كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

قوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ } اليوم منصوب بقول مضمر ، أي يقال لهم : أَذْهَبْتُمْ في يوم عرضهم . وجعل الزمخشري هذا مثل قولهم : « عُرِضَتْ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ » فيكون قلباً . وردهُ أبو حيان بأنه ضرورة وأيضاً العرض أمر نسبي فتصح إلى الناقة ، وإلى الحوض . وقد تقدم الكلام في القلب وأنَّ فيه ثلاثة مذاهب .
قوله : { أَذْهَبْتُمْ } قرأ ابن كثير : أَأَذْهَبْتُمْ بهمزتين الأولى مخففة والثانية مُسَهَّلة بَيْنَ بَيْنَ ولم يُدخل بينهما ألفاً . وهذا على قاعدته في : « أأنذرتهم » ونحوه . وابن عامر قرأ أيضاً بهمزتين ، لكن اختلف رواياه عنه : فهشام سهل الثانية وخففها ، وأدخل ألفاً في الوجهين ، وليس على أصله فإنه من أهل التحقيق . وابن ذكوان بالتحقيق فقط ، دون إدخال ألف ، والباقون بهمزة واحدة فيكون إما خبراً وإما استفهاماً سقطت أداته للدلالة عليها .
والاستفهام معناه التقريع وكلتا القراءتين فصيحتان لأن العرب تسْتَفْهِمُ وتترك الاستفهام فتقول : أذْهَبْتَ فَفَعَلْتَ كَذَا؟ وذَهَبتَ فَفَعَلْتَ كَذَا؟ .
قوله : { فِي حَيَاتِكُمُ } يجوز تعلقه « بأَذْهَبْتُمْ : ويجوز تعلقه بمحذوف على أنه حال من » طَيْبَاتِكُمْ « .
فصل
قيل : المعنى يعرض الذين كفروا على ( النار ) أي يَدْخُلُون النار . وقيل : تدخل عليهم النارُ ليروا أهوالها ، ويقال لهم : أَذْهَبتُمٍ طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها ، والمعنى أن ما قدر لكم من الطيبات والدَّرَجَات فقد استوفيتموه في الدنيا ، فلم يبق لكم بعد استيفاء حضكم شيء منها . وعن عمر رضي الله عنه : لَوْ شِئْتُ لَكُنْتُ أَطْيَبَكُمْ طَعَاماً وأحْسَنَكُمْ لِبَاساً ، ولكنِّي أسْتَبْقِي طَيِّباتِي . قال الواحدي : إن الصالحين يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل ، لأن هذه الآية لا تدل على المنع من التمتع ، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر ، وإنما وبخ الله الكافر ، لأنه تمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته ، والإيمان به ، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم ، فلا يبّخ بتمتعه ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق } [ الأعراف : 32 ] نعم لا يُنْكَر أنَّ الاحتراز عن التنعيم أولى؛ لأن النفس إذا اعتادت التنعيم صعب عليها الاحتراز والانقياد وحينئذ ربّما حمله المَيْلُ إلى تلك الطيبات على فعل ما لا يَنْبَغِي . روى عمر ( رضي الله عنه ) » قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو على زُمّالٍ حَصِيرٍ قد أثر الزّمّال بجنبه فقلت يا رسول الله : ادعه الله أن يُوسِّعَ على أمتك ، فإنَّ فارساً والرومَ قد وسع عليهم وهم يعبدون غير الله فقال : أولَئِكَ قوم قد عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا « وروت عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قُبضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنها قالت : لقد كان يأتي علينا الشَّهْرُ ما نُوقِدُ فيه ناراً ما هو إلا الماء والتمز .

وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَبِيتُ الليالي المتتابعةَ طاوياً وأهلُه لا يجدون شيئاً ، وكان أكثر خبزهم خبزَ الشعير ، والأحاديث فيه كثيرة .
قوله : { فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } أي العذاب الذي فيه ذُلّ وخِزْي . وقرىء : عَذَاب الهَوَانِ { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } فعلّل تعالى ذلك العذاب بأمرين :
أحدهما : الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب .
والثاني : الفِسق ، وهو ذَنْب الجوارح وقدم الأول على الثاني ، لأن أحوال القلب أعظم وقعاً من أعمال الجوارح ، ويمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يكتبرون عن قول الدين الحق ، ويستكبرون عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد بالفسق المعاصي .
فصل
دلت الآية على ان الكفار يخاطبون بفروع الإسلام ، لأن الله تعالى علل عذابهم بأمرين :
أولهما : الكفر ، وثانيهما : الفسق وهذا الفِسق لا بدّ وأن يكون مغايراً لذلك الكفر لأن العَطْفَ يوجب المغايرة فثبت أن فسق الكافر يوجب العذاب في حقهم ، ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيَّات .

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

قوله تعالى : { واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف . . . } الآية لما ذكر دلائل النبوة والتوحيد وكان أهل مكة بسبب استغراقهم في لذات الدنيا أعرضوا عنها ولم يلتفتوا إليها لهذا السبب قال تعالى في حقهم : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا } [ الأحقاف : 20 ] فلما كان الأمر كذلك بين أن قوم عاد كانوا أكثر أموالاً وقوةً وجاهاً ، ثم إن الله تعالى سلَّط عليهم العذاب بكفرهم وذكر قصتهم ليعتبر بها أهل مكة فيتركوا الاغترار بما وجدوه في الدنيا ويقبلوا على طلب الدين الحق فقال : « وَاذْكُرْ يا محمد لقومك أَخَا عَادٍ » أي هوداً عليه الصلاة والسلام .
قوله : { إِذْ أَنذَرَ } بدل من « أخا » بدل اشتمال وتقدم تحقيقه . وقوله { بالأحقاف } هي جمع حِقْفٍ وهو الرمل المستطيل المعوجُّ ومنه احْقَوْقَفَ الهِلاَلُ ، قال امرؤ القيس :
4454 فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى ... بِنَا بَطْنُ حقْفٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) وادٍ بين عمان ومَهْرة . وقال مقاتل : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت ، بموضع يقال له : مَهْرَةَ إليها تنسب الإبل المَهْرِيَّة ، وكانوا أهل عُمُد سيارة في الربيع فإذا العُود رَجَعُوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة إرَم ، وقال قتادة : ذكر لنا أن عاداً كانوا حياً من اليمن كانوا أهل رمل مشرفين على البحر ، بأرض يقال لها الشِّحْر .
قوله : { وَقَدْ خَلَتِ } يجوز أن يكون حالاً من الفاعل ، أو من المفعول والرابط الواو ، والنُّذُر جمع نَذِيرٍ ويجوز أن يكون معترضة بين « أَنْذَرَ » وبين « أَنْ لا تَعْبُدُوا » أي أنذرهم بأن لا .
وقوله : { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي مضت الرسل من قبل هود ومن خلفه أي بعده . ( والمعنى أعلمهم أن الرسل الذي بعثوا قبله والذين يبعثون ) بعده كلهم منذرون نحو إنذاره .
فصل
قال المفسرون : إن هُوداً عليه الصلاة والسلام كان قد أنذرهم وقال : أن لا تعبدوا إلا الله إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم العذاب قالوا جئتنا لتأفكنا « أي لتصرفنا » عَنْ آلِهَتِنَا أي عن عِبَادَتِهَا ، والإفْكُ الصَّرْفُ ، يقالُ : أَفِكَهُ عَنْ رَأيهِ إذا صَرَفَهُ عنه . وقيل : المراد لتلفتنا بالكذب . { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } من معاجلة العذاب على الكفر { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في وعدك أن العذاب نازل بنا قال هود : إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وهو يعلم متى يأتيكم العذاب { وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ } من الوحي والتحذير من العذاب ، فأما العلم بوقته فما أوحاه إليَّ { ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } وهذا يحتمل أ ، المراد أنكم لا تعلمون أن الرسل لم يبعثوا مقترحين ولا سائلين عن غير ما أُذِنَ لهم فيه وإنما بعثوا مبلغين .

ويحتمل أن يكون المراد قوماً تجهلون من حيث إنكم بَقِيتُم مُصرِّين على كفركم وجهلكم فيغلب على ظني أنه قرب الوقت الذي ينزل عليكم العذاب بسبب هذا الجهل المفرط والوقاحة التامة .
ويحتمل أن يكون المراد قوماً تجهلون حيث تُصِرُّونَ على طلب العذاب وهب أنه لم يظهر لكم كوني صادقاً ولكن لم يظهر لكم أيضاً كوني كاذباً ، فالإقدام على الطلب الشديد لهذا العذاب جهل عظيم .
قوله : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً } في « هاء » « رَأَوْهُ » قولان :
أحدهما : أنه عائد على « ما » في قوله « ما تَعِدُنا » .
الثاني : أنه ضمير مبهم يفسره « عَارِضاً » إما تمييزاً ، أو حالاً . قالهما الزمخشري .
وردَّه أبو حيان بأن التمييز المفسِّر للضمير محصورٌ في باب رُبَّ ، وفي نِعْمَ وبِئْسَ ، وبأنَّ الحالَ لم يُعْهَد فيها أن توضع الضمير قبلها ، وأن النَّحويِّين لا يعرفون ذلك . وذكر المبرد في الضمير ههنا قولين :
الاول : ما تقدم . والثاني : أنه يعود إلى غير مذكور وبينه قوله : : « عارضاً » كقوله : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [ فاطر : 45 ] . ولم يذكر الأرض لكونها معلومة فكذا الضمير ههنا ، عائد إلى السحاب ، كأنه قيل : فلما رأَوا السَّحَابَ عارِضاً . وهذا اختيار الزجاج . ويكون من باب الإضمار لا على شريطة التفسير .
والعارض السحابة التي ترى في ناحية السماء ثم تطبّق السماء . قال أهل اللغة : العَارِضُ المُعْتَرِضُ من السَّحَاب في الجوِّ ، قال :
4455 يَامَنْ رَأَى عَارِضاً أَرقْتُ لَهُ ... بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ
قوله : { مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } صفة ل « عَارِضاً » ، وإضافة غير محضة فم ثَمَّ سَاغَ أن يكون نعتاً لنكرة وكذلك « مُمْطِرُنَا » وقع نعتاً « لِعَارِضٍ » ومثله :
4456 يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبُكُمْ ... لاَقَى مُبَاعَدَةً مِنْكُمْ وَحِرْمَانَا
وقد تقدم أن أوديةً جمع وادٍ ، وأن أفْعِلَةً وردت جمعاً لفاعل في ألفاظ كَوَادٍ وأدْوِيَةٍ ونَادٍ وأنْدِيَةٍ ، وحَائِزٍ وأَحْوِزَةٍ .
فصل
قال المفسرون : كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيماً فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من وادٍ لهم يقال له : المغيث ، فلما رأوها استبشروا وقالوا : هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى : { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ } من العذاب . ثم بين ماهيته فقال : { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ثم وصف تلك الريح فقال : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي تهلك كل شيء من الحيوان والناس بأم ربها . ومعناه أن هذا ليس من باب تأثيراتٍ الكواكب والقِرانَات بل هو أمر حدث ابتداءً بقدرة الله تعالى لأجل تَعْذِبكم .
قوله : { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ } قرىء : « ما اسْتُعْجلْتُمْ » مبنياً للمفعول . وقوله : « ريحٌ » يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هُوَ رِيحٌ ، ويجوز أن يكون بدلاً من « هِيَ » و « فِيهَا عَذَابٌ » صفة ل « رِيحٍ » وكذلك « تُدَمّر » .

وقرىء : يَدْمُر كل شيء ، بالياء من تحت مفتوحة ، وسكون الدال ، وضمّ الميم بالرفع على الفاعلية ، أي تهلك كل شيء .
وزيد بن علي كذلك إلا أنه بالتاء من فوق ونصب كل والفاعل ضمير الريح؛ وعلى هذا فيكون ( دَمَرَ ) الثلاثي لازماً ومتعدياً .
قوله : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } قرأ حمزة وعاصم لا يُرَى بضشم الياء من تحت مبْنيًّا للمفعول « مَسَاكِنُهُمْ » بالرفع لقيامه مقام الفاعل ، والباقون من السبعة فتح تاء الخطاب مَسَاكِنَهُمْ بالنَّصب مفعولاً به . والجَحْدَرِيُّ والأعمشُ وابنُ أبي إسحاق والسُّلَمِيّ وأبو رجاء بضم التاء من فوق مبنياً للمفعول مَسَاكِنُهُمْ بالرفع لقيامه مقام الفاعل ، إلا أن هذا عند الجمهور لا يجوز ، أعني إذا كان الفاصل « إلا » فإنه يمتنع لحاق علامة التأنيث ( في الفعل ) إلاَّ في ضرورة كقوله ( رَحِمَهُ اللهُ ) :
4457 كَأَنَّهُ جَمَلٌ وَهُمٌ وَمَا بَقِيَتْ ... إلاَّ النُّحَيْزَةُ وَالأَلْوَاحُ والْعُصُبُ
وعيسى الهمداني : لا يُرَى بالياء من تحت مبنياً للمفعول مَسْكَنُهُمْ بالتوحيد .
ونصرُ بنُ عاصم بتاء الخطاب مَسْكَنَهُمْ بالتوحيد أيضاً منصوباً . واجْتُزِىءَ بالوَاحِدِ عَن الْجَمْعِ .
فصل
روي أن الريح كانت تحمل الفُسْطَاطَ فَترْفَعُهَا في الجوِّ ، وتحمل الظَّعِينَةَ حتى تُرَى كأنها جَرادَةٌ وقيل : إن أوّل من أبصر العذاب امرأة بينهم قالت : ( رَأَيْتُ ) ريحاً فيها كشُهب النار .
وروي أن أول ما عرفوا به أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رجالهم ومواشيهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب ، وصَرَعَتْهُمْ وأمال الله تعالى عليهم الأَحْقَافَ فكانوا تحتها سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيَّام ، لَهُمْ أنينٌ ، ثم أمر الله الريح فكشف عنه الرِّمال واحتملهم ، فرَمَتْ بهم في البحر . وروي أن هوداً لما أحسَّ بالريح خط على نفسه على المؤمنين خطًّا إلى جنب عين تنبعُ ، وكانت الريح التي تصيبيهم ريحاً طَيِّبةً هادية ، وا لريح التي تُصيبُ قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء ، وتضربهم على الأرض ، وأثر المعجزةِ إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه . قال عليه الصلاة وةالسلام ، « مَا أَمَرَ اللهُ خَازِنَ الرِّيَاحِ أنْ يُرْسِلَ عَلَى عَادٍ إلاَّ مِثْلَ مِقْدَارِ الخَاتَم » وذَلِكَ القَدْرُ أهْلَكَهُمْ بكُلِّيَّتِهِمْ وذلك إظهارُ قدرة الله تعالى . « وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال : » اللَّهم إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّها وشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ به « قال تعالى : { كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين } والمقصود به تخويف كفار مكة فإن قيل : لما قال ( تعالى ) : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] فكيف يحصل التخويف؟
فالجواب : أن ذلك قبل نزول الآية .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } ما موصولة ، أو موصوفة .

وفي « إنْ » ثلاثة أوجه :
أحدها : شرطية ، وجوابها محذوف والجملة الشرطية صلة ما ، والتقدير : في الَّذي إنْ مَكَّنَّاكُمْ فيه طَغَيْتُمْ .
والثاني : أنها مزيدة تشبيهاً للموصولة بما النافية والتوقيتية ، وهو كقوله :
4458 يُرَجِّي الْمَرْء مَا إنْ لاَ يَرَاهُ ... وَتَعْرِضُ دُونَ أَدْنَاهُ الخُطُوبُ
والثالث : وهو الصحيح أنها نافية بمعنى مكّناكم في الذي ما مكّناهم فيه من القوة والبَسْطَةِ وسَعَةِ الأرزاق . ويدل له قوله في مواضع : { أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ الروم : 9 ] وأمثاله . وإنما عدل عن لفظ « ما » النافية إلى « إنْ » كراهية لاجتماع متماثلين لفظاً . قال الزمخشري : وقد أَغَيُّ أبو الطيب في قوله :
4459 لَعْمُرَكَ ما ما بانَ مِنْكَ لَضَارِبٌ .. . . .
وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال : « مَا إنْ بان » .
فصل
معنى الآية مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطولِ العمر ، وكَثْرةِ ا لمال ثم إنهم مع زيادة القُوَّة ما نَجَوْا من عذاب الله تعالى فكيف يكون حالكم؟ ثم قال : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً } أي فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمْعاً ، فما استعملوه في سَمَاع الدلائل وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السموات والأرض ، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى بل صرفوا كل هذه القُوَى إلى طلب الدنيا ولذاتها فلا جَرَمَ ما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله تعالى .
قوله : { فَمَآ أغنى } يجوز أن يكون « ما » نفياً وهو الظاهر . أو استفهاماً للتقرير .
واستبعده أبو حيان لأجل قوله : { مِّن شَيْءٍ } قال : إذ يصير التقدير أي شيء أعنى عنهم من شيء؟ فزاد « من » فِي الوَاجِبِ ، وهو لا يجوز على الصحيح .
قال شهاب الدين : قالوا يجوز زيادتها في غير المُوجب . وفسروا غير الموجب بالنفي والنهي والاستفهام وهذا استفهام .
قوله : { إِذْ كَانُواْ } معمول ل « أغْنى » وِهيَ مُشْربة معنى التعليل ، أي لأنهم كانوا يجحدون فهو كقوله ضَرَبْتُهُ إذْ أَسَاءَ ، أي ضربته لأنه أساء . وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة . ثم قال : { وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب على سبل الاسْتِهْزَاء .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى } يا كفار مكة كحِجْر ثَمُود وعاد باليمن وأرض سدوم ونحوها بالشام { وَصَرَّفْنَا الآيات } الحُجج بيناها لهم لعل أهل القرى يرجعون . قال الجبائي : قوله : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } معناه لكي يرجعوا عن كفرهم وذلك يدل على أنه تعالى أراد رجوعهم ولم يرد إصرارهم وأجيب : بأنه فصل ما لو فعله غيره لكان ذلك لأجل الإرادة المذكورة وإنَّما ذهبنا إلى هذا التأويل للدلائل الدالة على أنه تعالى مريد لجميعِ الكائنات .
قوله تعالى : { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ } القُرْبَانُ ما تُقُرِّب به إلى الله .

أي اتخذوها شفعاء وقالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
قوله : { قُرْبَاناً } فيه أربعة أوجه :
أظهرها : أن المفعول الأول ل « اتَّخَذَ » محذوف ، هو عائد . « قُرْبَاناً » نصب على الحال ، و « آلِهَةً » هو المفعول الثاني للاتِّخَاذ ، والتقدير . نَصَرَهُم الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مُتَقَرَّباً بهم آلهة .
والثاني : أن المفعول الأول محذوف كما تقدم و « قُرْبَاناً » مفعولاً ثانياً و « آلهة » بدل منه . وإليه نحا أبن عطية والحَوْفِيُّ وأبو البقاء ، إلا أن الزمخشري منع هذه الوجه قال : « الفساد المعنى » . ولم يبين جهة الفاسد . قال أبو حيان : ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب . قال شهاب الدين : ووجه الفساد والله أعلم أن القُرْبَانَ اسم لما تقرب به إلى الإله ، فلو جعلناه مفعولاً ثانياً و « آلهةً » بدلاً منه لزم أن يكون الشيء المُتَقَرَّبُ به آلهةً والغرض أنه غيرُ آلهة . بل هو شيء يتقرب به إليها فهو غيرها فكيف تكون الآلهة بدلاً منه؟ وهذا مَا لاَ يَجُوزُ .
الثالث : أن « قرباناً » مفعولٌ من أجله . وعزاه أبو حيان للحَوْفي . وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً . وعلى هذا ف « آلِهَةً » مفعولٌ ثان ، والأول محذوف كما تقدم .
الرابع : أن يكون مصدراً . نقله مكي . ولولا أنه ذكر وجهاً ثانياً وهو المفعول من أجله لكان كلامه مؤولاً بأنه أراد بالمصدر المفعول من أجله لبُعْدِ معنى المصدر .
قوله : { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } قال مقاتل : بل ضلت الآلهة عنهم فلم ينفعهم عد نزول العذاب لهم .
قوله : { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } العامة على كسر الهمزة ، وسكون الفاء ، مصدر أَفِكَ يَأفِكُ إفْكاً ، أي كَذِبُهُمْ وابن عباس بالفتح وهو مصدر له أيضاً . وابن عباس أيضا وعكرمة والصَّباح بنْ العلاء أَفَكَهُمْ بثلاث فتحات فعلاً ماضياً ، أي صَرَفَهُمْ . وأبو عياض وعكرمة أيضاً كذلك ، إلا أنه بتشديد الفاء للتكثير ، وابن الزبير ، وابن عباس أيضاً آفَكَهُمْ بالمد فعلا ماضياً أيضاً . وهو يحتمل أن يكون بزنة فَاعَل ، فالهمزة أصلية ، وأن يكون بزنة أَفْعَلَ فالهمزة زائدة والثانية بدل من همزة .
وإذا قلنا : إنه أفعل ، فهمزته يحتمل أنت تكون للتعدية ، وأن تكون أفعل بمعنى المُجَرّد وابن عباس أيضاً آفكُهُمْ بالمد وكسر الفاء ، ورفع الكاف جعله اسم فاعل بمعنى صارفهم . وقرى أَفَكُهُمْ بفتحتين ورفع الكاف على أنه مصدر لأفِكَ أيضاً فيكون له ثلاثة مصادر الإفك و الأَفك بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء وفتح الهمزة والفاء ، وزاد أبو البقاء أنه قرىء : آفَكُهُمْ بالمد وفتح الفاء ، ورفع الكاف قال : بمعنى أَكْذَبُهُمْ . فجعله أفعل تفضيل .
قوله : { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يجوز أن تكون ما مصدرية ، وهو الأحسن ، ليعطف على مثله ، وأن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي يَفْتَرُونَهُ والمصدر من قوله : « إفكهم » يجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل بمعنى كُذِبُهُمْ ، وإلى المفعول بمعنى صَرْفُهُمْ .
والمعنى : وذلك إفكهم أي كذبهم الذي كانوا يقولون : إنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يكذبونَ أنَّها آلِهَةٌ .

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن . . . } الآية لما بين أن في الإنس مَنْ آمَنَ ، ومنهم من كفر ، بين أيضاً أن في الجن من آمن ومنهم من كفر ، وأن مؤمنهم مُعَرّض للثواب ، وأن كافرهم معرض للعقاب .
قوله : { وَإِذْ صَرَفْنَآ } منصوب باذْكُرْ مقدراً . وقرىء : صَرفنا بالشديد للتكثير « مِنْ الْجِنِّ » صفلة ل « نَفَراً » ويجوز أن يتعلق ب « صَرْفَنا » و « مِنْ » لابتداء الغاية .
قوله : « يسمعون » صفة أيضاً لنفراً ، أو حال ، لتخصصه بالصفة إن قلنا : إن « مِنَ الْجِنِّ » صفة له وراعى معنى النفر فأعاد ليه الضمير جمعاً ، ولو راعى لفظه فقال : يستمع لجاز .
قوله : { فَلَمَّا حَضَرُوهُ } يجوز أن تكون الهاء للقرآن وهو الظاهر ، وأن تكون للرسول صلى الله عليه وسلم وحينئذ يكون في الكلام التفات من قوله : « إلَيْكَ » إلى الغيبة في قوله « حَضَرُوهُ » .
قوله : { فَلَمَّا قُضِيَ } العامة على بنائه للمفعول ، أي فرغ من قراءة القرآن وهو يؤيد عود « هاء » حضروه على القرآن . وأبو مِجْلزٍ وحبيب بن عبد الله قَضَى مبنياً للفاعل ، أي أتم الرسول قراءته وهي تؤيد عودها على الرسول عليه الصلاة والسلام .
فصل
ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين :
الأول : قال سعيد بن جبير : كانت الجن تَسْتَمع ، فلما رجموا قالوا : هذا الذي حدث في السماء إما حدث لشيء في الأرض؟ فذهبوا يطلبون السّبب . وكان قد اتفق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أَيِسَ من أهله مكة أن يُجِيبُوه خرج إلى الطائف ، ليَدْعُوَهُمْ إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن مكة نخلة قام يقرأ القرآن ، فمر به نفرٌ من أشراف ( جِنِّ ) نَصِيبِينَ ، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم فسمعوا القرآن ، فعرفوا أن ذلك هو السبب .
والقول الثاني : أن الله أمر رسوله أن يُنْذِرَ الجنَّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن فصرف إليه نفراً من الجن ليَسْتَمِعُوا منه القرآن ، ويُنْذِرُوا قومهم ( انتهى ) .
فصل
نقل القاضي في تفسيره أن الجنَّ كانوا يهوداً؛ لأن في الجن مِلَلاً كما في الإنس من اليهود والنَّصارَى والمجوس وعبدة الأوثان ، وأطبق المحقِّقون على أن الجنة مكلفون . سئل أبن عباس : هل للجن ثواب؟
قال : نعم : لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في أبواب الجنة ويزدَحِمُونَ على أبوابها .
فصل
قال الزمخشري : النَّفَرُ دون العَشَرَةِ ويجمع على « أَنْفَارٍ » روى الطبري عن ابن عباس أن أولئك الجنَّ كانوا سبعة نفر من أهل نصِيبِين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم .

وعن زِرِّ بن حبيش كانوا تسعة ، أحدهم زوبعة . وعن قتادة : ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نِينَوَى . واختلفت الروايات في أنه هل كان عبدالله بن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟
فصل
روى القاضي في تفسيره عن أنس قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بظاهر المدينة إذْ أَقْبَلَ شيخ يَتَوَّكأ علىعُكَّازِهِ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنها لمشية جنِّيِّ ، ثم أتَى فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها لنغمةُ جِنِّيّ ، مفاق الشيخ : أَجَلْ يا رسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من أَيِّ الجن أنت؟ قال يار سول الله : أنا هَامُ بن هِيم بن لاقيس بن إبليس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا أدري بينك ونبين إبليس إلا أبوين قال : أجل يا رسول الله . قال كم أتى عليك مِنَ العُمر . قال : أكلت عُمر الدنيا إلا القليل كنت حين قَتَلَ قابيلُ هابيلَ غلاماً ابن أعوام فكنت أَتَشَوفُ على الآكام ، وأصْدَادُ الهَامَ وأُوْرِشُ بين الأنَام . فقال النبي صلى الله عليه وسلم بئس العملُ قال يا رسول الله دعني من العتب ، فإني ممن آمن مع نوحٍ عليه الصلاة والسلام وعاتبته في دعوته فبكا وأبكاني وقال : إني والله لَمِنَ النّادمينت ، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين . ولَقِيتُ إبراهيم وآمنت به ، وكنت بينه وبين الأرض إذ رُمِيَ به في المَنْجَنِيق ، كنت معه في النار إذْ أُلْقِيَ فيها وكنت مع يوسف إذ أُلقِيَ في الجُبِّ فسبقته إلى قصره ولَقِيتُ موسى بْنَ عِمْرَان بالمكان الأثير . وكنت مع عيسى ابن مَرْيَمَ فقال لي : إن لَقِيتَ مُحَمَّداً فاقرأ عليه السلام علّمني التوراة وإن عيسى علمني الإنجيل ، فعلّمني القرآن . قال أنس : فعَلَّمَهُ النبي صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سُوَرٍ ، وقُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يَنْعِهِ إلينا . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا أراه إلا حيًّا . وروي أنه عمله سورة الواقعة ، و { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [ النبأ : 1 و { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] و { قُلْ ياأيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ] وسرة الإخلاص والمُعَوِّذَتَين .
فصل
اختلفوا في عدد النفر ، فقال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) كانوا سبعة وقد تقدم ، وقيل : كانوا تسعةً . وروى عاصم عن زِرِّ بن حُبَيْش كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن ، فلما حضروه قالوا أنصتوا أي قال بعضهم لبعض أنصتوا أي اسْكُتُوا مستمعين يقال : أَنْصَتَ لِكَذَا ، واسْتَنْصَتُّ لَهُ . روي في الحديث أن الجنة ثلاثة أصناف ، صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ، وصنف حيَّاتٍ وكِلاَب ، وصنف يحلّون ويظْعَنُون .

ثم إنهم لما استمعوا القرآن حتى فرغ من تلاوته { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم } انصرفوا إليهم « مُنْذِرِينَ » مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى لله عليه وسلم وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم ، لأنهم لا يَدْعُونَ غيرهم إلى سماع القرآن ، والتصديق به ، إلا وقد آمنوا . وعند ذلك { قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي لكتب الأنبياء ، وذلك أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملةً على الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النبوة والمَعَاد وتطهير الأخلاق ، وكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني وهو معنى قوله { يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
فإنْ قيل : كيف قالوا : من بعد موسى ، ولم يقولوا : من بعد عيسى؟
فالجواب : أنه روي عن عطاءٍ والحسن أنه كان دينهم اليهودية فلذلك قالوا : إنا سمعنا كتاباً أنزل بعد موسى . وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أن الجنَّ ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا : من بعد موسى ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله « يعني محمَّداً صلى الله عليه وسلم .
فصل
دلت هذه الآية على أنه صلى الله عليه سولم كان مبعوثاً إلى الجِنِّ كما كان مبعوثاً إلى الإنْسِ .
قال مقاتل : لم يبعث الله نبياً إلى الإنس وإلى الجن قبله .
فإن قيل : قوله { أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله } أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال : وآمنوا به » ؟
فالجواب : أفاد ذكر الإيمان على التعيين ، لأنه أهم الأقسام وِأشرفها وقد جرت عادة القرآن الكريم بأنه يذكر اللفظ العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه ، كقوله : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] وقوله { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان فقال : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } قال بعضهم : كلمة « من » هنا زائدة والتقدير : يغفر لكم ذُنُوبَكُمْ ، وقيل : بل فائدته أن كلمة « من » هنا لابتداء الغاية والمعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ثم ينتهي إلى عَفْوِ ما صدر عنكم من ترك الأَوْلَى والأكمل . ويجوز أن تكون تبعيضيةً .
قوله : { وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعينَ بَعْلاً من الجن فَرَجَعُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقوه في البَطْحَاء فقرأ عليهم القُرْآنَ وأمرهم ونَهَاهُمْ .
فصل
اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل : لا ثَوَابَ لهم إلا النجاة من النار ، ثم يقال لهم : كُونُوا تراباً مثلَ البهائم . واحتجوا على ذلك بقوله : ( ويُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) وقو قول أبي حنيفة والصحيح أن حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية .

وهو قولُ ابن أَبِي لَيْلَى ومَالِكٍ وتقدم عن ابن عباس أيضاً نحوُ ذلِكَ . قال الضحاك : يدخلون الجنة ، ويأكلون ويشربون ، لأن كل دليل دل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حقِّ الجنِّ . والفرق بينهما بَعيداً جِدًّا ، وذكر النقاش في تفسيره حديثاً أنه يدخلون الجنة . فقيل : هل يصيبون من نعيمها؟ قال : يُلْهِمُهُم اللهُ تسبيحهُ وذِكْرَه فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة . وقال أَرطَأَةُ بْنُ المُنْذِر : سألت ضمرةَ بن حبيب هل للجن ثواب؟ ققال : نعم وقرأ : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 56 ] . وقال عمر بن العزيز : إن مؤمني الجنِّ حول الجنة في رَبَض وَرِحابٍ ولُبْسِ فيها .
قوله : ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض أي لا يعجز الله فيفوته { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ } أنصار يمنعونه من الله { أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض . . } اعلم أنه تعالى قرر من أول سورة إلى ههنا أمر التوحيد والنبوة . ثم ذكر ههنا تقرير القادر من تأمل في ذلك علم أن المقصود من القرآن كله تقرير هذه الأصول الثلاثة . واعلم أن المقصود من هذه الآية الدلالة على كونه تعالى قادراً على البعث ، لأنه تعالى أمام الدليل على خلق السموات والأرض وخلقهام أعظم من أعادة هذا الشّخص حيًّا بعد أن كان ميِّتاً ، والقادر على الأكمل لا بدّ وأن يكون قادراً على ما دونه .
قوله : { وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ } العامة على سكون العين وفتح الياء مضارع « عِيِيَ » بالكسر يَعْيَا بالفتح فلما دخل الجازم حذف الألف . وقرأ الحسن يَعِي بكسر العين وسكون الياء . قالوا : وأصلها عَيِيَ بالكسر فجعل الكسر فتحة ، على لغة طَيِّةء فَصَار « عَيَا » ، كما قالوا في بَقِي : بَقَا . ولما بنى الماضي على « فَعَلَ » بالفتح جاء مضارعه على يَفْعِلُ بالكسر فصار يَعْيي مثل يَرْمِي ، فلما دخل الجَازم حذف الياء الثانية فصار : لَمْ يَعْيِ بعين ساكنة وياءٍ مكسورة ، ثم نقل حركة الياء إلى العين فصار اللفظ كما تَرَى . وقد تقدم أن عَيِيَ وحَيِيَ فيها لغتان ، الفَكّ والإدغام . فأما حَيِيَ فتقدَّمَ في الأنفال و ( أما ) عَيِيَ فكقوله :
4460 عَيّوا بأمْرِهِمْ كمَا عَيْيَتُ ... ببيضَتِهَا الحَمَامَهْ
والعي عدم الاهتداء إلى جهةٍ . ومنه العَيُّ في الكلام ، وعَيِيَ بالأَمر إذا لم يهتد لوجهه .
قوله : « بِقَادِرٍ » الباء زائدة وحَسَّنَ زيادتَها كَوْنُ الكلام في قوة « أَلَيْسَ اللهُِ بِقَادرٍ » . قال أبو عبيدة ، والأخفش : الباء زائدة للتوكيد ، كقوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] وقاس الزجاج « مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أحداً بِقَائِمٍ » عَلَيْهَا . والصحيح التوقف . وقال الكسائي والفراء العرب تدخل الباء في الاستفهام فتقول : ما أظُنُّكَ بقائمٍ .

وقرأ عيسى ، وزيد بن علي « قَادِرٌ » بغير ياء .
قوله : « بلى » إيجاب لما تضمنه الكلام من النفي في قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } .
قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار } فيقال لهم : أَلْيسَ هَذا بالْحَقِّ قَالُوا بَلَى فقوله : أليس هذا معمول لقول مضمر هو حال كما تقدم في نظيره . والمقصود من هذا الاستفهام التهكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده . فيقال لهم { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } .
قوله تعالى : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } الفاء في قوله « فَاصْبِر » عاطفة هذه الجملة على ما تقدم ، والسببية فيها ظاهرة . واعلم أنه تعالى لما قرر المَطَالِبَ الثَّلاثَة وهي التوحيد والنبوة وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لأن كانوا يؤذونه ويُوجِسُون صدره فقال تعالى : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم } أي أُولو الجِدِّ والصَّبْر والثَّبَات وقال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أولو الحَزْم .
قوله : { مِنَ الرسل } يجوز أن تكون من تبعيضية ، وعلى هذا فالرُّسُلُ أَولُو عَزْم وَغيرُ أُولِي عَزْمٍ . ويجوز أن يكون للبيان فكلهم على هذا أُولو عَزْم . قال ابن زيد : كُلّ الرُّسُلِ كانوا أولى عزم ولم يبعث الله نبياً إلا كان ذَا عَزْم وحَزْمٍ ، ورأي وكمال عقل . وإنما دخلت مِنْ للتَّجْنِيس لا للتبعيض كما يقال اشتريت ( أكسية ) من الخَزِّ وأَرْدِيَةً من البزّ . وقيل : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يُونُسَ لعجلة كانت منه ، ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] وقيل هم نُجَبَاء الرسل ، وهم المذكورون في سورة الأنعام ، وهم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لقوله بعد ذكرهم : « أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ فبهداهُم اقْتَدِهْ » . وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد ، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين وقيل : هم ستة : نوحٌ وهودٌ ، وصالحٌ ، ولوطُ ، وشعيبٌ ، ومُوسَى ، وهم المذكورون على النَّسقِ في سورة الأعْراف والشُّعَرَاءِ .
وقال مقاتل : هم ستة ، نوح صبر على أذى قومه ، كانوا يضربونه حتى يُغْشَى عَلَيْه ، وإبراهيم صَبَرَ على النار وذبْح الوَلَد ، وإسحاق صبر على الذبح ، ويعقوب ، صبر على فَقْد ولده ، وذَهَابِ بصره ، ويوسفُ صبر في الجُبِّ والسِّجْن ، وأيوبُ صبر على الضُرِّ .
وقال ابن عباس وقتادة : هم نوح ، وإبراهيم ، وموسى وعيسى أصحاب الشرائع ، فهم مع مُحَمَّد خمسة . وقال البغوي : ذكرهم الله على التخصيص في قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] وفي قوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } [ الشورى : 13 ] الآية روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : يا عائشةُ إن الله لم يرض لاولي العزم إلا بالصّبر على مكروهها ، والصبر على محبوبها لم يرضَ إلا ان كلفني ما كلفهم قال : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } ، وإني والله لا بدّ لي من طاعة ، والله لأصبرنَّ كما صَبَرُوا وأَجْهَدَنَّ ولا قوة إلا بالله .

قوله : { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } العذاب فإنه نازل بهم . قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ضجر من قومه بعضَ الضَّجَر ، وأحبَّ أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه ، فأمر بالصبر ، وترك الاستعجال . ثم أخبر أن ذلك العذاب إذ أنزل بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } من العذاب { لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } إذا عاينوا العذاب صار طُول لَبْثهِمْ في الدنيا والبْرزَخ كأنه ساعةٌ من النهار ، أو كان لم يكن لهول ما عاينوا ، لأن ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن ، قال الشاعر :
4461 كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا مَضَى ... كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا أَتَى
واعلم أنه تم الكلام ههنا .
قوله : « بلاغ » العامة على رفعه . وفيه وجْهَان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف ، فقدره بعضهم : تلكَ الساعةُ بلاغٌ ، لدلالة قوله : { إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } . وقيل : تقديره هذا أي القرآن والشرع بلاغٌ من الله إليكم .
والثاني : أنه مبتدأ والخبر قله « لَهُمْ » الواقع بعد قوله { وَلاَ تَسْتَعْجِل } أي لهم بلاغ فيوقف على « ولا تستعجل » . وهو ضعيف جداً ، للفصل بالجملة التشبيهية ، ولأن الظاهر تَعَلُّق « لهم » بالاسْتِعْجَالِ فهو يشبه الهيئة والقطع .
وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى « بلاغاً » نصباً على المصدر أي بلِّغ بلاغاً . ويؤيده قراءة ابن مِجْلَزِ « بَلِّغْ » أمراً . وقرأ أيضاً « بَلَّغَ » فعلاً ماضياً . ويؤخذ من كلام مَكِّيٍّ أنه يجوز نصبه نعتاً « لِسَاعَةِ » فإنه قال : « ولو قرىء بلاغاً بالنصب على المصدر ، أو على النعت لساعة جاز » . وكأنه لو لم يطلع على ذلك قراءة . وقرأ الحسن أيضاً : بَلاَغٍ بالجر ، ويُخَرِّج على الوصف ل « نَهَار » على حذف مضاف أي من نهارٍ ذي بلاغ ، أو وصف الزمان بالبلاغ مبالغةً . والبلاغ بمعنى التَّبلْيغ .
قوله : « فهل يهلك » العام على بنائه للمفعول . وابن محيصن يَهْلِكُ بفتح الياء وكسر اللام مبنياً للفاعل . وعنه أيضاً فتح اللام وهي لغةٌ والماضي هَلِكَ ، بالكسر . قال ابن جني : « كُلٌّ مَرْغُوبٌ عَنْهَا » . وزيد بن ثابت : بضم الياء وكسر اللام ، فالفاعل هو الله تعالى . { القوم الفاسقون } . نصباً على المفعول به . وقرىء : « تَهْلِكُ » بالنو وكسر اللام ونب « الْقَوْم » .
فصل
المعنى فهل يهلك بالعذاب إذا نزل إلاّ القَوْم الفاسقون الخارجون عن أمر الله قال الزجاج : تأويله لا يَهْلِكُ مع رحمة الله وفضْلِهِ إلاَّ القَوْم الفاسقون ، ولهذا قال قومٌ : مَا فِي الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ الله أقْوَى مِنْ هذه الآية .
روى أبيّ بن كعب ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ قَرَأَ سُورَة الأَحْقَافِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ رَمْلٍ فِي الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ ومُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئاتٍ ورُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ » ( اللَّهُمَّ تَوفَّنَا مُسْلِمِينَ ) .

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)

وقوله تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله . . . } أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة . والمراد بالذين كفروا قيل : هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر ، منهم أبو جهل والحارث بن هشام ، وعبتة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم . وقيل : كفار قريش . وقيل : أهل الكتاب . وقيل : كل كافر . ومعنى صَدِّهِمْ عن سبيل الله ، قيل : صدوا أنفسهم عن السَّبيل ، ومنعوا عقولهم من اتِّباع الدليل . وقيل : صدوا غيرهم وَمَنَعُوهُم .
قوله : { الذين كَفَرُواْ } يجوز فيه الرفع على الابتداء والخبر الجملة من قوله : { أَعْمَالَهُمْ } ويجوز نصبه على الاشتغال بفعل مقدر يفسره « أضل » من حيث المعنى ، أي خَيَّبَ الَّذينَ كَفَرُوا .
قوله : { أَعْمَالَهُمْ } أي أبطلها فلم يقبلها وأراد بالأعمال ما فعلوا من إطعام الطعام ، وصلةِ الأرحام قال الضحاك : أبطل كيدهم ومكرهم بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وجعل الدائرة عليهم .
قوله : { والذين آمَنُواْ } يجوز فيه الوجهان المتقدمان ، وتقدير الفعل : « رَحِمَ الَّذِينَ آمَنُوا » .
قوله : { وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ } والعامة على بناء الفعل نزل للمفعول مشدداً ، وزيد بن علي وابنُ مِقْسِم نَزَّلَ مبنيًّا للفاعل وهو اللهُ ، والأعمش أُنْزِلض بهمزة التعدية مبنياً للمفعول . وقرىء : نَزَلَ ثلاثياً مبنياً للفاعل . قال سفيان الثوري : لم يخالفوه في شيء . قال بان عباس : « الذين كفروا وصدوا » مشركُوا مكَّةَ والذين آمنوا وعملوا الصالحات الأَنْصَارُ .
قوله : { وَهُوَ الحق } جملة معترضة بين المبتدأ والخبر المفسَّر والمفسِّر .
قوله : { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } حالهم . وتقدم تفسير « البال » في طه . قال ابن عباس ( رضي الله عنه ) : معنى : أصلح ، أي عَصَمَهُمْ أيَّامَ حَيَاتِهِمْ يعني أن هذا الإصلاحَ يعود إلَى صلاح أعمالهم حتَّى لا يَعْصُوا .
فصل
قالت المعتزلة : تكفير السيئات مرتّب على الإيمان ، والعمل الصالح ، فمن آمن ولم يعمل صالحاً يبقى في العذاب خالداً .
والجواب : لو كان كما ذكرتم لكان الإضلال مرتباً على الكفر والصّد ، فمن يكفر لا ينبغي أن تضل أعماله . أو نقول : إن الله تعالى رتَّب أمرين فمن آمن كفر سيئاته ، ومن عمل صالحاً أصلح باله . أو نقول : أي مؤمنٍ يتصور غير آت بالصالحات بحيث لا يصدر عنه صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا طعام ، وعلى هذا فقوله : « وعَملُوا » من عطف المسببِ على السبب كقول القائل : أَكَلْتُ كَثِيراً وشَبِعْتُ .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله : « وآمنوا بما نُزّل على محمد » مع أن قوله : « آمنوا وعلموا الصلحات » أفاد هذا المعنى؟ .
فالجواب : من وجوه :
الأول : قوله : « الذين آمنوا » أي الله ورسوله ، واليوم الآخر ، وقوله : « آمَنُوا بِمَا نزل » أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله تعميماً بعد أمور خاصة كقولنا : خلق الله السموات والأرض وكل شيء إما على معنى وكل شيء غير ما ذكرنا ، وإما على العموم بعد ذكر الخصوص .

والثاني : أن يكون المعنى آمنوا من قبل بما نزل على محمد « وهُوَ الحَقُّ » المعجز الفارق بين الكاذب والصادق يعني آمنوا أولاً بالمعجز ، وأيقنوا أن القرآن لا يأتي به غير الله فآمنوا وعلموا الصالحات والواو للجمع المطلق . ( و ) يجوز أن يكون المتأخر ذكراً متقدماً وقوعاً ، وهذا كقول القائل آمن به وكان الإيمان به واجباً ويكون بياناً لإيمانهنم ، كأنه قال : آمنوا وآمنوا بما نزل على محمد أي آمنوا وآمنوا بالحق كقول القائل : خرجتُ وخرجت مصيباً أي وكان خروجي جيداً ، حيث نجوت من كذا أو ربحت كذا ، فكذلك لما قال آمنوا بين أن إيمانهم كان بما أمر الله وأنزل الله لا بما كان باطلاً من عند غير الله .
قوله : « ذلك » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مبتدأ والخبر الجار بعده .
الثاني : قال الزمخشري : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي الأمر ذلك بسبب كذا . فالجار في محلِّ نصب قال أبو حيان : ولا حاجة إليه .
قوله : { بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل } أي الشيطان . وقيل : قول كبرائهم ، ودين آبائهم { الذين آمَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ } يعني القرآن . وقيل : الحق هو الله تعالى : وعلى هذا فلا يكون قوله : « من ربهم » متعلقاً بالحق وإنما يتعلق بقوله تعالى : { اتبعوا } أي اتبعوا من ربهم ، أو من فضل الله أو هداية ربهم ابتعوا بالحق؛ وهو الله تعالى .
ويحتمل أن يقال : قوله : { مِن رَّبِّهِمْ } عائد إلى الفريقين جميعاً ، أي من ربهم اتبع هؤلاء الباطل ، وهؤلاء الحق ، وأي من حكم ربهم ومن عند ربهم .
قوله : « كذلك يضرب » خرجه الزمخشري على مثل ذلك الضرب يضرب الله للناس أمثالهم ( والضمير راجع إلى الفريقين أو إلى الناس على معنى أنه يضرب أمثالهم ) لأجل الناس ليعتبروا ( انتهى ) .
فصل
قال الزجاج : معناه كذلك بين الله أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال الكافرين . والمراد بالأمثال الأشكال . وقيل : بين كون الكافر متبعاً للباطل وكون المؤمن متبعاً للحق . والضمير في قوله { أَمْثَالَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه يعود إلى الناس ، كأنه تعالى قال : يضرب للناس أمثال أنْفُسِهِمْ .
والثاني : يعود إلى الفريقين السابقين ، والمعنى يضرب الله للناس أمثال الفريقين السَّابقين .

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)

قوله : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ } العامل في هذا الظرف فعل مقدر هو العامل في « ضَرْبَ الرِّقَابِ » تقديره فاضربوا الرقاب وقتَ مُلاَقَاتِكُمُ العَدُوَّ . ومنع أبو البقاء أن يكون المصدر نفسه عاملاً ، قال : لأنه مؤكَّد وهذا أحد القولين في المصدر النائب عن الفعل ، نحو : ضرباً زيداً ، هل العمل منسوب إليه إم إلى عامله؟ ومنه ( قول الشاعر ) :
4462 عَلَى جِينَ أَلْهَى النَّاسَ جُلُّ أُمُرِهِمْ ... فَنَدْلا زُرَيْقَ المَالَ نَذْطَ الثَّعَالِبِ
فالمال منصوب إما ب « أندل » أو ب « ندْلاً » والمصدر هنا أضيف إلى معموله . وبه استدل على أن العمل للمصدر ، لإضافته إلى ما بعده ولو لم يكن عاملاً لَمَا أضيف إلى ما بعده .
فصل
قال ابن الخطيب : الفاء في قوله : « فإذا لقيتم » يستدعي متعلَّقاً تُعَلَّقُ به وتُرَتَّبُ عَلَيْه وفيه وجوه :
الأول : لما بين أن الذين كفروا أضل أعمالهم ، وأن اعتبار الإنسان بالعمل ومَنْ لا عمل له فهو هَمَج إعدامه خير من وجوده . { فإذا لقيتم الذين كفروا } بعد ظهور أن لا حرمة لهم بعد إبطال عملهم فاضربوا أعناقهم قال البغوي : فضرب الرقاب نَصْبٌ على الإغراء .
الثاني : إذا تبين تباين الفريقين وتباعد الطريقين بأن أحدهما يتبع الباطل وهو حزب الشيطان والآخر يتبع الحق وهو حِزب الرحمن حق القتال ( عند التَّحَزُّب ) فإذا لَقِيتُمُوهُمْ فاقْتُلُوهُمْ .
الثالث : أن من الناس من يقول لضعف قلبه وقُصُور نَظَرِه إيلام الحَيوان من الظُّلْم والطُّغْيَان ولا سيما القَتْلُ الذي هو تخريب بنيان . فيقال رَدًّا عليهم : لما كان اعتبار الأعمال باتباع الحق والباطل فلمن يُقْتَلْ في سبيل الله لتعظيم الله وبأمره له ( من ) الأجر ما للمصلى والصائم فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم ولا تأْخُذْكُمْ بهم رأفة . فإن ذلك اتباع للحق والاعتبار به لا بصورة الفعل .
فصل
والحكمة في اختيار ضرب الرقبة دون غيرها من الأعضاء ، لأن المؤمن هنا ليس بدافع ، إنما هو مدافع وذلك لأن من يدفع الصائل لا ينبغي أن يقصد أولاً مقتله ، بل يُتَدَرَّج ويُضْرَب غير المقتل فإن اندفع فذاك ، ولا يرقى إلى درجة الإهلاك ، فأخبر تعالى أنه ليس المقصود دفعهم عنكم بل المقصود دفعهم عن وجه الأرض بالكلية ، وتطهير الأرض منهم وكيف لا والأرض لكم مسجِد ، والمشركون نَجَسٌ ، والمسجدُ يُطَهَّرُ من النجاسة؟ فإذاً ينبغي أن يكون قصدكم أولاً إلى قتلهم بخلاف دفع الصَّائل . والرقبة أظهر المقاتل ، لأن قطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت ، بخلاف سائر المواضع ولا سيما فِي الحرب . وفي قوله « لَقِيتُمْ » ما ينبىء عن مخالفتهم الصَّائل ، لأن قوله : « لقيتم » يدل على أن القصد من جانبهم بخلاف قولنا « لقيكم » ، ولذلك قال في غير هذا الموضع

{ واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } [ النساء : 91 ] .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله ههنا : { فَضَرْبَ الرقاب } بإضمار الفعل وإظهار المصدر ، وقال في الأنفال : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق } [ الأنفال : 12 ] بإظهار الفعل وترك المصدر؟! .
فالجواب مبني على تقديم مقدَّمة ، وهي أن المقصود في بعض الصور قد يكون صدور الفعل من فاعل ويتبعه المصدر ضمناً؛ إذ لا يمكن أن يفعلَ فاعل إلا فاعل ، فيطلب منه أن يفعل مثاله من قال : أنِّي حَلَفْتُ أن أخْرُج مَن المدينة ، فيقال له : فاخْرج صار المقصود صدور الفِعْل منه والخروج في نفسه غير مقصود الابتعاد ولو أمكن أن يخرج من غير تحقق الخروج منه لما كان عليه أن لا يَخْرُج لكن في ضرورة الخروج أن يخرج . فإذا قال قائل صادق : ضَاقَ بي المكانُ بسبب الأعداء فيقال مثلاً : الخروج يعني الخروج فاخرج فإن الخروج هو المطلوب ، حتى لو أمكن الخروج منغير فعل منه ، لحصل الغرض لكنه محال فيعبته الفعل . وإذا عرف هذا فيقال : في الأنفال الحكاية عن الحرب الكائنة ، وهم كانوا فيها والملائكة أنزلوا للنّصرة ( و ) من حضر في صفِّ القتالِ ، فصدور الفعل منه مطلوب . وههنا الأمر وارد ليس في وقتِ القِتال ، بدليل قوله تعالى : { فَإِذَا لَقِيتُمُ } والمقصود بيان كون المصدر مطلوباً لتقدم المأمُورِ على الفِعْل قال : { فَضَرْبَ الرقاب } . وفي ذلك بيان فائدة أخرى ، وهي أن الله تعالى قال هناك { واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] وذلِكَ لأن الوقت وقت القتال فأرشدهم إلى القتل وغيره إن لم يصيبوا المقتل وههنا ليس وقت القتال . فبين أن المقصود القتل وغرض المسلم ذلك .
قوله : { حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ } هذه غاية للأمر بضرْب الرِّقاب ، لا لبيان غاية القتل . وقوله : { فَشُدُّواْ الوثاق } قرأ السُّلَمِيُّ : فَشِدُّوا بكسر الشين وهي ضعيفة جِدًّا . والوَثَاقُ بالفتح وفيه الكسر اسم ما يُوثَقُ به والمعنى حتى إذا أثْخَنْتُمُوهُمْ أي بالَغْتُم في القتل وقَهَرْتُمُوهُمْ فشدّوا الوثاق يعني في الأسر حتى لا يَفْلِتوا . والأسر يكون بعد المبالغة في القتل كقوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } [ الأنفال : 67 ] .
قوله : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } . فيهما وجهان :
أشهرهما : أنهما منصوبان على المصدر بفعل لا يجوز إظهاره؛ لأن المصدر متَى سبق تفصيلاً لعاقبة جملة وجب نصبه بإِضمار فعل لا يجوز إظهاره ، والتقدير : فَإِمَّا أنْ تَمُنُّوا وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوا فِدَاءً ومثله :
4463 لأَجْهَدَنَّ فَإِمَّا دَرْءَ وَاقِعَةٍ ... تُخْشَى وَإِمَّا بُلُوغَ السُّؤْلِ وَالأَمَلِ
والثاني : قال أبو البقاء : إنهما مفعولان بهما لعامل مقدر تقديره : أَوْلُوهُمْ مَنَّا وأقْبَلُوا مِنْهُمْ فِدَاءً .
قال أبو حيان : وليس بإعرابِ نَحْويًّ .
وقرأ ابن كثير : فِدًى بالقصر قال أبو حاتم : لا يجوز ، لأنه مصدر فَادَيته . ولا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأن الفرّاء حكى فيه أربع لغات المشهور المدّ والإعراب : فِدَاءً لَكَ ، وفَدَاءِ بالمد أيضاً والبناء على الكسر ، والتنوين ، وهو غريب جداً .

وهذا يشبه قول بعضهم : هؤلاءٍ بالتنوين . وفِدًى بالكسر مع القصر ، وفَدًا بالفتح مع القصر أيضاً . والأوزار هنا الأثقال . وهو مجاز . وقيل : هو من مجاز الحذف أي أهْل الحرب . والأوزار عبارة عن آلات الحرب قال ( الشاعر في معنى ذلك رحمه الله ) :
4464 وَأَعْدَدْتَ لِلْحَرْبِ أَوزَارَهَا ... رِمَاحاً طُوَالاً وَخَيْلاً ذُكُورا
وحتى الأولى غاية لضرب الرقاب ، والثانية ل « شُدُّوا » ويجوز أن يكونا غايتين لضَرْب الرِّقاب علىأن الثانية توكيد وبدل .
قال ابن الخطيب : وفي تعلق « حَتَّى » وجْهَانِ :
أحدهما : تعلقها بالقتل أي اقْتُلُوهُمْ حَتَّى تَضَعَ .
وثانيهما : بالْمَنِّ والفِداء . ويحتمل أن يقال متعلقة بقوله : « فشدوا الوثاق » وتعلقها بالقتل أظهر .
فصل
قدم المن على الفداء ، لأن حرمة النفس راجحة على طلب المال . والفداء يجوز أن يكون مالاً ويجوز أن يكون غيره من الأشياء ويشرط بشرط عليهم ، أوعليه وحده .
فصل
قال ابن الخطيب : الوزر الإثمُ أو السِّلاح ، والإثم إنما هو على المحارب وكذلك السلاح ومعناه تضع الحرب الأوزار التي على المحاربين أو السلاح الذي عليهم ، كقوله تعالى : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] فكأنه قال : حتى تَضَع أمةُ الحرب ، أو فِرقةُ الحرب أوزارها . والمراد انقضاء الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر لا حزب ن أحزاب الإسلام هذا إذا أمعنت النظر في المعنى . ولو قلنا : حتى تضع أمة الحرب جاز أن يضعوا الأسلحة ويتركوا الحرب وهي باقية ، كقول القائل : خصومتي ما انْفَصَلَتْ ، ولكني تركتها في هذه الأيام . وإذا أسندنا الوضع إلى الحرب يكون معناه إن الحرب لم تَبْقَ . واختلفوا في وقت وضع الأوزار على أقوال ، يرجع حاصلها إلى الوقت الذي لا يبقى فيه حِزْبٌ من أحْزَاب الإسلام ، ولا حزب من أحزاب الكفر . وقيل : ذلك عند قتال الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام .
فصل
اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هي منسوخة بقوله : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } [ الأنفال : 57 ] وبقوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وإليه ذهب قتادة والضحاك ، والسُّديُّ وابنُ جُرَيْجٍ ، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي وقوالوا : لا يجوز المنّ على من قوع في الأسر من الكفار ولا الفداء .
وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة ، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا أوقعوا في الأسر بين أن يقتلهم ، أو يَسْتَرِقَّهُمْ أو يمُنَّ عليهم فيطلقهم بلا عوض أو يُفَادِيهم بالمال أو بأسارى المسلمين . وإليه ذهب ابنُ عمر . وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء . وهو قول الثَّوريِّ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق . قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) لما كثر المسلمون واشتد سلطناهم أنزل الله في الأسارى { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } ، وهذا هو الأصح والاختيار ، لأنه عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاءُ بعده .

روى البخاري عن أبي هريرةَ قال : « بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نَجْد ، فجاءت برجُل من بني حنيفة ، يقال ( له ) ثُمَامَةُ بنُ أُثَالِ ، فربطوه في سَارِيَةٍ من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندك يا ثمامة؟ فقال : عندي خيرٌ يا محمد ، إن تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ ، وإن تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شاكرٍ وإنْ كُنْتَ تريدُ المالَ فلك ما شئتَ ، حتى كان الغَدُ لقال له : ما عندك يَا ثُمَامَةُ؟ فقال : عندي ما قلتُ لك : إن تُنْعِمْ تُنْعمْ عَلَى شكر . فتركه حتى إذا كان بعد الغد قال : ما عند يا ثمامةُ؟ قال : عندي ما قلتُ لك قال : أطْلِقُ ا ثمامة ، فانطلق إلى نخل قريبٍ من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغضُ إليَّ مِنْ وَجْهِكَ فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ ، واللهِ ما ك ان من دينٍ أبغَضَ إلَيَّ من دينكَ فأصبح دينُك أحبَّ الدِّين إلَيَّ . و اللهِ ما كان من بَلَدٍ أبغضَ إلَيَّ من بلدِكَ فقد أصبح بلدكُ أحبَّ البلادِ إلَيَّ . وإ ، خَيْلكَ أخذتني وأنا أريدُ العُمْرَةَ فما ترى؟ فبشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل : صَبَوْتَ؟ قال : لا ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا واللهِ لا يأتيكُم من اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْكَةٍ حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم » وعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قال : أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من عَقِيل فأوثقوه ، وكانت ثَقِيفٌ قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فَفَداهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أَسَرَتْهُمَا ثَقِيفٌ .
قوله : « ذَلك » يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي الأمر ذلك وأن ينتصب بإضمار « افْعَلُوا » . قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : واجبٌ أو مقدمٌ كما يقول القائل : إنْ فعلت فذاك ، أي فذاك مقصود ومطلوبٌ .
فصل
قال المفسرون : معناه « ذلك » الذي ذكرت وبيّنت من حكم الفكار ، { وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } فأهلكهم وكفاهم أمرهم بغير قتال ، « ولكن » أمركم بالقتال { لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب ، ومن قتل من الكافرين إلى العذاب .
فإن قيل : ما التحقيق في قولنا : التكليف ابتلاء وامتحان والله يعلم السِّرَّ وأخْفَى؟
فالجواب من وجوه :
الأوّل : أن المراد منه يفعل ذلك فعل المسلمين أي كما يقول المبتلى المُخْتَبَر .

الثاني : أن الله تعالى يَبْلُو ليظهر الأمر لغيره ، إما للملائكة ، أو للناس والتحقيق هو أن الابتلاء والاختبار فعل يظهر بسببه أمر ظاهر .
فإن قيل : فائدة الابتلاء حصول العلم عند المبتلي ، فإذا كان الله عالماً فَأَيُّ فائدةٍ فيه؟
فالجواب : أن هذا السؤال كقول القائل لم عاقب الكافر وهو مُسْتَغْنٍ؟ ولم خلق النار مُحْرِقَةً وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضر؟ وجوابه : لاَ يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ ( وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) ؟
قوله : { والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } قرأ العامة قَاتَلُوا . وأبو عمرو وحفصٌ قُتِلُوا مبنياً للمفعول على معنى أنهم قُتِلُوا وماتوا؛ أصاب القتل بعضهم كقوله : { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } [ آل عمران : 146 ] . وقرأ الجَحْدَرِيّ : قَتَلُوا بفتح القاف والتاء خفيفة ومفعوله محذوف . وزيد بن ثابت والحسن وعيسى قُتِّلُوا ، بتشديد التاء مبنياً للمفعول .
قوله : { فلن يضل أعمالهم } قرأ على رضي الله عنه يُضَلَّ مبنياً للمفعول أَعْمَالُهُمْ بالرفع لقيامه مقام الفاعل . وقرىء : تَضِلَّ بفتح التاء أَعْمَالُهُمْ بالرفع فاعلاً . والفاء في قوله : « فَلَنْ يُضِلّ » جَزَائية؛ لأن قوله تعالى : { والذين قُتِلُواْ } فيه معنى الشرط . قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أُحُدٍ ، وقد
فَشَتْ في المسلمين الجِرَاحَاتُ والقَتْلُ .
قوله : { سَيَهْدِيهِمْ } أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور وفي الآخرة إلى الدرجات { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } برضى خصمائهم وتقبل أعمالهم . وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى : { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } والماضي والمستقبل راجحٌ إلى أن هناك وعدهم ما وعدهم بسبب الإيمان ، والعمل الصالح ، وكان قد وقع منهم فأخبر عن الجزاء أيضاً بصيغة الوقوع .
وههنا وعدهم بسببه القتل والقتال وكان في اللفظ ما يدل على الاستقبال ، لأن قوله { فَإِذَا لَقِيتُمُ } يدل على الاستقبال فقال : { بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة } .
قوله : { عَرَّفَهَا لَهُمْ } يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون مستأنفة .
والثاني : أن تكون حالاً .
فيجوز أن تضمر « قد » ، وأن لا تضمر ، و « عَرَّفَهَا » من التعرف الذي هو ضد الجَهْل والمعنى أن كل أحد يعرف منزله في الجنة . وقيل : الملك الموكل بأعماله يهديه .
وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أنه من العَرْفِ وهو الطيب أي طيِّبهَا لهم .
وقال الزمخشري : يحتمل أن يقال : عرَّفَهَا لهم من عرَّفَ الدَّارَ وأَوْرَثَها أي حددها ، وتحديدها في قوله تعالى : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض } [ آل عمران : 133 ] ، ويحتمل أن يقال : المراد هو قوله تعالى لهم : { وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا } [ الزخرف : 72 ] فيشير إليه معرفاً لهم بأها هي تلك . وقيل : عرفها لهم وقت القتل ، فإن الشهيد وقت وفاته يُعْرَضُ عليه منزلة في الجنة فيشتاقُ إليه . وقرأ أبو عمرو في رواية ويِّدْخِلْهُمْ بسكون اللام وكذا ميم ويُطْعِمُهُمْ وعين { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } [ النساء : 87 ] كان يستثقل الحركات . وقد تقدم له قراءة بذلك في { يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ] و { يَنصُرْكُمْ } [ محمد : 7 ] وبابه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

قوله : { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ } أي إن تنصروا دينَه وتَنْصُروا رَسُولَهُ يَنْصُرْكُمْ على عدوكم . وقيل : إنْ تنصُرُوا حِزْبَ اللهِ وفَرِيقَهُ .
قوله : { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } قرأ العامة ويثبت مشدداً . وروي عن عاصم تخفيفه من أثْبَتَ . والمعنى : ويُثَّبِّتْ أقْدَامَكُمْ عند القتال .
قوله : { والذين كَفَرُواْ } يجوز أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : فَتَعِسُوا وأُتْعِسُوا ، بدليل قوله : { فَتَعْساً لَّهُمْ } وقوله : « فتعساً » منصوب بالخبر . ودخلت الفاء تشبيهاً للمبتدأ بالشرط . وقدر الزمخشري الفعل الناصب ل « تعساً » فقال : لأن المعنى يقال تعساً أي فقَضَى تَعْساً لَهُمْ . قال أبو حيان : وإضمار ما هو من لفظِ المصدر أولى . والثاني : أنه منصوب بفعل مقدر يفسره « فَتَعْساً لَهُمْ » ، كما تقول : زَيْدٌ جَدَعاً لَهُ . كذا قال أبو حيان تابعاً للزمخشري . وهذا لا يجوز لأن « لهم » لا يتعلق ب « تَعْساً » ، إنما هو متعلق بمحذوف لأنه بيان أي أعني عنهم . وتقدم تحقيق هذا . فإن عيَّنا إضماراً من حيثُ مُطْلَقُ الدَّلالة لا من جهة الاشتغال فمُسَلَّم ، ولكن تأباه عبارتُهُما وهي قولهما : منصوب بفعل مضمر يفسره « فعساً لهم » . و « أَضَلَّ : عاطف على ذلك الفعل المقدر أي أتْعَسَهُمْ وأَضَلَّ أعمالهم والتَّعْسُ ضدّ السَّعْدِ ، يقال : تَعَسَ الرَّجُل بالفتح تَعْساً ، وأَتْعَسَهُ اللهُ ، قال مُجَمَّعٌ :
4465 تَقُولُ وَقَدْ أَفردْتُهَا عَنْ خَليلِهَا ... تَعَسْتَ كَمَا أَتْعَسْتَنِي يَا مُجَمَّعُ
وقيل : تعس بالكسر عن إبي الهَيْثَم وشَمِرٍ وغيرهما . وعن أبي عبيدة : تَعسهُ واتْعَسَهُ مُتَعَدِّيَانِ ، فهُما مَّما اتُّفِقَ فِيهِما فَعَلَ وأَفْعَلَ .
وقيل : التعس ضد الانتعاش ، قال الزمخشري ( رحمه الله تعالى ) : وتعساً له نقيض لَعَا لَهُ يعني أن كلمة » لَعَا « بمعنى انْتَعَشَ قال الأعشى :
4466 بِذَاتِ لَوْث عَفْرَنَاةٍ إذَا عَثَرَتْ ... فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لعَا
وقيل : التعْسُ الهَلاَك . وقيل التعس الجَرُّ على الوجه ، والنّكْسُ الجر على الرأس .
فصل
قال ابن عباس : صَمْتاً لهم ، أي بُعْداً لهم . وقال أبو العالية : سُقْطاً لهم . وقال ابن زيد : شقاءً لهم وقال الفراء : هو نصب على المصدر على سبيل الدعاء . وقيل : في الدنيا العَثْرَةُ ، وفي الآخرة التَّردَّي في النار . ويقال للعاثر : تَعْساً إذا لم يريدوا قيامه وضده لمَا إذا أرادوا قيامه . وأضل أعمالهم؛ لأنها كانت في طاعة الشيطان ، وهذا زِيَادَةٌ في تقوية قُلُوبِهِمْ؛ لأنه تعالى قال : لَكُم الثباتُ ولهم الزوالُ والتَّعَثُّر .
قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } يجوز أن يكون » ذلك « مبتدأ ، والخبر الجار بعده ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي الأمر ذلك بسبب أنهم كرهوا . أو منصوب بإضمار فعل أي فَعَلَ بهم ذَلِكَ بسبب أنهم كرهوا فالجار في الوجْهَيْنِ الأخيرين منصوب المحل والمعنى : ذلك التعس والإضلال بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم والمراد أنهم كرهوا القرآن ، أو كرهوا ما أنزل الله من بيان التوحيد فلم يعرفوا العَمَل الصَّالِحَ بل أشركوا ، والشرك يحبط العمل ، قال تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] وقيل : كرهوا ما أنزل الله من بيان أمر الآخرة فلم يعملوا لها والدنيا وما فيها وما لها باطل ، فأحبط الله أعمالهم .

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)

ثم خوف الكفار فقال : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } أي أهلكهم .
قوله : { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } يجوز أن يكون حذف مفعوله ، أي أهلك الله بُيُوتَهُمْ ، وخرّبها عليم أو يضمن معنى « دمر » معنى سخط اله عليهم بالتدمير . وقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } مناسب للوجه الأخير ، يعني فينظروا إلى حالهم ، ويعلموا أن الدنيا فانيةً .
قوله : { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } أي أمثال العاقبة المتقدمة . وقيل : أمثال العقوبة . وقيلأ : التدمير . وقيل : الهلكة . والأول أولى لتقدم ما يعود عليه الضمير صريحاً مع صحة معناه .
فإن قيل : إذا عاد الضمير إلى العاقبة فكيف يكون لها أمثال؟
فالجواب : أن المراد هو العذاب الذي هو مدلول العاقبة ، والألم الذي دلّت العاقبة عليه .
فصل
في المراد بقوله : { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } وجهان :
أحدهما : أن المراد الكافرون بمحمد عليه الصلاة والسلام .
الثَّانِي : أن المراد أمثالها في الآخرة ، فيكون المراد من الكفارين مَنْ تقدّم ، كأنه يقول : دَمَرَ اللهُ عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها .
فإن قيل : إذ كان المراد ( من ) الكافرين بمحمد عليه الصلاة والسلام فإنهم أمثال ما كان لمن تقدمهم من العاقبة ، فالأولون أهلكوا بأمور شديدة كالزَّلاَزِلِ والنِّيران والرِّيَاحِ والطُّوفَانِ ، ولا كذلك قوم محمد عليه الصلاة والسلام .
فالجواب : يجوز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين ، لكون دين محمد أظهر بسبب تقدم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عليه ، وأخبارهم عنه ، وإنذارهم على أنهم قتلوا وأُسِرُوا بأيدي مَنْ كانوا يَسْتَخِفُّونَهُمْ ويستضعفونهم والقتل بيد المِثللا آلم من الهلاك بسبب عام .
قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ } تقدم الكلام على نظيره { وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } والمراد بالمولى هنا الناصر . ثم ذكر ما للفريقين فقال : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } لما بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بين حالهم في الآخرة وقال : إنه يدخل المؤمن الجنة ، والكافر النار . وقد تقدم أن مِنْ في قوله : « مِنْ تَحْتِهَا » تحتمل أن تكون صلة معناه تجري تحتها ، ويحتمل أن يكون المراد ( أن ) ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر ، يقال : هذا نهر مَنْبَعُهُ مِنْ أَيْنَ؟ يقال : من عين كذا من تحت جبل كذا .
قوله : { والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام } أي ليس لهم هِمة إلا بطونهم وفروجهم وهم لاهون عما في غد . قيل : المؤمن في الدنيا يتزود ، والكافر يتزين ، والكافر يتمتع .
قوله : { كَمَا تَأْكُلُ الأنعام } إما حال من ضمير المصدر ، أي يأكلون الأكل مشبهاً أكل الأنعام وإما نعت لمصدر أي أكلاً مثل أكل الأنعام .

قوله : { والنار مَثْوًى لَّهُمْ } يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافاً . ويجوز أن تكون حالاً ، ولكنها مقدرة أي يأكلون مقدار ثَوْيتهم في النار . وقال في حق المؤمن : { إِنَّ الله يُدْخِلُ } بصيغة الوعد ، وقال في حق الكافر : { النار مثوى لهم } بصغية تنبىء عن الاستحقاق ، لأن الإحسان لا يستدعي استحقاقاً ، فالمحسن إلى من يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم . والمعذب من غير استحقاق ظالم .
قوله : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } يريد أهل ، ولذلك راعى هذا المقدر في قوله : { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } بعدما راعى المضاف في قوله : { هِيَ أَشَدُّ } والجملة من هي ابتداء صفة لقرية . وقال ابن عطية : نسب الإخراج للقرية حملاً على اللفظ وقال : « أهلكناهم » حملاً على المعنى . قال أبو حيان : وظاهر هذا الكلام لا يَصِحّ لأن الضمير في « أهلكناهم » ليس عائداً على المضاف إلى القرية التي أسند إليه الإخراج بل على أهل القرية في قوله : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } فإن كان أراد بقوله : « حملاً على المعنى » ، أي معنى القرية في قوله : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } فهو صحيح ، لكن ظاهر قوله : حملاً على اللفظ ، وحملاً على المعنى أن يكون في مدلول واحد . وكان على هذا يبقى كأين مفلتاً غير محدَّث عنه بشيء إلا أن يتخيَّل أن { هِيَ أَشَدُّ } خبر عنه والظاهر أنه صفة لقرية . قال شهاب الدين : وابنُ عطية إنما أراد لفظ القرية من حيث الجملة لا من حيث التفسير .
فصل
لما ضرب الله لهم مثلاً بقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } ، ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ، ضرب للنبي صلى الله عليه وسلم مثلاً تسلية له فقال : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ } أي أخرجك أهلها ، قال ابن عباس : كان رجالهم أشد من أهل مكة ، يدل عليه قوله : { أَهْلَكْنَاهُمْ } ولم يقل : « أهلكناها » فلا ناصر لهم كذلك يفعل بهم ، فاصبر كما صبر رسلهم .
وقوله : { فلا ناصر لهم } قال الزمخشري ( كيف ) قال { فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } ( مع ) أن الإهلاك ماضٍ وقوله : { فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } للحال والاستقبال محمول على الحكاية ، والحكاية كالحال الحاضر ، ويحتمل أن يقال : قوله : { فلا ناصر لهم } عائد على أهل قرية محمد عليه الصلاة والسلام كأنه قال : أهلكنا من تقدم من أهل دينك ولا ناصر لأهل قريتك ينصرهم ويُخلِّصهُمْ مِنْ مِثْلِ ما جرى على الأولين .
فصل
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة ، وقال : أنت أحب بلاد الله إلى الله ، وأحب بلاد الله إلَيَّ ، ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك . فأنزل الله هذه الآية .
قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } أفمن كان مبتدأ والخبر { كَمَن زُيِّنَ لَهُ } وحمل على لفظ « مَنْ » فأفرد في قوله : « سوء عمله » ، وعلى المعنى فجمع في قوله : { واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ } . ( والجملة من « اتبعوا أهواءهم » عطف على « زين » ؛ فهو صلة .
فصل
معنى قوله : « أفمن كان على بينة من ربه » أي يقين من دينه ، يريد محمداً والمؤمنين ، كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ) يعني عبدة الأوثان ، يريد أبا جهل والمشركين .

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)

قوله : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } لما بين الفرق بين في الاهتداء والإضلال بين الفرق بينهما في مرجعهما ومآلهما .
قوله : « مثل الجنة » فيها أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ وخبره مقدر ، فقدره النضْرُ بنُ شُمَيْل : مثل الجنة ما يسمعون « فما يسمعون » خبر ، و { فِيهَآ أَنْهَارٌ } مفسر له . وقدره سبيويه : فيما يتلى عليكم ثمل الجنة .
والجملة بعدها أيضاً مفسرة للمثل . قال سيبويه : المثل هو الوصف ومعناه وصف الجنة ، وذلك لا يقتضي مشابهة .
الثاني : أن مثل زائدة تقديره : الجنَّةُ التي وعد المتقون فيها أنهار . ونظير زيادة مثل هنا زيادة « اسم » في قوله :
4467 إلَى الْحَوْلِ ثُمَ اسْمُ السَّلاَم عَلَيْكُمَا .. . . .
الثالث : أن مثل الجنة مبتدأ ، والخبر قوله : « فيها أنهار » ، وهذا ينبغي أن يمتنع؛ إذ لا عائد من الجملة إلى المبتدأ ، ولا ينفع كون الضمير عائداً على ما أضيف إليه المبتدأ .
الرابع : أن مثل الجنة مبتدأ خبره { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار } فقدره ابن عطية : أمثل أهل الجنة كمن هو خالد ( في النار ) ( فقدر حرف الإنكار ومضافاً ليصحَّ .
وقدره الزمخشري أمثل الجنة كمن جزاؤه من هو خالد ) والجملة من قوله : { فِيهَآ أَنْهَارٌ } على هذا فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : هي حال من الجنة ، أي مستقرة فيها أنهار .
الثاني : أنها خبر لمبتدأ مضمر ، أي هي فيها أنهار ، كأن قائلاً قال : ما فكيها؟ فقيل : فيها أنهار .
الثالث : أن تكون تكريراً للصلة ، لأنها في حكمها ، ألا ترى إلى أنه يصح قولك :
التي فيها أنهار .
وإنما أعري قوله مثل الجنة تصوير المكابرة من أن يسوّي بين المستمسك بالبينة وبين التابع هواه ، كمن يسوّي بين الجنة التي صفتها كيت وكيت وبين النار التي صفتها أن يسقي أهلُها الحَمِيم . ونظيره قوله القائل رحمه الله :
4468 أَفْرَحُ أَنْ اُزْرَأَ الكِرَامَ وَأَنتْ ... أُورثَ ذَوداً شَصَائِصاً نُبْلاً
هذا كلام منكر الفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تَعَرِّيه من حرف الإنكار . وذكر ذلك كله الزمخشري . وقرأ علي بن أبي طالب : مِثَالُ الجَنَّةِ . وعنه أيضاً وعن ابن عباس وابن مسعود : أَمْثَالُ بالجمع .
قوله : { غَيْرِ آسِنٍ } قرأ ابن كثير : أًسِن بزنة حَذِرٍ ، وهو اسم فاعل من أَسِنَ بالكسر يَأسنُ ، فهو أَسِنٌ كَحَذر يحذر فهو حَذِر . الباقون آسِن بزنة ضَارِبٍ من : أَسَنَ بالفتح يأسن ، يقال : أَسَنَ المَاءُ بالفتح يَأسِنُ ويَأسُنُ بالكسر والضم أُسُوناً . وكذا ذكره ثَعْلَبُ في فصيحة . فهما لغتان يقال : أسن الماء يأسن أسناً وأَجِن يَأجنُ ، وأَسِنَ يَأسُنُ ويَأسِنُ ، وأَجَن يَأجُنُ أُسُوناً وأُجُوناً . وقال اليَزِيدِيُّ يقال : أَسِنَ بالكسر يَأسَنُ بالفتح أَسَناً أي تغير طعمه ، وأما أَسِنَ الرَّجُلُ إذا دخل بئراً فأصابه من ريحها ما جعل في رأسه دواراً فأَسِنَ بالكسر فقط قال الشاعر :

4469 قَدْ أَتْرُكَُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ... يَمِيدُ فِي الرُّمْحِ مَيْدَ المَائِحِ الأَسِنِ
وقرىء يَسِنٍ بالباء بدل من الهمزة . قال أبو علي : هو تخفيف أسن وهو تخفيف غريب .
قوله : { لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } صفة ل « لَبَنٍ » .
قوله : « لَذَّةٍ » يجوز أن يكون تأنيث « لَذٍّ » ولَذٌّ بمعنى لَذِيدٍ ، ولا تأويلَ على هذا . ويجوز أن يكون مصدراً وصف به ، ففيه التأويلات المشْهُورَة . قال ابن الخطيب : يحتمل أن يقال : ما ثَبَتَتْ لذَّتُهُ يقال : كعام لَذٌّ ولَذِيدٌ ، وأَطْعِمَةٌ لَذَّة ولَذِيدَةٌ ، ويحتمل أن يكون ذلك وصفاً بنفس المعنى لا بالمشتق منه كما يقال للحكيم : هو حَكِيمٌ كله ، وللعاقل : هو عاقل كله . والعامة على جرِّ « لَذَّة » صفة لخمر . وقرىء بالنصب على المفعول له وهي تؤيد المصدرية في قراءة العامة . وبالرفع صفة « لأنهار » . ولم تجمع ، لأنها مصدر إن قيل به وإلا فلأنها صفة لجمع غير عاقل ، وهو يعامل معاملة المؤنثة الواحدة .
قوله : { مِّنْ عَسَلٍ } نقلوا في عسل التذكير والتأنيث ، وجاء القرآن على التذكير في قوله : « مُصَفًّى » والْعَسَلاَنُ العدو ، وأكثر استعماله في الذِّئْبِ ، يقال : عَسَلَ الذّئبُ والثعلب . وأصله من عسلان الرمح وهو اهتزازه ، فكا ، العادي يَهُزّ أعضَاءَهُ ويُحركها ، قال الشاعر :
4470 لَدْنٌّ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
وكنى بالعُسَيْلَة عن الجِمَاع ، لما بينهما . قال عليه الصلاة والسلام : « حتى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ »
فصل
قال ابن الخطيب : اختار هذه الأنهار من الأنهار الأربعة؛ لأن المشروب إما أن يُشْرَبَ لِطَعْمِهِ أو لغير طعمه ، فإن كان للطعم فالمطعوم تسعة : المُرّ والمَالِح ، والحريف ، والحَامِض ، والعَفِصُ والقَابضُ والتّفه ، والحلو ، والدَّسِم . وألذها الحُلو والدَّسِم ، لكن أحلى الأشياء العسل فذكره وأما أدسَمُ الأشياء فالدهن لكن الدُّسُومَة إذا تَمَحَّضَتْ لا تطيب للأكل ولا للشرب ، فإن الدّهن لا يأكل ولا يشرب في الغالب وأما اللبن ففيه الدسم الكائن في يغره وهو طيب للأكْل وبه تغذية الحيوان أولاً فذكره الله تعالى؛ وأمّا ما يشرب لغير الطَّعْم فالماء والخَمْر ، فإن الخمر كريهة الطعم ، لحصول التواتر بذلك ، وإنما تشرب لأمر آخَر غير الطعام وأما الماء فلأن به بقاء الحيوان فذكره .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في الخمر : { لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } ولم يقل في اللبن : لم يخبر طعمه للطاعمين ولا قال في العسل مصفًّى للناظرين؟
فالجواب : قال ابن الخطيب : لأن اللذَّةَ تختلف باختلاف الأشخاص فربَّ طعام يلتذ به شخص ويَعَافُهُ الآخر فقال : لذة للشاربين بأَسْرِهِمْ ، ولأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا ، فقال لذة ، أي لا يكون في خمر الآخرة كراهة طعم وأما الطعم واللون فلا يختلف باختلاف الناس ، فإن الحُلْوَ والحَامِضَ وغيرهما يدركه كل أحد قد يعافه بعض الناس ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أنَّ لهم طعماً واحداً وكذلك اللون فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجةً .

قوله : { كُلِّ الثمرات } فيه وجهان :
أحدهما : أن هذا الجار صفة لمقدر ، وذلك المقدر مبتدأ وخبره الجار قبله وهو « لَهُمْ » و « فيها » متعلق بما تعلق به ، والتقدير : ولهم فيها زَوْجَانِ من كل الثمرات ، كأنه انتزعه من قوله تعالى : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [ الرحمن : 52 ] وقدر بعضهم صِنْفٌ . والأول أليق .
والثاني : أن « مِن » مزيدة في المبتدأ .
قوله : { وَمَغْفِرَةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على ذلك المقدر لا بِقِيْدِ كونه في الجنة ، أي ولهم مغفرة؛ لأَنَّ المغفرة تكون قبل دخول الجنة؛ أو بقيد ذلك . ولا بدّ من حذف مضاف حينئذ أي وبِنَعِيمِ مَغْفِرَةٍ؛ لأنه ناشىءٌ عَنِ المغفرة وهو الجنة .
والثاني : أن يجعل خبرها مقدراً على ولَهُمْ مغفرةٌ . والجملة مستأنفة ، والفرق بين الوجيهن أن الوجه الذي قبل هذا فيه الإخبار ب « لَهُمْ » الملفوظ به عن شيئين ، ذلك المحذوف ومغفرة . وفي الوجه الآخر الخبر جار آخر حذف للدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ .
قوله : { كَمَنْ هُوَ } قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً عن : { مَّثَلُ الجنة } ، بالتأويلين المذكورين عن ابن عطيةَ والزمخشريِّ وأما إذا لم تجعله خبراً عن « مَثَلٍ » ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : حَالُ هؤلاء المتقين كحال مَنْ هُو خَالدٌ .
وهذا تأويل صحيح . وذكر فيه أبو البقاء الأوجه الباقية فقال : وهو في موضع رفع أي حَالُهُمْ كحَالِ مَنْ هُوَ خَالدٌ فِي النَّار .
وقيل : هو اسْتِهْزَاءٌ بهم . وقيل : هو على معنى الاستفهام أي أكمنْ هُوَ خالد ، وقيل : في موضع نصب أي يُشْبِهُونَ ( حال ) مَنْ هُو خَالدٌ فِي النَّار . انتهى .
ومعنى قوله : وقيل : هو استهزاء أي أن الإخبار بقولك : حالهم كَحَال مَنْ ( هُوَ خَالِدٌ ) على سبيل الاستهزاء والتهكم . قال البغوي : معناه أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار؟ .
قوله : { وَسُقُواْ } عطف على الصلة عطف فعلية على اسمية ، لكنه راعى في الأول لفظ « من » فأفرد وفي الثانية معناه فجمع . والأمعاء جمع مِعًى بالقصر وهو المُصْرَانُ التي في البطن . وقد وصف بالجمع في قوله :
4471 . . .. . . ومَعِى جِيَاعُ
على إرادة الجنس .
فصل
الماء الحميم هو الشديد الحَرِّ تسعر عليه النار منذ خلقت إذا أُدْنِيَ مِنْهم شَوَى وُجُوَهَهُمْ ، ووقعت فَروة رُؤُسِهم ، فإذا شَرِبُوا قطَّع أمعاءهم فخرجت من أدبارهم جميع ما في البطن من الحَوَايَا ، واحدها مِعًى .
قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } يعنى الكفار منهم من يستمع إليك يعني المنافقون يستمعون إليك فلا يسمعونه ، ولا يَفْهَمُونَه تهاوناً . والضمير في قوله : « وَمِنْهُمْ » يحتمل أن يرجع إلى معنى قوله : { هُوَ خَالِدٌ فِي النار وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً } يعنى ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك .

قوله { حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } قال المفسرون : حَتَّى للعطف . قالوا : والعطف بحتى لا يحسُنُ إلا إذا كان المعطوف جُزْءاً من المعطوف عَلَيْهِ إمَّا أعلاه وإما أدونه ، كقولك : أَكْرَمَنِي النَّاسُ حَتَّى المَلِكُ وجاء الحُجَّاجُ حَتَى المُشَاةُ . وفي الجملة ينبغي أن يكون المعطوف متعلّقاً بالمعطوف عليه من حيث المعنى . ولا يشترط بالعطف بالواو ذلك . فوجه التعلق ههنا هو أن قوله : { حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } يفيد معنًى واحداً في الاستماع كأنه يقول : يستمعون استماعاً بالغاً جيداً لأنهم يستمعون وإذا خرجوا يستعيدون من العلماء كما يفعله المجتهد في التعلُّم الطالب للتفهم ، يفعلون ذلك استهزاء كما قال تعالى عنهم : { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] . ويحتمل أن يكون فعلهم ذلك لعدم فهمهم . والأول يؤيده قوله تعالى : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين } [ الأعراف : 101 ] ، وقوله بعد ذلك { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } أي تركموا اتّباعَ الحقِّ ، إما لعدم الفهم أو لعدم الاستفادة .
قوله : « آنِفاً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الحال فقدَّره أبو البقاء : ماذا قال مُوْتَنِفاً؟ وقدره غيره مبتدئاً أي ما القول الذي ائْتَنَفَهُ الآن قبل انْفصاله عنه؟
والثاني : أنه منصوب على الظرف أي ماذا قال الساعة . قاله الزمخشري . وأنكره أبو حيان قال : لأنا لم نعلم أحداً عده من الظروف .
واختلفت عبارتهم في معناه؛ فظاهر عبارة الزمخشري أنه ظرف حالي كالآنَ ، ولذلك فسّره بالسَّاعةِ .
وقال ابن عطية : والمفسرون يقولون : آنفاً معناه الساعة الماضية القريبة منا وهنذا تفسير بالمعنى . وقرأ البَزِّيُّ بخلاف عنه أنِفاً بالقصر . والباقون المدِّ ، وهما لغتان بمعنًى واحدٍ . وهما اسما فاعل كَحذر وحَاذِر وأَسنٍ وآسنٍ؛ إلا أنه لم يستعمل لهما فعل مُجَرَّد ، بل المستعمل ائْتَنَفَ يأتَنِفُ ، واستأنف يَسْتَانِفُ والأئْتناف والاسْئتِنَاف الابتداء . قال الزجاج : هو من اسْتَأنَفْتُ الشَّيْءَ أي ابْتَدَأتُهُ أي مذا قال في أول وقت يَقْرُبُ منَّا؟
فصل
روى مقاتل ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين فإذا خرجوا من المسجدد سألوا عَبْدَ الله بن مسعود استهزاءاً ماذا قال محمد آنفاً؟ ثم قال تعالى : { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } فلم يؤمنوةا واتَّبعوا أهواءهم في الكفر والنفاق .
قوله : { والذين اهتدوا } يجز فيه الرفع بالابتداء والنَّصْب على الاشتغال و « تَقْوَاهُمْ » مصدر مضاف لفاعله . والضمير في « وَآتَاهُمْ » يعود على الله أو على ( قَوْل ) المنافقين؛ لأن قولهم ذلك ما يزيد المؤمنين تقوى . أو على الرسول والمعنى زادهم قول الرسلو هُدًى وآتاهم ( تقواهم أي وفقهم للعمل بما آمر به ، أو زادهم الله هدى وآتاهم الله تقواهم أو زادهم استهزاء المنافقين وآتاهم ) قول المنافقين تقواهم أي ثواب تقواهم يوم القيامة .

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)

قوله : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } يعني الكافرين والمنافقين ، قال عليه الصلاة والسلام : « مَا يَنْتَظِرُ أَحَدُكُمْ إلاَّ غَنًى مُطْغِياً ، أَوْ فَقْراً مُنْسِياً ، أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً أَوْ هرَماً مُفَنِّداً ، أَوْ مَوْتَا مُجْهِزاً أو الدَّجَّال ، والدَّجَّال شَرٌّ غَائِبٍ يَنْتَظِرُ أو السَّاعَةُ ، والسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ » وسميت القيامة بالساعة لسرعة الأمور الواقعة فيها من البعث والحشر والحساب .
قوله : { أَن تَأْتِيَهُمْ } بدل من الساعة بدل اشتمال . وقرأ أبو جعفر الرؤاسيّ : إنْ تَأتِيهِمْ بإنِ الشّرطية وجز ما بعدها . وفي جوابها وجهان :
أحدهما : أنه قوله : { فأنى لَهُمْ } قال الزمخشري . ثم قال : فإن قلتَ : بم يتصل قوله : { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } على القراءتين؟ قتلُ : بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول كقولك : إنْ أَكْرَمَنِي زَيْدٌ فَأَنَا حَقِيقٌ بالإكْرَامِ أكْرِمهُ .
والثاني : أن الجواب قوله : { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } وإتيان الساعة وإن كان متحقّقاً إلا أنهم عُومِلُوا معاملةَ الشَّاكِّ وحالهم كانت كذا .
قوله : { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } الأَشْراط جمع شَرْطٍ بسكون الراء وفتحها قال أبو الأسود :
4472 فَإنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ باِالصَّرْمِ بَيْنَنَا ... فَقَدْ جَعَلْتِ أَشْرَاط أَوَّلِهِ تَبْدُو
والأشراط العلامات . ومنه أشراط الساعة . وأَشْرَطَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ أي ألْزَمَهَا أموراً .
قال أوس :
4473 فَأَشْرضطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهُوَ مُعْصِمٌ ... فَأَلْقَى بأَسْبَاب لَهُ وَتَوَكَّلاَ
والشرط القطع أيضاً مصدر شرط الجلد يَشْرُطُهُ شَرْطاً .
فصل
قال سهل بن سعد : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قال بإصبعه هكذا بالوْسْطَى والتي تلي الإبهام : بُعِثْتُ وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنْ » وقال عليه الصلاة السلام : « إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أن يُرْفَعَ العِلْمُ وَيكْثُرَ الجَهْلُ ويَكْثُرَ الرِّبَا ، ويَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ ، ويَقِلَّ الرِّجَالُ ، وتَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امرأة القيمُ الواحِدُ » وقال عليه الصلاة والسلام : « إذَا ضُيِّعَتِ الأَمانَةُ فَانْتَظِر السَّاعَةَ فقيل : كَيْفَ إضَاعَتُهَا؟ قَالَ : إذا وُسِّدَ الأَمْرُ إلى غَيْرِ أَهْلِهِ ، فَانْتَظِر السَّاعَة » واعلم أن قوله تعالى : { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون بياناً لغاية عِنَادِهِمْ . ويحتمل أن يكون تسليةً لقلب المؤمنين كأنه تعالى لما قال : { فهل ينظرون إلا الساعة } ، فهم منه تعذيبهم ، قال المفسرون : أشراط الساعةمثل انشقاق القمر ، ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام .
قوله : { فأنى لَهُمْ } « أَنَّى » خبرٌ مقدم ، و « ذِكْرَاهُم » مبتدأ مؤخر ، أي أَنَّى لهم التذكير . وإذَا وما بعدها معترض . وجوابها محذوف أي كيف لهم التذكير إذا جاءتهم الساعة؟ فكيف تتذكرون؟ ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفاً أي أنَّى لهم الخلاص؟ ويكون « ذِكْرَاهُمْ » فاعلاً ب « جَاءَتْهُمْ » . وقرأ أبو عمرو في رواية « بَغَتَّةً » بفتح الغين وتشديد التاء .

وهي صفة فنصبها على الحال ، ولا نظير لها في الصفات ولا في المصادر ، وإنما هي في الأسماء نحو : الجَرَبَّة للجماعة والشَّرَبَّة للمكان . قال الزمخشري : وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي على أبي عمرو ، وأن يكون الصواب : بَغَتَةً بفتح الغين من غير تشديدٍ .
فصل
معنى الآية فمن أين لهم التَّذَكُّر والاتِّعاظ والتوبة إذا جاءتهم ذكراهم أي السّاعة نظيره : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى } [ الفجر : 23 ] .
قوله : { فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلأ الله } وجه مناسبته لما قبله هو أنه تعالى لما قال فاعلم أنه لا إله إلا الله أي يأتي بالساعة كما قال : { أَزِفَتِ الآزفة لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ } [ النجم : 5758 ] . وقيل : فاعلم أنَّه لا إله إلا الله ينفعك ، قيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره . وقيل : معناه فاثْبُتْ عليه . وقال الحُسَيْنُ بن الفضل : فازدَدْ علماً إلى علمك . وقال أبو العالية وابن عُيَيْنَةَ : معناه إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا مَلْجَأَ ولا مَفْزعَ عند قيامها إلا الله . ثم قال : « فَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ » أمرٌ بالاستغفار من أنه مغفور له لِتَسْتَنَّ به أمته . وقيل : معنى قوله لذنبك أي لذَنبِ أهل بيتك الذي ليسوا منك بأهل بيت . وقيل : المراد النبي؛ والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحسناتُنا دون ذلك . قال عليه الصلاة والسلام : إنّهُ لَيُعَانُ عَلَى قَلْبِ وَإنّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ .
قوله : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم { والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } قال ابن عباس والضحاك : متقلبكم : مُنْصَرَفَكُمْ ومنْشَرَكُمْ في أعمالكم في الدنيا « ومثواكم » مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار . وقال مقاتل وابن جرير : متقلبكم منصرفكم لأشغالكم بالنهار ومثواكم مأواكم إلى مضاجعكم بالليل . وقال عكرمة : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم ومقامكم في الأرض . وقال ابن كيسان : متقلبكم من ظهر إلى بطن ومثواكم مقامكم في القبور ، وقيل : معناه أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها .
قوله : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } أي هلاَّ . ولا التفات إلَى قول بعضهم إنَّ « لاَ » زائدة . والأصل لو نزلت . والعامة على رفع محكمة لقيامها مقام الفاعل . وزَيْدُ بنُ عَلِيٍّ بالنصب فيهما على الحَالِ . والقائم مقام الفاعل ضمير السورة المتقدمة وسَوَّغ وقوعَ الحال كذا وَصْفُها كقولك : الرَّجُلُ جَاءَنِي رَجُلاً صَالِحاً وقرىْ : فَإذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ . وقرأ زيدٌ بْنُ عَلِيٍّ وابنُ عُمَيْر « وَذَكَرَ » مبنياً للفاعل أي الله تعالى « القِتَالَ » نصباً .
فصل
المعنى ويقول الذين آمنوا حرصاً منهم على الجهاد هلا أنزلت سورة تأمرنا بالجِهاد .

واعلم أن المؤمن كان ينتظرم نزول الأحكام والتكاليف ويطلب تنزيلها وإذا تأخرت عنه التكليف كان يقول : هلا أمرت بشيء من العبادة خوفاً من أن لا يؤهل لها . وأما المنافق فإذا أنزلت السورة أو الآية وفيها تكليف فيشق عليه ذلك فحصل التَّبَايُن بين الفريقين في العلم والعمل .
والمراد بالسورة التي فيها تكليف؟ . وقوله : « مُحْكَمَةُ » أي لم تنسخ ، وقال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين .
قوله : { رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } يعنى المنافقين { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } شَزْراً بتحديقٍ شديدٍ كراهِيةً منهم للجهاد ، وجبناً عن لقاء العدوِّ .
قوله : { نَظَرَ المغشي } الأصل نَظَراً مثل نَظَراً مثل نَظَر المَغْشِيِّ عليه من الموت كما ينظر الشاخص بصره عنْد الموت .
قوله : { فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ } . اختلف اللّغويون وةالمُعْرِبُونَ ( رَحِمَهُ اللهِ عَلَيْهِمْ ) في هذه اللفظة فقال الأصمعي ( رَحمهُ الله ) : إنها فعل ماضٍ بمعنى قاربه ما يهلكه ، وأنشد ( رَحمهُ اللهُ ) :
4474 فَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا ... وَأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ عَلى الثَّلاَثِ
أي قارب أن يزيد .
قال ثعلب : لم يقل أحدٌ في أوْلَى أحسنت من الأصمعيِّ . وقال البغوي : معناه وَلِيَكَ وَقَرَبَك ما تكره ولكن الأكثرين على أنه اسم . ثم اختلف هؤلاء فقيل هو مشتق من الوَلْي وهو القريب كقوله :
4475 تُكَلِّفُنِي لَيْلَى وَقَدْ شَطَّ وَلْيُهَا ... وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنا وَخُطُوبُ
وقيلأ : هو مشتق من الوَيْل والأصل فيه أوئل . فقلبت العين إلى ما بعد اللام فصار وزنه أفلع . وإلَى هذا نحا الجُرْجَانيّ والأصل عدم القلب وأما معناها فقيل : هي تهديد ووعيد كقوله :
4476 فَأَوْلَى ثُمَّ أَولَى ثُمَّ أَوْلَى ... وَهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ
وقال المبرد : يقال لمن هم بالغضب : أولى لك كقول أعرابيِّ كان يوالِي رمي الصيد فيفلت منه فيقول : ِأَوْلَى لَكَ . ثم رمى صيداً فَقَارَبَهُ فأفلت منه فقال ( رَحْمَةُ الله عليه ورِضَاهُ ) :
4477 فَلَوْ كَانَ أَوْلَى يُطْعِمُ الْقَوْمَ صِدْتُهُمْ ... وَلَكِنْ أَوْلَى يَتْرُكُ الْقَوْمَ جُوَّعَا
هذا ما يتعلق باشتقاقه ومعناه .
وأما الإعراب فإن قلنا بقول الجمهور ففيه أوجه :
أحدهما : أن « أولى » مبتدأ ( و ) « لهم » خبره تقديره : فالهلاك لهم . وسوغ الابتداء بالنكرة كونهُ دُعَاء نحو : { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : العِقَابُ أو الهَلاك أَوْلَى لهم . أي أقرب واَدْنَى . وقال ابنُ الخطيب : التقدير : فالموت أولى لهم؛ لأنَّ الموت سبق ذكره في قوله : { نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت } ، وذلك أن الحياة في طاعة الله ورسوله خير منها . ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء أي أولى وأحق بِهِمْ .
الثالث : أنه مبتدأ و « لهم » متعلق به ، واللام بمعنى الباء . و « طاعة » خبره التقدير : أولى بهم طاعة دون غيرها .
وإن قلنا بقول الأصمعي فيكون فعلاً ماضياً ، وفاعله مضمر يدل عليه السِّيَاق ، كأنه قيل : فأولى هو أي الهلاك .

وهذا ظاهر عبارة الزمخشري حيث قال : ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه . وقال ابن عطية : المشهور من استعمال العرب أنك تقول : هذا أولى بك من هذا ، أي أحق . وقد تستعمل العرب « أولى لك » فقط على جهة الحذف والاخْتِصَار؛ لما معها من القول فتقول : أولى لك يا فلان على جهة الزجر والوعيد . انتهى .
وقال أبو البقاء : أَوْلَى مؤنثة أَوْلاة . وفيه نظر؛ لأن ذلك إنما يكون في التذكير والتأنيث الحقيقيين؛ أما التأنيث اللفظي وفلا يقال فيه ذلك . وسيأتي له مزيد بيان في القيامة إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى .
قوله : { طَاعَةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر « أَوْلَى » على ما تقدم .
الثاني : أنها صفة « لِسُورَة » أي فإذا أنزلت سُورَةٌ محكمة « طاعة » أي ذات طاعة أو مطاعة . ذكره مكي ، وأبو البَقَاءِ . وفيه بُعْد لكثرة الفواصل .
الثالث : أنها مبتدأ و « قَوْل » عطف عليها والخبر محذوف تقديره : أَمْثَلُ لَكُمْ مِنْ غَيْرِهِمَا . وقدّر مَكِّيٌّ منَّا طاعةٌ فقدّره مقدَّماً .
الرابع : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي أمْرُنَا طَاعَةٌ .
الخامس : أن لهم خبر مقدم وطاعة مبتدأ مؤخر . والوقف والابتداء يُعْرَفَانِ مما تقدم .
فصل
قال المفسريون : قوله : طاعة وقول معروف ابتداء محذوف الخبر ، تقديره طاعة وقول معروف أمثل ، أي لو أطاعوا وقالوا قولاً معروفاً كان أمثل وأحسن . وساغ الابتداء بالنكرة ، لأنها وُصِفَتْ بدليل قوله : { وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } فإنه موصوف فكأنه تعالى قال : كاعة مخلصةً وقولٌ معروف خير . وقيل : يقول المنافقون قبل نزول السورة المحكمة طاعة رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة ، أو منا طاعة وقول معروف : حسن .
وقيلأ : « متَّصل » . واللام في قوله : « لَهُمْ » بمعنى الباء أي فأولى بهم طاعة الله ورسوله وقول معروف بالإجابة ، أي لو أطاعوا الله كانت الطاعة والإجابة أولى بهم . وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عَطَاءٍ .
قوله : { فَإِذَا عَزَمَ الأمر } في جوابها ثلاثة أوجه :
أحدهما : قوله : { فَلَوْ صَدَقُواْ } نحو : إذَا جَاءنِي طَعَامٌ فَلَوْ جِئْتَنِي أَطْعَمْتُكَ .
الثاني : أنه محذوف تقيدره : فَاصْدُقْ ، كذا قدره أبو البقاء .
الثالث : أن تقديرنا ناقضوا . وقيل : تقديره كرهوا ذلك . وعَزَمَ الأمْر على سبيل الإسناد المجازي كَقوله :
4478 قَدْ جَدَّتِ الْحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا ... أو يكون على حذف مضاف أي عَزَمَ أَهْلُ الأمر . وقال المفسرون : معناه إذا جدَّ الأمر ولزم فرض القتال خالفوا وتخلفوا فلو صدقوا لله في إظهار الإيمان والطاعة لكان خيراً لهم . وقيل : جواب إذا محذوف تقديره فإذا عزم الأمر لكلُّوا أو كذبوا فيما وعدو ولو صدقوا لكان خيراً لهم .
قوله : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } أي فلعلكم إن توليتم أعرضتهم عن القرآن وفارقتم أحكامه { أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض } ، تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية تفسدوا في الأرْضِ بالمعيصية والبَغْي وسَفْكِ الدماء وترجعون إلى الفُرْقة بعدما جمعكم الله بالإسلام!
قوله : { أَن تُفْسِدُواْ } خبر عسى .

والشرط مُعْتَرِضٌ بينهما وجوابه محذوف لدلاَلَةِ : « فَهَلْ عَسَيْتُمْ » عليه أو هو يفسره « فَهَلْ عَسَيْتُمْ » ، عند من يرى تقديمه .
وقرأ علي رضي الله عنه « إن تُوُلِّتُمْ » بضم التاء والواو وكسر اللام مبنياً للمفعول من الولاية أي وُلِّيتم أمور الناس . وقال ابن الخطيب : لولا تولاَّكم ولاةٌ ظلمة ، جُفاة غَشَمَة ومشيتم معهم لفسدتم وقعطت الأرحام والنبي عليه الصلاة والسلام لا يأمركم إلا بصلة الأرحام فلم تتقاعدون عن القتال؟! . والأول أظهر ومعناه إن كنتم تتركون القتال وتقولون فيه الإفساد ، وقطع الأرحام وكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلا ذلك ، حيث تَتَقَتَلُونَ على أدنى شيءٍ كما كان عادة العرب الأُوَل . ( وقرى : وُليتم من الولاية أيضاً ) .
فصل
قال ابن الخطيب : في استعمال « عسى » ثلاثة مذاهب :
أحدها الإتيان بها على صورة فعل ماض معه فاعل تقول : عَسَ زَيْدٌ ، وعَسَيْنَا وعَسَوْا ، وعَسَيْتُمَا ، وعَسَيْتُ وعَسَيْتُنَّ وعَسَيْنَا وعَسَيْتُنَّ .
والثاني : أن يؤتى بها على صورة فعل ومفعول يقال : عَسَاهُ ، وعَسَاهُمَا ، وعَسَاكَ ، وَعَسَاكُمَا وعَسَايَ وعَسَانَا .
الثالث : الإتيانُ بها من غير أن يُقْرَن بها شيء تقول : عَسَى زَيْدٌ يَخْرُجُ ، وعَسَى أَنْتَ تَخْرُجُ ، وعَسَى أَنَا أخْرُجُ ، والك متوجه ما عليه كلام الله أوجه ، لأن « عسى » من الأفعال الجامدة ، واقتران الفاعل بالفعل الأول من اقتران المفعول ، لأن الفاعل كالجزء من الفعل ولهذا لم يجوزوا فيه أرْبَعَ متحركات في مثل قول القائل : بَصُرْتُ وجوزوا في مثل قولنا : بَصَرُكَ . وقد تقدم الكلام في « عسى » مشْبَعاً .
وفي قوله : « عَسَيْتُم » إلى آخره ، التفات من غيبة في قوله : { الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } إلى خطابهم بذلك زيادة في توبيخهم والاستفهام للتقرير المؤكد فإنه لو قال على سبيل الإخبار : « عَسَيْتُمْ إنْ » لكان للمخاطب أنينكره فإذا قال بصيغة الاستفهام فإنه يقول : أنا أسألك عن هذا وأنت لا تقدر ( أن ) تجيب إلا ب « لا » أو « نَعَمْ » ، فهو مُقَرَّر عندك وعندي .
واعلم أن « عَسَى للتوقع والله عالم بكل شيء والكلام فيه كالكلام في » لَعَلَّ « وفي قوله : { لِّيَبْلُوَكُمْ } [ المائدة : 48 ] فقال بعضهم : يفعل بكم فعل المترجِّي والمبتلي والمتوقع . وقيل : كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك . وقال ابن الخطيب : هو محمول على الحقيقة؛ لأن الفعل إذا كان في نفسه متوقعاً فالنظر غير مستلزم لأمر ، وإِنما الأمر يجوز أن يحصل منه تارة ، ولا يحصل منه أخرى يكون الفعل لذلك الأمر المطلوب على سبيل الترجِّي سواء كان الفاعل يعلم حصول الأمر منه أو لم يعلم مثاله من نَصَبَ شَبَكةً لاصطياد الصَّيد يقال : هو متوقع لذلك ، فإن حصل له العمل بوقوعه فيه بأخبار صادقٍ أنه سيقع أو بطريق أخرى لا يخرج عن التوقع .

غاية ما في الباب أن في الشاهد لم يحصل لنا العلم فيما نتوقعه فظن أن عدم العلم لازم للتوقع فليس كذلك بل التوقع هو المنتظر بأمر ليس بواجب الوقوع نظراً إلى ذلك الأمر حسب سواء كان له به علم أو لم يكن .
قوله : { وتقطعوا } قرأ العامة بالتشديد على التكثير ، وأبو عمرو في رواية وسلام ويعقوب : بالتخفيف مضارع قَطَع . والحَسن : بفتح التاء والطاء مشددة ، أصلها تَتَقَّطُعُوا بتاءين حذفت إحداهما . وانتصب « أَرْحَامَكُم » على هذا إسقاط الخافض أي في أرْحَامِكُمْ .

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)

قوله : « أُلَئِكَ » مبتدأ ، والموصول خبره والتقدير : أولئك المفسدون يدل عليه ما تقدم . وقوله : « فَأَصَمَّهُمْ » ولم يقل : « فَأَصَّم آذَانَهُمْ » و « أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ » ولم يقل أعمارهم ، قيلأ : لأنه لا يلزم من ذهاب الإذن ذهاب السمع فلم يتعرض لها ، والأبصار وهي الأعين يلزم من ذهابها ذهاب الإبْصار ولا يرد عليك قوله : { وفي آذَانِهِمْ وَقْراً } ونحوه [ الأنعام : 25 ] و [ الإسراء : 46 ] و [ الكهف : 57 ] لأنه دون الصَّمَم والصَّممُ أعظم منه فقال : أصمهم من غير ذكر الأذن ، وقال : « أعْمَى أبْصَارَهُمْ » مع ذكر العين؛ لأن البَصَرَ ههنا بمعنى العين ولهذا جمعه بالأبْصار ولو كان مصدراً لما جمع ، فلم يذكر الأذن؛ إذْ لاَ مَدْخَلَ لها في الإصمام وذكر العين ، لأن لها مدخلاً في الرُّؤية ، بل هي الكل بدليل أنه الآفة في غير هذا الموضع لما أضافها إلى الأذن سماها وقراً فقال تعالى حاكياً عنهم : { وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } [ فصلت : 5 ] والوَقْر دون الصَّمَم .
فصل
{ أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله } إشارة إلى من سبق ذكرهم من المنافقين ، أبعدهم الله عنه أةو عن الخبر الخير فأصمهم لا يسمعون الكلام المبين وأعمى أبصارهم عن الحق .
قوله : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن } فيه سؤال وهو أنه تعالى قال : فأصمهم وأعمى أبصارهم فيكف يمكنهم التدبر في القرآن وهو كقول القائل الأعمى أَبْصِر وللأصمّ أسْمَعْ؟! .
فالجواب من ثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من بعض :
الأول : تكليفه ما لا يطاق جائز والله أمر من علم منه أنه لايؤمن بأن يؤمن فلذلك جاز أين يُصِمَّهم ويعميهم ويذمَّهم على ترك التدبر .
الثاني : أن قوله : { أفلا يتدبرون القرآن } المراد منه الناس .
الثالث : أن يقال : هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المقتدمة كأنه تعالى قال : { أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله } أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو الخير أو غير ذلك من الأمور الحسنة فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام وأعماهم لا يتبعون طريقة الإسلام ، فإِذَنْ هم بين أمرين إما لا يتدبرون القرآن فيبعدون منه ، لأن الله لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق والقرآن منهما هو الصّف الأعلى بل النوع الأشرف وإما يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مُقْفَلَةً تقديره : أفلا يتبدون القرآن لكونهم ملعونين مُبْعَدِينَ { أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } فيتدبرون ولا يفهمون؛ وعلى هذا لا يحتاج إلى أن يقول : أم بمعنى « بل » بل هي على حقيقتها للاستفهام واقعة والهمزة أخذت مكانها وهو الصدر .
وقيلأ : أم بمعنى بل . والمعنى بل على قلوب أقفالها فلا تفهم مواعظ القرآن وأحكامه روى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عن أبيه قال : « تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلا يتبدرون القرآن أم على قلوب أقفالها فقال شباٌّ من أهل اليمن بل على قولب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها ، فما زال الشاب في نفس عُمَرَ حتى وَلِيَ فاستعان به » .

قوله : { أَمْ على قُلُوبٍ } أم منقطعة وتقدم الكلام على « أم » منقطعة . وقرأ العامة : « أقْفَالُها » بالجمع على أَفْعَالٍ . وقرىء أَقْفُلُهَا ( بالجمع ) على أفْعل . وقرىء إِقْفَالُهَا بكسر الهمزة مصدراً كالإقبال . وهذا الكلام استعارة بليغة قيل : ذلك عبارة عن عدم وصول الحق إليها .
فإن قيل : ما الفائدة في تنكير القلوب؟ .
فقال الزمخشري : يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون للتنبيه على كون موصوفاً لأن النكرة بالوصف أولى من المعرفة فكأنه قال : أمْ عَلَى قُلُوبٍ قاسيةٍ أو مظلمةٍ .
الثاني : أن تكون للتبعيض كأنه قال : أم على نفس القلوب؛ لأن النكرة لا تَعُمُّ ، تقول : جاءني رجالٌ فيُفْهَمُ البعض وجاءني الرجال فيُفْهَم الكل . والتنكير في القلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب وذلك لأن القلب إذا كان عارفاً كان معروفاً ، لأن القلب خلق للمعرفة فإذا لم يكن فيه المعرفة فكأنه لا يعرف قلباً ، فلا يكون قلباً يعرف ، كما يقال للإنسان المؤذي : هذا ليس بإنسان فكذلك يقال : هذا ليس بقلبٍ هذا حجر .
وإذا علم هذا فالتعريف إما بالألف واللام وإما بالإضافة بأن يقال : على قلوبهم أقفالها أو هي لنعدم عَوْد فائدة إليهم كأنها ليست لهم .
فِإن قيل : قد قال تعالى : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ } [ البقرة : 7 ] وقال : { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } [ الزمر : 22 ] .
فالجواب : الإقفال أبلغ من الختم ، فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله : « أقْفَالُهَا » بالإضافة ولم يقل : أقفال كما قال : قُلُوبٍ؟ .
فالجواب : لأن الأقفال كأنها ليست إلا لها ولم تضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم وإضافة الأقْفال إليها لكونها مناسبةً لها . أو يقال : أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكُفْر والعِنَادِ .
قوله : { إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ } رجَعُوا كفاراً { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى } قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بعدما عرفوه ووجدوا نعتَه في كتابهم . وقال ابن عباس والضحاك والسدي : هم المنافقون .
قوله : { الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ } أي زين لهم القبيحَ . وهذه الجملة خبر : { إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ } وتقدم الكلام على سَوَّلَ معنًى واشتقاقاً . وقال الزمخشري هنا : وقد اشتقه من السَّؤلِ من لا عِلْمَ له بالتصريفِ والاشتقاق جميعاً . قال شهاب الدين : كأنه يشير إلى ما قاله ابْنُ بَحْر من أن المعنى أعطاهم سُؤْلَهُمْ . ووجه الغلط فيه أن مادة السّول من السؤال بالهمز ومادة هذا بالواو فافْتَرَقَا ، فلو كان على ما قيل لقيل سأَّل بتشديد الهمزة لا بالواو . وفيما قال الزمخشري نظر؛ لأن السؤال له مادتان سأل بالهمزة وسال بالألف المنقلبة من واو . وعليه قراءة : « سَالَ سَائِلٌ » وقوله :

4479 سَأَلَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللهِ فَاحِشَةً ... ضَلَّتُ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ
وقد تقدم هذا في البقرة مستوفًى .
قوله : { وأملى لَهُمْ } العامة على أملي مبنياً للفاعل وهو ضمير الشيطان . وقيل : هو للباري تَعَالى . قال أبو البقاء : على الأول : يكون معطوفاً على الخبر . وعلى الثاني : يكون مستأنفاً . ولا يلزم ماقاله بل هو معطوف على الخبر في كلا التقديرين أخبر عنهم بهَذَا وبهَذَا .
وقرأ أبو عمرو في آخرين أُمْلِيَ مبنياً للمفعول . والقائم مقام الفاعل الجار .
وقيل : القائم مقامه ضمير الشيطان ذكره أبو البقاء . وقرأ يعقوبُ وسلاَّمٌ ومجاهد وأُمْلِي بضم الهمزة وكسر اللام وسكون الياء فاحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مضارعاً مسنداً لضمير المتكلم أي وأملي أنا لهم ، وأن يكون ماضياً كقراءة أبي عمرو سكنت ياؤه تخفيفاً وقد مضى منه جملة .
فصل
قال المفسرون : سَوَّلَ لَهُمْ سَهَّل لهم . وأَمْلَى لهم أي مد لهم فِي الأمل يعني قالوا : نعيش أياماً ثم نؤمن به وهو معنى قوله : { وأملى لَهُمْ } .
فإن قبل : الإِملاء والإِمهال وَحَدُّ الآجال لا يكون إِلا من الله فكيف يصح قراءة من قرأ : وأملى لهم فإن المملي حينئذ هو الشيطان؟ .
قال الخطيب : فالجواب من وجهين :
أحدهما : هو أن المسوِّل أيضاً ليس هو الشيطان وإنما إسند إليه من حيث إن الله قد ر على يده ولسانه ذلك ، فكذلك الشيطان يمسهم ويقول لهم : في آجالكم فَسْحَةٌ فتمتعوا برئاستكم ثم في آخر العمل تؤمنون .
قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ } يعني المنافقين أو اليهود قالوا : { لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله } وهم المشركون أي ذلك الإملاء لا يسبب قولهم الذين كرهوا . قال الواحدي .
وقيل : ذلك إشارة إلى التسويل . ويحتمل أن يقال : ذلك إشارة للارتداد بسبب قولهم : سنطيعكم قاله ابن الخطيب . قال : لأنا نبين أن قوله : « سنطيعكم ف يبعض الأمور » هو أنه قالوا نوافقكم على أن محمداً ليس بمرسل وإنما هو كذاب ولكن لا نوافقكم على إِنكار الرسالة والحشر والإشراك بالله من الأصنام ومن لم يؤمن بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فهو كافر وإن آمن بغيره . لا بل نؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام ولا نؤمن بالله ولا برسله ولا بالحشر ، لأن الله تعالى كما أخبر عن الحشر وهو جائز أخبر عن نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهِيَ جائزة .
وقال المفسرون : إِن اليهود والمنافقين قالوا للذين كرهوا ما نزل الله وهم المشركون سنطيعكم في بعض الأمور في التعاون على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم والقعود عن الجهاد . وكانوا يقولونه سراً فقال الله تعالى : { والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } .
وقوله : « إسْرَارَهُمْ » قرأ الأخوان وحفص بكسر الهمزة مصدراً . والباقون بفتحها جمع سِرّ .
قوله : « فكيف » إما خبر مقدم ، أي فيكف عمله بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة .

وإما منصوب بفعل محذوف أي فكيف تصنعون وإما خبر « لكان » مقدرة أي فكيف يكونُون؟ والظرف معمول لذلك المقدر وقرأ الأعمش : « تَوَفَّاهُمْ » دون تاء ، فاحتملت وجهين : أن يكون ماضياً كالعامة ، وأن يكون مضارعاً حُذفت إحدى تائيه .
قوله : « يَضْرِبُون » حال إما من الفاعل وهو الأظهر أو من المعفول .
فصل
قال ابن الخطيب : الأظهر أن قوله : { والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } أي ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا مكابرين معاندين وكانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ويؤيده القراءة بكسر الهمزة فإنهم كانوا يُسِرُّونَ نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وإن قلنا : المراد من الذين ارتدّوا هم المنافقون فكانوا يقولون للجاحدين من الكفار سنطيعكم في بعض الأمور كانوا يرون أنهم إن غلبوا انقلبوا كما قال الله : { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } [ العنكبوت : 10 ] وقال تعالى : { فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [ الأحزاب : 19 ] . وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } كأنه تعالى قال : هَبْ أنهم يسرون والله لا يظهره اليوم فكيف يبقى مخفياً وقت وفاتهم؟! أو نقول : لما قال الله تعالى : والله يعلم إسرارهم أنهم يختارون القتال لما فيه من الضرب والطعن مع أنه مفيد على الوجهين جميعاً إن غَلبوا في الحال والثواب في المآل ، وإن غُلبوا فالشهادة والسعادة ، فكيف حالهم إذا ضرب وجوههم وأدبارهم؟! .
وعلى هذا فيه لطيفة وهي أن القتال في الحال إن أقدم المبارز قد يهزم الخَصْم ويسلم وجهه وَقَفاهُ وإن لم يهزمه فالضرب على وجهه إن ثَبَتَ وصَبَرَ وإن يثبت وانهزم فإنه فاته بالهرب فقد سلم وجهه وقفَاه وإن لم يفته فالضرب على فقاه لا غير ويوم الوفاة لا نُصْرة له ولا مفرّ ، فوجهه وظهره مضروب مطعون فيكف يحترز عن الأذى ويختار العذاب الأكبر؟ّ .
قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله } أي ذلك الضرب بأنه اتبعوا ما أسخط الله . قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) بما كتموا التوراة وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكرهوا ما فيه رضوان الله وهو الطاعة والإيمان . وقيل : المراد بما أسخط الله الكفر لأن الإيمان يرضيه لقوله تعالى : { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } [ الزمر : 7 ] . وقيل : بما أسخط الله هو تسويل الشيطان .
فإن قيل : هم ما كانوا يكرهون رضوان الله بل كانوا يقولون : إن الذي هم عليه رضوان الله ولا نطلب به إلا رضى الله وكيف ( لا ) والمشركون بإشراكهم كانوا يقولون إنا نطلب رضى الله كما قالوا : { لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] وقالوا :

{ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } [ الأعراف : 53 ] .
فالجواب : معناه كرهوا ما فيه رضى الله . وفيه قوله : { مَآ أَسْخَطَ الله } ولم يقل : « ما أرضى الله » لطيفة وهي أن رحمة الله سابقة ، فله رحمة ثانية وهي منشأ الرضوان وغضب الله متأخر ، فهو يكون على ذبن ، فقال « رضوانه » لأنه من وصف ثابت لله سابق . ولم يقل « سَخِطَ الله » بل قال « أَسْخَطَ » إشارة إلى أن السخط ليس ثبوته كثبوت الرضوان ولهذا المعنى قال في اللَّعَان في حق المرأة : { والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين } [ النور : 9 ] يقال : غضب الله مضافاً لأن لعانه قد سبق فظهر الزنا بقوله وإيمانه وقبله لم يكن غضب فرضوان الله أمر يكون منه الفعل وغضب الله أمر يكون من فعله .
قوله : « فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ » حيث لم يطلبوا رضا الله وإنما طلبوا رِضَا الشيطان والأصنام . قوله : { أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } يعني المنافقين و « أم » تستدعي جملة أخرى استفهامية يقال : أَزيدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عَمْرٌو وإذا كانت منقطعة لا تستدعي ذلك؛ يقال : إنَّ هذا لزيدٍ أم عمرو وكما يقال : بل عمرو . والمفسرون على أنها مقطعة . ويحتمل أن يقال : إنها استفهامية والسابق مفهوم من قوله تعالى : { والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } . وكأنه تعالى قال : ( أم ) حسب الذين كفروا وأن لم يعلم الله إسرارهم أم حسب المنافقون أن لن يظهرها . والكل فاسد فإنما يعلمها ويظهرها .
قوله : { أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ } الإخراد بمعنى الإظهار ، أي لن يظهر أحقادهم و « أن » هذه مخففة . و « لن » وما بعدها خبرها واسمها ضمير الشأن . والأَضْغَانُ جمع ضغْنٍ وهي الأَحْقَادُ والضَّغِينَةُ كذلك . قال ( رحمه الله ) :
4480 وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الوُدَّ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى إِسَاءَتِهِ مُقِيتَا
وقال عمرو بن كلثوم :
4481 وَإِنَّ الضِّغْنَ بَعْدَ الضَّغْنِ يَعْسُو ... عَلَيْكَ وَيُخْرِجُ الدَّاءَ الدَّفِينَا
وقيلأ : الضغن العداوة وأنشد :
4482 قُلْ لابْنِ هِنْدٍ مَا أَرَدْتَ بِمَنْطِقٍ ... سَاءَ الصَّدِيقَ وَشَيَّدَ الأَضْغَانَا
يقال : ضَغِنَ بالكسر يَضْغَنُ بالفتح وقد ضَغِنتَ عليه وأضْغَنَ القَوْمُ وتَضَاغَنُوا .
وأصل المادة من الألتواء في قوائم الدّابة والقناة ، قال ( رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ ) :
4483 إنَّ قَنَاتِي مِنْ صَليباتِ القَنَا ... مَا زَادَهَا التَّثْقِيفُ إِلاَّ ضَغَنَا
وقال آخر :
4484 . ... كَذَاتِ الضَّغْنِ تَمْشِي فِي الرِّقَاقِ
والاضطغَانُ الاحتواء على الشيء أيضاً ومنه قولهم : اضطَغَنْتُ الصَّبِيَّ إِذَا احتضنته وأنشد :
4485 كَأَنَّه مُضْطَغِنٌ صَبِيًّا ... وقال الآخر :
4486 وما اضطَغَنْتُ سِلاَحِي عِنْدَ مَعْرَكِهَا ..
وفرسٌ ضَاغِنٌ لا يجري إِلاَّ بالضَّرْبِ .
فصل
قال المفسون : أضغانهم أحقادهم على المؤمنين فيُبْدِيها حتى تعرفوا نفاقهم . وقال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أضغانهم حَسَدَهُمْ .
قوله : { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ } من رؤية البصر؛ وجاء على الأفصح من اتصال الضميرين ولو جاء على أرينك إياهم جاز . وقال ابن الخطيب : الإرَاءَةُ هنا بمعنى التعريف .

قوله : « فَلَعَرَفْتَهُمْ » عطف على جواب « لو » وقوله : « وَلَتَعْرفنَّهُمْ » جواب قسم محذوف .
قال المفسرون : معنى الكلام : لأريناكهم أي لأعلمناكهم وعَرَّفْنَاكَهُمْ فَلَتَعْرِفَنَّهُمْ بِسِيماهُمْ : بعلامتهم . قال الزجاج : المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها . قال « أنس » : فأخفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم .
قوله : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول } أي في معناه ومقصده . واللحن يقال باعتبارين :
أحدهما : الكناية بالكلام حتى لا يفهمه غير مخاطبك . ومنه قول القَتَّال الكِلاَبي ( رحمه الله ) في حكاية له :
4487 وَلَقَدْ وَحَيْتُ لكيْمَا تَفَهْمُوا ... وَلَحَنْتُ لَحْناً لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ
وقال آخر :
4488 وَمَنْطِقٌ صَائِبٌ وَتَلْحَن أحْيَاناً ... وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنَا
واللَّحْنُ : صرف الكلام من الإعراب إلى الخطأ . وقيل يجمعه هو والأول صرف الكلام عن وجهه . يقال من الأول : لَحَنْتُ بفتح الحاء أَلْحَنُ له فَأَنَا لاَجِنٌ . وأَلْحَنْتُ الكَلاَمَ أَفْهَمْتُهُ إياه فَلحِنَهُ بالكسر أي فهمه فهو لاحن . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ » .
ويقال من الثاني : لَحِنَ بالكسر إذا لم يُعْرب لهو لَحِنٌ .
فصل
معنى الآية أنك تعرفهم فيما يُعَرّضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم ، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عَرَفَهُ بقوله ويستدل بفحوى كلامه على فساد دَخْلَتِهِ . قال ابن الخطيب : معنى الآية لن يُخْرِجَ الله أضغانهم أي يُظْهِرَ ضمائرهم ويُبْرِزَ سرائرهم ، وكأن قائلاً قال : فِلمَ لَمْ يُظْهر؟ فقال : أخرناه لمحْض المشيئة لا لخوف منهم ولو نشاء لأريناكم أي لا مانع لنا والإراءة بمعنى التعريف .
وقوله : « فَلَعَرفتهُمْ » لزيادة فائدة وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزم منه المعرفة يقال : عَرَّفْتُهُ ولَمْ يَعْرِف وفَهَّمْتُهُ ولَمْ يَفْهَمْ فقال ههنا : فَلَعَرَفْتَهُمْ يعني عَرَّفْنَاهُمْ تَعْرِيفاً تعرفهم به إشارة إلى قوة التعريف . واللام في قوله : « فلعرفتهم » هي التي تقع في خبر « لو » كما في قوله : « لأَرَيْنَاكَهُمْ » أدخلت على المعرفة إشارة إلى المعرفة المرتبة على المشيئة كأنه قال : ولو نشاء لعرفتهم لتفهم أنَّ المعرفة غير متأخرة عن التعريف فتفيد تأكيد التعريف أي لو نشاء لعرفنانك تعريفاً معه المعرفة لا بعده . وقوله : { فِي لَحْنِ القول } أي في معنى القول حيث يقولون ما معناه النفاق ، كقولهم حين مجيء النصر : { إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } [ العنكبوت : 10 ] وقولهم : { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة } [ المنافقون : 8 ] وقولهم : { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } [ الأحزاب : 13 ] ويحتمل أن يكون المراد قولهم ما لم فأمالوا كلامهم كما قالوا : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُون } [ المنافقون : 1 ] .
ويحتمل أن يكون المراد من لَحْنِ القَوْل هو الوجه الخفي من القول الذي يفهمه النبي عليه الصلاة والسلام ولا يفهمه ( غيره .

فالنبي عليه صلى الله عليه وسلم كان يعرف )
المنافقين ولم يظهر أمرهم ، لى أن أذن الله له في إظهار أمرهم ، ومنع من الصلاة على جنائزهم ، والقيام على قبورهم .
« بِسيماهُمْ » الظاهر أن المراد أنه تعالى لو شاء لجعل على وجوههم علامة أو يسمخهم كما قال : { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ } [ يس : 67 ] . وروي أن جماعة منهم أصبحوا وعلى جباههم مكتوب هذا منافقٌ ثم قال تعالى : { والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } وهذا وعد للمؤمنين وبيان لكون حالهم بخلاف حال المنافقين .
قوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ . . . وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } قرأ أبو بكر الثلاثة بالياء من أسفل يعني الله تعالى . والأعمش كذلك وتسكين الواو ( والباقون بنون العظمة . ورُوَيْسٌ كذلك وتسكين الواو والظاهر قطعة عن الأوّل في قراءة تسكين الواو ) ويجوز أن يكون سكن الواو تخفيفاً كقراءة الحسن : { أَوْ يَعْفُوَاْ الذي } [ البقرة : 237 ] بسكون الواو .
فصل
المعنى : لنُعَامِلَنَّكُمْ معالمة المختبر بأن نأمركم بالجهاد والقتال { حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين } أي علم الوجود والمشاهدة فإن تعالى قد علمه علم الغيب يريد نبين المجاهد الصابر على دينه من غيره وقوله : { وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } أي يظهرها ويكشفها بإباء من يأبى القتال ولا يَصْبِرُ على الجهاد .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله وَشَآقُّواْ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى } قيل : هم أهل الكتاب قُرَيْظَةُ والنَّضِيرُ لأن أهل الكتاب تبين لهم صدق محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : هم كفا رقريش . { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } إنما يضرون أنفسهم وهذا تهديد { وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } فلا يُبْقي لهم ثواباً في الآخرة . قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) هم المُطْعمُونَ يوم بدر . نظيرها قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } [ الأنفال : 36 ] وقيل : الأعمال ههنا مكايدهم في القتال .
قوله : { ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ } قال عطاء : بالشك والنفاق . وقال الكلبي : بالرِّياء والسمعة . وقال الحسن : بالمعاصي والكبائر . وقال أبو العالية : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أ ، ه لايضر مع الإخلاص ذنب ، كما لا ينفع مع الشِّرك عمل فنزلت هذه الآية فخافو الكبائر أن تحبط الأعمال . وقال مقاتل : لا تَمُنُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبطلوا أعمالكم نزلت في بني أسد قال تعالى : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] فإنه يقول : فعلته لأجل قلبك ولولا أرضاك به لما فعلت وهذا مناف للإخلاص والله لا يقبل إلاَّ العَمَلَ الخالص .
قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } قيل : هم أصحاب القَليب . وقيل : اللفظ عام .
قوله : { فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم } يجوز جزم « تَدْعُوا » عطفاً على فعل النهي ونصبه بإضمار أن في جواب النهي . وقرأ أبو عبد الرحمن : بتشديد الدال فقال الزمخشري : مِن ادَّعَى القَوْمُ وتَدَاعَوْا مثل ارْتَمَوا الصَّيَد ، وتَرَامَوْا . وقال غيره : بمعنى تغتروا . وتقدم الخلاف في السِّلْمِ .
فصل
لما بين أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات يحبط وذنبه الذي هوأقبح السيئات غير مغفور وأمر بطاعة الله وطاعة الرسول أمر بالقتال فقال : « فَلاَ تَهِنُوا » أي لا تَضْعُفُوا بعدما وجد السبب وهو الأمر بالجِدِّ والاجتهاد في القتال فقال : { فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم } أي إلى الصلح أبتداء فمنع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلما .
قوله : { وَأَنتُمُ الأعلون } جملة حالية ، وكذلك { والله مَعَكُمْ } وأصل الأَعْلونَ الأَعْلَيُونَ فَأُعِلًّ .
قال ابن الخطيب : أصله في الجمع الموافق أَعْلَيُونَ ومُصْطَفَيُونَ فسكنت الياء لكونها حرف علة تحرك ما قبله والواو كانت ساكنة فالتقى سكنان فلم يكن بُدٌّ من حذف أحَدِهِما وتحريك الآخر والتحريك كان قد ثبت في المحذور الذي اجتنب منه فوجب الحذف والواو فيه كانت لمعنى لا يستفاد إلاَّ منها وهو الجمع فأسقطت الياء وبقي أَعْلَوْنَ .

وبهذا الدليل صار في الجرِّ أَعْلَيْنَ ومُصْطَفَيْنَ . ومعنى الأعلون الغالبون قال الكلبي : أخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات { والله مَعَكُمْ } بالعَوْنِ والنُّصْرَةِ .
قوله : { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي ينقصكم أو يفردكم عنها ، فهو من وَتَرْتُ الرَّجُلَ إذا قتلت له قتيلاً أو نَهَبْتَ مَالَهُ . أو من الوضتْر وهو الانفْراد . وقيل : كلا المعنيين يرجع إلى الإفْراد ، لأن من قُتَل له قتيل ، أو نهبَ له مال فقد أفرد عينه فمعنى : « لن يتركم أعمالكم » لَنْ يَنْقُصكُمْ شيئاً من ثواب أعمالكم يقال : وَتَرَه يَتِرُهُ وَتْراً وترَةً إذَا نقصه حَقَّهُ .
قال ابن عباس : ( رضي الله عنهما ) وقتادة والضحاك : لن يَظْلِمَكُمْ أعمالكم الصالحة أن يؤتيكم أجورها . ثم حضَّ على طلب الآخرة فقال : { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } باطل وغرور { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ } الفواحش { يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } جزاء أعمالكم في الآخرة { وَلاَ يَسْأَلْكُمْ } ربكم { أَمْوَالَكُمْ } لإتتاء الأجر بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم عليها الجنة . نظيره قوله : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ } [ الذاريات : 57 ] . وقيل : لا يسألكم محمد أموالكم نظيره : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ ص : 86 ] . وقيل : معنى الآية لا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها في الصدقات إنما يسألانِكم غيضاً من فيض رُبع العشر فطيبوا بها نفساً . قاله ابن عُيَيْنَةَ . ويدل عليه سياق الآية .
قوله : « فَيُحْفِكُمْ » عطف على الشرط و « تَبْخَلُوا » جاب الشرط . قال ابن الخطيب : الفاء في قوله : « فَيُحْفِكُمْ » لِلإشارَة إلى أن الإحْفَاءَ يتبع السؤال لشُحِّ الأَنْفُس ، وذلك لأن العطف بالواو قد يكون لمباينين وبالفاء لا يكون إلا للمتعاقبين ، أو متعلقين أحدهما بالآخر فكأنه تعالى يبين أن الإحْفَاء يقع عقيبَ السؤال لأن الإنسان بمجرد السؤال لا يعطي شيئاً . قال المفسرون : فيُحْفِكُمْ يُجْهِدُكم وبلحف عليكم بمسألة جميعها يقال : أَحْفَى فلانٌ فلاناً إذا جهده وَألحَفَ قلبهُ في المسألة .
قوله : { تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } العامة على إسناد « يُخْرِجْ » إلى ضمير فاعل إما الله تعالى أو الرسول أو السّؤَال؛ لأنه سبب وهو مجزوم عطفاً على جواب الشرط وروي عن أبي عمرو رفعه على الاستئنَافِ وقرأ أيضاً بفتح الياء وضم الراء ورفع « أَْضْغَانُكُمْ » فاعلاً .
وابن عباس في آخرين وتَخْرُجْ بالتاء من فوق وضم الراء أضْغَانُكُمْ فاعل به . ويعقوب وَنخْرِجْ بنون العظمة وكسر الراء أضْغَانَكُمْ نصباً .
وقرىء : وَيُخْرَجْ بالياء على البناء للمفعول أضْغَانُكُمْ رفعاً به . وعيسى كذلك إلا أنه نصبه بإضمار أن عطفاً على مصدر متوهم أي بأن يُكَفَّ بُخْلُكُمْ وإخْرَاجَ أضغَانِكُمْ بُغْضُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ .
فصل
قال قتادة : علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأَضْغَان يعني ما طلبها ولو طلبها وألحَّ عليكم في الطلب لبخلتم كيف وأنتم تبخلون باليسير فكيف لا تبخلون بالكثير فيخرج أضغانكم بسببه . فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا طلبوا منكم وأنتم لمحبة الأموال وشُحِّ الأنفس تمتنعون فيفضي إلى القتال وتظهر به الضغائن .

ثم بين ذلك بقوله : { هَا أَنتُمْ هؤلاء } قد طلبت منكم اليسير فيحكم فكيف لو طلبت منك الكل؟
قوله : { هَا أَنتُمْ هؤلاء } ( قال الزمخشري : هؤلاء ) موصول صلته « تدعون » أي أنتم الذين تدعون أو أنتم يا مخاطَبُون هؤلاء المؤمنون . ثم استأنف وصفهم كأنهم قالو : وما وَصْفُنَا؟ فقيل : تُدْعَوْنَ . وقال ابن الخطيب : « هؤلاء » تحتمل وجهينِ :
أحدهما : أن تكون موصولة كأنه قال : أنتم الذين تُدْعَوْنَ لتنفقوا في سبيل الله .
وثانيهما : هؤلاء وحدها خبر « أنتم » كما يقال : « : أنت ( أنت و ) أنت هذا تحقيقاً لشهرة والظهور أي ظهور أثركم بحث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمْر مغاير . وقد تقدم الكلام على قوله : { هَا أَنتُمْ هؤلاء } مُشْبَعاً في آلِ عِمْرَانَ .
وقوله : » تُدْعَوْنَ « أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله بالجهاد وإما صرفه إلى المستحقين من إخوانكم . قوله : { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } بما فرض عليه من الزكاة { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } أي إن ضرر ذلك البخل عائد إليه فلا تظنوا أنهم ينفقون على غيرهم بل لا ينفقونه إلا على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة ( الطّبيب ) وثمن الدواء وهو مريضٌ فلا يبخل إلا على نفسه ثم حقق ذلك بقوله : { والله الغني } أي غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله : { وَأَنتُمُ الفقرآء } إليه وإلى ما عنده من الخير حتى لا تقولوا بأنا أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء .
قوله : { يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } بَخِلَ وضنَّ يتعديان ب » عَلَى « تارةً وب » عَنْ « أخرى .
والأجود أن يكون حال تعديهما ب : عَنْ » مُضَمَّنَيْن معنى الإمساك .
قوله : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } هذه الجملة ( الجملة الشرطية عطف على ) الشرطية قبلها . و « ثُمَّ لاَ يَكُونُوا » عطف على « يَسْتَبْدِلْ » .
فصل
ذكر بيان الاستغفار كما قال تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [ فاطر : 16 ] قال المفسرون : إن تَتَوَلَّوْا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم . قال الكلبي : هم كِنْدَةُ والنَّخْعُ .
وقال الحسن : هم العجم . وقال عكرمة : فارس ( والروم ) لما روى أبو هريرة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } قال يا رسول الله : من هؤلاء الذين إن تولينا اسْتُبْدِلُوا بنا ، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فَخدِ سَلْمَانَ الفَارسيِّ ثم قال : هذا وقومه ولو كان الدين عند الثُّرَيَّا لتناوله ورجالٌ من الفرس . وقيل : هم قوم من الأنْصارِ » .
فصل
قال ابن الخطيب : ههنا مسألة ، وهي أن النُّحَاةَ قالوا : يجوز في المعطوف على جواب الشرط « بالواو والفاء وثُمَّ » الجزم والرفع ، تقول : إنْ تَأتِنِي آتِكَ فَأُخْبِرُكَ بالجزم والرفع جميعاً ، قال الله تعالى ههنا { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } وقال { ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } بالجزم وقال في موضع آخر :

{ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } [ آل عمران : 111 ] بالرفع ، لإثبات النون . وفيه تدقيق : وهو أن قوله : « لاَ يَكُونُوا » متعلق بالتوالي؛ لأنهم إن لم يَتَوَلَّوْا يَكُونوا مثلَ من يأتي بهم الله على الطاعة وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي بهم مطيعين . وأما هناك سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون ، فلم يكن التعلق هناك بما وقع بالابتداء وهنا جزم . وقوله : { يكونوا أَمْثَالَكُم } في الوصف لا في الجنس .
روى أُبَيُّ بن كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ قَرَأَ سُورَة مُحَمَّدٍ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَسْقِيهُ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ » ( صدق رسول اله صلى الله عليه وسلم وشرفَ وكرمَ ) .

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

قوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } اختلفوا في هذا الفتح فروى أنس أنه فتح مكة وقال مجاهد : فتح خيبر . والأكثرون على أنه فتح الحديبية ، وقيل : فتح الروم . وقيل : فتح الإسلام بالحُجَّة والبُرْهَان والسَّيْفِ والسِّنان . وقيل : الفتح الحكم لقوله تعالى : { افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } [ الأعراف : 89 ] وقوله : { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق } [ سبأ : 26 ] . فمن قال : هو فتح مكة قال : لأنه مناسب لآخر السورة التي قبلها من وجوه :
أحدهما : أنه تعالى لما قال : { هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله } إلى أن قال : { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } وبين تعالى أنه فَتَحَ لهم مكة ، وغَنِموا ديراهم ، وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا؛ ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم .
وثانيها : لما قال : « واللهُ مَعكُمْ » وقال : « وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ » بين برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون .
وثالثها : لما قال تعالى : { فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم } وكان معناه لا تسألوا الفتح بل اصبروا فإنكم تسألون الصلح كما كان يوم الحديبية فكان المراد فتح مكة حيث أتوا صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ومستسلمين .
فإن قيل : إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن فتحت فكيف قال : فتحنا بلفظ الماضي؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : فتحنا في حُكْمِنا وتَقْدِيرِنا .
والثاني : ما قدره الله تعالى فهنو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمرٌ واقعٌ لا دَافِعَ له .
وأما حجة رأي الأَكْثرِين على أنه صلح الحديبية فلِمَا رَوَى البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نَعُدُّ الفتحَ بيعةَ الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عَشْرَةَ مائةً والحديبيةُ بئرٌ فَنَزَحَنَاهَا فلم تنزل قَطْرَةٌ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناءٍ من ماءٍ فتوضأ ثم تَمَضْمَضَ ودعا وَصبَّهُ فيها فتركناها غير بعيد . ثم إنها أَصْدَرَتْنَا ما شئنا نحن وركابنا . قال الشعبي في قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } قال : فتح الحديبية غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأطعموا نَخْل خيبر ، وبلغ الهديْ مَحِلّه وظهرت الروم على الفرس ففرح المؤمنون بظهر أهل الكتاب على المَجُوسِ . قال الزهري : ولم يكن فتح أعظمُ من صُلْحِ الحُدْيبِيَةِ ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاثِ سنين خلق كثير وكثر سَواَدٌ الإسلام ، قال المفسرون : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } أي قضينا لك قَضَاءً بَيِّناً .
قوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله } متعلق « بِفَتَحْنَا » وهي لام العلة . وقال الزَّمَخْشَرِيُّ :
فإن قلتَ : كيف جعل فتح مكة علَّةً للمغفرة؟
قلتُ : لَمْ تُجْعل علة للمغفرة ولكن لما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة ، وِإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز كأنه قال : يَسَّرْنَا لَكَ فَتْح مكة ، ونَصَرْنَاك على عدوك ليجمع لك بين عِزِّ الدَّارَيْن ، وإعراض العاجل والآجل .

ويجوز أن ( يكون ) فتح مكة من حيث إنَّهُ جهادٌ للعدو سبَباً للغُفْران والثواب . وهذا الذي قاله مخالف لظاهر الآية ، فإن اللام داخلة على المغفرة فتكمون المغفرة علة للفتح والفتح معلَّلٌ بها فكان ينبغي أن يقول : كيف جعل فتح مكة معلَّلاً بالمغفرة؟ ثم يقول : لم يجعل مُعَلَّلاً؟
وقال ابن الخطيب في جواب هذا السؤال وجهين : آخرين؛ فقال بعد أن حكى الأول وقال : إنَّ اجتماع الأربعة لم يثبت إلاَّ بالفتح فإنَّ النعمةَ به تَمَّتْ ، والنُّصْرَةَ به عَمَت : الثاني : أن فتح مكة كان سبباً لتظهير بيت الله من رِجْز الأوثان وتظهير بيته صار سبباً لتظهير عبده . الثالث : أن الفتح سبب الحِجَج ، والبحَجِّ تحصل المغفرة كما ال عليه الصلاة والسلام في الحج « اللَّهُمّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُوراً وَسَعْياً مَشْكُوراً وَذَنْباً مَغْفُوراً » .
الرابع : المراد منه التعريف تقديره : إنَّا فتحنا لك لِتَعْرفَ أنك مغفور لك معصوم . وقال ابن عطية : المراد هنا أن الله فتح لك لِكَيْ يجعل الفتح علامة لَغُفْرَانِهِ لك فكأنها لام صيرورة . وهذا كلام ماش على الظاهر ، وقال بعضهم : إنَّ هذه اللام لام القَسَم والأصل : لَيَغْفِرَنَّ فكسرت اللام تشبيهاً بلام « كي » ، وحذفت النون . وَرُدَّ هذا بِأن اللام لا تكسر ، وبأنها لا تنصب المضارع .
وقد يقال : إنَّ هذا ليس بنصب وإنما هو بقاءُ الفتح الذي كان قبل نون التوكيد بَقِيَ ليدل عليها ولكنه قول مردودٌ .
فصل
لم يكن للنبي صلى لله عليه وسلم ذنب فما يغفر له؟ فقيبل : المراد ذنب المؤمنين . وقيل : المراد ترك الأفْضل . وقيل : الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعَمْد . قال ابن الخطيب : وهي تصونهم عن العُجْبِ . وقيل : المراد بالمغفرة العِصْمة . ومعنى قوله : « وَمَا تَأَخَّر » قيل : إنه وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يذنب بعد النُّبُوَّة . وقيل : ما تقدم على الفتح .
وقيل : هو للعموم ، يقال : اضْرِبْ مَنْ لَقِيتَ وَمَنْ لاَ تَلْقَاهُ مع أن من لا تلقاه لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم . وقيل : من قبل النبوة وبعدها ومعناه ما قبل النبوة بالفعو وما بعدها بالعصمة . وفيه وجوه أُخر ساقطة . قال ابن الخطيب : منها قول بعضهم : ما تقدم من أمر « مَارِيَةَ » « وَمَا تَأَخَّر » من أمر « زَيْنَبَ » وهو أبعد الوجوه وأَسْقَطُهَا لعدم الْتِئَامِ الكَلاَمِ .
قوله : { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } قيل : إنَّ التكاليفَ عند الفتح تَمْتْ حيث وَجَب الحَجُّ وهو آخر التكاليف والتكاليف نعمة وقيل : يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض من مُعَانِدِيكَ ، فإنَّ مِنْ يوم الفتح لم يبق للنبي صلى الله عليه وسلم عدوٌّ ، فإن بعضهم قُتِلَ يوم بدر ، والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح .

وقيل : ويتم نعمته عليك في الدنيا والآخرة ، وأما في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح ، وفي الآخرة : بِقبول شفاعتك .
فصل
قال الضحاك : إنَّا فتحنا لك فتحناً مبيناً بغير قتال ، كان الصلح من الفتح . فإنْ كانت اللام في قوله : « لِيَغْفِرَ » لام كي فمعناه إنَّا فَتَحْنَا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة تَمَامُ النعمة في الفتح . وقال الحسن بن الفضل : هو مردود إلى قوله : « واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلمُؤْمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك ، وما تأخر ، وليُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار » .
وقال محمد بن جرير : هو راجع إلى قوله : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا } [ النصر : 13 ] ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك في الجاهلية قبل الرسالة « وما تأخر » إلى وقت نزول هذه السورة .
وقيل : ما تأخر ممايكون . وهذا على طريق من يجوز الصغائر على الأنبياء . وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ : « ما تقدم » مما عملت في الجاهلية « وما تأخر » كل شيء لم تعمله كما تقدم .
وقال عطاء الخراساني : { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ } يعني ذنب أبويك آدَمَ وحوّاء ببركتك ، « وَمَا تَأَخَرَ » ذنوب أمتك بدعوتك . { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بالنبوة والحكمة .
قوله : { صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } قيل : يهدي بك . وقيل : يُديمك على الصراط المستقيم ، وقيل جعل الفتح سبب الهداية إلى الصراط المستقيم لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بفوائده ( و ) العادجلة والآجلة . وقيل : المراد التعريف ، أي لتعرف أنك على صراط مستقيم . ثم قال : { وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً } غالباً . وقيل : مُعِزًّا؛ لأن بالفتح ظهر النصر .
فإن قيل : إنَّ الله تعالى وصف النَّصْر بكونه عزيزاً من له النصر!
فالجواب من وجهين :
أحدهما : قال الزمخشري : إنه يحتمل وجوهاً ثلاثة :
الأول : معناه نصراً ذا عزة ، كقوله : { فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] أي ذَاتِ رِضاً .
الثاني : وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال لَهُ كَلاَمٌ صَادِقُ كما يقال له متكلم صادق .
الثالث : المراد نصراً عزيزاً صَاحِبُهُ .
الوجه الثاني : أن يقال إنما يلزم ما ذكره الزمخشريُّ إذا قلنا : العزة هي الغلبة والعزيز الغالب . وأما إذا قلنا : العزيز هو النفيس القليل النظير ، أو المحتاج إليه القليل الوجود ، يقال : عَزَّ الشَّيْءُ في سُوقِ كَذَا أي قَلَّ وُجُودُهُ مع أنه مُحْتَاحٌ إليه ، فالنصرُ كان محتاجاً إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت الله من الكفار المقيمين فيه من غير عَدَ ولا عُدَدٍ .
فصل في البحث المعنوي
وهو أن الله تعالى لما قال : { لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ } أبرز الفاعل وهو الله ، ثم عطف عليه بقوله : « ويُتِمّ » وبقوله : « ويَهْدِيكَ » ولم يذكر لفظ الله على الوجه الحسن في الكلام وهو أن الأفعال الكثيرة إذا صدرت من فاعل يظهر اسمه في الفعل ، ولا يظهر فيما بعد تقول : « جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَدَ وَتَكَلََّمَ وَرَاحَ وَقَامَ » ولا تقول جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَدَ زَيْدٌ ، بَلْ جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَد ، اختصاراً للكلام بالاقتصار على الأوّل ، وههنا لم يثقل : « وَيَنْصُرَكَ نَصْراً » بل أعاد لفظ الله وجوابه هذا إرشاد إلَى طريق النَّصر ولهذا قَلَّمَا ذَكَرَ الله النَّصْرَ من غير إضافة فقال تعالى :

{ وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } [ الحج : 40 ] ولم يقل : بالنَّصْر يُنْصَرُ وقال : { هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } [ الأنفال : 62 ] ولم يقل : أيدك بالنصر ، وقال : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } وقال : { نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } [ الصف : 13 ] ، وقثال : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } [ آل عمران : 126 ] ، وهذا أدل الآيات على مطلوبها .
وتحقيقه هو أن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى : { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } [ النحل : 127 ] وذلك لأن الصبر سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله ( تعالى ) كما قال تعالى : { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } فلما قال ههنا : « وَيَنْصُركَ اللهُ » أ؟هر لفظ الله ، ليُعْلَمَ أن بذكر الله اطمئنان القلب وبه يحصل الصبر وبه يتحقق النصر .
فصل
قال : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ } ثم قال : { لَكَ الله } ، ولم يقل : « إنَّا فَتَحْنَا لِيَغْفِرَ لَكَ » تعظيماً لأمر الفتح وذلك لان المغفرة وإن كانت عظيمة لكنها عامة لقوله تعالى : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] وقال : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 116 ] فإن قلنا : المراد من المغفرة في حق النبي صلى الله عليه سولم فكذلك لم يختص به نبينا ، بل غيره من الرسل كان معصوماً وإتمام النعمة كذلك قال تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] وقال تعالى : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 47 و122 ] وكذلك الهداية قال تعالى : { يَهْدِي الله } [ النور : 35 ] وكذلك النصر ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 171172 ] وأما الفتح فلم يبق لأحد غير النبي صلى لله عليه ونسلم فعظَّمه بقوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } وفيه التعظيم من وجهين :
أحدهما : قوله : « إنَّا »
والثاني : قوله : « لَكَ » أي لأجلك على وجه المِنَّةِ .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

قوله تعالى : { هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين } لما قال تعالى : { وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً } [ الفتح : 3 ] بين وجه النصر ، وذلك أن الله تعالى قد ينصر رسله بصحيةٍ يهْلِكُ بها أعداؤُهُمْ ، أو رَجْفَةٍ يُحْكَمُ فيها عليهم بالفَنَاءِ ، أو بشيءٍ يْرْسِلُهُ مِن السَّمَاء ، أو يصبر وقوة وثبات قلبٍ يرزق المؤمنين ليكون لهم بذلك الثواب الجزيل ، فقال : { هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة } أي تحقيقاً للنصر . والمراد بالسكينة قيل : السكون ، وقيل : الوَقَار لله . وقيل : اليقين . قال أكثر المفسرين : هذه السكينة غير السكينة المذكورة في قوله تعالى : { يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 248 ] . ويحتمل أن تكون هي تلك؛ لأن المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلب .
فصل
قال الله تعالى ( في حق الكفار ) { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } [ الأحزاب : 26 ] [ الحشر : 43 ] بلفظ القذف المُزعِج وقال في حق المؤمنين : { أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين } بلفظ الإنزال المثبت .
وفيه معنى حكميّ وهو أن من علم شيئاً من قبل ويذكره استدام بذكره ، فإذا وقع لا يَتَغَيَّر ومن كان غافلاً عن شيء فيقع رفعه فإنه يَرْجُفُ فؤاده ، ألا ترى أن من أخبر بوقوع صَيْحَةٍ ، وقيل ( له ) لا تنزعج منها فوقعت الصيحة لا يَرْتَجِفُ ومنل م يخبر به أو أخبر وغفل عنه يرتجف إذا وقعت . كذلك الكافر أَتَاهُ الله من حيث لم يحتسب وقذف في قلبه الرُّعْبَ ، فارْتَجَفَ ، والمؤمن أُتِيَ من حيث كان يذكر فسكن ، فلا تزعج نفوسهم لما يرد عليهم . قال ابن عباس : كل سكينة في القرآن فهي طمأنِينَةٌ إلاَّ التي في سورة البقرة .
قوله : { ا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } ، قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) بَعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدقوا زادهم الصلاة ، ثم الزكامة ، ثم الصِّيام ، ثم الحجّ ، ثم الجِهَاد حتى أكمل لهم دينهم وكُلَّمَا أُمِرُوا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم . وقال الضحاك : يقيناً مع يقينهم ، وقيل : أنزل السكينة عليهم فَصَبَرُوا ورأوْا عَيْنَ القين ما علموا النصر علم اليقين إيماناً بالغيب فازدادوا إيماناً مُسْتَفَاداً من الغيب مع إيمانهم المستفادِ من الشهادة . وقيل : ازدادوا إيماناً بالفروع مع إيمانهم بالأصول فإنهم آمنوا بأن محمداً رسولُ الله ، فإن الله واحدٌ ، والحَشْرَ كائنٌ فآمنوا بأن كُلَّ ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم فهو صدق ، وكُلَّ ما يأمر الله تعالى به فهو واجب .
وقيل : ازدادوا إيماناً استدلاليًّا مع إيمانهم الفطري .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في حق الكفار : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] ولم يقل مع كفرهم وقال في حق المؤمنين : { ا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } ؟
فالجواب : أن كفر الكافر عِنَادِيّ ، وليس في الوجود كُقْرٌ فِطْريّ ، ولا في الوجود كفر عِنَادِيّ لينضمَّ إلَى الكفر الفطري بل الكفر ليس إلا عناداً وكذلك الكفر بالفروع لا يقال : انضم إلى الكفر بالأصول ، لأن من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعهة والانقياد ، ولهذا قال : { ا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } .

قوله : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض } فهو قادر على أهلاك عَدُوِّهم بجنود ، بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائه بأديهيم فيكون لهم الثواب . والمراد بجنود السموات والأرض الملائكة ، وقيل : جنود السموات الملائكة وجنود الأرض الجنُّ والحَيَوَانَاتُ . وقيل : الأسباب السماوية .
{ وَكَانَ الله عَلِيماً } لما قال : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض } وعددهم غير محصور فقال « عَليماً : إشارة إلى أنه لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض . وقيل : لما ذكر القلوب بقوله : { أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين } والإيمان الذي من عَمَلِ القُلُوب ذكر العلم إشارة إلى أنه يَعْلَمُ السِّرََّ وأخفى . وقوله » حكيماً « بعد » عليماً « إشارة إلى أنه يفعل على وَفْق العلم ، فإن الحكيم من يعمل شيئاً متقناً وبعلمه .
قوله تعالى : { لِّيُدْخِلَ المؤمنين } في متعلق هذه اللام أربعة أوجه :
أحدهما : محذوف تقديره : يبتلي بتلك الجنود من شاء فيقبل الخبر ممن أهَّلَهُ له والشَّرَّ ممن قضى له به ليدخل ويعذب .
الثاني : أنها متعلقة بقوله : » إِنَّا فَتَحْنَا « لأنه روي أن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم هنيئاً لك إن الله غَفَر لك فما بالنا؟ فنزلت الآية فكأنه تعالى قال : إنا فتحنا لك ليغفر لك وفتحنا للمؤمنين ليُدْخِلَهُمْ جناتٍ .
الثالث : أنها متعلقة ب » يَنْصُرَكَ « كأنه تعالى قال : وينصرك الله بالمؤمنين ليدخل المؤمنين جنات .
الرابع : أنها متعلقة ب » يَزْدَادُوا « واستشكل هذا بأن قوله : » ويعذب « عطف عليه وازديادهم الإيمان ليس سبباً عن تعذيب الله الكفار . وأجيبَ : بأن اعتقادهم أن الله يعذب الكفار يزيد في إيمانهم لا محالة .
وقال أبو حيان : والازْدِيَادُ لا يكون سبباً لتعذيب الكفار . وأجيب : بأنه ذكر لكونه مقصوداً للمؤمن كأنه قيل : بسبب ازدِيَادِكم في الإيمان يدخلكم الجنة ويعذب الكفار بأيديكم في الدنيا . وفيه نظر لأنه كان ينبغي أن يقول : لا يكون مسبَّباً عن تعذيب الكفار وهذا يشبه ما تقدم في قوله : » لِيَغْفِرْ لَكَ اللهُ « .
وأجاب ابن الخطيب بوجهين آخرين :
أحدهما : ( تقديره ) ويعذب نَقِيضَ ما لكم من الازْدِياد ، يقال : فعلت لأخبر به العدوَّ والصديق أي لأعرف بوجوده الصديق وبعدمه العدو ، فكذا ههنا ليزداد المؤمن إيماناً يُدْخِلُهُ الجنة ويزداد الكافر كفراً فيعذبه ( به ) .
وثانيهما : أن بسبب زيادة إيمان المؤمن يَكْثُرُ صَبْرُهُمْ وثباتهم ويتعب المنافق والكافر معه ويتعذب .
ثم ذَكَرَ وجوهاً أخر في تعلق الجار منها : أن الجار يتعلق بقوله : » حَكِيماً « كأنه تعالى قال : وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ لأن الله حكيم فَعَلَ ما فَعَلَ ليدخل المؤمنين .

ومنها : أن يتعلق بقوله : « ويتم نِعْمَتَهُ عليك » فيستجيب دعاءك في الدنيا ويقبل شفاعتك في العُقْبَى ليدخل المؤمنين جنات . ومنها : أن يتعلق بأمر مفهوم من قرينة الحال وهو الأمر بالقتال لأنه لما ذكر الفتح والنصر علم أن الحالَ حالُ القِتَال ، فكأنه تعالى قال : إنَّ الله تعالى أَمَرَ بالقتال ليدخل المؤمنين ، أو عرف من قرينة الحال أَنَّ الله اختار المؤمنين ( فكأنه تعالى قال : اختار المؤمنين ) ليدخلهم جنات .
فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ذكر في بعض المواضع المؤمنين والمؤمنات وفي بعضها اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كقوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] وقوله : وَبَشِّرِ الْموْمِنينَ بِأَنَّ لَهُمْ ( مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً ) ؟
فالجواب : أنه في المواضع التي فيها ما يُوهم اخْتِصَاصَ المؤمنين بالخير الموعود به مع مُشَارَكَةِ المؤمنات لهم ذَكَرَهُنَّ الله صريحاً وفي المواضع التي فيها ما يوهم ذلك اكتفى بدخولهن في المؤمنين كقوله : « وبشر المؤمنين » مع أنه علم من قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } [ سبأ : 28 ] العموم ، فلا يوهم خروج المؤمنين عن البشارة . وأما ههنا فلما كان قوله تعالى : { لِّيُدْخِلَ المؤمنين } متعلّقاً بفعل سابق وهو إما الأمر بالقتال أو الصبر فيه ، أو النصرة ( بالمؤمنين ) أو الفتح بأيديهم على ما تقدم .
فَإدْخَالُ المؤمنين كان للقتال والمرأة لا تُقَاتِلُ فلا تدخل الجَنَّةَ الموعدَ بها فصرح الله بِذكرِهِنَّ ، وكذا في قوله تعالى : { إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } [ الأحزاب : 35 ] ؛ لأن الموضع ذكر النساء وأحوالهن لقوله : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى وَأَقِمْنَ . . . وَآتِينَ . . . وَأَطِعْنَ . . . واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 3334 ] فكان ذكر النساء هنا ( ك ) أصلاً لكن الرجال لما كان لهم ما للنساء من الأمر العظيم ذكرهم وذكرهن بفلظ مفرد من غير تبعية لما بينا ( أنَّ الأصل ذكرهن في ذلك الموضع ) .
قوله : { وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } فيه سؤال وهو أن تكفير السيئات قبل الإدخال فكيف ذكره بعد ذكر الإدخال؟ والجواب من وجهين :
أحدهما : أن الواو لا تقتضي التريتب .
والثاني : أن تكفير السيئات والمغفرة من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الإدخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة .
قوله : { ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً } « عِنْدَا اللهِ » متعلق بمحذوف على أنه حال من « فَوْزاً » لأنه صفته في الأصل . وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفاً لمَكَان . وفيه خلاف . وأن يكون ظرفاً لمحذوف دل عليه الفوز ، أي يفوزون عند الله ولا يتعلق « بفَوْزاً » ؛ لأنه مصدر فلا يتقدم معموله عليه . من اغتفر ذلك في الظرف جوزه . قال ابن الخطيب : معناه أن ذلك الإدخال والتكفير في علم الله فوز عظيم يقال : عندي هذا الأمر على هذا الوجه أي في اعتقادي .

قوله تعالى : { وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات . . . } الآية .
اعلم أنه قدم المنافقين على المشركين في كثير من المواضع لأمور :
أحدها : أنهم كانواأ شد على المؤمنين من الكافر المجاهر؛ لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر ويخالط المنافق لظنه بإيمانه وكان يفشي أسراره . وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله « اَعْدَى عَدُوكَ نَفْسُكَ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ » ولهذا قال الشاعر :
4489 احْذَرْ عَدُوَّكَ مَرَّة ... وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ أَلْفَ مَرَّهْ
فَلَرُبَّمَا ( انْقَلَبَ ) الصَّدِيقُ ... عَدُوًّا وَكَان أَعْلَمَ بِالْمَضَرَّهْ
وثانيها : أن المنافق كان يظن أن يتخلص بالمخادعة والكافر لا يقطع بأن المؤمن إن غلبه يعذبه فلهذا أول ما أخبر الله عن المنافق .
قوله : { الظآنين بالله } صفة للفريقين . وتقدم الخلاف في السَّوءِ في التَّوبْة . وقرأ الحسن السُّوءِ بالضم فيهما .
فصل
قال المفسرون : ظن السوء هو أن ينصر محمداً والمؤمنين . وقال ابن الخطيب : هذا الظن يحتمل وجوهاً :
أحدها : هو الظن الذي ذكره الله بقوله : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول } [ الفتح : 12 ] .
وثانيها : ظن المشركين بالله في الإشراك كقوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ } إلى أن قال : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً } [ النجم : 23 28 ] .
وثالثها : ظننتم أ ، الله لا يرى ولا يعلم كما قال تعالى : { ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ فصلت : 22 ] .
قال : والأول أصح أو يقال : المراد جميع ظنونهم كما قال : { ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } [ ص : 27 ] . ويؤيد ذلك دخول الألاف واللام في السَّوْء . وفي السَّوءِ وجُوهٌ :
أحدها : وهو اختيار المحققين من الأدباء : أن السَّوْسَ عبارة عن الفساد والصِّدق عبارة عن الصلاح ، يقال : مررت برجل سَوءٍ أي فاسد ، وسكنت عند رجل صِدْق ، أي صالح وهو قول الخليل ، والزَّجَّاج واختاره الزَّمخشريّ .
( وتحقيق هذا أن السوء في المعاني كالفساد في الأجساد يقال : ساء مِزَاجُهُ ( و ) ساء خُلُقُه ( و ) سَاءَ ظَنَّه ، كما يقال : فسدَ اللحمُ وفسد الهواء بل كلُّ ما ساء فقد فسد ، وكلّ؟ ما فَسدَ فقد سَاءَ غير أن أحدهما كثير الاستعمال في المعاني والآخر في الأجرام قال تعالى : { ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر } [ الروم : 30 ] وقال : { سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ التوبة : 9 ] و [ المجادلة : 15 ] و [ المنافقون : 2 ] .
قوله : { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء } أي دائرة الفساد يعني حاق بهم العذاب بحيث لا يخرجون منه { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ } زيادة على التعذيب « وَلعنَهُمْ » أي الغضب يكون شديداً { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ } في العُقْبَى { وَسَآءَتْ مَصِيراً } أي جهنم .
قوله تعالى : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض } تقدم تفسيره . وفائدة الإعادة أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب ، أو جنود الله أنزلهم قد يكون إنزالهم للرحمة وقد يكون للعذاب فذكرهم أولاً لبيان الرحمة بالمؤمنين كما قال : { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] وثانياً : لبيان إنزال العذاب بالنافقين والمشركين .

وفي الأول ذكر الجنود قبل إِدْخَال الجنَّة وذَكرهم هنا بعد تعذيب الكفار وإعداد جهنم؛ لأن الله تعالى يُنَزِّل جنودَ الرحمة ليدخل المؤمن معظماً مكرماً الجنة ، ثم يلبسهم خُلع الكرامة بقوله : { وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } ثم يقربهم زلفى بقوله : { وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً } وأما في حق الكفار فيغضب الله عليهم أولاً فيعبدهم ويطردهم إلى البلاد النائية عن الرحمة وهي جهنم ، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله كما قال تعالى : { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله } [ التحريم : 6 ] فلذلك ذكر جنود الرحْمَةِ أولاً هناك ، وقال ههنا : { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ } وهو الإبْعَاد إلى جهنم ثم ذكر الجنو وهم ( الملائكة ) ملائكة العذاب آخراً .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

قوله تعالى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } على أمتك بما يفعلون ، كما قال تعالى : { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] أنه لا إله إلا الله وكما قال تعالى : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } [ آل عمران : 18 ] . وهم الأبنياء « وَمُبَشِّراً » من قبل شهادته ويحكم بها « ونَذِيراً » لمن ردَّ شهادته .
ثم بين فائدة الإرسال فقال : { لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ } أي تعينوه وتنصوره « وَتُوَقِّرُوهُ » أي تُعظموه وتُفخموه ، هذه الكنايات راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وههنا وقف . ثم قال وتسبحوه ، أي تسبحوا الله ، يريد يصلوا له بكرةً وَأصيلاً بالغَدََاةِ والعشيّّ .
وقيل : الكنايات راجعة إلى لله تعالى ، أي ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروا الله بتقوية دينه ، ويوقروه الله الذي يُعَظِّموه .
قوله : « لِتُؤْمِنُوا » قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليُؤْمِنُوا وما بعده بالياء من تحت رجوعاً إلى قوله المؤمنين والمؤمنات . والباقون بتاء الخطاب ( وقرأ الجَحْدريّ يَعَزُّرُوه بفتح الياء وضم الزاي وهو أيضاً وجعفر بن محمد كذلك إلا أنهما كسرا الزاي . وابن عباس واليماني ويُعَزِّزُوهُ كالعامَّة إلا أنه بزايَين من العِزَّة .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في الأحزاب : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [ الأحزاب : 4546 ] وههنا اقتصر على الثلاثة الأول؟ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن ذلك المقام كان مقام ذكر ، لأن أكثر السورة ذكر الرسول وأحواله وما تقدمه من المبايعة و الوعد بالدخول ففصل هناك ولم يفصل هنا .
وثانيهما : أن قوله : « شاهداً » لما لم يقتض أن يكون داعياً لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إله إلا الله ولا يدعو الناس قال هناك : « وَدَاعِياً » كذلك ههنا لما لم يكن كونه شاهداً ينبىء عن كونه داعياً قال : ليؤمنوا بالله ويعزروه ويوقروهُ . وقوله : « بكرة وأصيلاً » يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة ، ويحتمل أن يكون لمخالفة عمل المشركين ، فإنهم كانوا يعبدون الأصنام في الكعبة بكرة وعشيَّةً ، فأمر الله بالتسبيح في أوقات ذكرهم الفَحْشَاء والمُنْكَر .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ } يا محمَّدُ بالحديبية على أن لا يفروا { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } لأنهم باعوا أنفسهم من الله تعالى بالجنة ، روى يزيدُ بن ( أبي ) عبيد قال : قلت لسلمةَ بْنِ الأكوع : على أيِّ شيء بايعتم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال : على الموت .
قوله : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } خبر « إنَّ الَّذِينَ » و { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } جملة حالية ، أو خبر ثان وهو ترشيح للمجاز في مبايعة الله . وقرأ تمام بن العباس : يبايعون للهِ ، والمفعول محذوف أي إنما يبايعونَكَ لأجل الله .
قوله : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } لما بين أنه مرسل ذكر أن من بايعهُ فقد بايع الحقّ .

وقوله : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يحتمل وجوهاً ، وذلك أن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنًى واحدٍ ، وإما أن تكومن بمعنيين فإن كانا بمعنى واحد ففيه وجهان :
أحدهما : قال الكلبي : نعمة الله عليه في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة كما قال تعالى : { بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [ الحجرات : 17 ] .
وثانيهما : قال ابن عباس ومجاهد : يد الله بالوفاء بما عاهدهم من النصر والخير وأقوى وأعلى من نصرتهم إياه ، ويقال : اليدُ لفلانٍ أي الغلبة والقوة .
وإن كانا بمعنيين ففي حق الله بمعنى الحفظ ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة قال السدي : كانوا يأخذون بيد رسول صلى الله عليه وسلم ويبايعونه ويد الله فوق أيديهم في المبايعة ، وذلك أن المتبايعين إذا مد أحدهما يده إلى الآخر في البيع ، وبينهما ثالث فيضع يده على يديهما ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ولا يترك أحدهما بترك يد الآخر لكي يلزم العقد ولا يتفاسخان فصار وضع اليد فوق الأيدي سببابً لحفظ البيعة ، فقال تعالى : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يحفظهم على البيعة كما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين .
قوله : « فَمَنْ نَكَثَ » أي نقص البيعةَ { فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } أي عليه و ما له { وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله } أي ثبت على البيعة { فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } قرأ أهل العراق فسيُؤتيه بالياء من تحت ، وقرأ الآخرون بالنون . والمراد بالأجر العظيم الجنة . وتقدم الكلام في معنى الأجر العظيم .

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)

قوله تعالى : { سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب } قال ابن عباس : ومجاهد : يعني أعراب غِفَار ، ومُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ ، وأشْجَعَ وَأسْلَمَ ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً اسْتَنفَرَ من حول المدينة من الأعراب ، والبَوَدِي ليخرجوا معه حَذَراً من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق معه الهَدْي ، ليعلمَ الناسُ أنه لا يريد حَرباً فتثاقل كثيرٌ من الأعارب وتخلفوا واعْتَلُّوا بالشغل لظنهم أنه يهزم ، فأنزل الله هذه الآية .
قوله : « شَغَلَتْنَا » حكى الكسائي عن ابن مدح أنه قرأ : شَغَّلَتْنَا بالتشديد { أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } يعني النساء والذَّرَارِي أنْ لم يكن لنا من يخلفنا فيهم { فاستغفر لَنَا } تَخَلٌّفَنَا عنك .
فكذبهم الله في اعتذارهم فقال : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } من الأمر بالاستغفار فإنهم لا يبالون أستغفر لهم النبي أو لا . { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } قرأ الأخوان ضُرًّا بضم الضاد والباقون بفتحها .
فقيل : هما لغتان بمعى كالفَقْر والفُقْر والضَّعف والضُّعْف ، وقيل : بالفتح ضِدُّ النفع ، وبالضم سُوء الحال فمن فتح قال : لأنه قابله بالنفع ، والنفع ضد الضر ، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضر ، ويجعل لهم النفع بالسلامة في أموالهم وأنفسهم فأخبرهم أنه إن أراد بهم شيئاً من ذلك لم يقدر واحد على دفعه { بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي بما تعلنون من إظهار أمر وإضمار غيره .
قوله : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً } أي ظننتم أن العدون يستأصلهم ولا يرجعون . قرأ عبدالله : إلَى أهلهم دون ياء ، بل أضاف الأهل مفرداً .
قوله : { وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ } . قرىء : وزين مبنياً للفاعل أي الشيطان أو فِعْلُكُم زين ذلك الظن في قلوبكم { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء } وذلك أنهم قالوا : إن محمداً وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون فأين تذهبون معه؟ انتظروا ما يكون من أمرهم { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } أي صرتم هَلْكَى لا تصلحون لخير . وقيل : كنتم على بابها من الإخبار بكونهم في الماضي كذا . والبُورُ الهلاكُ . وهو يحتمل أن يكون هنا مصدراً أخبر به عن الجمع كقوله :
4490 يَا رَسُول الإِلَهِ إنَّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتقْتُ إذْ أَنَا بُورُ
ولذا يستوي فيه المفرد والمذكر وضدهما . ويجوز أن يكون جمع بَائرٍ كحَائل وحُولٍ في المعتل وبَازِل وبُزْلٍ في الصحيح .
قوله : { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله } يجوز أن يكون ( من ) شرطية أو موصولة . والظاهر قائم مقام العائد على كلا التقديرين أي فإنا أعتدنا لهم . وفيه فائدة وهي التعميم كأنه قال : ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين وإنّا أعتدنا للكافرين سعيراً .
قوله تعالى : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوت والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } ذكر هذه بعد ذكر من له أجر عظيم من المبايعين ومن له في السعير عذاب أليم من الظالمين الضالين . وذلك يفيد عظمة الأمرين جميعاً ، لأن من عظم ملكه يكون أجره وهيبته في غاية العظمة وعذابه وعقوبته في غاية الألم .

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

( قوله تعالى ) : { سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم } { ا مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا } يعني هؤلاء الذين تخلفواعن الحديبية { إِذَا انطلقتم } سرتم وذهبتم أيها المؤمنون { ا مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا } يعني مغانم خيبر { ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها ، وذلك أنهم لما انطلقوا انصرفوا من الحديبية وعدهم الله فتح خير ، وجعل عنائمهنا لمن شهد الحديبية خاصة عوضاً من غنائم مكة إذا انصرفوا من الحديبية ( منهم على صلح ) ولم يصيبوا منهم شيئاً ، ( لأن قوله : { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ } وعد للمبايعين بالغنيمة وللمخلفين الحالفين بالحرمان ) .
قوله : يُرِيدُ ( ونَ ) يجوزو أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً من « المخلفون » وأن يكون حالاً من مفعلو « ذَرُونَا » .
قوله : { كَلاَمَ الله } قرأ الأخوان كَلِمَ جمع كلمة والبقاون كَلاَم قيل معناه : يريدون أن يغيروا تواعد الله تعالى لأهل الحديبية ، بغنيمة خيبر خاصة وقال مقاتل : يعني أمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يسيِّر معه منهم أحداً . وقال ابن زيد : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تخلف القوم أطعله الله على ظنهم وأظهر له نفاقهم وقال للنبي صلى الله عليه وسلم { فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] . والأولى أصوب وعليه أكثر المفسرين .
قوله : { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } إلى خيبر { كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ } أي من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب .
قوله : { بَلْ تَحْسُدُونَنَا } قرأ أبو حيوة تَحْسِدُونَنَا بكسر السين « بَلْ » للإضْراب والمضروب عنه محذوف في الموضعين عنه محذوف الموضعين أما ههنا فتقديره ما قال الله كذلك من قبل بل تحسدوننا أي يمنعكم الحد من أن نصيب منكم العنائم { بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ } لا يعلمون عن الله ما لهم وعليهم من الدين { إِلاَّ قَلِيلاً } منهم وهم من صدق الله وروسله .
( فإن قيل : بماذا كان الحسد في اعتقادهم؟
قلنا : كأنهم قالوا : نحن ( كنا ) مصيبين في عدم الخروج ( حيث ) رَجَعُوا من الحديبية من غير عدو حاصل ، ونحن اسْتَرَحْنَا فإن خرجنا معهم ويكون فيه غنيمة يقولون هم غنموا معنا ولم يتعبوا معنا . ثم قال الله تعالى رداً عليهم كما ردوا عليه : { بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي لم يفقهوا من قولك : لا تخرجوا إلا ظاهر النهي ، فلم يفهموا حكمة إلاَّ قليلاً فحملوه على ما أرادوه وعللوه بالحسد . . ) .
قوله تعالى : { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ } لما قال للنبي عليه الصلاة والسلام لهم لن تتبعونا ، ولن تخرجوا معي أبداً كان المخلفون جمعاً كثيراً من قبائل متشعبة دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم ، فإنهم لم يبقوا على ذلك ، ولم يكونوا من الذين مَرَدُوا على النفاق بل منهم من حسن حاله فجعل لقبول توتبهم علامة ( وهو أنهم يدعون إلى قوم أولي بأس شديد ، ويطيعون بخلاف حال ثَعْلَبَةَ ، حيث امتنع من أداء الزكاة ، ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم واستمر عليه الحال ، ولم يقبل منه أحد من الصحابة كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أن الله تعالى بين أنهم يدعون : فإن أطاعوا أعطوا الأجر الحسن .

والفرق بين حال هؤلاء وبين حال ثعلبة من وجهين :
أحدهما : أن ثعلبة يجوز أن يقال حاله لم يكن يتغير في علم الله فلم يبين لتوبته علامة ) وحل الأعراب تغيرت ، فإن بعد النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق من المنافقين على النفقا أحدٌ .
الثاني : أن الحاجة إلى بيان حال الجمع الكثير ، والْجَمِّ الغفير ، أمسّ؛ لأنه لولا البيان لأفضى الأمر إلى قيام الفتنة بين فِرَق الْمُسْلِمِينَ .
( « فصل »
قال ابن عباس ومجاهد : المراد بقوله { قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ } : هم أصحاب فارس . وقال كعب : الروم وقال الحسن : فارس والروم . وقال سعيد بن جبير : هوازن وثقيف . وقال قتادة : هوازن وغطفان قوم حنين . وقال الزهري ومقاتل وجماعة : هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب . وقال رافع بن خديج : كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم . وقال أبو هريرة : لم تأت هذه الآية بعد ) .
قوله : { أَوْ يُسْلِمُونَ } العامة على رفعه بإثبات النون عطفاً على « تُقَاتِلُونَهُمْ » أو على الاستئناف أي أو هُمْ يُسْلِمُونَ . وقرأ أبيّ وزيدُ بن عليٍّ بحذف النون نصباً بحذفها .
والنصب بإضمار « أن » عند جمهور البصريين ، وب « أو » نفسها عند الجَرْمي والكِسَائيِّ ، ويكون قد عطف مصدراً مؤولاً على مصدر متوهم كأنه قيل : يكون قتالٌ أو إسلامٌ . ومثله في النصب قول امرىء القيس :
4491 فَقُلْتُ لَهُ لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا ... نُحَاوِلُ مُلْكاً أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
وقال أبو البقاء : أو بمعنى إلاَّ أَنْ ، أو حَتَّى .
( « فصل »
معنى قوله : تقاتلونهم أن يسلمون إشارة إلى أن أحدهما يقع؛ لأن « أو » تبين المتغايرين وتُنْبِىءُ عن الحصر ، يقال : العدد زوجٌ أو فردٌ ، ولهذا لا يصح قوله القائل : هذا زيدٌ أو ابن عمرو؛ أذا كان زيد ابن عمرو؛ إذا علم هذا فقول القائل : أُلاَزِمُكَ أَوْ تَقضينِي حَقِّي معناه أن الزمان انحصر في قسمين : قسم يكون فيه الملازمة ، وقسم يكون فيه قضاءُ الحق فيكون قوله : « أُلاَزِمُكَ أو تقضيني » ، كقوله : ألازمك إلى أن تقضيني ، لامتداد زمان الملازمة إلى القضاء ) .
قوله : { فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً } يعني الجنة { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } تُعْرِضُوا { كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ } عام الحديبية { يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } وهو النار ، فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة : كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله عزّ وجلّ { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } أي في التخلف عن الجهاد { وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } .

وذلك لأن الجهادَ عبارة عن المقاتلة والكرِّ والفَرِّ ، وهؤلاء الثلاثةلا يمكنهم الإقدام على العدو والطلب ، ولا يمكنهم الاحتراز والهرب . وفي معنى الأعرج الأَقْطَعُ المُقْعَد بل أولى أن يعذر ، ومن به عَرَجٌ لا يمكنه من الكرِّ والفرِّ لا يعذر ، وكذلك المرض الذي لا يمنع من الكر والفر كالطّحال والسُّعال وبعض أوجاع المفاصل إذا لم يُضْعِفْهُ عن الكرِّ والفر ، فهذه الأعذار في نفس المجاهد ، وتبقى أعذار خارجة ، كالفقر الذي لا يمكن صاحبه من ستصحاب ما يحتاج له وكذا الاشتغال بمن لولاه لضاع كطفلٍ أو مريضٍ .
والأعذار المبيحة مذكورة في كتب الفقه . وقدم الأعمى على الأعرج ، لأن عذر الأعمى يستمر ولو حضر القتال ، والأعرج إن حضر راكباً أو بطريق يقدر على القتال بالرمي وغيره .
قوله : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } قرأ أهل المدينة والشام ندخله ونعذبه بالنون فيهما . وقرآ الآخرون بالياء لقوله : { ومن يطع الله ورسوله } .

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)

قوله تعالى : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين . . . } الآية لما بين حال المخلفين بعد قوله : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] عاد إلى بيان حال المبايعين .
قوله : { إِذْ يُبَايِعُونَكَ } منصوب ب « رَضِيَ » و « تَحْتَ الشَّجَرَة » يجوز أن يكون متعلقاً ب « يُبَايِعُونَكَ » وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول .
( « فصل »
المعنى : يبايعونك بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً ، ولا يفروا . وقوله : « تَحْتَ الشَّجَرَة » وكانت سمرة قال سعيد بن المسيب : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال : فلما خرجنا من العام المقبل نَسِيناها فلم نقدر عليها . وروي أن عمر بن الخطاب مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال : أين؟ فجعل بعضهم يقول : ههنا ، وبعضهم ههنا ، فلما كثر اختلافهم قال : سيروا قد ذهبت الشجرة . وروى جابر بن عبدالله قال : « قَالَ لَنَا رسول الله صلى الله عليه سولم يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض ، وكنا ألفاً وأَرْبَعَمِائةٍ ولو كنت أبصر اليوم لأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَة . وروى سالم عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لاَ يَدْخُلُ النار أحَجٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) » .
قوله : { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من الصدق والوفاء { فَأنزَلَ السكينة } الطمأنينة والرضا « عَلَيْهِمْ »
فإن قيل : الفاء للتعقيب وعلم الله قبل الرضا؛ لأن علم ما في قلوبهم من الصدق فرضي عنهم فكيف يفهم التعقيب في العلم؟
فالجواب : قال ابن الخطيب : إن قوله تعالى : { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } متعلق بقوله : { إِذْ يُبَايِعُونَكَ } كما تقول : « فَرِحْتُ أَمس إِذْ كَلَّمت زَيْداً فَقَامَ لي ، وإذْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَكْرَمِني » فيكون الفرح بعد الإكرام مرتباً كذلك ههنا قال تعالى : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ . . . فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من الصدق إشارة ألى أن الرضا لا يكون عند المبايعة ( حَسْب بل عند المبايعة ) التي كان معها علم الله بصدقهم . والفاء في قوله { فَأنزَلَ السكينة } للتعقيب المذكور ، فإنه تعالى رضي عنهم فأنزل السكينة عليهم .
وفي قوله : « فَعَلِمَ » لبيان وصف المبايعة يكون ( ها ) معقبة بالعلم بالصدق الذي في قلوبهم .
قوله : { وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } يعني فتح خيبر . وقوله : { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً } أي وآتاهم مَغَانِمَ أو أثابهم مغانم . وإنما قدر الخطاب والغيبة لأنه يقرأ : « يَأخُذُونَهَا » بالغيبة ، وهي قراءة العامة ، و « تَأخُذُونَهَا » بالخطاب وهي قراءة الأعمش وطَلْحَةَ ونافعٍ في رواية سِقْلاَبٍ .
فصل
قيل : المراد بالمغانم الكثيرة مغانم خيبر ، وكانت خيبر ذاتَ عَقَار وأموال فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم .

وقيل : مغانم هجر .
{ وَكَان الله عَزِيزا } كامل القدرة غنياً عن إعانتكم إياه « حَكِيماً » حيث جعل هلاك أعدائه على أيديهم ليثيبكم عليه ، أو لأن في ذلك كان إعزاز قوم وإذلالَ لآخرين فقال : يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعِزَّتِهِ ، ويعز من يشاء بِحِكْمَتِهِ .
قوله : { وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } وهي الفتوح التي تفتح لهم إلىيوم ا لقيامة وليس المغانم كل الثواب ، بل الجنة قُدَّامهم ، وإنما هي عاجلة عَجَّلَ بها لهم ، ولهذا قال : { فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه } يعني خيبر { وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد خَيْبَرَ وحَاصَرَ أهلها هَمَّ قبائلُ من أَسَدَ ، وغَطَفَان ، ِأن يُغِيرُوا على عِيَال المسلمين وذَرَارِيهِمْ بالمدينة فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم . وقيل : كف أيدي الناس عنكم يعني أهل مكة بالصلح ، وليكون كفهم وسلامتكم آية للمؤمنين على صدقك ، ويعلموا أن الله هو المتولِّي حياطتهم وحِرَاسَتَهُمْ في مشَهْدِهِمْ ومغيبهم .
قوله : « وَلتَكُونَ » يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلق بفعل مقدر بعد تقديره : ولِتَكُونَ ( فعلك ) فعل ذلك .
الثاني : أنه معطوف على علة محذوفة تقديره : وَعَدَ فَعَجَّل وَكَفَّ لينتفعوا ولِيَكُونَ أو لتشكروا ولتكون .
الثالث : أن الواو مزيدة . والتعليل لما قبله أي وَكَفَّ لتكون .
قوله : { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } يثيبكم على الإسلام ، ويزيدكم بَصيرَةً ويقيناً بصُلْح الحديبية وفتح خيبر ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المُحَرَّم ، ثم خرج في سَنَةِ سَبع إلىخيبر . روى أنسُ بن مالك ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن بغير بنا حتى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ ، فإن سمع أَذَاناً كفَّ عنهم ، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم ، قال : فخرجنا إلى خَيْبَرَ ، فانتهينا إليهم ، فلما أصبح لم يسمع أذاناً ( ركب ) وركبتُ خلف أبِي طلحة ، وإن قدمي لتمَسُّ قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال : فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومَسَاحِيهم فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الله أكبر الله أكبر خَربتْ خَيْبَرُ ، إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ . وروى إياسُ بْنُ سَلَمَةَ قال حدثني أبي قال : خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فجعل عمي يَرْتَجِزُ بالقَوم :
4492 تَاللهِ لَوْلاَ اللهُ مَاأهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنضا ... وَنَحْنُ مِنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا ... فَثَبِّتِ الأَقَدْامَ إنْ لاَ قَيْنَا ... وَأَنْزِلَننْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ هَذَ؟ فقال : أنا عامر ، قال : غَفَر الله لك ربك . وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يَخُصُّه إلا استشهد .

قال : فنادى عمرُ بنُ الخَطَّاب رضي الله عنه وهُوَ على جمل له : يا نبيّ الله لولا مَتَّعْتَنَا بعامرٍ قال : فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مَرْجَبُ يخطر بسيفه يقول :
4493 قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلاَح يَطَلٌ مُجَرِّبُ
إذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ ... فقال علي رضي الله عنه :
4494 أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهُ ... كَلَيْثِ غابَاتٍ كَرِيهِ المَنْظَرَه ... أَكِيلُكُمْ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ ... قال : فضرب رأس مرحب فقتله ، ثم كان الفتح على يديه .
( ومعنى أكليكم بالسيف كيل السندرة أي أقتلكم قتلاً واسعاً ذريعاً . والسَّندرة مكيال واسع . قيل يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النَّبْل ، والقِسِيُّ ، والسَّنْدرة أيضاً العجلة ، والنون زائدة . قال ابن الأثير : وذكرها الجَوْهَرِيُّ في هذا الباب ولم ينبه على زيادتها ) .
وروي فتح خيبر من طرق أُخَر في بعضها زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض .
قوله : « وأخرى » يجوز فيها أوجه :
أحدها : أن تكون مرفوعة بالابتداء و { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } صفتها و { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } خبرها .
الثاني : أن الخبر « منهم » محذوف مقدر قبلها ، أي وَثَمَّ أخرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا .
الثالث : أن تكون منصوبة بفعل مضمر على شريطة التفسير ، فتقدر بالفعل من معنى المتأخر وهو { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } أي وقَضَى اللهُ أُخَْرَى .
( الرابع : أن تكمون منصوبة بفعل مضمر لا على شريطة التفسير ، بل لِدَلاَلة السِّياقِ ، أي ووَعَدَ أُخْرَى ، أو وآتاكُمْ أخرى .
الخامس : أن تكون مجرورة ب « رُبَّ » مقدرة ، ويكون الواو واو « رب » ذكره الزمخشري . وفي المجرور بعد الواو المذكورة خلاف مشهور أهنو برُبَّ مضمرة أم بنفس الواو؟ إلا أبا حيان قال : ولم تأت « رُبَّ » جارة في القرآن على كَثْرة دورها ، يعني جارة لفظاً وإلا تقدر . قيل : إنها جارة تقديراً هنا وفي قوله : { رُّبَمَا } [ الحجر : 2 ] على قولنا : إنّ ما نكرة موصوفةٌ ) .
قوله : { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } يجوز أن يكون خبراً ل « أُخْرَى » كما تقدم ، أو صفة ثانية إذَا قِيلَ بأن أخرى مبتدأ وخبرها مضمر أو حالاً أيضاَ .
فصل
قال المفسرون : معناه أي وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقِدروا عليها قد أحاط الله بها حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم ، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها . قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) علم الله أنه يفتحها لكم . قال ابن الخطيب : تقديره : وعدكم الله مغانم تأخذونها ، ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها ، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين . وهذا تفسير الفراء . قال : معنى قوله : { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } أي حفظها لمؤمنيني ، لا يجري عليها هلاك وفناء إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحُرَّاسِ بالخَزَائِنِ .
واختلفوا فيها فقال ابنُ عباس والحسن ومقاتل : هي فارس والرومُ ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم ، بل كانوا حولاً لهم حتى قدروا عليها الإسلام .

وقال الضَّحَّاكُ وابنُ زيد : هي خيبر وعدها الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصيبها ولم يكونوا برجونها . وقال قتادة : هي مكَّة . وقال عِكْرِمَةُ : حُنَيْن . وقال مجاهد : وما فَتَحُوا حتى اليوم ، { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } .
قوله تعالى : { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الذين كفَرُواْ } يعني أسداسً وغَطفانَ وأَهْلَ خَيْبَرَ { لَوَلَّوُاْ الأدبار } ، قال ابن الخطيب : وهذا يصلح جواباً لمن يقول : كَفّ الأيدي عنهم كان أمراً اتفاقياً ، ولو اجتمع عليهم العرب كما زعموا لمنعوهم من فتح خيبر واغتنام غنائمها ، فقال : ليس كذلك بل سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون والغلبة واقعة للمسلمين ، فليس أمرهم أمراً اتفاقياً ، بل هو أمر إلهيٌّ محكوم به محتوم . وثم قال { لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } .
قوله : { سُنَّةَ الله } مصدر مؤكد لمضمون الجملة المقدمة ، أي سَنَّ اللهُ ذَلك سنةً .
قال ابن الخطيب : وهذا جواب عن سؤال آخر يقوله قومٌ من الجُهَّال وهو : إن الطَّوَالِعَ والتأثيرات والاتِّصالاتِ تأثيراتٌ وتغييرات فقال : ليس كذلك ، بل سنة الله نصرة رسوله ، وإهلاك عدوه ، والمعنى : هذه سنة الله في نصرة أوليائه ، وقهر أعدائه { تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } .

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

قوله تعالى : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } وهذا تبيين لما تقدم من قوله : { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار } [ الفتح : 22 ] بتقدير الله ، كما أنه كف أيهديهم عنكم بالفرار ، وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم .
روى ثابتٌ عن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هُبَطُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غِرَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخذهم سلْماً فاستحياهم فأنزل الله : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } .
قال عبدالله بن مُغَفَّل المُزَنيّ : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في اصل الشجرة التي قال الله تعالى « في القرآن » ، وعلى ظهره غُصْنٌ من أغصان الشجرة فرفعته عن ظهرهِ ، وعلي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فنادَوْا في وجوهنا فدعى عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جئتم في عهد ( أحد ) أو هل جَعَلَ لكم أحد أمناً؟ قالوا : اللَّهم لا فَخَلَّى سبيلهم . فأنزل الله هذه الآية .
قوله : { وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } قرأ أبو عمرو يَعْلَمُونَ بالياء وقرأ الآخرون بالتاء من فوق قرأ الغيبة فهو رجوع إلى قوله : « أيْدِيَهُمْ » وَ « عَنْهُمْ » . ومن قرأ بالخطاب فهو رجوع إلى قوله : أيْدِيَكُمْ « و » عَنكُم « ، والمعنى أن الله يرى فيه من المصلحة وإنْ كُنْتُمْ لا ترون ذلك .
ثم بين ذلك بقوله تعالى : { ُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } وهذا أشارة إلى أن الكف لم يكن الأمر ( فيهم ) لأنهم كفروا وصدوكم وأحصروا وكل ذلك يقتضي قتَالَهُم ، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا واصطلحوا ، ولم يكن بينهما خلاف ولا نزاع بلا الاختلافُ والنزاعُ باقٍ مستمر؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوكم فازدادُوا كفراً وعداوةً ، وإنما ذلك للرجال المؤمنينَ والنِّساء المؤمنات .
قوله : » وَالهَدْيَ « العامة على نصبه ، والمشهور أنه نسق على الضمير المنصوب في » صَدُّوكُمْ « وقيل : نصب على المعية . وفيه ضعف ، لإمكان العطف . وقرأ أبو عمرو في رواية بجره عطفاً على » المَسْجِدِ الحَرَامِ « . ولا بد من حذف مضاف ، أي وعَنْ نَحْرِ الهَدْي ، وقرىء برفعه على أنه مرفوع بفعل مقدر لم يسم فاعله أي وصُدَّ الهَدْيُ .

والعامة على فتح الهاء وسكون الدال ، وروي عن أبي عمرو وعاصم وغيرهما كسر الدال وتشديد الياء . وحكى ابن خالويه ثلاث لغات الهَدْي وهي الشهيرة لغة قريش ، والهَدِيّ والهَدَا .
قوله : « مَعْكُوفاً » حال من الهدى أي محبوساً ، يقال : عَكَفْتُ الرَّجُلَ عن حاجته .
وأنكر الفارس تعدية « عكف » بنفسه ، وأثبتها ابن سِيدَهْ والأزهريّ وغيرُهُمَا . وهو ظاهر القرآن لبناء اسم مفعول منه .
قوله : { أَن يَبْلُغَ } فيه أوجه :
أحدها : أنه على إسقاط الخافض ، أي « عَنْ » أو « مِنْ أن » وحينئذ يجوز في هذا الجار المقدر أن يتعلق « صَدُّوكُمْ » وأن يتعلق ب « مَعْكُوفاً » أي محبوساً عن بلوغ مَحِلِّهِ .
الثاني : أنه مفعول من أجله ، وحينئذ يجوز أن يكون علة للصد ، والتقدير : صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله وأن يكون علة ل « مَعْكُوفاً » أي لأجل أن يبلغ محله ، ويكون الحبس من المسلِمِينَ .
الثالث : أنه بدل من « الهدي » بدل اشتمال أي صدوا بلوغ الهدي محله .
( فصل
معنى الآية { هُمُ الذين كَفَرُواْ } يعنى كفار مكة « وَصَدُّوكُمْ » منعوكم { عَنِ المسجد الحرام } أن تطوفوا فيه « وَالهَدْيَ » أي وصدوا الهدي وهي البُدْنُ التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعينَ بدنةً « مَعْكُوفاً » محبوساً ، يقال : عَكَفَهُ عَكْفاً إذا حبسه ، وعُكُوفاً ، كما يقال : رَجَعَ رَجْعاً ورُجُوعاً { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } مَنْحَرَهُ ، وحيث يحِلّ نحرُه يعني الحرم . ثم قال : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ } يعني المستضعفين بمكة ) .
قوله : { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } صفة للصِّنْفين ، وغلب الذكور ، وقوله : { أَن تَطَئُوهُمْ } يجوز أن يكون بطلاً من « رجال ونساء » ، وغلب الذكور كما تقدم وأن يكون بدلاً من مفعول تَعْلَمُوهُمْ ، فالتقدير على الأول : ولولا وطءُ رجالٍ ونساءٍ غيرِ معلومين ، وتقدير الثاني : لم تَعْلَمُوا وَطْأَهُمْ ، والخبر محذوف تقديره : ولولا نساء ورجال موجودون أو بالحَضْرَةِ .
( وأما جواب « لولا » ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه محذوف ، لدلالة جواب « لو » عليه .
والثاني : أنه مذكور وهو « لَعَذَّبْنَا » وجواب « لو » هو المحذوف فحذف من الأول لدلالة الثاني ، ومن الثاني لدلالة الأول .
والثالث : أن « لعذبنا » جوابهما معاً . وهو بعيد إن أراد حقيقة ذلك .
وقال الزمخشرري قريباً من هذا فإنه قال : ويجوز أن يكون : « لَوْ تَزَيَّلُوا » كالتكرير لِلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون « لَعَذَّبْنَا » هو الجواب .
ومنع أبو حيان مرجعهما لمعنى واحد ، قال : لأن ما تعلق به الأَوَّل غيرُ ما تعلَّق به الثاني ) .
فصل
المعنى « لم تعلموهم » لم تَعْرِفُوهُم { أَن تَطَئُوهُمْ } بالقتل وتُوقعوا بهم . { فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ } . قال ابن زيد إثم ذلك لأنكم ربما تقتلوهم فيلزمكم الكفَّار ، وهي دليل الإثم ، لأن الله تعالى أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدِّيَةِ؛ قال تعالى :

{ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [ النساء : 92 ] . وقال ابن إسحاق : غُرم الدية . وقيل : إن المشركين يعيبوكم ويقولون قتلوا أهل دينهم وفعلوا بإخوانهم ما فعلوا بأعدائهم والمَعَرَّةُ السُّبَّة يقول لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنينَ ونساءً مؤمناتٍ لا تعلموهم فيلزمكم به كفارة ويلحقكم به سُبَّة لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك .
قوله : « فَتُصِيبَكُمْ » نَسَقٌ على { فَتُصِيبَكمْ } وقوله { أَن تَطَئُوهُمْ } يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل « مَعَرَّة » وأن يكون حالاً من مفعول « تُصيبُكُمْ » وقال أبو البقاء : مِنَ الضمير المجرور يعني في « منهم » . ولا يظهر معناه . أو أن يتعلق « بتصيبكم » أو أن يتعلق « بتطئوهم » ؛ أي تطئوهم بغير علم .
( فإن قيل : هذا تكرار ، لأنه إن قلنا : هو بدل عن الضمير يكون التقدير : لم تعلموا أن تَطَئُوهُمْ بغير علم فيلزم تكرار بغَيرِ عِلْمٍ لحصوله بقوله : لَمْ تَعْلَمُوهُمْ؟ .
فالجواب : أن يقال : قوله : « بِغَيْرِ عِلْمٍ » هو في موضعه أي فتصيبكم منهم مَعَرَّةٌ بغير علم من ( الذي ) يعرّكم ويعيبُ عليكم ، يعني إن وَطَأتُمُوهُمْ غير عالمين يعركم ( مَسبَّة ) الكفار « بغير علم » أي بجهل لأنهم لا يعلمون أنكم معذورون فيه . أو يقال تقديره : لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم فيكون الوطء الذي يحصل بغير علم معذورين فيه . أو نقول : المعرَّة قسمان :
أحدهما : ما يحصل من القتل العمد والعدوان ممن هو غير عالم بحال المحِلّ .
والثاني : ما حصل من القتل خطأ وهو عند عندم العلم فقال : تصبيكم منهم معرة بغير علم لا التي تكون عند العلم ) .
والوَطْءُ هنا عبارة عن القَتْلِ والدَّوْسِ ، قال عليه الصلاة والسلام : « اللَّهُمَ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ » وأنشدوا :
4495 وَوَطِئْتَنَا وَطْاً عَلَى حَنَقٍ ... وَطْءَ المُقَيَّدِ ثَابِتَ الهَرَمِ
قوله : « لِيُدْخِلَ اللهُ » متعلق بمقدر أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء العذاب ليدخل الله . وقال البغوي : اللام في ليدخل متعلق بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام يعني ليدخل الله في رحمته أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكمة بعد الصلح قبل أن يدخلوها .
قوله : « َلوْ تَزَيَّلُوا : قرأ بانُ أبي عَبْلَةَ وأبو حيوة وابنُ عَوْن تَزَيَلُوا على تَفَاعَلُوا .
والضمير في تزايلوا يجوز أن يعود على المؤمنين فقط ، أو على الكافرين ، أو على الفريقين . والمعنى لو تمَيَّزَ هؤلاءِ من هؤلاءِ لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً بالسَّبْيِ والقتْل بأيديكم .
قوله ( تعالى ) : { إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ } العامل في » إذْ « إِما » لَعَذَّبْنَا « أو » صَدُّوكُمْ « أو » اذْكُر « فيكون مفعولاً به .

قال ابن الخطيب في إذ : يحتمل أن يكون ظرفاً ، فلا بد من فعل يقع فيه ويكون عاملاً له ، ويحتمل أن يكون مفعولاً به ، فإن قلنا : إنه ظرف فالفعل الواقع فيه يحتمل أن يكون مذكوراً ويحتمل أن يكون غير مذكور ، فإن كان مذكوراً ففيه وجهان :
أحدهما : هو قوله تعالى : { وَصَدُّوكُمْ } أي وصدوكم حِينَ جَعَلُوا في قلوبهم الحَمِيَّة فلا يرجعون إلى الإسلام .
وثانيهما : المؤمنون لما أنزل الله عليهم سكينته لا يتركون الاجتهاد في الجهاد والله مع المُؤمنين .
فإن قلنا : إنه غير مذكور ففيه وجهان :
أحدهما : حفظ الله المؤمنين عن أن يَطَئُوهم إذ جعل الذين كفروا في قولبهم الحمية .
وثانيهما : أحسن الله إليكم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية . وعلى هذا فقوله : « فَأَنْزَلَ السَّكيِنَةَ » تفسير لذلك الإحسان . وإن قلنا : إنه مفعول به فتقديره اذكر ذلك الوقت كقولك : اذْكُر إِذْْ قَامَ زَيْدٌ أي اذكر وَقْتَ قيامه . وعلى هذا يكون « إذْ » ظرفاً للفعل المضاف إليه .
قوله : « فِي قُلُوبِهِمْ » يجوز أن يتعلرق ب « جَعَلَ » على أنها بمعنى « أَلْقَى » ، فتتعدى لواحد؛ أي إِذْ أَلْقَى الكافرون في قلوبهم الحمية ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه مفعول ثانٍ قدم على أنها بمعنى صيّر .
قوله : « حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ » بدل من « الحمية » قبلها ، والحمية الأنَفَةُ من الشيء ، وأنشدوا للمتلمس :
4496 أَلاَ إِنَّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِي عِرْضُهُمْ ... كَذَا الرَّأْسِ يَحْمِي أَنْفَهُ أَنْ يُهَشَّمَا
وهي المنع ، ووزنها فَعِيلَةٌ ، وهي مصدر ، يقال : حَمَيْتُ عن كذا أَحْمِيه ( حَمِيَّةً ) .
( فصل
المعنى : إذ جعل الذين كفوروا في قلوبهم الحمية حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت ، وأنكروا أَنَّ محمداً رسول الله . قال مقاتل : قال أهل مكة قد قتلوا أبناءنا وإخوانَنَا ثم يدخلون علينا فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا ، واللاتِ والعُزَّ لا يدخلونها علينا . فهذه حَمِيَّة الجاهلية التي دخلت قلوبهم ) .
قله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين } حين لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية فعصوا الله في قتالهم . قال ابن الخطيب : دخول الفاء في قوله : { فَأَنزَلَ الله } يدل على تعلق الإنزال أو ترتيبه على ما ذكرنا من أن « إِذْ » ظرف لفعل مقدر كأنه قال : أحْسَنَ اللهُ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا . « فأنزل » تفسير لذلك الإحسان ، كما يقال : « اَكْرَمَنِي فَأَعْطَانِي لتفسير الإكرام . ويحتمل أن تكون الفاء للدلالة على تعلق إنزال السكينة بجعلهم الحمية في قلوبهم على معنى المقابلة تقول : أَكْرَمِنِي فَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ .
( قوله : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي وابن زيد وأكثر المفسرين : كلمة التقوى لا إله إلا الله .

وروي عن أبي بن كعب مرفوعاً . وقال عليٌّ وابنُ عرم : كلمة التقوى لا إله إلا الله والله أكبر . وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وقال عطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله وقال الزهري : هي بسم الله الرحمن الرحيم . وقيل : هي الوفاء بالعَهْد ) .
قوله : { وكانوا أَحَقَّ بِهَا } الضمير في « كانوا » يجوز أن يعود إلى المؤمنين وهو الظاهر ، أي أحق بكلمة التقوى من الكفار ، وقيل : يعود على الكفار أي كانت قريشٌ أحقَّ بها لولا حرمانُهُمْ .
( فصل
قال البغوي : وكان المؤمنونَ أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا المؤمنون أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا أهلها في علم الله تعالى ، لأن الله تعالى اختبار لدينه وصحبةَ نبيه أهل الخير ، قال ابن الخطيب : قوله : « أحق بها » يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه يفهم من معنى الأحقِّ أنه يثبت رجحاناً ( ما ) على الكافرين وإن لم يثبت الأهلية كما لو اختار الملك اثنين لشغل ، وكل واحد منهما غير صالح له ولكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق يقال للأقرب إلى الاستحقاق إن كان ولا بد فهذا أحق كما يقال : الحبس أهون من القتل ، مع أنه لا هيِّن هناك فقال وأهلها دفعاً لذلك .
الثاني : أن يكون لا للتفضيل كما في قوله { خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] ، { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] ؛ إذ لا خير في غيره { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } ) .

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)

قوله تعالى : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا } . « صَدَقَ » يتعدى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجر ، يقال صَدَقََكَ فِي كَذَا ، وقد يحذف كهذه الآية ، وقوله : « بِالحَقِّ » فيه أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب « صَدَقَ » .
الثاني : أن يكون صفة لمصدر محذوف أي صِدْقاً مُلْتَبِساً بالحَقِّ .
الثالث : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الرؤيا ، أي ملتبسةً بالحق .
الرابع : أنه قسم وجوابه : لَتَدْخُلُنَّ فعلى هذا يوقف على الرؤيا ، ويبتدأ بما بعدها .
( قال الزمخشري . وعلى تقديره قَسَماً إما أن يكون قَسَماً بالله فإن الحقَّ من أسمائه ، وأما أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل .
وقال ابن الخطيب : ويحتمل وجهين آخرين :
أحدهما : فيه تقديرم وتأخير تقديره صدق الله ( و ) رسوله الرؤيا بالحق الرؤيا أي الرسول الذي هو رسول بالحق .
الثاني : أن يقال تقديره صدق الله ( و ) رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن فيكون تفسيراً للرؤيا بالحق يعني أن الرؤيا هي وَاللهِ لَتَدْخُلُنَّ .
فصل
ذكر المفسرون أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام ويَحْلِقُونَ رُؤُسَهُمْ ويُقَصِّرونَ ، فأخبر أصحابه ففرحوا ، وحسبوا أنهم دخلوا مكة عامَهُم ذلك فلما انصرفوا ولم يدخلوا شقَّ عليهم ذلك فأنتزل الله هذه الآية .
وروى مُجَمَّعُ بنُ جارية الأنصاريُّ قال : شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذ النَّاسُ يهزّون الأبَاعِرَ فقال بعضهم : ما بال الناس؟ قالوا : أُوحيَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : فخرجنا نزحف فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته على كرَاع الغَمِيم ، فلما اجتمع الناس قرأ : « إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً » فقال عمر : أَوَ فَتحٌ هو يا رسول الله؟ قال : نعم والذي نفسي بيده . ففيه دليل على أن المراد من الفتح صلح الحديبية وتحقيق الرؤيا كان ف يالعام المقبل فقال تعالى : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق } أراها إياه في مَخْرَجِهِ إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجِدَ الحَرَامَ صدق وحق ) .
قوله : « لَتَدْخُلُنَّ » جواب قسم مضمر أو لقوله : « بالحَقِّ » على ذلك القول . وقال أبو البقاء : و « لَتَدْخُلُنَّ » تفسير الرؤيا أو مستأنف أي والله لتدخلن ، فجعل كونه جواب قسم قسماً تفسيراً للرؤيا . وهذا لا يصح البتة وهو أن يكون تفسيراً للرؤيا غير جواب القسم ، إلا أن يريد أنه جواب قسم ولكنه يجوز أن يكون هو مع القسم تفسيراً وأن يكون مستأنفاً غير تفسير ، وهو تفسير من عبارته .
قوله : { إِن شَآءَ الله } فيه وجوه :
أحدها : أنه ذكره تعظيماً للعبادة الأدب كقوله تعالى :

{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 و24 ] .
الثاني : أن الدخول لما وقع عام الحديبية وكان المؤمنون يريدون الدخول ، ويأبون الصلح قال : لَتَدْخُلُنَّ ولكن لا بجلادتكم ولا بإرادتكم وإنما تَدْخُلُنَّ بمشيئة اله ( تَعَالَى .
الثالث : أن الله تعالى لما قال في الوحي المنزَّل على النبي صلى الله عليه وسلم : « لتدخلن » ذكر أنه بمشيئة الله ) تعالى ، لأن ذلك من الله وَعْدٌ ، ليس عليه دينٌ ولا حقٌّ واجبٌ؛ لأن من وعد بشيء لا يحققه إلا بمشيئة الله ، وإلا فلا يلزمه به أحدٌ .
( فصل
قال البغوي : معناه وقال لتدخلن . وقال ابن كيسان : لَتْدخُلُنَّ من قوله رسول الله صلى لله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه ، فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك ، وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى تأدباً بأدب الله تعالى حيث قال : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 و24 ] . وقال أبو عبيدة : « إِلاَّ » بمعنى إذ مجازه إذْ شَاءَ شالله كقوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] وقال الحُسَيْنُ بن الفضل : يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة ومات في السنة ناس فمجاز الآية لتدخلن المسجد الحرام كلكم إذْ شَاءَ الله . وقيل : الاستثناء واقع على الأمر لا على الدخول؛ لأن الدخول لم يكن فيهن شك كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم عند دخول القبر : « وإِنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَ حِقُونَ » فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت ) .
قوله : « آمِنينَ » حال من فاعل لَتَدْخُلُنَّ وكَذَا « مُحَلِّقِينَ ومُقَصِّرِينَ » . ويجوز أن تكون « مُحَلِّقِينَ » حالاً من « آمِنينَ » فتكون متداخلةً .
فصل .
قوله : { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } إشارة إلى أنكم تتمون الحج من أوله إلى آخره فقوله : « لَتَدْخُلُونَّ » إشارة إلى الأول وقوله : « محلقين » إشارة إلى الآخر .
فإن قيل : محلقين حال الداخلين ، والدَّاخل لا يكون إلا مُحْرِماً والمحرم لا يكون مُحَلّقاً .
( فالجواب : أن قوله : « آمِنينَ » مُتَمَكِّنِين من أن تُتِمُوام الحجَّ مُحَلِّقِينَ ) .
قوله : « لاَ تَخَافُونَ » يجوز أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون حالاً ثالثةً ، وأن يكون حالاً ( إما ) من فاعل لتدخلن ، أو من ضمير « آمنين » أو « محلِّقين أو مقصرين » فإن كانت حالاً من آمنين أو حالاً من فاعل لتدخلن فهي حال للتأكيد وآمنين حال مقارنة وما بعدها حال مقدرة إلا قوله : « لا تخافون » إذا جعل حالاً فإنها مقارنة أيضاً .
فإن قيل : قوله : « لا تخافون » معناه غير خائفين ، وذلك يحصل بقوله تعالى : { آمِنِينَ } فما الفائدة في إعادته؟
فالجواب : أن فيه كمال الأمن؛ لأن بعد الحق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال ولكن عند أهل مكة يحرم قتال من أحْرَمَ ومن دَخَلَ الحَرَمَ فقال : تَدْخُلُونَ آمِنِينَ وتَحْلِقُوَ ، ويبقى أَمنُكُمْ بعد إحلالكم من الإحْرَام .

قوله : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } أي ما لم تعلموا من المصلحة ، وأن الصلاح كان في الصلح ، وأن دخولكم في سنتكم سبب لوطء المؤمنين والمؤمنات وهوقوله تعالى : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ . . . } [ الفتح : 25 ] الآية .
( فإن قيل : الفاء في قوله : « فعلم » فاء التعقيب ، فقوله « فعلم » عقبت ماذا؟ .
فالجواب : إن قلنا : إن المراد من « فَعَلِم » وقت الدخول فهو عقيب صَدَقَ ، وإن قلنا : المراد فعلم المصلحة فالمعنى علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب . والتقدير : لما حصلت المصلحةُ في العام القابل فعلم ما لم تعلموا من المصلحة المتجددة .
{ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } أي من قبل دخولهم المسجد الحرام « فَتْحاً قَرِيباً » وهو فتح الحديبية عند الأكْثَرين . وقيل : فتح خيبر . ثم قال : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ الفتح : 26 ] وهذا يدفع وَهَمَ حدوثِ علمه في قوله : « فَعَلِمَ » ؛ لأن قوله : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ الفتح : 26 ] يفيد سَبْقَ علْمِهِ ) .

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

قوله تعالى : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى } وهذا تأكيد لبيان صدق في الرؤيا؛ لأنه لما كان مرسلاً لرسوله ليهدي ، لا يريد ما لا يكون فيحدث الناس فيظهر خلافه فيكون ذلك سبباً للضلال . ويحتمل أن الرؤيا الموافقة للقواقع قد تقع لغير المرسل ، ولكن ذلك قليل لا يقع لكل أحد فقال تعالى : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى } وحكى له ما سيكون في اليقظة فلا يبعد أن يُرِيَه في المنام ما سيقع ولا استبعاد في صدق رؤياه وفيها بيان وقوع الفتح ودخول مكة بقوله تعالى : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } أي من يقويه على الأديان لا يستبعد منه فتح مكة . والهدى يحتمل أن يكون هو القرآن كقوله تعالى : { أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة : 185 ] وعلى هذا دين الحق هو ما فيه من الأصول والفروع . ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة أي أرسله بالمعجزة .
فيكون قوله : « وَدِينَ الحق » إشارة إلى ما شرع . ويحتمل أن يكون الهدى هو الأصولَ ودين الحق هو الأحكام . والألف واللام في « الهدى » يحتمل أن تكون للعهد وهو كقوله : { ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ } [ الأنعام : 88 ] وأن تكون للتعريف أي كل ما هو هُدًى .
قوله : « وَدِينَ الْحَقِّ » يحتمل أن يكون المراد دين الله تعالى؛ لأن الحق من أسماء الله ، ويحتمل أن يكون الحقُّ نقيضَ الباطل ، فكأنه قال : دين الأمر الحق ، ويحتمل أن يكون المراد الانقياد للحق ، وقوله : أرسله بالهدى وهو المعجزة على أحد الوجوه { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } أي جنس الدين { وكفى بالله شَهِيداً } على أنك صادق فيما تخبر وفي أنك رسول الله . وهذا في تسلية قلب المؤمنين فإنهم تأَذوا من ردِّ الكفَّار عليهم العهد المكتوب وقالوا : لا نعلم أنه رسول الله فلا تكتبوا محمد رسول الله ، بل اكتبوا محمد بن عبدالله ، فقال تعالى : { وكفى بالله شَهِيداً } أي في أنه رسول الله .

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

قوله : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر؛ لأنه لما تقدم « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُوله » دل على ذلك المقدر ، أي هو أي الرسول بالهُدَى محمد و « رسول الله » بدل أو بيان ، أو نعت . وأن يكون مبتدأ وخبراً ، وأن يكون مبتدأ و « رسول الله » على ما تقدم من البيان والبدل ، والنعت « والذين معه » عطف على محمد والخبر « عَنْهم » .
قوله : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } ( قال ابن الخطيب : كأنه قال : « الذين معه » جميعهم { أشداء الكفار رحماء بينهم } لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم ، أما في المؤمنين فقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] وأما في حق النبي عليه الصلاة والسلام فقوله تعالى : { واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ] . وقال في حقه : { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] .
وعلى هذا فقوله : « تَرَاهُمْ » لا يكون خطاباً مع النبي عليه الصلاة والسلام بل يكون عاماً خرج مَخْرَج الخطاب تقديره تراهم أيها السامع كائناً من كان ) . وقرأ ابن عامر في رواية : رَسُولَ اللهِ بالنصب على الاختصاص وهي تؤيد كونه تابعاً لا خبراً حالة الرفع .
ويجوز أن يكون « وَالَّذِينَ مَعَهُ » على هذا الوجه مجروراً عطفاً على الجلالة أي ورسول الذين آمنوا معه لأنه لما أرسل إليهم أضيف إليهم فهو رسول الله بمعنى أن الله أرسله ورسول أمته بمعنى أنه مرسل إليهم ويكون « أشداء » حينئذ خبر مبتدأ مضمرم أي هُمْ أَشِدَّاءُ . ويجوز أن يكون تَمَّ الكلامُ على « رَسُول اللهِ » و « الَّذين مَعَهُ » و « أشِدَّاء » خبره . وقرأ الحسن : أشِدَّاءَ رُحَمَاءَ بالنصب إما على المَدْح وإمَّا على الحال من الضمير المستكِنّ في « مَعَهُ » ؛ لوقوعه صلة ، والخبر حينئذ عن المبتدأ قوله « تَرَاهُمْ ركعاً » و « رُكَّعاً سُجَّداً » حالان؛ لأن الرؤية بصرية ، وكذلك « يَبتَغُونَ » . ويجوز أن يكون مستأنفاً . وإذا كان حالاص فيجوز أن تكون حالاً ثالثة من مفعول « تَرَاهُمْ » وأن تكون من الضمير المستتر في « رُكَّعاً سُجَّداً » . وجوز أبو البقاء أن يكون « سُجَّداً حالاً من الضمير في » رُكَّعاً « حالاً مقدرةً . فعلى هذا يكون » يَبْتَغُونَ « حالاً من الضمير » سُجَّداً ، فيكون حالاً من حال ، وتلك الحال الأولى حالٌ من حالٍ أخرى . وقرأ ابن يَعْمُرَ أَشِدًّا بالقصر والقَصْرُ من ضرائر الأشعار كقوله :
4497 لاَ بُدَّ مِنْ صَنْعَا وإنْ طَالَ السَّفَرْ .. .
فلذلك كانت شاذة . وقال أبو حيان : وقرأ عمرو بن عبيد : ورُضْوَاناً بضم الرءا قال شهاب الدين : وهذه قرءاة متواترة ، قرأ بها عاصمٌ في رواية أبي بكر عنهُ ، وتقدمت في سورة آل عمران واستثنيت له حرفاً واحداً وهو ثاني المائدة .

فصل
معنى الآية : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } أي غِلاظٌ عليهم كالأسد على فريسته ، لا تأخذهم فيهم رأفة « رُحَمَاءُ بينهم » متعاطفون متوادُّون بعضهم لبعض كالوالد مع الوَلَد كقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] و { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } خبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله } ، أن يدخلهم الجنة « وَرِضْوَاناً » أي يرضى عنهم . وهذا تمييز لركوعهم وسجودهم عن ركوع الكافر وسجوده وركوع المرائي وسجوده فإنه لا يبتغي به ذلك .
قوله : « سِيمَاهُمْ » قرىء سِيماؤُهُمْ بياء بعد الميم والمد . وهي لغة فصيحة ، وأنشد ( رحمه الله عليه ) :
4498 غُلاَمٌ رَمَاهُ اللهُ بالْحُسْنِ يَافِعاً ... لَهُ سِيمْيَاءُ لا تُشَقُّ عَلَى البَصَر
وتقدم الكلام عليها وعلى اشتاقها في آخر البقرة .
و « فِي وُجُوهِهِمْ » خبر « سِيمَاهُمْ » و { مِّنْ أَثَرِ السجود } حال من الضمير المستتر في الجار وهو « في وُجُوهِهِمْ » . وقرأ العامة « مِن أَثْرِ » بفتحتين . وابن هرمُز بكسر وسكون . وقتادة « مِنْ آثار » جمعاً .
فصل
المعنى علامتهم في وجوههم من أثر السجود . قيل : المراد سيماهم نورٌ وبياضٌ في وجوههم يوم القيامة كما قال تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] . رواه عطيةُ العَوْفيُّ عن ابن عباس : وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارة وجوههم من كَثْرَةِ صلاتهم . وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر . وروي البوالبيُّ عن ابن عباس : هو السَّمْتُ الحسن والخشوعُ والتواضع وهو قول مجاهد . والمعنى أن السجود أورثهم الخشوعَ والسَّمْتَ الحسن الذي يعرفون به . وقال الضحاك : صفرة الوجوه . وقال الحسن رضي الله عنه : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى . وقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو أثر التراب على الجِبَاه . وقيل : المراد ما يظهر في الجباه بكثرة السجود .
قوله : « ذَلِكَ مَثَلُهْمْ » ، « ذلك » إشارة إلى ما تقدم من وصفهم بكونهم أشِدَّاءَ رُحَمَاءَ لهم سِيمَا في وجوههم وهو مبتدأ خبره « مَثَلُهُمْ » و « فِي التَّوْرَاةِ » حال من « مَثَلَهُمْ » والعامل معنى الإشارة .
قوله : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل } يجوز فيه وجهان :
أحدهما أنه مبتدأ وخبره « كَزَرْعٍ » فيوقف على قوله : « فِي التَّوْرَاةِ » فهما مَثَلانِ .
وإليه ذهب أبن عباس ( رضي الله عنهما ) :
والثاني : أنه معطوف على « مَثَلُهُمْ » الأول فيكون مثلاً واحداً في الكتابين ويوقف حينئذ على : ف يالإنجِيلِ وإليه نحا مُجاهدٌ ، والفراء .
وعلى هذا يكون قوله « كَزَرْعٍ » فيه أوجه :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر أي مثلهم كزرع فسر بها المثل المذكور .

الثاني : أنه حال من الضمير في « مَثَلُهُمْ » أي مُمَاثِلِينَ زَرْعاً هذِهِ صفَتُهُ .
الثالث : أنها نعت مصدر محذوف أي تمثيلاً كزرعٍ . ذكره أبو البقاء .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون « ذلك » إشارة مبهمةً أوضحت بقوله : « كزرع » ، كقوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ } [ الحجر : 66 ] .
قوله : { أَخْرَجَ شَطْأَهُ } صفة ل « زَرْع » . وقرأ ابنُ ذَكوَان بفتح الطاء والباقون بإسكانها . وهما لغتان كالنَّهْر والنَّهَر . وقرأ أبو حَيْوة : شَطَاءَهُ بالمد . وزيد بن على : شَطَاهُ بألف صريحة بعد الطاء فيحتمل أن تكون بدلاً من الهمزة بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها على لغة من يقول : المِرَاةُ والكَمَاةُ بعد النقل . وهو مقيسٌ عند الكوفيين . ويحتمل أن يكون مقصوراً من الممدود . وأبو جعفر ونافع في رواية « شَطَهُ » بالنقل والحذف . وهو القياس . والجَحْدَريُّ شَطْوَهُ أبدل الهمزة واواً ، أو يكون لغة مستقلة . وهذه كلها لغات في فِرَاخ الزرع ، يقال : شَطَا الزرعُ وأَشْطَأ أي أخْرَجَ فِرَاخَهُ . وهل يختص ذلك بالحِنْطَةِ فقط أو بها وبالشعير فقط أو لا يختص خلافٌ مشهور . قال الشاعر :
4499 أَخْرَجَ الشَّطْءَ عَلَى وَجْهِ الثَّرَى ... وَمِنَ الأَشْجَارِ أفنانُ الثَّمَرْ
قوله : « فآزَرَهُ » العامة على المد وهون على « أَفْعَلَ » . وَغَلَّطوا من قال : إنه فاعل كَجَاهَرَ وغَيْرِه بأنه لم يسمع في مضارعه : يُؤَازِرُ على يؤزر . وقرأ ذكوان : فَأَزَرَه مَقصُوراً ، جعله ثلاثياً . وقرىء « فأزَّرَهُ » بالتشديد . والمعنى في الكل : قوّاه . وقيل : ساواه ، وأنشد :
4500 بِمَحْنِيَةٍ قَدْ آزَرَ الضَّال نَبْتُهَا ... مَجَرَّ جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيَّبِ
قوله : « عَلَى سُوقِهِ » متعلق ب « اسْتَوَى » . بالهمزة الساكنة . كقوله :
4501 أَحَبُّ المُؤْقِدِينَ إلَيَّ مُؤْسَى ..
بهمزة مضمومة بعندها واو كعروج وتوجيه ذلك . والسُّوق جمع سَاقٍ .
( « فصل » .
قال المفسرون : يقال : أشطأ الزرع فهو مُشْطِىء إذا خَرَجَ . قال مقاتل : هو نبت واحد فإذا خرج بعده فهو شطء . وقال السُّديّ : هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى « فَآزَرَهُ » قَوَّاهُ وأَعَانَهُ وشدَّ أزره « فَاسْتَغْلَظَ » غَلُظَ ذلك الزرع « فَاسْتَوَى » تَمَّ وَتَلاَحَقَ نَبَاتُهُ عَلَى سُوقِهِ أصوله : « يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ » أي أعجب ذلك زُرَّاعَهُ هذ مثل ضربهُ الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل أنهم يكونوا قَليلاً ثم يَزْدَادُونَ وَكْثُرُونَ . قال قتادة : مَثَلُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب له سيخرج قومٌ يَنْبتُونَ نبات الزرع يأمُرون بالمعروف وينهوْن عن المنكر . وقيل : الزرع محمد صلى الله عليه وسلم والشطء أصحابه والمؤمنون . روى مبارك بن فُضَالة عن الحَسَن قال : محمد رسول الله والذين معه : أبو بكر الصديق { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } عمر بن الخطاب { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } عثمان بن عفان { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } على بان أبي طالب « يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ رَبِّهِمْ » العشرة المبشرن « كَمَثَلِ زَرْعٍ » محمد { أَخْرَجَ شَطْأَهُ } أبو بكر { فَآزَرَهُ فاستغلظ } عثمان ( بن عفان ) يعني استغلظ عثمان بالإسلام { فاستوى على سُوقِهِ } علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه { يُعْجِبُ الزراع } قال : المؤمنون { لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } فعل عمر لأهل مكة بعدما أسلم لا يُعبد الله سرًّا بعد اليوم .

روى أنس بن مالك : رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أَرْحَمُ ( أصْحَابِ ) النَّبِيِّ أبُو بَكْرس ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللهِ عُمَرُ ، وَأَصْدَقُهُمْ حُبًّا عُثْمَانُ وَأَفْرَضُهُمْ زيدٌ ، وَأَقْوَأُهُمْ أبيٌّ ، وَأَعْلَمُهُمْ بالحلال وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَلِكُلِّ أُمَّة أَمِينٌ وَأَمِين هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ » ، وفي رواية أخرى : « وَأَقْضَاهُمْ عَلِيٌّ » وروى بريدةُ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِي بِأَرْض كان نُورَهُمْ وَقَائِدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) » .
قوله : { يُعْجِبُ الزراع } حال أي معجباً . وها تم المَثَلُ .
قوله : « لِيَغِيظَ » فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه متعلق ب « وَعَدَ » ؛ لأن الكفار إذا سمعوا بعزِّ المؤمنين في الدنيا وما أد لهم في الآخرة غَاظَهُمْ ذلك .
الثاني : أن يتعلق بمحذوف دل عليه تشبيهُهُمْ بالزرع في نمائِهِمْ وتقويتهم . قاله الزمخشري ، أي شبههم الله بذلك ليغيظ .
الثالث : أن يتعلق بما دل عليه قوله : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } إلى آخره أي جعلهم بهذه الصفات ليغيظ .
قال مالك ابن أنس ( رضي الله عنه ) « مَنْ أصْبَحَ فِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ هَذِهِ الآيَةُ » . وقال عليه الصلاة السلام : « اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي لاَ تَتَّخِذُوهُمْ عَرَضاً بَعْدِي ، فَمَن أَذَانِي فَقَدْ أَذَى الله فَيُوشِكُ أَنْ يَأخُذَهُ » .
وقال عليه الصلاة والسلام : « لاَ تَسُبّثوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدهِم وَلاَ نَصِيفَهُ » .
قوله : { لْكُفَّارَ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم } « مِنْ » هذه للبيان ، لا للتبعيض؛ لأن كلهم كذلك فهي كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .
وقال الطبري : منهم يعني من الشطء الذي أخرج الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام إلىيوم القيامة ، فَأَعَادَ الضمير على معنى الشطء لا على لَفْظِهِ فقال : « مِنْهُمْ » ولم يقل : مِنْه وهو معنًى حَسَنٌ .
فصل
قد تقدم الدكلام على الأجر العظيم والمغفرة مراراً . وقال ههنا في حق الراكعين السَّاجدين : إنهم يَبْتَغُونَ فضلاً من الله ورِضْواناً وقال : لهم أجر « ولم يقل : لهم ما يطلبوا ( نَ ) ه من الفضْل؛ لأن المؤمن عند العمل لم يلتَفِتْ إلى عمله ولم يجعل له أجراً يعتدّ به فقال : لا أبتغي إلا فضلك فإن عملي نَزْرٌ لا يكون له أجرٌ والله تعالى آتاه من طلب الفضل ، وسماه أجراً إشارةً إلى قبوله عمله ووقوعه الموقع .
روى أنه من قرأ أول ليلة من رمضان : إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فِي التَّطَوع حُفِظَ في ذلك العام ( انتهى ) . ( اللَّهم إِنِّي أَسْأَلُكَ رِضَاكَ والْجَنَّة وأَعوذُ بك من سَخَطِكَ والنَّارِ ) .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ } قرأ العامة بضم التاء وفتح القاف وتشديد الدال مكسورة . وفيها وجهان :
أحدهما : أنه معتمدٍّ ، وحذف مفعوله إما اقتصاراً كقوله : { يُحْيِي وَيُمِيتُ } وكقولهم : « هُوَ يُعْطِي وَمْنَعُ » ، وكُلُوا واشْرَبُوا « وإما اختصاراً للدلالة عليه أي لا تقدموا مالا يصلح .
والثاني : أنه لازم نحو : وَجه وتَوَجَّه . ويعضده قراءة ابن عباس والضحاك : لاَ تَقَدَّمُوا بالفتح في الثَّلاَثَةِ . والأصل لا تتقدموا فحذف إحدى التاءين . وبعض المكيين لا تقدموا كذلك إلا أنه بتشديد التاء كتاءات البَزّي والمتوصل إليه بحرف الجر في هاتين القراءتين أيضاً محذوف أَيْ لا تَتَقَدَّموا إلىأمر من الأمور .
وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفُسكم تقدماً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم يقال : لفلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمْرُهُ ، وعَلاَ شَأْنُهُ .
وقرىء : لا تُقْدموا بضم التاء و كسر الدال من أقدم أي لا تُقْدِمُوا على شيءٍ .
فصل
فصل في بيان حسن الترتيب وجوه :
أحدهما : أنهم في السورة المتقدمة لما جرى منهم ميلٌ إلى الامتناع مما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم من الصلح ، وألزمهم الله كلمة التقوى قال لهم على سبيل العموم : لا تقدموا بين يدي الله ورسوله أي لا تتجاوزوا ما أتى من الله تعالى ورسوله .
الثاني : أنه تعالى لما بين علو درجة النبي صلى الله عليه وسلم بكونه رسوله الذي يظهر دينه وأنه بالمؤمنين رحيمٌ قال : لا تتركوا من احترامه شيئاً لا بالفعل ولا بالقول وانظروا إلى رفعة درجته .
الثالث : أنه تعالى وصف المؤمنين بأنهم أشداء ورحماء فيما بينهم وبكونهم راكعين ساجدين وذكر أن لهم من الحرمة عند الله ماأورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة قوله : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل } [ الفتح : 29 ] ، فإن المَلكَ العظيم لا يذكر أحداً في غيبته إلا إذا كان عنده محترماً ووعدهم بالأجر العظيم فقال في يهذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انْحِطَاط درجاتكم وإحباطَ حَسَنَاتِكم ( ولا تقدموا ) .
فصل في سبب النزول
روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة وهو قال الحسن أي لا يذبحوا قيل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن ناساً ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يُعِيدُوا الذَّبْحَ ، وقال : » من ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُك فِي شَيْءٍ « وروي عن مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم الشك أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم .

وروى ابن الزبير أنه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أمر القعْقَاع بن معبد بن زرارة . وقال عمر : بل أمر الأقرعَ بن حابس . قال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، قال عمر : ماأردت خلافَك فَتَمَارَيَا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } ؛ قال ( ابن ) الزبير : فكان عمر لا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بعد هذه الآية ) حتى يستفهمه . وقيل : نزلت في جماعة أكثروا من السؤال . وقال مجاهد : لا تَفْتَاتُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يَقْضِيَهُ الله على لسانه . وقال الضحاك : يعني في القتال وشرائع الدين ، أي لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله . قال ابن الخطيب : والأصحّ أنه إرشاد عام يشتمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل افتِيَاتٍ وتقدُّم واستبدادٍ بالأمر وإقدامٍ على فعلٍ غيرِ ضروري من غير مُشَاوَرةٍ .
فصل
ومعنى بين يدي الله ورسوله أي بحضرتهما؛ لأن ما يحضره الإنسان فيهو بين يديه ناظر إليه . وفي قوله : { بين يدي الله ورسوله } فوائد :
إِحْدَاهَا : أن قول الإنسان فلان بين يدي فلان إشارة إلى أن كل واحد منهما حاضر عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغِلْمَان؛ لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تَقْليب الحَدَقَة إليه وتحريك الرأس غليه عند الكلام ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك ولأن اليدين تنبىء عن القدرة لأن قول الإنسان : فلانٌ بين يدي فلان أي يُقَلِّبِه كيف يشاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعاً بين يديه وذلك يفيد وجوب الاجْتِنَاب من التَّقَدُّم .
وثانيها : ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول والانقياد لأوامره ، لأن احترام الرسول احترام للمرسل ، لكن احترام الرسول قد يترك لأجل بُعد المرسل وعدم اطّلاعه على ما يفعل برسوله فقوله : « بين يدي الله » أي أنتم بحضرة من الله وهو ناظر إليكم . وفي مثل هذه الحال يجب احترام رسوله .
وثالثها : أن العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر الأمر المتأخِّر ، وهو قوله : « واتّقوا الله » لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يقلبه كيف يشاء يكون جديراً بأن يتقيه ، وقوله : وَاتَّقُوا الله « أي في تضييع حقه ، ومخالفة أمره { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لأقوالكم ، » عَلِيمٌ « بأفعالكم .
قوله ( تعالى ) : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي } في إعادة النداء فوائد منها أن في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد ، كقول لقمان لابنه : { يابني لاَ تُشْرِكْ بالله } [ لقمان : 13 ] { يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } [ لقمان : 16 ] { يابني أَقِمِ الصلاة } [ لقمان : 17 ] ، لأن النداء تنبيه للمنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل بالَه منه ، فإعادته تفيد تجدد ذلك .

ومنها : أن لا يتوهم متوهم أن المخاطبَ ثانياً غير المخاطب الأول ، فإن من الجائز أن يقول القائل : يا زيدُ افعلْ كذا وكذا يا عمرو ، فإذا أعادة مرة أخرى وقال : يا زيد قل كذا ( يا زيد قل كذا ( وقل كذا ) ) يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً . ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ، وليس الثاني تأكيداً للأول كقولك : يَا زَيْدُ لا تَنْطٌ ولا تَتَكَلَّم إلا الحق فإنه لا يحسن أن تقول : يا زيدُ لا تَنْطقْ يا زيدُ لا تَتَكَلَّمْ كما يحسن عند اختلاف المطلوبين .
فصل
قوله : { لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي } يحتمل أن يكون المراد حقيقة رفع الصوت ، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام ، وترك الاحترام ، وهو أن رفع الصوت يدل على عدم الخَشْيَة؛ لأن من خَشِيَ قلبُه ارْتَجَفَ وَضَعُفَتْ حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة ، ومن لم يخف ثبت قلبه وقويت حركته الدافعةُ ، وذلك دليلٌ على عدم الخشية . ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام ، لأن من كَثُر كلامه يكون متكلماً عند سكوت الغير فيبقى لصوته ارتفاعٌ وإن كان خائفاً فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي صلى الله عليه وسلم كلامٌ كثير بالنسبة إلى كلام النبي عليه الصلاة والسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغ فالمتكلمُ عنده إن أراد الإخبار لا يجوزُ له ، وإن سأل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا وجب عليه البيان فهو لا يسكت عما سُئل ، وإن لم يُسْأَل فربما يكون في الجواب تكليف لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورْطَة العِقَاب كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [ المائدة : 101 ] .
ويحتمل أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم ، أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعاً على كلام النبي عليه الصلاة والسلام في الخطاب . والأول أوضح والكل يدخل في المراد . قال المفسرون : معناه بَجِّلُوه وفَخّموهُ ولا ترفعوا أصواتكم عنده ولا تنادوه كما ينداي بعضكم بعضاً . روى أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال : « لما نزل قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي } جلس ثابتُ بنُ قيسٍ في بيته ، وقال : أنا من أهل النار واحتَبَسَ عن النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعدَ بْنَ معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأنُ ثابت اشتكى؟ فقال سعدٌ : إنه لَجَارِي وما علمت له شكوى قال : فأتاه سعدٌ فَذَكَر له قوله النبي صلى الله عليه وسلم فقال ثابتٌ : أُنْزِلَتْ هذه الآية ولقد عَلِمْتُمْ أنِّي من أَرْفَعِكُمْ صوتاً عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا من أهل النار فذكر ذلك سعدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من أهل الجنة » .

« وروى لمانزلت هذه الآية قَعَدَ ثابتٌ في الطريق يبكي فمر به عاصمُ بْنُ عَدِيٌ فقال : ما يُبكِيكَ يا ثابتُ؟ . قال : هذه الآية أتخوف أن تكمونَ نزلت وأنا رفيعُ الصوت أخاف أن يُحْبَط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاءُ فِأتى امرأته جميلَة بنتَ عبدِ الله بن أبيِّ ابنِ سلول فقال لها : إذا دخلت فَرَسي فشُدّي على الضَّبَّة بمِسمارٍ ، فضربت عليه بِمسْمَارٍ وقال : لا أخْرُجُ حتى يَتَوفَّانِي الله أو يَرْضَى عنِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأتى عاصمٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فقال : اذهبْ فادْعُهُ لي فجاء عاصم إلى المكان الي رآه فيه فلم يجدْه ، فجاء إلى أهلِهِ فوجَدَهُ بي بيت الفرس فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقال له : اكْسِر الضَّبة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُبْكِيكَ يا ثابت؟ فقال : أنا صيت وأخاف أن تكمون هذه الآية نزلت فيّ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تَرْضَى أن تعيشَ حميداً وتُقْتضلَ شهيداً وتَدْخُلَ الجنة؟ فقال : رضيتُ ببُشْرَى الله ورسوله ، لا أرفعْ صَوْتي أبداً على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم » فأنزل الله { الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله } الآية . قال أنس : فكُنَّا ننظر إلى رجلٍ من أهل الجنة يمشي بيننا فلما كان يومُ اليَمَامَة في حرب مُسَيْلِمَةَ رأى ثابتٌ من المسلمين بعض الانكسار فانهزت طائفةٌ منهم فقال : أُفٍّ لهؤلاء ثم قال ثابتٌ لسالمِ مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا ثُمّ ثَبَتَا وقاتلا حتى قُتِلاَ واستشهد ثابتٌ وعليه دِرْعٌ فرآه رجلٌ من الصحابة بعد موته في المنام قال له : اعلم أن فلاناً رجلٌ من المسلمين نَزَ درعي فذهب بهاوهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن ( به ) في طِوَله ، وقد وضع على درعي بُرْمَةً؛ فأتِ خالدَ بْن الوليد وأخْبِرْه حتى يسترد درعي ، وأت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقُلْ له : إن عليّ دَيْناً حتى يَقْضِيَهُ ( عنِّي ) ، وفلان ( وفلان ) من رقيقي عتيق .
فأخبر الرجلُ خالداً فوجد دِرْعه والفرسَ على ما وصفهُ فاسْتَرَدَّ الدرع وأخبر خالدٌ أبا بكر بتلك الرؤيا ، وأجاز أبو بكر وصيَّتَهُ .

قال مالك بنأنس ( رضي الله عنه ) : لا أعلم وصيةً أُجيزَتْ بعد موت صاحبها إلا هذه .
قوله : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } قال ابن الخطيب : إن قلنا : ( إن ) المراد من قوله : { لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ } أي لا تُكْثِرُوا الكلام فقوله : « ولاَ تَجْهَرُوا » يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عند النبي صلى الله عليه وسلم بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل ، وإن قلنا : المراد بالرفع الخطاب فقوله : « لاَ تَجْهَرُوا » أي لا تخاطبوه كما تُخَاطِبُو ( نَ ) غيره .
واعلم أن قوله تعالى : { لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ } لما كان من جنس لا تجهروا لم يستأنف النداء ، ولما كان مخالفاً للتقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كقول لقمان لابنه : { يابني لاَ تُشْرِكْ بالله } [ لقمان : 13 ] ، وقوله : { يابني أَقِمِ الصلاة } [ لقمان : 17 ] لكن الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح ، فقوله : { يابني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر } [ لقمان : 17 ] من غير استئناف النداء لكون الكل من عمل الجوارح .
فإن قيل : ما الفائدة من قوله : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول } مع أن الجهر مستافد من قوله : { لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ } ؟ .
فالجواب : أن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو صوته ، والنهي عن الجهر منع من المساواة ، أي لا تجهروا له بالقول كما تَجْهَرُو ( نَ ) لنظرائكم بل اجعلوةا كلمته عُلْيَا .
قوله : « أنْ تَحْبَطَ » مفعول من أجله . والمسألة من التنازع لأن كلاًّ من قوله : « لاَ تَرْفَعُوا » و « لاَ تَجْهَرُوا لَهُ » يطلبه من حيث المعنى فيكون معمولاً للثاني عند البصريين في اختيارهم ، وللأول عند الكوفيين . والأول أصح للحذف من الأول أي لأن تَحْبَطَ .
وقال أبو البقاء : إنها لام الصّيرورةِ و { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } حال .
فصل
معنى الكلام إنكم إن رفعتم أصواتكم وتقدمتم فذلك يؤدي إلى الاستحقار وهو يفضي إلى الارتداد والارتداد محبطٌ . وقوله : { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } إشارة إلى أن الردّة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نداماً غاية الندامة خائفاً غايةَ الخَوف ، فإذا ارتكبه مراراً قلّ خوفه ونَدَامَتُه ويصير عادة من حيث لا يعلم متى تمكن هذا كان في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها ، وهذا كما إذا بلغه خبر فإنه لا يقطع بالمخبر ، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ إلى حد التواتر حصل له اليقينُ وتمكن الاعتقاد ، ولا يدري متى كان ذلك وفي أي لَمْحَةٍ حَصَلَ هذا اليقين .
فقوله : { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تغفر ولا توجب رِدّة؛ لأن الامر غير معلوم بل احْسُموا الباب .

قوله : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله } أي إجلالاً له { أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فتخرج خالصة .
قوله : { أولئك الذين } يجوز أن يكون « أولئك » مبتدأ « والذين » خبره والجملة خبر « إِنَّ » ويكون « لهم مَغْفِرَةٌ » جملة أخرى إما مستأنفة وهو الظاهر وإما حالية . ويجوز أن يكون « الَّذِينَ امْتَحَنَ ( الله قُلُوبَهُمْ ) » صفة « لأولئك » أوة بدلاً منه أو بياناً و « لَهُمْ مَغْفِرَةٌ » جملة خبرية .
ويجوز أن يكون « لهم » هو الخبر وحده و « مَغْفِرَةٌ » فاعل به واللام في قوله : « لِلْتَّقْوَى » يحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كقولك : أنْتَ لِكذَا أي صَالِحٌ أي كائنٌ ويحتمل أن يكون للتعليل . وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون تعليلاً يجري مَجْرَى بيان السبب المقتدمخ ، كقولك : جِئْتُكَ لإِكْرَامِكَ ابني أمسِ أي صار ذلك السبب السابق سبب المجيء .
والثاني : أن يكون تعليلاً يجرى مجرى بيانه علّيّة المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً ، كقولك : جِئْتُكَ لأَدَاء الوَاجِبِ ، أي ليصير مجيئي سبباً لأداء الواجب .
فعلى الأول فمعناه أن الله علم في قلوبهم تقواه فامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها ، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه علىأنفسهم . على الثاني فمعناه أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته معرفة رسوله بالتقوى أي ليرزقهم الله التقوى ، ثم قال : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وقد تقدم الكلام عن ذلك .

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

قوله ( تعالى ) : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات } هذا بيان لحال من كان في ( مقابلة من تقدم ، فإن الأول غَضَّ صوته ، والآخر رفعه ، وفيه إشارة إلى ترك الأدب من وجوه : )
أحدهما : النداء ، فإن نداء الرجل الكبير قبيح بل الأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة إليهِ .
الثاني : النداء من وراء الحجرات ، فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المَشْيَ والمجيئَ بل يجيئه من مكانه وكلمه ومن ينادي غيره مع الحائل يريد منه حضوره .
الثالث : قوله « الحجرات » يدل على كون النبي صلى الله عليه وسلم في خَلْوَتِهِ التي لا يمكن إتيان المحتاج إليه في حاجته ( في ) ذلك الوقت بل الأحسن التأخير وإن كان في وَرْطَةِ الحاجة .
قوله : « مِنْ وَرَاء » « مِنْ » لابتداء الغاية . وفي كلام الزمخشري ما يمنع أن « مِنْ » يكون لابتداء الغاية وانتهائها قال : لأ ، الشيء الواحد لا يكون مبدأ للفعل ومنتهًى له .
وهذا الذي أثبته بعض الناس وزعم أنها تدل على ابتداء الفعل وانتهائه في جهة واحدة نحو : أَخْذْتُ الدِّرْهَمَ مِنَ الكِيسِ .
والعامة على الحُجُرَات بضمتين وأبو جعفر وشَيْبَةُ بفَتْحها . وابن أبي عبلَة بإسانها . وهي ثلاث لغات وتقدم تحقيقها في البقرة في قوله : « في ظُلُمَاتٍ » .
الحُجْرَةُ فُعْلَةٌ بمعنى مفعولة كغُرْفَة بمعنى مَغْروفَة . قال البغوي : الحُجُرَاتُ جمع الحُجْرَةِ فهي جَمْعُ الجَمْعِ .
فصل
ذكروا في سبب النزول وجوهاً :
الأول : قال ابن عباس : بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سريّةً إلى بني العَنْبر ، وأمر عمليهم عُيَيْنَة بن حِصْنٍ الفَزَاريّ ، فلما علما هربوا وتركوما عيالهم ، فَسَبَاهُمْ عيينة ، وقدم ( بهم ) على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بعد ذلك رجالهم يفدونَ الذَّرَارِي فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً في أهله فلما رأتهم الذَّرَارِي أجْهَشُوا إلى آبائهم يبكون وكانت لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجْرةٌ فجعلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادون : يا محمد اخْرُجُ إلينا حتى أيقظُوه من نومه فخرج إليهم ، فقالوا يا محمد : فادنا عيالنا ، فنزل جبريل ( عليه الصلاة والسلام ) فقال : إن الله يأمرك أن تجعل بين وبنيهم رجلاً فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتَرْضُون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم؟ فقالوا : نعم؛ قال سبرة : أنا لا أحكم وعمي شاهد وهو الأعور بن بشامة؛ فرضوا به فقال الأعور : أرى ( أن ) تفادي نصفهم وأعتق نصفهم . فأنزل الله : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } وصفهم بالجهل وقلة العقل .

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وقال قتادة : نزلت في ناسٍ من أعراب بني تميم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب : اخرج إلينا يا محمد فإنن مَدْحَنا زَيْنٌ وذمّنا شينٌ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول إنما ذلك اللهُ الذي مَدْحُهَ زَيْنٌ وذَمُّهُ شَيْنٌ ، فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرُك ونفاخرك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالشعر بُعِثْتُ ، ولا بالفخر أُمِرْتُ ، ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضلَه وفضل قومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شِمَاس ، وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم : قُمْ فَأَجِبْهُ فأجَابَهُ . وقام شاعرهم فذكر أبياتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسَّان بن ثاتب : أجبهُ فأجابهُ ، فقام الأقرع بن حابس فقا : إن محمداً المؤتَى له ، تكلم خطيبنا ، فكان خطبيهم أحسنَ قولاً ، وتكلم شاعرُنا فكان شاعرُهم أشعرَ وأحسنَ قولاً ، ثم مدنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشه أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يضرك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللّغَلظُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل فيهم : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي . . . } [ الحجرات : 2 ] الآيات الأربع إلى قوله : { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وقال زيد بن أرقم : جاء ناس من العرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به ، وإن يكُنْ ملكاً نعيش في جَنَاحِهِ فجاءوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات : يا محمدُ يا محمد ، فأنزل الله : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ . . . } الآية .
فصل
في قوله : « أكثرهم » وجوه :
أحدها : أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل ، احترازاً عن الكذب واحتيادطاً في الكلام ، لأن الكل مما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل ، ثم إن الله تعالى مَعَ إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم ، وفيه إشارة لطِيفةٍ وهي أن الله تعالى يقول : أنَا مع إحاحة علمي بكل شيء جربت على عادتكم استحساناً لتلك العادة ، وهي الاحتراز عن الكذب ، فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا ً قاطعاً على رضائي بذلك منكم .

الثاني : أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون ، وذلك أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني ، مثاله : إذا كان الإنسان جاهلاً أو فقيراً فيصير عالماً أو غنياً فيقال في العُرْف : زَيْدٌ لَيْسَ هُوَ الذي رَأَيْتُ مِنْ قَبْلُ بل الآن على أحسن حال فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ذكرنا . إذا علم هذا فهم بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة مغايرون لأنفسهم إذا اعتبرتهم مع غيرها . فقوله تعالى : { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } إشارة إلى ما ذكرنا .
الثالث : لعل فيهم من رجع عن ذلك الأمر ، ومنهم من استمر على تلك العادة الرّديئة فقال : أكثرهم إخراجاً لمن ندم منهم عنهم .
قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } تقدم مثله . وجعله الزمخشري فاعلاً بفعل مقدر أي ولو ثبت صَبْرُهُم . وجعل اسم أن ضميراً عائداً على هذا الفاعل . وقد تقدم أن مذهب سِيبَويْهِ أنها في محل رفع بالابتداء وحنيئذ يكمون اسم « أَنَّ » ضميراً عائداً على صَبْرهم المفهوم من الفعل .
قوله : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يحتمل أمرين :
أحدهما : غفور لسوء صنعهم في التعجيل .
وثانيهما : لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير يغفر الله لهم سيئاتهم .
ويحتمل أن يكون ذلك حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصلح . وقوله : { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } كالصبر لهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا } قال المفسرون : نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان لأمه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الموقعة والياً ومصدقاً ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع به القوم تَلقَّوْه تعظيماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إنهم منعوا صدقاتهم وأراد قتلي ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمَّ أن يَغْزُوَهُمْ فبلغ القومَ رجوعُه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : سَمِعْنَا برسُولك فخرجنا نلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى فأبطأ في الرجوع فخشينا أنه إنما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله . فاتَّهمُهمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالدَ بنَ الوليد خفْيةً في عسكره وقال : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تَرَ ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار ، ففعل ذلك خال ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم يَرَ منه إلا الطاعة والخَيْرَ وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره فنزل { ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } يعني الوليد بن عقبة « بِنَبأ » بخبر ، { فتبينوا أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } كيلا تصيبوا بالقتل والقتال قوماً بجالهة { فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ } من إصابتكم بالخَطَأ ، « نَادِمينَ » .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ، لأن الله تعالى لم يقل : إني أنزلتها لكذا والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينقل عنه أنه قال : وردت الآية لبيان ذلك حسب ، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول الآية ، ومما يصدِّق ذلك ويؤكده أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد ، بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ ، والمخطىء لا يسمَّى فاسقاً ، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان ، كقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } [ المنافقون : 6 ] وقوله تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] وقوله : { وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [ السجدة : 20 ] إلى غير ذلك؟! .
فصل
دلت الآية على أن خبر الواحد حجة وشهادة الفاسق لا تقبل أما في المسألة الأولى فلأنه علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقاً ولو كان خبر الواحد العدل لا يقبل لما كان للترتيب على النسق فائدة وأما في المسألة الثانية فلوجهين :
أحدهما : أنه أمر بالتبين وقيل قوله كان الحاكم مأموراً بالتبين ، فلم يفد قوله الفاسق شيئاً ، ثم إنَّ الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ وباب الشهادة أضيق من باب الخبر .

الثاني : أنه تعالى قال : { أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } ، والجهل فو الخطأ؛ لأن المجتهد إذا أخطأ لا يسمى جاهلاً فالذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصف جاهلاً فلا يجوز البناءُ على قَوْلِهِ .
قوله : « أَنْ تُصِيبُوا » مفعول له كقوله : أَنْ تَحْبَطَ « . قال ابن الخطيب : معناه على مذهب الكوفيين لئَلاّ تُصِيبُوا ، و على مذهب البصريين كَرَاهَةَ أَنْ تُصِبُوا .
قال : ويحتمل أن يكون المراد فتبينوا واتقوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ، فقوله : » بِجَهَالةٍ « في تقدير حال أي تُصيبوهُمْ جَهلينَ ، ثم حقق ذلك بقوله : { فتبحوا على ما فعلتم نادمين } . وهذا بيان ، لأن الجاهل لا بد وأن ينقدم على فِعْلِهِ . وقوله : » تصبحوا « معناه تصيبوا . قال النحاة : أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه :
أحدها : بمعنى دخول الإنسان في الصباح .
والثاني : بمعنى كان الأمر وقت الصباح كما يقال : أصبحَ المريضُ اليومَ خَيْراً مما كان يريد كونه في وقت الصبح على حالةِ خير .
الثالث : بمعنى صار كقوله : » أصْبحَ زَيدٌ غَنَياً « أي صار من غير إرادة وقتٍ دونَ وقتٍ .
وهذا هو المراد من الآية . وكذلك » أمسى وأَضْحَى « . قال ابن الخطيب : والصيرورة قد تكون من ابتداء أمرٍ وَتدُومُ وقد تكون في آخر الأمر بمعنى آل الأمر إليه ، وقد تكون متسوطة؛ فمثال الأول قوللك : صَارَ الطِّفْل فاهِماً حَدُّهُ . ومثال الثالث قولك : صَار زيدٌ عالماً إذا لم ترد أخذه فيهِ ولا بلوغه ونهايته بل كونه ملتبساً به . وإذا علم هذا فنقول : أصلُ استعمال أصبح فيما يصير الشيء بالغاً في الوصف نهايته وأصل أضحى التوسط ، لا يقال : أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحداً ، لأنَّا نقول : إذا تقارَبتِ المعاني جاز الاستعمال ، وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل ، وكثير من الألفاظ أصله معنى واستعمل استعمالاً شائعاً فيما يشاركه . وإذا علم هذا فقوله تعالى » فَتُصْبِحُوا « أي فتَصِيروا آخذين في الندم ثم تِسْتَدِيمُونَهُ ، وكذلك في قوله : { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [ آل عمران : 103 ] أي أخذتم في الأخوَّة وأنتم فهيا زائدونَ مستمرُّون .
قوله : » نَادِمينَ « الندم هَمٌّ دائم ، والنون والدال والميم في تقلبها لا تَنْفَكُّ عن معنى الدوام كقول القائل : أدْمَنَ في الشُّرْب ومُدْمِنٌ أي أقام ومنه : المَدِينَةُ .
قوله : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } فاتقوا الله أن تقولوا باطلاً أو تكذِّبوه فإن الله يخبرُه ويعرفُه أحوالكم فتفْتَضِحُوا .
قوله : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر } يجوز أن يكون حالاً إما من الضمير المجرور في قوله : » فِيكُمْ « وإمَّا من المرفوع المستتر في » فِيكُمْ « لوقوعه خبراً .

ويجوز أن يكون مستأنفاً ، إلا أنّ الزمخشري منع هذا ، لأدائه إلى تنافر النظم . ولا يظهر ما قاله بل الاستئناف واضحٌ أيضاً . وأتى بالمضارع بعد « لو » دلالة على أنه كان في إرادتهم استمرارُ عمله على ما يَسْتَصوبُونَ .
فصل
نقل ابن الخطيب أن الزمخشريَّ قال : وجه التعليق هو أن قوله : « لو يطيعكم » في تقدير حال الضمير المرفوعه في قوله : فيكم ، والتقدير : كائن فيكم أو موجود فيكم على حالٍ تريدون أن يُطِيعَكُمْ أو يفعل باستصوابكم فلا ينبغي أن يكون على تلك الحال لو فعل ذلك لَعِنتُّمْ أي وقعتم في شدة أو أَثِمْتُمْ وهَلَكْتُمْ والعَنَتُ الإثْمُ والهَلاَكُ .
ثم قال : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان } . وهذا خطاب مع بعض المؤمنين غير المخاطبين بقوله : « لَوْ يُطِيعُكُمْ » . قال الزمخشري : اكتفى بالتغير في الصفة واختصر ، ولم يقل : حبَّب إلى بعضكم الإيمان وقال أيضاً بأن قوله تعالى : « لَوْ يطيعكم » بدل « أطاعكم » إشارة إلى أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة ودوام النبي صلى الله عليه وسلم على العمل باستصوابهم لكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها . وههنا كذلك غن لم يحصل الخالفة بصريح اللفظ؛ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك ، لأن المخاطبين أولاً بقوله : « لَوْ يُطِيعُكُمْ » هم الذين أرادوا أن يكون عملهم لمراد النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما قاله الزمخشري ، واختاره وهو حسن قال : والذي يَجُوز أنْ يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى قال : { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا } واكشفوا . ( ثم ) قال بعده : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه فيكم مبيِّن مُرْشد ، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ الشيخ في مسألة : هذا الشَّيْخُ قاَعئدُ ، لا يريد به بيان قعوده وإنما يريد أمرهم بمراجعته؛ لأن المراد لا يطيعكم في كثير من الأمر ، وذلك لأن الشيخ إذا كان يعتد على قول التلاميذ لا يطمئن قلوبهم بالرجوع إليه وإن كان لا يذكر إلا النقل الصحيح وتقريره بالدليل القوى يراجعه كل ألأحد فكذلك ههنا فاسترشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحداً فلا يوجد كفيه حيف ولا يروج عليه زيف . والذي يدل عليه أن المراد من قوله : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ } لبيان امتناع الشرط لامتناع الجزاء ، كما في قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وقوله : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] وذلك يدل على أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله .

قوله : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان } ها استدراك من حيث المعنى لا من حيث اللفظ لأن من حبب إليه الإيمان غايرت صفتُهُ صفة من تقدَّم ذِكْرُهُ .
فصل
{ حبب إليكم الإيمان } فجعله أحبّ الأديان إليكم « وزَّيَّنَهُ » حسنه « فِي قُلُوبِكُمْ » حتى اخترتموه { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق } قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) يريد الكذب « والعِصْيَانَ » جميع مَعَاصِي الله . ثم عاد من الخطاب إلى الخبر فقال : { أولئك هُمُ الراشدون } .
فصل
قال ابن الخطيب : بعد ذكره الكلام المتقدم : وهذا معنى الآية جملةً فلنذكْره تفصيلاً في مسائل :
المسألة الأولى : لو قال قائل : إذا كان المراد بقوله : { واعلموا أن فيكم رسول الله } الرجوع إليه فلم يصرح بقوله : « فَتَبَيَّنُوا » وراجعوا النبِيَّ عليه الصلاة والسلام ؟ وما الفائِدة في العدول إلى هذا المجاز؟ نقول : فائدته زيادته التأكيد لأنَّ قول القائل في المثال المقتدم : هذا الشيخ قائد آكد في وجوب المراجعهة من قوله : رَاجعُوا شَيْخَكُم؛ لأن القائل يجعل وجوب مراجعته متفقاً عليه ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده فكأنه يقول : إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ وأن الواجب مراجعته ، لكنكم لا تعلمون قعوده ، فهو قاعد فيجعل المراجعة أظهر من القعود ، لأنه يقول خفي عنكم قعوده فتركتم مراجته ولا يخفى عليكم حسنُ مراجعته فيجعل حسن المراجعة أظهر من الأمر الخفي بخلاف ما لو قال : راجعوه ، لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق . وبين الكلامين يَوْنٌ بعنيد فكذلك قوله تعالى : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } فجعل حُسْنَ مراجعته أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم . وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصَّرَائِحِ .
فإن قيل : إذا كان المراد من قوله : « لَوْ يُطِعُكُمْ » بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو ممتنع للوحي فلِمَ لَمْ يصرِّحْ به؟ .
نقول : بيان نفي الشيء مع بيان ذلك النفي أتمُّ من بيانه من غير دلِيل ، والجملة الشرطية بيان للنفي مع بيان دليله وأن قوله : « ليس فيهما آلهة » لو قال قائل : لم قلت إنه ليس فيهما آلهة بحيث أن يذكر الدليل فيقال : لو كان فيهما آلهة إلا الله لَفَسَدَتَا فكذلك ههنا لو قال : لا يطيعكم لقائل قائل : لِمَا لاَ يُطِيعُ؟ فوجب أن يقال : لو أطاعكم لأطاعكم لأجل قلتكم ومصلحة أبصاركم لكن لا مصلحة لكم في لأنكم تَعْنَتُون وتَأْثَمُونَ وهو يشقُّ عليه عَنَتُكم كما قال : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [ التوبة : 128 ] فإذا أطاعكم لا يفيده شيئاً فلا يطيعكم فهذا نفي الطاعة بالدليل . وبين نفي الشيء بدليل ونفيه من غير دليل فَرقٌ عظيم .

واعلم أن في قوله : { فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر } ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقاً لقوله : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } [ آل عمران : 159 ] .
فإن قيل : إذا كان المراد بقوله تعالى : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان } فلا تتوقفوا فلمَ لم يصرح به؟ .
قلنا : لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه ، إذا ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ الأَمْر إلى تلك المرتبة ، بخلاف الشك ، فإنه يتوقف إلى بلوغ الأمر إلى درجة الظنّ ، ثم الظن يتوقف إلى اليقين فلما كان عدم التوقف في النفس معلوماً متفقاً علهي لم يقل : فلا تتوقفوا بل قال : حَبَّب إليكم الإيمان أَي بَيَّنَهُ وزَيَّنهُ بالبُرْهَانِ النَّقيّ .
فصل
قال ابن الخطيب : معنى حبب إليكم أن قرَّبَهُ إليكم وأدخله في قلوبكم ، ثم زينه فِيهَا بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم وذلك لأن يُحِبّ شيئاً فقد يسأم منه لطول ملازمته والإيمان كل يوم يزداد حُسْناً لكل من كانت عبادته أكثر وتحمّله مشاق التكليف أتم تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ولهذا قال أولاً : حبب إليكم الإيمان ، وقال ثانياً : وزينه في قلوبكم كأنه قرب إليهم ثم أقامه في قلوبهم .
قوله : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } قال ابن الخطيب : هذه الأمُور الثلاث في مقابلة الإيمان الكامل؛ لأن الإيمان المزين هو التصديق بالجِنَان . وأما الفسوق فيل : هو الكذب كما تقدم عن ابن عباس وقال تعالى : { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } فسمى الكاذب فاسقاً وقال تعالى : { بِئْسَ الاسم الفسوق } [ الحجرات : 11 ] وقيل الفسوق الخروج عن الطاعهة لقولهم : فسقت الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ . وأم العصيان فهو ترك المأمور به . وقال بعضهم : الكفر ظاهر ، والفسوق هو الكبيرة والعِصْيَانُ هو الصغيرة .
قوله : « فَضْلاً » يجوز أن ينتصب على المفعول من أجله . وفيما ينصبه وجهان :
أحدهما : قوله : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ } وعلى هذا فما بينهما اعتراض من قوله : { أولئك هُمُ الراشدون } .
والثاني : أنه الفعل الذي فوي قوله « الرّاشدون » . وعلى هذا يقال : فكيف حاز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولاً له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد فاختلف الفاعل ، لأن فاعَل الرُّشْدِ غير فاعل الفَضْل؟ . وأجاب الزمخشري : بأن الرشد لما كان توفيقاً من الله تعالى كان فعل الله وكأنه تعالى أرشدهم فضلاً أي كون متفضِّلاً عليه ، منعماً في حقهم ، لأن الرشد عبارة عن التحبب والتَّزْيين والتكريه . وجوز أيضاً أن ينتصب بفعل مقدر ، أي جرى ذلك وكان ذلك فضلاً من الله . قال أبو حيان : وليس من مواضع إضمار كان ، وجعل كلامه الأول اعتزالاً . وليس كذلك لأنه أراد الفعل المسند إلى فاعله لفظاً وإلا فالتحقيق أن الأفعالَ كلها مخلوقة لله تعالى وإنْ كان الزمخشري غَيْرَ موافقٍ عَلَيْه .
ويجوز أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة ، لأنها فضل إيضاً ، إلا أنَّ ابن عطية جعله من المصدر المؤكد لنفسه .

وجوز الحَوْفِيُّ أن ينتصب على الحال وليس بظاهر ويكون التقدير متفضلاً منعماً أو ذا فضل ونعمة قال ابن الخطيب : ويجوز أن يكون فضلاً مفعولاً به والفعل مضمراً دل عليه قوله تعالى : { أولئك هُمُ الراشدون } وهم يبتغون فضلاً من الله ونعمة ، قال : لأن قوله : فضلاً من الله إشارة إلى ما هو من جانب الله المغني . والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة . وهذا يؤكد قولنا : أن ينتصب « فضلاً » بفعل مضمر وهو الابتغاء والطَّلَبُ .
ثم قال : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وفيه مناسبات :
منها : أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق قال : فلا يعتمد على تَرْوِيجِهِ عليكم الزُّورَ فإن الله عليم ، ولا يقل كقوله المنافق : « لَوْلاَ يَعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ » فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وَفْق حكمته .
وثانيها : لما قال تعالى : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ } بمعنى لا يطيعكم بل يتبع الوحي « فإن الله عليم » يعلم من يكذبه « حكيمٌ » بأمره بما تقتضيه الحكمة .

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا . . . } الآية . لما حذر المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق أشار إلى ما يلزم استدراكاً لما يفوت فقال : فإن اتفق أنكم تبنون على قوله من يوقع بينكم من الأمر المُفْضِي إلى اقتتال طائتفين من المؤمنين { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي } أي الظالم يجب عليكم دفعه ثم إن الظالم إن كانو عو الرعية فالواجب على الأمير دفعهم وإن كان هو الأمير فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها وشرطه أن لا يُثيرَ فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما .
فصل
الضمير في قوله : « اقْتَتَلُوا » عائد أفراد الطائفتين كقوله ( تعالى ) : { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ } [ الحج : 19 ] والضمير في قوله : « بينهما » عائد على اللفظ .
وقرأ ابن أبي عبلة : اقْتَتَلَتَا مراعياً للَّفْظِ . وزيد بن علي وعُبَيْدُ بْنُ عَمْرو اقتَتَلا أيضاً إلا أنه ذكر الفعل باعتبار الفريقين ، أو لأنه تأنيث مجازي .
فصل
روى أنس ( رضي الله عنه ) قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لَوْ أتَيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أبيّ ( ابْنِ سَلُول ) فانطلق إليه رسول الله صلى الله عليه سولم وركب حماراً ( وانطلق المسلمون يمشون معه ) وهو بأرض سَبِخَةٍ ، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إِلَيْكَ عَنِّي وَالله لَقَدْ نَتَنُ حِمَارِكَ فقال رجل من الأنصار منهم : واللهِ لَحِمَارُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه فَتَشَاتَمَا فعضب لكل واحد منهم أصحابهُ ، فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنِّعال فنزلت : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض . وقال قتادة : نزل في رجلين من الأنصار كان بينهما مداراة في حق بينهما فقال أحدهما للآخر : لآخُذَنَّ حقِّي منك عَنْوةً لكثرة عشيرته وإن الآخر دعاء ليُحَاكِمَهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضم بعضاً بالأيدي والنعال و ( وإننْ ) لم يكن قتال بالسيوف . وقال سفيان عن السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها : أم زيد تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فرقي بها إلى عُلِّيّة وحبسها فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه فاقْتَتَلُوا بالأيْدي والنِّعال فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرِّضا بما فيه لهُمَا وَعَليهِمَا .
فصل
قوله : « وَإنْ طَائِفَتَانِ ( من المؤمنين ) ِإشارة إلى نُدْرَةُ وقُوع الاقتتال بين طوئف المسلمين .

فإن قيل : نحن نرى أكثر الاقتتال في طوائفهم؟
فالجواب : أن قوله تعالى : { إنْ } إشارة إلى أنه لا ينبغي أن لا يقع إلا نادراً ، غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي كذلك : « إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنَبأٍ » إشارة إلى أنَّ مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن لا يقع إلا قليلاً مع أن مجيء الفاسق كثيرٌ ، وذلك لأن قول الفاسق صار عند أول الأمر أشدَّ قبولاً من قول الصادق الصالح ، وقال : « وَإنْ طَائِفَتَانِ » ولم يقل : « فِرْقَتَان » تحقيقاً للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل ، لأن الطائفة دون الفرقة ، قال تعالى : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } [ التوبة : 122 ] .
فصل
قال : من المؤمنين ولم يقل : منكم مع أن الخطاب مع المؤمنين سبق في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } [ الحجرات : 6 ] تنبيهاً على قبح ذلك وتبعيداً لهم عنه ، كقول السيد لعبده : إنْ رأيتَ أحداً مِنْ غِلمَاني يفعل كذا فامنعه ، فيصير بذلك مانعاً للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن كأنه يقول : أنت حاشاك أنْ تفعل ذلك وإن فعل غعيرك فامْنَعْهُ ، كذلك ههنا .
فصل
قال : وإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ولم يقل : فإن اقْتَتَلَ طائفتان من المؤمنين مع أن كلمة « إن » اتصالها بالفعل أولى ، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال فيتأكد معنى النكرة ، والمدلول عليها بكلمة إنْ ، وذلك لأن كونهما طائتفين ( مؤمنتين ) يقتضي أن لا يقع القتال بينهما .
فإن قيل : فِلَم لَمْ يقل : يا أيها الذين آمنوا إن فاسقٌ « جَاءَكُمْ » أو إن أحدٌ من الفسّاق جاءكم ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه وهو كونه فاسقاً؟ أو يزداد بسببه فسقه بالمجيء به بسبب الفسق؟
فالجواب : أن الاقتتال لا يقع سبباً للإيمان ولا للزيادة فقال : إنْ جَاءَكُمْ فاسقٌ أي سواء كان فاسقاً أولاً أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقاً به . ولو قال : إنْ أَحَدٌ من الفُسَّاقِ جاءكم لا يتناول إلا مشهور الفِسْقِ قب المجيء إذا جاءهم بالنَّبَأِ .
فصل
قوله تعالى : { أقْتَتَلُوا } ولم يقل يَقْتَتِلُوا ( بصيغة الاستقبال } ؛ لأن صيغة الاستقبال تنبىء عن الدوام والاستمرار عن الدوام والاستمرار فيفهم من أن طائفتين من المؤمنين إنْ تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا ، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك ، يقال : فُلاَنٌ يَتَهَدَّدُ وَيَصُومُ .
فصل
قال : « اقْتَتَلُوا » ولم يقل : اقْتَتَلاَ وقال : « فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا » ولم يقل : بَيْنَهُمْ لأن الفتنة قائمة عند الاقتتال ، وكل أحد برأسِهِ يكون فاعلا فعللاً فقال : اقْتَتَلُوا وعند الصلح تتفق كلمةُ كُلِّ طائفة وإلا لم يتحقق ( الصلح ) فقال : « بَيْنَهُمَا » لكون الطائفتين حينئذ كَنَفْسَيْنِ .
قوله : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى } وأَنبت الإجابة إلى حكم كتاب الله . وقيل : إلى طاعة الرسول وأولي الأمر . وقيل : إلى الصُّلْحِ .

كقوله تعالى : { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [ الأنفال : 1 ] وقيل : إلى التقوى ، لأن من خاف الله لا يبقى له عدو إلا الشيطان ، لقوله : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً } [ فاطر : 6 ] .
فإن قيل : كيف يصح في هذا الموضع كلمة « إنْ » من أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه وبغي أحدهما عند الاقتتال متحقق الوقوع فيكون مثل قوله القائد : إنْ طَلَعْتْ الشَّمْسُ؟
فالجواب : أن فيه معنى لطيفاً وهو أن الله تعالى يقول : الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع لأن كل طائفة تظن أن الأخرى فئة الكفر والفساد كما يتحقق في الليالي المظلمة ، أو يقع لكل طائفة أن القتال جائز باجتهاد
خطأ ، فقال تعالى : الاقتتال لا يقع إلى كذا فإن بَانَ لَهُمَا أو لأحدهما الخطأ واستمرّ عليه فهو نادر وعند ذلك يكون قد بغى فقال : « فَإنْ بَغَتْ » يعني بعد انكشاف الأمْر ، وهذا يفيد النُّدْرة وقِلَّةَ الوقوع .
فإنْ قيل : لم قال : فإنْ بَغَتْ ولم يقل : فَإن تَبْغِ؟
فالجواب : ما تقدم في قَوْلِهِ تَعَالَى : { اقْتَتَلُوا « ولم يقل : يَقْتَتلُوا .
قوله : » حَتَّى تَفِيء « العَامة على همزة من فَاء يَفِيءُ أي رَجَعَ كجَاء يَجِيءُ .
والزهري : بياء مفتوحة كمضارع وَفَا وهذا على لغة من يقصر فيقال : » جاَ ، يَجِي « دون همز؛ وحينئذ فتح الياء لأنها صارت حرف الإعراب .
فصل
المعنى حتى تفيء إلى أمر الله في كتابه وهذا إشارة إلى أن القتال جزاء الباغي كحدِّ الشرب الذي يُقَامُ وإن ترك الشرب بل القتال إلى حدّ الفيئة ، فإن فاءت الفئةُ الباغيةُ حَرُم قتالهُم . وهذا يدل على جواز قتال الصَّائِل ، لأن القتال لما كان للفيئة فإذا حصلت لم يوجد المعنى الذي لأجله القتال . وفيه دليل أيضاً على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بفعل الكبيرة؛ لأن الباغي من أحدى الطَّائِفَتَيْنِ وسماهما مؤمنين .
قوله : » فَإِنْ فَاءَاتْ « أي رَجَعَتْ إلى الحَقِّ .
فإن قيل : قد تقدم أن » إنْ « تدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن البغي من المؤمن نادرٌ فإذن تكون الفئةُ متوقعةً فيكف قال : » فَإنْ فَاءَتْ « ؟
فالجواب : هذا كقول القائل لعبده : ن مُتّ فَأَنْتَ حُرٌّ ، مع أن الموت لا بدّ من وقوعه لكن لما كان وقوعه بحيث لا يكون العبد مَحَلاًّ للعِتْق بأن يكون باقياً في ملكه حياً يعيش بعد وفاته غير معلوم . فكذلك ههنا لما كان المتوقَّع فيئتهم من تلقاء أنفسهم لما لم يقع دل على تأكيد الأمْر بينهم فقال تعالى : { فَإنْ فَاءتْ } أي بعد اشتداد الأمر والتحام القتال فَأَصْلِحُوا ، وفيه إشارة إلى أنَّ من لم يَخفِ الله وبغى يكون رجوعه بعيداً .
قوله : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل } بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله » وَأَقْسِطُوا « اعِدْلُوا { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } .

فإن قيل : لم قال ههنا : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل } ولم يذكر العدل في قوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } ؟
فالجواب : أن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه وذلك يكون بالنصيحة وبالتهديد والزجر والتعذيب والإصلاح ههنا بإزالة آثار الاقتتال بعد ارتفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال : « بالْعَدْلِ » فكأنه قال : فاحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأَصْلِحُوا بالْعَدْلش فيما يكون بينهما لئلا يؤدي إلى ثَوَرَان الفتنة بينهما مرة أخرى .
فإن قيل : لما قال : فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بالعدل فأيةُ فائدة في قوله : وَأَقْسِطُوا؟
فالجواب : أنّ قوله : « فَأَصْلحُوا بَيْنَهُمَا » كأن فيه تخصيصاً بحال الاقتتال فعمَّ الأمر بالعدل وقال : وأقصدوا أي في ( كل ) أمر فإنه مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله والإقساط أزالة وهو الجَوْر والقَاسِطِّ هو الجَائِرُ .
قوله : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } أي في الدين ، والولاية . وقال بعض أهل اللغة : الإخوة جمع الأَخ ، من النَّسب والإخْوَانُ جمع الأخ من الصَّداقة ، والله تعالى قال : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } تأكيداً للأمْر وإشارة إلى أن مابين الإخووة من الإسلام والنسب لهم كالأب . قال قائلهم ( رحمةُ الله عليه ) :
4502 أَبي الإسْلاَمُ لاَ أَبَ لِي سِوَاهُ ... إذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَو تَمِيمِ
قوله : « بَيْنَ أَخَويكُمْ » العامة على التثنية . وزيد بن ثابت وعبدُ الله وحمَّادُ بنُ سلمة وابنُ سيرين : إخْوَانِكُمْ جمعاً على فِعْلاَن . وقد تقدم أن الإخْوان تغلب في الصداقة والإخوة في النسب ، وقد تعكس كهذه الآية . وروي عن أبي عمرو وجماعة : إخْوَتِكُمْ بالتاء من فَوْقِ . وقد رُوِيَ عن ابن عمرو أيضاً القراءات الثَلاَثُ .
فصل
المعنى : فاتقوا الله ولا تَعْصُوا ولا تُخَالفوا أمره « لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ » قال عليه الصلاة والسلام « المُسْلِمُ أَخُوا الْمُسْلِم لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَشْتُمُه مَنْ كَانَ فِي حَاجَة أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بَها كُرْبَةً مِنْ كُرَب يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ » .
فإن قيل : عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل : اتَّقُوا وقال هَهُننَا اتَّقوا مع أنَّ ذلك أهم؟
فالجواب : أنّ الاقتتال بين طائفتين يُفضي إلى أنْ تَعُمَّ المفسدة ويلحق كل من مؤمن منها شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى وأما عند تخاصم رَجُلَيْن لا يخاف الناس ذلك وربما يريد بعضهم تأكيد الخِصَام بين الخصوم ولغرض فاسد ، فقال : { فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله } أو يقال : قوله : وأصْلِحُوا إشارة الإصلاح ، وقوله : « وَاتَّقُوا اللهَ » إشارة ما يصيبهم عن المُشَاجَرَة ، وإيذاء قلب الأخ؛ لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره ، قال عليه الصلاة والسلام : « الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهٍ »

فالمسلم يكون مقبلاً على عبادة الله مشتغلاً بعَيْبِه عن عيوب الناس .
فصل
في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأن الله تعالى سماهم إخوةً مؤمنين مع كونه باغين ، ويدل عليه ما روى الحارُ الأعور أن عليَّ بْنَ أبي طالب سُئِلَ وهو القدوةُ ف يقتال أهل البغي عن أهل الجمل وصِفِّين أمشركون هُمْ؟ فقال : لا؛ من الشرك فروا فقيل : أمُنَافِقُونَ؟ فقال : ( لا ) إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً .
قيل : فما حالهم؟ قال : إخواننا بَغَوْا علينا والباغِي في الشرع هو الخارج على إمام العدل ، فإذا اجتمعت طائفةٌ لهم قوة وَمَنَعَةٌ فامتنعوا عن طاعة إمام العدل بتأويل محتمل ونصِّبُوا إماماً بالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم ويدعوهم إلى طاعته فإن أظهروا مظلمةً أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمةً وأصروا على بغيهم قاتلهم الإمام حتى يَفِيئُوا إلى طاعته . وحكم قتالهم مذكور في كتب الفقه .
فصل
« إنَّمَا » للحصر أي الأخوة الآتين من المؤمنين . فلا أُخُوَّةَ بين المؤمن والكافر ولهذا إذَا مات المسلم وله أخر كافر يكون مالُه للمسلمين ، ولا يكون لأخ الكافر ، وكذلك الكافر ، لأن في النسب المعتبر الأب الشرعي حتى إنَّ وَلَدَي الزّنا من ولدِ رجلٍ واحد لا يتوارثان ، فكذلك الكفر لأن الجَامع الفاسد لا يفيد الأخُوّة ولهذا من مات من الكفار وله أخٌ مسلم ولا واثَ له من النسب لا يجعل ماله للكفار ، ولو كان الدّين يجمعهم يرثه الكفار وما المسلم للمسلمين عند عدم الوارث .
فإن قيل : إذا ثبت أن أُخوَة الإسْلاَم أقوى منْ أُخُوّة النسب بدليل أنَّ المسلم يَرِثُه المسلمون إذا لم يكن له أخوة نسبيّة ولا يرث الأَخُ الكافر من النسب فِلمَ لا يقدمون الأخوة الإسلامية على الأخوة النَّسَبِيَّة مطلقاً حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوة النسب؟
فالجواب : أن الأخ المسلم إذا كان أخاً من النسب فقد اجتمع فيه أُخُوَّتان فصار أَقْوَى .
فصل
قال النحاة ههنا : إنَّ « مَا » كافَّة تكف إنَّ عن العمل ، ولولا ذلك لقيل : إنَّمَا الْمُؤْمِنِينَ إخوَةٌ وفي قوله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ] وقوله : { عَمَّا قَلِيلٍ } [ المؤمنين : 40 ] ليست كافة . قال ابن الخطيب والسؤال الأقوى : هو أن رُبَّ من حرفو الجر و « الباء » و « عن » كذلك . و « ما » في « رُبَّ » كافّة ، في « عما » و « بما » ليست كافة . والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد « رُبَّمَا » و « إِنَّما » يكون تاماً ويمكن جعله مستقلاً ، ولو حذفت « ربّما وإنَّما » لم يضرَّ تقول : ربَّمَا قَامَ الأَمِيرُ ، ورُبَّمَا زَيْدٌ في الدَّارِ . ولو حذف « رُبَّمَا » وقلت : زَيْدٌ فِي الدَّار وقام الأمير لصحَّ ، وكذلك في « إنَّما » و « لَكِنَّما » وأما « عَمَّا » و « بما » فليس كذلك ، لأن قوله تعالى :

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ] لو حذفت « بما » وقلت : رَحْمةٌ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ، لما كان كلاماً ، فالباء تُعَدّ متعلقة بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقه وكذلك « عَمَّا » ، وأما « رٌبَّمَا » لما استغنى عنها ، فكأنها لم تبق حكماً ، ولا عَمَلَ للمعدوم .
فإن قيل : إنَّ « إذَا » لم تُكَفَّ بِمَا فما بعده كلام تام فوجب أن لا يكون له عمل . تقول : إنَّ زَيْداً قَائِمٌ ولو قلت : زيدٌ قائمٌ لَكَفَى وَتمَّ!
نقول : ليس كذلك لأن ما بعد إنَّ يجوز أَنْ يكون نكرة تقول : إنَّ رَجُلاً جَاءَنِي وأَخْبَرَنِي بكذا . وتقول جَاءَنِي رَجٌلٌ وأَخْبَرَنِي . ولا يحسن : إنَّما رَجٌلٌ جَاءني كما لو لم يكن هناك إنما . وكذلك القول في لَيْتَمَا لو حذفتهما واقتصرْت على ما بعدهما لا يكون تاماً فلم يكف . وتقدم الكلام في « لعلّ » مِرَاراً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ . . . } الآية تقدم الخلاف في « قَوْم » وجعله الزمخشري ههنا جمعاً لقائمة قال : كصَوْم وزَور جمع صاَئِمٍ وزائرٍ . ( و ) فَعْل ليس من أبنية التكسير إلا عند الأخفش نحو : رَكْب ، وصَحْب . والسخرية هو أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ، ولا يلتفت إليه ويُسْقطه عن درجته ، وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب . ومعنى الآية لا تحقروا إخواتكم ولا تَسْتَصْغِرُوهُمْ .
فصل
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) نزلت في ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شِماس كان في أُذُنهِ وَقْرٌ ، فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جَنْبه فَيستَمِعُ ما يقول ، فأقبل ذاتَ يوم وقد فاتَتْه رَكْعَةٌ من صَلاة الفَجْرِ ، فلما انصرف النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الصلاة أخذ أصحابهُ مجالسَهم فَظنَّ كل رجل بمجلسه ، فلا يكان يوسعِ أحدٌ لأحدٍ وكان الرجل إذا جاء ولم يجدْ مجلساً قَام قائماً فلما فرغ ثابتٌ من الصلاة أقبلَ نحوَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطى رقابَ الناس ( ويقول ) : تفسَّحُوا فقال له الرجل : قد أصبتَ مجلساً فاجْلس فجلس ثابتٌ خَلْفَهُ مُغْضَباً فلما إجلتِ الظّلمة غَمَزَّ ثابتٌ الرجلَ فقال : من هذا فقال : أنا فلانٌ فقال له ثابت : ابن فلانة؟ ذكر أمُاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية ، فنكس الرجل رأسه ، فاستحيا . فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال الضَّحَّاكُ : نزلت فِي وَفْدِ تميم كانوا يستهزِئون بفُقَرَاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثل عمَّار ، وخَبَّاب وبلالٍ ، وصُهَيْبٍ ، وسَلَّمَانَ ، وسالمٍ مولى حذيفة ، لما رأو من رَثَاضة حَالِهِم .
قوله : { عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } قرأ أُبَي وعبدُ الله بنُ مسعود عَسَوْا وعَسَيْنَ ( جَعَلاَها نَاقصةً ) . وهي لغة تميم وقِرَاءَةُ العامة لغة الحجاز .
قوله : { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } روي أنها نزلتْ في نساء النبي صلى الله عليه وسلم عيرت أم سلمة بالقِصَر ، وروى عكرمة عن ابن عباس أيضاً : نزلت في صَفيَّة بنتِ حُيَيّ بنِ أخْطَبَ قَالَ لهالنساء : يهودية بنتُ يَهُودِيَّيْنِ .
قوله : { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } أي لا يعبُ بعضكُم على بعض . قرأ الحَسَنُ والأَعْرجُ : لا تَلْمُزُوا بالضّمِّ واللَّمْز بالقول وغيره والغَمْزُ باللسان فقط .
قوله : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } التنابز تفاعل من النَّبْز وهو التداعِي بالنَّبْز والنَّزَبِ ، وهو مقلوب منه لقلة هذا ، وكثرةِ ذلك . ويقال؟ : تَنَابَزُوا وتَنَابزوا إذا دعا بعضُهم بعضاً بلقبِ سوءٍ . وأصله من الرفْع كأَنَّ النَّبزَ يَرْفَع صاحبه فيُشَاهَدُ . واللَّقَب : ما أشعر بضَعَةِ المُسَمَّى كقُفَّة وبَطَّة أو رِفْعَتِهِ كالصِّدِّيق وعتيقٍ والفَاروق ، وأَسَد الله ، وأَسَدِ رَسُولِهِ وله مع الكمنية والاسم إذا اجتمعن أحكام كثيرة مذكورة ف يكتب النحو .

وأصل : تَنَابَزُوا تَتَنَابَزُوا أسقِطَتْ إحدى التاءين كما أسقط من الاستفهام إحدى الهَمزَتَيْنِ فقال : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 8 ] والحذفُ هَهُنَا أولى؛ لأن تاء الخطاب وتاء التفاعل حرفانِ من جنْسٍ واحدٍ في كلمة وهمزة الاستفهام كلمة برأسها و « أنذرتهم » أُخْرَى ، واحتمال حَرْشفَيْن في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة واحدة .
فصل
ذلك في الآية أموراً ثلاثةً مرتبة بعضها دون بعض ، وهي السُّخْريَةُ واللَّمْزُ والنَّبْزُ . والسُّخْرية الاحتقار والاستصغار ، واللمز ذكر في غيبته بعيب . وهذا دون الأول ، لأنه لم يلتفت إليه وإنما جعله مثل المَسْخَرة الذي لا يغضب له ولا عَلَيْه ، وهذا جعل فيه شيئاً ما فعابه به . والنَّبْزُ دون الثاني لأن يَصِفهُ بوصفٍ ثابت فيه نقصه به ، ويحط منزلته والنّبْزُ مجرد التسيمة وإن لم يكن فيه لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن إذا وضع لواحدٍ وعَلاَ عليه لا يكون معناه موجوداً فإن من سمي سَعْداً وسَعِداً قد لا يكون كذلك وكذلك من لُقّب إمام الدين أو حُسَام الدّين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة ، وكذلك النَّبز ، فإن من سمي مروان الحمار لم يكن كذلك فكأنه تعالى قالك لا تَتَكَبَّرُوا فَتَسْتَحْقِروا إخوانكم بحيث لا تلتفوا إليهم إصلاً ، وإذا نزلتم عن هذا فلا تَعيبُوهم طالبين حَطَّ درجتهم وإذا تَعِيبُوهم ولم تصفوهم بما يسوؤم فلا تُسَمُّوهم بما يكرهُونه .
فصل
قال ابن الخطيب : القَوْمُ اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم والقائم بالأمور هو الرجال وعلى هذا ففي إفراد الرجال والنساء فائدة وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال؛ لأن المرأة في نفسها ضعيفة؛ قال عليه الصلاة والسلام : « النِّسَاءُ لَحْمٌ على وَضَم » فالمرأة لا يوجد منها استحقار الرجل لأنَّها مضطرة إليه في رفعش حوائِجِها وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فإنه يوجد فيهم ذلك .
فصل
في قوله : { عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } حكمة وهي أنهم أذا وجد منهم التَّكَبُّر المُفْض ] إلى إحباط الأعمال وجعل نفسه خيراً منهم ، كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال : « أَنَا خَيْرٌ منه » فصار هو خيارً منه ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله : « يكونوا » أي يصيروا ، فإن من استحقر إنساناً لفقره أو ضَعْفِهِ لا يأم أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويضعف هو ويَقْوَى الضعيفُ .
فصل
في قوله : { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } وجهان :
أحدهما : أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا أعابه فكأنه أعاب نَفْسَه .
والثاني : أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب فيعيبه به المعاب فيكون هو بمعيبه حاملاً للغير على عيبه فكأنه هو العائب نفسه ونظيره قوله تعالى :

{ وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] .
ويحتمل أن يقال : لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم مُعَيَّب فإنكم إن فعلتم فقد عبتم أنفسكم أي كل واحد عاب واحد فصِرْتُمْ عائِبِينَ من وجه مُعيََّبين من وجه . وهذا ههنا ظاهر ولا كذلك في قوله : « وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ » .
فصل
قال : « وَلاَ تَنَابَزُوا » وَلَمْ يقُل : ولا تَنْبزُوا لأن الامِزَ إذا لَمَزَ فالمَلْمُوز قد لا يجد فيه في الحال عيباً يَلْمِزُهُ به وإنما يبحث ويتتبّع ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز في جانب .
وأما النَّبْزُ فلا يعجز كل أحد عن الإتيَانِ بِنَبْزٍ ، فالظاهر أن النَّبْزَ يُفْظِي في الحال إلى التَّنَابز ، ولا كذلك اللمزُ .
فصل
قال المفسرون : اللقب هو أن يدعي الإنسان بغير ما يُسَمَّى به ، وقال عكرمة : هو قول الرجل للرجل يا فاسقُ ، يا منافقُ ، يا كَافرُ . وقال الحسن : كان اليهودي والنصرانيّ يسلم ، فيقال له بعد إسلامه ، يا يهوديّ يا نصرانيّ فنهوا عن ذلك ، وقال عطاء : هو أن يقول الرجل لأخيه : يا حمارُ يا خنزيرُ . وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : التنابز بالألقاب أن يكون الرجلُ عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعيَّر بما سلف من عمل .
قوله : { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } أي بئسَ الاسمُ أن يقول له : يا يَهُودِيُّ يا فاسِقُ بعدما آمَن . وقيل : معناه من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق وبئس الاسم الفسصوق بعد الإيمان فلا تفعلوا ذلك فستحقوا اسم الفسوق . ثم قال : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } أي من ذلك { فأولئك هُمُ الظالمون } .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن . . . } الآية . قيل : نَزَلَتْ في رَجُلَيْن اعتابا رفيقهما ، « وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسان غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رَجُلَيْن مُوسِرَيْن يخدمهما ويقتدم لهما إلى المنزل فيهيّيء لهما طعامَهُمَا وشرابهما فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدم سلمانُ الفارسي إلى المنزل فغلبته عيناه فَلَمْ يُهيّىءْ لهما فلما قدما قالا له ما صَنَعْتَ شيئاً؟ قال : لا غلبتني عَيْنَاي ، قالا له : انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واطلب لنا منه طعاماً ، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له : إن كان عند فضلٌ من طعام فَلْيُعْطِكَ؛ وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رَحْلِه فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سَلْمَانُ إليهما فأخبرهما فقالا : كمان عند أسامةم ولكن بَخِلَ فبعثَا سَلْمَانَ إلى طائفةٍ مِنَ الصَّحَابة فلم يجد عندهم شيئاً فلما رَجَعَ قالوا : بعثناه إلى بئر سُمَيْحَة فغار ماؤهم ثم انطلقا يتجسّسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : مَا لِي أَرَى حَضْرَة اللَّحم فِي أَفْواهِكُمَا؟ قالا : والله يا رسول الله ما تَنَاوَلْنَا يَوْمنَا هذا لحماً قال : ( بل ) ظَلَلْتُمْ تأكلونَ لَحم أسامَة وسلمان »

فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن } .
فصل
قال سفيان الثوري : الظّنُّ ظنان :
أحدهما : إثم وهو أن يُظَنَّ ويتكلم به .
والأخر : ليس بإثم وهو أن يظن ، ولا يتكلم به ، قال عليه الصلاة والسلام : « إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الْحَدِيثِ » .
قوله : : « إثْمٌ » جعل الزمخشري همزهُ بدلاً من واو قال : لأنه يَثِمُ الأَعْمَال أي يكسرها وهذا غير مُسَلَّمٍ بلْ تلك مادةٌ أخرى .
قوله : « وَلاَ تَجَسَّسُوا » التجسس التَّتبعُ ، ومنه الجَاسُوسُ ، والجَسَّاسَةُ ، وجواسّ الإنسان وحَوَاسُّهُ ومشاعره ، وقد قرأ هنا بالحاء الحَسَنُ وأبو رجاء وابنُ سِيرِينَ .
فصل
التجسس هو البحث عن عيوب الناس فنهى الله تعالى عن البحث عن المستورين من الناس وتتبع عوراتهم قال عليه الصلاة والسلام : « لا تَجَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغََضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً » وقال عليه الصلاة والسلام : « يا مَعْشَرَ مَنْ آمنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَفِضِ الإيمَانُ إلى قَلْبِهِ لاَ تَغْتَابُوا المُسْلِمِينَ وَلا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهم فإنه من تتبَّع عوراتِ المسلمين تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحُهُ وَلَو فِي جَوْفِ رَحْلِهِ » ونظر عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظَمِكَ وأعْظَمَ حُرْمَتِكَ والمُؤْمنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ عِنْدَ الله . وقيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً؟ فقال : إنَّا قَدْ نُهينا عَنِ التَّجَسُّسِ فإن يظهر لنا شيئاً نأخذه به .
فصل
واعلم أن الظن تُبْنَى عليه القبائح فالعاقل إذا وَقَفَ أموره على اليقين قلَّ ما يتقّن في أحد عيباً يلمزه به لأن الوعظ في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك؛ لأن الفعل قد يكون فاعله ساهياً أو يكون الرأي مخطئاً ، وقوله تعالى : { كَثِيراً مِّنَ الظن } إخراج للظنون التي تبنى عليها الخيرات .
قال عليه الصلاة والسلام « ظُنّوا بالْمُؤْمِن خَيْراً » وقوله : { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } إشارة إلى الأخذ بالأحوط . وقوله : « وَلاَ تَجَسَّسُوا » إتمامٌ لذلك لأنه تعالى لما قال : { اجتنبوا كثيراً من الظن } فهم منه أن المعتبر اليقين . وقوله : { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } أي لا يتناول بعضكُم بَعْضاً في غَيْبَتِهِ بما يَسوؤه مما هو فيه .
« قال عليه الصلاة والسلام : » أَتَدْرُونَ مَا الْغَيبةُ؟ « قالوا : الله ورسوله أَعلَم قال : ذكرُك أَخَاكَ بما يَكْرَهُ . قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد أغْتَبْتَهُ وإن لم يكن فيه ما تَقُولُ فقد بَهَتَّهُ »

وفي هذا إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن .
قوله : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } نصب « ميتاً » على الحال من « لَحْم » أو « أَخِيهِ » ، وتقدم الخلاف في مَيْتاً .
فإن قيل : اللحم ألا يكون ميتاً؟
فالجواب : بلى . قال عليه الصلاة والسلام : « مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ » فسمى القطعة ميتاً .
فإن قيل : مإذا جعلناه حالاً من الأخ لا يكون هيئة الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله حالاً فهو كقول القائل : مَرَرْتُ بِأَخِي زَيْدٍ ( قَائِماً ) ويريد كون زيدٍ قائما . وذلك لا يجوز .
قلنا : من أكل لحمه فقط أكل فصار الأخ مأكولاً مفعولاً بخلاف المرور بأخِي زيدٍ .
فصل
في هذا التشبيه إشارة إلى أن عِرْضَ الإنسان كَدمِهِ ولَحْمِهِ لأنَّ الإنسان يتألمُ قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم . وهذا من باب القياس الظاهر؟ لأن عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه فلما لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى ، لأن ذلك آلمُ .
وقوله : « لَحْمَ أَخِيهِ » آكد في المنع؛ لأن العدو يحمله الغَضَبُ على مَضْغ لحم العدوِّ ، وفي قوله : « مَيْتاً » إشارةٌ إلى دفع وَهَمٍ وهو أن يقال : الشَّتم في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم فقال : آكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً يؤلمه ومع هذا فهو في غاية القبح لِمَا أنَّه لو اطلع عليه لتألم فإن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه ، وفيه معنى لطيفٌ وهو أن الاغتياب بأكل لحم الآدمِيِّ ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضظر بقدر الحاجة ، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدميّ فكذلك المغتاب إن وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب .
قوله : « فَكَرِهْتُمُوهُ » قال الفراء : تقديره : فقَدْ كَرِهْتُمُوهُ فلا تفعلوه . وقال ابن الخطيب : الفاء في تقدير جواب كلام كأنه تعالى لما قال : أَيُحِبُّ للإنكار فكأنه قال : لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذَنْ . وقال أبو البقاء : المعطوف عليه محذوف تقديره عُرِضَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَكَرهتُمُوهُ . والمعنى يعرض عليكم فَتكرهُونَهُ .
وقيل : إن صح ذلك عندكم فأنتم ( أي ) تكرهونه قال ابن الخطيب : هو كمتعلق المسبّب بالسبب وتَرَقُّبِهِ عَلَيْه كقولك : جَاءَ فُلاَنٌ ماشياً فتَعِبَ ، فقيل : هو خبر يمعنى الأمر كقولهم : « اتَّقَى اللهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْراً يُثَبْ عَلَيْهِ » .

وقرأ أبو حيوة والجَحْدرِيّ : فكُرِّهْتُمُوهُ بضم الكاف وتشديد الراء عدي بالتضعيف إلى ثانٍ بخلاف قوله أولاً : « كَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ » فإنه وإن كان مضعّفاً لم يتعدّ لواحد لتضمنه معنى بَغَّضَ .
فصل
قال ابن الخطيب : الضمير في قوله : فَكَرِهْتُمُوهُ « فيه وجوه :
أظهرها : أن يعود إلى الآكل لأن قوله تعالى : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ } معناه أيحب أحدمكم الأكل لأن » أَنْ « مع الفعل للمصدر أي فَكِرهْتُمُ الأَكْلَ .
وثانيها : أن يعود إلى اللحم أي فَكرِهْتُمُ اللَّحْمَ .
وثالثها : أن يعود إلى الميّت في قوله : » ميتاً « تقديره : أيُحِبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله : » ميتاً « ويكون فيه زيادَةُ مبالغة في التحذير يعني الميتة أن أكلت في النُّدرة لسبب كان نادراً ولكن إذا أَنْتَنَ وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً فكذلك ينبغي أنْ يكون الغيبة ، وذلك يحقّق الكارهة ويوجب النُّفْرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربقه بحيث يأكله ففيه إذَنْ كراهة شديدة فكذلك حال الغيبة .
فصل
قال مجاهد : لما قيل لهم : أَيُحِبُّ أحَدُكُمْ أَنْ يَأكُلَ لَحْم أَخِيهِ مَيْتاً؟ قالوا : لا ، قيل : » فكرهْتُمُوهُ « أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره باللسوء غائباً . قال الزجاج : تأويله إن ذِكْرضكَ مَنْ لم يَحْضُرك بسُوءٍ بمنزلةِ أكلِ لحمه وهو ميت لا يحسُّ بذلك .
قال عليه الصلاة والسلام » لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقوم لَهُمْ أَظَْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَلُحُومَهُمْ فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلاَءَ يا جِبْرِيلُ . قال : هَؤُلاء الذين يأكلون لحُوم النَّاسِ ويَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ « .
قوله : » وأتَّقُوا اللهَ « عطف على ما تقدم من الأوَامِر و النواهي أي اجتنبوا واتقوا الله { إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } واعلم أنه تعالى ختم الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولَى : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون } وقال ههنا : { إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله : { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ } ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء في قوله : » اجْتَنِبُوا كَثِيراً « فذكر الإثبات الذي هو قريبٌ من الأمْر .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

قوله ( تعالى ) : { ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } الآية هذه الآية مبينة ومقررة لما تقدم لأن السخرية من الغير والعيب إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان فهو جائز ، وكذلك لَمْزُهُ وغَيْبَتُهُ وإن لم يكن بسبب الدين والإيمان فلا يجوز ، لأنَّ الناسَ بعُمُومِهِمْ كافِرِهم ومؤمِنِهمْ يشتركون فيما يفتخر به المفتخِر ، لأن التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً المؤمن فقيراً وبالعكس ، وإنْ كان بسبب النَّسب فالكافشر قد يكون نسيباً والمؤمن مولى لِعَبْدٍ أسْود وبالعكس فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون أو متقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى كما قال تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } فقوله تعالى : { ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } يعنى كآدمَ أي أنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بضع لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدةٍ .
فصل
قال ابن عباس ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ) نزلت في ثابتِ بن قيس وقوله للرجل الذي لم يتفسح له : ابنَ فلانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم من الذكر فلانة؟ قال ثابت : أنا يا رسول الله فقال : انْظُر في وجوه القوم فَنَظَر ، فقال : ما رأيت ثابتُ؟ قال : رأيت أبيضَ وأحْمَرَ وأسود ، قال : فإنك لا تَفْضُلُهُم إلا في الدِّين والتقوى ، فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يَتَفَسَّح : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا } [ المجادلة : 11 ] .
وقال مقاتل : لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى علا ظَهْرَ الكَعْبَةِ فأذَّن فقال عَتَّاب بن أُسَيد بن أبي العيِص : الحمُ لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم . وقال الحارث بن هشام : أما وَجَدَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ هذا الغراب الأسود مؤذناً؟ وقال سُهَيْل بن عَمْرو : إن يرد اللهُ شيئاً يُغَيِّرْهُ . وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به ربُّ السموات فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قالوا : فدعاهم عما قالوا فأقروا فأنز لالله عزَّ وجلَّ هذه الآية وزَجَرَهم عن التفاخر بالأنساب و التكاثر بالأموال ، والإزْرَاءِ بالفقراء .
فإن قيل : هذه الآية تدل على عدم اعتبار النسب وليس كذلك فإن للنسبِ اعتبارً عُرْفاً وشرعاً حتى لا يجوز تزويج الشريفة بالنَّبَطِيّ! .
فالجواب : إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبراً ، وذلك في الجنس والشرع والعرف أما الجنس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس ، ولحناح الذباب دَويّ ولا يسمع عندما يكون رَعدٌ قويّ . وأما العرف فلأن من جاءه غلام ملك أقبل عليه وأكرمه فإذا جاءه مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا يلتفت إليه .

وإذا علم هذه ففي الشرع كذلك إذا جاء الشرف الديني الإلهيّ لا يبقى هناك اعتبار لا لنسب ولا لسبب ، ألا ترى أن الكافر وإنْ كان من أعلى الناس نسباً ، والمؤمن وإنْ كان من أدْوَنِهِمْ نسباً لا يقاس أحدهما بالآخر وكذلك ما هو من الدين مع غيره ، ولهذا تصلح المناصبُ الدينية كالقضاءِ والشهادة لكل شريف ووضيعٍ إذا كان ديناً عالماً ، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإ ، كان قُرَشِيَّ النَّسَبِ وقَارُونِيَّ النَّشَبِ ولكن إذا اجتمع في اثنين الدينُ المتينُ وأحدهما نسيب يرجح بالنسب عند الناس لا عند الله ، لقوله تعالى { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] وشرف النسب ليس مكتسباً و لايحصل بعسيٍ .
فصل
الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر ، ولم يذكر المال ، لأن الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة ، لكن النسب أعلاها ، لأن المال قد يحصل للفقير فيبطلُ افتخار المفتخر به عليه والسنّ والحسن وغير ذلك لا يدوم ، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بطريق الأولى .
فإن قيل : إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَاكُم } ؟
فالجواب : بأن كل شيء يترجح علىغيره ، فإما أن يرجح بأمر فيه يلحقه ويرتب عليه بعد وجوده وإما أن يرجح عليه بأمر قبله ، فالذي بعده كالحُسْنِ والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء وأما الذي قبله فإنما راجع إلى أصله الذي وجد منه أو إلى الفاعل الذي أوجده فالأول كقولك : هَذَا مِنَ النُّحَاس ، وهَذَا مِنْ فضَّةِ والثاني : كقولك : هَذَا عَمَلُ فُلاَنٍ ، وهذا عمل فُلاَن ، فقال تعالى : لا ترجيح بما خلقتم منه ، لأنكم كلكم من ذكر وأنثى ، ولا تَحْصُل لكم بعد وجودكم وأشرفُها التَّقْوى .
قوله : { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } الشعوب جمع شَعْبٍ فتح الشين ، وهو أعلى طبقات الأنْساب مثل رَبِيعة ، ومُضَر ، والأوْس ، والخَزْرَج ، وذلك أن طبقات النسب التي عليها العرب ستّ : الشَّعب ، والقَبِيلة ، والعِمَارة ، والبَطْن ، والفَخِذ ، والفصيلة ، وكل واحد يدخلُ فيما قبله فالفصيلة تدخل في الفخذ والفخذ في البطن وزاد بعض الناس بعد الفخذ العشيرة فجعلها داخلة فيها ، فتكون الفصائل داخلة في العَشِيرة وتدخل العشيرة في الأفخاذ و تدخل الأفخاذ في البُطُون والبطون في العَمَائر والعمائر في القبيلة والقبيلة في الشعب ، وذكر الأعم لأنه أذْهضبُ بالأفْتِخَارِ وسُمّي الشعب شعباً لتشَعب القبائل منه ، واجتمامعهم فيه كشُعَب أغصان الشجرة . والشَّعْبُ من الأضداد ، يقال : شَعْبٌ أي جمع ، ومنه تشعيب القَدَح وشَعَّب أي شفرق ، والقبائل هي دون الشعوب واحدتها قَبيلَةٌ وهي كَبكْر مِن ربيعة ، وتَميم من مُضَرَ سميت بذلك لتقابلها ، شبهت بقبائل الرأس ، وهي قطع متقابلة ، وقيل : الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب وأنشد :

4503 قَبَائِلُ مِنْ شُعُب لَيْس فِيهم ... كَريمٌ قَدْ يُعَدُّ ولاَ نَجِيبُ
والنسبة إلى الشّعب شَعُوبِيَّة بفتح الشين وهم جيل يبغضون العرب ودون القبائل العمائر واحدتها عَمَارة فتح العين وهم كشَيْبَان مِنْ بكر ودَرِم من تميم ، وَدُونَ العَمَائر البُطُون واحدتها بَطْن وهم كبَنِي هاشم وأمية من بني لُؤَيّ . ثم الفصائل والعشائر واحتها فَصِيلة وعَشيرة .
وقال أبو رَوْق : الشعوب الذين لا يعتزون إلى أحد بل يَنْتَسبون إلى المَدَائن والقُرَى والقَبَائل العرب الذي ينتسبون إلى آبائهم .
قوله : « لِتَعَارفُوا » العامة على تخفيف التاء ، والأصل : لتتعارفُوا فحذف إحدى التاءين . والبَزِّي بتشديدها وقد تقدم ذلك في البَقَرة ، واللام مُتَلِّقة « بجَعَلْنَاكُم » .
وقرأ الأعْمِ بتاءين وهو الأصل الذي أدغمه البزّي ، وحذفه الجمهور ، وابن عباس لتَعْرِفُوا مضارع عَرَفَ .
فصل
المعنى ليعرفَ بعضُكم بعضاً في قُرْب النسب وبعده لا لِتَفَاخَرُوا . وقال في أول الآية : خَلَقْنَاكُم وقال ههنا : وجَعَلْنَاكم شُعُوبا ، لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل والإيجاد لأجل العبادة ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، والجَعْلَ شعوباً للتعارف ، والأصل متقدم على الفرع فتعتبر العبادة قبل اعتبار النسب ، لأن اعتبار الجعل شعوباً إنما يتحقق بعد تَحَقُّقِ الخلق ، وفي هذا إشارة إِلى أَنَّه إن كان فيكم عبادة فتُعْتَبَرُ ، وإلا فلا اعتبار لأنْسَابِكُمْ .
فإن قيل : الهداية والضلال كذلك كقوله تعالى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل } [ الإنسان : 3 ] { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ النحل : 93 ] .
فالجواب : أن الله تعالى أثبت لنا فيه كسباً مَبْنيًّا على فعل لقوله تعالى : { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الإنسان : 29 ] ثم قال : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الإنسان : 30 ] وأما في النسب فلا .
قوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } أخبر تعالى أن أرفعهم منزلةً عند الله أتقاهم . وقال قتادة في هذه الآية : أكْرَمُ الكَرَمِ التقوى وألأَمُ اللُّؤم الفجور . وقال عليه الصلاة والسلام : « الحَسَبُ المَالُ والكَرَمُ التَّقْوَى » وقال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : كرم الدنيا الغِنَى وكرم الآخرة التقوى . وعن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّ الناس أكرمُ؟ قال : أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللهِ أَتقَاهُمْ ، قالوا : عن هذا نسألك قال : فأكرمُ الناسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ الله ابْنِ خَلِيلِ الله قالوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قال : فَعَنْ مَعَادِن العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ قالوا : نَعَم قال : خِيارُكُم في الجَاهِليَة خيارُكُم في الإسْلاَم إذا فَقِهُوا . وقال : عليه الصلاة والسلام : إنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إلَى صُورَكُمْ وَلكِنْ يَنْظُرُ إِلى قُلُوبِكُمْ » .
فصل
قرأ العامة : إنَّ أَكْرَمَكُمْ بكسر « إنّ » وابن عباس بفتحها ، فإن جعلت اللام لام الأمر وفيه بُعْدٌ صَحَّ أن يكون قوله : « أنَّ أَكْرَمَكُمْ » بالفتح مفعول العِرْفَان فإن أمرهم أن يعرفوا وإن جعلتها للعلّة لم يظهر أن يكون مفعولاً ، لأنه لم يجعلهم شعوباً وقبائل ليعفروا ذلك ، فينبغي أن يكون المفعول محذوفاً واللام للعلة أي لِتَعْرِفُوا الحقَّ لأنَّ أَكْرَمَكُمْ .

فصل
قال ابن الخطيب : في المراد بالآية وجهان :
الأول : أن التقوى تفيد الإكرام .
والثاني : أن الإكرام يورث التقوى ، كما يقال : المخلصون على خَطَر . والأول أشهر ، والثاني أظهر .
فإن قيل : التقوى من الأعمال والعلم أشرف لقوله عليه الصلاة والسلام : « لَفَقِيهُ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابدٍ » .
فالجواب : أن التقوى ثمرة العلم لقوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] فلا تقوى إلا العالم فالملتقي العالم أتم علمه والعالم الذي لا يتقي كشجرةٍ لا ثَمَر لها لكن الشجرة المثمرة أشرفُ من الشَّجَرةِ التي لا تُثْمر بل هي حطب وكذلك العالم الذي لا يتّقي حَصَبُ جهنم ، وأما العابد الذي يفضل عليه الفيه فهو الذي لا علم له وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نِصَابٌ كامل ، ولعلمه يعبده مخالفة الإلقاء في النار فهو كالمكره ، أو لدخول الجنة ، فهو يعمل كالفاعل له أجره ويرجع إلى نيته ، والمتقي هو العالم بالله المواظب لِبَابِهِ .
فإن قيل : خطاب الناس بقوله : « اَكْرَمَكُمْ » يقتضي اشتراك الكال في الإكرام ولا كرامة للكافر فإنه أضل من الأنعام .
فالجواب : ذلك غير لازم أنه بدليل قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [ الإسراء : 70 ] لأن كل من خلق فقد اعترف بربه ، ثم من استمر عليه وزَاد زِيدَ في كرامته ، ومن رجع عنه أُزِيلَ عن الكرامة .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أي عليم بظواهركم يعلم أنسابكم خبير ببواطنكم لا يخفى عليه أسراركم فاجعلوا التقوى زادكم .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75