كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

وقيل : معناه لا يجب الفساد من أهل الصلاح ، أو لا يحبه ديناً ، أو المعنى لا يأمر به .
فصل في بيان فساد قول المعتزلة في معنى المحبة
استدلت المعتزلة به على أَنَّهُ تبارك وتعالى لا يريد القبائح ، قالوا : المحبة عبارة عن الإرادة لقوله تعالى : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ } [ النور : 19 ] والمرادُ أنهم يُرِيدونَ .
وأيضاً : نُقِل عن النبيِّ - عليه السلامُ - أَنَّهُ قال : « إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلاَثاً ، وكره لكُم ثلاثاً : أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوه وَلاَ تُشْرِكُوا به شَيْئاً ، وأَنْ تتَنَاصحُوا منْ وَلاّهُ أَمْرَكُم ، ويَكْرَهُ لَكُمْ القيل والقَالَ ، وإضاعَة المال ، وكثرةَ السُّؤالِ » فجعل الكراهةَ ضِدَّ المحبةِ ، وإذا ثبتَ أَنَّ الإرادة نفسُ المحبةِ ، فقوله : { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } ، كقوله : لا يُريدُ الفساد ، وكقوله { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } [ غافر : 31 ] ، وإذا كان لا يريدُ الفساد ، لا يكون خالقاً له؛ لأنَّ الخلقَ لا يمكن إلاَّ مع الإرادة ، وأُجيبُوا بوجهين :
أحدهما : أَنَّ المحبة غيرُ الإِرادة ، بل المحبَّةُ عبارةٌ عن مَدح الشيء .
والثاني : سَلَّمنا أَنَّ المحبةَ نفسُ الارادة ، لكن قوله تعالى { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } [ البقرة : 205 ] لا يُفيد العُموم؛ لأنَّ الألف واللاَّم الداخلتين في اللفظ لا يُفيدان العمومَ ، ثم يهدم كلامهم وجهان :
الأول : أَنَّ قُدرة العبد صالحةٌ للإصلاح ، والفساد؛ فترجُّحُ الفساد على الصلاح إِنْ وقع لا لمُرجح ، لزم نفيُ الصانعِ ، وإنْ وقع لمرجح ، فذلك المرجّح لا بُدَّ وأنْ يكونَ من اللَّهِ؛ وإِلاَّ لَزِمَ التسلسلُ ، فثبت أَنَّ اللَّهَ سُبحانه هو المرجح لجانب الفساد ، فكيف يعقِلُ أَنْ يُقالِ إِنَّهُ لا يريده؟
والثاني : أَنَّهُ عالِمٌ بوقوع الفسادِ ، فإن أراد أَلاَّ يقع الفسادُ ، لزم أَنْ يُقال : إِنَّه أَراد أَنْ يقلب علم نفسه جهلاً ، وذلك مُحَالٌ .
قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله } : هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمين في نظيرتها ، أَعْني : كونها مستأنفةً ، أو معطوفة على « يُعجِبُك » ، وقد تقدَّم الخلافُ في الذي قام مقام الفاعل عند قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } [ البقرة : 11 ] .
قوله : « أخذَتْهُ العزَّةُ » ، أي حملتُه العِزَّةُ وحَمِيَّةُ الجاهلية على الفعل .
قوله : « بالإثم » أي : بالظلم وفي هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنْ تكونَ للتعديةِ ، وهو قول الزمخشري فإنه قال : « أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَمَلْتهُ عليه ، وأَلْزَمْتهُ إياه ، أي : حَمَلتهُ العِزَّةُ على الإِثْم ، وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه » قال أبو حيان : « وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازمُ ، نحو : { ذَهَبَ الله } [ البقرة : 17 ] ، { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [ البقرة : 20 ] ، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو : » صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ « أي : جَعَلْتُ أَحدهما يَصُكُّ الآخرَ » .
الثاني : أَنْ تكونَ للسببيةِ ، بمعنى أنَّ إثمّه كان سبباً لأخذِ العِزَّة له؛ كما في قوله : [ الرمل ]
1015 - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ

فتكونُ الباءُ بمعنى اللام ، فتقول : فعلت هذا بسببك ، ولسببك ، وعاقَبْتُه لجِنَايتهِ ، وبجنايَتهِ .
الثالث : أن تكونَ للمصاحبة؛ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِن وفيها حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أَنْ تكون حالاً مِنَ « العِزَّة » أي : مُلْتبسةً بالإِثمِ .
والثاني : أن تكونَ حالاً من المفعولِ ، أي : أَخَذَتْهُ مُلْتبساً بالإِثمِ .
قال القُرطبيُّ : وقيل : « الباءُ » بمعنى « مَعَ » أي : أخذته العِزَّةُ مع الإثم .
وفي قوله : « العِزَّةُ بالإِثْم » من عِلْمِ البديع التتميم وهو عبارةٌ عن إِرْداف الكلمةِ بأُخْرى ، تَرْفَعُ عنها اللَّبسَ ، وتقَرِّبُها مِنَ الفَهْم ، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمُومةً .
فَمِنْ مَجِيئها محمودةً : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] فلو أُطلِقَت لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمُودة؛ فقيل : « بالإِثْمِ » تَتْمِيماً للمرادِ ، فرُفِعَ اللَّبْسُ بها .
فصل
اعلم أَنَّ اللَّهَ سُبحانه وتعالى حكى عن هذا المنافق أفعالاً مَذْمُومةً وهي اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدُّنيا ، واستشهادة باللَّهِ كذباً ولجاجةً في أبطالِ الحقِّ وإثبات الباطلِ ، وسعيُه في الأَرْض بالفَسَادِ ، وإهلاكُ الحربِ والنَّسْلِ ، وكُلُّها أفعالٌ قَبِيحةٌ ، فالظاهِرُ مِنْ قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله } أَنْ يُصْرفَ إلى الكلّ؛ لأنَّ صَرْفَهُ إلى البعض ليس أولى من البعض ، فكأَنَّهُ قيل له : اتَّقِ اللَّهِ في إِهْلاك الحرثِ والنَّسْل ، وفي السَّعي بالفَسَادِ ، وفي الَّجاجِ في إِبطَالِ الحقِّ ونُصْرة الباطلِ ، وفي الاستشهاد باللَّهِ كذباً ، وفي الحرص على طَلَبِ الدُّنْيا .
وقيل : قوله : { أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } راجِعٌ إلى أنه قيل له : اتَّقِ اللَّهَ فقط؛ على ما سيأتي ، فيكُون معنى الآية الكريمة أنَّ الموصوف بهذه الصِّفات هو الَّذي إِذَا قيل له : اتَّقِ الله ، أَخَذَتْهُ العِزةُ بالإثم؛ فحَسْبُهُ جَهَنَّم .
و « العِزَّةُ » القوَّةُ والغلبةُ مِنْ : عَزَّهُ يَعُزُّه ، إِذا غلبهُ ، ومنه { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 23 ] .
وقيل : العزَّةُ هُنا : الحمِيَّة؛ قال الشَّاعرُ : [ الرَّمل ]
1016 - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
وقيل : العِزَّةُ هنا : المَنَعةُ وشِدَّةُ النَّفسِ ، أي : اعتَزَّ في نفسه ، فأَوقعَتْهُ تِلْك العزَّةُ في الإِثمِ ، وألزمتْهُ إيَّاه .
قوله : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } ، « حَسْبُهُ » مبتدأٌ ، و « جهنَّمُ » خبرُه أي : كافيهم جهنَّمُ ، وقيل : « جَهَنَّمُ » فاعلٌ ب « حَسْبَ » ، ثُمَّ اختلف القائِلُ بذلك في « حَسْب » فَقِيل : هو بمعنى اسم الفاعلِ ، أي : الكافي ، وهو في الأَصْلِ مصدرٌ أُريد به اسمُ الفاعِل ، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - سَدَّ مَسَدَّ الخبر ، وقَويَ « حَسْبُ » لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها ، وهذا كلُّه مَعْنَى كلام أبي البقاء .
وقيل : بل « حَسْبُ » اسمُ فِعْلٍ ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ؛ فقيل : اسمُ [ فِعْلٍ ] ماضٍ ، أي : كَفَاهُمْ وقِيل : فعلُ أمرٍ ، أي : لِيَكفِيهم ، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حُرُوفِ الجَرِّ عليه يَمْنع كونه اسم فعل .

وقد تلخَّصَ أَنَّ « حَسْبِ » هل هو بمعنى اسم الفاعل وأَصْلُه مصدرٌ ، أو اسمُ فعلٍ مَاضٍ ، أو فِعْلُ أَمْر؟ وهو مِنَ الأَسماءِ اللازمةِ للإِضَافةِ ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافته إلى معرفةٍ؛ تقولُ : مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك ، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ ، ويكونُ مبتدأً؛ فيُجَرُّ بباءٍ زائدةٍ ، وخبراً؛ فلا يُجَرُّ بها ، ولا يُثّنَّى ولا يُجْمَعُ ، ولا يؤَنَّثُ ، وإنْ وَقَعَ صفةً لهذه الأشياءِ .
و « جهنَّمُ » اخَتَلَفَ الناسُ فيها فقال يونس وأكثر النُّحاة : هي اسمٌ للنَّار التي يعذَّب بها في الآخِرةِ وهي أعجميةٌ وعُرِّبَتْ ، وأَصْلُها كِهِنَّام ، فمنعُها من الصرَّف لِلعلمية والعُجمةِ .
وقيل : بل هي عربيةُ الأَصْلِ ، والقائلون ، بذلك اختلَفوا في نُونِها : هل هي زائدةٌ ، أمْ أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ ، ووزنُها « فَعَنَّلُ » مُشتقةٌ من « رَكِيَّةٌ جِهِنَّامٌ » ، أي : بعيدةُ القَعْر ، وهي من الجَهْم ، وهو الكراهةُ ، وقيل : بل نُونُها أصليَّةٌ ، ووزنُها فَعَلَّل؛ ك « عَدَبَّسٍ » ؛ قال : لأن « فَعَنَّلاً » مفقودٌ في كلامِهِم ، وجعل « زَوَنَّكاً » فَعَلَّلاً أيضاً؛ لأنَّ الواوَ أصلٌ في بنات الأربعةِ؛ ك « وَرَنْتَلٍ » ، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ ، وجاءَتْ منه ألفاظٌ ، قالوا : « ضَغَنَّطٌ » من الضَّغاطةِ ، وهي الضَّخامةُ ، و « سَفَنَّجٌ » و « هَجَنَّفٌ » لِلظّلِيم ، والزَّوَنَّكُ : القصيرُ سُمِّيَ بذلك؛ لأنه يزوكُ في مِشْيَتِهِ ، أي : يَتَبَخْتَرُ؛ قال حَسَّان : [ الكامل ]
1017- أَجْمَعْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى ... فِي فُحْشِ زَانِيَةٍ وَزَوْكِ غُرَابِ
وهذا كلُّه يدُلُّ على أنَّ النُونَ زائدةٌ في « زَوَنَّكٍ » وعلى هذا فامتِناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ .
قوله : { وَلَبِئْسَ المهاد } المخصُوص بالذَّمِّ محذوفٌ ، أي : وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ « المِهَادِ » وقعَ فاصِلةً . وتقدَّمَ الكلامُ على « بِئْسَ » وحُذِفَ هذا المخصُوصُ بذلك على أنه مبتدأٌ ، والجملةُ مِنْ نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ ، سواءٌ تقدَّمَ أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاهُ خبرَ مبتدأ مَحْذُوفٍ ، أو مُبتَدأٌ محذوفَ الخبرِ ، ثم حذَفْنَاهُ ، كُنَّا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأَسْرها من غَيْرَ أنْ يَنُوبَ عنها شَيْءٌ ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ مِنْ ذلك أَنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها؛ إِذْ ليس لها مَوْضِعٌ من الإِعْرابِ ، وليست مُعْترضةً ، ولا مفسِّرةً ، ولا صلةً . والمِهَادُ فيه قولان :
أحدهما : أَنَّهُ جَمْعُ « مَهْدٍ » ، وهو ما يُوطَّأُ للنوم قال تعالى : { فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون } [ الذاريات : 48 ] .
والثاني : أنه اسمٌ مُفْردٌ ، سُمِّيَ به الفِرَاشُ المُوَطَّأُ للنَّوم وقِيل : « المُسْتَقِر » كقوله تعالى : { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار } [ إبراهيم : 29 ] وهذا مِنْ باب التَّهَكم والاستهزاءِ ، أي : جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشُونَهُ؛ وهو كقوله : [ الوافر ]
1018 - وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
أي : القائمُ لهم مقامَ التحيةِ ، الضربُ الوَجِيع .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

لمَّا وصفَ في الآية المتقدِّمة حال مَنْ يبذلُ دِينَهُ لطلب الدُّنْيَا ذكر في هذه الآيةِ حالَ من يبذلُ دِينَه ونفسَهُ لطلب الدين ، وفي سبب النزول رِوايات .
إحداها : عن ابن عبَّاسٍ ، والضَّحَّاكِ : أَنَّها نزلَتْ فِي سريَّة الرَّجيع ، وذلك أَنَّ كُفّار قريشٍ بعصوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينةِ ، أَنَّا قد أَسلمنَا ، فابعَثْ إلينا نَفَراً من علماءِ أَصْحابك؛ يُعَلِّمُوننَا دِينك ، وكان ذلك مَكْراً مِنْهم فبعث إليهم خُبَبْبِ بن عديٍّ الأَنْصَارِيُّ وَمَرثد بن أبي مَرْثدٍ الغَنَويَّ ، وخالد بن بُكَيرٍ ، وعبد اللَّهِ بن طارِق بن شهابٍ البَلويَّ ، وزيدَ بنَ الدَّثِنَّةِ ، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِت بن أبي الأَقلَحِ الأَنْصَارِيّ .
قال أبو هريرة : بعثَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عشرةٌ عَيْناً ، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِتِ بنِ أَبي الأَقْلح الأَنصَاريَّ فسَرُوا ، فَنَزلُوا بَطْنَ « الرَّجِيعِ » بين مَكَّةَ والمَدِينةِ ، ومعهم تَمْرُ عَجْوَةٍ ، فأكلوا فمرَّتْ عجوزٌ ، فأبصرت النَّوَى ، فرجعت إلى قومها بمكة ، وقالت : قد سَلَكَ هذا الطريقَ أهلُ يثرِبَ مِنْ أَصْحابِ مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فركِبَ سبعُونَ رَجُلاً منهم معهم الرِّماحُ ، حتى أَحَاطُوا بهم .
وقال أبو هريرة : ذكروا الحيَّ من هُذَيل يقالُ لهم بنو لحيان ، فنَفَرُوا لهم بقريب مِنْ مائة راجلٍ رامٍ ، فَاقتَفوا آثارَهُم ، حتَّى وجدوا مآكلهم التمر في منزلٍ نزلُوه؛ فقالوا : تَمْرُ يَثْرِبَ ، فاتَّبعُوا آثارَهم ، فلمَّا أَحَسَّ بهم عاصِمٌ وأصحابُه لجأوا إلى فَدْفَد ، فأحاط بهم القومُ ، فقتلوا مَرْثَداً وخَالِداً وعبد اللَّهِ بن طارقٍ ، ونثر عاصِمُ بنُ ثابتٍ كنانَتَهُ ، وفيها سبعة أَسهُمٍ ، فقتل بكُلِّ سَهْمٍ رَجُلاً مِنْ عُظَماءِ المُشْرِكينَ ، ثُمَّ قال : اللَّهُمَّ ، إِنِّي قد حميتُ دِينك صدْرَ النهارِ فاحْمِ لَحْمِي آخر النهارِ ، ثُمَّ أَحاطَ به المشركُونَ فقتلُوه ، فَلَمَّا قتلوه أَرَادُوا جَزَّ رَأْسِهِ؛ ليبيعُوه من سُلاَفة بنت سعد بن شهيد ، وكانت قد نَذَرتْ حين أصاب ابنها يومَ أُحُد لَئِنْ قدرتْ على رأسِ عاصم لتشربنَّ في قِحْفه الخمرَ ، فأرسل الله رجلاً من الدَّبْرِ ، وهي الزَّنابِيرُ ، فحمتْ عاصِماً ، فلم يقدِرُوا عليه ، فسُمِّي حميَّ الدَّبْرِ ، فقالوا : دعوه حتى نُمْسِيَ ، فتذهب عنه ، فنأْخُذَه ، فجاءت سَحَابَةٌ سوداُ ، وأمطرتْ مطراً كالغزالِ فبعث اللَّهُ الوادي غديراً فاحتمَل عاصِماً به فذهب به إلى الجَنَّة ، وحَمَل خَمسِين من المشركينَ إلى النار .
وكان عاصِمٌ قد أَعْطى اللَّهَ عَهْداً ألاَّ يمسَّهُ مُشْركٌ ولا يَمَسَّ مُشْركاً أبداً ، فمنعه اللَّهُ ، وكان عُمَر بنُ الخطَّاب يقولُ حين بلغه أَنَّ الدَّبْرَ منعتهُ : عجباً لحِفظ اللَّهِ العَبْدَ المؤمِنَ ، كان عاصِمٌ نَذَرَ ألاَّ يَمَسَّهُ مشركٌ ، ولا يسَّ مُشرِكاً أبداً ، فمنعه اللَّهُ بعد وفاتِه ، كما امتنع عاصم في حياته ، وأسر المشركون خُبَيْب بن عديٍّ ، وزيد بنَ الدَّثِنَّةٍ ، فذهبوا بهما إلى مكةَ ، فأمَّا خُبَيْتبٌ فابتاعه بنو الحارث بن عامرٍ بن نَوفل بن عبدَ مُنافٍ؛ ليقتلُوه بأبيهم ، وكان خُبيب هو الذي قتل الحارِثَ يومَ بدرسن فلبث خُبَيبٌ عندهم أسيراً ، حتَّى أجمعوا على قتلِه ، فاستعار مِنْ بعض بنات الحارثِ مُوسى ليستحِدَّ بِهَا ، فأعارتهُ ، فدرج بُنيٌّ لها ، وهي غافِلةٌ ، فما راعَ المرأةَ إلاَّ خبيبٌ قد أَجْلَسَ الصَّبِيَّ على فَخذِهِن والمُوسى بيده ، فصاحت المرأةُ ، فقال خبيبٌ : أَتَخْشِينَ أن أَقْتُلَهُ؟ ما كنت لأفعل ذلك ، إنّ الغدر ليس مِنْ شَأنِنا ، فقالت المرأةُ : واللَّهِ ما رأيْتُ أسيراً خيراً من خُبَيْبٍ؛ واللَّهِ لقد وجدتُه يوماً يأكُلُ قطفاً من عِنَبٍ في يَدِهِ ، وإنه لموثقٌ بالحديدِ ، وما بمكة من ثَمرةٍ ، إن كان إلاَّ رِزْقاً رزقه اللَّهُ خُبَيْباًن ثم إِنَّهم خرجوا به من الحرم ليقتُلُوه في الحِلِّ ، وأَرَادثوا أَنْ يصلبُوهُ ، فقال لهم خبَيبٌ : دعوني أُصَلِّي ركعتَينِ؛ فتركوه ، فكان خُبَيْبٌ هو الذي سَنَّ لكل مُسْلم قُتِلَ صَبْراً الصلاةَ ، فركع ركعتين ، ثُمَّ قال خَبَيْبٌ : لولا أَنْ يَحْسَبُوا أنَّ ما بي من جزعٍ لزّدتُ ، اللهمَّ أَحْصِهم عَدَداً؛ وَاقْتُلهم بَدَداً ، ولا تُبْقِ منهم أَحَداً وأنشأ يقولُ : [ الطويل ]

1019 - وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ... عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذلِكَ فِي ذَاتِ الإلهِ وإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّع
فصَلبُوه حَيَّاً؛ اللَّهُمَّ إشنَّك تعلمُ أَنَّهُ ليس أَحَدٌ حَوْلِي يبلّغ سَلامِي رسولَك فأبلغهُ سَلامِين ثم قام أبُو سَروعةَ عُتبَةُ بنُ الحارِثِ فَقَتَله ، ويُقَال : كان رجلاً من المشركين يُقالُ له سَلاَمانَ أَبُوا مَيْسَرة ، معه رُمْح فوضعه بي ثَدْيي خُبيبٍ ، فقال له خُبَيْبٌ : اتَّقِ اللَّهَ ، فما زاده ذلك إِلاَّ عُتُوّاً ، فطعنه فأَنفذه ، وذلك قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله } [ البقرة : 206 ] يعني سَلاَمَانَ .
وأَمَّا زيدُ بنُ الدثنة ، فابتاعه صفوانُ بنُ أُميَّة؛ ليقلته بأبيه ، أُمية بن خلفٍ ، فبعثه مع مَوْلى له يُسَمَّى نسطاس إلى التنعيم ، ليقتُلهُ ، واجتمع رهطٌ مِنْ قُريشٍ فيهم أبو سُفيان بن حربٍ ، فقال له أبو سفيان حين قُدِّمَ ليُقْتَل : أَنْشدك اللَّهَ يا زيدُ ، أَتُحِبُّ أَنَّ محمداً عندنا الآن بمكانك ، وتُضْرُب عنقُه وإِنَّك في أَهلك؟ فقال : واللَّهِ ما أحبُّ أَنَّ محمداً الآنَ في مكانِه الذي هو فيه تُصيبُه شوكَةٌ تُؤذيه ، وأَنا جالِسٌ في أَهْلِي ، فقال أَبُو سُفيانَ : ما رأيتُ أحداً من الناس يُحِبُّ أحداً كَحُبِّ أصحاب مُحَمَّدٍ ، ثم قتله نِسْطَاسُ .
فلمَّا بلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الخبرُ ، قال لأَصحابهِ : « أَيُّكُمْ ينزل خُبَيْباً عن خَشَبته وله الجنةُ » فقال الزُّبَيْرُ أنا يا رَسُول اللَّهِ ، وَصَاحِبي المقدادُ بنُ الأَسُودِ ، فخرجا يمشيان في الليلِ ، ويكمُنانِ بالنهار ، حتَّى أََتَيَا التنعيم ليلاً ، وإذا حولَ الخَشَبةِ أربعون رجُلاً من المشركين نائمون نشاوى ، فَأَنْزَلاَهُ ، فإذا هو رَطْبٌ يَنْثَنِي ، لم يتغيّرْ بعد أربعين يوماً ، ويده على جراحتِه ، وهي تَبصُّ دَماً اللونُ لَوْنُ الدّمِ ، والريحُ ريحُ المسْكِ ، فحمله الزبيرُ على فرسِه ، وساروا؛ فانتبه الكفارُ وقد فقدوا خُبَيْباً ، فأخبروا قُرَيْشاً ، فركب منهم سبعُون رجلاً ، فلمَّا لحقوهما قذَفَ الزبيرُ خُبَيْباً؛ فابتلعته الأرضُ فَسُمِّيَ بليعَ الأَرضِ ، وقال الزبيرُ : ما جَرَّأكُمْ علينا يا مَعشَر قريشٍ؛ ثم رفع العمامةً عن رأْسِه ، وقال : أَنَا الزُّبير بنُ العَوَّام ، وأُمِّي صفِيَّةُ بنتُ عبد المطلبِ ، وصاحبي المِقدادُ بنُ الأَسُوَدِ ، أَسَدَانِ رَابضانِ يَدْفعانِ عن شِبْلهما ، فإن شئْتم نازلْتُكم ، وإن شِئْتُم انصَرفْتُم . فانصرفا إلى مَكَّة ، وقدِما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجبريلُ عِنْده ، فقال : يا محمدُ ، إِنَّ الملائكة لَتُبَاهِي بهذين من أصحابك «

، فنزل في الزُّبَيْر والمِقْداد { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله } [ البقرة : 207 ] حين شرِيا أنفسَهُمَا لإِنْزَالِ خُبَيْبٍ عن خَشَبَته .
وقال أكثرُ المفسِّرين : نزلت في صُهَيب بن سِنان ، مَوْلى عبد اللَّهِ بنِ جُدْعانَ الرُّومِيِّ ، وفي عمَّارِ بن ياسِرٍ ، وفي سُمَيَّة أُمَّه ، وفي ياسِرٍ أَبيه ، وفي بلالٍ مَوْلَى أبي بَكرٍ ، وفي خَبَّاب بن الأَرَتّ وفي عابس مَوْلَى حُوَيْطِب؛ أخذَهُم المشرِكُون فَعَذَّبوهم؛ فقال لهم صُهَيبٌ : إِنِّي شيخٌ كَبيرٌ لا يَضُرُّكُمْ أَمِنْكُمْ كُنْتُ أم مِن عَدوِّكم فهل لكم أَنْ تَأْخُذُوا مَالِي ، وتذَرُوني؟ ففعلوا ، وكان شرط عليهم راحلةً ونَفَقَةً ، فأقام بمكةَ ما شاء اللَّهُ ، ثم خرج إلى المدينَةِ ، فتَلَقَّاهُ أَبُو بكرٍ وعُمرُ في رجال فقال له أَبُو بَكْرٍ : رَبَحَ بَيْعُكَ يا أَبَا يَحيى؛ فقال : وبيعُكَ فلا تخسر ما ذاك؟ فقال : أنزل اللَّهُ فيك كذا وقرأ عليه الآية .
وأمَّا خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ وأَبُو ذَرٍّ ففرَّا إلى المدينة ، وأَمَّا سُمَيَّةُ فَرُبطَتْ بين بعيرين ثم قُتلت ، وقُتل ياسِرٌ .
وَأَمَّا البَاقُونَ : فأَعْطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركُون ، فتُرِكُوا ، وفيهم نزل قوله تعالى : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } [ النحل : 41 ] بتعذيب أهل مكة { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً } [ النحل : 41 ] بالنَّصر والغنيمة ، { وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ } ، وفيهم أُنْزِلَ { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً } [ النحل : 106 ] .
وقال سعيدُ بن المُسَيِّب ، وعَطَاء : أقبل صُهَيبٌ مهاجراً نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتَّبعُه نفرٌ من مُشركِي قريش ، فنزل عن راحِلَته ، ونَثَلَ ما في كِنانته ، ثُمَّ قال : يا معشَرَ قريشٍ ، لقد علمتُمْ أَنِّي لَمِنْ أَرْماكُم رَجُلاً ، واللَّهِ لا أضع سَهْماً من كِنَانتي إِلاَّ في قَلْبِ رجلٍ منكم وَأَيْمُ اللَّهِ ، لا تَصِلُون إِليَّ حتى أَرْمِي بكل سَهْمٍ في كِنَانتي ، ثم أَضْربُ بسيفي ما بَقِيَ في يَدِي ، ثم افعلُوا ما شِئْتم ، وإن شئتم دَلَلْتُكُمْ على مالِي بمكة وخلَّيْتُم سَبِيلي .
قالُوا : نَعَمْ ، ففعل ذلك ، فنزلت الآيةُ وقال الحسنُ : أَتَدْرُونَ فِيمن نزلت هذه الآية؟ نزلَت في المُسْلِم يلْقَى الكافِر فيقولُ له : قُلْ لا إِله إلاَّ اللَّهُ ، فيَأْبَى أَنْ يقولَهَا ، فيقولُ المسلِم : واللَّهِ لأشترينَّ من نفسي لِلَّهِ ، فيتقدَّم فيقاتِلُ حَتَّى يقتل .
ورُوِيَ عن عُمر ، وعَلِيٍّ ، وابنِ عبَّاسِ : أَنَّها نزلت في الأَمر بالمعرُوفِ ، والنَّهي عن المُنْكَرِ .

قال ابنُ عبَّاسٍ : أرى مَنْ يَشْري نفسهُ ابتغاءَ مرضاة الله يقومُ فيأْمُر هذا بتقوى اللَّهِ ، فإذا لم يقبْل ، وأخذته العزَّةُ بالإِثْم ، قال هذا : وأنا أَشْرِي نَفْسي فيقاتله ، وكان إذا قرأ هذه الآيةَ يقولُ : اقتتلا وربِّ الكَعْبةِ ، وسَمِعَ عمرُ بنُ الخطَّابِ إِنساناً يقرأ هذه الآية؛ فقال عُمَرُ : إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إليه راجعون ، قام رجلٌ يأمرُ بالمعرُوفِ وينهى عن المُنْكَرِ فَقُتِلَ .
وقيل : نزلت في عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي اللَّهُ عنه - باتَ على فِراشِ رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ليلةً خُروجهِ لى الغار .
قوله تعالى : « مَنْ يَشْرِي » : في « مَنْ » الوجهانِ المتقدِّمان في « مَن » الأُولَى ، ومعنى يَشْرى : يَبيعُ؛ قال تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] ، إِنْ أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخِرة ، وقال [ مجزوء الكامل ]
1020 - وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ
قال القُرْطبيُّ : بُرْدٌ هنا اسم غلامٍ . فالمعنى : يَبُذُل نفسَه في اللَّهِ ، وقيل : بل هو على أصلِهِ من الشِّراء .
قوله : « ابتغاءَ » منصوبٌ على أنه مفعولٌ مِنْ أجله ، والشروطُ المقتضيةُ للنصب موجودةٌ ، والصَّحِيحُ أنَّ إضافَة المفعولِ له مَحْضَةٌ ، خلافاً للجرْمِي ، والمُبْرِّد ، والرِّيَاشي ، وجماعةٍ مِنَ المتأخِّرينَ .
و « مَرْضَاةً » مصدرٌ منيٌّ على تَاءِ التأنيثِ كَمَدْعَاة ، والقياسُ تجريدُهُ عنها؛ نحو : مَغْزى ، ومَرْمى . قال القُرطبِيُّ : والمَرْضَاةُ ، الرِّضَا ، تقولُ : رَضِيَ يَرْضى رِضاً وَمَرْضَاة ووقَفَ حمزةُ عليها بالتاءِ ، وذلك لِوَجْهَين :
أحدهما : أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ قال القائل في ذلك : [ الرجز ]
1021 - دَارٌ لسَلْمَى بَعْدَ حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ ... بَلْ جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْرِ الجَحَفتْ
وقد حكى هذه اللُّغة عن سيبويه .
والثاني : أَنْ يكونَ وَقَفَ على نِيَّة الإِضَافة ، كأَنَّه نوى لفظَ المضافِ إليه؛ لشدةِ اتِّصال المُتَضَايفيْنِ ، فأَقَرَّ التاءَ على حالِها؛ مَنْبَهَةً على ذلك ، وهذا كما أَشمُّوا الحرفَ المضْمُوم؛ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها ، وقَدْ أَمالَ الكِسَائيُّ ووَرْشٌ « مَرْضَات » .
وفي قوله : « بِالْعِبَادِ » خُرُوجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إِلَى الاسْم الظَّاهِرِ؛ إذ كان الأَصْلُ « رَؤوفٌ بِهِ » أَوْ « بِهِمْ » وفائدةُ هذا الخُروجِ أنَّ لفظَ « العِبَادِ » يُؤْذِنُ بالتشرِيف ، أو لأنه فاصلةٌ فاختير لذلك .
فصل
إِذَا قُلأنا بأنَّ المراد من هذا الشراءِ البيعُ ، فتحقيقُه أَنَّ المكلَّفَ باعَ نَفسَه بثوابِ الآخرَةِ ، وهذا البيعُ هو أنَّهُ بَذلَها في طاعةِ اللَّهِ تعالى من الصلاةِ ، والصيام ، والحج والجهاد ، ثم يتوصل بذلك إلى وجدان ثَوَابِ الله تعالى فكان ما يبذلُه مِنْ نفْسِه كالسِّلْعةِ ، فكأَنَّهُ كالبائِع ، واللَّهُ كالمشتري؛ كما قال : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } [ التوبة : 111 ] وقد سَمَّى اللَّهُ تعالى ذلك تِجَارةً ، فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ }

[ الصف : 10 ، 11 } وإِنْ أَجْرَينا الآيةَ على ظاهِرهَا ، وقُلنا : إِنَّ المرادَ هو الشراءُن فإن مَنْ أَقْدَم على الكُفْرِ ، والتوسُّعِ في مَلاذِّ الدنيا ، والإِعْراض عن الآخرة ، وقَعَ في العذاب الدَّائِمِ ، فصار كَأَنَّ نَفْسَهُ كانت له ، فبسبب الكُفْرِ والفِسْقِ خَرجَتْ عن مِلْكه ، وصارت حَقّاً للنار ، فإذا ترك الكفر والفِسْق ، وأقبل على الإِيمان والطاعةِ صار كأنه اشْترى نَفْسَهُ من النار والعذاب .
فإن قيلَ : إن الله تعالى جعل نَفْسَهُ مُشْترياً بقوله : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } وهذا يمنع كَونَ المؤمنِ مُشْتَرِياً .
فالجوابُ : أنه لا مُنَافَاةَ بين الأَمْرين؛ فهو كمن اشترى ثوْباً بعبدٍ ، فكل واحد منهما بائع ومُشْتَرٍ فكذا هَا هُنَا .
فصل
يدخُلُ تحتَ هذا كُلُّ مَشَقَّةٍ يتحملها الإنسانُ في طلَبِ الدِّين؛ كالجهادِ والصابر على القَتْلِ ، كَقَتْلِ والد عَمَّار وأُمِّه ، والآبق مِنَ الكُفَّارِ إلى المسلمين ، والمُشْترِي نفسَهُ من الكفار بِمَالِه ، كفعل صُهَيبٍ ، وَمَنْ يُظْهِرُ الدين والحقَّ عِنْدَ السلطان الجائِر .
رُوِيَ أَنَّ عُمَر - رضي اللَّهُ عنه - بعثَ جَيْشاً ، فحاصَرُوا قَصْراً ، فتقدَّم منهم وَاحِدٌ فقاتل حتى قُتِلَ ، فقال بعضُ القَوْمِ : أَلْقَى بيده إلى التَّهْلكةِ فقال عمرُ : كَذَبْتُم ، يرحمُ اللَّهُ أَبَا فُلانٍ . وقرأ { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله } واعلَمْ أَنَّ المشقَّةَ التي يتحملَّلُها الإنسان لا بُدَّ وأَنْ تكونَ على وَفْقِ الشَّرع حتى يدخل بسببه تحت الآية ، أَمَّا لو كانَ على خِلاَفِ الشرع فلا يَدْخُلُ فيها ، بل يَعَدُّ ذلك مِنْ إِلْقَاء النَّفْس إلى التَّهْلَكَة؛ كما لو خاف التَّلَفَ عند الاغتسال مِنَ الجنَابة ففعل .
قوله : { والله رَؤُوفٌ بالعباد } فمن رَأْفَتِهِ أنه جعل النَّعِيمَ الدَّائِمَ جزاءً على العَمَلِ القَلِيلِ المُنْقَطِع ، ومن رَأْفته جَوَّز لهم كلمة الكفرِ إبْقَاء على النفس ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّهُ لا يكلف نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ، ومِنْ رأْفَتِه ورحمته أن المُصِرَّ على الكُفْرِ مائة سَنَةٍ ، إذا تاب - وَلَوْ في لَحْظةٍ - أسقط عنه عِقَابَ تِلْك السنين ، وأعطاه الثوابَ الدائم .
وَمِنْ أْفتِه أَنَّ النفسَ لَهُ والمَال ، ثم إِنَّهُ يَشْتَرِي ملكه بمكلِه؛ فَضْلاً منه ورحمة وإحْسَاناً وامْتِنَاناً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

قوله : « السِّلْم » قرأ هنا « السَّلْم » بالفتح نافعٌ ، والكِسائيُّ ، وابنُ كثيرٍ ، والبَاقُونَ بالكَسْر ، وأمَّا التي في الأَنْفال [ آية 61 ] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ أَبُو بكرٍ وحدَه ، عَنْ عاصِمٍ ، والتي في القِتال [ آية : 35 ] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ حمزةُ وأَبُو بكرٍ أيضاً ، وسيأتي . فقِيل : هَما بمعنىً ، وهو الصلحُ مثل رَطْل ورِطْل وجَسْر وجِسْر وهو يُذَكَّر ويُؤَنَّث ، قال تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } ، وحَكَوْا : « بَنُوا فُلانٍ سِلْمٌ ، وسَلْمٌ » ، وأصلُه من الاسْتِسْلاَمِ ، وهو الانقيادُ ، قال تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } [ البقرة : 131 ] الإسلامُ : إسلامٌ الهدي ، والسِّلْم على الصُّلْح ، وترك الحرب راجع إلى هذا المعنى؛ لأَنَّ كُلَّ واحدٍ كَصَاحِبهِ ، ويُطْلَقُ على الإِسلاَم قاله الكِسَائي وجماعةٌ؛ وأنشدوا : [ الوافر ]
1022 - دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا ... رَأيْتُهُمُ تَوَلَّوا مُدْبِرينَا
يُنْشَدُ بالكَسْرِ ، وقال آخرُ في المفتُوحِ : [ البسيط ]
1023 - شَرَائِعُ السَّلْمِ قَدْ بَانَتْ مَعَلِمُهَا ... فَما يَرَى الكُفْرَ إِلاَّ مَنْ بِه خَبَلُ
فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتَيْنِ بمعنى الإِسْلاَم ، إلاَّ أنَّ الفَتْحَ فيما هو بمعنى الإِسلام قليل ، وقرأ الأَعْمشُ بفتح السِّين واللامِ « السَّلَم » .
وقيل : بل هما مختلفا المعنى : فبالكَسْرِ الإِسلامُ ، وبالفتحِ الصلحُ .
قال أبُو عُبَيدة : وفيه ثلاثُ لُغَاتٍ : السَّلْم والسِّلْم والسُّلْم بالفَتْح والكَسْر والضمِّ .
« كافةً » مَنْصُوبٌ على الحالِ ، وفي صَاحِبهَا ثلاثةُ أقوالٍ .
أظهرها : أنه الفاعلُ في « ادْخُلُوا » ، والمعنَى : ادخُلُوا السِّلْم جميعاً ، وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ ، فإنَّ قولَكَ : « قام القومُ كافةً » بمنزلةِ : قَامُوا كلُّهم .
والثاني : أنه « السِّلْمُ » قالهُ الزَّمخشريُّ ، وأَبُوا البقاءِ ، قال الزمخشريُّ : ويَجُوزُ أن تكونَ « كافةً » حالاً من « السِّلْمِ » ؛ لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحَرْبُ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
1024 - السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... والحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِها جُرَعُ
على أنَّ المؤمنينَ أُمِرُوا أَنْ يدْخُلُوا في الطاعاتِ كُلِّها ، ولا يَدْخُلوا في طَاعةٍ دونَ طاعةٍ ، قال أَبُوا حيَّان تَعْلِيلُه كونُ « كافةً » حالاً مِنَ « السِّلْم » بقولِه : « لأَنَّها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحرب » ليس بشيءٍ؛ لأنَّ التاءَ في « كَافَّة » ليست للتأنيثِ ، وإن كان أَصْلُها أَنْ تَدُلَّ عليه ، بل صار هذا نقلاً مَحْضاً إِلى مَعْنَى جميعٍ وكُلٍّ ، كما صار قاطبةً وعامَّة ، إذا كانَ حالاً نَقْلاً مَحْضاً .
فإذا قلت : « قامَ الناسُ كَافةً ، وقَاطِبةً » لم يَدُلَّ شيءٌ من ذلك على التأْنِيثِ ، كما لا يَدُلُّ عليه « كُلّ » و « جميع » .
والثالث : أَنْ يكونَ صاحبُ الحالِ هما جَمِيعاً : أضعْنِي فاعلَ « ادْخُلُوا » و « السِّلْم » فتكونُ حالاً مِنْ شَيْئَين .
وهذا ما أجازه ابنُ عطيةَ فإنه قال : وتَسْتَغْرقُ « كافة » حنيئذٍ المؤمِنين ، وجميعَ أجزاءِ الشَّرْع ، فتكونُ الحالُ مِنْ شَيْئَيْن وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ :

{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } [ مريم : 37 ] . ثم قال بعد كلامٍ : وكافةً معناه جميعاً ، فالمراد بالكافّةِ الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها .
وقوله : « نحو قوله فَأَتَّتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُه » يعني أنَّ « تَحْمِلُهُ » حالٌ مِنْ فاعِل « أَتَتْ » ومِنَ الهاء في « بِهِ » قال أبو حيَّان : « هذا المِثَالُ ليس مُطَابِقاً لِلْحَالِ من شَيئينِ لأنَّ لفظَ » تَحْمِلُهُ « لا يحتمل شيئَيْن ، ولا تقع الحالُ مِنْ شيئينِ إِلاَّ إِذَا كان اللفظُ يحتملهما ، واعتبارُ ذلك بجَعْلِ ذَوِي الحالِ مُبْتدأَيْنِ ، وجعل تلك الحالَ خبراً عنهما ، فمتى صَحَّ ذلك صَحَّتِ الحالُ؛ نحو قوله [ الطويل ]
1025 - وَعُلِّقُتُ سَلْمَى وَهْيَ ذَاتُ مُوَصَّدٍ ... وَلَمْ يَبْدُ للأَتْرَابِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ
صَغِيرَيْنِ تَرْعَى البَهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا ... إِلَى اليَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ ولَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ
فصغيرَين حالٌ من فاعل » عُلِّقْتُ « ومِنْ » سَلْمَى « لأنك لو قُلْت : أنا وسَلْمى صَغِيرانِ لَصَحَّ ومثلُه قولُ امرِئ القَيس : [ الطويل ]
1026 - خَرَجْتُ بِهَا نَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا ... عَلَى أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
فنْمشِي حالُ من فاعل » خَرَجْتُ « ، ومِنْ » هَا « في » بِهَا « ؛ لأنَّك لو قلتَ : » أنا وهي نمشي « لصَحَّ ، ولذلك أَعْرَب المُعْرِبُونَ » نَمْشِي « حَالاً مِنْهُما ، كما تَقَدَّم ، و » تَجُرُّ « حالاً مِنْ » هَا « في » بِهَا « ، فقط؛ لأنه لا يصلُحُ أن تجعل » تَجُرُّ « خبراً عنهما ، لو قلتَ : » أنا وهي تَجرُّ « لم يَصِحَّ؛ فكذلك يتقدَّر بمفردٍ وهو » جارَّة « وأنت لو أَخْبَرْتَ به عن اثْنين ، لم يَصِحَّ؛ فكذلك » تَحْمِلُهُ « لا يَصْلُح أَنْ يكون خَبَراً عن اثنين ، فلا يَصِحُّ أَنْ يكونَ حالاً منهما ، وأمَّا » كَافّة « فإنها بمعنى » جَمِيع « ، و » جمِيع « يَصِحُّ فيها ذلك ، لا يُقالُ : » كَافَّة « لا يَصحُّ وقوعُها خَبَراً ، لو قلتَ : » الزَّيْدُونَ وَالْعَمْرُونَ كَافَّةً « لم يجزْ ، فلذلك لا تقعُ حالاً؛ لا مِنْ مانع معنوي ، بدليلِ أنَّ مرادِفَها وهو » جَمِيع « و » كُلّ « يُخْبَرُ به ، فالعارِضُ المانِعُ ل » كافَّة « من التصرُّفِ لا يَضُرُّ ، وقولُه : » الجماعةُ الَّتِي تَكُفُّ مخالِيفها « يعني : أَنَّها في الأصْلِ كذلك ، ثم صار اسْتِعْمالُها بمعنى جَمِيع وكُلّ » .
واعْلَمْ أنَّ أَصْلَ « كافة » اسمُ فاعلٍ مِنْ كَفَّ يَكُفُّ ، أي : مَنَع ، ومنه « كَفُّ الإِنسان » ؛ لأنها تَمْنَعُ ما يقتضيه ، و « كِفّة المِيزَانِ » لجمعها الموزون ، ويقالُ : كَفَفْتُ فُلاَناً عن السُّوء ، أي : منعتُه ، ورجل مَكْفُوفٌ ، أي : كُفَّ بَصَرُهُ مِنْ أَنْيبصر ، وَالكُفَّةُ - بالضَّمِّ - لكل مستطيلٍ ، وبالكَسْرِ ، لكلِّ مُسْتدِير .

وقيل : « كافة » مصدرٌ كالعاقبة والعافية . وكافة وقاطبة مِمَّا لَزم نصبُها على الحالِ ، فإخراجُهما عن ذلك لَحْنٌ .
فصل
لمَّا بيَّن الله - تعالى - أقسامَ النَّاسِن وأنهم يَنْقَسِمون إلى مُؤْمنٍ ، وكافِرٍ ، ومُنَافِق قال هاهنا : كُونَوا على مِلَّة واحدة ، على الإسلام ، واثْبتُوا عليه .
قال ابنُ الخطيب : حمل أكثرُ المفسرِين السِّلْمَ على الإسلامِ ، وفيه إِشكالٌ؛ لأنه يَصِيرُ التقدِيرُ : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنثوا ادخُلُوا في الإِسْلام ، والإِيمانُ هو الإسلامُ ، ومعلومٌ أَنَّ ذلك لا يَجوزُ ، فلهذا ذكر المفسرون وُجُوهاً .
أحدها : أَنَّ المرادَ بالآيةِ المنافقُونَ ، والتقديرُ : يا أَيُّهَا الذي آمنوا بأَلْسنتِهم ادخلُوا بكُلِّيتِكُمْ في الإسلام ، ولا تَتَّبعُوا خطواتِ الشيطانِ ، أي آثار تَزيينه ، وغروره في الإِقامةِ على النِّفاقِ ، واحتجوا على هذه بالآيةِ ، فهذا التأويلُ على أَنَّ هذه الآيةَ إِنَّما وردت عَقِيبُ مَا مَضَى من ذكر المنافقين وهو قولُه : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } [ البقرة : 204 ] « الآية » فلمَّا وصفهم بما ذكر ، دعاهم في هذه الآيةِ إلى الإيمان بالقلب ، وترك النفاق .
وثانيها : رُوِيَ أَنَّ هذه الآية نزلتُ في طائفةٍ من مُسْلِمي أهل الكتاب : « عَبْد اللَّهِ ابن سَلامٍ » وأصحابِهِ ، وذلك لأنهم كانوا يُعظِّمون السَّبْتَ ، ويكرهون لُحْمَان الإِبِل ، بعدما أَسْلَموا وقالوا : يَا رسُولَ اللَّهِ : إِنَّ التوراةَ كتابُ اللَّهِ ، فدعْنَا فلنقم بها في صَلاتِنا باللَّيْلِ ، فأمرهم اللَّهُ بهذه الآيةِ أَنْ يدخُلُوا في السِّلْم كافَّةً [ أي : في شَرَائِعِ الإِسَلام كافة ] ولا يتمسَّكُوا بشَيْءٍ من أَحْكامِ التوراة ، اعتقاداً له وعملاً به ، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطانِ في التمسُّكِ بأْحْكامِ التوراة بَعْدَ أَنْ عرفْتُم أنها صارت مَنْسُوخةً ، وقائِلُ هذا القولِ جعل « كَافَّةً » من وصف « السِّلْم » ، كأنه قِيلَ : ادخُلُوا في جميع شَعائِر الإسلام اعتقاداً وعملاً .
وثالثها : أَنَّ هذا الخطابَ لأَهْلِ الكتابِ الَّذِينَ لم يؤمنوا بالنبي - عليه السلام - يَعْنِي : { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا } . أي : بالكتاب المتقدم { ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } ، أي : آمنوا بجميع أنبيائه وكُتُبهم ، وبمحمَّد ، وكتابهِ على التمامِ ، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطان في تحسينه الاقتصارَ على التوراةِ بسبب أَنَّهُ دِينٌ اتفق الكُلُّ على أنه حَقٌّ ، بسبب أَنَّهُ جاء في التوارةِ : وتمسَّكُوا بالسبت ما دامتِ السمَواتُ والأَرْضُ ، فيكون المرادُ من خُطُواتِ الشيطانِ الشبهات التي يتمسَّكُونَ بها في بَقَاءِ تلك الشريعة .
قال ابنُ عبَّاسٍ : نزلت الآيةُ في أهل الكتابِ ، والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } بِمُوسَى وعِيسَى « ادْخُلُوا » فِي الإِسْلاَمِ بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كَافَّةً « .
وَروى » مُسْلِمٌ « عن أبي هريرة ، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : » والَّذِي نفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ ، لا يَسْمَعُ بي أَحَدٌ مِنْ هذه الأمَّةِ يَهُوديٌّ ولا نَصْرَانيٌّ ، ثُمَّ لَمْ يؤمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به إلاَّ كان مِنْ أَصحابِ النَّارِ «

ورابعها : أَنَّ المرادَ بهذا الخطابِ المسلِمُونَ ، والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } دُومُوا على الإسلام فيما بَقِيَ من العُمُرِ ولا تَخْرُجوا عنه { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } أي : ولا تلتفتوا إلى الشُّبُهاتِ التي يُلْقيها إليكم أصحابُ الضلالةِ والغوايةِ .
قال حُذَيفةُ بنُ اليمانِ في هذه الآيةِ : الإِسْلاَمُ ثمانيةُ أَسْهم : الصلاةُ سهمٌ ، والزكاة سَهْمٌ ، والصدقةُ سَهْمٌ ، والحجُّ سَهْمٌ ، والعمرةُ سَهْمٌ ، والجهادُ سَهْم ، والأمرُ بالمعروفِ سهمٌ ، والنَّهْيُ عن المُنْكر سَهْمٌ ، وقد خاب مَنْ لا سهم له .
فإنْ قيل : المؤمنُ الموصوفُ بالشيء يقُالُ له : دُمْ عَلَيْه ، ولا يقالُ لهُ : ادخُلْ فيه ، والمذكُور في الآيةِ هو قوله : « ادخلُوا » .
فالجوابُ : الكائن في الدار إذا علم أَنَّ له في المستقبل خروجاً عنها ، فلا يمتنع أن يُؤْمَرَ بدخولها في المستقبل ، وإن كان في الحال كائناً فيها؛ لأن حالَ كونهِ فيها غيرُ الحالةِ التي أُمِر أن يدخل فيها ، فإذا كان في الوقْتِ الثاني قد يخرج عنها ، صَحَّ أن يؤمر بدخُلولِها .
وقال آخرُونَ : المراد ب « السِّلْم » في الآية الصُّلح ، وتركُ المحاربةِ والمُنَازَعةِ ، والتقديرُ : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا ادْخُلُوا في السِّلْم كَافَّةً » أي : كُونُوا مُجْتَمِعينَ في نُصْرة الدين واحتمال البَلوَى فيه { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } بأَنْ يحملَكُم على طلب الدُّنْيَا ، والمنازعةِ مع الناس ، فهو كقوله : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 ] ، وقوله : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران ] .
قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } أي : لاَ تُطِعُوهُ فيما يدعُوكُمْ إليه ، وتقدَّم الكلامُ على خطواته .
وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } .
قال أبو مسلمٍ : مُبِين مِنْ صفاتِ البليغ الذي يُعرِبُ عن ضميره .
قال ابنُ الخطِيب : ويدلُّ على صحةِ هذا المعنى قوله { حموالكتاب المبين } [ الدخان : 1 - 2 ] ولا يعنى بقوله « مُبين » إلاَّ ذلك . فإن قيلَ : كيف وصفُ الشيطانِ بأَنَّهُ مُبِينٌ مع أَنَّا لا نَرى ذاتَهُ ، ولا نسمعُ كَلامَهُ؟
فالجوابُ أنه تعالى لَمَّا بَيَّنَ عداوتَهُ لآدمَ ونسلِه ، فلذلك الأمرِ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ بأَنَّهُ عدوٌّ مبين ، وإِنْ لم يشاهد؛ مثالُه : مَنْ يُظْهر عداوتهُ لرجلٍ في بلد بعيدٍ فقد يصح أن يُقال : إِنَّ فلاناً عدوٌّ مبينٌ لك وإن لم يشاهده في الحال .
قال ابنُ الخطيبِ : وعندي فيه وجهٌ آخرُ ، وهو : أن الأصلَ في الإِبانَةِ القطع ، والبيانُ إِنَّما سُمِّيَ بياناً لهذا المعنى فَإِنَّه يقطع بعضَ الاحتمالاتِ عن بعض ، فوصْفُ الشيطانِ بأنه مبينٌ بيانُه : أنه يقطع الملكف بوسْوسَتِه عن طاعة الله وثوابِه .
فإن قيلَ : كون الشيطان عَدُوّاً لنا ، إِمَّا أَنْ يكونَ بسببِ أنه يقصد إيصالَ الآلمِ والمكارِه إلَيْنَا في الحالِ ، أو بسببِ أَنَّه بوسوستِه يمنعنا عن الدين والثواب ، والأَوَّلُ بَاطِلٌ إِذْ لو كان كذلك لوقعنا في الأَمْراض والآلمِ وليس كذلك .
والثَّانِي - أيضاً - باطِلٌ؛ لأَنَّ مَنء قَبلِ منه تلك الوسْوَسَةَ فإنه أتي من قبل نفسه؛ لقولهِ :

{ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ } [ إبراهيم : 11 ] وإذا كان الحالُ على ما ذكرناهُ ، فكيف يُقالُ إنه عدوٌّ لَنَا؟
فالجوابُ : أَنَّهُ عَدُوٌّ من الوجهَينِ معاً أَمَّا من حيثُ أَنَّهُ يحاولُ إيصالَ البلاءِ إلينا ، فهو كذلك إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ تعالى منعَهُ عن ذلك ، ولا يلْزَمُ مِنْ كونه مُريداً لإيصال الضرِرِ إلينا أَنْ يكونَ قادِراً عليه ، وأَمَّا من حيثُ إنه يقدم على الوسْوسَةِ ، فمعلومٌ أَنَّ تزيينَ المعاصي وإلقاءَ الشبهاتِ ، كُلُّ ذلك لوقوعِ الإنسانِ في الباطل وبه يصيرُ محروماً عن الثَّوابِ .
قوله تعالى : « فَإِنْ زَلَلْتُمْ » الجمهور على « زَلَلْتُمْ » : بفتح العين ، وأبو السَّمَّال قرأها بالكسر ، فهما لغتان؛ كضلَلت ، وضلِلت . و « ما » في « مِنْ بعدِما » مصدريَّةٌ ، « مِنْ » بالبتداء الغاية ، وهي متعلِّقةٌ ب « زَلَلْتُمْ » .
معنى « زَلَلْتُمْ » أي : ضللتم ، وقيل : ملتم ، يقال : زلَّت قدمه تزلُّ زلاًّ وزللاً ، إذا دحضت ، وأصل الزلل في القدم ، واستعماله في الاعتقادات .
فصل
يروى عن ابن عباس : فإن زللتم في تحريم السَّبت ، ولحم الإبل ، { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات } يعني محمَّداً وشرائعه ، { فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } في كلِّ أفعاله ، فعند هذا قالوا : لئن شئت يا رسول الله ، لنتركنَّ كلَّ كتابٍ غير كتابك ، فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } [ النساء : 136 ] ومن قال : إن الآية الأولى في المنافقين قال في هذه الآية كذلك .
فإن قيل : إنَّ الحكم المشروط إنما يحسن في حقِّ من لا يكون عالماً بعواقب الأمور ، وأجاب قتادة عن ذلك فقال : قد علم أنَّهم سيزلون ، ولكنه تعالى قدَّم ذلك ، وأوعد فيه؛ ليكون له الحجَّة عليهم .
فصل
قوله : { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات } يتناول جمع الدلائل العقليَّة والسمعيَّة .
أمَّا العقليَّة ، فالعلم بحدوث العالم ، وافتقاره إلى صانع يكون عالماً بكلِّ المعلومات ، قادراً على كل الممكنات ، غنيّاً عن كل الحاجات .
وأمَّا السمعيَّة : فهي البيان الحاصل بالقرآن والسُّنَّة .
فصل
قال القرطبي : دلت الآية على أنَّ عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به ، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافراً بترك الشَّرائع .
فصل
قال القاضي : دلَّت الآية على أنَّ المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلاَّ بعد البيان ، وإزاحة العلَّة ، ودلت الية على أنَّ المتبر حصول البيِّنات ، لا حوصل اليقين من المكلف .
وقوله : « عَزِيزٌ » يدلُّ على الزَّجر ، والتهديد ، والوعيد؛ لأن العزيز هو الذي لا يمنع عن مراده ، وذلك إنام يحصل بكمال القدرة ، وهو تعالى قادر على كل الممكنات ، فكأنَّه تعالى قال : « فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتُكُمْ البيّنات » فاعموا أنَّ الله قادرٌ عليكم ، لا يمنعه عنكم مانع ، وهذا نهاية في الوعيد ، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب؛ كقول السيِّد لعبده : إن عصيتني فأنت عارف بي ، وتعلم قدرتي عليك ، والآية كما أنها تدلُّ على نهاية الوعد بقوله : « حَكِيمٌ » فإنَّ اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء ، فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن ، بل هذا أليق بالحكمة ، وأقرب للرحمة ، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه لا وجوب لشيءٍ قبل الشَّرع؛ لأنه تعالى أثبت التهديد بشرط مجيء البينات ، وقبل الشرع لم تحصل كلُّ البيِّنات .

فصل
قال الجبَّائيُّ : المجبرة تقول : إن الله تعالى يريد الكفر من الكفَّار ، والسَّفاهة من السُّفهاء ، والله تعالى وصف نفسه بأنه حكيم ، ومن فعل السَّفه وأراده لا يكون حكيماً ، وأجيب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمول ، فمعنى كونه تعالى حكيماً أنَّه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقاً لكل الأشياء ، ومريداً لها .
فصل
يحكى أنَّ قارئاً قرأ « فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » فسمعه أعرابيٌّ ، فأنكره؛ وقال : إنَّ هذا كلام الله تعالى فلا يقول كذا؛ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزَّلل؛ [ أنه إغراءٌ عليه ] .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

« هَلْ » لفظه استفهامٌ والمراد به النفي؛ كقوله : [ الطويل ]
1027 - وَهَلْ أَنَا إِلاَّ مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ ، وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
أي : ما ينظرون ، وما أنا ، ولذلك وقع بعدها « إلاَّ » كما تقع بعد « ما » . و « هَلْ » تأتي على أربعة أوجهٍ :
الأأول : بمعنى « مَا » كهذه الآية ، وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } [ الأعراف : 53 ] .
الثاني : بمعنى « قَدْ » كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإنسان : 1 ] أي : قد أتى ، وقوله : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم } [ ص : 21 ] و { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية } [ الغاشية : 1 ] ، أي : قد أتاك .
والثالث : بمعنى « أَلاَ » قال تعالى : { هَلْ أَدُلُّكُمْ } [ طه : 40 ] أي : أَلاَ أدلكم ، ومثله { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين } [ الشعراء : 22 ] أي : ألا أنبئكم .
الرابع : بمعنى الاستفهام ، قال تعالى : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ } [ الروم : 40 ] .
و « يَنْظُرون » هنا بمعنى ينتظرون ، وهو معدًّى بنفسه ، قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1028 - فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ
وليس المراد هنا بالنظر تردد العين؛ لأنَّ المعنى ليس عليه؛ واستدلَّ بعضهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدَّى ب « لى » ، ويضاف إلى الوجه ، وفي الآية الكريمة متعدٍّ بنفسه ، وليس مضافاً إلى الوجه ، ويعني بإضافته إلى الوجه قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] فيكون بمعنى الانتظار ، وهذا ليس بشيء ، أما قوله : إن الذي بمعنى البصر يتعدَّى ب « إلى » فمسلم ، وقوله : « وهو هنا متعدٍّ بنفسه » ممنوعٌ ، إذ يحتمل أن يكون حرف الجر وهو « إلَى » محذوفاً؛ لأنه يطَّرد حذفه مع « أَنْ » و « أَنَّ » ، إذا لم يكن لبسٌ ، وأمَّا قوله : « يُضَافُ إلى الوَجْهِ » ، فممنوعٌ أيضاً ، إذ قد جاء مضافاً للذات؛ قال تعالى : { أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل } [ الغاشية : 17 ] . والضمير في « يَنْظُرُونَ » عائدٌ على المخاطبين بقوله : « زَلَلْتُمْ » فهو التفاتٌ .
قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ } هذا مفعول « يَنْظُرُونَ » وهو استثناءٌ مفرَّغٌ ، أي : ما ينظرون إلا إتيان الله .
والمعنى ما ينظرون ، يعني التاركون الدخُّول في السِّلم .
قوله تعالى : « في ظُلَلٍ » فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أن يتعلَّق بيأتيهم ، والمعنى : يأتيهم أمره أو قدرته أو عقابه أو نحو ذلك ، أو يكون كنايةً عن الانتقام ، إذ الإتيان يمتنع إسناده إلى الله تعالى حقيقةً .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : هو مفعول يتيهم ، أي : في حال كونهم مستقرين في ظلل ، وهذا حقيقة .
والثاني : أنه الله تعالى بالمجاز المتقدِّم ، أي : أمر الله في حال كونه مستقراً في ظلل .

الثالث : أن تكون « في » بمعنى الباء ، وهو متعلقٌ بالإتيان ، أي : إلاَّ أن يأتيهم بظلل؛ ومن مجيء « في » بمعنى الباء قوله : [ الطويل ]
1029 - ... خَبِيرُونَ في طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ
لأنَّ « خَبِيرِينَ » إنَّما يتعدَّى بالباء؛ كقوله : [ الطويل ]
1030 - . فَإنَّني ... خَبِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
الرابع : أن يكون حالاً من « المَلاَئِكَةِ » مقدَّماً عليها ويحكى عن أبيّ ، والأصل : إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظللٍ ، ويؤيِّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك ، وبهذا - أيضاً - يقلُّ المجاز ، فإنه - والحالة هذه - لم يسند إلى الله تعالى إلاَّ الإتيان فقط بالمجاز المتقدم .
وقرأ أُبيّ وقتادة والضَّحاك : في ظلالٍ ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنها جمع ظلّ؛ نحو : صلّ وصلال .
والثاني : أنها جمع ظلَّة؛ كقلَّة وقلال ، وخلَّة وخلال ، إلاَّ أنَّ فعالاً لا ينقاس في فُعلة .
قوله تعالى : « مِنَ الغَمَامِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل « ظُلَل » التقدير : ظُلَلٍ كائنةٍ من الغمام . و « مِنْ على هذا للتعبيض .
والثاني : أنه متعلق ب » يَأْتِيهم « ، وهي على هذا لابتداء الغاية ، أي : من ناحية الغمام .
والجمهور على رفع » المَلاَئِكَةُ « ؛ عطفاً على اسم » الله « .
وقرأ الحسن وأبو جعفر : بجرِّ » الملائكةِ « وفيه وجهان :
أحدهما : العطف على » ظُلِلٍ « ، أي : إلاَّ أن يأتيهم في ظللٍ ، وفي الملائكة .
والثاني : العطف على » الغمامِ « أي : من الغمام ومن الملائكة ، فتوصِف الملائكة بكونها ظللاً على التشبيه ، وعلى الحقيقة ، فيكون المعنى يأتيهم أمر الله وآياته ، والملائكة يأتون ليقومون بما أمروا به من الآيات والتعذيب ، أو غيرهما من أحكام يوم القيامة .
قوله : » وقُضِيَ الأمرُ « الجمهور على » قُضِيَ « فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون معطوفاً على » يَأْتيهم « وهو داخل في حيِّز الانتظار ، ويكون ذلك من وضع الماضي موضع المستقبل ، والأصل : ويقضى الأمر وإنما جيء به كذلك؛ لأنه محققٌّ كقوله : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] وقوله : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني } [ المائدة : 116 ] والسبب في اختيار هذا المجاز ، إمَّا التنبيه على قرب الآخرة ، وكأنها قد أتت ، أو المبالغة في تأكيد وقوعها ، كأنها قد وقعت .
والثاني : أن يكون جملة مستأنفة برأسها ، أخبر الله تعالى بأنه قد فرغ من أمرهم ، فهو من عطف الجمل ، وليس داخلاً في حيّز الانتظار .
وقرأ معاذ بن جبل : » وَقَضَاء الأَمْرِ « قال الزمخشريُّ : » عَلَى المصْدَرِ المرفوع؛ عطفاً على الملائكة « . وقال غيره : بالمدِّ والخفض؛ عطفاً على » الملائكة « .
قيل : وتكون على هذا » فِي « بمعنى » البَاءِ « أي : بظُللٍ ، وبالملائكة ، وبقضاء الأمر ، فيكون عن معاذ قراءتان ي الملائكة ، الرفع والخفض ، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله : » وقُضِيَ الأمر « .

ومعنى قضي الأمر؛ هو فصل القضاء ببين الخلق يوم القيامة ، وإنزال كلِّ واحد منزلته من جنَّةٍ ، أو نارٍ؛ قال تعالى : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } [ إبراهيم : 22 ] .
قوله : { وإلى الله تُرْجَعُ الأمور } هذا الجار متعلق بما بعده ، وإنما قدِّم للاختصاص ، أي : لا ترجع إلاَّ إليه دون غيره . وقرأ الجمهور : « تُرْجَعُ » بالتأنيث لجريان جمع التكسير مجرى المؤنث ، إلاَّ أنَّ حمزِة والكسائي ونافعاً قرؤوا ببنائه للفاعل ، والباقون ببنائه للمفعول ، و « رَجَعَ » يستعمل متعدياً تارةً ، ولازماً أخرى ، وقال تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ الله } [ التوبة : 83 ] فجاءت القراءتان على ذلك ، وقد سمع في المتعدي « أرجع » رباعياً ، وهي لغة ضعيفة ، ولذلك أبت العلماء أن تجعل قراءة من بناه للمفعول مأخوذةً منها . وقرأ خارجة عن نافع : « يُرْجَعُ » بالتذكير ، وببنائه للمفعول؛ لأن تأنيثه مجازي ، والفاعل المحذوف في قراءة من بناه للمفعول : إمَّا الله تعالى ، أي : يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار ، وإمَّا ذوو الأمور؛ لأنه لمَّا كانت ذواتهم وأحوالهم شاهدةً عليهم بأنهم مربوبون مجزيُّون بأعمالهم كانوا رادِّين أمورهم إلى خالقها .
قال القفَّال - رحمه الله - : في قوله « تُرْجَعُ الأُمُورُ » بضم التاء ثلاثة معانٍ .
أحدها : ما ذكرناه ، وهو أنه جلَّ جلاله يرجعها إلى نفسه .
والثاني : أنه على مذهب العرب ، من قولهم « فلانٌ يُعْجَبُ بنفسه » ويقول الرجلُ لغيره : « إلى أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ » ، وإن لم يكن أَحَدٌ يَذْهَبُ به .
والثالث : أن ذوات الخلق لما كانت شاهدةً عليهم ، بأنهم مخلوقون محاسبون ، كانوا رادّين أمرهم إلى خالقهم ، فقوله « تُرْجَعُ الأُمُورُ » أي : يردّها العباد إليه ، وإلى حكمه بشهادة أنفسهم ، وهو كقوله { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الجمعة : 1 ] فإن هذا التسبيح بحسب الحال ، لا بحسب النطق ، وقوله : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } [ الرعد : 15 ] قيل : المعنى يسجد له المؤمنون طوعاً ، ويسجد له الكفَّار كرهاً بشهادة أنفسهم بأنَّهم عبيد الله .
فصل في تفسير « الظلل »
« الظُّلَلُ » جمع ظُلَّةٍ ، وهو ما أظَلَّكَ الله به « والغَمَامُ » هو السَّحاب الأبيض الرَّقيق ، سمِّي غماماً؛ لأنه يغمُّ ، أي : يستر .
وقال مجاهدٌ : هو غير السحاب ، ولم يكن إلاَّ لبني إسرائيل في تيههم .
وقال مقاتلٌ : كهيئة الضَّبابة أبيض .
قال الحسن : في سترةٍ من الغمام . والأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ، ويكل علمها إلى الله تعالى؛ على ذلك مضت أئمة السَّلف ، وعلماء السُّنَّة .
قال ابن عباس ، في رواية أبي صالح ، والكلبي : هذا من المكتوم الذي لا يفسَّر ، وكان مكحولٌ ، والزُّهريُّ ، والأوزاعيُّ ، ومالكٌ ، وابن المبارك ، وسفيان الثَّوريُّ ، واللَّيث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق يقولون فيه وفي أمثاله : أَمِرَّها كما جاءت بلا كيف .

قال سفيان بن عيينة : كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه ، فتفسيره : قراءته ، والسكوت عنه؛ ليس لأحدٍ أن يفسِّره إلاَّ الله ورسوله .
وروي عن ابن عبَّاسِ أنه قال : نزل القرآن على أربعة أوجهٍ :
وجه لا يعرفه أحد لجهالته ، ووجه يعرفه العلماء ، ووجه نعرفه من قبل العربيَّة فقط ، ووجه لا يعلمه إلاَّ الله .
وقال جمهور المتكلِّمين : لا بدَّ من التَّأويل ، وفيه وجوهٌ :
أحدها : أنَّ المراد { يَأْتِيَهُمُ الله } آياتُ الله . فجعل مجيء الآيات مجيئاً له؛ على التفخيم لشأن الآيات؛ لأنه قال قبله : « فَإشنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ البَيِّنَاتُ » ثم ذكر هذه الآية في معرض التهديد ، ومعلومٌ أنه بتقدير أن يصح المجيء على الله تعالى لم يكن مجرد حضوره سبباً للتهديد والزَّجر ، وإذا ثبت أنَّ المقصود من الآية إنَّما هو الوعيد والتهديد والزجر ، وجب أن يضمن في الآية مجيء الآيات والقهر والتَّهديد ، ومتى أضمرنا ذلك ، زالت الشُّبهة بالكلية .
الثاني : أن يأتيهم أمر الله ، كقوله : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله } [ المائدة : 33 ] والمراد : يحاربون أولياءه . وقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] والمراد : أهل القرية ، فكذا قوله : « يَأتِيهِم اللَّهُ » المراد : يأتيهم أمر الله ، كقوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] ، وليس فيه إلاَّ حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، وهو مجازٌ مشهورٌ كثيرٌ في كلامهم ، تقول : « ضرب الأمير فلاناً ، وصلبه ، وأعطاه » وهو إنَّما أمر بذلك ، لأنه تولَّى ذلك بنفسه ، ويؤكد هذا قوله في سورة النحل : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [ النحل : 33 ] فصارت هذه الآية مفسرة لتلك الآية ، لأنَّ هذه الآيات لمَّا وردت في واقعةٍ واحدةٍ ، لم يبعد حمل بعضها على البعض ، ويؤيِّده - أيضاً - قوله بعده : « وَقُضِيَ الأَمْرُ » والألف واللام للمعهود السَّابق ، وهو الأمر الذي أمضرمناه .
فإن قيل : أمر الله صفة قديمة ، فالإتيان عيلها محالٌ .
وعند المعتزلة : أنه أصواتٌ ، فتكون أعراضاً ، فالإتيان عليها - أيضاً - محال .
والجواب : أن الأمر في اللغة له معنيان :
أحدهما : الفعل والشَّأْن والطَّريق؛ قال تعالى : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] ، { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ] ، وفي المثل : « لأَمْرِ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ » ، و « لأَمْرِ مَا يُسَوَّدُ مَنْ يُسَوَّدُ » ، فيجعل الأمر عبارة عن الفعل ، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال ، وهذا هو التَّأويل الأول ، وإن حملنا الأمر على ضدِّ النهي ، ففيه وجهان :
أحدهما : أن منادياً ينادي يوم القيامة ألا أن الله يأمركم بكذا ، وكذا ، فذاك هو إتيان الأمر .
وقوله : « في ظُلَلٍ » ، أي : مع ظللٍ ، والتقدير : أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد .

الثاني : أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل حصول أصوات مقطَّعة مخصوصة في تلك الغمامات ، تدلُّ على حكم الله تعالى على كلِّ ما يليق به؛ من السَّعادة ، والشقاوة ، وتكون فائدة الظُّلل من الغمام أنه تعالى جعله مارة لما يريد إنزاله بالقوم ، فعنده يعلمون أنَّ الأمر قد حضر وقرب .
الوجه الثالث : أن يأتيهم الله بما وعد من الحساب ، والعذاب ، فحذف ما يأتي به ، تهويلاً عليهم؛ إذ لو ذكر كان أسهل عليهم في باب الوعيد ، وإذا لم يذكر كان أبلغ؛ لانقسام خواطرهم ، وذهاب فكرهم في كل وجهٍ ، كقوله تعالى : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد } [ النحل : 26 ] وقوله : { فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } [ الحشر : 2 ] أو قوله : { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 26 ] وآتاهم العذاب ، كالتفسير لقوله : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 26 ] .
الوجه الرابع : أن تكون « فِي » بمعنى « البَاءِ » ، وتقديره : هل ينظرون إلاَّ أن يأتيهم الله بظللٍ من الغمام ، وحروف الجرِّ يقام بعضها مقام بعضٍ .
الوجه الخامس : قال ابن الخطيب : وهو أوضح عندي من كلِّ ما سلف ، وهو أنَّا ذكرنا أنَّ قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } نزلت في اليهود ، فعلى هذا قوله : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } يكون خطاباً مع اليهود ، [ وحينئذٍ يكون قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملاائكة } حكاية عن اليهود ] ، والمعنى : أنهم لا يقبلون دينك حتى يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وذلك لأنهم فعلوا مع موسى عليه الصلاة والسلام مثل ذلك ، فقالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] .
وإذا كان هذا كايةً عن اليهود ، لم يمتنع إجراء الآية على ظاهرها؛ لأن اليهود كانوا مشبِّهةً ، وكانوا يجوِّزون على الله تعالى المجيء والذَّهاب ، وكانوا يقولون : إنَّه تعالى تجلَّى لموسى - عليه السلام - على الطُّور في ظلل من الغمام ، وطلبوا مثل ذلك في زمن محمد - عليه السلام - وعلى هذا فيكون الكلام حكايةً عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه ، فلا يحتاج حينئذٍ إلى تأويلٍ ، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز .
وبالجملة فالآية الكريمة تدلُّ على أنَّ قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله ، وليس في الآية دلالةٌ على أنهم محقُّون في ذلك الانتظار ، أو مبطلون؛ فزال ذلك الإشكال .
فإن قيل : فعلى هذا التَّأويلن كيف يتعلق قوله تعالى : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } ؟
قلنا : الوجه فيه أنَّه تعالى لمَّا حكى عنادهم ، وتوقفهم في قبول الدِّين على هذا الشرط الفاسد ، ذكر بعده ما يجري مجرى التهديد ، فقال : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } .
قال ابن تيميَّة : وهذا من أعظم الافتراء على الله ، وعلى كتابه؛ حيث جعل خطاب الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود وهو قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم } أنَّ الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود ، مع أنَّ الله تعالى دائماً يفصل في كتابه بين الخطابين ، فيقول للمؤمنين : { ياأيها الذين آمَنُواْ } ، ويقول لأولئك : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ } ، و { ياأهل الكتاب } ، فكيف يجعل خطاب المؤمنين الصريح خطاباً لليهود فقط؟ وهذا من أعظم تدبديل للقرآن .

وأيضاً فقوله بعد ذلك : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات } لا يقال : إن زللتم لمن هم مقيمون على الكفر والضلال .
وأما قوله في قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام } أنه من اعتقاد اليهود الفاسد ، لا من كلام الله تعالى الذي توعَّد به عباده ، فهذا افتراءٌ على الله ، وكذب على اليهود ، وأيضاً فإنه لم ينقل أحد عنهم أنهم كانوا ينتظرون في زمن محمد - عليه السلام - أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام .
وقد ذكر المفسرون وأهل السِّير والمغازي في مخاطبات اليهود الذين كانوا بالحجاز للنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة من كان من اليهود بالحجاز ، وكثرة ما نزل بسببهم من القرآن ، وكذلك ما نقل عنهم أنَّهم كانوا يقولون : إنَّ الله تجلَّى ل « مُوسى » على الطُّور في ظللٍ من الغمام وهو أمر لم يذكره الله تعالى عنهم على هذا الوجه ، فإن كان هذا حقّاً عنهم ، وكانوا ينتظرون مثل ذلك ، فيكونون قد جوَّزوا أن يكون الله تجلَّى لرسول الله كما تجلَّى لموسى ، ومعلوم أنَّ اليهود لم يقولوا ذلك ، وما ذكره الله تعالى عنهم من طلبهم رؤية الله جهرةً ، فهذا حقٌّ ، ولكن أخبر أنَّهم طلبوا الرؤية ولم يخبر أنَّهم انتظروها ، والمطلب للشيء معتقدٌ؛ لأنه يكون لا طالب من غير أن يكون ، وهذا كقوله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ } [ البقرة : 108 ] .

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

قرأ الجمهور : « سَلْ » وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون من لغة : سال يسال ، مثل : خَافَ يَخَافُ ، وهل هذه الألف مبدلة من همزة ، أو واو ، أو ياء؟ خلاف تقدَّم في قوله : { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } [ البقرة : 61 ] فحينئذٍ يكون الأمر منها : « سَلْ » مثل « خَفْ » لمَّا سكنت اللام حملاً للأمر على المجزوم ، التقى ساكنان فحذفت العين لذلك ، فوزنه على هذا فَلْ ، وبهذا التقدير قرأ نافعٌ ، وابن عامر « سَالَ سَائِلٌ » على وزن « قال » ، « وكان » .
والثاني : أن تكون من سأل بالهمز .
قال قطربٌ : سأَلَ يَسْأَلُ مثل زَأر الأسد يَزْأَرُ ، والأصل : اسأل ثم ألقيت حركة الهمزة على السِّين ، تخفيفاً ، واعتددنا بحركة النقل ، فاستغنينا عن همزة الوصل فحذفناها ، ووزنه أيضاً فَلْ بحذف العين ، وإن اختلف المأخذ .
وروى عباس عن أبي عمرو : « اسْأَلْ » على الأصل من غير نقلٍ . وقرأ قوم : « اسَلْ » بالنقل وهمزة الوصل ، كأنَّهم لم يعتدُّوا بالحركة المنقولة كقولهم : « الَحْمر » بالهمز .
وقرأ بعضهم « سَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ » بغير همزٍ ، وقرأوا { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب } [ يونس : 94 ] { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] بالهمزة ، وقرأ الكسائيُّ الكلَّ بغير همزٍ اتِّباعاً للمصحف ، فإنَّ الألف ساقطةٌ فيها أجمع ، و « بني » مفعولٌ أول عند الجمهور .
وقوله : « كم آتيناهم » في « كَمْ » وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب . واختلف في ذلك فقيل : نصبها على أنها مفعولٌ ثانٍ ل « آتياناهم » على مذهب الجمهور ، وأول على مذهب السُّهيلي ، كما تقدَّم .
وقيل : يجوز أن ينتصب بفعل مقدَّر يفسِّره الفعل بعدها تقديره : كم آتينا آتيناهم ، وإنما قدرنا ناصبها بعدها؛ لأنَّ الاستفهام له صدر الكلام ، ولا يعمل فيه ما قبله ، قاله ابن عطيَّة ، يعني أنه عنده من باب الاشتغال ، قال أبو حيَّان : وهذا غير جائزٍ إنْ كان « مِنْ آيةٍ » تمييزاً؛ لأن الفعل المفسِّر لم يعمل في ضمير « كَمْ » ولا في سبيها ، وإذا لم يكن كذلك ، امتنع أن يكون من ابا سببيِّه .
ونظير ما أجازه أن تقول : « زَيْداً ضربْتُ » ويكون من باب الاشتغال ، وهذا ما لم يجيزه أحد .
فإن قلنا أنَّ تمييزها محذوف ، وأطلقت « كَمْ » على القوم ، جاز ذلك؛ لأنَّ في جملة الاشتغال ضمير الأول؛ لأنَّ التقدير : « كَمْ مِنْ قَوْم آتيناهُمْ » قال شهاب الدِّين : وهذا الذي قاله الشيخ من كونه لا يتمشَّى على كون « مِنْ آية » تمييزاً قد صرَّح به ابن عطيَّة فإنه قال « وقوله : » مِنْ آيةٍ « هو على التقدير الأول ، مفعول ثان لآتيناهم ، وعلى الثاني في موضع التمييز » يعني بالأول نصبها على الاشتغال ، وبالثاني نصبها بما بعدها .

الوجه الثاني : أن تكون « كَمْ » في محلِّ رفع بالابتداء ، والجملة بعدها في محلِّ رفع خبراً لها ، والعائد محذوفٌ تقديره : كم آتيناهموها ، أو آتيناهم إيَّاها ، أجازه ابن عطيَّة وأبو البقاء ، واستضعفه أبو حيَّان من حيث إن حذف عائد المبتدأ المنصوب لا يجوز إلاَّ في ضرورةٍ ، كقوله : [ السريع ]
1031 - وَخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا ... بِالْحَقُ لاَ يُحْمَدُ بالْبَاطِلِ
أي : وخالدٌ يحمده . وهذا نقل بعضهم ، ونقل ابن مالكٍ ، أنَّ المبتدأ إذا كان لفظ « كُلٍّ » ، أو ما أشبهها في الافتقار والعموم جاز حذف عائده المنصوب اتفاقاً من البصريِّين والكوفيِّين ، ومنه : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ النساء : 95 ] في قراءة نافعٍ ، وإذا كان المبتدأ غير ذلك ، فالكوفيُّون يمنعون ذلك لا في السِّعة ، والبصريُّون يجيزونه بضعفٍ ، ومنه : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] برفع « حُكْم » . فقد حصل أنَّ الذي أجازه ابن عطية ممنوعٌ عند الكوفيين ، ضعيف عند البصريين .
وهل « كَمْ » هذه استفهامية ، أو خبرية؟ الظاهر الأول ، وأجاز الزمخشريُّ فيها الوجهين ، ومنعه أبو حيَّان من حيث إن « كَمْ » الخبرية مستقلة بنفسها ، غير متعلقةٍ بالسؤال ، فتكون مفلتةً ممّا قبلها ، والمعنى يؤدي إلى انصباب السؤال عليها ، وأيضاً فيحتاج إلى حذف المفعول الثاني للسؤال ، تقديره : سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم ، ثم قال : كثيراً من الآيات التي آتيناهم ، والاستفهامية لا تحتاج إلى ذلك .
و « مِنْ آيةٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنها مفعول ثان على القول بأنَّ « كَمْ » منصوبةٌ على الاشتغال؛ كما تقدَّم ، ويكون ممِّيز « كَمْ » محذوفاً ، و « مِن » زائدةٌ في المفعول؛ لأنَّ الكلام غير موجب ، إذ هو استفهامٌ ، وهذا إذا قلنا إنَّ « كَمْ » استفهامية لا خبريةٌ؛ إذ الكلام مع الخبرية إيجابٌ ، و « مِنْ » لا تزاد في الواجب إلاَّ على رأي الأخفش ، والكوفيِّين ، بخلاف ما إذا كانت استفهامية . قال أبو حيَّان : فيمكن أن يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما بعده وفيه بعدٌ ، لأنَّ متعلَّق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني ، فلو قلت : « كَمْ مِنْ دِرْهمٍ أعطيته مِنْ رَجلٍ » على زيادة « مِنْ » في « رَجُلٍ » لكان فيه نظرٌ « انتهى .
والثاني : أنها تمييز ، ويجوز دخول » مِنْ « على مميِّز » كَمْ « استفهامية كانت أو خبرية مطلقاً ، أي : سواء وليها ممِّزها ، أم فصل بينهما بجملةٍ ، أو ظرفٍ أو جارٍّ ومجرورٍ ، على ما قرَّره النحاة ، و » كَمْ « وما في حيِّزها في محلِّ نصب أو خفض ، لأنها في محل المفعول الثاني للسؤال فإنَّه يتعدَّى لاثنين : إلى الأوَّل بنفسه وإلى الثَّاني بحرف جرٍّ : إمَا عن ، وإمَّا الباء؛ نحو : سألته عن كذا وبكذا؛ قال تعالى :

{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] ، وقد جمع بينهما في قوله : [ الطويل ]
1032 - ... فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ
. . ... وقد يحذف حرف الجرِّ ، فمن ثمَّ جاز في محلِّ « كَمْ » النصب ، والخفض بحسب التقديرين ، و « كَمْ » هنامعلقة للسؤال ، والسؤال لا يعلَّق إلا بالاستفهام؛ كهذه الآية ، وقوله تعالى : { } [ القلم : 40 ] ، وقوله : [ الطويل ]
1033 - يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ المُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ
وقال آخر : [ السبيط ]
1034 - ... وَاسْأَلْ بِمَصْقَلَةَ البَكْرِيِّ مَا فَعَلا
وإنما علَّق السؤال ، وإن لم يكن من أفعال القلوب؛ قالوا : لأنه سببٌ للعلم ، والعلم يعلَّق ، فكذلك سببه ، وإذا كانوا قد أجروا نقيضه في التعليق مجراه في قوله : [ الطويل ]
1034 - وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ أَنْتُمُ ... وَرِيحُكُمْ مِنْ أَيِّ رِيحِ الأَعَاصِرِ
فإجراؤهم سببه مجراه أولى .
واختلف النحاة في « كَمْ » : هل بسيطةٌ ، أو مركبة من كاف التَّشبيه وما الاستفهامية ، حذفت ألفها؛ لانجرارها ، ثم سكنت ميمها ، كما سكّنت ميم « لِمْ » من « لِمْ فَعَلْتَ كَذَا » في بعض اللغات ، فركِّبتا تركيباً لازماً؟ والصحيح الأول . وأكثر ما تجيء في القرآن خبريَّةً مراداً بها التكثير ، ولم يأت ممِّزها في القرآن إلا مجروراً بمن .
قال أبو مسلمٍ : في الآية حذفٌ ، والتَّقدير : كم آتيناهم من آية بيِّنةٍ ، وكفروا بها ، ويدلُّ على هذا الإضمار قوله : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } .
فصل
اعلم أنَّه ليس المقصود اسأل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات لتعلمها؛ لأنه - عليه السلام - كان علاماً بها بإعلام الله له ، وإنما المقصود المبالغة في الزَّجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى ، فهو سؤالٌ على جهة التَّقريع والتَّوبيخِ؛ لأنه أمر بالإسلام ، ونهى عن الكفر بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } [ البقرة : 208 ] ثم قال : { فَإِن زَلَلْتُمْ } [ البقرة : 209 ] أي : أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد ، بقوله : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 209 ] ، ثم هدَّدهم بقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملاائكة } [ البقرة : 210 ] ، ثم ثلَّث التهديد بقوله : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ } يعني هؤلاء الحاضرين كم آتينا أسلافهم آيات بيناتٍ فأنكروها ، فلا جرم استوجبوا العقاب ، وهذا تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلُّوا عن آيات الله ، لوقعوا في العذاب .
وفي المراد ب « الآية البيِّنة » قولان :
أحدهما : معجزات موسى - عليه السلام - كما تقدَّم نحو : فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، ونتق الجبل ، وتكليم الله تعالى موسى - عليه السلام - والعصا ، واليد البيضاء ، وإنزال التوراة ، وبيّن لهم الهدى من الكفر .
وقيل : المراد بالآية الحجَّة ، والدلالة التي آتاهم ، التوراة ، والإنجيل على نبوة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وصدقه ، وصحَّة شريعته .

قوله : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } « مَنْ » شرطية في محلِّ رفع بالابتداء ، وقد تقدَّم الخلاف في خبر اسم الشرط ما هو؟ ولا بدَّ للتبديل من مفعولين : مبدَّل وبدل ، ولم يذكر هنا إلاَّ أحدهما وهو المبدِّل ، وحذف البدل ، وهو المفعول الثاني؛ لفهم المعنى ، وقد صرَّح به في قوله : { بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } [ إبراهيم : 28 ] فكفراً هو المحذوف هنا . وقد تقدَّم عند قوله تعالى : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } [ البقرة : 59 ] أن « بَدَّل » يتعدَّى لاثنين : أحدهما بنفسه ، وهو البدل ، وهو الذي يكون موجوداً ، وغلى الآخر بحرف الجر ، وهو المبدَّل ، وهو الذي يكون متروكا ، وقد يحذف حرف الجرِّ لفهم المعنى ، فالتقدير هنا : « وَمَنْ يُبَدِّلْ بنعمتِهِ كُفْراً » ، فحذف حرف الجر والبدل لفهم المعنى . ولا جائز أن تقدِّر حرف الجر داخلاً على « كُفْراً » فيكون التقدير : « وَمَنْ يُبَدِّلْ بِالكُفْرِ نِعْمَةَ اللَّهِ » ؛ لأنه لا يترتَّب عليه الوعيد في قوله : { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } . وكذلك قوله تعالى : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] تقديره : بسيئاتهم حسناتٍ ، ولا يجوز تقديره : « سَيِّئاتِهِم بحسناتٍ » ؛ لأنه لا يترتَّب على قوله : « إلا مَنْ تَابَ » .
وقرئ : « يُبْدِلُ » مخففاً ، و « مِنْ » لابتداء الغاية و « مَا » مصدرية ، والعائد من جملة الجزاء على اسم الشرط محذوف؛ لفهم المعنى ، أي : شديد العقاب له ، أو لأنَّ « أَلْ » نابت منابه عند الكوفيين .
قال القرطبيُّ : وهذا اللفظ عامٌّ لجميع المكلَّفين ، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل لكونهم بدَّلوا ما في كتبهم ، وجحدوا أمر محمد - عليه السلام - ، فاللَّفظ مستحب على كلِّ مبدِّل نعمة الله تعالى .
فصل
فالنِّعمة هاهنا إيتاء الآيات والدلائل؛ لأنها أعظم نعم الله ، لإإنها أسباب الهدى والنَّجاة من الضَّلالة ، وعلى هذا ففي تبديلهم إيَّاها وجهان :
فمن قال : المراد بالآيات ما في التوراة والإنجيل من دلائل معجزات موسى - عليه الصلاة والسلام - قال : تبديلها أنَّ الله تعالى لمَّا أظهرها لتكون أسباباً لضلالهم ، فجعلوها أسباباً لضلالهم ، كقوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] .
ومن قال : المراد بالآيات ما في التَّوراة والإنجيل من دلائل نبوَّة محمَّد - عليه السلام - قال : تبديلها تحريفها ، وإدخالها الشُّبهة فيها .
والقول الثاني : أنَّ النعمة هي ما أتاهم الله من الصِّحَّة ، والأمن ، والكفاية ، فتركوا القيام بما وجب عليهم من العلم بتلك الآيات .
وقوله : { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ } ، أي : من بعد التمكُّن من معرفتها ، أو من بعدما عرفها؛ كقوله : { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 75 ] إن فسرنا النعمة بالقول الأول ، وإن فرسنا النعمة بالصحة والأمن ، فلا شك أن عند حصولها يجب الشكر ، ويقبح الكفر ، فلهذا قال : { } .
وقال الطَّبريُّ : النعمة هنا الإسلام .
وقال الواحديُّ - رحمه الله - : وفيه إضمارٌ والمعنى شديد العقاب له .
قالعبد القاهر النَّحويُّ في كتاب « دَلاَئِل الإعْجَازِ » : إنّ ترك هذا الإضمار أولى؛ لأنَّ المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفاً بأنه شديد العقاب لهذا أو لذاك ، ثم قال الواحديُّ : والعقاب عذابٌ يعقب الجرم .
قال القرطبيُّ : مأخوذٌ من العقب ، كأنَّ المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه ، ومنه عقبة الراكب [ وعُقْبَة القِدْر ] .

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

قوله تعالى : « زُيِّنَ » : إنَّما لم تلحق الفعل علامة تأنيثٍ لوجوهٍ :
أحدها : قال الفرَّاء : لأنَّ الحياة والإحياء واحدٌ ، فإن أُنِّثَ ، فعلى اللَّفظ ، وبها قرأ ابن أبي عبلة ، وإن ذُكِّر ، فعلى المعنى؛ كقوله : { مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } [ البقرة : 275 ] { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة } هود : 67 ] .
وثانيها : قال الزَّجَّاج : إنَّ تأنيث الحياة ليس بحقيقي؛ لأنَّ معنى الحياة والعيشِ والبقاء واحدٌ ، فكأنه قال : « زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا البَقَاءُ » .
وثالثها : قال ابن الأنباري : إنما لم يقل زيِّنت؛ لأنه فصل بين « زُيِّنَ » وبين الحياة الدنيا بقوله : « للذين كَفَرُوا » ، وإذا فصل بين فعل المؤنث ، وبين الاسم بفاصلٍ حَسُنَ تذكير الفعل؛ لأنَّ الفاصل يغني عن تاء التأنيث ، وقرأ مجاهد وأبو حيوة : « زَيَّنَ » مبنياً للفاعل ، و « الحياةَ » مفعول ، والفاعل هو الله تعالى عند الأكثرين ، وعند الزجاج والمعتزلة يقولون : إنه الشيطان .
وقوله : « يَسْخَرُون » يحتمل أن يكون من باب عطف الجلمة الفعلية على الجملة الفعلية ، لا من باب عطف الفعل وحده على فعل آخر ، فيكون من عطف المفردات؛ لعدم اتِّحاد الزمان .
ويحتمل أن يكون « يَسْخَرُون » خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يسخرون ، فيكون مستأنفاً ، وهو من عطف الجملة الاسمية على الفعلية . وجيء بقوله : « زُيِّن » ماضياً؛ دلالةً على أنَّ ذلك قد وقع ، وفرغ منه ، وبقوله : « وَيَسْخَرُونَ » مضارعاً؛ دلالة على التَّجَدُّد ، والحدوث .
قوله : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ } مبتدأ وخبر ، و « فَوْقَ » هنا تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون ظرف مكانٍ على حقيقتها؛ لأنَّ المتقين في أعلى علِّيِّين ، والكافرين في أسفل السَّافلين .
والثاني : أن تكون الفوقية مجازاً : إمَّا بالسنبة إلى نعيم المؤمنين في الآخرة ، ونعيم الكافرين في الدنيا . وإمّا أنّ حجة المؤمنين في القيامة فوق حجَّة الكافرين ، وإمَّا أن سخرية الؤمنين لهم في الآخرة ، فوق سخرية الكفار لهم في الدنيا .
و « يوم » منصوبٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به « فَوْفَهُمْ » وقوله : { مِنَ الذين آمَنُواْ } ثم قال : { والذين اتقوا } لتبيين أنَّ السعادة الكبرى لا تحصل إلاَّ للمؤمن التَّقيّ .
فصل
قال ابن عبَّاسِ : نزلت في كفَّار قريشٍ ، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد الله بن مسعودٍ ، وعمَّارٍ ، وخبَّابٍ ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة ، وعامر بن فهيرة ، وأبي عبيدة بن الجرَّاح ، وصهيبٍ ، وبلالٍ ، بسب ما كانوا فيه من الفقر ، والصَّبر على أنواع البلاء ، مع ما كان الكُفَّار فيه من النَّعيم ، والرَّاحة ، وبسط الرِّزق .
وقال عطاءٌ : نزلت في رؤساء اليهود ، وعلمائهم ، من بني قريظة ، والنَّضير ، وبني قينقاع؛ سخروا من فقر المسلمين المهاجرين حيث أُخرجوا من ديارهم ، وأموالهم ، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنَّضير بغير قتالٍ .

وقال مقاتلٌ : نزلت في المنافقين كعبد الله بن أُبيٍّ ، وأصحابه؛ كانوا يتنعّمون في الدّنيا ، ويسخرون من ضعفاء المسلمين ، وفقراء المهاجرين ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم .
قال ابن الخطيب : ولا مانع من نزلها في جميعهم .
روى أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا المَسَاكِينَ ، وَوَقَفْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ ، وَإنَّ أَهْلَ الجَدِّ مَحْبُوسُونُ إِلاَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَقَدْ أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ »
وروى سهل بن سعدٍ السَّاعديّ ، قال : « مرَّ رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالسٍ : » مَا رَأَيُكَ في هَذَا « فقال هذا رجل من أشراف النَّاس ، هذا والله حريٌّ إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفَّع ، قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرَّ رجُلٌ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَا رَأْيُكَ في هَذَا « ؟ فقال : يَا رسولَ الله ، هذا من فقراء المسلمين ، هذا حَرِيٌّ إن خطب ألاّ ينكح وإن شفع ألا يشفَّع ، وإن قال لا يسمع لقوله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هذا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْل هَذَا «
وروي عن عليٍّ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : » مَنِ اسْتَدَلَّ مَؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً ، أَوْ حَقَّرَهُ لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ذَات يَدِهِ ، شَهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، ثُم فَضَحَهُ ، وَمَنْ بَهَت مُؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً ، أَوْ قَالَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَقَامَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تَلٍّ مِنْ نَارٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ فِيه . . . «
فصل
قال الجُبَّائيُّك المزيِّن هم غواة الجن ، والإنس؛ زينوا للكفار الحرص على الدُّنيا ، وقبَّحوا أمر الآخرة .
قال : وأمَّا قول المجبّرة : إنَّ الله تعالى زيَّن ذلك فهو باطلٌ ، لأنَّ المزيِّن للشيء كالمخبر على حسنه ، فإن كان صادقاً ، فيكون ما زينه حسناً ، ويكون فاعله مصيباً ، وذلك يوجب أنَّ الكافر مصيبٌ في كفره ، وهذا القول كفرٌ ، وإن كان كاذباً في ذلك التزيين ، فيدي إلى أن لا يوثق بخبره ، وهذا - أيضاً - كفرٌ ، فثبت أنَّ المزيِّن هو الشيطان .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيفٌ ، لأنَّ قوله : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } يتناول جميع الكُفَّار ، وهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مُزَيِّن ، فلا بدَّ وأن يكون ذلك المزيِّن مغايراً لهم؛ لأنَّ غواة الجنِّ والإنس داخلون في الكفار أيضاً ، إلاَّ أن يقال : إن كلَّ واحدٍ يزيِّن للآخرة فيصير دوراً ، فثبت ضعف هذا التأويل .
وأمَّا قوله : » المُزَيِّنُ للشَّيْءِ كالمخبر عن حُسْنِه « فهذا ممنوع ، بل المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالزينة ، ثم لئن سلَّمنا أنَّ المزين للشيء هو المبخر عن حسنه بمعنى أنه أخبر عمَّا فيها من اللَّذَّات والراحات ، وذلك الإخبار ليس بكذبٍ ، وتصديقه ليس بكفرٍ .

وقال أبو مسلمٍ : يحتمل أنهم زيَّنوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم : أين يذهب بك؟ لا يريدون أنَّ ذابهاً ذهب به ، وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة : { أنى يُؤْفَكُونَ } [ المائدة : 75 ] ، { أنى يُصْرَفُونَ } [ غافر : 69 ] إلى غير ذلك ، وأكّده بقوله : { لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ } [ المنافقون : 9 ] وأضاف ذلك إليهما؛ لمَّا كان كالسبب ولمَّا كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً ، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زيَّن لنفسه .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله : « زُيِّنَ للنَّاس » يقتضي أنَّ مزيِّناً زينه ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن .
التأويل الثالث : أنَّ المزيِّن هو الله تعالى ، ويدلُّ عليه وجهان :
أحدهما : قراءة من قرأ « زَيَّنَ » مبنيّاً للفاعل .
والثاني : قوله تعالى : { جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الكهف : 7 ] والقائلون بهذا ذكروا وجوهاً :
الأول : أنَّ هذا التزيين بما أظهره لهم في الدنيا من الزَّهرة والنضارة ، والطِّيب ، واللَّذَّة؛ ابتلاءً لعباده؛ كقوله : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات } [ آل عمران : 14 ] إلى قوله : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ } [ آل عمران : 15 ] .
وقال : { المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } [ الكهف : 46 ] ثم قال : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] فهذه الآيات متوافقة ، والمعنى : أنَّ الله تعالى جعل الدُّنيا دار بلاءٍ وامتحانٍ ، وركَّب في الطِّباع الميل إلى اللذات ، وحبّ الشهوات ، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردِّها عنه؛ ليتمَّ بذلك الامتحان ، وليجاهد المؤمن هواه ، فيقبض نفسه عن المباح ، ويكفّها عن الحرام .
الثاني : أنَّ المراد ب « التَّزَيِينِ » أنه أمهلهم في الدنيا ، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها ، والحرص في طلبها ، فهذا الإمهال هو المسمى ب « التزيين » .
الثالث : أنَّه زيَّن لهم المباحات دون المحظورات ، وعلى هذا سقط الإشكال ، إلاّ أنَّ هذا ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى خصَّ الكفَّار ، وأيضاً فإنَّ المؤمن إذا تمتع بالمباحات ، وكثرة ماله ، يكون متعته مع الخوف من الحساب في الآخرة فعيشه مكدَّرٌ منغَّصٌ وأكبر غرضه أجر الآخرة ، إنما يعدُّ الدنيا كالوسيلة إليها ، ولا كذلك الكافر ، فإنَّه وإن قلَّت ذات يده ، فسروه ، بها يغلب على قلبه لاعتقاده أنها المقصود دون غيرها .
وأيضاً ، فإنَّه تعالى أتبع الآية بقوله : { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ } وذلك يشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في ترك اللَّذات المحظورة ، وتحملهم المشاقَّ الواجبة ، فدلَّ ذلك على أنَّ التزيين لم يكن في المباحات .
قال ابن الخطيب : ويتوجَّه على المعتزلة سؤال ، وهو أنَّ حصول هذه الزينة في قلوب الكفَّار لا بدَّ له من محدث ، وإلا فقد وقع المحدث ، لا عن مؤثر فهذا محال ، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار إمَّا أن يكون قد رجَّح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة ، فقد زال الاختيار ، لأنَّ حال الاستواء لمَّا امتنع حصول الرُّجحان ، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحاً أولى بامتناع الوقوع ، وإذا صار المرجوح ممتنع الوقوع ، صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنَّه لا خروج عن النقيضين ، فهذا توجيه السؤال ، وهو لا يدفع بالوجوه التي ذكرها المعتزلة ، فأمّا أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنَّ الله تعالى خلق في قلبه إرادة تلك الأشياء ، بل خلق تلك الأفعال ، والأقوال .

قوله تعالى : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } مفعول « يَشَاءُ » محذوف ، أي : من يشاء أن يزرقه ، و « بِغيرِ حِسَابٍ » هذا الجارُّ فيه وجهان :
أحدهما : أنه زائدٌ .
والثاني : أنه غير زائدٍ ، فعلى الأول لا تعلُّق له بشيءٍ ، وعلى الثاني هو متعلِّق بمحذوفٍ ، فأما وجه الزيادة : فهو أنه تقدَّمه ثلاثة أشياء في قوله : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } الفعل والفاعل والمفعول ، وهو صالحٌ لأن يتعلَّق من جهة المعنى بكلِّ واحدٍ منها ، فإذا تعلَّق بالفعل كان من صفات الأفعال ، تقديره : والله يرزق رزقاً غير حساب ، أي : غير ذي حساب ، أي : أنه لا يحسب ولا يحصى لكثرته ، فيكون في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، والباء زائدةٌ .
وإذا تعلَّق بالفاعل ، كان من صفات الفاعلين ، والتقدير : والله يرزق غير محاسب بل متفضلاً ، أو غير حاسبٍ ، أي : عادٍّ . ف « حساب » واقعٌ موقع اسم فاعل من حاسب ، أو من حَسَبَن ويجوز أن يكون المصدر [ واقعاً موقع اسم مفعولٍ من حاسب ، أي : الله يرزق غير محاسبٍ ] أي : لا يحاسبه أحدٌ على ما يعطي ، فيكون المصدر في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل ، والباء فيه مزيدةً .
وإذا تعلَّق بالمفعول ، كان من صفاته أيضاً ، والتقدير : والله يرزق من يشاء غير محاسب ، أو غير محسوب عليه ، أي : لا يعدُّ . فيكون المصدر أيضاً واقعاً موقع اسم مفعول من حاسب أو حسب ، أو يكون على حذف مضاف ، أي : غير ذي حساب ، أي : محاسبة ، فالمصدر واقع موقع الحال والباء - أيضاً - زائدة فيه ، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى أنه يرزق من حيث لا يحتسب ، أي : من حيث لا يظنُّ أن يأتيه الرزق ، والتقدير : يرزقه غير محتسب ذلك ، أي : غير ظانٍّ له ، فهو حال أيضاً ، ومثله في المعنى { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 3 ] . وكون الباء تزاد في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةٌ ، كقوله : [ الوافر ]
1036 - فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رَكَابٌ ... حَكِيمٌ بْنُ المُسَيِّبِ مُنْتَهَاهَا
وهذه الحال - كما رأيت - غير منفيةٍ ، فالمنع من الزيادة فيها أولى .
وأمَّا وجه عدم الزيادة ، فهو أن تجعل الباء للحال والمصاحبة ، وصلاحية وصف الأشياء الثلاثة - إني الفعل ، والفاعل ، والمفعول - بقوله : « بغير حساب » باقية أيضاً ، كما تقدَّم في القول بزيادتها .

والمراد بالمصدر المحاسبة ، أو العدُّ والإحصاء ، أي : يرزق من يشاء ، ولا حساب على لارزق ، أو ولا حساب للرازق ، أو ولا حساب على المرزوق ، وهذا أولى؛ لما فيه من عدم الزيادة ، التي الأصل عدمها ، ولما فيه من تبعيةَّة المصدر على حاله ، غير واقعٍ موقع اسم فاعل ، أو اسم مفعولٍ ، ولما فيه من عدم تقدير مضافٍ بعد « غير » أي : غير ذي حساب . فإذاً هذا الجارُّ ، والمجرور متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لوقوعه حالاً من أيِّ الثلاثة المتقدِّمة شئت؛ كَما تقدَّم تقريره ، أي : ملتبساً بغير حساب .
فصل
يحتمل أن يكون المراد منه : ما يعطي في الدنيا لعبيده المؤمنين والكافرين ، ويحتمل أن يكون المراد منه : رزق الآخرة ، فإن حملناه على رزق الآخرة ، كان مختصاً بالمؤمنين ، وهو من وجوه :
أحدها : أنَّ الله يرزقهم بغير حسابٍ ، أي : رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له؛ لأنَّ كلَّ ما دخل تحت الحساب ، فهو متناهٍ .
وثانيها : أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب ، وبعضها تفضل؛ كام قال : { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } [ النساء : 173 ] فالفضل منه بلا حساب .
وثالثها : أنه لا يخاف نفادها عنده؛ فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه؛ لأن المعطي إنَّما يحاسب ، ليعلم مقدار ما يعطى وما يبقى كي لا يتجاوز في عطاياه إلى ما لا يجحف به ، والله عالم غني ، لا نهاية لمقدوراته .
ورابعها : « بِغَيْرِ حِسَاب » ، أي : بغير استحقاقٍ؛ يقال : لفلان على فلانٍ حسابٌ؛ إذا كان له عليه حق ، وهذا يدلُّ على أنَّه لا يستحق أحدٌ عليه شيئاً ، وليس لأحدٍ معه حساب ، بل كلُّ ما أعطاه ، فهو مجرّد فضل وإحسانٍ ، لا بسبب استحقاق .
وخامسها : « بِغَيرِ حِسَابٍ » ، أي : يعطي زائداً على الكفاية؛ يقال : فلان ينفق بغير حساب ، أي : يعطي كثيراً؛ لأن ما دخله الحساب فهو قليل .
وهذه الوجوه كلُّها محتملة ، وعطايها الله بها منتظمة ، فيجوز أن يكون الكلُّ مراداً والله أعلم .
فإن قيل : قد قال الله - تعالى - في صفة المتقين ، وما يصل إليهم : { عَطَآءً حِسَاباً } [ النبأ : 36 ] على المستحقِّ بحسب الوعد؛ كما هو قولنا ، وبحسب الاستحقاق ، كما هو قول المعتزلة ، فالسؤال : وهذا كالمناقض لهذه الآية .
فالجواب : من حمل قوله : « بِغَيْرِ حِسَابٍ » على التفضُّل ، وحمل قوله : « عَطَاءً حِسَاباً » على المستحق بحسب الوعد ، كماهو قولنا ، وبحسب الاستحقاق ، كما هو قول المعتمزلة ، فالسؤال زائل ، وَمَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ : « بغير حساب » على سائرِ الوجوه ، فله أنْ يقول : إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقاتِ ، فَصَحَّ من هذا الوجه أَنْ يُوصَف بكونه : « عَطَاءً حِسَاباً » فلا تناقض ، وإن حملناه على أرزاق الدنيا ، ففيه وجوه :
أحدها ، وهو أَلْيَقُ بِنَظم الآية ، أنَّ الكفارَ كان يَسْخرونَ من فقراء المسلمين؛ لأنهم كانوا يستدلُّون بحصولِ السعاداتِ الدنيوية ، على أنهم على الحقِّ ، وبحرمان فقراء المسلمين على أنهم على الباطل؛ فأَبطل تعالى استدلالهُم بقوله : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني : يُعْطِي في الدنيا مَنْ يشاءُ من غير أَنْ يكونَ ذلك مُنْبئاً عن كون المُعْطى مُحِقّاً أَوْ مُبْطِلاً ، بل بِمَحْضِ المَشِيئَةِ؛ كَمَا وَسَّعَ على قَارون وضيَّق على أَيُّوب - عليه السلام - فقد يُوسِّع على الكافر ، ويضيقُ على لامؤمن؛ ابتلاءً وامتحاناً؛ كما قال

{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ } [ الزخرف : 33 ] .
وثانيها : أَنَّ اللَّهَ يرزقُ مَنْ يشاءُ في الدنيا : مِنْ كافرٍ ، ومُؤْمنٍ بغير حسابٍ يكون لأحدٍ عليه ولا مُطَالبة ، ولا تبعةٍ ، ولا سؤال سائل .
والمقصود منه : أَلاَّ يقولَ الكافِر : إِنَّ المؤمن على الحق فَلِمَ لَمْ يُوَسَّع عليه في الدنيا؟ وألاَّ يقولَ المؤمُن : لو كانَ الكافرُ مُبطلاً ، فلِمَ يُوَسَّعُ عليه في الدنيا؟ بل الاعْتِراضُ ساقطٌ؛ و { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] .
وثالثها : بغير حساب أي : مِنْ حيثُ لا يحتسِب؛ كما يقولُ مَنْ جاءه مَا لَمْ يكنْ في قلبه : لَمْ يَكُن هذا حسابي .
قال القفَّال - رحمه الله - : وَقَدْ فعل ذلك بهم ، فَأَغْنَاهُم بما أَفَاءَ عليهم مِنْ أَمْوالِ صَنَادِيدِ قُرَيش ورُؤَساءِ اليهود ، وبما فتح على رسوله ، بعد وفاته على أَيْدِي أصحابه ، حتى ملكوا كُنوز كِسرَى ، وقَيصر .

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

وجه النظْمِ أنه لما بيَّن أن سبب إصرار الكُفَّار على كُفرهم ، هو حُبُّ الدنيا بين في هذه الآية أَن هذا المعنى غير مُختص بهذا الزمان ، بل كان حاصلاً في الأَزْمِنة المُتَقادِمة ، فَإِنَّهم كانوا أُمةً واحدة على الحق ، ثم اختلفُوا ، وما كان اختلافُهم إِلاَّ بسبب البغي ، والتحاسُد ، والتَّنَازُع في طلب الدنيا .
قال القفَّال : « الأُمَّةُ » هم المجتمعون على الشَّيء الواحد ، يَقتدي بعضُهم ببعض؛ مأخوذٌ من الائتمام .
ودَلَّتِ الآيةُ على أَنَّ الناس كانت أُمَّةً واحدةً ، ولم تدلَّ على أَنَّهُم كانوا أُمَّةً وَاحدةً : في الحقِّ ، أم في الباطل .
فصل في معاني كلمة « أمة »
قد جاءت الأمة على خمسة أَوْجُهٍ :
الأوَّل : « الأُمَّةُ » المِلَّة ، كهذه الآية ، أي : مِلَّة واحدة ، ومثله : { وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ المؤمنون : 52 ] أي : مِلتكُم .
الثاني : الأُمَّةُ الجماعة؛ قال تعالى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق } [ الأعراف : 181 ] أي : جماعةٌ . :
الثالث : الأُمَّةُ السنين؛ قال تعالى : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } [ هود : 8 ] ، أي : إلى سنين معدودةٍ ، ومثله « وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ » أي : بعد سنين .
الرابع : بمعنى إمامٍ يُعلِّمُ الخير؛ قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ } [ النحل : 120 ] .
الخامس : الأُمَّةُ : إحدى الأُمم؛ قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] ، وباقي الكلام على ذلك يأتي في آخرِ « النحل » عند قوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] .
فصل في المراد بالأمة ، وهل كانوا على الحق؟ ومتى اختلفوا؟
واختلف المفسِّرثون على خمسة أقوالٍ :
القول الأول : أنهم كانوا على الحقِّ ، وهو قول أكثر المحققين؛ قال القفَّالُ : لأَنَّهُ تعالى قال بعده : { فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } ف « الفاء » في قوله : « فَبَعَثَ اللَّهُ » تَقْتَضِي أنْ يكونَ بعثهم بعد الاختلافِ ، فلو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر لكانت بعثة الرسل قبل الاختلاف أولى؛ لأَنَّهُم لما بعثوا ، وبعضُ الأُمَّة محقٌّ وبعضهم مُبطلٌ فلأَنْ يبعثوا عند كون الجميعِ على الكفر أولى .
وأيضاً فإن آدم - عليه السَّلام - لما بُعِث إلى أولاده ، كانوا مُسلمين مطيعين ، ولم يحدث بينهم اختلافٌ في الدِّين ، إلى أَنْ قتلَ قَابيلُ هابيل؛ بسبب الحسدِ والبَغِي ، وهذا ثابتٌ بالتواتر ، فإِنَّ الناس - وهم : آدَمَ وَحَوَّاء ، وأولادهما - كانوا أُمَّةً واحدةٌ على الحق ، ثُم اختلفُوا؛ بسبب البغي ، والحسد ، كما حكى الله تعالى عن ابني آدم بالحق { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } [ المائدة : 27 ] وأيضاً قوله - عليه السلام - : « كُلُّ مَوْلُودٍ يولَدُ على الفِطْرة؛ فأَبواهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو يُنصرانه أو يُمَجِّسانه » فدلَّ ذلك على أَنَّ المولود لو تُرِك مع فِطْرته الأَصلية ، لما كان على شَيْءٍ من الأَدْيان الباطلة ، وأَنَّه إِنَّما يُقدمُ على الدين الباطل ، لأسبابٍ خارجية .

وقال الكلبيُّ : هُم أهلُ سفينةِ نُوح ، لما غرقت الأرض بالطوفانِ ، لم يَبْقَ إلاَّ أَهْلُ السفينة على الحق ، والدِّين الصَّحيحن ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ وهذا مما ثَبَتَ بالتَّواتر .
وقال مُجاهدٌ : أراد آدَمَ وحده ، وكان أُمَّةً واحدة ، وسَمَّى الواحد بلفظ الجمع؛ لأَنَّهُ أَصلُ النّسل ، وأبُو البشر ، وخلق اللَّهُ منه حَوَّاءَ ، ونشر منها الناس .
قال قتادةُ وعكرمةُ : كان الناسُ مِنْ وقت آدمَ إلى مبعث نُوح ، وكان بينهما عشرةُ قرون كُلُّهم على شريعةٍ واحدةٍ من الحق ، والهُدَى ، ثم اختلفُوا في زمن نوح - عليه السلام - فبعث اللَّهُ إليهم نُوحاً ، وكان أَوَّل بني بُعثَ .
وحَكَى القرطبيُّ : قال ابنُ أبي خيثمة : منذ خلق اللَّهُ آدم - عليه السلام - إلى أن بعث اللَّه محمداً - صلى الله عليه وسلم - خمسةُ آلافِ سنة وثمانمائة سنة ، وقيل : أكثر من ذلك ، وكان بينه وبين نُوحٍ ألفُ سنة ومائتا سنة ، وعاش آدم تسعمائة وستين سنة ، وكان الناس في زمانه أمةً واحدة ، على مِلَّةٍ واحدة متمسكين بالدِّين ، تُصافحُهم الملائكة ، ودَامُوا على ذلك إلى أَن رُفِعَ إدريس - عليه السلام - فاختلفُوا .
قال : وهذا فيه نظر؛ لأَنَّ إدريس بعد نُوحٍ على الصحيح .
وقيل : كان العربُ على دين إبراهيم إلى أَنْ غيّره عمرو بن لُحَيٍّ .
وروى أبو العالية ، عن أُبِيٍّ بن كعبٍ قال : « كان النَّاسُ حين عُرِضُوا وأُخرِجُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ ، وأَقرُّوا أُمَّةً واحدة مُسْلِمين كلهم ، ولم يكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَطّ غيرَ ذلك اليومِ ، ثم اختَلَفُوا آدَمَ .
القول الثاني : أَنَّهُم كانُوا أُمَّةً واحدة في الكُفر ، وهو قولُ ابنِ عَبَّاسٍ ، وعطاء ، والحسن .
وقال الحسن وعطاء : كان الناس من وَقْتِ وَفَاةِ آدمَ إلى مبعثِ نُوحٍ أُمَّةً واحدة على مِلَّةِ الكُفرِ؛ أَمثَال البَهَائِم ، فَبَعثَ اللَّه إبراهيم - عليه السَّلام - وغيرُ من النبيين ، واستدلُّوا بقوله : { فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } وهو لاَ يَليقُ إلا بذلك .
وجوابه ما بينا : أَنَّ هذا لا يليقُ بضده ، ثم اختلف القائلُون بهذا القول : مَتَى كانوا مُتّفقين على الكُفر على ما قَدَّمنا ثُمَّ سأَلُوا أَنفسهم سُؤالاً وقالوا : أليس فيهم مَنْ كان مُسْلماً كهابيل ، وشيث ، وإدريس .
وأجابوا : بِأنَّ الغالب كان هو الكُفْر ، والحُكْمُ للغالب ، ولا يعتدُّ بالقليل في الكثير كما لا يعتدُّ بالشعير القليل في البر الكثير ، فقد يقال : دار الإسلام ، وإِنْ كان فيها غيرُ المسلمين ، ودارُ الحرب وإن كان فيها مُسلمون .
الثالث : قال أبو مُسلمٍ : كانوا أُمَّةً واحدة في التمسُّك بالشرائع العقلية ، وهي الاعترافُ بوجود الصانع ، وصِفاتِهِ ، والاشتغالُ بخدمته ، وشُكْرِ نعمه ، والاجتناب عن القبائح العقليَّة كالظُّلم ، والكذب ، والجهل ، والعبث ، وأمثالها .
واحتجَّ القاضي على صِحَّةِ قوله : بِأَنَّ لفظ النَّبيين يفيدُ العُمُومَ والاستغراقَ ، وحرف » الفاء « يُفيدُ التَّراخي ، فقوله { فَبَعَثَ الله النبيين } يفيد أنَّ بعثةَ الأنبياء كانت مُتأخرة عن كون الناس أُمَّةً واحدة ، فتلك الواحدةُ المتقدمةُ على بعثة جميع الشرائع ، لا بُدَّ وأَنْ تكون واحدة في شرعة غير مُسْتفَادٍ من الأَنبياء فواجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بَيَّنَّاهُ ، وأيضاً فالعلم بحسن شُكر المُنْعِم ، وطاعة الخالق ، والإحسان إلى الخَلْقِ ، العَدلُ؛ مُشْتَركٌ فيه بين الكُلّ ، والعِلْمُ يُقبح الكذب ، والظِّلم ، والجهْل ، والعبث ، وأمثالها مشترك فيه بين الكل ، فالأظهر أَنَّ الناس كانُوا في أَوَّل الأمر على ذلك ، ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ لأَسباب منفصلة ، ثم قال : فإنْ قيل : أليس أوَّل الإسلام آدَم - عليه الصلاة والسلام - مع أولاده كانوا مُجتمعين على التَّمسك بالشرائع العقلية أَوَّلاً ، ثم إِنَّ اللَّهَ تعالى بعثهُ بعد ذلك إلى أولاده ، ويُحْتَملُ أَنْ صار شرعُهُ مندرِساً ، بعد ذلك ، ثم رجع الناسُ إلى الشرائعِ العقلية؟
قال ابنُ الخطيب : وهذا القولُ لا يصحُّ إلاَّ بعد تحسين العقل ، وتقبيحه ، والكلام فيه مشهور .

القول الرابع : أنَّ الآية دلَّت على أَنَّ الناس كانوا أُمَّةً واحدة ، وليس فيها أَنَّهم كانوا على الإيمان ، أو على الكُفر ، فهو موقوفٌ على الدَّليل .
القول الخامس : أَنَّ المراد ب « النَّاسِ » هنا أهْلُ الكتاب مِمَّن آمَنَ بِمُوسَى - عليه السلام - وذلك لأَنَّا بينا أَنَّ هذه الآية متعلقةٌ بما تقدم من قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] وذكرنا أَنَّ كثيراً من المفسرين زعمُوا أَنْ تلك الآية نزلت في اليهودِ؛ فقوله تعالى : { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : كان الذين آمنوا بموسى أُمَّةً واحدة على دين واحدٍ ، ثم اختلفُوا بسبب البغي ، والحسد؛ فبعثَ الله النبيِّين ، وهم الذين جاءُوا بعد موسى - عليه السلام - وأنزل معهم الكتاب كما بُعِث الزبور إلى دواد ، والإنجيل إلى عيسى ، والفرقانُ إلى محمد - عليه الصلاة والسلام - لتكون تلك الكتب حاكمةً عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها ، وهذا القولُ مطابقٌ لنظم الآية ، وموافقٌ لما قبلها وما بعدها ، وليس فيه إشكالٌ إلاَّ أَنَّ تخصيص لفظ الناس بقومٍ معينين خلاف الظَّاهر ، ويُعتذَرُ عنه بأن األفَ واللاَّمَ كما تكون للاستغراق ، فقد تكونُ أيضاً لِلْعَهد .
فصل في بيان لفظة « كان »
قال القرطبيُّ : لفظة « كَانَ » على هذه الأقوال على بابها من المُضِيّ المنقضي ، وكل من قدّر الناسَ في الآية مُؤمنين قدّر في الكلام : فاختلفُوا ، فبعث اللَّه ، ويدُلُّ على هذا الحذف قوله : { وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ } وكل مَنْ قَدَّرهم كُفَّاراً كانت بعثهُ النبيين إليهم ، ويحتملُ أن تكونَ « كان » لِلثّبُوت ، والمرادُ الإخبارُ عن الناس الذين هم الجِنْس كله : أنهم أمةٌ واحدةٌ من خُلُوِّهم عن الشرائع ، وجهلهم بالحقائق لولا أَنَّ اللَّهَ تعالى مَنَّ عليهم بالرسُل؛ تفضلاً منه؛ فعلَى هذا لا تختصُّ « كان » بالمُضِيِّ فقط ، بل يكونُ مَعناها كقوله تعالى :

{ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] وقوله : { فَبَعَثَ الله النبيين } قال بعضُ المفسرين : وجملتهم مائةٌ وأربعةُ وعشرون ألفاً ، والرسل منهم ثلاثمائةٍ وثلاثة عشر ، والمَذكُور في القرآنِ بأسمائِهم : ثمانيةَ عشر نَبِيّاً .
قوله تعالى : « مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرينَ » حالان من « النَّبِيِّنَ » . قيل : وهي حالٌ مُقارنةٌ؛ لأنَّ بعثَهُم كان وقت البشارةِ والنِّذار وفيه نظرٌ؛ لأنَّ البِشَارةَ والنِّذَارةَ [ بعدَ البعث . والظاهرُ أنها حالٌ مُقَدِّرَةٌ ، وقد تقدَّمَ معنى البشارة والنذارةِ ] في قوله : { أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا } [ يونس : 2 ] .
وقوله : « وَأَنْزَلَ مَعهُمُ » هذا الظرفُ فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتعلِّقٌ بأنزل . وهذا لا بُدَّ فيه مِنْ تأويل؛ وذلك أَنَّه يلزمُ مِنْ تعلُّقِه بأنزل أَنْ يكون النبيون مصاحبين للكتاب في الإِنزال ، وهم لا يُوصَفُون بذلك؛ لعدمه فيهم .
وتأويلُهُ : أنَّ المراد بالإِنزال الإِرسالُ ، لأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عنه ، كأنَّهُ قيل : وأرسل معهم الكتاب فتصحُّ مشاركتهم له في الإِنزالِ بهذا التَّأويل .
والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من الكتاب ، وتكونُ حالاً مُقدرةً ، أي : وأنزل مقدِّراً مصاحبته غياهم ، وقدَّره أبو البقاء بقوله : « شَاهِداً لَهُمْ وَمُؤيِّداً » ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ .
والألِفٌ واللامُ في « الكِتَابِ » يَجُوزُ أَنْ تكونَ للعهدِ ، بمعنى أَنَّه كتابٌ معينٌ؛ كالتوراة مثلاً ، فإنها أنزلِت على مُوسى ، وعلى النَّبيِّين بعده؛ بمعنى أنَّهَم حَكَموا بها ، واستدامُوا على ذلك ، وأَنْ تكونَ للجنس ، أي : أنزل مع كلِّ واحدٍ منهم من هذا الجنس .
قال القاضي : ظاهرُ الآيةِ يدلُّ على أَنَّه لا نَبيَّ إِلاَّ ومعه كتابٌ ، أنزل فيه بيانُ الحق : طال ذلك الكتابُ ، أم قصُرَ ، ودُوِّنَ ، أَو لَمْ يُدَوَّن ، وكان ذلك الكتابُ مُعجزاً ، أَمْ لم يكن .
وقيل : هو مفردٌ وُضِعَ موضع الجمع : أي وأَنزلَ معهم الكُتُبَ ، وهو ضعيفٌ .
وهذا الجُملة معطوفةٌ على قوله : « فَبَعَثَ » ولا يُقالُ : البشارةُ والنِّذارةُ ناشئةٌ عن الإِنزال فكيف قُدِّما عليه؟ لأَنَّا لا نُسَلِّم أنَّهما إنما يَكُونان بإنزال كتابٍ ، بل قد يكونان بوحي من اللَّهِ تعالى غير مَتلُوٍّ ولا مكتُوبٍ . ولئن سَلَّمنا ذلك ، فإنَّما قُدِّما ، لأنهما حالان من « النَّبيِّينَ » فالأَوْلَى اتِّصالهم بهم .
قوله : « بالحقِّ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكتاب - أيضاً - عند مَنْ يُجَوِّزُ تعدُّدَ الحال ، وهو الصحيحُ .
والثاني : أَنْ يتعلَّق بنفس الكتاب؛ لما فيه من معنى الفعلِ ، إذ المرادُ به المكتوبُ .
والثالث : أَنْ يتعلَّقَ بأنزلَ ، وهذا أول؛ لأنَّ جعله حالاً لا يَسْتَقِيم إِلاَّ أَنْ يكونَ حالاً مُؤكدةً ، إِذْ كُتُبُ اللَّهِ تعالى لا تكون ملتبسةً بالحقِّ ، الأصلُ فيها أَنْ تكونَ مْستقلَّةً ولا ضرورة بنا إلى الخروج عن الأصل ، ولأنَّ الكتاب جارٍ مَجرى الجوامد .

قوله : « لِيَحْكُمَ » هذا القول متعلقٌ بقوله : « أَنْزَلَ » : واللامُ لِلْعله ، وفي الفاعل المضمر في « لِيَحْكُمْ » ثلاثةُ أقوال :
أحدها : وهو أظهرها ، أنه يعودُ على اللَّهِ تعالى : لتقدُّمه في قوله : « فَبَعَثَ اللَّهُ » ولأنَّ نسبة الحُكْم إليه حقيقةٌ ، ويؤيِّده قراءةُ الجحدري فيما نقله عنه مكّي « لِنَحْكُمَ » بنون العظمة ، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى التكلُّم . وقد ظَنَّ ابنُ عطية أن مكياً غلط في نقل هذه القراءة عنه ، وقال : إنَّ الناسَ رَوَوْا عن الجَحْدَري : « لِيُحْكَمَ » على بناءِ الفعل للمفعول وفي « النُّورِ » موضعين هنا ، وفي « آل عمران » ولا ينبغي أن يُغَلِّطه؛ لاحتمال أَنْ يكون عنه قراءتان .
والثاني : أنه يعودُ على « الكِتاب » أي : ليحْكُم الكتابُ ، ونسبةُ الحُكْم إليه مجازٌ؛ كنسبةِ النُّطق إليه في قوله تعالى : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } [ الجاثية : 29 ] .
وقوله : { إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤمنين } [ الإسراء : 9 ] .
ونسبةُ القضاءِ إليه في قوله : [ الكامل ]
1037 - ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ المُنْزَلُ
ووجهُ المجاز : أنَّ الحُكم فيه؛ فنُسب إليه ، وقيل : إنه يعود على النَّبيِّ ، واستضعفه أبو حيَّان من حيثُ إفرادُ الضمير ، إذ كان ينبغي على هذا أن يجمع؛ ليطابق « النَّبيِّنَ » . ثُمَّ قال : وَمَا قاله جائِزٌ عَلَى أن يَعُودَ الضميرُ على إفراد الجمع ، على معنى : لِيَحْكُمَ كُلُّ نَبِيٍّ بكتابه .
و « بَيْنَ » مُتَعلِّقٌ ب « يَحْكُمْ » . والظَّرفيةُ هنا مجازٌ . وكذلك « فِيما اخْتَلَفُوا » مُتعلقٌ به أيضاً . و « مَا » موصولةٌ ، والمرادُ بها الدِّينُ ، أي : ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين ، بعد أَنْ كانُوا مُتفقين عيه . ويضعُفُ أَنْ يْرَادَ ب « ما » النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها لغير العقلاء غالباً . و « فِيهِ » متعلِّقٌ ب « اخْتَلَفُوا » ، والضميرُ عائدٌ على « ما » الموصولة .
قوله : { وَمَا اختلف فِيهِ } الضميرُ في « فِيهِ » أوجهٌ .
أظهرها : أنه عائدٌ على « ما » الموصولةِ أيضاً ، وكذلك الضميرُ في « أُوتُوهُ » وقيل : يعودان على الكتاب ، أي : وما اختلف في الكتابِ إِلاَّ الَّذين أُوتُوا الكتاب . وقيل : يعودان على النبيِّ ، قال الزَّجَّاجُ : أي : وما اختلف في النبيّ إِلاَّ الذين أُوتُوا عِلْمَ نبوَّته . وقيل : يعودُ على عيسى؛ للدلالة عليه .
وقيل : الهاءُ في « فِيهِ » تعود على « الحقِّ » وفي « أوتُوه » تعود على « الكتاب » أي : وما اختلف في الحقِّ إِلاَّ الذين أُوتُوا الكتاب .
فصل
والمراد باختلافهم يحتملُ معنيين :
أحدهما : تكفير بعضهم بعضاً؛ كقول اليهود : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ } [ البقرة : 113 ] أو قولهم { نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ }

[ النساء : 150 ] والآخر : تحريفهم وتبديلهم ، وهذا يدُلُّ على أَنَّ الاختلاف في الحقِّ لم يُوجد إِلاَّ بعد بعثة الأنبياء .
وإنزالِ الكتابِ ، وذلك يُوجِبُ أَنَّ قبل البعثة لم يكن الاختلاف في الحقِّ حاصلاً ، بل كان الاتفاق في الحق حاصلاً وهو يدل على أَنَّ قوله تعالى : { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } معناه أمه واجدة في دِينِ الحَقِّ .
وقوله : « مِنْ بعدِ » فيه وجهان :
أحدهما وهو الصحيحُ : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره : اختلفوا فيه من بعد .
والثاني : أن يتعلّق ب « اخْتَلَفَ » الملفوظ به ، وقال أبو البقاء : ولا تمنعُ « إلاَّ » من ذلك ، كما تقول : « ما قام إلاَّ زيدٌ يومَ الجُمُعَةِ » . وهذا الذي أَجازه أبُوا البقاء ، فيه كَلاَمٌ كثيرٌ للنُّحاة ، وملخَّصُه : أَنَّ « إِلاَّ » لا يُستَثْنَى بها شيئان دُونَ عطفٍ أَوْ بدليةٍ؛ وذلك أنَّ « إلاَّ » معدِّيةٌ للفعل ، ولذلك جاز تعلُّقُ ما بعدها بما قبلها ، فهي كواو مَعَ وهمزة التعدية ، البدليةِ كذلك « إِلاَّ » وهذا هو الصَّحِيحُ ، وإنْ كان بعضهم خالف . فإن وَرَدَ من لسانهم ما يوهم جواز ذلك يُؤَوَّل ، فمنه قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ } [ يوسف : 109 ] .
ثم قال « بِالْبَيِّناتِ » فظاهر هذا أَنَّ « بالبيناتِ » مُتَعلِّقٌ بأرسلنا ، فقد استُثْنِي ب « إلاَّ » شيئان ، أحدهما « رِجَالا » والآخرُ « بالبينات » .
وتأويلهُ أنَّ « بالبَيِّناتَ » متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، لئلا يلزم منه ذلك المحذورُ . وقد منع أبو الحسن ، وأبو عليّ : « مَا أخَذَ أَحَدٌ إِلاَّ زيدٌ دِرْهماً » و « ما ضربَ القومُ إلا بعضُهم بَعْضاً » واختلفا في تصحيحها ، فقال أبو الحسن : طريقُ تَصْحيحِها بأَنْ تُقَدِّم المرفوع الذي بعد « إِلاَّ » عليها ، فيقال : ما أخذَ أحدٌ زيدٌ إلا دِرْهَماً ، فيكونُ « زيدٌ » بدلاً من « أَحَدٌ » و « دِرْهَماً » مستثنى مفرغٌ من ذلك المحذوف ، تقديره : « ما أخذ أَحَدٌ زيدٌ شيئاً إلا دِرْهماً » .
وقال أبو عليٍّ : طريقُ ذلك زيادةُ منصوبةٍ في اللَّفظ فيظهرُ ذلك المقدَّرُ المستثنى منه ، فيقال : « ما أَخَذَ أحدٌ شيئاً إلا زيدٌ درهماً » فيكونُ المرفوع بدلاً من المرفوع ، والمنصوبُ بدلاً من المنصُوب ، وكذلك : ما ضَرَبَ القومُ أحداً إِلاَّ بعضُهم بعضاً .
وقال أبو بكر بن السَّرَّاج : تقولُ « أَعْطَيْتُ الناسَ دِرْهماً إلا عَمْراً » [ جائِزٌ . ولو قُلْتَ : « أعطيتُ الناسَ دِرْهَماً إلا عَمْراً ] الدنانير لم يَجُزْ ، لأنَّ الحرف لا يُسْتثنى به إِلاَّ واحِدٌ . فإنْ قُلْتَ : » ما أَعْطَيْتَ الناسَ دِرْهَماً إِلاَّ عَمْراً دَانِقاً « [ على الاستثناء لم يَجُزْ ، أَوْ على البدلِ جاز فَتُبدل » عمراً « من النَّاسِ ، و » دانِقاً « من » دِرْهماً « . كأنك قُلتَ : » ما أعطيتُ إلاَّ عَمْراً دانقاً ] يعني أنَّ الحصرَ واقعٌ في المفعولين .

قال بعض المُحقِّقين : « وما أجازه ابن السراج من البدل في هذه المسألة ، ضعيفٌ؛ وذلك أنَّ البدلَ في الاستثناء لا بُدَّ مِنْ مُقارنتِهِ ب » إلاَّ « ، فَأَشْبَهَ العطف ، فكما أَنَّهُ لا يقعُ بعد حرف العطف معطوفانِ ، لا يقعُ بعد إلاَّ بَدَلاَنِ » .
فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ ، وما قال الناسُ فيه ، كان إعرابُ أَبِي البقاء في هذه الآيةِ الكريمة ، مِنْ هذا الباب؛ وذلك أنه استثناءٌ مفرَّغٌ ، وقد وقع بعدَ « إلاَّ » الفاعلُ ، وهو « الَّذِينَ » ، والجارُّ والمَجرُور ، وهو « مِنْ بعد » ، والمفعولُ مِنْ أَجلِهِ ، وهو « بَغياً » فيكونُ كلٌّ منهما محصوراً . والمعنى : وما اختلفَ فيه إلا الذين أُوتوه إلاَّ منْ بعد ما جَاءَتْهُم البيناتُ إلا بَغياً . وإذا كان التقديرُ كذلك ، فقد استُثْنِي ب « إلاَّ » شيئان دُونَ الأولِ الذي هو فاعلٌ مِنْ غير عطف ولا بدليةٍ وهي مسألةٌ يكثر دورها؟
قوله : « بَغْياً » في نصبه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعولٌ من أجله ، لاستكمال الشُّرُوط ، وهو علةٌ باعثةٌ ، والعامِلُ فيه مُضمرٌ على ما اخترناه ، وهو الذي تُعلِّقُ به « فِيهِ » ، و « اخْتَلَفَ » الملفوظُ به عند من يرى أنَّ « إلاَّ » يُستثنى بها شيئان .
والثاني : أنه مصدرٌ في محلِّ حالٍ ، أي : باغين ، والعامِلُ فيها ما تقدَّمَ . و « بينهم » متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل « بَغْياً » أي : بَغْياً كائناً بينهم .
فصل
قوله : { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } يقتضي أَن يكون إيتاءُ اللَّهِ تعالى إيَّاهم الكتاب كان بعد مجيء الآيات البَيِّنات ، فتكونُ هذه البينات مُغايرةً - لا محالة - لإِيتاءِ الكتاب؛ وهذه البيناتُ لا يمكن حملها على شيءٍ سوى الدلائل العقليَّة التي نصبها اللَّهُ - تعالى - على إثبات الأُصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلاَّ بعد ثُبوتها؛ وذلك لأَنَّ المتكلِّمين يقولون : كلُّ ما لا يصحُّ إثباتُ النبة إلاَّ بثبوته ، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السَّمعيَّة ، وإلاَّ وقع الدور .
وقال بعض المفسرين : المراد « بالبيناتِ » صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم .
قول فهدى اللَّهُ الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق « لِما » متعلِّقٌ ب « هَدَى » و « ما » موصولةً ومعنى هذا أي : أرشد إلى ما اختلفوا فيه؛ كقوله تعالى : { يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } [ المجادلة : 3 ] ، أي : إلى ما قالوا . ويقال : هديته الطريق وللطريق وإلى الطريق والضمير في « اخْتلفُوا » عائدٌ على « الذين أُوتُوه » وفي « فِيهِ » عائدٌ على « ما » ، وهو متعلِّقٌ ب « اخْتَلَفَ » .
و « مِن الحَقِّ » مُتَعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه في موضعِ الحالِ من « ما » في « لمِا » و « مِنْ » يجوزُ أَنْ تكونَ للتبعيض ، وأَنْ تكونَ للبيانِ عند مَنْ يرى ذلك ، تقديره : الذي هو الحقّ .

وأجاز أبو البقاء أَنْ يكونَ « مِنَ الحقِّ » حالاً من الضمير في « فيه » ، والعامِلُ فيها « اختلفوا » فإن قيل لم قال هداهم فيما اختلفُوا فيه ، وعساهُ أن يكون غير حقٍّ في نفسه قال : « والقَلْبُ في كتابِ اللَّهِ دُونَ ضرُورةٍ تدفعُ إليه عَجْزٌ وسُوءُ فَهْمٍ » انتهى .
قال شهاب الدِّين : وهذا الاحتمالُ الذي جعله ابنُ عطية حاملاً للفرَّاءِ على ادِّعاء القلب ، لا يُتوهَّمُ أصلاً .
قوله « بإذنِهِ » فيه وجهان :
أحدهما : أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ من « الَّذِينَ آمَنُوا » ، أي : مأذوناً لهم .
والثاني : أَنْ يكون متعلِّقاً بهدى مفعولاً به ، أي : هداهم بأمره .
قال الزَّجَّاج : المراد من الإذن - هنا - العلم ، أي : بعلمه ، وإرادته فيهم ، وقيل بأمره ، أي : حصلت الهداية بسبب الأمر؛ كما يقال : قطعت بالسِّكِّين .
وقيل : لا بُدَّ فيه مِنْ إضمار ، تقديره : هداهم فاهتدوا بإذنه .
فصل فيما اختلف فيه أهل الكتاب وهدانا الله إليه
قال ابن زيدٍ : هذه الآية في أهل الكتاب ، اختلفوا في القبلة فصلّت اليهود إلى بيت المقدس ، والنصارى إلى المشرق؛ فهدانا اللَّهُ للكعبة ، واختلفوا في الصيام؛ فهدانا الله لشهر رمضان واختلفوا في الأَيام ، فأخذت اليهودُ السَّبت ، والنَّصارى الأحد؛ فهدانا اللَّهُ للجمعة ، واختلفوا في إبراهيم ، فقال اليهود : كان يهوديّاً ، وقالت النصارى : كان نصرانيّاً . فقلنا : إِنَّه كان حنيفاً مسلماً ، واختلفوا في عيسى : فاليهود فرَّطُوا ، والنَّصارى أفرطوا؛ فهدانا اللَّهُ للحقِّ فيه .
فصل في احتاج بعضهم بالآية على أن الإيمان مخلوق والرد عليه .
تمسَّك بعضهم بهذه الآية على أَنَّ الإيمان مخلوقٌ لله تعالى ، وهو ضعيفٌ؛ لأن الهداية غير الاهتداء كما أَنَّ الهداية إلى الإيمان غير الإيمان ، وأيضاً فإنه قال في آخر الآية : « بِإِذْنِهِ » ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله : « فَهَدَى اللَّهُ » إذ لا جائز أن يأذن لنفسه ، فلا بُدَّ من إضمار لصرف الإذن إليه ، والتقدير : « فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لمَا اخْتَلَفُوا فيه مِنَ الحَقِّ - فاهتدوا - بِإِذْنِهِ » وإذا كان كذلك ، كانت الهداية مغايرةً للإِهتداء .
فصل
اجحتج الفقهاء بهذه الآية على أَنَّ الله - تعالى - قد يخصُّ المؤمن بهداياتٍ لا يفعلها في حقِّ الكافر .
وأجاب عنه المعتزلة بوجوه :
أحدها : أنهم اختصُّوا بالاهتداء ، فهو كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ثم قال { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة : 185 ] .
وثانيها : أن المراد الهداية إلى الثواب وطريق الجنَّة .
وثالثها : هداهم إلى الحقِّ بالأَلطافِ .
قوله : { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } والكلام فيها مع المعتزلة كالتي في قبلها .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

« أَمْ » هذه فيها أربعة أقوالٍ :
الأول : أنْ تكون منقطعةً فتتقدَّر ب « بل » والهمزة . ف « بل » لإضراب انتقالٍ من إِخْبَارٍ إلى إِخْبَارٍٍ ، والهمزةُ للتقري . والتقدير بل حسبتم .
والثاني : أنها لمجرد الإضراب مِنْ غير تقدير همزة بعدها ، وهو قول الزَّجَّاج وأنشد : [ الطويل ]
1038 - بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشِّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... وَصُوَرتِهَا أَمْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
أي : بل أنت .
والثالث : وهو قول الفرَّاء وبعض الكُوفيِّين ، أنها بمعنى الهمزة . فعلى هذا يُبتدأُ بها في أوَّل الكلام ، ولا تحتاجُ إلى الجملة قبلها يضرب عنها .
الرابع : أنها مُتَّصلةٌ ، ولا يستقيم ذلك إلا بتقدير جملةٍ محذوفةٍ قبلها .
قال القفَّال : « أمْ » هنا استفهامٌ متوسطٌ؛ كما أَنَّ « هَلْ » استفهامٌ سابقٌ ، فيجوز أَنْ يقال : هل عندك رجلٌ ، أَمْ عندك امرأَةٌ؟ ولا يجوز أَنْ يقال ابتداءً أَمْ عندك رجل ، فأَمَّا إذا كان متوسطاً ، جاز سواءٌ كان مسبُوقاً باستفهامٍ آخر ، أو لا يكون ، أَمَّا إذا كان مسبوقاً باستفهام آخر فهو كقولك : أنت رجلٌ لا تنصف ، أفعن جهل تفعلُ هذا ، أم لك سلطانٌ؟ وأَمَّا الذي لا يكون مسبوقاً بالاستفهام؛ فكقوله : { الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين أَمْ يَقُولُونَ افتراه } [ السجدة : 1 - 3 ] فكذا تقدير هذا الآية : فهدى اللَّهُ الذين آمنوا فصبروا على استهزَاءِ قومهم ، أفتسلكُون سبيلهم أم تحسبون أَنْ تدخُلُوا الجنَّةَ مِنْ غيرِ سلوكِ سبيلهم .
« حَسب » هنا من أَخواتِ « ظنَّ » ، تنصبُ مفعولين عند سيبويه ، ومسدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش ، كما تقدَّم ، ومضارعها فيه الوجهان :
الفتحُ - وهو القياسُ - والكسرُ . ولها نظائرُ من الأفعالِ تأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في آخرِ السورةِ ، ومعنها الظَّنُّ ، وقد تستعملُ في اليقين؛ قال : [ الطويل ]
1039 - حَسِبْتُ التُّقَى وَالجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحاً إِذَا مَا المَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلاَ
ومصدرُها : الحُسْبان . وتكون غير متعديةٍ ، إذا كان معناها الشقرة ، تقول : زيدٌ ، أي : اشْقَرَّ ، فهو أَحْسَبُ ، أي : أَشْقَرُ .
قوله : « وَلَمَّا يَأْتِكمْ » الواو للحال ، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها ، أي : غير آتيكم مثلهم . و « لمَّا » حرف جزمٍ ، معناه النفي؛ ك « لم » ، وهو أبلغ من النفي ب « لم » ؛ لأنَّها لا تنفي إلاَّ الزمان المتصل بزمان الحال . والفرق بينها وبين « لم » من وجوهٍ :
أحدها : أنه قد يحذف الفعل بعدها في فصيح الكلام ، إذ دلَّ عليه دليلٌ .
وهو أحسن ما تخرَّج عليه قراءة « وإِنْ كُلاًّ لَمَّا » كقوله : [ الوافر ]
1040 - فَجئْتُ قُبُرَهُمْ بَدْءاً وَلَمَّا ... فَنَادَيْتُ الْقُبُورَ فَلَمْ تَجِبْنَهْ
أي : ولمَّا أكن بدءاً ، أي : مبتدئاً؛ بخلاف « لَمْ » فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا ضرورة؛ كقوله : [ الكامل ]

1041- وَاحْفَظْ وَدِيعَتَكَ الَّتِي أُودِعْتَهَا ... يَوْمَ الأَعَازِب إِنْ وَصَلْتَ وَإِنْ لَمِ
ومنها : أنَّها لنفي الماضي المتصل بزمان الحال ، و « لم » لنفيه مطلقاً أو منقطعاً على ما مرَّ .
ومنها : أنَّ « لَمَّا » لا تدخل على فعل شرطٍ ، ولا جزاءٍ بخلاف « لم » .
ومنها أنّ « لَمْ » قد تلغى بخلاف « لَمَّا ، فإنها لم يأتِ فيها ذلك ، وباقي الكلام على ما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة » الحُجُرَاتِ « عند قوله تعالى : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان } [ الحجرات : 14 ] .
واختلف في » لَمَّا « فقيل : مركبة من لم و » ما « زيدت عليها .
وقال سيبويه : بسيطة وليست » ما « زائدة؛ لأنَّ » لما « تقع في مواضع لا تقع فيها » لم « ؛ يقول الرجل لصاحبه : أقدِّم فلاناً ، فيقول » لَمَّا « ، ولا يقال : » لَمْ « مفردةً .
قال المبرّد : إذا قال القائل : لم يأتني زيدٌ ، فهو نفيٌ لقولك أتاك زيدٌ ، وإذا قال لَمَّا يأتني ، فمعناه : أنَّه لم يأتني بعد ، وأنا أتوقَّعه؛ قال النابغة : [ الكامل ]
1042 - أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أنَّ رَكَابَنَا ... لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ
وفي قوله » مَثَلُ الَّذِينَ « حذف مضافٍ ، وحذفُ موصوفٍ ، تقديره : ولمَّا يأتكم مثل محنة المؤمنين الذين خلوا .
و » مِنْ قَبْلِكُمْ « متعلِّقٌ ب » خَلَوا « وهو كالتأكيد ، فإنَّ الصلة مفهومةٌ من قوله : » خَلَوْا « .
فصل في سبب نزول » أم حسبتم « الآية .
قال ابن عبَّاس ، وعطاء : لمَّا دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتدَّ عليهم الضرر؛ لأنَّهم خرجوا بلا مالٍ ، وتركوا ديارهم ، وأموالهم بيدي المشركين ، وآثروا رضا الله ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسرَّ قوم النفاق ، فأنزل الله تعالى؛ تطيباً لطيوبهم : » أَمْ حَسِبْتُمْ « .
وقال قتادة والسُّديُّ : نزلت في » غَزْوَةِ الخنْدَقِ « أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد ، والحزن ، وشدَّة الخوف ، والبرد ، وضيق العيش ، وأنواع الأذى؛ كما قال تعالى :
{ وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] وقيل : نزلت في » غَزْوَةِ أُحُد « لما قال عبد الله بن أُبيٍّ لأصحاب النبي عليه السلام إلى متى تقتلون أنفسكم ، وترجون الباطل ، ولو كان محمد نبياً ، لمَّا سلَّط الله عليكم الأسر والقتل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية » أَمْ حَسِبْتُمْ « ، أي : المؤمنون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بمجرد الإيمان بي ، وتصديق رسولي ، دون أن تعدبوا الله بكل ما تعبَّدكم به ، وابتلاكم بالصبر عليه ، وأن ينالكم من أذى الكفار ، ومن احتمال الفقر ومكابدة الضر والبؤس ، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدوِّ؛ كما كان ذلك غريبةٍ ، أو قصَّة عجيبةٍ لها شأنٌ؛ ومنه قوله تعالى :

{ وَلِلَّهِ المثل الأعلى } [ النحل : 60 ] أي : الصفة التي لها شأن عظيم .
قوله : « مَسَّتْهم البأْسَاءُ » في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أن تكون لا محلّ لها من الإعراب؛ لأنها تفسيريةٌ ، أي : فسَّرَتِ المثل وشرحته ، كأنه قيل : ما كان مثلهم؟ فقيل : مسَّتهم البأساء .
والثاني : ان تكون حالاً على إضمار « قَدْ » جوَّز ذلك أبو البقاء ، وهي حالٌ من فاعلٍ « خَلَوا » . وفي جعلها حالاً بَعْدٌ .
و « البَأْسَاءُ » : اسمٌ من البؤْسِ بمعنى الشِّدِّة ، وهو البلاء والفقر .
و « الضَّرَّاءُ » : الأمراض ، والآلام ، وضروب الخوف .
قال أبو العبَّاس المقريُّ : ورد لفظ « الضُّرِّ » في القرآن على أربعة أوجهٍ :
الأول : الضُّرُّ : الفقر؛ كهذه الآية ، ومثله : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ } [ يونس : 12 ] ، وقوله تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر } [ النحل : 53 ] أي : الفقر .
الثاني : الضّرّ : القحط؛ قال تعالى : { إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء } [ الأعراف : 94 ] أي : قحطوا .
أو قوله تعالى : { وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ } [ يونس : 21 ] أي : قحط .
الثالث : الضُّرُّ : المرض؛ قال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ } [ يونس : 207 ] أي : بمرض .
الرابع : الضر : الأهوال؛ قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر } [ الإسراء : 67 ] .
قوله : « وَزُلْزِلُوا » أي : حرِّكوا بأنواع البلايا والرَّزايا .
قال الزَّجَّاج : أصل الزَّلزلة في اللغة من زلَّ الشيء عن مكانه ، فإذا قلت : زلزلته فتأويله : أنَّك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه؛ لأن ما فيه تكريرٌ يكرّرُ فيه الفعل نحو : صَرَّ وصَرْصَرَ ، وصَلَّ وصَلْصَلَ؛ وَكَفَّ وَكَفْكَفَ ، وفسر بعضهم « زُلْزِلُوا » أي : خُوِّفُوا؛ وذلك لأنَّ الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه .
قول تعالى : « حَتَّى يَقُولَ » قرأ الجمهور : « يقولَ » نصباً ، وله وجهان :
أحدهما : أنَّ « حَتَّى » بمعنى « إِلَى » ، أي : إلى أن يقول ، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزال ، و « حَتَّى » إنما ينصب بعدها المضارع المستقبل ، وهذا قد وقع ومضى . فالجواب : أنه على حكاية الحال ، [ حكى تلك الحال ] .
والثاني : أنَّ « حَتَّى » بمعنى « كَيْ » ، فتفيد العلَّة كقوله : أطعتُ الله حَتَّى أدْخَلنِي الجنةَ ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قول الرسول والمؤمنين ليس علَّة للمسِّ والزلزال ، وإن كان ظاهر كلام أبي البقاء على ذلك ، فإنه قال : « بالرفعِ على أَنْ يكونَ التقديرُ : زُلْزِلُوا فقالوا ، فالزَّلْزَلَةُ سَبَبُ القولِط ، و » أَنْ « بعد » حَتَّى « مُضْمَرةٌ على كِلا التقديرين .
وقرأ نافع برفعه على أنَّه حالٌ ، والحال لا ينصب بعد » حَتَّى « ولا غيرها؛ لأنَّ الناصب يخلِّص للاستقبال؛ فتنافيا .
واعلم أنَّ » حَتَّى « إذا وقع بعدها فعلٌ : فإمَّا أن يكون حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً ، إن كان حالً ، رفع؛ نحو : » مَرِضَ حَتَّى لاَ يَرْجُونَهُ « أي : في الحال .

وإن كان مُسْتَقْبلاً نصب ، تقول : سِرْتُ حتَّى أدخل البلد ، وأنت لم تدخل بعد . وإن كان ماضياً فتحكيه ، ثُمَّ حكايتك له : إمَّا أن تكون بحسب كونه مستقبلاً ، فتنصبه على حكاية هذه الحال ، وإمَّا أن يكون بحسب كونه حالاً ، فترفعه على حكاية هذه الحال ، فيصدق أن تقول في قراءة الجماعة : حكاية حالٍ ، وفي قراءة نافعٍ أيضاً : حكاية حال .
قال شهاب الدِّين : إنَّما نبَّهتُ على ذلك؛ لأنَّ عبارة بعضهم تخُصُّ حكاية الحال بقراءة الجمهور ، وعبارةآخرين تخصُّها بقراءة نافع .
قال أبو البقاء في قراءة الجمهور : « والفعلُ هنا مستقبلٌ ، حُكِيت به حَالُهُمْ ، والمعنى على المُضِيِّ » وكان قد تقدَّم أنه وجَّه الرفع بأنَّ « حتى » للتعليل .
قوله : « معه » هذا الظرف يجوز أن يكون منصوباً بيقول ، أي : إنهم صاحبوه في هذا القول وجامعوه فيه ، وأن يكون منصوباً بآمنوا ، أي : صاحبوه في الإيمان .
قوله : { متى نَصْرُ الله } « مَتَى » منصوبٌ على الظرف ، فموضعه رفعٌ؛ خبراً مقدَّماً ، و « نصرٌ » مبتدأٌ مؤخرٌ .
وقال أبو البقاء : « وعلى قولِ الأَخْفَشِ : موضعه نصب على الظرف ، و » نصرُ « مرفوعٌ به » . و « مَتَى » ظرفُ زمانٍ لا يتصرَّف إلا بجرِّه بحرفٍ . وهو مبنيٌّ؛ لتضمُّنه : إما لمعنىهمزة الاستفهام ، وإمَّا معنى « مَنْ » الشرطية ، فإنه يكون اسم استفهام ، ويكون اسم شرطٍ فيجزم فعلين شرطاً وجزاءً .
قال القرطبي : « نَصْرُ اللَّهِ » رفع بالابتداء على قول سيبويه ، وعلى قول أبي العباس؛ رفع بفعلٍ ، أي : متى يقع نصر الله .
و « قَرِيبٌ » خبر « إنَّ » قال النَّحَّاس : ويجوز في غير القرآن « قَرِيباً » أي : مكاناً قريباً و « قَرِيبٌ » لا تثيِّيه العرب ، ولا تجمعه ، ولا تؤنّثه في هذا المعنى؛ قال تعالى : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ } [ الأعراف : 56 ] ؛ وقال الشَّاعر : [ الطويل ]
1043 - لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلاَ أُمُّ هَاشِمٍ ... قَرِيبٌ وَلاَ بَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
فإن قلت : فلانٌ قريبٌ لي ثنيت وجمعت فقلت : قَرِيبُونَ ، وأقْرِباءُ ، وقُرَبَاءُ .
فصل
والظاهر أنَّ جملة { متى نَصْرُ الله } من قول المؤمنين ، وجملة { ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } من قول الرسول ، فنسب القول إلى الجميع؛ إجمالاً ، ودلالة الحال مبيِّنة للتفضيل المذكور . وهذا أولى من قول من زعم أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، والتقدير : حتَّى يقول الذين آمنوا : « مَتَى نَصْرُ اللَّهِ » ؟ فيقول الرسول « أَلاَ إِنَّ » فقدِّم الرسول؛ لماكنته ، وقدِّم المؤمنون؛ لتقدُّمهم في الزمان . قالوا : لأنه أخبر عن الرسول ، والذين آمنوا بكلامين :
أحدهما : أنهم قالوا : مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟
والثاني : « ألاَّ إنَّ نصرَ اللَّهِ قَرِيبٌ » فوجب إسناد كلِّ واحدٍ من هذين الكلامين إلى ما يليق به من ذينك المذكورين ، قال : الذين آمناو قالوا : « مَتَى نَصْرُ اللَّهِ » والرسلُ قالوا : { ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } قالوا : ولهذا نظيرٌ في القرآن والشِّعر :
أمَّا القرآن : فقوله :

{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] ، والمعنى؛ لتسكنوا في اللَّيل ، ولتبتغوا من فضله في النهار .
وأمَّا الشعر : فقول امرئ القيس : [ الطويل ]
1044 - كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً ... لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ وَالْحَشَفُ البَالِي
فشبه العنَّاب بالرطب ، والحشف بالبالي باليابس .
قال ابن عطيَّة : « هذا تَحَكُّمٌ وحَمْلٌ لِلْكلامِ على غَيْرِ وَجْهِهِ » .
وقيل : الجملتان من قول الرسول والمؤمنين معاً ، يعني أن الرسول قالهما معاً ، وكذلك أتباعه . فإن قيل : كيف يليق بالرسول القاطع بصحَّةِ وعد الله ووعيده أن يقول مستبعداً : مَتَى نصر الله؟
والجواب من وجوه :
أحدها : التأويل المتقدِّم .
والثاني : أن قول الرسول { متى نَصْرُ الله } ليس على سبيل الشِّكِّ بل على سبيل الدعاء باستعجال النصر .
الثالث : أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذَّى من كيد الأعداء؛ قال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } [ الحجر : 97 ] وقال تعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] وقال تعالى : { حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا } [ يوسف : 110 ] ، وعلى هذا فإذا ضاق قلبه ، وقلَّت حيلته ، وكان قد تقدم وعبد الله بنصره ، إلاَّ أنه لم يعيِّن له الوقت؛ قال عند ضيق قبله : { متى نَصْرُ الله } حَتَّى إنَّه إذا علم قرب الوقت ، زال غمه وطاب قبله؛ ويؤيد ذلك قوله في الجواب { إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } فلما كان الجواب بذكر القرب؛ دلَّ على أنَّ السؤال كان واقعاً عن القرب ، ولو كان السؤال وقع عن أنَّه هل يوجد النصر ، أم لا؛ لما كان هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال ، هذا على قول من قال إن قوله : { ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } مِن كلام الله تعالى جواباً للرسول ، ومن قال إنه من كلام المؤمنين . قال : إنَّهم لما علموا أنَّ الله تعالى لا يُعلي عدوه عليهم ، قالوا : { ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } ، فنحن على ثقة بوعدك .
وقيل : إنَّ الجملة الأولى من كلام [ الرسول وأتباعه ، والجملة ألخيرة من كلام ] الله تعالى ، على ما تقدم . فالحاصل أنَّ الجملتين في محلِّ نصب بالقول .
فإن قيل : قوله : { إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } يوجب في حق كل من لحقه شدَّةٌ أن يعلم أنه سيظفر بزوالها ، وذلك غير ثابتٍ .
فالجواب : لا يمتنع أن يكون هذا من خواصِّ الأنبياء - عليهم السّلام - وأيضاً فإن كان عامّاً في حق الكل إذ كلُّ من كان في بلاءٍ ، فلا بدَّ له من أحد أمرين :
إمَّ أن يتخلص منه أو يموت ، فإن مات ، فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ، ولا يضيع حقه ، وذلك من أعظم النصر ، وإنما جعله قريباً؛ لأن الموت آتٍ؛ وكلَّ آتٍ قريبٌ .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

قد تقدَّم أنَّ « ماذا » له استعمالات ستَّةٌ عند قوله : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } [ البقرة : 26 ] . وهنا يجوز أن تكون « ماذا » بمنزلة اسمٍ واحدٍ ، بمعنى الاستفهام؛ فتكون مفعولاً مقدَّماً ل « يُنْفِقُونَ » ؛ لأنَّ العرب يقولون : « عماذا تَسْأَلُ » بإثبات الألف ، وحذفوها من قولهم : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [ النبأ : 1 ] وقوله { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } [ النازعات : 43 ] فلما لم يحذفون الألف من آخر « مَا » ، علمت أنه مع « ذا » بمنزلة اسم واحدٍ ، ولم يحذفون الألف منه ، لمَّا لم يكن آخر الاسم ، والحذف يلحقها إذا كان آخراً ، إلاَّ أن يكون في شعر؛ كقوله : [ الوافر ]
1045 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتَمُنِي لَئِيمٌ ... كَخنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رمَادِ
قال القرطبي : إن خفَّفت الهمزة ، قلت : يسلونك ، ومنه : ما « يُنْفِقُون » ويجوز أن تكون « ما » مبتدأ و « ذا » خبره ، وهو موصولٌ . و « ينفقون » صلته ، والعائد محذوفٌ ، و « ماذا » معلِّق للسؤال ، فهو في موضع المفعول الثاني ، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } [ البقرة : 211 ] .
قال القرطبي : متى كانت اسماً مركابً ، فهي في موضع نصب إلاَّ ما جاء في قول الشاعر : [ الطويل ]
1046 - وَمَاذَا عَسَى الوَاشُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا ... سِوَى أَنْ يَقُولُوا : إِنَّنِي لَكِ عَاشِقُ
فإِنَّ « عَسَى » لا تعمل فيه ، ف « ماذا » في موضع رفعٍ ، وهو مركَّبٌ؛ إذ لا صلة ل « ذا » .
وجاء « ينفقون » بلفظ الغيبة؛ لأنَّ فاعل الفعل قبله ضمير غيبةٍ في « يَسْألونَكَ » ، ويجوز في الكلام « ماذا نُنْفِقُ » كما يجوز : أقسم زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ ، وسيأتي لهذا مزيد ببيانٍ في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [ المائدة : 4 ] في المائدة إن شاء الله تعالى .
قوله : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } يجوز في « ما » وجهان :
أظهرهما : أن تكون شرطيّةً؛ لتوافق ما بعدها ، ف « ما » في محلِّ نصبٍ ، مفعولٌ مقدَّمٌ ، واجبُ التقديم؛ لأنَّ له صدر الكلام . و « أَنْفَقْتُمْ » في محلّش جزمٍ بالشرط ، و « مِنْ خَيْرٍ » تقدَّم إعرابه في قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] .
وقوله : فللوالدين « جواب الشرط ، وهذا الجارُّ خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فمصرفه للوالدين ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، إمَّا مفردٌ ، وإمَّا جملةٌ على حسب ما ذكر من الخلاف فيما مضى . وتكون الجملة في محلِّ جزمٍ بجواب الشرط .
والثاني : أن تكون » مَا « موصولة ، و » أَنْفَقْتُمْ « صلتها ، والعائد محذوف ، لاستكمال الشروط ، أي : الذي أنفقتموه . والفاء زائدة في الخبر الذي هو الجارُّ والمجرور .
قال أبو البقاءِ في هذا الوجه : » ومِنْ خيرٍ يكون حالاً من العائد المحذوفٍ « .

فصل ف سبب النزول
اعلم نَّه تعالى لمَّا بيَّن الوجوب على كل مكلّفٍ ، بأن يكون معرضاً عن طلب العاجل مشتغلاً بطلب الآجل ، شرع في بيان الأحكام من هذه الآية إلى قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [ البقرة : 243 ] .
قال عطاء ، عن ابن عباسٍ : نزلت الآية في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إِن لي دِيناراً ، فقال : أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ ، قال : إنّ لِي آخَرَ ، قال : أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ ، فَقَالَ : إنَّ لِي آخَر ، قال : أَنْفِقْهُ على خَادمِكَ ، قال : إنّ لي آخر ، قال : أَنْفِقْهُ عَلَى وَالِدَيْكَ قال : إنَّ لِي آخَرَ ، قال : أَنْفِقْهُ عَلَى قرابتكِ ، قال : إنَّ لي آخَرَ قال : أَنْفِقْهُ في سَبِيل الله ، وهو أَحْسَنُها »
وروى الكلبيُّ ، عن ابن عباسٍ أنَّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح ، وهو الذي قتل يوم أُحُدٍ ، وكان شيخاً كبيراً هرماً ، وعنده مالٌ عظيمٌ ، فقال ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت الآيةُ .
فإن قيل إنَّ القوم سألوا عما ينفقون كيف أُجيبوا ببيان المصرف؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ في الآية حذفاً ، تقديره : ماذا ينفقون ولمن يعطونه ، كما ذكرنا في رواية الكليِّ في سبب النزول ، فجاء الجواب عنهما ، فأجاب عن المنفق بقوله : « مِنْ خَيْرٍ » وعن المنفق عليه بقوله : فَلِلْوَالِدَيْنِ « وما بعده .
ثانيها : أن يكون » ماذا « سؤالاً عن المصرف على حذف مضافٍ ، تقديره : مصرف ماذا ينفقون؟
ثالثها : أن يكون حذف من الأوَّل ذكر المصرف ، ومن الثاني ذكر المنفق ، وكلاهما مرادٌ ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قوله تعالى : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ } [ البقرة : 171 ] .
رابعها : قال الزمخشريُّ : قد تضمَّن قوله : { مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } بيان ما ينفقونه ، وهو كلُّ خيرٍ؛ وبُني الكلام على ما هو أهمُّ وهو بيان المصرف؛ لأنَّ النفقة لا يعتدُّ بها إلاَّ أن تقع موقعها . قال : [ الكامل ]
1047 - إنَّ الصَّنِيعَةَ لاَ تَكُونُ صَنِيعَةً ... حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ
خامسها : قال القفَّال : إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ » ما نُنْفِقُ : إلاَّ أن المقصود السؤال عن الكيفية؛ لأنهم كانوا علامين بأن الإنفاق يكون على وجه القربة ، وإذا كان هذا معلوماً عندهم ، لم ينصرف الوهم إلى ذلك ، فتعيَّن أنَّ المراد بالسؤال إنَّما هو طريق المصرف ، وعلى هذا يكون الجواب مطابقاً للسؤال ، ونظيره قوله تعالى : { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ } [ البقرة : 70 ، 71 ] وإنَّما كان هذا الجواب موافقاً للسؤال ، لأنه كان من المعلوم أنها البقرة التي شأنها وصفتها كذا ، فقوله : « مَا هِيَ » لا يمكن حمله على طلب الماهيَّة؛ فتعين أن يكون المراد منه طلب الصِّفة التي بها تتميز هذه البقرة عن غيرها ، فكذا ها هنا .

وسادسها : يحتمل أنَّهم لما سألوا عن هذا السؤال ، فقيل لهم : هذا سؤالٌ فاسدٌ ، أي : أنفقوا ما أردتم بشرط أن يكون مصروفاً إلى المصرف وهذا كقول الطبيب لمن سأله ماذا يأكل ، فقال الطبيب : كل في اليومين مرَّتين ، ومعناه ، كل ما شئت ، ولكن بهذا الشرط .
فصل
اعلم أنَّه تعالى رتَّب الإِنفاق ، فقدَّم الوالدين ، لأنَّهما كالمخرج للمكلَّف من العدم إلى الوجود ، وذلك لأنَّ الله - تعالى - هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود؛ قال تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] فأشار إلى أنه ليس بعد رعاية حقِّ الله - تعالى - من شيءٍ أوجب من رعاية حقِّ الوالدين؛ فلذلك قدمهما ، ثم الأقربين؛ لأنَّ الإنسان أعلم بحال الفقير القريب من غيره؛ ولأنَّه إذا لم يراع قريبه الفقير لاحتاج الفقير إلى الرجوع إلى غيره ، وذلك عار في حقِّ قريبه الغنيّ .
فإن قيل : إنَّه تعالى ذكر « الْوَالِدَيْنِ » ثمَّ عطف عليه « الأَقْرَبِينَ » والعاطف يقتضي المغايرة ، وذلك يدلُّ على أن الوالدين لا يدخلون في مسمَّى الأقربين ، فهو خلاف الإجماع؛ لأنَّه لو وقف على « الأَقْربين » حمل فيه الوالدين بغير خلافٍ .
فالجواب : أنَّ هذا من عطف العامِّ على الخاصِّ؛ كقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] فعطف القرآن على السبع المثاني ، وهي من القرآن ، وقال - عليه السّلام - « أفضل ما قتل أنا والنبيُّون من قبلي . . . » فعطف « النَّبِيِّين » على قوله : « أَنَا » وهو من النبيين ، وذلك شائعٌ في لسان العرب ، ثمَّ ذكر بعدهم اليتامى؛ لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ، وليس لهم أحدٌ يكتسب لهم ، فالطفل اليتيم : قد عدم الكسب ، والمكاسب ، وأشرف على الضياع ، ثم ذكر بعدهم المساكين؛ لأنَّ حاجتهم أقلُّ من حاجة اليتامى؛ لأنَّ قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى ، ثم ذكر ابن السبيل بعدهم؛ لأنه بسبب انقطاعه عن بلده ، قد يحتاج ، ويفتقر ، فهذا أصحُّ تركيبٍ ، وأحسن ترتيبٍ في كيفيَّة الإنفاق ، ثم لمَّا فصَّل هذا التَّفصيل الحسن الكامل ، أردفه بالاجمال ، فقال : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } والعليم مبالغةٌ في كونه عالماً لا يعزب عن علمه مثقال ذرَّةٍ في الأرض ، ولا في السَّماء .
و « ما » هذه شرطيةٌ فقطح لظهور عملها الجزم بخلاف الأولى . وقرأ عليٌّ رضي الله عنه : « وما يفعلوا » بالياء على الغيبة ، فيحتمل أن يكون من باب الالتفات من الخطاب ، وأن يكون من الإضمار لدلالة السياق عليه ، أي : وما يفعل الناس .
فصل في المراد بالخير
قال أكثر العلماء : المراد ب « الخَيْر » هو المال؛ لقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، وقال : { إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية }

[ البقرة : 18 ] .
وقيل : المراد بالخير هذا الإنفاق ، وسائر وجوه البرِّ ، والطاعة .
فصل هل الآية منسوخة أم لا؟
قال بعضهم : هذه الآية منسوخة بآية المواريث .
وقال أهل التفسير : إنها منسوخة بالزكاة .
قال بعضهم : وكلاهما ضعيفٌ؛ لأنَّه يمكن حمل الآية على وجوهٍ لا يتطرق النَّسخ إليها .
أحدها : قال أبو مسلم الأصفهاني : الغنفاق على الوالدين ، واجبٌ عند قصورهما عن الكسب والملك ، والمراد ب « الأَقْرَبِينَ » الولد ، وولد الولد ، وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك ، وعلى هذا فلا وجه للقول بالنَّسخ؛ لأنَّ هذه النفقة تلزم في حال الحياة ، والميارث يصل بعد الموت ، وما وصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقةٌ .
وثانيها : أن يكون المراد من أحبَّ التقرب إلى الله تعالى بالنفقة ، فالولى أن ينفقه في هذه الجهات ، فيكون المراد التطوع .
ثالثها : أن يكون المراد االوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية ، وفيما يتصل بالتيامى والمساكين مما يكون زكاةً .
ورابعهما : يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرَّحم ، وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة ، فظاهر الآية محتملٌ لكل هذه الوجوه من غير نسخ .

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

قرئ : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } : ببناء « كَتَب » للفاعل؛ وهو ضمير الله تعالى ، ونصبِ « القِتَالِ » .
قال القرطبي : وقرأ قومٌ : « كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقَتْلُ » ؛ قال الشاعر : [ الخفيف ]
048 أ - كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقَتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَرُّ الذُيُولِ
قوله تعالى : « وَهُوَ كُرْهٌ » هذه واو الحال ، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها ، والظاهر أنَّ « هو » عائدٌ على القتال . وقيل : يعود على [ المصدر ] المفهوم من كتب ، أي : وكتبه وفرضه . وقرأ الجمهور « كُرْهٌ » بضمِّ الكاف ، وهو الكراهية بدليل قوله : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } ثم فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ وضع المصدر موضع الوصف سائغٌ كقول الخنساء : [ البسيط ]
1048ب - . ... فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَادْبَارُ
والثاني : أن يكون فعلاً بمعنى مفعولٍ ، كالخبر بمعنى الخبور وهو مكروهٌ لكم .
وقرأ السُّلميُّ بفتحها . فقيل : هما بمعنًى واحدٍ ، أي : مصدران كالضَّعف والضُّعف ، قاله الزَّجاج وتبعه الزمخشري .
وقيل : المضمومُ اسمُ مفعولٍ ، والمفتوح المصدر .
وقيل : المفتوح بمعنى الإكراه ، قاله الزممخشري في توجيه قراءة السُّلميِّ ، إلاَّ أنَّ هذا من باب مجيء المصدر على حذف الزوائد ، وهو لا ينقاس .
وقيل : المفتوح ما أُكره عليه المرء ، والمضموم ما كرهه هو .
فإن كان « الكَرْهُ » ، و « الكُرْهُ » مصدراً ، فلا بدَّ من تأويل يجوز معه الإخبار به عن « هو » ، وذلك التأويل : إمَّا على حذف مضافٍ ، أي : والقتال ذو كرهٍ ، أو على المبالغة ، أو على وقوعه موقع اسم المفعول . وإن قلنا : إنَّ « كُرْهاً » بالضَّمِّ اسم مفعولٍ ، فلا يحتاج إلى شيء من ذلك . و « لَكُمْ » في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفة لكره ، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي : كرهٌ كائنٌ .
فصل في بيان الإذن في القتال
اعلم أنه - عليه الصّلاة والسّلام - كان غير مأذونٍ له في القتال مدة إقامته بمكة ، فلمَّا هاجر أُذن له في قتال من يقاتله من المشركين ، ثمَّ أُذن له في قتال المشركين عامَّةً ، ثم فرض الله الجهاد .
واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال عطاء : الجهاد تطوعٌ والمراد بهذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت دون غيرهم ، وإليه ذهب الثَّوْرِيُّ ، واحتجوا بقوله تعالى : { فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ النساء : 95 ] ولو كان القاعد تاركاً للفرض ، لم يكن يعده الحسنى .
قالوا : وقوله : « كُتِبَ » يقتضي الإيجاب ، ويكفي في العمل به مرَّةً واحداةً .
وقوله : « عَلَيْكُمْ » يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت ، وإنما قلنا إنَّ قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } [ البقرة : 178 ] { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك؛ بدليلٍ منفصلٍ ، وهو الإجماع ، وذلك غير معقولٍ ها هنا؛ فوجب أن يبقى على الأصل ، ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى :

{ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه ، والإجماع اليوم منعقدٌ على أنه من فروض الكفايات ، إلاَّ أن يدخل المشركون ديار المسلمين؛ فيتعيّن الجهاد حينئذٍ على الكلِّ .
وقال آخرون : هو فرض عينٍ؛ واحتجُّوا بقوله : « كُتِبَ » وهو يقتضي الوجوب ، وقوله « عَلَيْكُمْ » يقتضيه أيضاً ، والخطاب بالكاف في قوله « عَلَيْكُمْ » لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد؛ كقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] .
وقال الجمهور : هو فرضٌ على الكفاية .
فإن قيل هذا الخطاب للمؤمنين ، فكيف قال : { وَهُوَ كُرهٌ لَكُم } ، وهذا يشعر بكون المؤمنين كارهين لحكم الله ، وتكليفه ، وذلك غير جائزٍ؛ لأن المؤمن لا يكون ساخطاً لأوامر الله وتكليفه ، بل يرضى بذلك ، ويحبُّه ، ويعلم أنه صلاحه ، وتركه فساده؟
والجواب من وجهين :
أحدهما : أن المراد من « الكُرْهِ » كونه شَاقّاً على النفس ، لأن التكليف عبارةٌ عن إلزام ما فيه كلفةٌ ، ومشقةٌ ، ومن المعلوم : أن الحياة من أعظم ما يميل الطبع إليها ، فلذلك كان القتال من أشقِّ الأشياء على النفس ، لأنَّ فيه إخراج المال ، والجراحات ، وقطع الأطراف ، وذهاب الأنفس ، وذلك أمرٌ يشق على الأنفس .
والثاني : أن يكون المراد منه كراهتهم للقتال قبل أن يفرض؛ لما فيه من الخوف ، ولكثرة الأعداء فبيَّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خيرٌ لكم من تركه ، لئلاَّ تكرهونه بعد أن فرض عليكم .
قال عكرمة : نسخها قوله تعالى : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ النساء : 46 ] يعني أنهم كرهوه ثم أحبوه .
قوله { وعسى أَن تَكْرَهُوا } ، « عَسَى » فعلٌ ماضٍ ، نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإشفاق ، وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبر ، ولا يكون خبرُها إلا فِعلاً مضارعاً مقروناً ب « أَنْ » ، وقد يجيءُ اسماً صريحاً؛ كقوله [ الرجز ]
1049 - أَكْثَرْتَ فِي العَذْلِ مُلِحّاً دَائِمَا ... لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا
وقالت الزَّبَّاءُ : « عَسَى الغُوَيْرُ أَبُؤُسَا » وقد يَتَجَرَّد خبرها مِنْ « أَنْ » ؛ كقوله : [ الطويل ]
1050 - عَسَى فَرَجٌ يأْتِي بهِ اللَّهُ إِنَّهُ ... لَهُ كُلَّ يَوْمٍ في خَلِيقَتِهِ أَمْرُ
وقال آخر : [ الوافر ]
1051 - عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءَه فَرَجٌ قَرِيبٌ
وقال آخر : [ الوافر ]
1052- فَأَمَّا كَيِّسٌ فَنَجَا ولَكِن ... عَسَى يغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ
وتكونُ تامّة ، إذا أُسندَتْ إلى « أَنْ » أَوْ « أنَّ » ؛ لأنهما يَسدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها ، والأصحُّ أنها فِعْلٌ ، لا حرفٌ ، لاتصالِ الضمائر البارزةٍ المرفوعةِ بها .
قال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } [ محمد : 22 ] ويرتفع الاسم بعده فقوله : « عَسَى زَيْدٌ » معناه : قرب ووزنُها « فَعَل » بفتح العين ، ويجوز كسر عينها ، إذا أسندت لضمير متكلم ، أو مخاطبٍ أو نون إناثٍ وهي قراءةُ نافعٍ ، وستأتي إن شاء الله تعالى ولا تتصرَّفُ بل تلزمُ المضيَّ .

والفرقُ بين الإشفاق والترجِّي بها في المعنى :
أنَّ الترجِّي في المحبوبات ، والإشفاقَ في المَكروهات .
و « عَسَى » من الله تعالى واجبةٌ؛ لأنَّ الترجِّي والإشفاق محالانِ في حقَّه . وقيل : كلُّ « عَسَى » في القرآن للتحقيق ، يعنُون الوقوعَ ، إِلاَّ قوله تعالى : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } [ التحريم : 5 ] وهي في هذه الآية ليسَت ناقصة؛ فتحتاج إلى خبرٍ ، بل تامةٌ ، لأنها أُسْندت إلى « أَنْ » ، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مَسدَّ الخبرين بعدها . وزعم الحُوفيُّ أَنَّ : « أَنْ تَكْرَهُوا » في محلِّ نصبٍ ، ولا يمكن ذلك إلا بتكلُّفٍ بعيد .
قوله : { وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، وإنْ كانَتْ من النكرة بغيرِ شرطٍ من الشروط المعروفة قليلةً .
والثاني : أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ ل « شَيْئاً » وإنما دخلت الواو على الجملة الواقعة صفة؛ لأنَّ صورتها صورة الحالِ ، فكما تدخل الواو عليها حاليةً ، تدخلُ عليها صفةً ، قاله أبو البقاء ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشريّ في قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] فجعل « وَلَهَا كِتَابٌ » صفةً لقريةٍ ، وقل : وكانَ القياسُ ألاَّ تتوسَّطَ هذا الواو بينهما؛ كقوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسَّطَت؛ لتأكيد لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ ، كما يُقالُ في الحالِ : « جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ ، وعليه ثوبٌ » . وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا ، والزمخشريُّ هناك ، هو رأيُ ابن جِنّي ، وسائرُ النحاة يُخالفونه .
فصل في بيان الخيرية في الغزو
قوله : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } لأنّ في الغزو إحدى الحسنيين : إمَّا الظفرُ والغنيمةُ ، وإِمَّا الشهادة والجنةُ { وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً } يعني القُعُود عن الغزو ، وهو شرٌّ لكم؛ لما فيه من فواتِ الغنيمة ، والأَجرِ ، ومخالفةِ أَمر اللَّهِ تعالى .
قال القُرطبي : قِيْلَ « عَسَى » بمعنى « قَدْ » وقال الأَصمُّ : و « عَسَى » مِنَ اللَّهِ واجبةٌ في جميع القرآن إِلاَّ قولُه تعالى : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً } [ التحريم : 5 ]
وقال أبو عبيدة : عَسَى من اللَّهِ إيجابٌ ، والمعنى : عسى أنْ تكرهُوا ما في الجهادِ من المشقَّةِ؛ وهو خيرٌ لكم ، من أَنَّكُمْ تغلبون ، وتظفرون وتغنمون ، وتُؤجرون ، ومَنْ مات ، مات شهيداً . و « الشَّرُّ » هو السُّوء أصله : من شَرَرْتُ الشيء إذا بسطتهُ يقال : شَرَرْتُ اللحم ، والثوب : إذا بسطته ، ليجف؛ ومنه قوله : [ الوافر ]
1053 - وَحَتَّى أُشُرَّتْ بِالأَكُفِّ المَصَاحِفُ ... والشَّررُ : هو اللَّهب لانبساطه . فعلى هذا « الشَّرُّ » انبساطُ الاشياء الضارةِ ، وقوله { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فالمقصود الترغيبُ العظيمُ في الجهادِ ، وكأنه تعالى قال يا أيها العبد ، اعلمْ أَنَّ علمي أكملُ من علمك ، فكُنْ مشتغلاً بطاعتي ، ولا تلتفتْ إلى مُقتضى طبعك ، فهي كقوله في جواب الملائكة : { إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

قرأ الجمهور : « قِتَالٍ » بالجّرِّ ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه خفضٌ على البدلش من « الشَّهْرِ » بدلِ الاشتمالِ؛ إذ القتالُ واقعٌ ف يه ، فهو مشتملٌ عليه .
والثاني : أنه خفضٌ على التَّكرير ، قال أبو البقاء : « يريدُ أنَّ التقديرَ : عَنْ قِتَالٍ فيه » . وهو معنى قول الفراء إِلاَّ أَنَّهُ قال : هُوَ مَخْفُوضٌ ب « عَنْ » مُضْمرَةً . وهذا ضعيفٌ جدّاً؛ لأنَّ حرف الجرَّ لا يبقى عملهُ بعد حذفه في الاختيار . وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين ، والكسائي ، والفراءِ؛ لأنَّ البدل عند جمهور البصريين على نيَّة تكرار العامل ، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي .
وقوله : لأنَّ حرف الجرِّ لا يبقى عمله بعد حذفه إِنْ أراد في غير البدل ، فمُسَلَّمٌ ، وإن أراد في البدلِ ، فممنوعٌ ، وهذا هو الذي عناه الكسائي .
الثالث : قال أبو عبيدة : « إِنه خفضٌ على الجِوَارِ » .
قال أبو البقاء : « وهو أَبْعَدُ مِنْ قولهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأنَّ الجوار من مواضع الضَّرورة أو الشذوذِ ، فلا يُحْمَلُ عليه ما وجدت عنه مَندُوحةٌ » وقال ابن عطية : « هُوَ خَطَأٌ » . قال أبو حيَّان إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجوار المصطلح عليه فهو خَطَأٌ . وجهةث الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أَنْ يكون الشيءُ تابعاً لمرفوع ، أو منصوب ، من حيثُ اللفظُ والمعنى ، فيُعدل به عن تَبَعيَّته لمتبوعه لفظاً ، ويُخْفَضَ لمجاورته لمخفوض؛ كقولهم : « هذا حُجْرُ ضَبِّ خَرِبٍ » ، وكان مِنْ حقِّه الرفع؛ لأنه مِنْ صفاتِ الجُحْر ، لا من صفاتِ الضبِّ ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضعه إِنْ شاءس اللهُ تعالى ، و « قِتَالٍ » هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ ، أو منصوبٍ ، وجاوز مَخفوضاً فخُفِض .
وإن كان عنى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فخفضُه بكونه جاور مخفوضاً ، أي : فصار تابعاً له ، لم يكنْ خطأً ، إِلاَّ أنه أغمضَ في عبارته؛ فالتبس بالمصطلح عليه .
وقرأ ابن عباس والأَعمش : « عَنْ قِتَالٍ » بإظهارِ « عَنْ » وهي في مُصْحَف عبد الله كذلك . وقرأ عكرمة : « قتْلٍ فِيهِ ، قُلْ قَتْلٌ فِيهِ » بغير ألف .
وقُرئ شاذّاً : « قِتَالٌ فيه » بالرفع وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأٌ ، والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ ، وسَوَّغ الابتداءُ به وهو نكرةٌ؛ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهام ، تقديره : أَقِتَالٌ فيه .
والثاني : أنه مرفوعٌ باسم فاعلٍ تقديرُه : أجائزٌ قتالٌ فيه ، فهو فاعلٌ به . وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه بأن يكونَ خبرَ محذوفٍ ، فجاءَ رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ : إِمَّا مبتدأٌ ، وإِمَّا فاعلٌ ، وإمَّا خبرُ مبتدأ . قالوا : ويظهرُ هذا مِنْ حَيثُ إِنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ أم لا ، وإنَّما كان سؤالهم : هل يجوزُ القتالُ فيه أم لا؟ وعلى كِلا هذين الوجهين ، فهذه الجملةُ المُستفهمُ عنها في محلِّ جرٍّ؛ بدلاً من الشهرِ الحرامِ ، لأنَّ « سَأَلَ » قد أخذ مفعوليه فلا تكونُ هي المفعول ، وإن كانت محَطَّ السؤال .

وقوله : « فِيهِ » على قراءةِ خفضِ « قِتَالٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه في محلِّ خفضٍ؛ لأنه صفةٌ ل « قِتَالٍ » .
والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ؛ لتعلُّقه بقتال ، لكونه مصدراً .
وقال أبو البقاء : كما يتعلَّقُ ب « قِتَالٍ » ولا حاجة إلى هذا التشبيهِ ، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعل .
فصل
والضميرُ في « يَسْأَلُونك » قيل للمؤمنين لما يأتي في سبب النزول ، ولأن أكثر الحاضرين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانُوا مسلمين ، فما قبل هذه الآية { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } [ البقرة : 214 ] { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 215 ] حكاية عن المؤمنين ، وما بعدها كذلك وهو قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] ، { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى } [ البقرة : 220 ] فوجب أن تكون هذه كذلك .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عبَّاسٍ أنه قال : ما رأيتُ قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلاَّ عن ثلاث عشرة مسألةً حتى قُبض ، كلهن في القُرآنِ ، ومنه { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ولكن الصدّ عن سبيل اللهِ ، وعن المسجدِ الحرام ، والكُفرِ به ، أكبرُ من هذا القتالِ . { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } فبيَّن تعالى أَنَّ غرضهم من هذا السؤال ، أَنْ يقاتِلُوا المسلمين ، ثم أنزل الله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] فصرَّح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائزٌ والألف واللامُ في « الشَّهْرِ الحرام » قيل : للعهد ، وهو رجبٌ ، وقيل : للجنسِ ، فيعمُّ جميع الأشهرِ الُحُرُمِ .
قوله : « قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ » جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، محلُّها النصبُ بقُلْ والمعنى : القتال في الشهر الحرام وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ :
إمَّا الوصفُ ، إذا جعلنا قوله : « فيه » صفةً له .
وإمَّ التخصيصُ بالعمل ، إذا جعلناه متعلقاً بقتال ، كما تقدَّم في نظيره .
فإِنْ قيل : قد تقدَّم لفظُ نكرة ، وأُعيدت من غير دخول ألفٍ ولام عليها ، وكان حقُّها ذلك ، كقوله تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 15-16 ] لإِنَّه لو لم يكن كذلك ، كان المذكور الثاني غير الأول ، وهذا غيرث واضحٍ؛ لإِنَّ الألف كقوله : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 5-6 ] .
فقال أبو البقاء : « ليسَ المرادُ تعظيم القتالِ المذكور المسؤولِ عنه ، حتى يُعادَ بالألف واللامِ ، بل المراد تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان ، فعلى هذا » قِتَالٌ « الثاني غيرُ الأولِ ، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ السَّابق المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً ، بل إنما تفيدُ العهدَ في الاسمِ السابقِ .

وأَحسنُ منه قولُ بعضهم : إنَّ الثَّاني غير الأولِ ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبد الله جحش ، وكان لنُصرة الإِسلامِ وخُذلان الكفرِ؛ فليس من الكبائرِ ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غير هذا ، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ ، ونصرةُ الكُفْرِ ، فاختير التنكير في هذين اللفظين؛ لهذه الدقيقة ، ولو جِيءَ بهما معرفتين ، أو بأحدهما مُعرَّفاً ، لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ .
فصل
روى أكثرُ المفسرين عن ابن عباسٍ : سبب نزولِ هذه الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبدالله بن جحش الأَسديّ ، وهو ابن عمَّته قبل قتال بدرٍ بشهرين على رأس سبعة شهراً من الهجرة وبعث معه ثمانية رهطٍ ، من المهاجرين؛ سعد بن أبي وقَّاص الزهري وعُكاشة بن محصن الأسدي ، وعتبة بن غزوان السَّلَمي ، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل ابن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبدالله الحنظليّ ، وخالد بن بُكَير ، وكتب معهم لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وعهداً ، ودفعه إليه ، وقال : سِر على اسم الله ، ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين ، فإذا نزلتَ ، فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ، ثُمَّ امْضِ إلى ما أمرتُك ، ولا تستكرِهنَّ أَحَداً مِنْ أصحابك على السَّير معك ، فسار عبد الله يومين ، ثم نزل وفتح الكتاب ، وإذا فيه « بسم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم » أمَّا بعد : فسر على بركة اللهِ بمنْ معك مِنْ أصحابك؛ حتَّى تنزل بطن نخلة ، فترصُد بها عير قريش؛ لعلك تأتينا منهم بخبرٍ ، فلمَّا نظر في الكتاب ، قال سَمْعاً وطاعة ، ثم قال لأَصحابه ذلك ، وقال : إنَّهُ نَهَاني أَن أَستكره أحداً منكم؛ فمن كان يريد الشهادة ، فلينطلق معي ، ومنْ كرِه ، فليَرْجِع ، ثم مَضَى ، ومَضَى معه أصحابه ، لم يتخلّف عنه منهم أحدٌ ، حتى كان بمعدن فوق الفُرع يقال له نجران ، أضلَّ سعد بن أبي وقَّاصٍ ، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما ، كانا يعتقبانه؛ فتخلفا عليه في طلبه ومضى ببقيةِ أصحابِه ، حتى نزل « ببطنِ نَخْلَةَ » بين « مَكَّةَ » و « الطائف » فبينما هم كذلك ، مرت عيرُ لقريشٍ تحملُ زبيباً ، وأدماً ، وتجارة مِنْ تجارات الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبدالله بن المغيرة ، ونوفلُ بن عبدالله المخزوميَّان ، فلما رأوْا أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هابوهم ، فقال عبدالله بن جحش إنَّ القومَ قد ذُعِروا منكم ، فاحلققُوا رأس رجُلٍ منكم؛ وليتعرض لهم ، فحلقُوا رأس عُكَاشة ، ثم أَشرفوا عليهم؛ فقالوا : قومٌ عمَّارٌ ، لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة . فكانوا يرون أنَّه من جمادى ، وهو مِنْ رجبٍ فتشاور القومُ ، وقالوا : لئن تركتموهم الليلة؛ ليدخُلنَّ الحرمَ ، فليمنعُنّ به منكم ، فأجمعوا أمرهم في مواقفة القومِ ، فَرَمَى وقادُ بن عبدالله السَّهمي عمرو بن الحضرميّ بسهمٍ ، فقتله ، فكان أوَّلَ قتيلٍ من المشركين ، واستأْسَرَ الحكم وعثمان ، فكانا أَوَّلَ أَسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفلٌ فأعجزهم ، واستاقَ المؤمنين العير والأَسيرين ، حتَّى قَدِمُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينةِ ، فقالت قريشٌ : لقد استَحَلَّ محمدٌ الشهرَ الحرامَ؛ فسفك فيه الدِّماءَ ، وأخذ الأموال فما شَهْر يأْمَنُ فيه الخَائِنُ ، وغير ذلك ، فقال أهلُ « مكَّةَ » مَنْ كان بها من المسلمين وقالوا : يا معشرَ الصَّبَأة ، استحللتُم الشهر الحرام ، وقاتلتم فيه ، فقال عبدالله بن جحش : يا رسول اللهِ : إنَّا قتلنا ابن الحضرمين ، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري : أفي رجبٍ أصبناه ، أم في جمادى .

فوقَّف رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - العير ، والأسَارى؛ وأبى أن يأخُذ شيئاً من ذلك ، فعظم ذلك على أصحاب السريَّة ، وظنُّوا أن قد هلكُوا ، وسُقِط في أيديهم ، وأكثر الناس في ذلك ، فأنزل اللهُ هذه الآية ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير ، فعزل منه الخمس ، فكان أولَ خُمُسٍ في الإسلام ، وقسَّمَ الباقي بين أصحاب السَّريَّةِ ، وكان أول غنيمةٍ في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيرهما فقال : بل نبقيهما حتَّى يقدم سعدٌ وعتبة ، وإنْ لم يَقْدُمَا ، قتلناهُما بهما ، فلمَّا قدما؛ فاداهما ، فأمَّا الحكم بن كيسان ، فأسلَمَ ، وأقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ ، فقُتِل يوم بئر معونة شهيداً ، وأَمَّا عثمان بن عبدالله ، فرجع إلى مكة؛ فمات بها كافِراً ، وأَمَّا نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزابِ؛ ليدخل الخندقَ ، فوقع في الخندقِ مع فرسه فتحطّما جميعاً فقتله اللهُ ، فطلب المشركون جيفتهُ بالثمن؛ فقال رسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خذوه فإِنَّهُ خبيثُ الجيفةِ ، خبيثُ الدِّيَةِ .
فصل
اتفق الجمهورُ : على أَنَّ هذه الآية تدلُّ على حُرمَةِ القتال في الشهر الحرام ، ثُمَّ اختلفُوا : هل ذلك الحكمُ باقٍ أو نُسِخ؟
فقال ابن جريج : حلف لي عَطَاءٌ باللهِ أَنَّهُ لا يحلُّ للناس الغزو في الحرم ، ولا في الشَّهرِ الحرامِ ، إِلاَّ على سبيل الدَّفع وروى جابر قال : لم يكن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يغزو في الشهر الحرام إِلاَّ أن يُغْزَى .
وسُئِلَ سعيد بن المسيب : هل يجوزُ للمسلمين أن يقاتلوا الكُفَّار في الشهر الحرام؟ قال : نعم .
قال أبو عبيد : والناس بالثغُور اليومَ جميعاً يرون الغزو على هذا القول مُبَاحاً في الشهور كُلِّها ولم أر أحداً من علماء « الشام » ، و « العراق » ينكرُه عليهم ، وكذلك أحسب قول أهْلِ الحجاز .
وحجته قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وهذا ناسخةٌ لتحريم القتال في الشهور الحرام .
قال ابن الخطيب : والذي عندي أن قوله تعالى : { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } نكرة في سياق الإِثبات ، فيتناول فرداً واحداً ، ولا يتناول كُلَّ الأَفراد فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مُطلقاً في الشهر الحرام ، ولا حاجة إلى النسخ فيه .

قوله : « وَصَدٌّ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ وما بعده عطفٌ عليه ، و « أكبرُ » خبرُ عن الجميع ، قاله الزَّجَّاج ، ويكون المعنى أَنَّ القتال الذي سألتُم عنه ، وإن كان كبيراً ، إلاَّ أن هذه الأشياء أكبرُ منه فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنَّ عذره ظاهرٌ؛ لأَنَّهُ كان يجوزُ أَنْ يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة ، ونظيره في المعنى قوله تعالى لبني إسرائيل { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] وقوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] .
وجاز الابتداءُ ب « صَدّ » لأحد ثلاثة أوجهٍ :
إِمَّا لتخصيصه بالوصفِ بقوله : « عَنْ سَبِيلِ الله » .
وإِمَّا لتعلُّقِه به .
وإمَّا لكونه معطوفاً والعطفُ من المسوِّغات .
والثاني : أنه عطفٌ على « كبيرٌ » أي : قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ ، قاله الفراء .
قال ابن عطية : وهو خطأٌ؛ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله : « وكفرٌ به » عطفٌ أيضاً على « كبيرٌ » ويجيءُ من ذلك أنَّ إخراج أهل المسجد منه أكبرُ من الكفرِ ، وهو بَيِّنٌ فسادُه .
وهذا الذي رَدَّ به قول الفراء ، غير لازم له؛ إذ له أَنْ يقولَ : إِنَّ قولَه « وكفرٌ به » مُبْتَدَأٌ ، وما بعده عَطْفٌ عليه ، و « أكبرُ » خبرٌ عنهما ، أي : مجموعُ الأَمرين أكبرُ من القتال والصدِّ ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر ، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ في الشهرِ الحرامِ .
وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعوله؛ إذ التقدير : وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ .
و « كفرٌ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطفٌ [ على « صَدّ » على قولنا بأن « صَدًّا » مُبتدأ لا على ] قولنا : بأنه خبرٌ ثانٍ عن « قِتالٍ » ، لأنه يلزَمُ منه أن يكون القتالُ في الشهرِ الحرامِ كُفْراً ، وليس كذلك ، إِلاَّ أَنْ يرادَ بقتال الثاني ما فيه هَدمُ الإِسلامِ ، وتقويةث الكفرِ؛ كما تقَدَّم ذلك عن بعضهم ، فيكونُ كفراً ، فيصِحُّ عطفه عليه مُطلقاً ، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط ، أي : وكُفْرُكم .
والثاني : أن يكون مبتدأٌ ، كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه . والضميرُ في « به » فيه وجهان :
أحدهما : أنه يعودُ على « سبيل » لأنه المحدَّثُ عنه .
والثاني : أنه يعودُ على اللهِ ، والأولُ أظهرُ . و « به » فيه وجهان ، أعني كونه صفةً لكفر ، أو متعلقاً به ، كما تقدَّم في « فيه » .

قوله : « والمسجدِ » مجروراً ، وقرئ شاذاً مرفوعاً . فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ .
أحدها : وهو قولُ المبرد وتبعه الزمخشري - وقال ابن عطية « وهو الصحيح » - أنه عطفٌ على « سبيلِ الله » أَي : وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجدِ .
وَرُدَّ هذا بأنَّه يؤدِّي إلى الفصل بين أبعاض الصِّلةِ بأجنبيّ تقريرُه أنَّ « صَدّاً » مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ ، والفعل ، و « أَنْ » موصولة ، وقد جَعَلْتُم « وَالْمَسْجِدِ » عطفاً على « سَبِيلِ » ، فهو من تمام صلته ، وفُصِل بينهما بأجنبيّ ، وهو « وَكُفْرٌ بِهِ » . ومعنى كونه أجنبياً أنَّهُ لا تعلُّق له بالصِّلةِ . فإنْ قيل : يُتَوَسَّعُ في الظَّرفِ وحرفِ الجّرّ ما لم يتوسع في غيرهما .
قيل : إنَّمَا قيل بذلك في التَّقديم ، لا في الفَصْل .
الثاني : أَنَّه عطفٌ على الهاءِ في « بِهِ » ، أي : وكفرٌ به ، وبالمسجد ، وهذا يتخرَّجُ على قولِ الكُوفيّين . وأمَّا البصريُّون؛ فيشترطُون في العطفِ على الضَّمير المجرور إعادة الخافض إِلاَّ في ضرورة ، فهذا التَّخريجُ عندهم فاسِدٌ ولا بدَّ من التّعرُّض لهذه المسألة ، وما هو الصَّحيحُ فيها؟ فنقول وبالله التوفيق : اختلف النُّحاةُ في العطفِ على الضَّمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهب :
أحدها - وهو مذهبُ البصريِّين- : وجوبُ إعادة الجارِّ إِلاَّ في ضرورةٍ .
الثاني : أَنَّهُ يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مُطْلِقاً ، وهو مذهبُ الكُوفيين ، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشَّلوبين .
والثالث : التَّفصيلُ ، وهو إِنْ أُكِّد الضَّميرُ؛ جاز العطفُ من غير إعادةِ الخافض نحو : « مَرَرْتُ بِكَ نفسِك ، وزيدٍ » ، وَإِلاّ فلا يجوز إلا ضرورةً ، وهو قول الجَرميّ ، والَّذي ينبغي جوازه مُطلقاً لكثرةِ السَّماع الوارد به ، وضعفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس .
أَمَّا السَّماعُ : ففي النَّثْرِ كقولهم : « مَا فِيهَا غَيْرُه ، وفرسِهِ » بجرِّ « فَرَسِهِ » عطفاً على الهاءِ في « غَيْره » . وقوله : { تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء : 1 ] في قراءة جماعةٍ كثيرة ، منهم حمزةُ كما سيأتي إن شاءَ اللهُ ، ولولا أَنَّ هؤلاء القرَّاء ، رووا هذه اللغة ، لكان مقبولاً بالاتِّفاق ، فإذا قرءُوا بها في كتاب اللهِ تعالى كان أَولَى بالقبُول .
ومنه : { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } [ الحجر : 20 ] ف « مَنْ » عطف على « لَكْم » في قوله تعالى : { لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } [ الحجر : 20 ] . وقوله : { وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ } [ النساء : 127 ] عطف على : « فيهنّ » ، وفيما يُتلى عَلَيْكُم . أما النَّظم فكثيرٌ جدّاً ، فمنه قولُ العبَّاس بن مرداس : [ الوافر ]
1054- أَكُرُّ عَلَى الكَتِيبَةِ لاَ أُبَالِي ... أَفِيهَا كَانَ حَتْفي أَمْ سِوَاهَا
فَ « سِوَاهَا » عطفٌ على « فِيهَا » ؛ وقولُ الآخر : [ الطويل ]
1055- تُعَلَّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ... ومَا بَيْنَهَا وَالأَرْضِ غَوْطٌ نَفَانِفُ
وقول الآخر : [ الكامل ]
1056- هَلاَّ سَأَلْتَ بِذِي الجَمَاجِمِ عَنْهُمُ ... وَأَبِي نُعَيْمٍ ذِي اللِّوَاءِ الْمُحْرِقِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
1057- بِنَا أَبَداً لاَ غَيْرِنَا تُدْرَكُ المُنَى ... وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخُطُوبِ الفَوَادِحِ

وقول الآخر : [ البسيط ]
1058- لَوْ كَانَ لِي وَزُهَيْرٍ ثَالِثٌ وَرَدَتْ ... مِنَ الحِمَامِ عِدَانَا شَرَّ مَوْرودِ
وقال الآخر : [ الطويل ]
1059- إِذَا أَوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ ... فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلَى بِهَا وَسَعِيرِهَا
وقول الآخر : [ البسيط ]
1060- إِذَا بِنَا بَلْ أُنَيْسَانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ ... ظَلَّتْ مُؤَمَّنَةٌ مِمَّنْ يُعَادِيهَا
وقول الآخر : [ الرجز ]
1061- آبَكَ أَيِّهْ بِيَ أَوْ مُصَدَّرِ ... مِنْ حُمُرِ الْجِلَّةِ جَأْبٍ حَشْوَرِ
وأنشد سيبويه : [ البسيط ]
1062- فَاليَوْم قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتشْتِمُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
فكثرةُ ورودِ هذا ، وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ ، فجاءوا تارةً بالواو ، وأخرى ب « لا » ، وأخرى ب « أَمْ » ، وأخرى ب « بَلْ » دليلٌ على جوازِه ، وأمَّا ضعفُ الدَّليل : فهو أَنَّهم منعُوا ذلك؛ لأنَّ الضَّمير كالتَّنوين ، فكما لا يُعطف على التَّنوين لا يعطفُ عليه إلاَّ بإعادة الجارّ .
ووجه ضعفه أَنَّهُ كان بمقتضى هذه العِلَّةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضَّمير مطلقاً ، أعْنِي سواءٌ كان مرفوع الموضعِ ، أو منصوبه ، أو مجروره ، وسواءً أُعيدَ معه الخافِضُ ، أم لا كالتَّنوين .
وأَمَّا القياسُ ، فلأنه تابعٌ من التَّوابع الخمسة ، فكما يُؤكَّدُ الضَّميرُ المجرورث ، ويُبْدَلُ منه ، فكذلك يُعطفُ عليه .
الثالث : أَنْ يكون معطوفاً على { الشهر الحرام } ثم بعد هذا طريقان :
أحدهما : أنّ قوله : { قِتَالٌ فِيهِ } مبتدأ ، وقوله { كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ } خبر بعد خبر ، والتَّقدير : إن قتالاً فيه محكُوم عليه بأنه كبيرٌ ، وبأنه صدٌّ عن سبيل اللهِ ، وبأنَّهُ كُفرٌ بالله .
والطريق الثانِي : أَنْ يكون قوله : { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } جملة مبتدأ وخبر وقوله : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } ، فهو مرفوع بالابتداء . وكذا قوله { وكُفْرٌ بِهِ } والخبر محذوفٌ لدلالة ما تقدَّم عليه ، والتَّقدير : قل : قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيلِ اللهِ كبير وكُفرٌ به كبير ونظيره : زَيْدٌ منطلِقٌ وعمرو ، وتقديره : وعمرو منطلق . وطعن البصريُّون في هذا فقالوا : أَمَّا قولكم تقدير الآية : يسألونك عن قتالٍ في الشَّهر الحرام وفي المسجد الحرام؛ فهو ضعيف؛ لأَنَّ السُّؤال كان واقعاً عن القتال في الشَّهر الحرام ، لا عن القِتَال في المسجدِ الحرامِ ، وطعنوا في الوجه الأوَّل بأنَّه يقتضي أَنْ يكون القتال في الشَّهر الحرام كفراً بالله ، وهو خطأ بالإجماع .
الثاني : بأنَّه قال بعد ذلك { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ } أي : أكبر مِنْ كُلّ ما تقدَّم ، فيلزم أَنْ يكون إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر عند اللهِ من الكُفر ، وهو خطأٌ بالإجماع .
قال ابن الخطيب : وللفرَّاءِ أن يجيب عن الأَوَّل بأنَّهُ : من الذي أخبركم بأَنَّه ما وقع السُّؤالُ عن القتال في المسجد الحرام ، بل الظَّاهر أَنَّهُ وقع؛ لأَنَّ القوم كانُوا مستعظمين للقتال في الشَّهر الحرام في البلد الحرام ، وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم ، فالظَّاهر أَنَّهم جمعوهما في السُّؤال ، وقولهم : على الوجه الأوَّل يلزم أَنْ يكون قتال في الشَّهر الحرام وكُفر ، فنحن نقول به لأَنَّ النَّكرة في سياق الإِثبات لا تفيد العموم .

وعندنا أَنَّ قتالاً واحداً في الشهر الحرام كُفرٌ .
وقولهم على الثَّاني : يلزم أَن يكون إخراجُ أهلِ المسجدِ منه أكبر من الكفر .
قلنا : المُراد أهل المسجد : وهم الرَّسُولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصحابه ، وإخراج الرَّسُول من المسجد على سبيل الإذلال لا شكّ أنه كُفرٌ ، وهو مع كونه كُفراً فهو ظُلْمٌ لأَنَّهُ إيذاء للإنسان مِنْ غير جرمِ سابقٍ ، ولا شكّ أن الشيء الَّذشي يكون ظُلماً وكُفراً أكبر ، وأقبح عند اللهِ ممَّا يكون كفراً ، وحده ، ولما ذكر أبو البقاء هذا القول - وهو أن يكون معطوفاً على الشَّهر الحرام - أي يسألُونك عن الشَّهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام .
قال أبو البقاء : وضعف هذا بأنَّ القومَ لم يسألوا عن المسجد الحرام إذ لم يشُكُّوا في تعظيمه ، وإنَّما سألوا عن القتال في الشَّهر الحرام .
والثاني : القتال في المسجد الحرام؛ لأَنَّهُم لم يَسْأَلوا عن ذات الشَّهر ولا عن ذات المسجد ، إِنما سألوا عن القتالِ فيهما؛ فأُجيبوا بأنَّ القتال في الشَّهر الحرامِ كبيرٌ ، وصَدٌّ عن سبيلِ الله تعالى ، فيكون [ قتال ] أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله ، وأُجيبوا بأنَّ القتال في المسجد الحرامِ وإِخراجَ أهله أكبرُ من القتالِ فيه . وفي الجملةِ ، فعطفُه على الشَّهر الحَرام متكلَّفٌ جدّاً يبعُدُ عنه نظمُ القُرآنِ ، والتركِيبُ الفصيحُ .
الرابع : أَنْ يتعلَّق بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديره : ويصُدُّون عن المسجد ، كما قال تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } [ الفتح : 25 ] قاله أبو البقاء ، وجعله جيّداً ، وهذا غيرُ جيّد؛ لأنه يلزمُ منه حذفُ حرفِ الجَرّ وإبقاءُ عملهِ ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها ، على خلافٍ في بعضها ، ونصَّ النَّحويُّون على أنَّه ضرورةٌ؛ كقوله : [ الطويل : ]
1063- إِذَا قِيلَ : أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ ... أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ
أي : إلى كُليبٍ فهذه أربعةُ أَوجه ، أجودها الثاني .
ونقل بعضهم أَنَّ الواو في المسجد هي واو القسم فيكون مجروراً .
وأمَّا رفعه فوجهُه أَنَّهُ عطفٌ على « وَكُفْرٌ » على حذف مُضافٍ تقديره « وَكُفْرٌ بالمَسْجِدِ » فحُذِفَت الباءُ ، وأُضِيفَ « كُفْرٌ » إلى المسجد ، ثمَّ حُذِفَ المضافُ وأُقيم المُضَافُ إليه مُقَامَهُ ، ولا يَخْفَى ما فيه من التَّكَلُّفِ .
فصل
وفي الصَّدِّ عن سبيل اللهِ وجوهٌ :
أحدها : أَنَّهُ صدٌّ عن الإِيمان باللهِ ورسوله .
وثانيها : صدُّ المسلمين عن الهجرة للرَّسُول عليه السَّلام .
وثالثها : صدُّ المسلمين عام الحُدَيبية عن العُمرَة .
ولقائل أن يقول : دلّت الرَّوايات على أَنَّ هذه الآية ، نزلت قبل غزوة بدرٍ باعثاً للرَّسُول مستحقّاً للعبادة قادراً على البعث ، وأما « المَسْجِد الحَرَامِ » فإِنْ عطفناه على الضَّمير في « بِهِ » ؛ كان المعنى : وكفر بالمسجد الحرام ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منعُ النَّاسِ عن الصَّلاَةِ ، والطَّواف به ، فقد كفروا بما هو السَّبَبُ في فضيلته الَّتي بها يتميَّزُ سائر البقاع .

وإن عطفناه على « سَبِيلِ اللهِ » كان المعنى : وصدّ عن المسجد الحرام ، وذلك لأَنَّهم صَدُّوا الطَّائفين ، والعاكِفِين ، والرُّكَّعِ السُّجُود عن المَسْجِدِ الحَرَامِ .
قوله : { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ } عطفٌ على « كُفرٌ » ، أو « صَدٌّ » على حسب الخلافِ المتقدِّم ، وهو مصدرٌ حُذِف فاعله ، وأُضيفَ إلى مفعوله ، تقديرُه : « وَإِخْرَاجُكم أَهْلَهُ » .
والضَّميرُ في « أَهله » و « مِنْهُ » عائدٌ على المَسْجِد وقيل : الضَّمير في « مِنْهُ » عائِدٌ على سبيل الله ، والأَوَّل أظهرُ و « منه » متعلِّقٌ بالمصدر .
قوله : « أَكْبَرُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبرٌ عن الثلاثة ، أعني : صَدّاً وكفراً ، وإخراجاً كما تقدَّم ، وفيه حينئذٍ احتمالان :
أحدهما : أن يكون خبراً عن المجموع ، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونض خبراً عنها باعتبار كلِّ واحدٍ ، كما تقول : « زيدٌ وبكرٌ وعمرو أفضلُ من خالدٍ » ، أي : كلُّ واحِدٍ منهم على انفراده أفضلُ من خالدٍ . وهذا هو الظَّاهِرُ . وإِنّما أُفْرِدَ الخبر؛ لأنه أفضلُ من تقديرِه : أكبر من القتال في الشَّهر الحرامِ . وإنَّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى .
الثاني من الوجهين في « أَكْبر » : أن يكونَ خبراً عن الأَخير ، ويكونُ خبر « وَصَدّ » و « كُفْر » محذوفاً لدلالة خبر الثَّالث عليه تقديره : وصدّ وكُفر أكبر . قال أبو البقاء في هذا الوجه : ويجب أَنْ يكون المحذوفُ على هذا أَكْبَر لا « كبير » كما قدَّره بعضهم؛ لأَنَّ ذلك يوجب أن يكُون إخراج أهل المسجد منه أكبرَ من الكُفر ، وليس كذلك . وفيما قاله أبو البقاء نظر؛ لأَنَّ هذا القائل يقولُ : حُذِف خبر « وَصَدّ » و « كُفْر » لدلالة خبر « قِتَالٍ » عليه ، أي : القتالُ في الشَّهرِ الحرام كبيرٌ ، والصَّدّ والكفر كبيران أيضاً ، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشَّهْرِ الحرام . ولا يلزمُ من ذلك أَن يكون أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتّى يلزمَ ما قاله من المحذور .
و « عِنْدَ اللهِ » متعلِّق ب « أَكْبر » ، والعِنْديةُ هنا مَجَازٌ لِما عُرف .
فصل في المراد بهذا الإخراج
والمرد بهذا الإخراج أنَّهم أخرجوا المسلمين من المسجد ، بل من مكة وإنما جعلهم أهلاً له؛ لأنَّهم القائمون بحقوق البيت كقوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [ الفتح : 26 ] وقال تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون } [ الأنفال : 34 ] فأخبر تعالى : أنَّ المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء ، وحكم عليها بأنها أكبر ، أي : كلُّ واحد منها أكبر من قتال في الشَّهر الحرام ، وهذا تفريعٌ على قول الزَّجَّاج؛ لأن كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتالٍ في الشهر الحرام ، فالكفر أعظم من القتل ، أو نقول : كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشَّهر الحرام ، وهو القتال الَّذي صدر عن عبدالله بن جحش؛ لأنه ما كان قاطعاً بوقوع ذلك القتال في الشَّهر الحرام ، وهؤلاء الكفَّار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشَّهر الحرام؛ فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر حجماً .

قوله : { والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } ذكروا في الفتنة قولين :
أحدهما - وعليه أكثر المفسِّرين - : أنَّها الكفر ، أي : الشّرك الَّذي أنتم عليه أكبر من قتل ابن الحضرميّ في الشَّهر الحرام .
قال ابن الخطيب : وهذا يستقيم على قول الفرَّاء ، وضعيف على قول الزَّجَّاج؛ لأنَّهُ قد تقدَّم ذكر ذلك ، فإنَّه تعالى قال : « وَكُفْر بِهِ أَكْبَرُ » فحمل الفتنة على الكفر يكون تكراراً .
والقول الثاني : أن الفتنة ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشُّبهات في قلوبهم ، وتارةً بالتَّعذيب كفعلهم ببلال ، وعمَّار ، وصهيب .
قال : محمَّد بن إسحاق : لأن الفتنة عبارة عن الامتحان ، يقال : فتنت الذَّهب بالنَّار : إذا أدخلته فيها لتزيل غشَّه قال تعالى : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ التغابن : 15 ] ، أي : امتحان؛ لأنَّهُ إذا ألزمه إنفاق المال في سبيل الله ، تفكّر في ولده؛ فصار ذلك مانعاً عن الإنفاق وقال تعالى : { الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 1-2 ] ، أي : لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء ، وقال : { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } [ طه : 40 ] وقال : { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } [ العنكبوت : 10 ] وقال : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] والمراد أنهم آذوهم ، وعذبوهم لبقائهم على دينهم . وقال : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } [ النساء : 101 ] ، وقال : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } [ الصافات : 162 ] وقال : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة } [ آل عمران : 7 ] أي : ابتغاء المحبَّة في الدِّين . وقال : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ } [ المائدة : 49 ] وقال : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } [ يونس : 85 ] والمعنى : أن يفتنوا بها عن دينهم ، فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر؛ وقال : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون } [ القلم : 5-6 ] قيل : المفتون المجنون؛ لأنَّ المجنون والجنون فتنة إذ هو محنةٌ وعدولٌ عن سبيل العقلاء ، وإذا ثبت أنَّ الفتنة هي المحنة ، فالفتنة أكبر من القتل؛ لأنَّ الفتنة عن الدِّين تفضي إلى القتل الكبير في الدُّنيا وإلى استحقاق العذاب الدَّائم في الآخرة ، فصحَّ أنَّ الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الَّذي وقع السُّؤال عنه ، وهو قتل ابن الحضرميّ .
روي أنَّه لما نزلت هذه الآية كتب عبدالله بن جحش إلى مؤمني مكَّة : إذا عيَّركم المشركون بالقتال في الشَّهر الحرام؛ فعيروهم بالكفر ، وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من مكَّة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام .
وصرح هنا بالمفضول في قوله : { والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حذف بخلاف الذي قبله حيث حذف .
قوله : { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ } هذا فعل لا مصدر له ، قال الواحديّ : ما زال يفصل ولا يقال منه : فاعل ، ولا مفعول ، ومثاله في الأفعال كثير نحو « عَسَى » ليس له مصدرٌ ، ولا مضارع ، وكذلك ذو ، وما فتِىءَ ، وهلمّ ، وهاكَ وهات وتعال وتعالوا .

ومعنى { وَلاَ يَزَالُونَ } : نفي : فإذا دخلت عليه « مَا » كان ذلك نفياً للنَّفي ، فيكون دليلاً على الثُّبوت الدَّائم .
قوله تعالى : { حتى يَرُدُّوكُمْ } حتى حرف جرِّ ، ومعناها يحتمل وجهين :
أحدهما : الغاية .
والثاني : التَّعليل بمعنى كي ، والتَّعليل أحسن؛ لأن فيه ذكر الحامل لهم على الفعل ، والغاية ليس فيها ذلك ولذلك لم يذكر الزَّمخشريُّ غير كونها للتَّعليل قال : « وَحَتّى » معناها التَّعليل كقولك : « فُلاَنٌ يُعْبُدُ اللهَ ، حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّة » ، أي يُقَاتِلُونَكُم كي يردُّوكم « . ولم يذكر ابن عطيَّة غير كونها غاية قال : » وَ « يَرُدُّوكُم » نصب ب « حَتّى » ؛ لأنَّها غاية محرّدة . وظاهر قوله : « مَنْصُوبٌ بِحَتّى » أنه لا يضمر « أنْ » لكنَّه لا يريد ذلك ، وإن كان بعضهم يقول بذلك . والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وجوباً .
و « يَزَالُونَ » مضارع زال النَّاقصة التي ترفع الاسم ، وتنصب الخبر ، ولا تعمل إلا بشرط أن يتقدَّمها نفيٌ ، أو نهي ، أو دعاء ، وقد يحذف النَّافي باطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جواب قسم ، وإلاَّ فسماعاً ، وأحكامها في كتب النَّحو ، ووزنها فعل بكسر العين ، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائيُّ في مضارعها : يزيل ، وإن كان الأكثر يزال ، فأمَّا زال التَّامَّة ، فوزنها فعل بالفتح ، وهي من ذوات الواو لقولهم في مضارعها يزول ، ومعناها التَّحوُّل . و « عَنْ دِينكُمْ » متعلق ب « يردُّوكُم » وقوله : « إِن اسْتَطَاعُوا » شرط جوابه محذوف للدلالة عليه ، أي : إن استطاعوا ذلك ، فلا يزالوا يقاتلونكم ، ومن رأى جواز تقديم الجواب ، جعل « لاَ يَزَالُونَ » جواباً مقدّماً ، وقد تقدَّم الرَّدُّ عليه بأنَّه كان ينبغي أن تجب الفاء في قولهم : « أَنْ ظَالِمٌ إِن فَعَلْتَ » .
قوله : { وَمَن يَرْتَدِدْ } « مَنْ » شرطيّة في محلِّ رفع بالابتداء ، ولم يقرأ أحدٌ هنا بالإدغام ، وفي المائدة [ آية54 ] اختلفوا فيه ، فنؤخِّر الكلام على هذه المسألة إلى هناك إن شاء الله تعالى .
ويرْتَدِدث يَفْتَعِلُ من الرَّدِّ وهو الرُّجوع كقوله : { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] . قال أبو حيَّان : « وقد عَدَّها بعضُهم فيما يَتَعَدَّى إلى اثْنَيْنِ إذْ كانت عنده بمعنى صَيَّر ، وجَعَلَ من ذلك قوله : { فارتد بَصِيراً } [ يوسف : 96 ] أي : رجَع » وهذا منه سهوٌ؛ لأنَّ الخلاف إنَّما هو بالنِّسبة إلى كونها بمعنى صار ، أم لا ، ولذلك مثلوا بقوله : « فَارْتدَّ بَصِيراً » فمنهم من جعلها بمعنى : « صَارَ » ، ومنهم من جعل المنصوب بعدها حالاً ، وإلاّ فأين المفعولان هنا؟ وأمَّا الذي عدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى : « صَيَّر » ، فهو ردَّ لا ارْتَدَّ ، فاشتبه عليه ردَّ ب « ارْتَدَّ » وصيَّر ب « صَارَ » .

وقال الواحديُّ : وأظهر التَّضعيف مع الجزم ، ولسكون الحرف الثاني ، وهو أكثر في اللُّغة من الإدغام .
و « منكم » متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المستكن في « يَرْتَدِدْ » و « من » للتَّبعيض ، تقديره : ومن يَرْتَدِدْ في حال كونه كائناً منكم ، أي : بعضكم . و « عَنْ دِينِهِ » متعلِّقٌ ب « يَرْتَدد » ، و « فَيَمُتْ » عطفٌ على الشَّرط ، والفاء مؤذنةٌ بالتَّعقيق .
{ وَهُوَ كَافِرٌ } جملةٌ حاليةٌ من ضمير : « يَمُتْ » ، وكأنَّها حالٌ مؤكِّدَةٌ؛ لأنَّها لو حذفت لفهم معناها ، لأنَّ ما قبلها يشعر بالتَّعقيب للارتداد ، وجيءَ بالحال هنا جملةً ، مبالغة في التأكيد من حيث تكرُّر الضَّمير بخلاف ما لو جيء بها اسماً مفرداً .
وقوله : { فأولاائك } جواب الشَّرط .
قال أبو البقاء : و « مَنْ » في موضع مبتدأ ، والخبر هو الجملة التي هي قوله : { فأولاائك حَبِطَتْ } ، وكان قد سلف له عند قوله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [ البقرة : 38 ] أن خبر اسم الشَّرط هو فعل الشَّرط لا جوابه ، وردَّ على من يدَّعي ذلك بما حكيته عنه ثمَّة ، ويبعد منه توهُّمُ كونها موصولةً لظهور الجزم في الفعل بعدها ، ومثله لا يقع في ذلك .
و « حَبِطَ » فيه لغتان : كسر العين وهي المشهورة وفتحها ، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميع القرآن ، ورويت عن الحسن أيضاً . والحبوط : أصله الفساد .
قال أهل اللُّغة : أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرّها ، فتعظم بطونها ، فتهلك . وفي الحديث : « وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً » ، وذلك أنَّ الإبل تأكل من المرعى إلى أن تنتفخ بطنها؛ فتمون البطن .
ومنه : « حَبِطَ بَطْنُه » ، أي : انتفخ ، ومنه « رَجلٌ حَبَنْطَى » ، أي : منتفخ البطن .
وحمل أوّلاً على لفظ « مَنْ » فأفرد في قوله : « يَرٍْتَدِدْ ، فيمت ، وهو كَافِرٌ » وعلى معناها ثانياً في قوله : « فَأُولَئِكَ » إلى آخره ، فجمع ، وقد تقدَّم أنَّ مثل هذا التَّركيب أحسن الاستعمالين : أعني الحمل أوّلاً على اللَّفظ ، ثمَّ على المعنى . وقوله « في الدُّنْيَا » متعلِّقٌ ب « حَبِطَتْ » .
وقوله : { وأولاائك أَصْحَابُ النار } إلى آخره تقدَّم إعراب نظيرتها . واختلفوا في هذه الجملة : هل هي استئنافيّةٌ ، أي : لمجرَّد الإخبار بأنَّهم أصحاب النَّار ، فلا تكون داخلةً في جزاء الشَّرط ، بل تكون معطوفةً على جملة الشَّرط ، أو هي معطوفة على الجواب؛ فيكون محلُّها الجزم؟ قولان ، رجِّح الأوَّل بالاستقلال وعدم التّقييد ، والثَّاني بأنَّ عطفها على الجزاء أقرب من عطفها على جملة الشَّرط ، والقرب مرجِّحٌ .
فصل فيمن خرج من كفر إلى كفر
قال القرطبيُّ : اختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر؛ فقال جمهور الفقهاء : لا يتعرَّض له؛ لأنَّه انتقل ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه وعن الشَّافعيّ : أنَّه يقتل؛ بقوله عليه السَّلام :

« مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ » وقال مالكٌ : معناه : من خرج من الإسلام إلى الكفر ، فأمَّا من خرج من كفر إلى كفر ، فلم يعنه الحديث .
فصل في اقتضاء الآية شرط الوفاة
ظاهر الآية يقتضي أنَّ الوفاة شرطٌ لثبوت الأحكام المذكورة . ويتفرَّع عليه بحثان : بحثٌ أصولي ، وبحثٌ فروعي . فالأصوليُّ : أنَّ جماعةً من المتكلِّمين قالوا : شرط صحَّة الإيمان والكفر حصول الوفاة ، فلا يكون الإيمان إيماناً ، إلاَّ إذا مات المؤمن ، ولا يكون الكفر كفراً ، إلاَّ إذا مات الكافر عليه .
وأما البحث الفروعيُّ : فهو أنَّ المسلم إذا صلَّى ، ثم ارتدّ ، ثمَّ أسلم في الوقت؛ قال الشافعيُّ : لا إعادة عليه .
وقال أبو حنيفة : يلزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج ، حجة الشَّافعي قوله تعالى : { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولاائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } شرطٌ في إحباط العمل أن يموت وهو كافرٌ ، وهذا الشَّخص لم يوجد في حقِّه هذا الشَّرط؛ فوجب ألاَّ يصير عمله محبطاً .
فإن قيل : هذا معارض بقوله تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] وقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ } [ المائدة : 5 ] .
ولا يقال : حمل المطلق على المقيَّد واجبٌ؛ لأنَّا نقول : ليس هذا من باب المطلق والمقيَّد؛ فإنَّهم أجمعوا على أنَّ من علَّق حكماً بشرطين ، وعلقه بشرط ، أنَّ الحكم ينزل عند أيِّهما وجد كمن قال لعبده : أنت حرٌّ؛ إذا جاء يوم الخميس ، ولم يكن في ملكه ، ثم اشتراه ، ثم جاء يوم الخميس؛ عتق ولو كان باعه ، فجاء يوم الخميس وهو في ملكه عتق بالتعليق الأوَّل .
فصل في محل إحباط العمل
ليس المراد من إحباط العمل نفس العمل؛ لأنَّ العمل شيء كما وجد ، فَنِيَ وزَال ، وإعدم المعدوم محال . ثمَّ اختلف المتكلِّمون فيه؛ فقال المثبتون للإحباط والتَّكفير : المراد منه أنَّ عقاب الرِّدَّةِ الحادثة يزيل ثواب الإيمان السَّابق ، إمَّا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة ، أو لا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي .
وقال المنكرون للإِحباط : هذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله ، هو أنَّ المرتدَّ إذا أتى بالرِّدَّة فتلك الرِّدة عمل محبط؛ لأنَّ الآتي بالرِّدَّة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً ، فإذا لم يأت بذلك العمل الجيِّد ، وأى بدله بهذا العمل الرَّدِيءِ ، لا يستفيد منه نفعاً ، بل يستفيد منه أعظم المضارّ ، يقال : إنَّه حبط عمله ، أي : بعملٍ باطلٍ ، ليس فيه فائدة ، بل فيه مضرَّةٌ .
فصل في الإحباط في الدنيا
أمَّا إحباط الأعمال في الدُّنيا ، فهو أنَّه يقتل عند الظَّفر به ، ويقاتل إلى أن يظفر به ، ولا يستحقُّ من المؤمنين موالاةً ولا نصراً ، ولا ثناءً حسناً ، وتبين زوجته منه ، ولا يستحقُّ الميراث من المسلمين .

ويجوز أن يكون المعنى في إحباط أعمالهم في الدُّنيا ، هو أنَّ ما يريدونه بعد الرِّدَّة من الإضرار بالمسلمين ، ومكايدتهم بالانتقال عن دينهم يبطل كله ، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره؛ فتكون الأعمال على هذا التَّأويل ما يعملونه بعد الرِّدَّة ، وأمَّا إحباط أعمالهم في الآخرة ، فعند القائلين بالإحباط معناه : إنَّ هذه الرَّدَّة تبطل استحقاقهم للثَّواب الذي استحقُّوه بأعمالهم السَّالفة . وعند المنكرين لذلك معناه : أنَّهم لا يستفيدون من تلك الرِّدَّة ثواباً ، ونفعاً في الآخرة ، بل يستفيدون منه أعظم المضارِّ ، ثمَّ بين كيفيَّة تلك المضرَّة فقال : { وأولاائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
فصل
قال القرطبيُّ : قالت طائفةٌ : يستتاب المرتدُّ؛ فإن تاب وإلاَّ قتل .
وقال بعضهم : يُسْتَتَابث ساعةً واحدةً .
وقال آخرون : يُسْتَتَابُ شهراً .
وقال آخرون : يُسْتَتَابُ ثلاثاً ، على ما روي عن عمر وعثمان ، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم .
وقال الحسن : يُسْتَتَابث مائة مرَّةٍ ، وروي عنه أنَّه يقتل دون استتابةٍ ، وهو أحد قولي الشَّافعيّ .
واحتجّ من قال بأنّه يقتلُ ولا يستتاب ، بحديث معاذٍ ، وأبي موسى : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل ، فلمَّا قدم عليه قال : انزل ، وألقى له وسَادَةٌ ، وإذا رجُلٌ عنده موثقٌ ، قال : مَا هَذَا؟ قال : كَانَ يُهُودِياً ، فأسلم ، ثم راجع دينه ، فتهوَّد ، قال : لا أجلس حتّى يُقتل ، قضاء الله ورسوله ثلاث مرَّات ، وأمر به فقتل . أخرجه « مُسْلِمٌ » وغيره .
وقال مالك : يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ ، ولا يُسْتَتَابُ .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } .
إنَّ واسمها و « أُولَئِكَ » مبتدأ ، و « يَرْجُونَ » خبره ، والجملة خبر « إِنَّ » ، وهو أحسنُ من كون « أُولَئشكَ » بدلاً من « الّذِين » ، و « يَرْجُون » خبر « إنَّ » . وجيء بهذ الأوصاف الثَّلاثة مترتِّبةٌ على حسب الواقع ، إذ الإيمان أولُ ، ثم المهاجرة ، ثم الجهاد .
وأفرد الإيمان بموصولٍ وحده؛ لأنَّه أصل الهجرة والجهاد ، وجمع الهجرة ، والجهاد في موصولٍ واحدٍ ، لأنَّهما فرعان عنه ، وأتى بخر « إنَّ » اسم إشارة؛ لأنَّه متضمِّنٌ للأوصاف السَّابقة . وتكرير الموصول بالنِّسبة إلى الصِّفات ، لا الذَّوات ، فإنَّ الذَّوات متَّحدةٌ موصوفةٌ بالأوصاف الثَّلاثة ، فهو من باب عطف بعض الصِّفات على بعض ، والموصوف واحد . ولا نقول : إنَّ تكرير الموصوف يدلُّ على تغير الذَّوات الموصوفة؛ لأنَّ الواقع كان كذلك . وأتى ب « يَرءجُونَ » ؛ ليدَّ على التَّجدُّد وأنهم في كلِّ وقتٍ يحدثون رجاءً .
والمهاجرة : مفاعلةٌ من الهجر ، وهي الانتقال من أرض إلى أرضٍ ، وأصل الهجر التّرك . والمجاهدة مفاعلةٌ من الجهد ، وهو استخراج الوسع وبذل المجهود ، والإجهاد : بذلُ المجهود في طلب المقصود ، والرَّجاء : الطمع .
وقال الرّاغب : هو ظنٌّ يقتضي حصول ما فيه مسرَّةٌ ، وقد يطلقُ على الخوف؛ وأنشد : [ الطويل ] :
1064- إذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا في بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ
أي : لم يَخَفْ ، وقال تعالى : { لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } [ يونس : 7 ] أي : لا يخافون ، وهل إطلاقه عليه بطريق الحقيقة ، أو المجاز؟ فزعم قومٌ أنه حقيقةٌ ، ويكون من الاشتراك اللَّفظي ، وزعم قومٌ أنه من الأضداد ، فهو اشتراكٌ لفظيّ أيضاً . قال ابن عطيَّة : « ولَيْسَ هَذَا بِجيّدٍ » ، يعني : أنَّ الرَّجاء والخوف ليسا بضدَّين إذ يمكن اجتماعهما ، ولذلك قال الرَّاغِبُ بعد إنشاده البيت المتقدّم « ووجْهُ [ ذلك ] : أنَّ الرَّجَاءَ والخوفَ يَتَلاَزَمَانِ » ، وقال ابن عطيَّة : « والرَّجَاءُ أبداً معه خوفٌ ، كما أنَّ الخوف معه رَجَاءٌ » . وزعم قومٌ أنه مجازٌ للتلازم الّذي ذكرناه عن الرَّاغب وابن عطيَّة .
وأجاب الجاحظ عن البيت بأنَّ معناه لم يرج برء لسعها وزواله فالرَّجاء على بابه .
وأمَّا قوله : { لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } [ يونس : 7 ] أي لا يرجون ثواب لقائنا ، فالرَّجاء أيضاً على بابه ، قاله ابن عطيَّة .
وقال الأصمعيُّ : « إذا اقترن الرَّجَاء بحرفِ النَّفي ، كان بمعنى الخَوْفِ » كهذا البيت والآية .
وفيه نظرٌ إذ النَّفي لا يغيِّر مدلولات الألفاظ .
والرَّجاء مقصود ناحية البئر ، وحافَّاته من كل ناحيةٍ ، وجاؤوا بقوام من النَّاس يخطُّون في قولهم بأعظم الرَّجَاء ، فيقصرون ، ولا يمدُّون ، وكتبت « رَحْمَة » هنا بالتَّاء : إمَّا جرياً على لغة مَنْ يَقِفُ على تَاءِ التَّأْنِيث بالتَّاء ، وإما اعتباراً بحالها في الوصل ، وهي في القرآن في سبعة مواضع ، كتبتُ في الجميع تاءً ، هنا وفي الأعراف :

{ إِنَّ رَحْمَةَ الله } [ آية : 56 ] ، وفي هود : { رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ } [ آية : 73 ] ، وفي مريم : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } [ آية : 2 ] ، وفي الرُّوم : { فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ الله } [ آية : 50 ] ، وفي الزخرف : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ } [ آية : 32 ] .
فصل
في تعلّق هذه الآية بما قبلها ، وجهان :
الأول : أنَّ عبد الله بن جحش قال : يَا رَسُولَ الله ، هَبْ أنَّهُ لاَ عِقَابَ عَلَيْنَا فِيمَا فَعَلْنَا ، فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهَ أُجْراً ، وَثَوَاباً ، فَنَطمع أن يكون سفرُنا هذا غزواً؛ فأنزل الله هذه الآية؛ لأنَّ عبد الله كان مؤمناً ، ومهاجراً ، وسبب هذه المقاتلة ، كان مجاهداً .
الثاني : أنَّه تعالى أوجب الجهاد من قبل بقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] وبين أن تركه سبب الوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } ولا يكاد يوجد وعيدٌ إلاَّ ويعقبه وعد .
فصل في المراد بالرجاء
وفي هذا الرجاء قولان :
الأوَّل : عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها وأراد تعالى هنا : أنَّهم يظنُّونَ في ثَوَابِ اللهِ؛ لأن عبد الله بن جحشٍ ما كان قاطعاً بالفوز والثَّواب في عمله ، بل كان يتوقَّعه ، ويرجوه .
فإن قيل : لم جعل الوعد مطلقاً بالرَّجاء ، ولم يقطع به ، كما في سائر الآيات؟
فالجواب من وجوهٍ .
أحدها : أنَّ الثَّوابَ على الإيمان ، والعمل غير واجبٍ عقلاً ، بل بحكم الوعد فلذلك علَّقه بالرَّجاء .
وثانيها : هب أنَّه واجبٌ عقلاً ، ولكنَّه تعلّق بأنه لا يكفر ، وهذا الشَّرط مشكوكٌ لا متيقِّن ، فلا جرم الرَّجاء ، لا القطع .
وثالثها : أنَّ المذكور ها هنا هو الإيمان ، والهجرة ، والجهاد ، ولا بدَّ للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال ، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها ، كما وفَّقه لهذه الثَّلاثة ، فلا جرم علقه على الرَّجاء .
ورابعها : ليس المراد من الآية أنَّ الله تعالى شكَّك العبد في هذه المغفرة ، بل المراد وصفهم بأنَّهم يفارقون الدُّنيا مع الهجرة والجهاد ، ومستقصرين أنفسهم في حقّ الله تعالى يرون أنّهم يعبدونه حقّ عبادته ، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه ، فيقدمون على الله مع الخوف والرَّجاء ، كما قال : { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [ المؤمنون : 60 ] .
وأجاب القرطبيُّ عن هذا السُّؤال بوجهين آخرين :
الأول : أنَّ الإنسان لو بلغ في طاعة الله كلَّ مبلغٍ ، لا يدري بماذا يختم له .
الثاني : لئلاّ يتّكل على عمله .
القول الثاني : أنَّ المراد من الرَّجاء القطع في أصل الثَّواب ، والظَّن إنَّما دخل في كميّته وفي وقته ، وفيه وجوه تقدَّمت في قوله تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] .
وقوله : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، أي : إنَّ الله تعالى يحقِّق لهم رجاءهم ، إذا ماتوا على الإيمان ، والعمل الصَّالح .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

قوله : { عَنِ الخمر والميسر } لا بدّ فيه من حذف مضاف إذ السُّؤال عن ذاتي الخمر والميسر غير مرادٍ ، والتَّقدير : عن حكم الخمر والميسر .
الخمر : هو المعتصر من العِنَبِ إذا غلى ، وقذف بالزَّبد ، ويطلق على ما غلى ، وقذف بالزَّبد من غير ماء العنب مجازاً .
وفي تسميتها « خَمْراً » أربعة أقوال :
أشهرها : أنَّها سمِّيت بذلك؛ لأنها تخمر العقل ، أي : تستره ، ومنه : خمار المرأة لستره وجهها ، والخمر : ما واراك من شجر ، وغيره من وهدةٍ ، وأكمة ، والخامر هو الذي يكتم شهادته؛ [ و : خَامِري حضَاجِرُ ، أتاك ما تُحَاذِرُ « يُضْرَبُ للأحمق ، وحَضَاجِرُ : علمٌ للضبع ، أي : استتر عن النَّاس ، ودخل في خمار النَّاس ، وغمارهم ] .
قال : [ الوافر ]
1065- أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرا ... فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ
أي : ما يستركما من شجرٍ وغيره ، وقال العجَّاج يصف مسير جيش طاهر بن أبان :
[ الرجز ]
1066-في لاَمِعِ العِقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمَرْ ... والثاني : لأنَّها تغطَّى حتّى تدرك وتشتدَّ ، فهو من التَّغطية ومنه » خَمَّروا آنيتكم « .
والثالث : - قال ابن الأنباري من المخالطة - لأنَّها تخامر العقل ، أي : تخالطه ، يقال : خامره الدَّاء ، أي : خالطه .
وأنشد لكثير : [ الطويل ]
1067- هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ..
ويقال : خَامَرَ السّقام كبده . فهذه الاشتقاقات دالَّة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل ، كما سمِّيت مسكراً؛ لأنَّها تسكر العقل أي : تحجزه .
والرابع : لأنَّها تترك حتى تدرك ، ومنه : » اخْتَمَرَ العَجِينُ « أي : بلغ إدراكه ، وخمر الرَّأي ، أي : تركه ، حتَّى ظهر له فيه وجه الصَّواب ، وهي أقوال متقاربةٌ . وعلى هذه الأقوال تكون الخمر في الأصل مصدراً مرارداً به اسم الفاعل واسم المفعول .
فصل
قال أبو حنيفة : الخمرُ : هو ما كان من عصير العنب وغيره .
حجّة أبي حنيفة : قوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 67 ] فمنَّ الله تعالى علينا باتخاذ السَّكر ، والرِّزق الحسن؛ فوجب أن يكون مباحاً؛ لأنَّ المنَّة لا تكون إلاَّ بالمباح .
وروى ابن عبَّاس أنَّه - عليه السَّلام - أتى السِّقاية عام حجَّة الوداع ، فاستند إليها وقال : اسقوني ، فقال العبَّاس : لنسقينَّك ممَّا ننبذُهُ في بيوتنا؟ فقال : » مِمّا يُسْقَى النَّاسُ « فجاءه بقدح من نبيذ؛ فشمَّه فقطب وجهه وردَّه ، فقال العبَّاس : يا رسول الله أفسدت على أهل مكَّة شرابهم . فقال : » رَدُّوا عَلَيَّ القَدَحَ « فردُّوه عليه؛ فدعا بماء زمزم؛ فصبّ عليه وشَرِبَ وقال : » إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الأَشْرِبَة فَاقْطَعُوا نتنها بالمَاءِ « .
وجه الاستدلال به : أن التقطيب لا يكون إلاَّ من الشَّديد ، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدَّة بالنَّصِّ ، ولأنَّ اغتلام الشَّراب شدَّته ، كاغتلام البعير سكره .
وأيضاً وردت عند الصَّحابة فيه آثارٌ؛ روي أنَّ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - كتب إلى بعض عماله أن أرزاق المسلمين من الطِّلاء ما ذهب ثلثاه ، وبقي ثلثه ، ورأى أبو عبيدة ، ومعاذٌ : شرب الطِّلاء على الثُّلث .

وحجَّة القائلين بأنَّ الخمر من عصير العنب وغيره ما روى أبو داود عن عمر - رضي الله عنه - قال : « نَزَلَ تحريمُ الخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وهي من خمسة من العِنَبِ ، والتَّمْرِ ، والحِنْطَةِ ، والشَّعِيرِ ، والذُّرَةِ » .
والخمر ما خامر العقل .
وفي « الصَّحيحين » عن عمر أنَّه قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إنّ الخرم قد حرِّمت ، وهي من خمسة : من العنب ، والتَّمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير والخمر ما خامر العقل . وروى أبو داود عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ » وفي « الصَّحِيحَيْنِ » أنه عليه السَّلام سُئِلَ عن البِتع ، فقال : « كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ ، فَهُوَ حَرَامٌ » والبِتع شراب يتخذ من العسل .
قال الخطابيُّ : والدَّلالة من وجهين :
أحدهما : أنَّ الآية لما دلَّت على تحريم الخمر ، وكان مسمَّى الخمر مجهولاً من القوم ، حسن من الشَّارع أن يقال : مراد الله تعالى من هذه اللَّفظة هذا ، ويكون على سبيل إحداث لغةٍ ، كما في الصَّلاة والصَّومِ وغيرهما .
والوجه الآخر : أن يكون معناه : أنَّه كالخمر في الحرمة؛ لأن قوله هذا خمر ، فإن كان حقيقةً؛ فحصل المدّعي ، وإن كان مجازاً؛ فيكون حكمه كحكمه؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ الشَّارع ليس مقصوده تعليم اللُّغات على تعليم الأحكام ، وحديث البتع يبطل كلَّ تأويلٍ ذكره أصحاب تحليل الأنبذة ، وإفساد قول من قال : إنَّ القليل من المسكر من الأنبذة مباحٌ؛ لأنَّه - عليه السَّلام - سُئِلَ عن نوع واحدٍ من الأنبذة ، وأجاب بتحريم الجنس ، فدخل فيه القليل والكثير ، ولو كان ثمَّ تفصيلٌ في شيءٍ من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله ، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ » ، وقال : « مَا أَسْكَرَ الفرق منه فتمسك الكف منه حرام » .
قال الخطابي : « الفَرقُ » : مِكْيَالٌ يَسَعُ ستَّة عشَرَ رطلاً وروى أبو داود عن أُمِّ سلمة قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلِّ مسكرٍ ومفترٍ .
قال الخطَّابيُّ : « المفترُ » كلّ شرابٍ يورث الفتور ، والخدر في الأعضاء .
واستدلُّوا أيضاً بالاشتقاق المتقدّم وأيضاً بقوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة } [ المائدة : 91 ] .
وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة؛ لأنَّها مظنّته .
وأيضاً فإنّ عمر ، ومعاذ قالا : يا رسول الله ، إنَّ الخمر مسلبةٌ للعقل مذهبة للمال؛ وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة .
والجواب عن دلائل أبي حنيفة : أنَّ قوله { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً } [ النحل : 67 ] نكرة في سياق الإثبات ، فلم قلتم إنّ ذلك السُّكر هو هذا النَّبيذ .

ثمَّ أجمع المفسِّرون على أنَّ هذه الآية قبل الآيات الدَّالَّة على تحريم الخمر ، فتكون ناسخةً ، أو مخصّصة .
وأمَّا حديث النَّبيذ فلعلَّه كان ماءًا نبذت فيه تمراتٌ؛ لتذهب ملوحته فتغيَّر طعم الماء قليلاً إلى الحموضة ، وطبعه - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان في غاية اللَّطافة ، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطَّعم؛ فلذلك قطَّب وجهه ، وإنما صبَّ الماء فيه؛ إزالة لتلك الحموضة ، أو الرائحة . وأمَّا آثارُ الصَّحابة ، فمتدافعة متعارضة .
فصل في عدد الآيات التي نزلت بمكة في تحريم الخمر
قالوا : نزل في الخمر آربع آيات بمكَّة :
قوله : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً } [ النحل : 67 ] وكان المسلمون يشربونها ، وهي لهم حلالٌ ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصَّحابة قالوا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر ، فإنَّها مذهبةٌ للعقل مسلبةٌ للمال ، فنزل قول تعالى : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ اللهَ تَقَدَّمَ في الخَمْر » فتركها قومٌ لقوله ( إثْمٌ كبيرٌ ) وشربها قوم لقوله ( ومنافع للناس ) . إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماًن فدعا ناساً من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمرٍ ، فشربوا ، وسكروا ، وحضرت صلاة المغرب؛ فتقدَّم بعضهم ليصلِّي بهم فقرأ : « قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ » هكذا إلى آخر السورة بحذف « لا » ، فأنزل الله تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] فحرَّم السُّكر في أوقات الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية ، تركها قومٌ ، وقالوا : لا خير في شيءٍ يحول بيننا وبين الصَّلاة وتركها قوم في أوقات الصَّلاة ، وشربوها في غير وقت الصَّلاة ، حتَّى كان الرَّجل يشرب بعد صلاة العِشاء ، فيصبح ، وقد زال عنه السُّكر ، ويشرب بعد صلاة الصُّبح ، فيصحو إذا جاء وقت الظُّهر ، واتخذ عُتبان بن مالك صِبْغاً ودعا رجالاً من المسلمين ، فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعيرٍ ، فأكلوا منه ، وشربوا الخمر ، حتى أخذت منهم ، ثمَّ إنّهم افتخروا عند ذلك ، وانتسبوا ، وتناشدوا ، فأنشد سعد قصيدةً فيها هجاءٌ للأنصار ، وفخر لقومه ، فأخذ رجلٌ من الأنصار لحي بعيرٍ ، فضرب به رأس سعدٍ؛ فشجَّه موضّحةٌ فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكى إليه الأنصاريَّ ، فقال عمر : اللَّهُمَّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً؛ فأنزل الله تعالى : { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ } [ المائدة : 90 ] إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] وذلك بعد غزوة الأحزاب بأَيَّام ، فقال عمر : انتهينا يا ربّ .
قال ابن الخطيب : والحكمة في وقوع التَّحريم على هذا التَّرتيب أنَّ الله تعالى علم أنَّ القوم كانوا قد أَلِفُوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم بذلك كثيراً ، فعلم أنَّه لو منعهم دفعةً واحدةً لشقّ ذلك عليهم ، فلا جرم درَّجهم في التَّحريم رفقاً بهم ، ومن الناس من قال : إن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية ، ثم نزل قوله :

{ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] فاقتضى ذلك تحريم شربها؛ لأنَّ شارب الخمر لا يمكنه أن يصلِّي مع السُّكر ، فكان المنع من ذلك منعاً من الشّرب ضمناً ، ثم نزلت آية المائدة ، فكانت في غاية القوَّة في التَّحريم . وعن الرَّبيع بن أنس أنَّ هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر .
فصل
قال أنسٌ : حُرمت عليهم الخمر ، ولم يكن يومئذ للعرب عيشٌ أعجب منها ، وما حرِّم عليهم شيءٌ أشدّ من الخمر .
وقال أنس بن مالك : ما كان لنا خمر غير فضيخكم فإنّي لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً ، وفلاناً ، إذ جاء رجلٌ فقال : حرمت الخمر . قالوا : أهرق هذه القلال يا أنس؛ قال : فما سألوا عنها ، ولا راجعوها بعد خبر الرَّجل .
واختلف الفقهاء في الخمر على ما تقدَّم؛ فقال قومٌ : هو عصير العنب والرُّطب الَّذي اشتدّ وغلا من غير عمل النَّار فيه ، واتَّفقت الأُمَّة على أنَّ هذا الخمر نجس يحدُّ شاربها ، ويُفَسَّقُ ، ويكفر مستحلها ، وذهب سفيان الثَّوريُّ ، وأبو حنيفة ، وجماعة إلى أنَّ التَّحريم لا يتعدّى هذا ولا يحرم ما يتّخذ من غيرها ، كالحنطة ، والشَّعير ، والذُّرة ، والعسل ، والفانيذِ إلاَّ أن يسكر منه فيحرم ، وقال : إذا طبخ عَصِيرُ العِنَبِ والرُّطب ، حتّى ذهب نصفه ، فهو حلالٌ ، ولكنه يكره ، وإن طبخ ، حتَّى يذهب ثلثاه قالوا : هو حلالٌ مباحٌ شربه إلاَّ أنَّ السُّكر منه حرامٌ .
وقال قومٌ : إذا طُبخَ صار العَصِيرُ أدْنَى طبخ ، صار حَلاَلاً ، وهو قول إسماعيل بن عليه ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ كل شراب أسكر كثيره ، فهو خمر قليله حرام يحدّ شاربه ، وقد تقدَّم ما أجابوا به .
والمَيْسِرُ : القِمَارُ ، مفعل من اليُسْرِ ، يقال : يَسَرَ يَيْسِرُ؛ قال علقمة : [ البسيط ]
1068- لَو يَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا ... وَكُلُّ مَا يَسَرَ الأَقْوَامُ مَغْرُومُ
وقال آخر : [ الطويل ]
1069- أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْئَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِس زَهْدَمِ
وفي اشتقاقه أربعة أقوال :
أحدها : من اليُسْر وهو السُّهولة؛ لأنَّ أخذه سهل من غير كدر ولا تعب قاله مقاتل .
والثاني : من اليَسَار ، وهو الغنى؛ لأنَّه يسلبه يساره .
قال ابن عباسٌ : كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة يخاطرُ الرَّجُلَ على أهله وماله فأيهما قَمَر صاحبه؛ ذهب بأهله ، وماله ، فنزلت الآية .
الثالث : قال الواحديُّ : إنه من قولهم : يَسُرَ لي هذا الشَّيء يَيْسِرُ يُسْراً وميسراً ، إذا وجب ، واليَاسِرُ الوَاجِبُ بسبب القِدَاحِ . وحكاه الطبريُّ عن مجاهدس ، ورد ابن عطيَّة عليه .
الرابع : من يسر إذا جزر ، واليَاسِرُ الجَازِرُ ، وهو الذي يجزّئ الجَزُور أجزاءً . قال ابن عطيَّة : وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً؛ لأنَّها موضع اليُسْرِ ، ثمَّ سُمِّيت السِّهَامُ مَيْسراً للمُجَاوَرَةِ « واليَسَرُ : الذي يدخل في الضَّرْبِ بالقِدَاح ، ويجمع على أيسار ، وقيل : بل » يُسَّر « مع يَاسِر كَحَارِس وحُرَّسٍ وأَحْرَاسٍ .

وللميسر كيفيَّةٌ ، وتُسمّى سِهَامُهُ القِدَاحَ والأزلامَ والأقلامَ . وقيل : هي عَشَرَةُ أقْدَاح ، وقيل : أَحَدَ عَشَرَ ، لسبعةٍ منها حُظُوظٌ ، وعلى كُلِّ منها خُطُوطٌ ، فالخطُّ يقدِّر الحَظَّ ، وتلك القِدَاحُ هي : الفَذُّ وله سهمٌ واحدٌ ، والتَّوءَمُ وله اثنان ، والرَّقيبُ وله ثلاثةٌ ، والحِلْسُ وله أربعةٌ ، والنَّافسُ وله خمسةٌ ، والمُسْبلُ وله ستّةٌ ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خُطُوطَ عليها ، وهي المنيحُ ، والسَّفيحُ ، والوغْدُ .
وأنشد فيها بعضهم : [ الرمل ]
1070- لِيَ في الدُّنْيَا سِهَامٌ ... لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ
وَأَسَامِيهِنَّ وَغْدٌ ... وَسَفِيحٌ وَمَنِيحُ
ومن زاد رابعاً سمَّاه المضعَّف ، وإنَّما كثروا بهذه الأغفال ليختلط على الحرضة ، وهو الضَّارب ، فلا يميل مع أحد ، وهو رجلٌ عدلٌ عندهم ، فيجثو ، ويلتحف بثوبٍ ، ويخرج رأسه ، فيجعل تلك القداح في خريطة وتسمى الرِّبابة بكسر الرَّاء مشبَّهة بالكتابة فيها سهامُ المَيْسِرِ ، وربَّما يسمُّون جميع السِّهام ربابة ، ثمَّ يخلخلها ويدخل يده فيها ، ويخرج باسم رجُلٍ رجلٍ قِدحاً فمن خرج على اسمه قدحٌ : فإن كان من ذوات السِّهام؛ فاز بذلك النَّصيب ، وأخذه ، وإن كان من الأغفال غرِّم من الجزور؛ ولا يأخذ شيئاً .
وقال بعضهم : لا يأخذ شيئاً ، ولا يغرم ، ويكون ذلك القدح لغزاً .
وكانوا يفعلون هذا في الشَّتوة ، وضيق العيش ، ويقسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً ، ويفتخرون بذلك ، ويسمُّون من لم يدخل معهم فيه : البَرم ويذمونه ، والجَزورُ تقسم عند الجمهور على عدد القداح ، فتقسم على عشرة أجزاء ، وعند الأصمعي على عدد خطوط القداح ، فتقسّم على ثمانية وعشرين جزءاً . وخطَّأ ابن عطية الأصمعيَّ في ذلك ، وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّه يحتمل أنَّ العرب كانت تقسِّمها مرَّةً على عشرةٍ ، ومرَّةً على ثمانية وعشرينَ .
فهذا أصل القمار التي كانت تفعله العرب .
واختلفوا في الميسر؛ هل هو اسم لذلك القمار المعيَّن أو اسم الجميع أنواع القمار ، فقال بعض العلماء : المراد من الآية جميع أنواع القمار قال عليه الصلاة والسلام : « إيَّاكُم وَهَاتَيْنِ الكَعْبَتَيْنِ المُوسومتين فَإِنَّها مِنَ مَيْسِرِ العَجَمِ » .
وعن ابن سِيرِينَ : ومجاهد ، وعطاءٍ ، وطاوسٍ ، كلُّ شيءٍ فيه قمارٌ فهو الميسر ، حتَّى لعب الصِّبيان بالجوز ، والكعاب .
وروي عن عليّ - رضي الله عنه - في النرد ، والشِّطرنج : أنَّه من المَيْسر . وقال الشَّافعيُّ - رضي الله عنه - : إذا خلا الشِّطرنجُ عن الرهان واللِّسان عن الطُّغيان ، والصَّلاة عن النِّسيان؛ لم يكن حراماً ، وهو خارج عن الميسر؛ لأنَّ الميسر ما يوجب دفع مال ، أو أخذ مالٍ ، وهذا ليس كذلك ، فلا يكون قماراً ولا ميسراً .
وأمّا السَّبقُ في الخفِّ ، والحافر ، والنُّشابِ ، فخصّ بدليلٍ .
قوله : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } الجَارُّ خبر مقدّم ، و « إثْمٌ » مبتدأ مؤخَّرٌ ، وتقديم الخبر هنا ليس بواجبٍ ، وإن كان المبتدأ نكرةً ، لأنَّ هنا مسوغاً آخر ، وهو الوصف ، أو العطف ، ولا بدّ من حذف مضافٍ أيضاً ، أي : في تعاطيهما إثمٌ؛ لأنَّ الإثم ليس في ذاتها .

وقرأ حمزة والكسائيُّ : « كثيرٌ » بالثَّاء المثَّلثة ، والباقون بالباء ثانية الحروف . ووجه قراءة الجمهور واضحٌ ، وهو أنَّ الإثم يوصف بالكبر مبالغة في تعظيم الذَّنب ، ومنه آية { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [ النساء : 2 ] . وسمِّيت الموبقات : « الكبَائِر » ، ومنه قوله تعالى : { والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم } [ الشورى : 37 ] ، و { كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] وشرب الخمر ، والقمار من الكبائر ، فناسب وصف إثمهما بالكبر ، وقد أجمعت السَّبعة على قوله : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } بالباء الموَّحدة ، وهذه توافقها لفظاً .
وأمَّا وجه قراءة الأخوين : فإمَّا باعتبار الآثمين من الشَّاربين ، والمقامرين ، فلكلِّ واحد إثمٌ ، وإمّا باعتبار ما يترتّب [ على تعاطيهما من توالي العقاب ، وتضعيفه ، وإمّا باعتبار ما يترتَّب ] على شربهما ممَّا يصدر من شربها من الأقوال السَّيئة والأفعال القبيحة .
وإمّا باعتبار ما يترتَّب على تعاطيهما من توالي العقاب ، وتضعيفه .
وإمَّا باعتبار من يزاولها من لدن كانت عنباً إلى أن شربت ، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر ، ولعن معها عشرةً : بائعها ، ومبتاعها وغيرهما ، فناسب ذلك أن يوصف إثمها بالكثرة . وأيضاً فإن قوله : « إثْم » ، مقابلٌ ل « مَنَافِع » ، و « منافع » جمعٌ ، فناسب أن توصف مقابلةً بمعنى الجمعيَّة ، وهو الكثرة . وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإنسان في القرآن ، وهو أن يذكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيف القراءة الأخرى كما فعل بعضهم ، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءتي : « مَلِك » ، و { مالك } [ الفاتحة : 3 ] .
وقال أبو البقاء : الأَحْسَنُ القِرَاءَةُ بالبَاء ، لأنه يقال : إثمٌ كبيرٌ وصغيرٌ ، ويقال في الفواحش العظام : « الكَبَائِرُ » ، وفيما دون ذلك « الصَّغَائِرُ » وقد قرئ بالثَّاء وهو جيدٌ في المعنى؛ لأنَّ الكثرة كبرٌ ، والكثير كبيرٌ ، كما أنَّ الصَّغير حقيرٌ ويسيرٌ .
وقرأ عبدالله - وكذلك هي في مصحفه - : « وإثمهما أَكْثَرُ » بالمثلَّثة ، وكذلك الأولى في قراءته ، ومصحفه .
فصل
دلَّ قوله تعالى : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } على تحريم الخمر كقوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف : 33 ] والإثم يستحق به؛ فدلَّ مجموع الآيتين على التَّحريم ، وأيضاً فإنَّ الإثم قد يراد به العقاب وقد يراد به : ما يستحق به العقاب من الذُّنوب ، وأيُّهما كان ، فلا يصحُّ أن يوصف به إلاَّ المحرّم .
وأيضاً قد قال تعالى : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } فَصَرَّحَ بِرُجْحَانِ الإِثْمِ ، وذلك يوجب التَّحْرِيمَ .
فإن قيل : لا تدلُّ الآية على أنَّ شرب الخمر حرامٌ ، بل تدلُّ على أنَّ فيه إثماً ، فهَبْ أنَّ ذلك الإثم حرامٌ ، فلم قلتم إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم؛ وجب أن يكون حراماً؟
فالجواب أنَّ السُّؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر ، فلمَّا بين تعالى أنَّ فيه إثماً ، كان المراد أنَّ ذلك الإثم لازمٌ له على جميع التَّقديرات ، فكان شرب الخمر مستلزماً لهذه الملازمة المحرَّمة ، ومستلزم المحرَّم محرَّمٌ؛ فوجب أن يكون الشُّرب محرّماً .

فإن قيل هذه الآية لا تدلُّ على حرمة الخمر لوجوهٍ :
أحدها : أنَّه تعالى أثبت فيها منافع للنَّاس والمحرّم لا يكون فيه منفعةٌ .
الثاني : لو دلَّت الآية على حرمتها ، فلم لم يقنعوا بها حتّى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصّلاة؟
الثالث : أنَّه أخبر أنَّ فيها إثمٌ كبيرٌ ، فمقتضاه أنَّ ذلك الكبير ملازماً لها ما دامت موجودة ، ولو كان ذلك سبباً لحرمتها؛ لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشَّرائع .
فالجواب عن الأوَّل : أنَّ حصول النَّفع فيها ليس مانعاً من حرمتها؛ لأن صدق الخاصّ يوجب صدق العامّ .
وعلى الثاني : أنّا روينا عن ابن عباس أنَّها نزلت في تحريم الخمر والتّوقف الذي ذكروه ، غير مرويٍّ عنهم ، وقد يجوز بطلب الكبار من الصَّحابة نزول ما هو أكبر من هذه الآية في التَّحريم كما التَمَسَ إبراهيم - صلوات الله عليه - مشاهدة إحياء الموتى ، ليزداد سكوناً ، وطمأنينة .
وعن الثالث : أنَّ قوله { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } إخبار عن الحال لا عن الماضي فعلم تعالى أنَّ شُرْبَ الخَمْرِ مفسدةٌ لهم ، وليس مَفْسَدَةٌ للَّذِينَ من قبلهم .
فصل في بيان الإثم الكبير في الآية
الإثم الكبير في الخمر أمورٌ :
أحدها : أنَّه مزيلٌ للعقل الذي هو أشرف صفات الإنسان ، وإذا كان الخمر عَدُوّاً ، لا شرفاً؛ فيلزم أن يكون أخسَّ الأمور؛ وذلك لأن العقل إنَّما سمِّي عقلاً أخذاً من عقال النَّاقة ، فإنَّ الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح ، كان عقله مانعاً من الإقدام عليه ، فإذا شرب الخمر بقي طبعه الدَّاعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل له عن فعل القبيح .
ذكر ابن أبي الدنيا : أنَّه مرَّ على سكران ، وهو يبول في يده ، ويمسح به وجهه كهيئة المتوضِّئ ، ويقول : الحمد لله ، الذي جعل الإسلام نوراً ، والماء طهوراً .
وعن العبَّاس بن مرداس أنَّه قيل له في الجاهليَّة : لم لا تشرب الخمر؛ فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي ، فأدخله في جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيِّد قوم ، وأمسي سفيههم .
وثانيها : ما ذكره الله - تعالى - من إيقاع العداوة ، والبغضاء ، والصَّدّ عن ذكر الله ، وعن الصَّلاة .
وثالثها : أنَّ هذه المعصية من خواصّها أنَّ الإنسان إذا اشتغل بها وواظب عليها ، كان ميله ونفسه عليها أقوى ، بخلاف سائر المعاصي ، فإنَّ الزَّاني مثلاً إذ فعل مرَّةً واحدةً فترت رغبته ، وكلمَّا زاد فعله؛ كان فتوره أكثر؛ بخلاف الشّرب فإنَّه كلَّما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه إليها ورغبته فيه أكثر ، فإذا واظب عليه؛ صار غارقاً في اللَّذَّات البدنيَّة معرضاً عن تذكر الآخرة ، حتّى يدخل في الّذشين نسوا الله ، فأنساهم أنفسهم .
وبالجملة إذا زال العقل؛ حصلت القبائح بأسرها ، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام :

« اجْتَنِبُوا الخَمْرَ فَإِنَّها أُمُّ الخَبَائِثِ » . ويصدر عن الشَّارب المخاصمة ، والمشاتمة وقول الفحش والزُّور .
وأما الإثم الكبير في الميسر ، فإنَّه يفضي إلى العداوة أيضاً لما يجري بينهم من الشَّتم ، والمنازعة؛ لأنَّه أكل مال بالباطل ، وذلك يورث العداوة؛ لأنَّ صاحبه إذا أخذ ماله مجَّاناً؛ أبغضه جدّاً ، وهو يشغل عن ذكر الله ، وعن الصَّلاة أيضاً .
وأمَّا المنافع المذكورة فيهما ، فمنافع الخمر أنَّهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النَّواحي ، وكان المشتري ، إذا ترك المماكسة في الثَّمن؛ كانوا يعدُّون ذلك فضيلةً ، ومكرمةً ، وكانت تكثر أرباحهم بذلك السَّبب ، ومنها أنَّها تقوِّي الضَّعيف ، وتهضم الطَّعام ، وتعين على الباءة وتسلي المحزون ، وتشجِّع الجبان ، وتُسخي البخيل ، وتصفي اللَّون وتُنعش الحرارة الغريزيَّة ، وتزيد من الهمَّة ، والاستعلاء . ومن منافع الميسر : التَّوسعة على ذوي الحاجات؛ لأنَّ من قمر لم يأكل من الجزور شيئاً وإنما يفرّقه في المحتاجين؛ وذكر الواقديُّ أنَّ الواحد كان ربَّما يحصل له في المجلس الواحد مائة بعيرٍ ، فيحصل له مالٌ من غير كدٍّ ، ولا تعبٍ ، ثم يصرفه إلى المحتاجين ، فيكتسب فيه الثَّناء ، والمدح ، وكانوا يشترون الجزور ، ويضربون سهامهم ، فمن خرج سهمه؛ أخذ نصيبه من اللَّحم ، ولا يكون عليه شيء من الثَّمن ، ومن بقي سهمه آخراً ، كان عليه ثمن الجزور كلِّه ، ولا يكون له من اللَّحم شيءٌ .
قوله تعالى : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } قرأ أُبَيّ : « أقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمَا » .
وإثمهما ونفعهما مصدران مضافان إلى الفاعل ، لأنَّ الخمر والميسر سببان فيهما ، فهما فاعلان ، ويجوز أن تكون الإضافة باعتبار أنهما محلُّهما . وقوله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 215 ] قد تقدَّم الكلام عليه . وقرأ أبو عمرو : « قُلِ العَفْوُ » رفعاً والباقون نصباً . فالرَّفع على أنَّ « مَا » استفهاميةٌ ، و « ذَا » موصولةٌ ، فوقع جوابها مرفوعاً خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، مناسبةً بين الجواب والسُّؤال والتَّقدير : إنفاقكم العفو . والنَّصيب على أنَّهما بمنزلةٍ واحدةٍ ، فيكون مفعولاً مقدّماً ، تقديره : أيَّ شيءٍ ينفقون؟ فوقع جوابها منصوباً بفعل مقدَّرٍ للمناسبة أيضاً ، والتَّقدير : أنفقوا العفو . وهذا هو الأحسن ، أعني أن يعتقد في حال الرَّفع كون « ذا » موصولةً ، وفي حال النَّصب كونها ملغاةٌ . وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونها ملغاةً مع رفع جوابها ، وموصولةً مع نصبه . وقد تقدم الكلام على مستوفى وإنما اختصرت القول هنا؛ لأني قد استوفيت الكلام عليها عند قوله تعالى : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } [ البقرة : 26 ] .
فصل
اعلم أنَّ هذا السُّؤال ، قد تقدَّم ، وأجيب بذكر المصرف ، وهنا أجيب بذكر الكميَّة .
قال الواحدي رحمه الله : أصل العفو في اللُّغة الزِّيادة ، قال الله تعالى : { خُذِ العفو } [ الأعراف : 199 ] ، أي : الزِّيادة وقال : { حتى عَفَوْاْ } [ الأعراف : 95 ] .
وقال القفَّال : العفو ما سهل وتيسّر ممَّا فضل عن الكفاية ، وهو قول قتادة ، وعطاء ، والسُّدِّي ، وكانت الصَّحابة يكتسبون المال ، ويمسكون قدر النَّفقة ، ويتصدَّقون بالفضل .

قال القرطبيُّ : فالجواب خرج على وفق السُّؤال ، فإنَّ السُّؤال الثَّاني في هذه الآية على قدر الإنفاق ، وهو في شأن عمرو بن الجموح فإنَّه لما نزل : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ } [ البقرة : 215 ] قال : كم أنفق؛ فنزل « قُل العَفْوَ » .
والعَفْوُ : ما سهل ، وتيسَّر وفضل ، ولم يشقَّ على القلب إخراجه؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
1071- خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلاَ تَنْطقِي في سَوْرَتي حِينَ أَغْضَبُ
وقال طاوس : ما يَسُر ، والعفو اليسر من كل شيءٍ ، ومنه قول تعالى : { خُذِ العفو } [ الأعراف : 199 ] أي الميسور من أخلاق النَّاس .
قال ابن الخطيب : ويشبه أن يكون العفو عن الذَّنب راجع إلى التَّيسير ، والتَّسهيل ، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ ، والرَّقِيقِ ، فَهَاتوا عشْرَ أَمْوَالِكُمْ » معناه : التَّخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرَّقيق ، ويُقال : أعفى فلانٌ فلاناً بحقِّه : إذا أوصله إليه من غير إلحالح في المطالبة ، ويقال : أعطاه كذا عفواً صفواً : إذا لم يكدِّره عليه بالأذى ، ويقال : خذ من النَّاس ما عُفِيَ لك ، أي : ما تيسَّر ، ومنه قوله تعالى : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف } [ الأعراف : 199 ] وجملة التأويل : أنَّ الله - تعالى - أدَّب النَّاس في الإنفاق ، فقال : { وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين } [ الإسراء : 26 ، 27 ] وقال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] وقال : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [ الفرقان : 67 ] وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : « خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَنْفَقْتَ عَن غِنى ، وَلا تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ » .
وعن جابر بن عبدالله قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجلٌ بمثل البيضة من ذهب فقال : يا رسول الله؛ خذها صدقةً ، فوالله ما أملك غيرها ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من بين يديه ، فقال : هاتها مغضباً؛ فأخذها منه ، ثمَّ حذفه بها ، لو أصابته لأوجعته ثم قال : « يَأْتِينِي أَحَدُكُم بِمالِهِ لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهُ ، ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عن ظَهْرِ غِنَى ، خُذْهَا ، فَلاَ حَاجَةَ لَنَا فِيها » . وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يحبس لأهله قُوتَ سَنَةٍ .
وقال الحكماء الفضيلةُ بين طرفي الإفراط والتَّفريط .
وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار .
فصل في ورد العفو في القرآن
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ « العَفْوِ » في القرآن بإزاء ثلاثة معانٍ :
الأول : العفو : الفضل من الأموال قال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } يعني الفضل من المال .
الثاني : « العفو » الترك؛ قال تعالى : { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } [ البقرة : 237 ] أي يتركوا ، ومثله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } [ الشورى : 40 ] ، أي : ترك مظلمته .
الثالث : العفو بعينه ، قال تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } [ آل عمران : 155 ] .
فصل
واختلفوا في هذا الإنفاق؛ هل المراد به الواجب ، أو التطوُّع على قولين :
الأول : قال أبو مسلم : يجوز أن يكون العفو هو الزَّكوات وذكرها ها هنا على سبيل الإجمال في السَّنة الأولى؛ لأنَّ هذه الآية قبل نزول آية الصَّدقات ، وأنزل تفاصيلها في السَّنة الثَّانية فالنَّاس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ، ما يكفيهم في عامهم ، ثمَّ ينفقون الباقي ، ثمَّ صار هذا منسوخاً بآية الزَّكاة .

القول الثاني : أنَّ المراد به صدقة التَّطوُّع .
قالوا : لأنَّه لو كان مفروضاً لبين الله مقداره ، فلمَّا لم يبيِّنه ، وفوَّضه إلى رأي المخاطب؛ علمنا أنَّه ليس بفرضٍ .
وأجيب ، بأنه لا يبعد أن يوجب الله - تعالى - شيئاً على سبيل الإجمال ، ثمَّ يذكر تفصيله وبيانه .
قوله تعالى : { كذلك يُبيِّنُ } الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : تبييناً مثل ذلك التَّبيين يبيِّن لكم ، وإمَّا حالاً من المصدر المعرفة ، أي : يبيِّن التبيين مماثلاً ذلك التَّبيين . والمشار إليه يبيِّن حال المنفق ، أو يبيِّن حكم الخمر ، والميسر ، والمنفق المذكور بعدهما . وأبعد من خصَّ اسم الإشارة ببيان حكم الخمر ، والميسر ، وأبعد منه من جعله إشارةً إلى جميع ما سبق في السُّورة من الأحكام .
و « لَكُمْ » متعلِّق ب « يُبَيِّن » . وفي اللاَّم وجهان ، أظهرهما أنَّها للتبليغ كالتي في : قلت لك .
والثاني : أنها للتَّعليل وهو بعيدٌ . والكاف في « كَذَلِكَ » تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أو للسامع ، فتكون على أصلها من مخاطبة المفرد .
والثاني : أن تكون خطاباً للجماعة ، فيكون ذلك ممَّا خوطب به الجمع بخطاب المفرد ، ويؤيِّده قوله « لَكُمْ ، و » لَعَلَّكُمْ « ، وهي لغةٌ للعرب ، يخاطبون في اسم الإشارة بالكفا مطلقاً ، وبعضهم يستغني عن الميم بضمَّةِ الكاف؛ قال : [ الرجز ]
1072- وَإِنَّمَا الهَالِكُ ثُمَّ التَّالِكُ ... ذُو حَيْرَةٍ ضَاقَتْ بِهِ المَسَالِكُ
كَيْفَ يَكُونُ النَّوْكُ إِلاَّ ذَلِكُ ... فصل
قوله تعالى : { فِي الدنيا } : فيه خسمة أوجهٍ :
أظهرها : أن يتعلَّق بيتفكّرون على معنى : يتفكَّرون في أمرهما ، فيأخذون ما هو الأصلح ، ويؤثرون ما هو أبقى نفعاً .
والثاني : أن يتعلَّق ب » يبيِّن « ، ويروى معناه عن الحسن ، وحينئذٍ يحتمل أن يقدَّر مضاف ، أي : في أمر الدُّنيا والآخرة ، ويحتمل ألاَّ يقدَّر ، لأنَّ بيان الآيات ، وهي العلامات يظهر فيها . وجعل بعضهم قول الحسن من التَّقديم ، والتأخير ، أي : ليس لذلك يبيِّن الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا وزوالها وفنائها ، فتزهدون فيها ، وفي إقبال الآخرة ، ووقوعها ، فترغبون فيها . ثم قال : ولا حَاجَةَ لِذَلِكَ ، لحَمْلِ الكَلاَمِ على ظاهره ، يعني من تعلُّق في الدُّنيا ب » تَتَفَكَّرُونَ « . وهذا ليس من التَّقديم والتَّأخير في شيء؛ لأنَّ جملة التَّرجِّي جاريةٌ مجرى العلَّة فهي متعلِّقةٌ بالفعل معنى ، وتقديم أحد المعمولات على الآخر ، لا يقال فيه تقديم وتأخير ويحتمل أن تكون اعتراضيةً ، فلا تقديم ، ولا تأخير .

والثالث : أن تتعلَّق بنفس « الآيَاتِ » لما فيها من معنى الفعل ، وهو ظاهر قول مكي فيما فهمه عنه ابن عطيَّة . قال مكِّيٌّ : « معنى الآية أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدُّنيا ، والآخرة يدلُّ عليها ، وعلى منزلتها لعلَّهم يتفكَّرون في تلك الآياتِ » قال ابن عطيَّة : « فقوله : في الدنيا : يتعلَّق على هذا التَّأويل بالآيات » وما قاله عنه ليس بظاهر؛ لأنَّ شرحه الآية لا يقتضي تعلُّق الجار بالآيات . ثمَّ إنْ عَنَى ابن عطية بالتعلّق التعلُّق الاصطلاحي ، فقال أبو حيان « فو فَاسِدٌ ، لأنَّ » الآيَاتِ « لا تَعْمَلُ شيئاً ألْبَتَّةَ ، ولا يَتَعَلَّقُ بها ظَرْفٌ ، ولا مَجْرُورٌ » وقال شِهَابُ الدِّين : وهذا من الشَّيخ فيه نظرٌ ، فإنَّ الظُّروف تتعلَّق بروائح الأفعال ، ولا شكّ أنَّ معنى الآيات العلامات الظَّاهرة ، فيتعلَّق بها الظَّرف على هذا . وإن عنى التَّعلُّق المعنويَّ ، وهو كون الجارِّ من تمام معنى : « الآيَاتِ » ، فذلك لا يكون إلاّ إذا جعلنا الجارَّ حالاً من « الآيَات » ، ولذلك قدَّرها مكِّيٌّ نكرة فقال : « يبيِّن لهم آياتٍ في الدُّنْيَا » ليعلم أنَّها واقعةٌ موقع الصِّفة لآيات ، ولا فرق في المعنى بين الصِّفة والحال ، فيما نحن بصدده ، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ لوقوعها صفةٌ .
الرابع : أن تكون حالاً من « الآيَاتِ » كما تقدَّم تقريره الآن .
الخامس : أن تكون صلةً للآيات ، فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً ، وذلك مذهب الكوفيين ، فإنَّهم يجعلون من الموصولات الاسم المعرَّف بأل؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
1073- لَعَمْرِي لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ
ف « البيت » عندهم موصولٌ .
وجوابهم مذكور في غير هذا الكتاب .
والتَّفكُّر : تفعل من الفكر ، والفكر : الذِّهن ، فمعنى تفكَّر في كذا : أجال ذهنه فيه وردَّده .
قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } .
قال ابن عبَّاس : إنَّ أهل الجاهليَّة كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى ، وربَّما تزوَّجوا باليتيمة طمعاً في مالها أو يزوجها من ابن له لئلاَّ يخرج مالها عن يده ، فلمَّا نزل قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [ النساء : 10 ] وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 و الإسراء : 34 ] ، وقوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ والمستضعفين مِنَ الولدان وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً } [ النساء : 127 ] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى ، تحرُّجاً شديداً ، وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم ، حتَّى كان يصنع لليتيم طعاماً ، فيفضل منه شيءٌ ، فيتركونه ، ولا يأكلونه حتَّى يفسد ، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلاً ، وطعاماً ، وشراباً ، فعظم ذلك على ضعفة المسلمين ، فقال عبدالله بن رواحة : يا رسول الله ما كلُّنا يجد منازل يسكنها الأيتام ، ولا كلُّنا يجد طعاماً ، وشراباً ، يفردهما لليتيم فنزلت هذه الآية .

قوله : { إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } ، « إصْلاَحٌ » مبتدأ ، وسوَّغ الابتداء به أحد شيئين : إمَّا وصفه بقوله : « لَهُم » ، وإمَّا تخصيصه بعمله فيه ، و « خيرٌ » خبره . و « إصْلاَحٌ » مصدرٌ حذف فاعله ، تقديره : إصلاحكم لهم ، فالخبريَّة للجانبين أعني جانب المصلح ، والمصلح له ، وهذا أولى من تخصيص أحد الجانبين بالإصلاح كما فعل بعضهم .
قال أبو البقاء : « فَيَجُوزُ أن يَكُونَ التَّقْدِيرُ : خيرٌ لكم ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ : خَيْرٌ لَهُم » ، أي : إصلاحهم نافع لكم .
قال بعض العلماء : هذه الكلمة تجمع النَّظر في إصلاح اليتيم بالتَّقويم والتَّأديب وغيرهما لكي ينشأ على علمٍ وأدبٍ وفضلٍ ، والنَّظر في إصلاح حاله ، وتجمع أيضاً النَّظر في حال الولي ، أي : هذا العمل خير له من أن يكون مقصّراً في حقّ اليتيم .
وقال بعضهم : الخير عائد إلى الولي ، يعني إصلاح مالهم من غير عوض ، ولا أجرة ، خير للولي ، وأعظم أجراً .
وقال آخرون : الخير عائدٌ إلى اليتيم ، والمعنى : أنَّ مخالطتهم بالإصلاح خيرٌ لهم من التَّفرُّد عنهم ، والإعراض عن مخالطتهم .
فصل في هل يتصرف في مال اليتيم
قال القرطبيُّ لما أذن الله عزَّ وجلَّ في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنَّظر إليهم وفيهم ، كان ذلك دليلاً على جواز التَّصرف في مال اليتيم تصرف الوصيّ في البيع ، والقسمة ، وغير ذلك على الإطلاق لهذه الآية ، فإذا كفل الرَّجل اليتيم ، وحازه ، وكان في نظره ، جاز عليه فعله وإن لم يقدّمه والٍ عليه؛ لأنَّ الآية مطلقة والكفالة ولاية عامَّة ، ولم يؤثر عن أحدٍ من الخلفاء أنَّه قدّم أحداً على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم ، وإنَّما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم .
قوله : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } المخالطة : الممازجة ، وقيل : جمع يتعذر فيه التّمييز ومنه يقال للجماع : الخلاط ، ويقال : خولط الرجل إذا جُنَّ ، والخلاط : الجنون؛ لاختلاط الأمر على صاحبه بزوال عقله .
قوله : « فَإِخْوَانُكُمْ » الفاء جواب الشّرط ، و « إِخْوَانُكم » خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم إخوانكم . والجملة في محلِّ جزم جواب الشَّرط ، والجمهور على الرَّفع ، وقرأ أبو مجلز : « فَإِخْوَانُكُمْ » نصباً بفعل مقدَّر ، أي : فقد خالطتهم إخوانكم ، والجملة الفعليَّة أيضاً في محلِّ جزمٍ ، وكأن هذه القراءة لم يطَّلع عليها الفراء وأبو البقاء فإن الفراء [ قال ] ولو نصب كان صواباً ، وقال أبو البقاء : « وَيَجُوزُ النَّصْبُ في الكَلاَم ، أي : فقد خالطتُهم إخوانَكم » .
فصل في بيان وجوه المخالطة
في هذه المخالطة وجوه :
أحدها : المراد بالمخالطة في الطَّعام ، والشَّراب ، والسُّكنى ، والخدم؛ لأن القوم ميَّزوا طعامهم ، وشرابهم ، ومسكنهم عن طعام اليتيم ، وشرابه ، وسكنه فأمرهم الله تعالى بخلط الطَّعامين والشَّرابين ، والاجتماع في السَّكن الواحد كما يفعله المرء بمال ولده ، فإنَّ هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة .

الثاني : المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجرة المثل في ذلك العمل . والقائلون بهذا القول ، منهم من جوَّز ذلك سواء كان القيم غنيّاً ، أو فقيراً ، ومنهم من قال إن كان القيم غنياً لم يأكل من ماله؛ لأن ذلك فرض عليك وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز ، واحتجوا بقوله : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } [ النساء : 6 ] وإن كان القيِّم فقيراً قالوا : يأكل بقدر الحاجة ، ويرده إذا أيسر فإن لم يوسر تحلله من اليتيم .
وروي عن عمر أنَّه قال : أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة وليّ اليتيم إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت قرضاً بالمعروف ثمَّ قضيت .
وعن مجاهد : إذا كان فقيراً ، وأكل بالمعروف ، فلا قضاء عليه .
الثالث : أنَّ المراد بهذه « المُخَالَطَةِ » المصاهرة بالنِّكاح ، وهو اختيار أبي مسلم قال : لقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] وقوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء } [ النساء : 127 ] وهذا القول راجحٌ على غيره من وجوه :
أحدها : أنَّ هذا خلط لليتيم نفسه ، والشّركة خلط لماله .
وثانيها : أنَّ الشَّركة داخلةٌ في قوله : { قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } ، والخلط من جهة النّكاح ، وتزويج البَنَات منهم لم يدخل في ذلك فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب .
وثالثها : أن قوله تعالى « فَإِخْوَانُكُم » يدلُّ على أنَّ المراد هو هذا النَّوع؛ لأنَّ اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى إصلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلماً؛ فوجب أن تكون الإشارة بقوله : « فَإِخْوَانُكُم » إلى نوع آخر من المخالطة .
ورابعها : أنَّ المخالطة المندوب إيها هي في اليتامى الذين هم إخوان لكم بالإسلام ، فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم ، ليتأكد الاختلاط فإن كان اليتيم من المشركين ، فلا تفعلوا ذلك .
قال القرطبيُّ : ما ينفقه الوصيُّ والكفيل له حالتان :
حالة لا يمكنه الإشهاد عليها ، فقوله مقبولٌ بغير بيِّنة .
وحالة يمكنه الإشهاد عليها ، فمهما اشترى من العقار ، وما جرت العادة بالتَّوثق فيه ، لم يقبل قوله بغير بيّنة .
وفرّق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصيّ ، وينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته ، وكسوته ، لأنَّه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله ، ويلبسه في كلِّ وقت ، ولكن إذا قال : انفقت نفقةً لسنةٍ ، قبل منه ، وبين أن يكون عند أُمّه ، أو حاضنته فيدعي الوصي أنَّه كان ينفق عليه ، أو كان يعطي الأمَّ أو الحاضنة فلا يقبل منه إلاَّ بيِّنَةٍ أنَّها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة .
فصل
قال أبو عبيد : هذه الآية عندي أصل لما يفعله الرُّفقاء في الأسفار ، فإنَّهم يتقاسمون النَّفقات بينهم بالسَّويَّة ، وقد يتفاوتون في قلَّة المطعم ، وكثرته ، وليس كلّ من قلَّ مطعمه تطيب نفسه بالتَّفضُّل على رفيقه ، فلمَّا كان هذا في أموال اليتامى واسعاً؛ كان في غيرهم أوسع ، ولولا ذلك لخفت أن يضيَّق فيه الأمر على النَّاس .

قوله تعالى : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } ؛ أي : المفسد لأموالهم من المصلح لها ، يعني : الذي يقصد بالمخالطة الخيانة ، وإفساد مال اليتيم ، وأكله بغير حقّ من الذي يقصد الإصلاح .
وقيل : « يَعْلَمُ » ضمير من أراد الإفساد ، والطَّمع في مالهم بالنِّكاح من المصلح ، يعني : إنَّكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح ، فإذا لم تريدوا ذلك بقلوبكم ، بل كان المراد منه عرضاً آخر [ فالله مطَّلع ] على ضمائركم عالمٌ بما في قلوبكم ، وهذا تهديدٌ عظيمٌ؛ وذلك لأنّض اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه ، وليس له أحدٌ يراعيها ، فكأنَّه تعالى قال : لما لم يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَفَّلُ بمصالحه ، فَأَنَا مُتَكَفِّلٌ به ، وأنا المُطَالِبُ لوليّه بذلك .
تقدم الكلام في قوله : { يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } في قوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ } [ البقرة : 143 ] ، والمفسد والمصلح جنسان هنا ، وليس الألف واللام لتعريف المعهود ، وهذا هو الظَّاهر . وقد يجوز أن تكون للعهد أيضاً .
وفي قوله : { تُخَالِطُوهُمْ } التفاتٌ من ضمير الغيبة في قوله : « وَيَسْأَلُونَكَ » إلى الخطاب لينبِّه السَّامع إلى ما يلقى إليه . ووقع جواب السُّؤال بجملتين .
إحداهما من مبتدأ ، وخبر ، وأبرزت ثبوتية منكِّرة المبتدإ لتدلَّ على تناوله كلَّ إصلاح على طريق البدليَّة ، ولو أُضيفت لعمَّ ، أو لكان معهوداً في إصلاح خاص ، وكلاهما غير مرادٍ ، أمَّا العموم ، فلا يمكن ، وأمَّا المعهود فلا يتناول غيره؛ فلذلك أُوثر التَّنكير الدَّالُّ على عموم البدل ، وأُخبر عنه ب « خَيْر » الدَّالِّ على تحصيل الثَّواب ، ليتبادر المسلم إليه . والآخر من شرطٍ ، وجزاءٍ ، دالّ على جواز الوقوع لا على طلبه وندبيَّته .
قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله } مفعول « شَاءَ » محذوف ، أي : إعناتكم . وجواب لو : « لأعنَتَكم » .
[ والمشهور قطع همزة « لأَعْنَتَكُم » ] ؛ لأنَّها همزة قطعٍ . وقرأ البزيُّ عن ابن كثير في المشهور بتخفيفها بين بين ، وليس من أصله ذلك ، وروي سقوطها ألبتَّة ، وهي كقراءة : { فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 173 ] شذوذاً وتوجيهاً . ونسب بعضهم هذه القراءة إلى وهم الرَّاوي ، باعتبار أنه اعتقد في سماعه التَّخفيف إسقاطاً ، لكنَّ الصَّحيح ثبوتها شاذةً .
و « العنت » : المشَقَّة و « الإعْنَات » الحمل على مشقَّةٍ لا تطاق ، يقال : أعْنَتَ فلانٌ فلاناً ، إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه ، وتعنُّته تعنُّتاً : إذا لبَّس عليه في سؤاله ، وعنت العظم المجبور : إذا انكسر بعد الجبر ، وأكمةٌ عنوتٌ : إذا كانت شاقَّةً كدوداً ، وعنت الدَّابَّة تَعَنَّت عَنَتاً : إذا حدث في قوائمها كسرٌ بعد جبرٍ ، لا يمكنها معه الجري . قال ابن الأنباريّ : أصل العنت الشِّدَّةُ؛ تقول العرب : فلان يتعنت فلاناً ، ويعنته إذا شدّد عليه ، وألزمه ما يصعب عليه أداؤه .

وقال تعالى : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [ التوبة : 128 ] ، أي : شديدٌ عليه ما شقّ عليكم .
ويقال : أعنتني في السُّؤال ، أي : شدّد علي وطلب عنتي وهو الإضرارُ .
قال ابن عباس : لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً لكم .
وقال عطاءٌ : ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقَّة كما أدخلتم على أنفسكم ، ولضيَّق الأمر عليكم في مخالطتهم .
وقال الزَّجَّاج : ولو شاء الله لكلفكم ما شقَّ عليكم .
والعزيز الذي يأمر بعزة سهل على العبد ، أو شقَّ .
والحكيم الذي يتصرّف في ملكه بما يريده لا حجَّة عليه ، أو يضيع الأشياء في مواضعها .
فضل في بيان التكليف بما لا يطاق
احتجَّ الجبَّائيُّ بهذه الآية على أنَّه تعالى لم يكلِّف العبد ما لا يقدر عليه؛ لأنَّ قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } يدلُّ على أنَّه لم يفعل الإعنات ، ولا ضيق في التَّكليف ، ولو كلَّف العبد ما لا يقدر عليه؛ لكان قد تجاوز حدّ الإعنات ، والتَّضييق؛ لأنَّ كلمة « لَوْ » تفيد امتناع الشَّيء لامتناع غيره .
فإن قيل : الآية وردت في حقّ اليتيم .
قلنا : الاعتبار بعموم اللَّفظ ، لا بخصوص السَّبب .
واحتجَّ الكعبي بهذه الآية على أنَّه تعالى قادرٌ على خلاف العدل؛ لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات ، لم يجز أن يقول : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } ، وللنِّظَّام أن يجيب بأنَّ هذا معلَّق على مشيئة الإعناتِ ، فلم قلتم بأنَّ هذه المشيئة ممكنةٌ الثُّبوت في حقِّه تعالى .

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

الجمهور على فتح تاء المضارعة ، وقرأ الأعمش بضمِّها من : أنكح الرباعي ، فالهمزة فيه للتَّعدية ، وعلى هذا فأحد المفعولين محذوفٌ ، وهو المفعول الأوَّل؛ لأنه فاعلٌ معنّى تقديره : ولا تنكحوا أنفسكم المشركات .
والنِّكاح في الأصل عند العرب : لزوم الشَّيء ، والإكباب عليه؛ ومنه : « نَكَحَ المَطَرُ الأَرْضَ » ، حكاه ثعلبٌ عن أبي زيد ، وابن الأعرابي .
قال الزَّجَّاجيُّ : « النّكاح في الكلام بمعنى الوطء ، والعقد جميعاً ، موضوع ( ن . ك . ح ) على هذا التَّرتيب في كلامهم للفرد والشَّيء راكباً عليه هذا كلام العرب الصَّحيح » .
أصله المداخلة؛ ومنه : تناكحت الشَّجر : أي : تداخلت أغصانها؛ ويطلق النِّكاح على العقد؛ كقول الأعشى : [ الطويل ]
1074- وَلاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا ... حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا
أي : فاعْقِدْ ، أو توحَّش ، وتجنَّب النِّساء ، ويطلق أيضاً على الوطء؛ كقوله : [ البسيط ]
1075- البَارِكِينَ عَلَى ظُهُورِ نِسْوَتِهِمْ ... والنَّاكِحِينَ بِشَطِّ دَجْلَةَ الْبَقَرَا
وحكى الفرَّاء « نُكُح المَرْأَةِ » بضمِّ النُّون على بناء « القُبُل » ، و « الدُّبُر » ، وهو بضعها ، فمعنى قولهم : « نَكَحَها » أي أصاب ذلك الموضع ، نحو : كَبَدَهُ ، أي أصاب كبده ، وقلَّما يقال : ناكحها ، كما يقال باضعها .
وقال أبو علي : فَرَّقَتِ العَرَبُ بين العَقْدِ والوَطْءِ بِفَرْقِ لَطِيفٍ ، فإذا قالوا : « نَكَحَ فُلاَنٌ فُلاَنَةٌ ، أو ابنةَ فلانٍ » ، أرادوا عقد عليها ، وإذا قالوا : نَكَحَ امرأته ، أو زوجته ، فلا يريدون غير المجامعة ، وهل إطلاقه عليهما بطريق الحقيقة فيكون من باب الاشتراك ، أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ الظَّاهر : الثاني : فإنَّ المجاز خيرٌ من الاشتراك ، وإذا قيل بالحقيقة ، والمجاز فأيهما حقيقة؟ ذهب قوم إلى أنَّه حقيقةٌ في العقد واحتجوا بوجوهٍ :
منها : قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ » ، وقَّف النِّكاح على الوليّ ، والشُّهود ، والمراد به العقد ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : « وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ ، وَلَمْ أَولَدْ مِنْ سِفَاحٍ » فجعل النّكاح ، كالمقابل للسِّفاح .
ومعلومٌ أنَّ السِّفاح مشتملٌ على الوطء ، فلو كان النِّكاح اسماً للوطء ، لا متنع كون النِّكاح مقابلاً للسِّفاح ، وقال تعالى : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } [ النور : 32 ] ولا يمكن حمله إلاَّ على العقد .
وأيضاً قول الأعشى في البيت المتقدِّم لا يحتمل إلاَّ الأمر بالعقد؛ لأنه قال : « ولاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةً » يعني مقاربتها على الطَّريق الَّذي يحرُمُ فاعقدْ وتزوَّج ، وإلاَّ فتأيَّم ، وتجنَّبِ النِّساء .
وقال الرَّاغب : أصْلُ النِّكَاحِ للعقدِ ، ثم اسْتُعِيرَ للجِمَاعِ ، ومُحَالٌ أن يَكُونَ في الأَصْلِ للجِمَاعِ ، ثم استُعِير لِلْعَقْدِ ، لأنَّ أَسْمَاءَ الجِمَاعِ كلَّها كِنَايَاتٌ لاستقباحِهم ذِكْرَه؛ كاستقباحهم تَعاطِيَهُ ، ومُحالٌ أن يستعيرَ مَنْ لا يَقْصِدُ فُحْشاً اسمَ مَا لاَ يَسْتَفْظِعُونَهُ لِمَا يَسْتَحْسِنُونَهُ؛ قال تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء }

[ النساء : 3 ] .
وقال آخرون : هو حقيقةٌ في الوطء ، واحتجوا بوجوه :
منها قوله تعالى : { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [ البقرة : 230 ] نفي الحل ممتدٌّ إلى غاية النِّكاح ، وليس هو العقد؛ ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ » ؛ فوجب أن يكون هو الوطء .
وأجيب بأن امرأة رفاعة ، لم تفهم عند الإطلاق إلاَّ مجرَّد العقد؛ حتى قال لها عليه الصَّلاة والسَّلام : « لاَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ » .
ومنه : قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « نَاكِحُ اليَدِ مَلْعُونٌ ، وَنَاكِحُ البَهِيمَةِ مَلْعُونٌ » أثبت النِّكاح [ مع عدم العقدِ .
والنِّكاحُ ] في اللُّغة عبارة عن الضمّ ، والمداخلة كما تقدَّم في المطر ، والأرض ، وتناكح الشَّجر ، ونكح النُّعاس عينه ، وفي المثل :
« نَكَحْنَا الفَرى فَسَتَرَى » والبيت المتقدم ، وقوله : [ البسيط ]
1076- أنكحْتُ صُمَّ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمَلةٍ ... تَغَشْمَرَتْ بي إِلَيْكَ السَّهْلَ والجَبَلاَ
والضَّمُّ والوطء في المباشرة أتَمُّ منه في العقد .
وأجيب بأنَّ هذه قرائن صارفةٌ له عن حقيقته .
فصل في هل يتناول المشرك أهل الكتاب؟
لفظ « المُشْرِك » ؛ هل يتناول أهل الكتاب؟
فالأكثرون على أنَّ الكتابة تشمل لفظ المشرك ، ويدلُّ عليه وجوه :
أحدها : قوله تعالى : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، ثم قال بعد ذلك : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] وهذا تصريحٌ بأن اليهوديَّ ، والنَّصرانيّ مشركٌ .
وثانيها : قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، فدلت هذه الآية على أنَّ ما سوى الشّرك فقد يغفره الله تعالى في الجملة ، فلو كان كفر اليهوديِّ والنَّصرانيّ ليس بشرك ، لوجب أن يغفره الله تعالى في الجملة ، وذلك باطلٌ ، فعلمنا أنَّ كفرهما شركٌ .
وثالثها : قوله تعالى : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] فهذا التَّثليث إمَّا أن يكون لاعتقادهم وجود صفاتٍ ثلاثة أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة .
والأول باطلٌ؛ لأن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من كونه قادراً ، ومن كونه حيّاً ، وإذا كانت هذه المفهومات الثَّلاثة لا بدّ من الاعتراف بها كان القول بإثبات صفاتٍ ثلاثة من ضرورات دين الإسلام ، فكيف يمكن تكفير النَّصارى بسبب ذلك؛ ولمَّا بطل ذلك علمنا أنَّه تعالى إنَّما كفَّرهم؛ لأنَّهم أثبتوا ذواتاً ثلاثةً قديمةً مستقلَّةً؛ وذلك لأنهم جوَّزوا في أُقنُوم الكلمة أن يحلّ في عيسى ، والأُقْنُومُ عندهم عبارةٌ عن حقيقة الشَّيءِ ، وجوَّزوا في أُقْنُومِ الحَيَاةِ أن يحلّ في مريم ، ولولا أنَّ هذه الأشياء المسمَّاة عندهم بالأقانيم ذوات قامة بأنفسَها؛ لمّا جوَّزوا عليه الانتقال من ذوات إلى ذاتٍ ، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنَّفْس قديمة أزليَّة ، وهذا شركٌ . وإذا ثبت دخولهم تحت اسم الشِّرك ، فاليهود كذلك إذ لا قائل بالفرق .
ورابعها : أنّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - أمَّر أميراً ، وقال : « إذا لقيت عدوّاً مِنَ المُشْرِكِينَ؛ فَادْعُهُم إلى الإِسْلاَمِ ، فإنْ أَجَابُوكَ ، فَاقْبَلْ مِنْهُم وَكُفَّ عَنْهُم ، وَإِنْ أَبوا ، فادْعُهُم إِلى الجِزْيَةِ ، وَعَقْدِ الذِّمَّةِ » .

وخامسها : قال أبو بكر الأصمُّ : كلُّ من جحد الرِّسالة ، والمعجزة ، فهو مشركٌ؛ لأن تلك المعجزات إنَّما ظهرت عن الله تعالى ، وكانوا يضيفونها إلى الجنِّ والشَّياطين ، ويقولون : إنَّها سحرٌ ، فقد أثبتوا لله شريكاً في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر .
وقال أبو الحسن بن فارس : هم المشركون؛ لأنَّهم يقولون : القرآن كلام غير الله ، فقد أشركوا مع الله غير الله .
فإن قيل : إنَّه تعالى فصل بين القسمين ، وعطف أحدهما على الآخر في قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين } [ البقرة : 62 ] وقال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } [ الحج : 17 ] وقال : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين } [ البقرة : 105 ] وذلك يوجب التَّغاير .
والجواب أنَّ هذا كقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] وكقوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] فإن قالوا : إنَّما خصَّ بالذِّكر تنبيهاً على كمال الدَّرجة في ذلك الوصف .
قلنا : وها هنا أيضاً كذلك إنَّما خصَّ عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيهاً على كمال درجتهم في الكفر .
فصل في سبب النزول
سبب نزول هذه الآية : أنَّ أبا مرثد بن أبي مرثد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى « مَكَّة » ، ليخرج منها ناساً من المسلمين سرّاً فلما قدمها سمعت به امرأة مشركةٌ يقال لها : « عنَاق » ؛ وكانت خليلته في الجاهليَّة فأتته وقالت : يا أبا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها : ويحك يا عَنَاق إنَّ الإسلام قد حال بَيْنَنَا وبَيْنَ ذلك . قالت : هل لك أن تتزوَّج بي؟ قال : نعم ، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره . فقالت : أبي تتبرم؟ ثم استغاثت؛ فضربوه ضرباً شديداً ، ثمَّ خلَّوا سبيله ، فلمَّا قضى حاجته بمكَّة ، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الذي كان من أمره ، وأمر عناق ، وقال : يا رسول الله؛ أيحلُّ لي أن أتزوَّجها؛ فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ } [ البقرة : 221 ] .
فصل في الآية هل هي ابتداء حكم أو تقرير سابق
واختلف المفسِّرون في هذه الآية : هل هي ابتداء حكم وشرع ، أو هو متعلّقٌ بما تقدَّم؛ فالأكثرون على أنَّه ابتداء شرعٍ في بيان ما يحلُّ ، ويحرم .
وقال أبو مسلم : بل هو متعلِّق بقصَّة اليتامى ، فإنَّ الله تعالى لما قال : { وإنْ تُخَالِطُوهم فَإِخْوَانُكُمْ } وأراد مخالطة النِّكاح عطف عليه بما يبعث على الرَّغبة في اليتامى ، وأنَّ ذلك أولى ممَّا كانوا يتعاطونه من الرَّغبة في المشركات ، وبيَّن أنَّ أمةً مؤمنةً خيرٌ من مشركة ، فإنها بلغت النِّهاية فيما يُفْضي إلى الرَّغبة فيها ليدلَّ بذلك على ما يبعث على التَّزوُّج بالتيامى ، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعيةً لما أمر به من النَّظر في صلاحهم وصلاح أموالهم .

وعلى الوجهين ، فحكم الآية لا يختلف .
فصل في بيان جواز نكاح الكتابيَّة
الأكثرون من الأُمَّة قالوا : يجوز للرَّجل أن يتزوَّج بالكتابيَّة . وقال ابن عمر ، ومحمَّد بن الحنفيَّة ، والهادي - وهو أحد أئمَّة الزَّيديَّة - إنَّ ذلك حرامٌ ، واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى في سورة المائدة : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ المائدة : 5 ] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء أصلاً .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من آمن منهنّ بعد الكفر ، ومن كان على الإيمان من أول الأمر؟
قلنا : قوله : { مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } [ آل عمران : 186 و المائدة : 5 و المائدة : 57 ] يفيد حصلو هذا الوصف في حال الإباحة ، ويدلُّ على ذلك فعلُ الصحابة ، فإنهم كانوا يتزَّجون الكتابيَّات ، ولم يظهر من أحد منهم إنكار ذلك وكان إِجماعاً على الجواز ، كما نقل أنَّ حذيفة تزوَّج يهوديَّةٌ ، أو نصرانية ، فكتب إليه : أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ فقال : لا ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهنَّ .
وتزوج عثمان نائلة بنت فرافصة ، وكانت نصرانيَّة؛ فأسلمت تحته ، وتزوَّج طلحة بن عبيد الله يهوديَّة .
وعن جابر بن عبدالله أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أَهْلِ الكِتَابِ ، وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا » .
وروى عبد الرَّحمن بن عوفٍ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال في المجوس : « سِنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائهم ، وَلاَ آكلي ذَبَائِحِهِمْ » ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً ، لكان هذا الاستثناء عبثاً .
وقال قتادة وسعيد بن جبير : أراد ب « المُشْرِكَاتِ » في الآية الوَثَنِيَّاتِ .
واحتجَّ القائلون بعدم الجواز بوجوه :
أحدها : أنَّ لفظ « المُشْرِك » يتناول الكتابيَّة على ما بيَّنَّاه ، والتَّخصيص والنَّسخ خلافُ الظَّاهر .
قالوا : ويؤيِّد ذلك قوله في آخر الآية : { أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار } والوصف المناسب إذا ذكر عقيب الحكم أشعر بالعِلِّيَّة ، وكأنه تعالى قال : حَرَّمْتُ عليكم نِكَاح المُشْرِكَاتِ؛ لأنَّهم يدعُونَ إِلَى النَّارِ وهذه العِلَّةُ قَائِمَةٌ في الكِتَابِيَّةِ ، فوجب القطع بتحريمها .
وثانيها : أنَّ ابن عمر لما سئل عن هذه المسألة تلا آية التَّحريم وآية التَّحليل ، ووجه الاستدلال : أنَّ الأصل في الأبضاع الحرمة فلما تعارض دليلُ الحلِّ ، ودليل الحرمة تساقطا؛ فوجب بقاء حكم الأصل ، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين قال : أحلَّتهما آيةٌ ، وحرَّمتهما آية ، فحكم عند ذلك بالتَّحريم للسَّبب الذي ذكرناه ، فكذا ها هنا .
وثالثها : حكى ابن جرير الطَّبريُّ في « تَفْسِيرِهِ » عن ابن عبَّاسٍ تحريم أصناف النِّساء إلاَّ المؤمنات ، واحتجَّ بقوله : { فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] ، وإذا كان كذلك فالكتابيَّة كالمرتدَّة في أنه لا يجوز العقد عليها .
ورابعها : أنَّ طلحة نكح يهوديَّة ، وحذيفة نصرانيَّة ، فغضب عمر عليهما غضباً شديداً ، فقالا : نطلق يا أمير المؤمنين ، فلا تغضب .

فقال : إنَّ من أحلَّ طلاقهنَّ ، فقد أحلَّ نكاحهنَّ ، ولكن أنتزعهنَّ منكما .
وأجيب عن الأوَّل بأنَّ من قال : الكتابيُّ لا يدخل تحت اسم المشرك ، فالإشكال عنه ساقطٌ ، ومن سلَّم ذلك ، قال إنَّ قوله تعالى : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] أخص من هذه الآية ، فإذا كانت هذه الحرمة ثاتبةً ، ثم زالت كان قوله : « والمُحْصَنَاتُ » ناسخاً ، وإن لم تثبت الحرمة كانت مخصَّصة ، وإن كان النَّسخ والتَّخصيص خلاف الأصل إلاَّ أنَّه إنما لما كان لا سبيل إلى التَّوفيق بين الآيتين إلاَّ بهذا الطَّريق؛ وجب المصير إليه .
وقولهم : إنَّ نكاح الوثنيَّة إنَّما حرِّم؛ لأنَّها تدعو إلى النَّار ، وهذا المعنى موجودٌ في الكتابيَّة .
قلنا : الفرق بينهما أنَّ المشركة متظاهرةٌ بالمخالفة ، فلعلَّ الزَّوجَ يحبُّها ، ثم إنَّها تحمله على مقاتلة المسلمين ، وهذا المعنى غير موجود في الذِّمِّيَّة؛ لأنها مقهورةٌ راضيةٌ بالذِّلَّة ، والمسكنة ، فلا يتضمن نكاحها المقاتلة .
وقولهم : تعارضت آية التَّحريم ، وآية التَّحليل . قلنا : آية التَّحليل خاصَّة ، ومتأخِّرةٌ بالإجماع؛ فوجب تقديمها على آية التَّحريم ، بخلاف الآيتين ، بالجمع بين الأختين في ملك اليمين ، لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما أخصُّ من الأُخرى من وجهٍ ، وأعمُّ من وجهٍ آخر ، فلم يحصل فيه سبب التَّرجيح .
وأمَّا التَّمسُّكُ بقوله : « فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه » فجوابه : أنَّا لما فرَّقنا بين الكتابيَّة وبين المرتدَّة في أحكامٍ كثيرةٍ ، فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضاً في هذا الحكم؟
أمَّا تمسُّكهم بأثر عمر ، فقد نقلنا عنه أنَّه قال : ليس بحرامٍ ، وإذا حصل التَّعارض بينهما؛ سقط الاستدلال بهما ، وسلم باقي الأدلَّة .
فصل في نكاح الكتابيَّات
قال القرطبيُّ : وأمَّا نكاحُ أهل الكتاب إذا كانوا حرباً ، فلا يحلُّ .
وسئل ابن عباس عن ذلك ، فقال : لا تحلُّ ، وتلا قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] قال الرَّاوي : تحدَّث بذلك إبراهيم النَّخعيُّ ، فأعجبه .
فصل
نقل عن الحسن أنَّه قال : هذه الآية ناسخةٌ لما كانوا عليه من تزويج المشركات .
قال بعض العلماء : إن كان إقدامهم على نكاح المشركات من قبل العادة ، لا من قبل الشَّرع؛ امتنع كون هذه الآية ناسخةً؛ لأنَّه ثبت في الأصول أنَّ النَّاسخَ والمنسوخَ يجب أن يكونا حكمين شرعيين ، وإن كان جواز نكاح المشركات ثابتاً من جهة الشَّرع ، كانت هذه الآية ناسخةٌ .
قوله : { حتى يُؤْمِنَّ } « حَتَّى » بمعنى : « إلى » فقط ، والفعل بعدها منصوب بإضمار « أَنْ » ، أي : إلى أن يؤمنَّ ، وهو مبنيٌّ على المشهور لاتصاله بنون الإناث ، والأصل : يؤمنن ، فأدغمت لام الفعل في نون الإناث .
فصل في بيان قوله تعالى { حتى يُؤْمِنَّ }
اتَّفق الكلُّ على المراد من قوله { حتى يُؤْمِنَّ } الإقرار بالشَّهادة والتزام أحكام الإسلام ، وإذا كان كذلك احتجّت الكرَّاميَّة بهذه الآية على أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجرَّد الإقرار؛ لأنَّه غيّاً التحريم إلى الإيمان ، وهو هنا الإقرار؛ فثبت أنَّ الإيمان في عرف الشَّرع عبارة عن الإقرار ، وأُجيبوا بوجوهً :
منها : قوله تعالى :

{ وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] .
ومنها : قوله تعالى : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] ؛ ولو كان الإيمان عبارة عن مجرَّد الإقرار ، لكان قوله « قُلْ لم تُؤْمِنُوا » كذباً . وأُجيبوا عن التَّمسُّك بهذه الآية بأنَّ التَّصديق الذي في القلب لا يمكن الاطِّلاع عليه ، فأقيم الإقرار باللِّسان مقام التَّصديق بالقلب .
قوله : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ } . قال أبو مسلمٍ : اللام في قوله : « وَلأَمَةٌ » تشبه لام القسم في إفادة التَّوكيد .
سوَّغ الابتداء ب « أَمَة » شيئان : لام الابتداء والوصف . وَأصْل « أمة » : أمَوٌ ، فحذفت لامها على غير قياسٍ ، وعوَّض منها تاء التَّأنيث ك « قُلَة » ، و « ثُبَة » يدلُّ على أنَّ لامها واوٌ رجوعها في الجمع؛ قال الكلابيُّ : [ البسيط ]
1077- أمَّا الإِمَاءُ فَلاَ يَدْعُونَنِي وَلَداً ... إِذَا تَدَاعَى بَنُو الإِمْوَانِ بالعَارِ
ولظُهُورها في المصدرِ أيضاً ، قالوا : أَمَةٌ بيّنة الأُمُوَّة وأَقَرَّت له بالأُمُوَّة . وهل وزنها « فَعَلة » بتحريكِ العين ، أو « فَعْلة » بسكونها؟ قولان ، أظهرهما الأَوَّلُ ، وكان قياسُها على هذا أن تُقلَبَ لامُها ألفاً لتحرُّكها وانفتاحِ ما قبلَها كفتاة وقَناة ، ولكن حُذِفت على غير قياس .
والثاني : قال به أبو الهيثم ، فإنَّهُ زعم أنَّ جمع الأمة أَمْوٌ ، وأنَّ وزنها فعلة بسكون العين ، فيكون مثل نخلٍ ، ونخلةٍ ، فأصلها أَمْوَة ، فحذفوا لامها إذْ كانت حرف لين ، فلمَّا جمعوها على مثل : نخلةٍ ونَخْلٍ لزمهم أن يقولوا : أَمَة ، وأَم ، فكرهوا أن يجعلُوها حرفين ، وكَرِهُوا أن يَرُدُّوا الواو المحذوفة لمَّا كانت آخر الاسم ، فقدَّموا الواو وجعلُوه ألفاً بين الهمزة والميم ، فقالوا : أام . وما زعمه ليس بشيء إذ كان يلزمُ أن يكون الإعرابُ على الميم ، كما كان على لامِ « نَخْلٍ » ، وراء « تَمْر » ، ولكنه على التَّاءِ المحذوفةِ مقدَّرٌ كما سيأتي بيانُهُ . وجُمِعت على « إِمْوان » كما تقدَّم ، وعلى إماء ، والأصلُ : إمَاؤٌ ، نحو رقبةٍ ، ورِقاب ، فقُلِبَت الواو همزةً لوقوعها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ ككساء . وفي الحديث : « لاَ تَمْتَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ » وعلى آمٍ ، قال الشَّاعر : [ مجزوء الكامل ]
1078- تَمْشِي بِهَا رُبْدُ النَّعَا ... مِ تَمَاشِيَ الآمِ الزَّوَافِرْ
والأَصْلُ « أَأْمُوٌ » بهمزتين ، الأُولى مفتوحةٌ زائدةٌ ، والثَّانيةُ ساكِنَةٌ هي فاءُ الكلمة نحو : أكمة ، وأَأْكُم ، فوقعت الواو طرفاً مضموماً ما قبلها في اسمٍ مُعربٍ ولا نظيرَ لهُ ، فقُلبت الواو ياءً والضَّمَّة كَسْرةً لتصِحَّ الياءُ ، فصار الاسمُ من قبيلِ المنقوصِ نحو : غازٍ وقاضٍ ، ثمَّ قُلِبَت الهمزةُ الثَّانيةُ ألِفاً ، لسكونها بعد أُخرى مفتوحةٍ ، فتقولُ : جاءَ آمٌ ، ومررت بآمٍ ، ورأيت آمياً ، تقدِّرُ الضَّمَّة والكسرة وتُظْهِرُ الفتحة ، ونظيرُهُ في هذا القلبِ مجموعاً : « أَدْلٍ » و « أَجْرٍ » جمعُ « دَلْوٍ » و « جَرْوٍ » وهذا التَّصريف الذي ذكرناهُ يرُدُّ على أبي الهيثم قوله المتقدّم ، أعني كونه زعمَ أن آمياً جمع أَمْوَة بسكونِ العينِ ، وأَنَّهُ قلب ، إِذ لو كان كذلك لكانَ ينبغي أَنْ يُقالَ جاء آمٌ ، ومررت بآمٍ ، ورأيت آماً ، وجاء الآم ومررتُ بالآم ، فتُعْربَ بالحركات الظاهرة .

والتَّفضيلُ في قوله : { خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ } : إمَّا على سبيل الاعتقاد ، لا على سبيل الوجود ، وإمَّا لأنَّ نكاحَ المؤمنةِ يشتملُ على منافع أُخرويَّة ، ونكاحَ المشركةِ الحُرَّة يشتملُ على منافِعَ دنْيَويّةٍ ، هذا إذا التزَمنا بِأَنَّ « أَفْعَلَ » لا بدّ أن يدُلَّ على زيادةٍ ما ، وإلاَّ فلا حاجة إلى هذا التأويل ، كما هو مذهبُ الفرَّاءِ وجماعةٌ .
وقوله : { مِّن مُّشْرِكَةٍ } يحتمِلُ أن يكُونَ « مُشْرِكَةٍ » صفةً لمحذوفٍ مدلولٍ عليه بمقابِلِهِ ، أي : مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ ، أو مدلولٌ عليه بلفظِهِن أي : مِنْ أَمَةٍ مشركةٍ ، على حسب الخلاف في قوله : « وَلأَمَةٌ » هل المُراد المَمْلُوكةُ للآدميين ، أو مطلقُ النِّسَاء ، لأنهنَّ مِلكٌ لله تعالى؛ كما قال - عليه السَّلام - « لاَ تَمْنَعُوا إِمَاء اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ » وكذلك الخلافُ في قوله : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ } .
وقال بعضهم وَلأَمَةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ ولا حاجة إلى هذا التقدير ، لأن اللَّفظ مطلق . وأيضاً فقوله : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } يدُلُّ على صفة الحُرِّيَّة؛ لأَنَّ التَّقدير : ولو أعجبتكم بحسنها ، أو مالها ، أو حرّيتها ، أو نسبها ، فكُلُّ ذلك داخِلٌ تحت قوله : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } .
فصل في سبب النُّزُول
نزلت هذه الآية في خنساء ، وهي وليدةٌ سوداءُ ، كانت لحذيفة بن اليمان ، قال حذيفة : يا خنساء قد ذكرت في المَلأ الأَعلى على سوادك ودمامتك؛ فأعتقها وتزوجها .
وقال السُّدِّيُّ : نزلت في عبداللهِ بن رواحة كانت له أَمَةٌ سَوداءُ ، فغضب عليها ، ولطمها ، ثم أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك ، فقال له - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « وَمَا هي » ؟ فقال : تشهدُ ألاَّ إله إلا الله ، وأنَّك رسُولُ اللهِ ، وتُحسن الوضُوء وتُصَلّي فقال : « إنّ هذه مؤمنة » قال عبداللهِ : فوالَّذي بعثك بالحق نبيّاً ، لأعتقها ولأتزوجها ، ففعل ، فطعن عليه ناسٌ من المُسلمين ، وقالوا : تنكح أمة؟! وعرضُوا عليه حُرَّةٌ مشركة . فأَنزلَ اللهُ هذه الآية .
فصل في بيان الخيريَّة في الآية
والخير ها هنا النفع الحسن ، والمعنى : أَنَّ المشركة - وإِنْ كانت ثابتة في المال ، والجمال ، والنَّسَب - فالأَمَةُ المُؤْمِنة خيرٌ منها إِلاَّ أن الإيمان يتعلَّق بالدِّين ، والمال ، والجمال ، والنَّسب متعلّق بالدِّين والدُّنيا ، ولا شكَّ أَنَّ الدِّين خيرٌ مِنَ الدنيا؛ لأنه أشرف الأشياء عند كل أحد ، فإذا اتفق الدين كملت المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد ، وعند اختلاف الدين لا يحصل شيء من ذلك .

فصل في تقرير مذهب أبي حنيفة في القادر على التزوّج بأمة مع وجود الحرة
قال الجبائي : دلت الآية على أن القادرعلى طول الحرة يجوز له التزوج بالأمة كمذهب أبي حنيفة؛ لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون - لا محالة - واجداً لطول الحرة المسلمة لأن سبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت في قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح فيلزم - قطعاً - أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأَمَةِ ، وهو استدلالٌ لطيف .
قوله : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } ، وقوله : { وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } هذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نصب على الحالِ ، وقد تقدَّم أنَّ « لَوْ » هذه في مثل هذا التَّركيب شرطيّةٌ بمعنى : « إِنْ » نحو : « رُدُّوا السَّائل ، ولو بظَلْفٍ مُحْرَقٍ » ، وأنَّ الواوَ لِلْعَطفِ على حالٍ محذوفةٍ ، التَّقديرُ : خيرٌ من مشركةٍ على كُلِّ حالٍ ، ولو في هذه الحال ، وأنَّ هذا يكون لاستقصاءِ الأَحوالِ ، وأنَّ ما بعد « لَوْ » هذه إِنَّمَا يأتِي وهو مُنافٍ لِمَا قبلَه بوجهٍ ما ، فالإِعجابُ مُنافٍ لحُكْم الخَيْريَّة ، ومُقْتَضٍ جوازِ النِّكَاحِ لرغبةِ النَّاكِح فيها . وقال أبو البقاء : « لَوْ » هنا بمعنى « إِنْ » وكذا كُلُّ موضع وقع بعد « لَوْ » الفعلُ الماضِي ، وكان جوابُها مُتقدِّماً عليها ، وكونها بمعنى « إِنْ » لا يشترط فيه تقدُّمُ جوابها؛ ألا تَرَى أنَّهم قالوا في قوله تعالى : { لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 9 ] إنَّها بمعنى : « إنْ » مع أَنَّ جوابها وهو : « خَافُوا » مُتأخِّرٌ عنها ، وَقَدْ نَصَّ هو على ذلك في آيةِ النِّسَاءِ قال في خافُوا : وهو جوابُ « لَوْ » ومعناها « إنْ » .
فصل في نكاح الأَمَةِ الكتابيَّة
قال القُرطبيُّ : اختلفوا في نكاح الأَمَةِ الكتابيَّة؛ فقال مالِكٌ : مَنْ أسلم وتحته أَمَةٌ كتابيَّةٌ أَنَّه لا يُفرَّق بينهما .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : يجوزُ نكاحُ إِماءِ أَهلِ الكِتَابِ . قال ابن العربيّ : احتجّ أصحابُ أبي حنيفة على جواز نكاح الأَمَةِ بقوله تعالى : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ } ووجهُ الدلالة : أَنَّهُ تعالى خاير بين نكاح الأَمَة المؤْمِنة والمُشركة ، فلولا أَنَّ نكاح الأَمة المشركة جائِزٌ لما خاير بينهما؛ لأَنَّ المخايرة إِنَّما هي بينَ الجائزين ، لا بين جائِزٍ وممتنع ، ولا بينَ متضادين .
والجوابُ : أَنَّ المخايرة بين الضدَّين تجوزث لغةً وقُرْآناً ، قال تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 42 ] .
وقال عمر في رسالته لأبي موسى الأشعري : الرّجوع إلى الحقّ خيرٌ مِنَ التَّمَادِي في الباطل .
وجوابٌ آخرُ : أنَّ قوله : « وَلأَمَةٌ » لم يُرد به الرّقَّ المَمْلُوك وإِنَّما أراد به الآدمِيَّات والآدَميين كقوله عليه الصّلاة والسَّلام :

« لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ » وكذا قوله : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ } وقوله : { وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ } هذا بالإِجماع المراد منه الكُلّ ، وأَنَّ المُؤْمِنة لا يحلُّ تزويجها بكافرٍ البَتَّة على اختلاف أنواع الكُفر ، والكلام في قوله : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ } على نحو ما تقدَّمَ .
فصل في نكاح المجوسيَّة
قال القرطبيُّ : اختلفوا في نكاح المجوسية؛ فمنع منه مالكٌ والشَّافعيُّ ، وأبو حنيفة ، والأوزاعيُّ وإسحاقُ .
وقال أحمد : لا يعجبني .
وروي أَنَّ حُذيفة بن اليمان تزوَّجَ مجوسية ، وأَنَّ عمر بن الخطَّاب قال له : طلِّقها .
قال ابن القصَّار : من قال كان لهم كتاب جَوَّزَ نكاحهنَّ .
قوله : { أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار } وهي نظير قوله تعالى : { مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار } [ غافر : 41 ] ، وفي تأويلها وجوهٌ :
الأوَّل : أَنَّهم يدعون إلى ما يُؤَدِّي إلى النَّارِ .
فإن قيل : كيف يدعون إلى النَّارِ ، ورُبَّما لم يُؤمِنُوا بالنَّارِ أصلاً ، فكيف يدعون إليها؟!
والجواب : أنَّهم يدعون إلى ما يؤدِّي إلى النَّارِ ، فإنَّ الظَّاهر أن الزَّوجيّة مظنة الأُلفة والمحبة والمَودَّة ، وكُلُّ ذلك يُؤَدِّي إلى انتقال المسلم عن الإِسلام بسبب موافقة حبيبه .
فإن قيل : احتمالُ المحبَّة حاصِلٌ من الجانين ، فكما يحتملُ أَنْ يصير المسلمُ كافراً بسبب الأُلفةِ والمحَبَّةِ يحتمل أيضاً أنْ يصير الكافِرُ مُسْلِماً بسبب الأُلفةِ والمَحبَّة ، وإذا تعارض الاحتمالان ، تساقطا ، وبقي أصل الجوازِ .
فالجواب : أَنَّ العمل إذا دار بين أن يلحقه نفع ، أو بين أن يلحقه ضررٌ؛ وجب الاحترازُ عن الضَّرَرِ ، فلهذا السَّبب رجَّح اللهُ جانب المنعِ .
التَّأويل الثَّاني : أنَّهُم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال ، وفي تركهما وجوب استحقاق النَّار والعقاب ، والغَرَضُ منه أَنْ يجعل هذا فرقاً بين الذِّمِّيَّة ، وغيرها ، فإنَّ الذِّمِّيَّة لا تحمل زوجها على المقاتلة .
التَّأويل الثالث : أَنَّ الولد الَّذِي يحدث ، ربَّما دعاهُ الكافِرُ إلى الكُفْرِ ، فيصير الكافر والولد من أهلِ النَّارِ ، فهذا هو الدَّعوة إلى النَّارِ ، { والله يدعوا إِلَى الجنة } حيثُ أمر بالتَّزْويج بالمسلمة ، حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجَنَّة .
قوله : { والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ } فيه قولان :
الأول : أَنَّ المعنى : وأولياء اللهِ يدعون إلى الجَنَّة ، والمغفرة ، فلا جرم أنه ينبغي للعاقل ألاَّ يقرب من مشركة ، فإِنَّها من أعداء اللهِ ، وأن ينكح المُؤْمنة؛ لأَنَّها تدعُو إلى الجَنَّةِ والمغفرة .
الثاني : أنَّهُ سبحانه وتعالى لمَّا بيَّنَ هذه الأَحكام ، وأباح بعضها ، وحرَّم بعضها قال { والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة } ؛ لأنَّ من تمسَّكَ بهما اسْتَحَقّ الجنَّةَ .
و { والمغفرة } الجمهورث على جَرِّ { والمغفرة } عطفاً على « الجَنَّةِ » و « بِإِذْنِهِ » مُتعلِّقٌ ب « يَدْعُو » أي : بتسهيلهِ ، وتيسيره ، وتوفيقه ، وقيل بقضائه وإرادته .
وفي غير هذه الآيةِ تقدَّمَت « المَغْفِرَة » على الجنة : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ الحديد : 21 ] و { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ آل عمران : 133 ] ، وهذا هو الأصل؛ لأنَّ المغفرة سببٌ في دُخُولِ الجَنَّةِ ، وإنما أُخِّرَت هنا للمقابلة ، فإنَّ قبلَها « يَدْعُو إِلى النَّارِ » ، فقدَّم الجَنَّةَ ليقابِلَ بها النَّارَ لفظاً ، ولتشوُّقِ النُّفوس إليها حين ذكر دعاءَ اللهِ إليها ، فأتى بالأَشْرَفِ .
وقرأ الحسن { والمغفرة بِإِذْنِهِ } على الابتداءِ والخبرِ ، أي : حاصِلةٌ بإذنِهِ .
ويبين آياته للناس لعلَّهم يتذكَّرُون ، أي : أوامره ، ونواهيه .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

{ المحيض } فعل من الحيضِ ، ويُرادُ به المصدرُ ، والزمانُ ، والمكانُ ، تقولُ : حاضِت المرأَةُ تحيضُ ، حَيضاً ومَحِيضاً ، ومَحاضاً ، فَبَنَوْه على مَفْعلٍ ومَفْعَل بالكَسرِ والفتحِ .
واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ ثلاثة مذاهب :
أحدها : أَنَّهُ كالصَّحيح ، فتُفْتَحُ عينهُ مراداً به المصدرُ ، وتُكسَرُ مراداً به الزَّمانُ والمكانُ .
والثَّاني : أَنْ يُتَخَيَّر بين الفتح والكسر في المصدرِ خاصَّةً ، كما جاء هنا : المَحيضُ والمحَاضُ ، ووجهُ هذا القول : أنَّهُ كثُر هذان الوجهان : أعني ، الكسر ، والفتح فاقْتَاسا .
والثالث : أَنْ يُقْتَصَرَ على السَّماعِ ، فيما سُمِع فيه الكَسرُ ، أو الفتحُ ، لا يَتَعَدَّى . فالمحيضُ المُرادُ به المَصْدَرُ ليس بمقيسِ على المذهبين الأول والثالث ، مقيسٌ على الثاني . ويقال : امرأَةٌ حائِضٌ ولا يقال : « حائِضَةٌ » إلا قليلاً ، أنشد الفرَّاء : [ الطويل ]
1079- ... كَحَائِضَةٍ يُزْنَى بِهَا غَيْر طَاهِرِ
وَالمَعْرُوفُ أَنَّ النَّحويين فَرَّقوا بين حائضٍ ، وحائضةٍ : فالمُجرَّدُ من تاء التَّأنيث بمعنى النَّسَب ، أي : ذاتُ حيضٍ ، وإِنْ لم يكن عليها حَيْضٌ ، والملتبسُ بالتَّاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال ، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعر ذلك ، وهكذا كُلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمُؤَنّثِ نحو : طَامِث ومُرْضِ وشبههما .
قال القرطبيُّ : ويقال : نساءٌ حيض ، وحوائض ، والحَيضةُ : المرأَةُ الواحدة . والحِيضةُ بالكَسْر ، الاسم والجمع الحيض ، والحيضة أيضاً : الخرقةُ التي تَسْتَثْفِرُ بها المَرْأَةُ ، قالت عَائِشَةُ : لَيْتَنِي كُنُتُ حِيْضَةٌ مُلْقَاةٌ « وكذلك المَحِيضَةُ ، والجمع : المَحائص .
وأصلُ الحَيض السَّيَلانُ ، والانفجِارُ ، يُقالُ : حَاضَ السَّيلُ وَفَاضَ ، قال الفَرَّاءُ : » حَاضَتِ الشَّجَرَةُ ، أي : سال صَمْغُها « ، قال الأَزهرِيُّ : » وَمِنْ هَذَا قيل لِلْحَوضِ : حَيْضٌ؛ لأَنَّ المَاءَ يسيلُ إليه « والعربُ تُدْخِلُ الواو على اليَاءِ ، وَالياءَ على الواوِ؛ لأَنَّهُما من حَيِّز واحدٍ ، وهو الهواءُ .
ويقالُ : حاضت المرأةُ وتحيَّضَتْ ، ودَرَسَتْ ، وعَرَكت ، وطَمِثت فهي حائضٌ ، ودارِسٌ ، وعارِكٌ ، وَطَامِثٌ ، وطَامِسٌ ، وكَابِرٌ ، وَضَاحِكٌ . قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } [ يوسف : 31 ] أي : حضن ، وقال تعالى : { فَضَحِكَتْ } [ هود : 71 ] .
قال مجاهد : أي : حاضَتْ ونافس أيضاً ، والظَّاهر أن المحيض مصدرٌ كالحيضِ ، ومثله : » المَقِيلُ « مِنْ قال يقِيلُ؛ قال الرَّاعِي : [ الكامل ]
1080- بُنِيَتْ مَرَافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ ... لاَ يَسْتَطِيعُ بِهَا القُرَادُ مَقِيلاَ
وكذلك قال الطَّبريُّ : » إِنَّ المَحِيضَ اسْم كالمَعِيشِ : اسمُ العَيْشِ « ؛ وأنشد لرؤبة : [ الرجز ]
1081- إِلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعِيشِ ... وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي
وقيل : المَحيضُ في الآية المُرادُ به : اسمُ موضعِ الدَّم ، وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً ، ويؤيِّد الأَوَّل قوله : { قُلْ هُوَ أَذًى } . وقد يُجَابُ عنه بأنَّ ثَمَّ حذف مضافٍ ، أي : هو ذُو أَذى ، ويؤيِّدُ الثَّاني قوله : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } . ومن حَمَلَه على المَصْدَرِ قَدَّر هنا حَذْفَ مُضَافٍ ، أي : فاعْتَزِلُوا وَطْءَ النِّسَاءِ في زَمَانِ الحَيْضِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَحِيضُ الأَوَّلُ مَصْدَراً والثَّاني مكاناً .
حكى الواحديُّ في » البَسيط « عن ابن السَّكِّيت : إذا كان الفعلُ من ذوات الثلاثة نحو : كَالَ يكيلُ ، وحاضَ يحيض وأشباهه ، فإِنَّ الاسم منه مكسور والمصدر مفتوح ، مِنْ ذلك مالَ ممالاً ، وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم ، وبالفتح إلى المصدر ، ولو فتحهما جميعاً ، أو كسرهما جميعاً في المصدرِ والاسمِ لجازَ ، تقول : المَعَاشُ ، والمَعِيشُ ، والمَغَابُ ، والمَغِيبُ ، والمَسَارُ والمَسِيرُ فثبت أَنَّ لفظ المحيض حقيقةٌ في موضع الحيض ، وأيضاً هو اسمٌ لنفس الحيضِ .

قال ابن الخطيب : وعندي أَنَّهُ ليس كذلك؛ إذ لو كان المُرادُ بالمحيض هنا الحيض ، لكان قوله تعالى { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } معناه : فاعتزلوا النِّساء في الحيض ، ويكونُ المُرادُ : فاعتزلوا النساء في زمن الحيض ، يكون ظاهره مانعاً من الاستمتاع بهنَّ فيما فوق السُّرَّة ، ودون الرّكبة ، ولما كان هذا المنعُ غير ثابت لزم القول بتطرُّق النَّسخ ، والتَّخصيص إلى الآية ، وهو خلاف الأصل ، أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض؛ كان معنى الآية : فاعتزلوا النِّسَاءَ في موضع الحيض من النِّسَاء ، وعلى هذا التَّقدير لا يتطرَّقُ إلى الآية نسخٌ ، ولا تخصِيصٌ .
ومن المعلوم أَنَّ اللَّفْظ إذا كان مشتركاً بين معنيين وكان حمله على أحدهما يوجب محذوراً ، وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور ، فإِنَّ حمل اللَّفظ على المعنى الَّذِي لا يُوجِبُ المحذورَ ، أولى إذا سلَّمنا أَنَّ لفظ المحيض مشتركٌ بين الموضع ، وبين المصَدرِ .
فإن قيل : الدَّليلُ على أَنَّ المُراد من المحيض الحيضُ قوله : { قُلْ هُوَ أَذًى } ، ولو كانَ المُرَادُ الموضع لما صَحَّ هذا الوَصْفُ .
قلنا : بتقدير أَنْ يكون المحيض عبارة عن الحَيض ، فالحيض نفسُهُ ليس بِأَذى لأن « الحَيْضَ » عبارةٌ عن الدَّمِ المخصوص ، و « الأَذَى » كيفيَّةٌ مخصوصَةٌ وهو عرض ، والجسم لا يكُونُ نفس العرض فَلا بُدَّ أَنْ يقُولُوا : المرادُ منه أَنَّ الحيض موصوف بكونه أذى ، وإذا جاز ذلك فيجُوزُ لنا أيضاً أن نقول : إِنَّ المراد منه أنَّ ذلك المَوْضع ذو أذًى ، وأيضاً لم لا يجوزُ أَنْ يكون المراد بالمحيض الأَوَّل الحيض ، وبالمحيض الثَّاني موضع الحيضِ كَمَا تقدَّمَ وعلى هذا فيزولُ الإِشكالُ .
فصل في بيان مغالاة اليهود وغيرهم في أمر الحيض
عن أنس بن مالك أَنَّ اليهُود ، والمَجُوس كانُوا يبالغون في التَّباعد عن المرأَةِ حال حيضها ، والنَّصارَى كانوا يجامعوهنّ ولا يبالون بالحيض ، وأَنَّ أَهْلَ الجاهِليَّةِ كانُوا يقولُونَ مثل قولِ اليَهُودِ ، والمَجُوسِ ، وكانوا إذا حَاضَتِ المرأَةُ؛ لم يُؤَاكِلُوها ، ولم يُشارِبُوها ، ولم يُجَالِسُوها على فراشٍ ، ولم يساكنوها في بيتٍ كفعل اليهود والمجوس ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، فأخذ المُسْلِمُون بظاهر الآية ، فأخرجوهنّ من بيوتهن ، فقال ناسٌ من الأَعْراب : يا رسُول اللهِ البردُ شديدٌ ، والثِّيابُ قَلِيلةٌ ، فإِنْ آثرناهن بالثِّيابِ ، هلك سائِرُ أهل البيت ، وإن اسْتَأْثَرْنَاهَا هلكت الحيض ، فقال عليه الصّلاة والسّلام : « إِنَّمَا أَمَرْتُكُم أَنْ تَعْتَزِلُوا مُجَامَعَتهنَّ إِذَا حِضْن ولَمْ آمُرُكُم بإِخْرَاجِهِنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ كَفِعْلِ الأَعاجِمِ »

فلمَّا سمع اليهُودُ ذلك قالوا : هذا الرَّجُلُ يُرِيدُ أَلاَّ يدع شيئاً من أمرنا ، إلاَّ خالفنا فيه . فَجاء أُسيِّد بن حُضيرٍ وعباد بن بشر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا : يا رسُول اللهِ إِنَّ اليهُود تقول كذا وكذا ، أفلا ننكحهنّ في المحيض ، فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى ظننا أَنَّه غضب عليهما ، فخرجا؛ فَجَاءَتْهُ هديَّةٌ مِنْ لَبَنِ ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما .
فصل في مجيء « يسألونك » بحرف الواو
وجاء : { وَيَسْأَلُونَكَ } ثلاثَ مرَّاتٍ بحرفِ العطفِ بعد قوله : « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر » وهي : « وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ » ، « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى » « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض » وجاء « وَيَسْأَلُونَكَ » أربع مراتٍ من غيرِ عطفٍ : « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة » « يَسْأَلُونَكَ مَذاَا يُنْفِقُونَ » « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ » « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ » . فما الفرقُ؟
والجوابُ : أَنَّ السُّؤالات الأَواخر وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ ، فجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ ، وهو الواوُ ، أَمَّا السّؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ ، وجيء بها وحدها .
وقوله : { هُوَ أَذًى } فيه وجهان :
أحدهما : قاله أبو البقاء : « أَنْ يكُونَ ضمير الوطءِ الممنوع » وكأنه يقول : إِنَّ السِّياق يدلُّ عليه ، وإِنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ .
الثَّاني : أَنْ يعود على المحيض ، قال أبو البقاء : « ويكون التَّقدير : هو سببُ أَذًى » وفيه نظرٌ؛ فإنَّهم فَسَّروا الأَذَى هنا بالشَّيء القَذِر ، فإذا أَرَدْنا بالمَحِيضِ نَفْسَ الدَّمِ ، كان شيئاً مُسْتَقْذَراً ، فلا حاجة إلى تقديرِ حَذْفِ مضافٍ .
فصل في المراد من « الأذى »
قال عطاءٌ ، وقتادةٌ ، والسُّدِّيُّ : هو أَذًى ، أي : قذر واعلم أَنَّ الأَذَى في اللُّغة ما يكره مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، ويحتمل أن يَكُونَ قوله : { هُوَ أَذًى } ، أي : سببُ الأَذَى قالوا : لأَنَّ من جَامَعَ في الحَيْض ، قد يحصُلُ له في ذكره وأنثييه تفتيح وقروح .
وقوله : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } .
الاعتزالُ : التَّنَحِّي عن الشَّيْءِ ، وأَرَاد به ها هنا : تَرْكَ الوَطءِ ، وقدَّم ذكر العِلَّة ، وهي الأذى ، ثم رَتَّبَ الحُكْم ، وهو وجوب الاعتزال . فإن قيل : المرادُ ب « الأذى » هو الدَّمُ ، وهو حاصِلٌ في وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة وقت الاستحاضة ، غير واجب ، فانتقضت هذه العِلَّةُ .
والجواب : أَنَّ دم الحيض دَمٌ فاسِدٌ يتولّد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من عمق الرَّحم ، ولو احْتَبَسَتْ تلك الفضلةُ لمرضت المرأةُ ، فذلك الدَّمُ جارٍ مجرى البَوْلِ ، والغائط ، فكان أَذًى وقذراً ، وأَمَّا دمُ الاستحاضة ، فليس كذلك ، بل هو دَمٌ صالحٌ يسير من عروق تنفجر من عمق الرَّحِمِ ، فلا يكونُ أذى ، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما سئل عن الاستحاضة فقال :

« إِنَّ ذَلكَ دَمُ عِرْق ، ولَيْسَ بِالحَيْضَةِ » .
قال ابن الخطيب : وهذا جوابٌ طبّيٌّ مُخَلِّصٌ ظاهر القرآن مِنَ الطَّعن .
فصل في بيان صفات دم الحيض
اعلم أَنَّ الحيضِ موصوفٌ بصفاتٍ حقيقيةٍ ، ويتفرَّعُ عليه أحكام شرعيّة فالصِّفاتُ نوعان :
الأول : المنبعُ؛ فدم الحيض يخرجُ من الرَّحم ، قال تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } [ البقرة : 228 ] قيل في تفسيره إنَّ المراد منه الحيض والحمل ، وأَمَّا دم الاستحاضة ، فإِنَّهُ لا يخرجُ من الرَّحم ، لكن من عروق تنقطع من فم الرَّحم ، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في صفة دم الاستحاضة : « إِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ » ، وهذا يؤيّدُ ما تقدَّمَ في الجواب .
النوع الثاني : من صفات دم الحيضِ التي وصفه بها رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهي سِتّ :
أحدها : إنه أسود .
الثاني : أنه ثخين .
الثالث : محتدم وهو المحترقُ من شدَّةِ حرارته .
الرَّابع : أنه يخرُجُ برفق لا يسيلُ سيلاناً .
الخامس : أنَّ له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء؛ وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة .
والسادس : أنه بحراني وهو الشَّدِيدُ الحمرة ، وقيل ما تحصُلُ فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر .
فهذه صفاته الحقيقيّة ، ثم مِنَ النَّاسِ من قال : إِنَّ دَمَ الحَيْضِ يتميَّزُ عن دمِ الاستحاضة ، فكلُّ دم موصوف بهذه الصِّفَات ، فهو دَمْ حَيْضِ وما لا فلا ، وما اشتبه الأمرُ فيه فالأَصْلُ بقاء التَّكليف ، ولا يزول إلا بعارض الحيض ، فإذا لم يُعلمْ وجوده؛ بقيت التَّكَاليفُ على ما كانت وقال آخرون : هذه الصِّفَاتُ قد تشتَبِهُ على المُكَلّف ، فإيجاب التأمل من تلك الدِّمَاء يقتضي عسراً ومشقة فقدر الشاعر وقتاً مضبوطاً ، متى حصلت فيه الدِّمَاءُ كان حُكمُها حُكم الحَيْضَ كيفما كانت صفةُ تلك الدِّماء قَصْداً إلى إسقاط العُسْرِ والمَشَقَّةِ .
فصل
اختلف العُلَماءُ في مُدَّةِ الحيضِ ، فقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الهُ عنه - : أقلُّه يوم ولَيْلَة ، وأكثرُهُ خمسة عشر يوماً ، وهو قولُ عطاء بن أَبي رباحٍ ، والأوزاعيِّ ، والشَّافِعِيّ ، وأحمد ، وإسحاق .
وقال أبو حنيفة ، والثَّورِيّ : أقلّه ثلاثة أيَّام ولياليهن ، فإِنْ نقص عنه ، فهو دمٌ فاسد؛ وأكثره عشرةُ أيَّامِ .
قال أبو بكر الرَّازِيُّ في « أحكام القُرْآن » : وقد كان أبُو حنيفة يقولُ بقول عطاءِ ، ثم تركه .
وقال مَالِكٌ : لا تقديرَ له في القِلَّةِ ، والكثرة ، فإن وُجِدَ ساعةً ، فهو حيض ، وإن وجد أيّاماً ، فكذلك .
واحتجَّ أبُو بكر الرازيُّ في « أَحْكَامِ القُرْآنِ » على فساد قول مالكٍ بأنه : لو كان التَّقْدير ساقطاً في القليل ، والكثِير ، لوجب أَنْ يكُونَ الحيض هو الدّم الموجود من المرا’ فيلزم ألاَّ يوجد في الدنيا مستحاضة لأن كل ذلك الدم يكون حيضاً على المذهب ، وذلك باطِلٌ بالإجماع ولأنه روي أَنّ فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ » وروي أَنّ منه ما هو حيضٌ ، ومنه ما هو استحاضةٌ ، فبطل هذا القول ويمكن الجواب عنه بأن نقُولَ : إِنَّما يتميَّزُ دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصِّفات التي قدّمناها لدم الحيضِ ، فإذا عدمت؛ حكمنا بدم الحيض ، وإِنْ تَرَدَّدْنا فيهما ، كان طريانُ الحيض مجهولاً ، وبقاء التّكليف الَّذِي هو الأَصلُ معلوم ، والمشكوك لا يارض المعلوم ، فلا جَرَمَ قلنا ببقاء التَّكاليف ، فبهذا الطّريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زماناً معيّناً .

واحتجَّ مالكٌ - رضي اللهُ عنه - بوجهين :
الأول : أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بيَّنَ علامة دم الحيض ، وصفته كما قدمنا في قوله : « دَمُ الحَيْضِ هُوَ الأَسْوَدُ المُحْتَدمُ » وإذا كان الدَّمُ موصوفاً بهذه الصِّفَةِ ، كان الحيضُ حاصِلاً ، فيدخلُ تحت قوله : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } .
الثاني : قوله في دم الحيض « هُو أَذى » ، ذكر كونهُ أَذًى في معرض العِلَّة ، لوجوب الاعتزال ، وإِنَّما كان « أَذًى » للرَّائِحَة المنكرة التي فيه ، واللون الفاسد وللحدةِ القوية الَّتي فيه ، وإذا كان وجُوبُ الاعتزال معللاً بهذه المعاني ، وجب الاحتراز عملاً بالعِلَّةِ المذكورة في كِتابِ الله .
واحتجّ الشَّافعيُّ على أبي حنيفة بوجهين :
الأول : أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته ، وفي الزَّائد عن العشرة لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم ، فإذا وجد ذلك ، فقد حصل الحيض فيدخل تحت قوله : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } تركنا العمل بهذا الدّليل في الأقلّ من يوم وليلة وفي الأكثر من خمسة عشر يوماً باتِّفاق بيني وبينك يا أبا حنيفة؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في هذه المدَّة .
الثاني : أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - بيّن نقصان دينها : بأنها تمكث شطر عمرها لا تصلّي ، وهذا يدلُّ على أنَّ الحيضة قد تكون خمسة عشر يوماً؛ لأن على هذا التقدير يكون الطهر خمسة عشر يوماً؛ فيكون الحيض نصف عمرها ، ولو كان أقلّ من ذلك لم تكن تاركة للصَّلاة نصف عمرها .
أجاب أبو بكر الرَّازيُّ عنه بوجهين :
الأوَّل : أن الشَّطر ليس هو النِّصف ، بل هو البعض .
والثاني : أنه لا يوجد في الدُّنيا امرأة تكون حائضاً نصف عمرها ، لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ هو من عمرها .
والجواب عن الأول : أنَّ الشَّطر هو النِّصف ، يقال : شطرت الشَّيء أي جعلته نصفين ، ويقال في المثل : « احْلُبْ حَلْباً لَكَ شَطْرُهُ » أي نصفه .
وعن الثاني : أن قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لاَ تُصَلِّي » إنّما يتناول زماناً هي تصلّي فيه ، وذلك لا يتناول إلا زمان البلوغ .
واحتجَّ أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة بوجوه :
الأول : ما روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« أَقَلّ الحَيْضِ ثَلاثَة أَيَّامٍ ، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّام » فإن صحَّ هذا الحديث ، فلا معدل عنه لأحد .
الثاني : روي عن أنس بن مالك ، وعثمان بن أبي العاص الثَّقفيّ أنهما قالا : « الحيضُ ثلاثةُ أيَّامٍ ، وأربعة أيَّامٍ إلى عَشَرَةِ أيَّام ، وما زاد فهو اسْتِحَاضَة » وهذا قول صحابي لم يخالفه أحدٌ ، فكان إجماعاً ، ولأنَّه إذا ورد قول عن صحابي فيما لا سبيل للعقل إليه ، فالظَّاهر أنَّه سمع من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .
الثالث : قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - لحمنه بنت جحش : « تحيضي في علم الله ستّاً ، أو سَبْعاً ، كما تَحِيضُ النِّسَاء في كُلِّ شَهْرٍ » فقوله : « كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ في كُلِّ شَهْرٍ » مقتضاه أن يكون حيض النِّسَاء في كلِّ شهر هذا القدر ، خالفنا هذا الظَّاهر في الثَّلاثة إلى العشرة ، فيبقى ما عداه على الأصل .
الرابع : قول عليه الصَّلاة والسَّلام : « مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِعُقُولِ ذَوِي الأَلْبَابِ مِنْهُنَّ » فقيل : ما نقصان دينهن؟ قال : « تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ الأَيَّامَ واللَّيَالِي لاَ تُصَلِّي » .
فهذا يدلُّ على أنَّ مدَّة الحيض ما يقع عليه اسم الأيّام ، واللَّيالي ، وأقلّها ثلاثة أيَّام وأكثرها عشرة؛ لأنَّه لا يقال في الواحد ، والاثنين لفظ الأيَّام ، ولا يقال في الزَّائد على العشرة أيَّام؛ بل يقال أحد عشر يوماً ، أما الثَّلاثة إلى العشرة ، فيقال فيها أيَّامٌ .
وأيضاً قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - لفاطمة بنت أبي حبيش : « دَعِي الصَّلاةَ أيَّامَ أَقْرَائِك » فلفظ الأيَّام مختصّ بالثَّلاثة إلى العشرة .
وفي حديث أُمِّ سلمة في المرأة التي سألته أنَّها تهرق الدَّم فقال : « لِتَنْظُر عَدَدَ الأَيَّامِ ، واللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ مِنَ الشَّهْرِ ، ثُمَّ لِتَغْتَسِل ولتصلِّ » .
فإن قيل : لعلَّ حيض تلك المرأة كان مقدّراً بذلك المقدار قلنا : إنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما سألها عن قدر حيضها ، بل حكم عليه بذلك الحكم مطلقاً ، فدلّ هذا على أنَّ الحيض مطلقاً مقدّر بما ينطلق عليه لفظ الأيَّام .
وأيضاً قال في حديث عديِّ بن ثابتٍ : « المُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا » وذلك عامٌّ في جميع النِّساء .
الخامس : قال الجبَّائي في « تَفْسِيرِهِ » إنّ فرض الصِّيام والصَّلاة لازم لعموم الأدلَّة ، فعلى الوجوب ترك العمل بها في الثَّلاثَةَ إلى العشرة بالإجماع ، وما دون الثَّلاثة وفوق العشرة حصل فيه اختلاف العلماء ، فأورث شبهة ، فلم نجعله حيضاً ، فوجب بقاء التَّكليف على أصله .
فصل في حرمة جماع الحائض
اتَّفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض ، واختلفوا في وجوب الكفَّارة على من جامع فيه ، فذهب أكثرهم إلى أنَّه لا كفَّارة عليه فليستغفر الله ويتوب ، وذهب قومٌ إلى وجوب الكفَّارة عليه؛ منهم : قتادة والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، لما روى ابن عبَّاس أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في رجلٍ جامع امرأته وهي حائضٌ

« إنْ كَانَ الدَّمُ عَبِيطاً؛ فَلْيَتَصَدّق بِدينَار ، وإِنْ كَانَ صُفْرَةٌ ، فَنِصْفُ دِينَارٍ » وروي موقوفاً على ابن عبَّاس . واتَّفقوا على أنَّ جلّ الاستمتاع فيما فوق السُّرَّة ، ودون الرُّكبة [ واختلفوا بأنّه هل يجوز الاستمتاع بها فيما دون السُّرة ، وفوق الرُّكبة؟ ] قال ابن الخطيب : إن فسَّرنا المحيض بموضع الحيض ، كانت الآية دالّة على تحريم الجماع فقط ، فلا يكون فيها دلالة على تحريم غيره ، بل نقول : إنّ تخصيص الشَّيءِ بالذّكر يدلُّ على أنَّ الحُكْمَ فيما عداه بخلافه ، وإن فسَّرنا المحيض بالمحيض ، كان تقدير الآية فاعتزلوا النِّساء في زمان المحيض ، وترك العمل بها فيما فوق السُّرَّة ودون الرُّكبة؛ فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة .
قوله : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } ، أي : لا تجامعوهنّ .
قال ابن العربيّ : سمعت الشّاشيَّ يقول : إذا قيل « لا تَقْرَب » - بفتح الرَّاء - كان معناه : لا تَتَلَبَّسْ بالفعل ، وإذا كان بضمّ الرَّاء كان معناه : لا تَدْنُ منه ، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } فهذا نهيٌ عن المباشرة في موضع الدَّم ، وقوله : « وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ » نهي عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع .
« حتّى » هنا بمعنى « إلى » والفعل بعدها منصوب بإضمار أنْ ، وهو مبنيٌّ لاتصاله بنون الإناث .
وقرأ حمزة والكسائيُّ ، وأبو بكرٍ بتشديد الطَّاء والهاء ، والأصل :
يتطهَّرن ، فأُدغم .
والباقون : « يَطْهُرْنَ » مضارع طَهُرَ ، قالوا : وقراءة التَّشديد معناها يغتسلن ، وقراءة التَّخفيف معناها ينقطع دمهنَّ . ورجَّح الطَّبري قراءة التَّشديد وقال : « هي بِمَعْنَى يَغْتَسِلْنَ لإجماع الجميع على تَحْرِيم قُرْبَان الرَّجُل امرأته بعد انقطاع الدَّم حتَّى تطهر ، وإ ، ما الخلاف في الطهر ما هو؟ هل هو الغسل أو الوضوء ، أو غسل الفرج فقط؟ » .
قال ابن عطيَّة : « وكلُّ واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء ، وأن يراد بها انقطاع الدَّم وزوال أذاه » .
قال : « وَمَا ذَهَبَ إليه الطَّبريُّ مِنْ أنَّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيد مُضَمَّنُها الاغتسال ، وقراءة التَّخفيف مُضَمَّنُها انْقِطَاعُ الدَّمِ أمرٌ غيرُ لاَزِم ، وكذلك ادِّعَاؤهُ الإجماع » وفي رد ابن عطيَّة عليه نظرٌ؛ إذ لو حملنا القراءتين على معنى واحدٍ لزم التِّكرار . ورجَّح الفارسيُّ قراءة التَّخفيف؛ لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمث وهو ثلاثي .
فصل في ورود لفظ الطهور في القرآن
قال أبو العبَّاس المقري : ورد لفظ « الطُّهُورِ » في القرآن بإزاء تسعة معانٍ :
الأول : انقطاع الدَّم ، قال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } [ البقرة : 222 ] ، أي : حتى ينقطع الدَّم .
الثاني : الاستنجاء بالماء؛ قال تعالى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } [ التوبة : 108 ] ، أي : يستنجون بالماء .
الثالث : الاغتسال ، قال تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } [ البقرة : 222 ] أي : اغْتَسَلْنَ .
الرابع : التَّنظيف من الأدناس ، قال تعالى :

{ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ البقرة : 25 ] .
الخامس : التَّطهُّر من الذُّنوب؛ قال تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } [ الواقعة : 79 ] ، ومثله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } [ التوبة : 103 ] .
السادس : التَّطهير من الشّرك ، قال تعالى : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } [ الحج : 26 ] ، أي : طهره من الشرك .
السابع : الطهور الطيب ، قال تعالى : { ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [ الأحزاب : 53 ] أي أطيب .
الثامن : الطهور الحلّ ، قال تعالى : { هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } [ هود : 78 ] ، أي : أحل .
التاسع : التطهر من الرّجس ، قال تعالى : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب : 33 ] ، أي : من الآثام والرِّجس .
فصل في بيان النَّهي عن الإتيان هل بعد انقطاع الدم أو الاغتسال .
استدلّ أبو حنيفة - رضي الله عنه - بقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } بأنه نهيٌ عن قربانهن إلى غاية ، وهي أن يطهرن ، أي ينقطع حيضهنّ ، وإذا كان انقطاع الحيض غايةً للنَّهي؛ وجب أن يزول النَّهي عند انقطاع الحيض .
وأجيب بأنَّه لو اقتصر على قوله « حتى يَطْهُرْنَ » ، لكان ما ذكرتم لازماً أما إذا انضم إليه قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } صار المجموع هو الغاية ، وذلك بمنزلة أن يقول الرَّجل : لا تكلِّم زيداً حتى يدخل الدَّار ، فإذا طابت نفسه بعد الدُّخول ، فكلّمه ، فإنّه يجب أن يتعلّق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً .
فإن قيل : يحمل قوله : « فَإِذَا تَطَهَّرْنَ » على غسل الموضع ، فإنَّه يجب غسله بإجماع ، فالجواب أنَّ ظاهر قوله : « فَإِذَا تَطَهَّرْنَ » حكم عائد إلى ذات المرأة ، فوجب أن يكون هذا التَّطهير في كلّ بدنها لا في بعض بدنها ، وأيضاً فنحمله على التَّطهير الثَّابت في المستحاضة لثبوته في الحيض ، والمراد به الاغتسال ، إذا أمكن وجود الماء .
فصل في هل تجبر الكتابيَّة على الاغتسال من الحيض
اختلفوا في الكتابيَّة؛ هل تجبر على الغسل؟
فقيل تجبر لقوله تعالى : « فَإِذَا تَطَهَّرْنَ » يعني بالماء ، ولم يخص مسلمة من غيرها .
وقيل : لا تجبر؛ لأنها لا تعتقد ذلك ، وقال تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 228 ] وهو الحيض والحمل ، وهذا خطاب للمؤمنات . وقال : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } [ البقرة : 256 ] .
قوله : « فَإِذَا تَطَهَّرْنَ » يعني اغتسلن ، « فَأْتُوهُنَّ » أي : فجامعوهنّ .
قوله : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } في « مِنْ » قولان :
أحدهما : أنَّها لابتداء الغاية ، أي : من الجهة الَّتي تنتهي إلى موضع الحيض .
والثاني : أن تكون بمعنى « في » ، أي : في المكان الذي نهيتم عنه في الحيض .
قال ابن عبَّاس ، ومجاهد وإبراهيم ، وقتادة وعكرمة : فأتوهنّ في المأْتى؛ فإنَّه هو الذي أمر الله به ولا تأتوهنّ في غير المأْتى؛ لقوله : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } أي : في حيث أمركم ا لله؛ كقوله : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة } [ الجمعة : 9 ] ، أي : في يوم الجمعة ، وقوله : { مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } [ فاطر : 40 ] ، أي : في الأرض . ورجَّح هذا بعضهم ، وفي الكلام حذفٌ ، تقديره : « أَمَرَكُم اللهُ بالإِتيَان منه » يعني : أنَّ المفعول الثَّاني حذف للدلالة عليه .

قال الأصمُّ والزَّجَّاج : فأتوهنَّ بحيث يحلُّ لكم غشيانهنَّ ، وذلك بأن لا يكنَّ صائماتٍ ، ولا معتكفاتٍ ، ولا محرماتٍ .
وقال محمَّد بن الحنفيَّة : فأتوهنّ من قبل الحلال دون الفُجُور . والأقرب : قول ابن عباس ، ومن تابعة؛ لأن لفظة « حَيْثُ » حقيقة في الكلِّ ، مجاز في غيرها .
فصل
قال أبو العبَّاس المقري : ترد « مِنْ » بمعنى « في » كهذه الآية ، وتكون زائدة؛ كقوله تعالى : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 4 ] ، وقوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين } [ الشورى : 13 ] أي : الدِّين ، وقوله : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك } [ يوسف : 101 ] ، أي الملك . وبمعنى « البَاءِ » ؛ قال تعالى : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ } [ غافر : 15 ] أي : بأمره ، وقوله : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } [ الرعد : 11 ] ، أي : بأمر الله ، وقوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات } [ النبأ : 14 ] ، أي : بالمعصرات ، وبمعنى « عَلَى » ؛ قال تعالى : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] ، أي : على القوم .
قال القرطبيُّ : عبَّر عن الوطء هنا بالإتيان .
قوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين } التَّوَّاب : هو المكثر من فعل ما يسمَّى توبةً ، وقد يقال : هذا في حقِّ الله تعالى -؛ من حيث إنه يكثر من قبول التَّوبة .
فإن قيل : ظاهر الآية يدلُّ على أنَّه يحبُّ تكثير التَّوبة مطلقاً ، والعقل يدلُّ على أن التَّوبة لا تليق إلاَّ بالمذنب ، فمن لم يكن مذنباً ، لا تجب منه التَّوبة .
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المكلَّف لا يأمن البتَّة من التَّقصير .
والثاني : قال أبو مسلمٍ : التَّوبة في اللُّغة عبارة عن الرُّجوع ، ورجوع العبد إلى الله في كلِّ الأحوال محمودٌ .
واعترضه القاضي : بأن التَّوبة - وإن كانت في أصل اللغة الرُّجوع - إلا أنها في عرف الشَّرع عبارةٌ عن النَّدَم على الفعل الماضي ، والتَّرك في الحاضر ، والعزم على ألاَّ يفعل مثله في المستقبل؛ فوجب حمله على المعنى الشَّرعيِّ دون اللُّغويّ .
ولأبي مسلم أن يجيب : بأنّ مرادي من هذا الجواب ، أنّه إن أمكن حمل اللَّفظ على التَّوبة الشَّرعيَّة ، فقد صحَّ اللَّفظ ، وإن تعذَّر ذلك ، حملناه على التَّوبة بحسب اللُّغة الأصليَّة .
قوله : { وَيُحِبُّ المتطهرين } فيه وجوه :
أحدها : المراد منه التَّنزُّه عن الذُّنوب والمعاصي ، قاله مجاهد .
فإن قيل : كيف قدَّم ذكر المذنب على من لم يُذنب؟
فالجواب : قدَّمه لئلا يقنط التَّائب من الرَّحمة ، ولا يعجب المتطهِّر بنفسه؛ كقوله في آيةٍ أخرى : { ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } [ فاطر : 32 ] ، قاله القرطبي .
الثاني : قال عطاء ومقاتل بن سليمان والكلبيّ : « يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الذُّنُوبِ ، والمتَطَهِّرِين بالمَاءِ من الأَحْدَاثِ والنَّجَاسَاتِ » .
الثالث : قال مقاتل بن حيَّان : يحب التَّوَّابين من الذُّنُوب ، والمتطهِّرين من الشِّرك .
الرابع : قال سعيد بن جبير : التَّوَّابين من الشِّرك ، والمتطهِّرين من الذُّنوب .
الخامس : أن المراد ألا يأتيها في زمان الحيض ، وألاَّ يأتيها في غير المأتى على ما قال : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } .
قال بعضهم : وهذا أولى؛ لأنه أليق بنظم الآية ، ولأنَّه - تعالى - قال حكاية عن قوم لوطٍ : { أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ الأعراف : 82 ] ، فكان قوله : { وَيُحِبُّ المتطهرين } ترك الإتيان في الأدبار .
السادس : أنَّه - تعالى - لمَّا أمرهنّ بالتَّطهير في قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ، فلا حرم مدح التَّطهير ، فقال : { وَيُحِبُّ المتطهرين } والمراد منه التَّطهير بالماء؛ قال - تعالى - : { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين } [ التوبة : 108 ] ، قيل في التَّفسير : إنهم كانوا يستنجون بالماء ، وكرَّر قوله « يُحِبُّ » ؛ دلالةً على اختلاف المقتضي للمحبَّة ، فتختلف المحبَّة .

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، ولا بدَّ من تأويلٍ ، ليصحَّ الإخبار عن الجثة بالمصدر ، فقيل : على المبالغة ، جُعلوا نفس الفعل ، وقيل : أراد بالمصدر ، اسم المفعول ، وقيل : على حذف مضافٍ من الأوَّل ، أي : وطء نسائكم حرثٌ ، أي : كحَرْثٍ ، وقيل : من الثاني ، أي : نساؤُكُم ذواتُ حَرْثٍ ، و « لَكُمْ » في موضع رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل « حَرْث » ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وإنما أفرد الخبر ، والمبتدأ جمعٌ؛ لأنه مصدرٌ والأفصح فيه الإفراد .
قوله : { أنى شِئْتُمْ } ، ظرف مكانٍ ، ويستعمل شرطاً واستفهاماً بمعنى « مَتَى » ، فيكون ظرف زمانٍ ، ويكون بمعنى « كَيْفَ » ، وبمعنى « مِنْ أَيْنَ » ، وقد فسِّرت الآية الكريمة بكلِّ من هذه الوجوهِ ، وقال النحويون : « أَنَّى » لتعميم الأحوال ، وقال بعضهم : إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمْرٍ له جهاتٌ ، فَهِيَ على هذا أعمُّ مِنْ « كَيْفَ » ، ومِنْ « أَيْنَ » ، ومِنْ « مَتَى » ، وقالوا : إذا كانت شرطيةً ، فهي ظرف مكانٍ فقط ، واعمل أنها مبنيةٌ؛ لتضمُّنها : إمَّا معنى حرف الشرط ، والاستفهام ، وهي لازمة النصبِ على الظرفية ، والعامل فيها هنا قالوا : الفعل قبلها وهو : « فَأْتُوا » قال أبو حيان : وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّها إمَّا شرطية أو استفهاميةٌ ، لا جائزٌ أن تكون شرطيةً؛ لوجهين :
أحدهما : من جهة المعنى ، وهو أنَّها إذا كانت شرطاً ، كانت ظرف مكانٍ ، كما تقدَّم؛ وحينئذٍ : يقتضي الكلام الإباحة في غير القبل ، وقد ثبت تحريم ذلك .
والثاني : من جهة الصناعة ، وهو أنَّ اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام ، بل يعمل فيه فعل الشرط؛ كما أنه عاملٌ في فعل الشرط الجزم ، ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً؛ لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام ، ولأنَّ « أَنَّى » إذا كانت استفهاميةً ، اكتفت بما بعدها من فعلٍ واسم ، نحو : { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } [ الأنعام : 101 ] { أنى لَكِ هذا } [ آل عمران : 27 ] وهذه في هذه الآية مفتقرة لما قبلها كما ترى ، وهذا موضع مشكل يحتاج إلى تأملٍ ونظر .
ثم الذي يظهر : أنها هنا شرطيةٌ ، ويكون قد حذف جوابها؛ لدلالة ما قبله عليه ، تقديره : أنَّى شئتم ، فأتوه ، ويكون قد جعلت الأحوال فيها جَعْلَ الظروف ، وأُجريت مجراها ، تشبيهاً للحال بظرف المكان؛ ولذلك تقدَّر ب « في » ، كما أُجريت « كَيْفَ » الاستفهامية مجرى الشرط في قوله : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } [ المائدة : 64 ] وقالوا : كيف تصنع أصنع ، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً؛ فيكون ثمَّ حذفٌ في قوله : « يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ » ، أي : كيف يشاء يُنْفِق ، وهكذا كل موضعٍ يشبهه ، وسيأتي له مزيد بيانٍ ، فإن قلت : قد أخرجت « أنَّى » عن الظرفية الحقيقية ، وجعلتها لتعميم الأحوال مثل « كَيْفَ » وقلت : إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرط ، فهل الفعل بعدها في محلِّ جزم ، اعتباراً بكونها شرطيةً ، أو في محلِّ رفع ، كما تكون كذلك بعد « كَيْفَ » التي تسعمل شرطية؟ قلت : تحتمل الأمرين ، والأرجح الأول؛ لثبوت عمل الجزم؛ لأنَّ غاية ما في الباب تشبيه الأحوال بالظروف ، للعلاقة المذكورة ، وهو تقدير « في » في كلٍّ منهما .

ولم يجزم ب « كَيْفَ » إلا بعضهم قياساً لا سماعاً ، ومعفول « شِئْتُمْ » محذوفٌ ، أي : شِئْتُمْ إتيانه بعد أن يكون في المحلِّ المباح .
فصل في بيان سبب النزول
روى ابن عبَّاسٍ في سبب النزول؛ قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هلكت . قال : « وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟ » قال : حَوَّلْتُ رَحْلِي البَارِحَةَ ، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً ، فَأُوحي إليه : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } ، يقول : أقبل ، وأدبر ، واتَّقِ الحَيْضَة والدُّبُرَ .
وروى جابر بن عبدالله؛ قال : كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها : إن الولد يكون أحولاً ، فنزلت هذه الآية .
وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ؛ قال : كان من شأن أهل الكتاب ألاَّ يأتوا النِّساء إلاَّ على حرفٍ ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، وكان هذا الحيُّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحيُّ من قريشٍ يتلذَّذُون منهنَّ مقبلات ، ومدبراتٍ ، ومستلقياتٍ ، فلما قدم المهاجرون المدينة ، تزوَّج رَجُلٌ منهم امرأَةً من الأنصار ، وذهب يصنعُ لها ذلك فَأَنْكَرَت ذلك عليه ، وقالت : إنما كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ ، فَإن شِئْتَ فَاصْنَع ذَلِك وإلا فاجْتَنِبْنِي ، حتى سَرَى أَمْرهَا إلى رَسُولِ الله صلى الله عيه وسلم ، فَأنزلَ الله - عزَّ وجلَّ - : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } يعني : موضع الولد ، { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } مُقْبِلاتٍ ، ومُدْبِرَاتٍ ومُستلقياتٍ .
فصل
قال عكرمة والحسن : « أنى شِئْتُمْ » إنما هو الفَرْجُ .
وقوله : « حَرْثٌ لَكُم » أي : مَزْرَعٌ لكم ، ومنبتٌ للولد بمنزلة الأرض ، وهذا دليلٌ على تحريم الأدبار؛ لأن محلَّ الحرث والزَّرع هو القبل لا الدُّبر ، ؛ وأنشد ثعلبٌ : [ الرمل ]
1082- إِنَّمَا الأَرْحَامَ أَرْضُو ... نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتُ
فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا ... وَعَلَى اللهِ النَّبَاتُ
وقال سعيد بن المسيَّب : هذا في العزل ، يعني : إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم فلا تعزلوا ، سئل ابن عبَّاس عن العزل؛ فقال : حرثُكَ ، فإن شئتَ فعطِّش ، وإن شئت فَارْوِ .
ورُوي عنه؛ أنَّه قال : تُسْتَأْمَر الحرَّة في العزل ، ولا تُسْتَأْمَرُ الجارية ، وكره جماعة العزل ، وقالوا : هو الوَأْدُ الخفيّ .
وروى مالك عن نافع؛ قال : كُنْتُ أَمْسِكُ على ابن عمر المُصْحَفَ ، فقرأْتُ هذه الآية : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } فقال : تدْري فيما نزلت؛ في رجلٍ أتى امْرَأَتَهُ في دبرها ، فشقَّ ذلك عليه ، فنزلت هذه الآية .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75