كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

وأما قولهم : إن الكفارَ كانوا - يوم بَدْرٍ - ألْفاً ، فأنزل الله تعالى ألفاً من الملائكة ، ويوم أُحُد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثةَ آلاف ، فهذا لا يوجب أن يكون الأمر كذلك ، بل يفعل الله ما يشاء من زيادةٍ ونَقْصٍ بحسب ما يريد ، وأما التمسك بقوله : { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ } فالجواب : أن المشركين لمّا سمعوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد تعرَّضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم ، واجتمعوا ، وقصدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الصحابةَ لما سمعوا ذلك ، خافوا فأخبر الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فَوْرِهم يُمْدِدكم بخمسةِ آلاف من الملائكة .
فصل
قال القرطبيُّ : « نزول الملائكة سبب من أسباب النصر ، لا يحتاج إليه الرَّبُّ تعالى ، وإنما يحتاج إليه المخلوق ، فلْيَعْلَق القلبُ بالله ، ولْيَثِقْ به ، فهو الناصر بسبب وبغير سبب { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون } [ يس : 82 ] ، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخَلْقُ ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلا } [ الأحزاب : 62 ] ، ولا يقدح ذلك في التوكُّل ، وهو رَدٌّ على مَنْ قال : إن الأسبابَ إنما سُنَّتْ في حَقِّ الضعفاء ، لا الأقوياء؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أقوياءَ ، وغيرهم هم الضعفاء ، وهذا واضح » .
فصل في اختلافهم في عدد الملائكة
اختلفوا في عدد الملائكة ، فمن الناس مَنْ ضَمَّ العدد الناقص إلى العدد الزائد؛ فقالوا : الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه ، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتَّقْوَى ، ومجيء الكفار من فورهم ، فلا بد من التغاير ، وهذا القول ضعيف ، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة ، أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط .
ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد .
فعلى القول الأول إن حَمَلْنا الآية على قصة بدر ، كان عدد الملائكة تسعة آلاف؛ لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف ، وذكر خمسة آلاف ، فالمجموع تسعة آلاف .
وإن حملناها على قِصَّة أُحُدٍ ، فإنما فيها ذكر الثلاثة والخمسة ، فيكون المجموع ثمانية آلاف .
وعلى القول الثاني : وهو إدخال الناقص في الزائد ، فإن حملنا الآية على قصة بدر ، فقالوا : عدد الملائكة : خمسة آلاف؛ لأنهم وُعِدوا بالألف ، ثم ضُمَّ إليه الألفان ، فصاروا ثلاثةً ، ثم ضُمَّ إليه ألفان ، فلا جرم ، وعدوا بخمسة آلاف .
وقد رُوِيَ أن أهْلَ بَدْر أمِدُّوا بألْف ، فقيل : إن كُرْز بن جابر المحاربيّ يريد ان يُمِدَّ المشركين ، فشَقَّ ذلك على المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم :

« ألَنْ يَكْفِيَكُمْ » يعني بتقدير أن يجيء المشركين مَدَدٌ ، فالله - تعالى - يمدكم - أيضاً - بثلاثة آلاف وخمسة آلاف ، ثم إن المشركين ما جاءهم المَدَدُ « .
وإن حملناها على قصة أُحُد ، فيكون عدد الملائكة ثلاثة آلاف؛ لأن الخمسةَ ، وعدوا بها بشرط أن يَصْبروا ويتقوا ، ويأتوهم من الفور .
فصل
أجمع المفسرون وأهلُ السِّير على أن الله - تعالى - أنزل الملائكةَ يوم بدر ، وأنهم قاتلوا الكفارَ .
قال ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدرٍ ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ، ولا يقاتلون ، إنما يكونون عدداً ومدداً وهذا قول الأكثرين .
وقال الحسن : هؤلاء الخمسة آلافٍ ردء المؤمنين إلى يوم القيامة في المعركة .
وأنكر ابو بكر الأصم ذلك أشد الإنكار ، واحْتَجَّ عليه بوجوه :
الأول : أن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض؛ فإنَّ المشهور أنَّ جبريل - عليه السلام - أدخل جناحه تحت المدائن السبع لقوم لوط ، وبلغ جناحُه إلى الأرض السابعة ، ثم رفعها إلى السماء ، فجعل عاليها سافلَها ، فإذا حضر هو يوم بدر ، فأيُّ حاجة إلى مقاتلةِ الناسِ مع الكفار؟ ثم بتقدير حضوره ، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟
الثاني : أن أكابر الكفار كانوا مشهورين ، وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم ، وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة .
الثالث : أن الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس ، أوْ لا ، فإن رآهم الناس ، فإما أن يروهم في صورة الناس ، أو في صورة غيرهم ، فإنْ رَأوْهُمْ في صورة الناس ، صار المشاهَد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر ، ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ؛ لأنه مخالف لقوله تعالى : { وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِم } [ الأنفال : 44 ] وإن شاهدوهم في صور غير صور الناس ، لزم وقوع الرُّعْب الشديد في قلوب الخلق؛ لأن من شاهد الجن ، لا شك أنه يشتد فَزَعُه - ولم ينقل ذلك ألبتة - وإن لم يَرَوْهُم ، فعلى هذا التقدير إذا حاربوا ، وحزوا الرؤوس ، وشقُّوا البطون ، وأسقطوا الكفار عن الأفراس ، فحينئذ إذا شاهد الكفار هذه الأفعال مع أنهم لم يشاهدوا أحَداً من الفاعلين ، وهذا يكون من أعظم المعجزات ، فيجب أن لا يبقى منهم كافر ولا متمرد ، ولما لم يوجد شيء من ذلك عُرفَ فسادُه .
الرابع : أن الملائكة الذين نزلوا ، إما أن يكونوا أجساماً لطيفةً أو كثيفة ، فإن كانت كثيفةً وجب أن يراهم الكل كرؤية غيرهم ، ومعلوم أن الأمر ما ان كذلك ، وإن كانت لطيفةً مثل الهواء - لم يكن فيهم صلابة وقوة ، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول .
والجواب : أن نص القرآن ناطق بِها ، وقد وردت في الأخبار قريب من التواتر قال عبد الله بن عُمَيْر لما رجعت قريش من أحد ، جعلوا يتحدثون في أنْدِيَتِهم بما ظفروا ، ويقولون : لم نَرَ الخيل البُلْق ، ولا الرجالَ البيضَ الذين كُنَّا نراهم يومَ بدر .

وقال سعدُ بن أبي وقاص : رأيتُ عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بِيضٌ ، ما رأيتهما قبل ، ولا بعد .
قال سعدُ بن إبراهيمَ : يعني : جبريل وميكائيل .
وهذه الشبهة إنما تليق بمن يُنكر القرآن والنبوة ، فأما من يُقِرُّ بهما ، فلا يليق به شيءٌ من هذا ، وهذه الشبهة إذا قابلناها بكمال قدرة الله - تعالى - زالت؛ فإنه - تعالى - يفعل ما يشاء؛ لأنه قادر على جميع الممكنات .
فصل
اختلفوا في كيفية نُصْرة الملائكة .
فقال بعضهم : بالقتال مع المؤمنين .
وقال بعضهم : بل بتقوية نفوسهم ، وإشعارهم بأن النُّصْرة لهم ، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار .
وقال أكثر المفسرين : إنهم لم يقاتلوا في غير بدر .
قوله : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } معنى الكفاية : هو سَدُّ الخلة ، والقيام بالأمر .
يقال : كَفَاهُ أمر كذا ، أي : سَدَّ خلته .
والإمداد : إعانة الجيش بالجيش ، وهو في الأصل إعطا ءالشيء حالاً بعد حال .
قال المفضَّل : ما كان على جهة القوة والإعانة ، قيل فيه : أمَدَّه يُمِدُّه ، وما كان على جهة الزيادة ، قيل فيه : مَدَّه يَمُدُّه مَدًّا ومنه : { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر } [ لقمان : 27 ] .
وقيل : المَدُّ في الشر ، والإمداد في الخير؛ لقوله تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] وقوله : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } [ مريم : 79 ] وقال في الخير : { أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْف } [ الأنفال : 9 ] وقال : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِين } [ الإسراء : 6 ] .
قوله : { أَن يُمِدَّكُمْ } فاعل ، { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } أي : ألن يكفيكم إمدادُ ربكم ، والهمزة لما دخلت على النفي قررته على سبيل الإنكار ، وجيء ب « لن » دون « لا » ؛ لأنها أبلغ في النفي ، وفي مصحف أبيّ « الا » بدون « لن » وكأنه قصد تفسير المعنى .
و « بثلاثة » متعلق ب { يُمِدَّكُمْ } .
وقرأ الحسن البصريّ « ثلاثة آلافٍ » - بهاء - ساكنة في الوصل - وكذلك « بخمسة آلافٍ » كأنه أجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف ، وهي ضعيفة؛ لأنها في متضايفين تقتضيان الاتصال .
قال ابن عطية : ووجْه هذه القراءة ضعيف؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد يقتضيان الاتصال إذْ هما كالاسم الواحد ، وإنما الثاني كمال الأول ، والهاء إنما هي أمارة وقف ، فيتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضعَ ، من ذلك ما حكاه الفرَّاء من قولهم : أكلت لحما شاةٍ - يريدون لحم شاة - فَمَطلُوا الفتحةَ ، حتى نشأت عنها ألِفٌ ، كما قالوا في الوقف قالا - يريدون قال - ثم مَطَلُوا الفتحة في القوافي ، ونحوها من مواضع الرؤية والتثبيت .
ومن ذلك في الشعر قوله : [ الكامل ]
1610- يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ... زَيَّافَةٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُكْدَمِ
يريد : « ينبع » ، فمطل ومثله قول الآخر : [ الرجز ]

1611- أقُولُ إذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ ... يَا نَاقَتَا مَا جُلْتُ مِنْ مَجَالِ
يريد : « الكلكل » ، فمطل ومثله قول الشاعر : [ الوافر ]
1612- فَأنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى ... وَمَنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ
يريد : بمنتزح .
قال أبو الفتح : « فإذا جاز أن يعترض هذا [ الفتور ] والتمادي بين أثناء الكلمة الواحدة ، جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه ، إذ هما اثنان » .
قال أبو حيان - بعد نقل كلام ابن عطية- : « وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوَصْل مُجْرَى الوَقْف ، وإجراء الوَقْف مُجْرَى الوصل والوصل مجرى الوقف موجود في كلامهم وأما قوله : لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة ، وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوَصْل ، وإنما نظير هذا قولهم : ثلاثة اربعة ، أبدل التاء هاء ، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها ، وحذف الهمزة ، فأجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف في الإبدال ، ولأجل الوصل نقل فأجرى الوصل مُجْرى الوقف؛ إذْ لا يكون هذا النقل إلا في الوَصْل » .
وقرئ شاذًّا - أيضاً - : بثلاثةْ آلاف - بتاء ساكنة ، وهي أيضاً من إجراء الوصل مجرى الوقف من حيث السكون واختلفوا في هذه التاء الموقوف عليها الآن ، أهي تاء التأنيث التي كانت ، فسكنت فقط ، أو هي بدل من هاء التأنيث المبدلة من التاء؟ ولا طائل تحته .
قوله : { مِّنَ الملاائكة } يجوز أن تكون « مِنْ » للبيان ، وأن تكون « مِنْ » ومجرورها في موضع الجر صفة ل « لَثَلاثَةِ » أو لِ « آلافٍ » .
قوله : { مُنْزَلِينَ } صفة ل « ثلاثة آلاف » ، ويجوز أن يكون حالاً من « الْمَلاَئِكَةِ » والأول أظهر . وقرأ ابن عامر « مُنزَّلين » - بالتضعيف - وكذلك شدد قوله في سورة العنكبوت : { إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء } [ العنكبوت : 34 ] إلا أنه هنا - اسم مفعول ، وهناك اسم فاعل .
والباقون خفَّفوها وقرأها ابن أبي عَبْلَة - هنا - مُنَزَّلين - بالتشديد مكسور الزاي ، مبنياً للفاعل .
وبعضهم قرأه كذلك ، إلا أنه خفف الزاي ، جعله من أنزل - كأكرم - والتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية ، ففعَّل وأفْعل بمعنًى ، وقد تقدم أن الزمخشري جعل التشديد دالاًّ على التنجيم وتقدم البحث معه في ذلك وفي القراءتنين الأخيرتين يون المفعول محذوفاً ، أي : منزلين النصر على المؤمنين ، والعذاب على الكافرين .
قوله : { بلى } حرف جواب ، وهو إيجاب للنفي في قوله : { أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ } وقد تقدم الكلام عليه وجواب الشرط قوله : { يُمْدِدْكُمْ } .
والفوز : العجلة والسرعة ، ومنه : فارت القِدْرُ ، إذا اشتد غلبانها وسارع ما فيها إلى الخروج ، و الفوز مصدر ، يقال : فَار يفُورُ فَوْراً ، قال تعالى :

{ حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور } [ هود : 40 ] ، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة ، يقال : جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحِدة؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه ، فالفَوْز - في الأصل - : مصدر ، ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين : معنى « مِنْ فَورِهم هَذَا » : من وجههم هذا .
وقال مجاهد والضَّحَّاكُ : من غضبهم هذا؛ لأنهم إنَّما رجعوا للحرب يوم أُحُد من غَضَبِهم ليوم بدر .
قوله : { مُسَوِّمِينَ } كقوله : { مُنزَلِينَ } ، وقرأ ابْنُ كَثيرٍ وأبُو عَمْروٍ وعَاصِمٌ بكسر الواو ، على اسم الفاعل ، والباقون بفتحها على اسم المفعول ، فأما القراءة الأولى ، فيحتمل أن تكون من السوم - وهو ترك الماشية ترعى - والمعنى : أنهم سَوَّموا خَيْلَهم ، أي أعطوها سَوْمَها من الجَرْي والجَوَلان ، وتركوها كذلك ، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى .
ويحتمل أن تكون من السومة - وهي العلامة - على معنى أنهم سوموا أنفسهم ، أو خيلهم .
روي أنهم كانوا على خَيْلٍ بُلْقٍ ، قال عروة بن الزبير : كانت الملائكة على خَيْل بُلْقٍ ، عليهم عمائمُ بِيضٌ ، قد أرسلوها بين أكتافهم .
وقال هشام بن عروة : عمائم صفر .
وروي أنهم كانوا بعمائم بيضٍ ، إلا جبريل فبعمامة صفراء ، على مثال الزبير بن العوام .
قال قتادةُ والضَّحَّاكُ : كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها .
ورُوِيَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : « تسوموا ، فإنَّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم » وأما القراءة الثانية ، فواضحة بالمعنيين المذكورين ، فمعنى السوم فيها : أن الله أرسلهم ، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنُصْرة نبيه والمؤمنين .
قال أبو زيد : سوم الرجل خَيْلَه ، أي أرسلها .
وحكى بعضهم : سومت غلامي ، أي : أرسلته ، ولهذا قال الأخفش : معنى « مُسَوَّمِينَ » مُرْسَلِين .
ومعنى السومة فيها : أن الله - تعالى - سومهم ، أي جعل عليهم علامة ، وهي العمائم ، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعاً خاصاً - وهي البلق - فقد سوموا خيلهم .
فصل
قال القُرْطُبِيُّ : « وفي الآية دلالة على اتخاذ الشارة ، والعلامة للقبائل ، والكتائب ، يجعلها السلطان لهم؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب ، وعلى فضل الخيل البُلْق؛ لنزول الملائكة عليها » .
قال القرطبي : « ولعلها نزلت على البلق موافقة لفرس المقداد؛ فإنه كان أبلق ، ولم يكن له فرس غيره ، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْق ، إكراماً للمقداد ، كما نزل جبريل معتماً بعمامة صفراء على مثال الزبير » .
قوله : { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى } الكناية في « جَعَلَهُ » عائدة على المصدر ، أي : ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تُنصرون ، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعول من أجله ، وهو استثناء مفرغ؛ إذ التقدير : وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبُشْرَى ، وشروط نصبه موجودة ، وهي اتحاد الفاعل ، والزمان ، وكونه مصدراً سبق للعلة .

والثاني : أنه مفعول ثانٍ لِ « جَعَل » على أنها تصييرية .
والثالث : أنه بدل من الهاء في « جَعَلَهُ » قاله الحوفيّ وجعل الهاء عائدةً على الوعد بالمدد .
والبشرى : مصدر على « فُعْلَى » كالرُّجْعَى .
وقيل : اسم من الإبشار ، وتقدَّم الكلام في معنى البُشْرَى في قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ البقرة : 25 ] .
قوله : { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيه وجهان :
أحدهما : أنًّه معطوف على « بُشْرَى » هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله ، وإنما جُرَّ باللام؛ لاختلال شرط من شروط النصب - وهو عدم اتحاد الفاعل - فإن فاعل الجَعْل هو الله - تعالى - وفاعل الاطمئنان القلوب ، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط ، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه ، وقد تقدم ، والتقدير : وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة .
والثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، أي : ولتطمئن قلوبكم ، فعلى ذلك ، أو كان كيت وكيت .
وقال أبو حيان : و « تطمئن » منصوب بإضمار « أن » بعد لام « كي » ، فهو من عطف الاسم على توهم موضع اسم آخر .
ثم نقل عن ابن عطية أنه قال : « اللام في { وَلِتَطْمَئِنَّ } متعلقة بفعل مضمر يدل عليه » جَعَلَهُ « ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به ، ولتطمئن به قلوبكم .
قال أبو حيان : » وكأنه رأى أنه لا يمكن - عنده - أن يُعطف { وَلِتَطْمَئِنَّ } على { بشرى } ، على الموضع؛ لأن من شرط العطف على الموضع - عند أصحابنا - أن يكون ثَمَّ مُحْرِز للموضع ، ولا محرز هنا؛ لأن عامل الجَرِّ مفقود ، ومَنْ لم يشترط المحرز ، فيجوز ذلك على مذهبه وسيكون من باب العطف على التوهُّم « .
قال شهاب الدين : » وقد جعل بعضهم الواو في { وَلِتَطْمَئِنَّ } زائدة ، وهو لائق بمذهب الأخفش ، وعلى هذا فتتعلق اللام بالبشرى ، أي : أن البشرى عِلَّة للجَعْل ، والطمأنينة علة للبُشْرَى ، فهي علة العلة « .
قال ابْنُ الخَطِيبِ : في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر :
فأحدهما : إدخال السرور في قلوبهم ، وهو المراد بقوله : إلاًَّ بشرى } .
الثاني : حصول الطمأنينة بالنصر ، فلا يجنبون ، وهذا هو المقصود الأصلي ، ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين في المطلوبية ، فعطف الفعل على الاسم ، ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة ، أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة ، فقال : { وَلِتَطْمَئِنَّ } ونظيره قوله : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] لما كان المقصود الأصلي هو الركوب ، أدخَل عليه حرف التعليل ، فكذا هاهنا .
قال أبو حيان : » ويناقش في قوله : عطف الفعل على الاسم؛ إذْ ليس من عطف الفعل على الاسم وفي قوله : أدخل حرف التعليل ، وليس ذلك كما ذكره « .

انتهى .
قال شهَابُ الدِّينِ : « إن عنى الشيخ أنه لم يدخل حرف التعليل ألبتة ، فهذا لا يمكن إنكاره ألبتة ، وإن عنى أنه لم يدخله بالمعنى الذي قصده الإمام فسَهْل » .
وقال الجُرْجَانِيُّ في نظمه : « هذا على تأويل : وما جعله الله إلا ليبشركم ولتطمئن ، ومن أجاز إقحام الواو - وهو مذهب الكوفيين - جعلها مقحمة في { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيكون التقدير : وما جعله الله إلا بشرى لكم؛ لتطمئنَّ قلوبكم به » .
والضميران في قوله { وَمَا جَعَلَهُ } ، و « بِهِ » يعودان على الإمداد المفهومِ من الفعل المتقدم ، وهو قوله : « يمددكم » .
وقيل : يعودان على النصر .
وقيل : على التسويم .
وقيل : على التنزيل .
وقيل : على المدد .
وقيل : على الوعد .
فصل
قال في هذه الآية : « لَكُمْ » وتركها في سورة الأنفال؛ لأن تيك مختصر هذه ، فكان الإطناب - هنا- أوْلَى؛ لأن القصة مكملة هنا ، فناسب إيناسهم بالخطاب المواجه ، وأخر - هنا - « به » وقدمه في سورة الأنفال؛ لأن الخطاب - هنا - موجود في « لَكُمْ » فأتبع الخطاب الخطاب ، وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله : { العزيز الحكيم } وجاء بهما في جملة مستأنفة في سورة الأنفال ، في قوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 10 ] ؛ لأنه لما خاطبهم - هنا - حسن تعجيل بشارتهم بأنه عزيز حكيم ، أي : لا يغالب ، وأن أفعاله كلها متقنة حكمة وصواب ، فالنصر من عند÷ فاستعينوا به ، وتوكلوا عليه؛ لأن العز والحُكْم له .
قوله : { لِيَقْطَعَ } في متعلق هذه اللام سبعة أوجه :
أحدها : أنها متعلقة بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله } قاله الحوفيّ ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْل .
الثاني : أنها متعلقة بالنصر في قوله : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } والمعنى : أن المقصود من نصركم ، هو أن تقطعوا طرفاً من الذين كفروا ، أي : تملكوا طائفة منهم ، وتقتلوا قطعة منهم ، وفي هذا نظر من حيث إنه قد فصل بين المصدر ومتعلقه بأجنبيّ ، وهو الخبر .
الثالث : أنها متعلقة بما تعلَّق به الخبر ، وهو قوله : { مِنْ عِندِ الله } ، والتقدير : وما النصر إلا كائن ، أو إلا مستقر من عند الله ليقطع .
والرابع : أنها متعلقة بمحذوف ، تقديره : أمَدَّكُم ، أو نَصَرَكُم ، ليقطَعَ .
الخامس : أنها معطوفة على قوله : « ولتطمئن » حذف حرف لعطف لفهم المعنى؛ لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف ، كقوله : { ثلاثة رابعهم كلبهم } وقول السيد لعبده : أكرمتك لتخدمني ، لتعينني ، لتقوم بخدمتي ، فحذف العاطف لقُرْب البعض من البعض ، فكذا هنا وعلى هذا فتكون الجملة في قوله : { وما النصر إلا من عند الله } اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه ، وهو ساقط الاعتبار .

السادس : أنها متعلقة بالجَعْل قاله ابن عطية .
السابع : أنها متعلقة بقوله : { يُمْدِدْكُمْ } وفيه بُعْدٌ؛ للفواصل بينهما .
والطرف : المراد به : جماعة ، وطائفة ، وإنما حَسَُ ذِكْر الطرف - هنا- ولم يحسن ذكر الوسط؛ لأنه لا وصول إلى الوَسَطِ إلا بعد الأخذ من الطرف ، وهذا يوافق قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ } [ التوبة : 123 ] وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [ الرعد : 41 ] .
قوله : { مِّنَ الذين } يجوز أن يكون متعلِّقاً بالقَطْع ، فتكون « مِنْ » لابتداء الغاية ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة ل « طَرَفاً » وتكون « مِنْ » للتبعيض .
قوله : { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } عطف على « لِيَقْطَعَ » .
و « أو » ؛ قيل : على بابها من التفصيل ، أي : ليقطع طرفاً من البعض ، ويكبت بعضاً آخرين .
وقيل : بل هي بمعنى الواو ، أي : يجمع عليهم الشيئين .
والكبت : الإصابة بمكروه .
وقيل : هو الصَّرع للوجْه واليدين ، وعلى هذين فالتاء أصلية ، ليست بدلاً من شيء ، بل هي مادة مستقلة .
وقيل : أصله من كبده ، إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وَجَعاً ، كقولك : رأسته ، أي : أصبت رأسه ، ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حُمَيد : أو يكبدَهم - بالدال - والعرب تُبْدِل التاء من الدال ، قالوا : هَرَتَ الثوبَ ، وهردَه ، وسَبَتَ رأسَه ، وسَبَدَه - إذا حَلَقَه- .
وقد قيل : إنّ قراءة لاحق أصلها التاء ، وإنما أُبدِلت دالاً ، كقولهم : سبد رأسه ، وهرد الثوب ، والأصل فيهما التاء .
فصل
معنى قوله : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا } أي : ليُهْلِكَ طائفة .
وقال السُّدِّيُّ : لِيَهْدِمَ رُكْناً من أركان الشرك بالقتل والأسر ، فقُتِل من قادتهم وسادتهم يوم بدر - سبعون ، وأُسِر سبعون ، ومَنْ حَمَل الآيةَ على أحُد ، فقد قُتِل منهم يومئذ ستة عشر ، وكانت النُّصرة للمسلمين ، حتى خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقلبت عليهم .
{ أَوْ يَكْبِتَهُمْ } .
قال الكلبي : يهزمهم .
وقال السُّدي : يلعنهم .
وقال أبو عبيدة : يُهْلِكهم ويصرعهم على وجوههم .
وقيل : يُخْزِيهم والمكبوت الحزين .
وقيل : يَغِيظهم .
وقيل : يُذلهم .
قوله : { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } لن ينالوا خيراً مما كانوا يرجون من الظفر بكم .
والخيبة لا تكون إلا بعد التوقُّع ، وأما اليأس فإنه يكون بعد التوقُّع وقبلَه ، فنقيض اليأس الرجاء ، ونقيض الخيبة : الظفر يقال : خَابَ يَخِيبُ خَيْبَةً .
و { خَآئِبِينَ } نُصِبَ على الحال .

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)

اختلفوا في سبب النزول .
فقيل : نزلت في قصة أُحُد ، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أقوالٍ :
أحدها : أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يدعُوَ على الكفار ، فنزلت هذه الآيةُ ، وهؤلاء ذكروا أقوالاً :
أحدها : أن عُتْبَةَ بن أبي وقاص شجَّه ، وكسر رَبَاعِيَتَهُ ، فجعل يمسحُ الدمَ عن وجهه ، وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم ، وهو يقول : كيف يُفْلِح قومٌ خضَّبوا وَجْه نبيهم بالدم ، وهو يدعوهم إلى ربهم؟ ثم أراد أن يدعُوَ عليهم ، فنزلت هذه الآية .
وروى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لَعَنَ أقوماً ، فقال : « اللهم العن أبا سفيان ، الهم العن الحارثَ بن هشام ، اللهم العن صفوانَ بن أمَيَّة » ، فنزلت هذه الآية .
{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } فتابَ على هؤلاءِ ، وحَسُنَ إسلامهم .
وقيل : نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما فعلوا به من المُثْلَة ، قال : لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به . فنزلت هذه الآية .
{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } فتابَ على هؤلاءِ ، وحَسُنَ إسلامِهم .
وقيل : نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما فعلوا به من المُثْلَة ، قال : لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به . فنزلت هذه الآية .
قال القفال : وكل هذه الأشياء حصلت يومُ أُحُد ، فنزلت الآيةُ عند الكل ، فلا يمنع حملها على الكل .
الثاني : أنها نزلت بسبب أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يلعنَ المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا ، فمنعه الله من ذلك قاله ابنُ عباس .
الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم أراد أنْ يستغفرَ للمسلمين الذين انهزموا ، وخالفوا أمره ، ويدعوَ لهم ، فنزلت الآية .
القول الثاني : أنها نزلت في واقعةٍ أخرى ، وهي أنه صلى الله عليه وسلم بعث جَمْعاً من خيار أصْحَابه - وهم سبعون رجلاً من القُرَّاء إلى بِئْر معونة ، في صفر سنة أربع من الهجرة ، على رأس أربعة أشهر من أحد ، ليُعَلِّموا الناسَ القرآن والعلم ، أميرهم المنذر بن عمرو ، فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره فقتلهم ، فوَجِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وَجْداً شديداً ، وقَنَتَ شهراً في الصلوات كلِّها يدعو على جماعة من تلك القبائلِ باللعن والسنين ، فنزلت الآية ، قاله مقاتل وأكثر العلماء متفقون على أنها في قصة أحد .
فإن قيل : ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت للمنع من أمرٍ كان صلى الله عليه وسلم يريد أن يفعلَه ، وذلك الفعل إن كان بأمر الله ، فكيف يمنعه منه؟ وإن كان بغير أمر الله ، فكيف يصح هذا مع قوله تعالى :

{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] ؟ وأيضاً فالآية دالة على عصمة الأنبياء ، فالأمر الممنوع منه في هذه الآية ، إن كان حَسَناً فلِمَ منعه اللهُ؟ وإن كان قبيحاً ، فكيف يكون فاعله معصوماً؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المنعَ من الفعل لا يدل على أن الممنوع كان مُشْتَغَلاً به؛ فإنه تعالى - قال للنبي صلى الله عليه وسلم { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ، وإنه صلى الله عليه وسلم لم يُشْرِك قط ، وقال : « يا أيها النبي اتق الله » وهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله ، ثم قال : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين } [ الأحزاب : 1 ] ، وهذا لا يدل على أنه أطاعهم ، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغَمَّ الشديد ، والغضب العظيم ، وهو قَتْل عمه حمزةَ ، وقتل المسلمين . والظاهر أن هذا الغضب يَحْمِل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل ، فنصَّ الله على المنع؛ تقويةً لِعصْمَته ، وتأكيداً لطهارته .
والثاني : لعله صلى الله عليه وسلم همَّ أن يفعلَ ، لكنه كان ذلك من باب تَرْك الأفضل ، والأوْلَى ، فلا جرم ، أرشده الله تعالى إلى اختيار الأوْلَى ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } [ النحل : 126-127 ] فكأنه - تعالى - قال : إن كان لا بد أن تعاقب ذلك الظالمَ فاكتفِ بالمثل ، ثم قال ثانياً : وإن تركته كان ذلك أوْلَى ، ثم أمره أمراً جازِماً بتَرْكِه ، فقال : { واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } [ النحل : 127 ] .
ووجه ثالث : وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما مال قلبه إلى اللعنة عليهم ، استأذن ربه فيه ، فنزلت الآية بالنص على المنع . وعلى هذا التقدير ، فلا يدل هذا النهي على القدح في العِصْمة .
فصل
في معنى الآية قولان :
الأول : ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أُوحِي إليك .
وثانيها : ليس لك في أن يتوبَ الله عليهم ، ولا في أن يعذبَهم شيء غلا إذا كان على وفق أمري ، وهو كقوله : { أَلاَ لَهُ الحكم } [ الأنعام : 62 ] ، واختلفوا في هذا المنع من اللعن ، لأي معنًى كان؟
فقيل : الحكمة فيه أنه - تعالى - ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب ، وأنه سيولد له وَلَدٌ ، يكون مسلماً ، بَرًّا ، تقيًّا ، فإذا حصل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم بالهلاك ، فإن قُبلت دعوتُه فات هذا المقصود ، وإنْ لم تُقْبَلْ دعوتُه كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى - من اللَّعْن ، وأمره بأن يُفَوِّضَ الكل إلى علم الله سبحانه وتعالى .
وقيل المقصود منه إظهار عجز العبودية وألا يخوض العبد في أسرار الله تعالى .
قوله : { أَوْ يَتُوبَ } في نصبه أوجهٌ :
أحدها : أنه معطوف على الأفعال المنصوبة قبلَه ، تقديره : لِيقطَعَ ، أو يتوبَ عليهم ، أو يكبتهم ، أو يعذبهم .

وعلى هذا فيكون قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } جملة معترضة بين المتعاطِفَيْن ، والمعنى : إن الله تعالى هو المالك لأمرهم ، فإن شاء قطع طرفاً منهم ، أو هزمهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا ، أو يعذبهم إن تمادَوْا على كُفْرهم ، وإلى هذا التخريج ذهب جماعة من النحاة كالفراء ، والزجاج .
الثاني : أن « أو » هنا بمعنى « إلا أن » كقولهم : لألزمنك أو تقضين حقي أي : إلا أن تقتضينه .
الثالث : « أوْ » بمعنى : « حتى » ، أي : ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب وعلى هذين القولين فالكلام متصل بقوله : { ليس لك من الأمر شيء } ، والمعنى : ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم بالإسلام ، فيحصل لك سرور بهدايتهم إليه ، أو يعذبهم بقتل ، أو نار في الآخرة ، فتشقى بهم ، وممن ذهب إلى ذلك الفراء ، وأبو بكر بن الأنباري ، قال الفراء : ومثل هذا من الكلام : لألزمنك أو تعطيني ، على معنى إلا أن تُعطيني وحتى تعطيني وأنشدوا في ذلك قول امرئ القيس : [ الطويل ]
1613- فَقُلْتُ لَهُ : لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا ... تُحَاوِلُ مُلْكاً ، أوْ تَمُوتَ ، فَُعْذَرَا
أراد : حتى تموت ، أو : إلا أن تموت .
قال شهاب الدين : « وفي تقدير بيت امرئ القيس ب » حتى « نظر؛ إذ ليس المعنى عليه؛ لأنه لم يفعل ذلك لأجل هذه الغاية ، والنحويون لم يقدروه إلا بمعنى : إلا أنْ » .
الثالث : منصوب بإضمار : « أنْ » عطفاً على قوله : « الأمر » ، كأنه قيل : ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم ، أو تعذيبهم شيء ، فلما كان في تأويل الاسم عُطِفَ على الاسم قبلَه ، فهو من باب قوله : [ الطويل ]
1614- فَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أعِزَّةٌ ... وَآلُ سُبَيْعٍ ، أوْ أسُوءَكَ عَلْقَمَا
وقوله : [ الوافر ]
1615- لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ ، وَتَقَرَّ عَيْنِي ... أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
الرابع : أنه معطوف - بالتأويل المذكور - على « شَيءٌ » ، والتقدير : ليس لك من الأمر شيء ، أو توبة الله عليهم ، أو تعذيبهم ، أي : ليس لك - أيضاً - توبتهم ولا تعذيبهم ، إنما ذلك راجع إلى الله عز وجل .
وقرأ أبَيّ : أو يتوبُ ، أو يعذبهم ، برفعهما على الاستئناف في جملة اسمية ، أضْمِر مبتدؤُها ، أي : هو يتوبُ ، ويعذبُهم .
فصل
يحتمل أن يكون المراد من هذا العذاب : هو عذاب الدنيا - بالقَتْل والأسْر - وأن يكون عذابَ الآخرة ، وعلى التقديرين فعِلْمُ ذلك مُفَوَّضٌ إلى الله تعالى .
قوله : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } جملة مستقلة ، والمقصود من ذكرها : تعليل حسن والتعذيب ، والمعنى : إن يعذبهم فبظلمهم .
واعلم أنه إذا كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفار صَحَّ ذلك ، وسمَّاهم ظالمين؛ لأن الشرك ظلم ، بل هو أعظم الظلم؛ لأن الله تعالى قال : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
وإن كان الغرضُ منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره ، صح الكلام - أيضاً -؛ لأن من عصى الله ، فقد ظلم نفسه .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

والمقصود منه : تأكيد ما ذكره أولاً من قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، والمعنى : إنما يكون ذلك لمن له الملك ، وليس هو لأحد إلا الله .
وقال : { مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ولم يقل : مَنْ؛ لأن الإشارة إلى الحقائق والماهيات ، فدخل الكُلُّ فيه .
قوله : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } احتجوا بذلك على أنه سبحانه - له أن يُدْخِلَ الجنة - بحُكْم إلهيته - جميعَ الكُفَّار ، وله أن يُدْخِلَ النارَ - بحكم إلهيته - جميع المقربين ، ولا اعتراض عليه؛ لأن فعلَ العبد متوقف على الإرادة ، وتلك الإرادة مخلوقة لله - تعالى - فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع ، وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى ، فطاعة العبد من الله ، ومعصيته - أيضاً - من الله - وفعل الله لا يوجب على الله شيئاً - ألبتة - ، فلا الطاعة توجب الثواب ، ولا المعصية توجب العقاب ، بل الكل من الله - بحكم إلهيته وقهره وقدرته - فصح ما ادعيناه .
فإن قيل : أليس ثبت أنه لا يُغْفَرُ لِلْكُفَّارِ ، ولا يُعَذَّبُ المَلاَئِكَةُ والأنْبِيَاءُ - عليهم السلام .
قلنا : مدلول الآية أنه لو أراد فعل ، ولا اعتراض عليه ، وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل ، أو لا يفعل .
ثم قال : « والله غفور رحيم » والمقصود منه أنه وإن حَسُنَ كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب ، لا على سبيل الوجوب ، بل على سبيل الفضل والإحسان .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)

قال بعضهم : إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين ، فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح في أمر الدين والجهاد ، اتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي ، والترغيب والتحذير ، وعلى هذا التقدير ، فيكون ابتداء كلام ، لا تعلُّق له بما قبله .
وقال القفال : يُحتمل أن يكون متصلاً بما قبله من أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالاً جمعوها بسبب الربا ، فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين على الإقدام على الربا ، فيجمعوا المالَ ، ويُنْفِقُوه على العساكر ، فيتمكنون من الانتقام منهم ، فنهاهم الله عن ذلك .
قوله : { أَضْعَافاً } جمع ضعف ، ولما كان جمع قلة - والمقصود : الكثرة - أتبعه بما يدل على الكثرة وهو الوصف بقوله : { مُّضَاعَفَةً } .
وقال أبو البقاء : { أَضْعَافاً } مصدر في موضع الحال من « الرِّبا » ، تقديره : مضاعفاً ، وتقدم الكلام على { أَضْعَافاً } ومفرده في البقرة .
وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامر : « مضعَّفة » - مشددة العين ، دون ألف .
والباقون بالألف والتخفيف ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة .
فصل
لما كان الرجل في الجاهلية ، إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل ، ولم يكن المديون واجداً لذلك المال فقال : زدني في المال حَتَّى أزيدَك في الأجَلِ ، فربما جعله مائتين ، ثم إذا حَلَّ الأجَلُ الثاني ، فعل مثل ذلك ، ثم إلى آجالٍ كثيرةٍ ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها ، فهذا هو المراد بقوله : { أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } .
قوله : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن اتقاء الله واجب ، والفلاح يقف عليه ، وهذا يدل على أن الربا من الكبائر ، وقد تقدم الكلام على الربا في « البقرة » .
قوله تعالى : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } في هذه الآية سؤالان .
الأول : أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم؛ وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه ، فكيف قال : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ؟
والجواب : أن التقدير : اتقوا أن تجحدوا تحريمَ الربا ، فتصيروا كافرين .
السؤال الثاني : أن ظاهر قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } يقتضي أنها ما أعدت لغيرهم ، وهذا يقتضي القطع بأن أحداً من المؤمنين لا يدخل النار ، وهو خلاف سائر الآيات .
والجواب عليه من وجوه :
أحدها : أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات ، أعِدَّ بعضُها للكفار ، وبعضها للفُسَّاق ، فتكون هذه الآية إشارة إلى الدركات المخصوصة بالكفار ، وهذا لا يَمْنَعُ ثبوت دركات أخْرَى أعِدَّت لغير الكفار .
وثانيها : أن تكون النار مُعَدَّة للكافرين ، ولا يمنع دخول المؤمنين فيها؛ لأن أكثر أهل النار الكفار ، فذكر الأغلب ، كما أن الرجل يقول : هذه الدابة أعددتَها لِلِقَاءِ المُشْرِكِينَ ، ولا يمنع من ركوبها لحوائجه ، ويكون صادقاً في ذلك .
وثالثها : أن القرآن كالسورة الواحِدَةِ ، فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين ، وباقي الآيات دلَّت أيضاً على أنها معدة لمن سرق ، وقتل ، وزنى ، وقذف ، ومثله قوله تعالى :

{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } [ الملك : 8 ] ، وليس جميع الكفار قال ذلك ، وقوله : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون } [ الشعراء : 94 ] إلى قوله : { إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين } [ الشعراء : 98 ] ، وليس هذا صفة جميعهم ، لما كانت هذه الصفات مذكورة في سائر السور كانت كالمذكورة - هاهنا- .
الرابع : أن قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } إثبات كونها معدة لهم ، ولا يدل على الحصر ، كقوله - في الجنة : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] ، ولا يدل ذلك على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين ، والحور العين .
وخامسها : أنَّ المقصود مِنْ وَصْفها - بكونها { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } : تعظيم الزَّجْرِ؛ لأن المؤمنين مخاطبين باتقاء المعاصي ، إذا علموا بأنهم متى فارقوا التقوى ، دخلوا النار المعدة للكافرين ، وقد تقرَّر في عقولهم عظم عقوبة الكافرين ، انزجروا عن المعاصي أتَمَّ الانزجار ، كما يُخوفُ الوالدُ ولدَه بأنك إن عصيتني أدخلتك دارَ السباع ، ولا يدل ذلك على أن تلك الدارَ لا يدخلها غيرهم .
وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة في الأزل؛ لأن قوله : « أعِدَّتْ » إخبار عن الماضي ، فلا بد وأن يكون ذلك الشيء دخل في الوجود .
قوله تعالى : { وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لما ذكر الوعيد ذكر بعده الوعد - على عادته المستمرَّة في القرآن .
قال محمدُ بن إسحاق بن يسار : هذه الآية معاتبة للذين عَصَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، حين أمرهم بما أمرهم يوم أُحُدٍ .

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)

قرأ نافعُ ، وابْنُ عَامِرٍ : سارعوا - بدون واو - وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام .
والباقون بواو العطف ، وكذلك هي في مصاحف مكةَ والعراقِ ومصحف عثمانَ .
فمن أسقطها استأنف الأمر بذلك ، أو أراد العطف ، لكنه حذف العاطفَ؛ لقُرْب كل واحد منهما من الآخر في المعنى - كقوله تعالى : { ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] ، فإن قوله : { وسارعوا } ، وقوله : { وأطيعوا } كالشيء الواحد ، وقد تقدم ضعف هذا المذهب .
ومن أثبت الواو عطف جملة أمريةً على مثلها ، وبعد إتباع الأثر في التلاوة ، أتبع كل رسم مصحفه .
ورَوَى الكِسَائِيُّ : الإمالة في { وسارعوا } ، و { أولئك يُسَارِعُونَ } [ المؤمنون : 61 ] ، و { نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات } [ المؤمنون : 56 ] وذلك لمكان الراء المكسورة .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } صفة لِ « مَغْفِرَةٍ » ، و « مِنْ » للابتداء مجازاً .
فصل
قال بعضهم : في الكلام حذف ، والتقدير : وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم .
وفيه نظر؛ لأن الموجب للمغفرة ، ليس إلا افعال المأمورات ، وترك المنهيات ، فكان هذا أمراً بالمسارعة إلى فعل المأمورات ، وترك المنهيات .
وتمسك كثيرٌ من الأصوليين بهذه الآية ، في أن ظاهر الأمرِ يوجب الفور؛ لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير ، والمراد منه : المغفرة العظيمة المتناهية في العِظَم ، وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام .
فصل
قال ابْنُ عَبَّاسٍ : إلى الإسلام .
ورُوِيَ عنه إلى التوبة - وهو قول عكرمة - والمعنى : وبادروا ، وسابقوا .
وقال عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِب : إلى أداء الفرائض؛ لأن الأمر مُطْلَق ، فيعم كل المفروضات .
وقال عثمان بن عفان : إنه الإخلاص؛ لأنه المقصود من جميع العبادات؛ لقوله تعالى : { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ البينة : 5 ] .
وقال أبو العالية : إلى الهجرة .
وقال الضحاك ومحمد بن إسحاق : إلى الجهاد؛ لأن من قوله : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } [ آل عمران : 121 ] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أُحُد ، فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصَّة بما يتعلق بالجهاد .
وقال سعيد بن جبير : إلى التكبيرة الأولى ، وهو مروي عن أنس . وقال يمان : إنه الصلوات .
وقال عِكْرمَةُ ومُقَاتِل : إنه جميع الطاعة؛ لأن اللفظ عام ، فيتناول الكُلَّ .
وقال الأصَمُّ : { وسارعوا } بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب؛ لأنه - تعالى - نهى أوَّلاً عن الربا ، ثم قال : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وهذا يدل على أن المراد منه : المسارعة في تَرْك ما تقدم النَّهْيُ عنه .
قال ابنُ الخَطِيبِ : « والأوْلَى ما تقدم من وجوب حَمْله على أداء الواجبات ، والتوبة عن جميع المحظورات ، لأن اللفظ عامّ ، فلا وَجْهَ لتخصيصه ، ثم إنه - تعالى - بَيَّن أنه كما تجب المسارعةُ والمغفرة ، فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة ، وإنما فصل بينهما؛ لأن الغُفْران معناه إزالة العقاب ، والجنة معناها حصول الثواب ، فجمع بينهما؛ للإشعار بأنه ، لا بُدَّ للمكلف من تحصيل الأمرين » .

قوله : { عَرْضُهَا السماوات والأرض } [ لا بد فيه من حَذْف؛ لأن نفس السموات ] لا تكون عرضاً للجنة ، فالتقدير : عرضها مثل عرض السموات والأرض ، يدل على ذلك قوله : « كعرض » ، والجملة في محل جر صفة لِ « جَنَّةٍ » .
فصل
في معنى قوله : { عَرْضُهَا السماوات والأرض } وجوه :
أحدها : أن المراد : لو جُعِلَت السمواتُ والأرضُ طبقاتٍ طبقاتٍ ، بحيث تكون كل واحدةٍ من تلك الطبقات خَطاً مؤلفاً من أجزاء لا تُجَزَّأ ، ثم وُصِل البعض بالبعض طبقاً واحداً ، لكان مثل عرض الجنة .
وثانيها : أن الجنة التي يكون عرضُها كعرض السموات والأرض ، إنَّما تكون للرجل الواحد؛ لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملْكاً له .
وثالثها : قال أبو مسلم : إن الجنة لو عُرِضت بالسموات والأرض على سبيل البيع ، لكانت ثمناً للجنة ، يقول : إذا بعت الشيء بالشيء : عرضته عليه وعارضته به فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر ، وكذلك - أيضاً - في معنى : القيمة؛ لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء للشيء حتى يكون كلُّ واحدٍ منهما مِثْلاً للآخر .
ورابعها : أن المقصود المبالغة في وَصْف سعة الجنة؛ لأنه ليس شيء عنده أعرض منها ، ونظيره قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض } [ هود : 107-108 ] فإن أطْول الأشياء بقاءً - عندنا - هو السموات والأرض فخوطبنا على قَدْر ما عرفناه .
فإن قيل : لِمَ خُصَّ العَرْضُ بالذكْر .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنه لما كان الغرض تعظيم سعتها ، فإذا كان عَرْضُها بهذا العِظَم ، فالظاهر أن الطول يكون أعظم ، ونظيره قوله : { بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] ، فذكر البطائن؛ لأن الظاهرَ أنَّها أقل من الظِّهارة ، فإذا كانت البطائن هكذا ، فكيف الظهارة .
الثاني : قال القفّال : ليس المراد بالعَرض - هاهنا - المخالف للطول ، بل هو عبارة عن السعة ، كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال : هذه دعوى عريضة ، واسعة عظيمة .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1616- كَأنَّ بِلاَدَ اللهِ - وَهْيَ عَرِيضَةٌ- ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ
والأصل فيه أن ما اتسع عَرْضُه لم يَضِقْ وما ضاق عرضه دَقَّ ، فجعل العَرْضَ كنايةً عن السعة .
فصل
رُوِيَ أن يهوديًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنك تدعو إلى جنة عرضُها السموات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار .
فقال صلى الله عليه وسلم : « سبحان الله!! فأين الليلُ إذا جاءَ النهار » .
ورُوِيَ عن طارق بن شهاب أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب - وعنده أصحابه - فقالوا : أرأيتم قولكم : وجنة عرضها السموات والأرض؟ فأين النار .
قال عُمَرُ : أرأيتم إذا جاء النهار ، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل ، أين يكون النهار .
قال عُمَرُ : أرأيتم إذا جاء النهار ، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل ، أين يكون النهار .
فقالوا له : إنه لمثلها في التوراة ، ومعناه حيث شاء الله .

سُئِلَ أنس بن مالك عن الجنة ، أفي السماء ، أم في الأرض .
فقال : وأي أرض وسماء تسع الجنة .
قيل : فأين هي .
فقال : فوق السماوات السبع ، تحت العرش .
وقال قتادة : كانوا يَرَوْنَ أن الجنة فوقَ السموات السبع ، وأن جهنَّمَ تحت الأرضين السبع .
فإن قيل : قال الله تعالى : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] ، وأراد بالذي وُعِدنا الجنة ، وإذا كانت الجنة في السماء ، فكيف يكون عَرْضُها السمواتُ والأرض .
فالجواب : أن باب الجنة في السماء ، وعرضها كما أخبر .
وقيل : إن الجنة والنار تُخْلقان بعد قيام الساعة ، فعلى هذا لا يبعد أن تُخْلَق الجنة في مكان السموات ، و النار في مكان الأرض .
قوله : { أُعِدَّتْ } يجوز أن يكون محلها الجَرّ ، صفة ثانية لِ « جَنَّةٍ » ، ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من « جَنَّةٍ » ؛ لأنها لما وُصِفَتْ تخصَّصت ، فقَرُبَت من المعارف .
قال أبو حيان : « ويجوز أن يكون مستأنفاً ، ولا يجوز أن يكون حالاً من المضاف إليه؛ لثلاثة أشياء :
أحدها : أنه لا عامل ، وما جاء من ذلك متأوَّل على ضَعْفه .
والثاني : أن العرض - هنا - لا يراد به : المصدر الحقيقي ، بل يراد به : المسافة .
الثالث : أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال ، وصاحبه بالخبر » .
يعني بالخبر : قوله : { السماوات } ، وهو رَدٌّ صحيح .
وظاهر الآية يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، وهو نص حديث الإسراء في الصحيحين وغيرهما .
وقالت المعتزلة : إن الجنة والنار غير مخلوقتين في وقتنا هذا ، وإن الله تعالى إذا طوى السماوات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء؛ لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب ، فخُلِقتا في وقت الجزاء؛ لأنه لا يجتمع دار التكليف ، ودار الجزاء في الدنيا ، كما لم يجتمعا في الآخرة .
وقال ابن فورك : « الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة » .
قوله : { الذين يُنفِقُونَ } يجوز في محله الألقاب الثلاثة ، فالجر على النعت ، أو البدل ، أو البيان ، والنصب والرفع على القطع المشعر بالمدح ، ولما أخبر بأن الجنة مُعَدَّة للمتقين وصفهم بصفات ثلاث ، حتى يُقْتَدَى بهم في تلك الصفات .
فاصفة الأولى : قوله : { الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء } .
فقيل : معناه : في العُسْر واليُسْر .
وقيل : سواء كانوا في سرور ، أو حُزْن ، أو في عُسْر ، أو في يُسْر .
وقيل : سواء سرهم ذلك الإنفاق - بأن كان على وفق طبعهم - أو ساءهم - بأن كان على خلاف طبعهم - فإنهم لا يتركونه .
روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ ، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ ، وَالبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللهِ ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ ، ولجاهل سخِيٌّ أحبُّ إلَى اللهِ مِنَ عابد بخيل » .

ورُوي أنَّ عَائِشَةَ تصدَّقَتْ بحَبَّة عِنَبٍ .
الصفة الثانية : قوله : { والكاظمين الغيظ } يجوز فيه الجر والنَّصب على ما تقدم قبله .
والكَظْم : الحبس ، يقال : كظم غيظه ، أي : حبسه ، وكَظَم القربة والسقاء كذلك ، والكظم - في الأصل - مخرج النفَس ، يقال : أخذ بكظمه ، أي : أخذ بمجرى نفسه .
والكُظوم : احتباس النفس ، ويُعَبَّر به عن السكوت ، قال المبرد : تأويله أنه كتمه على امتلاء به منه ، يقال : كَظَمْتُ السِّقَاءَ ، إذا ملأته وسددت عليه ، وكل ما سددت من مجرى ماء ، أو باب ، أو طريق ، فهو كَظْم ، والذي يُسَدّ به يقال له : الكظامة والسدادة ، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض : كظامة ، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة ، والمَكْظُوم : الممتلئ غيظاً ، وكأنه - لغيظه لا يستطيع أن يتكلم ، ولا يُخرج نفسه ، والكظيم : الممتلئ أسَفاً .
قال أبو طالب : [ الكامل ]
1617- فَحَضَضْتُ قَوْمِي ، وَاحْتَسَبْتُ قِتَالَهُمْ ... وَالْقَوْمُ مِنْ خَوْفِ المَنَايَا كُظَّزُ
وكظم البعيرُ جِرَّتَه ، إذا رَدَّها في جَوْفه ، وترك الاجترار .
ومنه قول الراعي : [ الكامل ]
1618- فَأفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةِ ... مِنْ ذِي الأبَاطِحِ إذْ رَعَيْنَ حَقِيلا
الحقيل ، قيل : نبت .
وقيل : موضع ، فعلى الأول هو مفعول به ، وعلى الثاني هو ظرف ، ويكون قد شذ جره ب « في » ؛ لأنه ظرف مكان مختص ، ويكون المفعول محذوفاً ، أي : إذْ رعين الكلأ في حقيل ، ولا تقطع الإبلُ جِرَّتَها إلا عند الجهد والفزع فلا تجترّ .
ومنه قول أعشى باهلة يصف رجلاً يكثر نحر الإبل : [ البسيط ]
1619- قَدْ تَكْظِمُ البُزْلُ مِنْهُ حِينَ تُبْصِرُهُ ... حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أجْوَافِهَا الْجِرَرُ
والجرر جمع جِرَّة . والكظامة : حلقة من حديد تكون في طرف الميزان تجمع فيها خيوطه ، وهي - أيضاً - السير الذي يُوصَل بوتر القَوْس .
والكظائم : خروق بين البئرين يجري منها الماء إلى الأخرى ، كل ذلك تشبيه بمجرى النفَس وتردّده فيه .
فصل
قال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إنْفاذِهِ - مَلأ اللهُ قَلْبَه أمناً وَإيمَاناً » ، وقال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أن ينفذه - دَعَاهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤوسِ الخَلائِقِ ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أيِّ الحُورِ شَاءَ » .
{ والكاظمين الغيظ } : الذين يَكُفُّونَ عيظهم عن الإمضاء ، ونظيره قوله : { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } [ الشورى : 37 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : « لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، لَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ » .
الصفة الثالثة : قوله : { والعافين عَنِ الناس } .
قال القفال : يُحْتَمَلُ أن يكون هذا راجعاً إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا ، فنهي المؤمنين عن ذلك ، ونُدبوا إلى العفو عن المُعْسرين ، فإنه تعال قال - عقب قصة الربا والتداين- : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] وقال

{ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 280 ] .
ويُحْتَمَلُ أنْ يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين مَثَّلُوا بعَمِّه حمزة ، وقال : لأمَثلنَّ بِهِمْ فندب إلى كَظْم هذا الغيظ .
وقال الكلبي : العافين عن المملوكين سوءَ الأدب .
وقال زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وَمُقَاتِلٌ : عمن ظلمهم وأساء إليهم ، قال صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَكُونُ العَبْدُ ذَا فضْل حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ ، ويَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ ويُعْطَِ مَنْ حَرَمَهُ » .
ورُوِي عن عيسى ابن مريم أنه قال : « لَيْسَ الإحْسَانُ أنْ تُحْسِنَ إلى مَنْ أحْسَنَ إلَيْكَ ، ذَاكَ مُكَافَأةٌ ، إنَّما الإحْسَانُ أنْ تُحسِنَ إلى مَنْ أسَاءَ إلَيْكَ » .
ثم قال : { والله يُحِبُّ المحسنين } هذه اللام يحتمل أن تكون للجنس ، فيدخل كل مُحْسن ، وأن تكون للعهد ، فتكون إشارة إلى هؤلاء .
وهذه الآية من أقْوَى الدلائل على أن الله - تعالى - يعفو عن العُصَاة ، لأنه قد مدح الفاعلين لهذه الخصال ، وأحَبَّهم ، وهو أكرم الأكرمين ، والعفو والغفور الحليم ، والآمر بالإحسان ، فكيف يمدح بهذه الأفعال ، ويندب إليها ، ولا يفعلها؟ إن ذلك لممتنع في العقول .

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)

يجوز أن يكون معطوفاً على الموصول قبله ، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة ، وتكون الجملةُ من قوله : { والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ] جملة اعتراض بين المتعاطفين .
ويجوز أن يكون « والذين » مرفوعاً بالابتداء ، و « أولَئِكَ » مبتدأ ثانٍ ، و « جَزَاؤهُمْ » مبتدأ ثالث ، و « مَغْفِرَةٌ » خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول .
وقوله : { إِذَا فَعَلُواْ } شرط ، وجوابه : { ذَكَرُواْ } .
قوله : { فاستغفروا } عطف على الجواب ، والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول ، والمفعول الأول ل « اسْتَغْفَرُوا » محذوف ، أي : استغفروا الله لذنوبهم ، وقد تقدم الكلام على « استغفر » ، وأنه تعدى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجر ، وليس هو هذه اللام ، بل « من » وقد يُحْذَف .
فصل في سبب النزول
قال ابن مسعود : قال المؤمنون : يا رسولَ الله ، كانت بو إسرائيل اكرمَ على الله مِنَّا؛ كان أحدهم إذا أذنب اصبحت كفارةُ ذَنْبِه مكتوبةً على عتبة بابه ، اجدع أنفك ، افعل كذا ، فأنزل الله هذه الآية .
قال عطاء : نزلت في نبهان التمار - وكُنيته أبو مقبل - أتته امرأة حسناء ، تبتاعُ منه تَمْراً ، فقال لها : إن هذا التمر ليس بجيِّد ، وإن في البيت أجودَ منه ، فذهب بها إلى بيته ، فضمها إلى نفسه ، وقَبَّلها ، فقالت له : أتَّقِ الله ، فتركها ، وندم على ذلك ، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية .
وقال مُقَاتِلٌ والكَلْبِيُّ : آخى رسولُ الله بين رجلين ، أحدهما من الأنصار ، والآخر من ثقيفٍ ، فخرج الثقفيُّ في غزاةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقُرْعة في السفر ، وخلف الأنصاريّ على أهله ، يَتَعَاهَدُهُم ، واشترى لهم اللحمَ ذات يوم ، فلما أرادت المرأةُ أن تأخذ منه ، دخل على أثرها ، وقَبَّل يَدَهَا ، فوضعت كَفَّهَا على وَجْهها ، ثم ندم الرجل وانصرف ، ووضع الترابَ على رأسه ، وهام على وجهه ، ولما رجع الثقفيُّ لم يستقبله الأنصاريُّ ، فسأل امرأته عن حاله ، فقالت : لا أكثر اللهُ في الإخوان مثله ، ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً ، فطلب الأنصاريَّ الثقفيُّ حتى وجده ، فأتى به أبا بكر؛ رجاء أن يجد\َ عنده راحةً وفرجاً ، وقال الأنصاريُّ : هلكت ، وذكر القصة ، فقال أبو بكر : ويحك! أما علمت أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم؟ ثم لقيا عُمَرَ ، فقال له مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما مثل مقالتهما ، فأنزل الله هذه الآية .
الفاحشة - هنا - نعت محذوف ، تقديره : فعلوا فِعْلَةً فاحشةً .
وأصل الفُحْش : القُبْح الخارج عن الحد ، فقوله : { فَاحِشَةً } يعني : قبيحة ، خارجة عما أذن الله فيه .
قال جَابِر : الفاحشة : الزنا؛ لقوله تعالى : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ }

[ النساء : 15 ] ، وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] .
قوله : { أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ } .
قال الزمخشري : « الفاحشة : ما كان فعله كاملاً في القُبْح ، وظُلْمُ النفس هو أي ذَنْب كان ، مما يؤاخذُ الإنسانُ به » .
وقيل : الفاحشة : هي الكبيرة ، وظلم النفس هو الصغيرة .
وقيل : الفاحشة ، هي الزنا ، وظلم النفس : هو القُبْلة واللَّمْسَة والنظرة .
وقال مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ : الفاحشة ما دون الزنا من قُبْلَة أو لَمْسَةٍ ، أو نظرة ، فيما لا يحل .
وقيل : فعلوا فاحشة فِعْلاً ، أو ظلموا أنفسهم قولاً .
قوله : رذَكَرُواْ الله } أي : ذكروا وعيدَ الله وعقابه ، فيكون من باب حذف المضاف .
قال الضحاك : ذكروا العرض الأكبر على الله .
وقال مُقاتِلٌ والوَاقِدِيُّ : تفكروا أن الله سائلهم .
وقيل : المراد بهذا الذكر : ذكر الله بالثناء والتعظيم والإجلال؛ لأن من أراد أن يسأل الله تعالى مسالةً ، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله تعالى ، فهاهنا لما كان المراد منه : الاستغفار من الذنوب قدَّموا عليه الثناء ، ثم اشتغلوا بالاستغفار ، { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } أي : ندموا على فِعْل ما مضَى مع العزم على تَرْك مثله في المستقبل ، وهذا حقيقة التوبة ، فأما الاستغفار باللسان ، فلا أثر له في إزالة الذنب ، بل يجب إظهار هذا الاستغفار ، لإزالة التهمة .
وقوله : { لِذُنُوبِهِمْ } أي : لأجل ذنوبهم .
قوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ } استفهام بمعنى : النفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء .
قوله : { إلاَّ الله } بدل من الضمير المستكن في « يَغْفِرُ » ، والتقدير : لا يغفر أحد الذنوب إلا الله تعالى ، والمختار - هنا - الرفع على البدل ، لكَوْن الكلام غيرَ إيجاب . وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] .
وقال أبو البقاء « مَنْ » مبتدأ ، « يَغْفِرُ » خبره ، و { إلاَّ الله } فاعل « يَغْفِرُ » ، أو بدل من المضمر فيه ، وهو الوجه؛ لأنك إذا جعلت « اللهُ » فاعلاً ، احتجْتَ إلى تقدير ضمير ، أي : ومَنْ يغفر الذنوب له غير الله .
قال شهَابُ الدين : « وهذا الذي قاله - أعني : جعله الجلالة فاعلاً - يقرب من الغلط؛ فإن الاستفهام - هنا - لا يُراد به حقيقته ، إنما يرادُ » النفي « ، والوجه ما تقدم من كون الجلالة بدلاً من ذلك الضمير المستتر ، والعائد على » من « الاستفهامية » ز
ومعنى الكلام أن المغفرة لا تُطْلب إلا من الله؛ لأنه القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة ، فكان هو القادر على إزالة العقاب عنه .
قوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ } يجوز أن تكون جملة حالية من فاعل { فاستغفروا } أي : ترتب على فعلهم الفاحش ذكر الله تعالى ، والاستغفار لذنوبهم ، وعدم إصرارهم عليها ، وتكون الجملة من قوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } - على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني ، وبين الحال وذي الحال على الوجه الأول .

فصل
وأصْل الإصرار : الثبات على الشيء .
قال الحسن : إتيان العبد ذَنْباً عَمْداً إصرار ، حتى يتوب .
وقال السُّدِّي : الإصرار : السكوت وتَرْك الاستغفار .
وعن أبي نُصيرة قال : لقيت مولّى لأبي بكر ، فقلتُ له : أسَمِعْتَ من أبي بكر شيئاً؟
قال : نعم ، سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ ، وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبِعِين مَرَّةً » . وقيل : الإصرار : المداومة على الشيء ، وتَرْك الإقلاع عنه ، وتأكيد العزم على ألا يتركه ، من قولهم : صر الدنانير ، إذا ربط عليها ، ومنه : صُرَّة الدراهم - لما يربط منها- .
قال الحُطََيْئة : يصف خيلاً : [ الطويل ]
1620- عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إذَا ابْتَغَوْا ... عُلاَلَتَها بِالْخُحْصَدَاتِ أصَرَّتِ
أي : ثبتت ، وأقامت ، مداغومة على ما حملت عليه .
وقال الشاعر : [ البسيط ]
1621- يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوِاكِلُهُ ... يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ القَلْبِ خَتَّارِ
و « ما » في قوله : { على مَا فَعَلُواْ } يجوز أن تكون اسمية بمعنى : الذي ، ويجوز أن تكون مصدرية .
قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل { فاستغفروا } ، وأن يكون حالاً من فاعل { يُصِرُّوا } ، والتقدير : ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة؛ لأنه قد يُعْذَر مَنْ لا يعلم حرمة الفعل ، أما العالم بالحرمة ، فإنه لا يعذر .
ومفعول { يَعْلَمُونَ } محذوف للعلم به .
فقيل : تقديره : يعلمون أن الله يتوب على مَنْ تاب ، قاله مجاهد .
وقيل : يعلمون أن تَرْكه أوْلَى ، قاله ابنُ عباس والحسن .
وقيل : يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها .
وقال ابْنُ عَبَّاسِ ، ومُقَاتِلٍ ، والحَسَنُ ، والكَلْبِيُّ : وهم يعلمون أنها معصية .
وقيل : وهم يعلمون أن الإصرارَ ضار .
وقال الضَّحَّاكُ : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرةَ الذنوب ، وقال الحسن بن الفضل : وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنوب .
وقيل : وهم يعلمون أن الله تعالى ، لا يتعاظمه الْعَفْو عن الذنوب - وإن كثرت- .
وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غُفِرَ لهم .
قوله : { أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } ، والمعنى : أن المطلوب بالتوبة أمران :
الأول : الأمن من العقاب ، وإليه الإشارة بقوله : { مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } .
والثاني : إيصال الثواب إليه ، وهو المراد بقوله : { وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } .
قوله : { مِن رَّبِّهِمْ } في محل رفع؛ نعتاً لِ « مَغْفِرَةٌ » ، و « مِنْ » للتبعيض ، أي : من مغفرات ربهم .
قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } حال من الضمير في { جَزَآؤُهُمْ } ؛ لأنه مفعول به في المعنى؛ لأن المعنى : يجزيهم الله جنات في حال خلودهم ويكون حالاً مقدراً ، ولا يجوز أن تكون حالاً من « جَنَّاتٌ » في اللفظ ، وهي لأصحابها في المعنى؛ إذْ لو كان ذلك لبرز الضمير ، لجَرَيان الصفة على غير مَنْ هي له ، والجملة من قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } في محل رفع؛ نعتاً لِ « جَنَّاتٌ » . وتقدم إعراب نظير هذه الجمل .
قوله : { وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } المخصوص بالمدح محذوف ، تقديره : ونِعْمَ أجر العاملين الجنة .
فصل
دلَّتْ هذه الآية على أن الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم ، وجزاءً عليه .
قال القَاضِي : وهذا يُبْطِل قولَ مَنْ قال : إن الثواب تفضُّل من الله ، وليس بجزاءٍ على عملهم .
قال ثابت البُنَانِي : بلغني أن إبليسَ بكَى حين نزلت هذه الآية { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله } الآية .

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)

لما وعد على الطاعة والتوبة بالمغفرة والجنة ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعةِ والتوبةِ ، وهو تأمل أحوال القرونِ الخوالي ، وهذا تَسْلِيَة من الله تعالى للمؤمنين .
قال الواحدي : أصل الخلُوّ - في اللغة - الانفراد ، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ، ويُستعمل - أيضاً - في الزمان بمعنى : المُضِيّ؛ لأن ما مضى انفرد عن الوجود ، وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية .
قوله : { مِن قَبْلِكُمْ } يجوز أن يتعلق ب « خَلَتْ » ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من { سُنَنٌ } ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون وَصْفاً ، فلما قُدِّمَ نُصبَ حالاً .
والسُّنَن : جمع سُنَّة ، وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها ، ومنه سُنَّة الأنبياء .
قال خالد الهُذَلِي لخاله أبي ذُؤيب : [ الطويل ]
1622- فَلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةِ أنْتَ سِرْتَهَا ... فَأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وقال آخر : [ الطويل ]
1623- وَإنَّ الأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... تَأسَّوْا ، فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّآسِيَا
وقال لبيد : [ الكامل ]
1624- مِنْ أمَّةٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ ... وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإمامُهَا
وقال المفضَّل : السُّنَّة : الأمة ، وأنشد : [ البسيط ]
1625- مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُ ... وَلاَ رَأوْا مِثْلَكم فِي سَالِفِ السُّنَنِ
ولا دليل فيه؛ لاحتمال أن يكون معناه : أهل السنن .
وقال الخليل : سَنَّ الشيء بمعنى : صوره ، ومنه : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] أي : مُصَوَّر وقيل : سن الماء والدرع إذا صبهما ، وقوله : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } يجوز أن يكون منه ، ولكن نسبة الصب إلى الطين بعيدة .
وقيل : مسنون ، أي : متغير .
وقال بعض أهل اللغة : هي فُعْلة من سَنَّ الماء ، يسنه ، إذا والى صَبَّه ، والسَّنُّ : صَبُّ الماء والعرق نحوهما .
وأنشد لزهير : [ الوافر ]
1626- نُعَوِّدُهَا الطراد كُلَّ يَوْمٍ ... تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِهَا الْقُرُونُ
أي : يُصب عليها من العرق ، شبَّه الطريقة بالماء المصبوب ، فإنه يتوالى جرْيُ الماء فيه على نَهْج واحد ، فالسُّنَّة بمعنى : مفعول ، كالغُرْفَةِ .
وقيل : اشتقاقها من سننت النَّصْل ، أسنّه ، سنًّا ، إذا حددته [ على المِسَن ] ، والمعنى : أن الطريقةَ الحسنةَ ، يُعْتَنَى بها ، كما يُعْتَنَى بالنَّصْل ونحوه .
وقيل : من سَنَّ الإبل ، إذا أحسن رعايتها ، والمعنى : أن صاحب السنة يقوم على أصحابه ، كما يقوم الراعي على إبله ، والفعل الذي سَنَّه النبي سُمِّيَ سُنَّةً بمعنى : أنه صلى الله عليه وسلم أحسن رعايته وإدامته . وقد مضى من ذلك جملة صالحة في البقرة .
فصل
قال [ أكثر المفسرين ] : المراد : سنن الهلاك؛ لقوله تعالى : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } [ الزخرف : 25 ] ؛ لأنهم لما خالفوا الرُّسُلَ؛ لحرصهم على الدنيا ، ثم انقرضوا ، ولم يَبْقَ من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا ، والعقاب في الآخرة عليهم ، فرغَّب الله تعالى أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم في الإيمان بالتداخل في أحوال هؤلاء الماضين ، ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإيمان بالله ورُسُله ، والإعراض عن الرياسة في طلب الدنيا والحياة .

قال الزجاج : المعنى : أهل سنن ، فحذف المضاف .
قال مجاهد : بل المراد ، سنة الله تعالى في الكافرين والمؤمنين ، فإن الدنيا لم تَبْقَ ، لا مع المؤمن ، ولا مع الكافر ، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناءُ الجميل في الدنيا ، والثواب الجزيل في العُقْبَى ، والكافر يبقى اللعن عليه في الدنيا والعقاب في الآخرة .
قوله : { فَسِيرُواْ } جملة معطوفة على ما قبلها ، و التسبُّب في هذه الفاء ظاهر ، أي : سبب الأمر بالسير لتنظروا - نَظَرَ اعتبار - خُلُوَّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم .
وقال أبو البقاء : « ودخلت الفاء في » فَسِيرُوا « ؛ لأن المعنى على الشرط ، أي : إن شككتم فسيروا » .
وقوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } « كيف » خبر مقدم ، واجب التقديم ، لتضمُّنه معنى « الاستفهام » ، وهو معلق ل « انْظُرُوا » قبله ، فالجملة في محل نصب بعد إسقاط الخافض؛ إذ الأصل : انظروا في كذا .
فصل
والغرض من هذا الكلام : زَجْر الكفار عن الكفر بتأمل أحوال المكذبين ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171-173 ] ، وقوله : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] ، وقوله : { أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] وليس المراد منه الأمر بالسير - لا محالة - بل المقصود : تعرف أحوالهم ، فإن حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود ، ويحتمل أن يقال - أيضاً- : إنَّ مشاهدة آثار المتقدمين لها ، أثر أقوى من أثر المساع .
قال الشاعر : [ الخفيف ]
1627- إنَّ آثَارَنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا ... فَانْظُرُوا بَعْدَنَا إلَى الآثَارِ
فصل
قال المفسرون : وهذا في حرب أحد ، يقول : فأنا أمهلهم ، وأسْتدرجهم ، حتى يبلغ أجلي الذي أجَلألْتُ في نُصْرَة النبي صلى الله عليه وسلم وأوليائه وهلاك أعدائه .
قوله تعالى : { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ } أي : القرآن .
وقيل : ما تقدم من قوله : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } .
وقيل : ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده .
والموعظة : الوعظ وقد تقدم .
قوله : « للناس » يجوز أن يتعلقَ بالمصدر قبلَه ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه وَصْف له .
قوله : { لِّلْمُتَّقِينَ } يجوز أن يكون وَصْفاً - أيضاً - ويجوز أن يتعلق بما قبله ، وهو محتمل لأن يكونَ من التنازع ، وهو على إعمال الثاني للمحذوف من الأول .
فصل
في الفرق بين الإبانة وبين الهُدَى ، وبين الموعظة؛ لأن العطْفَ يقتضي المغايرة ، وذكروا فيه وجهين :
الأول : أن البيان هو الدلالة التي تزيل الشبهة ، والهُدَى بيان الطريق الرشيد؛ ليُسْلَك دون طريق الغَيّ ، والموعظة هي الكلام الذي يُفِيد الزَّجْر عما لا ينبغي في الدين .
الثاني : أن البيانَ هو الدلالة ، وأما الهدى فهي الدلالة بشرط إفْضَائها إلى الاهتداء .
وخصَّ المتقين؛ لأنهم المنتفعون به ، وتقدَّم الكلام في ذلك في قوله : « هدى للمتقين » .
وقيل : إن قوله { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ } عَامّ ، ثم قوله : { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } مخصوص بالمتقين؛ لأن الهُدَى اسم للدلالة الموصِّلة إلى الاهتداء ، وهذا لا يحصُل إلا في حقِّ المتقين .

وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)

الأصل : تُوْهِنوا ، فحُذِفت الواو؛ لوقوعها بين تاء وكسرة في الأصل ، ثم أجْريت حروف المضارعة مُجْراها في ذلك ، ويقال : وَهَنَ - بالفتح في الماضي - يَهِنُ - بالكسر في المضارع .
ونُقِلَ أنه يُقال : وَهُن ، ووَهِنَ - بضم الهاء وكسر في الماضي - و « وَهَنَ » يُستعمل لازماً ومتعدياً ، تقول : وَهَنَ زيدٌ ، أي : ضَعُفَ ، قال تعالى : { وَهَنَ العظم مِنِّي } [ مريم : 4 ] ، ووَهَنْتُه وأضعفته ، ومنه الحديث : « وَهَنْتُهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ » ، والمصدر على الوهَن - بفتح الهاء وسكونها .
وقال زهير : [ البسيط ]
1628- ... فَأصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِناً خَلَقَا
أي : ضعيفاً .
قوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } جملة حالية من فاعل { تَهِنُوا } ، أو { تَحْزَنُوا } ، والاستئناف فيها غير ظاهر ، و { الأَعْلَوْنَ } جمع أعْلَى ، والأصل : أعْلَيَوْنَ ، فتحرَّكت الياء ، وانفتح ما قبلها ، فقُلبَت ألفاً فحُذِفت لالتقاء الساكنين ، وبقيَت الفتحةُ لتدلَّ عليها .
وإن شئت قُلْتَ : استثقلت الضمةُ على الياء ، فحُذِفت ، فالتقى ساكنان أيضاً - الياء والواو - فحُذِفتَ الياء؛ لالتقاء الساكنين ، وإنَّما احتجنا إلى ذلك؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموماً ، لفظاً ، أو تقديراً . وهذا من مثال التقدير .
فصل
اعلم أن الآياتِ المتقدمة ، كالمقدمة لهذه الآية ، كأنه قال : إن بحثتم عن أحوال القرون الماضية ، علمتم أن أهل الباطل ، وإن اتفقت لهم [ الصَّولة ] ، فمآل أمْرهم إلى الضَّعْف ، ومآل أهل الحق إلى العُلُو والقوة ، فلا ينبغي أن تصير صَولَةُ الكفَّار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلوبكم ، وهذا حَثٌّ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد على ما أصابهم من القتل ، والجراح يوم أُحُد ، يقول : { وَلاَ تَهِنُوا } أي : لا تضعُفوا ولا تجبنُوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح ، { وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } أي : تكون لكم العاقبة بالنصر والظَّفَر ، وهذا مناسب لما قبله ، لأن القومَ انكسرت قلوبُهم بذلك الوَهْن ، فكانوا محتاجين إلى ما يُقَوِّي قلوبهم .
وقيل : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } أي : أن حالكم أعلى من حالهم في القتل ، لأنكم أصَبْتُم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أُحُد ، وهو كقوله : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } [ آل عمران : 165 ] أو لأن قتالكم لله تعالى ، وقتالهم للشيطان؛ أو لأن قتالكم للدين الحق ، وقتالهم للدين الباطل ، فكل ذلك يُوجِب أن تكونوا أعْلَى حالاً منهم .
وقيل : « وأنتم الأعلون بالحجة » .
قوله : { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف .
فقيل : تقديره : فلا تَهِنُوا ولا تحزنوا .
وقيل : تقديره : إن كنتم مؤمنين علمتم أن هذه الموقعةَ لا تَبْقَى بحالها ، وأن الدولة تصير للمسلمين .
فصل
معنى : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي : بقيتم على إيمانكم .
وقيل : وأنتم الأعلون فكونوا مصدِّقين بما يَعِدُكم الله ، ويُبَشِّركم به من الغَلَبَة .
وقيل : إن كنتم مؤمنين ، معناه : إذا كنتم مؤمنين ، أي : لأنكم مؤمنون .

وقال ابنُ عباس : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، فأقبل خالدُ بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يَعْلُوَ عليهم الجبلَ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا يَعْلُونَّ عَلَيْنَا ، اللهُمَّ لا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ » ، وثاب نَفَرٌ من المسلمين ، رُماة ، فصعدوا الجبل ورموا خَيْلَ المشركين ، حتى هزموهم ، فذلك قوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } .
وقال الكلبيُّ : نَزَلَتْ هذه الآية بعد يوم أُحُد ، حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب القوم - مع ما أصابهم من الجراح - فاشتدَّ ذلك على المسلمين ، فأنزل الله هذه الآية؛ دليله قوله تعالى : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم } [ النساء : 104 ] .

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)

قرأ الأخوان ، وأبو بكر : قُرْح - بضم القاف - وكذلك « القُرْحُ » معرَّفاً .
والباقون بالفتح فيهما .
فقيل : هما بمعنى واحد ، ثم اختلف القائلون بهذا .
فقال بعضهم : المراد بهما : الجُرْح نفسه ، وقال بعضهم- منهم الأخفش - المراد بهما المصدر ، يقال : قَرِحَ الجُرح ، يَقْرحُ ، قَرْحاً ، وقُرْحاً .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1629- وَبُدِّلْتُ قَرْحاً دَامِياً بَعْدَ صِحَّةٍ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا تَحَوَّلْنَ أبْؤُسَا
والفتح لغة الحجاز ، والضم لغة تميم ، فهما كالضَّعْف والضُّعْف ، والكَرْه والكُرْه ، والوَجْد والوُجْد .
وقال بعضهم : المفتوح : الجُرْح ، والمضموم : ألَمُه ، وهو قول الفراء .
وقرأ ابن السميفع بفتح القاف والراء ، كالطرْد والطرَد .
وقال أبو البقاءِ : « وهو مصدر قَرِحَ يَقْرح ، إذا صار له قُرْحَة ، وهو بمعنى : دَمِيَ » .
وقُرِئَ قُرُح - بضمهما- .
قيل : وذلك على الإتباع كاليُسْر واليُسُر ، والطُّنْب والطُّنُب .
وقرأ الأعمش : « إن تمسسكم قروح » - بالتاء من فوق ، [ وصيغة الجمع في الفاعل ] ، وأصل المادة : الدلالة على الخُلُوص ، ومنه الماء القَرَاح ، الذي لا كُدُورةَ فيه .
قال الشاعر : [ الوافر ]
1630- فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ ، وَكُنْتُ قَبْلاً ... أكَادُ أغَصُّ بِالْمَاءِ الْقَرَاح
وأرض قرحة - اي : خالصة الطين - ومنه قريحة الرجل - اي : خالص طَبْعه- .
وقال الراغب : « القَرْح الأثر من الجراحة من شيء يُصيبه من خارج ، والقُرْح - يعني : بالضم - أثرها من شيء داخل - كالبشرة ونحوها- يقال : قَرَحْته ، نحو جَرَحْته .
قال الشاعر : [ البسيط ]
1631- لا يُسْلِمُونَ قَرِيحاً حَلَّ وَسَطَهُمُ ... يَوْمَ اللِّقَاءِ ، ولا يُشْوُونَ مَنْ قَرَحُوا
أي : جرحوا . وقرح : خرج به قرح .
ويقال : قَرَحَ قلبُه ، وأقرحه الله - يعني : فَعَل وأفْعَل فيه بمعنًى - والاقتراح : الابتداع والابتكار ومنه : اقترح عليَّ فلانٌ كذا ، واقترحْتُ بِئراً : استخرجت منها ماءً قَرَاحاً . والقريحة - في الأصل - المكان الذي يجمتع فيه الماء المستنبط - ومنه استُعِيرت قريحةُ الإنسان - وفرس قارح ، إذا أصابه أثَرٌ من ظُهور نَابِهِ ، والأنْثَى قارحة ، وروضة قرحاء ، إذا كان في وسطها نَوْر؛ وذلك لتشبيهها بالفرس القرحاء » .
قوله : { فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ } للنحويين - في مثل هذا - تأويل ، وهو أن يُقَدِّرُوا شيئاً مستقبلاً؛ لأنه لا يكون التعليق إلا في المستقبل - وقوله : { فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِثْلُهُ } ماضٍ مُحَقَّق - وذلك التأويل هو التبيين ، أي : فقد تَبَيَّن مَسُّ القرح للقوم وسيأتي له نظائر ، نحو : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ } [ يوسف : 26 ] و { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] .
وقال بعضهم : جواب الشرط محذوف ، تقديره : فتأسَّوا ، ونحو ذلك .
وقال أبو حيان : « ومَنْ زعم أن جواب الشرط هو » فَقَدْ مَسَّ « ، فهو ذاهل » .
قال شهابُ الدين : « غالب النحويين جعلوه جواباً ، متأولين له بما ذكرت » .

فصل
هذا خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحُد مع الكآبة ، يقول : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } يوم أحد فقد مَسَّهُمْ قَرْحٌ مِثْلُهُ يوْمَ بَدْرٍ ، وهو كقوله تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } [ آل عمران : 165 ] .
وقيل : إن الكفار قد نالهم يوم أُحُد مثل ما نالكم من الجُرح ، والقتل؛ لأنه قُتِل منهم نيفٌ وعشرون رجلاً ، وقتل صاحبُ لوائهم ، والجراحات كَثُرَتْ فيهم ، وعُقِرَ عامةُ خَيْلهم بالنبل ، وكانت الهزيمة عليهم في أول النهار .
فإن قيل : كيف قال : { قَرْحٌ مِّثْلُهُ } ، وما كان قَرءحُهم يومَ أُحُد مثل قَرْح المشركين .
فالجواب : أن تفسير القرح - في هذا التأويل - بمجرد الانهزام ، لا بكَثْرة القَتْلَى .
قوله : { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } يجوز في « الأيَّامُ » أن تكون خبراً لِ « تِلْكَ » و « نُدَاوِلُهَا » جملة حالية ، العامل فيها معنى اسم الإشارة ، أي : إشيرُ إليها حال كونها مداوَلةً ، ويجوز أن تكون « الأيَّامُ » بدلاً ، أو عَطْفَ بيان ، أو نَعْتاً لاسم الإشارة ، والخبر هو الجملة من قوله : { نُدَاوِلُهَا } وقد مر نحوه في قوله : { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا } [ أل عمران : 108 ] إلا أن هناك لا يجيء القول بالنعت؛ لما عرفت أنَّ اسم الإشارة لا ينعت إلا بذي أل و « بَيْنَ » متعلق ب « نُدَاوِلُهَا » ، وجَوَّزَ أبُو البقاءِ أن يكون حالاً من مفعول « نُدَاوِلُهَا » ولَيْسَ بِشَيءٍ .
والمداوَلة : المناوَبة على الشيء ، والمُعَاودة ، وتعهَّده مرةَ بعد أخْرَى ، يقال : دَاوَلْتُ بينهم الشيء فتداولوه ، كأن « فَاعَل » بمعنى : « فَعَل » .
قال الشاعر : [ الكامل ]
1632- تَرِدُ الْمِيَاهَ ، فَلاَ تَزَالُ تَدَاوُلاً ... في النَّاسِ بَيْنَ تَمَثُّل وَسَمَاعِ
وأدال فلانٌ فلاناً : جعل له دولة .
وقال الفقَّال : المداولة : نَقْل الشيء من واحد إلى آخر ، يقال : تداولته الأيدي - إذا تناولته ومنه قوله تعالى : { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ } [ الحشر : 7 ] أي : تتداولونها ، ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً ، ويقال : الدُّنيا دول ، أي : تنتقل من قوم إلى آخرين .
ويقال دال له الدهرُ بكذا - إذا انتقل إليه .
ويقال : دُولة ، ودَوْلة - بفتح الفاء وضمها - وقد قُرِئَ بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
واختلفوا ، هل اللفظتان بمعنًى ، أو بينهما فَرْقٌ .
فقال الراغب : « إنهما سِيَّانِ ، فيكون في المصدر لغتان » .
وفرَّق بعضُهم بينهما ، واختلف هؤلاء في الفرق .
فقال بعضُهم : الدَّوْلَة - بالفتح - في الحرب والجاه ، وبالضم : في المال ، وهذا تردُّه القراءتان في سورة الحشر .
وقيل : بالضم اسم الشيء المتداوَل ، وبالفتح نفس المصدر ، وهذا قريب .
وقيل : بالضم هي المصدر ، وبالفتح الفَعْلة الواحدة ، فلذلك يقال : في دَوْلة فلان؛ لأنها مرة في الدهر .
والدَّوْر والدَّوْل متقاربان في المعنى ، ولكن بينهما عموم وخصوص؛ فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيويّ .

والدَّؤلُولُ : الداهية ، والجمع الدآليل والدُّؤلات .
وقرئ شاذًّا : « يُدَاوِلَهَا » - بياء الغيبة - وهو موافق لما قبله ، ولما بعده .
وقرأ العامةُ على الالتفات المفيد للتعظيم .
فصل
ومعنى مداولة الأيام بين الناس أن مسارَّها لا تدوم ، وكذلك مضارُّها ، فيوم يكون السرور لإنسان والغمّ لعدوه ، ويوم آخر بالعكس ، وليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارةً ينصر المؤمنين ، وأخْرَى ينصر الكافرين؛ لأن نَصْر الله مَنْصِب شريف عظيم ، فلا يليق بالكافر ، بل المراد من هذه المداولة : أنه تارة يُشَدَّد المحنة على الكفار ، وتارة على المؤمنين ، وتشديد المحنة على المؤمن أدَبٌ له في الدنيا ، وتشديد المِحْنةِ على الكافر غضب من الله تعالى عليه .
ورُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجَبَل يوم أُحُد ، قال : أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر : هَذَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر ، وهذا أنا عمر ، فقال أبو سفيان : يوم بيوم والأيام دُوَلٌ والحرب سجال ، فقال عمر : لا سواء؛ قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار ، فقال أبو سفيان : إن كان كما تزعمون فقد خِبنا - إذَنْ وخَسِرْنا .
وروى البراء بن عازب قال : جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرُّماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبدَ الله بن جبير ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إن رأيتمونا تَخَطَّفُنَا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرْسِل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرْسِل إليكم ، وكان على يمنة المشركين خالد ابن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ، ومعهم النساء يضربْنَ بالدفوف ، ويقُلْنَ الأشعارَ ، فقاتلوا حتى حميت الحربُ ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً ، فقال : مَنْ يأخذ هذا السيف بحقه ، ويَضْرب به العدو حتى ينحني؟ فأخذه أبو دُجانة سماك بن خَرْشَة الأنصاري ، فلما أخذه اعتَمَّ بعمامة حمراء ، وجعل يتبختر ، - فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : إنَّها لمِشْيَة يبغضُهَا اللهُ ورسولُه إلا فِي هَذَا المَوْضِعِ » فَفلَقَ به هَامَ المشركين ، وحمل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهُ على المشركين ، فهزموهم ، قال : فأنا - والله - رأيتُ النساء يشتدّون - قد بدت خلاخِلُهن وأسْوُقُهن رافعات ثيابهن ، فقال أصحاب عبد الله : الغنيمةَ ، أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم ، فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جُبَيْر : أنسيتم ما قال لكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : والله لنأتِيَنَّ الناسَ فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتَوْهُم صُرِفَتْ وُجوهُهم ، فأقْبَلُوا منهزمين ، فذاك إذْ تدعوهم ، والرسول في أخراهم ، فلم يَبْقَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم غيرُ اثني عَشَرَ رَجُلاً ، فأصابوا مِنَّا سَبْعِينَ ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يومَ بدر أربعين ومائة - سبعين أسيراً ، وسبعين قتيلاً - فقال أبو سفيان ثلاثَ مرات : أفي القوم محمدٌ؟ فنهاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُجيبوه ، فقال : أفي القوم ابن أبي قُحَافَةَ ثلاث مرات؟ أفي القوم عُمَر ثلاث مرات؟ فرجع إلى أصْحَابه ، فقال : أما هؤلاء فقد قُتِلوا ، فما مَلَكَ عمرُ نفسه؛ فقال : كذبتَ - والله - يا عدوّ الله؛ إن الذين عددت لأحياء كلهم ، وقد بقي لك ما يسوؤك ، قال : يوم بيوم بدر ، والحرب سِجَال ، إنكم ستجدون في القوم مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بها ولم تَسُؤنِي ، ثم جعل يزمجر : اعْلُ هُبَلُ ، اعْلُ هُبَلُ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :

« أجِيبُوهُ ، قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال : قُولُوا : اللهُ أعْلَى وأجَلُّ » ، قال : إنَّ لَنَا العُزَّى ولا عُزَّى لَكُمْ ، فقال صلى الله عليه وسلم : « أجِيبُوه ، قالوا ما نقول؟ قال : قُولُوا : اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ » وروي هذا المعنى عن ابن عباس .
قوله : « وليعلم الله » ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلُّق هذه اللام وجهين :
أحدهما : أن اللام صلة لفعل مُضْمَر ، يدل عليه أول الكلم ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا نُدَاوِلها .
الثاني : أن العامل فيها ( نُدَاوِلُهَا ) المذكور ، بتقدير : نداولها بين الناس ليظهر أمرهم ، ولنبين أعمالهم ، وليعلم الله الذين آمنوا ، فلما ظهر معنى اللام المضمر في « ليظهر » ، و « لتتبين » جرت مجرى الظاهرة ، فجاز العطف عليها .
وَجَوَّز أبو البقاء أن تكون الواو زائدة ، وعلى هذا ، فاللام متعلقة ب ( نُدَاوِلُهَا ) من غير تقدير شيء ، ولكن هذا لا حاجة إليه .
ولم يَجْنَحْ إلى زيادة الواو إلا الأخفش في مواضع - ليس هذا منها - ووافقه بعض الكوفيين على ذلك .
وقدَّرَه الزَّمَخْشَرِيُّ : « فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت ، وليعلم » . فقدر عاملاً ، وعلق به علة محذوفة ، عطف عليها هذه العلة .
قال أبو حيان : « ولم يُعَيِّن فاعل العلة المحذوفة ، إنما كَنَّى عنه ب » كيت وكيت « ، ولا يُكَنَّى عن الشيء حتى يُعْرَف ، ففي هذا الوجه حذف العلة ، وحذف عاملها ، وإبهام فاعلها ، فالوجه الأول أظهر؛ إذْ ليس فيه غير حذف العامل » . ويعني بالوجه الأول أنه قَدَّره : وليعلم الله فعلنا ذلك - وهو المداولة ، أو نَيْل الكفار منكم- .
وقال بعضهم : « اللام المتعلقة بفعل مُضْمَر ، إما بعده ، أو قبلَه ، أما الإضمار بعده فبتقدير : وليعلمَ الله الذين آمنوا فعلنا هذه المداولةَ ، وأما الإضمار قبلَه فعلى تقدير : وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور : منها : ليعلم الله الذين آمنوا ، ومنها : ليتخذ منكم شهداء ، ومنها : ليمحص الله الذي آمنوا ، ومنها : ليمحق الكافرين . فكل ذلك كالسبب والعِلَّةِ في تلك المداولة » . والعلم هنا - يجوز أن يتعدَّى لواحد ، قالوا : لأنه بمعنى : عَرَفَ - وهو مشكل؛ لأنه لا يجوز وَصْف الله تعالى بذلك لما تقدم أن المعرفة تستدعي جَهْلاً بالشيء - أو أنَّها متعلقة بالذات دون الأحوال .

ويجوز أن يكون متعدياً لاثنين ، فالثاني محذوف ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم .
والواو في قوله : { وَلِيَعْلَمَ الله } لها نظائر كثيرة في القرآن ، كقوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } [ الأنعام : 75 ] وقوله : { ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 113 ] .
فصل
تقدير الكلام : وتلك الأيام نداولها بين الناس ، ليكون كيت وكيت ، وليعلم الله ، وإنما حُذِف المعطوف عليه ، للإيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة؛ ليُسَلِّيَهم عما جرى ، ليُعَرِّفَهم تلك الواقعة ، وأن شأنهم فيها فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرَّهم .
فإن قيل : ظاهر قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ } مُشْعِر بأنه - تعالى - إنما فعل تلك المداولة ، ليكتسِبَ هذا العلم ، وذلك في حقه تعالى محال ، ونظير هذه الآية - في الإشكال - قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } [ آل عمران : 142 ] وقوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } [ العنكبوت : 3 ] . وقوله : { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } [ الكهف : 12 ] وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين } [ محمد : 31 ] وقوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول } [ البقرة : 143 ] وقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] . ولقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآياتِ على أن الله تعالى لا يعلم حدوثَ الحوادث إلا عند وقوعها ، فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه - تعالى - إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها .
وأجاب المتكلمون عنه بأن الدلائل العقليةَ دلَّتْ على أنه - تعالى - يعلم الحوادث قبل وقوعها فثبت أن التغيير في العِلْم محال ، إلا أن إطلاقَ لفظ العلم على المعلوم ، والقُدْرة على المقدور مجاز مشهور ، يقال : هذا عِلْم فلان - والمراد : معلومه - وهذه قدرة فلان - والمراد : مقدوره ، فكل آية يُشْعر ظاهرها بتجدُّد العلم ، فالمراد : تجدُّد المعلوم .
إذا عُرِفَ هذا فنقول : في هذه الآية وجوه :
أحدها : لِيَظْهَرَ الإخْلاَصُ من النفاق ، والمؤمنُ من الكافر .
وثانيها : ليَعْلَم أولياء الله ، فأضاف العلم إلى نفسه تفخيماً .
وثالثها : ليحكم بالامتياز فوُضِع العلم مكان الحكم بالامتياز؛ لأن الحُكْم لا يحصل إلا بعد العلم .
ورابعها : ليعلم ذلك واقعاً كما كان يعلم أنه سيقع؛ لأنَّ المجازاة تقع على الواقع ، دُونَ المعلوم الذي لم يُوجَد .
قوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } الظاهر ان « مِنْكُمْ » متعلِّق بالاتخاذ ، وجوزوا فيه أن يتعلق بمحذوف ، على أنه حال من « شُهَدَاءَ » ؛ لأنه - في الأصل - صفة له .
فصل
والمرادُ بقوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } أي : شهداء على النَّاس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي ، فإن كونهم شهداء على الناس منصب عالٍ ، ودرجة عالية .

وقيل : المراد منه : ويُكرِم قوماً بالشهادة؛ وذلك : لأن قوماً من المسلمين فاتهم يومُ بدر ، وكانوا يتمنَّوْن لقاء العدو ، وأن يكونن لهم يوم كيوم بدر؛ يقاتلون فيه العدو ، ويلتمسون فيه الشهادة ، و القرآن مملوءٌ من تعظيم حال الشهداء ، فإنه قرتهم مع النبيين في قوله : { وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء } [ الزمر : 69 ] وقوله : { فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين } [ النساء : 69 ] وهذه الآيات تدلُّ على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى .
والشُّهداء : جمع شهيد كالكُرَماء ، والظُّرَفَاء .
فصل
في تسميتهم « شهداء » وجوه :
أحدها : قال النَّضْر بن شميل : الشهداء أحياء ، لقوله تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] فأرواحهم حية ، وقد حضرت دار السلام ، وأرواح غيرهم لا تشهدها .
الثاني : قال ابن الأنباريّ : لأن الله تعالى وملائكته شهدوا لهم بالجنة ، فالشهداء جمع شهيد ، « فعيل » بمعنى : « مفعول » .
الثالث : لأنهم يشهدون يوم القيامة مع النبيِّين والصِّدِّيقين ، فيكونون شهداءَ على الناسِ .
الرابع : سُمُّوا شهداء ، لأنهم لما ماتوا أدْخِلوا الجنة ، بدليل أنَّ الكُفَّار لما ماتوا أدخِلوا النار؛ قال تعالى : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] .
فأما : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } فهذا اعتراض بين بعض التعليل وبعض .
قال ابن عباس : أي : المشركين؛ لقوله تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
قوله : { وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ } التمحيص : التخليص من الشيء .
وقيل : المَحْص كالفَحْص ، لكن الفَحْص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل ، والمَحْص : يقال في إبرازه عما هو متصل به ، يقال : مَحَصْتُ الذهب ، ومحَّصته - إذا أزلْت عنه ما يشوبه من خَبَث ، ومَحَص الثوب : إذا زال عنه زئبره ومَحَصَ الحَبْل - إذا أخلق حتى ذهب عنه زئبره ، ومحص الظَّبْيُ : عدا . ف « محص » - بالتخفيف - يكون قاصراً ومتعدياً ، هكذا روى الزجاج هذه اللفظةَ - الحبل - ورواها النقاش : مَحَص الجمل - إذا ذهب وَبَرُه وامَّلَسَ - والمعنيان واضحان .
وقال الخليل : التمحيص : التخليصُ من الشيء المعيب .
وقيل : هو الابتلاء والاختبار .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1633- رَأيْتُ فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً ... فَكَشَّفَهُ التَّمْحِيصُ حَتَّى بَدَا لِيَا
وروى الواحِديُّ عن المبرد بسند متصل : مَحَصَ الحبلُ يمحص مَحْصاً - إذا ذهب زئبره حتى يتملص ، وحبل محيص ومليص بمعنًى واحدٍ ، قال : ويستحب في الفرس أن تُمَحَّصَ قوائمُه أي : تُخَلَّص من الرَّهَل .
[ وأنشد ابن الأنباريّ على ذلك ] - يصف فرساً- : [ البسيط ]
1634- صُمُّ النُّسُورِ ، صِحَاحٌ ، غَيْرُ عَاثِرَةٍ ... رُكِّبْنَ فِي مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ
أي : في قوائم متجرِّدات من اللحم ، ليس فيها إلا العظم والجلد .
قال المبرد : ومعنى قول الناس مَحِّصْ عنا ذُنوبَنَا : أذهِب عنا ما تعلَّق من الذنوب .
قال الواحديُّ : « وهذا - الذي قاله المبردُ - تأويل المحَص - بفتح الحاء - وهو واقع ، والمَحْص - بسكون الحاء - » مصنوع « - وقال الخليل : يقال : مَحَصْت الشيء أمحصه مَحْصاً - إذا أخلصته من كل عيب » .

وفي جعله محْصاً - بتسكين الحاء - مصنوعاً نظر؛ لأن أهل اللغة نقلوه ساكنها ، وهو قياس مصدر الثلاثي . ومَحَصْت السيف والسنان : جَلَوتُهما حتى ذهب صدأهما .
قال أسامة الهذليّ : [ الطويل ]
1635- وَشَقُّوا بِمَمْحُوصِ السِّفَانِ فُؤادَهُ ... لَهُمْ قُتُرَاتٌ قَدْ بُنِيْنَ مَحَاتِد
أي : بمجلُوٍّ ، ومنه استُعِير ذلك في وَصْف الحبل بالملاسة والبريق .
قال العجاج : [ الرجز ]
1636- شَدِيدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ الشَّوَى ... كَالْكَرِّ ، لا شَخْتٌ وَلاَ فِيهِ لَوَى
والشوى : الظهر ، قَصَره ضرورةً ، سُمِع : فعلتُه حتى انقطع شَوَاي ، أي : ظَهْري . والمحق - في اللغة - النقصان .
وقال المفضَّل : هو أن يذهب الشيءُ كلُّه ، حتَّى لا يُرَى منه شيء ، ومنه قوله تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } [ البقرة : 276 ] أي : يستأصله ، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة .
قال الزجاج : معنى الآية : أن الله تعالى جعل الأيام مداولةً بين المسلمين والكافرين ، فإن حصلت الغلبة للكافرين كان المراد : تمحيص ذنوب المؤمنين - أي : تطهيرها - وإن كانت الغلبة للمؤمنين كان المراد : مَحْق آثار الكافرين ، ومَحْوَهم ، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين؛ لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير مَحْق أولئك بإهلاك نفوسهم ، وهذه مقابلة لطيفة ، والأقرب أن المراد بالكافرين - هنا - طائفة مخصوصة منهم - وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد ، لأن الله تعالى لم يَمْحَق كل الكافرين ، بل بَقِي كثير منهم على كُفره .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

لما بيَّن في الآية الأولى الأسباب الموجبة في مداولة الأيام ، ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصليّ لذلك ، فقال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } بدون تحمُّل المشاق؟
وفي « أم » - هذه - أوجه :
أظهرها : أنها منقطعة ، مقدَّرة ب « بل » ، وهمزة الاستفهام ويكون معناه الإنكار عليهم .
وقيل : « أمْ » بمعنى الهمزة وحدها ، ومعناه كما تقدم التوبيخ والإنكار .
وقيل : هذا الاستفهام معناه النهي .
قال أبو مسلم : « إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت ، وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ، ولم يقع منكم الجهاد ، وهو كقوله : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] وافتتح الكلام بذكر » أم « التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما ، لا يعينه ، يقولون : أزيد ضربت أم عمراً؟ مع تيقُّن وقوع الضرب بأحدهما ، قال : وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً ، فلما قال : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } [ آل عمران : 139 ] كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تُؤمَرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدةٍ وَصَبْر؟ » .
وقيل : هي متصلة .
قال ابنُ بَحْر : « هي عديلة همزة تقدر من معنى ما تقدم ، وذلك أن قوله : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } [ آل عمران : 140 ] و { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } [ آل عمران : 140 ] إلى آخر القصة يقتضي أن نتبع ذلك أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمُّل مشقة ، وأن تجاهدوا ، فيعلم الله ذلك منكم واقعاً » .
و « أحسب » - هنا - على بابها من ترجيح أحد الطرفين ، و { أَن تَدْخُلُواْ } ساد مسد المفعولين - على رأي سيبويه - ومسد الأول ، والثاني : محذوف - على رأي الأخفش .
قوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله } جملة حالية .
قال الزَّمَخْشَرِي : « و » لما « بمعنى » لم « ، إلا أنَّ فيه ضرباً من التوقُّع ، فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقُّعه فيما يستقبل ، وتقول : وعدتني أن تفعل كذا ولمَّا ، تريد : ولم تفعل ، وأنا أتوقَّع فِعْلَه » .
قال أبو حيان : « وهذا الذي قاله في » لما « - من أنها تدل على توقُّع الفعل المنفي بها فيما يستقبل - لا أعلم أحداً من النحويين ذكره ، بل ذكروا أنك إذا قلت : لما يخرج زيد ، دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى ، متصلاً نفيه إلى وقت الاخبار ، أما أنها تدل على توقُّعه في المستقبل فلا ، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يُقارب ما قاله الزمخشري ، قال : » لما « لتعريض الوجود بخلاف » لم « .

قال شِهَابُ الدين : والنحاة إنما فرَّقوا بينهما من جهة أن المنفي ب « لَمْ » هو فعل غير مقرون ب « قد » ، والمنفي ب « لما » فعل مقرون بها ، و « قد » تدل على التوقُّع ، فيكون كلام الزمخشري صحيحاً من هذه الجهة ، ويدل على ما قلته - من كون « لم » لنفي فعل فلان ، و « لما » لنفي قد فعل - نصُّ سيبويه فمن دونه .
قال الزجاج إذا قيل فعل فلان ، فجوابه : لم يفعل ، وإذا قيل : قد فعل فلان ، فجوابه لما يفعل؛ لأنه لما أُكِّد في جانب الثبوت ب « قد » لا جرم أنه أكد في جانب النفي بكلمة « لما » ، وقد تقدم نظير هذه الآية في « البقرة » وظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم ، والمراد : وقوعه على نفي المعلوم ، والتقدير : أم حسبتم أن تدخلوا الجنةَ ، ولمَّا يصدر الجهادُ عنكم؟
وتقريره : أن العلم متعلق بالمعلوم ، كما هو عليه ، فلما حَصَلَتْ هذه المطابقة - لا جرم - حَسُن إقامة كلِّ واحدٍ منهما مقامَ الآخر .
فصل
قال القرطبيّ : والمعنى : أحسبتم يا من انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة ، كما دخل الذين قُتِلوا ، وصبروا على ألم الجراح والقتل ، من غير أن تسلكوا طريقهم ، وتصبروا صَبْرَهم؟ لا؛ حتَّى يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، أي : علم شهادة ، حتى يقع عليه الجزاء ، والمعنى : ولم تجاهدوا ، فيعلم ذلك منكم ، ف « لما » بمعنى : « لم » .
قوله : « مِنْكُمْ » حال من « الَّذِينَ » .
وقرأ العامة { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله } بكسر الميم- على أصل التقاء الساكنين .
وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها ، وفيها وجهان :
الأول : أن الفتحة فتحة إتباع الميم ل « اللام » قبلها .
الثاني : أنه على إرادة النون الخفيفة ، والأًصل : ولما يعلمن ، والمنفي ب « لما » قد جاء مؤكداً بها ، كقول الشاعر : [ الرجز ]
1637- يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا ... شَيْخاً عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا
فلما حذفت النون بقي آخر الفعل مفتوحاً ، كقول الشاعر : [ الخفيف ]
1638- لا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أن تَرْ ... كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ
وعليه تُخَرَّج قراءةُ : { أَلَم نَشْرَحَ } [ الشرح : 1 ] - بفتح الحاء- .
وقول الآخر : [ الرجز ]
1639- مِنْ أيِّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أفْر ... مِنْ يَوْمِ لَمْ يُقْدَرَ أوْ يَوْم قُدِرْ
قوله : « ويَعْلَمَ » العامة على فتح الميم ، وفيها تخريجان :
أحدهما : وهو الأشهر - أن الفعل منصوب ، ثم هل نصبه ب « أن » مقدَّرة بعد الواو المقتضية للجمع كهي في قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، أي : لا تجمع بينهما - وهو مذهب البصريين - أو بواو الصرف - وهو مذهب الكوفيين - يعنون أنه كان من حق الفعل أن يُعْرَب بإعراب ما قبله ، فلما جاءت الواو صرفته إلى وجهٍ آخرَ من الإعراب .

الثاني : أن الفتحةَ فتحةُ التقاء الساكنين ، والفعل مجزوم ، فلما وقع بعده ساكنٌ آخر ، احتيج إلى تحريك آخرهِ ، فكانت الفتحة أوْلَى؛ لأنها أخف ، وللإتباع لحركة اللام ، كما قيل ذلك في أحد التخريجين في قراءة « وَلَمَّا يَعْلَمَ اللهُ » بفتح الميم - والأول هو الوجه .
وقرأ الحسنُ وأبو حيوةَ وابنُ يَعْمُرَ : بكسر الميم؛ عطفاً على « يَعْلَم » المجزوم ب « لَمَّا » .
وقرأ عَبْدُ الوَارِثِ - عن أبي عَمْرو بْنِ العَلاَءِ - « وَيعْلَمُ » بالرفع ، وفيها وجهان :
أظهرهما : أنه مستأنف ، أخبر - تعالى - بذلك .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : « على أن الواو للحال ، كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون » .
قال أبُو حَيَّانَ : « ولا يصح ما قال؛ لأن واو الحال لا تدخل على المضارع ، لا يجوز : جاء زيد ويضحك - تريد : جاء زيد يضحك ، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل ، فكما لا يجوز : جاء زيد وضاحكاً ، كذلك لا يجوز : جاء زيد ويضحك فإن أولَ على أن المضارع خبر لمبتدأ محذوف ، أمكن ذلك ، التقدير : وهو يعلم الصابرين .
كما أولوا قول الشاعر : [ المتقارب ]
1640- ... نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكا
أي : وأنا أرهنهم » .
قال شهابُ الدين : « قوله : لا تدخل على المضارع ، هذا ليس على إطلاقه ، بل ينبغي أن يقول : على المضارع المثبت ، أو المنفي ب » لا « ؛ لأنها تدخل على المضارع المنفي ب » لم ولمَّا « . وقد عُرِف ذلك مراراً » .
ومعنى الآية : أن دخول الجنة ، وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } قرأ البزي : بتشديد تاء « تَمَنَّوْنَ » ، ولا يمكن ذلك إلا في الوصل ، وقاعدته : أنه يصل ميم الجمع بواو ، وقد تقدم تحرير هذا عند قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [ البقرة : 267 ] .
قوله : « مِن قَبْلِ » الجمهور على كسر اللام؛ لأنها مُعْربة؛ لإضافتها إلى « أنْ » وصلتها .
وقرأ مجاهد وابنُ جبير : { مِنْ قَبْلُ } بضم اللام ، وقطعها عن الإضافة ، كقوله تعالى : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4 ] وعلى هذا فَ « أنْ » وَصِلَتُها بدل اشتمال من « الْمَوْتَ » في محل نصب ، أي : تَمَنَّوْنَ لقاء الموت ، كقولك : رَهِبْتُ العَجُوَّ لقاءَه ، والضمير في « تَلْقَوْهُ » فيه وجهان :
أظهرهما : عوده على « الْمَوْتَ » .
والثاني : عوده على العدو ، وإن لم يجر له ذِكْر - لدلالة الحال عليه .
وقرأ الزُّهَرِيُّ ، والنخعيّ « تُلاَقُوه » ، ومعناه معنى « تَلْقَوْه » ؛ لأن « لقي » يستدعي أن يكون بين اثنين - بمادته - وإن لم يكن على المفاعلة .

قوله : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } الظاهر أن الرؤية بصرية ، فيكتفى بمفعول واحد .
وجوَّزوا أن تكون علمية ، فتحتاج إلى مفعولٍ ثانٍ ، هو محذوف ، أي : فقد علمتموه حاضراً - أي : الموت- .
إلا أن حَذْف أحد المفعولين في باب « ظن » ليس بالسَّهْل ، حتى إن بعضهم يَخُصُّه بالضرورة ، كقول عنترة : [ الكامل ]
1641- وَلَقَدْ نَزَلْتِ ، فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ
أي : فلا تظني غيره واقعاً مني .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } يجوز أن تكون جملة حالية - وهي حال مؤكِّدة - رفعت ما تحتمله الرؤية من المجاز ، أو الاشتراك بينها وبين رؤية القلب ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، بمعنى : وأنتم تنظرون في فعلكم - الآن - بعد انقضاء الحرب ، هل وَفَّيْتُمْ ، أو خالفتم؟
وقال ابنُ الأنْبَارِي : « رَأيْتُمُوهُ » ، أي : قابلتموه { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } بعيونكم ، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حيث اختلف معناهما؛ لأن الأول بمعنى : المقابلة والمواجهة ، والثاني بمعنى : رؤية العين .
وهذا - أعني : إطلاق الرؤية على المقابلة والمواجهة - غير معروف عند أهل اللسان ، وعلى تقدير صحته ، فتكون الجملة من قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملة حالية مبيِّنة - لا مؤكِّدة - لأنها أفادت معنًى زائداً على معنى عاملها .
ويجوز أن يقدَّر لِ « تَنْظُرُونَ » مفعولاً ، ويجوز أن لا يُقَدَّر؛ إذ المعنى : وأنتم من أهل النظر .
فصل
قال المفسرون : إنَّ قوماً من المسلمين تَمَنَّوا يوماً كيوم بدر؛ ليقاتلوا ، وليستشهدوا ، فأراهم الله يومَ أُحُد .
وقوله : { تَمَنَّوْنَ الموت } أي : سبب الموت - وهو الجهاد - { مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } يعني : أسبابه ، وذكر النظر بعد الرؤية؛ تأكيداً - كما قدمناه- .
وقيل : لأن الرؤية قد تكون بمعنى : العلم ، فقال : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } ليعلم أن المراد بالرؤية : هي البصرية .
وقيل : وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم .

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)

« ما » نافية ، ولا عمل لها هنا مطلقاً - أعني : على لغة الحجازيين والتميميِّين؛ لأن التميميين لا يعملونها - ألبتة - والحجازيين يُعْملونها بشروط ، منها : ألا يَنْتَقضَ النفي ب « إلا » إذْ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله - وهو شبهها ب « ليس » في نفي الحال - فيكون « مُحَمَّدٌ » مبتدأ ، و « رَسُولٌ » خبر .
هذا - [ أعني : إهمالها إذا نُقِضَ نفيُها ] - مذهب الجمهور ، وقد أجاز يونس إعمالها مُنْتَقَضَةَ النَّفْيِ ب « إلا » .
وأنشد : [ الطويل ]
1642- وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بِأهْلِهِ ... وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلاَّ مُعَذَّبا
فنصب « منجنوناً » ، و « مُعَذَّباً » على خبر « ما » - وهما بعد « إلا » - .
ومثله قول الآخر : [ الوافر ]
1643- وَمَا حَقُّ الَّذِي يَعْثُو نَهَاراً ... وَيَسْرِقُ لَيْلَهُ إلاَّ نَكَالا
ف « حق » اسم « ما » و « نكالا » خبرها .
وتأول الجمهورُ هذه الشواهدَ على أنَّ الخبر محذوف ، وهذا المنصوب مَعْمُولٌ لذلك الخبر المحذوفِ ، والتقدير : وما الدَّهر إلا يدور دورانَ منجنونٍ ، فحُذف الفعلُ الناصبُ لِ « دَوَرَانَ » ثم حُذِفَ المضافُ ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعراب ، وكذا : « إلا مُعَذَّباً » تقديره : يُعَذَّبُ تعذيباً ، فحُذِف الفعلُ ، وأقيم « معذَّباً » مقام « تَعْذِيب » ، كقوله تعالى : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] أي : كل تمزيق . وكذا : « إلا نَكَالاً » ، وفيه من التكلُّف ما ترى .
و « مُحَمَّدٌ » هو المستغرق لجميع المحامد؛ لأن الحَمْد لا يستوجبه إلا الكامل ، و التحميد فوق الحمد ، فلا يستحقه إلا المُسْتَوْلي على الأمَد في الكمال . وأكرم الله نبيه باسمين مشتقَّيْن من اسمه - جل جلاله - وهما محمد وأحمد .
قال أهل اللغة : كل جامع لصفات الخير يُسَمَّى « محمدا » .
قوله : { قَدْ خَلَتْ } في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها في محل رفع؛ صفة لِ « رَسُولٌ » .
الثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمي رالمستكن في « رَسُولٌ » ، وفيه نظر؛ لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد ، فلا تتحمل ضميراً .
قوله : « من قبله » فيه وجهان - أيضاً - :
أظهرهما : أنه معلق ب « خلت » .
والثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ؛ حال من « الرُّسُلُ » مقدَّماً عليها ، وهي - حينئذ - حال مؤكِّدة؛ لأن ذِكْرَ الخُلُوِّ مُشْعِرٌ بالقَبْلِيَّة .
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ « رُسُلٌ » - بالتنكير - .
قال ابُو الفَتْحِ : ووجها أنَّه موضع تيسير لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك ، وكذلك يفعل في أماكن الاقتصاد ، كقوله :

{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] .
وقوله : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] .
وقال أبُو البَقَاءِ : « وهو قريب من معنى » المعرفة . كأنه يريد أن المراد بالرسل « الجنس » ، فالنكرة قريب منه بهذه الحيثية « .
وقراءة الجمهور أولى؛ لأنها تدل على تفخيم الرسل وتعظيمهم .
قال أبو علي : والرسول جاء على ضربين :
أحدهما : أن يراد به المرسل .
والآخر : الرسالة ، وهاهنا المراد منه » المُرْسَل « ، كقوله تعالى : { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } [ يس : 3 ] وقوله : { ياأيها الرسول بَلِّغْ } [ المائدة : 67 ] و » فعول « قد يراد به : المفعول ، كالرَّكُوب والحَلُوب لما يُرْكَب ويُحْلَب ، والرسول بمعنى الرسالة .
كقوله : [ الطويل ]
1644- لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ ما بُحتُ عِنْدَهُم ... بِسِرٍّ ، ولا أرْسَلتُهُمْ بِرَسُولِ
فصل
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأصْحَابُ المَغَازِي : لما رأى خالد بن الوليد الرُّمَاةَ يوم أحد قد اشتغلوا بالغنيمة ، ورأى ظهورَهم خاليةً ، صاح في خَيْله من المُشْرِكِين ، ثم حمل على أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم من خلفهم- ، فهزموهم ، وقتلوهم ، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحَجَر ، فكسر أنفه ورباعيته ، وشُجَّ في وجهه ، فأثقله ، وتفرق عنه أصحابُه؛ ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صَخْرَةٍ ليعلوها - وكان قد ظاهر بَيْن دِرْعَيْن - فلم يستطع ، فجلس تحته طلحة ، فنهض حتى استوى عليها فقال صلى الله عليه وسلم أوْجَبَ طَلْحَةُ ، ووقعت هند والنسوةُ معها يُمَثِّلْنَ بالقَتْلَى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف ، حتى اتخذت هند قلائدَ من ذلك ، وأعطتها وَحْشِيًّا ، ونقرت عن كبد حمزة ، فلاكتها ، فلم تَستسغها ، فلفظَتْها ، وأقبل عبدُ الله بن قمئة يريد قَتْلَ النبي صلى الله عليه وسلم فذَبَّ مصعب بن عمير وهو صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، فقتله ابنُ قَمِئة ، وهو يرى أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلم فرجع ، وقال : إني قتلتُ محمداً ، وصاح صارخ : ألا إن محمداً قد قُتِل - قيل : إن ذلك الصارخ كان إبليس - وانكف الناسُ ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناسَ : إليَّ عباد الله ، إليَّ عباد الله ، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً ، فحَمَوْه حتى كسفوا عنه المشركين ، ورمى سعدُ بن أبي وقاص حتى اندقت سِيَةُ قوسه ، ومثل له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كنانته فقال : ارْمِ فداكَ أبي وأمي ، وكان أبو طلحةَ رجلاً رامياً ، شديد النزع ، كسر يومَ أُحُد قوسين أو ثلاثة ، فكان الرجل يمر معه بجَعْبَةٍ من النَّبْلِ ، فيقول : انثرها لأبي طلحة ، وكان إذ رمى يُشْرِفُ النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نَبْلِهِ ، وأَصيبت يَدُ طلحةَ بن عبيد الله فيبست ، وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصِيبتْ عَيْنُ قتادةَ بن النعمان يومئذ ، حتى وقعت على وجنته ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانَها ، فعادت كأحسن ما كانت ، فلما انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أدْرَكَهُ أبَيّ بن خلف الجُمَحِيّ ، وهو يقول : لا نجوتُ إن نَجَا ، فقال القوم : يا رسولَ الله ، ألا يعطف عليه رجل منا؟ فقال : صلى الله عليه وسلم : دَعُوه ، حتى إذا دنا منه - وكان أبَيّ كُلَّما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبْل ذلك ، قال له : عندي دمكة أعلفها كل يوم فَرَق ذُرة؛ أقتلك عليها ، فقال صلى الله عليه وسلم : بَلْ أنا أقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللهُ ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم الحَرْبَة من الحارث بن الصِّمَّة ، ثم استقبله فطعنه في عنقه ، وخدشه خدشة ، فتدأدأ عن فرسه - وهو يخور كما يخور الثور - وهو يقول : قتلني محمد ، وحمله أصحابه ، وقالوا : ليس بك من بأس ، فقال : أليس قال لي : أقتلك؟ فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له : سرف .

قال ابن عباس : اشتد غضب الله على مَنْ قتل نبيه ، واشتد غضب الله على من رمى وَجْهَ رسول الله قال : وفشا في الناس أن محمداً قد قُتِل فقال بعضُ المسلمين : يا ليت لنا رسولاً غلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم .
وقال أناس من أهل النفاق : إن كان محمدٌ قد قُتِل فالحقوا بدينكم الأول ، فقال أنَس بن النضر - عم أنس بن مالك : يا قوم ، إن كان محمد قد قُتِل فإن ربَّ محمد لم يُقْتَل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ، قوموا ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء - يعني : المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني : المنافقين - ثم شد بسيفه ، فقاتل حتى قُتِلَ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس ، فأوَّل من عرف رسول الله كعب بن مالك ، وقال : عرفت عينيه تحت المِغْفر تزهران ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين ، أبشروا؛ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليَّ أن أسْكُتَ ، فانْحَازَتْ إليه طائفة من أصحابه ، فلامهم النَّبيُّ على الفرار . فقالوا : يا رسولَ الله - فديناك بآبائِنَا وأمهاتنا - أتانا الخبر بأنك قُتِلْتَ فَرَعَبتْ قلوبنا ، فولَّينَا مُدْبِرِين ، فأنزل الله قوله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } .
قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ } الهمزة لاستفهام الإنكار ، والفاء للعطف ، ورتبتها التقديم؛ لأنها حرف عطف ، وإنما قُدِّمت الهمزة؛ لأن لها صَدر الكلام ، وقد تقدم تحقيقه وأن الزمخشري يقدِّر بينهما فعلاً محذوفاً تعطف الفاء عليه ما بعدها .
قال ابن الخطيب كَمَالُ الدِّينِ الزَّمَلْكَانِيُّ : « الأوجه : أن يقدر محذوف بعد الهمزة ، وقبل الفاء ، تكون الفاء عاطفة عليه ، ولو صُرِّحَ به لقيل : أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم ، فتخالفوا سُنَنَ أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على مِلَلِ أنبيائهم بعد وفاتهم .

وهذا هو مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ ، إلا أنَّ الزمخشريَّ - هنا - عبر بعبارة لا تقتضي مذهبه الذي هو حذف جملة بعد الهمزة؛ فإنه قال : الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قَبْلَها على معنى « التسبيب » ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه - بموتٍ أو قَتْل - مع علمهم أن خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله ، وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسُّك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلاب عنه « .
فظاهر هذا الكلام أن الفاء عطفت هذه الجملة المشتملة على الإنكار على ما قبلها من قوله : { قَدْ خَلَتْ } من غير تقدير جملة أخرى .
وقال أبو البقاء قريباً من هذا؛ فإنه قال : » الهمزة عند سيبويه في موضعها ، والفاء تدل على تعلُّق الشرطِ بما قبله « .
لا يقال : إنه جعل الهمزة في موضعها ، فيوهم هذا أن الفاء ليست مقدمة عليها؛ لأنه جعل هذا مقابلاً لمذهب يونس؛ فإن يونس يزعم أن هذه الهمزة - في مثل هذا التركيب - داخلة على جواب الشرط ، فهي في مذهبه في غير موضعها وسيأتي تحريره .
و » إن « شرطية ، و » مَاتَ « و » انْقَلَبْتُمْ « شرط وجزاء ، ودخول الهمزة على أداة الشرط لا يُغَيِّر سبباً من حكمها .
وزعم يونس أن الفعل الثاني - الذي هو جزاء الشرط - ليس هو جزاء للشرط ، وإنما هو المستفْهَم عنه ، وأن الهمزة داخلة عليه تقديراً ، فينوى به التقرير ، وحينئذ لا يكون جواباً ، بل الجواب محذوف ، ولا بد - إذ ذاك - من أن يكون فعل الشرط ماضياً ، إذْ لا يُحْذَف الجواب إلا والشرط ماضٍ ، ولا اعتبار بالشعر؛ فإنه ضرورة ، فلا يجوز عنده أن تقول : إن تكرمني أكرمك ولا يجزنهما ، ولا بجزم الأول ورفع الثاني ، لأن الشرط مضارع . ولا أإن أكرمتني أكرمك - بجزم أكرمك؛ لأنه ليس الجواب ، بل دال عليه ، والنية به التقديم ، فإن رفعت » أكرمك « وقلت : أإن أكرمتني أكرمك ، صح عنده .
فالتقدير عند يونس : أانقلبتم على أعقابكم إن مات محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته ، وبقول يونس قال كثير من المفسِّرين؛ فإنهم يقولون : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها؛ لأن الغرض إنما هو أتنقلبون إن مات محمد؟
وقال أبو البقاء : » وقال يونس : الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط ، تقديره : أتنقلبون إن مات؟ لأن الغرض التنبيه ، أو التنبيخ على هذا الفعل المشروط « .

ومذهب سيبويه الحقُّ؛ لوجهَيْن :
أحدهما : أنك لو قدمتَ الدجواب ، لم يكن للفاء وجه؛ إذ لا يصح أن تقول : أتزوروني فإن زرتك . ومنه قوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] .
والثاني : أنَّ الهمزة لها صدر الكلام ، و « إنْ » لها صدر الكلام ، وقد وقعا في موضعهما ، والممعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجوابِ؛ لأنهما كالشيء الواحد .
وقد رد النحويون على يونس بقوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } ، فإنَّ الفاء في قوله : « فَهُمْ » تعين أن يكون جواباً للشرط ، وأتى - هنا - ب « إن » التي تقتضي الشك ، والموت أمر محقق ، إلاَّ أنه أورده مورد المشكوك فيه؛ للتردد بين الموت والقتل .
فإن قيل : إنه - تعالى - بَيَّن في آيات كثيرة أنه صلى الله عليه وسلم لا يُقْتَل ، قال : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] وقال : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] وقال : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] ، وإذا عُلِم أنه لا يقتل ، فلِمَ قال : ( أو قتل ) ؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن صدق القضية الشرطية لا تقتضي صدق جُزْأيها؛ فإنك تقول : إن كانت الخمسة زوجاص كانت مقسمة بمتساويين ، فالشرطية صادقة ، وجزآها كاذبان ، وقال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] فهذا حَقٌّ ، مع أنه ليس فيهما آلهة ، وليس فيهما فساد .
الثاني : أن هذا ورد على سبيل الإلزام؛ فإن موسى - عليه السلام - مات ولم ترجع أمتُه عن دينه ، والنصارى زعموا أن عيسى قُتِل ، ولم يرجعوا عن دينه ، فكذا هنا .
وثالثها : أن الموت لا يُوجب رجوع الأمة عن دينه ، فكذا القتل وجب ألا يوجب الرجوع عن دينه ، لأنه لا فارق بين الأمرين ، فلما رجع إلى هذا المعنى ، كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين ، وهَمُّوا بالارتداد .
فإن قيل : قوله : { { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } شكٌّ ، وهو - على الله تعالى - محال .
فالجواب : أن المراد : أنه سَوَاءً وقع هذا أو ذاك ، فلا تأثير له في ضَعْف الدين ووجوب الارتداد .
فصل
قوله : { انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } أي : صرتم كُفاراً بعد إيمانكم ، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه : رجع وراءه ، فانقلب على عقبه ، ونكص على عقبيه ، وذلك أن المنافقين قالوا لضَعَفَةِ المسلمين : إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل ، فإن رَبَّ محمد لم يُقْتَل ، فقاتِلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم .
فقد بيَّن - تعالى - أن قتله لا يوجب ضعفاً في دينه بدليلين :
أحدهما : القياس على موت سائر الأنبياء .
والثاني : أن الحَاجَةَ إلى الرسول إنما هي لتبليغ الدين ، وبعد ذلك لا حَاجَة إليه ، فلم يلزم من قَتْلِه فَسَادُ الدين .

قوله : { على أَعْقَابِكُمْ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلق ب « انْقَلَبْتُمْ » .
والثاني : أنه حال من فاعل « انْقَلَبْتُمْ » ، كأنه قيل : انقلبتم راجعين .
قوله : { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } .
قرأ ابنُ أبي إسحاق « على عقبه » - بالإفراد ، و « شَيْئاً » نصب على المصدر أي : شيئاً من الضرر ، لا قليلاً ولا كثيراً . والمراد منه : تأكيد الوعيد ، وأن المنقلب بارتداده لا يضر الله شيئاً ، وإنما يضر نفسه .
ثم قال : { وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } والمعنى : أن تلك الهزيمة لما أوقعَتْ شُبْهَةً في قلوب بعضهم ، ولم تقع في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين ، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به فمدحهم الله تعالى .
رَوَى ابنُ جرير الطَّبَرِيُّ عن علي - رضي الله عنه - أنه قال المراد بقوله تعالى : { وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } : أبو بكر وأصحابه . وروى عنه أيضاً أنه قال : أبو بكر أمين الشاكرين ، وأمين الله تعالى .

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

{ أَنْ تَمُوتَ } في محل رفع؛ اسماً ل « كان » ، و « لِنَفْسٍ » خبر مقدَّم فيتعلق بمحذوف ، و { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } حال من الضمير في « تَمُوتَ » ، فيتعلق بمحذوف ، وهو استثناء مفرَّغ ، والتقدير : وما كان لها أن تموتَ إلا مأذوناً لها ، والباء للمصاحبة .
وقال أبُو البَقَاءِ : { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } الخبر ، واللام للتبيين ، متعلِّقة ب « كان » .
وقيل : هي متعلقة بمحذوف ، تقديره : الموت لنفس ، و « أنْ تَمُوتَ » تبيين للمحذوف ، ولا يجوز أن تتعلق اللام ب « تَمُوتَ » لما فيه من تقديم الصلة على الموصول .
وقال بعضهم : إن « كَانَ » زائدة ، فيكون « أن تموت » مبتدأ ، و « لنفس » خبره .
وقال الزجاج : اللام منقولة ، تقديره وما كانت نفس لتموتَ ثم قدمت اللام ، فجعل ما كان اسماً ل « كان » - وهو ( أن تَموتَ ) - خبراً لها ، وما كان خبراً - وهو « لِنَفْسٍ » - اسماً لها ، فهذه خمسة أقوال ، أظهرها : الأول .
أما قول أبي البقاء : واللام للتبيين ، فتتعلق بمحذوف ، ففيه نظر من وجهين :
أحدهما : أنَّ « كان » الناقصة لا تعمل في غير اسمها وخبرها ، ولئن سُلِّم ذلك ، فاللام التي للتبيين إنما تتعلق بمحذوف ، وقد نَصُّوا على ذلك في نحو : سَقْياً لك .
وقيل : إن فيه حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز .
أما مَنْ جعل « لِنَفْسٍ » متعلقة بمحذوف - تقديره : الموت لنفس ، ففاسدٌ ، لأنه ادَّعَى حذف شيء لا يجوز؛ لأنه إن جعل « كَانَ » تامة ، أو ناقصة ، امتنع حذفُ مرفوعها ، لأن الفاعل لا يُحْذَف . وكذلك قول مَنْ جعل « كان » زائدة .
أما على قول الزجاج فإنه تفسير معنًى ، لا تفسير إعراب .
فصل
في تعلُّق هذه الآية بما قبلَها وجوه :
أحدها : أن المنافقين حين قالوا : إن محمداً قُتِل ، فقال تعالى : لا تموت نفس إلا بإذن الله ، فقتله - أيضاً - مثل موته لا يحصل إلا في الوقت المقدَّر له ، فكما أن موته في داره لا يدل على فساد دينه ، كذلك إذا قُتِل لا يؤثر ذلك في فساد دينه .
والمقصود منه إبطال قول المنافقين لضَعَفَةِ المسلمين : إن كان محمدٌ قُتِل فارجعوا إلى دينكم الأول .
والثاني : أن المراد : تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذرَ لا يدفَع القدر ، وأن أحداً لا يموت قبل الأجل ، وإذا جاء الأجل لا يندفع ، فلا فائدة في الجُبْن والخوف .
والثالث : أن المراد حِفْظ الله للرسول صلى الله عليه وسلم من تلك الواقعة المخوفة؛ فإنه لم يَبْقَ سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل ، ولكن لما كان الله حافِظَه وناصِرَه ما ضَرَّه شيءٌ من ذلك ، وفيه تنبيه على أن الصحابة قصَّروا في الذَّبِّ عنه .

ورابعها : أن المقصود منه الجواب عن كلام المنافقين للصحابة ، حين رجعوا وقد قتل منهم من قتل { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [ آل عمران : 156 ] فأخبر - تعالى - أنَّ الموت والقتل لا يكونان إلا بإذن الله .
قوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 145 ] ، فليس في إرجاف من أرجف بموت النبي صلى الله عليه وسلم ما يحقق ذلك فيه ، أو يعين في تقوية الكُفْر ، بل يُبْقيه الله إلى أن يَظْهَرَ على الدِّين كله .
فصل
قال القُرْطُبِي : « هذا حضٌّ على الجهاد ، وإعلام بأن الموت ، لا بد منه لكل إنسان وأن كل إنسان - مقتولاً كان أو غيرَ مقتول - مَيِّت إذا بلغ أجله المتكوبَ له؛ لأن معنى { مُّؤَجَّلاً } إلى أجل ، ومعنى { بِإِذْنِ الله } : بقضاء الله وقدره » . واختلفوا في الإذن .
قال أبو مسلم : هو الأمر ، أي أن الله - تعالى - يأمر ملك الموت بقبض الأرواح .
وقيل : المراد منه : التكوين والإيجاد ، لأنه لا يقدر على الإماتة و الإحياء إلا الله تعالى .
وقيل : الإذن : هو التخلية والإطلاق ، وتَرْك المنع بالقهر والإجبار ، كقوله تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 102 ] أي : بتخليته بينه وبين قاتله .
وقيل : الإذن بمعنى : العلم ، والمعنى : أن نفساً لن تموتَ إلاَّ في الوقت الذي علم الله - تعالى - موتها فيه .
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ : الإذن : هو قَضَاءُ الله وقدره؛ فإنه لا يحدث شيء إلاَّ بمشيئته وإرادته - سبحانه وتعالى- .
قوله : { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } في نصبه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مصدر مؤكِّد لمضمون الجملة التي قبله ، فعامله مُضْمَر ، تقديره : كتب الله ذلك كتاباً ، نحو قوله تعالى : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] وقوله : { وَعَدَ الله } [ الروم : 6 ] ، وقوله : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] .
الثاني : أنه منصوب على التمييز ، ذكره ابنُ عطية ، وهذا غير مستقيم؛ لأن التمييز منقول وغير منقول ، وأقسامه محصورة ، وليس هذا شيئاً منها ، وأيضاً فأين الذات المُبْهَمة التي تحتاج إلى تفسير؟
والثالث : أنه منصوب على الإغراء ، والتقدير : الزموا كتاباً مؤجَّلاً ، وآمنوا بالقدر ، وليس المعنى على ذلك .
وقرأ ورش : « مُوجَّلاً » بالواو بدل الهمزة ، وهو قياس تخفيفها .
فصل
الكتاب المؤجَّل هو الكتاب المشتمل على الآجال ، ويقال : إنه اللوح المحفوظ ، أي : كتب لكل نفس أجلاً لا يقدر أحدٌ على تقديمه وتأخيره ، جاء في الحديث أنه تعالى قال للقلم : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة .
فصل
قال القاضِي : أما الأجل والرزق ، فهما مضافان إلى الله تعالى ، وأمَّا الكُفْرُ والفِسْقُ والإيمان والطاعة ، فكل ذلك مضاف إلى العبد ، فإذا كتب الله ذلك ، فإنما يكتب ما يعلمه من اختيار العبد وذلك لا يُخْرج العبد عن الاختيار .

وجوابه : أنه إذا علم الله من العبد الكفر ، وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر ، فلو أتَى بالإيمان كان ذلك جمعاً بين المتنافيين؛ لأن العلم بالكفر ، والخبر والصدق عن الكفر - مع عدم الكفر - جمع بين النقيضين ، وهو محال ، وهذا موضِعُ الإلزام .
فصل
قال المفسرون : أجل الموت هو الوقت الذي في معلوم الله - تعالى - أن روح الحيِّ تفارق جيده فيه ، ومتى قُتِل العبدُ علمنا أن ذلك أجله ، ولا يصح أن يقال : لو لم يُقْتَل لعاش ، بدليل قوله تعالى : { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } [ آل عمران : 145 ] ، وقوله : { إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ يونس : 49 ] وقوله : { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [ نوح : 4 ] ، وقوله : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 38 ] .
والمعتزليّ يقول : يتقدَّم الأجل ويتأخّر ، وأن مَنْ قُتِل فإنما يهلك قبل أجله ، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله ، لأنه يجب على القاتل الضمان والدِّيَة ، وهذه الآية رَدٌّ عليهم .
قوله : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا } مبتدأ ، وهي شرطية . وفي خبر هذا المبتدأ الخلاف المشهور . وأدغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر بخلاف عنه - دال « يُرِد » في الثاء .
والباقون بالإظهار .
وقرأ أبو عمرو بالإسكان في هاء « نُؤتِهِ » في الموضعين وَصْلاً ووقفاً .
وهشام - بخلاف عنه - بالاختلاس وصلاً .
والباقون بالإشباع وَصْلاً .
فأما السكون فقالوا : إن الهاء لما حلت محلّ ذلك المحذوف أعطيت ما كان يستحقه من السكون ، وأما الاختلاس ، فلاستصحاب ما كانت عليه الهاء قبل حَذْف لام الكلمة؛ فإن الأصل : نؤتيه ، فحُذِفَت الياء للجزم ، ولم يُعْتَدّ بهذا العارض ، فبقيت الهاء على ما كانت عليه .
وأما الإشباع فنظراً إلى اللفظ؛ لأن الهاء بعد متحرِّكٍ في اللفظ ، وإن كانت في الأصل بعد ساكن - وهو الياء التي حُذِفَت للجزم - والأوْلى أنْ يقال : إنَّ الاختلاس والإسكان بعد المتحرك لغة ثابتة عن بني عقيل وبني كلاب .
حكى الكسائي : لَهْ مالٌ ، وبِهْ داء - بسكون الهاء ، واختلاس حركتها - وبهذا يَتَبَيَّن أن مَنْ قال : إسكان الهاء واختلاسها - في هذا النحو - لا يجوز إلا ضرورةً ، ليس بشيءٍ ، أمَّا غير بني عقيل ، وبني كلاب ، فنعم لا يوجد ذلك عندهم ، إلا في ضرورة .
كقوله : [ الوافر ]
1645- لَهُ زَجَلٌ كَأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ
باختلاس هاء ( كأنه ) .
ومثله قول الآخر : [ البسيط ]
1646- وَأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ ... إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيل وَادِيهَا
بسكونها . وجعل ابن عصفور الضرورة في « البيت الثاني » أحسن منها في « البيت الأول » ، قال : لأنه إذهاب للحركة وصِلَتِها ، فهي جَرْي على الضرورة [ إجراءً ] كاملاً ، وإنما ذكرنا هذه التعليلات لكثرة ورود هذه المسالة ، نحو : { يَرْضَهُ لَكُمْ } [ الزمر : 7 ] ، ونحو : { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] .

وقُرِئ : يُؤتِه - بياء الغيبة - والضمير لله تعالى ، وكذلك : « وسنجزي الشاكرين » بالنون والياء .
فصل
نزلت في الذين تركوا المركز يوم أُحُد؛ طلباً للغنيمة ، { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا } يعني : الغنيمة ، قوله : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا } قيل : أراد الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جُبَير حتى قُتِلوا ، وهذه الآية - وإن وردت في الجهاد خاصة - عامة في جميع الأعمال؛ لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب هو القصد والدواعي ، لا ظواهر الأعمال .
ثم قال : « وسنجزي الشاكرين » أي : المؤمنين المطيعين .
عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الآخِرَةِ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ له شَمْلَهُ ، وَأتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ . وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الدُّنْيَا جَعَلَ اللهُ الفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَشَتَّتَ عَلَيْهِ أمْرَهُ ، وَلاَ يَأتِيهِ مِنْهَا إلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ » وروى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّما الأعمالُ بالنياتِ ، وإنَّمَا لِكُلُ امرئٍ ما نَوَى ، فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِه فَهِجْرَتُه إلَى اللهِ وَرَسُولِه ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُه إلَى دُنْيَا يُصيبُها ، أو امْرَأة يَنْكِحُهَا ، فهِجْرَتُه إلى مَا هَاجَرَ إلَيْه » .

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)

هذه اللفظة ، قيل : هي مركبة من كاف التشبيه ، ومن « أيِّ » ، وقد حدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير ، المفهوم من « كَمْ » الخبرية ، ومثلُها في التركيب وإفهام التكثير : « كذا » في قولهم : له عندي كذا درهماً ، والأصل : كاف التشبيه و « ذا » الذي هو اسم إشارة ، فلما رُكَِّبَا حدَثَ فيهما معنى التكثير ، ف « كم » الخبرية وكأيِّن وكذا كلها بمعنًى واحد ، وقد عهدنا في التركيب إحداث معنى آخر؛ ألا ترى أن « لولا » حدث لها معنًى جديدٌ ، وكان من حقها - على هذا - أو يُوقَفَ عليها بغير نون؛ لأن التنوين يُحْذَف وقفاً ، إلا أن الصحابة كتبتها « كَأيِّنْ » - بثبوت النون- ، فمن ثم وقف عليها جمهور القراء بالنون؛ اتِّبَاعاً لرسم المصحف .
ووقف أبو عمرو وسورة بن المبارك عن الكسائي « كأي » - من غير نون - على القياس .
واعتل الفارسيُّ لوقف النون بأشياء ، منها : أن الكلمة لما رُكِّبَتْ خرجت عن نظائرها ، فجعل التنوين كأنه حرف أصلي من بنية الكلمة .
وفيها لغات خمس .
أحدها : « كَيِّنْ » - وهي الأصل - وبها قرأ الجماعة ، إلاَّ ابن كثير .
وقال الشاعر : [ الوافر ]
1647- كَأيِّنْ فِي الْمَعَاشِرِ مِنْ أنَاسٍ ... أخُوهُمْ فَوْقَهُمْ ، وَهُمُ كِرَامُ
الثانية : « كائِنْ » - بزنة كاعِن - وبها قرأ ابن كثير وجماعة ، وهي أكثر استعمالاً من « كأيِّنْ » وإن كانت تلك الأصل- .
قال الشاعر : [ الوافر ]
1648- وَكَائنْ بِالأبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ ... يَرَانِي لَوْ أصِبْتُ هُوَ المُصَابَا
وقال الآخر : [ الطويل ]
1649- وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ .. .
وقال آخر : [ الطويل ]
1650 ... - وَكَائِنْ تَرَى فِي الْحَيِّ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ
.. أنشده المفضل ممدوداً ، مهموزاً ، مخففاً .
واختلفوا في توجيه هذه القراءة ، فنُقِل عن المبرد أنها اسم فاعل من كان ، يكون ، فهو كائن ، واستبعده مكِّيّ ، قال : لإتيان « مِنْ » بعده ، ولبنائه على السكون . وكذلك أبو البقاء ، قال : « وهو بعيد الصحة؛ لأنه لو كان كذلك لكان معرباً ، ولم يكن فيه معنى التكثير » .
لا يقال : هذا تحامُل على المبرد؛ فإن هذا لازم له - أيضاً - فإن البناء ، ومعنى التكثير عارضان - أيضاً - لأن التركيب عُهِد فيه مثل ذلك - كما تقدم في « كذا » ، و « لولا » ، ونحوهما ، وأما لفظٌ مفردٌ يُنقل غلى معنى ، ويُبْنَى من غير سبب ، فلم يُوجد له نظير .
وقيل : هذه القراءة أصلها « كَأيِّنْ » - كقراءة الجماعة - إلا أن الكلمة دخلها القلب ، فصارت « كائن » مثل كاعن - واختلفوا في تصييرها بالقلب كذلك على أربعة أوجه :
أحدها : أنه قُدِّمت الياءُ المشددةُ على الهمزة ، فصار وزنها كَعَلف ، إلا أنك قدمتَ العينَ والسلام ، وهما الياء المشددة - ثم حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف ، كما قالوا في : « أيُّها » ، ثم قلبت الياء الساكنة ألفاً ، كما قلبوها في نحو آية - والأصل : أيَّة - وكما قالوا : طائِيّ - والأصل : طَيئ - فصار اللفظ « كَأيِنْ » ووزنه كَعْف ، لأن الفاء أخرت إلى موضع اللام ، واللام قد حُذفَتْ .

الوجه الثاني : أنه حذفت الياء الساكنة - التي هي عين- وقُدِّمَت المتحركة - التي هي لام - فتأخرت الهمزة - التي هي فاء - وقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصار « كائن » ووزنه كلف .
الوجه الثالث : ويُعْزَى للخليل - أنه قُدِّمَت إحدى الياءين في موضع الهمزة ، فتحركت بحركة الهمزة - وهي الفتحة - وصارت الهمزة ساكنة في موضع الياء ، فتحركت الياءُ ، وانفتح ما قبلها ، فقُلِبَتْ ألفاً ، فالتقى الساكنان - الألف المنقلبة عن الياء ، والهمزة بعدها ساكنة - فكُسِرَت الهمزة على أصل التقاء الساكنين ، وبقيت إحدى الياءين متطرفة ، فأذهبها التنوين - بعد سلب حركتها - كياء قاضٍ وغازٍ .
الوجه الرابع : أنه قُدِّمَت الياء المتحركةُ ، فانقلبت ألفاً ، وبقيت الأخرى ساكنة ، فحذفها التنوين - مثل قاضٍ - ووزنه على هذين الوجهين أيضاً كلف؛ لما تقدم من حذف العين ، وتأخير الفاء ، وإنما الأعمال تختلف .
اللغة الثالثة : « كَأْيِنْ » - بياء خفيفة بعد الهمزة - على مثال كَعْيِن ، وبها قرأ ابنُ مُحَيْصِن ، والأشهبُ العقيلي ، ووجهها أن الأصل : « كَأيِّنْ » - كقراءة الجماعة - فحُذِفَت الياءُ الثانية ، استثقالاً ، فالتقى ساكنان - الياء والتنوين - فكُسِر الياء؛ لالتقاء الساكنين ، ثم سكنت الهمزة تخفيفاً لثقل الكلمة بالتركيب ، فصارت كالكلمة الواحدة كما سكنوا « فهو » و « فهي » .
اللغة الرابعة : « كَيْإن » بياء ساكنة ، بعدها همزة مكسورة ، وهذه مقلوب القراءة التي قبلها ، وقرأ بها بعضهم .
اللغة الخامسة : « كإنْ » - على مثال كَعٍ - ونقلها الداني قراءة عن ابن مُحَيْصِن أيضاً .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
1651- كَئِنْ مِنْ صَدِيقٍ خِلْتُهُ صَادِقَ الإخَا ... ءِ أبَانَ اخْتِبَاري أنَّهُ لِي مُدَاهِنُ
وفيها وجهان :
أحدهما : أنه حذف الياءين دُفعَةً واحدةً لامتزاج الكلمتين بالتركيب .
والثاني : أنه حذف إحدى الياءين - على ما تقدم تقريره - ، ثم حذف الأخرى لالتقائها ساكنةً مع التنوين ووزنه - على هذا - كَفٍ؛ لحذف العين واللام منه .
واختلفوا في « أي » هل هي مصدر في الأصل ، أم لا؟
فذهب جماعة إلى أنها ليست مصدراً ، وهو قول أبي البقاء؛ فإنه قال « كَأيِّنْ » الأصل فيه : « أيٌّ » ، التي هي بعض من كل ، أدخلت عليها كافُ التشبيه .
وفي عبارته عن « أيّ » بأنها بعض من كل ، نظر لأنها ليست بمعنى : بعض من كل ، نعم إذا أضيفت إلى معرفة فحُكْمها حُكم « بعض » في مطابقة الجُزْء ، وعود الضمير ، نحو : أيُّ الرجلين قائم ولا نقول : قاما ، فليست هي التي « بعض » اصلاً .

وذهب ابنُ جني إلى أنها - في الأصل - مصدر أوَى يأوِي - إذا انضم ، واجتمع - والأصل : أوْيٌ ، نحو طَوَى يَطْوي طيًّا - فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وكأن ابن جنِّي ينظر إلى أن معنى المادة من الاجتماع الذي يدل عليه « أي » فإنها للعموم ، والعموم يستلزم الاجتماع .
وهل هذه الكاف الداخلة على « أي » تتعلق بغيرها من حروف الجر ، أم لا؟
والصحيح أنها لا تتعلق بشيء؛ لأنها مع « أي » صارتا بمنزلة كلمة واحدة - وهي « كم » - فلم تتعلق بشيء ، ولذلك هُجِر معناه الأصلي - وهو التشبيه- .
وزعم الحوفيّّ أنها تتعلق بعامل ، فقال : « أما العامل في الكاف ، فإن جعلناها على حكم الأصل ، فمحمول على المعنى ، والمعنى : إصابتكم كإصابة من تقدَّم من الأنبياء وأصحابهم ، وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى » كم « ، كان العامل بتقدير الابتداء ، وكانت في موضع رفع ، و » قاتل « الخبر ، و » مِنْ « متعلقة بمعنى » الاستقرار « ، والتقدير الأول أوضح؛ لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى ، بما يجب من الخفض في » أي « ، وإذا كانت » أي « على بابها من معاملة اللفظ ، ف » من « متعلقة بما تعلقت به الكاف من الممعنى المدلول عليه » اه . وهو كلام غريب .
واختار أبو حيان أن « كأين » كلمة بسيطة - غير مركبة - وأن آخرها نون - هي من نفس الكلمة - لا تنوين؛ لأن هذه الدعاوى المتقدمة لا يقوم عليها دليل ، وهذه طريق سهلة ، والنحويون ذكروا هذه الأشياء؛ محافظةً على أصولهم ، مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد ، وتمرين الذهن . هذا ما يتعلق بها من حيث التركيب ، فموضعها رفع بالابتداء ، وفي خبرها أربعة أوجه :
أحدها : أنه « قاتل » فإن فيه ضميراً مرفوعاً به ، يعود على المبتدأ ، والتقدير : كثير من الأنبياء قاتل .
قال ابو البقاء : والجيد أن يعود الضمير على لفظ « كأين » ، كما تقول : مائة نبي قُتِل ، فالضمير للمائة؛ إذ هي المبتدأ .
فإن قيل : لو كان كذلك لأنثت ، فقلت : قُتِلَتْ؟
قيل : هذا محمول على المعنى؛ لأن التقدير : كثير من الرجال قُتِل .
كأنه يعني بغير الجيد عوده على لفظ « نَبِيّ » ، فعلى هذا جملة { مَعَهُ رِبِّيُّونَ } جملة في محل نصب على الحال من الضمير في « قُتِل » .

ويجوز أن يرتفع « ربيون » على الفاعلية بالظرف ، ويكون الظرف هو الواقع حالاً ، التقدير : استقر معه ربيون .
وهو أولى؛ لأنه من قبيل المفردات ، وأصل الحال والخبر والصفة أن تكون مفردة .
ويجوز أن يكون « مَعَهُ » - وحده - هو الحال ، و « رِبِّيُّونَ » فاعل به ، ولا يحتاج - هنا - إلى واو الحال؛ لأن الضمير هو الرابط - أعني : الضمير في « مَعَهُ » .
ويجوز أن يكون حالاً من « نَبِيّ » - وإن كان نكرة - لتخصيصه بالصفة حينئذ؛ ذكره مكي . وعمل الظرف - هنا - لاعتماده على ذي الحال .
قال أبو حيان : وهي حال محكية ، فلذلك ارتفع « ربيون » بالظرف - وإن كان العامل ماضياً ، لأنه حكى الحال الماضية ، كقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } [ الكهف : 18 ] ، وذلك على مذهب البصريين ، وأما الكسائي فيعمل اسم الفاعل العاري من « أل » مطلقاً .
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن الظرف يتعلق باسم فاعل ، حتى يلزم عليه ما قال من تأويله اسم الفاعل بحال ماضية ، بل يدعى تعلُّقه بفعل ، تقديره : استقر معه ربيون .
الوجه الثاني : أن يكون « قَاتَلَ » جملة في محل جر؛ صفة لِ « نَبِيّ » ، و { مَعَهُ رِبِّيُّونَ } هو الخبر ، لكن الوجهان المتقدمان في جعله حالاً - أعني : إن شئت أن تجعل « مَعَهُ » خبراً مقدماً ، و « ربِّيُّونَ » مبتدأ مرخراً ، والجملة خبر « كَأيِّنْ » ، وأن تجعل « مَعَهُ » - وحده - هو الخبر ، و « ربِّيُّونَ » فاعل به؛ لاعتماد الظرف على ذي خبر .
الوجه الثالث : أن يكون الخبر محذوفاً ، تقديره : في الدنيا ، أو مضى ، أو : صابر ، وعلى هذا ، فقوله : « قَاتَلَ » في محل جر؛ صفة لِ « نَبِيٍّ » ، و « مَعَهُ ربِّيُّونَ » حال من الضمير في « قَاتَلَ » - على ما تقدم تقريره - ويجوز أن يكون « مَعَهُ ربِّيُّونَ » صفة ثانية ل « نَبِيٍّ » ، وُصِف بصفتين : بكونه قاتل ، وبكونه معه ربيون .
الوجه الرابع : أن يكون « قَاتَلَ » فارغاً من الضمير ، مسنداً إلى « رِبِّيُّونَ » وفي هذه الجملة - حينئذ - احتمالان :
أحدهما : أن تكون خبراً ل « كأيِّنْ » .
الثاني : ان تكون في محل جر ل « نَبِيٍّ » والخبر محذوف - على ما تقدم - وادِّعَاء حذف الخبر ضعيف لاستقلال الكلام بدونه .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون « قَاتَلَ » مسنداً لِ « رِبِّيُّونَ » ، فلا ضمير فيه على هذا ، والجملة صفة « نَبِيٍّ » .
ويجوز أن يكون خبراً ، فيصير في الخبر أربعة أوجه ، ويجوز أن يكون صفةً لِ « نَبِيٍّ » والخبر محذوف على ما ذكرنا .

وقوله : صفة ل « رَبِّيُّونَ » يعني : أن القتل من صفتهم في المعنى ، وقوله : « فيصير في الخبر أربعة أوجه » يعني : ما تقدم له من أوجه ذكرها ، وقوله : فلا ضمير فيه - على هذا - والجملة صفة « نبي » غلط؛ لأنه يبقى المبتدأ بلا خبرٍ .
فإن قلتَ : إنما يزعم هذا لأنه يقدر خبراً محذوفاً؟
قلت : قد ذكر أوجهاً أخَر؛ حيثُ قال : « ويجوز أن تكون صفة ل » نَبِيٍّ « والخبرُ محذوفٌ - على ما ذكرنا » .
ورجَّح كونَ قَاتَلَ مسنداً إلى ضمير النبي أن القصة بسبب غزوةِ أحُدٍ ، وتخاذل المؤمنين حين قيل : إن محمداً قد ماتَ مقتولاً؛ ويؤيدُ هذا الترجيح قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] وإليه ذهب ابنُ عباسٍ والطبريُّ وجماعة . وعن ابن عباسٍ - في قوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ آل عمران : 161 ] - قال : النبي يُقتل فكيف لا يُخَان؟
وذهب الحسنُ وابن جُبَيرٍ وجماعة إلى أن القتلَ للرِّبِّيِّينَ ، قالوا : لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حَرْب قط ونصر الزمخشري هذا بقراءة قُتِّل - بالتشديد - يعني أنّ التكثيرَ لا يتأتى في الواحد - وهو النبي - وهذا - الذي ذكره الزمخشريُّ - سبقه إليه ابنُ جني - وسيأتي تأويله- .
وقرأ ابن كثيرٍ ، ونافع ، وأبو عمرو : قُتِل - مبنياً للمفعول - وقتادة كذلك ، إلا أنه شدد التاء ، وباقي السبعة : قاتل ، وكل من هذه الأفعال يصلح أن يرفع ضمير « نَبِيّ » وأن يرفع « رِبِّيُّونَ » - كما تقدم تفصيلُهُ- .
وقال ابنُ جني : إنَّ قراءة : قُتّل - بالتَّشْديد - يتعين أن يسند الفعل فيها إلى الظاهر - أعني : « رِبِّيُّونَ » - قال : لأنَّ الواحدَ لا تكثير فيه .
قال أبو البقاء : « ولا يمتنع أنْ يكونَ فيه ضمير الأول؛ لأنه في معنى الجماعةِ » .
يعني أن « مِنْ نَبِيٍّ » المراد به الجنس ، فالتكثير بالنسبة لكثرة الأشخاص؛ لا بالنسبة إلى كل فَرْد؛ إذ القتل لا يتكثر في كلِّ فردٍ .
وهذا الجوابُ - الذي أجابَ به أبو البقاءِ- استشعر به أبو الفتحِ ، وأجاب عنه ، قَالَ : فإن قيل : فهلاَّ جاز فُعِّل؛ حَمْلاً على معنى « كَمْ » ؟
فالجواب : أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله : « مِنْ نَبِيٍّ } ودلَّ الضمير المفرد » مَعَهُ « على أن المراد إنما هو التمثيلُ بواحدٍ واحدٍ ، فخرج الكلامُ على معنى » كم « . قال : في هذه القراءةِ دلالةٌ على أنَّ من قرأ من السَّبْعَةِ » قُتِلَ « أو » قَاتَل مَعَهُ رِبِّيُّونَ « فإن » ربِّيُّونَ « مرفوعٌ في قراءته ب » قُتِل « أو » قَاتَل « وليس مرفوعاً بالابتداء ، ولا بالظرف ، الذي هو » مَعَه « .

قال أبو حيّان : « وليس بظاهر؛ لأن » كأين « مثل » كَمْ « وأنتَ خبيرٌ إذا قلتَ : كم من عانٍ فككته ، فأفردت ، راعيت لفظ » كم « ومعناها جمع ، فإذا قلت : فككتهم ، راعيت المعنى ، وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير ، والمراد به الجمع . فلا فرق من حيثُ المعنى - بين فككته وفككتهم ، كذلك لا فرق بين قتل معه ربيون ، وقتل معهم ربيون ، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارةً ، ومراعاة المعنى تارة؛ لأن مدلول » كم « و » كأين « كثير ، والمعنى : جمع كثير ، وإذا أخبرت عن جمع كثيرٍ فتارةً تفرد؛ مراعاةً للفظ ، وتارة تجمع؛ مراعاة للمعنى ، كما قال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 44 و 45 ] ، فقال : » مُنْتَصِر « وقال : » وَيُوَلُّونَ « فأفرد في » مُنْتَصِرٌ « وجمع في » يُوَلُّونَ « .
ورجح بعضهم قراءة » قَاتَلَ « لقوله - بعد ذلك - : { فَمَا وَهَنُواْ } قال : وإذا قتلوا ، فكيف يوصفون بذلك؟ إنما يوصف بهذا الأحياء؟
والجوابُ : أن معناه : قتل بعضهم ، كما تقول : قُتِلَ بنو فلانٍ في وقعة كذا ، ثم انصرفوا .
وقال ابن عطية : قراءة من قَرَأ » قَاتَلَ « أعم في المدْحِ؛ لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي ، ويحسن عندي - على هذه القراءة - إسنادُ الفعل إلى الربيين ، وعلى قراءة : قتل - إسناده إلى » نبي « .
قال أبو حيّان : » قتل « يظهر أنها مدح ، وهي أبلغ في مقصود الخطاب؛ لأنها نَصٌّ في وقوع القتل ، ويستلزم المقاتلة . و » قَاتَل « لا تدلُّ على القتل؛ إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل؛ فقد تكون مقاتلة ولا يقع قتل .
قوله : { مِّن نَّبِيٍّ } تمييز ل » كَأيِّنْ « لأنها مثل » كم « الخبرية .
وزعم بعضهم أنه يلزم جره ب » من « ولهذا لم يجئ في التنزيل إلا كذلك ، وهذا هو الأكثرُ الغالب . قال وقد جاء تمييزُها منصوباً ، قال الشاعرُ : [ الخفيف ]
1652- أطْرُدِ الْيَأسَ بِالرَّجَاءِ فَكَائِن ... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ
وقال آخر : [ الطويل ]
1653- فَكَائِنْ لَنَا فَضْلاً عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً ... قَدِيماً ، وَلاَ تَدْرُونَ مَا مَنُّ مُنْعِمِ
وأما جره فممتنع؛ لأن آخرَها تنوين ، وهو لا يثبت مع الإضافة .
و » ربيون « : جمع رِبِّيّ ، وهو العالم ، منسوب إلى الرَّبّ ، وإنما كُسِرت راؤه؛ تغييراً في النسب ، نحو : إمْسِيّ - في النسبة إلى أمس - وقيل : كُسِر للإتباع .
وقيل : لا تغيير فيه ، وهو منسوب إلى الرُّبة - وهي الجماعة - وقرأ الجمهور بكسر الرَّاءِ ، وقرأ عليّ ، وابنُ مسعودٍ ، وابن عبّاسٍ ، والحسنُ » رُبِّيُّونَ « - بضم الراء - وهو من تغيير النسبِ ، إذا قلنا : هو منسوب إلى الربِّ ، وقيل : لا تغيير ، وهو منسوب إلى الربة ، وهي الجماعة .

قال القرطبيُّ « واحدهم ربِّيّ - بكسر الراء وضمها » .
وقرأ ابنُ عباسٍ - في رواية قتادة - رَبِّيُّونَ ، بفتحها على الأصل ، إن قلنا : منسوب إلى الرَّبِّ ، وإلا فمن تغيير النسب ، إن قلنا : إنه منسوب إلى الربة .
قال ابن جني : والفتح لغة تميم .
وقال النقاشُ : « هم المكثرون العلم » من قولهم : رَبَ الشيء يربو - إذا كَثر - وهذا سَهْوٌ منه؛ لاختلاف المادتين؛ لأن تلك من راء وياء وواو ، وهذه من راء وباء مكررة . قال ابن عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقتادةُ : الجماعات الكثيرة وقال ابنُ مسعودٍ : والربيون : الألوف .
وقال الكلبيّ : الرِّبِّيَّة الواحدة : عشرة آلاف .
وقال الضَّحَّاك : الرَّبِّيَّة الواحدة ألف ، وقال الحسنُ : رِبِّيُّون : فُقَهاء وعُلَماء .
وقيل : هم الأتباع ، فالربانيون : الولاة ، و الربانيون : الرعية . وحكى الواحديُّ - عن الفرّاءِ - الربانيون : الألوف .
قوله : « كَثِيرٌ » صفة لِ « رِبِّيُّونَ وإن كان بلفظ الإفرادِ؛ لأن معناه الجمع .
فصل
معنى الآية - على القراءة الأولى - أن كثيراً من الأنبياء قُتِلوا ، والذين بَقُوا بعدهم ما وَهَنوا في دينهم ، بل استمرُّوا على نُصْرَة دِينهم [ وقتال ] عدوِّهم ، فينبغي أن يكون حالُكُم - يا أمة محمدٍ - هكذا .
قال القفالُ : والوقف - في هذا التأويل - على قوله : » قُتِل « وقوله { مَعَهُ رِبيُّونَ كَثِيرٌ } حال ، بمعى : قُتِل حال ما كان معه ربيون كثير . أو يكون على معنى التقديم والتأخير أي : وكأين من نبي معه ربيون كثيرٌ ، فما وهن الربيون على كثرتهم .
وقيل : المعنى : وكأين من نبي قُتِل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثيرٌ ، فما ضَعُفَ الباقون ، ولا استكانوا؛ لقَتْل من قُتِل من إخوانهم ، بل مضوا على جهاد عدوهم ، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك .
وحُجَّة هذه القراءة أنّ المقصودَ من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياءِ؛ لتقتدي هذه الأمة بهم . والمعنى على القراءة الثانية- : وكم من نبي قاتل معه العددُ الكثيرُ من أصحابه ، فأصابهم من عدوهم قروح ، فما وَهَنُوا؛ لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل اللهِ وطاعته ، وإقامة دينه ، ونصرة رسوله ، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمةَ مُحَمدٍ .
وحجة هذه القراءة : أن المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال ، فوجب أن يكون المذكورُ هو القتال ، وأيضاً رُوِي عن سعيد بن جبيرٍ أنه قال : ما سمعنا بنبي قُتِل في القتال . قوله : { فَمَا وَهَنُواْ } الضمير في » وَهَنُوا « يعود على الربِّيِّين بجُمْلتهم ، إن كان قُتِل مسنداً إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وكذا في قراءة » قَاتَلَ « سواء كان مسنداً إلى ضمير النبي ، أو إلى الربِّيين ، فالضمير يعود على بعضهم وقد تقدم ذلك عند ترجيح قراءة » قاتل « .

والجمهورُ على « وَهَنُوا » - بفتح الهاء - والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرها ، وهما لغتانِ : وَهَنَ يَهِنُ - كَوَعَدَ يَعِدُ - وَوَهَنَ يَوْهَنُ - كوَجَلَ يَوْجَلُ - وروي عن أبي السَّمَّال - أيضاً - وعِكْرمة : وهْنوا - بسكون الهاء - وهو من تخفيف فَعَل؛ لأنه حرف حلق ، نحو نعم وشَهْد - في نَعِم وشَهِد- .
قال القرطبيُّ : - عن أبي زيد - : « وَهِنَ الشيء يَهِنُ وَهْناً ، وأوْهنته أنا ووهَّنْتُه : ضعَّفته ، والواهنة : أسفل الأضلاع وقصارَاها ، والوَهْن من الإبل : الكثيف ، والوَهْن : ساعة تمضي من الليل ، وكذلك المَوْهِن ، وأوهَنَّا : صِرْنا في تلك الساعة » .
و { لِمَآ أَصَابَهُمْ } متعلق ب « وَهَنُوا » و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية ، أو مصدرية ، أو نكرة موصوفة .
وقرأ الجمهور { وَمَا ضَعُفُواْ } - بضم العين - وقرئ : ضَعَفُوا - بفتحها - وحكاها الكسائي لغة .
قوله : { وَمَا استكانوا } فيه ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدها : أنه « استفعل » من الكَوْن - والكَوْن : الذُّلّ - وأصله : استكون ، فنُقِلَتْ حركة الواو على الكافِ ، ثم قُلِبَت الواو ألفاً .
وقال الأزهريُّ وأبو علي : هو من قول العربِ : بَاتَ فُلان بكَيْنَةِ سوء - على وزن جَفْنَة - أي : بحالة سوء ، فألفه - على هذا من ياء ، والأصل : استكْيَن ، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها . [ وهو القول الثاني ] .
الثالث : قال الفرّاء : وزنة « افتعل » من السكون ، وإنما أُشْبِعَت الفتحة ، فتولَّد منها ألف .
كقول الشاعر : [ الرجز ]
1654- أعُوذُ باللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ ... الشَّائِلاَتِ عُقَدِ الأذْنَابِ
يريد : العقرب الشائلة .
ورُدَّ على الفرّاء بأن هذه الألف ثابتة في جميع تصاريف الكلمةِ ، نحو : استكان ، يستكين ، فهو مستكينٌ ومُستكان إليه استكانةً . وبأنَّ الإشباعَ لا يكون إلا في ضرورةٍ .
وكلاهما لا يلزمه؛ أما الإشباع فواقع في القراءات - السبع - كما سيأتي- .
وأما ثبوت الألف في تصاريف الكلمةِ فلا يدلُّ - أيضاً - لأن الزائدَ قد يَلْزَم؛ ألا ترى أنَّ الميم - في تَمَنْدَل وتَمَدْرَع - زائدة ، ومع ذلك ثابتة في جميع تصاريفِ الكلمة ، قالوا : تَمَنْدَلَ ، يَتَمَنْدَلُ ، تَمَنْدُلاً ، فهو مُتَمَنْدِل ، ومُتَمَنْدَل به . وكذلك تَمَدْرَع ، وهما من الندل والدرع .
وعبارة أبي البقاءِ أحسن في الرَّدِّ؛ فإنه قال : « لأن الكلمة ثبتت عينها في جميع تصاريفها تقول : استكان ، يستكين ، استكانة ، فهو مستكين ، ومُسْتكان له والإشباع لا يكون على هذا الحد » .
ولم يذكر متعلق الاستكانة والضعف - فلم يَقُلْ : فما ضَعُفُوا عن كذا ، وما استكانوا لكذا - للعلم ، أو للاقتصار على الفعلين - نحو { كُلُواْ واشربوا } [ الحاقة : 24 ] ليعم كُلَّ ما يصلح لهما .
وقال الزمخشري : ما وَهَنُوا عند قَتْل النبيّ .

وقيل : ما وَهَنُوا لقتل من قتل منهم .
فصل
المعنى : ما جَبُنُوا لما أصابهم في سبيل اللهِ ، وما ضَعُفُوا عن الجهادِ بما نالهم من الجراح ، وما استكانوا للعدو .
وقال مقاتلٌ : وما استسْلَموا ، وما خضعوا لعدوهم .
وقال السُّدِّيُّ : وما ذلوا . وهذا تعريض بما أصابهم من الْوَهَنِ ، والانكسار عند الإرجاف بقَتْل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين ، واستكانتهم للكافرين ، حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافقِ عَبْدِ اللهِ بنِ أبَيٍّ؛ ليطلب لهم الأمان من أبي سفيان .
ويحتمل - أيضاً - أن يُفَسَّر الوهن باستيلاء الخوفِ عليهم ، ويُفَسَّر الضعف بأن يضعف إيمانُهم ، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم ، والاستكانة : هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم .
ثم قال : { والله يُحِبُّ الصابرين } أي : مَنْ صَبَر على تحمُّل الشدائدِ في طريق اللهِ ولم يُظْهِر الجزعَ والعجزَ والهلع؛ فإنَّ اللهَ يحبه . ومحبة الله - تعالى - للعبد عباة عن إرادة إكرامه وإعزازه وتعظيمه ، والحكم له بالثواب والجنة .

وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

الجمهور على نصب { قَوْلِهِمْ } خبراً مقدَّماً ، والاسم « أنْ » وما في حيزها ، تقديره : وما كان قولهم [ إلا هذا الدعاء ، أي : هو دأبهم وديدنهم ] .
وقرأ ابن كثيرٍ وعاصم - في رواية عنهما - برفع « قولُهم » على أنه اسم « كان » والخبر « أن » وما في حيزها . وقراءة الجمهور أوْلَى؛ لأنه إذا اجتمع معرفتانِ فالأولى أن تَجْعَل الأعرف اسماً ، و « أن » وما في حيزها أعْر أعْرَف؛ قالوا : لأنها تُشْبِه المُضْمَر من حيثُ إنها لا تُضْمَر ، ولا تُوصَف ، ولا يُوصَف بها ، و « قولهم » مضافٌ لمُضْمَرٍ ، فَهُوَ في رُتْبَةِ العَلَمِ ، فهو أقلُّ تعريفاً .
ورَجَّحَ أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين :
أحدهما : هذا ، والآخر : أن ما بعد « إلاَّ » مُثبَت ، والمعنى : كان قولَهُمْ : ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا دَأبَهم في الدعاء ، وهو حَسَنٌ .
والمعنى : وما كان قولهم شيئاً من الأقوالِ إلا هذا القول الخاصّ .
فصل
معنى الآية : وما كان قولهم عند قَتْل نبيِّهم إلا أن قالوا : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذنوبنَا ، والغرض مِنْهُ تحريضُ هذه الأمة بالاقتداء بهم .
قال القاضي : إنما قدموا طلب المغفرة للذنوب والإسراف؛ لأنه - تعالى - لما ضَمِن النُّصرةَ للمؤمنين ، فإذا لم تحصل النصرة ، وظهر أمارات استيلاء العدو ، دلَّ ذلك ظاهراً - على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين ، فلهذا المعنى يجب عليهم تقديمَ التوبةِ والاستغفارِ على طلب النُّصْرَة ، فبيَّن - تعالى - أنهم بدءوا بالتوبة عن كل المعاصي ، فقالوا : { ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } أي : الصغائر { وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا } أي : الكبائر؛ لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه؛ قال تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] وقال { فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل } [ الإسراء : 33 ] وقال : { وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } [ الأعراف : 31 ] ويقال : فلان مُسْرِف - إذا كان مكثراً في النفقة .
قوله : { في أَمْرِنَا } يَجُوز فيه وجهانِ :
الأول : أنه متعلق بالمصدر قبله ، يقال : أسرفتُ في كذا .
الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حَالٌ منه ، أي : حال كونه مستقراً في أمرنا . والأول أوجهُ . ثم سألوا - بعد ذلك - أن يثبت أقدامهم ، وذلك بإزالة الخوفِ عن قلوبهم ، وهذا يدلُّ على أن فعل العبد مخلوقٌ للهِ ، والمعتزلة يحملونه على الألطاف . ثم سألوا أن ينصرهم على القوم الكافرين ، وهذه النصرة لا بد فيها من أمر زائدٍ على ثبات أقدامهم .
قال القاضي : وهذا تأديبٌ من الله - تعالى - في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمِحَن ، سواء كان في الجهادِ أو غيره .
قوله : « فآتاهم الله » يقتضي أن اللهَ - تَعَالَى - أعطاهم [ الأمْرَين ] أما ثوابُ الدُّنْيَا فَهُوَ : النصرة و الغنيمة ، وقهر العدو ، والثناء الجميل ، وانشراح الصدرِ بنور الإيمان ، وأما ثوابُ الآخرة فلا شك أنه ثواب الجنة .

وقرأ الجَحْدَرِيُّ فأثابهم - من لفظ الثواب - وخَصَّ - تعالى - ثواب الآخرة بالحُسْنِ؛ تنبيهاً على جلالةِ ثوابِهِم ، وذلك لأنّ ثوابَ الآخرةِ كُلَّه في غاية الحُسْنِ .
ويجوز أن يُحْمَل قوله : « فآتاهم » على أنه سيؤتيهم ، كقوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] أي : سيأتي أمرُ اللهِ .
قيل : ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداءِ - وقد أخبرَ - تَعَالَى - عن بعضهم أنهم أحياءٌ ، عند ربِّهِم يرزقونَ - فيكون حالُ هؤلاء - أيضاً - كذلك .
فصل
قال فيما تقدم : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ آل عمران : 145 ] فأتى بلفظ « من » الدالة على التبعيض ، وقال هنا : { فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } ولم يذكر كلمة « من » لأن الذين يُريدون ثوابَ الآخرةِ إنما اشتغلوا بالعبادة لطلب الثوابِ ، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلةً عن مرتبة هؤلاء؛ لأنهم لم يذكروا من أنفسهم إلا الذنبَ والتقصيرَ ، ولم يذكروا التدبيرَ والنصرةَ والإعانة إلا من ربّهم ، فكان مقامهم في العبودية في غاية الكمالِ؛ لأنَّهم أرادوا خدمة مولاهم ، وأما أولئك فإنما أرادوا الثواب .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)

لما أمر اللهُ تَعَالَى بالاقتداء بأنصار الأنبياءِ حذَّر عن طاعة الكفار - يعني مشركي العرب - وذلك أنّ الكفار لما أرجفوا بقولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتِل ودعا المنافقونَ بعضَ ضَعَفَةِ المُسْلِمِين ، مَنَعَ المسلمين بهذه الآية عن الالتفات إلى كلام أولئك المنافقين .
وقيل : المرادُ - بالذين كفروا - عبد الله بن أبي وأتباعه في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم ، وادخلوا في دينهم ، وقالوا : لو كان محمدٌ رسولَ اللهِ ما وقعت له هذه الواقعةُ ، وإنما هو رجل كسائر الناسِ ، يَوْمٌ لَهُ ، وَيَومٌ عليه .
وقال آخرون : المراد - بالذين كفروا - اليهود الذين كانوا بالمدينة يُلْقُون الشُّبهَاتِ .
وقيل : المرادُ أبو سفيان؛ لأنه كان شجرة الفتن .
قال ابنُ الْخَطِيبِ : « والأقرب أنه يتناول كُلَّ الكفار؛ لأن اللفظ عامٌّ ، وخصوص السببِ لا يمنع من عموم اللفظِ » .
قوله : { يَرُدُّوكُم } جواب { إِن تُطِيعُواْ } وقوله : { إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ } لا يُمْكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه ، بل لا بُدَّ من التخصيصِ .
وقيل : إن تطيعوهم فيما يأمرونكم به يوم أحُدٍ من ترك الإسلامِ .
وقيل : إن تطيعوهم في كل ما يأمرونكم به من الضلال .
وقيل في المشورة . وقيل في تَرْك المحاربة ، وهو قوله : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [ آل عمران : 156 ] ثم قال : { يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ } يعني يردوكم إلى الكُفْر بعد الإيمان؛ لأن قبولَهُم في الدعوة إلى الكفر ، ثم قال : { فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } فلما كان اللفظ عاماً دخل فيه خُسران الدنيا وخُسْران الآخرة .
أما خسران الدنيا فلان أشَقَّ الأشياء على العُقلاء في الدنيا الانقياد إلى العَدُوِّ ، وإظهار الحاجة إليه . وأما خُسْران الآخرة فالحرمان من الثواب المؤبَّد ، والوقوع في العقاب المخلَّد و « خَاسِرِينَ » حالٌ .
قوله : { بَلِ الله مَوْلاَكُمْ } مبتدأ وخبر ، وقرأ الحسنُ بنصب الجلالةِ؛ على إضمار فِعْل يدل عليه الشرط الأول ، والتقدير : لا تطيعوا الذين كفروا ، بل أطيعوا الله ، و « مَوْلاَكُمْ » صفة .
وقال مَكِّي : « وأجاز الفرَّاء : بل الله - بالنصب - » كأنه لم يطلع على أنها قراءة .
فصل
والمعنى : أنكم إن تطيعوا الكفار لينصروكم ويُعينوكم فهذا جَهْل ، لأنهم عاجزون متحيرون ، والعاقل يطلب النُّصْرَةَ من الله تعالى؛ لأنه هو الذي ينصركم على العَدُوِّ ، ثم بيَّن أنه خير الناصرين ، وذلك لوجوهٍ :
أولها : أنه - تعالى - هو القادرُ على نصرتك في كلِّ ما تريدُ والعالم الذي لا يَخْفَى عليه دعاؤك وتضرُّعك ، والكريم الذي لا يبخل في جوده ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه .
ثانيها : أنه ينصرك في الدُّنْيَا والآخرة ، وغيره ليس كذلك .
ثالثها : أنه ينصرك قبل سُؤالك ومعرفتك بالحاجة ، كما قال :

{ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار } [ الأنبياء : 42 ] وغيره ليس كذلك .
واعلم أن ظاهر قوله : { وَهُوَ خَيْرُ الناصرين } يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصِرِينَ ، وهو منزَّه ، عن ذلك ، وإنما ورد الكلامُ على حسب تعارفهم ، كقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }
قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } هذا من تمامِ ما تقدم من وجوه الترغيبِ في الجهاد وعدم المبالاةِ بالكفارِ .
قوله : { سَنُلْقِي } الجمهور بنون العظمة ، وهو التفات من الغيبة - في قوله : { وَهُوَ خَيْرُ الناصرين } وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه - تعالى - .
وقرأ أيوب السَّخْتِيانيّ « سَيُلْقِي » بالغيبة؛ جَرْياً على الأصل . وقدم المجرور على المفعول به؛ اهتماماً بذكر المحلّ قبل ذكر الحَال : والإلقاء - هنا - مجاز؛ لأن أصلَه في الأجرام ، فاستُعِيرَ هنا ، كقول الشَّاعر : [ الطويل ]
1655- هُمَا نَفَثَا فِي فِيء مِنْ فَمَويْهِمَا ... عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ
وقرأ ابنُ عامرٍ والكسائيُّ ، وأبو جعفرٍ ، ويعقوبُ : « الرُّعْب » و « رُعْباً » - بضم العين - والباقون بالإسكان فقيل : هما لغتان .
وقيل : الأصل الضم ، وخُفِّف ، وهذا قياس مطردٌ .
وقيل : الأصلُ السكون ، وضُمَّ إتباعاً كالصبْح والصبُح ، وهذا عكس المعهود من لغة العربِ .
والرُّعْب : الخوف ، يقال : رعيته ، فهو مرعوب ، وأصله من الامتلاء ، يقال : رَعَبْتُ الحوض ، أي : ملأته وسَيْل راعب ، أي : ملأ الوادي .
فصل
قيل : هذا الوعدُ مخصوصٌ بيوم أحُد؛ لأن الآياتِ المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة . والقائلون بهذا ذكروا في كيفية إلقاء الرعبِ في قلوب المشركين وجهين :
الأول : أن الكفارَ لما هزموا المسلمين أوقع اللهُ الرعب في قلوبهم ، فتركوهم ، وفرّوا منهم من غير سبب ، حتى رُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجبل ، وقال : أين ابنُ أبي كبشةَ؟ أين ابن أبي قُحافةَ؟ أين ابن الخطابِ؟ فأجابه عمر ، ودارت بينهم كلماتٌ ، وما تجاسَر أبو سفيان على النزول من الجبل ، والذهاب إليهم .
والثاني : أن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة - وكانوا في بعض الطريقِ - ندموا ، وقالوا : ما صنعنا شيئاً ، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد ، ثم تركناهم ونحن قاهرون ، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكُلية ، فلما عزموا على ذلك القى اللهُ الرُّعْبَ في قلوبهم .
وقيل : إنَّ هذا الوْعَد غير مختصٍّ بيوم أُحُد ، بل هو عام .
قال القفالُ : كأنه قيل : إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في ويم أُحُدٍ ، إلا أنّ اللهَ تعالى - سَيُلْقي الرُّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكُفَّار حتى يقهر الكفار ، ويُظْهِرَ دينكم على سائِرِ الأديان ، وقد فعل الله ذلك ، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل . ونظير هذه الآية قوله : « نصرت بالرعب مسيرة شهر » .
فصل
قال بعض العلماءِ : إن هذا العموم على ظاهره ، لأنه لا أحد يخالف دينَ الإسلام إلا في قلبه ضَرْب من الرُّعْب ، ولا يقتضي وقوع جميع أنواع الرُّعب في قلوب الكافرين ، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوهِ ، وذهب جماعة من المفسّرين إلى أن مخصوص بأوائل الكفار .

قوله : { فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 156 ] متعلق بالإلقاء ، وكذلك { بِمَآ أَشْرَكُواْ } ولا يضر تعلُّق الحرفين؛ لاختلاف معناهما ، فإن « في » للظرفية؛ الباء للسببية . و « ما » مصدرية ، و « ما » الثانية مفعول به لِ « أشْرَكُوا » وهي موصولة بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، والراجع : الهاء في « به » ولا يجوز أن تكون مصدرية - عند الجمهورِ - لعود الضمير عليها ، وتسلط النفي على الإنزال - لفظاً - والمقصود نفي السلطان - أي : الحجة - كأنه قيل : لا سُلطان على الإشراك فينزل .
كقول الشاعر : [ السريع ]
1656- ... وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
أي لا ينجحر الضَّبُّ بها ، فيُرَى .
ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]
1657- عَلَى لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ .. .
أي : لا منار فيهتدى به ، فالمعنى على نَفْي السلطان والإنزال معاً . و « سُلْطَاناً » مفعول به لِ « يُنَزِّلُ » .
قوله : { بِمَآ أَشْرَكُواْ } « ما » مصدرية ، والمعنى : بسبب إشراكهم باللهِ ، وتقريره : أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار ، كقوله : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] ومن اعتقد أن لله شريكاً لم يحصل له الاضطرار؛ لأنه يقول : إذا كان هذا المعبودُ لا ينصرني ، فالآخر ينصرني ، وإذا لم يحصل في قلبه الاضطرارُ لم تحصل له الأجابةُ ولا النصرة وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعبُ والخوفُ في قلبه فثبت أن الشركَ باللهِ يوجب الرعبَ .
قوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } السُّلْطَان - هنا- : الحجة والبرهان ، وفي اشتقاقه وجوهٌ :
فقيل : من سليط السراج الذي يوقَد به ، شُبِّه لإنارته ووضوحه . قاله الزجاجُ .
وقال ابن دُرَيْدٍ : من السلاطة ، وهي الحِدَّة والقَهْر .
وقال الليثُ : السلطان : القدرة؛ لأن أصل بنائه من التسليط ، فسلطان الملكِ : قوته وقدرته ، ويسمى البرهان سُلْطَاناً ، لقوته على دَفْعِ الباطِلِ .
فإن قيل : إن هذا الكلامَ يوهم أنّ فيه سلطاناً إلا أنَّ اللهَ - تعالى - ما أنزله؟
فالجوابُ : أن تقدير الكلامِ أنه لو كان لأنزل الله به سلطاناً ، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه .
وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون : إن هذا لا دليلَ عليه ، فلم يَجُزْ إثباتُه . وبالغ بعضهم ، فقال : لا دليلَ عليه ، فيجب نَفْيُه .
فصل
استدلوا بهذه الآية على فساد التقليد؛ لأن الآيةَ دلَّت على أنَّ الشِّركَ لا دليلَ عليه ، فوجب أن يكونَ القولُ به باطلاً ، فكذلك كل قولٍ لا دليلَ عليه .
وقوله : { وَمَأْوَاهُمُ النار } بين تعالى أنَّ أحوالَ المشركين في الدنيا هو وقوع الخوفِ في قلوبِهِم وأحوالهم في الآخرة هي أن مأواهم : مسكنهم النار .
قوله : { وَبِئْسَ مثوى الظالمين } المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ ، أي : مثواهم ، أو النار .
المثوى : مَفْعَل ، من ثَوَيْتُ - أي : أقمت - فلامه ياء وقدم المأوى - وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان - على المَثْوَى - وهو مكان الإقامةِ - لأن الترتيبَ الوجوديَّ أن يأوي ، ثم يئوي ، ولا يلزم المأوى الإقامة ، بخلاف عكسه .

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

صَدَقَ يتعدى لاثنين ، أحدهما بنفسه ، والآخر بالحرفِ ، وقد يُحْذَف ، كهذه الآية .
والتقدير : صدقكم في وعده ، كقولهم : صَدقتُه في الحديث وصدقته الحديث و { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } معمول لِ « صَدَقَكُمْ » أي : صدقكم في ذلك الوقتِ ، وهو وقتُ حَسِّهِم ، أي : قَتْلهم .
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله : « وَعْدَه » - وفيه نظرٌ؛ لأن الوعد متقدِّمٌ على هذا الوقت .
يقال : حَسَسْتُه ، أحَسُّه ، وقرأ عُبَيْد بن عُمَير : تُحِسُّونَهُم - رباعياً - أي : أذهبتم حِسَّهم بالقتل .
قال أبو عبيدةَ ، والزَّجَّاجُ : الحَسُّ : الاستئصال بالقَتْل .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1658- حَسَنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فأصْبَحَتْ ... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا
وقال جرير : [ الوافر ]
1659- تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى ... حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجَم الْحَصِيدِ
ويقال : جراد محسوس - إذ قتله البردُ - والبرد محسة للنبت : - أي : محرقة له ، ذاهبته . وسنة حَسُوسٌ : أي : جدبة ، تأكل كلَّ شيءٍ .
قال رؤية : [ الرجز ]
1660- إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا ... تَأكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ الْيَبِيسَا
وأصله من الحِسّ - الذي هو الإدراك بالحاسة- .
قال أبو عبيدٍ : الحَسُّ : الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحِسّ ، حَسَّه - إذا قتله - لأنه يُبْطل حِسَّه بالقتل ، كما يقال : بَطَنَهُ - إذا أصاب بطنه ، وَرَأسَهُ ، إذا أصاب رأسه .
و « بإذْنِهِ » متعلق بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل « تَحُسُّونَهُمْ » ، أي : تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك .
قال القرطبيُّ : « ومعنى قوله : » بإذْنه « أي : بعلمه ، أو بقضائه وأمره » .
فصل
وجه النظم : قال محمدُ بن كَعْب القُرَظيّ : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه إلى المدينة من أحدٍ - وقد أصابهم ما أصابهم - قال ناسٌ من أصحابه : من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا اللهُ بالنصرِ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآية؛ لأنَّ النصرَ كان للمسلمين في الابتداءِ .
وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كَبْشاً ، فَصَدَقَ اللهُ رُؤيَاهُ بِقَتْلِ طَلْحَةَ بن عثمان - صاحب لواء المشركين يوم أُحُدٍ - وقُتِل بعده تسعةُ نفر على اللواء ، فذلك قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } يريد : تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى : { إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ } [ آل عمران : 125 ] إلا أن هذا مشروطاً بشرط الصبرِ والتقوى .
وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } [ آل عمران : 151 ] .
وقيل : الوعد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم للرُّماة : لا تبرحوا عن هذا المكانَ؛ فإنا لا نزال غالبين ما دُمْتم في هذا المكان .
قال أبو مسلم : لما وعَدهم اللهُ - تعالى - في الآية المتقدمة - بإلقاء الرعب في قلوب الكفارِ ، أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعدِ بالصبر في واقعة أُحُدٍ ، فإنه لما وعدهم بالنصر - بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتَوْا بذلك الشرطِ ، وفى الله تعالى لهم بالمشروطِ .

فصل
وقد تقدم في قصة أُحُد - أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أُحُداً خَلْفَ ظَهْره ، واستقبل المدينة ، وأقام الرماةَ عند الجبلِ ، وأمرهم أن يثبتوا هناك ، ولا يبرحوا - سواء كانت النُّصْرَة للمسلمين أو عليهم - فلما أقبل المشركونَ جعل الرُّمَاة يَرْشُقُون خيلها ، والباقون يضربونهم بالسيوفِ ، حتّى انهزموا ، والمسلمون على آثارهم يحسونهم ، أي : يقتلونهم قتلاً كثيراً .
وقوله : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } في « حَتَّى » قولان :
أحدهما : أنها حرف جر بمعنى « إلى » وفي متعلقها - حينئذ - ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنها متعلقة ب « تَحسُّونَهُمْ » اي : تقتلونهم إلى هذا الوقت .
الثاني : أنها متعلقة ب « صَدَقَكُمْ » وهو ظاهر قول الزمخشريّ ، قال : « ويجوز أن يكونَ المعنى : صدقكم اللهُ وَعْدَه إلى وقت فَشَلِكم » .
الثالث : أنّها متعلقة بمحذوف ، دَلَّ عليه السياقُ .
قال أبو البقاء : « تقديره : دام لكم ذلك إلى وقتِ فَشَلِكُم » .
القول الثاني : أنَّها حرف ابتداءٍ داخلة على الجملة الشرطية ، و « إذَا » على بابها - من كونها شرطية - وفي جوابها - حينئذٍ - ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : قال الفرّاء : جوابها « وَتَنَازَعْتُمْ » وتكون الواو زائدة ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ } [ الصافات : 103-104 ] والمعنى ناديناه ، كذا - هنا - الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان ، فكأنَّ التقدير : حتى إذا فَشِلْتُم ، وتنازعتم في الأمر عصيتم .
قال : ومذهب العرب إدخال الواو في جواب « حَتَّى » كقوله : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } { الزمر : 73 ] فإن قيل : قوله : { فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ } معصية ، فلو جعلنا الفشل والتنازُع علةً للمعصية لزم كونُ الشيء علةً لنفسه ، وذلك فاسدٌ .
فالجواب : أن المراد من العصيان - هنا - خروجهم عن ذلك المكانِ ، فلم يلزم تعليلُ الشيء بنفسه . ولم يَقْبَل البصريون هذا الجوابَ؛ لأن مذهَبهمْ أنه لا يجوزُ جَعْلَ الواو زائدة .
قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } و « ثم » زائدة .
قال أبو علي : ويجوز أن يكون الجواب { صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } و « ثُمَّ » زائدة ، والتقدير : حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم . وقد أنشد بعضُ النحويين في زيادتها قول الشاعر : [ الطويل ]
161- أرَانِي إذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى ... فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا
وجوز الأخفشُ أن تكون زائدةً في قوله تعالى : { حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 118 ] وهذان القولان ضعيفانِ جداً .
والثالث - وهو الصحيحُ - أنه محذوف ، واختلفت عبارتهم في تقديره ، فقدَّرَه ابنُ عطيةَ : انهزمتم وقدَّره الزمخشريُّ : منعكم نصرَه .

وقدَّره ابو البقاء : بأن أمركم . ودلّ على ذلك قوله تعالى : { مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } [ آل عمران : 152 ] .
وقدره غيره : امتحنتم .
وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، وتقديره : حتّى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم .
وقدَّره أبو حيان : انقسمتم إلى قسمَيْن ، ويدلُّ عليه ما بعده ، وهو نظيرُ قوله : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 32 ] قال أبو حيان : لا يقال : كيف يقالُ : انقسمتم إلى مريدِ الدُّنْيَا ، وإلى مريدِ الآخرةِ فيمن فشل وتنازع وعصى؛ لأن هذه الأفعالَ لم تصدر من كُلِّهم ، بل من بعضِهِمْ .
واختلفوا في « إذا » - هذه - هل هي على بابها أم بمعنى « إذْ » ؟ والصحيح الأول ، سواء قلنا إنها شرطية أم لا .
فصل
الفشلُ : هو الضعف .
وقيل : الفشل : الجُبْن ، وليس بصحيح؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ } [ الأنفال : 46 ] أي : فتضعفوا ، ولا يليق أن يكونَ المعنى فتجبنوا .
والمراد من التنازُع اختلاف الرُّماةِ حين انهزم المشركون ، فقال بعضُهم لبعض : انهزم القومُ ، فما مقامنا؟ وأقبلوا على الغنيمة .
وقال بعضهم : لا نتجاوز أمر رسولِ اللهِ وثبت عبد الله بن جبير في نَفَرٍ يسير من أصحابه دون العَشَرة - فلما رآهم خالد بن الوليد وعكرمةُ بن أبي جهلٍ حملوا على الرُّمَاة فقتلوهم ، وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريحُ ، فصارت دبوراً بعد أن كانت صَباً ، وانتقضت صفوف المسلمين ، واختلطوا فجعلوا يقتتلون على غير شِعَارٍ ، يَضْرِبُ بعضهم بعضاً ما يَشْعرون من الدهش ، ونادى إبليسُ : إن محمداً قد قُتِل ، فكان ذلك سبب هزيمة المسلمينَ .
قوله : { وَعَصَيْتُمْ } يعني : أمر الرسول صلى الله عليه وسلم اي خالفتم أمره بملازمة ذلك المكان { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } من الظفر والغنيمة .
فإن قيل : لِمَ قدم ذِكْرَ الفشل على التنازع والمعصية؟
فالجوابُ : أن القوم لما رأوا هزيمة الكفارِ ، وطمعوا في الغنيمة ، فشلوا في أنفسهم عن الثبات ، طمعاً من الغنيمةِ ، ثم تنازعوا - بطريق القولِ في أنَّا هل نذهب لطلب الغنيمة ، أم لا؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة .
فإن قيل : إنما عصى البعض بمفارقة ذلك المكانِ ، فلِمَ جاء العقابُ عاماً؟
فالجوابُ : أنَّ اللفظَ - وإن كان عاماً - قد جاء المخصِّص بعده ، وهو قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } .
قوله : { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } المقصودُ منه التنبيهُ على عِظَمِ المعصية؛ لأنهم لمَّا شاهدوا أن الله - تعالى - أكرمهم بإنجاز الوَعْد كان من حَقِّهم أن يمتنعوا عن المعصية . فلما أقدموا عليها ، سلبهم اللهُ ذلك الإكرام ، وأذاقهم وبالَ أمْرِهم .
قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } يعني : الذين تركوا المركز ، وأقبلوا على النهبِ { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جُبَيْرٍ ، حتى قُتِلوا . قال عبدُ الله بن مسعودٍ : وما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا ، حتى كان يومُ أحدٍ ، ونزلت هذه الآية .

قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } عطفٌ على ما قبله ، والجملتان من قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } اعتراض بين المتعاطفين ، وقال أبو البقاء : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } معطوف على الفعل المحذوف .
يعني الذي قدره جواباً للشرط ، ولا حاجة إليه ، و « لِيَبْتَلِيَكُمْ » متعلق ب « صَرَفَكُمْ » و « أن » مضمرة بعد اللام .
فصل
اختلفوا في تفسير هذه الآية؛ وذلك لأن صَرْفَهم عن الكفار معصية ، فكيف أضافه إلى نفسه؟ فقال جمهورُ المفسّرينَ : الخيرُ والشر بإرادة اللهِ تَعَالَى وتخليقه ، ومعنى هذا الصَّرْفِ أنَّ اللهَ تعالى رَدَّ المسلمينَ عن الكفارِ وألقى الهزيمةَ عليهم ، وسلَّط الكفارَ عليهم .
وقالت المعتزلةُ : هذا التأويل غير جائز؛ للقرآن والعقل ، أم القرآنُ فقوله تعالى : { إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } [ آل عمران : 155 ] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان فكيف يُضيفه بعد هذا إلى نفسه؟
وأما المعقولُ فإن اللهَ تعالى عاتَبَهم على ذلك الانصراف ، ولو كان ذلك بفعل اللهِ لم تَجزْ مُعَاتَبَتَهُم عليه ، كما لا يجوز معاتبتهم على طُولِهِمْ وقِسَرِهم ، ثم ذكروا وجوهاً من التأويل :
أحدها : قال الجبائيُّ : إنَّ الرُّماةَ افترقوا فِرْقَتَيْن ، فبعضهم فارق المكان لطلب الغنائم ، وبعضهم بقي هناك ، فالذين بَقُوا أحاط بهم العَدُوُّ ، فلو استمروا هناك لقتلهم العدُوُّ من غير فائدةٍ أصْلاً ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه - ولم يكونوا عُصَاةً بذلك ، فلما كان ذلك الانصراف جائزاً أضافه إلى نفسه ، بمعنى أنه كان بأمره وإذنه ، ثم قال : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } والمرادُ : أنه - تعالى - لما صرفهم إلى ذلك المكانِ ، وتحصَّنُوا به ، أمرهم - هناك - بالجهادِ ، والذَّبِّ عن بقية المسلمينَ ، ولا شك أن الإقدامَ على الجهادِ بعد الانهزامِ ، وبعد أن شاهدوا قَتْل أقاربهم وأحِبَّائهم من أعظم أنواع الابتلاء .
فإن قيل : فعلى هذا التأويل ، هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مُذْنِبِين ، فلم قال : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } .
قلنا : الآية مشتملة على ذِكْر مَنْ كان معذوراً في الانصرافِ ، ومَنْ لم يكن معذوراً ، أو هم الذين بدءوا بالهزيمة ، فقوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } راجعٌ إلى المعذورينَ؛ لأنَّ الآية لما اشتملتْ على قسمينِ ، وعلى حُكمين ، رَجَعَ كلُّ حكم إلى القسم الذي يليق به ، ونظيره : { ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } [ التوبة : 40 ] والمرادُ الذي قال له : لا تحزن إن اللهَ مَعَنَا - وهو أبو بكر - لأنه كان خائفاً قبل هذا القولِ ، فلما سَمِعَ هذا القولَ سَكَنَ ، ثم قال : « وَأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا » وعنى بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم دون أبي بكرٍ؛ لأنه قد جرى ذكرهما جميعاً ، هذا قول الجبائي .

الثاني : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني : وهو أنَّ المرادَ من قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أنه - تعالى - أزال ما كان في قلوب الكفارِ من الرُّعْبِ من المسلمينَ؛ عقوبةً منه على عصيانهم وفَشَلِهم ، ثم قال : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي : ليجعل ذلك الصَّرْف محنةً عليكم؛ لتتوبوا إلى اللهِ ، وترجعوا إليه ، وتستغفروه من مخالفة أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم ومَيْلكم إلى الغنيمةِ ، ثم أعلمهم أنهُ - تعالى - قد عفا عَنْهُم .
الثالثُ : قال الكَعْبي : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } بأ ، لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم { لِيَبْتَلِيَكُمْ } بكثرة الإنعام عليكم .
قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } ظاهره يقتضي تقدُّم ذَنْب منهم .
قال القاضي إنْ كان ذلك الذنبُ من الصغائر صحَّ أن يصف نفسه بأنّه عفا عنهم من غير توبة ، فإن كان من الكبائرِ ، فلا بد من إضمار توبتهم؛ [ الإقامة ] الدلالةِ على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرةِ .
وأجيب بأنَّ هذا الذنبَ لا شك أنه كان كبيرة ، لأنهم خالفوا صريحَ نَصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمينَ ، وقُتِلَ جَمْعٌ كبيرٌ من أكابرهم ، ومن المعلوم أن ذلك كله من باب الكبائرِ .
وأيضاً ظاهر قوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } [ الأنفال : 16 ] يدل على كونه كبيرة ، ويضعف قول من قال : إنه خاص في بَدْر؛ لأن اللفظَ عامٌّ ، ولا تفاوت في المقصودِ ، فكان التخصيصُ ممتنعاً ، ثم إن ظاهرَ هذه الآية يدل على أنه - تعَالَى - عفا عنهم من غير توبةٍ؛ لأنه لم يذكر التوبة ، فدلَّ على أنه - تعَالَى - قد يعفو عن أصحاب الكبائرِ ، ثم قال : { والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } وهو راجعٌ إلى ما تَقَدَّمَ من ذكر النعم؛ فإنه نصرهم - أولاً - ثم عفا عنهم - ثانياً - وهذا يدل على أن صَاحِبَ الكبيرةِ مُؤمِنٌ .

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)

العامل في « إذْ » قيل : مُضْمَر ، أي : اذكروا .
وقال الزمخشريُّ : « صَرَفَكُمْ » أوْ « لِيَبْتَلِيَكُمْ » .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون ظرفاً لِ « عَصَيْتُمْ » أوْ « تَنَازَعْتُمْ » أو فَشِلْتُمْ .
وقيل : هو ظرف لِ « عَفَا عَنْكُمْ » أي : عفا عنكم إذْ تُصْعِدُون هاربين .
وكل هذه الوجوهِ سائغةٌ ، وكونه ظرفاً لِ « صَرَفَكُمْ » جيدٌ من جهةِ المعنى ، ولِ « عَفَا » جيدٌ من جهة القُرْبِ ، وعلى بعض هذه الأقوالِ تكون المسألةُ من باب التنازعِ ، ويكون على إعمال الأخيرِ منها ، لعدم الإضمارِ في الأول ، ويكون التنازعُ في أكثرِ من عاملينِ .
والجمهور على { تُصْعِدُونَ } - بضم التاء وكسر العين - من : أصْعَدَ في الأرض ، إذا ذهب فيها . والهمزةُ فيه للدخول ، نحو أصبح زيدٌ ، أي : دخل في الصباح ، فالمعنى : إذ تدخلون في الصعود ، ويُبيِّن ذلك قراءة أبيٍّ « تصعدون في الوادي » .
وقرأ الحسنُ ، والسُّلمي ، وقتادةُ : « تَصْعَدُونَ » بفتح التاء والعين - من : صعد في الجبل ، أي : رقي ، والجمع بين القراءتين أنهم - أولاً - أصعدوا في الوادي ، ثم لما هزمهم العدو - صعدوا في الجبل ، وهذا على رَأى مَنْ يُفَرِّق بين صعد وأصْعد ، وقرأ أبو حَيْوَةَ : « تَصَعَّدُون » بالتشديد - وأصله : تَتَصَعَّدُونَ ، حذفت إحدى التاءين ، إما تاء المضارعة ، أو تاء « تَفَعَّل » والجمع بين قراءتِهِ وقراءة غيره كما تقدم .
والجمهورُ { تُصْعِدُونَ } بتاء الخطاب ، وابن مُحَيْصن - ويُرْوَى عن ابن كثيرٍ - بياء الغيبة ، على الالتفاتِ ، وهو حسنٌ .
ويجوز أن يعودَ الضمير على المؤمنين ، أي : { والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين إِذْ تُصْعِدُونَ } فالعاملُ في « إذْ » « فَضْلٍ » ويقال : أصْعَدَ : أبعد في الذهاب ، قال القُتَبِيُّ أصعد : إذا أبْعَد في الذهاب ، وأمعن فيه ، فكأن الإصعادَ إبعادٌ في الأرض كإبعاد الارتفاعِ .
قال الشاعرُ : [ الطويل ]
1662- ألاَ أيُّهَذَا السَّائِلِي ، أيْنَ أصْعَدَتْ؟ ... فَإنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مِوْعِدا
وقال آخرُ : [ الرجز ]
1663- قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ عَلَى الإضعَادِ ... فَالْيَوْمَ سُرِّحْتِ ، وَصَاحَ الْحَادِي
وقال الفرَّاءُ وأبو حاتم : الإصعاد : في ابتداء السفر والمخارج ، والصعود : مصدر صَعَدَ : رقي من سُفْلٍ إلى عُلُو ، ففرَّق هؤلاء بين صَعَد وأصْعَد .
وقال المفضَّلُك صعد وأصعد بمعنًى واحدٍ ، والصعيد : وجْهُ الأرضِ .
قال بعضُ المفسّرين : « وكلتا القراءتين صوابٌ ، فقد كان يومئذ من المهزمين مُصْعِد وصاعد » .
قوله : { وَلاَ تَلْوُونَ } الجمهور على { تَلْوُونَ } - بواوين - وقُرِئَ بإبدال الأولى همزة؛ كراهية اجتماع واوين ، وليس بقياسٍ؛ لكون الضمة عارضة ، والواو المضمومة تُبْدَل همزة بشروط تقدمت في « البقرة » .
منها : ألا تكون الضمة عارضة ، كهذه ، وأن لا تكون مزيدة ، نحو ترهوك .

وألا يمكن تخفيفها ، نحو سُور ونور - جمع سوار ونوار - لأنه يمكن تبكينُها فتقول : سور ونور ، فيخف اللفظ بها .
وألا يُدْغم فيها ، نحو تعوَّذ - مصدر تعوذ .
ومعنى { وَلاَ تَلْوُونَ } ولا ترجعون ، يقال : لَوَى به : ذهب به ، ولَوَى عليه : عطف .
قَالَ الشاعرُ : [ الطويل ]
1664- .. أخُو الْجَهْدِ لا يَلْوِي عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا
وأصله أن المعرِّجَ على الشيءِ يلوي عليه عنقه ، أو عنان دابته ، فإذا مضى - ولم يعرِّج - قيل : لن يلوي ، ثم استعمل في ترك التعريجِ على الشيء وترك الالتفاتِ إليه ، يقال : فلانٌ لا يلوي على كذا أي : لا يلتف إليه ، وأصل { تَلْوُونَ } تلويون ، فَأعِلَّ بحذفِ اللام ، وقد تقدم في قوله : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } [ آل عمران : 78 ] وقرأ الأعمشُ ، وأبو بكر بنُ عَيَّاشٍ - ورويت عن عاصم « تُلوون » بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى .
وقرأ الحسن « تَلُون » بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى .
وقرأ الحسن « تَلُون » - بواو واحدة - وخرجوها على أنه أبدل الواو همزةً ، ثم نقل حركة الهمزة على اللام ، ثم حذف الهمزة ، على القاعدة ، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء - وهي اللام - وقال ابنُ عطيةَ : « وحذفت إحدى الواوين للساكنين ، وكان قد تقدم أن هذه القراءة هي قراءة مركبةٌ على لغة من يهمز الواوَ ، وينقل الحركة » .
وهذا عجيبٌ ، بعد أن يجعلها من باب نقل حركةِ الهمزةِ ، كيف يعودُ ويقول : حذفت إحدى الواوين للساكنين؟ ويُمكن تخريجُ هذه القراءة على وجعين آخرينِ :
أحدهما : أن يقالَ : استُثقلت الضمةُ على الواو؛ لأنها أختها ، فكأنه اجتمع ثلاثُ واواتٍ ، فنُقِلت الضمةُ إلى اللامِ ، فالتقى ساكنانِ - الواو التي هي عينُ الكلمةِ ، والواو التي هي ضميرٌ - فحُذفت الأولى؛ لالتقاء الساكنين ، ولو قال ابن عطيةَ هكذا لكان أولى .
الثاني : أن يكون « تَلُونَ » مضارع وَلِي - من الولاية - وإنما عُدِّي ب « على » لأنه ضُمِّن معنى العطف . وقرأ حُميد بن قيس : « على أُحُدٍ » - بضمتين - يريد الجَبَل ، والمعنى : ولا تلوون على مَنْ فِي جبل أُحُد ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية : والقراءة الشهيرة أقْوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعدما فَرَّ الناسُ عنه ، وهذه الحالُ - من إصعادهم - إنما كانت وهو يدعوهم .
ومعنى الآيةِ : تعرجون ، ولا يلتفت بعضٌ إلى بعضٍ .
قوله : « والرسول يدعوكم » ، مبتدأ وخبر في محل نصب على الحالِ ، العامل فيها « تلوون » .
أي : والرسول يدعوكم في أخراكم ومن ورائكم ، يقول : « إليَّ عِبَاد َالله؛ فأنا رسولُ اللهِ ، من يكر فله الجنَّةُ » .

ويحتمل أنه كان يدعوكم إلى نفسه ، حتى تجتمعوا عنده ، ولا تتفرقوا . و « أخراهم » آخر الناس كما يقال في أولهم ، ويقال : جاء فلانٌ في أخريات الناس .
قوله : { فَأَثَابَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على « تصعدون » و « تلوون » ، ولا يضر كونهما مضارعين؛ لأنهما ماضيان في المعنى؛ لأن « إذ » المضافة إليهما صيرتهما ماضيين ، فكأن المعنى إذا صعدتم ، وألويتم .
الثاني : أنه معطوفٌ على « صرفكم » .
قال الزمخشريُّ { فَأَثَابَكُمْ } عطف على صرفكم ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان :
أحدهما : أنه الباري تعالى .
والثاني : أنه معطوف على « صرفكم » .
قال الزمخشريُّ { فَأَثَابَكُمْ } عطف على صرفكم ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان :
أحدهما : أنه الباري تعالى .
والثاني : أنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : ويجوز أن يكون الضمير في { فَأَثَابَكُمْ } للرسول أي : فآساكم من الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته غمه ما نزل بكم من فوت الغنيمة .
و « غماً » مفعول ثانٍ .
وقوله : { فَأَثَابَكُمْ } هل هو حقيقة أو مجاز فقيل : مجاز كأنه جعل الغم قائماً مقام الثواب الَّذِي كان يحصل لولا الفرارُ فهو كقوله : [ الطويل ]
1665- أخَافُ زِيَاداً أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... أدَاهِم سُوداً أوْ مُحَدْرَجَة سُمْرَا
وقول الآخر :
1666- تحية بينهم ضرب وجميع ... جعل القيود والسياط بمنزلة العطاء ، والضرب بمنزلة التحية .
وقال الفرّاءُ : « الإثابة - هاهنا - بمعنى المعاقبة » وهو يرجع إلى المجاز؛ لأن الإثابة أصلها في الحسنات .
قوله : { بِغَمٍّ } يجوز في الباء أوجهٌ :
أحدها : أن تكون للسببيةِ ، على معنى أن متعلِّق الغَمْ الأول الصحابة ، ومتعلق الغَمِّ الثاني قيل المشركين يوم بدرٍ .
قال الحَسَنُ : يريد غَم يوم أحدٍ للمسلمين بغمّ يوم بدرٍ للمشركينَ ، والمعنى : فأثابكم غماً بالغم الذي أوقعه على أيديكم بالكفار يوم بدرٍ .
وقيل متعلَّق الغَمِّ الرسول ، والمعنى : أذاقكم الله غمًّا بسبب الغَمِّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشلكم ومخالفتكم أمره ، أو فأثابكم الرسول غماً بسبب غفم اغتممتموه لأجله ، والمعنى أن الصحابة لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم شُجَّ وكُسِرت رَبَاعِيَتُه ، وقُتِل عَمه ، اغتممتموه لأجله ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لما رآهم قَد عَصَوْا رَبَّهُم لأجل الغنيمة - ثم بَقَوْا محرومينَ من الغنيمةِ - وقتِلَ أقاربُهم ، اغتم لأجلهم .
الثاني : أن تكون الباء للمصاحبة ، أي : غماً مصاحِباً لغم ، ويكون الغمَّان للصحابة ، بمعنى غَمًّا مع غم أو غماً على غم ، فالغم الأولُ : الهزيمة والقتل ، والثاني إشراف خالد بخيل الكفار ، أو بإرجافهم : قتل الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الأول تتعلق الباء ب { فَأَثَابَكُمْ } .
قال أبو البقاء وقيل : المعنى بسبب غم ، فيكون مفعولاً به .
وعلى الثاني يتعلقُ بمحذوفٍ؛ لأنه صفة لِ « غَمّ » أي : غماً مصاحباً لغم ، أو ملتبساً بغَمٍّ ، وأجاز أبو البقاء أن تكون الباءُ بمعنى « بعد » أو بمعنى « بدل » وجعلها - في هذين الوجهين - صفة ل « غماً » .

وكونها بمعنى « بعد » و « بدل » بعيدٌ ، وكأنه يريدُ تفسير المعنى ، وكذا قَالَ الزمخشريُّ غماً بَعْدَ غَمٍّ . واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة :
أولاً : غَمُّهم بما نالهم من العدوِّ في الأنفس والأموال .
ثانياً : غمُّهم بما لَحِق المسلمين من ذلك .
ثالثاً : غمُّهم بما وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
رابعاً : غمُّهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها .
خامساً : غمُّهم بسبب التوبة التي صارت واجبةً عليهم؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بتركِ الهزيمةِ والعَوْدِ إلى المحاربة بعد الانهزامِ ، وذلك من أشق الأشياء؛ لأن الإنسانَ بعد انهزامه - يَضعُف قلبُه ويجبن ، فإذا أمِرَ بالمعاودةِ ، فإن فعل خاف القتلَ ، وإنْ لم يفعلُ خافَ الكُفْرَ وعِقَابَ الآخِرَةِ - وهذا الغَمُّ أعظمها .
سادسها : غمُّهم حين سمعوا أن محمداً قُتِلَ .
سابعها : غمُّهم حين أشرف خالد بن الوليد عليهم بخَيْل المشركين .
ثامنها : غمُّهم حين أشرف أبو سفيان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذٍ يدعو الناسَ حتى انتهى إلى أصحاب الصخرةِ ، فلما رَأوْهُ وضع رجلٌ سَهْماً في قوسه ، وأراد أن يَرْمِيَه ، فقال : أنا رسولُ اللهِ ، ففرحوا حين وجدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى مَنْ يمتنع به ، فأقبلوا على المشركين ، يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قُتِلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه ، حتى وقفوا بباب الشِّعْب ، فلما نظر المسلمون إليهم همَّهم ذلك ، وظنوا أنهم يميلون عليهم ، فيقتلونهم ، فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لهم أن يَعْلونا ، اللهم إن تُقْتَل هذه العصابةُ لا تُعْبَد في الأرض ، ثم بدأ أصحابه ، فرمَوْهم بالحجارة حتَّى أنزلوهم .
وإذا عرفت هذا فكلُّ واحدٍ من المفسّرين فسَّر هذين الغمين بغمين من هذه الغموم وقال القفّال : وعندنا أن الله - تعالى - ما أراد بقوله : { غُمّاً بِغَمٍّ } اثنين ، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها ، أي : أن اللهَ عاقبكم بغموم كثيرة ، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ، ونزول المشركين من فوق الجبلِ عليكم ، بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ، ومثل إقدامكم على المعصيةِ ، فكأنه - تعالى - قال : أثابكم هذه الغمومَ المتعاقبةَ؛ ليصير ذلك زاجراً لكم عن الإقدام على المعصية ، والاشتغال بما يخالف أمرَ الله تعالى .
والغَمّ : التغطية ، يقال : يوم غَمٌّ ، وليلة غَمَّةٌ - إذا كانا مُظْلِمَيْن - ومنه : غُمَّ الهلال - إذا لَمْ يُرَ ، وغَمَّ الأمرُ ، يَغْمَى - إذا لم يُتَبَيَّنُ .
قوله : { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } هذه لام « كي » وهي لام جرٍّ ، والنصب - هنا - ب « كي » لئلاَّ يلزم دخول حرفِ جرٍّ على مثله ، وفي متعلَّق هذه اللام قولانِ :
أحدهما : أنه { فَأَثَابَكُمْ } وفي « لا » على هذا وجهانِ :
الأول : أنها زائدةٌ؛ لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحُزْن ، والمعنى : أنه غمهم ليُحْزِنهم؛ عقوبةً لهم على تركهم مواقفهم ، قاله أبو البقاء .

الثاني : أنها ليست زائدة ، فقال الزمخشريُّ : معنى { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } لتتمرَّنوا على تجرُّع الغمومِ ، وتتضرروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعدُ على فائتٍ من المنافع ، ولا على مُصِيبٍ من المضارّ .
وقال ابن عطية : « المعنى : لتعلَمُوا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم ورَّطتم أنفسكم ، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إذا ظن البراءة من نفسه » .
ثانيهما : أن اللام تتعلق ب « عَفَا » لأن عَفْوه يُذْهِب كُلَّ حُزْن ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْلِ .
ثم قال : { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم ، قادرٌ على مجازاتها ، وهذا زَجْرٌ للبُعْدِ عَنِ الإقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ .

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)

الأول : أنها مفعول « أنْزَلَ » .
الثاني : أها حال من « نُعَاساً » لأنها في الأصل - صفةٌ ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبت حالاً .
الثالث : أنها مفعولٌ من أجْله ، وهو فاسدٌ؛ لاختلال شَرْطِهِ - وهو اتحادُ الفاعلِ - فإنّ فاعل « أنْزَلَ » غير فاعلِ الأمَنَةِ .
الرابع : أنه حالٌ من المخاطبين في « عَلَيْكُمْ » وفيه حينئذٍ - تأويلانِ :
إما على حَذْف مضافٍ - اي ذور أمَنَةٍ - وإما أن يكون « أمَنَةً » جمع آمن ، نحو بار وبَرَرَة ، وكافر وكَفَرَة .
وألأما « نُعَاساً » فإن أعْرَبْنا « أمَنَةً » مفعولاً به كان بدلاً ، وهو بدل اشتمالٍ؛ لأن كُلاًّ من الأمَنَةِ والنُّعَاسِ يشتملُ على الآخر ، أو عطف بيان عند غير الجمهورِ؛ فإنهم لا يشترطون جريانه في المعارِفِ ، أو مفعولاً من أجلِهِ ، وهو فاسدٌ؛ لما تقدم وإن أعربنا « أمَنَةً » حالاً ، كان « نُعَاساً » مفعولاً ب « أنزَلَ » و « أنْزَلَ » عطف على « فأثَابَكُمْ » وفاعله ضمير اللهِ تَعَالى ، و « أل » في « الْغَمِّ » للعهد؛ لتقدُّم ذِكْره ورد أبو حيان على الزمخشريِّ كون « أمَنَةً » مفعولاً به بما تقدم ، وفيه نظرٌ ، فإن الزمخشريَّ قال أو مفعولاً له بمعنى نعستم أمنة . فقدر له عاملاً يتحد فاعله مع فاعل « أمَنَةً » فكأنه استشعر السؤال ، فلذلك قدرَ عاملاً على أنه قد يُقال : إن الأمَنَةَ من اللهِ تَعَالَى ، بمعنى أنهُ أوقعها بهم ، كأنه قيل : أنزلَ عليكم النعاس ليُؤمِّنَكُمْ به .
و « أمَنَةً » كما يكون مصدراً لمن وقع به الأمن يكون مصدراً لمن أُوقِع به .
وقرأ لجمهور : أمَنَةً - بفتح الميم - إما مصدراً بمعنى الأمن ، أو جمع آمن ، على ما تقدم تفصيله . والنَّخَعِيُّ وابن محيصن - بسكون الميم وهو مصدرٌ فقط ، والأمْن والأمَنة بمعنًى واحدٍ ، وقيل الأمْنُ يكون مع زوالِ سببِ الخَوفِ ، والأمَنة مع بقاء سببِ الخوفِ .
فصل في بيان كيفية النظم
في كيفية النَّظْمِ وَجْهَانِ :
أحدهما : أنه لما وعد المؤمنين بالنصر ، فالنصر لا بدّ وأن يُسبق بإزالة الخوف عنهم؛ ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى منجزٌ وَعْدَهُ في نَصْر المؤمنينَ .
الثاني : أنه - تعالى - بيَّن نَصْرَ المؤمنين - أولاً - فلما عصى بعضهم سلط عليهم الخوفَ .
ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلوب مَنْ كان صادقاً في إيمانه ، مستقِرًّا على دينه بحيث غلب النعاس عنه .
واعلم أن الذين كانُوا مع رسولِ الله يوم أُحُدٍ فريقانِ :
أحدهما : الجازمونَ بنبوَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم فهؤلاء كانوا قاطعينَ بأنَّ اللهَ يَنْصُرُ هذا الدينَ ، وأن هذه الواقعةَ لا تؤدي إلى الاستئصالِ ، فلا جَرَمَ كانوا مؤمنين ، وبلغ ذلك الأمن إلى حيثُ غشيَهم النُّعَاسُ فإن النوم لا يجيء مع الخوفِ ، فقال - هاهنا - في قصة أُحُدٍ : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً } وقال في قصة بدرٍ :

{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ } [ الأنفال : 11 ] .
وأما الفريقُ الثاّنِي فهم المنافقونَ ، فكانوا شاكِّين في نبوتِهِ صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمةِ ، فهؤلاء اشتد جزعُهُمْ ، وعظم خوفُهُمْ .
فإن قيلك لم قدم ذكر الأمَنَة على النُّعَاسِ في قصة أُحُدٍ ، وأخرها في قصة بدرٍ؟
فالجوابُ : أنه لما وعدهم بالنصر ، فالأمن وزوال الخوف إشارةٌ ودليلٌ على إنجاز الوَعْدِ .
قوله : { يغشى } قراءة حمزة والكسائي بالتاء من فوق ، والباقون بالباء؛ ردًّا إلى النُّعَاسِ ، وخرَّجوا قراءة حمزة والكسائي على أنها صفة ل « امَنَةً » ؛ مراعاة لها ، ولا بُدّ من تفصيل ، وهو إن أعربوا « نُعَاساً » بدلاً ، أو عَطْفَ بيانٍ ، أشكل قولهم من وَجْهَيْن :
الأول : أن النُّحاة نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أو عَطْفُ البيانِ ، قدِّمت الصفة ، وأخر غيرها ، وهنا قد قدَّموا البدلَ ، أو عطف البيانِ عليها .
الثاني : أن المعروفَ في لغة العرب أن يُحَدَّث عن البدل ، لا عن المبدَل منه ، تقول : هِنْد حُسْنُها فاتِنٌ ، ولا يجوز فاتنة - إلا قليلاً - فَجَعْلُهم « نُعَاساً » بدلاً من « أمَنَةً » يضعف لهذا .
فإن قيل : قد جاء مراعاة المبدَل منه في قول الشاعر : [ الكامل ]
1667- وَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّرِاةِ كَأَنَّهُ ... مَا حَاجِبَيْنهِ مُعَيَّنٌ بِسَوَادِ
فقال : « مُعَيَّنٌ » ؛ مراعة للهاء في « كأنه » ولم يُرَاعِ البدل - حاجبيه - ومثله قول الآخر : [ الكامل ]
1668- إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّها وَرَواحَهَا ... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعضَبِ
فقال : تركت؛ مراعاة للسيوف ، ولو راعَى البدل لقال : تركا .
فالجوابُ : أنَّ هذا - وإن كان قد قَالَ به بعضُ النحويينَ؛ مستنداً إلى هذين البيتين - مُؤوَّلٌ بأن « معين » خبر لِ « حاجبيه » لجريانهما مَجْرَى الشيء الواحدِ في كلام الْعَرَبِ ، وأنَّ نصب « غُدُوَّهَا وَرَوَاحَهَا » على الظرف ، لا على البدل . وقد تقدم شيء من هذا عند قوله : { عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [ البقرة : 102 ] .
وإن اعربوا « نُعَاساً » مفعولاً به و « أمَنَةً » حالٌ يلزم الفصل - أيضاً - وفي جوازه نظر ، والأحسنُ - حينئذٍ - أن تكون هذه جملة استئنافية جواباً لسؤال مقدَّر ، كأنه قيل : ما حكم هذه الأمَنَة؟ فأخبر بقوله : « تغشى » .
ومن قرأ بالياء أعاد الضمير على « نُعَاساً » وتكون الجملة صفة له ، و « مِنْكُمْ » متعلق بمحذوف ، صفة لِ « طَائِفَةً » .
فصل
قال أبو طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافِّنا يوم أُحُدٍ ، فكان السيفُ يسقط من أحَدِنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه ، وقال ثابتٌ : عن أنسٍ عن أبي طلحةَ قال : رفعت رأسي يومَ أُحُدٍ ، فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النُّعاس .

وقال الزبيرُ : كنت مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدَّ الخوفُ ، فأنزلَ اللهُ علينا النومَ ، واللهِ إنِّ لأسمع قول مُعَتِّب بن قُشَيْر - ما أسمعه إلاّ كالحلم - يقول : « لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شيءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا » .
فصل
قال ابنُ مسعودٍ : النُّعَاسُ في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشَّيْطَانِ ، وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق باللهِ ، والفراغ عن الدنيا ، ولا يكون في الصَّلاة إلا من غاية البعد عن اللهِ تعَالَى . واعلم أنّ ذلك النعاسَ فيه فوائدٌ :
الأولى : أنه وَقَعَ على كافة المؤمنين - لا على الحد المعتاد - فكان معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم ولا شكَّ أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزةَ الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، ومتى صاروا كذلك ازداد أحدهم في محاربة العدو .
الثانية : أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال ، والنوم يفيد عود القوةِ والنشاطِ ، واشتدادَ القوةِ والقدرةِ .
الثالثة : أنَّ الكفارَ لما اشتغلوا بقَتْل المسلمين ألقى اللهُ النومَ على عين من بقي منهم؛ لئلاّ يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد الخوفُ والجُبْنُ في قلوبِهمْ .
الرابعةُ : أن الأعداءَ كانوا في غاية الحرصِ على قتلهم ، فبقاؤهم ف يالنوم مع السَّلامةِ في مثل تلك المعركةِ - من أدلِّ الدَّلائِلِ على أنَّ حِفْظ اللهِ وعصمته معهم ، وذلك مما يُزِيل الخوفَ عن قلوبهم ، ويورثهم مزيدَ الوثوق بوعد الله تعالى .
قوله : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } في هذه الواو ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنها واو الحالِ ، وما بعدها في محل نَصْبٍ على الحال ، والعامل فيها « يَغْشَى » .
الثاني : أنها واو الاستئناف ، وهي التي عبر عناه مَكيٌّ بواو الابتداء .
الثالث : أنها بمعنى « إذْ » ذكره مَكي ، وأبو البقاءِ ، وهو ضعيفٌ .
و « طائفة » مبتدأ ، والخبر { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } وجاز الابتداء بالنكرة لأحدِ شيئين : إما للاعتمادِ على واو الحالِ ، وقد عده بعضهم مسوغاً - وإن كان الأكثرُ لم يذكره- .
وأنشدوا : [ الطويل ]
1669- سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا ... مُحَيَّاكِ أخْفَى ضَوْءهُ كُلَّ شَارِقِ
وإما لأن الموضعَ تفسيلٌ؛ فإن المعنى : يغشى طائفةً ، وطائفة لم يغشهم .
فهو كقوله :
1670- إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَولِ
ولو قُرِئ بنصب « طَائِفَة » - على أن تكون المسألةُ من باب الاشتغالِ - لم يكن ممتنعاً إلا من جهة النقلِ؛ فإنه لم يُحْفظ قراءة ، وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } كما تقدم .
الثاني : أنه « يَظُنُّونَ » والجملة قبله صفة لِ « طَائِفَة » .

الثالث : أنه محذوفٌ ، أي : ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل ، والجملتان صفة لِ « طَائِفَةٌ » أو يكون « يَظُنُّونَ » حالاً من مفعول « أهَمَّتْهُمْ » أو من « طَائِفَةٌ » لتخصُّصه بالوَصْف ، أو خبراً بعد خبر إن قلنا : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ } خر أول . وفيه من الخلاف ما تقدم .
الرابع : أن الخبر { يَقُولُونَ } والجملتان قبله على ما تقدّم من كونهما صفتين ، أو خبرين ، أو إحداهما خبر ، والأخْرَى حالٌ .
ويجوز أن يكون { يَقُولُونَ } صفة أو حالاً - أيضاً - إن قلنا : إن الخبرَ هو الجملة التي قبله ، أو قلنا : إن الخبر مُضْمَرٌ .
قوله : { يَظُنُّونَ } له مفعولان ، فقال أبو البقاءِ : { غَيْرَ الحق } المفعولُ الأولُ ، أي أمراً غير الحق ، و « باللهِ » هو المفعول الثاني .
وقال الزمخشريُّ : { غَيْرَ الحق } في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون باللهِ غير الظن الحق الذي يجب أي يُظَنَّ به . و { ظَنَّ الجاهلية } بدل منه .
ويجوز أن يكون المعنى : يظنون بالله ظن الجاهلية و { غَيْرَ الحق } تأكيداً لِ { يَظُنُّونَ } كقولك : هذا القول غير ما يقول .
فعلى ما قال لا يتعدى « ظن » إلى مفعولين ، بل تكون الباء ظرفية ، كقولك : ظننت بزيد ، أي : جعلته مكان ظني ، وعلى هذا المعنى حمل النحويون قولَ الشاعر : [ الطويل ]
1671- فَقُلْتُ لَهُمْ : ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ
أي قلتُ لهم : اجعلوا ظنكم في الفي مُدَجَّجٍ .
ويحصل في نصب { غَيْرَ الحق } وجهان :
أحدهما : أنه مفعول أول لِ « يَظُنُّونَ » .
والثاني : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملة التي قبله بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشريُّ .
وفي نصب { ظَنَّ الجاهلية } وجهان - أيضاً - : البدل من { غَيْرَ الحق } أو أنه مصدر مؤكِّد لِ { يَظُنُّونَ } .
و « بالله » إما متعلِّق بمحذوف على جَعله مفعولاً ثانياً ، وإما بفعل الظنِّ - على ما تقدم - وإضافة الظنِّ إلى الجاهلية ، قال الزمخشريُّ : « كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدقٍ ، يريد : الظنَّ المختص بالملة الجاهلية ، ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية » .
وقال غيره : المعنى : المدة الجاهلية ، أي : القديمة قبل الإسلامِ ، نحو { حَمِيَّةَ الجاهلية } [ الفتح : 26 ]
فصل
هؤلاء هم المنافقونَ - عبد الله بن أبيٍّ ، ومُعَتب بن قُشَيْرٍ ، وأصحابهما - كان همتهم خلاص أنفسهم ، يقال : همني الشيء - إذا كان من همي وقصدي - وذلك أن الإنسان إذا اشتدَّ انشغاله بالشيء صار غافلاً عما سواه ، فلما كان أحَبُّ الأشياء إلى الإنسان نفسَه ، فعند الخوفِ على النفس يصير ذاهلاً عن كل ما سواها ، فهذا هو المرادُ من قوله : { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } ، وفي هذا الظنِّ احتمالانِ :
أحدهما - وهو الأظهرُ- : أنهم كانوا يقولون في أنفسهم : لو كان محمدٌ مُحِقًّا في دعواه لما سُلِّطَ الكفار عليه - وهذا ظنٌّ فاسدٌ ، أما على قول أهلِ السُّنَّةِ فلأنه - تعالى - يفعل ما يشاءُ ، ويحكمُ ما يريدُ ، لا اعتراض عليه .

وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال اللهِ وأحكامِهِ ، فلا يبعد أن يكون للهِ حكمٌ خفيَّةٌ ، وألطافٌ مَرْعِيَّةٌ في تخلية الكافر بحيثُ يقهر المسلم ، فإنَّ الدنيا دارُ امتحانٍ وابتلاء ، ووجوه المصالحِ مستورةٌ عن العقول .
قال القفال : لو كان كون المؤمنِ محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناسُ إلى معرفة كون المُحِقّ مُحِقًّا ، وذلك ينافي التكليفَ ، واستحقاق الثوابِ والعقابِ ، والمُحِقُّ إنما يُعْرَف بما معه من الدَّلائل والبيِّنات ، فأمّا القَهْرُ فقد يكونُ من المُبْطِل للمحقِّ ومن المحِقِّ للمُبْطِلِ .
الاحتمالُ الثاني : أن ذلكَ الظنَّ هو أنهم كانوا يُنكِرون إلَه الْعَالَمِ ، وينكرون النبوةَ والبعثَ - فلا جَرَمَ - ما وثقوا بقول النبيِّ صلى الله عليه وسفم في أنَّ اللهَ تعَالى يُقَوِّيهم وَيَنْصُرُهُمْ .
وقيل : ظنوا أن محمداً قد قُتِل . و { ظَنَّ الجاهلية } بدل من قوله : { غَيْرَ الحق } وفائدة هذا الترتيب أنَّ غَيْرَ الحقِّ أديانٌ كثيرةٌ ، وأقبحُهَا مقالة أهل الجاهلية ، فذكر أنهم يظنون بالله غير الحق ثم بيَّن أنهم اختاروا من أقسامِ الأديانِ التي هي غيرُ حَقَّةٍ أقبحها وأكثرها بطلاناً ، وهو ظنُّ أهل الجاهلية .
قوله : { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } « من » - في { مِن شَيْءٍ } - زائدة في المبتدأ ، وفي الخبر وجهانِ :
أحدهما - وهو الأصحُّ- : أنه « لَنَا » فيكون { مِنَ الأمر } في محل نصبٍ على الحالِ من « شَيءٍ » لأنه نعتُ نكرة ، قدم عليها ، فنصب حالاً ، وتعلق بمحذوفٍ .
الثاني : - أجازه أبو البقاء - أن يكون { مِنَ الأمر } هو الخبر ، و « لنا » تبيين ، وبه تتم الفائدةُ كقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] .
وهذا ليس بشيء؛ لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذٍ يتعلق بمحذوفٍ ، وإذا كان كذلك فيصير « لَنَا » من جملة أخرى ، فتبقى الجملةُ من المبتدأ والخبر غير مستقلةٍ بالفائدةِ ، وليس نظيراً لقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } فإن « لَهُ » فيها متعلق بنفس « كُفُواً » لا بمحذوفٍ ، وهو نظيرُ قولكَ : لم يكن أحدٌ قاتلاً لبكرٍ . ف « لبكر » متعلق بنفس الخبر . وهل هنا الاستفهام عن حقيقته ، أم لا؟ فيه وجهانِ :
أظهرهما : نَعَمْ ، ويعنون بالأمر : النصر والغلبة .
والثاني : أنه بمعنى النفي ، كأنهم قالوا : ليس لنا من الأمر - أي النصر - شيء ، وإليه ذَهَبَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ .
ولكن يضعف هذا بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } فإن من نَفَى عن نفسه شيئاً لا يجاب بأنه ثبت لغيره؛ لأنه يُقِرُّ بذلك ، اللهم إلاَّ أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة ، فكأنَّهم قالوا : ليس لنا من الأمر شيءٌ ، بَلْ لمن أكرهنا على الخروج وحَمَلَنا عليه ، فحينئذ يحْسُن الجوابُ بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } لقولهم هذا ، وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراض بين الجُمَل التي جاءت بعد قوله : « وطائفة » فإن قوله : { يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم } وكذا { يَقُولُونَ } - الثانية - إما خبر عن « طَائِفَةٌ » أو حال مما قبلها .

فصل
اعلم أنَّ قولَهُ : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } حكايةٌ للشبهة التي تمسَّك بها المنافقون ، وهي تحتمل وجوهاً :
الأول : أنَّ عبد الله بن أبيٍّ لما شاوره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعةِ أشار عليه بأن لا يخرج من المدينةِ ، ثُمَّ إنَّ الصحابةَ ألَحُّوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم ، فغضب عبد اللهِ بنُ أبي من ذلك ، فقال : عصاني وأطاع الوِلْدان ، فلما كثر القتل في بني الخزرج ، ورجع عبدُ الله بن أبي قيل له : قُتِل بنو الخَزرج!! فقال : « هل لنا من الأمر من شيء » ؟ يعني : أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرتُه بأن لا يخرج من « المدينة » .
والمعنى : هل لنا أمرٌ يُطاع؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار .
الثاني : ما تقدم في الإعرابِ أنَّ معناه النفي ، أي : هل لنا من الشيء الذي كان يَعِدُنا به محمد صلى الله عليه وسلم وهو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار .
الثالث : أن التقدير : أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ ويكون المراد منه الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكونَ قائلُهُ من المؤمنين ، ويكون المرادُ منه إظهار الشَّفَقَة ، أنه متى يكون الفرجُ والنُّصرة؟ وهو المرادُ - أيضاً - بقوله : هو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار .
الثا { يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } .
وقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } قرأ أبو عمرو « كُلُّهُ » - رفعاً - وفيه وجهان :
الأول : - وهو الأظهر - أنه رفع بالابتداء ، و « لله » خبره والجملة خبر « إنَّ » نحو : إن مال زيد كله عنده .
الثاني : أنه توكيد على المحل ، فإن اسمها - في الأصل - مرفوعٌ بالابتداء ، وهذا مذهبُ الزَّجَّاجِ والجَرْمي ، يُجْرُون التوابعَ كلَّها مُجْرَى عطف النسق ، فيكون « للهِ » خبراً لِ « إنَّ » أيضاً .
وقرأ الباقون بالنصب ، فيكون تأكيداً لاسم « إنَّ » وحَكَى مكي عن الأخفش أنه بدل منه - وليس بواضح - و « للهِ » خبر « إنَّ » .
وقيل على النعت؛ لأنَّ لفظة « كُلّ » للتأكيد ، فكانت كلفظة « أجمع » .
فصل
هذه الآية تدل على أن جميع المحدثات خلق لله تعالى بقضائه وقدره؛ لأن المنافقين قالوا : إن محمداً لو قبل مِنَّا رَأيَنَأ ونُصْحَنا ، ملا وقع في هذه المِحْنةِ ، فأجابهم اللهُ تَعَالَى بأن الأمرَ كُلَّه للهِ ، وهذا [ الجواب ] إنما ينتظم إذا كانت أفعالُ العبادِ بقضاء اللهِ وقدَرِهِ؛ إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعاً لشبهة المنافقين .

قوله : { يُخْفُونَ } إما خبر لِ { طَآئِفَةً } وإما حال مما قبله - كما تقدم - وقوله : { يَقُولُونَ } يحتمل هذينِ الوجهينِ ، ويحتمل أن يكون تفسيراً لقوله : { يُخْفُونَ } فلا محلَّ له حينئذٍ .
قوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ } كقوله : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } وقد عرف الصحيح من الوجهين .
وقوله : « ما قُتِلْنا ههنا » جواب « لَوْ » وجاء على الأفصح ، فإن جوابها إذا كان منفياً ب « ما » فالأكثر عدم اللام ، وفي الإيجاب بالعكس ، وقد أعرب الزمخشريُّ هذه الجُمَلَ الواقعة بعد قوله : « وطائفة » إعراباً أفْضى إلى خروج المبتدأ بلا خبر فقال : « فإن قُلتَ : كيف مواقعُ هذه الجُمَلِ الواقعة بعد قوله : » وطائفة « .
قُلْتُ : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ } صفة ل { َطَآئِفَةٌ } و { يَظُنُّونَ } صفة أخرى ، أو حالٌ ، بمعنى : قد أهمتهم أنفسهم ظَانِّين ، أو استئنافٌ على وجه البيانِ للجملة قبلها و { يَقُولُونَ } بدلٌ من { يَظُنُّونَ } .
فإن قلتَ : كيف صَحَّ أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلاً من الإخبار بالظنِّ؟
قلتُ : كانت مسألتهم صادرة عن الظن ، فلذلك جاز إبداله منه ، و { يُخْفُونَ } حال من { يَقُولُونَ } و { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } اعتراض بين الحالِ وذي الحالِ ، و { يَقُولُونَ } بدلٌ من { يُخْفُونَ } والأجود أن يكون استئنافاً » . انتهى .
وهذا من أبي القاسم بناءً على أنَّ الخبرَ محذوفٌ ، كما تقدم تقريره في قوله : { وَطَآئِفَةٌ } أي : ومنكم طائفةٌ ، فإنه موضعُ تفصيلٍ .
فإن قيل : ما الفرق بين قوله : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } وبين قوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ } وقد أجاب عن الأول بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } وأجاب ههنا بغير ذلك؟ فالجوابُ من وجهين :
الأول : أن المنافقينَ قال بعضهم لبعض : لو كان لنا عقولٌ لم نخرج مع محمدٍ إلى قتالِ أهلِ مكةَ ، وما قُتِلْنَا هاهنا ، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمر ليس كما قلتم من أنَّ الأمرَ كلَّه للهِ ، وهذا كالمناظرةِ الدائرةِ بين أهلِ السُّنَّةِ والمُعْتَزلَةِ؛ فإنَّ السُّنِّي يقولُ : الأمر كُلُّهُ - في الطَّاعِةِ والمعصيةِ ، والإيمانِ والكُفْرِ بيد اللهِ ، والمعتزلي يقول : ليس الأمر كذلكح فإن الإنسانَ مختارٌ ، وميتقلٌّ بالفعل ، إن شاء آمن وإن شاء كَفَر ، فَعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها ، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جواباً عن الشُّبْهَةِ الأولى .
الثاني : أن المراد من قوله : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } أي : هل لنا من النُّصْرَة التي وَعَدَنَا بها محمد صلى الله عليه وسلم شيء؟ ويكون المراد من قوله : « لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا » هو ما كان بقوله عبد الله بن أبي من أن محمداً لو أطاعني ما خرج عن « المدينة » ، وما قُتِلْنا ههنا .

واعلم أنه - تعالى - أجاب عن هذه [ الشُّبْهَةَ ] من ثلاثة أوجهٍ :
الأول : قوله : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } ومعناه : أن الحَذَرَ لا يدفع القَدَرَ ، فالذين قَدَّر الله عليهم القَتْلَ ، لا بُدَّ وأن يُقْتَلُوا على كل تقديرٍ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالى لما أخبره أنه يقتل ، فلو لم يُقْتَلْ ، لانْقَلَبَ علمه جهلاً .
وقال المفسِّرون : لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم مَنْ كَتَبَ اللهُ عليهم القَتْلَ إلى مضاجعهم ومصارعهم ، حتى يُوجَدَ ما علم الله أنه يُوجد وقيل : تقديرُ الكلام : كأنه قيل للمنافقين : لو جلستم في بيوتكم ، وتَخَلَّفْتُمْ عن الجهاد ، لخرج المؤمنون الذين كُتِبَ عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم ، ولم يتخلَّفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلُّفكم .
قوله : { لَبَرَزَ } جاء على الأفصح ، وهو ثُبُوتُ اللامِ في جواب « لو » مثبتاً . وقراءة الجمهور { لَبَرَزَ } مخفَّفاً مبنياً للفاعل ، وقرأ أبو حَيْوَة « لَبُرِّزَ » مشدَّداً ، مبينيًّا للمفعول ، عدَّاه بالتضعيف . وقرئ « كَتَبَ » مبنياً للفاعل ، و « القَتْلَ » مفعول به .
وقرأ الحسنُ : { كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال } رَفعاً .
الجوابُ الثاني عن هذه الشُّبْهَةِ قوله : « وليبتلي » فيه خمسة أوجُهٍ :
فقيل : إنه متعلق بفعل قبله ، وتقديره : فَرَضَ اللهُ عليكم القتَالَ ، ولم يَنْصُرْكُمْ يوم أُحُدٍ ، ليبتلي ما في صدوركم ، أي : ضمائركم .
وقيل : بفعل بعده ، أي : ليبتلي فَعَلَ هذه الأشياء .
وقيل : الواو زائدة ، واللام متعلقة بما قبلها .
وقيل : « وليبتلي » عطف على « ليبتلي » الأول وإنما كُرِّرت لطول الكلام ، فعطف عليه { وَلِيُمَحِّصَ } قاله ابنُ بحرٍ .
وقيل : هو عطف على علةٍ محذوفة تقديره : ليقضي اللهُ أمرَه وليبتلي .
الجواب الثالث عن هذه الشُّبْهَةِ قوله : { وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } فيه وَجْهَانِ :
أحدهما : أن هذه الواقعة تخرج ما في قلوبكم من الوساوس والشبهات ، وتطهرها .
الثاني : أنها تصيره كَفَّارةً لذنوبكم ، فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات .
فإن قيل : قد سبق ذِكْرُ الابتلاء في قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } [ آل عمران : 152 ] فلم أعادَه؟
فالجواب : أنه أعادهُ؛ لطول الكلام بينهما ، ولأن الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين ، والابتلاء الثاني سائر الأحوال .
فإن قيل : قوله : { وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ } المرادُ منه القلب؛ لقوله : { القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] فجعل متعلق الابتلاء ما انطوى عليه الصَّدْرُ - وهو ما في القلب من النِّيَّةِ - وجعل متعلق التمحيص ما في القلب - وهو النيات والعقائد - فلم خالف بين اللفظين في المتعلِّق؟
فالجوابُ : أنه لما اختلف المتعلَّقان حسنَ اختلافُ لفظَيْهما . ثم قال : { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي : الأسرار والضمائر؛ لأنها حالَّةٌ فيها ، مصاحبة لها ، وذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يَخْفَى عليه ما في الصدور وغيره - لأنه عالم بجميع المعلومات - وإنما ابتلاهم لمَحْض الإلهية .

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

إنما ثُنّي « الْجَمْعَان » -وإن كان اسم جمع- وقد نَصًّ النُّحَاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع إلا شذوذاً- لأنه أريد به النوع؛ فإن المعنى جَمْع المؤمنين وجَمْع المشركين ، فلما أريد به ذلك ثُنِّي ، كقوله : [ الطويل ]
1672- وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإنْ هُمَا ... تَعَاطَى الْقَنَا قَوْماً هُمَا أخَوَانِ
فصل
{ تَوَلَّوْاْ } تنهزموا { يَوْمَ التقى الجمعان } جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أُحُدٍ ، وكان قد انهزم أكْثَرُ المسلمين ، ولم يَبْقَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا ثلاثةَ عشر رجلاً ، ستةٌ من المهاجرين : أبُو بَكْرٍ ، وأبو عُبّيْدَةَ بن الجراح وعليٌّ ، وطَلْحَة ، وعبد الرحمن بن عَوْفٍ ، وسعد بن ابي وَقَّاصٍ -وسبعة من الأنصار- حباب بن المنذر وأو دُجَانَة ، وعاصم بن ثابت ، والحارث بن الصِّمَّة ، وسهل بن حُنَيْف ، وأسَيْد بن حُضَيْر ، وسعد بن مُعّاذٍ- وقيل : أرْبَعَةَ عشَرَ؛ سبعةٌ من المهاجرين ، فذكر الزبير بن العوّام معهم ، وسبعةٌ من الأنصار .
وقيل : إن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذٍ على الموت : ثلاثة من المهاجرين : طلحة ، والزبير ، وعلي ، وخمسة من الأنصار : أبو دُجَانة ، والحارث بن الصِّمَّة ، وحباب بن المُنْذِرِ ، وعاصم بن ثابتٍ ، وسهل بن حنيف ، ثم لم يقتل منهم أحد .
ورُوي أنه أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثينَ ، كلهم يجيء ، ويَجْثو بين يديه ، ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السَّلامُ غيرَ مُودَّعٍ .
قوله : { إِنَّمَا استزلهم الشيطان } السين في { استزلهم } للطلب ، والظاهر أن استفعل ها هنا -بمعنى أفْعَل؛ لأن القصة تدلُّ عليه ، فالمعنى : حَمَلَة على الزلة ، فيكون ك « اسْتَلَّ » و « أبَلَّ » واستزلَّ بمعنى وَاحِدٍ ، قال تعالى : { فَأَزَلَّهُمَا الشيطان } [ البقرة : 36 ] .
وقال ابن قتيبةَ : { استزلهم } طلب زلَّتَهُمْ ، كما يقال : استعجلته : أي : طلبت عجلته ، واستعملته طلبت عمله .
فصل
قال الكعبيُّ : الآية تدلُّ على أن المعاصيَ لا تُنْسَب إلى الله؛ فإنه -تعالى- نسبها هنا إلى الشِّيْطَانِ ، فهو كقوله تعالى -حكاية عن موسى- : { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } [ القصص : 15 ] وكقوله -حكاية عن يُوسفَ- : { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي } [ يوسف : 100 ] وقوله -حكاية عن صاحب موسى- : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] .
قوله : { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } فيه وجهانِ :
الأول : أن الباء للإلصاق ، كقولك : كتبت بالقَلَم ، وقطعت بالسِّكِّين ، والمعنى : أنه قد صدرت عنهم جنايات ، فبواسطتها قدر الشَّيطان على لستزلالهم ، وعلى هذا التقدير اختلفوا :
فقال الزَّجَّاجُ : إنهم لم يتولَّوْا عناداً ، ولا فراراً من الزَّحْف ، رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكَّرهم الشيطانُ ذنوباً -كانت لهم- فكرهوا البقاء إللا على حالٍ يَرْضَوْنَهَا .
وقيل : لما أذنبوا -بمفارقة المركز ، أو برغبتهم في الغنيمة ، أو بفشلهم عن الجهاد- أزلهم الشيطانُ بهذه المعصيةِ ، وأوقعهم في الهزيمة .
الثاني : أن تكونَ الباء للتبعيض ، والمعنى : أنَّ هذه الزَّلَّةَ وقعت لهم في بعض أعمالهم .

قوله : { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } هذه الآية تدل على أن تلك الزَّلَّة ما كانت بسبب الكُفْرِ؛ فإن العفو عن الكفر لا يجوز؛ لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز .
قالت المعتزلة : ذلك الذنب إن كان من الصغائر ، جاء العفو عنه من غير توبةٍ ، وإن كان من الكبائر لم يَجُز العفو عنه من غيب توبةٍ ، وإن كان من الكبائر لم يَجُز العفو عنه من غير توبة -وإن كان ذلك غير مذكور في الآية .
قال القاضي : والقربُ أن ذلك الذنب كان من الصغائر ، لوجهين :
أحدهما : أنه لال يكاد -في الكبائر- يقال : [ إنها زَلَّة ] ، إنما يقال ذلك في الصغائر .
الثاني : ان القوم ظنوا أنَّ الهزيمةَ لما وقعت على المشركين ، لم يَبْقَ إلى ثباتهم في ذلك المكانِ حاجة فلا جرم -انقلبوا عنه ، وتحوَّلوا لطلب الغنيمة ، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مَدْخَلاً .
قال ابنُ الخَطِيبِ : وهذه تكلُّفات لا حاجة إليها ، وقد بينَّا كونها من الكبائر ، والاجتهاد لا مدخل له مع النص الصريح بلزوم المركز ، سواء كانت الغلبة لهم ، أو عليهم .
ثم قال : { إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي { غَفُورٌ } لمن تاب ، { حَلِيمٌ } لا يعجل بالعقوبة ، وهذا يدل على أن ذلك الذنب كان من الكبائر؛ لأن لو كان من الصغائر لوجب ان يعفو عنه -على قول المعتزلة- ولو كان العفو واجباً لما حَسُنَ التمدُّح به؛ لأن من يظلم إنساناً لا يحسُن ان يتمدّح بأنه عفا عنه ، وغفر له .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)

وجه النظم أن المنافقين كانوا يعيّرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار ، بقولهم : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } ثم إنه ظهر عند بعض المؤمنين فتورٌ وفشلٌ في الجهاد ، حتى وقع يومَ أحُدٍ ما وقع ، وعفا اللهُ بفضله عنهم ، فنهاهم في هذه الآية عن القول بمثل مقالة المنافقين ، لمن يريد الخروج إلى الجهادِ ، فقال : لا تقولوا -لمن يريد الخروجَ إلى الجهاد- : لو لم تخرجوا لما متم ، وما قُتِلْتُم ، فإن الله هو المُحْيي والمميت ، فمن قُدِّر له البقاءُ لم يُقْتَل في الجهاد ، ومن قُدِّر له الموتُ مات وإن لم يجاهد ، وهو المراد بقوله : { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ } .
وأيضاً فالذي يُقْتَل في الجهاد ، لو لم يخرج إلى الجهاد ، لكان يموت لا محالة ، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يُقْتَلَ في الجهاد -حتى يستوجب الثوابَ العظيمَ- خيرٌ له من أي يموت من غير فائدة ، وهو المرادُ بقوله : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } .
واختلفوا في { الذين كَفَرُواْ } فقيل : هل هو كافر يقول هكذا .
وقيل : إنه مخصوصٌ بالمنافقين؛ لأن هذه الآيات في شرح أحوالهم .
وقيل : مختصة بعبد الله بن أبيّ ابن مسلول ومعتب بن قُشَير ، وسائر أصحابهما .
قوله : { لإِخْوَانِهِمْ } قال الزمخشريُّ : « لأجل إخوانكم » . وهذا يدل على أن أولئك الإخوان كانوا مَيِّتين عند هذا القول ويُحْتمل ان يكونَ المراد منه الأخوة في النسب ، كقوله تعالى : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } [ الأعراف : 65 ] ويكون المقتولون من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين ، فقال المنافقونَ هذا الكلام ، بعد أن قُتِلَ بعضهم في بعض الغزوات .
قوله : { إِذَا ضَرَبُواْ } « إذا » ظرف مستقبل ، فلذلك اضطربت أقوالُ المعربين -هنا- من حيثُ إن العامل فيها { قَالُواْ } -وهو ماضٍ- فقال الزمخشريُّ : « فإن قُلْتَ : كيف قيل : { إِذَا ضَرَبُواْ } مع » قالوا « ؟ قلت : هو حكاية حال ماضية ، كقولك : حين يضربون في الأرض » .
وقال أبو البقاء بعد قول قريب من قول الزمخشريِّ : « ويجوز أن يكون { كَفَرُواْ } و { قَالُواْ } ماضيين ، يُراد بهما المستقبل المحكي به الحال فعلى هذا يكون التقدير : يكفرون ، ويقولون لإخوانهم » . انتهى .
ففي كلا الوجهين حكاية حال ، لكن في الأول حكاية حال ماضية ، وفي الثاني مستقبلة ، وهو -من هذه الحيثية- كقوله تعالى : { حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ البقرة : 214 ] . ويجوز أن يراد بها الاستقبال ، لا على سبيل الحكاية ، بل لوقوعه صلة لموصول ، وقد نصَّ بعضهم على أن الماضي -إذا وقع صلة لموصول- صلح للاستقبال ، كقوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } [ المائدة : 34 ] . وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ ، وقال : « دخلت » إذا « وهي حرفُ استقبالٍ -من حيثُ » الذين « اسم فيه إبهام ، يعم مَنْ قال في الماضي ، ومَنْ يقول في الاستقبال ، ومن حيثُ هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان » يعني : فتكون حكاية حالٍ مستقبلة .

قال ابن الخَطِيبِ : إنما عَبَّرَ عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين :
إحداهما : أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل ، قد يُعَبَّر عنه بأنه حَدَث ، أو هو حادث ، قال تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] وقال : { إِنَّكَ مَيِّتٌ } [ الزمر : 30 ] فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقبل لم يكن فيه ذلك المعنى ، فلما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي ، دلَّ على أن جِدَّهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية ، فصار بسبب ذلك الجد ، هذا المستقبل كالواقع .
الثانية : أنه -تعالى- لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ، دلَّ ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام ، بل المقصود الإخبار عن جِدِّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشُّبْهَةِ « .
وقدَّر أبو حيّان : مضافاً محذوفاً وهو عامل في » إذا « تقديره : وقالوا لهلاك إخوانهم ، أي : مخافة أن يهلك إخوانهم إذا سافروا ، أو غَزَوْا ، فقدَّر العامل مصدراً مُنْحَلاًّ لِ » أن « والمضارع ، حتى يكون مستقبلاً ، قال : لكن يكون الضمير في قوله : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا } عائداً على { لإِخْوَانِهِمْ } لفظاً ، وعلى غيرهم معنى -أي : يعود على إخوان آخرين ، وهم الذين تَقَدَّمَ موتُهم بسبب سفرٍ ، أو غزو ، وقَصْدُهُمْ بذلك تثبيطُ الباقين- وهو مثل قوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [ فاطر : 11 ] وقول العربِ : عندي درهم ونِصْفُه .
وقول الشاعرِ : [ البسيط ]
1673- قَالَتْ : ألاَ لَيْتَما هَذَا الحَمَامُ لَنَا ... إلَى حَمَامَتِنَا ، أو نِصْفُهُ فَقَدِ
المعنى : من معمر آخر ، ونصف درهم آخر ، ونصف حمام آخرَ .
وقال قُطربٌ : كلة » إذْ « و » إذا « يجوز إقامة كل واحد منهما مُقَامَ الأخْرَى ، فيكون » إذا « هنا بمعنى » إذْ « .
قال بعضهم : وهذا ليس بشيء .
قال ابن الخَطِيبِ : » أقول : هذا -الذي قاله قُطْرُبٌ- كلامٌ حسنٌ ، وذلك لأنا جوَّزْنا إثبات اللغة بشعرٍ مجهولٍ ، فنقول عن قائل مجهول ، فلأنْ يُجَوَّزَ إثباتها بالقرآن العظيم كان ذلك اولى ، أقصى ما في الباب أن يقال : « إذا » حقيقة في المستقبل ، ولكن لم لا يجوز استعماله في الماضي على سبيل المجازِ ، لما بينه وبين كلمة « إذْ » من المشابهة الشديدة ، وكثيراً أرى النحويين يتحيَّرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهولٍ فَرِحوا به ، وأنا شديدُ التعجُّب منهم؛ فإنهم إذا جعلوا ورودَ القرآنِ به دليلاً على صحته كان أولى « .
قوله : { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } -بالتشديد- جمع غازٍ -كالرُّكَّع والسُّجَّد- جمع راكع وساجد- وقياسه : غُزَاة كرام ورُمَاة- ولكنهم جملوا المعتل على الصحيح ، في نحو ضارب وضُرَّب ، وصائم وصُوَّم .

وقال الزَّهريُّ والحسنُ « غُزًى » -بالتخفيف- وفيها وجهانِ :
الأول : أنه خفف الزاي ، كراهية التثقيل في الجمع .
الثاني : أن أصله : غُزاة -كقُضاة ورُماة- ولكنه حذف تاء التأنيث؛ لأن نفس الصيغة دالَةٌ على الجمع فالتاء مُستغنًى عنها .
قال ابنُ عَطِيَّةَ : « وهذا الحذفُ كثيرٌ في كلامهم .
ومنه قول الشاعر يمدح الكسائِي : [ الطويل ]
1674- أبَى الذَّمَّ أخْلاَقُ الْكِسَائِيِّ ، وَانْتَحَى ... بِهِ المَجْدُ أخْلاَقَ الأبُوِّ السَّوابِقِ
يريد : الأبُوَّة -جمع أب- كما أن العمومة جمع عم ، والبُنُوَّة جمع ابن وقد قالوا : ابن ، وبنو » .
ورد عليه أبو حيّان بأن الحذف ليس بكثير ، وأن قوله : حذف التاء من عمومة ، ليس كذلك ، بل الأصل : عموم -من غير تاء- ثم أدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع ، فما جاء على « فعول » -من غير تاء- هو الأصل ، نحو : عموم وفحول ، وما جاء فيه التاء ، فهو الذي يحتاج إلى تأويله بالجمع ، والجمع لم يُبْنَ على هذه التاء ، حتى يُدَّعَى حَذْفُها ، وهذا بخلاف قُضَاة وبابه؛ فإنه بني عليها ، فيمكن ادعاء الحذف فيه ، وأما أبوة وبُنوة فليسا جَمْعَيْن ، بل مصدرين ، وأما أبُوّ -في البيت- فهو شاذّ عند النحاة من جهة أنه من حقِّهِ أن يُعلَّه ، فيقول : « أبَيّ » بقلب الواوين ياءين ، نحو : عُصِيّ ، ويقال غُزَّاء بالمد أيضاً ، وهو شاذ .
فتحصَّل في غازٍ ثلاثة جموع في التكسير : غُزَاة كقُضاة ، وغُزًى كصوَّم ، وغُزَّاء كصُوَّام ، وجمع رابع ، وهو جمع سلامة ، والجملة كلُّها في محل نصب بالقول .
قال القرطبيُّ : « والمغزية : المرأة التي غزا زوجها ، وأتانٌ مُغْزِية : متأخِّرةُ النِّتَاجِ ، ثم تنتج وأغْزَت الناقة إذا عسر لِقَاحُها ، والغَزْو : قصد الشيء ، والمَغْزَى : المَقْصِد ، ويقال : -في النسب إلى الغزو : غَزَوِيّ » .
قال الواحديُّ : « في الآية محذوف ، يدل عليه الكلام ، والتقدير : { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } فماتوا { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } فقتلوا ، { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } فقوله : { مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } يدل على قتلهم وموتهم » .
فصل
المراد بالضَّرْبِ : السفر البعيد ، وقوله : « غُزًّى » هم الغُزَاة الخارجون للجهاد ، فكان المنافقونَ يقولون -إذا رَأوْا مَنْ مات في سفر أو غزو- : إنما ماتوا ، أو قتلوا بسبب السفر والغزو ، وقصدهم بذلك تنفير الناس .
فإن قيل : لم ذكر الغزو بعد الضرب في الأرض -وهو داخل فيه؟
فالجوابُ : أن الضرب في الأرض يرادُ به السفر البعيد ، لا القريب ، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحدٍ لا يوصف بأنه ضارب في الأرض ، وفي الغزو لا فرق بينه وبين قريبه وبعيده ، فلذلك أورد الغزو عن الضرب في الأرض .
قوله : { لِيَجْعَلَ الله } في هذه اللام قولان :
قيل : إنها لام « كَيْ » .
وقيل : إنها لام العاقبة والصيرورة ، فعلى القول الأول في تعلُّق هذه اللام وجهانِ :
فقيل : التقدير : أوقع ذلك -أي : القول ، أو المعتقد- ليجعله حَسْرَةً ، أو ندمَهم ، كذا قدره أبو البقاء وأجاز الزمخشريُّ أن تتعلق بجملة النفي ، وذلك على معنيين- باعتبار ما يراد باسم الإشارة .

أما الاعتبار الأول ، فإنه قال : « يعني لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله اللهُ حَسْرةً في قلوبكم خاصَّةً ، ويصون منها قلوبكم » ، فجعل ذلك إشارة إلى القول والاعتقاد .
وأما الاعتبار الثاني فإنه قال : « ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلَّ عليه النَّهْيُّ ، أي : لا تكونوا مثلهم؛ ليجعلَ اللهُ انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمُّهم ويغيظهم » .
وردّ عليه أبو حيان المعنى الأول بالمعنى الثاني الذي ذكره هو ، فقال -بعد ما حكى عنه المعنى الأول : - « وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه؛ لأن جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي ، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي ، وهو انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون ، يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم توافقهم فيما قالوه واعتقدوه ، لا تضربوا في الأرض ولا تغزو ، فالتبسَ على الزمخشريِّ استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ، وفَهْم هذا فيه خفاءٌ ودقةٌ » .
قال شهاب الدين : ولا أدري ما وجه تفنيد كلام أبي القاسم ، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه؟
وقال أبو حَيَّانَ -أيضاً- : « وقال ابنُ عِيسَى وغيره ، اللامُ متعلِّقة بالكون ، أي : لا تكونوا كهؤلاء ، ليجعل الله ذلك حَسْرَةً في قلوبهم دونكم ، ومنه اخذ الزمخشريُّ قوله ، لكن ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص ، وقد بينَّا فساد هذا القول » .
وقوله : وذاك لم ينص ، بل قد نَصَّ ، فإنه قال : فإن قُلْتَ : ما متعلق { لِيَجْعَلَ } ؟ قلت : { َقَالُواْ } أو { لاَ تَكُونُواْ } . وأيُّ نَصٍّ أظهرُ من هذا؟ ولا يجوز تعلق اللام -ومعناها التعليل- ب { قَالُواْ } لفساد المعنى؛ لأنهم لم يقولوه لذلك ، بل لتثبيط المؤمنين عن الجهاد .
وعلى القول الثاني -أعني : كونها للعاقبة تتعلق ب { قَالُواْ } والمعنى : أنهم قالوا ذلك لغرض من أغراضهم ، فكان عاقبة قولهم ، ومصيره إلى الحسرة ، والندامة ، كقوله تعالى : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] وهم لم يلتقطوه لذلك ، ولكن كان مآله لذلك . ولكن كونها للصيرورة لم يعرفه أكثر النحويين ، وإنما هو شيءُ ينسبونه للأخفش ، وما ورد من ذلك يؤولونه على العكس من الكلام ، نحو : { فَبَشِّرْهُم } [ آل عمران : 21 ] وهذا رأي الزمخشري؛ فإنه شبه هذه اللام باللام في { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ومذهبه في تلك أنها للعلة -بالتأويل المذكور والجَعْلُ -هنا- بمعنى التَّصْييرِ .
فصل
اختلفوا في المشار إليه ب « ذَلِكَ » : فعن الزَّجاجِ هو الظَّنُّ ، ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يُقْتَلُوا .
وقال الزمخشريُّ ما معناه : الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول .

وقريب منه قول ابن عطيةَ : « الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم » .
وقال ابنُ عَطِيَّة -أيضاً- : ويحتمل عندي -أن تكونَ الإشارةُ إلى النهي والانتهاء معاً ، فتأمله « .
وقيل : هو المصدر المفهوم من { قَالُواْ } ، و { حَسْرَةً } مفعول ثانٍ ، و { فِي قُلُوبِهِمْ } يجوز أن يتعلق بالجَعْل -وهو أبلغ- أو بمحذوف على أنه صفة للنكرة قبله .
فصل
ذكروا -في بيان ذلك القول حَسْرَةً في قلوبهم -وجوهاً :
الأول : أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم؛ لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في مَنعه عن ذلك السفر ، او الغزو ، لبقي ، فذلك الشخص إنما مات ، أو قُتِلَ بسبب أن هذا الإنسان قَصَّر في مَنْعه ، فيعتقد السامعُ لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب في مَوْت ذلك الشخص العزيز عليه ، أو قتله ، ومتى اعتقد في نفسه ذلك ، فلا شك أنه يزداد حسرته وتلهُّفُه ، أما المسلم المعتقد أن الحياةَ والموت بتقدير اللهِ وقضائه ، لم يحصل في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة البتة .
الثاني : أن المنافقين إذا القوا هذه الشبهة إلى إخوانهم ، تثبطوا ، وتخلَّفوا عن الجهاد ، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد ، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة ، والاستيلاء على الأعداء ، والفوز بالأماني ، بقي المتخلف عن ذلك في الحَسَد ، والحَسرة .
الثالث : أن هذه الحسرة ، إنما تحصُل يومَ القيامةِ في قلوب المنافقين ، إذا رَأوا تخصيص الله للمجاهدين بمزيد من الكرامات وعُلُوِّ الدرجات ، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخِزْي واللَّعْن والعقاب .
الرابع : أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضَعَفَة المسلمين ، ووجدوا منهم قبولاً لها ، فرحوا بذلك؛ لرواج كيدهم ، ومكرهم على الضَّعَفَة ، فالله -تعالى- يقول : إنه يصير ذلك حسرةً في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل .
الخامس : أن اجتهادَهُمْ في تكثير الشبهاتِ ، وإلقاء الضلالات يُعْمِي قلوبهم ، فيقعون عند ذلك في الحسرة ، والخيبة ، وضيق الصدر ، وهو المراد بقوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } [ الأنعام : 125 ] .
السادس : أنهم إذا ألْقَوْا هذه الشبهةَ على الأقوياء ، لم يلتفتوا إليهم ، فيضيع سعيُهم ويبطل كيدُهم ، فتحصل الحسرة في قلوبهم .
قوله : { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ } فيه وجهان :
الأول : أن المقصود منه بيان الجواب عن شُبْهَة المنافقين ، وتقريره : إن المحيي والمميت هو اللهُ تعالى ، ولا تاثير لشيء آخر في الحياةِ والموتِ ، وأن علمَ اللهِ لا يتغير ، وأن حُكْمَه لا ينقلب ، وأن قضاءه لا يتبدَّل ، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت؟
فإن قيل : أن كان القولُ بأنّ قضاءَ اللهِ لا يتبدل يمنع من كون الجِدِّ والاجتهاد مفيداً في الحذر عن القتل والموت ، فكذا القول بأن قضاءَ اللهِ يتبدَّل ، وجب أن يمنع من كون العمل مفيداً في الاحتراز عن عقاب الآخرة ، وهذا يمنع من لزوم التكليفِ . والمقصود من الآياتِ تقرير الأمر بالجهاد والتكلف ، وإذا كان كذلك ، كان هذا الكلام يُفْضي ثبوته إلى نفيه .

فالجوابُ : أن حُسْنَ التكليف -عندنا- غير مُعَلَّل بِعِلَّة ورعاية [ مصلحة ] ، بل اللهُ يفعل ما يشاءُ ، ويحكمُ ما يريد .
الثاني : أن [ المقصود ] بقوله : { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ } أنه يُحْيي قلوبَ أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان ، ويُميتُ قلوبَ أعدائه من المنافقين بالضلال .
قوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي « يعملون » بالغيبة؛ رَدَّا على { الذين كَفَرُواْ } والباقون بالخطاب؛ ردَّا على قوله : و { لاَ تَكُونُواْ } وهو خطابٌ للمؤمنينَ .
فإن قيل : الصادر منهم كان قولاً مسموعاً ، لا فعلاً مَرْئِيًّا ، فلِمَ علَّقه بالبصر دون السمع؟
فالجوابُ : قال الراغبُ : لما كان ذلك القول من الكفار قصداً منهم إلى عمل يحاولونه ، خص البصر بذلك ، كقولك -لمن يقول شيئاً ، وهو يقصد فعلاً يحاوله- : أنا أرى ما تفعله .
قوله : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ } اللام هي الموطئة لقسم محذوف ، وجوابه قوله : { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } وحُذِفَ جوابُ الشرط؛ لسَدِّ جواب القسم مسده؛ لكونه دالاً عليه وهذا ما عناه الزمخشريُّ بقوله : وهو ساد مسدَّ جواب الشرط . ولا يعني بذلك أنه من غير حذف .
قوله : { أَوْ مُتُّمْ } قرأ نافع وحمزة والكسائي « مِتُّمْ » -بكسر الميم- والباقون بضمها ، فالضَّمُّ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ مُتُّ -مثل : قَالَ يَقُولُ قُلْتُ ، ومن كسر ، فهو من مَاتَ يَمَاتُ مِتُّ ، مثل : هَابَ يَهَابُ هِبْتُ ، وخَاَفَ يَخَافُ خِفْتُ . روى المبرِّدُ هذه اللغة .
قال شهابُ الدينِ : وهو الصحيحُ من قول أهل العربية ، والأصل : مَوْتَ -بكسر العين- كخَوِفَ ، فجاء مضارعه على يَفْعَل -بفتح العين- .
قال الشاعر : [ الرجز ]
1675- بُنَيَّتِي يَا أسْعَدَ الْبَنَاتِ ... عِيشي ، وَلاَ نأمَنُ انْ تَمَاتِي
فجاء بمضارعِهِ على يَفْعَل -بالفتح- فعلى هذه اللغة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء ، أو إحدى أخواتها : مِتُّ -بالكسر ليس إلا- وهو انا نقلنا حركة الواو غلى الفاء بعد سلب حركتها ، دلالة على بنية الكلمة في الأصل ، هذا أوْلَى من قول من يقول : إن مِتُّ -بالكسر- مأخوذة من لغة من يقول يموت -بالضم في المضارع- وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال ، كالمازني وأبي علي الفارسي ، ونقله بعضُهُمْ عن سيبويه صريحاً ، وإذا ثبت ذلك لغةً ، فلا معنى إلى ادَّعاء الشذوذ فيه .
قوله : { لَمَغْفِرَةٌ } اللام لامُ الابتداءِ ، وهي ما بعدها جواب القسم -كما تقدم- وفيها وجهان :
الأول : وهو الأظهر- : انها مرفوعة بالابتداء ، والمسوِّغات -هنا- كثيرة : لام الابتداء ، والعطف عليها في قوله : { وَرَحْمَةٌ } ووصفها ، فإن قوله { مِّنَ الله } صفة لها ، ويتعلق -حينئذٍ- و « خيرٌ » خبر عنها .
والثاني : أن تكون مرفوعةً على خبر ابتداءٍ مُضْمَرٍ -إذا أُرِيدَ بالمغفرة والرحمة القتل ، أو الموت في سبيل الله؛ لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله- فيكون التقدير : فلذلك ، أي : الموت أو القتل في سبيل الله -مغفرة ورحمة خير ، ويكون « خيرٌ » صفة لا خبراً ، وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ؛ فإنه قال : وتحتمل الآية أن يكون قوله : { لَمَغْفِرَةٌ } إشارة إلى الموت ، أوالقتل في سبيل الله ، فسمى ذلك مغفرة ورحمة؛ إذ هما مقترنان به ، ويجيء التقديرُ : لذك مغفرةٌ ورحمةٌ ، وترتفع المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر ، وقوله : « خير » صفة لا خبر ابتداء انتهى ، والأول أظهر .

و « خير » -هنا- على بابها من كونها للتفضيل وعن ابن عباسٍ : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء .
قال ابن الخطيبِ : « والأصوب -عندي- أن يقال : إن هذه اللام في » المغفرة « للتأكيد ، فيكون المعنى : إن وجب أن تموتوا ، أو تُقْتَلوا ، في سفركم أو غزوكم ، فكذلك وجب أن تفوزوا بالمغفرة -أيضاً- فلماذا تَحْتَرزون عنه؟ كأنه قيل : إن الموت والقتل غير لازم الحصولِ ، ثمَّ بتقدير أن يكون لازماً ، فغنه يستعقب لزوم المغفرةِ ، فكيف يليق بالعاقل ان يحترز عنه » ؟
قوله : { وَرَحْمَةٌ } أي : ورحمة من الله ، فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها ، ولا بُدَّ من حذف آخر ، مصحِّح للمعنى ، وتقديره : لمغفرةٌ لكم من الله ، ورحمة منه لكم .
فإن قيل : المغفرة هي الرحمة ، فلِمَ كرَّرها ، ونكَّرَها؟
فالجوابُ : أما التنكير فإن ذلك إيذان بأن أدنى خير أقل شيءٍ خير من الدنيا وما فيها ، وهو المراد بقوله : « مما تجمعون » ونظيره قوله تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ بالتوبة : 72 ] والتنكير قد يشعر بالتقليل ، وأما التكرير فلا نسلمه؛ لأن المغفرة مرتبة على الرحمة ، فيرحم ، ثم يغفر .
قوله : « مما يجمعون » « ما » موصولة اسمية ، والعائدُ محذوفٌ ، يوجوز أن تكون مصدرية .
وعلى هذا فالمفعول به محذوف ، أي : من جمعكم المال ونحو .
وقراءة الجماعة « تجمعون » -بالخطاب- جَرياً على قوله : « ولئن قتلتم » وحفص -بالغيبة- إما على الرجوع على الكفار المتقدمين ، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين .
فإن قيل : ههنا ثلاثة مواضع ، تقدم الموت على القتل في الأول والأخير ، وقدِّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمةُ في ذلك؟
فالجوابُ : ان الأولَ لمناسبة ما قبله ، من قوله : { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى } فرجع الموت لمن ضرب في الأرض ، والقتل لمن غزا ، وأما الثاني فلأنه مَحَلَّ تحريض على الجهادِ ، فقُدِّمَ الأهمّ الأشرف ، وأما الأخير فلأن الموت أغلب .
فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعونه أصلاً .
فالجوابُ : أنَّ الذي يجمعونه في الدُّنيا قد يكون من الحلال الذي يُعَدُّ خيراً ، وأيضاً هذا واردٌ على حسب قولهم ومُعْتَقَدهم أن تلك الأموال خيرات .
فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات .
قوله : { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } هذا الترتيب في غاية الحُسْنِ؛ فإنه قال في الآية الأولى : { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله } وهذه إشارةٌ إلى مَنْ عَبَدَه خوفاً من عقابه ، ثم قال : { وَرَحْمَةٌ } وهو إشارة إلى مَنْ عبده لطلب ثوابه ، ثم ختمها بقوله : { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } وهو إشارة إلى مَنْ عبده لمجردِ لمجردِ العبوديةِ والربوبيةِ ، وهذا أعلى المقاماتِ ، يروى أن عيسى -عليه السَّلامُ- مَرَّ باَقوامٍ نُحِفَتْ أبْدَانُهُمْ ، واصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ ، ورأى عليهم آثارَ العبادة ، فقال : ماذا تَطْلُبُون؟ فقالوا : نخشى عذابَ اللهِ ، فقال : هو أكرمُ من أن يمنعكم رحمته .

ثم مرَّ بقوم ، فرأى آثار العبودية عليهم أكثر ، فسألهم : فقالوا : نعبده لأنه إلهُنَا ، ونحن عبيدُهُ ، لا لرغبة ولا لرهبة ، فقال : أنتم العبيد المخلصونَ ، والمتعبدون المحقون .
قوله : { لإِلَى الله } اللام جواب القسم ، فهي داخلة على { تُحْشَرُونَ } و { وَإِلَى الله } متعلقٌ به ، وإنما قُدِّم للاختصاص ، أي : إلى الله -لا إلى غيره- يكون حشركم ، أو للاهتمام به ، وحسًّنه كونُه فاصلة ، ولولا الفصل لوجب توكيد الفعل بالنون؛ لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلاً وجب توكيده [ بالنون ] ، مع اللام ، خلافاً للكوفيين؛ حيث يُجيزون التعاقُبَ بينهما .
كقول الشاعر : [ الكامل ]
1676- وَقَتِيلِ مُرَّةَ أثأرَنَّ . . .
فجاء بالنون دون اللام .
وقول الآخر : [ الطويل ]
1677- لَئِنْ قَدْ ضَاقََتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ
فجاء باللام دون النون ، والبصريون يجعلونه ضرورة .
فإن فُصِلَ بين اللام بالمعمول -كهذه الآية- أو بقَدْ ، نحو : والله لقد أقومُ .
وقوله : [ الطويل ]
1678- كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَلَى المرْءِ عِرْسَهُ ..
أو بحرف التنفيس ، كقوله تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] فلا يجوز توكيده -حينئذ- بالنون ، قال الفارسيُّ : « الأصل دخولُ النُّونِ ، فَرْقاً بين لام اليمينِ ، ولام الابتداءِ ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلاتِ ، فبدخول لام اليمين على الفضلة حصل الفرقُ ، فلم يُحْتَجْ إلى النون وبدخولها على » سوف « حصل الفرق -أيضاً- فلا حاجةَ إلى النُّونِ ولام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً ، أما مستقبلاً فلا » .
وأتى بالفعل مبنيًّا لما لم يسم فاعله -مع أن فاعل الحشرِ هُوَ اللهُ- وإنما لم يصرح به ، تعظيماً .

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

في « ما » وجهان : أحدهما : أنها زائدة للتوكيد ، والدلالة على أن لِينَهُ لَهُمْ ما كان إلا برحمة من اللهِ ، نظيره قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } [ المائدة : 13 ] وقوله : { عَمَّا قَلِيلٍ } [ المؤمنون : 40 ] وقوله : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ } [ ص : 11 ] وقوله : { مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ } [ نوح : 25 ] . والعربُ قد تريد في الكلام -للتأكيد- ما يستغنى عنه ، قال تعالى : { فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ } [ يوسف : 96 ] فزاد « أن » للتأكيد .
وقال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين -غيرُ جائزٍ ، بل تكون غير مزيدة ، وإنما هي نكرة ، وفيها وجهان :
الأول : أنها موصوفة ب « رَحْمَةٍ » أي : فبشيء رحمة .
الثاني : أنها غير موصوفة ، و « رَحْمَةٍ » بدل منها ، نقله مكيٌّ عن ابن كَيْسَان .
ونقل أبو البقاءِ عن الأخفش وغيره : أنها نكرة موصوفة ، « رَحْمَةٍ » بدل منها ، كأنه أبهم ، ثم بين بالإبدال .
وقال ابن الخطيب : « يجوز أن تكون » مَا « استفهاماً للتعجب ، تقديره : فبأي رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ، وذلك؛ لأن جنايتهم لما كانت عظيمة -ثم إنه ما أظهر -ألبتة- تغليظاً في القول ، ولا خشونة في الكلام -علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد ربانيٍّ وتسديدٍ إلهيٍّ فكان ذلك موضع التعجب » .
ورد عليه أبو حيّان بأنه لا يخلو إما أن يجعل « ما » مضافة إلى « رَحْمَةٍ » -وهو ظاهر تقديره- فيلزم إضافة « ما » الاستفهامية ، وقد نصوا على أنه لا يضاف من أسماء الاستفهام إلا « أي » اتفاقاً و « كم » عند الزَّجَّاج- وإما أن لا يجعلها مضافة ، فتكون « رَحْمَةٍ » بدلاً منها ، وحينئذٍ يلزم إعادة حرف الاستفهام في البدل ، كما قرره النحويون . ثم قال : « وهذا الرجلُ لاحظ المعنى ، ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك ، والتسلق إلى ما لا يحسنه والتصوُّر عليه قول الزجاج -في » ما « هذه : إنها صلة ، فيها معنى التأكيدِ بإجماع النحويينَ .
وليس لقائل أن يقولَ : له أن يجعلها غير مضافةٍ ، ولا يجعل » رَحْمَةٍ « بدلاً -حالا يلزم إعادة حرف الاستفهام- بل يجعلها صفة ، لأن » ما « الاستفهامية لا توصف وكأن من يدعي فيها أنها غير مزيدة يفر من هذه العبارة في كلام الله تعالى ، وإليه ذهب أبو بكر الزبيديُّ ، فكان لا يُجَوِّزُ أن يقال -في القرآن- : هذا زائد أصلاً .
وهذا فيه نظرٌ؛ لأن القائلين يكون هذا زائداً لا يَعْنون أنه يجوز سقوطه ، ولا أنه مُهْمَلٌ لا معنى له بل يقولون : زائد للتوكيدِ ، فله أسوةٌ بشائرِ ألفاظِ التوكيدِ الواقعة في القرآن . و » ما « كما تُزاد بين الباء ومجرورها ، تزاد أيضاً بين » من « و » عَنْ « والكاف ومجرورها .

قال مكيٌّ : « ويجوز رفع » رحمة « على أن تجعل » ما « بمعنى الذي ، وتضمر » هُوَ « في الصلة وتحذفها ، كما قرئ : { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] . فقوله : ويجوزُ يعني من حيث الصناعةِ ، وأما كونها قراءة ، فلا نحفظها .
فصل
الليْنُ : الرفق . ومعنى الكلام . فبرحمة من الله لنت لهم ، أي : سهلت لهم أخلاقك ، وكثر احتمالك ، ولم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أُحُدٍ . واحتجوا -بهذه الآية- على مسألة القضاء والقدر ، لأن اللهَ بين أن حسن الخلق إنما كان بسبب رحمة الله تعالى .
قوله : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } الفظاظةُ : الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً ، قال الشَّاعرُ : [ البسيط ]
1679- اخشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ ، أوْ جَفَاءَ أخ ... وَكُنْتُ أخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أذَى الْكَلم
والغلظُ : كبر الإجرام ، ثم تجوز به في عدم الشفقة ، وكثرة القسوةِ في القلب .
قال الشاعرُ : [ البسيط ]
1680- يُبْكَى عَلَيْنَا وَلاَ نَبْكِي عَلَى أحَدٍ ... ونَحْنُ أغْلَظُ أكْبَاداً مِنَ الإبِلِ
وقال الراغبُ : الفَظَّ : هو الكريه الخُلُق ، وقال الواحديُّ : الفَظُّ : الغليظُ الجانبِ ، السيِّء الخُلُق وهو مستعارٌ من الفَظِّ ، وهو ماء الكرش ، وهو مكروه شُربه إلا في ضرورة .
وقال الراغبُ : الغَلِظ : ضد الرِّقَّةِ ، ويقال : غلظ بالكسر والضم وعن الغِلْظة تنشأ الفظاظة .
فإن قيل : إذا كانت الفظاظةُ تنشأُ عن الغلظة ، فلم قُدَِّمَتْ عَلِيْهَا؟
فالجوابُ : قُدِّم ما هو ظاهر للحس على ما خافٍ في القلب؛ لأن الفظاظة : الجفوة في العِشْرَة قولاً وفعلاً -كما تقدم- والغلظة : قساوة القلب ، وهذا أحسن من قول من جعلهما بمعنى ، وجمع بينهما تأكيداً . وأما الانفضاض والغضّ فهو تفرُّق الأجزاء وانتشارها . ومنه فضَّ ختم الكتاب ، ثم استُعِير منه انفضاض الناس ، قال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] ومنه يقال : لا يفضض اللهُ فاك .
فصل في معنى الآية
ومعنى الكلامِ : لو كنتَ جافياً ، سَيّء الخُلُقِ ، قليل الاحتمالِ .
وقال الكلبيُّ : فظاً في القول ، غليظ القلبِ في الفعلِ ، لانفضوا من حولك تفرَّقوا عنك وذلك أن المقصود من البعثة أن يبلِّغ الرسولُ تكاليفَ اللهِ تعالى إلى الخَلْق ، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه ، وسكون نفوسهم لديه ، وهذا المقصودُ لا يتم إلا إذا كان رحيماً بهم ، كريماً ، يتجاوز عن ذنوبهم ، ويعفو عن سيئاتهم ، ويخصهم بالبرِّ والشفقة ، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسولُ مُبَرَّءاً عن سوء الخلق ، وغِلْظة القلبِ ، ويكون كثير الميلِ إلى إعانة الضعفاء ، وكثير القيام بإعانة الفقراء .
وحمل القفَّال هذه الايةَ على واقعة أُحُد ، فقال : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } يوم أحُد ، حين عادُوا إليك يعد الانهزام { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب } فشَافَهْتُهُمْ بالملامة على ذلك الانهزام { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } هيبة منك وحياءً ، بسبب ما كانوا منهم من الانهزام ، فكان ذلك مما يُطْمَع العدو فيك وفيهم .

قوله : { فاعف عَنْهُمْ } جاء على أحسن النسق ، وذلك أنه -أولاً- أُمِر بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصَّةِ نفسه ، فإذا انتهَوْا إلى هذا المقام أمر أن يستغفرَ لهم ما بينهم وبين الله تعالى ، لتنزاح عنهم التبعاتُ ، فلما صاروا إلى هنا أُمِرَ بأن يشاوروهم في الأمرِ إذا صاروا خالصين من التبعتين ، مُصَفَّيْنَ منهما .
والأمرُ هنا -وإن كان عاماً- المراد به الخصوص . قال أبو البقاء : الأمر -هنا- جنس ، وهو عامٌّ يراد به الخاصُّ؛ لأنه لم يُؤمَر بمشاورتهم في الفرائض ، ولذلك قرأ ابن عباسٍ : في بعض الأمر وهذا تفسيرٌ لا تلاوةٌ .
فصل
ظاهر الأمر الوجوب ، و « الفاء » في قوله : { فاعف عَنْهُمْ } تدل على التعقيب ، وهذا يدل على أنه -تعالى- أوجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهم في الحال ، ولما آل الأمرُ إلى الأمة لم يوجبه عليهم ، بل ندبهم إليه ، فقال : { والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ] وقوله : { واستغفر لَهُمْ } يدل على دلالة قوية على أنه -تعالى- يعفو عن أصحاب الكبائر ، لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة ، لقوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } [ الأنفال : 16 ] وقوله صلى الله عليه وسلم حين عد الكبائر- : « والتولي يوم الزحف » وإذا ثبت أنه كبيرة ، فالله تعالى -حضّ- في هذه الآية -على العفو عنهم ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستفغار لهم ، وإذا أمره بالاستغفار لهم لا يجوز أن لا يجيبه إليه؛ لأن ذلك لا يليق بالكريم ، وإذا دلت الآية على أنه -تعالى- شفع محمداً في أصحاب الكبائر في الدنيا فلأنه يشفعه يوم القيامة كان أولى .
قوله : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } يقال شاورهم مشاورة وشِوَاراً وَمَشورة ، والقوم شورى ، وهي مصدر ، سمي القوم بها ، كقوله : { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] قيل : المشاورة : مأخوذة من قولهم : شُرتُ العسل ، أشورُه : إذا أخذته من موضعه واستخرجته .
وقيل : مأخوذة من قولهم : شربت الدابّة ، شوراً -إذا عرضتها والمكان الذي يعرض فيه الدوابّ يسمى مشواراً ، كأنه بالعرض- يعلم خيره وشرهن فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها .
الفائدة في أمر اللهِ لرسوله بالمشاورة من وجوه :
الأول : أن مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم توجب علو شأنهم ، ورفعة درجتهم ، وذلك يقتضي شدة محبتهم له ، فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم ، فيحصل سوء الخلقِ والفظاظة .
الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان أكملَ الناس عقلاً ، إلا أن [ عقول ] الخلق غير متناهية ، فقد يخطر ببال إنسانٍ من وجوه المصالح -ما لا يخطر ببال آخرَ ، لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا ، قال : « أَنتم أعرف بأمور دنياكم » ولهذا السبب قال : « ما تشاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم » .

الثالث : قال الحسنُ وسفيانُ بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير ذلك سنة في أمته .
الرابع : أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم شاورهم في واقعة أُحُد ، فأشاروا عليه بالخروج ، وكان ميله إلى ألا يخرج ، فلما خرج وقع ما وقع ، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم -بسبب مشاورتهم- بقية أثرٍ ، فأمره الله -تعالى- بمشاورتهم بعد تلك الواقعةِ ، ليدل على أنه لم يَبْقَ في قلبه أثرٌ من تلك الواقعة .
الخامس : أنه صلى الله عليه وسلم أمر بمشاورتهم ، لا ليستفيد منهم رأياً وعِلْماً ، بل ليعلم مقادير عقولهم ، ومحبتهم له .
وقيل : أمر بالمشاورة [ ليعلم ] مقدار عقولهم وعلمهم ، فينزلهم منازلهم على قدر عقولهم وعلمهم . وذكروا -أيضاً- وُجُوهاً أُخَرَ ، وهذا كافٍ .
فصل
اتفقوا على أنَّ كلَّ ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشاورَ الأمةَ فيه ، لأن النصَّ إذا جاء بطل الرأي والقياس ، أما ما لا نصَّ فيه ، فهل يجوز المشاورةُ فيه في جميع الأشياء ، أم لا؟ قال الكلبيُّ وأكثر العلماء : الأمر بالمشاورة إنما هو في الحروبِ ، قالوا : لأن الألف واللام -في لفظ « الأمر » ليسا للاستغراق؛ لما بينَّا أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه ، فوجب حمل الألف واللام -هنا- على المعهود السابق ، والمعهودُ السابقُ في هذه الآية ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو ، فكان قوله : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } مختصاً بذلك وقد أشار الحُبابُ بنُ المنذر يوم أُحُدٍ- على النبي بالنزول على الماء ، فقبل منه . وأشار عليه السعدان -سعد بنُ معاذٍ وسعد بن عبادةَ- يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا ، فقبل منهما ، وخرق الصحيفةُ .
وقال بعضهم : اللفظ عام ، خص منه ما نزل فيه وحيٌ ، فتبقى حجته في الباقي .
قال بعضهم : هذه الآية تدل على أن القياسَ حُجَّةٌ .
فصل
روى الواحديُّ في « البسيط » عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال : الذي أمر النبي بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- واستشكلته ابن الخطيب ، قال : « وعندي فيه إشكالٌ؛ لأن الذين امَرَ اللهُ رسولَه بمشاورتهم في هذه الآية هم الذي أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم -وهم المنهزمون- فَهَبْ ان عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآيةِ إلا أن أبا بكر ما كان منهم ، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟ » .
قوله : { فَإِذَا عَزَمْتَ } الجمهورُ على فتح التاءِ؛ خطاباً له صلى الله عليه وسلم وقرأ عكرمة وجعفر الصادق -ورُويت عن جابر بن زيد- بضَمِّها . على انها لله تعالى ، على معنى : فإذا ارشدتك إليه ، وجعلتك تقصده .

وجاء قوله : من الالتفات؛ إذ لو جاء على نسقِ هذا الكلام لقيل : فتوكل عليَّ .
فقد نُسِب العزمُ إليه تعالى في قول أم سلمة : « ثم عزم الله لي » وذلك على سبيل المجاز .
فصل
معنى الكلامِ : فإذا عزمتَ على اللهِ لا على مشاورتهم ، أي : قم بأمر اللهِ ، وثق به ، { إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } وهذا جارٍ مجرى العلةِ الباعثةِ على التوكُّل عند الأخذ في كل الأمورِ ، وهذه الآية تدل على أنه ليس التوكُّلُ أن يُهْمِل نفسه -كقول بعض الجُهَّال- وإلا لكان الأمرُ بالمشاورة منافياً [ للأمر بالتوكل ] ، بل التوكلُ هو أن يراعيَ الإنسانُ الأسبابَ الظاهرةَ ، ولكن لا يعوِّل بقلبه عليها ، بل يعوِّل على عصمة الحقِّ .
فصل
التوكلُ : الاعتماد على الله تعالى مع إظهار العجزِ ، والاسم : التُّكْلان ، يقال منه : اتكلت عليه في أمري وأصله ، اوتَكَلْتُ ، قُلِبت الواو ياء ، لانكسار ما قبلها ، ثم أُبْدِلت منها التاء ، وأدغمت في تاء الافتعال ، ويقال : وكَّلْته بأمري توكيلاً ، والاسم : الوكَالة -بكسر الواو وفتحها- .

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

قوله : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } شرطٌ وجوابه ، وكذلك قوله : { وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي } وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب- كذا قوله أبو حيان . يعني من الغيبة في قوله : { لِنتَ لَهُمْ } وقوله : { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } وقوله : { فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } قال شهاب الدين : وفيه نظر . وجاء قوله : { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } جواباً للشرطِ ، وهو نفيٌ صريحٌ ، وقوله : { فَمَن ذَا الذي } -وهو متضمن للنفي- جوابٌ للشرط الثاني ، تلطفاً بالمؤمنين ، حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول ، ولم يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم في الثاني بل أتى به في صورة الاستفهام -وإن كان معناه نفياً .
وقوله : { فَمَن ذَا الذي } قد تقدم مثله في البقرة .
والهاء -في قوله : { مِّنْ بَعْدِهِ } - فيها وجهان :
أحدهما -وهو الأظهر- : أنها تعود على « الله » تعالى ، وفيه احتمالانِ :
الأول : أن يكون ذلك على حذف مضاف ، أي : من بعد خذلانه .
الثاني : إنه يحتاج إلى ذلك ، ويكون معنى الكلامِ : إنكم إذا جاوزتموه إلى غيره ، -وقد خذلكم- فمن يجاوزه إليه وينصركم؟
ثانيهما : أن يعود على الخذلان المفهوم من الفعلن وهو نظيرُ قوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
قوله : { إِن يَنصُرْكُمُ الله } يعنكم ويمنعكم من عدوكم { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } مثل يوم بدر { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } يترككم كما أن بأُحُدٍ- لم ينصركم أحَدٌ . والخذلان : القعود عن النصرة . قراءة الجمهور { يَخْذُلْكُمْ } -بفتح الياء- من خَذَله -ثلاثياً- .
وقرا عمرو بن عبيد : « يُخْذِلْكُم » -بضم الياء- من أخْذَلَ -رباعياً- والهمزة فيه لجعل الشيء ، أي : إن يجعلكم مخذولين ، والخّذْل والخُذلان -ضد النصر- وهو ترك من يظن به النُّصرة ، وأصله من خَذَلَت الظبيةُ ولدَها -إذا تركته منفرداً- ولهذا قيل لها : خاذل ويقال للولدِ المتروك -أيضاً- : خاذل ، وهذا النَّسَبِ ، والمعنى : أنَّها مخذولة .
قال الشاعرُ : [ البسيط ]
1681- بِجِيدِ مُغْزِلَةٍ أدْمَاءَ خَاذِلَةٍ ... مِنَ الظِّبَاءِ تُرَاعِي شَادِناً خَرِقاً
ويقال له -أيضاً- : خذول ، فعول بمعنى مفعول .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1682- خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَباً بِخَمِيلَةٍ ... تَنَاوَلُ اطْرَافَ الْبريرِ وتَرْتَدِي
ومنه يقال : تخاذلَتْ رجلا فلان .
قال الأعشى : [ الرمل ]
1683- بَيْنَ مَغْلوبٍ كَريمٍ جَدُّهُ ... وخَذُولِ الرَجْلِ مِنْ غَيْرِ كَسَحْ
ثم قال : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } فقدم الجارّ إيذاناً بالاختصاص ، أي : ليخص المؤمنون رَبَّهُم بالتوكل عليه والتفويض له؛ لعلمهم أنه لا ناصرَ لهم سواهُ . وهو معنى حَسَنٌ ، ذكره الزمخشريُّ .
فصل
احتجوا -بهذه الآية- على الإيمانَ لا يحصل إلا بإعانة الله ، والكفر لا يحصل إلا بخذلانه؛ لأن الآية دالةٌ على أن الأمر كلَّهُ للهِ .

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)

{ أَنْ يَغُلَّ } في محل رفع ، اسم كان و « لنبيّ » خبرٌ مقدَّمٌ ، أي : ما كان له غلول أو إغلال على حسب القراءتينِ .
وقرا ابنُ كثيرٍ ، وأبو عمرو ، وعاصم ، بفتح الياء وضم الغين -من غل- مبنياً للفاعل ، ومعناه : أنه لا يصح أن يقع من النبي غلول؛ لتنافيهما ، فلا يجوز أن يتوهَّمَ ذلك فيه ألبتة .
وقرأ الباقون « يُغَلَّ » مبنياً للمفعول ، وهذه القراءة فيها احتمالانِ :
أحدهما : أن يكون من « غَلَّ » ثلاثياً ، والمعنى : ما صح لنبيٍّ أن يخونه غيره ويَغُلَّهُ ، فهو نفيٌ في معنى النهي ، أي : لا يَغُلَّهُ أحدٌ .
ثانيهما : أن يكون من « أغَلَّ » رباعياً ، وفيها وجهانِ :
أحدهما : أن يكون من « أغَلَّهُ » أي : نسبه إلى الغُلُولِ ، كقولهم : أكذبته إذا نسبته إلى الكذب- وهذا في المعنى كالذي قبله ، أي : نفي في معنى النهي ، أي : لا يَنْسبه أحدٌ إلى الغلولِ .
قال ابن قتيبة : ولو كان الرمادُ هذا المعنى لقيل : يُغَلَّلُ كما يقال : يُفَسَّق ، ويُخَوَّن ، ويُفَجَّر ، والأولى أن يقال : إنه من « أغللته » أي : وجدته غالاً ، كما يقال : « أبخَلْتُهُ » .
الثاني : أن يكون من « أغلَّهُ » أي : وَجَدتهُ محموداً وبخيلاً .
والظاهر أن قراءة « يَغُلَّ » بالبناء للفاعل -لا يُقَدَّر فيها مفعول محذوف؛ لأن الغرض نفي هذه الصفةِ عن النبيِّ من غير نظر إلى تعلق بمفعول ، كقولك : وهو يُعْطِي ويمنع- تريد إثبات هاتين الصفتين ، وقدر له أبو البقاء مفعولاً ، فقال : تقديره أن يغل المال أو الغنيمة .
واختار أبو عبيدة والفارسي قراءة البناء للفاعل قالا : « لأن الفعل الوارد بعد » ما كان لكذا أن يفعل « أكثر ما يجيء منسوباً إلى الفاعل نحو : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ } [ آل عمران : 145 ] ، { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ } [ آل عمران : 179 ] و { مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله } [ يوسف : 38 ] { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ } [ يوسف : 76 ] { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً } [ التوبة : 115 ] { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } [ آل عمران : 179 ] ويقال : ما كان ليضرب ، فوجب إلحاق هذه الآية بالأعم الأغلب ويأكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة ، وقال : ليس في الكلام ما كان لكَ أن تُقرب -بضم التاء ، وأيضاً فهذه القرءة اختيار ابن عباسٍ ، فقيل له : إن ابن مسعودٍ يقرأ : يُغل فقال ابنُ عباس : كان النبيُّ يقصدون قتله فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة .
قال شهاب الدين ، ورجحها بعضهم بقوله : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ } فهذا يوافق هذه القراءة ، ولا حجة في ذلك؛ لأنها موافقة للأخرى .
و » الغلول « في الأصل تدرع الخيانة وتوسطها و » الغلل « تَدْرُّع الشيء وتوسطه ، قال : [ الوافر ]
1684- تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ سَرَابٌ ... وَلاَ حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ

قيل : تَغَلْغَلَ الشيء إذا تخلل بخفية .
قال : [ الوافر ]
1685- تَغَلْغَلَ حُبُّ مَيَّةَ فِي فُؤادِي ... والغلالة : الثوب الذي يلبس تحت الثياب ، والغلول الذي هو الأخذُ في خفية مأخوذةٌ من هذا المعنى .
ومنه : أغل الجازر -إذا سرق وترك في الإهاب شيئاً من اللحم . وفرَّقت العرب بين الأفعال والمصادر ، فقالوا : غَلَّ يَغَلُّ غلولاً -بالضم في المصدر والمضارع- إذا خان . وغَلَّ يَغِلُّ غِلاًّ -بالكسر فيهما- الحقد قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [ الأعراف : 43 ] أي : حِقْد .
قال القرطبيُّ : « والغالّ : أرض مطمئنة ، ذات شجرٍ ، ومنابت الساج والطلح ، يقال لها : غال . والغال : -أيضاً : نبت ، والجمع : غُلاَّن- بالضم » .
فصل
اختلفوا في أسباب النزولِ : فرُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم غنم في بعض الغزوات ، وجمع الغنائم ، وتأخرت القسمةُ؛ لبعض الموانع ، وقالوا : ألا تقسم غنائمنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « لَوْ كَانَ لَكُمْ مِثْلُ أحُدِ ذَهَباً مَا حَبَسْتُ عَنْكُمْ دِرْهَماً ، أَتَحْسَبُونَ أنِّي أغُلُّكُمْ مَغْنَمَكُم » فانزل الله تعالى هذه الآية .
وقيل : الآية نزلت في أداء الوحي ، كان صلى الله يقرأ القرآن ، وفيه عَيْبُ دينهم وسَبُّ آلهتهم ، فسألوه أن يترك ذلك ، فنزلت .
وروى عكرمة وسعيد بن جبير : أن الآية نزلت في قطيفة حمراء ، فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذها ، فنزلت الآية .
ورُوِيَ -من طريق آخرَ- عن ابن عباسٍ : أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم بشيء زائد ، فنزلت الآية .
ورُوِيَ أنه بعض طلائع ، فغنموا غنائم ، فقسمها ولم يُقسَّم للطلائع ، فنزلت الآيةُ .
وقال الكلبيُّ ومقاتل : نزلت هذه الآيةُ في غنائم أحدٍ ، حين ترك الرُّماة المركز؛ طلباً للغنيمة ، وقالوا : نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم : مَنْ أخذ شيئاً فهو له ، وأن لا يقسم الغنائم -كما لم يقسِّمْها يوم بدرٍ- فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « ألم أقل لكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيهم أمري؟ » قالوا : تركنا بقية إخوانِنا وقوفاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : « بل ظننتم أن نَغُلَّ ، فلا نقسم ، » فنزلت الآية .
وقيل : إن الأقرباء ألحُّوا عليه يسألونه من المَغْنَم ، فأنزل الله تعالى : { وَمَن يَغْلُلْ } فيُعْطي قوماً ، ويمنع آخرين ، بل عليه أن يقسم بينهم بالسَّوِيَّةِ .
هذه الأقوال موافقة للقراءة الأولى .
وأما ما يوافق القراءة الثانية فرُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقعت غنائمُ هوازن في يده يوم حُنَيْن ، غَلَّ رَجُلٌ بمخيط ، فنزلت هذه الآيةُ .
وقال قتادة : ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه .
قوله : { وَمَن يَغْلُلْ } الظاهر أن هذه الجملة الشرطية مستأنفةٌ لا محل لها من الإعرابِ ، وإنما هي للردع عن الإغلالِ ، وزعم أبو البقاء أنها يجوز أن تكون حالاً ، ويكون التقدير : في حال علم الغالِّ بعقوبة الغلول .

وهذا -وإن كان محتملاً- بعيدٌ .
و « ما » موصولة بمعنى الذي ، فالعائد محذوف أي : غَلَّه ، ويدل على ذلك الحديث ، أنّ أحدهم يأتي بالشيء الذي أخذه على رقبته .
ويجوز أن تكون مصدرية ، ويكون على حذف مضاف ، أي : بإثم غُلوله .
فصل
قال أكثر المفسّرينَ : إن هذه الآية على ظاهرها ، قالوا : وهو نظير قوله في مانع الزكاة : { يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } [ التوبة : 35 ] ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : « لا أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ ، أوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ ، أو شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ ، فَيُنَادِي يَا مُحَمَّدُ ، يَا مُحَمَّدُ ، فأقُولَ : لاَ امْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، قَدْ بَلَّغْتُكَ » .
وعن ابن عباس أنه قال : يمثِّلُ له ذلك الشيء في قَعْرِ جهنمَ ، ثم يقال له : أنزل إليه فخُذْه ، فينزل إليه ، فإذا انتهى إليه حمله على ظهره ، فلا يُقْبل منه .
قال المحققونَ : وفائدته أنه إذا جاء يوم القيامةِ ، وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحتُه .
وقال أبو مسلم : ليس المقصودُ من الآية ظاهرَها ، بل المقصود تشديدُ الوعيدِ على سبيل التمثيلِ ، كقوله تعالى : { إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله } [ لقمان : 16 ] فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهرِ ، بل المقصود إثبات أن اللهَ لا يغرب عن علمه وعن حفظه مثقالُ ذرةٍ في الأرضِ ، ولا في السماءِ ، فكذا هنا المقصود تشديدُ الوعيد ، والمعنى : أن الله يحفظ عليه هذا الغلول ، ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية .
وقال الكعبيُّ : المرادُ أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء .
قال ابن الخطيبِ : والأول أولى؛ لأنه حمل الكلام على حقيقته .
وقيل : معنى : { يَأْتِ بِمَا غَلَّ } أي : يشهد عليه يومَ القيامةِ بتلك الخيانةِ والغلولِ .
فصل
قال القرطبيُّ : دلَّتْ هذه الآية على أن الغلولَ من الغنيمة كبيرةٌ من الكبائرِ ، ويؤيده ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم : -في مدعم- : « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أخذَ يَوْمَ خَيْبَرِ مِنَ الْمَغَانِمِ ولم تُصِبْهَا المَقَاسِمُ- لتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً » فلما سمع الناسُ ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « شَرِاكٌ أو شَرِكَانِ مِنْ نَارٍ » وامتناعه من الصلاة على مَنْ غَلَّ دليلٌ على تعظيم الغلولِ ، وتعظيم الذنب فيه ، وأنه من الكبائر ، وهو من حقوق الآدميين ، ولا بُدَّ فيه من القصاص بالحسنات والسيئات ، ثم صاحبه في المشيئة وقوله صلى الله عليه وسلم : « شَرِاكٌ أو شَرِاكَانِ مِنْ نَارٍ » مثل قوله : « أدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ » وهذا يدل على أن القليلَ والكثير لا يحلّ أخذهُ في الغَزْو قبل المقاسم ، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم في أرض الغزو والاحتطابِ والاصطيادِ .

فصل
قال القرطبيُّ : أجمع العلماءُ على أنه يجب على الغالِّ أن يرد ما غله إلى صاحب المقاسم قبل أن ينصرف الناسُ -إذا أمكنه- فذلك توبته . واختلفوا فيما يُفْعَل به إذا افترق أهلُ العسكر ولم يصل إليه ، فقال جماعة من أهل العلمِ : يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي -وكذا كل مال لا يعرف صاحبه فإنه يُتَصدق به- وقال الشاافعيُّ : ليس له الصدقة بمال غيره .
فصل
اختلفوا هل يعاقب الغلّ بإحراق متاعه؟ قال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة وأصحابهم والليث : لا يحرق متاعه .
وقال الشافعيُّ : إن كان عالماً بالنهي عوقب .
وقال الأوزاعيُّ : يُحْرَق متاع الغال كلُّه إلا سلاحه وثيابَه التي عليه وسرجه ، ولا يُنْزَع منه دابتُه ، ولا يُحْرَقُ الشيءُ الذي غَلَّ ، وهذا قول أحمد وإسحاق ، وقال الحسن : إلا أن يكون حيواناً أو مصحفاً .
فصل
في العقوبة بالمال ، قال مالك -في الذَّمِّيّ الذي يبيع الخمرَ من المُسْلِمِ- يراق الخمر على المُسْلِمِ ، ويُنْزَع الثمن من الذميّ؛ عقوبةً له؛ لئلا يبيعَ الخمر بين المسلمين ، وقد أراق عمر -رضي الله عنه- لبناً شِيَبَ بِماء .
فصل
من الغلول هدايا العمال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للذي أهْدِيَ إليْه ، وكان بعضه على الصدقة ، فأهْدِيَ إليه فقال : هذا لكم ، وهذا أهْدِيَ إليَّ فقال عليه السلام : « مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ ، فَيَجِيءُ ، فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ ، هَذَا لَكُمْ ، وهَذَا أهْدِيَ إليَّ ، ألاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ وَأبِيهِ ، فَيَنْظُرَ أيُهْدَى إلِيْهِ أَمْ لاَ » .
فصل
ومن الغلول -أيضاً- حَبْس الكتبِ عن أصحابها ، وما في معناها .
قال الزهريُّ : إياك وغلول الكتبِ ، فقيل له : وما غلول الكتب؟ قال حبسها عن أصحابها . وقد قيل -في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي : يكتم شيئاً من الوحي؛ رغبةً ، أو رهبةً ، أو مُدَاهَنَةً .
قوله : { ثُمَّ توفى } هذه الجملة معطوفة على الجملة الشرطية ، وفيها إعلامٌ أن الغالَّ وغيره من جميع الكاسبين لا بد وأن يُجَازوا ، فيندرج الغالُّ تحت هذا العموم -أيضاً- فكأنه ذُكِرَ مرتَيْن .
قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : هلاَّ قِيلَ : ثم يُوَفَّى ما كسب؛ ليتصل به؟
قلت : جيء بعامٍّ دخل تحته كلُّ كاسب من الغالِّ وغيره ، فاتصل به من حيث المعنى ، وهو أثبتُ وأبلغ .
فصل
تمسك المعتزلة بهذا في إثبات كون العبد فاعلاً ، وفي إثبات وعيد الفساق .
أما الأول : فلأنه -تعالى- قال- في القاتل المتعمد- : { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } [ النساء : 93 ] وأثبت في هذه الآية أن كلَّ عاملٍ يصل إليه جزاؤه ، فيحصل -من مجموع الآيتين- القطع بوعيد الفساق .
والجواب عن الأول : المعارضة بالعلم ، وعن الثاني : أن هذا العموم مخصوص في صورة التوبةِ فكذلك يجب أن يكون مخصوصاً في صورة العفو ، للدلائل الدالة على العفو . ثم قال تعالى : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)

لما قال -في الآية الأولى- : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أتبعه بتفصيل هذه الجملة ، فقال : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } والكلام [ في ] مثله قد تقدم من أن الفاء النية بها التقديم على الهمزة ، وأن مذهب الزمخشريِّ تقدير فعل بينهما .
قال أبو حيّان : وتقديره -في هذا التركيب- متكلِّف جدًّا .
والذي يظهر من التقديرات : أجعل لكم تمييزاً بين الضالِّ والمهتدي ، فمن اتبع رضوان الله واهتدَى ليس كَمَنْ باء بسخَطِه؛ وغل؛ لأن الاستفهام هنا- للنفي .
و « مَنْ » -هنا- موصولة بمعنى الذي في محل بالابتداء ، والجار والمجرور الخبر ، قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون شَرْطاً؛ لأن » كَمَنْ « لا يصلح أن يكون جواباً » . يعني : لأنه كان يجب اقترانه بالفاء؛ لأن المعنى يأباه . و « بِسَخَطٍ » يجوز أن يتعلق بنفس الفعل ، أي : رجع بسخطه ، ويجوز أن يكون حالاً ، فيتعلق بمحذوف ، أي رجع مصاحباً لسخطه ، أو ملتبساً به ، و { مِّنَ الله } صفته .
والسَّخَط : الغضبُ الشديدُ ، ويقال : سَخَط -بفتحتين- وهو مصدر قياسي ، ويقالأ : سُخْط- بضم السين ، وسكون الخاء- وهو غير مقيس . ويقال : هو سُخْطةُ الملك -بالتاء- أي في كرهه منه له .
وقرأ عاصم -في إحدى الروايتين عنه- رُضْوان- بضم الراء- والباقون بكسرها ، وهما مصدران ، فالضم كالكُفْران ، والكسر كالحِسْبان .
فصل الهمزة فيه للإنكارِ ، والفاء ، للعطف على محذوف ، والتقدير : أفمن اتقى فابتع رضوان الله وقوله : « بَاءَ » أي : رجع ، وقد تقدم .
واختلف المفسّرون ، فقال الكلبيُّ والضحَّاك : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } في ترك الغلول { كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله } في فِعْل الغُلول؟ .
وقيل : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } بالإيمان به والعمل بطاعة { كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله } بالكفر به والاشتغال بمعصيته؟ وقيل : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } وهم المهاجرون { كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله } وهم المنافقون؟ .
وقال الزَّجَّاجُ : لما حمل المشركون على المسلمين دَعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن يَحْملوا على المشركين ، ففعله بعضهم ، وتركه آخرونَ ، فقوله : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } وهم الذين امتثلوا أمره { كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله } وهم الذين لم يقبلوا قَوْلَه؟
قال القاضي : « كُلُّ وَاحِدٍ من هذه الوجوهِ صحيحٌ ، ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه؛ لأن اللفظ عام؛ فيجب أن يتناول الكُلُّ ، وإن كانت الآيةُ نزلت في واقعة معينة لكن عمومَ اللفظِ لا يُبْطِلُ بِخُصوصِ السبب .
وقوله : { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } في هذه الجملة احتمالان :
أحدهما : أن تكون مستأنفة ، أخبر أن مَنْ بَاءَ بِسَخَطه أوَى إلى جهنمَ ، وتفهم منه مقابله ، وهو أن من اتّبع الرضوانَ كان مأواه الجنة ، وإنما سكت عن هذا ، ونص على ذلك ليكون أبلغ في الزَّجْر ، ولا بد من حذف في هذه الجُمَلِ ، تقديره : أفمن أتبع ما يؤول به إلى رضا الله فباء برضاه كمن أتبع ما يؤول به إلى سخطه؟
الثاني : أنها داخلة في حَيِّز الموصول ، فتكون معطوفة على » بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله « فيكون قد وصل الموصول بجملتين : اسمية وفعلية ، وعلى الاحتمالين ، لا محلَّ لها من الإعراب .
قوله : { وَبِئْسَ المصير } المخصوص بالذم محذوف ، أي وبئس المصيرُ جهنمُ .
واشتملت الآية على الطباق في قوله : { يَنصُرْكُمُ } و { يَخْذُلْكُمْ } وقوله : { رِضْوَانَ الله } و » بسخطه « والتجنيس المماثل في قوله : { يَغُلَّ } و { بِمَا غَلَّ } .

هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)

{ هُمْ دَرَجَاتٌ } مبتدأ وخبر ، ولا بد من تأويل [ بالإخبار ] بالدرجات عن « هم » لأنها ليست إياهم ، فيجوز أن يكون جُعُلوا نَفْسَ الدرجات مبالغةً ، والمعنى : أنهم متفاوتون في الجزاء على كَسْبهم ، كما أن الدرجات متفاوتة والأصل على التشبيه ، أي : هم مثل الدرجات في التفاوت .
ومنه قوله : [ الوافر ]
1686- أنصْبٌ لِلْمَنِيَّةِ تَعْتَريهم ... رِجَالِي أمْ هُمُ دَرَجُ السُّيُولِ
ويجوز أن يكون على حَذْف مضاف ، أي : هم ذوو درجات ، أي : أصحاب منازل ورُتَب في الثواب والعقاب وأجاز ابنُ الخطيب أن يكون في الأصل : لهم درجاتٌ -فحُذِفت اللامُ- وعلى هذا يكون « درجات » مبتدأ ، وما قبلها الخبرُ ، وردَّه بعضهم ، وقال : هذا من جهله وجهل متبوعيه -من المفسرين- بلسان العرب ، وقَالَ : لا مساغ لحذف اللام ألبتة؛ لأنها إنما تُحَذَف في مواضع يضطر إليها ، وهنا المعنى واضحٌ ، مستقيم من غير تقدير حَذْف .
قال شهابُ الدينِ : « وادِّعاء حذف اللام خَطَأٌ ، والمخطئ معذورٌ؛ وقد نُقِلَ عن المفسرين هذا ، ونقل عن ابن عبَّاسٍ والحسنِ لكل درجات من الجنة والنار ، فإن كان هذا القائل أخذ من هذا الكلام بأن اللام محذوفة فهو مخطئ؛ لأن هؤلاء -رضي الله عنهم- يفسَِّرون المعنى لا الإعراب اللفظي » .
وقرأ النخعي « هم درجة » بالإفراد على الجنس .
قوله : { عِندَ الله } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب « درجات » فيكون في محل رفع .
فصل
« هم » عائد إلى لفظ « من » في قوله : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } ولفظ « كم » معناه الجمع . ونظيره قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } [ السجدة : 18 ] . ثم قال : « لا يستوون » بصيغة الجمع ، وهو عائد إلى « من » .
واعلم أنه لما عاد إلى المتقدم ذكره ، والذي تقدّم ذكره نوعان : من اتبع رضوان الله ، ومن باء بسخطٍ من الله -يُحتمل أن يعودَ إلى الأول ، ويحتمَل أن يعودَ إلى الثاني ، ويحتمل أن يعودَ إليهما ، فإن عاد إلى الأول صَحَّ- ويكون التقديرُ : إنّ أهلَّ الثَّواب درجات على حسب أعمالهم- لوجوه :
الأول : ان الغالب -في العُرْف- استعمال الدرجاتِ في أهل الثّوابِ والدركات في أهل العقاب .
الثاني : أن ما كان من الثّواب والرحمة فإن الله يُضيفه إلى نفسه وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه قال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } [ الأنعام : 54 ] فلما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه -حيث قال : « عند الله » - علمنا أن المراد أهل الثواب ويؤكده هذا قوله تعالى : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] .
الثالث : أنه -تعالى- وصف مَنْ باء بِسَخَطٍ من الله -وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصيرِ- فوجب أن يكون قوله : « هم درجات » وصفاً لمَن اتبع رضوان الله .

وإن أعدنا الضمير إلى مَنْ باء بسخط فلأنه أقرب ، وهو قول الحسن ، قال : إن المراد به أن أهل النارِ متفاوتون في مراتب العذاب ، كقوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } [ الأحقاف : 19 ] وقال صلى الله عليه وسلم « إنَّ فِيهَا ضَحْضَاحاً وغَمْراً ، وأنَا أرَجْو أنْ يَكُونَ أبُو طِالِبٍ فِي ضَحْضَاحِهَا » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ رجُلٌ لَهُ نَعْلانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْ حَرِّهِمَا دِمَاغُهُ » .
وإذا أعدنا الضمير إليهما فلأن درجات أهل الثواب متفاوتة ، وكذلك درجات أهل العقاب ، قال تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] . وقوله : « عَنْدَ اللهِ » أي : في حكم الله وعلمه ، كما يقال : هذه المسألة عند الشافعيّ كذا ، وعند أبي حنيفة كذا . ثم قال : « واللهُ بَصيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ » أي « عالم بجميع أفعال العباد على التفصيل .
فصل
ذكر محمدُ بن إسحاق -في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ آل عمران : 161 ] - وجهاً آخر ، فقال : أي : ما كان لنبي ان يكتمَ الناس ما بعثه الله به إليهم ، رغبةً أو رهبةً ، ثم قال : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } يعني رجَّح رضوانَ الله على رضوان الخَلْق وسَخَط الله على الخَلْق { كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله } فرجَّح سخَط الخلق على سخط الله ، ورضوان الخَلْق على رضوان الله؟
ووجه النَّظم -على هذا التقدير- أنه تعالى لما قال : { فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } [ آل عمران : 159 ] بيَّن أنَّ ذلك إنما يكون معتبراً إذا كان على وفق الدين ، فأما إذا كان على خِلاف الدّينِ فإنه غيرُ جائزٍ ، فكيف يُمِنُ التسويةُ بينَ من اتبع رضوانَ الله وطاعته وبَيْنَ من اتبع رضوانَ الخلقِ؟
قال ابنُ الخَطِيبِ : » وهذا الذي ذكره مُحْتَمَل ، لأنا بيَّنَّا أنَّ الغلولَ عبارةٌ عن الخيانة على سبيل الخفية ، فأما اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة ، فهو عُرْفٌ حادِثٌ « .

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)

« لقد من الله » جوابٌ لقسم نحذوفٌ ، وقُرِئ : لَمِنْ مَنَّ الله -ب « من » الجارة ، و « منِّ » - بالتشديد مجرورها- وخرَّجه الزمخشريُّ على وجهينِ :
أحدهما : أن يكون هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوفٌ ، تقديره : لمن من الله على المؤمنين مَنُّهُ ، أو بعثه إذ بَعَثَ فيهم ، فحذف لقيامِ الدَّلالةِ .
الثاني : أنه جعل المبتدأ نفس « إذ » بمعنى : وقتٍ : وخبرها الجارُّ قبلها ، وتقديره : لمن من الله على المؤمنين وقت بَعْثِهِ ، ونظره بقولهم : أخطب ما يكون الأميرُ إذا كان قائماً .
وهذان وجهانِ -في هذه القراءة- مما يدلان على رسوخ قدمِهِ في هذا العلمِ .
قال شهابُ الدينِ : إلا أن أبا حيان قد ردَّ عليه الوجه الثاني بأن « إذ » غيرُ متصرفةٍ ، لا تكون إلا ظرفاً ، أو مضافاً إليها اسم زمان أو مفعولة ب « اذكر » -على قول- ونقل قول أبي علي- فيها وفي « إذا » أنهما لم يردا في كلام العربِ إلا ظرفين ، ولا يكونان فاعلين ، ولا مفعولين ، ولا مبتدأين .
قال : ولا يحفظ من كلامهم : إذْ قام زيد طويل -يريد : وقت قيامه طويل- وبأن تنظيره القراءة بقولهم : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً ، خطأ؛ من حيث أن المشبه مبتدأ ، والمشبهُ به ظرف في موضعِ الخبرِ -عند من يُعْرِب هذا الإعرابَ- ومن حيثُ إنَّ هذا الخبرَ -الذي قد أبرزه ظاهراً واجب الحذف؛ لسَدِّ الحال مَسَدَّه ، نص عليه النحويونَ الذين يعربونه هكذا ، فكيف يبرزه في اللفظ؟
قال شهابُ الدين : « وجواب هذا الردِّ واضحٌ وليت أبا القاسم لم يذكر تخريج هذه القراءة؛ لكي نسمع ما يقول هو » .
والجمهورُ على ضم الفاء -من أنفسهم- أي : من جملتهم وجنسهم ، وقرأت عائشةُ ، وفاطمةُ والضّحّاكُ ، ورواها أنس عنه صلى الله عليه وسلم بفتح الفاء ، من النَّفاسة -وهي الشرف- أي : من أشرفهم نسباً وخَلْقاً ، وخُلُقاً .
وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أنا أنفسكم نسباً ، وحسباً ، وصهراً » وهذا الجارُّ يحتمل وجهين :
الأول : أن يتعلق بنفس « بعث » .
الثاني : أن يتعلق بمحذوف ، على أنه وصف ل « رسولاً » فيكون منصوب المحل ، ويقوي هذا الوجه قراءة فتح الفاء .
فصل في المراد ب « أنفسهم »
قيل : أراد به العرب؛ لأنه ليس حَيّ من أحياء االعرب إلا وقد ولد صلى الله عليه وسلم ولد فيهم نسب ، إلا بني تغلب ، لقوله تعالى : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] .
وقال آخرون : أراد به جميع المؤمنين .
ومعنى قوله : « من أنفسهم » أي : بالإيمان والشفقة ، لا بالنسب ، كقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ }

[ التوبة : 128 ] .
ووجه هذه المِنَّة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما يُخَلِّصُهم من عقابِ الله ، ويوصلهم إلى ثواب الله ، كقوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] وأيضاً كونه من أنفسهم لأنه لو كان من غير جنسهم لم يَرْكَنوا إليه .
وخص هذه المنة بالمؤمنين لأنهم المنتفعون بها ، كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
فصل
قال الواحدي : المَنّ -في كلام العرب- بإزاء مَعَانٍ :
أحدها : الذي يسقط من السماء ، قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } [ البقرة : 57 ] .
ثانيها : أن تُمَنَّ بما أعطيتَ كقوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] .
ثالثها : القَطْع ، كقوله : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ الانشقاق : 25 ] وقوله : { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } [ القلم : 3 ] .
رابعها : الإنعام والإحسان إلى مَنْ يطلب الجزاء منه ، ومنه قوله : { هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] . وقوله : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] . والمنَّان -في صفة الله تعالى- : المُعْطِي ابتداً من غير طلب عِوَضٍ ، ومنه الآية : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } [ آل عمران : 164 ] أي : أنعم عليهم ، وأحْسَن إليهم ببعثِهِ هذا الرسول .
قوله : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } [ الجمعة : 2 ] في محل نصب حال ، أو مستأنف .
وقال القرطبي : « يتلو » في موضع نصب ، نعت ل « رسولاً » - وقد تقدم نظيرها في البقرة . { وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة } [ آل عمران : 164 ] معنى الآية : يبلغهم الوحي ، ويطهرهم ، ويعلمهم الكتاب- أي : معرفة الأحكام الشرعية -والحكمة- أي : أسرارها وعِلَلَها ومنافعها- ثم قال : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } وهذا وَجْه النعمة؛ لأن ورود العلم عقيب الجهل من أعظم النعم .
قوله : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } هي « إن » المخففة ، واللام فارقة -وقد تقدم تحقيقه- إلا أن الزمخخشري ومكيًّا -هنا- حين جعلاها مخففة قدَّرَا لها اسماً محذوفاً .
فقال الزمخشري : « وتقديره : إن الشأن ، وإن الحديث كانوا من قبل » . وقال مكي : « وأما سيبويه فإنه قال » إن « مخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، والتقدير -على قوله- : وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين » وهذا ليس بجيّد؛ لأن « إن » المخففة إنما تعمل في الظاهر -على غير الأفصح- ولا عمل لها في المضمر ولا يقَدَّر لها اسمٌ محذوفٌ ألبتة ، بل تُهْمَل ، أو تعمل -على ما تقدم- مع أن الزمخشريَّ لم يُصَرِّحْ بأن اسمها محذوف ، بل قال : « إن » هي المخففة من الثَّقِيلَةِ ، واللام فارقة بينها وبين النافية ، وتقديره : وإن الشأن والحديث كانوا؛ وهذا تفسيرُ معنى لا إعراب .
وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها استئنافية ، لا محلَّ لَهَا مِنَ الأعْرَاب .
والثاني أنها محل نَصْب على الحال من المفعول به- في : « يعلمهم » وهو الأظهر .

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)

الهمزة للإنكار ، وجعلها ابنُ عطية للتقرير ، والواو عاطفة ، والنية بها التقديم على الهمزة .
وقال الزمخشري : و « لما » نصب ب « قلتم » و « أصابتكم » في محل الجر ، بإضافة « لما » إليه ، وتقديره : أقلتم حين أصابتكم . و « أنى هذا » نصب؛ لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع .
فإن قلتَ : علامَ عطفت الواو هذه الجملة؟ قلتُ : على ما مضى من قصة أحُد -من قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } - [ آل عمران : 152 ] ويجوز أن تكونَ معطوفة على محذوف ، [ كأنه قيل ] : أفعلتم كذا ، وقلتم حينئذ كذا؟ انتهى .
أمّا جعله « لما » بمعنى « حين » -أي ظرفاً- فهو مذهب الفارسيِّ وقد تقدم تقرير المذهبين وأما قوله : « عطف على قصة أحد » فهذا غير مذهبه ، لأن الجاري من مذهبه إنما هو تقديرُ جملة ، يعطف ما بعد الواو عليها -أو الفاء ، أو « ثم » - كما قرره هو في الوجه الثاني .
و « أنى هذا » « أنى » بمعنى من أين -كما تقدم في قوله : { أنى لَكِ هذا } [ آل عمران : 37 ] - ويدل عليه قوله : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } وقوله : { مِنْ عِنْدِ الله } قاله الزمخشري .
ورد عيله أبو حيّان بأن الظرف إذا وقع خبراً للمبتدأ لا يقدَّر داخلاً عليه حرف جر ، غير « في » . أما أن يقدر داخلاً عليه « من » فلا؛ لأنه إنما انتصب على إسقاط « في » ولذلك إذا أضمِر الظرف تعدى إليه الفعل بواسطة « في » إلا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به ، فتقدير الزمخشريُّ غيرُ سائغٍ ، واستدلاله بقوله تعالى : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } وقوله : { مِنْ عِنْدِ الله } وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها .
واختار أبو حيان أن « أنى » بمعنى « كيف » قال : و « أنى » سؤالٌ عن الحال -هنا- ولا يناسب أن يكون -هنا- بمعنى « أين » أو « متى » لأن الاستفهام لم يقع عن المكان ، ولا عن الزمان ، إنما وقع عن الحال التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجُّب -وجاء الجواب من حيث المعنى لا من حيثُ اللفظ- في قوله : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } -والسؤال ب « أنى » سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمرِ ، والجواب كقوله : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } يتضمن تعيين الكيفية؛ لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفيةُ من حيثُ المعنى لو قيل -على سبيل التعجُّبِ والإنكارِ- : كيف لا يحج زيد الصَّالحُ؟ وأجيب ذلك بأن يقال : لعدم استطاعته ، لحصل الجوابُ ، وانتظم من المعنى أنه لا يحج وهو غير مستطيعٍ .

قال شهابُ الدينِ : « أما قوله : لا يقدِّر الظرف بحرف جَرّ غير » في « فالزمخشريُّ لم يقدر » في « مع » أن « حتى يلزمه ما قال ، إنما جعل » أنى « بمنزلة » من أين « في المعنى . وأما عدوله عن الجواب المطابق لفظاً فالعكسُ أولى » .
قوله : { قَدْ أَصَبْتُمْ } في محل رفع؛ صفة ل « مصيبة » . و « قلتم » -على مذهب سيبوبه- جواب « لما » وعلى مذهب الفارسيّ ناصب لها على حسب ما تقدم من مذهبيهما .
قوله : { قُلْ هُوَ } هذا الضمير راجع على « المصيبة » من حيثُ المعنى ، ويجوز أن يكونَ حذفُ مضافٍ مراعى -أي : سببها- وكذلك الإشارة لقوله : { أنى هذا } لأن المراد المصيبة .
فصل
وجه النظم : أنه -تعالى- لما أخبر عن المنافقين بأنهم نسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الغلول حكى عنهم شُبْهَةً أخرى في هذه الآية ، وهي قولهم : لو كان رسولاً من عند الله لما انهزم عسكرهُ من الكفار في يوم أحُدٍ ، وهو المرادُ من قولهم : أنى هذا؟
وأجاب الله تعالى عنه بقوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي : هذا الانهزامُ إنما حصل بشؤم عصيانكم .
ومعنى : { قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } أن المشركين قتلوا من المسلمين -يوم أحُدٍ- سبعين ، وقتل المسلمون منهم -يوم بدر- سبعين ، وأسروا سبعينَ ، والأسيرُ في حكم القتيلِ ، لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد . { قُلْتُمْ أنى هذا } : من أين لنا هذا القتلُ والهزيمة ، ونحن مسلمونَ ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا؟ { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ }
روى عبيدة السَّلْمَاني عن علي قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فقال : يا مُحَمَّدُ ، إن الله قد كَرِهَ ما صنع قومك -من أخذهم الفداء من الأسارى- وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى ، فتضرب أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عِدَّتهم ، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للنّاسِ ، فقالوا : يا رسولَ الله ، عشائرنا ، وإخواننا ، لا ، بل نأخذ منهم الفداء ، فتتقوّى به على قتال العدو ، ونرضى أن يستشهد منا عشدَّتهم ، فقُتِلَ منهم -يوم أحدٍ- سبعونَ ، عدد أسارى أهل بدر ، فهذا معنى قوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي : بأخذ الفداء ، واختياركم القتلَ .
وقيل : إنما وقعتم في هذه المصيبة بشُؤم معصيتكم في الأمور المتقدم ذِكرها .
فصل
استدل المعتزلةُ بقوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } على أن أفعال العبد غير مخلوقةٍ لله تعالى من وجوهٍ :
أحدها : أنه لو كان ذلك حاصلاً بخَلْق الله تعالى -ولا تأثير للعبد فيه- كان قوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } كذباً .
ثانيها : أنهم تعجبوا كيف سلط الله الكافرَ على المؤمن؟ فأزال الله ذلك التعجب بقوله : إنما وقعتم في هذا المكروه بشُؤم فعلكم ، فلو كان خلقاً لله لم يصح الجوابُ .

ثالثها : أن القوم قالوا : { أنى هذا } أي : من أينَ هَذَا؟ وهذا طلبٌ لسبب الحدوثِ ، فلو لم يكن المحدث لها هو العبدُ لم يكن الجوابُ مطابقاً للسؤال .
وأجيبوا عن الأوليْن بالمعارضة بالآيات الدالة على كون أفعال العبدِ بإيجاد الله تعالى ، وعن الثالث بأنه لو كانوا هم الذين أوجدوا الفعل لم يحسن منهم السؤالُ عن سببه .
ثم قال : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : قادر على نصْركم -لو صبرتم وثبتُّم- كما قدر على التخلية -إذ خالفتم وعصيتم- وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، قالوا : لأن فعل العبد شيء ، فيكون الله قادراً على إيجاده ، فلو أوجده0 العبد امتنع كونه -تعالى- قادراً على إيجاده؛ لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده ، لأن إيجادَ الموجودِ مُحَالٌ ، والمُفضِي إلى المُحَالِ مُحَالٌ .

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)

« ما » موصولة بمعنى الذي ، في محل رفع بالابتداء ، و « بإذن الله » الخبر ، وهو على إضمار مبتدأ ، تقديره : فهو بإذن الله ، ودخلت الفاء في الخبر؛ لشِبْه المبتدأ بالشرط ، نحو : الذي يأتيني فله درهم ، وهذا -على ما قرره الجمهورُ- مُشْكِل؛ وذلك أنهم قرروا أنه لا يجوز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط .
منها : أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط ، والشّرط إنما يكون في الاستقبال ، لا في الماضي ، لو قلت : الذي أتاني أمس فله درهم ، لم يصحّ ، « وأصابكم » -هنا- ماضٍ في المعنى؛ لأن القصة ماضية ، فكيف جاز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط .
منها : أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط ، والشّرط إنما يكون في الاستقبال ، لا في الماضي ، لو قلت : الذي أتاني أمس فله درهم ، لم يصحّ ، « وأصابكم » -هنا- ماضٍ في المعنى؛ لأن القصة ماضية ، فكيف جاز دخول هذه الفاء؟
أجابوا عنه بأنه يُحْمل على التبيُّن -أي : وما تبين إصابته إياكم- كما تأولوا قوله : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } [ يوسف : 26 ] -أي تبين- وهذا شرطٌ صريحٌ ، وإذا صحَّ هذا التأويل فلْنَجْعَل « ما » -هنا- شرطاً صريحاً ، وتكون الفاء داخلة وجوباً؛ لكونها واقعة جواباً للشرط .
وقال ابنُ عطية : « يحسن دخولُ الفاء إذا كان سببَ الإعطاء ، وكذلك ترتيبُ هذه ، فالمعنى إنما هو : وما أذن الله فيه فهو الذي أصابكم ، لكن قدم الأهم في نفوسهم ، والأقرب إلى حسّهم . والإذن : التمكينُ من الشيء مع العلم به » .
وهذا حسنٌ من حيثُ المعنى؛ فإن الإصابة مرتبة على الإذْن من حيث المعنى ، وأشار بقوله : الأهم والأقرب ، إلى ما أصابهم يوم التقى الجَمْعَانِ .
فصل
ذكر في الآية الأولى أن الذي أصابهم كان من عند أنفسهم ، وذكر هذه الآية وجهاً آخرَ ، وهو أن يتميز المؤمنُ عن المنافقِ ، والمراد بالجمعينِ هو جمعُ المؤمنينَ ، وجمعُ المشركينَ في يوم أحُدٍ .
واختلفوا في المراد بقوله : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله } [ التوبة : 3 ] وقوله : { آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } [ فصلت : 47 ] وقوله : { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] وطعن الواحدي في هذا بأن الآية إنما هي لتسلية المؤمنين مما أصابهم ، ولا تحصل التسلية إذا كان ذلك واقعاً بعِلة؛ لأن علمه عام في جميع المعلومات .
وقيل : فبأمر الله؛ لقوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } [ آل عمران : 152 ] والمعنى : أنه -تعالى- لما أمر بالمحاربة ، ثم أدت تلك المحاربة إلى ذلك الانهزام صح -على سبيل المجاز- أن يقال : حصل ذلك بأمره .
ونُقِل -عن ابن عباسٍ- أن المرادَ من الإذن قضاءُ الله بذلك وحكمه به .

وهذا أولى؛ لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ، وبهذا تحصل التسلية .
قوله : { وَلِيَعْلَمَ المؤمنين } في هذه اللام قولان :
أحدهما : أنها معطوفة على معنى قوله : { فَبِإِذْنِ الله } عطف سبب على سبب ، فتتعلق بما تتعلق به الباء .
الثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، أي : وليعلم فعل ذلك -أي : أصابكم- والأول أولى- وقد تقدم أن معنى : وليعلم الله كذا : أي يُبَيِّن ، أو يظهر للناس ما كان في علمه ، وزعم بعضهم أن ثَمَّ مضافاً ، أي : ليعلم إيمان المؤمنين ، ونفاق المنافقين ، ولا حاجة إليه .
قوله : { وَلْيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } قال الواحدي : « يقال : نَافَقَ الرَّجُلُ -فهو منافقٌ- إذا أظهر كلمة الإيمان ، وأضمَر خلافَها ، والنفاق اسم إسلامي ، اختلِف في اشتقاقه على وجوهٍ :
أحدها : قال أبو عبيد : من نافقاء اليربوع؛ لأن حجر اليربوع لها بابان : القاصعاء ، والنافقاء ، فإذا طلب من أيهما خرج من الآخر ، فقيل للمنافق : إنه منافق لأنه وضع لنفسه طريقين : إظهار الإسلام ، وإضمار الكُفْرِ ، فمن أيهما طُلِب خرج من الآخر .
الثاني : قال ابنُ الأنباري : المنافق من النَّفَق ، وهو السربُ ، ومعناه : أنه يتستّر بالإسْلامِ كما يتستَّر الرجُلُ في السِّرْبِ .
الثالث : أنه مأخوذٌ من النافقاء ، ولكن على غير الوجه الذي ذكره أبو عبيدٍ ، وهو أن النافقاء جثحْر يحفره اليربوعُ في داخل الأرضِ ، ثم إنه يُرقِّق ما فوقَ الجُحر ، حتى إذا رابه رَيْبٌ ، رفع التراب برأسه وخرج ، فقيل للمنافق : منافق؛ لأنه أضمر الكُفْرَ في باطنه ، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر ، وتمسَّك بالإسلام » .
قوله : { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ } هذه الجملة تحتمل وجهين :
الأول : أنْ تكونَ استئنافية ، أخبر الله أنهم مأمورونَ إما بالقتال ، وإما بالدَّفْع ، أي : تكثير سواد المسلمين .
الثاني : أن تكون معطوفة على « نافقوا » فتكون داخلة في صلة الموصول ، أي : ليعلم الذين حصل منهم النفاقُ والقول بكذا و « تعالوا » و « قاتلوا » كلاهما قام مقام الفاعل ل « قيل » لأنه هو المقول . قال أبو البقاء : إنما لم يأتي بحرف العطف -يعني بين « تعالوا » و « قاتلوا » -لأنه أراد أن يجعل كل واحدةٍ من الجملتين مقصودة بنفسها ، ويجوز أن يقال : إن المقصودَ هو الأمر بالقتال ، و « تعالوا » ذكر ما لو سكت عنه لكان في الكلام دليل عليه .
وقيل : الأمر الثاني حال .
يعني بقوله : « تعالوا » ذكر ما لو سكت ، أن المقصود إنما أمرهم بالقتال ، لا مجيئهم وحده ، وجعله « قاتلوا » حالاً من « تعالوا » فاسد؛ لأن الجملة الحالية يُشْتَرط أن تكونَ خبرية ، وهذه طلبية .
قوله : « أو ادفعوا » « أو » -هنا- على بابها من التخيير والإباحة .
وقيل : بمعنى الواو؛ لأنه طلب منهم القتال والدفع ، والأول أصح .
فصل
اختلفوا في القائل ، فقال الصمُّ : إنه الرسول صلى الله عليه وسلم كان يَدْعُوهُمْ إلى القتال .

وقيل : إن عبد الله بن أبيّ ابن أبي سلول لما خرج بعسكره إلى أحُد قال : لم نُلْقي أنفسَنا في القتل؟ فرجعوا ، وكانوا ثلاثمائةٍ من جملة الألف الذي خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام -أبو جابر بن عبد الله الأنصاريّ- : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العَدَوِّ .
فصل
معنى { قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا } يعني : إن كان في قلوبكم حُبُّ الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام ، وإن لم تكونوا كذلك ، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم .
وقال السُّدَّيُّ : وابنُ جُرَيْج : ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا -إن لم تقاتلوا معنا- لأن الكثرة أحد أسباب الهَيْبة .
وقوله : { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً } إنما لم يَأتِ -في هذه الجُمْلة- بحرف عطف؛ لأنها جواب لسؤال سائل كأنه قيل : فما قالوا -لما قيل لهم ذلك-؟ فأجيب بأنهم قالوا ذلك . و « نعلم » -وإن كان مضارعاً- معناه المُضِيّ؛ لأن « لو » تخص المضارع ، إذا كانت لما سيقع لوقوع غيره ، ونكَّر « قتالاً » للتقليل ، أي : لو علمنا بعض قتال ما . وهذا جواب المنافقين حين قيل لهم : { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا } فقال تعالى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } .
« هم » مبتدأ ، و « أقرب » خبره ، وهو أفعل تفضيل ، و « للكفر » متعلق به ، وكذلك « للإيمان » .
فإن قيل : لا يتعلق حرفا جر -متحدان لفظاً ومعنىً- بعامل واحد ، إلا أن يكونَ أحدهما معطوفاً على الآخر ، أو بدلاً منه ، فكيف تعلقا ب « أقرب » ؟
فالجوابُ : أن هذا خاصٌّ بأفعل التفضيل ، قالوا : لأنه في قوة عاملين ، فإنّ قوة قولك زيدٌ أفضلُ مِنْ عَمْرو ، معناه : يزيد فضله على فضل عمرو .
وقال أبو البقاء : « وجاز أن يعمل » أقرب « فيهما؛ لأنهما يشبهان الظرف ، وكما عمل » أطيب « في قولهم : هذا بسراً أطيب منه رُطباً ، في الظرفين المقدرين لأن » أفعل « يدل على معنيين -على أصل الفعلِ وزيادتهِ- فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الأخر ، فتقديره : يزيد قُرْبهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان » .
ولا حاجة إلى تشبيه الجارين بالظرفين؛ لأن ظاهره أن المسوغ لتعلقهما بعامل واحد تشبيههما بالظرفين وليس كذلك ، وقوله : الظرفين المقدَّرين ، يعني أن المعنى : هذا في أوانِ بُسْرَيته أطيب منه .
و « أقرب » -هنا- من القُرْب -الذي هو ضد البعدِ- ويتعدى بثلاثة حروف : اللام ، و « إلى » و « من » . تقول : قربت لك ومنك إليك ، فإذا قلت : زيد أقرب من العلم من عمرو ، ف « من » الولى المعدية لأصل معنى القرب ، والثانية هي الجارة للمفضول ، وإذا تقرر هذا فلا حاجة إلى ادعاء أن اللام بمعنى « إلى » .

و « يومئذ » متعلق ب « أقرب » ومذا « منهم » و « من » هذه هي الجارةُ للمفضول بعد « أفعل » وليست هي المعدية لأصل الفعل .
ومعنى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } أنهم كانوا -قبل هذا الوقت- كاتمين للنفاق ، فكانوا في الظاهر أبعد من الكفر ، فلما ظهر منهم ما كانوا يكتمونه صاروا أقرب للكفر؛ لأن رجوعهم عن معاونة المسلمين دَلَّ على أنهم ليسوا من المسلمين .
وقيل : المعنى أنهم لأهل الكفر أقرب نُصْرَةً منهم لأهل الإيمان؛ لأن تقليلَهم سوادَ المسلمين يؤدي إلى تقوية المشركين .
و « إذ » مضافةٌ لجملةٍ محذوفةٍ ، عُوِّضَ منها التنوين ، وتقدير هذه الجملة : هم للكفر يوم إذ قالوا : لو نَعْلَم قتالاً لاتبعناكم .
وقيل : المعنى على حذف مضاف ، أي : هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان ، وفُضِّلُوا -هنا- على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين ، ولولا ذلك لم يَجُزْ ، تقول : زيدٌ قاعداً أفضل منه قائماً ، أو زيد قاعداً اليوم أفضل منه قاعداً غداً . ولو قلت : زيد اليوم قاعداً أفضل منه اليوم قاعداً . لم يَجُزْ .
وحكى النقاش -عن بعض المفسّرين- أن « أقرب » -هنا- ليست من معنى القُرب -الذي هو ضد البُعْدِ -وإنما هي من القَرَب- بفتح القاف والراء- وهو طلبُ الماءِ ، ومنه قارب الماء ، وليلةُ القُرْب : ليلة الورود ، فالمعنى : هم أطلب للكفر ، وعلى هذا تتعين التعدية باللام- على حَدِّ قولك : زيد أضربُ لعمرو .
فصل
قال أكثرُ العلماءِ : هذا تنصيصٌُ من الله تعالى على أنهم كفار .
قال الحَسَنُ : إذا قال الله تعالى : « أقرب » فهو اليقين بأنهم مشركون ، وهو مثل قوله : { مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] فهذه الزيادة لا شك فيها ، وأيضاً فالمكَلَّف لا يمكن أن ينفك عن الإيمان والكُفْرِ فلما دلَّت الآية على القُرْب من الكفر لزم حصول الكفر . وقال الواحديُّ -في « البسيط » : هذه الآية دليلٌ على أن مَنْ اتى بكلمة التوحيد لم يكفر ، ولم يطلق القول بتكفيره؛ لأنه -تعالى- لم يطلق القول بتكفيرهم- مع أنهم كانوا كافرين- لإظهارهم كلمة التوحيد .
قوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } في هذه الجملة وجهانِ :
أحدهما : أنها مستأنفةٌ ، لا محلَّ لها من الإعرابِ .
الثاني : أنها في محل نَصْب على الحال من الضمير في « أقرب » أي : قربوا للكفر قائلين هذه المقالة -وقوله : { بِأَفْوَاهِهِم } قيل : تأكيد ، كقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] . والظاهرُ أن القولَ يُطْلق على اللساني والنفساني ، فتقييده بقوله : { بِأَفْوَاهِهِم } تقييد لأحد مُحْتَمَلَيْه ، اللهم إلا أن يُقَال : إن إطلاقه على النفسانيّ مجاز ، قال الزمخشري : « وذكر الأفواه مع القلوب؛ تصويراً لنفاقهم ، وأن إيمانهم موجود في أفواههم ، معدوم في قلوبهم » .
وبهذا -الذي قاله الزمخشريُّ- ينتفي كونُه للتأكيد؛ لتحصيله هذه الفائدة- ومعنى الاية : أن لسانهم مُخَالِفٌ لقلوبهم ، فهم وإن كانوا يُظْهرون الإيمانَ باللسانِ ، لكنهم يُضْمِرون في قلوبهم الكُفْرَ .
قوله تعالى : { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } أي : عالم بما في ضمائرهم .
فإن قيل : المعلوم إذا علمه عالمانِ لم يكن أحدُهما أعلمَ به من الآخرِ ، فما معنى قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } ؟
فالجواب : أنّ الله -تعالى- يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75