيل أنه عليه ، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه ، بل قال : « ومِنْهَا جَائِرٌ » دلَّ على أنَّه - تعالى - لا يضلُّ عن الدينِ أحداً .
وأجيب : بأنَّ المراد على أنَّ الله - تعالى - بحسب الفضلِ والكرمِ؛ أن يبين الدِّين الحق ، والمذهب الصحيح ، فأما أن يبين كيفية الإغواء والإضلال؛ فذلك غير واجب .

قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } يدل على أنَّه - تعالى - ما شاء هداية الكفار ، وما أراد منهم الإيمان؛ لأنَّ كلمة « لَوْ » تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، أي : ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين ، وذلك يفيد أنه - تعالى - ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هذاهم .
وأجاب الأصمُّ : بأنَّ المراد : لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم ، وهذا يدل على أنَّ مشيئة الإلجاءِ لم تحصل .
وأجاب الجبائيُّ : بأنَّ المعنى : ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة وإلى نيل الثواب؛ لكنَّه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه ، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان؛ لأنَّه مقدور جميع المكلَّفين .
وأجاب بضعهم؛ فقال المراد : ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة ابتداء على سبيل التفضل ، إلاَّ أنَّه - تعالى - [ عرَّفكمُ ] للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبيَّن ، فمن تمسَّك بها فاز ، ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب . وتقدم الجواب عن ذلك مراراً .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)

قوله تعالى : { هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً } لمَّا استدلَّ على وجود الصانع الحكيم بأحوال الحيوان ، أتبعه بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات .
واعلم أنَّ الماء المنزَّل من السماء هو المطر وهو قسمان :
أحدهما : الذي جعله الله شراباً لنا ، ولكل حيٍّ .
فإن قيل : دلت الآية على أنَّ شراب الخلق ليس إلاَّ من المطرِ ، ومن المعلوم أنَّ الخلق يشربون من المياه التي في قعر الأرض؛ وأجاب القاضي - رحمه الله- : بأنه تعالى بين أنَّ المطر شرابنا ، ولم ينفِ أن نشرب من غيره .
وأجاب غيره : بأنه لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ما ينزل من السماء؛ لقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } [ المؤمنون : 18 ] ولا يمتنع أيضاً في العِذاب من الأنهار أن يكون أصلها من المطر .
والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سبباً لتكوين النبات ، وهو قوله { وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } .
قوله : « لَكُمْ » يجوز أن يتعلق ب « أنْزَلَ » ويجوز أن يكون صفة ل « مَاءً » فيتعلق بمحذوفٍ ، فعلى الأول يكون [ « شراب » مبتدأ ، و « منه » خبره مقدم عليه ، والجملة ايضاً صفة ل « ماء » ، وعلى الثاني يكون « شراب » فاعلاً ] بالظرف ، و « مِنْهُ » حال من « شَرابٌ » ، و « مِنَ » الأولى للتبعيض ، وكذا الثانية عند بعضهم ، لكنَّه مجازٌ؛ لأنَّه لما كان سقاه بالماء جعل كأنه من الماء؛ كقوله : [ الرجز ]
3303- أسْنِمَةُ الآبَالِ في رَبَابَهْ ... أي : في سحابة ، يعني به المطر الذي ينبت به الكلأ الذي تأكله الإبل فتسمن أسنمتها .
وقال ابنُ الأنباري - رحمه الله- : « هو على حذف مضافٍ إمَّا من الأول؛ يعني قبل الضمير ، أي : ومن جهته أو سقيه شجر ، وإمَّا من الثاني ، يعني قبل شجر ، أي : شربُ شجرٍ أو حياة شجر » .
وجعل أبو البقاءِ : الأولى للتبعيض ، والثانية للسببية؛ أي : وبسببه غنباتُ شجرٍ ، ودل عليه قوله - سبحانه وتعالى - { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع } .
والشجر ها هنا : كلُّ نباتٍ من الأرض حتَّى الكلأ ، وفي الحديث : « لا تَأكلُوا ثمنَ الشَّجرِ فإنَّهُ سُحْتٌ » يعني : الكلأ ينهى عن تحجر المباحاتِ المحتاج إليها ، وأنشدوا شعراً : [ الرجز ]
3304- نُطْعِمُهَا اللَّحْمَ إذَا عَزَّ الشَّجَرْ ... يريد : يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض ، قاله الزجاج .
وقال ابن قتيبة في هذه الآية : المراد من الشجر : الكلأ .
فإن قيل : قال المفسرون في قوله تعالى : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] : إن المراد بالنجم : ما ينجم من الأرض ممَّا ليس له ساق ، ومن الشجر ما له ساق ، وأيضاً : عطف الشجر على النَّجم؛ فيوجب مغايرة الشجر للنجم .

فالجواب : أنَّ عطف الجنس على النع وبالضدِّ مشهور وأيضاً : فلفظ الشجرِ يشعر بالاختلاط ، يقال : تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم ببعض ، وتشاجرتِ الرِّماح إذا اختلطت ، وقال تعالى : { حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] ، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب ، والكلأ؛ فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه .
وقيل المراد بالشجر ما له ساقٌ؛ لأنَّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وإطلاق الشجر على الكلأ مجازٌ .
قوله : { فِيهِ تُسِيمُونَ } هذه صفة أخرى ل « مَاءً » ، والعامة على « تُسِيمُونَ » بضم التاء من أسام ، أي : [ أرسلها ] لترعى .
وقرأ زيد بن علي بفتحها ، فيحتمل أن يكون متعدياً ، ويكون فعل وأفْعَل بمعنى ، ويحتمل أن يكون لازماً على حذف مضافٍ ، أي : تُسِيمُ مَواشِيكُمْ .
يقال : أسمت الماشية إذا خلَّيتها ترعى ، وسامت هي تسُومُ سَوْماً ، إذا رعتْ حيثُ شاءتَ فهي سَوام وسَائِمَة .
قال الزجاج - رحمه الله- : « أخذ ذلك من السومةِ وهي العلامة؛ لأنَّها تؤثر في الأرض برعيها علاماتٍ » .
وقال غيره : لأنها تعلَّم الإرسال والمرعى ، وتقدم الكلام في هذه المادة في آل عمران عند قوله تعالى : { والخيل المسومة } [ الآية : 14 ] .
قوله تعالى : { يُنْبِتُ لَكُمْ } تحتمل هذه الجملة الاستئناف والتبعيَّة ، كما في نظيرتها ، ويقال : أنْبتَ الله الزَّرْعَ فهو منبُوت ، وقياسه : مُنْبَت . وقيل : أنْبتَ قد يجيء لازماً ، ك « نَبَتَ » ؛ وأنشد الفراء : [ الطويل ]
3305- رَأيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حولَ بُيوتِهِمْ ... قَطِيناً لهُمْ حتَّى إذَا أنْبتَ البَقْلُ
وأباه الأصمعيُّ؛ والبيت حجة عليه ، وتأويله : ب « أنبت » البقل نفسه على المجاز بعيد جدًّا .
وقرأ أبو بكر « نُنْبِتُ » بنون العظمة ، والزهري « تنَبِّتُ » بالتشديد ، والظاهر أنَّهُ تضعيف التَّعدي ، وقيل : بل للتَّكرير ، وقرأ أبي : « تُنْبُتُ » بفتح الياء وضمِّ الباءِ . « الزَّرْعَ » وما بعده رفع بالفاعلية ، وتقدم خلافُ القراء في رفع « الشَّمْس » وما بعدها ونصبها ، وتوجيه ذلك في سورة الأعراف .
فصل
النبات قسمان :
أحدهما : لرعي الأنعام؛ وهو المراد من قوله « تُسِيمُونَ » .
والثاني : المخلوق لأكل الإنسانِ؛ وهو المراد من قوله : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب } .
فإن قيل : إنه - تعالى - بدأ في هذه الآية بذكر مأكول [ الحيوان ] وأتبعه بذكر مأكولِ الإنسانِ ، وفي ىية أخرى عكس الترتيب؛ فقال : { كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُم } [ طه : 54 ] فما الفائدة فيه؟ .
فالجواب : أنَّ هذه الآية مبنيَّةٌ على مكارم الأخلاق؛ وهو أن يكون اهتمام الإنسانِ بمن يكون تحت يده ، أكمل من اهتمامه بنفسه ، وأمَّا الآية الأخرى ، فمبنيةٌ على قوله - عليه الصلاة والسلام- : « ابْدَأ بِنَفْسِكَ ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ » .
فصل
اعلم أنَّ الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء ، والغذاء ، إمَّا من الحيوانات ، وإمَّا من النبات ، والغذاء الحيوانيُّ أشرف من الغذاء النباتي؛ لأنَّ تولد أعضاءِ الإنسانِ من [ أكل ] أعضاء الحيوان أسهل من تولدها من غذاء النبات؛ لأنَّ المشابهة هناك أكمل وأتم ، والغذاء الحيواني إنما يحصل من إسامةِ الحيواناتِ وتنميتها بالرعي؛ وهو الذي ذكره الله في الإسامةِ .

وأمَّا الغذاء النباتيُّ ، فقسمان : حبوب ، وفواكه : أمَّا الحبوب ، فإليها الإشارة بقوله : « الزَّرْعَ » ، وأما الفواكه ، فأشرفها : الزيتونُ ، والنَّخيلُ ، والأعناب أما الزيتون؛ فلأنه فاكهة من وجه ، وإدامٌ من وجه آخر؛ لما فيه من الدهنِ ، ومنافع الهنِ كثيرة : للأكلِ ، والطلاءِ ، وإشعالِ السِّراج .
وأما امتياز النَّخيل والأعناب من سائر الفواكه ، فظاهر معلوم ، وكما أنَّه - تعالى - لما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل ، ثم وصف البقية بقوله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] فكذلك ههنا ، لمَّا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات ، قال في وصف البقية : { وَمِن كُلِّ الثمرات } تنبيهاً على أن تفصيل أنواعها ، وأجناسها ، وصفاتها ، ومنافعها ، ما لم يكن ذكره ، فالأولى أن يقتصر فيه على الكلام المجملِ ، ثم قال سبحانه وتعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .
واعلم أن وجه الدَّلالة من هذه الآية على وجود الله - تعالى - : هو أنَّ الحبة الواحدة تقع في الطين ، فإذا مضى عليها زمنٌ معينٌ ، نفذت في تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض؛ فتنتفخ وتنشقُّ أعلاها وأسفلها؛ فيخرج من أعلاها شجرة صاعدة إلى الهواء ، ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في [ قعرِ ] الأرض؛ وهي عروقُ الشجرِ ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة لا تزال تزدادُ ، وتنمو وتقوى ، ثم يخرج منها الأوراق ، والأزهارُ ، والأكمام ، والثمار ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع؛ كالعنب فإنَّ قشوره وعجمه باردان يابسان كثيفان ، ولحمه وماؤه حارٌ رطبٌ ، فنسبة هذه الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة ، ونسبة التأثيرات الفلكية ، والتحريكات الكوكبيَّة إلى الكلِّ متشابهة ، فمع تشابه هذه الأشياء ، ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع ، والطَّعم ، واللَّون ، والرائحة ، والصفة؛ فدلَّ صريح العقل على أنَّ ذلك ليس إلا بفعل فاعل قادرٍ حكيمٍ رحيمٍ .
وختم هذه الآية بقوله : { يَتَفَكَّرُونَ } لأنه تعالى ذكر أنَّه أنزل من السماءِ ماء ، فأنبت به الزرع ، والزيتون ، والنخيل ، والأعناب ، فكأنَّ قائلاً قال : لا نسلِّم أنه - تعالى - هو الذي أنبتها ، بل يجوز أن يكون حدوثها لتعاقبِ الفصولِ الأربعةِ ، وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب ، فما لم يقُم الدليل على فساد هذا الاحتمالِ لا يكون هذا الدليل وافياً بإفادة هذا المطلوب ، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً ، فلهذا ختم الآية بقوله : { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .
قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر } الآية وهذه الآية هي الجواب عن السؤال المتقدم تقريره من وجهين :
الأول : أن يقول : هبْ أن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مستندة إلى الاتِّصالات الفكليَّة إلاَّ أنه لا بدَّ لحركتها واتصالاتها من أسباب ، وأسباب تلك الحركات : إما ذواتها ، وإمَّا أمورٌ مغايرةٌ لها ، والأول باطل من وجهين :
الأول : أنَّ الأجسام متماثلةٌ ، فلو كان الجسم علَّة لصفة ، لكان كل جسمٍ واجب الاتصاف بتلك الصفةِ؛ وهو محالٌ .

والثاني : أنَّ ذات الجسم لو كانت علَّة لحصول هذه الحركة ، لوجب دوامُ هذه الحركة بدوام تلك الذات ، ولو كان كذلك لوجب بقاءُ الجسم على حالةٍ واحدةٍ من غير تغيير أصلاً؛ وذلك يوجبُ كونه ساكناً لذاته ، وما أفضى ثبوته إلى عدمه ، كان أصلاً باطلاً .
فثبت أنَّ الجسم يمتنع أن يكون متحرِّكاً لكونه جسماً ، فبقي أن يكون متحركاً لغيره ، وذلك الغير : إمَّا أن يكون سارياص فيه ، أو مبايناً عنه ، والأول باطلٌ لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام؛ فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها ، وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً ، عاد التقسيم الأول فيه ، وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً ، فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً ، والأول باطل لأنَّ نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على التسوية؛ فلم يكن بعض الأجسام بقبولِ بعض الآثار المعينة أولى من بعض؛ فثبت أنَّ محرك تلك الأفلاك والكواب هو الفاعل القادر المختار المنزَّهُ عن كونه جسماً ، وجسمانيًّا؛ وذلك هو الله - تعالى - .
فالحاصل أنَّا وإن حكمنا باستثناء حوادث العالم السفليِّ إلى الحركات الفلكية والكوكبية ، فهذه الحركاتُ الفلكية لا يمكن إسنادها إلى [ أفلاكٍ أخرى ] ؛ وإلاَّ لزم التَّسلسلُ؛ وهو محالٌ؛ فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله - تعالى - وإذا كان كذلك ، كان هذا اعترافاً بأنَّ الكُلَّ من الله - تبارك وتعالى - وبإحداثه وتخليقه ، وهذا هو المراد من قوله عز وجل : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر } يعني : أنَّ تلك الحوادث كانت لأجل تعاقبِ الليل والنَّهار ، وحركاتِ الشَّمس والقمر ، فهذه الأشياء لا بدَّ وأن يكون حدوثها بتخليق الله - تعالى - وتسخيره؛ قطعاً للتسلسل .
ولمَّا تم هذا الدليل ، ختم الآية بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : كلّ عاقل يعلم أنَّ القول بالتسلسل باطل ، وأنه لا بدَّ من الانتهاءِ إلى الفاعل المختار .
والجواب الثاني عن ذلك السؤال : أنَّ تأثير الطبائع ، والأفلاك ، والكواكب؛ بالنسبة إلى الكلِّ واحد ، ثمَّ إنَّا نرى تولد العنب : قشره على طبع ، وعجمه على طبعٍ ، ولحمه على طبع ثالثٍ ، وماؤه على طبع رابع ، ونرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصُّفرةِ ، والوجه الثاني من تلك الورقةِ في غاية الحمرة ، وتلك الورقة في غاية الرقة واللَّطافة ، ونعلم بالضرورة أنَّ نسبة الأنجم ، والأفلاكِ ، إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة نسبة واحدة ، والطبيعة الواحدة هي المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً؛ ألا ترى أنهم قالوا : شكل البسيط هو الكرة؛ لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً ، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة ، وأيضاً إذا أضأنا الشمع ، فإذا استضاء خمسة أذرع من ضوء ذلك الشمع من أحد الجوانب ، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب؛ لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب ، وإذا ثبت هذا ، فنسبة الشمس ، والقمر ، والأنجم ، والأفلاك ، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة ، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة ، وثبت أنَّ الطبيعة المؤثرة ، متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً ، وثبت أنَّ الأثر غير متشابهٍ؛ لأنَّ أحد وجهي تلك الورقة في غاية الصفة ، والوجه الثاني منها في غاية الحمرة ، وهذا يفيد القطع بأنَّ المؤثِّر في حصول تلك الصفات ، والألوان ، والأحوال - ليس هو الطبيعة؛ بل الفاعل فيها هو الفاعل المختار الحكيم ، وهو الله - تعالى - وهذا هو المراد من قوله تعالى : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } .

ولما كان مدار هذه الحجَّة على أنَّ المؤثر الموجب بالذاتِ وبالطبيعةِ ، يجب أن تكون نسبته إلى الكل متشابهة - لا جرم ختم الآية بقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } فلمَّا دلَّ الحسُّ في هذه الأحكام النباتيَّة على اختلاف صفاتها ، وتنافر أحوالها - على أنَّ المؤثِّر فيها ليس هو الطبيعة - ظهر أنَّ المؤثر فيها ليس موجباً بالذاتِ؛ بل الفاعل المختار - سبحانه وتعالى- .
فإن قيلك لا يقال : سخَّرتُ هذا الشيء مسخَّراً .
فالجواب : أنَّ المعنى : أنه - تعالى - سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرةً تحت قدرته وإذنه .
فإن قيل : التسخيرُ عبارة عن القهر والقسر ، ولا يليق ذلك إلاَّ بمن هو قادر يجوز أن يقهر؛ فكيف يصحُّ ذلك في اللَّيل والنهار ، وفي الجمادات؛ كالشمس والقمر؟ .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - لما دبَّر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد ، صارت شبيهة بالعبدِ المنقادِ المطواع؛ فلهذا المعنى أطلق على هذا النَّوع من التَّدبير لفظ التَّسخيرِ .
والجواب الثاني : لا يستقيمُ إلاَّ على مذهب علماء الهيئة؛ لأنهم يقولون : الحركة الطبيعية للشمس والقمر ، هي الحركة من المغرب إلى المشرقِ ، والله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب ، فكانت هذه الحركة قسرية؛ فلذلك أطلق عليها لفظ التسخير .
فإن قيل : إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس؛ كان ذكر الليل والنهار مغنياً عن ذكر الشمس ، فالجواب : حدوث النهار واللّيل ليس بسبب [ حدوث ] حركةِ الشمس؛ بل حدوثهما سبب حركة الفلك الأعظم الذي دلَّ الدليل على أن حركته ليست إلا بتحريكِ الله - تعالى - وأما حركةُ الشمسِ ، فَإنَّها علة لحدوث السنة ، لا لحدوث اليومِ .

فإن قيل : المؤثر في التسخير هو القدرة ، لا الأمر؛ فكيف قال الله : { مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } ؟ .
فالجواب : هذه الآية مبنيّة على أنَّ الأفلاك والكواكب جماداتٌ ، أم لا ، وأكثر المسمين على أنَّها جمادات؛ فلهذا حملوا الأمر في هذه الآيةِ على الخلق [ والتقدير ] ، ولفظ الأمر بمعنى الشَّأنِ والفعل كثيرٌ؛ قال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] .
ومنهم من قال : إنها ليست بجماداتٍ ، فههنا يحمل الأمر على الإذنِ والتكليفِ .
قوله : { وَمَا ذَرَأَ } عطف على الليل والنهار؛ قاله الزمخشري؛ يعني : ما خلق فيها من حيوانٍ وشجر .
وقال أبو البقاء : « في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ؛ أي : وخلق ، أو أنبت » .
كأنه استبعد تَسلطَ « وسَخَّرَ » على ذلك؛ فقدَّر فعلاً لائقاً ، و « مُخْتلِفاً » حال منه ، و « ألْوانهُ » فاعل به .
وختم الآية الأولى بالتفكُّر؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأملٍ ونظر ، والثانية بالعقل؛ لأنَّ مدار ما تقدم عليه ، والثالثة بالتذكر؛ لأنه نتيجة ما تقدم .
وجمع « آيَاتٍ » في الثانية دون الأولى والثالثة؛ لأنَّ ما يناط بها أكثر؛ ولذلك ذكر معها الفعل .
قوله تعالى : { وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا } الآية لما استدلَّ على إثباتِ الإله أولاً بأجرامِ السَّمواتِ ، وثانياً ببدن الإنسان ، وثالثاً بعجائبِ خلق الحيوانات ، ورابعاً بعدائب النبات - ذكر خامساً عجائب العناصرِ فبدأ بالاستدلال بعنصر الماءِ .
قال علماء الهيئةِ : ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة بالماءِ ، وذلك هو البحر المحيط ، وحصل في هذا الرابع المسكون سبعة أبحرٍ؛ قال تعالى : { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر } [ لقمان : 27 ] والبحر الذي سخره الله للناس هو هذه البحار ، ومعنى تسخيرها للخلق : جعلها بحيث يتمكن [ الناس ] من الانتفاع بها : إمَّا بالركوبِ ، أو بالغوصِ .
واعلم أنَّ منافع البحارِ كثيرةٌ ، فذكر منها - تعالى - هنا ثلاثة أنواعٍ :
الأول : قوله تعالى { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا } يجوز في « منهُ » تعلقه ب « لِتَأكُلوا » وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حال من النكرة بعده ، و « مِنْ » لابتداءِ الغاية أو للتبعيض ، ولا بدَّ من حذف مضافٍ ، أي : من حيوان ، و « طَريًّا » فعيلٌ من : طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً؛ ك « سَرُوَ يَسْرُو سَرَاوَة » .
وقال الفراء : [ بل يقال : ] « طَرِيَ يَطْرَى طَرَاءً ممدوداً وطَراوَةً؛ كما يقال : شَقِيَ يَشْقَى شَقاءً وشَقاوةً » .
والطَّراوَةُ ضد اليُبوسَةِ أي : غضًّا جديداً ، ويقال : طَريْتُ كذا ، أي : جدَّدْتهُ ، ومنه الثياب المُطرَّاة ، والإطْراءُ : مدحٌ تجدَّد ذكرهُ؛ وأمَّا « طَرَأ » بالهمز ، فمعناه : طَلَعَ .
قال ابن الأعرابي - رحمه الله- : لحمٌ طَريٌّ غير مهموز ، وقد طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً .
فصل
اعلم أنَّه - تعالى - لما أخرج من البحر الملح الزُّعاقِ الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة ، علم أنَّه إنَّما حدث لا بحسبِ الطب؛ بل بقدرة الله - تعالى - وحكمته بحيث أظهر الضد من الضدِّ .

فصل
لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السَّمك ، قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : لا يحنثُ؛ لأنَّ لحم السَّمك ليس بلحم . وقال آخرون : يحنثُ لأنَّ الله - تعالى - نصَّ على تسميته لحماً ، وليس فوق بيان الله بيانٌ .
روي أنَّ أبا حنيفة - رضي الله عنه - لما قال بهذا ، وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك محتجاً بهذه الآية؛ فبعث إليه أبو حنيفة رجلاً وسأله عن رجلٍ حلف لا يصلِّي على البساطِ فصلَّى على الأرضِ ، هل يحنث أم لا؟ .
فقال سفيان - رحمه الله - : لا يحنثُ ، فقال السائل : أليس أنَّ الله - تعالى - قال : { والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطا } [ نوح : 19 ] قال : فعرف سفيان أنَّ ذلك بتلقين أبي حنيفة - رضي الله عنه - قاله ابن الخطيب .
وهذا ليس بقويِّ؛ لأنَّ أقصى ما في الباب أنَّا تركنا العمل بظاهرِ القرآنِ في لفظ البساط لدليل قام ، فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى من غير دليل ، والفرق بين الصورتين من وجهين :
الأول : أنه لما حلف لا يصلِّي على البساط ، فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساطِ؛ لزمنا أن نمتعه من الصلاة؛ لأنه إن صلَّى على الأرض حنث ، وإن صلَّى على البساط حنث ، بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظِ اللحم؛ لأنه ليس في منعه من أكل اللَّحم على الإطلاق محذورٌ .
الثاني : أنَّا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة ، أنَّ وقوع اسم البساط على الأرض مجازٌ ولم نعرف أن وقوع اسم اللحم على لحم السمك مجاز وحجة أبي حنيفة - رضي الله عنه- : أنَّ الأيمان مبناها على العرف؛ لأن الناس إذا ذكروا اللحم على الإطلاقِ ، لا يفهم منه لحم السَّمك؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه : « اشْترِ بهذا الدِّرهمِ لحماً » فجاء بلحمِ سمكٍ استحق الإنكار .
والجواب : أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ ، وتارة تعتبرون المعنى ، وتارة تعتبرون العرف ، وليس لكم ضابط؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه : اشتر بهذا الدرهم لحماً فجاء بلحم العصفور استحق الإنكار ، مع أنَّكم تقولون : إنه يحنث بأكل لحم العصفور؛ فثبت أنَّ العرف مضطربٌ ، والرجوع إلى نصِّ القرآن متعين .
النوع الثاني من منافع البحر : قوله : { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } « الحليةُ : اسم لما يتحلَّى به ، وأصلها الدَّلالةُ على الهيئة؛ كالعِمَّة والخِمرة » .
« تَلْبَسُونهَا » صفة ، و « مِنْهُ » يجوز فيه ما جاز في « مِنْهُ » قبل ، والمراد بالحلية : اللؤلؤ والمرجان .
فصل
المراد : يلبسهم لبس نسائهم؛ لأنَّهن من جملتهم ، ولأنَّ تزينهنَّ لأجلهم فكأنها زينتهم ، وتمسك بعض العلماءِ في عدم وجوب الزكاةِ في الحليِّ المباح لقوله - عليه الصلاة والسلام- :

« لا زَكَاةَ في الحُلِيّ » .
ويمكن أن يجاب على تقدير صحَّة الحديث : بأنَّ لفظ « الحُلِيّ » مفرد محلى بالألف واللام؛ فيحمل على المعهود السابق ، وهو المذكور في هذه الآية ، فيصير تقدير الحديث : لا زكاة في اللآلئ ، وحينئذٍ يسقط الاستدلال بالحديث .
النوع الثالث من منافع البحر : قوله تعالى : { وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } قال أهل اللغة : مَخْرُ السَّفينةِ شقُّها الماء بصدرها . وعن الفراء : أنه صوتُ جَرْي الفلك بالرِّياحِ .
إذا عرفت هذا ، فقول ابن عبَّاسٍ : « مَواخِرَ » أي : جَوارِي ، إنما حسن التفسير به؛ لأنها لا تشقُّ الماء إلاَّ إذا كانت جارية . وقوله تعالى : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني : لتركبوه للتجارة؛ فتطلبوا الريح من فضل الله ، وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه؛ فلعلكم تقدمون على شكره .
قال القرطبي : « امتنَّ الله على الرِّجالِ والنساء امتناناً عامًّا بما يخرج من البحر ، فلا يحرم عليهم شيء منه ، وإنَّما حرَّم الله - تعالى - على الرجال الذهب والحرير .
قال - صلوات الله وسلامه عليه - في الحرير والذهب : » هَذا حَرامٌ على ذُكورِ أمَّتِي حلٌّ لإنَاثهَا « .
وروى البخاريُّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اتَّخذَ خاتماً من فضَّة ونقش فيه محمَّد رسول الله » .
فصل
من حلف لا يلبس حلياً ، فلبس لؤلؤاً لم يحنث ، وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - .
وقال بعض المالكية : « هذا ، وإن كان الاسم اللغويُّ يتناوله فلم يقصده باليمين ، والأيمان مبنية على العرف ، ألا ترى أنه لو حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث وكذلك لو حلف لا يستضيء بسراج ، وجلس في ضوء الشمس لا يحنث ، وإن كان الله سمى الأرض فراشاً والشمس سراجاً » .
قوله : { وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ } ، « تَرَى » جملة معترضة بين التعليلين : وهما « لِتأكُلوا » ، « ولِتَبْتغُوا » ، وإنما كانت اعتراضاً ، لأنه خطاب لواحدٍ بين خطابين لجمعٍ .
و « فِيهِ » يجوز أن يتعلَّق ب « تَرَى » وأن يتعلق ب « مَوَاخِرَ » لأنها بمعنى شواقٍّ ، وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حال من « مَواخِرَ » أو من الضمير المستكنِّ فيه .
و « مَواخِرَ » جمع مَاخِرَة ، والمَخْرُ : الشقُّ ، يقال : مَخرتِ السَّفينةُ البَحْرَ ، أي : شقَّتهُ ، تَمْخرُه مَخْراً ومُخوراً ، ويقال للسُّفنِ : بَناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ ، بالميم والباء بدل منها .
وقال الفراء : هُوَ صوتُ جري الفلك ، وقيل : صوتُ شدَّة هُبوبِ الرِّيح ، وقيل بنات مَخْر لسحاب [ ينشأ ] صيفاً ، وامْتخَرْتَ الرِّيحَ واسْتَخْرْتَهَا : إذا استقبلتها بأنفك .
وفي الحديث : « اسْتَمخِرُوا الرِّيحَ وأعِدُّوا النبْلَ » يعني في الاستنجاءِ ، اي : ينظر أين مجراها وهبوبها؛ فليستدبرها؛ حتَّى لا يرد عليه البول .

والمَاخُورُ : الموضع الذي يباع فيه الخمر ، و « تَرَى » هنا بصرية فقط .
قوله { وَلِتَبْتَغُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عطفٌ على « لِتَأكُلوا » وما بينهما اعتراضٌ كما تقدم ، وهذا هو الظاهر .
وثانيها : أنه عطفٌ على علَّةٍ محذوفةٍ ، تقديره : لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ، ذكره ابن الأنباري .
وثالثها : أنه متعلق بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فعل ذلك لتبتغوا . وفيهما تكلُّف لا حاجة إليه .
ومعنى { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني : لتركبوها للتجارة؛ لتطلبوا الرِّبْحَ من فضلِ الله ، فإذا وجدتم فضل الله فلعلكم تشكرونه .
قوله تعالى : { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُم } والمقصود منه : ذكرُ بعض النعم التي خلقها الله في الأرض ، وتقدم ذكر الرواسي .
قوله { أَن تَمِيدَ بِكُم } أي : كراهة أن تميدَ ، أو لئلاَّ تميد ، أي : تتحرَّك ، والميدُ : هو الاضطرابُ [ والتكفؤ ] ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحرِ : ميدٌ .
قال وهب : « لما خلق الله الأرض جعلت تمورُ؛ فقالت الملائكة : إنَّ هذه غير مقرَّة أحدٍ على ظهرها ، [ فأصبحت ] وقد أُرسيتْ بالجبالِ ، فلم تدر الملائكة ممَّ خلقت الجبال؛ كالسفينة إذا ألقيت في الماءِ ، فإنها تميل من جانب إلى جانب ، وتضطرب ، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة فيها ، استقرت على وجه الماء » .
قال ابن الخطيب - رحمه الله - وهذا مشكلٌ من وجوهٍ :
الأول : أنَّ هذا التعليل؛ إمَّا أن يكون مع القولِ بأن حركاتِ هذه الأجسام بطبعها ، أو ليست بطبعها؛ بل هي واقعةٌ بتحريكِ الفاعل المختارِ ، أمَّا على التقدير الأول فمشكلٌ؛ لأن الأرض أثقل من الماءِ ، والأثقل من الماء يغوص في الماءِ ، ولا يبقى طافياً عليه ، وإذا لم يبق طافياً ، امتنع أن يقال : إنَّها تميلُ ، وتميدُ وتضطرب ، وهذا بخلاف السفينة؛ لأنها متخذة من الخشب ، وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء ، فلهذا السَّبب تبقى الخشبةُ طافية على الماء ، [ فحينئذ ] تميل وتميد وتضطرب على وجه الماء ، فإذا أرسيت بالأجرام الثقيلة ، استقرت وسكنت؛ فافترقا .
وأمَّا على التقدير الثاني : وهو أنَّه ليس للأرض والماء طبع يوجب الثقل والرسوب ، وإنَّما - الله تعالى - أجرى عادته بجعلها كذلك ، وصار الماء محيطاً بالأرض لمجردِ إجراءِ العادة ، وليس ههنا طبيعة للأرض ، ولا للماء ، توجب حالة مخصوصة ، فعلى هذا التقدير؛ علَّة سكون الأرض : هي أنَّ الله - تعالى - خلق فيها السكون .
وعلة كونها مائدة مضطربة : هي أنَّ الله يخلق فيها الحركة ، وعلى هذا ، فيفسد القول بأنَّ الأرض كانت مائدة مائلة ، فخلق الله تعالى الجبال وأرساها بها؛ لتبقى ساكنة؛ لأنَّ هذا إنما يصح إذا كانت طبيعة الأرض توجبُ الميلان ، وطبيعة الجبال توجبُ الإرساء ، والثبات ، ونحن نتكلم على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال ، فثبت أن هذا التعليل مشكلٌ على كلِّ تقديرٍ .

الثاني : أنَّ إرساء الأرض بالجبال إنَّما كان؛ لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء ساكنة من غير أن تميد وتميل ، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً .
فنقول : فما المقتضي لسكونه في ذلك الحيِّز المخصوص؟ فإن كان طبعه المخصوص أوجب وقوفه في ذلك الحيز المعين ، فلم لا نقولُ مثله في الأرض؟ وهو أنَّ طبيعة الأرض المخصوصة أوجبت وقوفها في ذلك الحيِّز المعيَّن ، وحينئذٍ يفسد القول بأنَّ الأرض إنما وقفت؛ بسبب أنَّ الله أرساها بالجبال ، وإن كان المقتضي لسكون الماء في حيِّزه المعين ، هو أنَّ الله - تعالى - سكَّن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص ، فلم لا نقول مثله في سكون الأرض؟ وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً .
الثالث : أنَّ الأرض كلها جسم ، فبتقدير أن تميل وتضطرب على وجه البحر المحيط ، فلم لم تظهر تلك الحالة للناس؟ .
فإن قيل : أليس أنَّ الأرض تحرِّكها البخارات المحتبسة في داخلها عند الزلزال ، وتظهر تلك الحركات للناس ، فبم تنكرون على من يقول : إنه لولا الجبال لتحركت الأرض ، إلاَّ أنَّه - تعالى - لما أرساها بالجبال الثقالِ ، لم تقو الريحُ على تحريكها؟ .
قلنا : تلك البخارات احتبست في [ داخل ] قطعة صغيرة من الأرض ، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة ، ظهرت تلك الحركة ، فظهور تلك الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضوٍ معينٍ من بدن الإنسانِ ، أما لو تحركة كلية الأرض لم تظهر تلك الحركةُ؛ ألا ترى أنَّ الساكن في السفينة لا يحسُّ بحركة كليةِ السفينة ، وإنْ كانت على أسرع الوجوه ، وأقواها ، فكذا ها هنا .
قال ابن الخطيب - رحمه الله- : والذي عندي ههنا أن يقال : ثبت بالدلائل اليقينية أنَّ الأرض كرة ، وثبت أنَّ الجبال على سطح الكرة جاريةٌ مجرى خشوناتٍ تحصل على وجه هذه الكرة .
وإذا ثبت هذا فنقول : لو فرضنا أنَّ هذه الخشوناتِ ما كانت حاصلة؛ بل كانت الأرض كرة حقيقية ، خالية عن الخشونات ، والتضريسات - لصارت بحيث تتحركُ بالاتسدارة بأدنى سبب؛ لأنَّ الجرم البسيط المستدير : إمَّا ن يجب كونه متحركاً بالاستدارة؛ وإن لم يجب ذلك عقلاً ، إلاَّ أنَّها بأدنى سبب تتحركُ على [ هذا الوجه ] ، فلما حصل على ظاهر سطح الكرة من الأرض هذه الجبال ، وكانت الخشونات الواقعة على وجهِ الكرةِ ، فكل واحدٍ من هذه الجبال إنَّما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم ، وتوجُّه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم ، وقوته الشديدة ، يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة ، فكان تخليقُ هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتادِ المغروزةِ في الكرة المانعة من الحركة المستديرة ، فكانت مانعة للأرض من المَيْدِ ، والمَيْلِ ، والاضطراب ، بمنى أنها منعت الأرض من الحركةِ المستديرة والله أعلم .
قوله : « وأنْهَاراً » عطف على « رَواسِيَ » ؛ لأنَّ الإلقاء بمعنى الخلقِ ، وادَّعى ابن عطيَّة رحمه الله : أنَّه منصوب بفعلٍ مضمرٍ ، أي : وجعل فيها أنهاراً .

وليس كما ذكر .
وقيل : الإلقاءُ معناه الجعلُ ، قال تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا } [ فصلت : 10 ] وقدره أبو البقاء : « وشقَّ فيها أنْهاراً » وهو مناسبٌ .
واعلم أنَّه ثبت في العلوم العقليَّة ، أنَّ أكثر الأنهار إنما يتفجرُ منابعها في الجبال ، فلهذا [ السبب ] لمَّا ذكر الجبال ، أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار .
قوله « وسُبُلاً » أي : وذلَّل ، أو وجعل فيها طرقاً؛ لتهتدوا بها في أسفاركم؛ كقوله تعالى : { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } [ طه : 53 ] إلى ما تريدون .
وقوله : { وَعَلامَاتٍ } أي : وضع فيها علاماتٍ .
قوله : « وبِالنَّجْمِ » متعلق ب « يَهْتَدُون » والعامة على فتح النون ، وسكون الجيم ، بالتوحيد ، فقيل : المراد به : كوكب بعينه وهو الجَدْي أو الثُّريَّا .
وقيل : بل هو اسم جنس ، وقرأ ابنُ وثَّاب : بضمهما ، والحسن : بضمِّ النون فقط ، وعكس بعضهم النقل عنهما .
فأمَّا قراءة الضمتين ، ففيها تخريجان :
أظهرهما : أنه جمع صريح؛ لأنَّ فعلاء يجمع على فعل؛ نحو : « سَقْقٌ وسُقُف ، وزَهْر وزُهُر » .
والثاني : أنَّ أصله النجوم ، وفعل يجمع على فعول؛ نحو : فَلْس وفُلُوس ، ثم خفِّف بحذف الواو ، كما قالوا : أسُد وأسُود وأسْد .
قال أبو البقاء؛ « وقالوا في » خِيَام : خُيُم « يعني أنَّه نظيرهُ من حيث حذفوا فيه حرف المدِّ .
وقال ابن عصفورٍ : » إنَّ قولهم : « النُّجُم » من ضرورات الشِّعر « وأنشد : [ الرجز ]
3306- إنَّ الذي قَضَى بِذَا قاضٍ حِكمْ ... أن تَرِدَ الماءَ إذَا غَابَ النُّجُمْ
يريد النجوم . كقوله : [ الرجز ]
3307- حَتَّى إذَا بُلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ ... يريد الحُلُوق .
وأمَّا قراءة الضمِّ ، والسكون ، ففيها وجهان :
أحدهما : أنها تخفيف من الضمِّ .
والثاني : أنها لغة مستقلة . وتقديم كلِّ من الجارِّ ، والمبتدأ ، يفيد الاختصاص ، قال الزمخشريُّ - رحمه الله- : » فإن قلت : قوله تعالى : { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } مختصٌّ بسفرِ البحر؛ لأنه تعالى لما ذكر صفة البحر ، ومنافعه ، بيَّن أنَّ من يسير فيه يهتدون بالنجم .
وقال بعضهم : هو مطلقٌ في سفر البحر والبرِّ .
فصل في المراد بالعلامات
المراد بالعلاماتِ : معالمُ الطريق ، وهي الأشياء التي يهتدى بها ، وهذه العلامات هي الجبالُ والرياحُ .
قال ابنُ الخطيب : « ورايتُ جماعة يشمُّون التراب؛ فيعرفون الطرقان بشمِّه » .
قال الأخفش - رحمه الله- : تم الكلام عند قوله : « وعَلامَاتٍ » ثم ابتدأ : { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } .
وقال محمد بن كعبٍ القرظيِّ ، والكلبيُّ - رحمهما الله- : الجبالُ علاماتُ النَّهار ، والنجوم علامات الليل .
قال السديُّ : أراد بالنجم : الثُّريَّا ، وبنات نعش ، والفرقدين ، والجدي ، يهتدى بها إلى الطرق ، والقبلة .
قال القرطبيُّ : سأل ابنُ عباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم - عن النَّجم؛ فقال - صلوات الله وسلامه عليه- :

« هُوَ الجَديُ عليْهِ قِبْلتكُمْ وبِهِ تَهْتَدونَ في بَرِّكُمْ وبَحْرِكُمْ » ، وذلك أنَّ آخر الجدي بناتُ نعشٍ الصغرى ، والقطب الذي تستوي عليه القبلة بينهما .
قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } الآية لمَّا ذكر الدَّلائلَ الدالة على وجود الإله القادر الحكيم ، أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله - تعالى - والمقصود أنَّه لما دلت الدلائل [ القاهرة ] على وجود إله قادرٍ حكيم ، وثبت أنَّه هو المُولِي لجميع هذه النعم ، والمعطي لكلِّ هذه الخيراتِ ، فكيف يحسنُ في العقولِ الاشتغال بعبادة غيره ، لا سيَّما إن كان غيره جماداً لا يفهم ، ولا يعقل؟ .
فلهذا قال تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ } هذه الأشياء التي ذكرناها { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } ، أي كمن لا يقدر على شيء ألبتة؛ { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } فإنَّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبُّر ، ونظر؛ بل يكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم ، من أنَّ العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم ، وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعم العظيمة ومع ذلك فتعلمون أنَّ عبادته تقبح ، فهذه الأصنام جمادات محضة ، ليس لها فهمٌ ، ولا قدرة ولا غحساس ، فكيف تعبدونها؟ .
قوله { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } إن أريد ب { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } جميع ما عبد من دون الله ، كان ورود « مَنْ » واضحاً؛ لأنَّ العاقل يغلب على غيره ، فيعبر عن الجميع ب « مَنْ » ولو جيء أيضاً ب « ما » لجاز ، وإن أريد به الأصنام ، ففي إيقاع « مَنْ » عليهم أوجهٌ :
أحدها : إجراؤهم لها مجرى أولي العلم في عبادتهم إيَّاها ، واعتقادِ أنَّها تضرُّ ، وتنفع كقول الشاعر : [ الطويل ]
3308- بَكيْتُ إلى سِرْبِ القَطَا إذْ مَرَرْنَ بِي ... فقُلْتُ : ومِثْلِي بالبُكَاءِ جَدِيرُ
أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَناحَهُ؟ ... لَعلِّي إلى مَنْ قَدْ هَويتُ أطِيرُ
فأوقع « مَنْ » على السرب ، لمَّا عاملها معاملة العقلاء .
الثاني : المشاكلة بينه وبين « مَنْ يَخْلقُ » .
[ الثالث : تخصيصه بمن يعلم ، والمعنى : أنه إذا حصل التباين بين من يخلق ] وبين « مَنْ لا يخلقُ » من أولي العلم ، وأنَّ غير الخالق لا يستحقُّ العبادة ألبتة ، فكيف يستقيم عبادة الجمادِ المنحطِّ رتبة ، السَّاقط منزلة عن المخلوقِ من أولي العلم؛ كقوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] إلى آخره؛ وأمَّا من يجيز إيقاع « مَنْ » على غيرِ العقلاءِ من غير شرطِ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويل .
قال الزمخشري - رحمه الله- : فإن قلت : هو إلزامٌ للذين عبدوا الأوثان ، ونحوها؛ تشبيهاً بالله تعالى - جلَّ ذكره - وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق - سبحانه لا إله إلا هو - فكان حقُّ الإلزامُ أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق .
قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله عز وجل ، بتسميتهم والعبادة له ، جعلوا الله من جنسِ المخلوقات ، وتشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } .

فصل في الاحتجاج بالآية
احتجَّ أهل السنَّة بهذه الآية على أنَّ العبد غير خالقٍ لأفعالِ نفسه؛ لأنَّه سبحانه - عز وجل - ميَّز نفسه عن الأشياءِ التي يعبدونها بصفة الخالقية؛ لأنَّ الغرض من قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } بيان تميُّزه عن الأصنام بصفة الخالقية ، وأنَّه إنَّما يستحق الإلهية ، والمعبوديَّة؛ لكونه خالقاً ، وهذا يقتضي أنَّ العبد لو كان خالقاً لشيءٍ؛ وجب أن يكون إلهاً معبوداً ، ولما كان ذلك باطلاً ، علمنا أنَّ العبد لا يقدر على الخلق ، والإيجاد .
أجاب المعتزلة من وجوه :
الأول : المراد من قوله تعالى { أَفَمَن يَخْلُقُ } ما تقدم ذكره من السماوات والأرض ، والإنسان ، والحيوان ، والنبات ، والبحار ، والنجوم ، والجبال ، كمن لا يقدر على خلق شيءٍ أصلاً ، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً لهذه الأشياءِ؛ فإنه يكون إلهاً ، ولم يلزم منه أنه إن قدر على خلق أفعال نفسه أن يكون إلهاً .
الثاني : أنَّ معنى الآية : أنَّ من كان خالقاً كان أفضل ممَّن لا يكون خالقاً ، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهيَّة ، والمعبوديَّة ، وهذا القدر لا يدلُّ على انَّ كلَّ من كان خالقاً؛ فإنَّه يجب أن يكون إلهاً؛ لقوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] .
ومعناه أنَّ الذي له رجلٌ يمشي بها يكون أفضل من الذي له رجلٌ لا يمشي بها ، وهذا يوجب كون الإنسان أفضل من الصَّنم ، والأفضل لا يليقُ به عبادة الأخسِّ .
فهذا هو المقصود من هذه الآية ، ثم إنها لا تدل على أن من له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً ، فلذلك ها هنا المقصود من هذه الآية : أنَّ الخالق أفضل من غير الخالق ، فيمتنع التسويةُ بينهما في الإلهية والمعبودية ، ولا يلزم منه أنَّه بمجرَّد حصول صفة الخالقيَّة يكون إلهاً .
الثالث : أنَّ كثيراً من المعتزلةِ لا يطلقون لفظ الخالق على العبد . قال الكعبيُّ في تفسيره : إنا لا نقول : إنا لا نخلق أفعالنا ، ومن أطلق ذلك ققد أخطأ؛ إلاَّ في مواضع ذكرها الله تعالى؛ كقوله تعالى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } [ المائدة : 110 ] ؛ وفي قوله عز وجل : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] واعلمْ أنَّ أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حقيقة؛ حتَّى إنَّ أبا عبد الله البصري بالغ وقال : إطلاق لفظ الخالق حقيقة على العبد ، وعلى الله مجاز؛ لأنَّ الخلق عبارةٌ عن التقدير ، وذلك عبارة عن الظنِّ ، والحسبان ، وهو في حقِّ العبد حاصلٌ ، وفي حق الله تعالى محالٌ .

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)

قوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ } لمَّا بيَّن أنَّ الاشتغال بعبادة غير الله باطلٌ ، بيَّن ههنا أنَّ العبد لا يمكنه الإتيانُ بعبادة الله ، وشكر نعمه على سبيل التَّمامِ ، والكمال ، بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعاتِ ، والعبادات ، وبالغ في شُكْرِ نعم الله؛ فإنه يكون مقصِّراً؛ لأنَّ الاشتغال بشكر النِّعم مشترطٌ بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل ، فإنَّ من لا يكون متصوراً ، ولا مفهوماً بمتنع الاشتغال بشكره ، والعلم بنعمة الله على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد؛ لأنَّ نعم الله كثيرة ، وأقسامها عظيمة ، وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمبادئها فضلاً عن غايتها ، لكنَّ الطريق إلى ذلك أن يشكر الله على جميع نعمه مفصَّلها ، ومجملها .
ثم قال - جلَّ ذكره- : { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، « لَغَفُورٌ » لتقصيركم في شكر نعمه ، « رَحِيمٌ » بكم حيث لم يقطع نعمه عنكم لتقصيركم . قال بعضهم : إنَّه ليس لله على [ الكافر ] نعمةٌ . وقال الأكثرون : لله على الكافر والمؤمن نعمٌ كثيرةٌ؛ لأنَّ الإنعامَ بخلق السمواتِ ، والأرض ، وخلق الإنسان من نطفةٍ ، والإنعام بخلق الخيلِ ، والبغال والحمير ، وجميع المخلوقات المذكورة للإنعام يشترك فيها المؤمن ، والكافر .
قوله تعالى : { والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } قرأ العامة « تُسِرُّونَ » و « تُعْلِنُونَ » بناء الخطاب ، وأبو جعفرٍ ، وشيبة بالياء من تحت ، وقرأ عاصم وحده : « يَدْعُونَ » بالياء ، والباقون بالتاء من فوق ، وقراءة « يُدْعَونَ » مبنيًّا للمفعول ، وهن واضحات ، والمعنى : أنَّ الكفار كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرُّون ضروباً من المكر بمكايد الرسول؛ فذكر هذا زجراً لهم عنها .
قوله تعالى : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } تكريرٌ؛ لأن قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ } يدلُّ على أنَّ الأصنام لا تخلق شيئاً .
فالجواب : أنَّ الأول أنَّهم لا يخلقون شيئاً ، وههنا أنَّهم لا يخلقون شيئاً ، وأنهم مخلوقون كغيرهم؛ فكان هذا زيادة في المعنى .
قوله « أمْوات » يجوز أن يكون خبراً ثانياً ، أي : وهم يخلقون وهم أمواتٌ ، ويجوز أن يكون « يُخْلَقُونَ » ، و « أمْواتٌ » كلاهما خبر من باب : هذا حُلْوٌ حَامِضٌ ذكره أبو البقاء رحمه الله تعالى ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم أمواتٌ .
قوله : { غَيْرُ أَحْيَآءٍ } يجوز فيه ما تقدم ويكون تأكيداً .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون قصد بها أنهم في الحال غير أحياء؛ ليدفع به توهُّم أنَّ قوله تعالى : { أَمْوَاتٌ } فيما بعد ، إذ قال تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] .
قال شهابُ الدِّين : « وهذا لا يخرجه عن التأكيد الذي ذكره قبل ذلك » .
فصل في وصف الأصنام
اعلم أنه - تعالى - وصف الأصنام بصفات :
أولها : أنها لا تخلق شيئاً .

وثانيها : أنها مخلوقة .
وثالثها : أنهم أموات غير أحياءٍ ، أي : أنها لو كانت آلهة حقيقية؛ لكانت أحياء غير أموات ، أي : لا يجوز عليها الموت ، كالحيِّ الذي لا يموت - سبحانه - وهذه الأصنام بالعكسِ .
فإن قيل : لما قال « أمْواتٌ » علم أنَّها « غَيْرُ أحياءٍ » ، فما فائدة قوله تعالى : { غَيْرُ أحْيَاءٍ } ؟ .
والجواب : أنَّ الإله هو الحيُّ الذي لا يحصل عقيب حياته موتٌ ، وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها حياة ، وأيضاً : فهذا الكلام مع عبدة الأوثان ، وهم في نهاية الجهالة ، ومن تكلَّم مع الجاهل الغرِّ الغبي ، فقد يعبر عن المعنى الواحد ، بعباراتٍ كثيرة ، وغرضه الإعلام بأنَّ ذلك المخاطب في غاية الغباوة ، وإنما يعيد تلك الكلمات؛ لأنَّ ذلك السامع في نهاية الجهالة ، وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة .
ورابعها : قوله : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } والضمير في قوله : « يَشْعرُونَ » عائد على الأصنام ، وفي الضمير في قوله : « يُبْعَثُونَ » قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى العابد للأصنام ، أي : ما يدري الكفار عبدةُ الأصنام متى يبعثون .
الثاني : أنه يعود إلى الأصنام ، أي : الأصنام لا يشعرون متى يبعثها الله تعالى .
قال ابن عباس - رضي الله عنه : إنَّ الله - تعالى - يبعث الأصنام لها أرواحٌ ، ومعها شياطينها ، فتتبرَّأ من عابديها ، فيؤمرُ بالكلِّ إلى النَّارِ .
فصل هل توصف الأصنام بموت أو حياة
الأصنام جمادات ، والجمادات لا توصف بأنها أمواتٌ ، ولا توصف بأنها لا تشعر بكذا وكذا .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّ الجماد قد يوصف بكونه ميتاً؛ قال تعالى : { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } [ الأنعام : 95 ] .
الثاني : أنهم لما وصفوا بالإلهيَّة قيل لهم : ليس الأمر كذلك؛ بل هي أمواتٌ ، لا يعرفون شيئاً ، فخوطبوا على وفق معتقدهم .
الثالث : أنَّ المراد بقوله تعالى : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ الملائكة ] وكان أناسٌ من الكفَّار يعبدونهم؛ فقال الله تعالى : إنهم « أمْواتٌ » أي : لا بدَّ لهم من الموت « غَيْرُ أحْيَاءٍ » أي : غير باقيةٍ حياتهم ، { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي لا علم لهم بوقت بعثهم . انتهى .
قوله تعالى : « أيَّانَ » منصوب بما بعده لا بما قبله؛ لأنَّه استفهام ، وهو معلق ل « مَا يَشْعرُونَ » فجملته في محل نصب على إسقاطِ الخافض ، هذا هو الظاهر .
وقيل : إن « أيَّانَ » ظرف لقوله { إلهكم إله وَاحِدٌ } [ النحل : 22 ] يعني : أنَّ الإله واحدٌ يوم القيامة ، ولم يدَّع أحد [ تعدُّد ] الآلهةِ في ذلك اليوم ، بخلاف أيَّام الدنيا ، فإنه قد وجد فيها من ادَّعى ذلك ، وعلى هذا فقد تم الكلام على قوله « يَشْعُرونَ » إلاَّ أنَّ هذا القول مخرجٌ ل « أيَّانَ » عن [ موضوعها ] ، وهو إمَّا الشرط ، وإمَّا الاستفهام إلى محضِ الظرفية ، بمعنى وقت مضاف للجملة بعده؛ كقولك « وقْتَ يَذهَبُ عَمرٌو مُنْطلِقٌ » ف « وَقْتَ » : منصوبٌ ب « مُنْطَلِقٌ » مضاف ل « يَذْهَبُ » .

لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)

قوله تعالى : { إلهكم إله وَاحِدٌ } لما زيف طريقة عبدة الأصنام وفساد مذاهبهم ، قال { إلهكم إله وَاحِدٌ } ثمَّ ذكر ما لأجله أصرَّ الكفار على الشركِ؛ فقال : { فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } جاحدة { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } مستعظمون أي : إنَّ المؤمنين في الآخرة يرغبون بالفوز في الثواب الدائم ، ويخافون العقاب الدائم ، فإذا سمعوا الدلائل خافوا ، وتأملوا ، وتفكروا فيما يسمعون ، فلا جرم ينتفعون بسماع الدلائل ، ويرجعون إلى الحقِّ .
وأمَّا الذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها ، فإنهم لا يرغبون في الثواب ولا يرهبون عن الوقوع في العقاب ، فيبقون منكرين لكلِّ كلامٍ يخالف قولهم ، ويستكبرون عن الرجوع إلى قول غيرهم ، فيبقون مصرِّين على الجهل والضلال .
قوله تعالى : { لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } .
قد تقدم الكلام على لفظة « لا جَرمَ » في سورة هودٍ - عليه السلام - والعامة على فتح الهمزة من « أن اللهَ » ، وكسرها عيسى الثقفي رحمه الله ، وفيها وجهان :
أظهرهما : الاستئناف .
والثاني : جريان « لا جرمَ » مجرى القسم فيتلقى بما يتلقى به .
وقال بعض العرب : « لا جَرمَ واللهِ لا [ فَارَقْتَُ ] » وهذا يضعف كونها للقسم؛ لتصريحه بالقسم بعدها ، وإن كان أبُو حيَّان أتى بذلك مقوِّياً لجريانها مجرى القسم .
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } ، أي : أنَّ إصرارهم على الكفر ليس لأجل شبهة تصوروها ، بل لأجل التقليد لأسلافهم ، والتَّكبُّر؛ قال عليه الصلاة والسلام : « لا يَدْخُل الجَنَّة مَنْ كَانَ في قَلْبهِ مِثْقَالُ ذرَّةٍ مِنْ كِبْر ، ولا يدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في قَلْبِه مِثقَالُ ذرَّةٍ من إيمانٍ ، فقال رجُلٌ : يا رسُولَ الله - صلّى الله عَليْكَ - إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يكُونَ ثَوْبهُ حَسناً ، قال صلى الله عليه وسلم : إنَّ الله - تعَالَى - جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ ، الكِبْرُ : بَطرُ الحقِّ ، وغَمْطُ البَاطلِ » .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)

قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين } الآيات .
لمَّا قرر دلائل التوحيد ، وأبطل مذاهب عبدة الأصنام ، ذكر بعد ذلك شبهات منكري النبوة مع الجواب عنها .
فالشبهة الأولى : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما احتجَّ على صحة بعثته بكون القرآن معجزة؛ طعنوا فيه ، وقالوا : إنه أساطير الأولين ، واختلفوا في هذا القول .
فقيل : هو كلام بعضهم لبعض .
وقيل : قول المسلمين لهم .
وقيل : قول المقتسمين الذين اقتسموا [ مكَّة ] ومداخل مكة؛ ينفِّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاجِّ عمَّا أنزل الله على رسوله .
قوله : « مَاذَا » تقدم الكلام عليها أول البقرة .
وقال الزمخشريُّ : « أو مرفوعٌ بالابتداءِ ، بمعنى أي شيء أنزله ربُّكم » .
قال أبو حيَّان : « وهذا غيرُ جائزٍ عند البصريِّين » . يعني : من كونه حذف عائده المنصوب ، نحو « زَيْدٌ ضَربْتُ » وقد تقدم خلاف النَّاس في هذا ، والصحيح جوازه ، والقائم مقام الفاعل ، قيل : الجملة من قوله { مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } لأنها المقولة ، والبصريون يأبون ذلك ، ويجعلون القائم مقامه ضمير المصدر؛ لأنَّ الجملة لا تكون فاعلة ، ولا قائمة مقام الفاعل ، و الفاعل المحذوف : إمَّا المؤمنون ، وإما بعضهم ، وإمَّا المقتسمون .
وقرئ « أسَاطيرَ » بالنصب على تقدير : أنزل أساطير ، على سبيل التهكُّم ، أو ذكرتم أساطير .
والعامة برفعه على أنَّه خبر مبتدأ مضمر فاحتمل أن يكون التقدير : المنزَّل أساطير على سبيل التَّهكُّم ، أو المذكور أساطير ، وللزمخشريُّ هنا عبارة [ فظيعة ] .
قوله « لِيَحملُوا » لمَّا حكى شبهتهم قال : « لِيَحْمِلُوا » وفي هذه اللام ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها لامُ الأمر الجازمة على معنى الحتم عليهم ، والصغار الموجب لهم ، وعلى هذا فقد تمَّ الكلام عند قوله : « الأوَّلِينَ » ثم استؤنف أمرهم بذلك .
الثاني : أنها لام العاقبة ، أي : كان عاقبة [ قولهم ] ذلك؛ لأنَّهم لم يقولوا أساطير ليحملوا؛ فهو كقوله تعالى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] .
قال : [ الوافر ]
3309- لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرابِ .. . .
الثالث : أنها للتعليل ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه تعليل مجازي .
قال الزمخشريُّ رحمه الله : واللام للتعليل من غير أن تكون غرضاً؛ نحو قولك « خَرجْتُ مِنَ البَلدِ مَخافَةَ الشَّرِّ » .
والثاني : أنه تعليلٌ حقيقة .
قال ابن عطيَّة بعد حكاية وجه لامِ العاقبةِ : « ويحتمل أن يكون صريح لام كي؛ على معنى قدِّر هذا؛ لكذا » انتهى .
لكنه لم يعلِّقها بقوله « قَالُوا » إنما قدَّر لها عاملاً ، وهو « قدَّر » هذا .
وعلى قول الزمخشري يتعلق ب « قَالُوا » لأنها ليست لحقيقة العلَّة ، و « كَامِلةً » حالٌ ، والمعنى لا يخفَّف من عقابهم شيءٌ ، بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم ، وهذا يدل على أنَّه - تعالى - قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً للكل ، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفَّار بهذا التكميل فائدة .

قال - صلوات الله وسلامه عليه- : « أيُّمَا دَاعٍ دَعَى إلى الهُدَى ، فاتُّبعَ ، كَانَ لهُ مِثْلُ أجْرِ مَن اتَّبعَهُ لا يَنقصُ مِنْ أجُورِهِمْ شيءٌ ، وأيُّمَا داعٍ دَعَى إلى الضَّلالِ فاتُّبعَ؛ كَان عَليْهِ وِزْرُ من اتَّبعَه لا ينقص مِنْ آثامهمْ شيءٌ » .
قوله : { وَمِنْ أوْزَارِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ « مِنْ » مزيدة ، وهو قول الأخفش ، أي : وأوزار الذين ، على معنى : ومثل أوزار؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام- : « كَانَ عَليْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ منْ عَمِلَ بِهَا » .
الثاني : أنها غير مزيدة ، وهي للتبعيض ، أي : وبعض أوزار الذين ، وقدَّر أبو البقاءِ : مفعولاً حذف ، وهذه صفته ، أي : وأوزار من أوزار ، ولا بد من حذف « مثل » أيضاً .
ومنع الواحديُّ أن تكون « مِنْ » للتبعيض ، قال : « لأنَّهُ يستلزم تخفيف الأوزار عن الأتباع ، وهو غير جائز ، لقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : » مِنْ غَيْرِ أن يَنقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شيء « لكنها للجنس ، أي : ليحملوا من جنس أوزار الأتباع » .
قال أبو حيان : « والتي لبيان الجنس لا تقدَّر هكذا؛ وإنَّما تقدر الأوزار التي هي أوزارُ الذين يذلونهم فهو من حيث المعنى موافق لقول الأخفش ، وإن اختلفا في التقدير » .
قوله تعالى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه مفعول يُضِلُّونَ « أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضلالٌ؛ قاله الزمخشريُّ .
والثاني : أنه الفاعل ، ورجَّح هذا بأنَّه المحدث عنه ، وتقدم الكلام في إعراب نحو : » سَاء مَا يَزرُونَ « وأنَّها قد تجري مجرى بِئْسَ ، والمقصود منه المبالغة في الزَّجْرِ .
فإن قيل : إنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة عنهم ، ولم يجب عنها ، بل اقتصر على محض الوعيد ، فما السبب فيه؟ .
فالجواب : أنه - تعالى - بين كون القرآن معجزاً بطريقين :
الأول : أنه - صلوات الله وسلامه عليه - تحدَّاهم تارة بكل القرآن ، وتارة بعشر سورٍ ، وتارة بسورةٍ واحدةٍ ، وتارة بحديثٍ واحدٍ ، وعجزوا عن المعارضة؛ وذلك يدل على كون القرآن معجزاً .
الثاني : أنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة بعينها في قوله : { اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] ، وأبطلها بقوله : { قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات } [ الفرقان : 6 ] أي : أنَّ القرآن مشتملٌ على الإخبارِ عن الغيوب ، وذلك لا يتأتَّى إلا ممَّن يكون عالماً بأسرار السماوات ، والأرض ، ولما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين ، وتكرر شرحهما مراراً؛ لا جرم اقتصر ههنا على مجرد الوعيد .
قوله تعالى : { قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ } ذكر هذه الآية مبالغة في وصف أولئك الكفار .

قال بعض المفسرين : المراد بالذين من قبلهم نمرودُ بن كنعان بنى صَرْحاً عظيماً بِبَابلَ طوله خمسة آلافِ ذراع ، وعرضه ثلاثة آلافِ ذراع - وقيل : فرسخاً - ورام منه الصُّعودَ إلى السماء؛ ليقاتل أهلها ، فَهَبَّتْ ريحٌ وألقت رأسها في البحر ، وعزَّ عليهم الباقي وهم تحته ، ولما سقط الصَّرحُ تبلبلت ألسن النَّاس من الفزع يومئذ؛ فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً؛ فلذلك سمِّيت بابل ، وكانوا يتكلمون قبل ذلك بالسريانية؛ فذلك قوله تعالى : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد } أي : قصد تخريب بنيانهم من أصولها .
والصحيح : أنَّ هذا عامٌّ في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضَّرر والمكر بالمحقِّين .
واعلم أنَّ الإتيان ها هنا عبارةٌ عن إتيان العذاب ، أي : أنهم لمَّا كفروا؛ أتاهم الله بزلزال تقلقلتْ منها بنيانهم من القواعد ، و الأساس؛ والمراد بهذا محض التَّمثيلِ والمعنى : أنَّهم رتبوا منصوباتٍ؛ ليمكروا بها أنبياء الله؛ فجعل هلاكهم مثل قوم بنوا بنياناً ، وعمدوه بالأساطين ، فانهدم ذلك البناءُ ، وسقط السقف عليهم؛ كقولهم : « مَنْ حَفَرَ بِئْراً لأخِيهِ أوْقعَهُ اللهُ فِيهِ » .
وقيل : المراد منه ما دل عليه الظاهر .
قوله تعالى : { مِّنَ الْقَوَاعِدِ } « مِن » لابتداءِ الغايةِ ، أي : من ناحية القواعد ، أي : أتى أمر الله وعذابه .
قوله « مِنْ فَوقِهِمْ » يجوز أن يتعلَّق ب « خَرَّ » ، وتكون « مِن » لابتداءِ الغاية ، ويجوز يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من « السَّقف » وهي حال مؤكدة؛ إذ « السَّقفُ » لا يكون تحتهم .
وقيل : ليس قوله : « مِنْ فَوقِهِمْ » تأكيدٌ؛ لأنَّ العرب تقول : « خَرَّ عَليْنَا سَقفٌ ، ووقَعَ عَليْنَا حَائِطٌ » إذا كان عليه ، وإن لم يقع عليه ، فجاء بقوله « مِنْ فَوْقِهِم » ليخرج به هذا الذي في كلام العرب ، أي : عليهم وقع ، وكانوا تحته فهلكوا .
وهذا غير طائل ، والقول بالتوكيد أظهر .
وقرأ العامة : « بُنْيَانَهُمْ » ، وقوم : بُنْيَتَهُمْ ، وفرقة منهم أبو جعفر : بَيْتَهُم . والضحاك : بُيوتَهُم .
والعامة : « السَّقْفُ » أيضاً مفرداً ، وفرقة : بفتح السِّين ، وضمِّ القاف بزنة « عَضُد » وهي لغة في « السَّقفِ » ولعلَّها مخففة من المضموم ، وكثر استعمال الفرع؛ لخفَّته ، كقولهم في لغة تميم « رَجُلٌ » ولا يقولون : رجَُلٌ .
وقرأ الأعرج : « السُّقُف » بضمتين ، وزيد بن علي : بضم السين ، وسكون القاف ، وقد تقدم مثل ذلك في قراءة { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] ثم قال : { وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } إن حملنا الكلام على محض التمثيل؛ فالمعنى : أنَّهُمْ اعتمدوا على منصوباتهم ، ثم تولَّد البلاء منها بأعيانها ، وإن حملناه على الظاهر ، فالمعنى : أن السَّقف نزل عليهم بغتة .
ثم بين - تعالى - أن عذابهم لا يكون مقصوراً على هذه القدر ، بل الله - تعالى - يخزيهم [ يومَ ] القيامة ، و الخِزْيُ : هو العذاب مع الهوانِ؛ فإنه يقول لهم : { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } .

قال أبو العبَّاس المقريزيُّ - رحمه الله- : ورد لفظ « الخِزْي » في القرآن على أربعة [ معانٍ ] :
الأول : بمعنى العذاب؛ كهذه الآية؛ وكقوله تعالى : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } [ الشعراء : 87 ] أي : لا تُعذِّبني .
الثاني : بمعنى القَتْلِ؛ قال تعالى : { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا } [ البقرة : 85 ] ، أي : القتلُ .
قيل : نزلت في بني قريظة ، ومثله : { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ } [ الحج : 9 ] أي : فضيحة . قيل : نزلت في النضر بن الحارث .
الثالث : بمعنى الهوان ، قال تعالى : { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ } [ يونس : 98 ] أي الهوان .
الرابع : بمعنى الفضيحة قال تعالى : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ آل عمران : 192 ] أي فضحته ، ومثله : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } [ الشعراء : 87 ] ومثله : { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } [ هود : 78 ] ومثله : { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذلك لَهُمْ خِزْيٌ } [ المائدة : 33 ] .
قوله : { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } مبتدأ وخبر ، والعامة على « شُركَائِيَ » مدوداً ، مهموزاً ، مفتوح الياءِ ، وفرقة كذلك تسكنها فتسقط وصلاً؛ لالتقاء الساكنين ، وقرأ البزي - بخلاف عنه - بقصره مفتوح الياء ، وقد أنكر جماعة هذه القراءة ، وزعموا أنها غير مأخوذ بها؛ لأنَّ قصر الممدود لا يجوز إلاَّ ضرورة .
وتعجب أبو شامة من أبي عمرٍو الدانيِّ ، حيث ذكرها في كتابه؛ مع ضعفها ، وترك قراءاتٍ شهيرة واضحة .
قال شهاب الدِّين : « وقد روى ابن كثيرٍ - أيضاً - قصر التي في القصص ، وروي عنه - أيضاً - قصرُ » وَرائِي « في مريم ، وروي عنه أيضاً قَصْرُ : { أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 7 ] في سورة العلق ، فقد روى عنه قصر بعض الممدودات ، فلا يبعد رواية ذلك هنا عنه » .
وبالجملة : قصر الممدود ضعيفٌ؛ ذكره غير واحدٍ؛ لكن لا يصلُ به على حدِّ الضرورة .
قوله : « تُشَاقُّون » قرأ نافع : بكسر النن خفيفة ، والأصل : تُشاقُّونِّي فحذفها مجتزئاً عنها بالكسرة .
والباقون : بفتحها ، خفيفة ، ومفعوله محذوف ، أي : تشاقُّون المؤمنين ، أو تشاقُّون الله؛ بدليل القراءة الأولى .
وضعَّف أبو حاتم هذه القراءة؛ أعني : قراءة نافع ، وقرأت فرقة : بتشديدها مكسورة ، والأصل : تُشَاقُّوننِي؛ فأدغم ، وقد تقدم تفصيل ذلك في : { أتحاجواني } [ الأنعام : 80 ] و { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] وسيأتي في قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا } [ الزمر : 64 ] .
فصل
قال الزجاج : قوله { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } ، أي : في زعمكم ، واعتقادكم ، ونظيره : { أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 22 ] وحسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سببٍ؛ كما يقال لمن يحمل خشبة : « خُذْ طَرفَكَ ، وآخُذُ طَرفِي » فأضاف الطَّرفَ إليهِ .
ومعنى « تُشَاقُّونَ » أي : تعادون ، وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ، والمشاقَّة : عبارة عن كون أحد الخصمين في شقٍّ ، والخصم الآخر في الشق الآخر .
ثم قال تعالى : { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } قال ابن عباسٍ : يريد الملائكة ، وقال آخرون : هم المؤمنون الذين يقولون حين يرون خزي الكفار في القيامة : { إِنَّ الخزي اليوم والسواء } العذاب { عَلَى الكافرين } وفائدة هذا الكلام : أنَّ الكفار كانوا يتكبَّرون على المؤمنين في الدنيا ، فإذا ذكر المؤمنون هذا الكلام يوم القيامة؛ كان هذا الكلام في إيذاء الكفار أكمل وحصول الشماتة أقوى .

فصل في احتجاج المرجئة بالآية
احتج المرجئة بهذه الآية على أنَّ العذاب مختصٌّ بالكافرين ، [ قالوا : ] فإن قوله تعالى : { إِنَّ الخزي اليوم والسواء } في يوم القيامة مختص بالكافرين ، ويؤكد هذا قول موسى - عليه السلام- : { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى } [ طه : 48 ] .
قوله : « اليَوْمَ » منصوب ب « الخِزْيَ » وعمل المصدر فيه « ألْ » وقيل : هو منصوب بالاستقرار في { عَلَى الكافرين } إلاَّ أنَّ فيه فصلاً بالمعطوف بين العامل ومعموله؛ واغتفر ذلك؛ لأنهم يتوسَّعون في الظروف .
قوله : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ } يجوز أن يكون الموصول مجرور المحلِّ؛ نعتاً لما قبله ، أو بدلاً منه ، أو بياناً له ، وأن يكون منصوباً على الذم أو مرفوعاً عليه ، أو مرفوعاً بالابتداء ، والخبر قوله { فَأَلْقَوُاْ السلم } والفاء مزيدة في الخبر؛ قاله ابن عطية .
وهذا لا يجيء إلاَّ على رأي الأخفش؛ في إجازته زيادة الفاء في الخبر مطلقاً؛ نحو : « زيْدٌ فقامَ » ، أي : قام ، ولا يتوهم أنَّ هذه الفاء هي التي تدخل مع الموصول المضمَّن معنى الشَّرط؛ لأنَّه لو صرَّح بهذا الفعل مع أداة الشرط ، لم يجز دخول الفاء عليه؛ فما ضمِّن معناه أولى بالمنع؛ كذا قاله أبو حيان ، وهو ظاهر .
وعلى الأقوالِ المتقدمة ، خلا القول الأخير يكون « الَّذينَ » وصلته داخلاً في القول ، وعلى القول الأخير ، لا يكون داخلاً فيه ، وقرأ « يَتوفَّاهُمُ » بالياءِ في الموضعين حمزة ، والباقون : بالتاء من فوق؛ وهما واضحتان مما تقدم في قوله : { فَنَادَتْهُ الملاائكة } [ آل عمران : 39 ] وناداه ، وقرأت فرقة : بإدغام إحدى التاءين في الأخرى ، وفي مصحف عبد الله : « تَوفَّاهمُ » بتاء واحدة ، وهي محتملة للقراءةِ بالتشديد على الإدغام ، وبالتخفيف على حذف إحدى التَّاءين .
و { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } حالٌ من مفعولٍ « تَتوفَّاهُمُ » ، و « تَتوفَّاهُمُ » يجوز أن يكون مستقبلاً على بابه؛ إن كان القول واقعاً في الدنيا ، وإن كان ماضياً على حكاية الحال إن كان واقعاً يوم القيامةِ .
قوله « فألْقوا » يجوز فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه خبر الموصول ، وقد تقدم فساده .
الثاني : أن يكون عطفاً على « قَالَ الَّذِينَ » .
الثالث : أن يكون مستأنفاً ، والكلام قد تمَّ عند قوله : « أنْفُسهمْ » ثمَّ عاد بقوله : « فألْقَوا » إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة؛ فعلى هذا يكون قوله : { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } إلى قوله « أنْفُسهِمْ » جملة اعتراضٍ .
الرابع : أن يكون معطوفاً على « تَتوفَّاهُم » قاله أبو البقاءِ .

وهذا إنَّما يتمشى على أنَّ « تَتوفَّاهُم » بمعنى المضيِّ؛ ولذلك لم يذكر أبو البقاء في « تَتوفَّاهُم » سواه . قوله { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون تفسيراً للسلم الذي ألقوه؛ لأنَّه بمعنى القول؛ بدليل الآية الأخرى : { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول } [ النحل : 86 ] قاله أبو البقاء ، ولو قال : يُحْكى بما هو بمعنى القول؛ لكان أوفق لمذهبِ الكوفيِّين .
الثاني : أن يكون منصوباً بقولٍ مضمرٍ ، ذلك القول منصوبٌ على الحالِ ، أي : فألقوا السَّلم قائلين ذلك .
و « مِنْ سُوءٍ » مفعول « نَعْملُ » زيدت فيه « مِنْ » ، و « بَلَى » جوابٌ ل « مَا كُنَّا نعمل » فهو إيجابٌ له .
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنه : استسلموا ، وأقرُّوا لله بالعبودية عند الموت ، وقالوا { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } ، والمراد من هذا السوء الشِّرك ، فقالت الملائكة تكذيباً لهم { بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من التكذيب ، والشرك ، وقيل : تمَّ الكلام عند قوله : { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } ثم عاد إلى حكايةِ كلام المشركين إلى يوم القيامة ، والمعنى : أنَّهم يوم القيامة ألقوا السَّلم؛ وقالوا : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } على سبيل الكذب ، ثمَّ ههنا اختلفوا : فالذين جوَّزوا الكذب على أهلِ القيامة قالوا : إنَّ قولهم : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } لغاية الخوف ، والَّذينَ لم يجوِّزوا الكذب عليهم قالوا : المعنى : ما كنَّا نعمل مِنْ سُوءٍ عند أنفسنا وفي اعتقادنا ، وقد تقدَّم الكلام في قوله الأنعام : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] هل يجوز الكذب على أهل القيامة ، أم لا؟ .
وقوله : { بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } يحتمل أن يكون من كلام الله أو بعض الملائكة .
ثم يقال لهم : { فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } وهذا يدلُّ على تفاوت منازلهم في العقاب ، وصرَّح بذكر الخلود؛ ليكون الغمُّ [ والحزن ] أعظم .
قوله : « فَلَبِئْسَ » هذه لام التأكيد؛ وإنما دخلت على الماضي لجموده وقربه من الأسماء ، والمخصوص بالذم محذوفٌ ، أي : جهنَّم .
قوله تعالى : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً } الآية .
لما بين أحوال الكافرين ، أتبعه ببيان أحوال المؤمنين .
قال القاضي [ المتقي هو : ] تارك جميع المحرَّمات وفاعل جميع الواجبات .
وقال غيره : المتَّقي : هو الذي يتَّقي الشرك .
قوله : « خَيْراً » العامة على نصبه ، أي : أنزل خيراً .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : لِمَ رفع » أسَاطِيرُ الأولين « ونصب هذا؟ .
قلت : فصلاً بين جواب المقر ، وجواب الجاحد ، يعني : أنَّ هؤلاء لما سئلوا لم يَتَلعْثَمُوا ، وأطبقوا الجواب على السؤال بيِّناً مكشوفاً مفعولاً للإنزال ف » قَالُوا خَيْراً « أي : أنزل خيراً وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال ، فقالوا : هو أساطير الأوَّلين ، وليس هو من الإنزال في شيءٍ » .

وقرأ زيد بن عليٍّ : « خَيْرٌ » بالرفع ، أي : المُنزَّلُ خيرٌ ، وهي مُؤيِّدة لجعل « مَاذَا » موصولة ، وهو الأحسن؛ لمطابقة الجواب لسؤاله ، وإن كان العكس جائزاً ، وقد تقدم تحقيقه في البقرة .
قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } هذه الجملة يجوز فيها أوجه :
أحدها : أن تكون منقطعة عما قبلها استئناف إخبار بذلك .
الثاني : أنَّها بدلٌ من « خَيْراً » . قال الزمخشري : « هو بدلٌ من » خَيْراً « ؛ حكاية لقول » الَّذينَ اتَّقوا « ، أي : قالوا هذا القول فقدَّم تسميته خبراً ثمَّ حكاه » .
الثالث : أنَّ هذه الجملة تفسير لقوله : « خَيْراً » ، وذلك أنَّ الخير هو الوحيُ الذي أنزل الله فيه : من أحسن في الدنيا بالطاعةِ؛ فله حسنةٌ في الدنيا ، وحسنةٌ في الآخرة .
وقوله : { فِي هذه الدنيا } الظاهر تعلقه ب « أحْسَنُوا » ، أي : أوقعوا الحسنة في دار الدنيا ، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنَّه حكاية حالٍ من « حَسنةً » ، إذ لو تأخر؛ لكان صفة لها ، ويضعف تعلقه بها نفسها؛ لتقدمه عليها .
فصل
قال المفسرون : إنَّ أحياء من العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء [ سائل ] المشركين الذين قعدوا على الطريق عن محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقولون : ساحر ، وكاهن ، وشاعر وكذاب ، كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فيأتي المؤمنين فيسألهم عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه؛ فيقولون « خَيْراً » ، أي أنزل خيراً ، ثم ابتدأ فقال : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } أي كرامة من الله .
قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه- : هي تضعيفُ الأجر إلى العشرة . وقال الضحاك : هي النصرة والفتح . وقال مجاهدٌ : هي الرزقُ الحسن ، ويحتمل أن يكون الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خيرٌ .
وقولهم « خَيْراً » جامع لكونه حقاً وصواباً ، ولكونهم معترفين بصحته ، ولزومه وهذا بالضدِّ من قول الذين لا يؤمنون : إن ذلك أساطير الأولين . وتقدم الكلام على « خَيْرٌ » في سورة الأنعام في قوله تعالى : { وَلَلدَارُ الآخرة خَيْرٌ } [ الأنعام : 32 ] .
ثم قال تعالى : { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ } ، أي ولنعم دار المتقين دارُ الآخرة فحذفت؛ لسبق ذكرها .
هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها ، فإن وصلتها بما بعدها قلت : { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ } برفع « جَنَّاتُ » على أنها اسم ل « نِعْمَ » كما تقول : نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ يَنْزلُهَا زَيْدٌ .
قوله { جَنَّاتُ عَدْنٍ } يجوز أن يكون هو المخصوص بالمدح؛ فيجيء فيها ثلاثة أوجهٍ :
رفعها بالابتداءِ ، والجملة المتقدمة خبرها .
أو رفعها بالابتداءِ ، والخبر محذوف؛ وهو أضعفها ، وقد تقدم تحقيق ذلك .

ويجوز أن يكون « جَنَّاتُ عَدنٍ » خبر مبتدأ مضمرٍ لا على ما تقدم ، بل يكون المخصوص [ بالمدح ] محذوفاً؛ تقديره : ولنعم دارُ المتقين دارهم هي جنات .
وقدره الزمخشري : { ولنِعْمَ دارُ المتَّقِينَ دَارُ الآخرة } « ويجوز أن يكون مبتدأ ، والخبر جملة ، من قوله » يَدْخُلونهَا « ويجوز أن يكون الخبر مضمراً ، تقديره : لهم جنَّات عدنٍ ، ودلَّ على ذلك قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } .
والعامة على رفع » جَنَّات « على ما تقدم ، وقرأ زيد بن ثابت ، والسلميُّ » جَنَّاتِ « نصباً على الاشتغالِ بفعلٍ مضمرٍ ، تقديره : بدخُلونَ جنَّاتِ عدْنٍ يَدخُلونهَا ، وهذا يقوي أن يكون » جَنَّاتُ « مبتدأ ، و » يَدْخُلونهَا « الخبر في قراءةِ العامَّة ، وقرأ زيد بن عليٍّ : » ولنِعْمَتْ « بتاءِ التأنيث ، مرفوعة بالابتداء و » دَارِ « خفض بالإضافة ، فيكون » نِعْمَت « مبتدأ و » جَنَّات عَدْنٍ « الخبر . و » يدخلونها « في جميع ذلك نصب على الحال ، إلا إذا جعلناه خبراً ل » جنات « ، وقرأ نافع في رواية : » يُدخَلُونهَا « بالياء من تحت؛ مبنياً للمفعول .
وقرأ أبو عبد الرحمن : » تَدْخُلونهَا « بتاء الخطاب مبنياً للفاعل .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } يجوز أن يكون منصوباً على الحال من » جَنَّاتُ « قاله ابن عطيَّة ، وأن يكون في موضع الصفة ل » جنَّات « قاله الحوفيُّ ، والوجهان مبنيَّان على القول في » عَدْنٍ « هل هي معرفة؛ لكونه علماً ، أو نكرة؟ فقائل الحال : لحظ الأول ، وقائل النَّعتِ : لحظ الثاني .
قوله : { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ } الكلام في هذه الجملة ، كالكلام في الجملة قبلها ، والخبر إمَّا » لَهُمْ « وإمَّا » فِيهَا « .
قوله : » كَذلِكَ « الكاف في محل نصب على الحال من ضمير المصدر؛ أو نعتاً لمصدرٍ مقدَّر ، أو في محل رفع خبر المبتدأ مضمر ، أي : الأمر كذلك و { يَجْزِي الله المتقين } مستأنف .
فصل
قال الحسن : دار المتقين هي الدُّنيَا؛ لأنَّ أهل التَّقوى يتزوَّدون فيها للآخرة .
وقال أكثرُ المفسرين : هي الجنَّة ، ثم فسرها فقال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } فقوله » جَنَّاتُ عدْنٍ « يدلُّ على القصور ، والبساتين ، وقوله : » عَدْنٍ « يدل على الدَّوامِ ، وقوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها ، والأنهار جارية من تحتهم ، { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ } من كلِّ الخيراتِ ، { كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين } أي : هذا جزاء التَّقوى .
ثم وصف المتقين فقال : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ } وهذا مقابلٌ لقوله { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } [ النحل : 28 ] .
وقوله : » طَيِّبِينَ « كلمة مختصرة جامعة لمعان كثيرة؛ فيدخل فيها إتيانهم بالمأموراتِ ، واجتنابهم عن المنهيات ، واتصافهم بالأخلاق الفاضلة ، وبراءتهم عن الأخلاق المذمومة .

وأكثر المفسرين يقول : إن هذا التَّوفي قبض الأرواح .
وقال الحسن : إنه وفاةُ الحشر؛ لقوله بعد { ادخلوا الجنة } واحتج الأولون بأن الملائكة لما بشروهم بالجنة ، صارت الجنة كأنها دارهم ، فيكون المراد بقوله : { ادخلوا الجنة } أي : خاصة لكم ، « يَقُولونَ » يعني الملائكة : « سَلامٌ عَلَيْكُم » وقيل : يُبلِّغونَهم سلام الله .
قوله : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ } يحتمل ما ذكرناه فيما تقدم ، وإذا جعلنا « يَقُولون » خبراً فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ ، أي : يقولون لهم ، وإذا لم نجعله خبراً ، كان حالاً من الملائكة؛ فيكون « طَيِّبينَ » حالاً من المفعول ، و « يَقُولُونَ » حالاً من الفاعل ، وهي يجوز أن تكون حالاً مقارنة ، أي : كان القول واقعاً في الدنيا ، ومقدرة إن كان واقعاً في الآخرة .
ومعنى « طَيِّبينَ » ، أي ظاهرين من الشرك ، وقيل : صالحين ، وقيل : زاكية أعمالها وأقوالهم ، وقيل : طيِّبي الأنفس؛ ثقة بما يلقونه من ثواب الله - تعالى - وقيل : طيبة نفوسهم ، بالرجوع إلى الله ، وقيل : طيِّبين ، أي : يكون وفاتهم طيبة سهلة .
و « ما » في « بِمَا » مصدرية ، أو بمعنى الذي؛ فالعائد محذوف .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)

قوله تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } الآية .
هذه شبهة ثانية لمنكري النبوة؛ فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله ملكاً من السماء؛ يشهد على صدقه في ادِّعاء النبوة؛ فقال تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ } في التصديق بنبوتك { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة } شاهدين بذلك ، ويحتمل أنَّ القوم لما طعنوا في القرآن بقولهم : { أَسَاطِيرُ الأولين } وذكر أنواع التهديد ، و الوعيد ، ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً ، عاد إلى بيان أنَّ أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم ، وأقوالهم الباطلة بالبيانات التي ذكرناها ، إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد ، أو أتاهم أمر ربِّك ، وهو عذاب الاستئصال ، وعلى كلا التقديرين قال تعالى : { كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } ، أي : أفعال هؤلاء ، وكلامهم يشبهُ كلام الكفار المتقدمين وأفعالهم ، وتقدم الكلام على قوله : { إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملاائكة } [ الأنعام : 158 ] في آخر الأنعام ، وأنَّ الأخوين يقرآن بالياء من تحت ، و الباقين بالتاء من فوق ، وهما واضحتان؛ لكونه تأنيثاً مجازيًّا .
قوله : { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بتعذيبه إياهم ، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم { ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي ولكنهم ظلموا أنفسهم؛ بكفرهم ، وتكذيبهم الرسل .
{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أي : عقاب سيئات ما عملوا ، فقوله : « فأصَابَهُمْ » عطف على « فَعلَ الَّذينَ » وما بينهما اعتراضٌ ، « وَحَاقَ » نزل « بِهِمْ » على وجه الإحاطة بجوانبهم ، { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : عقاب استهزائهم .
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا } الآيات .
هذه شبهة ثالثة لمنكري النبوة لأنهم تمسكوا بالقول بالجبر على الطَّعن في النبوة؛ فقالوا : لو شاء الله الإيمان ، لحصل لنا سواء جئت ، أو لم تجئ ، ولو شاء الكفر لحصل الكفر ، جئت أو لم تجئ ، فالكلُّ من الله ، ولا فائدة في مجيئك ولا في إرسالك وهذا غير ما حكاه الله عنهم في سورة الأنعام في قوله : { سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ } [ الأنعام : 148 ] .
واستدلال المعتزلة به ، مثل استدلالهم بتلك الآية ، والكلام فيه استدلال واعتراض عين ما تقدم هناك ، فلا فائدة ، ولا بأس بأن نذكر منه القليل ، فنقول : الجواب عن هذه الشبهة هي : أنَّهم قالوا : لما كان الكل من الله - تعالى - كانت بعثة الأنبياء عبثاً؛ فنقول : هذا اعتراضٌ - على الله - تعالى فإن قولهم : إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان ، ودفع الكفر؛ كانت بعثة الأنبياءِ غير جائزة من الله - تعالى- .
فهذا القول جارٍ مجرى طلب العلةِ في أحكام الله - تعالى - وفي أفعاله ، وذلك باطل؛ بل الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ولا يعترض عليه في أفعاله .

وقال بعضُ المتكلمين والمفسرين : إنهم ذكروا هذا الكلام استهزاء؛ كقول قوم شعيبٍ : { إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] ولو قالوا ذلك اعتقاداً لكانوا مؤمنين .
قوله : { فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين } قالت المعتزلة : إنه - سبحانه وتعالى - ما منع أحداً من الإيمان ، وما أوقعه في الكفر ، والرسل ليس عليهم إلا التبليغُ .
وأهل السنة قالوا : معناه أنه - تعالى - أمر الرسول بالتبليغ فوجب عليهم ، فأمَّا أن الإيمان هل يحصل ، أو لا يحصل؟ فذلك لا يتعلق بالرسولِ - صلوات الله وسلامه عليه - ولكنه تعالى يهدي من يشاءُ بإحسانه ، ويضل من يشاء بخذلانه ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فإنه يدلُّ على أنه - تعالى - كان أبداً في جميع الأمم؛ آمراً بالإيمان ، وناهياً عن الكفر .
ثم قال : { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } أي : فمنهم من هداه الله إلى الإيمان ، ومنهم من أضله عن الحق ، وأوقعه في الكفر ، وهذا يدلُّ على أنَّ أمر الله لا يوافق إرادته؛ بل قد يأمر بالشيء ولا يريده ، وينهى عن الشيء وييده ، وقد تقدم تأويلات المعتزلةِ ، وأجوبتهم مراراً .
والطاغوتُ : كل معبودٍ من دون الله ، وقيل : اجتنبوا الطَّاغوت : أي طاعة الشيطان .
قوله : { أَنِ اعبدوا الله } يجوز في « أنْ » أن تكون تفسيرية؛ لأنَّ البعث يتضمن قولاً ، وأن تكون مصدرية ، أي : بعثناه بأن اعبدوا .
قوله : { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } يجوز في « مَنْ » الأولى أن تكون نكرة موصوفة ، والعائد على كلا التقديرين محذوف من الأول ، وقوله « حقَّتْ » يدل على صحة مذهب أهل السنةِ؛ لأنَّه تعالى لمَّا أخبر عنه أنَّه حقت عليه الضلالة ، امتنع أن لا يصدر منه الضلالة ، وإلاَّ لانقلب خبر الله تعالى الصدق كذباً ، وهو محال؛ ويؤيده قوله : { فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } [ الأعراف : 30 ] ، وقوله : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 96 ] وقوله : { لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [ يس : 7 ] ثم قال - عز وجل- : { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } أي : مآل أمرهم ، وخراب منازلهم بالعذاب ، والهلاك؛ فتعتبروا ، ثم أكد أنَّ من حقت عليه الضلالة؛ فإنه لا يهتدي؛ فقال تعالى : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ } أي : تطلب بجهدك ذلك؛ { فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } .
قوله { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ } قرأ العامة بكسر الراء ، مضارع حرص بفتحها ، وهي اللغة الغالبة لغة الحجاز .
وقرأ الحسن ، وأبو حيوة : « تَحْرَص » بفتح الراء ، مضارع حرص بكسرها ، وهي لغة لبعضهم ، وكذلك النخعيُّ : إلاَّ أنه زاد واواً قبل : « إنْ » فقرأ : « وإنْتحرصْ » .
قوله : « لا يَهْدِي » قرأ الكوفيون بفتح الياءِ ، وكسر الدَّال ، وهذه القراءة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون الفاعل ضميراً عائداً على الله - تعالى - أي : لا يهدي الله من يضله؛ ف « مَنْ » مفعول « يَهْدِي » ؛ ويؤيده قراءة أبي : « فإنَّ الله لا هَادِي لمَنْ يضلُّ ولمَنْ أضلَّ » وأنه في معنى قوله :

{ مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] .
والثاني : أن يكون الموصول هو الفاعل ، أي : لا يهدي المضلين ، و « يَهْدي » يجيء في معنى يهتدي ، يقال : هداهُ فهدى ، أي : اهتدى .
ويؤيد هذا الوجه : قراءة عبد الله « يَهِدِّي » بتشديد الدال المكسورة ، والأصل يهتدي؛ فأدغم .
ونقل بعضهم في هذه القراءة كسر الهاء على الإتباع ، وتحقيقه ما تقدم في يونس ، والعائد على « مَنْ » محذوف ، أي : الذي يضله الله .
والباقون « لا يُهْدَى » بضمِّ الياء ، وفتح الدال ، مبنيًّا للمفعول ، و « مَنْ » قائم مقام فاعله ، وعائده محذوف أيضاً .
وجوَّز أبو البقاء : أن تكون « مَنْ » مبتدأ ، و « لا يَهْدِي » خبره - يعني - تقدم عليه .
وهذا خطأ؛ لأنه متى كان الخبر فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخيرهُ نحو : « زيْدٌ لا يَضْرِب » ، ولو قدمت لالتبس بالفاعل .
وقرئ « لا يُهْدِي » بضم الياء وكسر الدال .
قال ابن عطية - رحمه الله- : « وهي ضعيفة » .
قال ابن حيَّان : « وإذا ثبت أن » هَدَى « لازم بمعنى اهتدى ، لم تكن ضعيفة؛ لأنه أدخل همزة التعدية على اللازم ، فالمعنى لا يجعل مهتدياً من أضله الله » .
وقوله تعالى : « ومَا لَهُمْ » حمل على معنى « مَنْ » فلذلك جمع .
وقرئ : « مَنْ يَضِلُّ » بفتح الياء من « ضَلَّ » أي : لا يهدي من ضل بنفسه { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ، أي : [ ما يقيهم ] من العذاب .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)

قوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة ، وهو قولهم : بأنَّ الحشر ، والنشر ، باطلٌ ، لأن هذه البِنْيَة إذا مات صاحبها ، وتفرقت أجزاؤه ، امتنع عوده بعينه ، وإذا بطل القول بالبعث ، بطل القول بالنبوة من وجهين :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى تقرير القول بالمعاد ، وهو باطل؛ فيكون داعياً إلى الباطل؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولاً .
والثاني : أنه يقرر نبوة نفسه ، ووجوب طاعته؛ بناء على الترغيب في الثواب والترهيب من العقاب ، وإذا بطل ذلك ، بطلت نبوته .
فقوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } .
معناه : أنهم كانوا يدعون العلم الضروريَّ بأن الشيء إذا فني وعدم ، فإنه لا يعود بعينه ، وأن عوده بعينه محال في بديهة العقل .
وأمَّا بيان أنَّه لما أبطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة ، فلم يصرِّحوا به ، فتركوه ، لأنَّه كلام متبادر إلى العقول ، ثمَّ إنه تعالى بيَّن أنَّ القول بالبعث ممكن؛ فقال : « بَلَى وعْداً عليْهِ حَقًّا » أي حق على الله التمييز بين المطيع ، والعاصي ، وبين المحق ، والمبطل ، وبين المظلوم ، والظالم؛ وهو قوله تعالى :
{ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ } وسيأتي بيان تقرير هذه الطريقة في سورة « يس » إن شاء الله تعالى ، ثم بين إمكان الحشر ، والنشر؛ بأن كونه - تعالى - موجداً للأشياء ، لا يتوقف على سبق مادة ، ولا مدة ، ولا آلة؛ وهو تعالى إنما يكونها بقوله : « كُنْ » .
فقال : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وكما أنه قدر على ابتداء إيجاده؛ وجب أن يكون قادراً على إعادته .
قوله : « وأقْسَمُوا » ظاهره أنه استئناف خبر ، وجعله الزمخشريُّ نسقاً على « وقَالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا » إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان ، وقوله « بَلَى » إثبات لما بعد النفي . قوله « وعْداً عَليْهِ حقًّا » هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد ، أي : وعد ذلك وعداً وحق حقًّا .
وقيل : « حقًّا » نعت ل « وعْداً » والتقدير : بلى يبعثهم ، وعد بذلك وعداً حقًّا .
وقرأ الضحاك : « وعْد عَليْهِ حَقٌّ » برفعهما؛ على أنَّ « وعْدٌ » خبر مبتدأ مضمر ، أي : بلى يبعثهم وعد على الله ، و « حَقٌّ » نعت ل « وعْدٌ » .
قوله : « لِيُبَيِّنَ » هذه اللام متعلقة بالفعل المقدَّر بعد حرف الإيجاب ، أي : بلى يبعثهم ، ليبيَّن ، وقوله « كُنْ فَيكُونُ » تقدم في البقرة ، « واللام » في « لِشيْءٍ » وفي « لَهُ » لام التبليغ؛ كهي في قوله قلت لهُ قُمْ فقَامَ ، وجعلها الزجاج للسبب فيهما ، أي : لأجل شيء أن يقول لأجله ، وليس بواضح .

وقال ابن عطية : « وقوله » أنْ نَقُولَ « ينزَّل منزلة المصدر ، كأنه قال : قولنا؛ ولكن » أنْ « مع الفعل تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلب أمرها ، وقد يجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن؛ كهذه الآية؛ وكقوله - سبحانه وتعالى- : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ } [ الروم : 25 ] إلى غير ذلك » .
قال أبو حيَّان : وقوله : « ولكن » أنْ « مع الفعل يعني المضارع » وقوله : « في أغلب أمرها » ليس بجيدٍ؛ بل تدل على المستقبل في جميع أمورها ، وقوله : « قد تجيء . . . إلى آخره » لم يفهم ذلك من دلالة « أنْ » وإنما فهم من نسبة قيام السماءِ ، والأرض بأمر الله؛ لأنه يختصُّ بالمستقبل دون الماضي في حقه - تعالى- .
ونظيره : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب : 5 ] فكان تدلُّ على اقتران مضمون الجملة بالمزمن الماضي ، وهو - سبحانه وتعالى - متَّصف بذلك في كل زمان .
قوله « قَولُنَا » مبتدأ ، و « أن نقُول » خبره ، و « كُنْ فَيكُونُ » : « كُنْ » من « كَانَ » التامة التي بمعنى الحدوث والوجود ، أي : إذا أردنا حدوث شيء ، فليس إلاَّ أن نقول له احدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقفٍ .
وقرأ ابن عامر ، والكسائي « فيكون » بنصب النون ، والباقون بالرفع .
قال الفراء : ولقراءة الرفع وجهها : أن يجعل قوله « أن نقُول له » كلاماً تاماً ، ثم يخبر عنه بأنه سيكون ، كما يقال : « إنَّ زَيْداً يَكْفيهِ إنْ أمِرَ فيَفْعَلُ » برفع قولك « فَيَفْعَلُ » على أن تجعله كلاماً مبتدأ .
وأما وجه القراءة الأولى : فأن تجعله عطفاً على « أن نَقُول » والمعنى : أن نقول كن فيكون . هذا قول الجمهور .
وقال الزجاج : « ويجوز أن يكون نصباً على جواب » كُنْ « » .
ويجاب بأن قوله كُنْ وإن كانت على لفظ الأمر ، فليس القصد به ههنا الأمر ، إنما هو - والله أعلم - الإخبار عن كون الشيء وحدوثه ، وإذا كان كذلك بطل قوله : إنه نصب على جواب « كُنْ » .
فإن قيل : قوله « كُنْ » إن كان خطاباً مع المعدون؛ فهو محالٌ ، وإن كان خطاباً مع الموجود ، كان أمراً بتحصيل الحاصل؛ وهو محالٌ .
فالجواب : أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع قوم يعقلون ليس هو خطاب المعدوم؛ ولأن ما أراده فهو كائن على كُلِّ حالٍ ، وعلى ما أراده من الإسراعِ ، ولو أراد خلق الدنيا ، والآخرة بما فيهما من السماوات ، والأرض ، في قدر لمحِ البصر لقدر على ذلك؛ ولكن خاطب العباد بما يعقلون .
فصل في دلالة الآية على قدم كلام الله
دلت هذه الآية على قدم القرآن؛ لأنَّ قوله تعالى { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فلو كان قوله حادثاً؛ لافتقر إحداثه إلى أن يقول له : كن فيكون ، وذلك يوجب التسلسل؛ وهو محال؛ فثبت أنَّ كلام الله قديمٌ .

قال ابن الخطيب : وهذا الدليل عندي ليس بالقوي من وجوه :
أحدها : أنَّ كلمة « إذَا » لا تفيد التكرار؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته : « إذا دخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ » فدخلت الدَّار مرة واحدة طلِّقت واحدة ، ولو دخلت ثانياً لم تطلَّق طلقة ثانية ، فعلمنا أنَّ ذلك لا يفيد التكرار؛ وإذا كان كذلك ثبت أنَّه لا يلزم من كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له : كن فيكون ، فلم يلزم التَّسلسلُ .
وثانيها : أن هذا الدليل إن صح ، لزم القول بقدم لفظ « كُنْ » وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأنَّ لفظة « كُنْ » مركبة من الكاف والنُّون ، وعند حصول الكاف لم تكن النون حاضرة ، وعند مجيء النون تفوت الكاف ، وهذا يدلُّ على أنَّ لفظة « كُنْ » يمتنع كونها قديمة ، وإنَّما الي يدعي أصحابنا قدمه صفة [ مغايرة ] للفظ : « كُنْ » فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا ، والذي يقولون به لا تدلُّ عليه الآية؛ فسقط التمسك به .
ثالثها : أنَّ الرجل إذا قال : إنَّ فلاناً لا يقدم على قولٍ ، ولا على فعل ، إلا ويستعين فيه بالله كان عاقلاً؛ لأنا نقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله؛ فيلزم أن يكون كل استعانةٍ مسبوقةٍ باستعانة أخرى إلى غير نهاية؛ وهذا كلام باطل بحسب العرف؛ فكذلك ما قالوه .
ورابعها : أنَّ هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه :
الأول : أن قوله تعالى { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ } يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة؛ فيكون محدثاً .
الثاني : أنه علق القول بكلمة « إذَا » وهي إنَّما تدخل للاستقبال .
الثالث : أن قوله تعالى : { أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } لا خلاف أنَّ ذلك ينبئُ عن الاستقبال .
الرابع : أن قوله « كن فَيكُونُ » كلمة مقدمة على حدوثِ الكونِ بزمان واحدٍ ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد؛ يجب أن يكون محدثاً .
الخامس : أنه معارض بقوله تعالى : { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] و { وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً } [ الأحزاب : 38 ] و { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] و { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [ الطور : 24 ] و { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً } [ الأحقاف : 12 ] فإن قيل : فهب أنَّ هذه الآية لا تدل على قدم الكلام لكنكم ذكرتم أنَّها تدل على حدوث الكلام ، فما الجواب عنه؟ .
قلنا : نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف ، والأصوات ، ونحن نقول بكونه محدثاً .
قوله : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } الآية .
لما حكى عن الكفَّار أنَّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، على إنكار البعث ، دلَّ ذلك على تماديهم في الغيِّ والجهل ، ومن هذا حاله ، لا يبعد إقدامه على إيذاء المسلمين؛ بالضَّرب ، وغيره من العقوبات؛ وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن ديارهم ، ومساكنهم فذكر - تعالى - في هذه الآية حكم تلك الهجرة ، وبيَّن ما للمهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة؛ من حيث هاجر ، وصبر ، وتوكَّل على الله - عز وجل - وذلك ترغيبٌ لغيرهم في طاعة الله - عز وجل - .

قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه- : نزلت هذه الآية في صهيب ، وبلال ، وعمار ، وخبَّاب ، وعابس ، وجبير ، وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم؛ ليردوهم عن الإسلام ، فأما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبيرٌ إن كنت لكم لم أنفعكم ، وإن كنت عليكم لم أضركم؛ فافتدى منهم بماله ، فلما رآه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قال : رَبِحَ البيعُ يا صهيب ، وقال عمر رضي الله عنه : « نِعْمَ الرَّجلُ صهيبٌ ، لوْ لَمْ يَخفِ الله لَمْ يَعْصِه » ، يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه .
وقال قتادة - رضي الله عنه- : هم أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ظلمهم أهل مكة ، وأخرجوهم من ديارهم؛ حتَّى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوَّأهم الله المدينة بعد ذلك؛ فجعلها لهم دار هجرة ، وجعلهم أنصاراً للمؤمنين ، وبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام ، كما أن نصرة الأنصار قوَّت شوكتهم ، ودل عليه قوله تعالى : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله } على أنَّ الهجرة إذا لم تكن لله ، لم يكن لها موقع ، وكانت بمنزلة الانتقال من بلدٍ إلى بلد .
قوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة ، وهو قولهم : بأنَّ الحشر ، والنشر ، باطلٌ ، لأن هذه البِنْيَة إذا مات صاحبها ، وتفرقت أجزاؤه ، امتنع عوده بعينه ، وإذا بطل القول بالبعث ، بطل القول بالنبوة من وجهين :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى تقرير القول بالمعاد ، وهو باطل؛ فيكون داعياً إلى الباطل؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولاً .
وقوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } أي أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار .
قوله : « حَسنَةً » فيها أوجه :
أحدها : أنها نعتٌ لمصدر محذوف ، أي : تبوئة حسنة .
الثاني : أنها منصوبة على المصدر الملاقي لعامله في المعنى؛ لأنَّ معنى { لَنُبَوِّئَنهُمْ « لنحسنن إليهم .
الثالث : أنها مفعول ثانٍ؛ لأن الفعل قبلها مضمن لمعنى لنعطينهم ، و » حَسَنةً « صفة لموصوف محذوفٍ ، أي : داراً حسنة؛ وفي تفسير الحسن : دار حسنة وهي المدينة على ساكنها - أفضل الصلاة والسلام- .
وقيل : تقديره : منزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل المشرق .
وقيل : حسنة بنفسها هي المفعول من غير حذف موصوف .
وقرأ أمير المؤمنين ، وابن مسعود ، ونعيم بن ميسرة : » لنُثوينَّهُمْ « بالثاء المثلثة والياء ، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من » ثَوَى بالمكان « أقام فيه وسيأتي أنَّه قرئ بذلك في السبع في العنكبوت ، و » حَسنَةً « على ما تقدم .

ويريد أنه يجوز أن يكون على نزع الخافض أي « في حَسَنة » والموصول مبتدأ ، والجملة من القسم المحذوف وجوابه خبره ، وفيه ردٌّ على ثعلب؛ حيث منع وقوع جملة القسم خبراً .
وجوَّز أبو البقاء في : « الَّذينَ » النصب على الاشتغالِ بفعلٍ مضمر ، أي : لنبوأنَّ الذين .
ورده أبو حيان : بأنه لا يجوز أن يفسر عاملاً ، إلا ما جاز أن يعمل ، وإن قلت « زَيْداً لأضْربنَّ » لم يجز ، فكذا لا يجوز « زَيْداً لأضْربنَّه » .
قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يجوز فيه أن يعود الضمير على الكفار ، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لرجعوا مسلمين .
أو على المؤمنين ، أي : لاجتهدوا في الهجرة والإحسان كما فعل غيرهم .
فصل : الإحسان عند الإعطاء
روي أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول : خُذه بَاركَ الله لَكَ فِيهِ ، هذا ما وَعدكَ الله في الدُّنيَا وما ادَّخرَ لَكَ في الآخرةِ أفضلُ ، ثم تلا هذه الآية .
وقيل : المعنى : لنحسنن إليهم في الدنيا . وقيل : الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية .
قوله تعالى : { الذين صَبَرُواْ } محلُّه رفعٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هم الذين صبروا ، أو نصب على تقدير أمدح ، ويجوز أن يكون تابعاً للموصول قبله نعتاً ، أو بدلاً ، أو بياناً فمحله محله .
والمعنى : أنَّهم صبروا على العذاب ، وعلى مفارقة الوطن ، وعلى الجهاد ، وبذل الأموال ، و الأنفس في سبيل الله .
قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } الآية هذه الآية شبهة خامسة لمنكري النبوة ، كانوا يقولون : الله أعلى ، وأجلُّ من أن يكون رسوله واحداً من البشر؛ بل لو أراد بعثة رسولٍ غلينا كان يبعث ملكاً ، وتقدم تقريرُ هذه الشبهة في سورة الأنعام؛ فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله : { نوحي إِلَيْهِمْ } والمعنى : أنَّ عادة الله من أول زمان التكليف لم يبعث رسولاً إلاَّ من البشر ، وهذه العادة مستمرةٌ ، فلا يلتفت إلى طعن هؤلاء الجهال .
ودلت هذه الآية على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ ، ودلت على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ ، ودلت على أنه - تعالى - ما أرسل ملكاً ، إلاَّ أن ظاهر قوله تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } [ فاطر : 1 ] يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- ، ثم قال الله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر } .
قال ابن عباس - رضي الله عنه- : يريد أهل التوراة ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر } [ الأنبياء : 105 ] يعني التوراة . وقال الزجاج : معناه سلوا كلَّ من يذكر بعلم وتحقيق .

واختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد؟ منهم من أجازه محتجاً بهذه الآية؛ فقال : لمَّا لم يكن أحد المجتهدين عالماً ، وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم بالحكم؛ لقوله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فإن لم يجب؛ فلا أقل من الجواز .
واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : المكلف إذا نزلت به واقعة ، فإن كان عالماً بحكمها ، لم يجز له القياس ، وإن لم يكن عالماً بحكمها ، وجب عليه سؤال من كان عالماً بها؛ لظاهر هذه الآية ، ولو كان القياس حجة ، لما وجب عليه سؤال العالم؛ لأنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس ، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية؛ فوجب أن لا يجوز .
والجواب : أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - فالإجماع أقوى من هذا الدليل .
قوله « بِالبَيِّناتِ » فيه ثمانية أوجه :
أحدها : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل « رِجَالاً » فيتعلق بمحذوفٍ ، أي رجالاً ملتبسين بالبينات ، أي : مصاحبين لها وهو وجه حسنٌ لا محذور فيه ، ذكره الزمخشريُّ .
الثاني : أنه متعلق ب « أرْسَلْنَا » ذكره الحوفي ، والزمخشريُّ ، وغيرهما ، وبه بدأ الزمخشريُّ ، فقال : « يتعلق ب » أرْسَلْنَا « داخلاً تحت حكم الاستثناء مع » رِجَالاً « أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات ، كقولك : ما ضَربْتُ إلاَّ زيْداً بالسَّوطِ؛ لأن أصله : ضَربتُ زَيْداً بالسَّوطِ » .
وضعفه أبو البقاء : بأن ما قبل « إلاَّ » لا يعمل فيما بعدها ، إذا تم الكلام على « إلا » وما يليها ، قال : إلا أنه قد جاء في الشعر : [ البسيط ]
3310- نُبِّئْتهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جَارتَهُم ... ولا يُعَذِّبُ إلاَّ الله بالنَّارِ
وقال أبو حيَّان : « وما أجازه الحوفي ، والزمخشري ، لا يجيزه البصريون؛ إذ لا يجيزون أن يقع بعد » إلاَّ « إلاَّ مستثنى ، أو مستثنى منه ، أو تابع لذلك ، وما ظن بخلافه قدر له عامل ، وأجاز الكسائي أن يليها معمول ما بعدها مرفوعاً ، أو منصوباً أو مخفوضاً ، نحو : ما ضَربَ إلا عمراً زيدٌ ، وما ضَربَ إلاَّ زيْدٌ عَمْراً ، وما مرَّ إلاَّ زيْدٌ بِعَمْرٍو » .
ووافقه ابن الأنباري في المرفوع ، والأخفش ، في الظرف ، وعديله؛ فما قالاه يتمشَّى على قول الكسائي ، والأخفش .
الثالث : أنه يتعلق ب « أرْسَلْنَا » أيضاً؛ إلاَّ أنه على نية التقديم قبل أداة الاستثناء تقديره : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً؛ حتى لا يكون ما بعد « إلاَّ » معمولين متأخرين لفظاً ورتبة داخلين تحت الحصر لما قبل « إلاَّ » ، حكاه ابن عطية .
وأنكر الفراء ذلك وقال : « إنَّ صلة ما قبل » إلاَّ « لا يتأخر إلى ما بعد » إلا « لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل » إلاَّ « مع صلته ، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه؛ امتنع إدخال الاستثناء عليه » .

الرابع : أنه متعلق ب « نُوحِي » كما تقول : أوحى إليه بحق . ذكره الزمخشري ، وأبو البقاء .
الخامس : أنَّ الباء مزيدة في « بالبَيِّناتِ » وعلى هذا؛ فيكون « البَيِّنَات » هو القائم مقام الفاعل؛ لأنها هي الموحاة .
السادس : أن الجارَّ متعلق بمحذوف؛ على أنَّه حالٌ من القائم مقام الفاعل ، وهو « إليْهِمْ » ذكرهما أبو البقاء . وهما ضعيفان جدًّا .
السابع : أن يتعلَّق ب « لا تَعْلَمُون » على أنَّ الشرط في معنى : التبكيت والإلزام؛ كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقِّي .
قال الزمخشريُّ : وقوله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر } اعتراضٌ على الوجوه المتقدمة ، ويعني بقوله : « فاسْئَلُوا » الجزاء وشرطه ، وأما على الوجه الأخير ، فعدم الاعتراض واضحٌ .
الثامن : أنه متعلق بمحذوف جواباً لسؤالٍ مقدرٍ؛ كأنه قيل : بِمَ أرسلوا؟ فقيل : أرسلوا بالبينات ، والزُّبرِ ، كذا قدره الزمخشري . وهو أحسن من تقدير أبي البقاءِ : بعثوا لموافقته للدالِّ عليه لفظاً ومعنى .
فصل في تأويل « إلا »
قال البغوي - رحمه الله- : « إلاَّ » بمعنى « غَيْرَ » ، أي : وما أرسلنا قبلك بالبينات ، والزبر ، غير رجالٍ يوحى إليهم ، ولو لم نبعث إليهم ملائكة .
وقيل : تأويله : وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً يوحى إليهم بالبينات والزبر ، والبينات والزبر : كل ما يتكامل به الراسالة؛ لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق مدعي الرسالة ، وهي البينات على التكاليفِ ، التي يبلغها الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - إلى العباد ، وهي الزبر .
ثم قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } أراد بالذكر الوحي وكان - عليه الصلاة والسلام - مبيناً للوحي ، وبيان الكتاب يطلب من السنة . انتهى .
فصل القرآن ليس كله مجملاً بل منه المجمل والمبين
ظاهر هذه الآية يقتضي أن هذا الذكر مفتقر على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفتقر إلى [ البيان ] مجملٌ ، فهذا النص يقتضي أنَّ هذا القرآن كله مجمل؛ فلهذا قال بعضهم : متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر؛ لأن القرآن مجمل؛ فلهذا قال بعضهم : متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر؛ لأن القرآن مجملٌ بنص هذه الآية ، والخبر مبين لهذه الآية ، والمبين مقدم على المجمل . وأجيب : بأن القرآن منه محكمٌ ، ومنه متشابه ، والمحكم يجب كونه مبيناً؛ فثبت أن القرآن كله ليس مجملاً ، بل فيه المجمل .
فقوله : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } محمول على تلك المجملات .

فصل هل الرسول مبين لكلم ما أنزل الله
ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو لمبين لكلِّ ما أنزل الله على المكلفين ، وعند هذا قال نفاة القياس : لو كان القياس حجة ، لما وجب على الرسول بيانُ كلِّ ما أنزل الله تعالى على المكلفين من الأحكام؛ لاحتمال أن يبين لمكلف ذلك الحكم بطريق القياس ، ولما دلت هذه الآية على أنَّ المبين للتكاليف ، والأحكام؛ هو الرسول ، علمنا أنَّ القياس ليس بحجةٍ .
وأجيب عنه : بأنَّه صلى الله عليه وسلم لما بين أنَّ القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس؛ كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان الرسولِ صلى الله عليه وسلم . قالوا : لو كان البيان بالقياس من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع فيه اختلافٌ .
قوله تعالى : { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات } الآية في « السَّيِّئاتِ » ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها نعت لمصدر محذوف ، أي : المكرات السيئات .
الثاني : أنه مفعول به على تضمين : « مَكرُوا » عملوا وفعلوا ، وعلى هذين الوجهين ، فقوله { أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض } مفعولٌ ب « أمِنَ » .
الثالث : أنه منصوب ب « أمن » ، أي : أمنوا العقوبات السيئات ، وعلى هذا فقوله { أَن يَخْسِفَ الله } بدل من « السَّيِّئات » .
والمكرُ في اللغة : هو السعي بالفسادِ خفية ، ولا بد هنا من إضمارٍ ، تقديره المكرات السيئات ، والمراد أهل مكة ، ومن حول المدينة .
قال الكلبيُّ : المراد بهذا المكر : اشتغالهم بعبادة غير الله - تعالى - والأقربُ أن المراد سعيهم في إيذاءِ الرسول ، وأصحابه على سبيل الخفيةِ ، أي : يخسف الله بهم الأرض؛ كما خسف بالقرون الماضية .
قوله : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم؛ فيهلكهم بغتة؛ كما فعل بالقرون الماضية .
{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ } أي : أسفارهم { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد } [ آل عمران : 196 ] .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه- : في اختلافهم . وقال ابن جريج : في إقبالهم وإدبارهم .
وقيل : في حال تلقُّبهم في أمكارهم ، فيحول الله بينهم ، وبين إتمام تلك الحيل .
وحمل التقلُّب على هذا المعنى ، مأخوذ من قوله تعالى : { وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور } [ التوبة : 48 ] . { أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } هذا الجارُّ متعلق بمحذوفٍ؛ فإنه حال ، إمَّا من فاعل « يَأخُذهُمْ » وإما من مفعوله ، ذكرهما أبو البقاء .
والظاهر كونه حالاً من المفعول دون الفاعل .
والتَّخَوُّفُ : تفعُّلٌ من الخَوفِ ، يقال : خِفْتُ الشَّيء ، وتخَوَّفتهُ .
والتَّخوُّفُ : التَّنقُّص ، أي : نقص من أطرافهم ، ونواحيهم ، الشيء بعد الشيء حتًّى يهلك جميعهم ، يقال : تخوَّفته الدَّهرَ؛ وتخوفه ، إذا نقصه ، وأخذ ماله ، وحشمه ، ويقال : هذه لغة بني هذيل .

وقال الأعرابيِّ : تخوَّفتُ الشَّيءَ وتخيَّفتهُ إذا تنقَّصتهُ .
حكى الزمخشريُّ أن عمر - رضي الله عنه - سألهم على المنبر عن هذه الآية فسكتوا ، فقام شيخٌ من هذيل ، فقال : هذه لغتنا ، التخَوُّف التنقُّص ، فقال عمر : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ .
قال : نعم ، قال شاعرنا : [ البسيط ]
3311- تخوَّف الرَّحلُ منهَا تَامِكاً قَرِداً ... كمَا تَخوَّفَ [ عُودَ ] النَّبْعةِ السَّفن
فقال عمر - رضي الله عنه- : أيُّها الناس عليكم بديوانكم لا تضلُّوا ، قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية؛ فإنَّ فيه تفسير كتابكم ، وكان الزمخشري نسب البيت قبل ذلك لزهير ، وكأنه سهوٌ؛ فإنه لأبي كبير الهذلي؛ ويؤيد ذلك قول الرجل : قال شاعرنا ، وكان هذيلياً كما حكاه هو ، فعلى هذا يكون المراد ما يقع في أطراف بلادهم ، كما قال تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ } [ الأنبياء : 44 ] أي : لا نعاجلهم بالعذاب ، ولكن ننقص من أطراف بلادهم حتى يصل إليهم فيهلكهم .
ويحتمل أن النَّقص من أموالهم وأنفسهم يكون قليلاً قليلاً حتى يفنوا جميعهم .
وقال الضحاك ، و الكلبيُّ : من الخوف ، أي : لا يأخذهم بالعذاب ، أولاً؛ بل يخيفهم ، أو بأن يعذب طائفة؛ فتخاف التي يليها .
ثم قال : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } أي يمهل في أكثر الأمر؛ لأنه رءوف رحيم ، فلا يعاجل بالعذاب .

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

قوله : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } الآية قرأ الأخوان : « تَرَوْا » بالخطاب جرياً على قوله : « فإنَّ ربّكُمْ » .
والباقون : بالياء جرياً على قوله : { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ } [ النحل : 45 ] .
وأما قوله { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير } [ الملك : 19 ] فقراءة حمزة أيضاً بالخطاب ، ووافقه ابن عامر فيه؛ فحصل من مجموع الآيتين : أنَّ حمزة بالخطاب فيهما ، والكسائي بالخطاب في الأولى ، والغيبة في الثانية ، وابن عامر بالعكس ، والباقون : بالغيبة فيهما .
وأما توجيهُ الأولى فقد تقدم ، وأما الخطاب في الثانية؛ فجرياً على قوله تعالى : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النحل : 78 ] وأمَّا الغيبة؛ فجرياً على قوله تعالى { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ النحل : 73 ] إلى آخره ، وأمَّا تفرقة الكسائي ، وابن عامرٍ بين الموضعين؛ فجمعاً بين الاعتبارين ، وأنَّ كلاًّ منهما صحيح .
فصل
لمَّا خوَّف المشركين بأنواع العذاب المتقدمةِ ، أردفه بما يدلُّ على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي ، والسفلي؛ ليظهر لهم أنَّ مع كمال هذه القدرة القاهرة والقوة الغير متناهية ، كيف يعجز عن إيصال العذاب إليهم؟ وهذه الرؤية لما كانت بصرية وصلت ب « غلى » ؛ لأن المراد بها الاعتبارُ ، والاعتبار لا يكون بنفس الرؤية ، حتى يكون مع النظر غلى الشيء الكامل في أحواله .
قوله : { مِن شَيْءٍ } هذا بيان ل « مَا » في قوله : { مَا خَلَقَ الله } فإنها موصولة بمعنى الذي .
فإن قيل : كيف يبين الموصول وهو مبهم ب « شيء » وهو مبهم؛ بل أبهم ممَّا قبله؟ .
فالجواب : أن شيئاً قد اتضح ، وظهر بوصفه بالجملة بعده؛ وهي : « يَتفيَّؤ ظِلالهُ » .
قال الزمخشري : و « مَا » موصولة ب « خَلقَ الله » وهو مبهمٌ؛ بيانه في قوله { مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } .
وقال ابن عطية : « مِنْ شيءٍ » لفظ عامٌّ في كل ما اقتضته الصفة من قوله : « يتَفيَّؤُ ظِلالهُ » .
قال الزمخشري : و « مَا » موصولة ب « خَلقَ الله » وهو مبهمٌ؛ بيانه في قوله { مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } .
وقال ابن عطية : « مِنْ شيءٍ » لفظ عامٌّ في كل ما اقتضته الصفة من قوله : « يتَفيَّؤُ ظِلالهُ » .
فظاهر هاتين العبارتين : أن جملة « يَتَفيَّؤ ظِلالهُ » صفة ل « شَيءٍ » فأما غيرهما؛ فإنه قد صرح بعدم كون الجملة صفة؛ فإنه قال : والمعنى : من كل شيءٍ له ظلٌّ من جبل ، وشجر ، وبناء ، وجسم قائم ، وقوله « يَتفيَّؤُ ظِلالهُ » إخبار من قوله « مِنْ شَيءٍ » ليس بوصف له ، وهذا الإخبار يدلُّ على ذلك الوصف المحذوف الذي تقديره : هو له ظل . وفيه تكلف لا حاجة إليه ، والصفة أبين و « مِنْ شيءٍ » في محل نصبٍ على الحالِ من الموصول ، أو متعلق بمحذوف على جهة البيان؛ أعني : من شيء .

والتَّفَيُّؤ : تَفعُّلٌ من فَاءَ يَفِيءُ ، أي : رَجَعَ ، و « فاء » : قاصر فإذا أريد تعديته عدِّي بالهمزة كقوله { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ } [ الحشر : 7 ] أو بالتضعيف نحو : فَيَّأ الله الظِّلَ فتَفيَّأ ، وتَفيَّأ : مطاوع فَيَأ ، فهو لازم ، ووقع في شعر أبي تمَّامٍ متعدِّياً في قوله : [ الكامل ]
3312- ... وتَفَيَّأتْ ظِلاَلَهَا مَمْدُودَا
واختلف في الفيء ، فقيل : هو مطلق الظل ، سواء كان قبل الزوالِ ، أو بعده ، وهو الموافق لمعنى الآية ههنا .
وقيل : ما كان قبل الزوال فهو ظلٌّ فقط ، وما كان بعده فهو ظل وفيءٌ ، فالظل أعم . يروى ذلك عن رؤبة بن العجَّاج ، وأنكر بعضهم ذلك ، وأنشد أبو [ زيد ] للنَّابغة الجعدي : [ الخفيف ]
3313- فَسلامُ الإلهِ يَغْدُو عَليْهِمْ ... وفُيُوءُ الفِرْدَوْسِ ذَاتِ الظِّلالِ
فأوقع لفظ « الفَيءِ » على ما لم تنسخه الشمس؛ لأن ظلَّ الجنة ما حصل بعد أن كان زائلاً بسبب ضوء الشمس .
وقيل : بل تختصُّ الظلُّ : بما قبل الزوال ، والفيء : بما بعده .
قال الأزهري : تَفيُّؤ الظِّلال : رُجوعُهَا بعد انتِصَافِ النَّهارِ ، فالتفيؤ : لا يكون إلا بالعشيِّ بعدما انصرفت عنه الشمس ، والظل ما يكون بالغداةِ ، وهو ما لم تنله الشمس؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3314- فَلا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعهُ ... ولا الفَيءُ مِنْ بَرْدِ العَشيِّ تَذُوقُ
وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3315- تَيَمَّمتِ العَيْنَ الَّتي عِندَ ضَارجٍ ... يَفِيءُ عليْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِ
وقد خطأ ابن قتيبة الناس في إطلاقهم الفيء على ما قبل الزوال وقال : إنما يطلق على ما بعده؛ واستدل بالاشتقاق؛ فإن الفيء هو الرجوع ، وهو متحقق بما بعد الزَّوال [ قال : وإنما يطلق على ما بعده ] ، فإن الظل يرجع إلى جهة المشرق بعد الزوال بعد ما نسخته الشمس قبل الزوالِ .
وتقول العربُ في جمع فَيء : « أفْيَاء » للقليل ، و « فُيُؤٌ » للكثير؛ كالبيوت ، والعيون ، وقرأ أبو عمرو « تَتفَيَّؤُ » بالتاء من فوق مراعاة لتأنيث الجمع ، وبها قرأ يعقوب ، والباقون بالياء لأنه تأنيث مجازي .
وقرأ العامة : « ظِلاله » جمع ظلٍّ ، وعيسى بن عمر « ظِلَلُه » جمع ظِلَة؛ ك « غُرْفَة ، وغُرَف » .
قال صاحب اللَّوامح في قراءة عيسى « ظِلَلُه » : والظَّلَّة : الغَيْمُ : وهو جسم ، وبالكسر : الفيء ، وهو عرض فرأى عيسى : أنَّ التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى منه بالإعراض ، وأما في العامة فعلى الاستعارةِ .
قال الواحدي : « ظِلالهُ » أضاف الظلال إلى مفرد ، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ، وإنما حسن هذا؛ لأنَّ الذي يرجع إليه الضمير ، وإن كان واحداً في اللفظ ، وهو قوله تعالى { إلى مَا خَلَقَ الله } إلاَّ أنه كثير في المعنى؛ كقوله تعالى { لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ }

[ الزخرف : 13 ] فأضاف الظُّهور ، وهو جمع إلى ضمير مفرد؛ لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة في المعنى ، وهو قوله تعالى : { مَا تَرْكَبُونَ } انتهى .
قوله تعالى : { عَنِ اليمين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب « يَتفيَّؤُ » ومعناها المجاوزة أي : يتجاوز الظلال عن اليمين إلى الشمائل .
الثاني : أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من « ظِلالهُ » .
الثالث : أنها اسم بمعنى جانب ، فعلى هذا يبنتصب « إلى » على الظرف .
وقوله : { عَنِ اليمين والشمآئل } فيه سؤالان :
أحدهما : ما المراد باليمين والشمائل؟ .
والثاني : كيف أفرد الأول ، وجمع الثاني؟ .
وأجيب عن الأول بأجوبة :
أحدها : أنَّ اليمين يمين الفلك؛ وهو المشرق ، والشمائل شماله ، وهو المغرب ، وخصَّ هذان الجانبان؛ لأنَّ أقوى الإنسان جانباه؛ وهما يمينه وشماله ، وجعل المشرق يميناً؛ لأن منه تظهر حركة الفلك اليومية .
الثاني : البلدة التي عرضها أقلُّ من الميل تكونُ الشمس صيفاً عن يمين البلد فيقع الظل عن يمينهم .
الثالث : أن المنصوب للعبرة كلُّ جرمٍ له ظلٌّ ، كالجبل ، والشجر ، والذي يترتب فيه الأيمان ، والشمائلن إنما هو البشر فقط ، ولكن ذكر الأيمان ، والشمائل ، هنا على سبيل الاستعارة .
الرابع : قال الزمخشريُّ : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله } من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها ، وشمائلها عن جانبي كل واحد منها وشقَّيه استعارة من يمين الإنسان ، وشماله لجانبي الشيء ، أي : يرجع من جانب إلى جانب .
وهذا قريب ممَّا قبله ، وأجيب عن الثاني بأجوبة :
أحدها : أن الابتداء يقع من اليمين ، وهو شيءٌ واحدٌ؛ فلذلك وحد اليمين ، ثم ينتقص شيئاً فشيئاً وحالاً بعد حال ، فهو بمعنى الجمع ، فصدق على كل حال لفظة الشمائل؛ فتعدُّد بتعدُّد الحالات ، وإلى قريب منه نحا أبو البقاء - رحمه الله- .
والثاني : قال الزمخشريُّ : واليمين بمعنى الأيمان ، يعني أنَّه مفرد قائم مقام الجمع ، وحينئذ فهما في المعنى جمعاً؛ كقوله تعالى { وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] أي الأدبار .
الثالث : قال الفراء : لأنه إذا وحَّد ذهب إلى واحد من ذوات الظِّلال ، وإذا جمع ذهب إلى كلِّها؛ لأن قوله تعالى { مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } لفظه واحد ، ومعناه الجمع ، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد؛ كقوله تعالى { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] وقوله عز وجل : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] .
الرابع : أنَّا إذا فسَّرنا اليمين بالمشرق؛ كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها ، فكانت اليمين واحدة ، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض ، وهي كثيرة؛ فلذلك عبَّر عنها بصيغة الجمع .
الخامس : قال الكرمانيُّ : « يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال ، والخلف ، والقُدَّام؛ لأنَّ الظل يفيء من الجهات كلها ، فبدأ باليمين؛ لأنَّ ابتداء الفيء منها ، أو تيمُّناً بذكرها ، ثم جمع الباقي على لفظة الشمال؛ لما بين اليمين ، والشمال من التضادِّ ، ونزَّل القدَّام والخلف منزلة الشمال؛ لما بينهما وبين اليمين من الخلاف » .

السادس : قال ابن عطية : « وما قال بعض الناس من أنَّ اليمين أول وقعةٍ للظل بعد الزوالِ ، ثم الآخر إلى الغروب ، هي عن الشمائلِ؛ ولذلك جمع الشمائل ، وأفرد اليمين؛ لتخليطٌ من القول ، ومبطل من جهات » .
وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : « إذا صليتَ الفجر كان ما بين مطلع الشمس ، ومغربها ظلاَّ ، ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً؛ فقبض إليه الظِّلَّ؛ فعلى هذا فأول دورة الشمس فالظلُّ عن يمين مستقبل الجنوب ، ثم يبدأ الانحرافُ ، فهو عن الشمائل؛ لأنه حركاتٌ كثيرة ، وظلالٌ منقطعة ، فهي شمائلُ كثيرة؛ فكان الظل عن اليمين متصلاً واحداً عامًّا لكل شيءٍ » .
السابع : قال ابن الضائع رحمه الله : « وجمع بالنظر إلى الغايتين؛ لأنَّ ظل الغداة يضمحلُّ حتى لا يبقى منه إلا اليسيرُ ، فكأنه في جهة واحدة ، وهي بالعشيِّ - على العكس - لاستيلائه على جميع الجهات ، فلحظت الغايتان في الآية ، هذا من جهة المعنى ، وأما من جهة اللفظ ، ففيه مطابقة؛ لأنَّ » سُجَّداً « جمع ، فطابقه جمع الشَّمائل؛ لاتصاله به؛ فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى ، ولحفظهما معاً؛ وتلك الغاية في الإعجاز » .
قوله « سُجَّداً » حال من « ظِلالهُ » ، وسُجَّداً جمع ساجدٍ ، كشَاهِدٍ وشُهَّد ورَاكِع ورُكَّع .
والسجودُ : الميل ، يقال : سَجدتِ النَّخلةُ إذا مالتْ ، وسَجدَ البَعيرُ إذَا طَأطَأ رأسه؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
3316- ... تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوافرِ
فالمراد بهذا السجود التواضعُ .
واعلم أن انتقاص الظلِّ بعد كماله إلى غاية محدودة ثمَّ ازدياده بعد غاية نقصانه ، وتنقله من جهة إلى أخرى على وفقِ تدبير الله ، وتقديره بحسب الاختلافاتِ اليوميَّة الواقعة في شرق الأرض ، وغربها ، وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة على وجه مخصوصٍ ، وترتيب معيِّنٍ لا يكون إلا لكونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره؛ فكان السجود عبارة عن تلك الحال .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : اختلاف هذه الظلال معلَّلٌ باختلاف سير الشمس لا لأجل تقدير الله؟ .
فالجوابُ : أنَّا وإن سلمنا ذلك ، فمحرك الشمس بالحركة الخاصَّة ليس إلاَّ الله - تعالى - فدل على أنَّ اختلاف أحوال هذه الظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى ، وقيل : هذا سجود حقيقة؛ لأن هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد ، قال أبو العلاء المعرِّي ، في صفة وادٍ : [ الطويل ]
3317- بِخَرْقٍ يُطِيلُ الجُنْحَ فِيهِ سُجودَهُ ... وللأرْضِ زِيّ الرَّاهبِ المُتعبِّدِ
فلمّا كان شكل الأظلال يشبه شكل الساجدين ، أطلق عليه السجود ، وكان الحسنُ يقول : أما ظلُّلك ، فسجد لربِّك ، وأما أنت ، فلا تسجد له؛ بئسما صنعت .
وعن مجاهدٍ : ظلُّ الكافر يصلِّي ، وهو لا يصلِّي ، وقيل : ظلُّ كلِّ شيءٍ يسجد لله ، سواء كان ذلك ساجداً لله ، أم لا .

قوله : { وَهُمْ دَاخِرُونَ } في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها حال من الهاء في « ظِلالهُ » . قال الزمخشريُّ : « لأنه في معنى الجمع ، وهو ما خلق الله من كلِّ شيءٍ له ظل ، وجمع بالواو والنون؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصاف العقلاء ، أو لأنَّ في جملة ذلك من يعقل فغلب » .
وقد ردَّ أبو حيَّان هذا بأن الجمهور لا يجيزون مجيء الحالِ من المضاف إليه ، وهو نظير جَاءنِي غُلامُ هِندٍ ضَاحِكَةً ، قال : « ومن أجاز مجيئها منه إذا كان المضاف جزءاً ، أو كالجزءِ جوز الحالية منه هنا؛ لأنَّ الظل كالجزء؛ إذ هو ناشئ عنه » .
الثاني : أنها حال من الضمير المستتر في « سُجَّدًا » فهي حال متداخلة .
الثالث : أنها حال من « ظِلالهُ » فينتصب عنه حالان ، ثم لك في هذه الواو اعتباران :
أحدهما : أن تجعلها عاطفة حالاً على مثلها ، فهي عاطفة ، وليست بواو حالٍ ، وإن كان خلو الجملة الاسميَّة الواقعة حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأي ، وممن صرح بأنها عاطفة : أبو البقاءِ .
والثاني : أنها واوُ الحال ، وعلى هذا فيقال : كيف يقتضي العامل حالين؟ .
فالجواب : أنه جاز ذلك؛ لأن الثانية بدلٌ من الأولى ، فإن أريد بالسجود التَّذلل والخضوع ، فهو بدل كل من كل ، وإن أريد به [ حقيقته ] ، فهو بدل اشتمالٍ ، إذ السجود مشتمل على الدخور .
ونظير ما نحن فيه : « جَاءَ زيْدٌ ضَاحِكاً وهو شاك » فقولك : « وهو شاك » يحتمل الحاليَّة من « زَيْدٍ » أو ضمير « ضَاحِكاً » ، والدُّخورُ : التواضع؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3318- فَلمْ يَبْقَ إلاَّ دَاخِرٌ في مُخَيَّسٍ ... ومُنْجَحِر في غَيْرِ أرْضِكَ في جُحْرِ
وقيل : هو القهر والغلبة ، ومعنى « داخرون » أذلاَّء صاغرين .
قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } الآية قد تقدم أن السجود على نوعين :
سجود كسجود الصلاة بوضع الجبهة على الأرض ، وسجود هو انقياد وخضوع؛ فلهذا قال بعضهم : المراد بالسجود ههنا : الانقيادُ والخضوع؛ لأنه اللائق بالدابة .
وقيل : السجود حقيقة؛ لأنه اللائق بالملائكة عليهم الصلاة والسلام .
وقيل : السجود لفظ مشتركٌ بين المعنيين ، وحمل اللفظ المشترك [ على إفادة مجموع معنيين جائز ، فيحمل لفظ السجود ههنا على المعنيين معاً ، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع ، وأما في حق الملائكة فبمعنى السجود الحقيقي؛ وهذا ضعيف؛ لأن استعمال اللفظ المشترك ] في جميع مفهوماته معاً غير جائز .
قوله تعالى : { مِن دَآبَّةٍ } يجوز أن يكون بياناً ل { مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ويكون لله تعالى في سمائه خلق؛ يدبون كما يدبُّ الخلق الذي في الأرض ، ويجوز أن يكون بياناً ل { مَا فِي الأرض } فقط .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : هلاَّ جيء ب » مَنْ « دون » ما « تغليباً للعقلاءِ على غيرهم؟ .

قلت : إنه لو جيء ب « مَنْ » لم يكن فيه دليلٌ على التغليب ، بل كان متناولاً للعقلاء خاصة ، فجيء بما هو صالح للعقلاء ، وغيرهم؛ إرادة للعموم « .
قال أبو حيَّان : » وظاهر السؤال تسليم أنَّ مَنْ قد تشتمل العقلاء ، وغيرهم على جهة التغليب ، وظاهر الجواب تخصيص « مَنْ » بالعقلاءِ ، وأنَّ الصالح للعقلاء ما دون « مَنْ » ، وهذا ليس بجوابٍ لأنه أورد السؤال على التسليم ، ثمَّ أورد الجواب على غير التسليم ، فصار المعنى أنَّ من يغلب بها؛ والجواب لا يغلب بها ، وهذا في الحقيقة ليس بجواب « .
فصل
قال الأخفش : قوله : » مِنْ دَابَّةٍ « يريد من الدَّواب ، وأخبر بالواحدِ؛ كما تقول : ما أتَانِي من رجلٍ مثله ، وما أتَانِي من الرِّجالِ مثلهُ .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : » يريد كل دابَّة على الأرضِ « .
فإن قيل : ما الوجه في تخصيص الملائكة ، والدواب بالذكر؟ .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّه تعالى بيَّن في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله - سبحانه وتعالى - وبين بهذه الآية أنَّ الحيوانات بأسرها منقادة لله - تعالى - لأن أخسَّها الدوابُّ ، وأشرفها الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - فلما بين في أخسها ، وفي أشرفها كونها منقادة خاضعة لله - تعالى - كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى .
الثاني : قال حكماءُ الإسلام : الدابَّةُ : اشتقاقها من الدَّبيب ، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانيَّة؛ فالدابة اسمٌ لكلِّ حيوان يتحرك ويدبُّ ، فلما ميَّز الله الملائكة عن الدابة؛ علمنا أنَّها ليست مما يدبُّ؛ بل هي أرواحٌ محضةٌ مجردة ، وأيضاً فإن الطيران بالجناح مغاير للدبيب؛ لقوله { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
{ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يجوز أن تكون الجملة استئنافاً أخبر عنهم بذلك ، وأن يكون حالاً من فاعل » يسجد « .
قوله » يَخَافُونَ « فيها وجهان :
أن تكون مفسرة لعدم استكبارهم ، كأنه قيل : ما لهم يستكبرون؟ فأجيب بذلك ، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل » لا يَسْتَكْبِرُونَ « ، ومعنى » يَخافُونَ ربَّهُمْ « ، أي : عقابه .
قوله : » مِنْ فَوْقِهِمْ « يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه ينعلق ب » يَخَافُونَ « ، أي : يخافون عذاب ربهم كائناً من فوقهم فقوله » مِنْ فوقِهِمْ « صفة للمضاف ، وهو عذابٌ ، وهي صفة كاشفةٌ؛ لأن العذاب إنَّما ينزل من فوق .
الثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من » رَبِّهمْ « ، أي : يخافون ربَّهم عالياً عليهم علوَّ الرتبة والقدرة قاهراً لهم ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ }

[ الأنعام : 18 ] .
فصل دلالة الآية على عصمة الملائكة
دلت الآية على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب؛ لأن قوله { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يدلُّ على أنهم منقادون لخالقهم ، وأنهم ما خالفوه في أمرٍ من الأمور ، كقوله { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] ، وقوله : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ، وكذلك قوله - جل وعز- : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] وذلك يدل على أنهم فعلوا كلَّ ما أمروا به ، فدل على عصمتهم عن كل الذنوب .
فإن قيل : هب أن الآية دلت على أنَّهم فعلوا كلَّ ما أمروا به ، فلم قلتم : إنها تدلُّ على أنهم تركوا كل ما نُهوا عنه؟ .
فالجواب : أنَّ كلَّ من نهى عن شيءٍ ، فقد أمر بتركه؛ وحينئذ يدخل في اللفظ ، فإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كلِّ الذنوب ، وثبت أنَّ إبليس ما كان معصوماً من الذنوب ، بل كان كافراً؛ لزم القطع بأنَّ إبليس ما كان من الملائكةِ ، وأيضاً : فإنه - تعالى - قال في صفة الملائكة : { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } ، ثم قال عز وجل لإبليس { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } [ ص : 75 ] وقال : { فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } [ الأعراف : 13 ] وثبت أنَّ الملائكة لا يستكبرون ، وثبت أنَّ إبليس تكبَّر ، واستكبر ، فوجب أن لا يكون من الملائكة .
وللخصم أن يجيب بأن إبليس لو لم يكن من الملائكة ، لما ذمَّ على تركه المعهود من ترك مخالفة الأمرِ ، ومن الاستكبار ، فلما خالف الأمر ، واستكبر ، خرج من حيّز الملائكة ، ولعن ، وطرد؛ لأنه خالف المعهود من حاله .
قال ابن الخطيب - رحمه الله - « ولما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة ، ثبت أنَّ القصة الخبيثة التي يذكرونها في حقِّ هاروت وماروت باطلة ، فإن الله - تبارك وتعالى - وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم من كل ذنبٍ؛ وجب القطع بأن تلك القصة باطلة كاذبة » .
واحتجَّ الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا : إنَّ الله - تعالى - وصفهم بالخوف ، ولولا أنهم يجوِّزون من أنفسهم الإقدام على الذنوب ، وإلاَّ لم يحصل الخوفُ والجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - حَذَّرهم من العقاب؛ فقال { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] فللخوف من العذاب يتركون الذنب .
الثاني : أن ذلك الخوف خوف الإجلال؛ هكذا نقل عن ابن عباس؛ كقوله تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] وكقول النبي صلى الله عليه وسلم « إنِّي لأخْشَاكُم للهِ » حين قالوا له وقد بكى : أتَبْكِي وقد غَفرَ الله لَكَ مَا تقدَّم من ذَنْبِكَ وما تَأخَّر؟ .
وهذا يدلُّ على أنه كلَّما كانت معرفة الله أتمَّ ، كان الخوف منه أعظم . وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء .
فصل في استدلال المشبهة بالآية والرد عليهم
استدل المشبهة بقوله تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } على أنه - تعالى - فوقهم بالذات .

والجواب : أن معناه : يخافون ربَّهم؛ من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم ، وإذا احتمل اللفظ هذا المعنى؛ سقط استدلالهم ، وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة ، والقهر والغلبة؛ لقوله تعالى : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } [ الأعراف : 127 ]
ويقوِّي هذا الوجه أنه تعالى قال : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } فوجب أن يكون المقتضي لخوفهم هو كون ربِّهم فوقهم؛ لأنَّ الحكم المرتب على وصف يشعر بكون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف ، وهذا التعليل ، إنَّما يصدح إذا كان المراد بالفوقية ، القهر والقدرة؛ لأنَّها هي الموجبة للخوف ، وأما الفوقية بالجهة ، والمكان ، فلا توجب الخوف؛ لأنَّ حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنَّه أخسُّ عبيده .
فصل في أن الملك أفضل من البشر
تمسك قومٌ بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من وجوه :
الأول : قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملاائكة } وقد تقدم أنَّ تخصيص هذين النوعين بالذكر ، إنَّما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخسَّ المراتب ، وكان الطرف الثاني أشرفها ، حتَّى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله - عز وجل- .
الثاني : أن قوله { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يدلُّ على أنه ليس في قلوبهم تكبر ، وترفع ، وقوله تعالى : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } يدل على أنَّ أعمالهم خالية عن الذنب ، و المعصية ، فمجموع هذين الكلامين يدلُّ على أنَّ بواطنهم ، وظواهرهم ، مبرأةٌ عن الأخلاق الفاسدة ، والأفعال الباطلة ، وأما البشر ، فليسوا كذلك ويدلُّ عليه القرآن والخبر .
أما القرآن فقوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] وهذا الحكم عامٌّ في الإنسان ، وأقلُّ مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذَّميمة .
وأما الخبر ، فقوله عليه الصلاة والسلام- : « مَا منَّأ إلاَّ وقدْ عصى أو هَمَّ بِمعْصِيةٍ غير يَحْيَى بن زكريَّا » .
ونعلم بالضرورة أن المبرَّأ عن المعصية ، ومن لم يهمَّ بها أفضل ممَّن عصى ، أو همَّ بها .
الثالث : أنَّ الله - تعالى - خلق الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قبل البشر بأدوار متطاولة ، وأزمان ممتدة ، ثم إنه - تعالى - وصفهم بالطاعة ، والخضوع ، والخشوع طول هذه المدَّة ، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين :
الأول : قوله - صلوات الله وسلامه عليه- : « الشَّيخ في قَومِه كالنَّبيِّ في أمَّتهِ » فضَّل الشيخ على الشابّ؛ وما ذاك إلاَّ لأنَّه لما كان عمره أطول ، فالظاهر أنَّ طاعته أكثر؛ فكان أفضل .
والثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام- : « مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسنةً فلهُ أجْرهَا وأجْرُ من عَملَ بها إلى يَوْمِ القِيامَةِ » فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها ، لزم أن يقال : إنهم هم الذين سنُّوا هذه السنة ، وهي طاعة الخالق ، والبشر إنما جاءوا بعدهم ، واستنُّوا بسُنَّتهِم؛ فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كلَّ ما حصل للبشر من الثواب ، فقد حصل مثله للملائكةِ ، ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة؛ فوجب كونهم أفضل .

قوله تعالى : { وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } الآية لمَّا بين أن كلَّ ما سوى الله فهو منقادٌ لجلاله وكبريائه ، أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك ، وبأن كل ما سواه ، فهو ملكه؛ وأنه غنيٌّ عن الكل .
قوله تعالى : « اثْنَيْنِ » فيه قولان :
أحدهما : أنه مؤكد ل « إلهَيْنِ » وعليه أكثر الناس ، و « لا تتَّخِذُوا » على هذا يحتمل أن تكون متعدية لواحدٍ ، وأن تكون متعدية لاثنين ، والثاني منهما محذوف ، أي : لا تتخذوا اثنين إلهين ، وفيه بعدٌ .
وقال أبو البقاءِ : « هو مفعولٌ ثانٍ » . وهذا كالغلط؛ إذ لا معنى لذلك ألبتة .
وكلام الزمخشريِّ هنا يفهم أنَّه ليس بتأكيد؛ فإنه قال : طفإن قلت : إنَّما جمعوا بين العدد ، والمعدود؛ فيما وراء الواحد والاثنين ، فقالوا : عندي رجال ثلاثة ، وأفراسٌ أربعةٌ؛ لأنَّ المعدود عارٍ عن الدَّلالةِ عن العدد الخاص ، فأمَّا رجلٌ ورجلان ، وفرسٌ وفرسان؛ فمعدودان فيهما دلالة على العدد؛ فلا حاجة إلى أن يقال : رجل واحد ، ورجلان اثنان ، فما وجه قوله تعالى : { إلهين اثنين } ؟ .
قلت : الاسم الحامل لمعنى الإفراد ، والتثنية دال على شيئين ، على الجنسية ، والعدد المخصوص ، فإذا أريدت الدلالة على أنَّ المعنيَّ به منهما ، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكد العدد ، فدلَّ به على القصد إليه ، والعناية به ، ألا ترى أنك لو قلت : « إنَّما هُوَ إلهٌ » ، ولم تؤكده بواحدٍ لم يحسن ، وخُيِّلَ أنك أثبت الإلهية ، لا الواحدانيَّة « .
وقال أبو حيَّان رحمه الله : » لما كان الاسمُ الموضوع للإفراد ، والتثنية قد يتجوَّز فيه؛ فيراد به [ الجنس ] ؛ نحو : نِعْمَ الرَّجلُ زَيْدٌ ، ونِعْمَ الرَّجلانِ الزيدان . وقول الشاعر : [ الوافر ]
3319- فإنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى ... وإنَّ الحَرْبَ أوَّلُهَا الكَلامُ
أكد الوضوع لهما بالوصف ، فقيل : إلهَيْنِ اثْنَينِ ، وقيل : إلهٌ واحدٌ « .
فصل
قال ابن الخطيب : الفائدة في قوله : » اثْنَيْنِ « : أن الشيء إذا كان ميتنكراً مستقبحاً ، فإذا أريد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على قبحه ، والقول بوجودِ إلهين مستقبحٌ في العقول؛ فإنَّ أحداً من العقلاءِ لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجودِ ، والعدمِ ، وصفات الكمال فالمقصود من تكرير » اثْنَيْنِ « تأكيدُ التنفير عنه ، وتوقيف العقل على ما فيه من القبح ، وأيضاً فقوله » إلهَيْنِ « لفظ واحد يدل على أمرين : ثُبوتِ الإلهِ ، وثبوتِ التعددِ .
فإذا قيل : { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين } لم يفهم من هذا اللفظ أنَّ النهي ، وقع عن إثبات الإله ، وعن إثبات التعدد ، وعن مجموعهما ، فلما قال : { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } ظهر أن قوله : » لا تَتَّخِذُوا « نهيٌ عن إثبات التعدد فقط ، وأيضاً فإنَّ التثنية منافية للإلهية ، وتقريره من وجوه :
الأول : أنَّا لو فرضنا موجودين ، يكون كل واحدٍ منهما واجباً لذاته؛ لكانا مشتركينِ في الوجوب البالتعيين ، وما به المشاركة ، غير ما به المباينة؛ فكلُّ واحدٍ منهما مركبٌ من جزءين ، وكل مركَّب فهو ممكنٌ؛ فثبت أنَّ القول بأن واجب الوجود أكثر من واحدٍ ينفي القول بكونهما واجبي الوجودِ .

الثاني : أنَّا لو فرضنا إلهين ، وحاول أحدهما تحريك جسم ، والآخر تسكينه؛ امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني؛ لأنَّ الحركة الواحدة والسكون الواحد ، لا يقبل القسمة أصلاً ، ولا التفاوت أصلاً؛ وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني؛ وإذا ثبت هذا ، امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية ، وإذا ثبت هذا ، فإمَّا أن يحصل مراد كل منهما ، وهو محال ، أو لا يحصل مراد كلِّ واحدٍ منهما ألبتَّة؛ وحينئذٍ يكون كل واحدٍ منهما عاجزاً؛ والعاجز لا يكون إلهاً . فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً .
الثالث : لو فرضنا غلهين اثنين ، لكان إمَّا أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر ، أو لا يقدر ، فإن قدر؛ فذلك الآخر ضعيفٌ ، وإن لم يقدر ، فهو ضعيفٌ .
الرابع : أن أحدهما : إمَّا أن يقوى على مخالفة الآخر ، أو لا يقوى عليه ، فإن لم يقو عليه ، فهو ضعيف ، وإذا قوي عليه ، فالأول المغلوبُ ضعيف؛ فثبت أنَّ الاثنينيَّة والإلهية متضادان .
فالمقصود من قوله { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } هو التنبيه على حصول المنافاة ، والمضادة بين الإلهية ، وبين الاثنينية .
ولما ذكر هذا الكلام قال : { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } ، أي : إنه لمَّا دل الدليل على أنَّه لا بد للعالم من الإله ، وثبت أنَّ القول بوجود إلهين محالٌ؛ ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد .
ثم قال { فَإيَّايَ فارهبون } وهذا رجوعٌ من الغيبة إلى حضور ، والتقدير : أنه لما ثبت أنَّ الإله واحد ، وأنَّ المتكلم بهذا الكلام إلهٌ؛ ثبت حينئذٍ أنَّه لا إله للعالم إلاَّ المتكلم بهذا الكلام ، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور؛ ويقول : { فَإيَّايَ فارهبون } .
قوله تعالى : { { فَإيَّايَ } منصوب بفعلٍ مضمرٍ مقدَّر بعده ، يفسره هذا الظاهر ، أي : إيَّاي ارهبوا فارهبون ، وقدَّرهُ ابن عطيَّة : ارهبوا إيَّاي ، فارهبون .
قال أبو حيَّان : وهو ذهولٌ عن القاعدة النحوية؛ وهي أنَّ المفعول إذا كان ضميراً متصلاً ، والفعل متعدِّ لواحدٍ ، وجب تأخيرُ الفعل؛ نحو : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [ الفاتحة : 5 ] ولا يجوز أن يتقدم إلاَّ في ضرورة؛ كقوله : [ الرجز }
3320- إليْكَ حَتَّى بَلغَتْ إيَّاكا ... وقد مرَّ تقريره أول البقرة .
وقد يجابُ عن ابن عطيَّة : بأنه لا يقبحُ في الأمور التقديريَّة ما يقبحُ في اللفظيَّة .

وفي قوله : « إيَّاي » التفاتٌ من غيبة؛ وهي قوله « وقَالَ اللهُ » إلى تكلم ، وهو قوله « فإيَّاي » ثم التفت إلى الغيبة أيضاً ، في قوله تعالى : { وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض } .
فصل
قوله « فارْهَبُونِ » يفيد الحصر ، وهو أنَّه لا يرهب الخلق إلاَّ منه ، ثم قال : { وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض } .
قال ابن عطية : « والواو في قوله : { وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض } عاطفة على قوله » إلهٌ واحدٌ « ، ويجوز أن تكون واو ابتداءٍ » .
قال أبو حيَّان : « ولا يقال : واو ابتداءٍ إلاَّ لواو الحال ، ولا يظهر هنا الحال » .
قال شهابُ الدين : وقد يطلقون واو ابتداء ، ويريدون بها واو الاستئناف؛ أي : التي لم يقصد بها عطف ولا تشريك ، وقد نصُّوا على ذلك؛ فقالوا : قد يؤتى بالواو أول الكلام ، من غير قصدٍ إلى عطفٍ ، واستدلوا على ذلك بإتيانهم بها في أول اشعارهم وهو كثيرٌ جدًّا .
ومعنى قوله : « عاطفة على قوله : إلهٌ واحدٌ » أي : أنها عطفت جملة على مفرد ، فيجب تأويلها بمفردٍ؛ لأنها عطفت على الخبر؛ فيكون خبراً ، ويجوز - على كونها عاطفة - أن تكون عاطفة على الجملة بأسرها ، وهي قوله تعالى : { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } . وكأن ابن عطية - رحمه الله - قصد بواو الابتداء هذا؛ فإنَّها استئنافيةٌ .
فصل
قال أهل السنة : هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنَّها من جملة ما في السماوات والرض ، وليس المراد من كونها لله ، أنَّها مفعولة لأجله ، ولطاعته؛ لأنَّ فيها المباحاتِ ، والمحظورات التي يؤتى بها ، لغرضِ الشَّهوةِ ، واللَّذةِ ، لا لغرضِ الطاعة؛ فوجب أن يكون المراد من كونها لله تعالى أنَّها واقعة بتكوينه وتخليقه .
قوله : { وَلَهُ الدين وَاصِباً } حال من « الدِّينُ » والعامل فيها الاستقرار المتضمن الجارَّ الواقع خبراً ، والواصبُ : الدَّائمُ؛ قال حسَّان : [ المديد ]
3321- غَيَّرتهُ الرِّيحُ تَسْفِي بِهِ ... وهَزِيمٌ رَعْدهُ وَاصِبُ
وقال ابو الأسود : [ الكامل ]
3322- لا أبْتَغِي الحَمْدَ القَليلَ بَقاؤهُ ... يَوْماً بِذمِّ الدَّهْرِ أجْمعَ وَاصِبَا
والواصب : العليل لمداومةِ السقم له؛ قال تعالى : { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } [ الصافات : 9 ] أي : دائمٌ ، وقيل : من الوصبِ ، وهو التَّعب؛ ويكون حينئذٍ على النسب ، أي : ذا وَصَبٍ؛ لأنَّ الدِّين فيه تكاليف ، ومشاقٌّ على العباد؛ فهو كقوله : [ المتقارب ]
3323- .. أضْحَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا
أي : ذا فُتونٍ ، وقيل : الواصب : الخالص ، ويقال : وصَب الشَّيءُ ، يَصِبُ وصُوباً ، إذا دام ، ويقال واظَبَ على الشَّيءِ ، وَواصَبَ عليه إذا دَامَ ، ومَفازَةٌ واصِبَةٌ ، أي : بعيدة ، لا غاية لها .
وقال ابن قتيبة : ليس من أحدٍ يدان له ، ويطاع إلاَّ انقطع ذلك بسبب في حال الحياة ، أو بالموتِ إلا الحقَّ - سبحانه وتعالى - فإنَّ طاعته دائمة لا تنقطع .

قال ابنُ الخطيب : وأقولُ : الدين قد يعنى به الانقياد؛ يقال : يا من دَانتْ لهُ الرِّقَابُ ، أي : انقادت لذاته ، أي : وله الدينُ واصِباً ، أي : انقياد كل ما سواه له لازمٌ أبداً؛ لأنَّ انقياد غيره له معلَّل ، بأنَّ غيره ممكنٌ لذاته ، والممكن لذاته يلزم أن يكون محتاجاً إلى السبب ، في طرفي الوجود ، والعدمِ ، فالماهيَّات يلزمها الإمكان لزوماً ذاتيًّا والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتيًّا ، ينتج أنَّ الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثِّر لزوماً ذاتيًّا ، فهذه [ الماهيات ] موصوفة بالانقياد لله - تعالى - اتصافاً ، دائماً ، واجباً ، لازماً ، ممتنع التَّغير .
ثم قال { أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ } ، أي : تخافون؛ استفهام على طريق الإنكارِ ، أي : أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد ، وأن كلَّ ما سواه محتاجٌ إليه ، في حدوثه وبقائه ، فبعد العلم بهذه الأصول ، كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله أو رهبة من غير الله؟! .
قوله تعالى : { وَمَا بِكُم } يجوز في « مَا » وجهان :
أحدهما : أن تكون موصولة ، والجارُّ صلتها ، وهي مبتدأ ، والخبر قوله : « فَمِنَ اللهِ » والفاء زائدة في الخبر؛ لتضمن الموصول معنى الشرط ، تقديره : والذي استقرَّ بكم ، و « مِنْ نِعْمَةٍ » بيانٌ للموصولِ .
وقدَّر بعضهم متعلق « بِكُمْ » خاصًّا ، فقال : « ومَا حَلَّ بِكُمْ أو نَزلَ بِكُمْ » .
وليس بجيِّد؛ إذ لا يقدر إلاَّ كوناً مطلقاً .
الثاني : أنها شرطية ، وفعل الشرط بعدها محذوف ، وإليه نحا الفراء ، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء .
قال الفرَّاء : التقدير « وما يكن بكم » . وقد ردَّ هذا؛ بأنَّه لا يحذف فعلٌ إلا بعد « إنْ » خاصَّة في موضعين :
أحدهما : أن يكون من باب الاشتغال؛ نحو { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } [ التوبة : 6 ] لأن المحذوف في حكم المذكور .
الثاني : أن تكون « إن » متلوة ب « لا » النافية ، وأن يدلَّ على الشرط ما تقدَّمه من الكلام؛ كقوله : [ الوافر ]
3324- فَطلِّقْهَا فَلسْتَ لهَا بِكُفءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مَفرِقكَ الحُسَامُ
أي : وإلا تطلقها ، فحذف؛ لدلالة قوله « فَطلِّقُهَا » عليه .
فإن لم توجد « لا » النافية ، أو كانت الأداة غير « إنْ » لم تحذف إلا ضرورة ، مثال الأول قول الشاعر : [ الرجز ]
3325- قَالتْ بَناتُ العَمِّ : يَا سَلمَى وإنْ ... كَانَ فَقِيراً مُعْدماً؛ قالتْ : وإنْ
أي : وإن كان فقيراً راضية؛ ومثال الثاني قول الشاعر : [ الرمل ]
3326- صَعْدَةٌ نَابتَةٌ في حَائرٍ ... ايْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلهَا تَمِلْ
وقول الآخر : [ الخفيف ]
@_3327- فَمَتى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هُ وتُعْطَفْ عَليْهِ كَأسُ السَّاقِي
فصل
لما بيَّن أنَّ الواجب على العاقل أن لا يتَّقي غير الله ، بين ههنا أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى؛ لأنَّ الشكر إنما يلزم على النعمةِ ، وكلُّ نعمةٍ تحصل للإنسانِ ، فهي من الله تعالى ، لقوله { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } .

واحتجُّوا على أن الإيمان حصل بتخليقِ الله بهذه الآية؛ فقالوا : الإيمانُ نعمة وكلُّ نعمة فهي من الله ، فالإيمان من الله تعالى ، وأيضاً : فالنعمة عبارة عن كل ما ينتفع به ، وأعظم الأشياء نفعاً هو الإيمان ، فثبت أنَّ الإيمان نعمةٌ ، وكل نعمة فهي من الله؛ لقوله { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } وهذا اللفظ يفيد العموم ، وأيضاً : فالموجود إمَّا واجب لذاته ، وهو الله - تعالى - وإما ممكنٌ لذاته ، والممكن لذاته ، لا يوجد إلا لمرجح؛ إن كان واجباً لذاته ، كان حصول ذلك الممكن بإيجادِ الله - تعالى - وإن كان مُمْكِناً لذاته ، عاد التقسيمُ الأول فيه والتسلسل؛ وهو محال ، فلا بدَّ أن ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته؛ فثبت بهذا أنَّ كل نعمة فهي من الله .
واعلم أنَّ النعم : إمَّا دينيَّة أو دنيويَّة ، أما النعمُ الدينية : فهي إمَّا معرفة الحقِّ لذاه ، وإما معرفة الخير؛ لأجل العمل به ، وأما النعمُ الدنيوية فهي : إمَّا نفسانية ، وإما بدنيةٌ ، وإما خارجية ، وكل واحدٍ من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد؛ كما قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] انتهى .
قوله : { إِذَا مَسَّكُمُ الضر } قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- : يريد الأسقام ، والأمراض ، والقحط ، والحاجة .
[ قوله ] : { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } الفاء جواب « إذَا » والجُؤارُ : رفع الصَّوت؛ قال رؤبة يصف راهباً : [ المتقارب ]
3328- يُداوِمُ من صَلواتِ المَلِيكِ ... طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤار
ومنهم من قيَّده بالاستغاثة؛ وأنشد الزمخشريُّ : [ الكامل ]
3329 ... - جَأَّرُ سَاعَاتِ النِّيامِ لِربِّهِ
... وقيل : الجُؤارُ : كالخُوارِ ، جَأرَ الثَّوْرُ ، وخَارَ : واحِدٌ ، إلاَّ أنَّ هذا مهموز العين ، وذلك مُعتلها .
وق لالراغب : « جَأرَ إذا أفْرطَ في الدُّعاءِ ، والتَّضرُّعِ تَشْبِيهاً بجُؤارِ الوحشيات » وقرأ الزهري : « تَجَرُونَ » محذوف الهمزة ، وإلقاء حركتها على الساكن قبلها ، كما قرأ نافع : « رِداً » في { رِدْءاً } [ القصص : 34 ] .
ومعنى الآية : أنَّه - تعالى - بيَّن أن جميع النِّعم من الله ، ثم إذا اتفق لأحدٍ مضرةٌ تزيل تلك النعم؛ فإلى الله يستغيث؛ لعلمه بأنَّه لا مفزع للخلق إلا الله ، فكأنه - تعالى- قال لهم : فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاءِ ، والسلامة .
قوله : { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر } « إذَا » الأولى شرطية ، والثانية : فجائية جوابها ، وفي الآية دليل على أنَّ « إذَا » الشرطية لا تكون معمولة لجوابها؛ لأنَّ ما بعد « إذَا » الفجائية لا يعمل فيما قبلها .
[ وقرأ قتادة ] : « كَاشِفٌ » على فاعل . قال الزمخشريُّ : « بمعنى » فعل « وهو أقوى من » كَشَف « لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة » .
قوله : « مِنْكُمْ » يجوز أن يكن صفة ل « فَرِيقٌ » ، و « مِنْ » للتبعيض ، ويجوز أن يكون للبيان ، قال الزمخشريُّ : « كأنه قال : إذا فريقٌ كافرٌ ، وهم أنتم » .

فصل
بين - تعالى - أنَّ عند كشف الضرِّ ، وسلامة الأحوال ، يفترقون : فريق منهم يبقى على ما كان عليه عند الضَّراء ، أي : لا يفزع إلاَّ إلى الله ، وفريق منهم يتغيَّرون فيشركون بالله - تعالى - غيره؛ وهذا جهلٌ وضلالٌ؛ لأنَّه لما شهدت فطرته الأصليَّة عند نزول البلاءِ ، والضرِّ في ألاَّ يفزع إلا إلى الله ، ولا يستغاث إلا بالله - فعند زوال البلاءِ يجب ألاَّ يزول عن ذلك الاعتقاد؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 13 ] .
قوله : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } في هذه اللام ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون لام كي ، وهي متعلقة ب « يُشْرِكُونَ » ، أي : أن إشراكهم سببه كفرهم به .
الثاني : أنَّها لام الصَّيرورةِ ، أي : صار أمرهم إلى ذلك .
الثالث : أنَّها لام الأمر ، وإليه نحا الزمخشريُّ .
وقرأ ابو العالية ، ورواها مكحول عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم « فيُمْتَعُوا » بضمِّ الياءِ من تحت ، ساكن الميم ، مفتوح الياء مضارع « مُتِعَ » مبنيًّا للمفعول ، « فسَوْفَ يَعْلمُونَ » بالياء من تحت أيضاً ، وهذا المضارع في هذه القراءة ، يجوز أن يكون حذف منه النون فيه؛ إما للنصب ، عطفاً على « لِيَكْفُروا » وإن كانت لام « كي » ، أو للصيرورة ، وإما لنصب أيضاً ، ولكن على جواب الأمر إن كانت اللام للأمر ، ويجوز أن يكون حذفها للجزم؛ عطفاً على « لِيَكْفرُوا » وإن كانت للأمر أيضاً .
فصل
قال بعض المفسرين : هذه لام العاقبة؛ كقوله تعالى : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] يعني : أنَّ عاقبته تلك التضرعات ، ما كانت إلا هذا الكفر .
والمراد بقوله : « بِمَا ءَاتَيْناهُمْ » كشف الضرِّ ، وإزالة المكروه ، وقيل : لمراد به القرآن وما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم من النبوة والشرائع .
ثمَّ توعَّدهم فقال : « فتَمتَّعُوا » ، [ والمراد منه التهديد ] ؛ كقوله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] وقوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أمركم ، وما ينزل بكم من العذاب .

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)

قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً } الآية لما بيَّن فساد قول أهل الشرك بالدلائل القاهرة ، شرح في هذه الآية تفاصيل أقوالهم .
قوله : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } الضمير في قوله : « يَعْلمُونَ » يجوز أن يعود للكفار ، أي : لما يعلم ، ومعنى « لا يَعْلمُونَ » أنهم يسمُّونها آلهة ، ويعتقدون أنَّها تضرُّ ، وتنفع ، وتشفع؛ وليس الأمر كذلكز
ويجوز أن تكون للآلهة ، وهي الأصنام ، أي : الأشياء غير موصوفةٍ بالعلمز
قال باضهم : والأوَّل أولى؛ لأنَّ نفي العلم عن الحي حقيقةٌ ، وعن الجمادِ مجازٌ ، وأيضاً : الضمير في « ويَجْعَلُونَ » عائدٌ غلى المشركين ، فكذلك في قوله { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } ، وأيضاً فقوله : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } جمعٌ بالواو والنون؛ وهو بالعقلاءِ أليق منه بالأصنام .
وقيل : الثاني أولى؛ لأنَّا إذا أعدناه إلى المشركين؛ افتقرنا إلى إضمار؛ فإن التقدير : ويجعلون لما لا يعلمون إلهاً ، أو لما لا يعلمون كونه نافعاً ضارًّا ، وإذا اعدناه إلى الأصنام ، لم نفتقر إلى الإضمار؛ لأن التقدير : ويجعلون لما لا علم لها .
وأيضاً : لو كان هذا العلم مضافاً إلى المشركين ، لفسد المعنى؛ لأنه من المحال أن يجعلوا نصيباً مما رزقهم ، لما لا يعلمونه .
فإذا قلنا بالقول الأول ، احتجنا إلى الإضمار ، وذلك يحتمل وجوهاً :
أحدها : ويجعلون لما لا يعلمون له حقًّا ، ولا يعلمون في طاعته [ نَفْعاً ] ، ولا في الإعراضِ عنه ضُرًّا .
قال مجاهدٌ : يعلمون أنَّ الله خلقهم ويضرُّهم وينفعهم ، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنَّه ينفعهم ، ويضرُّهم نصيباً .
وثانيها : ويجعلون لما لا يعلمون إلهيَّتها .
وثالثها : ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها ىلهة معبودة .
قوله « نَصِيباً » هو المفعول الأول للجعل ، والجارُّ قبله هو الثاني ، أي : ويصيِّرون الأصنام .
[ وقوله : ] { مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ } يجوز أن يكون نعتاً ل « نَصِيباً » وأن يتعلق بالجعل؛ ف « مِنْ » على الأول للتبعيض ، وعلى الثاني للابتداء .
فصل
في المراد بالنصيب احتمالات :
أحدها : أنهم جعلوا لله نصيباً من الحرثِ ، والأنعامِ؛ يتقرَّبون به إلى الله ، ونصيباً للأصنام؛ يتقربون به إليها ، كما تقدم في آخر سورة الأنعام .
والثاني : قال الحسنُ - رحمه الله - : المراد بهذا النصيب : البَحِيرةُ ، و السَّائبةُ ، والوَصِيلةُ ، والحَامِ .
والثالث : ربما اعتقدوا في بعض الأشياء ، أنَّه لما حصل بإعانة بعض تلك الأصنام ، كما أنَّ المنجمين يوزِّعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة ، فيقولون : لرجلٍ كذا وكذا من المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وللمشتري أشياء أخرى .
ثمَّ لمَّا حكى عن المشركين هذا المذهب ، قال : { تالله لَتُسْأَلُنَّ } وهذا في هؤلاء الاقوام خاصة بمنزلة قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] ، فأقسم الله سبحانه وتعالى - جل ذكره - على نفسه أنَّه يسسألهم ، وهذا تهديد شديد؛ لأن المراد من هذا أنه يسألهم سؤال توبيخٍ ، وتهديدٍ ، وفي وقت هذا السؤال احتمالان :
الأول : أنه يقع هذا السؤال عند قرب الموت ، ومعاينة ملائكة العذاب ، وقيل : عند عذاب القبر ، وقيل : في الآخرةِ .

الثاني : أنه يقع ذلك في الآخرة ، وهذا أولى؛ لأنه - تعالى - قد أخبر بما يجري هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة ، فهو إلى الوعيد أولى .
النوع الثاني من كلماتهم الفاسدة : قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } ونظيره قوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] كانت خزاعة ، وكنانة تقول : الملائكة بنات الله .
قال ابن الخطيب : « أظنُّ أنَّ العرب إنَّما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة؛ لأن الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما كانوا مستترين عن العيون ، أشبهوا النساء في الاستتار ، فأطلقوا عليهم البنات » .
وهذا الذي ظنَّه ليس بشيءٍ ، فإن الجنَّ أيضاً مستترون عن العيون ، ولم يطلقوا عليها لفظ البنات .
ولمَّا حكى عنهم هذا القول قال : « سُبْحَانهُ » والمراد : تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه .
وقيل : تعجيب الخلق من هذا الجهل الصَّريح ، وهو وصف الملائكة بالأنوثةِ ، ثم نسبتها بالولدية إلى الله - سبحانه وتعالى - والمعنى : معاذ الله .
قوله : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن هذا الجملة من مبتدأ ، وخبر ، أي : يجعلون لله البنات ، ثمَّ أخبر أنَّ لهم ما يشتهون .
وجوَّز الفرَّاء ، والحوفيُّ ، والزمخشري ، وأبو البقاء - رحمهة الله عليهم - أن تكون « مَا » منصوبة المحلّ؛ عطفاً على « البَناتِ » و « لَهُمْ » عطف على الله ، أي : ويجعلون لهم ما يشتهون .
قال أبو حيَّان : وقد ذهلوا عن قاعدةٍ نحويَّة ، وهو أنه لا يتعدَّى فعل المضمر إلى ضميره المتَّصلِ ، إلاَّ في باب « ظنَّ » وفي « عَدمَ » و « فَقَد » ولا فرق بين أن يتعدى الفعل بنفسه ، أو بحرف الجرِّ؛ فلا يجوز : زَيْدٌ ضربه ، أي : ضرب نفسهُ ، ولا « زَيْدٌ مَرَّ بِِهِ » ، أي : مر بنفسه ، ويجوز : « زيد ظنه قائماً » ، و « زيد فقده وعدمه » أي : [ ظن نفسه قائماً ، وفقد ] نفسه ، وعدمها . إذا تقرَّر هذا ، فجعل « مَا » منصوبة عطفاً على « البَناتِ » يؤدِّي إلى تعدِّي فعل الضمير المتَّصل ، وهو واو « يَجْعلُونَ » إلى ضميره المتَّصل ، وهو « هُمْ » في « لَهُمْ » انتهى .
وهذا يحتاجُ إلى إيضاح أكثر من هذا ، وهو أنَّه لا يجوز تعدي فعل الضمير المتصل ، ولا فعل الظاهر إلى ضميرها المتصل ، إلا في باب « ظنَّ » وأخواتها من أفعال القلوب ، وفي « فَقَد » و « عَدمَ » فلا يجوز زيدٌ ضربهُ زيدٌ ، أي : ضَربَ نفسه ، ويجوز : زَيْدٌ ظنَّه قَائماً ، وظنَّه زَيْدٌ قَائِماً ، وزيْدٌ فقَدهُ وعدمهُ ، وفقَدهُ وعَدمهُ زَيْدٌ ، ولا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهر ، في باب من الأبواب ، لا يجوز : زيدٌ ضربَ نَفسَهُ ، وفي قولنا « غلى ضميرها المتصل » قيدان :
أحدهما : كونه ضميراً ، فلو كان ظاهراً كالنَّفس لم يمتنع ، نحو : زَيْدٌ ضرب نفسهُ وضَرَب نفسه زيد .

والثاني : كونه متَّصلاً ، فلو كان منفصلاً؛ جاز ، نحو : زيدٌ ما ضرب إلاَّ إيَّاه ، وما ضَربَ زيْدٌ إلاَّ إياه ، وأدلَّة هذه المسألة مذكورة في كتب النَّحو .
وقال مكي : « وهذا لا يجوز عند البصريين ، كما لا يجوز : جعلت لي طعاماً إنَّما يجوز جعلت لنفسي طعاماً ، فلو كان لفظ القرآنِ : ولأنفسهم ما يشتهون ، جاز ما قال الفرَّاء عند البصريين ، وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليل ، وبسطٍ كثيرٍ » .
وقال أبو حيَّان - بعدما حكى أنَّ « مَا » في موضع نصبٍ عن الفرَّاء ، ومن تبعه- : وقال أبو البقاءِ ، وقد حكاهُ؛ وفيه نظرٌ .
قال شهابُ الدِّين : « وأبو البقاء لم يجعل النَّظر في هذا الوجه ، إنَّما جعله في تضعيفه ، بكونه يؤدِّي غلى تعدي فعل المضمر المتَّصل إلى ضميره المتصل في غير ما استثني ، فإنه قال : » وضعَّف قومٌ هذا الوجه ، وقالوا : لو كان كذلك لقال : ولأنفسهم ، وفيه نظرٌ « فجعل النظر في تضعيفه لا فيه » .
وقد يقال : وجه النَّظر أنَّ الممتنع تعدى ذلك الفعل ، أي : وقوعه على ما جر بالحرف ، نحو : « زيد مرَّ بِهِ » فإن المرور واقعٌ ب « زيدٍ » ، وأمَّا ما نحن فيه ، فليس الجعل واقعاً بالجاعلين ، بل ما يشتهون .
وكان أبو حيَّان يعترض دائماً على القاعدة المتقدمة بقوله تعالى : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } [ مريم : 25 ] { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } [ القصص : 32 ] .
والجواب عنهما ما تقدَّم ، وهو أنَّ الهزَّ ، والضَّم ليسا واقعين بالكاف ، وقد تقدَّم لنا هذا البحث في مكانٍ آخر ، وإنَّما أعدته لصعوبته ، وخصوصيته ، هذا بزيادة فائدة ، وأراد بقوله : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] أي : الشيء الذي يشتهونه ، وهو السَّترُ .
ثمَّ إنه - تعالى - ذكر أنَّ الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت لنفسه فالذي لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله - تعالى - فقال تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى } .
التَّبْشيرُ في عرف اللغة : مختصٌّ بالخبر الذي يفيد السرور ، إلا أنَّ أصله عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغيير بشرة الوجه ، ومعلومٌ أن السُّرورَ كما يوجب تغير البشرة ، فكذلك الحزن يوجبه؛ فوجب أن يكون التَّبشيرُ حقيقة في القسمين ، ويؤكِّده قوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] . وقيل : المراد بالتَّبشير ههنا الإخبار .
قوله : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } يجوز أن تكون « ظلَّ » ليست على بابها من كونها تدلُّ على الإقامة نهاراً على الصِّفة المسندة إلى اسمها ، وأن تكون بمعنى : « صَارَ » وعلى التقديرين هي ناقصة ، و « مُسْودًّا » خبرها .

وأما « وجهه » ففيه وجهان :
أشهرهما ، وهو المتبادر إلى الذّهن أنه اسمها .
والثاني : أنه بدلٌ من الضمير المستتر في « ظلَّ » : بدل بعضٍ من كلٍّ ، أي : ظلَّ أحدهم وجهه ، أي : ظل وجه أحدهم .
قوله : « كَظِيمٌ » يجوز أن يكون بمعنى فاعل ، وأن يكون بمعنى مفعول كقوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] ، والجملة حالٌ ، وبجوز أن يكون : « وهُوَ كَظيمٌ » حالاً من الضَّمير في « ظلَّ » أو من « وَجْههِ » أو من الضمير في : « مُسْودًّا » .
وقال أبو البقاءِ : « فلو قرئ هنا » مُسْوَدٌّ « يعني بالرفع ، كلان مستقيماً على أن يجعل اسم » ظل « مضمراً فيها ، والجملة خبرها » .
وقال في سورة الزخرف [ الآية : 17 ] : « ويقرآن بالرفع على أنه مبتدأ ، وخبر في موضع خبر ظلَّ » .
قوله : { يتوارى } يحتمل أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً ممَّا كانت الأولى حالاً منه إلا « وجْههُ » فإنه لا يليق ذلك به ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في : « كَظِيمٌ » .
قوله { مِنَ القوم مِن سواء } تعلق هنا جاران بلفظ واحد لاختلاف معناهما فإنَّ الأولى للابتداء ، والثانية للعلَّة ، أي : من أجل سوء ما بشِّر به .
قوله : « أيُمْسِكهُ » قال أبو البقاء : « في موضع الحال ، تقديره : يتوارى ، أي : مُتردِّداً هل يمسكه أم لا؟ » .
وهذا خطأٌ عند النحويين؛ لأنهم نصوا على أنَّ الحال ، لا تقع جملة طلبيَّة ، و الذي يظهر أن هذه الجملة الاستفهامية معمولة لشيءٍ محذوف هو حال من فاعل « يَتوارَى » ، ليتم الكلام ، أي : يتوارى ناظراً ، أو متفكِّراً : « أيُمسِكهُ على هُونٍ . . . أمْ يدُسُّه » على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ « مَا » .
وقرأ الجحدريُّ : أيُمْسِكُها ، أم يدسُّها مراعاة للأنثى ، أو لمعنى « مَا » .
وقرئ : أيمسكهُ أم يدسُّها ، والجحدري ، وعيسى - رحمهما الله - على « هَوان » بزنة فدان ، وفرقة على « هَوْنٍ » وهي قلقة؛ لأنَّ الهون بفتح الهاء : الرِّفقُ ، واللينُ ، ولا يناسب معناه هنا ، وأمَّا الهوان فمعنى « هُونٍ » المضموم .
قوله : { على هُونٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من الفاعل ، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فإنه قال : أيمسكه مع [ رضاء ] بهوان نفسه ، وعلى رغم أنفه .
والثاني : أنه حالٌ من المفعول ، أي : يمسكها ذليلة مهانة .
والدَّس : إخفاء الشيء ، وهو هنا عبارة عن الوَأدِ .
فصل
معنى الآية : أنَّ وجهه يتغير تغير المغموم ، ويقال لمن لقي مكروهاً قد اسود وجهه غمًّا ، وحزناً ، وإنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغمِّ؛ لأنَّ الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره ، وانبسط روح قلبه من داخل البدن ، ووصل إلى الأطراف ، ولا سيَّما إلى الوجه لما بين القلب ، والدِّماغ من التَّعلق الشَّديد ، وإذا وصل الرُّوح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه ، وتلألأ ، واستنار ، وإذا قوي غمُّ الإنسان احتقن الروحُ في داخل القلب ، ولم يبق منه أثرٌ قويٌّ في ظاهر الوجه ، فلا جرم يصفرُّ الوجه ، ويسودُّ ، ويظهر فيه أثر الأرضية ، والكآبة؛ فثبت أنَّ من لوازم الفرح استنارة الوجه ، وإشراقه ، ومن لوازم الغمِّ كمودة الوجه ، وغبرته ، وسواده ، فلهذا قال : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } أي ممتلئ غمًّا « يتوارى » به من القوم يتنحى عنهم ويتغيَّب من سوء ما بشِّر .

قال المفسِّرون : كان الرجلُ في الجاهليَّة إذا ظهر آثار الطَّلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له ، فإن كان ذكراً؛ ابتهج به وإن كان أنثى حزن ، ولم يظهر أياماً يدبر فيها رأيه ماذا يصنع بها؟ وهو قوله : { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ } ، أي : أيحتبسه؟ والإمساك هنا : الحبس ، كقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزاب : 37 ] والهُونُ : الهَوان .
قال النضر بن شميلٍ : يقال : إنه أهون عليه هوناً ، وهَواناً ، وأهَنْتُه هُوناً وهواناً ، وقد تقدَّم الكلام فيه في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { عَذَابَ الهون } [ الأنعام : 93 ] .
{ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب } والدَّسُ : إخفاءُ الشيء في الشيء ، كانت العرب يدفنون البنات أحياء خوفاً من الفقر عليهن ، وطمع غير الأكفاءِ فيهنَّ .
قال قيس بن عاصم : يا رسول الله : « إني واريت ثماني بنات في الجاهليَّة ، فقال - صلوات الله وسلامه عليه- : أعتِقْ عَنْ كُلِّ واحِدةٍ منهُنَّ رقبة » ، فقال : يا نبيَّ الله إنِّي ذُو إبلٍ ، فقال - عليه الصلاة والسلام - « أهدِ عن كُلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ هَدْياً » .
وروي « أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله : والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أجدُ حلاوة الإسلام منذ أسلمت قد كان لِيَ بنتٌ في الجاهليَّة ، وأمرتُ امْرأتي أن تُزيِّنهَا وتطيبها ، فأخْرَجتْهَا إليّ فلمَّا انْتهَيْتُ بِهَا إلى وادٍ بَعيدٍ القعْر ألقَيْتُهَا فيهِ ، فقالت : يا أبَتِ قَتَلتَنِي ، فكُلَّما تَذَكَّرتُ قَوْلهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شيءٌ ، فقال صلى الله عليه وسلم » مَا كانَ في الجاهليَّة فقد هَدمهُ الإسلامُ ، ومَا كَانَ في الإسلامِ يَهدمهُ الاستِغفَارُ « .
واعلم أنَّهم كانوا مختلفين في قتل البنات ، فمنهم من يذبحها ، ومنهم من يحفر الحفيرة ، ويدفنها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبلٍ ، ومنهم من يغرقها ، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة ، وتارة للحميَّة ، وتارة خوفاً من الفقر ، والفاقة ، ولزومِ النَّفقةِ .
وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحسَّ شيئاً من ذلك ، وجه إلى والد البنت إبلاً يستحييها بذلك ، فقال الفرزدق مفتخراً به : [ المتقارب ]
3330- وعَمِّي الذي مَنعَ الوَائِداتِ ... وأحْيَا الوئِيدَ فَلمْ تُوءَدِ
{ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ؛ لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات .

أولها : أنه يُسوِّدُّ وجهه .
ثانيها : أنَّه يختفي عن القوم من شدَّة نفرته عنها .
وثالثها : يقدم على قتلها مع أنَّ الولد محبوبٌ بالطبع ، وذلك يدلُّ على أنَّ النفرة من البنت تبلغ مبلغاً لا مزيد عليه ، فالشيء الذي يبلغ الاستنكاف عنه إلى هذا الحدِّ العظيم ، كيف يليقُ بالعاقل أن ينسبه لإله العالم القديم المقدَّس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات؟ .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21 ، 22 ] .
فصل
قال القرطبيُّ : ثبت في صحيح مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من ابتُلِي من البَناتِ بشيءٍ ، فأحْسنَ إليْهِنَّ كُنَّ لهُ سِتْراً من النَّارِ » .
وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ عَالَ جَارِيتيْنِ حتَّى تَبلُغَا ، جَاء يَوْمَ القِيامةِ أنَا وهُوَ كهَاتيْن ، وضمَّ أصَابعهُ » أخرجهما مسلم .
فصل
قال القاضي : « دلَّت هذه الآية على بطلانِ الجبر؛ لأنَّهم يضيفون إلى الله - تعالى - من الظُّلمِ ، والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه ، والتَّباعد عنه ، فحكمهم في ذلك مشابهٌ لحكم هؤلاء المشركين ، بل أعظم؛ لأنَّ إضافة البنات إلى الله إضافة قبح واحد ، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله - تعالى - » .
وجوابه : لما ثبت بالدَّليل استحالة الصاحبة والولد على الله أردفه الله - تعالى - بذكر هذا الوجه الإقناعي ، وإلا فليس كل ما قبح في العرف قبح من الله - تعالى - ألا ترى أنَّه لو زيَّن رجلٌ إماءه ، وعبيده ، وبالغ في تحسين صورهم ، ثمَّ بالغ في تقوية الشَّهوةِ فيهم وفيهن ، ثم جمع بين الكل ، وأزال الحائل ، والمانع ، فإنَّ هذا بالاتِّفاقِ حسن من الله - تعالى - وقبيح من كلِّ الخلق ، فعلمنا أنَّ التعويل بالوجوه المبنية على العرف إنَّما تحسن إذا كانت مسبوقة بالدَّلائل القطعيَّة اليقينيَّة ، وقد ثبت بالبراهين القطعيَّة امتناع الولد على الله ، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية .
وأمَّا أفعال العباد فقد ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أنَّ خالقها هو الله سبحانه وتعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر .
ثم قال : { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء } والمثلُ السُّوءِ : عبارة عن الصِّفةِ السوء ، وهي احتياجهم إلى الولدِ ، وكراهيتهم الإناث خوفاً من الفقر والعار { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } ، أي : الصِّفة العالية المقدسة ، وهي كونه تعالى منزّهاً عن الولد .
قال ابن عباس - رضي الله عنه- : مثل السُّوءِ : النَّار ، والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله { وَهُوَ العزيز الحكيم } .
فإن قيل : كيف جاء { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } مع قوله تعالى : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } [ النحل : 74 ] .
فالجواب : أنَّ المثل الذي يضربهُ الله حقٌّ وصدقٌ ، والذي يذكره غيره باطل .

قال القرطبي في الجواب : « إن قوله تعالى : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } ، أي : الأمثال التي توجب الأشباه ، والنَّقائص ، أي : لا تضربوا لله مثلاً يقتضي نقصاً وتشبهاً بالخلق ، والمثل الأعلى : وصفه بما لا شبيه له ولا نظير » .
قوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } الآية لما حكى عن القوم عئم كفرهم ، وقبيح قولهم ، بين أنه يمهل هؤلاء الكفار ، ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً للفضل ، والرحمة ، والكرمِ .
قالت المعتزلة : هذه الآية دالَّة على أنَّ الظلم والمعاصي ليست فعلاً لله تعالى ، بل تكون أفعالاً للعباد؛ لأنه - تعالى - أضاف ظلم العباد إليهم ، فقال - عزَّ وجلَّ - { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } ، وأيضاً : لو كان خلقاً لله لكانت مؤاخذتهم بها ظلماً من الله ، ولما منع الله - تعالى - العباد من الظلم ، فبأن يكون منزّهاً عن الظلم أولى؛ ولأنَّ قوه تعالى : « بِظُلمهِمْ » الباء فيه تدلُّ على العليَّة ، كما في قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } [ الحشر : 4 ] . وقد تقدَّم الجواب مراراً .
فصل
ظاهر الآية يدلُّ على أنَّ إقدام الناس على الظُّلم؛ يوجب إهلاك جميع الدَّواب ، وذلك غير جائزٍ؛ لأن الدَّابَّة لمَّا لم يصدر عنها ذنبٌ ، فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم النَّاس؟ .
وأجيب بوجهين :
أحدهما : أنَّا لا نسلم أن قوله : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } يتناول جميع الدَّوابِّ .
قال الجبائي - رحمه الله- : إن المراد لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر ، ومعصية لعجَّل هلاكهم ، وحينئذ لا يبقى لهم نسلٌ ، ومن المعلوم أنه لا أحد إلاَّ وفي أحد آبائه من يستحق العذاب ، وإذا هلكوا؛ فقد بطل نسلهم ، فكان يلزمه أن لا يبقى في العالم أحد من النَّاس ، وإذا [ هلكوا ] ، وجب ألا يبقى أحد من الدَّواب أيضاً ، لأن الدَّواب مخلوقةٌ لمنافع العباد ، وهذا وجهٌ حسن .
الثاني : أنَّ الهلاك إذا ورد على الظَّلمةِ ، ورد أيضاً على سائر النَّاس والدَّواب ، فكان ذلك الهلاك في حق الظلمة عذاباً ، وفي حق [ غيرهم امتحاناً ] ، وقد وقعت هذه الواقعة في زمن نوحٍ - عليه الصلاة والسلام- .
الثالث : أنه تعالى لو أخذهم لانقطع القطر ، وفي انقطاعه انقطاع النَّبْت ، فكان لا يبقى على ظهرها دابَّة .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - سمع رجُلاً يقول : إن الظَّالمَ لا يضُرُّ إلاَّ نفسه فقال : « لا والله ، بل إنَّ الحبارى لتموتُ في وكْرِهَا بظلم الظالم » .
وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه : كَادَ الجُعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم؛ فهذه الوجوه الثَّلاثة مبنيةٌ على أنَّ لفظ الدابة يتناول جميع الدَّواب .
والجواب الثاني : أنَّ المراد بالدَّابة الكافر ، قوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] .
قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } ، أي : البنات التي يكرهونها لأنفسهم ومعنى : « ويجعلون » : يصفون الله بذلك ، ويحكمون به له ، كقولك : جعلتُ زيداً على النَّاس ، أي : حكمت بهذا الحكم .

وتقدَّم معنى الجعل عند قوله تعالى : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ } [ المائدة : 103 ] .
قوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } بسكون التَّاء تخفيفاً ، وهي تشبه تسكين لام { بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، وهمزة { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] ونحوه .
والألسنةُ : جمع لسان مراداً به التذكير ، فجمع كما جمع فعال المذكر نحو : « حِمَار وأحْمِرَة » ، وإذا أريد به التَّأنيث جمع جمع أفعل ، كذِرَاعٍ ، وأذْرُع .
وقرأ معاذ بن جبل رضي الله عنه : « الكُذُبُ » بضم الكافِ والذَّال ، ورفع الباء ، على أنَّه جمع كذُوب ، كصَبُور وصُبُر ، وهو مقيسٌ .
وقيل : هو جمع كاذب ، نحو « شَارِف وشُرُف » ؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]
3331- ألاَ يَا حَمْزَ للشَّثرفِ النِّواءِ .. . .
وهو حينئذٍ صفة ل : « ألْسِنتُهمُ » ، وحينئذ يكون « أنَّ لهُم الحُسْنَى » مفعولاً به والمراد بالحسن : البَنُونَ .
وقال يمانُ : يعني بالحسنةِ : الجنة في المعادِ .
فإن قيل : كيف يحكمُون بذلك ، وهم منكُرونَ القيامة؟ .
فالجواب : أنَّ جميعهم لم ينكر القيامة ، فقد قيل : إنَّه كان في العرب جمعٌ يقرُّونَ بالبعثِ ، ولذلك كانوا يربطون البعير النَّفيسَ على قبرٍ ، ويتركنه إلى أن يموت ويقولون : إنَّ ذلك الميت إذا حشر؛ يحشر معه مركوبه .
وقيل : إنهم كانوا يقولون : إن كان محمداً صادقاً في قوله بالبعث ، تحصل لنا الجنَّة بهذا الدين الذي نحن عليه .
قيل : وهذا القول أولى ، لقوله بعد : « لا جَرمَ أنَّ لهُم النَّارَ » فردّ عليهم قولهم ، وأثبت لهم النَّار؛ فدلَّ على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنَّة .
قوله : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } ، أي : حقًّا . قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه - نعم إن لهم النَّار .
قال الزجاج : « لا » رد لقولهم ، أي : ليس الأمر كما وصفوا ، « جرم » [ فعلهم ] أي : كسب ذلك القول لهم النار ، فعلى هذا اللفظ « أنَّ » في محلِّ نصبٍ بوقوع الكسب عليه .
وقال قطربٌ : « أنَّ » في موضع رفع ، والمعنى : وجب أن لهم النَّار ، وكيف كان الإعراب ، فالمعنى : أنه يحق لهم النَّار ، ويجبُ .
قوله : { وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ } قرأ نافعٌ بكسر الراء ، اسم فاعل من أفرط ، إذا تجاوز فالمعنى : أنهم متجاوزون الحد في معاصي الله - تعالى - أو في الإفراط ، فأفعل هنا قاصر .
وقال الفارسيُّ : كأنه من أفرط ، أي : صار ذا فرطٍ ، مثل : أجرب ، أي : صار ذا جرب ، والمعنى : أنَّهم ذُو فرطٍ إلى النَّار كأنَّهم قد أرْسِلُوا إلى من يُهَيِّئُ لهُم مواضع إلى النَّار .
والباقون بفتحها ، اسم مفعولٍ من : أفرطته ، وفيه معنيان :
أحدهما : أنه من أفرطته خلفي ، أي : تركته ونسيته ، حكى الفراء أنَّ العرب تقول أفرطتُ منهم ناساً ، أي : خلفتهم ، والمعنى : أنَّهم مَنْسيُّونَ مَترُوكونَ في النَّار .
والثاني : أنه من أفرطته ، أي : قدمته إلى كذا ، وهو منقولٌ بالهمزة من فرط إلى كذا ، أي : تقدَّم إليه ، كذا قاله ابو حيان ، وأنشد للقطامي : [ البسيط ]

3332- واسْتَعْجلُونَا وكَانُوا مِنْ صَحابَتِنَا ... كَمَا تعجَّل فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
فجعل « فَرَطَ » قاصراً ، و « أفْرَطَ » منقولاً .
وقال الزمخشريُّ : « بمعنى مقدَّمُون إلى النَّار معجَّلون إليها ، من أفرطت فُلاناً وفرَّطتهُ ، إذا قدَّمتهُ إلى المَاءِ » .
فجعل « فَعَلَ » ، و « أفْعَل » بمعنى؛ لأنَّ « أفْعَلَ » منقولٌ من « فَعَل » والقولان محتملان ، ومنه الفرطُ ، أي : المتقدم ، قال صلى الله عليه وسلم : « أنَا فَرطُكمْ على الحَوْضِ » ، أي : سابقكم ، ومنه « جَعَلهُ فَرطاً لأبويه وذُخْراً » ، أي : متقدماً بالشَّفاعة ، وبتثقيل الموازين ، والمعنى على هذا : أنهم قدموا إلى النَّار ، وأنهم فرط الذين يدخلون بعدهم .
وقرأ أبو جعفر في رواية « مُفرِّطُونَ » بتشديد الرَّاءِ مكسورة من فرَّط في كذا ، أي : قصَّر ، وفي رواية مفتوحة من فرَّطتهُ معدى بالتَّضعيف؛ أي من « فرط » بالتخفيف أي : تقدَّم ، وسبق .
وقرأ عيسى بن عمر والحسن - رضي الله عنهما - « لا جَرمَ إنَّ لهم النار وإنهم » بكسر « إن » فيهما على أنهما جواب قسم ، أغنت عنه : « لا جرم » .
ثم بين - تعالى - أن هذا الصُّنع الذي صدر من مشركي قريش ، قد صدر عن سائر الأمم السَّابقة في حق أنبيائهم - صلوات الله وسلامه عليهم- .
فقال : { تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } أي : كما أرسلنا إلى هذه الأمَّة ، وهذا تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم .
قالت المعتزلة : هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة من وجوهٍ :
أحدها : أنَّه إذا كان خالقُ أعمالهم هو الله - تعالى- ، فلا فائدة في التَّزيينِ .
والثاني : أنَّ ذلك التزيين لما كان بخلق الله - تعالى - لم يجز ذمُّ الشيطان بسببه .
والثالث : أنَّ ذلك التزيين هو الذي يدعو الإنسان إلى الفعل ، وإذا كان حصول الفعل بخلق الله - تعالى - كان ضرورياً ، فلم يكن التَّزيينُ داعياً .
والرابع : أنَّ على قولهم : الخالق لذلك العمل ، أجدر بأن يكون ولياً لهم من الدَّاعي إليه .
الخامس : أنه - تعالى - أضاف التزيين إلى الشَّيطان ، ولو كان ذلك المزيِّن هو الله - تعالى - لكانت إضافته إلى الشَّيطان كذباً .
والجواب : إنْ كان مزين القبائح في أعين الكفَّار هو الشيطان ، فمزين تلك الوساوس في عين الشيطان إن كان شيطاناً آخر؛ لزم التَّسلسل ، وإن كان هو الله - تعالى - فهو المطلوبُ .
قوله : { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ } يجوز أن تكون هذه الجملة حكاية حال ماضية ، أي : فهو ناصرهم ، أو آتية .

ويرادُ باليوم يوم القيامةِ ، والمعنى : فهو وليّ أولئك الذين زيِّن لهم أعمالهم يوم القيامةِ ، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامةِ لشهرته ، والمقصود أنَّهُ لا وليَّ لهم ، ولا ناصر لهم؛ لأنهم إذا عاينوا العذاب ، وقد نزل بالشَّيطان كنزوله بهم ، رَأوْا أنه لا مخلِّص له منه كما لا مخلص لهم منه؛ جاز أن يوبَّخوا بأن يقال لهم : « هذا وليُّكم اليوم » على وجْه السُّخريةِ .
وجوَّز الزمخشري أن يعود الضمير على قريشٍ ، فيكون حكاية حال في الحال لا ماضية ، ولا آتية ، والمعنى : أنَّ الشيطان يتولى إغواءهم ، وصرفهم عنك كما فعل بكفَّار الأمم قبلك ، فعلى هذا رجع عن الإخبار عن المم الماضية إلى الإخبار عن كفَّار مكَّة ، وسمَّاه ولياً لهم؛ لطاعتهم له ، ولهم عذاب أليم في الآخرة .
وجوَّز الزمخشري أيضاً أن يكون عائداً على « أممٍ » ، ولكن على حذف مضاف تقديره : فهو ولي أمثالهم اليوم .
واستبعده أبو حيان ، وكأن الذي حمله على ذلك قوله : « اليَوْمَ » فإنه ظرف خالٍ ، وقد تقدَّم أنه على حكاية الحال الماضية ، أو الآتية .
ثمَّ ذكر - تعالى - أنه مع هذا الوعيد الشَّديد ، قد أقام الحجَّة ، وأزاح العلَّة فقال تعالى : { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ } ، أي وما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين بواسطة بيانات القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها يعني أهل الملل ، والنحل ، والأهواء ، مثل التوحيد ، والشرك ، والجبر ، والقدر ، وإثبات المعاد ونفيه ، ومثل : تحريمهم الحلال كالبحيرة والسائبة وغيرهما ، وتحليلهم أشياء محرمة كالميتة .
فصل
قالت المعتزلة : واللام في « لتُبَيِّنَ » تدلُّ على أنَّ أفعال الله معللة بالأغراض ، كقوله تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس } [ إبراهيم : 1 ] وقوله عزَّ وجلَّ { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
والجواب : أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل ، وجب صرفه إلى التَّأويل .
قوله : { وَهُدًَى وَرَحْمَةً } فيه وجهان :
أحدهما : أنهما انتصبا على أنهما مفعولان من أجلهما؛ والناصب : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ } ولما اتحد الفاعل في العلَّة ، والمعلول؛ وصل الفعل إليهما بنفسه ، ولما لم يتَّحد في قوله : { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ } ، أي : لأن تبين على أنَّ هذه اللاَّم لا تلزم من جهة أخرى ، وهي كون مجرورها « أنْ » ، وفيه خلاف في خصوصية هذه المسألةِ ، وهذا معنى قول الزمخشري فإنه قال : « معطوفان على محل » لتُبيِّنَ « إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول بهما؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ، ودخلت اللام على : » لتُبيِّنَ « ؛ لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل ، وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعلاً لذلك الفعل المعلل » .
قال أبو حيَّان - رحمه الله - : « قوله : معطوفان على محل » لتُبيِّنَ « ليس بصحيح؛ لأنَّ محلَّه ليس نصباً ، فيعطف منصوب ، ألا ترى أنَّه لو نصبه لم يجز لاختلافِ الفاعل » .

قال شهابُ الدِّين : « الزمخشريُّ لم يجعل النَّصب لأجل العطفِ على محلِّه إنَّما جعله بوصول الفعل إليهما لاتِّحادِ الفاعل ، كما صرح به فيما تقدَّم آنفاص ، وإنما جعل العطف لأجل التشريك في العلَّة لا غير ، يعني : أنهما علَّتان ، كما أنَّ » لتُبيِّنَ « علة ، ولئن سلمنا أنه نصب عطفاً على المحل ، فلا يضر ذلك ، وقوله : » لأنَّ محله ليس نصباً « ممنوع ، وهذا ما لا خلاف فيه من أن محل الجار ، والمجرور النصب؛ لأنه فضلة ، إلا أن تقوم مقام مرفوع ، ألا ترى إلى تخريجهم قوله : » وأرْجُلكُمْ « في قراءة النصب على العطف على محل » برءُوسِكمْ « ، ويجيزون : مررت بزيد وعمرو على خلاف في ذلك بالنسبة إلى القياس ، وعدمه لا في أصل المسالة ، وهذا بحقُ حسنٌ » .
فصل
قال الكلبيُّ : وصف القرآن بكونه هدى ، ورحمة لقوم يؤمنون ، يدل على أنَّه ليس كذلك في حق الكلِّ ، لقوله في أوَّل البقرة : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، وإنَّما خص المؤمنين بالذ1كر؛ لأنهم هم المنتفعون به ، كقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] ؛ لأنَّ المنتفع بالإنذار هؤلاء القوم فقط .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75