كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

وقال قتادة : الرهبانية التي ابتدعوها رفضُ النساء ، واتخاذ الصَّوامع .
وفي خبر مرفوع : هي لحوقهم بالبرارِي والجبال .
قوله تعالى : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } .
صفة ل « رهبانية » ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك .
قال ابن زيد : معناه ما فرضناها عليهم ، ولا أمرناهم بها .
وقوله : { إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } . فيه أوجه :
أحدها : أنه استثناء متصل مما هو مفعول من أجله ، والمعنى : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ابتغاء مرضات الله ، فيكون « كتب » بمعنى « قضى » ، فصار المعنى : كتبناها عليهم ابتغاء مرضات الله ، وهذا قول مجاهد .
والثاني : أنه منقطع .
قال الزمخشري ولم يذكر غيره : « أي : ولكنهم ابتدعوها » .
وإلى هذا ذهب قتادة وجماعة ، قالوا : معناه لم يفرضها عليهم ، ولكنهم ابتدعوها .
الثالث : أنه بدل من الضمير المنصوب في « كَتَبْنَاها » قاله مكي .
وهو مشكل ، كيف يكون بدلاً وليس هو الأول لا بعضه ، ولا مشتملاً عليه .
وقد يقال : إنه بدل اشتمال؛ لأن الرهبانية الخالصة المرعية حق الرعاية قد يكون فيها ابتغاء رضوان الله ، ويصير نظير قولك : الجارية ما أحببتها إلا أدبها فأدبها بدل من الضمير في « أحببتها » بدل اشتمال ، وهذا نهاية التمحُّل لصحة هذا القول .
والضمير المرفوع في « رَعَوْهَا » عائد على من تقدم .
والمعنى : أنهم لم يدوموا كلهم على رعايتها ، وإن كان قد وجد هذا في بعضهم .
وقيل : يعود على الملوك الذين حاربوهم .
وقيل على أخلافهم و « حقَّ » نصبه على المصدر .
قال القرطبي فيها : وقيل : « إلاَّ ابتغاء » استثناء منقطع ، والتقدير : « ما كتبناها عليهم ، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله » .
{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } .
أي : ما قاموا بها حقَّ القيام ، بل ضمُّوا إليها التثليث والاتحاد ، وأقام الناس منهم على دين عيسى - عليه الصلاة والسلام - حتى أدركوا نبينا محمداً - عليه الصلاة والسلام - فآمنوا به ، فهو قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون } .
وقيل : إنّا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلاَّ ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى ، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال لغير هذا الوجه ، وهو طلب الدنيا والرِّياسة والسُّمعة .
وقيل : معناه أنا كتبناها عليهم فتركوها ، فيكون ذلك ذمًّا لهم لتركهم الواجب .
وقيل : إن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به .
فصل فيمن أحدث بدعة
دلت هذه الآية أن كل محدثة بدعة ، فينبغي لمن ابتدع خيراً أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية .

وعن أبي أمامة الباهلي واسمه صديُّ بن عجلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أحْدَثْتُم قيامَ رمضانَ ولمْ يُكتَبْ عليْكمْ ، إنَّما كُتِبَ عليْكُمُ الصِّيامُ ، فدُومُوا على القِيامِ إذْ فعلتُمُوهُ ولا تَتْرُكُوهُ ، فإنَّ ناساً مِنْ بَنِي إسْرائِيلَ ابْتدَعُوا بِدَعاً ولَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عليهم ابتغَوْا بِهَا رضْوانَ اللَّهِ فَما رَعَوْهَا حَقَّ رعايتِهَا فَعَاتَبَهُم الله عليها بِترْكِهَا » ، فقال : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } الآية .
فصل
دلّت الآية على العزلة عن الناس وذلك مَنْدُوبٌ إليه عند فساد الزمان ، وتغير الأحوال والإخوان .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ } .
أي : آمنوا بموسى وعيسى { اتقوا الله وَآمِنُواْ } بمحمد صلى الله عليه وسلم { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } ، أي : مثلين من الأجْر على إيمانهم بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ وهذا نظير قوله تعالى : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [ القصص : 54 ] .
و « الكِفْلُ » : الحظّ والنصيب .
وقد تقدم ، وهو في الأصل كساء يكتفلُ به الراكب يحفظه من السقوط . قاله ابن جرير .
وقال الأزهري : اشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط ، والمعنى : يؤتكم نَصِيبيْنِ يحفظانكم من هلكةِ المعاصي كما يحفظ الكفلُ الراكب .
وقال أبو موسى الأشعري : « كِفْلَيْن » ضِعْفَيْن ، بلسان « الحبشة » .
وقال ابن زيد : « كِفْلين » أجر الدنيا والآخرة .
وقيل : لما نزلت : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } [ القصص : 54 ] افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية .
فإن قيل : إنه - تعالى - لما أعطاهم كِفْلَيْنِ ، وأعطى المؤمن كفلاً واحداً كان حالهم أعظم .
فالجواب : أنه لا يبعد أن يكون النَّصيب الواحد أزيد قدراً من النصيبين .
روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ثَلاثَةٌ يُؤتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ : رجُلٌ كانَتْ لَهُ جَاريةٌ فأدَّبهَا وأحْسَنَ أدبهَا ، ثُمَّ أعتَقَهَا وتَزوَّجَهَا ، ورجُلٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمَنَ بِكِتَابِهِ ، وآمَنَ بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وعبدٌ أحْسَنَ عبادةَ اللَّهِ ونَصَحَ سَيِّدَهُ » .
قوله : { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً } .
قال مجاهد : أي : بياناً وهدى .
وقال ابن عباس : هو القرآن .
وقيل : ضياء يمشون به في الآخرة على الصراط ، وفي القيامة إلى الجنة ، وهو النور المذكور في قوله تعالى { يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ الحديد : 12 ] .
وقيل : تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام ، فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها ، وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى ، لا الرِّياسة الحقيقية في الدين ثم قال : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } ، أي : ما أسلفتم من المعاصي ، { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قوله تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } .
هذه « اللام » متعلقة بمعنى الجملة الطَّلبية المتضمنة لمعنى الشرط ، إذ التقدير : إن تتقوا الله ، وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم .

وفي الآية هذه وجهان :
أشهرهما عند النحاة والمفسرين : أنها مزيدة كهي في { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] و { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ يس : 31 ] . على خلاف في هاتين الآيتين .
والتقدير : أعلمكم الله بذلك ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضلِ الله ، وثبوت أن الفضل بيد الله ، وهذا واضح بيِّن ، وليس فيه إلا زيادة ما ثبتت زيادته شائعاً ذائعاً .
والثاني : أنها غير مزيدة ، والمعنى : لئلا يعلم أهل الكتاب [ عجز المؤمنين . نقل ذلك أبو البقاء ، وهذا لفظه .
وكان قال قبل ذلك : « لا » زائدة ، والمعنى : ليعلم أهل الكتاب ] عجزهم .
وهذا غير مستقيم؛ لأن المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ من فضل الله ، وكيف يعمل هذا القائل بقوله : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } ، فإنه معطوف على مفعول العلم المنفي ، فيصير التقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أنَّ الفضل بيد الله ، وهذا لا يستقيم نفي العلم به ألبتة ، فلا جرم كان قولاً مطرحاً .
وقرأ العامة : « لئلاَّ » بكسر لام كي ، وبعدها همزة مفتوحة مخففة .
وورش يبدلها ياء محضة . وهو تخفيف قياسي نحو : « مِيَة وفِيَة » في « مِئَة وفِئَة » ويدل على زيادتها قراءة عبد الله ، وابن عباس ، وعكرمة ، والجحدري ، وعبد الله بن سلمة : « ليعلم » بإسقاطها .
وقراءة حطَّان بن عبد الله : « لأن يعلم » بإظهار « أن » .
والجحدري أيضاً والحسن : « ليعلم » .
وأصلها كالتي قبلها « لأن يعلم » فأبدل الهمزة ياء لانفتاحها بعد كسرة؛ وقد تقدم أنه قياسي كقراءة ورش « ليلاّ » ثم أدغم النون في الياء .
قال أبو حيان : « بغير غُنَّةٍ كقراءة خلف » أن يضرب « بغير غُنَّةٍ » . انتهى .
فصار اللفظ « ليعلم » . وقوله « بغير غنة » ، ليس عدم الغنة شرطاً في صحة هذه المسألة بل جاء على سبيل الاتفاق ، ولو أدغم بغنة لجاز ذلك فسقوطها في هذه القراءات يؤيد زيادتها في المشهورة .
وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه أبو بكر بن مجاهد : « ليلا يعلم » بلام مفتوحة وياء ساكنة كاسم المرأة ، ورفع الفعل بعدها .
وتخريجها : على أن أصلها « لأن لا » على أنها لام الجر ولكن فتحت على لغة مشهورة معروفة؛ وأنشدوا :
4728- أرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا ..
بفتح « اللام » ، وحذف الهمزة اعتباطاً ، وأدغمت النون في « اللام » فاجتمع ثلاثة أمثال فثقل النطق به ، وأبدل الوسط ياء تخفيفاً ، فصار اللفظ « ليلا » كما ترى ، ورفع الفعل؛ لأن « أنْ » هي المخففة لا النَّاصبة ، واسمها على ما تقرر ضمير الشَّأن ، وفصل بينهما وبين الفعل الذي هو خبرها بحرف النَّفْي .

وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب : « ليلا » بلام مكسورة ، وياء ساكنة ، ورفع الفعل بعدها ، وهي كالَّتي قبلها في التخريج ، غاية ما في الباب أنه جاء بلام الجر كما هي في اللغة الشهيرة .
وروي عن ابن عباس : « لكي يعلم » و « كي يعلم » .
وعن عبد الله : « لكيلا » .
وهذه كلها مخالفة للسَّواد الأعظم ، ولسواد المصحف .
وقراءة العامة : { أن لا يقدرون } بثبوت النون ، على أن « أنْ » هي المخففة .
وعبد الله : بحذفها على أن « أن » هي الناصبة .
وهذا شاذّ جداً؛ لأن العلم لا يقع بعده الناصبة .
وقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } الظاهر أنه مستأنف .
وقيل : هو خبر ثانٍ عن الفضل .
وقيل : هو الخبر وحده ، والجار قبله حال ، وهي حال لازمة؛ لأن كونه بيدِ الله لا ينتقل ألبتة .
فصل في اتصال الآية بما قبلها
نقل ابن الخطيب عن الواحدي أنه قال : هذه الآية مشكلة ، وليس للمفسرين فيها قول واضح في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها .
واعلم أن أكثر المفسرين على أن « لا » هاهنا صلة زائدة ، والتقدير : ليعلم أهل الكتاب .
وقال أبو مسلم وجماعة : على أن « لا » ليست زائدة ، ونحن نفسر الآية على القولين بعون الله وتوفيقه .
أما على القول بزيادتها ، فاعلم أنه لا بُدَّ هاهنا من تقديم مقدمة ، وهي أن أهل الكتاب كانوا يقولون : إن الوحْيَ والرسالة فينا ، والكتاب والشرع ليس إلاَّ لنا ، وإنّ الله خصَّنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين العالمين .
إذا عرفت هذا ، فنقول : إن الله - تعالى - لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ووعدهم الأجر العظيم في ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآيةِ ، والغرض منها أن يزيل عن قلبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم ، فقال : إنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيءٍ من فَضْل الله لقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين ، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلاً .
وأما القول بأن « لا » غير زائدة ، فاعلم أن الضمير في قوله : « لا يَقْدرون » عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه - رضي الله عنهم - والتقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله ، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه ، فقد علموا أنَّهم يقدرون عليه ثم قال : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } فيصير التقدير : إنا جعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله في قوم معينين ، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله .

واعلم أنَّ هذا القول ليس فيه إلاَّ أنا أضمرنا فيه زيادة ، فقلنا في قوله : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } تقديره : وليعتقدوا أنَّ الفضل بيد الله وأما القول الأول فقد افتقرنا فيه إلى حذف شيء موجود ، ومن المعلوم أنَّ الإضمار أولى من الحذف؛ لأن الكلام إذا افتقر إلى الإضمار لم يوهم ظاهره باطلاً أصلاً .
وأما إذا افتقرنا إلى الحذف كان ظاهرهُ موهماً للباطل ، فعلمنا أن هذا القول أولى .
فصل في نزول هذه الآية
قال قتادةُ : حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت : لئلا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله .
وقال مجاهد : قالت اليهود : يوشك أن يخرج منّا نبيٌّ يقطع الأيدي والأرجل ، فلما خرج من العرب كفروا فنزلت : « لئلا يعلم » ، أي : ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون يعني : أنهم لا يقدرون ، كقوله : { أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } [ طه : 89 ] والمراد من فضل الله .
قيل : الإسلام وقيل : الثواب .
وقال الكلبي : من رزق الله .
وقيل : نِعَمُ الله التي لا تُحْصَى .
{ وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } ليس بأيديهم ، فيصرفوا النُّبُوَّة عن محمد صلى الله عليه وسلم إلى من يُحِبُّون .
وقيل : إن الفضل بيد الله ، أي : بقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } .
روى البخاري عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول : « إنَّما بَقَاؤكُمْ فِيْمَا سَلَفَ قَبْلكُمْ مِنَ الأممِ كما بَيْنَ صلاةِ العصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمسِ ، أعْطِيَ أهْلُ التَّوراةِ التَّوْراةَ فَعمِلُوا بِهَا حتَّى انْتَصفَ النَّهارُ ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً ، ثُمَّ أعطي أهْلُ الإنجيلِ الإنجيلَ فعمِلُوا بِهِ حتَّى صلاةِ العَصْرِ ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً ، ثُمَّ أعطيتُمُ القُرْآنَ فعَمِلْتُمْ بِهِ حتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فأعطيتُمْ قِيْراطَيْنِ قِيْراطَيْنِ ، قال أهْلُ التَّوْرَاةِ : رَبَّنَا هؤلاءِ أقَلُّ عملاً وأكْثَرُ أجْراً ، قال : هَلْ ظُلِمْتُمْ مِنْ أجْرِكُمْ شَيْئاً؟ قَالُوا : لا ، قال : فذلِك فَضْلُ اللَّهِ أوتيهِ مَنْ أشَاءُ » .
وفي رواية : « فَغَضِبَتِ اليَهُودُ والنَّصَارى وقالُوا : رَبَّنَا » الحديث .

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)

قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } الآية .
« قَدْ » هنا للتوقع .
قال الزمخشري : « لأنه - عليه الصلاة والسلام - والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع اللَّه مجادلتهما وشكواها ، وينزل في ذلك ما يفرج عنهما » .
وإظهار الدال عند السين قراءة الجماعة إلا أبا عمرو والأخوين .
ونقل عن الكسائي أنه قال : من بيَّن الدال عند السين فلسانه أعجمي ، وليس بعربي . وهذا غير معرج عليه .
و « في زوجها » في شأنه من ظهاره إياها .
فصل فيمن جادلت الرسول صلى الله عليه وسلم
التي اشتكت هي خولة بنت ثعلبة .
وقيل : بنت حكيمٍ .
وقيل : بنت خُويلد .
قال الماوردي : وليس هذا بمختلف؛ لأن أحدهما : أبوها ، والآخر : جدها ، فنسبت إلى كل منهما .
قيل : كانت أمة .
وقيل : هي ابنة صامت .
وقيل : أمة لعبد الله بن أبي . وهي التي أنزل الله فيها : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [ النور : 33 ] أي لا يكرهها على الزنا .
وقيل : هي ابنة حكيم .
قال النحاس : وهذا ليس بمُتناقض ، يجوز مرَّة أن تنسب إلى أبيها ، ومرَّة إلى أمها ، ومرَّة إلى جدِّها ، ويجوز أن تكون أمةً كانت لعبد الله بن أبي ، فقيل لها : أنصارية بالولاء؛ لأنه كان في عداد الأنصاريين وأنه كان من المنافقين . نقله القرطبي .
وقيل : اسمها جميلة ، وخولة أصح ، وزوجها أوسُ بن الصَّامت أخو عبادة بن الصَّامت .
وروي أن عمر بن الخطاب مرَّ بها في خلافته ، وهو على حمارٍ والناس معه ، فاستوقفته طويلاً ووعظته ، وقالت : يا عمرُ ، قد كنت تدعى عُمَيراً ثم قيل لك : عمر ، ثم قيل : أمير المؤمنين ، فاتَّقِ الله يا عمر ، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب ، وهو واقف يسمع كلامها ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتقفُ لهذه العجوز هذا الوقوف .
فقال : والله لو حَبَسَتْنِي من أول النهار إلى آخره لا زلت إلاَّ للصَّلاة المكتوبة ، أتدرون من هذه العجوز؟ هذه خولة بنت ثعلبة ، سمع الله قولها من فوق سبع سموات ، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟! .
وقالت عائشة : تبارك الذي وسِعَ سمعهُ كُلَّ شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه ، وهي تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكَلَ شَبَابي ، ونَثرْتُ له بطني حتَّى إذا كبرت سنّي ، وانقطع ولدي ظاهر منِّي ، اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } الآية .
« روي أنها كانت حسنة الجِسْمِ ، فرآها زوجها ساجدةً فنظر عجيزتها ، فأعجبه أمرها ، فلما انصرفت أرادها فأبَتْ فغضب عليها ، قال عروة : وكان امرأ به لممٌ فأصابه بعض لممهِ ، فقال لها : أنْتِ عليَّ كظهْرِ أمِّي وكان الإيْلاء والظِّهار من الطلاق في الجاهلية ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها : » حَرُمْتِ عليْهِ « ، فقالت : والله ما ذكر طلاقاً ، وإنه أبو ولدي وأحبّ الناس إليَّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » حَرُمْتِ عَليْهِ « ، فقالت : أشكو إلى الله فَاقتِي ووحْدتِي ، فقد طالت له صُحْبتي ونفَضَتْ له بَطْني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَا أرَاك إلاَّ قَدْ حَرُمْتِ عليْهِ ولَمْ أومر فِي شأنِك بِشيءٍ « ، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا قال لها رسول الله : » حَرُمْتِ عليْهِ « هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتِي وشدة حالي ، وإن لي صبيةً صغاراً إن ضَممتُهُمْ إليَّ جاعُوا ، وإن ضَممتُهُمْ إليه ضاعُوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهُم إني أشكو إليك فأنزل على لسان نبيك ، وكان هذا أول ظهارٍ في الإسلام فأنزل الله تعالى : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } الآية . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها ، وقال : » مَا حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعْتَ «؟ فقال : الشيطان ، فهل من رُخْصَة؟ فقال : » نَعَمْ « ، وقرأ عليه الأربع آيات ، فقال : » هَلْ تَسْتطِيْعُ الصَّوْمَ «؟ فقال : لا والله ، فقال : » هَلْ تَسْتطيعُ العِتْقَ «؟ فقال : لا والله ، إني أن أخطأ في أن آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلَّ بصري وظننت أني أموت ، قال : » فأطْعِمْ ستِّيْنَ مِسْكيناً « ، فقال : ما أجد إلا أن تعينني منك بعونٍ وصلةٍ ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسةَ عشر صاعاً ، وأخرج أوس من عنده مثله ، فتصدق به على ستين مسكيناً » .

فصل في اللمم الذي كان بأوس بن الصامت
قال أبو سليمان الخطَّابي : ليس المراد من قوله في هذا الخبر : وكان بن لَمَم الخبل والجنون ، إذ لو كان به ثُمَّ ظاهر في تلك الحال لم يكن يلزمه شيء ، بل معنى اللَّمَم هاهنا : الإلمام بالنساء وشدة الحِرْصِ والتَّوقَانِ إليهن .
فصل في الظهار
اعلم أن الظِّهار كان من أشدّ طلاق الجاهلية؛ لأنه في التحريم أوكدُ ما يمكن ، فإن كان الحكم صار مقرّراً في الشرع كانت الآية ناسخة له ، وإلا لم يفد نسخاً؛ لأن النسخ إنما يدخل في الشَّرائع لا في عادة الجاهلية ، لكن الذي روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لها : « حَرُمْتِ » أوْ « مَا أَرَاكَ إلاَّ قَدْ حَرُمْتِ » كالدلالة على أنه كان شرعاً .
فأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك .
وفي الآية دليل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق ولم يَبْقَ له في مهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المُهِمّ .

فصل فيما حكاه الله عن هذه المرأة
اعلم أنَّ الله - تعالى - حكى عن هذه المرأة أمرين :
أحدهما : المجادلة وهو قوله تعالى : { تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } أي : في شأن زوجها ، وتلك المجادلة هي أنه - عليه الصلاة والسلام - كلما قال لها : « حَرُمَتْ عَليْهِ » ، قالت : والله ما ذكر طلاقاً .
والثاني : شكواها إلى الله فَاقتَهَا ووحْدتهَا ، وقولها : إن لي صبية صغاراً .
فصل في سمع الله تعالى
قال القرطبي : الأصل في السماع إدراك المسمُوعات وهو اختيار أبي الحسن ، وقال ابن فورك : الصحيح أنه إدراك المسمُوع .
وقال الحاكم أبو عبد الله : « السميع » هو المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن ، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه ، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذُن كالأصَم من النَّاس لما لم يكن له هذه الحاسة لم يكن أهلاً لإدراك الصوت ، والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة ، والحياة والإرادة ، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متّصفاً بهما .
وقرىء : « تُحَاوِرُكَ » أي : تراجعك الكلام .
قوله : { وتشتكي إِلَى الله } يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطف على « تجادلك » فهي صلة أيضاً .
والثاني : أنها في موضع نصب على الحال ، أي : تجادلك شاكيةً حالها إلى الله .
وكذا الجملة من قوله : { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } والحالية فيها أبعد .
و « شكا » و « اشتكى » بمعنى واحد .
و « المُحَاورة » : المراجعة في الكلام ، حار الشيء يحُور حَوْراً ، أي : رجع يرجع رجوعاً .
ومنه : « نعوذ بالله من الحور بعد الكورِ » ، وكلمته فما أحار بكلمة ، أي : فما أجاب .
{ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } . أي : يسمع كلام من يناديه ، ويبصر من يتضرع إليه .
قوله : { الذين يُظَاهِرُونَ } تقدم الخلاف في « تُظَاهرون » في سورة « الأحزاب » ، وكذا في { اللائي } [ الأحزاب : 4 ] .
وقرأ أبيّ هنا : « يَتَظَاهرون » .
وعنه أيضاً : « يتظهرون » .
وفي « الذين » وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره : قوله { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } .
الثاني : أنه منصوب ب « بصير » على مذهب سيبويه في جواز إعمال « فعيل » قاله مكي .
يعني : أن سيبويه يعمل « فعيلاً » من أمثلة المبالغةِ ، وهو مذهب مطعُون فيه على سيبويه؛ لأنه استدلّ على إعماله بقول الشاعر : [ البسيط ]
4729- حَتَّى شَآهَا كَلِيلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ ... بَاتَتْ طِرَاباً وبَاتَ اللَّيْلَ لَمْ يَنَمِ
ورد عليه بأن « موهناً » ظرف زمان ، والظروف يعمل فيها روائح الأفعال ، والمعنى : يأتي « ما » قاله مكي .
وقرأ العامة : « أمَّهاتِهِمْ » بالنصب على اللغة الحجازية الفصحى ، كقوله

{ مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] .
وعاصم في رواية بالرفع على اللغة التميمية ، وإن كانت هي القياس لعدم اختصاص الحرف ، وقرأ عبد الله : « بأمَّهاتهم » بزيادة الباء وهي تحتمل اللغتين .
وقال الزمخشري : « وزيادة الباء في لغة من يَنْصِبُ » .
قال شهاب الدين : هذا هو مذهب أبي عليّ ، يرى أن « الباء » لا تزاد إلا إذا كانت عاملة ، فلا تزاد في التميمية ، ولا في الحجازية إذا منع من عملها مانع ، نحو : « ما إن زيد بقَائمٍ » ، وهذا مردُود بقول الفرزدق وهو تميمي : [ الطويل ]
4730- لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتَارِكِ حَقِّهِ ... ولا مُنْسِىءٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ
وبقول الآخر : [ المتقارب ]
4731- لَعَمْرُكَ مَا إنْ أبُو مالكٍ ... بِوَاهٍ ولا بِضَعيفٍ قُوَاه
فزادها مع « ما » الواقع بعدها « إن » .
فصل في التعبير بلفظ الظهار
ذكر الظَّهْر كناية عن معنى الركوب ، والآدمية إنما يُرْكَب بطنُها ، ولكن كنَّى عنه بالظَّهر؛ لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره فكنَّى بالظهر على الركوب ، ويقال : نزل عن امرأته أي : طلقها كأنه نزل عن مركُوبه ، ومعنى : أنت عليَّ كظهرِ أمي ، أي : أنت عليَّ محرمة لا يحلّ لي ركوبك نقله القرطبي .
ونقل ابن الخطيب عن صاحب « النظم » : أنه ليس مأخوذاً من الظَّهر الذي هو عضو من الجسد؛ لأنه ليس الظَّهر بأولى بالذكر في هذا الوضع من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعةِ والتلذُّذ ، بل الظهر هاهنا مأخوذ من العُلوّ ، ومنه قوله تعالى : { فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ } [ الكهف : 97 ] أي : يعلوه وكذلك امرأة الرجل ظهره؛ لأنه يعلوها بملك البضع وإن لم يكن ناحية الظَّهر ، فكأن امرأة الرجل مركب للرجل وظهر له .
ويدلُّ على صحة هذا المعنى ما نقل عن العرب أنهم يقولون في الطلاق : نزلت عن امرأتي ، أي : طلقتها ، وفي قولهم : أنت عليّ كظهر أمي حذف وإضمار؛ لأن تقديره : ظهرك عليّ ، أي ملكي إياك ، وعلوي عليك حرام كما عُلوي على أمي وملكها عليّ .
فصل في حقيقة الظهار
حقيقة الظهار : تشبيه ظهر بظهر ، والموجب للحكم منه تشبيه ظَهْر محلّل بظهر محرم ، ولهذا أجمع الفقهاء على أنَّ من قال لزوجته : أنت عليَّ كظهرِ أمي ، أنه مظاهر .
وقال أكثرهم ، إذا قال لها : أنت عليّ كظهرِ ابنتي ، أو أختي ، أو من تحرم عليه على التأبيد من ذوات المحارم أنه مظاهر .
فصل في ألفاظ الظهار
وألفاظ الظِّهار : صريح وكناية :
فالصريح : أنت علي كظهر أمي ، وأنت عندي ، وأنت منّي ، وأنت معي كظهر أمي ، وكذلك أنت عليَّ كبطن أمي ، أو كرأسها أو فرجها ونحوه ، وكذلك فرجك ، أو رأسك ، أو ظهرك ، أو بطنك ، أو رجلك عليَّ كظهر أمي ، فهو مظاهر مثل قوله : يدك ، أو رجلك ، أو رأسك ، أو فرجك طالق تطلق عليه ، ومتى شبهها بأمّه ، أو بإحدى جداته من قبل أبيه ، أو أمه فهو ظهار بلا خلاف ، وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحلّ له بحال كالبنت ، والأخت ، والعمة ، والخالة كان مظاهراً عند أكثر الفقهاء .

والكناية : أن يقول : أنت عليَّ كأمي ، أو مثل أمي ، فإنه يعتبر فيه النية ، فإن أراد الظهار كان ظهاراً ، وإن لم ينو الظهار لم يكن مظاهراً على خلاف في ذلك ، فإن شبه امرأته بأجنبيّة ، فإن ذكر الظهر كان ظهاراً ، وإن لم يذكر الظهر ، فقيل : يكون ظهاراً .
وقيل : طلاقاً .
وقال : أبو حنيفة والشافعي : لا يكون شيئاً .
وقيل : وهذا فاسد؛ لأنه شبّه محللاً من المرأة بمحرم ، فأشبه الظهر . نقله القرطبي .
فإن قال : أنت عليَّ حرام كظهر أمي ، كان ظهاراً ولم يكن طلاقاً؛ لأن قوله : أنت عليَّ حرام يحتمل التحريم بالطلاق ، فيكون طلقة ، ويحتمل التحريم بالظِّهار ، فلما صرح به كان تفسيراً لأحد الاحتمالين ، فقضي به فيه .
فصل
والظِّهار لازم في كلّ زوجة مدخول بها ، أو غير مدخُول بها من كل زوج يجوز طلاقه .
وقال مالك : يجوز الظِّهار من كل من يجوز له وطؤها من إمائِهِ إذا ظاهر منهن لزمه الظِّهارُ فيهن ، وقال غيره : لا يلزم .
قال ابن العربي : وهي مسألة عسيرةٌ جدًّا؛ لأن مالكاً يقول : إذا قال لأمته : أنت عليَّ حرام لا يلزم ، فكيف يبطل فيها صريح التحريم ، وتصح كنايته .
قوله : { مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً } نعتان لمصدر محذوف أي قولاً منكراً وزوراً أي : كذباً وبهتاناً .
قاله مكي . وفيه نظر؛ إذ يصير التقدير : ليقولون قولاً منكراً من القولِ ، فيصير قوله : « مِنَ القَوْلِ » لا فائدة فيه ، والأولى أن يقال : نعتان لمفعول محذوف ، لفهم المعنى ، أي : ليقولن شيئاً منكراً من القول لتفيد الصفة غير ما أفاده الموصوف .
والمنكر من القول : ما لا يعرف في الشَّرْع ، والزور : الكذب .
{ وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } إذ جعل الكفارة عليهم مُخلصةً لهُمْ من هذا القَوْل المنكر .
وقيل : « لعفو غفور » إما من قبل التوبة لمن يشاء ، كما قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 116 ] .
أو بعد التوبة .
فإن قيل : المظاهر إنما قال : أنْتِ عليَّ كظهرِ أمِّي ، فشبه بأمه ، ولم يقل : إنها أمه ، فما معنى أنه جعله منكراً من القوْلِ وزوراً . والزُّور : الكذب ، وهذا ليس بكذب؟ .
فالجواب : أنَّ قوله إنْ كان خبراً فهو كذب ، وإنْ كَانَ إنشاء فكذلك؛ لأنه جعله سبباً للتَّحريم ، والشَّرْع لم يجعله سبباً لذلك .
وأيضاً فإنما وصف بذلك ، لأن الأم مؤبدة التحريم ، والزَّوْجة لا يتأبّد تحريمها بالظِّهار ، وهذا ضعيف؛ لأنَّ المشبه لا يلزم أن يساوي المشبه به من كُلِّ وجهٍ .
فإن قيل : قوله : { إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } يقتضي أن لا أم إلا الوالدة ، وهذا مشكل لقوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ } [ النساء : 23 ] .
وقوله تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [ الأحزاب : 6 ] .
والحمل على حرمة النكاح لا يفيد؛ إذْ لا يلزمُ مِنْ عدم كوْنِ الزَّوجة أمًّا عدمُ الحُرمةِ ، فظاهر الآية الاستدلال بعدم الأمومة على عدم الحرمة؟ .
فالجواب : أنا نقول : هذه الزَّوجة ليست بأم حتى تحصل الحرمة بسبب الأمومة ، ولم يرد الشرع بجعل هذه اللفظة سبباً للحرمةِ ، فإذن لا تحصل الحرمة هناك ألبتّة فكان وصفهم لها بالحرمة كذباً وزوراً .

وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)

قوله : { والذين يُظَاهِرُونَ } مبتدأ .
وقوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مبتدأ ثان وخبره مقدم ، أي : فعليهم ، أو فاعل بفعل مقدر ، أي : فيلزمهم تحرير ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي : فالواجب عليهم تحرير .
فصل
ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك ، ولا يلزم عند غيره لقوله تعالى : { مِن نِّسَآئِهِم } .
وإذا ظاهر صح ظهاره كما يصح طلاقه . وقال مالك : لا يلزم ظهاره؛ لأنه لا يصح تكفيره بالصِّيام ، وهذا منقوض بظهار العبد ، وهو لا يكفر بالعتقِ والإطعام .
فصل في عدم صحة ظهار المرأة من زوجها
لا يصح ظهار المرأة من زوجها ، وعليها كفَّارة يمين ، إنما الظهار على الرجال؛ لأن الحل والعقد في النكاح بيدِ الرجال ليس بيد المرأة منه شيء .
وقال الحسن بن زياد : هي مظاهرة .
وقال الزهري : أرى أن تكفر كفَّارة الظهار .
وقال محمد بن الحسن : لا شيء عليها .
فصل في المظاهرة حال الغضب والسكر
وإذا ظاهر حال غضبه لزمه حكم الظِّهار ، للحديث ، ويصح ظهار السكران وطلاقه ، وإذا ظاهر من نسائه بكلمة واحدة فكفَّارة واحدة ، وإن ظاهر منهنّ بكلمات فعليه لكل واحدة كفَّارة ظهار ، وإذا قال لأربع نسوة : إن تزوجتكنّ فأنتن عليَّ كظهرِ أمي ، فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفِّر ، ثم قد سقط اليمين فيه في سائرهن .
وقيل : لا يَطَأُ البواقي منهن حتى يكفر فإن قال لامرأته : أنت عليَّ كظهرِ أمي ، وأنت طالق ألبتة ، لزمه الطلاق والظِّهار معاً ، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج ولا يطؤها إذا نكحها حتى يكفر ، فإن قال لها : أنت طالق ألبتَّة ، وأنت عليّ كظهر أمي لزمه الطَّلاق ، ولم يلزمه الظِّهار؛ لأن المبتُوتةَ لا يلحقها طلاق ولا ظهار ، ويصح الظهار المؤقّت كما لو قال : أنت اليوم عليَّ كظهرِ أمي فإنَّه يصحّ ويبطل بمضيّ اليوم .
وقال مالك : يتأبّد .
قوله : « منكم » توبيخ للعرب ، وتهجين لعادتهم في الظِّهار؛ لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة ، دون سائر الأمم .
وقوله : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [ المجادلة : 2 ] أي : ما نساؤهم بأمهاتهم ، { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ] أي إلا الوالدات .
وعلى التقادير الثلاثة ، فالجملة خبر المبتدأ ، ودخلت « الفاء » لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط .
قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } . في هذه « اللام » أوجه :
أحدها : أنها متعلقة ب « يعودون » .
وفيه معان :
أحدها : والذين من عادتهم أنهم كانوا يقولون هذا القول في الجاهلية ، ثمَّ يعودون لمثله في الإسلام .
الثاني : ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه ، ومنه : « عَادَ غَيْثٌ عَلَى ما أفْسَدَ » أي تداركه بالإصلاح ، والمعنى : أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظِّهار .

الثالث : أن يراد بما قالوا ما حرَّموه على أنفسهم بلفظ الظِّهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [ مريم : 80 ] ، والمعنى : ثم يريد العود للتَّماسِّ . قاله الزمخشري .
وهذا الثالث هو معنى ما روي عن مالك ، والحسن ، والزهري : ثم يعودون للوطءِ ، أي : يعودون لما قالوا : إنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهر ثُمَّ وطىء لزمتِ الكفَّارة عند هؤلاء .
الرابع : « لما قالوا » ، أي : يقولونه ثانياً ، فلو قال : أنت عليَّ كظهرِ أمي مرّة واحدة لم يلزمه كفارة؛ لأنه لم يَعُدْ لما قال ، وهذا منقول عن بكير بن عبد الله الأشجّ ، وأبي حنيفة ، وأبي العالية ، والفراء في آخرين ، وهو مذهب أهل الظَّاهر .
قال ابن العربي : وهذا القول باطل قطعاً؛ لأن قصص المتظاهرين قد رويت ، وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم ، والمعنى أيضاً بنقضه؛ لأن الله - تعالى - وصفه بأنه مُنْكَر من القول وزور ، فكيف يقال : إذا أعدت القول المحرّم ، والسَّبب المحظور وجبت عليك الكفَّارة ، وهذا لا يعقل ألا ترى أنَّ كل سبب يوجب الكفَّارة لا يشترط فيه الإعادة من قتلٍ ووطءٍ في صوم؟ .
الخامس : أن المعنى أن يعزم على إمساكها فلا يطلقها بعد الظِّهار حتى يمضي زمن يمكن أن يطلقها فيه ، فهذا هو العودُ لما قال ، وهو مذهب الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة أيضاً .
وقال : العود هنا ليس بتكرير القول ، بل بمعنى العزم على الوطء .
قال القرطبي : وهذا ينتقض بثلاثة أمور :
أحدها : أنه قال : « ثُمَّ » وهي للتراخي .
الثاني : قوله : « ثم يعُودُون » يقتضي وجود فعل من جهته ، ومرور الزمان ليس بفعل منه .
الثالث : أن الطلاق الرَّجْعِي لا ينافي البقاء على الملك ، فلم يسقط حكم الظِّهار كالإيلاء .
وقال مكي : « واللام متعلقة ب » يَعُودُون « أي : يعودون لوطءِ المقول فيه الظهار ، وهن الأزواج ف » ما « والفعل مصدر ، أي : لقولهم ، والمصدر في موضع المفعول به ، نحو : » هذا دِرْهم ضرب الأمير « أي : مضروبه ، فيصير المعنى ، كقولهم للمقول فيه الظِّهار ، أي : لوطئه » .
وهذا معنى قول الزمخشري في الوجه الثالث الذي تقدم تقريره عن الحسن ، والزهري ، ومالك إلاَّ أن مكيًّا قيد ذلك بكون « ما » مصدرية حتى يقع المصدر المؤول موضع اسم المفعول ، وفيه نظر؛ إذ يجوز ذلك وإن كانت « ما » غير مصدرية لكونها بمعنى « الذي » ونكرة موصوفة ، بل جعلها غير مصدرية أولى؛ لأن المصدر المؤول فرع المصدر الصريح ، إذ الصريح أصل للمؤول به ، ووضع المصدر موضع اسم المفعول خلاف الأصل ، فيلزم الخروج عن الأصل بشيئين : بالمصدر المؤول ، ثم وقوعه موقع اسم المفعول ، والمحفوظ من لسانهم إنما هو وضع المصدر الصَّريح موضع المفعول لا المصدر المؤول فاعرفه .

لا يقال : إن جعلها غير مصدرية يحوجُ إلى تقدير حذف مضاف ليصحّ المعنى ، أي : يعودون لوطء الذي ظاهر منها ، أو امرأة ظاهر منها ، أو يعودون لإمساكها .
والأصل : عدم الحذف؛ لأن هذا مشترك الإلزام لنا ولكم ، فإنكم تقولون أيضاً : لا بد من تقدير مضاف ، أي : يعودون لوطء أو لإمساك المقول فيه الظهار ، ويدل على جواز كون « ما » في هذا الوجه غير مصدرية ما أشار إليه أبو البقاء ، فإنه قال : يتعلق ب « يعودون » بمعنى يعودون للقول فيه ، هذا إن جعلت « ما » مصدرية ، ويجوز أن تجعلها بمعنى « الذي » ونكرة موصوفة .
الثاني : أن « اللام » تتعلق ب « تحرير » ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : والذين يُظَاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما نطقوا به من الظِّهار ، ثم يعودون للوطء بعد ذلك . وهذ ما نقله مكي وغيره عن الأخفش .
قال أبو حيَّان : « وليس بشيء؛ لأنه يفسد نظم الآية » .
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم فساد النظم مع دلالة المعنى على التقديم والتأخير ، ولكن نسلم أن ادِّعاء التقديم والتأخير لا حاجة إليه؛ لأنه خلاف الأصل .
الثالث : أن « اللام » بمعنى « إلى » ، و « اللام » و « إلى » يتعاقبان ، قال تعالى : { هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] ، وقال : { فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم } [ الصافات : 23 ] وقال : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] وقال : { وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ } [ هود : 36 ] قاله الأخفش .
الرابع : أنها بمعنى « في » ، نقلها أبو البقاء ، ومع ذلك فهي متعلقة ب « يعودون » .
الخامس : أنها متعلقة ب « يقولون » .
[ قال مكي : وقال قتادة : ثم يعودون لما قالوا من التحريم فيحلونه ، فاللام على هذا تتعلق ب « يقولون » ] .
قال شهاب الدين : « ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي ، وكيف فهم تعلقها ب » يقولون « على تفسير قتادة ، بل تفسير قتادة نص في تعلقها ب » يعودون « ، وليس لتعلقها ب » يقولون « وجه » .
ونقل القرطبي عن الفرَّاء قال : اللام بمعنى « عن » والمعنى : ثم يرجعون عما قالوا ، ويريدون الوطء .
وقال أبو مسلم : العود هو أن يحلف أولاً على ما قال من لفظ الظهار ، فلو لم يَحْلف لم تلزمه كفارة كما لو قال في المأكول : هو عليَّ حرام كَلَحْمِ الآدمي فلا كفَّارة عليه ، فإذا حلف عليه لزمته كفارة يمين .
وهذا ضعيف؛ لأن الكفَّارة قد تجب بالجماعِ في الحجّ ، وفي رمضان ، وفي قتل الخطأ ، ولا يمين هناك .
قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : فعلية إعتاق رقبةٍ ، يقال : حرَّرته ، أي : جعلته حرًّا ، ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سالمة من كل عيب ، ومن كمالها إسلامها كالرَّقبة في كفَّارة القتل ، فإذا أعتق نصفي عبدين لم يجزه .

وقال الشافعي : يجزيه لأنَّ النِّصفين في معنى العبد الواحد؛ ولأن الكفَّارة في العتقِ طريقها المال ، فجاز أن يدخلها التَّبعيض كالإطعام ، ودليل الأول قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد ، وبعض الرقبة ليس رقبة؛ ولأنه لو أوصى رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحجّ واحد منهما نصفها ، ولو أوصى أن يشتري رقبة فيعتق عنه لم يجز أن يعتق نصف عبدين ، كذا ها هنا .
وروي عن أحمد - رضي الله عنه - إن كان باقيهما حراً صح وأجزأ ، وإلاَّ فلا؛ لأن المقصود تكميل الحرية وقد كملت ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : « لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيْكٌ فإنْ أعْتِقَ مُكَاتبٌ عَنِ الكفَّارةِ لَمْ يَجْزِهِ » .
وقال أبو حنيفة : إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً أجزأه ، وإن أعتق بعد أن أدى شيئاً لم يجزه ، فإن أعتق ذا رحمه المحرم عن كفارته عتق ، ولم يُجْزه عن الكفارة .
قوله : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } ، أي : من قبل أن يجامعها ، فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير فإن جامعها قبل التَّكفير عصى ، ولا يسقط عنه التكفير .
وحكي عن مجاهد : أنه إذا وطىء قبل أن يشرع في التكفير لزمه كفَّارة أخرى ، وعن غيره أن الكفَّارة الواجبة بالظِّهار تسقط عنه ، ولا يلزمه شيء أصلاً؛ لأن الله - تعالى - أوجب الكفَّارة ، وأمر بها قبل المسيسِ ، فإذا أخَّرها حتى مسَّ فقد فات وقتُها ، والصحيح ثبوت الكفَّارة؛ لأنه بوطئه ارتكب إثماً ، وذلك ليس بمسقط للكفَّارة ، ويأتي بها قضاء كما لو أخَّر الصلاة عن وقتها ، وسواء كانت الكفَّارة بالعِتْقِ ، أو الصوم ، أو الإطعام .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن كانت بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم ، فأما غير الوطء من القبلة والمباشرة والتلذُّذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء .
فصل فيمن ظاهر من امرأته مراراً
إذا ظاهر مراراً من امرأته ولم يُكفر ، فكفَّارة واحدة إلا أن يكون قد كفَّر عن الأول ، فعليه للثاني كفَّارة .
قال : وينبغي للمرأة ألا تدعه يقربها حتى يكفِّر ، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينها وبينه ، ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع .
قال الفقهاء : ولا شيء من الكفارة يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظِّهار وحدها؛ لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة ، وامتناع من إيفاء حقّها .
قوله تعالى : { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } أي : تؤمرون به .
{ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } من التَّكفير وغيره .
قوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } .
وقوله تعالى : { فَإِطْعَامُ } كقوله في الأوجه الثلاثة المتقدمة من قبلُ ، متعلق بالفعل أو الاستقرار المتقدم ، أي : فيلزم تحرير ، أو صيام ، أو فعليه كذا من قبل تماسهما . والضمير في « يتماسَّا » للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم عليها .

فصل إذا لم يجد الرقبة
من لم يجد الرقبة ولا ثمنها ، وكان مالكاً لها إلاَّ أنه شديد الحاجة إليها لخدمته ، أو كان مالكاً لثمنها إلاَّ أنه يحتاج إليه لنفقته ، أو كان له مسكين ليس له غيره ، ولا يجد شيئاً سواه فله أن يصوم .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يصوم وعليه العتق ، ولو كان محتاجاً إلى ذلك .
والصيام الواجب في هذه الكفَّارة أن يصوم شهرين متتابعين ، فإن أفطر في أثنائها بغير عُذْرٍ استأنفهما وإن أفطر بعذر من سفر أو مرض ، فقال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي : يبني على ما مضى ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي .
فإن ابتدأ الصيام ، ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه؛ لأنه أمر به حين دخل فيه .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يعتق قياساً على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدَّم قبل انقضاء عدّتها ، فإنها تستأنف الحَيْض إجماعاً ، فإن وطىء المظاهر في خلال الشهرين نهاراً بطل التتابع ، وإن وطىء ليلاً لم يبطل؛ لأنه ليس محلاًّ للصَّوم .
وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - ومالك : يبطل بكل حال ، ويجب عليه ابتداء الكفَّارة لقوله تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } وهذا شرط عائد إلى جملة الشهرين .
ومن طال مرضه طولاً لا يرجى بُرْؤه ، وكان بمنزلة العاجز من كبرٍ ، فيجوز له العدول عن الصيام إلى الإطعام .
فإن كان يرجى بُرْؤه ، واشتدت حاجته إلى وَطْءِ امرأته فالاختيار له أن ينتظر البُرْءَ حتى يقدر على الصيام ، فإذا كفَّر بالإطعام ، ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه .
فإن ظاهر وهو موسرٌ ، ثم أعسر قبل أن يكفر صام ، وإنما ينظر إلى حاله يوم يكفر ، ولو جامعها في عدمه وعسره ، فلم يكفر حتى أيسر لزمه العِتْق .
ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر ، قال القرطبي رحمه الله : فإن كان مضى من صومه صدر صالح كالجمعة وشبهها تمادى ، وإن كان يوماً أو يومين ترك الصوم ، وعاد إلى العتق ، وليس ذلك بواجب عليه .
ولو ظاهر عن امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما لا بعينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر الكفَّارة الأخرى ، ولو عين الكفَّارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفَّارة عن الأخرى .
قال القرطبي : « ولو ظاهر من أربع نسوة ، فأعتق عنهن ثلاث رقاب ، وصام شهرين لم يجزه العِتْق ولا الصيام؛ لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوماً ، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتين مسكين ، فإن لم يقدر فرّق بخلاف العتق والصيام؛ لأن صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق » .
[ قوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } الآية كقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } في الأوجه الثلاثة المتقدمة ، و « مِنْ قَبْل » متعلق بالفعل ، أو الاستقرار المتقدم ، أي : فيلزمه تحرير ، أو صيام أو فعليه كذا من قبل تماسهما ، والضمير في « يتماسّا » للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم ] .

فصل في الترتيب في كفَّارة الظهار
اعلم أن الله - تعالى - أمر بكفَّارة الظهار مرتبة ، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الإعتاق ، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام ، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مد من طعام بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عبد البرّ : والأفضل مُدَّان بمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجزىء عند مالك ، والشافعي - رضي الله عنهما - أن يطعم أقل من ستين مسكيناً .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاعٍ حتى يكمل العدد أجزأه .
وعن أحمد - رضي الله عنه - إذا لم يجد إلاَّ مسكيناً واحداً ردد عليه بعدد الأيام .
فصل في نسخ الظهار لما كانوا عليه
حكم الظِّهار ناسخ لما كانوا عليه من كون الظِّهار طلاقاً في الجاهلية ، روي ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما .
قوله : { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ } .
قال الزَّجَّاج : « ذلك » فيه وجهان :
الأول : أنه في محل رفع ، أي : الغرض ذلك الذي وصفنا من التَّغليظ في الكفَّارة ، « لتُؤمِنُوا » أي : لتصدقوا أن الله أمر به .
الثاني : فعلنا ذلك للبيان والتعظيم للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بشرائعه ، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطَّلاق .
فصل في أن الكفارة إيمان بالله تعالى
استدلّ بعض العلماء على أنَّ هذه الكفَّارة إيمان بالله تعالى؛ لأنه لما ذكرها وأوجبها ، قال جل ذكره : { لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } ، أي : ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدّوها ، فسمى التكفير إيماناً؛ لأنه طاعة ، ومراعاة للحد ، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان .
فصل في معنى الآية
معنى قوله تعالى : { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } أي : لئلا تعودوا للظِّهار الذي هو منكر من القول وزور .
قيل له : قد يجوز أن يكون كلاهما مقصوداً ، فيكون المعنى : ذلك لئلا تعودوا ، فتقولوا المنكر والزور ، بل تدعونهما طاعة لله - سبحانه وتعالى - إذ كان قد حرمهما ، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا إذا كان الله منع من مَسِيْسهَا وتكفروا إذا كان الله - عز وجل - أمر بالكفَّارة ، وألزم إخراجها منكم ، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لأنها حدود تحفظونها وطاعات تؤدّونها ، والطَّاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم إيمان بالله ورسوله .
فصل في إدخال العمل تحت مسمى الإيمان
قال ابن الخطيب : استدل من أدخل العمل في مسمى الإيمان بهذه الآية ، فقال : إن الله - تعالى - أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين ، فدل على أن العمل من الإيمان ، ومن أنكر ذلك قال : إنه - تعالى - لم يقل : ذلك لتؤمنوا باللَّهِ بعمل هذه الأشياء ، ونحن نقول : المعنى « ذلك لتؤمنوا بالله » والإقرار بهذه الأحكام .

فصل فيمن استدل بهذه الآية على أن أفعال الله معللة بالأغراض
استدلت المعتزلة في قوله تعالى « لتؤمنوا » على أن فعل الله معلل بالغرض ، وعلى أن غرضه أن تؤمنوا ، ولا تستمروا على ما كانوا عليه من الكفر ، وهذا يدلّ على أنه - تعالى - أراد منهم الإيمان وعدم الكفر .
قوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } أي بيّن معصيته وطاعته ، فمعصيته الظِّهار ، وطاعته الكفارة .
{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : لمن جحد هذا وكذاب به ، ولم يصدق بأحكام الله تعالى له عذاب جهنم .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ } الآية .
قال المبرد : أصل « المحادّة » الممانعة ، ومنه يقال للبواب : حداد ، وللممنوع الرزق : محدود .
وقال أبو مسلم الأصفهاني : « المحادّة » : مفاعلة من لفظ الحديدِ ، والمراد المقاتلة بالحديد ، سواء كان ذلك في الحقيقة ، أو كان منازعة شديدة شبيهة للخصومة بالحديد .
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادّين المخالفين لها ، قال المفسرون : المُحادة : المُعَاداة والمخالفة في الحدود ، وهو كقوله تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } [ الأنفال : 13 ] .
وقيل : يحادون الله ، أي : أولياء الله كما جاء في الخبر ، « مَنْ أهَانَ لِي وليًّا فقدْ بَارَزَني بالمُحاربةِ » .
قال الزجاج : المحادّة : أن تكون في حد يخالف حد صاحبك .
والضمير في قوله « يحادّون » يمكن أن يرجع إلى المُنافقين ، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين ، ويظاهرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم فأذلهم الله سبحانه وتعالى ، ويحتمل أن يرجع لجميع الكُفَّار ، فأعلم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم كبتوا ، أي خذلوا .
قال المبرد رحمه الله تعالى : كبت الله فلاناً ، أي : أذلّه ، والمردود بالذل يقال له مكبوت .
وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا .
وقال قتادة : خزوا كما خزي الذين من قبلهم .
وقال ابن زيد : عذبوا .
وقال السدي : لعنوا ، وقال الفراء : غيظوا يوم الخندق .
وقيل : يوم « بدر » .
وقيل معنى كبتوا : أي سيكبتون ، وهو بشارة من الله للمؤمنين بالنصر ، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريباً للمخبر عنه .
وقيل : لغة مذحج .
ويحتمل أن يكون لتحقق وقوعه ، والمراد بالذين من قبلهم أعداء الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - { وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم { وَلِلْكَافِرِينَ } بهذه الآيات { عَذَابٌ مُّهِينٌ } يذهب بعزّهم وكبرهم ، فبين تعالى أن عذاب المحاربين في الدنيا الذُّل والهوان ، وفي الآخرة العذاب الشديد .

قوله تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً } .
فيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب ب « عذاب مهين » .
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدر ، فقدره أبو البقاء : يهانون أو يعذبون ، أو استقر ذلك يوم يبعثهم ، وقدره الزمخشري ب « اذكر » قال : تعظيماً لليوم .
الثالث : أنه منصوب ب « لهم » . قاله الزمخشري ، أي : بالاستقرار الذي تضمنه لوقوعه خبراً .
الرابع : أنه منصوب ب « أحصاه » ، قاله أبو البقاء ، وفيه قلق؛ لأن الضمير في « أحصاه » يعود على « ما عملوا » . قوله : « جَمِيعاً » أي : الرجال والنساء ، أي : كلهم لا يترك منهم واحداً .
وقيل : مجتمعين في حال واحدة { فَيُنَبِّئُهُم } أي : يخبرهم بما عملوا في الدنيا تخجيلاً لهم وتوبيخاً .
{ أَحْصَاهُ الله } عليهم في صحائف أعمالهم « ونَسُوهُ » حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم .
{ والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي شاهد مطلع وناظر لا يخفى عليه شيء .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)

ثم إنه - تعالى - أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات ، فقال جل ذكره : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } فلا يخفى عليه سرّ ولا علانية .
قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نجوى } .
« يكون » تامة ، و « من نجوى » فاعلها ، و « من » مزيدة فيه ، و « نجوى » في الأصل مصدر ، فيجوز أن يكون باقياً على أصله ، ويكون مضافاً لفاعله ، أي : ما يوجد من تناجي ثلاثة ، ويجوز أن يكون على حذف ، أي : من ذي نَجْوَى ، ويجوز أن يكون أطلق على الأشخاص المتناجين مبالغة .
فعلى هذين الوجهين ينخفض « ثلاثة » على أحد وجهين :
إما البدل من « ذوي » المحذوفة ، وإما الوصف لها على التقدير الثاني ، وإما البدل ، أو الصفة ل « نجوى » على التقدير الثالث .
وقرأ ابن أبي عبلة : « ثلاثة » ، و « خمسة » نصباً على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه محذوف مع رافعه تقديره : يتناجون ثلاثة ، وحذف لدلالة « نجوى » .
والثاني : أنه الضمير المستكن في « نجوى » إذا جعلناها بمعنى المتناجين [ قاله الزمخشري ، رحمه الله .
قال مكي : « ويجوز في الكلام رفع » ثلاثة « على البدل من موضع » نجوى «؛ لأن موضعها رفع و » من « زائدة ، ولو نصبت » ثلاثة « على الحال من الضمير المرفوع إذا جعلت » نجوى « بمعنى المتناجين جاز في الكلام » ] .
قال شهاب الدين : « ولا يقرأ به فيما علمت ، وهو جائز في غير القرآن كما قال ، وأما النصب فقد قرىء به ، وكأنه لم يطلع عليه » .
قوله : { إلا هو رابعهم } ، { إلا هو خامسهم } ، { إلا هو معهم } كل هذه الجمل بعد « إلا » في موضع نصب على الحال أي : ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال ، فالاستثناء مفرغ من الأحوال العامة .
وقرأ أبو جعفر : « ما تكون » بتاء التأنيث لتأنيث النجوى .
قال أبو الفضل : إلا أنَّ الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في قراءة العامة؛ لأنه مسند إلى « من نجوى » وهو اسم جنس مذكر .
قال ابن جني : التذكير الذي عليه العامة هو الوجه؛ لوقوع الفاصل بين الفعل والفاعل ، وهو كلمة « من » ، ولأن تأنيث النجوى غير حقيقي .
قوله : « ولا أكْثرَ » .
العامة على الجر عطفاً على لفظ « نجوى » .
وقرأ الحسن ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ويعقوب : « ولا أكثر » بالرفع ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على موضع « نجوى » لأنه مرفوع ، و « من » مزيدة ، فإن كان مصدراً كان على حذف مضاف كما تقدم ، أي : من ذوي نجوى ، وإن كان بمعنى متناجين ، فلا حاجة إلى ذلك .

الثاني : « أدنى » مبتدأ ، و { إلاَّ هو معهم } خبره ، فيكون « ولا أكثر » عطفاً على المبتدأ ، وحينئذ يكون « ولا أدنى » من باب عطف الجمل لا المفردات .
وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً ومجاهد والخليل : « ولا أكبر » بالباء الموحدة والرفع على ما تقدم .
وزيد بن علي : « ينبيهم » - بسكون النون - من أنبأ إلاَّ أنه حذف الهمزة وكسر الهاء .
وقرىء كذلك إلا أنه بإثبات الهمزة وضم الهاء ، والعامة بالتشديد من « نبأ » .
فصل في النجوى
« النَّجْوَى » : التناجي ، وهو السرار وهو مصدر يوصف به ، يقال : قوم نجوى ، وذوو نجوى .
قال تعالى : { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] .
قال الزجاج : « النجوى » مشتقة من النجوة وهي ما ارتفع وتنجى ، فالكلام المذكور سرًّا ، لما خلا عن استماع الغير صار كالأرض المرتفعة ، فإنها لارتفاعها خلت عن اتصال الغير ، والسرار ما كان بين اثنين .
قوله : { إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } أي : يعلم ، ويسمع نجواهم بدليل افتتاح الآية بالعلم .
فإن قلت : ما الحكمة في ذكره - سبحانه وتعالى - الثلاثة والخمسة ، وأهمل الأربعة؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : أن ذلك إشارة إلى كمال الرحمة؛ لأن الثلاثة إذا اجتمعوا ، فإذا تناجى اثنان منهم بقي الثالث ضائعاً وحيداً ، فيضيق عليه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إذَا كُنْتُمْ ثلاثَةً فَلا يَتَنَاجَى اثْنَان دُونَ الثَّالثِ إلاَّ بإذْنِهِ فإنَّ ذلِكَ يُحْزنهُ » .
فكأنه - تعالى - يقول : أنا جليسك وأنيسك ، وكذا الخمسة إذا اجتمعوا بقي الخامس وحيداً فريداً .
الثاني : أن العدد الفرد أشرف من الزوج؛ لأن الله - تبارك وتعالى - وتر يحب الوتر ، فخص أعداد الفرد بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور .
الثالث : أن أقل ما لا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة حتى يكون الاثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات ، والثالث كالحاكم بينهما ، فحينئذ تكمل المشورة ، ويتم ذلك الغرض ، فلهذا السبب لا بد وأن يكون أرباب المشورة عددهم فرداً ، فذكر الله - تعالى - الفردين الأولين ، واكتفى بذكرهما تنبيهاً على الباقي .
الرابع : أن الآية نزلت في قوم منافقين اجتمعوا على التناجي ، وكانوا على هذين العددين .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في ربيعة ، وحبيب بن أبي عمرو ، وصفوان بن أمية كانوا يتحدّثون ، فقال أحدهم : هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثالث : يعلم البعض .
الخامس : أنه في مصحف عبد الله بن مسعود : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلاَّ الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم إذا أخذوا في التناجي } .

قوله : { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة } أي : يحاسب على ذلك ، ويجازي عليه .
{ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا تحذير من المعاصي ، وترغيب في الطاعات .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى } الآية .
قيل : هم اليهود .
وقيل : هم المنافقون .
وقيل : فريق من الكفار .
وقيل : فريق من المسلمين ، لما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : « كنا ذات ليلةٍ نتحدَّث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » مَا هَذِهِ النَّجْوَى «؟ فقلنا : تُبْنَا إلى الله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كُنَّا في ذكر المسيخ ، يعني : الدجال فرقاً منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ألا أخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أخْوَفُ عِنْدِي مِنْهُ؟ « قلنا : بلى ، يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : » الشِّرْكُ الخَفِيُّ أن يَقُومَ الرَّجلُ يعْمَلُ لمكانِ رَجُل « ذكره الماوردي .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ، وينظرون للمؤمنين ، ويتغامزون بأعينهم ، فقال المؤمنون : لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل ، أو مصيبة ، أو هزيمة؛ ويسوؤهم ذلك ، وكثرت شكواهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا ، فنزلت الآية .
وقال مقاتل : كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة ، فإذا مرَّ بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظنّ المؤمن شرًّا ، فيعرج عن طريقه فنهاهم الله - سبحانه - فلم ينتهوا فنزلت .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله الحاجة ويناجيه ، والأرض يومئذ خرب فيتوهّموا أنه يناجيه في حرب أو بليَّة أو أمر فيفزعون لذلك فنزلت .
قال ابن الخطيب رحمه الله : والأولى أن تكون نزلت في اليهود؛ لأنه - عز وجل - حكى عنهم ، فقال : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } وهذا إنما وقع من اليهود ، كانوا إذا سلموا على الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا : السَّامُ عليكم ، يعنون الموت .
قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } أي : يرجعون إلى المُناجاة التي نهوا عنها .
قوله : » ويَتَنَاجَوْنَ « . قرأ حمزة : » وينْتَجُون « بغير ألف من » الانتجاء « من » النجوى « على وزن » يَفْتَعلُون « .
والباقون : » ويتناجون « من » التَّناجي « من » النجوى « أيضاً .
قال أبو علي : والافتعال ، والتفاعل يجريان مجرى واحداً ، ومن ثمَّ صححوا » ازْدَوجُوا واعتورُوا « لما كانا في معنى تزاوجوا وتعاوروا ، وجاء

{ حتى إِذَا اداركوا } [ الأعراف : 28 ] وادَّرَكُوا .
قال شهاب الدين : ويؤيد قراءة العامة الإجماع على تناجيهم ، و « فلا تتناجوا » و « تناجوا » ، فهذا من « التفاعل » لا غير ، إلاَّ ما روي عن عبد الله ، أنه قرأ { إذا انْتَجَيْتُم فلا تنتجوا } .
ونقل أبو حيان عن الكوفيين والأعمش : « فلا تنتجوا » كقراءة عبد الله .
وأصل : « تَنْتَجُونَ » « تَنْتَجِيونَ » و « تَنَاجَوْن » فاستثقلت الضَّمَّة على الياء ، فحذفت فالتقى ساكنان فحذفت لالتقائهما ، أو تقول : تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله ، فقلبت ألفاً فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما وبقيت الفتحة دالة على الألف .
قوله : { بالإثم والعدوان } .
قرأ أبو حيوة : « بالعِدْوان » بكسر العين .
والمراد « بالإثم والعدوان » : الكذب والظلم ، { وَمَعْصِيَتِ الرسول } صلى الله عليه وسلم مخالفته .
وقرأ الضَّحاك : « ومعصيات الرَّسُول » صلى الله عليه وسلم .
قوله : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } .
قال القرطبي : لا خلاف بين أهل النقل أن المراد به اليهود ، وكانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : السَّام عليك يعنون الموت . كما روت عائشة - رضي الله عنها - « أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السَّام عليك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : » عَلَيْكُمْ « فقالت عائشة رضي الله عنها : السَّام عليكم ، ولعنة الله ، وغضبه عليكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَهْلاً يا عَائِشَةُ ، عليْكِ بالرِّفْقِ وإيَّاكِ والعُنْفَ والفُحْشَ « ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك » أو لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ ورَدَدْتُ عليْهِمْ فَيُسْتجَابُ لي فيْهِمْ ولا يُسْتجابُ لهُمْ فِيْ؟ « .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : » إذَا سَلَّمَ عَليْكُمْ أهْلُ الكتابِ ، فقُولُوا : علَيْكَ مَا قُلْتَ « ، فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } » .
وروى أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذَا سَلمَ علَيْكُمْ أهْلُ الكتابِ فقُولُوا : وعَليْكُمْ » بالواو .
فقال بعض العلماء رضي الله عنهم : إن الواو العاطفة تقتضي التشريك ، فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت ، أو من سآمة ديننا وهو الهلاك ، يقال : سَئِمَ يَسْأمُ سَآمةً وسَآماً .
وقال بعضهم « الواو » زائدة كما زيدت في قول الشاعر : [ الطويل ]
4732- فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى ..
أي : لما أجزنا انتحى ، فزاد « الواو » .
وقال آخرون : هي للاستئناف ، كأنه قال : والسام عليكم ، وقال آخرون : هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك؛ لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم ل « عائشة » رضي الله عنها .

فصل في رد السَّلام على أهل الذمة
اختلفوا في ردّ السَّلام على أهل الذِّمة ، فقال ابن عباس والشعبي وقتادة : هو واجب لظاهر الأمْرِ بذلك .
وقال مالك رضي الله عنه : ليس بواجب ، فإن رددت فقل : عليك .
وقال بعضهم : نقول في الرد : علاك السَّلام ، أي : ارتفع عنك .
وقال بعض المالكية : تقول في الرد : السلام عليك - بكسر السين - يعني الحجارة .
قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا } .
هذه الجملة التحضيضية في موضع نصب بالقول ، ومعنى الآية : أن اليهود - لعنهم الله - لما كانوا يقولون : السام عليك ، ويوهمون أنهم يسلمون ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بقوله : « عليكم » فإذا خرجوا قالوا : « لولا يعذبنا الله » أي : هلا يعذبنا بما نقول ، أي : لو كان نبيًّا لعذبنا الله بما نقول .
وقيل : قالوا : إنه يرد علينا ، ويقول : وعليكم السَّام ، فلو كان نبيًّا لاستجيب له فينا ومتنا ، وهذا موضع تعجب منهم ، فإنهم كانوا أهل الكتاب ، وكانوا يعلمون أنَّ الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - قد يغضبون ، فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب .
قوله : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } أي : كافيهم جهنم عقاباً غداً { يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان } .
أي : كفعل المنافقين واليهود .
قال مقاتل : أراد بقوله : « آمنوا » المنافقين آمنوا بلسانهم .
وقال عطاء : يريد الذين آمنوا بزعمهم قال لهم : لا تتناجوا بالإثم والعدوان ، ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقيل : يا أيها الذين آمنوا بموسى صلوات الله وسلامه عليه .
قوله : { وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى } والمراد بالبر : الطاعة ، وبالتقوى : العفاف عما نهى الله عنه .
{ واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ أي ] : تجمعون في الآخرة .

إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)

قوله تعالى : { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ } . تقدم قراءتنا « ليحزن » بالضم والفتح في « آل عمران » [ آل عمران 176 ] .
وقرىء : « بفتح الياء والزاي » على أنه مسند إلى الموصول بعده ، فيكون فاعلاً .
فصل في تحرير معنى الآية
قال ابن الخطيب : الألف واللام في لفظ « النجوى » لا يمكن أن يكون للاستغراق؛ لأن في « النجوى » ما يكون من الله ولله ، بل المراد منه : المعهود السابق ، وهو النجوى بالإثم ليحزن المؤمنين إذا رأوهم متناجين .
قال المفسرون : معنى قوله تعالى : { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ } وتوهموا أن المسلمين أصيبوا في السَّرايا ، أو إذا رأو اجتماعهم على مكايدة المسلمين ، وربما كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صلى الله عليه وسلم { وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ } أي : التناجي { شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : بمشيئته .
وقيل : بعلمه .
وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - بأمره .
{ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي : يكلون أمرهم إليه ، ويفوضون [ جميع ] شئونهم إلى عونه .
فصل في النهي عن التناجي
روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذَا كَانَ ثلاثةٌ فَلا يَتَنَاجَى اثْنانِ دُونَ الواحدِ » .
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذَا كَانَ ثَلاثَةٌ فَلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حتَّى يَخْتلطُوا بالنَّاسِ من أجْلِ أنْ يُحْزِنَهُ » .
فبين في هذا الحديث غاية المنع ، وهو أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر ، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل ، فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يُناجِهِ حتى دعا رابعاً ، فقال له وللأول : تأخَّرا وناجى الرجل الطَّالب للمناجاة . خرجه في « الموطأ » ونبه فيه على العلة بقوله : « مِنْ أجْلِ أن يُحْزِنَهُ » أي : يقع في نفسه ما يحزن لأجله ، وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره ، أو أنهم لم يروه أهلاً بأن يشركوه في حديثهم ، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان ، وأحاديث النفس ، ويحصل ذلك كله من بقائه وحده ، فإذا كان معه غيره أمن ذلك ، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد ، فلا يتناجى أربعة دون واحد ، ولا عشرة ولا ألف مثلاً ، لوجود ذلك المعنى في حقه ، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع ، فيكون بالمنع أولى ، وإنما خص الثلاثة بالذكر؛ لأنه أول عدد يتأتى ذلك فيه .
قال القرطبي : « وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال » .
وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور وسواء كان التناجي في مندوب ، أو مباح ، أو واجب فإن الحزن يقع به .

وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك في أول الإسلام؛ لأن ذلك كان حال المنافقين ، فيتناجى المنافقون دون المؤمنين ، فلما فشا الإسلام سقط ذلك .
وقال بعضهم : ذلك خاصّ بالسفر ، وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه ، فأما في الحضر وبين العمارة فلا؛ لأنه يجد من يعينه ، بخلاف السفر فإنه مظنَّة الاغتيال وعدم الغوث . والله أعلم .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس } الآية .
وجه التعلق ، لما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغُضِ والتنافر ، أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبَّة والمودة .
وقال القرطبي : لما بين أنَّ اليهود يحيوه بما لم يحيّه الله ، وذمّهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يضيقوا عليه المجلس ، وأمر المسلمين بالتَّعاطف والتَّآلف حتى يفسح بعضهم لبعض حتى يتمكّنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إليه .
فصل في نزول الآية
قال قتادة ومجاهد والضحاك رضي الله عنهم : كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب .
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه - رضي الله عنهم - على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة ، فنزلت ، فيكون كقوله تعالى : { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] .
وقال مقاتل : كان النبي صلى الله عليه وسلم في « الصفة » وكان في المكان ضيق ، وكان يكرم أهل « بدر » من المهاجرين والأنصار فجاءنا أناس من أهل « بدر » وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا قبالة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام ، وشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم لمن حوله من غير أهل « بدر » : « قُمْ يا فُلانُ » بعدد القائمين من أهل « بدر » فشقّ ذلك على من قام ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم . فقال المنافقون : والله ما عدل على هؤلاء أن قوماً أخذوا مجالسهم ، وأحبوا القرب منه ، فأقامهم وأجلس من أبْطَأ ، فنزلت الآية يوم الجمعة .
وروي عن ابن عبَّاس قال نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس ، وذلك أنه دخل المسجد ، وقد أخذ القوم مجالسهم ، وكان يريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم للوَقْر الذي كان في أذنيه ، فوسعوا له حتى قرب من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ضايقه بعضهم وجرى بينهم وبينه كلام ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم محبته للقرب منه ليسمع كلامه ، وإن فلاناً لم يفسح له ، فنزلت هذه الآية .

قوله تعالى : { تَفَسَّحُواْ فِي المجالس } .
قرأ الحسن ، وداود بن أبي هند ، وعيسى ، وقتادة : « تَفَاسحُوا » ، والباقون : « تَفَسَّحوا » أي : توسعوا والفُسْحة : السَّعة ، وفسح له : أي وسع له ، ومنه قولهم : « بلد فسيحٌ » ولك في كذا فسحة ، وفسح يَفْسَحُ ، مثل : « مَنَعَ يَمْنَعُ » أي : وسع في المجلس ، و « فَسُحَ يَفْسُحُ فَسَاحَةً » مثل : « كَرُمَ يَكْرُمُ كرامة » أي : صار واسعاً ، ومنه مكان فسيح .
وقرأ عاصم : « في المجالس » جمعاً اعتباراً بأن لكلّ واحد منهم مجلساً .
والباقون : بالإفراد إذ المراد مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أحسن من كونه واحداً أريد به الجمع ، وقرىء : « في المَجْلَس » - بفتح اللام - وهو المصدر ، أي : تفسحوا في جلوسكم ، ولا تتضايقوا .
فصل في أن الآية عامة في كل مجلس خير
قال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير ، والأجر ، سواء كان مجلس حَرْب أو ذكر ، أو مجلس يوم الجمعة ، وإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سَبَقَ إلى مَا سَبَقَ إليْهِ فَهُوَ أحقُّ بِهِ ولكِنْ يُوسِّعُ لأخيهِ ما لم يتأذَّى بذلكَ فيُخْرجهُ الضَّيْقُ من موضعه » .
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يُقِيمُ الرَّجلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيْه » .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ، ويجلس فيه آخر ، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا .
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكره أن يقيم الرجل من مجلسه ، ثم يجلس مكانه .
وروى أبو هريرة عن جابر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يُقِيمنَّ أحَدُكُمْ أخَاهُ يَوْمَ الجُمعَةِ ثُمَّ يُخَالفُ إلى مَقْعَدهِ ، فَيقْعُدَ فِيْهِ ، ولكِنْ يقُولُ : أفسحوا » .
فصل
إذا قام من مكانه ، فقعد غيرهُ نظرنا ، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام ، لم يكره له ذلك ، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك؛ لأن فيه تفويت حظه .
فصل
إذا أمر رجل إنساناً أن يبكر إلى الجامع ، فيأخذ له مكاناً يقعد فيه لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع؛ لأن ابن سيرينَ كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة ، فيجلس فيه ، فإذا جاء قام له منه ، وعلى هذا من أرسل بساطاً أو سجَّادة ، فيبسط له في موضع من المسجد أنه لا يزعج منه .

وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذَا قَامَ أحَدُكُمْ » - وفي حديث أبي عوانة : « مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلسهِ - ثُمَّ رَجَعَ إليْهِ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ » ذكره القرطبي في « تفسيره » .
قوله : { يَفْسَحِ الله لَكُمْ } .
قال ابن الخطيب : هذا مطلق فيما يطلب النَّاس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة ، قال : ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسُّح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه .
قوله : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فانشزوا } .
قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر بخلاف عنه بضم شين « انْشُزُوا » في الحرفين ، والباقون : بكسرهما ، وهما لغتان بمعنى واحد ، يقال : نشز أي : ارتفع ، يَنْشِزُ ويَنْشُزُ ك « عَرَشَ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ؛ وعَكَفَ يَعْكفُ ويَعْكُفُ » وتقدم الكلام على هذا في « المائدة » .
فصل في معنى انشزوا
قال ابن عباس : معناه إذا قيل لكم : ارتفعوا فارتفعوا .
قال مجاهد والضحاك : إذا نودي للصَّلاة فقوموا إليها ، وذلك أن رجالاً تثاقلوا عن الصلاة ، فنزلت .
وقال الحسن ومجاهد أيضاً : انهضوا إلى الحرب .
وقال ابن زيد والزَّجَّاج : هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا } عن النبي صلى الله عليه وسلم « فانْشُزُوا » أي ارتفعوا عنه فإن له حوائج فلا تمكثوا .
وقال قتادة : معناه : أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بالمعروف .
قال القرطبي : « وهذا هو الصحيح لأنه يعم ، والنَّشْز : الارتفاع ، مأخوذ من نَشْزِ الأرض ، وهو ارتفاعها » .
قوله : { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ } بطاعاتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم في مجالسهم ، وتوسّعهم لإخوانهم .
وقوله تعالى : { والذين أُوتُواْ العلم } يجوز أن يكون معطوفاً على « الَّذين آمنوا » ، فهو من عطف الخاص على العام؛ لأن الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين منهم ، ويجوز أن يكون « الذين أوتوا » من عَطْف الصفات ، أي : تكون الصفتان لذات واحدة ، كأنه قيل : يرفع الله المؤمنين العلماء ، و « درجات » مفعول ثان . وقد تقدم الكلام على نحو ذلك في « الأنعام » .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : تم الكلام عند قوله تعالى : « منكم » ، وينصب « الذين أوتوا » بفعل مضمر ، أي : ويخصّ الذين أوتوا العلم بدرجات ، أو يرفعهم درجات .
فصل في تحرير معنى الآية
قال المفسرون في هذه الآية : إن الله - تعالى - رفع المؤمن على من ليس بمؤمن ، والعالم على من ليس بعالم .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : مدح الله العلماء في هذه الآية والمعنى : أن الله - تعالى - يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به .

وقيل : كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف ، فيسبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لهم .
« ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجُلاً من الأغنياء يقبض ثوبه نفوراً من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه ، فقال : » يا فُلاَنُ أخَشِيْتَ أنْ يتعدَّا غِناكَ إليْهِ أوْ فَقْرُه إلَيْكَ « » .
وبيّن في هذه الآية أن الرِّفعة عند الله - تعالى - بالعلم والإيمان لا بالسَّبْق إلى صدور المجالس .
وقيل : أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن .
وروى يحيى بن يحيى عن مالك - رضي الله عنه - { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ } الصحابة ، { والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ } يرفع الله - تعالى - بها العالم والطالب .
قال القرطبي : ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة فكلموه في ذلك ، فدعاهم ودعاه ، وسألهم عن تفسير : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } [ النصر : 1 ] فسكتوا فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إيَّاه ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بَيْنَ العَالمِ والعَابدِ مائَةُ دَرَجَةٍ ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجتيْنِ حَضْر الجَوادِ المُضمَّرِ سَبْعِيْنَ سَنَة » .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فَضْلُ العَالمِ عَلى العَابِدِ كَفضْلِ القَمَرِ ليْلَةَ البَدْرِ عَلى سَائِرِ الكَواكِبِ » .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَشْفَعُ يَوْمَ القِيامَةِ ثلاثةٌ : الأنْبِيَاءُ ثُمَّ العلماءُ ثُمَّ الشُّهداءُ » .
فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنه : « خُيِّرَ سليمان - صلوات الله وسلامه عليه - بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطي المال والملك معه » .
« ومر النبي صلى الله عليه وسلم بمجلسين في مسجده ، أحد المجلسين يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » كِلاَ المَجْلِسيْنِ عَلَى خَيْرٍ ، وأحَدُهُمَا أفْضَلُ مِنْ صَاحبهِ ، أمَّا هؤلاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ - عزَ وجلَّ - ويرغبُون إليه ، وأمَّا هؤلاءِ فيتعلَّمونَ الفقهَ ويُعَلِمُّونَ الجاهلَ ، فهؤلاءِ أفضلُ ، وإنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّماً « ثم جلس فيهم » .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } الآية .
قال ابن عباس في سبب النزول : إن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه فأنزل الله - تعالى - هذه الآية فكفَّ كثير من الناس .

وقال الحسن : إن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبي صلى الله عليه وسلم يناجونه ، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النَّجوى ، فشق ذلك عليهم ، فأمرهم الله - تعالى - بالصَّدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه .
وقال زيد بن أسلم : إن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : إنه أذُن يسمع كلَّ ما قيل له ، وكان لا يمنع أحداً مُناجاته ، فكان ذلك يشقّ على المسلمين؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله ، فأنزل الله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } [ المجادلة : 9 ] الآية ، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى؛ لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة ، وشقّ ذلك على أهل الإيمان ، وامتنعوا عن النجوى لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة ، فخفف الله - تعالى - عنهم بما بعد الآية .
قال ابن العربي : وهذا الخبر يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح ، فإن الله - تعالى - قال : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } ثم نسخه مع أنه كونه خيراً وأطهر ، وهذا يرد على المعتزلة في التزام المصالح .
فصل فيمن اعتبر الصدقة واجبة أو مندوبة
ظاهر الآية يدلّ على أن تقديم الصَّدقة كان واجباً؛ لأن الأمر للوجوب ، ويؤكد ذلك بعده قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهذا لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه .
وقيل : كان مندوباً بقوله تعالى : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الواجب ، ولأنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه لكلام متصل به وهو قوله تعالى : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } [ إلى آخر الآية ] .
وأجيب عن الأول : أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر ، فكذلك أيضاً يوصف به الواجب .
وعن الثاني : أنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متَّصلتين في النزول كما قيل في الآية الدَّالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشراً أنها ناسخة للاعتداد بحول ، وإن كان الناسخ متقدماً في التلاوة على المنسوخ . انتهى .
فصل
اختلفوا في مقدار تأخُّر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية ، فقال الكلبي رحمه الله : ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ .
وقال مقاتل بن حيان : بقي ذلك التكليف عشرة أيام ، ثم نسخ لما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إنَّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا عمل بها أحد بعدي كان لي دينار ، فاشتريت به عشرة دراهم ، وكلما ناجيت النبي صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً ، ثم نسخت فلم يعمل بها .
وروي عن ابن جريج ، والكلبي ، وعطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنَّهم نهوا عن المُناجاة حتى يتصدقوا ، فلم يُناج أحد إلاَّ عليٌّ تصدق بدينار ، ثم نزلت الرخصة .

وقال ابن عمر : لقد كانت لعلي - رضي الله عنه - ثلاثة ، لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليَّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة - رضي الله عنها - وإعطاؤه الرَّاية يوم « خيبر » ، وآية النجوى .
{ ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ } من إمساكها ، « وأطْهَرُ » لقلوبكم من المعاصي { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ } يعني : الفقراء { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : « لما نزلت { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » مَا ترى دِيْنَاراً؟ « قلت : لا يطيقونه ، قال : » نِصْف دِيْنَارٍ « ، قلت : لا يطيقونه ، قال : » فَكَمْ «؟ قلت : شعيرة ، قال : » إنَّك لزَهِيدٌ « فنزلت { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } الآية » .
ومعنى قوله : « شعيرة » من ذهب ، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : « إنَّك لزَهِيْدٌ » أي : لقليل المال فقدّرت على حسب حالك .
قال ابن العربي : « وهذا يدلّ على نسخ العبادة قبل فعلها ، وعلى النَّظر في المقدّرات بالقياس » .
قال القرطبي : « والظَّاهر أنَّ النسخ إنما وقع بعد فعل الصَّدقة كما تقدم » .
فصل فيمن استدل بالآية على عدم وقوع النسخ
أنكر أبو مسلم وقوع النسخ ، وقال : إنَّ المنافقين كانوا يمتنعون عن بذل الصدقات ، وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقيًّا ، فأراد الله أن يميزهم عن المنافقين ، فأمر بتقديم الصَّدقة على النَّجْوَى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا على من بقي على نفاقه الأصلي ، فلما كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت ، لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت .
قال ابن الخطيب : وحاصل قول أبي مسلم : أن ذلك التكليف مقدر بغاية مخصوصة ، ووجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى تلك الغاية المخصوصة ، ولا يكون هذا نسخاً ، وهذا كلام حسن ، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله : { أَأَشْفَقْتُمْ } .
وقيل : منسوخ بوجوب الزكاة .
قوله تعالى : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } .
هذا استفهام معناه التقرير .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : « أأشفقتم » أي : أبخلتم بالصدقة .
وقيل : خفتم .
و « الإشفاق » : الخوف من المكروه ، أي : خفتم بالصدقة ، وشقّ عليكم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات .
قوله تعالى : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } . في « إذ » هذه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها على بابها من المعنى : أنكم تركتم ذلك فيما مضى ، فتداركوه بإقامة الصَّلاة . قاله أبو البقاء .
الثاني : أنها بمعنى « إذا » كقوله تعالى :

{ إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } [ غافر : 71 ] وتقدم الكلام فيه .
الثالث : أنها بمعنى « إن » الشرطية ، وهو قريب مما قبله؛ إلا أن الفرق بين « إن » ، و « إذا » معروف .
فصل في معنى الآية
المعنى : فإن لم تفعلوا ما أمرتم به ، { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } أي : ونسخ الله ذلك الحكم ، ورخص بكم في ألاَّ تفرطوا في الصَّلاة والزكاة ، وسائر الطاعات ، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل .
قال القرطبي : وما روي عن علي - رضي الله عنه - ضعيف؛ لأن الله - تعالى - قال : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } وهذا يدلّ على أن أحداً لم يتصدق بشيء .
فصل في أنَّ الآية لا تدل على تقصير المؤمنين
فإن قيل : ظاهر الآية يدل على تقصير المؤمنين في ذلك التكليف ، وبيانه من وجوه :
الأول : قوله تعالى : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } يدل على تقصيرهم .
الثاني : قوله تعالى : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } .
الثالث : قوله عز وجل : { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } .
فالجواب : قال ابن الخطيب : ليس الأمر كما قلتم؛ لأن القوم لم يكلفوا بأن يقدموا على الصَّدقة ، ويشتغلوا بالمناجاة ، بل أمروا أنهم لو أرادوا المناجاة ، فلا بد من تقديم الصَّدقة فمن ترك المناجاة ، فلا يمكن أن يكون مقصراً ، فأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة ، فهذا أيضاً غير جائز؛ لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول صلى الله عليه وسلم من المناجاة فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة ، فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم .
فأما قوله تعالى : { أَأَشْفَقْتُمْ } فلا يمنع من أنه - تعالى - علم ضيق صدور كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب . فقال هذا القول .
وأما قوله عز وجل : { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } فليس في الآية أنه تاب عليهم من هذا التقصير ، بل يحتمل أنكم إن كنتم تائبين راجعين إلى الله تعالى ، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ، فقد [ كفاكم ] هذا التَّكليف .
قوله تعالى { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
روي عن أبي عمرو : { خبير بِمَا يعْملُونَ } بالياء من تحت ، والمشهور عنه كالجماعة بتاء الخطاب .
والمعنى : يحيط بأعمالكم ونيَّاتكم .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم } .
قال قتادة : هم المنافقون تولّوا اليهود .
وقال السدي ومقاتل : هم اليهود . { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } يعني : المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاء ، ولا من اليهود والكافرين ، كما قال جل ذكره : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } [ النساء : 143 ] .
{ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
قال السدي ومقاتل رضي الله عنهما : « نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتل المنافقين ، كان أحدهما يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حُجْرة من حُجَره ، إذ قال : » يَدْخُلُ الآنَ عَليْكُم رجُلٌ قلبهُ قَلْبُ جبَّارٍ ، وينْظرُ بِعَيْني شَيْطانٍ « ، فدخل عبد الله بن نبتل ، وكان أزرق ، أسمر قصيراً ، خفيف اللحية ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : » علاَمَ تَشْتُمنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ «؟ فحلف بالله ما فعل ، وجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما شتموه ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية »

فقال عز وجل : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كذبة .
قال ابن الخطيب رحمه الله : والمراد من هذا الكذب ، إما ادِّعاؤهم كونهم مسلمين ، وإما أنهم كانوا يسبُّون الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم ويكيدون المسلمين ، وإذا قيل : إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل ، فيحلفون أنهم ما قالوا ذلك وما فعلوه ، فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه ، وهذه الآية تدلّ على فساد قول الجاحظ : إن الكذب هو الخبرُ المخالف لاعتقاد المخبر .
قوله : { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } يجوز في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها مستأنفة ، لا موضع لها من الإعراب ، أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخُلَّص ، بل كقوله تعالى : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إلى هؤلاء } [ النساء : 143 ] فالضمير في « ما هم » عائد على { الذين تَوَلَّوْاْ } ، وهم المنافقون ، وفي « مِنْهُمْ » عائد على اليهود ، وهم الكافرون الخلص .
والثاني : أنها حالٌ من فاعل « تولوا » والمعنى على ما تقدم أيضاً .
والثالث : أنها صفة ثانية ل « قوماً » فعلى هذا يكون الضمير في « ما هم » عائداً على « قوماً » وهم اليهود ، والضمير في « منهم » عائد على « الذين تولّوا » يعني اليهود ليسوا منكم أيها المؤمنون ، ولا من المنافقين ، ومع ذلك تولاَّهم المنافقون . قاله ابن عطية .
إلا أن فيه تنافر الضمائر ، فالضمير في « وَيَحْلِفُونَ » عائد على « الذين تولّوا » فعلى الوجهين الأولين تتحد الضمائر لعودها على « الَّذيْنَ تولّوا » وعلى الثالث : تختلف كما عرفت .
وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، أي : يعلمون أنه كذب ، فيمينهم يمين غَمُوس ولا عُذر لهم فيها .
قوله : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أي : لهؤلاء المنافقين عذاباً شديداً في جهنم ، وهو الدَّرْك الأسفل من النَّار .
وقيل : عذاب القبر .
قال ابن الخطيب : لأنا إذا حملنا هذا على عذاب القَبْر ، وحملنا قوله جل ذكره : { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ المجادلة : 16 ] على عذاب الآخرة لا يلزم منه تكرار . { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : بئست الأعمال أعمالهم .

اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

قوله تعالى : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } .
قرأ العامة : « أيْمَانَهُمْ » - بفتح الهمزة - جمع « يَمِين » .
والحسن وأبو العالية - بكسرها - مصدراً هنا ، وفي « المُنَافقين » ، أي : إقرارهم اتخذوه جُنّة يستجنُّون بها من القَتْلِ .
قال ابن جني : « هذا على حذف مضاف ، أي : اتخذوا إظهار أيمانهم جُنَّة من ظهور نفاقهم » .
وقوله تعالى : { أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } مفعولان ل « اتَّخَذُوا » .
قوله : { لهم عذاب مهين } في الدنيا بالقَتْل وفي الآخرة بالنار .
وقيل : المراد من الكل عذاب الآخرة ، كقوله عز وجل : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب } [ النحل : 88 ] . الصّد عن سبيل الله : المنع عن الإسلام .
وقيل : إلقاء الأراجيف وتَثْبِيط المسلمين عن الجهاد .
قوله تعالى : { لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً } تقدم الكلام عليه في آل عمران .
قال مقاتل رحمه الله : قال المنافقون : إن محمداً يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذاً ، فوالله لننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة ، فنزلت الآية .
قوله تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً } أي : لهم عذاب مهين يوم يبعثهم الله ، فيحلفون له كما يحلفون لكم اليوم .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : يحلفون لله - تعالى - يوم القيامة كذباً كما حلفوا لأوليائه في الدنيا ، وهو قولهم : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ويحسبون أنهم على شيء ، بإنكارهم وحلفهم .
قال ابن زيد : ظنوا أنه ينفعهم في الآخرة .
وقيل : يحسبون في الدنيا أنهم على شيء؛ لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار ، والأول أظهر .
والمعنى : أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنّوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] .
قال القاضي والجُبَّائي : إن أهل الآخرة لا يكذبون ، فالمراد من الآية أنهم يحلفون في الآخرة : إنا ما كنا كافرين عند أنفسنا ، وعلى هذا الوجه لا يكون الحلف كذباً ، وقوله تعالى : { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } أي : في الدنيا .
قال ابن الخطيب : « وتفسير هذه الآية على هذا الوجه يقتضي ركاكة عظيمة في النَّظْم » .
روى ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ : أيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ تعالى؟ فَتقُومُ القدريَّةُ مُسْودَّةً وجُوهُهُمْ ، مُزْرَقَّةً أعْيُنُهُمْ ، مَائِلٌ شِدْقُهُمْ يَسِيْلُ لُعَابهُم ، فيقُولُونَ : واللَّهِ ما عَبَدْنَا مِنْ دُونِكَ شَمْساً ولا قَمَراً ولا صَنَماً ، ولا اتَّخَذْنَا مِنْ دُونِكَ إلهاً » .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : صدقوا ولله ، أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ، ثم تلا : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } ، هم والله القدرية ثلاثاً .

قوله تعالى : { استحوذ } . جاء به على الأصل ، وهو فصيح استعمالاً ، وإن شذ قياساً .
وقد أخرجه عمر - رضي الله عنه - على القياس ، فقرأ : « اسْتَحَاذَ » ك « استبان » . وتقدم هذه المادة في « النساء » في قوله تعالى : { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 141 ] .
قال الزجاج : « اسْتَحْوَذَ » في اللغة استولى ، يقال : حذت الإبل ، إذا استوليت عليها وجمعتها .
وقال المبرد : « استحوذ على الشيء : حواه وأحاط به » .
قيل : المعنى غلب عليهم الشيطان بِوسْوستِهِ في الدنيا .
وقيل : قوي عليهم فأنساهم ذكر الله ، أي : أوامره في العمل بطاعته .
وقيل : زواجره في النهي عن معصيته ، والنِّسيان قد يكون بمعنى الغَفْلة ، ويكون بمعنى الترك ، والوجهان محتملان هاهنا ، { أولئك حِزْبُ الشيطان } : طائفته ورهطُه { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخَاسِرُونَ } في بيعهم؛ لأنهم باعوا الجنة بجهنم ، وباعوا الهدى بالضلالة .
فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأعمال
احتجّ القاضي بهذه الآية في خلق الأعمال من وجهين :
الأول : أن ذلك النسيان لو حصل بخلق الله - تعالى - لكان إضافتها إلى الشيطان كذباً .
الثاني : لو حصل ذلك بخلق الله لكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ } تقدم أول السورة .
{ أولئك فِي الأذلين } . أي : من جملة الأذلاء لا أذلّ منهم؛ لأن ذل أحد الخصمين يدلّ على عز الخصم الثاني ، فلما كانت عزة الله - تعالى - غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية أيضاً .
قوله تعالى : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } .
يجوز أن يكون « كَتَبَ » جرى مجرى القسم ، فأجيب بما يجاب به .
وقال أبو البقاء : وقيل : هي جواب « كتب »؛ لأنه بمعنى « قال » .
وهذا ليس بشيء؛ لأن « قال » لا يقتضي جواباً ، فصوابه ما تقدم .
ويجوز أن يكون « لأغلبن » جواب قسم مقدر ، وليس بظاهر .
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون : { كتب الله لأغلبن } أي : قضى الله ذلك .
وقيل : كتب في اللوح المحفوظ قاله قتادة .
وقال الفراء : « كتب » بمعنى « قال » .
وقوله : « أنا » توكيد ، « ورسلي » من بعث منهم بالحرب ، فإن الرسول بالحرب غالب ، ومن بعث منهم بالحُجّة غالب أيضاً ، فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى .
قال مقاتل : قال المؤمنون : لئن فتح الله لنا « مكة » و « الطائف » و « خيبر » وما حولهن رجَوْنَا أن يظهرنا الله - تعالى - على « فارس » و « الروم » ، فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول : أتظنون « الروم » و « فارس » كبعض القرى التي غلبتم عليها ، والله إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك ، فنزلت : { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } .

ونظيره : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171 - 173 ] .
قوله : { ورسلي } .
قرأ نافع وابن عامر بفتح « الياء » .
والباقون : لا يحركون .
قال أبو علي : « التَّحريك والإسكان جميعاً حسنان » .
وقوله تعالى : { إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } قوي على نُصْرة أنبيائه « عَزِيزٌ » غالب لا يدفعه أحد عن مُرَاده .
قوله تعالى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } .
« يوادُّون » هو المفعول الثاني ل « تَجِدُ » ، ويجوز أن تكون المتعدية لواحد بمعنى « صادق ولقي » ، فيكون « يوادّون » حالاً ، أو صفة ل « قوماً » .
ومعنى « يوادُّون » أي : يحبون ويوالون { مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } . وقد تقدم الكلام على المُحَادّة .
والمعنى : أنه لا يجتمع الإيمان مع ودادةِ أعداء الله .
فصل في المراد بهذه الموادّة
فإن قيل : أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالطتهم ومعاملتهم ومعاشرتهم فما هذه الموادة المحرمة؟ .
فالجواب أن الموادّة المحرمة هي إرادة منافعه ديناً ودُنْيا مع كونه كافراً ، فأما سوى ذلك فلا حَظْر فيه .
قوله تعالى : « ولو كانوا » هذه « واو » الحال .
وقدّم أولاً الآباء؛ لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم ، ثم ثنَّى بالأبناء؛ لأنهم أعلقُ بالقلوب وهم حياتها ، قال الحماسي في معنى ذلك ، رحمة الله عليه رحمة واسعة : [ السريع ]
4733- وإنَّمَا أوْلادُنَا بَيْنَنَا ... أكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الأرْضِ
ثم ثلَّث بالإخوان؛ لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضُد من الذِّراع .
قال رحمه الله : [ الطويل ]
4737- أخَاكَ أخَاكَ إنَّ مَنْ لا أخَا لَهُ ... كَسَاعٍ إلى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاحِ
وإنَّ ابْنَ عَمِّ المَرْءِ - فَاعْلمْ - جَنَاحُهُ ... وهَلْ يَنْهَضُ البَازِي بِغَيْرِ جَنَاحِ
ثم ربع بالعشيرة؛ لأن بها يستعان وعليها يعتمد .
قال بعضهم ، رحمة الله عليه : [ البسيط ]
4734- لا يَسْألُونَ أخَاهُمْ حِيْنَ يَنْدُبُهُمْ ... في النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
وقرأ أبو رجاء : « عَشِيْراتهم » ، بالجمع ، كما قرأها أبو بكر في « التوبة » كذلك .
فصل في مناسبة الآية
لما بالغ في المنع من هذه الموادة في الآية الأولى من حيث أن الموادة مع الإيمان لا يجتمعان ، بالغ هاهنا أيضاً من وجوه ، وهي قوله تعالى : { وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } والمعنى : أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة ، ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطرحاً بسبب الدين .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم « أحد » ، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم « بدر » ، وأبي بكر - رضي الله عنه - قال ابن جريح :

« حدثت أن أبا قحافة سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم فصكّه أبو بكر - رضي الله عنه - صكَّة سقط منها على وجهه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : » أو فَعَلْتَهُ لا تَعُدْ إليْهِ « ، فقال : والذي بعثك بالحق نبيًّا لو كان السيف منِّي قريباً لقتلته » ، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير ، وعلي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة - رضي الله عنهم - قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يوم « بدر » أخبر أن هؤلاء لم يوادُّوا أقاربهم وعشائرهم غضباً لله تعالى ودينه .
فصل في الاستدلال بالآية على معاداة القدرية
قال القرطبي : استدل مالك - رحمه الله - بهذه الآية على معاداة القدرية ، وترك مجالستهم .
قال أشهب عن مالك : لا تجالسوا القدرية ، وعادوهم في الله ، لقول الله عز وجل : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } .
قال القرطبي : وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظُّلم والعدوان .
وعن الثوري - رضي الله عنه - أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان .
وعن عبد العزيز بن أبي رواد : أنه لقي المنصور في الطّواف فلما عرفه هرب منه ، وتلا هذه الآية .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : « اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لفَاجِرِ عِنْدِي نِعْمَةً ، فإنِّي وجَدْتُ فِيْمَا أوْحَيْتَ إليَّ : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } » الآية
. قوله : { أولئك كَتَبَ } .
قرأ العامّة : « كَتَبَ » مبنيًّا للفاعل ، وهو الله - سبحانه وتعالى - « الإيمان » نصباً ، وأبو حيوة في رواية المفضل : « كُتِبَ » مبنيًّا للمفعول « الإيمان » رفع به .
والضمير في « منه » لله تعالى .
وقيل : يعود على « الإيمان »؛ لأنه روح يحيا به المؤمنون في الدارين . قاله السدي ، أي : أيدهم بروح من الإيمان ، يدل عليه قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] .
فصل في معنى كتب الإيمان
معنى « كتب الإيمان » أي : خلق في قلوبهم التصديق ، يعني من لم يُوالِ من حاد الله .
وقيل : « كَتَبَ » : أثبت . قاله الربيع بن أنس .
وقيل : جعل كقوله تعالى : { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } [ آل عمران : 53 ] أي : اجعلنا ، وقوله تعالى : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة } [ الأعراف : 156 ] .
وقيل « كتب » أي : جمع ، ومنه الكتيبة ، أي : لم يكونوا ممن يقول : نؤمن ببعض ، ونكفر ببعض .
وقيل : { كتب في قلوبهم الإيمان } أي : على قلوبهم الإيمان ، كقوله تعالى : { فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] .
وخص القلوب بالذكر ، لأنها موضع الإيمان .

قوله : « وأيَّدهُمْ » ، أي : قوَّاهم ونصرهم بروح منه .
قال الحسن : بنصر منه .
قال ابن عباس : نصرهم على عدوهم ، وسمى تلك النصرة روحاً؛ لأنه به يحيا أمرهم .
وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه : بالقرآن وحججه .
وقال ابن جريح : بنُورٍ وبُرهان وهدى .
وقيل : برحمة من الله .
وقيل : أيَّدهم بجبريل صلوات الله وسلامه عليه .
قوله : { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ } أي : قبل أعمالهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } فرحوا بما أعطاهم { أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } .
وهذه في مقابلة قوله تعالى : { أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } ، وهذه الآية زجر عن التودّد إلى الكُفَّار والفُسَّاق ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب .
روى الثعلبي في تفسيره عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَةَ المُجادلةِ كُتِبَ مِنْ حِزْبِ الله - تعالى - يَوْمَ القِيَامَةِ » .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)

قوله تعالى : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } تقدم نظيره .
قوله تعالى : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر } .
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة الحشر؟ قال : قل : سورة النَّضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون - صلوات الله وسلامه عليه - نزلوا ب « المدينة » في فتن بني إسرائيل انتظاراً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما نصّ عليه .
قوله : { مِنْ أَهْلِ الكتاب } .
يجوز أن تكون « من » للبيان ، فتتعلق بمحذوف ، أي : أعني من أهل الكتاب .
والثاني : أنها حال من « الَّذين كفروا » .
وقوله تعالى : { مِن دِيَارِهِمْ } متعلق ب « أخرج » ، ومعناها : ابتداء الغاية ، وصحت إضافة الديار إليهم؛ لأنهم أنشئوها .
قوله : { لأَوَّلِ الحشر } .
هذه اللاَّم متعلقة ب « أخرج » وهي لام التوقيت ، كقوله تعالى : { لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] أي : عند أول الحشر .
وقال الزمخشري : وهي كاللام في قوله تعالى : { ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] ، وقوله : « جئت لوقت كذا » وسيأتي الكلام على هذه « اللام » في سورة « الفجر » إن شاء الله تعالى .
فصل في الكلام على الحشر
قال القرطبي : « الحشر » : الجمع ، وهو على أربعة أضرب :
حشران في الدنيا وحشران في الآخرة .
أما اللذان في الدنيا فقوله تعالى : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر } .
قال الزهري : كانوا من سِبْطٍ لم يصبهم جلاء ، وكان الله - عز وجل - قد كتب عليهم الجلاء ، فلولا ذلك لعذّبهم في الدنيا ، وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى « الشام » .
قال ابن عباس وعكرمة : من شك أن المحشر في « الشام » فليقرأ هذه الآية .
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : « اخْرُجُوا » قالوا : إلى أين؟ قال : « إلى أرْضِ المَحْشَرِ » .
قال قتادة رضي الله عنه : هذا أول المحشر .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم أول من حشر من أهل الكتاب ، وأخرج من دياره .
وقيل : إنهم أخرجوا إلى « خيبر » ، وإن معنى « لأول الحشر » : إخراجهم من حصونهم إلى « خيبر » ، وآخرهم بإخراج عمر إياهم من « خيبر » إلى « نجد » و « أذرعات » .
وقيل : « تيماء » و « أريحاء » ، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم .
وأما الحشر الثاني : فحشرهم قرب القيامة .
قال قتادة : تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيلُ معهم حيث قالوا ، وتأكل من تخلف منهم ، وهذا ثابت في الصحيح .

وذكروا أن تلك النَّار ترى بالليل ، ولا ترى بالنهار .
قال ابن العربي : للحشر أول ووسط ، وآخر .
فالأول : إجلاء بن النَّضير .
والأوسط : إجلاء خيبر .
والآخر : حَشْر يوم القيامة .
وعن الحسن : هم بنو قريظة ، وخالفه بقية المفسرين ، وقالوا : بنو قريظة ما حشروا ، ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي .
فصل في نسخ مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم
قال إلكيا الطَّبري : ومُصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن ، وإنما كان ذلك في دار الإسلام ثم نُسِخَ ، والآن فلا بد من قتالهم ، أو سبيهم ، أو ضرب الجزية عليهم .
قوله تعالى : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } أي : لعظم أمر اليهود لعنهم الله ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين واجتماع كلمتهم .
وقوله تعالى : { وظنوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن المسلمين ظنوا أنهم لعزّتهم وقوّتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم .
قيل : المراد بالحصون : الوطيح والنَّطاة والسُّلالم والكتيبة .
قوله : { مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم } . فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون « حُصُونهم » مبتدأ ، و « مَانِعتهم » خبر مقدم ، والجملة خبر « أنهم » . لا يقال : لم لا يقال : « مَانعَتُهُم » مبتدأ ، لأنه معرفة ، و « حصونهم » خبره ، ولا حاجة إلى تقديم ولا تأخير؟ لأن القصد الإخبار عن الحُصُون ، ولأن الإضافة غير محضة فهي نكرة .
الثاني : أن تكون « مانعتهم » خبر « أنهم » و « حصونهم » فاعل به ، نحو : إن زيداً قائم أبوه ، وإن عمراً قائمة جاريته . وجعله أبو حيان أولى؛ لأن في نحو : « قائم زيد » على أن يكون خبراً مقدماً ومبتدأ مؤخراً ، خلافاً ، الكوفيون يمنعونه ، فمحل الوفاق أولى .
قال الزمخشري : « فإن قلت : فأي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم ، أو » مانعتهم « ، وبين النظم الذي جاء عليه؟ .
قلت : بتقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وُثُوقهم ، ومنعها إياهم ، وفي تغيير ضميرهم اسماً ل » أن « ، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم ، وليس ذلك في قولك : حصونهم تمنعهم » . انتهى .
وهذا الذي ذكره إنَّما يتأتى على الإعراب الأول ، وقد تقدم أنه مرجوح .
وتسلط الظن هنا على « أن » المشددة ، والقاعدة أنه لا يعمل فيها ولا في المخففة منها إلا فعل « علم » وتعين إجراؤه مجرى اليقين لشدته وقوته ، وأنه بمنزلة العلم .
وقوله : { مِّنَ الله } أي : من أمره .
قوله تعالى : { فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } .
قال الزمخشري : قرىء « فأتاهم الهلاك » أي : أتاهم أمره وعذابه { من حيث لم يحتسبوا } ، أي : لم يظنوا ، وقيل : من حيث لم يعلموا .

وقال ابن جريج والسدي وأبو صالح : « من حيث لم يحتسبوا : بقتل كعب بن الأشرف ، وكانوا أهل خلعة وسلاح وقصور منيعة فلم يمنعهم شيء منها » .
وقيل : الضمير في « فأتاهم الله » يعود إلى المؤمنين ، أي : فأتاهم نصرُ الله وتقويته [ لا ] يمنعهم شيء منها .
قوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ، وكان الذي قتله محمد بن مسلمة ، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة - وخبره مشهور في السيرة .
قال أهل اللغة : « الرُّعْبُ » : الخوف الذي يرعب الصُّدور ، أي : يملؤه ، وقذفه : إثباته فيه ، ومنه قالوا في صفة الأسد : مقذف ، كأنه قذف اللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه .
وهذه الآية تدلّ على أن الأمور كلها من الله تعالى ، لأن الآية دلّت على أن وقوع ذلك بالرُّعب صار سبباً في إقدامهم على بعض الأفعال ، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب ، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله تعالى ، فكانت الأفعال بأسرها مستندة إلى الله - تعالى - بهذا الطريق .
قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم } يجوز أن يكون مستأنفاً للإخبار به ، وأن يكون حالاً من ضمير « قلوبهم » ، وليس بذاك .
وقرأ أبو عمرو : « يُخَرِّبُونَ » بالتشديد ، وباقيهم : بالتَّخفيف .
وهما بمعنى؛ لأن « خرَّب » عدَّاه أبو عمرو بالتضعيف ، وهم بالهمزة .
وعن أبي عمرو : أنه فرق بمعنى آخر ، فقال : « خرّب » - بالتشديد - هدم وأفسد ، و « أخرب » - بالهمزة - ترك الموضع خراباً ، وذهب عنه ، وهو قول الفرَّاء .
قال المبرد : ولا أعلم لهذا وجهاً .
و « يُخْرِبُونَ » من خرب المنزل وأخربه صاحبه ، كقوله : « عَلِمَ وأعْلَمَ ، وقَامَ وأقَامَ » .
وإذا قلت : « يخربون بيوتهم » من التخريب فإنما هو تكثير؛ لأن ذكر « بيوتاً » تصلح للتقليل والتكثير .
وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الكلام ، فيجري كل واحد مجرى الآخر ، نحو : « فرحته وأفرحته » .
قال الأعشى : [ المتقارب ]
4736- . ... وأخْرَبْتَ مِنْ أرْضِ قَوْمٍ دِيَارا
واختار الهذلي قراءة أبي عمرو لأجل التَّكثير .
ويجوز أن يكون « يخربون » تفسيراً للرُّعب فلا محلَّ له أيضاً .
قال أبو عمرو : وإنما اخترت التشديد؛ لأن الإخراب ترك الشيء خراباً بغير ساكن ، وبنو النضير لم يتركوها خراباً ، وإنما خرَّبوها بالهدم ، ويؤيده قوله تعالى : { بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين } .
فصل في تفسير الآية
قال قتادة والضحاك رحمهما الله تعالى : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا ، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم .
وقال مقاتل : إن المنافقين أرسلوا إليهم ألا يخرجوا وتدرّبوا على الأزِقَّة ، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب .

وقيل : إن المسلمين كانوا إذا ظهروا على دربٍ من دروبهم خربوه ، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم وينقِّبُونها من وراء أدبارهم .
وقيل : إن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد ، واليهود لما أيقنُوا بالجلاء ، فكانوا ينظرون إلى الخشبةِ في منازلهم مما يستحسنونه ، أو الباب فيهدمون بيوتهم ، وينزعونها ، ويحملونها على الإبل .
فإن قيل : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين؟ .
قلت : لما عرضوهم لذلك ، وكانوا السبب فيه ، فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم .
وقال الزهري : « يخربون بيوتهم » بنقض المواعدة ، « وأيدي المؤمنين » بالمقاتلة .
وقال أبو عمرو بن العلاء : « بأيديهم » في تركهم لها ، « وأيدي المؤمنين » في إجلائهم عنها .
قوله تعالى : { فاعتبروا ياأولي الأبصار } .
والاعتبار : مأخوذ هنا من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، وبهذا سميت العبرةُ عبرةً؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخدِّ ، وسمي علم التعبير؛ لأن صاحبه ينتقل من المتخيّل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقلِ المستمع .
ويقال : السعيد من اعتبر بغيره؛ لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه .
ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها .
وقوله عز وجل : { يا أولي الأبصار } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أهل اللُّب والعقل والبصائر .
قال الفراء : أي من عاين تلك الوقائع والأبصار جمع البصر .
ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحُصُون من الله ، فأنزلهم الله - تعالى - منها ، وسلط عليهم من كان ينصرهم ، وأنهم هدموا أموالهم بأيديهم ، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه .
واستدل الأصوليون بهذه الآية على وجوب العمل بالقياس .
وقوله تعالى : { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء } .
العامة : على مده وهو الإخراج .
يقال : أجليت القوم ، وجلا هو جلاء .
وقال الماوردي : الجلاء أخصّ من الخروج؛ لأنه لا يقال إلا لجماعة ، والإخراج يكون للجماعة والواحد .
وقال غيره : الفَرْق بينهما أن الجلاء كان مع الأهل والولد ، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك .
وقرأ الحسن وعلي ابنا صالح : « الجَلاَ » بألف فقط .
وطلحة : مهموزاً من غير ألف ك « النبأ » .
والمعنى : أنه لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن ديارهم ، وأنه يبقون مدة ، فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن { لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا } أي : بالقتل كما فعل بإخوانهم « بني قريظة » ، والجلاء مفارقة الوطن يقال : جلا بنفسه جلاء ، وأجلاه غيره إجلاء .
وأما قوله : { وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار } ، فهو كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله ، إذ لو كان معطوفاً على ما قبله لزم ألا يوجد؛ لأن « لولا » تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط .
قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } .
أي : عادوه وخالفوا أمره .
{ وَمَن يُشَآقِّ الله } .
قرأ طلحة بن مصرف ، ومحمد بن السميفع : بالفك ، كالمتفق عليه في الأفعال ، وأدغم الباقون .
والمقصود من الآية الزَّجْر .

مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)

قوله : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ } .
« ما » شرطية في موضع نصب ب « قطعتم » ، و « من لينة » بيان له ، و « فبإذن الله » جزاء الشرط ، فلا بد من حذف ، أي : فقطعها بإذن الله ، فيكون « بإذن الله » الخبر لذلك المبتدأ .
واللِّيْنة : فيها خلاف كبير .
قيل : هي النَّخْلة مطلقاً .
وأنشد الشاعر في ذلك : [ الطويل ]
4737- كَأنَّ قُتُودِي فوقهَا عُشُّ طَائرٍ ... عَلَى لِينَةٍ سَوْقاءَ تَهْفُو جُنُوبُهَا
وقال ذو الرمة : [ الطويل ]
4738- طِرَاقُ الخَوافِي واقِعٌ فَوْقَ لِينَةٍ ... نَدَى لَيْلهِ فِي رِيشِهِ يَتَرقْرَقُ
وقيل : هي النَّخْلة ما لم تكن عجوة . قاله الزهري ، ومالك ، وسعيد بن جبير وعكرمة ، والخليل .
وقيل : ما لم تكن عجوة ولا برنيَّة ، وهو قول أبي عبيدة .
قال جعفر بن محمد : هي العجوة خاصة ، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح في السفينة والعتيق : الفَحْل ، وكانت العجوة أصل الإناث كلها ، فلذلك شقّ على اليهود قطعها حكاه الماوردي .
وقيل : هي النَّخْلة الكريمة ، أي : القريبة من الأرض .
وأنشد الأخفش رحمة الله عليه : [ الخفيف ]
4739- قَدْ شَجَانِي الحمَامُ حِينَ تَغَنَّى ... بِفِراقِ الأحْبَابِ مِنْ فَوْقِ لِينَهْ
وقال سفيان بن عيينة : هي ضرب من النخل ، يقال لثمره : اللَّون . تمره أجود التَّمر ، وهو شديد الصُّفرة يرى نواه من خارجه ، ويغيب فيه الضِّرْس ، النخلة منها أحب إليهم من وصيف .
وقيل : هي الفَسِيْلة؛ لأنها ألينُ من النخلة .
وأنشد : [ الخفيف ]
4740- غَرَسُوا لِينَةً بِمَجْرَى مَعِينٍ ... ثُمَّ حَفُّوا النَّخِيلَ بالآجَامِ
وقيل : اللينة هي الأشجار كلها للينها بالحياة ، وأنشد بيت ذي الرمة المتقدم .
وقال الأصمعي : إنها الدَّقَل . قال : وأهل « المدينة » يقولون : لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان يعنون الدَّقل .
قال ابن العربي : « والصَّحيح ما قاله الزهري ومالك » .
وفي عين « لينة » قولان :
أحدهما : أنها « واو »؛ لأنها من اللون ، وإنما قلبت ياء لسكونها ، وانكسار ما قبلها ك « ديمة » و « قيمة » .
الثاني : أنها « ياء »؛ لأنها من اللين .
وجمع اللينة « لين »؛ لأنه من باب اسم الجنس ك « تمرة ، وتمر » .
وقد كسر على « ليان » وهو شاذّ؛ لأن تكسير ما يفرق بتاء التأنيث شاذ ك « رطبة ورطب وأرطاب » .
وأنشد : [ المتقارب ]
4741- وسَالِفَةٍ كَسَحُوقِ اللِّيَا ... نِ أضْرَمَ فيهَا الغَويُّ الشُّعُرْ
والضمير في قوله « تَرَكْتُمُوهَا » عائد على معنى « ما » .
قوله : « قَائِمَةً » .
قرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي : « قُوَّماً » على وزن « ضُرَّباً » جمع « قائم » مراعاة لمعنى « ما » فإنه جمع .

وقرأ عبد الله ، { ما قطعتم من لينةٍ ولا تركتموها على أصولها } أي : لم تقطعوها .
وقرىء : « قَائِماً » مفرداً مذكراً .
وقوله : { أُصُولِهَا } .
قرىء : « أصْلها » بغير « واو » ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه جمع « أصل » نحو : « رَهْن ورُهُن » .
والثاني : أن يكون حذف الواو استثقالاً لها ، واكتفى بالضمة عن « الواو » .
فصل في نزول الآية
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بنو النضير ، وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك ، وقالوا : يا محمد زعمت أنك تريد الصَّلاح ، أفمن الصلاح قطع الشجر وعَقْر النخل؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فوجد المسلمون في أنفسهم وخشوا أن ذلك فساداً ، واختلفوا في ذلك .
فقال بعضهم : لا تقطعوا فإنها مما أفَاءَ اللَّه علينا .
وقال بعضهم : بل نُغيظهم بقطعها ، وأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الإثم .
وروي عن عمر - رضي الله عنه - قال : حرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع وهي « البُويرة » ، فنزل : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله } أخبر في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه « فبإذْنِ الله » أي : بأمره { وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } .
و « اللام » في « ليخزي » متعلقة بمحذوف أي : أذن في قطعها ليسرَّ المؤمنين ويعزهم ويخزي الفاسقين .
فصل في هدم حصون الكفار
احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ حصون الكفرة وديارهُم يجوز هدمُهَا وتحريقُهَا وتغريقها وأن ترمى بالمجانيق وكذلك أشجارهم .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنهم قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال .
وروي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا : تركتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الآخر : قطعتها غيظاً على الكُفَّار .
واستدلوا به على جواز الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الماوردي رحمه الله : في هذه الآية دليل على أن كل مجتهد مصيب .
وقال إلكيا الطبري : وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، ولا شكَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك وسكت ، فتلقوا الحكم من تقريره فقط .
قال ابن العربي : وهذا باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولا اجتهاد مع حضور النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يدل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه أخذاً بعموم الأذية للكفار ، ودخولاً في الإذْنِ للكل فيما يقضي عليهم بالبوارِ ، وذلك قوله - عز وجل - : { وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } .

قوله تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ } الآية .
قال المبرد : « يقال : أفاء يفيء ، إذا رجع ، وأفاء الله ، إذا رده » .
وقال الأزهري : « الفَيْء : ما رده الله على أهل دينه من أموالٍ بلا قتالٍ إما بأن يجلوا عن أوطانهم ويخْلُوهَا للمسلمين ، أو يصالحون على جزيةٍ يؤدّونها عن رءوسهم ، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفكِ دمائهم ، كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاءوا سوى السلاح ، ويتركوا الباقي ، فهذا المال هو الفيءُ ، وهو ما أفاء الله على المسلمين ، أي : رده من الكفار على المسلمين » .
وقوله : « مِنْهُمْ » أي : من يهود بني النضير .
قوله : { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ } .
الفاء جواب الشرط ، أو زائدة ، على أنها موصولة متضمنة معنى الشَّرط ، و « ما » نافية .
والإيْجَاف : حمل البعير على السَّير السريع ، يقال : وجف البعير والفرس إذا أسرع ، يَجِفُ وجْفاً ووَجِيفاً ووجفَاناً ، وأوجفته أنا إيجافاً ، أي : أتعبته وحركته .
قال العجاج : [ الرجز ]
4742- نَاجٍ طَوَاهُ الأيْنُ مِمَّا وجَفَا ... وقال نصيب : [ الطويل ]
4743- ألاَ رُبَّ رَكْبٍ قَدْ قطَعْتُ وجيفَهُمْ ... إلَيْكَ ولوْلاَ أنْتَ لَمْ يُوجفِ الرَّكْبُ
قوله تعالى : { مِنْ خَيْلٍ } .
« من » زائدة ، أي : خيلاً ، والرِّكاب : الإبل ، واحدها : راحلة ، ولا واحد لها من لفظها .
قال ابن الخطيب : والعرب لا يطلقون لفظ الرَّاكب إلاَّ على راكب البعير ، ويسمون راكب الفرس فارساً .
والمعنى : لم تقطعوا إليها شُقَّة ، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة ، وإنما كانت من « المدينة » على ميلين قاله الفراء . فمشوا إليها مشياً ولم يركبوا خيلاً ، ولا إبلاً إلا النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : إنه ركب جملاً .
وقيل : حماراً مخطُوماً بليفٍ ، فافتتحها صُلْحاً .
قال ابن الخطيب : إن الصحابة طلبوا من الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يقسم الفَيْءَ بينهم كما يقسم الغنيمة بينهم ، فذكر الله - تعالى - الفرق بين الأمرين ، وأن الغنيمة هي التي أتعبتم أنفسكم في تحصيلها ، وأما الفيءُ فلم يوجف عليه بخيل ولا ركابٍ ، فكان الأمر فيه مفوضاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء .
وها هنا سؤال ، وهو أن أموال بني النَّضير أخذت بعد القتال؛ لأنهم حوصروا أياماً ، وقاتلوا وقتلوا ، ثم صالحوا على الجلاء ، فوجب أن تكون تلك الأموال من جملة الغنائم لا من جملة الفيء؟ فلهذا السؤال ذكر المفسرون ها هنا وجهين :
الأول : أن هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير؛ لأنهم أوجفوا عليه بالخيل والرِّكاب ، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، بل هي فيء « فَدَك »؛ لأن أهله انجلوا عنه ، فصارت تلك القرى والأموال التي في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير حربٍ ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ من غلَّة « فدك » نفقته ونفقة من يعوله ، ويجعل الباقي للسِّلاح والكراع ، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعت فاطمة - رضي الله عنها - أنه كان نحلها « فدكاً » ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أنت أعز الناس علي فقراً ، وأحبهم إلي غنى ، لكني لا أعرف صحة قولك ، ولا يجوز لي أن أحكم بذلك ، فشهدت لها أم أيمن ومولى للرسول صلى الله عليه وسلم فطلب منها أبو بكر الشَّاهد الذي يجوز شهادته في الشرع فلم يكن فأجرى أبو بكر ذلك على ما كان يجريه الرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه على من كان ينفق عليه الرسول ، ويجعل ما يبقى في السلاح والكُراع .

وكذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جعله في يد علي - رضي الله عنه - يجريه على هذا المجرى ، ورد هذا في آخر عهد عمر - رضي الله عنه - وقال : إن بنا غنًى وبالمسلمين إليه حاجة .
وكان عثمان - رضي الله عنه - يجريه كذلك ، ثم عاد إلى علي - رضي الله عنه - فكان يجريه هذا المجرى ، والأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - اتَّفقوا على ذلك .
والقول الثاني : أن هذه الآية نزلت في بني النضير وقراهم ، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ، ولم يقطعوا إليها مسافة كبيرة ، وإنما كانوا على ميلين من « المدينة » ، فمشوا إليها مشاة ، ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كانت المقاتلة قليلة ، والخيل والركاب غير حاصل أجراه الله - تعالى - مجراه ما لم يحصل فيه المقاتلة أصلاً ، فخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الأموال فروي أنه صلى الله عليه وسلم قسمها بين المهاجرين ، ولم يُعْطِ الأنصار شيئاً منها إلا ثلاثة نفرٍ كانت بهم حاجة : أبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، والحرث بن الصمة .
قال بعض العلماء : لما ترك بنو النضير ديارهم وأموالهم طلب المسلمون أن يكون لهم منها حظ كالغنائم ، فبين الله - تعالى - أنها فيءٌ ، وكان قد جرى بعض القتال؛ لأنهم حوصروا أياماً ، وقاتلوا وقتلوا ، ثم صالحوا على الجلاء ، ولم يكن قتالٌ على التحقيق ، بل جرى مبادىء القتال ، وجرى الحصار ، فخص الله - تعالى - تلك الأموال برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال مجاهد رضي الله عنه : علمهم الله - تعالى - وذكرهم أنه إنما نصر رسوله صلى الله عليه وسلم ونصرهم بغير كراع ولا عدة .
{ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء من عباده } من أعدائه .
وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أصحابه - رضي الله عنهم - .

قوله تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله } .
قال الزمخشري : « لم يدخل العاطف على هذه الجملة؛ لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها » .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي « قريظة » و « النضير » ، وهما ب « المدينة » و « فدك » وهي على ثلاثة أميال من « المدينة » و « خيبر » ، وقرى « عرينة » و « ينبع » جعلها الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم وبين أن في ذلك المال الذي خصه الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم سُهماناً لغير الرسول صلى الله عليه وسلم تطييباً منه لعباده .
فصل في المراد بذي القربى
قال ابن الخطيب : أجمعوا على أن المراد بذي القربى بنو هاشم ، وبنو المطلب .
وقال القرطبي : وقد تكلم العلماء في هذه الآية والتي قبلها على معناهما هل معناهما واحد أو مختلف ، والآية التي في الأنفال؟ .
فقال بعضهم : إن قوله تعالى : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } منسوخ بآية « الأنفال » من كون الخمس لمن سمي له ، والأخماس الأربعة لمن قاتل ، وكان في أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف ، ولا يكون لمن قاتل عليها شيء ، وهذا قول يزيد بن رومان ، وقتادة وغيرهما ، ونحوه عن مالك رضي الله عنه .
وقال بعضهم : ما غنمتم بصُلْح من غير إيجاف خيل ، ولا ركاب ، فيكون لمن سمى الله تعالى فيه فيئاً ، الأول للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين .
وقال معمر رضي الله عنه : الأولى : للنبي صلى الله عليه وسلم . والثانية : هي الجزية والخراج للأصناف المذكورة فيه . والثالثة : الغنيمة في سورة « الأنفال » للغانمين .
وقال الشافعي رضي الله عنه وبعض العلماء : إنَّ معنى الآيتين واحد ، أي : ما حصل من أموال الكفار بغير قتال قسم على خمسة أسهمٍ ، أربعة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقسم الخمس الباقي على خمسة أسهمٍ؛ سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً ، وسهم لذوي القُرْبى ، وهم بنو هاشم ، وبنو المطلب؛ لأنهم منعوا الصدقة ، فجعل لهم حق في الفيء . وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل .
وأما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فالذي كان من الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف عند الشافعي - رضي الله عنه - في قول إلى المجاهدين المترصّدين للقتال في الثُّغُور؛ لأنهم القائمون مقام الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفي قول آخر : يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثُّغور ، وحفر الأنهار ، وبناء القناطر ، يقدم الأهم فالأهم ، وهذا في أربعة أخماس الفيء .

فأما السهم الذي كان له من خمس الفيء والغنيمة فهي لمصالح المسلمين بعد موته صلى الله عليه وسلم بلا خوف ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « لَيْسَ لي مِنْ غَنائِمكُمْ إلاَّ الخمسُ ، والخمسُ مردودٌ فِيْكُم » .
وكذلك ما خلفه من المال غير موروث ، بل هو صدقة عنه يصرف في مصالح المسلمين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنَّا لا نُورثُ ما تركناهُ صدقة » .
وقيل : كان مال الفيء لنبيه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ } فأضافه إليه ، غير أنه كان لا يتأثّل مالاً ، إنما كان يأخذ بقدر حاجة عياله ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين .
قال ابن العربي رحمه الله : لا إشكال أنها ثلاثة معانٍ في ثلاث آيات :
فالآية الأولى وهي قوله تعالى : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر } [ الحشر : 2 ] ، ثم قال تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ } يعني : من أهل الكتاب معطوفاً عليهم { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } يريد - كما بينا - فلا حق لكم فيه ، ولذلك قال عمر : كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بني النضير ، وما كان مثلها فهذه آية واحدة ، ومعنى متحد .
الآية الثانية : قوله تعالى : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } ، وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول وسمى الآية الثانية آية الغنيمة ، ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق آخر لمستحق آخر ، بيد أن الآية الأولى والثانية مشتركتان في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئاً أفاء الله على رسوله ، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال ، واقتضت آية « الأنفال » أنه حاصل بقتال ، وعريت الآية الثالثة وهي قوله تعالى : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } ، عن ذكر حصوله بقتال ، أو بغير قتال ، فمن ها هنا نشأ الخلاف .
فقالت طائفة : هي ملحقة بالأولى ، وهو مال الصُّلح كله ونحوه .
وقالت طائفة : هي ملحقة بآية « الأنفال » ، واختلفوا هل هي منسوخة كما تقدم أو محكمة؟ .
قال القرطبي : « وإلحاقها بالتي قبلها؛ لأن فيه تجديد فائدة ومعنى » .
وقد قيل : إن سورة « الحشر » نزلت بعد « الأنفال » ، ومن المُحَال أن ينسخ المتقدم المتأخر .
فصل في أموال الأئمة والولاة
الأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب :
الأول : ما أخذ من المسلمين على طريق التَّطهير لهم كالصَّدقات والزكوات .
والثاني : الغنائم ، وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكفار بالحرب والقهر والغلبة .
والثالث : الفيء ، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفواً صفواً من غير قتال ، ولا إيجاف كالصلح والجزية والخراج والعُشُور والمأخوذ من تجار الكفار .

ومثله أن يهرب المشركون ، ويتركون أموالهم ، أو يموت منهم أحد في دار الإسلام ولا وارث له .
فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملون عليها حسب ما ذكره تعالى في سورة التوبة .
وأما الغنائم فكانت في صدر الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء كما قال في « الأنفال » : { قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ] ثم نسخ بقوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ } [ الأنفال : 41 ] الآية وقد مضى وأما الفيء وقسمته وقسمة الخمس سواء .
قال القرطبي : « والأمر فيهما عند مالك إلى الإمام ، فإن رأى حبسهما لنوازِلَ تنزل بالمسلمين فعل ، وإن رأى قسمتهما ، أو قسمة أحدهما ، قسمها كلها ، أو قسم أحدهما بين الناس ، ويستوي فيه غريبهم ومولاهم ، ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يغنوا ، ويعطي ذوي القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيءِ سهمهم على ما يراه الإمام ، وليس لهم حد معلوم » .
وهل يعطي الغني منهم؟ .
فأكثر الناس على إعطائه؛ لأنه حق لهم .
وقال مالك رضي الله عنه : لا يعطي منهم غير فقرائهم؛ لأنه جعل لهم عوضاً من الصدقة .
وقال الشافعي رضي الله عنه : إن ما حصل من أموال الكفار بغير قتال كان يقسم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على خمسة وعشرين سهماً للنبي صلى الله عليه وسلم عشرون سهماً يفعل فيها ما يشاء ، والخمس يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة .
قال أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي : وهذا القول ما سبقه به أحد علمناه ، بل كان ذلك خالصاً له كما ثبت في الصحيح عن عمر مبيناً للآية ، ولو كان هذا لكان قوله : { خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } [ الأعراف : 32 ] يجوز أن يشركهم فيها غيرهم .
فصل في تقسيم هذه الأموال
وتقسم هذه الأموال المتقدم ذكرها في البلد الذي جُبِيَ فيه ، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا ، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم ، إلاَّ أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة ، فينتقل إلى أهل الفاقة حيث كانوا كما فعل عمر - رضي الله عنه - في أعوام « الرَّمادة » وكانت خمسة أعوام أو ستة .
وقيل : عامين .
وقيل : عام اشتدّ فيه الطَّاعون مع الجوع ، وإن لم يكن ما وصفناه . ورأى الإمام إيقاف الفيء أوقفه لنوائب المسلمين ، ويبدأ بمن أبوه فقير ، والفيء حلال للأغنياء ، ويساوي فيه بين الناس ، إلا أنه يؤثر أهل الحاجة والفاقة ، والتفضيل فيه إنما يكون فيه على قدر الحاجة ، ويعطي منه الغرماء ما يؤدون به ديونهم ، ويعطي منه الجائزة والصِّلة إن كان ذلك أهلاً ، ويرزق القضاة والحكام ، ومن فيه مصلحة للمسلمين ، وأولاهم بتوفير الحظ منهم أعظمهم للمسلمين نفعاً ، ومن أخذ من الفيء شيئاً في الديوان كان عليه أن يغزو إذا وقع الغزو .

قوله تعالى : { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً } .
قرأ هشام : « تكون » بالتاء والياء ، « دولة » بالرفع فقط ، والباقون : بالياء - من تحت - ونصب « دولة » فأما الرفع فعلى أن « كان » تامَّة ، وأما التذكير والتأنيث فواضحتان؛ لأنه تأنيث مجازي .
وأما النصب فعلى أنها الناقصة ، واسمها ضمير عائد على الفيء ، والتذكير واجب لتذكير المرفوع ، و « دولة » خبرها . وقيل « دولة » عائد على « ما » اعتباراً بلفظها .
وقرأ العامة : « دولة » بضم الدال .
وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والسلمي : بفتحها .
فقيل : هما بمعنى ، وهو قول عيسى بن عمر ، ويونس ، والأصمعي ، وهو ما يدولُ للإنسان ، أي : ما يدور من الجد والغنى والغلبة .
وقال الحُذَّاق من البصريين والكسائي : « الدَّوْلة » - بالفتح - من المُلك - بضم الميم - ، وبالضم من « المِلْك » - بكسرها - أو بالضم في المال ، وبالفتح في النُّصْرة .
وهذا يرده القراءة المروية عن علي والسلمي ، فإن النصرة غير مرادة قطعاً ، و « كي لا » علة لقوله تعالى : { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } أي : استقراره لكذا لهذه العلة .
قال المبرد : الدولة اسم للشَّيء الذي يتداوله القوم بينهم .
والدولة - بالفتح - انتقال حال سارة من قوم إلى قوم ، فالدُّولة - بالضم - اسم لما يتداول ، وبالفتح مصدر من هذا ، ويستعمل في الحالة السارّة التي تحدث للإنسان ، فيقال : هذه دولة فلان ، أي قد أقبل ، والمعنى : كي لا يكون الفيءُ الذي حقه أن يعطى للفقراء ليكون لهم بُلغةً يعيشون بها واقعاً في يد الأغنياء ودولة لهم .
والمعنى : فعلنا ذلك في هذا الفيءِ ، كي لا يقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء منها أيضاً بعد المرباع ما شاء .
وفيها يقول شاعرهم : [ الوافر ]
4744- لَكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفَايَا .. .
يقول : لئلا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية .
قال الكلبي : إنها نزلت في رؤساء المسلمين ، قالوا فيما ظهر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال المشركين : يا رسول الله ، خُذْ صفيَّك والربح ، ودعنا والباقي ، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية؛ وأنشد : [ الوافر ]
4745- لَكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفَايَا ... وحُكْمُكَ والنَّشِيطَةُ والفُضُولُ
فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } [ من الأخذ والغلول « فانتهوا » ] .
قاله الحسن وغيره .
وقال السدي : ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه ، وما منعكم عنه فلا تطلبوه ، قال ابن جريج : ما آتاكم من طاعتي فافعلوه ، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه .
فصل في أن أوامر النبي صلى الله عليه وسلم من أوامر الله تعالى
هذه الآية تدل على أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمر من الله - تعالى - لأن الآية وإن كانت في الغنائم ، فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه داخل فيها .

قال عبد الرحمن بن زيد : لقي ابن مسعود رجلاً محرماً وعليه ثيابه ، فقال : انزع عنك هذا .
فقال الرجل : اتقرأ عليَّ بهذه آية من كتاب الله تعالى؟ قال نعم : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } .
وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي : سمعت الشافعي - رضي الله عنه - يقول : سَلُوني عمَّا شئتم أخبركم من كتاب الله - تعالى - وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم قال : فقلت له : أصلحك الله ، ما تقول في المحرم يقتل الزُّنْبُور؟ قال : فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } . وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقْتَدُوا باللَّذيْنِ من بَعْدِي أبي بَكرٍ وعُمر رضِيَ اللَّهُ عنهُمَا » .
حدثنا سفيان بن عيينة بن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أمر بقتل الزُّنْبُور .
وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بجواز قتل الزنبور في الإحرام ، وبيَّن أنه يقتدي فيه ب « عمر » ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به ، وأنَّ الله - تعالى - أمر بقُبول ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم فجواز قتله مستنبط من الكتاب والسُّنَّة .
وسئل عكرمة عن أمهات الأولاد ، فقال : هل هُنَّ أحرار؟ فقال : في سورة النساء في قوله تعالى : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنكُمْ } [ النساء : 59 ] .
وفي « صحيح مسلم » وغيره عن علقمة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لَعَنَ اللَّهُ الواشِمَاتِ والمُسْتوشِمَاتِ والمُتنمِّصَات والمُتَفلِّجَاتِ للحُسْنِ ، المُغيِّراتِ لخَلْقِ الله » فبلغ ذلك امرأة من « بَنِي أسد » يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، فقال : وما لي لا ألعَنُ من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى ، فقالت : لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه ما تقول ، فقال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، أما قرأت : [ { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } .
قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى الله عنه . الحديث .
فصل في الكلام على الآية
قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ } .
وإن جاء بلفظ الإيتاء وهو المناولة ، فإن معناه الأمر بدليل قوله تعالى ] : { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } .
فقابله بالنهي ، ولا يقابل النهي إلا بالأمر ، بدليل ما تقدم ، مع قوله صلى الله عليه وسلم « إذَا أمَرتكُمْ بشَيءٍ فأتُوا مِنْهُ ما اسْتطعْتُمْ ، وإذَا نَهيْتُكُمْ عن شَيْءٍ فانتهُوا » .
قوله : { واتقوا الله } أي : عذاب الله ، إنه شديد لمن عصاه .
وقيل : اتقوا الله في أوامره ونواهيه ، فلا تضيعوها ، { فإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)

قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من « لِذي القُربى » . قاله أبو البقاء والزمخشري .
قال أبو البقاء : « قيل : هو بدل من » لذي القُرْبى « وما بعده » .
[ وقال الزمخشري : بدل من « لذي القُرْبى » وما عطف عليه ] ، والذي منع الإبدال من « لله وللرسول » والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله - عز وجل - أخرج رسوله صلى الله عليه وسلم من الفقراءِ في قوله : { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } وأن الله - تعالى - يترفع برسوله صلى الله عليه وسلم عن تسميته بالفقيرِ ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل .
يعني أنه لو قيل : بأنه بدل من « الله ورسوله » صلى الله عليه وسلم وهو قبيح لفظاً ، وإن كان المعنى على خلاف هذا الظاهر كما قيل : إن معناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر الله - عز وجل - تفخيماً ، وإلا فالله - تعالى - غني عن الفيء وغيره ، وإنما جعله بدلاً من « لذي القُربى »؛ لأنه حنفي ، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيءِ .
الثاني : أنه بيان لقوله تعالى : { والمساكين وابن السبيل } [ الحشر : 7 ] ، وكررت لام الجر لما كانت الأولى مجرورة ب « اللام » ليبين أنَّ البدل إنما هو منها . قاله ابن عطية .
وهي عبارة قلقةٌ جداً .
الثالث : أن « للفقراء » خبر لمبتدأ محذوف ، أي : ولكن الفيء للفقراء .
وقيل : تقديره : ولكن يكون للفقراء ، وقيل : اعجبوا للفقراء .
قوله « يبتغون » يجوز أن يكون حالاً ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : للفقراء .
والثاني : « واو » أخرجوا . قالهما مكي .
فصل في معنى الآية
ومعنى الآية أن الفيء والغنائم للفقراء والمهاجرين .
وقيل : { كي لا يكون دولة بين الأغنياء } ولكن يكون « للفقراء » وهو مبني على الإعراب المتقدم ، وعلى القول بأنه بيان لذوي القربى ، « واليتامى والمساكين » أي : المال لهؤلاء؛ لأنهم فقراء ومهاجرون ، وقد أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به .
وقيل : { ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ } [ الحشر : 6 ] للفقراء المهاجرين كي لا يكون المال دولة بين الأغنياء مهاجرين من بني الدنيا .
وقيل : والله شديدُ العقاب للفقراء المهاجرين ، أي : شديد العقاب للكافر بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم ، ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى : { وَلِذِي القربى واليتامى } [ الحشر : 7 ] .
قال القرطبي : « وقيل : هو عطف على ما مضى ، ولم يأت بواو العطف كقولك : هذا المال لزيد لبكر لفلان .
و » المهاجرون « : من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا فيه ونُصرةً له » .

وقال قتادة : هؤلاء المهاجرين الذين تركوا الدِّيار والأموال والأهلين والأوطان حبًّا لله - عز وجل - ولرسوله صلى الله عليه وسلم حتَّى إن الرجل منهم كان يَعْصِبُ على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها .
قوله تعالى : { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } أي : أخرجهم كفار « مكة » ، أي : أحوجوهم إلى الخروج ، وكانوا مائة رجل « يَبْتَغُونَ » أي : يطلبون { فَضْلاً مِّنَ الله } : أي غنيمة في الدنيا « ورضْوَاناً » في الآخرة أي : مرضاة ربهم { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } في الجهاد { أولئك هُمُ الصادقون } في فعلهم ذلك .
وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب ب « الجابية » ، فقال : من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيَّ بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومَنْ أراد أن يسأل عن الفقهِ ، فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني ، فإن الله - تعالى - جعلني له خازناً وقاسماً ، ألا وإنِّي بادٍ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهنّ ، ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي ، أخرجنا من « مكة » من ديارنا وأموالنا .
قوله : { أولئك هُمُ الصادقون } .
يعني : أنهم لما هجروا لذَّات الدنيا ، وتحملوا شدائدها لأجل الدِّين ظهر صدقهم في دينهم .
قوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ } .
يجوز في قوله : { والذين تبوّءوا الدار } وجهان :
أحدهما : أنه عطف على « الفقراء » فيكون مجروراً ، ويكون من عطف المفردات ، ويكون « يحبون » حالاً .
والثاني : أن يكون مبتدأ ، خبره « يُحبُّون » ويكون حينئذ من عطف الجمل .
وفي قوله : « والإيمان » . ستة أوجه :
أحدها : أنه ضمن « تَبَوَّءوا » معنى لزموا ، فيصح عطف الإيمان عليه ، إذ الإيمان لا يتبوأ .
الثاني : أنه منصوب بمقدر ، أي : واعتقدوا ، أو وألفوا ، أو وأحبوا ، أو وأخلصوا ، كقوله : [ الرجز ]
4746- عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً ..
وقوله : [ مجزوء الكامل ]
4747- . ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا
الثالث : أنه يتجوّز في الإيمان ، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم ، فكأنهم نزلوه ، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة . وفيه خلاف مشهور .
الرابع : أن يكون الأصل : دار الهجرة ، ودار الإيمان ، فأقام « لام » التعريف في « الدار » مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ، ووضع المضاف إليه مقامه .
الخامس : أن يكون سمى « المدينة »؛ لأنها دار الهجرة ، ومكان ظهور الإيمان .
قال بهذين الوجهين الزمخشري .
وليس فيه إلاَّ قيام « ال » مقام المضاف إليه ، وهو محل نظر ، وإنما يعرف الخلاف ، هل يقوم « ال » مقام الضمير المضاف إليه؟ .

فالكوفيون يُجِيزُونه ، كقوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مأواه .
[ والبصريون : يمنعونه ، ويقولون : الضمير محذوف ، أي : المأوى له ] .
وقد تقدم تحرير هذا وأما كونها عوضاً من المضاف إليه فلا نعرف فيه خلافاً .
السادس : أنه منصوب على المفعول معه أي : مع الإيمان معاً . قاله ابن عطية .
وقال : وبهذا الاقتران يصح معنى قوله « من قبلهم » فتأمله .
قال شهاب الدين : « وقد شرطوا في المفعول معه أن يجوز عطفه على ما قبله حتى جعلوا قوله تعالى : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } [ يونس : 71 ] من باب إضمار الفعل؛ لأنه لا يقال : أجمعت شركائي ، إنما يقال : جمعت » .
فصل في المراد بهذا التبوء
« التَّبَوُّء » : التمكن والاستقرار ، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين ، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، ولا خلاف أن الذين تبوَّءُوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا « المدينة » قبل المهاجرين إليها ، والمراد بالدَّار : « المدينة » .
والتقدير : والذين تبوَّءُوا الدار من قبلهم .
فصل
قيل هذه الآية معطوفة على قوله : « للفقراء المهاجرين » وأن الآيات في « الحَشْر » كلها معطوفة بعضها على بعض .
قال القرطبي : ولو تأملوا ذلك ، وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن الله - تعالى - يقول : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ } [ الحشر : 2 ] - إلى قوله - « الفاسقين » فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع ، ثم قال تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ } [ الحشر : 6 ] فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يوجف عليه حين خلَّوه ، وما تقدم فيهم من القتالِ ، وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر ، ثم قال تعالى : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ الحشر : 7 ] ، وهذا كلام غير معطوف على الأول ، وكذا { والذين تبوّءوا الدار والإيمان } ابتداء كلام في مدحِ الأنصار والثناء عليهم ، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين ، وكأنه قال : الفَيْء للفقراء المهاجرين ، والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء ، وكذا { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] ابتداء كلام ، والخبر { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا } [ الحشر : 10 ] .
وقال إسماعيل بن إسحاق : إن قوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُو الدار } ، { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] معطوف على ما قبله ، وأنهم شركاء في هذا الفيء ، أي : هذا المال للمهاجرين ، والذين تبوَّءوا الدار والإيمان .
وقال مالك بن أوس : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين } [ التوبة : 60 ] .
ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] ، فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ :

{ وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ } [ الحشر : 6 ] حتى بلغ { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } ، { والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان } ، { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي ب « سَرْو حمير » نصيبه منها لم يعرق جبينه .
وقيل : إنه دعا للمهاجرين والأنصار واستبشارهم بما فتح الله عليه من ذلك ، وقال لهم : تبينوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليَّ ففكر في ليلته ، فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت فلما غدوا عليه ، قال : قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة « الحشر » وتلا : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } [ الحشر : 7 ] إلى قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } فلما بلغ قوله : { أولئك هُمُ الصادقون } قال : ما هي لهؤلاء فقط ، وتلا قوله : { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] إلى قوله { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك .
فصل
روى مالك بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر - رضي الله عنه - قال : لولا من يأتي من آخر النَّاس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر .
وصح عن عمر أنه أبقى سواد « العراق » و « مصر » وما ظهر عليه من الغنائم ليكون في أعطيات المقاتلة ، وأرزاق الجيش والذَّراري ، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم ، فكره ذلك منهم .
واختلف فيما فعل من ذلك : فقيل : إنه استطاب أنفس أهل الجيش فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين فله ، ومن أبى أعطاه ثمن حظه فمن قال : إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قسم « خيبر » ، لأنّ اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها .
وقيل : إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش .
وقيل : إنه تأول في ذلك قول الله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } إلى قوله : { رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] على ما تقدم أيضاً .
فصل في اختلاف الفقهاء في قسمة العقار
اختلفوا في قسمة العقار ، فقال مالك - رضي الله عنه - للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : الإمام مخير بين قسمتها ، أو وقفها لمصالح المسلمين .
وقال الشافعي - رضي الله عنه - ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم ، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال ، فمن طاب نفساً عن حقه للإمام أن يجعلها وقفاً عليهم فله ، ومن لم تطب نفسه فهو أحق بماله .
وعمر - رضي الله عنه - استطاب نفوس القائمين واشتراها منهم ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] مقطوعاً مما قبله ، وأنهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم .
فصل في فضل المدينة
قال القرطبي : « روى ابن وهب قال : سمعت مالكاً يذكر فضل » المدينة « على غيرها من الآفاق ، فقال : إن » المدينة « تُبُوئتْ بالإيمان والهجرة ، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ، ثم قرأ : { والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } الآية » .

قوله تعالى : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } . فيه وجهان :
أحدهما : أن الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه ، والمعنى : لا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيءِ وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة تقول : خذ منه حاجتك ، وأعطاه من ماله حاجته . قاله الزمخشري .
فعلى هذا يكون الضمير الأول للجائين بعد المهاجرين ، وفي « أوتُوا » للمهاجرين .
والثاني : أن الحاجة هنا من الحسد .
قال الحسنُ : حسداً وحزازة مما أوتوا المهاجرين دونهم ، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة؛ لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية .
والضميران على ما تقدم قبل .
وقال أبو البقاء : « الحاجة مس حاجة » . أي : أنه حذف المضاف للعلم به ، وعلى هذا ، فالضميران ل { الذين تبوّءو الدار والإيمان } .
وقال القرطبي : « يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خُصُّوا به من مال الفيءِ وغيره ، كذلك قال الناس . وفيه تقدير حذف مضافين ، والمعنى : مس حاجة من فقد ما أوتوا ، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة » .
فصل في سبب نزول الآية
قال القرطبي : « كان المهاجرون في دور الأنصار ، فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير ، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم وإشراكهم في الأموال ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنْ أحْبَبْتُمْ قَسَمْتُ مَا أفَاءَ اللَّه عَلَيَّ مِن بَنِي النَّضيرِ بَيْنكُمْ وبَيْنَهُمْ ، وكَان المُهَاجرُونَ على مَا هُمْ عليْهِ مِنَ السُّكْنَى في مَسَاكنكُمْ وأمْوالكُمْ ، وإنْ أحَبَبْتُمْ أعْطَيتُهم وخَرَجُوا من دِيَارِكُمْ « ، فقال سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وسَعْدُ بْنُ معاذٍ - رضي الله عنهما - بَلْ نَقْسِمهُ بَيْنَ المهاجرينَ ، ويُكونُونَ في دُورنا كَمَا كَانُوا ، ونادت الأنصار : رَضيْنَا وسلَّمْنَا يا رسُولَ الله ، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : » اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنصَارَ وأبْنَاءَ الأنْصَارِ « وأعطى رسول الله للمهاجرين ، ولم يعط الأنصار إلا الثلاثة الذين ذكرناهم » .
ويحتمل أن يريد به { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } إذا كانوا قليلاً يقنعون به ، ويرضون عنه ، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دنيا ، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه بحكم الدنيا ، وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال :

« سَتَرَونَ بَعْدِي أثَرَةً فاصْبرُوا حَتَّى تلْقَونِي على الحَوْضِ » .
قوله : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : « قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني النضير : » إن شِئْتُم قَسمْتُمْ للمُهَاجرينَ من أمْوالكُمْ ودِيَاركُمْ وشَارَكتُمُوهُم في هذه الغنيمةِ ، وإن شِئْتُم كَانَتْ لكُم ديَارُكمْ وأموالكُمْ ولَمْ نَقْسِمْ لَكُمْ مِنَ الغَنِيمَةِ شَيْئاً « . فقالت الأنصار : بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة » ، فنزل : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } الآية .
قال ابن الخطيب : « وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار للضيف بالطعام ، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف ، ثم ذكروا أن هذه الآية نزلت في ذلك الإيثار ، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء ، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات .
فذكر القرطبي : أن الترمذي روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً بات به ضيف ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبية ، وأطفئي السراج ، وقربي للضيف ما عندك ، فنزلت هذه الآية » .
وخرجه مسلم أيضاً : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهودٌ ، فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق نبيًّا ما عندي إلا ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَنْ يُضيف هذا الليلة رحمه الله؟ « فقام رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول الله أنا ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : هل عندك شيء؟ قالت : لا ، إلا قوت صبياني ، قال : فعلليهم بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج » ، وذكر نحو الحديث الأول .
وفي رواية : فقام رجل من الأنصار يقال له : أبو طلحة ، فانطلق به إلى رحله .
وذكر المهدوي : أنها نزلت في ثابت بن قيس ، ورجل من الأنصار يقال له : أبو المتوكل ، ولم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته .
وذكر القشيري قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منّا ، فبعثه إليه ولم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك ، فنزلت : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } الآية .
وذكر الثعلبي عن أنس ، قال : أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة ، وكان مجهوداً فوجه به إلى جار له ، فتداوله سبعة أنفس في سبعة أبيات ، ثم عاد إلى الأول ، فنزلت الآية .
فصل في معنى الإيثار
الإيثار هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية ، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة ، يقال : آثرته بكذا ، أي : خصصته به وفضلته ، ومفعول الإيثار محذوف ، أي : يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ، لا عَنْ غِنًى بل مع احتياجهم إليها .

فإن قيل : قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء؟ .
فالجواب : إنما كره ذلك في حق من لا يوثق به بالصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه ، فأما الأنصار الذين أثنى الله - تعالى - عليهم بالإيثار على أنفسهم ، فكانوا كما قال الله تعالى : { والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس } [ البقرة : 177 ] .
فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك ، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار .
« كما روي أن رجلاً جاء إلى النبي بمثل البيضة من الذَّهب ، فقال هذه صدقة ، فرماه بها ، وقال : » يَأتِي أحدُكُمْ بِجميعِ مَا يَملِكُهُ فيتصدَّق بِهِ ، ثُمَّ يقعدُ فيتكفَّفُ النَّاس « انتهى .
فصل في الإيثار بالنفس
الإيثار بالنَّفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس .
ومن الأمثال : [ البسيط ]
4748- الجُودُ بالمَالِ جُودٌ ومكرمةٌ ... والجُودُ بالنَّفْسِ أقْصَى غايةِ الجُودِ
وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ففي الصحيح : أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله ، لا يصيبونك ، نحري دون نحرك يا رسول الله ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلتْ .
وقال حذيفة العدوي : انطلقت يوم » اليَرْموك « أطلب ابن عم لي [ ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمقٌ سقيته ، فإذا أنا به ، فقلت له : أسقيك ، فأشار برأسه أن نعم ] ، فإذا أنا برجل يقول : آه آه فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه ، فجئت إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت : أسقيك؟ فأشار أن نعم ، فسمعت آخر يقول : آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه ، فجئت إليه ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات .
وقال أبو اليزيد البسطامي رحمه الله : ما غلبني أحد سوى شاب من أهل » بلخ « قدم علينا حاجًّا ، وقال : يا أبا اليزيد ، ما حد الزهد عندكم؟ .
فقلت له : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا .
فقال : هكذا كلاب » بلخ « عندنا .
فقلت : وما حدّ الزهد عندكم؟ .
قال : إذا فقدنا شكرنا ، وإذا وجدنا آثرنا .
وسئل ذو النون المصري : ما حدُّ الزهد؟ قال : ثلاث ، تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند الفوت .
وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي : أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى » الري « ومعهم أرغفة معدودة لا تشبح جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج ، وجلسوا للطعام ، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه .
قوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .

هذه واو الحال ، والخصاصة : الحاجة ، وأصلها من خصاص البيت ، وهي فروجه ، وحال الفقير يتخللها النقص ، فاستعير لها ذلك .
وقال القرطبي : « أصلها من الاختصاص ، وهو الانفراد بالأمر ، فالخصاصة : انفراد بالحاجة ، أي : ولو كانت بهم فاقة وحاجة » .
ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
4749- أمَّا الرَّبيعُ إذَا تَكُونُ خَصَاصَةٌ ... عَاشَ السَّقِيمُ بِهِ وأثْرَى المُقْتِرُ
قوله تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } .
العامة على سكون الواو ، وتخفيف القاف من الوقاية ، وابن أبي عبلة وأبو حيوة : بفتح الواو وتشديد القاف .
والعامة - بضم الشين - من « شح » ، [ وابن أبي عبلة ] وابن عمر - رضي الله عنهما - بكسرها .
قال القرطبي : الشُّحُّ والبخل سواء ، يقال : رجل شحيح بيِّن الشُّح والشَّح والشحاحة .
قال عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]
4750- تَرَى اللَّحِزَ الشَّحِيحَ إذَا أمِرَّتْ ... عَليْهِ لِمَاله فِيهَا مُهِينَا
وجعل بعض أهل اللغة الشُّحَّ أشد من البخل .
وفي « الصحاح » : الشح : البخل مع حرصٍ ، شَحِحْتُ - بالكسر - تشحّ ، وشَحَحْتُ أيضاً تَشُحُّ وتشِحُّ ، ورجل شَحِيحٌ ، وقومٌ شحاحٌ وأشحَّة .
والمراد بالآية : الشُّح بالزكاة ، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضِّيافة ، وما شاكل ذلك ، فليس بشحيحٍ ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه ، ومن وسّع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرنا من الزكوات والطَّاعات فلم يُوقَ شح نفسه .
روى الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه : أن رجُلاً أتاه فقال : إنِّي أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك؟ قال : سمعت الله يقول : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يديّ شيئاً ، فقال ابن مسعود : ليس ذلك الذي ذكر الله - تعالى - ، إنما الشُّحُّ أن تأكل مال أخيك ظُلْماً ، ولكن ذلك هو البخل ، وبئس الشيء البخل ، ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل .
وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشُّحُّ أن يشح بما في أيدي النَّاس ، يجب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع .
قال ابن زيد : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشُّح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له .
وقال ابن جريج : الشح : منع الزكاة وادخار الحرام .
وقال ابن عيينة : الشح : الظلم .
وقال الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم .
وقال ابن عباس : من اتبع هواه ، ولم يقبل الإيمان ، فذلك هو الشحيح .
وقال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ، ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه ، فقد وقاه الله شحَّ نفسه .
وقال أنس رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : « بَرِىء مِن الشُّحِّ مَنْ أدَّى الزَّكَاةَ وأقْرَى الضَّيْفَ ، وأعْطَى في النَّائِبَة » .
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو

« اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شُحِّ نَفْسِي ، وإسْرافِهَا وَسوآتِهَا » .
وقال أبو الهياج الأسدي : رأيت رجلاً في الطواف يدعو : اللهم قني شُحَّ نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزْنِ ولم أفعل ، فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه .
قال القرطبي : ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : « اتَّقُوا الظُّلْمَ فإنَّ الظُّلْمَ ظُلماتٌ يَوْمَ القِيَامةِ ، واتَّقُوا الشُّحَّ فإنَّ الشُّحَّ أهْلكَ مَن كَانَ قَبْلَكُم حَملهُمْ على أن سفَكُوا دِمَاءهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحَارمَهُمْ » .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبيلِ اللَّهِ ودُخَانُ جَهَنَّم في جَوْفِ عَبْدٍ أبَداً ، ولا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ والإيمَانُ في قَلْبِ عَبْدٍ أبَداً » .
وقال كسرى لأصحابه : أي شيء أضرُّ بابن آدم؟ قالوا : الفقرُ ، فقال : الشح أضر من الفقر ، لأن الفقير إذا وجد شبع ، والشحيح إذا وجد لم يشبعْ أبداً .

وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)

قوله تعالى : { والذين جَآءُو } . يحتمل الوجهين المتقدمين في « الذين » قبله ، فإن كان معطوفاً على « المهاجرين » ، ف « يقولون » حال ل « يحبون » أي : قائلين أو مستأنف ، وإن كان مبتدأ ف « يقولون » خبره .
فصل
هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين؛ لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار . { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } . قال بعض المفسرين : هذا عطف على « المُهَاجرينَ » وهم الذين هاجروا من بعد .
وقيل : التابعون لهم بإحسان ، ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة .
قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : الأولى منازل المهاجرين ، والثانية هي : الذين تبوءوا الدار والإيمان ، والثالثة : والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد ألاَّ تخرج من هذه المنازل .
وقال بعضهم : كن مهاجراً ، فإن قلت : لا أجد ، فكن أنصارياً ، فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم ، فإن لم تستطع فأحبَّهم ، واستغفر لهم كما أمرك الله .
وقال مصعب بن سعد : الناس على ثلاثة منازل ، فمضت منزلتان ، وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت .
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدِّه ، أنه جاءه رجل فقال : يا ابن بنت رسول الله ما تقول في عثمان؟ فقال له : يا ابن أخي أنت من قوم قال الله فيهم { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } ؟ [ الحشر : 8 ] الآية ، قال : لا ، قال : فأنت من قوم قال الله فيهم : { والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان } ؟ [ الحشر : 9 ] الآية ، قال : لا ، قال : فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام ، وهي قوله تعالى : { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } .
وروي أن نفراً من أهل « العراق » جاءوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبُّوا أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فأكثروا ، فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا : لا ، قال : أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ ، قالوا : لا ، قال : فقد تبرأتم من هذين الفريقين ، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم : { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } ، قوموا قد فعل الله بكم وفعل . ذكره النحاس .
فصل في وجوب محبة الصحابة
هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة - رضي الله عنهم - لأنه جعل لمن بعدهم حظًّا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم ، والاستغفار لهم ، ومن أبغضهم أو واحداً منهم ، أو اعتقد فيه شرًّا أنه لا حقَّ له في الفيء .
قال مالك : من كان يبغضُ أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه لهم غلّ فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم قرأ : { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } .

فصل
قال القرطبي : دلت هذه الآية على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول وإبقاء العقار والأرض بين المسلمين أجمعين كما فعل عمر - رضي الله عنه - إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمراً فيمضي عمله فيه لاختلاف الناس فيه ، وإن هذه الآية قاضية بذلك ، لأن الله - تعالى - أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف : المهاجرين والأنصار - وهم معلومون - { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } فهي عامة في جميع التابعين والآتين من بعدهم إلى يوم [ الدين ] .
« يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة ، فقال : » السَّلامُ [ عليكم ] دارَ قَوْم مُؤمِنينَ وإنَّا إن شَاءَ اللَّهُ بكم لاحِقُونَ ودِدْتُ لَوْ رأيتُ إخواننا « قالوا : يَا رسُولَ اللَّهِ ، ألَسْنَا إخْوَانَكَ؟ فقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : » بَلْ أنتُمْ أصْحَابِي ، وإخْواننا الذين لَمْ يأتُوا بَعْدُ ، وأنَا فَرَطُهمْ على الحوْضِ « » .
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كلُّ من يأتي بعدهم ، لا كما قال السُّديُّ والكلبي : إنهم الذين هاجروا بعد ذلك .
وعن الحسن أيضاً : أن الذين جاءوا من بعدهم من قصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى « المدينة » بعد انقطاع الهجرة .
قوله : { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } .
قيل : أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : أمرهم أن يستغفروا لهم فَسبُّوهم .
وقيل : أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم سيُفْتنُونَ .
وقالت عائشة - رضي الله عنها - : أمرهم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبوهم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تَذْهَبُ هذهِ الأمة حتَّى يلعَنَ آخِرُهَا أوَّلهَا » .
وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا رأيتم الَّذين يسُبُّونَ أصْحَابِي فقُولُوا : لَعَنَ اللَّه شَرَّكُم » .
وقال العوام بن حوشب : أدركت هذه الأمة يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تتآلف عليهم القلوب ، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم .
وقال الشعبي : تفاضلت اليهود والنَّصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم؟ فقالوا : أصحاب موسى - صلوات الله وسلامه عليه - ، وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم؟ فقالوا : أصحاب عيسى - صلوات الله وسلامه عليه - ، وسئلت الرافضة ، من شرُّ أهلِ ملتكم؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلولٌ إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ، ولا يثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفكِ دمائهم وإدحاض حجتهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلَّة .

{ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } أي : حسداً وبغضاً ، { رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ } . للتبليغ فقط بخلاف قوله عز وجل : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [ العنكبوت : 12 ] فإنها تحتمل ذلك وتحتمل العلة .
فصل
قال القرطبي رحمه الله : هذه الآية سبب التعجب من اغترار اليهود لما وعدهم المنافقون من النصر معهم مع علمهم بأنهم لا يعتقدون ديناً ولا كتاباً .
قال المقاتلان : يعني عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتل ، ورفاعة بن زيد ، وقيل : رفاعة بن تابوت ، وأوس بن قيظي ، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا ، ومالوا ليهود قريظة والنضير .
والإخوان : هم الإخوة ، وهي هنا تحتمل وجوهاً :
أحدها : الأخوّة في الكفر؛ لأن اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفرِ بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وثانيها : الأخوّة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة .
وثالثها : الأخوّة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم .
فقالوا لليهود : { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ } من المدينة { لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } .
وقيل : هذا من قول بني النضير لقريظة ، وقولهم : { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم قالوا : لا نطيعه في قتالكم .
وفيه دليل على صحة نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من جهة الغيب؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا معهم ، وقوتلوا فلم ينصروهم كما قال سبحانه وتعالى : { والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في قولهم وفعلهم .
فقولهم : { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } أي : في قتالكم أو في خذلانكم .
قوله تعالى : { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } .
أجيب القسم المقدر ، لأن قبل « إن » لام موطئة حذفت للعلم بمكانها ، فإنَّ الأكثر الإتيان بها ، ومثله قوله : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ } [ المائدة : 73 ] وقد تقدم .
قوله تعالى : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } .
أجيب القسم لسبقه ، ولذلك رفعت الأفعال ولم تجزم ، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه ، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً .
وقال أبو البقاء رحمه الله : قوله تعالى : { لاَ يَنصُرُونَهُمْ } لما كان الشرط ماضياً ترك جزم الجواب انتهى . وهو غلط؛ لأن { لاَ يَنصُرُونَهُمْ } ليس جواباً للشرط بل جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف كما تقدم وكأنه توهم أنه من باب قوله : [ البسيط ]
4751- وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يَقولُ : لا غَائِبٌ مَالِي ولا حَرِمُ
وقد سبق أبا البقاء ابنُ عطية إلى ما يوهم شيئاً من ذلك ، ولكنه صرح بأنه جواب القسم ، فقال : « جاءت الأفعال غير مجزومة في » لا يخرجون ولا ينصرون «؛ لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط ، وفي هذا نظر » .

فقوله : « وفي هذا نظر » يوهم أنه جاء على خلاف ما يقتضيه القياس وليس كذلك ، بل جاء على ما يقتضيه القياس .
وفي هذه الضمائر قولان :
أحدهما : أنها كلها للمنافقين .
والثاني : أنها مختلفة بعضها لهؤلاء ، وبعضها لهؤلاء .
فصل
اعلم أنه - تعالى - عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ، وقد أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا ، فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم ، وكان الأمر كذلك؛ لأن بني النضير لما خرجوا لم يخرج معهم المنافقون ، وقاتلوا أيضاً فما نصروهم ، وهذا كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير : لا نسلم أن الأمر كما تقول ، ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول إلا أنه لا يفيد ذلك فائدة فكذا هاهنا ذكر تعالى أنهم لا يخرجون معهم ، وبتقدير أن ينصروهم إلا أنهم لا بد وأن يتركوا النُّصرة وينهزموا ، ويتركوا أولئك المنصورين في أيدي أعدائهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] .
[ وقيل : معنى لا ينصرونهم : لا يدومون على نصرهم ، هذا على أن الضميرين متفقان على اختلاف الضميرين ، فالمعنى : لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون ، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } أي : ولئن نصر اليهود المنافقين ليولُّنَّ الأدبار ] .
قوله تعالى : { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً } .
مصدر من « رُهِبَ » المبني للمفعول ، فالرهبة واقعة من المنافقين لا من المخاطبين ، كأنه قيل : لأنتم أشد رهوبية في صدورهم من الله ، فالمخاطبون مُرْهِبُونَ وهو قول كعب بن زهير - رضي الله عنه - في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ البسيط ]
4752- فَلَهْوَ أخْوَفُ عِنْدِي إذْ أكَلِّمُهُ ... وقِيلَ إنَّكَ مَحْبُوسٌ ومَقْتُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِثَرَاءِ الأرْضِ مُخْدَرُهُ ... بِبَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
و « رَهْبَةً » تمييز .
فصل في معنى الآية
المعنى : لأنتم يا معشر المسلمين { أَشَدُّ رَهْبَةً } أي خوفاً وخشية في صدورهم من الله ، يعني صدور بني النضير .
وقيل : صدور المنافقين ، ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين ، أي : يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم ، « ذَلِكَ » إشارة إلى الخوف أي ذلك الخوف { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } قدر عظمة الله وقدرته حتى يخشوه حقَّ خشيته .
قوله تعالى : { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً } يعني اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين « إلاَّ » إذا كانوا { فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } بالخنادق والدُّروب والحيطان [ يظنُّون ] أنها تمنعهم منكم ، { أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ } أي : من خلف حيطانٍ يستترون بها لجبنهم ورهبتهم .
قوله : « جَمِيعاً » حال ، و { إِلاَّ فِي قُرًى } متعلق ب « يُقَاتِلُونَكُمْ » .

وقوله : « جُدُرٍ » .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو : « جدار » بالإفراد . وفيه أوجه :
أحدها : أنه السُّورُ ، والسُّورُ الواحد يعم الجميع من المقاتلة ويسترهم .
والثاني : أنه واحد في معنى الجمع لدلالة السياق عليه .
والثالث : أن كل فرقة منهم وراء جدار لا أنهم كلهم وراء جدار .
والباقون قرأوا : « جُدُر » - بضمتين - اعتباراً بأن كل فرقة وراء جدار ، فجمع لذلك .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن وثاب والأعمش ، ويروى عن ابن كثير وعاصم : بضمة وسكون؛ وهي تخفيف الأولى ، وقرأ ابن كثير - أيضاً - في رواية هارون عنه ، وهي قراءة كثير من المكيين : « جَدْر » بفتحة وسكون .
فقيل : هي لغة في الجدار .
وقال ابن عطية : معناه أصل بنيات كالسور ونحوه : قال : ويحتمل أن يكون من جَدْر النخيل أي من وراء نخيلهم . يقال : أجدر النخل إذا طلعت رءوسه أول الربيع . والجدر : نبت ، واحده جدرة .
وقرىء : « جَدَرٌ » - بفتحتين - حكاها الزمخشري .
وهي لغة في الجدار أيضاً .
وقرىء : « جُدْر » - بضم الجيم وإسكان الدَّال - جمع الجدار .
قال القرطبي : ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف « كتاب » وفي الجمع كألف « ظِراف » ومثله « ناقة هجان ، ونوق هجان » لأنك تقول في التثنية « هجانان » ، فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى .
قاله ابن جني .
قوله : { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } .
« بَيْنَهُمْ » متعلق ب « شديد » و « جميعاً » مفعول ثانٍ ، أي : مجتمعين .
وقوله : { وَقُلُوبُهُمْ شتى } . جملة حالية ، أو مستأنفة للإخبار بذلك .
والعامة على « شتى » بلا تنوين ، لأنها ألف تأنيث .
ومن كلامهم : « شَتَّى تئوب الحلبة » أي متفرقين .
وقال آخر : [ الطويل ]
4753- إلَى اللَّهِ أشْكُو نِيَّةً شَقَّتِ العَصَا ... هِيَ اليَوْمَ شَتَّى ، وهيَ أمْسِ جَمِيعُ
وقرأ مبشر بن عبيد : « شَتًّى » منونة ، كأنه جعلها ألف الإلحاق .
وفي قراءة ابن مسعود : « وقُلُوبُهُمْ أشتُّ » يعني أشد تشتيتاً أي أشد اختلافاً .
فصل في معنى الآية
معنى { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي : عداوة بعضهم لبعض . قاله ابن عباس .
وقال مجاهد : { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } بالكلام والوعيد لنفعلن كذا .
وقال السُّدي : المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحدٍ .
وقيل : { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } إذا لم يلقوا عدوًّا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس ، وإذا لقوا العدو انهزموا .
{ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى } .
يعني اليهود والمنافقين . قاله مجاهد . وعنه أيضاً : يعني المنافقين .
وقال الثوري : هم المشركون وأهل الكتاب .
وقال قتادة : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً } أي : مجتمعين على أمْر ورأي . { وَقُلُوبُهُمْ شتى } : أي : متفرقة فأهل الباطل مختلفة آراؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق .
وعن مجاهد أيضاً : أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود ، وهذا يقوي أنفس المؤمنين عليهم { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أي : ذلك التشتيت والكفر بأنهم قوم لا يعقلون أمر الله .

وقيل : لا يعقلون ما فيه الحظ لهم .
وقيل : لا يعقلون أن تشتيت القلوب مما يوهن قواهم .
قوله تعالى : { كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } .
خبر مبتدأ مضمر ، أي : مثلهم مثل هؤلاء .
و « قريباً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب بالتشبيه المتقدم ، أي : يشبهونهم في زمن قريب سيقع لا يتأخر ، ثم بين ذلك بقوله : { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } .
والثاني : أنه منصوب ب « ذاقوا » أي : ذاقوا في زمن قريب .
أي : ذاقوه في زمن قريب سيقع ولم يتأخّر .
وانتصابه في وجهيه على ظرف الزَّمان .
فصل في معنى الآية
يعني مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم .
قال ابن عباس : يعني به بني قينقاع أمكن الله منهم قبل بني النضير .
وقال قتادة : يعني بني النضير أمكن الله منهم قبل قريظة ، وكان بينهما سنتان .
وقال مجاهد رضي الله عنه : يعني كفَّار قريش يوم بدر ، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير قاله مجاهد .
وكانت غزوة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر ، فلذلك قال : « قَرِيباً » .
وقيل : هو عامٌّ في كل من انتقم منه على كفره قبل بني النضير من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
« وَبَالَ أمرهم » أي : جزاء كفرهم . ومن قال : هم بنو قريظة جعل « وبَالَ أمْرِهِمْ » نزولهم على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي [ الذرية ] . وهو قول الضحاك . ومن قال : المراد بنو النضير ، قال : « وبَالَ أمْرِهِمْ » الجلاء والنفي ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة .
قوله تعالى : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر } .
هذا مثل ضربه الله للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الرجاء في نصرتهم ، وحذف حرف العطف ولم يقل : وكمثل الشيطان ، لأن حذف حرف العطف كثير ، كقولك : أنت عاقل ، أنت كريم ، أنت عالم .
وقوله : { كَمَثَلِ الشيطان } كالبيان لقوله { كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } .
فصل
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الإنسان الذي قال له الشيطان : اكفر؛ راهب ، نزلت عنده امرأة أصابها لممٌ ليدعو لها فزيّن له الشيطان فوطئها فحملت ، ثم قتلها خوفاً أن يفتضح ، فدلّ الشيطان قومها على موضعها ، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه ، فجاء الشيطان فوعده إن سجد له أنجاه من هذه الورطة منهم فسجد فتبرّأ منه فأسلمه ، ذكره القاضي إسماعيل ، وعلي بن المديني ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عروة بن عامر ، عن عبيد بن رفاعة الزرقي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر خبره طويلاً .
وذكر ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { كَمَثَلِ الشيطان } أنه كان راهب في الفترة يقال له : برصيصا ، قد تعبد في صومعته سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين حتى أعيا إبليس ، وذكر خبر برصيصا بتمامه .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : فضرب الله ذلك مثلاً للمنافقين مع اليهود ، وذلك أن الله - تعالى - أمر نبيه أن يُجلِيَ بني النضير من « المدينة » ، فدس إليهم المنافقون ألاَّ تخرجوا من دياركم ، فإن قاتلوكم قاتلنا معكم ، وإن أخرجوكم كنا معكم ، فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد .
وقيل : المعنى مثل المنافقين في غدرهم لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش : { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } [ الأنفال : 48 ] الآية .
وقال مجاهد : المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم .
ومعنى قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر } .
أي : أغواه حتى قال : إنِّي كافر ، وليس قول الشيطان : { إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } حقيقة ، إنما هو على وجه التبرُّؤ من الإنسان ، فهو تأكيد لقوله تعالى : { إِنِّي برياء مِّنكَ } .
وفتح الياء من « إني » نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأسكن الباقون .

فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

قوله تعالى : { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار } .
العامة على نصب « عَاقِبتَهُمَا » والاسم « أن » وما في حيزها ، لأن الاسم أعرف من { عاقبتهما أنهما في النار } . وقد تقدم تحرير هذا في « آل عمران » و « الأنعام » .
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن أرقم : برفعها ، على جعلها اسماً ، و « أن » وما في حيزها خبر كقراءة : { ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] .
قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } .
العامة على نصبه ، حالاً من الضمير المستكن في الجار لوقوعه خبراً .
والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان ، ومن جعلها في الجنس فالمعنى فكان عاقبة الفريقين أو الصنفين .
قال مقاتل : يعني المنافقين واليهود .
ونصب « عَاقِبتَهُمَا » على أنه خبر « كان » والاسم { أَنَّهُمَا فِي النار } .
وقرأ عبد الله ، وزيد بن علي ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : برفعه خبراً ، والظرف ملغى ، فيتعلق بالخبر ، وعلى هذا فيكون تأكيداً لفظيًّا للحرف ، وأعيد معه ضمير ما دخل عليه كقوله : { فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا } [ هود : 108 ] .
وهذا على مذهب سيبويه ، فإنه يجيز إلغاء الظرف وإن أكد .
والكوفيون يمنعونه ، وهذا حجة عليهم ، وقد يجيبون بأنا لا نسلم أن الظرف في هذه القراءة ملغى بل نجعله خبراً ل « أن » و « خالدان » خبر ثان ، وهو محتمل لما قالوا إلا أن الظاهر خلافه .
قال القرطبي : وهذه القراءة خلاف المرسوم .
وقوله : { وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين } أي : المشركين ، كقوله : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله } في أوامره ونواهيه ، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه . { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } يعني يوم القيامة ، والعرب تكني عن المستقبل بالغد .
وقيل : ذكر الغد تنبيهاً على أن الساعة قريبة؛ كقوله : [ الطويل ]
4754- وإنَّ غَداً للنَّاظرينَ قريبُ ... وقال الحسن وقتادة : قرب الساعة حتى جعلت كغد؛ لأن كل آت قريب ، والموت لا محالة آت . ومعنى « ما قدَّمتْ » أي : من خير أو شرّ .
ونكر النفس لاستقلال النفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة ، كأنه قال : فلتنظر نفس واحدة في ذلك ، ونكر الغد ، لتعظيمه وإبهام أمره ، كأنه قيل : الغد لا يعرف كنهه لعظمه .
وقرأ العامة بسكون لام الأمر في قوله : « ولتنظر » .
وأبو حيوة ويحيى بن الحارث بكسرها على الأصل .
والحسن : بكسرها ونصب الفعل ، جعلها لام « كي » ، ويكون المعلل مقدّراً ، أي : ولتنظر نفس حذركم وأعمالكم .
قوله تعالى : { واتقوا الله } تأكيد .
وقيل : كرر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى : أداء الفرائض لاقترانه بالعمل ، والثانية : ترك المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد ، قال معناه الزمخشري .
ثم قال : { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
قال سعيد بن جبير : { بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : بما يكون منكم .

قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ } .
العامة : على الخطاب ، وأبو حيوة : على الغيبة ، على الالتفات .
{ نَسُواْ الله } أي : تركوه { فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } أن يعملوا لها خيراً . قاله المقاتلان .
وقيل : نسوا حق الله ، فأنساهم حق أنفسهم . قاله سفيان .
وقيل : « نسُوا اللَّه » بترك ذكره وتعظيمه « فأنساهم أنفسَهُمْ » بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً . حكاه ابن عيسى .
وقيل : قال سهل بن عبد الله : « نَسُوا اللَّهَ » عند الذنوب « فَأنسَاهُم أنفُسهُمْ » عند التوبة .
وقيل : « أنْسَاهُمْ أنفسَهُمْ » أي : أراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم ، كقوله تعالى : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } [ إبراهيم : 43 ] ، { وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } [ الحج : 2 ] .
ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في « أنسَاهُمْ » إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه ، كقولك : أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً .
وقيل : « نَسُوا اللَّهَ » في الرخاء « فأنَساهُمْ أنفُسُهمْ » في الشدائد .
{ أولئك هُمُ الفاسقون } . قال ابن جبير : العاصون .
وقال ابن زيد : الكاذبون ، وأصل الفِسْق الخروج ، أي : الذين خرجوا عن طاعة الله .
قوله تعالى : { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة } أي : في الفضل والرتبة ، لما أرشد المؤمنين إلى ما هو مصلحتهم يوم القيامة ، بقوله : { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } وهدّد الكافرين بقوله : { كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } بين بهذه الآية الفرق بين الفريقين . واعلم أن الفرق بينهما معلوم بالضرورة ، وإنما ذكر الفرق في هذا الموضع للتنبيه على عظم ذلك الفرق ، ثم [ قال : { أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون } .
وهذا كالتفسير لنفي تساويهما .
و « هم » يجوز أن يكون فصلاً ، وأن يكون مبتدأ ، فعلى الأول : الإخبار بمفرد ، وعلى الثاني : بجملة .
ومعنى « الفَائِزُونَ » المقربون المكرمون .
وقيل : الناجون من النار ، ونظير هذه الآية قوله : { لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب } [ المائدة : 100 ] ، وقوله : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } [ السجدة : 18 ] ، وقوله : { أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار ] } [ ص : 28 ] .
فصل
احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة لا يدخل الجنة بهذه الآية ، قالوا : لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان ، [ فلو دخل صاحب الكبيرة الجنة لكان أصحاب الجنة وأصحاب النار يستويان ] ، وهو غير جائز وجوابه معلوم .
فصل في أن المسلم لا يقتل بالذمي
دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتلُ بالذمي كما هو مذكور في كتب الفقه . قوله تعالى : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله } .
وهذا حثّ على تأمل مواعظ القرآن ، وبيّن أنه لا عذر في ترك التدبر ، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبالُ مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه ، ورأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة ، أي : متشققة من خشية الله .

والخاشع : الذَّليل . والمتصدّع : المتشقق .
وقيل : « خاشعاً » لله بما كلفه من طاعته ، « متصدعاً » من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه .
وقيل : هو على وجه المثل للكفار .
قوله تعالى : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } .
أي : أنه لو أنزل القرآن على الجبل لخشع لوعده ، وتصدع لوعيده ، وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده ، ولا ترهبون من وعيده .
والغرض من هذا الكلام التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم ، ونظيره قوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] .
وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي : لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدع من نزوله عليه ، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له ، فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لم يثبت عليه الجبال .
وقيل : إنه خطاب للأمة ، وأن الله - تعالى - لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله ، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً ، فهو يقوم بحقه إن أطاع ، ويقدر على ردّه إن عصى؛ لأنه موعود بالثواب ، ومزجُور بالعقاب .
قوله : « خاشعاً » حال؛ لأن الرؤية بصرية .
وقرأ طلحة : « مصّدعاً » بإدغام التاء في الصاد .
قوله تعالى : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ } .
لما وصف القرآن بالعظم ، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف ، أتبع ذلك بشرح عظمة الله تعالى ، فقال : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه : عالم السر والعلانية .
وقيل : ما كان وما يكون .
وقال سهل : عالم بالآخرة والدنيا .
وقيل : « الغيب » ما لم يعلمه العباد ولا عاينوه ، و « الشَّهَادة » ما علموا وشهدوا .
وقوله : { الرحمن الرحيم } . تقدم مثله .
قوله تعالى : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس } .
قرأ أبو دينار وأبو السمال : « القَدُّوس » بفتح القاف .
[ قال الحسن : هو الذي كثرت بركاته ] .
والعامة : بضمها ، وهو المنزّه عن كل نقص ، والطَّاهر عن كل عيبٍ .
والقدَس - بالتحريك - السّطل بلغة أهل الحجاز ، لأنه يتطهر منه .
ومنه « القادوس » لواحد الأواني الذي يستخرج به الماء من البئر بالسانية .
وكان سيبويه يقول : « قَدُّوس ، وسبُّوح » بفتح أولهما .
وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يكنى أبا الدينار يقرأ : « القَدُّوس » بفتح القاف .
قال ثعلب : كل اسم على « فَعُّول » فهو مفتوح الأول ، مثل : سَفُّود ، وكَلُّوب ، وتَنُّور ، وسَمُّور ، وشَبُّوط ، إلا السُّبُّوح والقُدُّوس ، فإنَّ الضم فيهما أكثر ، وقد يفتحان ، وكذلك : الذروح بالضم .
قوله : « السَّلامُ » . أي : ذو السلامة من النقائص .
قال ابن العربي : اتفق العلماء على أنّ قوله : « السَّلامُ » النسبة ، تقديره : ذو السلامة ، ثم اختلفوا في ترجمة النسبة .

فقيل : معناه الذي سَلِمَ من كل عيب ، وبَرِىءَ من كل نقص .
وقيل : المسلم على عباده في الجنّة ، كما قال : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] .
وقيل : معناه الذي سلم الخلق من ظلمه . وهذا قول الخطابي .
قال القرطبي : وعلى هذا والذي قبله يكون صفة فعل ، وعلى الأول يكون صفة ذات .
وقيل : معناه : المسلم لعباده .
قوله : « المُؤمِنُ » .
أي : الذي أمن أولياؤه عذابهُ ، يقال : أمنه يؤمنه فهو مؤمن .
وقيل : المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ، ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب ، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب .
وقال مجاهد : المؤمن الذي وحَّد نفسه بقوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] .
وقرأ العامة : « المُؤمِن - بكسر الميم - اسم فاعل من آمن بمعنى أمن » .
وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، وقيل ابن القعقاع : بفتحها .
فقال الزمخشري : بمعنى المؤمن به ، على حذف حرف الجر ، كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] المختارون .
وقال أبو حاتم : لا يجوز ذلك ، أي : هذه القراءة؛ لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به ، وكان جائزاً ، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأمن ، فقد ردّ ما قاله الزَّمخشري .
فصل
قال ابن عباس : إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار ، وأول من يخرج من وافقه اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبقَ فيها من يوافق اسمه اسم نبي ، قال الله تعالى لباقيهم : أنتم المسلمون وأنا السلام ، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن ، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين .
قوله : { المهيمن العزيز } .
قيل : معنى المهيمن « الشاهد » الذي لا يغيب عنه شيء . وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل .
قال الخليل وأبو عبيدة : هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فهو مُهَيْمِنٌ ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله : { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [ المائدة : 48 ] .
وقال ابن الأنباري : « المُهَيْمِنُ » : القائم على خَلْقِه بقدرته .
وأنشد : [ الطويل ]
4755- ألاَ إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ ... مُهَيْمِنُهُ التَّاليهِ في العُرْفِ والنُّكْرِ
وقيل هو في الأصل : مُؤيمن فقلبت الهمزة هاء ، كقوله : « أرَقْت وهرقت » ومعناه : المؤمن . نقله البغوي .
وتقدم الكلام على « العَزِيز » .
قوله : « الجبَّارُ » .
استدل به من يقول : إن أمثلة المبالغة تأتي من المزيد على الثلاثة ، فإنه من « أجبره على كذا » ، أي قهره .
قال الفرَّاء : ولم أسمع « فعّالاً » من « أفعل » إلا في « جبَّار ودرَّاك » من أدرك انتهى واستدرك عليه : أسأر ، فهو سَئّار .
وقيل : هو من الجبر ، وهو الإصلاح .
وقيل : هو من قولهم : نخلة جبَّارة إذا لم ينلْها الجُناة .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4756- سَوَامِقَ جَبَّارٍ أثيثٍ فُرُوعُهُ ... وعَالَيْنَ قِنْوَاناً من البُسْرِ أحْمَرا

يعني النَّخْل التي فاتت اليد .
قال ابن الخطيب : فيه وجوه :
أحدها : أنه « فعّال » من جبر ، إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير .
قال الأزهري : « هو لعمري جابرٌ لكل كسيرٍ وفقير ، وهو جابر دينه الذي ارتضاه » .
قال العجاج - رحمه الله - : [ الرجز ]
4757- قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلَهُ فَجَبَرْ ... الثاني : أن يكون من جبره إذا أكرهه على ما أراده .
قال السديُّ : إنه هو الذي يقهر الناس ، ويجبرهم على ما أراده .
قال الأزهري : « هي لغة » تميم « ، وكثير من الحجازيين يقولونها » .
وكان الشافعي - رحمه الله - يقول : جبره السلطان على كذا ، بغير ألف .
الثالث : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الجبَّار هو الملك العظيم .
وقيل : الجبار الذي لا تُطاق سطوته .
قال الواحدي : هذا الذي ذكرنا من معاني الجبار في صفة الله تعالى ، وأما معاني الجبار في صفة الخلق فلها معان :
أحدها : المُسَلَّط ، كقوله : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] .
الثاني : العظيم الجسم ، كقوله تعالى : { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } [ المائدة : 22 ] .
والثالث : المتمرّد عن عبادة الله كقوله : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } [ مريم : 32 ] .
الرابع : القتال كقوله : { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ الشعراء : 130 ] وقوله : { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض } [ القصص : 19 ] .
قوله : { المتكبر } .
قال ابن عباس : الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله .
وقيل : المتكبر عن كل سوء ، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدوث والذم .
وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلّة الانقياد .
قال حميد بن ثور : [ الطويل ]
4758- عَفَتْ مِثْلَ مَا يَعْفُو الفَصِيلُ فأصْبَحَتْ ... بِهَا كِبْرِيَاءُ الصَّعْبِ وهي ذَلُولُ
قال الزجَّاج : وهو الذي تعظَّم عن ظلم عباده .
وقال ابن الأنباري : « المتكبر » ذو الكبرياء .
والكبرياء عند العرب الملك ، قال تعالى : { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض } [ يونس : 78 ] واعلم أن المتكبر في صفات الله مدح ، وفي صفات المخلوقين ذم .
قال - عليه الصلاة والسلام - يرويه عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال : « الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قصمته ثم قذفته في النار » .
وقيل : المتكبر معناه العالي .
وقيل : الكبير ، لأنه أجل من أن يتكلف كبراً .
وقد يقال : تظلّم بمعنى ظلم ، وتشتّم بمعنى شتم ، واستقر بمعنى قرّ ، كذلك المتكبر بمعنى الكبير ، وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف ب « تفعل » إذا نسب إلى ما لم يكن منه ، ثم نزّه نفسه فقال : { سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
كأنه قال : إن المخلوقين قد يتكبرون ، ويدّعون مشاركة الله في هذا الوصف ، لكنه سبحانه منزَّهٌ عن التكبر الذي هو حاصل للخلق؛ لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم ، فادعاؤهم الكبر يكون ضم نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي ، وأما الله - سبحانه وتعالى - فله العلو والعزّ ، فإذا أظهره كان ذلك ضمَّ كمال إلى كمال ، فسبُحانَ اللَّهِ عمَّا يشركُون في إثبات صفة المتكبريَّة للخلق .

قوله : { هُوَ الله الخالق البارىء } .
« الخَالقُ » هنا المقدر ، و « البَارِىءُ » المنشىء المخترع ، وقدم ذكر الخالق على البارىء؛ لأن الإرادة مقدمة على تأثير القدرة .
قوله : « المُصَوِّرُ » .
العامة : على كسر الواو ورفع الراء ، إما صفة وإما خبر .
وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسن بن السميفع ، وحاطب بن أبي بلتعة : بفتح الواو ونصب الراء . وتخريجها على أن يكون منصوباً ب « البَارِىءُ » .
و « المصوَّر » هو الإنسان إما آدم ، وإما هو وبنوه .
وعلى هذه القراءة يحرم الوقفُ على المصور ، بل يجب الوصل ليظهر النَّصب في الراء ، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز .
وروي عن أمير المؤمنين أيضاً : فتح الواو وجرّ الراء ، وهي كالأولى في المعنى إلا أنه أضاف اسم الفاعل لمعموله مخففاً نحو : « الضارب الرجل » .
والوقف على « المصوّر » في هذه القراءة أيضاً حرام ، وقد نبَّه عليه بعضهم .
وقال مكي : « ويجوز نصبه في الكلام ، ولا بد من فتح الواو فتنصبه ب » البارىء « ، أي : هو الله الخالق المصور ، يعني : آدم - عليه الصلاة والسلام - وبنيه » . انتهى . وكأنه لم يطلع على هذه القراءة .
وقال أيضاً : « ولا يجوز نصبه مع كسر الواو ، ويروى عن علي رضي الله عنه » .
يعني أنه إذا كسرت الواو ، وكان من صفات الله تعالى ، وحينئذ لا يستقيم نصبه عنده؛ لأن نصبه باسم الفاعل قبله .
وقوله : « ويروى » أي : كسر الواو ونصب الراء ، وإذا صح هذا عن أمير المؤمنين ، فيتخرج على أنه من القطع ، كأنه قال : أمدح المصور ، كقولهم : « الحَمْدُ للَّه أهل الحمد » بنصب أهل؛ وقراءة من قرأ : { اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ } بنصب « رب » .
قال مكي : و « المصور » مُفَعِّل « من » صَوّر يُصَوّر « ، ولا يحسن أن يكون من » صار يصير « ، لأنه يلزم منه أن يقال : المصير ، بالياء » .
وقيل : هذا من الواضحات ولا يقبله المعنى أيضاً .
وقدم « البارىء » على « المصور » لأن إيجاد الذوات مقدّم على إيجاد الصفات ، فالتصوير مرتب على الخلق والبراية وتابع لهما ، ومعنى التصوير : التخطيط والتشكيل ، وخلق الله الإنسان في بطن أمه ثلاثَ خلق ، جعله علقة ثم مضغة ثم جعله صورة ، وهو التشكيل الذي يكون به ذا صورة يعرف بها ويتميز عن غيره ، فتبارك الله أحسنُ الخالقين .
قوله : { لَهُ الأسمآء الحسنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } تقدم نظيره .
روى أبو هريرة - رضي الله عنه - : قال :

« سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم ، فقال : » عليْكَ بأواخر سُورةِ الحَشْرِ ، فأكثر قراءتهَا « فأعَدْتُ عليْهِ فأعَادَ عليَّ » .
وقال جابر بن زيدٍ : إنَّ اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية .
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مَنَ قَرَأ سُورَة الحَشْرِ غُفِرَ الله لَهُ ما تقدَّمَ من ذَنبه ومَا تأخَّر » .
وعن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنَ قَرَأ خَواتِيمَ سُورة الحَشْرِ في لَيلٍ أو نهارٍ ، فقبضهُ اللَّهُ في تلْكَ اللَّيلةِ أو ذلِكَ اليَوْمِ فَقَدْ أوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الجنَّة » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } الآية .
وجه تعلق أول هذه السورة بآخر ما قبلها ، هو أن آخر تلك السورة تشتمل على الصفات الجميلة [ اللائقة بحضرة الله - تعالى - من الوحدانية وغيرها ] ، وأول هذه السورة يشتمل على حرمة الاختلاط مع من لم يعترف بتلك الصفات .
قوله : { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } .
هذان مفعولا الاتخاذ .
و « العَدو » لما كان بزنةِ المصادر وقع على الواحد فما فوق .
وأضاف العدو لنفسه تغليظاً في جرمهم .
روى مسلم عن علي - رضي الله عنه - قال : « بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد ، فقال : » ائْتُوا روضة « خَاخٍ » فإنَّ بِهَا ظعينةً معها كتابٌ فخذُوهُ مِنْهَا « فانطلقنا تُعادي بنا خيلنَا ، فإذا نحن بالمرأة ، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ولدت إبراهيم بن عبد الرحمن ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فقلنا : لتُخرجنَّ الكتاب أو لنلقينَّ الثياب فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل » مكة « يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حاطب ما هذا؟ فقال : لا تَعْجَلْ عليَّ يا رسول الله ، إني كنت أمرأً ملصقاً في قريش - قال سفيان : يقول : كنت حليفاً - ولم أكن من أنفسها ، وكان ممن معك من المهاجرين من له قرابات يحمون أهليهم وأموالهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النَّسَب أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي ، ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أمَا إنَّهُ قَدْ صَدقَكُمْ « ، فقال عمر : يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : إنَّهُ شهد بَدْراً ، ومَا يُدْريك لعلَّ اللَّه اطلع على مَنْ شَهِدَ بَدْراً ، فقال : اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » ، فأنزل الله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } إلى قوله : { سَوَآءَ السبيل } .
قيل : اسم المرأة سارة من موالي قريش ، وكان في الكتاب : « أما بعد ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل ، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم ، وأنجز له وعده فيكم ، فإن الله وليه وناصره » .
وقيل : « إن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت [ المدينة من مكة ورسول الله ] يتجهز لفتح مكة . قيل : كان هذا زمن الحديبية ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهاجرةً جئت يا سارة؟ قالت : لا ، قال : أمسلمة جئت؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة ، وقد ذهبت الموالي - تعني قُتِلُوا يوم بدر - وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني ، فقال عليه الصلاة والسلام : فأيْنَ أنت عَن شَبابِ أهْلِ مكَّة؟ - وكانت مغنيةً نائحةً قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدرٍ ، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها ، فكسوها وحملوها وأعطوها ، فخرجت إلى مكة ، وأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى ، وقال : أعطيك عشرة دنانير ، وبُرداً على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل » مكَّة « ، وكتب في الكتاب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم ، فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ، ونزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث عليّاً والزبير والمقداد وأبا مرثد الغنوي ، وفي رواية : عليّاً وعمار بن ياسر ، وفي رواية : عليّاً وعماراً وعمراً والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد ، وكانوا كلهم فرساناً ، وقال لهم : انطلقوا حتى تأتوا روضة » خاخ « ، فإن بها ظعينة ، ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فخذوه منها وخلُّوا سبيلها ، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها ، فأدركوها في ذلك المكان ، فقالوا : أين الكتاب؟ فحلفت باللَّه ما معها كتاب ، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع ، فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذَّبنا وسلَّ سيفه ، وقال أخرجي الكتاب وإلا والله لأجرّدنّكِ ولأضربن عنقك ، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها قد خبأته في شعرها - وفي رواية في حُجزتِهَا - فخلُّوا سبيلها ، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى حاطب ، فقال : هل تعرف هذا الكتاب؟ قال : نعم ، وذكر الحديث »

فصل في النهي عن موالاة الكفار
هذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكُفَّار ، وقد تقدم نظيره ، كقوله : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ } [ آل عمران : 28 ] . وقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } [ آل عمران : 118 ] { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 51 ] .
روي أن حاطباً لما سمع { ياأيها الذين آمَنُواْ } غشي من الفرح بخطاب الإيمان .
قوله : « تُلقُون » . فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه تفسير لموالاتهم إياها .
الثاني : أنه استئناف إخبار بذلك ، فلا يكون للجملة على هذين الوجهين محلّ من الإعراب .
الثالث : أنها حال من فاعل « تتَّخذُوا » أي : لا تتخذوا ملقين المودّة .
الرابع : أنها صفة لأولياء .
قال الزمخشري : « فإن قلت : إذا جعلته صفة وقد جرى على غير من هو له ، فأين الضمير البارز ، وهو قولك : تلقون إليهم أنتم بالمودّة؟ .
قلت : ذاك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال ولو قيل : أولياء ملقين إليهم بالمودة على الوصف لما كان بُدّ من الضمير البارز » .

وقد تقدمت هذه المسألة مستوفاة ، وفيها كلام مكي وغيره .
إلا أن أبا حيّان اعترض على كونها صفة أو حالاً ، بأنهم نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقاً في قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 51 ] ، والتقييد بالحال والوصف يوهم جواز اتخاذهم أولياء إذا انتفى الحال أو الوصف .
قال شهاب الدين : « ولا يلزم ما قال ، لأنه معلوم من القواعد الشرعية ، فلا مفهوم لها ألبتة » .
وقال الفرَّاء : « تلقون » من صلة « أولياء » .
وهذا على أصولهم من أن النكرة توصل لغيرها من الموصولات .
قوله : « بِالمَودَّةِ » . في الباء ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الباء مزيدة في المفعول به ، كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] ، وقوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } [ الحج : 25 ] .
والثاني : أنها غير مزيدة ، والمفعول محذوف ، ويكون معنى الباء : السببية ، كأنه قيل : تلقون إليهم أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره بسبب المودة التي بينكم وبينهم . قاله الزجاج .
الثالث : أنها متعلقةٌ بالمصدر الدال عليه « تلقون » أي : إلقاؤهم بالمودة .
نقله الحوفي عن البصريين [ وجعل القول بزيادة الباء قول الكوفيين .
إلا أنَّ هذا الذي نقله عن البصريين ] لا يوافق أصولهم ، إذ يلزم منه حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز عندهم ، وأيضاً فإن فيه حذف الجملة برأسها ، فإن « إلقاءهم » مبتدأ ، و « بالمَودَّةِ » متعلق به ، والخبر أيضاً محذوف ، وهذا إجحاف .
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب : في الآية مباحث .
الأول : اتخاذ العدو أولياء ، كيف يمكن ، والعداوة منافية للمحبة؟ .
والجواب : لا يبعد أن تكون العداوة بالنسبة إلى أمر آخر ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 28 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : « أوْلادُنَا أكْبَادُنَا »
الثاني : لم قال : { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ } ولم يقل بالعكس؟ .
والجواب : أنَّ العداوة بين المؤمن والكافر بسبب محبّة الله ومحبَّة رسوله - عليه الصلاة والسلام - فتكون محبة العبد من أصل الإيمان بحضرة الله تعالى لعلةٍ ، ومحبة حضرة الله - تعالى - للعبد لا لعلة ، والذي لا لعلة مقدم على الذي لعلة؛ ولأن الشيء إذا كانت له نسبة إلى الطرفين ، فالطرف الأعلى مقدم على الأدنى .
الثالث : قال : « أولياء » ، ولم يقل : ولي العدو أو العدو معرفاً؟ .
فالجواب : أن المعرف بحرف التعريف يتناول كل فرد ، فكذلك المعرف بالإضافة .
فصل
قال القرطبي : قوله : { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } يعني بالظَّاهر ، لأن قلب حاطب كان سليماً بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : « أمَّا صَاحبُكمْ فقدْ صَدَقَ » ، وهذا نصٌّ في سلامة فؤاده ، وخلوص اعتقاده .
فصل فيمن تطلع على عورات المسلمين
قال القرطبي : من كثر تطلّعه على عورات المسلمين ، وينبه عليهم ، ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافراً إذا كان فعله ذلك لغرض دنيوي ، واعتقاده على ذلك سليم ، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ، ولم ينو الردة عن الدين .

وإذا قيل : بأنه لا يكون كافراً بذلك فهل يقتل حدًّا أم لا؟ فقال مالك وابن القاسم وأشهب : يجتهد الحاكم الإمام في ذلك .
وقال عبد الملك : إذا كانت عادته تلك قُتِلَ لأنه جاسوس ، وقد قال مالك : يقتل الجاسوس لإضراره بالمسلمين ، وسعيه بالفساد في الأرض ، ولعل ابن الماجشون إنما أخذ التكرار في هذا؛ لأن حاطباً أخذ في أول فعله ، فإن كان الجاسوس كافراً ، فقال الأوزاعي : يكون نقضاً لعهده ، وقال : الجاسوس الحربي يقتل ، والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا أن يظاهرا على الإسلام فيقتلان .
وقد روي عن عليٍّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - « أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بعين للمشركين اسمه : فُرات بن حيَّان ، فأمر به أن يقتل ، فصاح : يا معشر الأنصار ، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله؟ فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فخلي سبيله ، ثم قال : » إنَّ مِنكُمْ من أكِلُهُ إلى إيمانِهِ ، مِنْهُمْ فُراتُ بنُ حيَّانَ «
قوله : » وقَدْ كَفرُوا « . فيه أوجه :
أحدها : الاستئناف .
الثاني : حال من فاعل » تتخذوا « .
الثالث : حال من فاعل » تلقون « ، أي : لا تتولَّوهم أو لا توادوهم وهذه حالهم .
وقرأ العامة : » بما « - بالباء - ، والجحدري وعاصم في رواية : » لما « - باللام - أي : لأجل ما جاءكم من الحق ، فعلى هذا الشيء المكفور به غير مذكور ، وتقديره : كفروا بالله ورسوله .
قوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } .
يجوز أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون تفسيراً لكفرهم ، فلا محلَّ لها على هذين ، وأن يكون حالاً من فاعل » كَفَرُوا « .
قوله : » وإيَّاكُمْ « . عطف على » الرَّسُول « وقدّم عليهم تشريفاً له .
وقد استدل به من يجوز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله ، إذ كان يجوز أن يقال : يخرجونكم والرسول ، فيجوز : يخرجون إياكم والرسول في غير القرآن .
وهو ضعيف ، لأن حالة تقديم الرسول دلالة على شرفه ، لا نسلم أنه يقدر على اتصاله .
وقد تقدم الكلام على هذه الآية عند قوله تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله } في سورة النساء [ 131 ] .
قوله : { أَن تُؤْمِنُواْ } مفعول له ، وناصبة » يخرجون « أي : يخرجونكم لإيمانكم أو كراهة إيمانكم .
فصل
قال القرطبي : { أن تؤمنوا بالله } تعليل ل » يخرجون « والمعنى : يخرجون الرسول ، ويخرجونكم من » مكة « لأن تؤمنوا بالله ، أي : لأجل إيمانكم بالله .
قال ابن عباس : وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم .

وقيل : إن الكلام فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي .
وقيل : في الكلام حذف ، والمعنى : إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي ، وابتغاء مرضاتي [ فلا تلقوا إليهم بالمودة .
وقيل : { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي } ] شرط وجوابه مقدم ، والمعنى : إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي فلا تتَّخذوا عدوي وعدوكم أولياء .
قال أبو حيان : { إِن كُنتُم خَرَجْتُمْ } جوابه محذوف عند الجمهور لتقدم « لا تتخذوا » وتقدم ، وهو « لا تتخذوا » عند الكوفيين ومن تابعهم .
قال الزمخشري : و { إن كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ } متعلق ب « لا تتخذوا » يعني : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي ، وقول النحويين في مثله : هو جواب شرط ، جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه انتهى .
يريد : أنه متعلق به من حيث المعنى ، وأما من حيث الإعراب ، فكما قال جمهور النحويين .
قوله : { جِهَاداً فِي سَبِيلِي } { وابتغآء مَرْضَاتِي } يجوز أن ينتصبا على المفعول له ، أي : خرجتم لأجل هذين ، أو على المصدر بفعل مقدر أي : تجاهدون وتبتغون ، أو على أنهما في موضع الحال .
قوله : « تُسِرُّونَ » .
يجوز أن يكون مستأنفاً ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
ويجوز أن يكون حالاً ثانية مما انتصب عنه « تلقون » حالاً .
ويجوز أن يكون بدلاً من « تلقون » . قاله ابن عطية .
والأشبه أن يكون بدل اشتمال ، لأن إلقاء المودة يكون سرًّا وجهراً ، فأبدل منه هذا للبيان بأيّ نوع وقع الإلقاء .
قال القرطبي : « تُسِرُّونَ » بدل من « تُلْقُونَ » ومبين عنه ، والأفعال تبدل من الأفعال كما قال تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب } [ الفرقان : 68 ، 69 ] .
وأنشد سيبويه : [ الطويل ]
4759 - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَضرَّمَا
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : أنتم تسرون . قاله ابن عطية .
ولا يخرج عن معنى الاستئناف .
وقال أبو البقاء : « هو توكيد ل » تلقون « بتكرير معناه » .
قال شهاب الدين : « وفيه نظر ، لأن الإلقاء أعم من أن يكون سرًّا وجهراً » .
وتقدم الكلام على الباء في قوله : « بالمودَّة » .
قوله : { وَأَنَاْ أَعْلَمُ } .
هذه الجملة حال من فاعل « تُسِرُّونَ » ، أي : وأيُّ طائلٍ لكم في إسراركم ، وقد علمتم أن الإسرار والإعلان سيان في علمي .
و « أعْلَمُ » ، يجوز أن يكون أفعل تفضيل ، وهو الظاهر ، أي : أنا أعلم من كل أحد بما يخفون ، وما يعلنون .
وأن يكون فعلاً مضارعاً .
قاله ابن عطية ، وعُدِّي بالباء ، لأنك تقول : علمت بكذا ، وعلمت كذا فتكون زائدة .
وقيل : وأنا أعلم من كل أحد كما يقال : فلان أعلم وأفضل من غيره .

[ فإن قيل : لم قدم العلم بالإخفاء على العلم بالإعلان مع أن ذلك مستلزم لهذا من غير عكس؟ .
فالجواب هذا بالنسبة إلى علمنا ، لا بالنسبة إلى علمه - تعالى - إذ هما سيّان في علمه تعالى؛ لأن المقصود بيان ما هو الإخفاء ، وهو الكفر ، فيكون مقدماً .
فإن قيل : لم لم يقل : بما أسررتم ، ثم وما أعلنتم ، مع أنه أليق بما سبق في قوله : « تُسِرُّونَ؟ » فالجواب : أن فيه من المبالغة ما ليس في ذلك ، فإنَّ الإخفاء أبلغ من الإسرار بدليل قوله : { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] ، أي : أخفى من السِّر ] .
فصل في معاتبة حاطب
قال القرطبي : وهذا كله معاتبة لحاطب ، وهو يدل على فضله وكرامته ، ونصيحته للرسول صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه؛ فإن المعاتبة لا تكون إلا من محبٍّ لحبيب؛ كما قال : [ الوافر ]
4760 - إذَا ذَهَبَ العِتَابُ فليْسَ وُدٌّ ... ويَبْقَى الودُّ مَا بَقِيَ العِتَابُ
فصل في المراد بالمودة
والمراد بالمودّة في الآية النصيحة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : وأنا أعلم بما أخفيتم في صدوركم ، وما أظهرتم بألسنتكم من الإقرار والتوحيد .
{ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ } أي : من يسر إليهم ويكاتبهم { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } أي : أخطأ طريق الهدى .
قوله : « ومَن يفعلهُ » . في الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه يعود على الإسرار؛ لأنه أقرب مذكور .
والثاني : يعود على الاتِّخاذ . قاله ابن عطية .
قوله : { سَوَآءَ السبيل } .
يجوز أن يكون منصوباً على الظرف ، إن قلنا : ضلَّ قاصر .
وأن يكون مفعولاً به ، إن قلنا : هو متعد .
[ فإن قيل : ما الفائدة في قوله « مِنكُمْ » ، ومن المعلوم أن من فعل هذا ، فقد ضل سواء السبيل؟
فالجواب : إن كان المراد من قوله : « مِنْكُمْ » هم المؤمنون فظاهر ، لأن من يفعل ذلك لا يلزم أن يكون مؤمناً ] .

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)

قوله : { إِن يَثْقَفُوكُمْ } يلقونكم ويصادفونكم ، ومنه المثاقفة ، أي : طلب مصادفة [ الغرة ] في المسايفة وشبهها .
وقيل : « يثقفوكم » : يظفروا بكم ويتمكنوا منكم { يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء } أي : بالضَّرب والشَّتم .
قوله : { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } .
في « ودوا » وجهان :
أحدهما : أنه معطوفٌ على جواب الشرط ، وهو قوله : « يَكُونُوا » و « يَبْسطُوا » قاله الزمخشري .
ثم رتب عليه سؤالاً وجواباً ، فقال : « فإن قلت : كيف أورد جواب الشَّرط مضارعاً مثله ، ثم قال : » ودوا « بلفظ الماضي؟ .
قلت : الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب ، فإن فيه نكتة ، كأنه قيل : ودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم ، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا مضار الدنيا والآخرة جميعاً » .
والثاني : أنه معطوف على جملة الشَّرط والجزاء ، ويكون تعالى قد أخبر بخبرين بما تضمنته الجملة الشرطية ، وموادتهم كفر المؤمنين .
ورجح أبو حيان هذا ، وأسقط به سؤال الزمخشري وجوابه ، فقال : « وكأن الزمخشري فهم من قوله : » ووَدُّوا « أنه معطوف على جواب الشرط ، والذي يظهر أنه ليس معطوفاً عليه؛ لأن ودادتهم كفرهم ليست مرتبة على الظفر بهم والتسليط عليهم ، بل هم وادُّون كفرهم على كل حال سواء ظفروا بهم أم لم يظفروا » انتهى .
قال شهاب الدين : « والظَّاهر أنه عطف على الجواب ، وقوله : هم وادُّون ذلك مطلقاً مسلم ، لكن ودَادَتَهُم له عند الظَّفر والتسليط أقرب وأطمع لهم فيهم » .
وقوله : { لَوْ تَكْفُرُونَ } .
يجوز أن يكون لما سيقع لوقوع ، وأن تكون المصدرية عند من يرى ذلك .
وتقدم تحريرهما في البقرة .
فصل في معنى الآية
والمعنى : ودوا لو تكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا تناصحوهم ، فإنهم لا يناصحونكم .

لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)

قوله : { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ } .
لما اعتذر حاطب بأن له أرحاماً وأولاداً فيما بينهم بيَّن الله - تعالى - أن الأهل والأولاد لا ينفعون شيئاً يوم القيامة إن عصى من أجل ذلك .
{ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } فيدخل المؤمنين الجنة ، ويدخل الكافرين النار { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
قوله : { يَوْمَ القيامة } يجوز فيه وجهان .
أحدهما : أن يتعلق بما قبله ، أي : لن ينفعكم يوم القيامة ، فيوقف عليه ، ويبتدأ { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } .
والثاني : أن يتعلق بما بعده ، أي : يفصل بينكم يوم القيامة ، فيوقف على « أولادكم » ويبتدأ { يَوْمَ القيامة } .
والقراء في { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } على أربع مراتب :
الأولى : لابن عامر : بضم الياء وفتح الفاء والصاد مثقلة .
الثانية : مثقلة إلا أنه بكسر الصاد للأخوين .
الثالثة : بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد مخففة لعاصم .
الرابعة : بضم الياء وسكون الفاء وفتح الصاد مخففة للباقين ، وهم نافع وابن كثير ، وأبو عمرو ، وهذا في السبعة .
وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة : بضم الياء وكسر الصاد مخففة وسكون الفاء مخففة من « أفْصَلَ » .
وأبو حيوة أيضاً : « نُفْصِلُ » بضم النون ، من « أفصل » .
والنخعي وطلحة : « نُفَصِّلُ » بضم النون وفتح الفاء وكسر الصَّاد مشددة .
وقرأ أيضاً وزيد بن علي : « نَفْصِلُ » بفتح النون وسكون الفاء وكسر الصاد مخففة فهذه أربع ، فصارت ثماني قراءات .
فمن بناه للمفعول ، فالقائم مقام الفاعل إما ضمير المصدر ، أي : يفصل الفصل ، أو الظرف ، وبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن ، كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] في أحد الأوجه ، أو الظرف وهو باقٍ على نصبه كقولك : جُلِسَ عندك . ثم قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، وفيه سؤال ، وهو أنه لِمَ لَمْ يَقُلْ : خبير مع أنه أبلغ في العلم بالشيء؟
والجواب : أنَّ الخبير أبلغ في العلم ، والبصير أشهر منه فيه ، فإنه يجعله كالمحسُوس بحس البصر .

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)

قوله تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ } الآية .
لما نهى عن مُوالاةِ الكُفَّار ذكر قصة إبراهيم ، وأن من سيرته التَّبرؤ من الكُفَّار ، أي : فاقتدوا به إلاَّ في الاستغفار لأبيه .
والأسْوَةُ والإسوةُ ما يتأسّى به مثل القُدوة والقِدوة ، ويقال : هو أسوتك أي مثلك وأنت مثله وتقدم قراءة « أسوة » في سورة « الأحزاب » والكلام على مادتها .
قوله : { في إِبْرَاهِيمَ } . في أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب « أسوة » ، تقول : لي أسوة في فلان ، ومنع أبو البقاء أن يتعلق بها لأنها قد وصفت .
وهذا لا يبالى به لأنه يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره .
الثاني : أنه متعلق ب « حسنة » تعلق الظرف بالعامل .
الثالث : أنه نعتٌ ثانٍ ل « أسوة » .
الرابع : أنه حال من الضمير المستتر في « حسنة » .
الخامس : أن يكون خبر « كَانَ » و « لَكُمْ » تبيين .
قوله : { والذين مَعَهُ } يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين .
وقال ابن زيدٍ : هم الأنبياء .
قوله : { إِذْ قَالُواْ } . فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر « كان » .
والثاني : أنه متعلق بخبرها .
قالهما أبو البقاء .
ومن جوز في « كان » أن تعمل في الظرف علقه بها ، والمراد بقومهم : الكفار .
قوله : { إِنَّا بُرَءآؤ } .
هذه قراءة العامة - بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين - جمع « بريء » ، نحو « كرماء » في نحو « كريم » .
وعيسى أيضاً وأبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف .
وفيه أوجه :
أحدها : أنه جمع بريء أيضاً ، والأصل كسر الباء ، وإنما أبدل من الكسرة ضمَّة ك « رُخَال ، ورُبَاب » قاله الزمخشري .
الثاني : أنه جمع « بريء » أيضاً وأصله : « برآء » كالقراءة المشهورة إلاَّ أنه حذف الهمزة الأولى تخفيفاً . قاله أبو البقاء .
الثالث : أنه اسم جمع ل « بريء » نحو : « تؤام ، وظؤار » اسمي جمع ل « توأم ، وظِئْر » .
وقرأ عيسى أيضاً بفتح الباء وهمزة بعد ألف ، كالتي في « الزخرف » ، وصح ذلك لأنه مصدر ، والمصدر يقع على الجمع كوقوعه على الواحد .
قال الزمخشري : « والبراء والبراءة كالظماء والظماءة » .
وقال مكي : وأجاز أبو عمرو وعيسى بن عمر : « بِراء » - بكسر الباء - جعلاه ك « كريم وكرام » .
قال القرطبي : هو على وزن « فِعَال » مثل : « قِصَار وقصير » ، و « طِوَال وطويل » و « ظراف وظريف » ويجوز ترك الهمزة حتى تقول برآ وتنون .
وأجاز الفراء : بفتح الباء ، ثم قال : « وبراءُ » في الأصل مصدر .

كأنه لم يطلع على أنها قراءة منقولة .
فصل في الاقتداء بسيدنا إبراهيم .
قال القرطبي : « الآية نصّ في الأمر بالاقتداء بإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في فعله ، وذلك يدلّ على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله » .
قوله : { كَفَرْنَا بِكُمْ } ، أي بما آمنتم به من الأوثان .
وقيل : بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن يكونوا على حق ، { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء أَبَداً } أي : هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم حتى تؤمنوا بالله وحده ، فحينئذ تنقلب المعاداةُ موالاة .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله : { تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ } ، والإيمان إنما هو باللَّهِ وبغيره كقوله : { كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] .
فالجواب : أن الإيمان بالله وحده مستلزمٌ للإيمان بالملائكة والكتب والرسل .
قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ } فيه أوجه :
أحدها : أنه استثناء متصل من قوله : « في إبراهيم » ولكن لا بد من حذف مضاف ليصح الكلام ، تقديره : في مقالات إبراهيم إلا قوله كيت وكيت .
الثاني : أنه مستثنى من { أًسْوَةٌ حَسَنَةٌ } وجاز ذلك؛ لأن القول أيضاً من جملة الأسوة؛ لأن الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله ، فكأنه قيل : لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا .
وهذا واضح؛ لأنه غير مُحوجٍ إلى تقدير مضاف وغير مخرجٍ للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع ، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره .
قال : فإن قلت : ممَّ استثني قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ }
قلت : من قوله « أسْوةٌ حسَنةٌ »؛ لأنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يتأسَّوا به ، ويتخذوه سنة يستنون بها .
فإن قلت : فإن كان قوله « لأسْتغفِرنَّ لَكَ » مستثنى من القول الذي هو « أسْوةٌ حَسَنةٌ » فما بال قوله : { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } وهو غير حقيق بالاستثناء ، ألا ترى إلى قوله : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً } [ الفتح : 11 ] .
قلت : أراد استثناء جملة قوله : « لأبيهِ » والقصد إلى موعد الاستغفار له ، وما بعده مبني عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك ، وما في طاقتي إلاَّ الاستغفار .
الثالث : قال ابن عطية : « ويحتمل أن يكون الاستثناء من التَّبري والقطيعة التي ذكرت أي : لم تبق صلة إلا كذا ، والله أعلم » .
الرابع : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن قول إبراهيم .
وهذا بناء من قائليه على أنَّ القول لم يندرج تحت قوله : « أسْوَةٌ » ، وهو ممنوع .
فصل
قال القرطبي : معنى قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } أي : فلا تتأسَّوا به في الاستغفار ، فتستغفرون للمشركين ، فإنه كان عن موعدة منه له .
قاله قتادة ومجاهد وغيرهما .
وقيل : معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه ، ثم بين عذره في سورة « التوبة » ، وفي هذا دلالة على تفضيل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء؛ لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمِرْنا أمراً مطلقاً في قوله :

{ وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] ، وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثني بعض أفعاله ، وذلك إنما جرى؛ لأنه ظن أنه أسلم ، فلما بان أنه لم يسلم تبرَّأ منه ، وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم ، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظَّن فلم توالوهم؟ .
قوله : { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } هذا من قول إبراهيم لأبيه ، أي : ما أدفع عنك من عذاب الله شيئاً إن أشركت به .
قوله : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } .
يجوز أن يكون من مقول إبراهيم والذين معه ، فهو من جملة الأسوة الحسنة ، وفصل بينهما بالاستثناء ، ويجوز أن يكون منقطعاً مما قبله على إضمار قول ، وهو تعليم من الله تعالى لعباده ، كأنه قال لهم : قولوا : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } أي : اعتمدنا { وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } أي : رجعنا { وَإِلَيْكَ المصير } أي : الرجوع في الآخرة .
{ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } . أي : ولا تظهر عدوَّنا علينا ، فيظنوا أنهم على حقّ . فيفتنوا بذلك وقيل : لا تسلّطهم علينا ، فيقتلوننا ويعذبوننا .
وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك .
وقيل : لا تبسط [ عليهم ] الرزق دوننا ، فإن ذلك فتنة لهم .
وقيل : { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } أي : عذاباً أي : سبباً يعذب به الكفرة ، وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام : { واغفر لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } .
قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ } أي : في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء « أسْوةٌ حَسَنةٌ » أي : في التَّبرِّي من الكُفَّار .
وقيل : كرر للتأكيد .
وقيل : نزل الثاني بعد الأول بمدة .
قال القرطبي : وما أكثر المكررات في القرآن على هذا الوجه .
قوله : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله } .
بدل من الضمير في « لكُمْ » بدل بعض من كل ، وقد تقدَّم مثله في « الأحزاب » .
والضمير في « فيهم » عائد على « إبراهيم » ومن معه ، وكررت « الأسوة » تأكيداً .
وفيه بيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ، ويخاف عذاب الآخرة ، { وَمَن يَتَوَلَّ } أي : يعرض عن الإيمان ويتول الكُفَّار { فَإِنَّ الله هُوَ الغني } عن خلقه ، أي : لم يتعبدهم لحاجته إليهم { الحميد } إلى أوليائه وأهل طاعته .
وقيل : الحميد في نفسه وصفاته .
قوله تعالى : { عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } .
قال المفسرون : لمَّا نزلت الآية الأولى عادى المسلمين أقرباؤهم من المشركين ، فعلم الله شدّة وجد المسلمين في ذلك فنزلت : { عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } أي : من كفار « مكة » ، وقد فعل الله ذلك؛ لأن « عَسَى » من الله وعد ، ولا يخلف الله وعدهُ ، وهذا بأن يسلم الكافر ، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح « مكة » ، وخالطهم المسلمون كأبي سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام .

وقيل : المودة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فلانت عندئذ عريكة أبي سفيان .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : كانت المودّة بعد الفتح تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان قال ابن عباس : وكانت تحت عبد الله بن جحشٍ ، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة ، فأما زوجها فتنصَّر ، وسألها أن تتابعه على دينه ، فأبت وصبرت على دينها ، ومات زوجها على النصرانية ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها ، فقال النجاشي لأصحابه : من أولاكم بها؟ قالوا : خالد بن سعيد بن العاص ، قال : فزوجها من نبيكم ففعل وأمهرها النجاشي من عنده أربعمائة دينار .
وقيل : خطبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفَّان ، فلما زوجه إياها بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فيها ، فساق عنه المهر ، وبعث بها إليه ، فقال أبو سفيان وهو مشرك لما بلغه تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته : وذلك الفحل لا يقدع أنفه .
قال ابن الأثير : « يقال : قدعت الفحل وهو أن يكون غير كريم ، فإذا أراد ركوب الناقة الكريمة ضرب أنفه بالرمح وغيره حتى يرتدع وينكبّ ، ويروق بالراء » .

لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)

قوله تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين } الآية .
هذه الآية رخصة من الله - تعالى - في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم .
قال ابن زيد : كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ .
قال قتادة : نسختها : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] .
وقيل : كان هذا الحكم لعلة ، وهي الصلح فلما زال الصُّلح بفتح « مكة » نسخ الحكم ، وبقي الرسم يتلى .
وقيل : هي مخصوصة في خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه . قاله الحسن .
قال الكلبي : هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف ، وهو قول أبي صالح .
وقال مجاهد : هي مخصوصة في الذين آمنوا ، ولم يهاجروا .
وقيل : يعني به النساء والصبيان؛ لأنهم ممن لا يقاتل ، فأذن الله في برهم .
وقال أكثر أهل التأويل : هي محكمة ، « واحتجُّوا بأن أسماء بن أبي بكر سألت النبي صلى الله عليه وسلم : هَلْ تَصِلُ أمَّهَا حين قدِمتْ عليْهَا مُشْرِكةً؟ قال : » نَعَمْ « » خرجه البخاري ومسلم .
وقيل : إن الآية نزلت فيها .
وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه : أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - طلق امرأته قتيلة في الجاهلية ، وهي أم أسماء بنت أبي بكر ، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله فذكرت ذلك له ، فأنزل الله تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين } ذكر هذا الخبر الماوردي وغيره ، وخرجه أبو داود الطَّيالسي في مسنده .
قوله : { أَن تَبَرُّوهُمْ } وقوله : { أَن تَوَلَّوْهُمْ } بدلان من الذين قبلهما بدل اشتمال ، فيكون في موضع جرّ .
والمعنى : لا ينهاكم الله عن أن تبروا هؤلاء الذين لم يقاتلوكم ، إنما ينهاكم عن تولي هؤلاء وهم خزاعة ، صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألاَّ يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً ، فأمر ببرهم والوفاء لهم إلى أجلهم . حكاه الفرَّاء .
وقوله : { وتقسطوا إِلَيْهِمْ } . أي : تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة ، وليس يريد به من العدل ، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل ، قاله ابن العربي .
فصل في نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر .
نقل القرطبي عن القاضي أبي بكر في كتاب « الأحكام » له : أن بعض العلماء استدلّ بهذه الآية على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر ، قال : وهذه وهلة عظيمة ، إذ الإذن في الشيء ، أو ترك النهي عنه لا يدل على وجوب ، وإنما يعطي الإباحة خاصة؛ وقد بيَّنَّا أنَّ القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه ، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك ، فتلا هذه الآية عليهم « .

إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

قوله تعالى : { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين } أي : جاهدوكم على الدين { وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ } وهم عتاة أهل « مكة » ، { وَظَاهَرُواْ } أي : عاونوا { على إِخْرَاجِكُمْ } وهم مشركوا مكة { أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ } أي : يتخذهم أولياء وأنصاراً وأحباباً { فأولئك هُمُ الظالمون } .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } الآية لما أمر المسلمين بترك موالاة [ المشركين ] اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبين أحكام مهاجرة النساء .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : جرى الصُّلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل « مكة » رده إليهم ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها - وكان كافراً - وهو صيفي بن راهب .
وقيل : مسافر المخزومي ، فقال : يا محمد ، اردد عليّ امرأتي فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وقيل : « جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها .
وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ، ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله إخوتها ، وحبسها فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ردها علينا للشرط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كان الشَّرط في الرجال لا في النساء » ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وعن عروة قال : كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية ألاَّ يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه فكرهَ المؤمنون ذلك ، وأبى سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدة وإن كان مسلماً ، حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل ، يومىء إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك .
وقيل : إن التي جاءت أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ ، ففرت منه ، وهو يومئذ كافرٌ ، فتزوَّجها سهيل بن حنيف ، فولدت له عبد الله . قاله زيد بن حبيب ، نقله الماورديّ .
وأكثر أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة .
قوله : { المؤمنات } . تسمية للشيء بما يدلي إليه ويقاربه ويشارفه؛ أو في الظاهر .
وقرىء « مُهَاجِرَاتٌ » - بالرفع - وخرجت على البدل .
فصل في دخول النساء عقد المهادنة لفظاً أو عموماً
اختلفوا هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظاً أو عموماً؟
فقالت طائفة : كان شرط ردهن في عقد الهُدنة صريحاً ، فنسخ الله ردّهن من العقد ومنع منه ، وبقاه في الرجال على ما كان ، وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد رأيه في الأحكام ، ولكن لا يقرّه الله على خطأ .

وقالت طائفة : لم يشترط ردّهن في العقد لفظاً ، وإنما أطلق العقد في ردِّهن أسلم ، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال ، فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه ، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين :
أحدهما : أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم .
الثاني : أنهن أرقّ قلوباً ، وأسرع تقلباً منهم ، فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم . ومن أسلمت فلا تردوها .
قوله : { فامتحنوهن } .
قيل : إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها ، قالت : سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بامتحانهن ، واختلفوا فيما كان يمتحنهن به .
فقال ابن عباس : كان يمتحنهن بأن يُسْتَخْلَفْنَ بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقاً لرجل من المسلمين ، ولا لحدث أحدثته ، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام ، وحب الله ورسوله ، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها ، وما أنفق عليها ، ولم يردها ، فذلك قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } .
وروي عن ابن عباس أيضاً : أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
وروى معمر عن الزهري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن إلا بالآية التي قال الله تعالى : { إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً } .
خرجه الترمذي . وقال حديث حسن صحيح .
فصل
قال أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشاً من أنه يرد عليهم من جاءه منهم مسلماً ، فنسخ من ذلك النساء . وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن .
فصل
قال القرطبي : ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد عليهم من جاءه مسلماً؛ لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز ، وهذا مذهب الكوفيين ، وأجاز مالك عقد الصلح على ذلك .
واحتج الكوفيون « بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى قوم خثعم ، فاعتصموا بالسجود فقتلهم ، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بنصف الدية ] وقال : » أنَا بَريءٌ مِن كُلِّ مسلمٍ أقَامَ مع مُشركٍ بدارِ الحَرْبِ لا تَراءَى نَاراهُما « قالوا : فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برىء ممن أقام معهم في دار الحرب . ومذهب مالك والشافعيِّ أن هذا الحكم غير منسوخ .
قال الشافعي : وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو [ رجل ] يأمره ، فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود .
قوله : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } .
هذه الجملة فائدتها بيان أنه لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن ، فإن ذلك مما استأثر الله به .

قاله الزمخشري .
أي : هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بإيمانهن ، لأنه متولي السرائر ، وسمَّى الظن الغالب في قوله : { عَلِمْتُمُوهُنَّ } علماً لما بينهما من القرب كما يقع الظَّن موقعه ، وتقدم ذلك في البقرة .
قوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } .
أي : بما يظهرن من الإيمان .
وقيل : أي : علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } وقوله : { وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } تأكيد للأول لتلازمهما .
وقيل : أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين وهن مؤمنات .
فصل في معنى الآية
معنى الآية : لم يحل الله مؤمنة لكافر ، وهذا أول دليل على أنَّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها .
وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدَّارين .
والصحيح الأول؛ لأن الله - تعالى - بين العلّة ، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار .
قوله : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } .
أمر الله - تعالى - إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يردّ على زوجها ما أنفق ، وذلك من الوفاء بالعهدِ؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام أمر برد المال حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال .
فصل في استحقاق الغرم بالمنع
ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر ، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا ، فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع ، وإن كان المسمى خمراً وخنزيراً لم نغرم شيئاً؛ لانه لا قيمة له .
وللشافعي في هذه الآية قولان :
أحدهما : أن هذا منسوخ .
قال الشافعي : وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهُدْنة مسلمة مهاجرة من الحرب إلى الإمام في دار الإسلام أو دار الحرب ، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض ، وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالة ، ففيه [ قولان ] :
أحدهما : أن يعطى [ زوجها ] العوض لهذه الآية .
والثاني : لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت امرأته مسلمة العوضَ ، فإن شرط الإمام ردّ النساء كان الشرط باطلاً منسوخاً ، وليس عليه عوض ، لأنه لا عوض للباطل .
فصل
أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج ، وأن المخاطب بهذا الإمام ، ينفذ من بيت المالِ الذي لا يتعين له مصرف .
وقال مقاتل : يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين ، وليس لزوجها الكافر شيء .
وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد فأما [ من ] لا عهد بينه وبين المسلمين ، فلا يُرَدُّ عليهم الصداق .
قال القرطبي : « والأمر كما قال » .
قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } . أي : في أن تنكحوهن .
وقوله : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } .
يدوز أن يكون ظرفاً محضاً ، وأن يكون شرطاً ، جوابه مقدَّر ، أي : فلا جناح عليكم .

فصل
ومعنى الآية : ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن أي : مهورهن ، فأباح الله نكاحهن للمسلمين؛ وإن كان لهن أزواج في دار الكفر؛ لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكُفَّار .
قال القرطبي : أباح نكاحهنَّ إذا أسلمن ، وانقضت عدتهن لما ثبت في تحريم نكاح المشركة المعتدة ، فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال .
قوله : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .
قرأ أبو عمرو في آخرين بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين ، وباقي السبعة - بتخفيفها - من « مسَك ، وأمسك » بمعنى واحد .
يقال : أمسكت الحبل إمساكاً ، ومسَّكته تمسيكاً ، وفي التشديد مبالغة ، والمخفف صالح لها أيضاً .
وقرأ الحسن ، وابن أبي ليلى ، وأبو عمرو ، وابن عامر في رواية عنهما : « تَمَسَّكُوا » - بالفتح في الجميع وتشديد السين - والأصل : « تَتمسَّكُوا » - بتاءين - فحذفت إحداهما .
وعن الحسن أيضاً : « تَمْسِكُوا » مضارع « مَسَك » ثلاثياً .
والعِصَم : جمع عِصْمَة ، والعِصْمَة هاهنا : النِّكاح ، يقول : من كانت له كافرة بمكة فلا يعقد بها فقد انقطعت عصمتها .
و « الكوافر » جمع « كافرة » ، ك « ضوارب » في « ضاربة » و « صواحب » .
ويحكى عن الكرخي الفقيه المعتزلي أنه قال : « الكوافر » يشمل الرجال والنساء .
قال الفارسي : فقلت له : النحويون لا يرون هذا إلاَّ في النساء جمع كافرة .
فقال أبو علي : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة؟ .
قال أبو عليٍّ : فبهت ، وقلت : هذا تأييد إلهي .
قال شهاب الدين : وإنما أعجب بقوله لكونه معتزلياً ، والحق أنه لا يجوز كافرة وصفاً للرجال إلا أن يكون الموصوف مذكوراً ، نحو : هذه طائفة كافرة ، أو في قوّة المذكور ، أما أن يقال : طائفة باعتبار الطائفة غير المذكورة ، ولا في قوة المذكورة بل لمجرد الاحتمال ، ويجتمع جمع « فَاعِلَة » فهذا لا يجوز ، وقول الفارسي : « لا يَرَونَ هذا إلا في النِّساءِ » فهذ يصح ولكنه الغالب ، وقد يجمع « فاعل » وصف المذكر العاقل على « فواعل » وهو محفوظ نحو : « فوارس ونواكس » .
فصل في المراد بالآية
قال النخعي : المراد بالآية : المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب ، فتكفر ، وكان الكفار يتزوجون المسلمات ، والمسلمون يتزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين ب « مكة » مشركتين : قريبة بنت أبي أمية ، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما ب « مكة » ، وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن المغيرة ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة ، وهما على شركهما ، فلما ولي عمر ، قال أبو سفيان لمعاوية : طلق قريبة ، لئلا يرى عمر صلبه في بيتك ، فأبى معاوية ، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ففرق الإسلام بينهما ، ثم تزوَّجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص ، وكانت ممن فرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار فحبسها ، وتزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية .

وقال الشعبيُّ : كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، امرأة أبي العاص بن الربيع ، أسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأقام أبو العاصِ ب « مكة » مشركاً ، ثم أتى « المدينة » ، فأسلم ، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى أبو داود عن عكرمة عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما : رد رسول الله ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول ، لم يحدث شيئاً .
قال محمد بن عمر في حديثه : بعد ست سنين .
وقال الحسنُ بن عليٍّ : بعد سنتين .
قال أبو عمر : فإن صح هذا ، فلا يخلو من وجهين :
إما أنها لم تحضر حتى أسلم زوجها ، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } [ البقرة : 228 ] ، يعني عدتهن ، وهذا مما لا خلاف فيه ، إن عنى به العدة .
قال الزهريُّ في قصة زينب هذه : كانت قبل أن تنزل الفرائض .
وقال قتادةُ : كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة ، بقطع العهود بينهم وبين المشركين .
فصل في المراد بالكوافر
المراد بالكوافر هنا : عبدة الأوثان ، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها .
وقيل : هي عامَّة ، نسخ منها نساء أهل الكتاب ، فعلى الأول إذا أسلم وثَنِيّ ، أو مجُوسِيّ ولم تسلم امرأته فرق بينهما ، وهو قول بعض أهل العلم ، منهم مالك والحسن وطاووس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم ، لقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .
وقال بعضهم : ينتظر بها تمام العدة ، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد ، واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب ، أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته ، وكان إسلامه ب « مر الظهران » ، ثم رجع إلى « مكة » وهند بها كافرة مقيمة على كفرها ، فأخذت بلحيته ، وقالت : [ اقتلوا ] الشيخ الضَّال ، ثم أسلمت بعده بأيام ، فاستقر على نكاحها ، لأن عدتها لم تكن انقضت .
قالوا : ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته ، ثم أسلمت بعده ، فكانا على نكاحها .
قال الشافعي رحمه الله : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } ؛ لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار ، كما أن المسلمين ، لا تحل لهم الكوافر والوثنيات والمجوسيات لقوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ، ثم بينت السُّنَّة أن مراد الله من قوله هذا : أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الثاني منهما في العدة .
وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافر من الذميين : إذا أسلمت المرأة ، عرض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم وإلا فرق بينهما .

قالوا : ولو كانا حربيين ، فهي امرأته ، حتى تحيض ثلاث حيض ، إذا كانا جميعاً في دار الحرب ، أو في دار الإسلام ، وإن كان أحدهما في دار الحرب ، والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما .
وقد تقدم أن اعتبار الدار ليس بشيء ، وهذ الخلاف إنما هو في المدخول بها .
وأما غير المدخول بها ، فلا نعلم خلافاً في انقطاع العصمة بينهما ، ولا عدة عليها ، هكذا يقول مالك رحمه الله في المرأة ترتد وزوجها مسلم : تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } ، وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح .
وقال الشافعي وأحمد : [ ينظر إلى تمام ] العدة .
[ فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ، فمذهب مالك والشافعي ، وأحمد توقف إلى تمام العدة ، وهو قول مجاهد ] .
وكذلك الوثني تسلم زوجته ، إن أسلم في عدَّتها ، فهو أحق بها ، كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما ، لما ذكر مالك في « الموطأ » .
[ قال ابن شهاب : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو شهر ] .
قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب ، إلاَّ فرقت هِجْرتُهَا بينها وبين زوجها إلى أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها ، وقال بعضهم : ينفسخ النكاح بينهما ، لما روى يزيد بن علقمة قال : أسلم جدي ، ولم تسلم جدتي ، ففرق بينهما عمر - رضي الله عنه - وهو قول طاوس والحسن وعطاء وعكرمة ، قالوا : لا سبيل له عليها إلا بخطبة .
قوله : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } .
قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد ، يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين ، إذا جاء أحد من الكافرات معلمة مهاجرة : ردوا إلى الكفار مهرها ، وكان ذلك إنصافاً وعدلاً بين الحالتين .
قال ابن العربي رحمه الله : كان هذا حكم الله ، مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة .
قال الزهريُّ : ولولا هذه الهدنة ، والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية ، لأمسك النساء ، ولم يرد الصَّداق ، وكذلك يفعل بمن جاءه من المسلمات قبل العهد ، فلما نزلت هذه الآية أُخطر المؤمنون بحكم الله عزَّ وجلَّ وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله ، فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين ، فأنزل الله - عز وجل - { وإن فاتكم شيء أيها المؤمنون } .
قوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي بما ذكر في هذه الآية ، { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
قوله : { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } . فيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف لا محلَّ له من الإعراب .

والثاني : أنه حال من : « حكم الله » ، والراجع إما مستتر أي : يحكم هو ، أي : الحكم على المبالغة ، وإما محذوف ، أي : يحكمه ، وهو الظاهر .
قوله : { مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } .
يجوز أن يتعلق ب « فاتكم » أي : من جهة أزواجكم ، يراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج ، كما تقدم .
ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة ل « شيء » .
ثم يجوز في « شيء » ، أن يراد به : المهر ، ولكن على هذا ، فلا بد من حذف مضاف ، أي : من مهور أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته .
ويجوز أن يراد ب « شيء » [ النساء ، أي : بشيء من النساء ، أي : نوع وصف منهن ، وهو ظاهر وصفه بقوله : { مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } .
وقد صرَّح الزمخشري بذلك ، فإنَّه قال : وإن سبقكم وانفلت منكم شيء من أزواجكم أحد منهن إلى الكُفَّار ، وفي قراء أبي مسعود : « أحد » .
فهذا تصريح بأن المراد ب « شيء » : النساء الفارات ] ، ثم قال : فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضع فائدة؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه ألا يغادر شيء من هذا الجنس ، وإن قلَّ وحقر غير معوض عنه ، تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه ، ولولا نصّه على أنَّ المراد ب « شيء » : أحد ، كما تقدم ، لكان قوله : « إلا أن يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر » ، ظاهراً في أن المراد ب « شيء » : المهر؛ لأنه يوصف بالقلة والحقارة وصفاً سائغاً وقوله : « تغليظاً » فيه نظر؛ لأن المسلمين ليس لهم تسبب في فرار النساء إلى الكفار ، حتى يغلظ عليهم الحكم بذلك .
وعدي : « فات » ب « إلى »؛ لأنه ضمن معنى الفرار والذهاب والسبق ونحو ذلك .
قوله : { فَعَاقَبْتُمْ } ، عطف على « فاتكم » .
وقرأ العامة : « عاقبتم » . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه من العقوبة ، قال الزجاج : « فعَاقَبْتُم » فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم .
والثاني : أنَّه من العُقْبة ، وهي التوبة ، شبه ما حكم به على المسلمين ، والكافرين من أداء هؤلاء مهور النساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى ، بأمر يتعاقبون فيه ، كما يتعاقب في الركوب وغيره ، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر . انتهى .
وقرأ مجاهد والأعرج والزهري وأبو حيوة وعكرمة وحميد : بتشديد القاف دون ألف .
ففسرها الزمخشري على أصله يعقبه : إذا قفاه؛ لأن كل واحد من المتعاقبين ، يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم - بالتخفيف - يقال : عقبه يعقبه انتهى .
والذي قرأه بالتخفيف وفتح القاف : النخعي ، وابن وثاب ، والزهري ، والأعرج أيضاً . وبالتخفيف ، وكسر القاف : مسروق ، والزهري ، والنخعي أيضاً .
وعن مجاهد : أعقبتم .
قال الزمخشري : معناه : دخلتم في العقبة .
قال البغوي : « معناه : أي : صنعتم بهم ، كما صنعوا بكم » .

وفسَّر الزجاج القراءات الباقية : فكانت العقبى : أي : كانت الغلبة لكم حتى غنمتم .
والظَّاهر أنه كما قال الزمخشريُّ : من المعاقبة بمعنى المناوبة .
يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي : جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر ، ويقال : أعقب - أيضاً . وأنشد بعضهم رحمه الله : [ الطويل ]
4761 - وحَارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولَمْ يَكُنْ ... لِعُقبَةِ قِدْرِ المُستعيرِينَ مُعْقِبُ
قال البغوي : « وكلها لغات بمعنى واحد ، يقال : عَاقَبَ وأعقَبَ وتعقَّب وتعَاقَبَ واعتقَبَ ، إذا غنم » .
وقيل : التعقيب : غزوة بعد غزوة .
فصل
روي أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا ، فنزل قوله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } .
روى الزُّهري عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها وعنهم - قالت : حكم الله عز وجل بينهم ، فقال - جل ثناؤه - : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } ، فكتب إليهم المسلمون : قد حكم الله - عز وجل - بيننا بأنه إذا جاءتكم امرأة منا ، أن توجهوا إلينا بصداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم ، وجهنا إليكم بصداقها ، فكتبوا إليهم : أما نحن ، فلا نعلم لكم عندنا شيئاً ، فإن كان لنا عندكم شيء ، فوجهوا به ، فأنزل الله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } . الآية .
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي : بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة ، يرد بعضهم على بعض .
قال الزهريُّ : ولولا العهد ، لأمسك النساء ، ولم يرد إليهم صداقاً .
وقال قتادة ومجاهدٌ : إنَّما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، وقالا : هي فيما بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد ، وقالا : ومعنى { فَعَاقَبْتُمْ } فاقتصصتم .
{ فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } يعني : الصفات ، فهي عامة في جميع الكفار .
وقيل : فعاقبتم المرتدة بالقتل .
وقال قتادة أيضاً : وإن فاتكم شيء من أزواجكم ، إلى الكفار ، الذين ليس بينكم وبينهم عهد ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، ثم نسخ هذا في سورة براءة .
وقال الزهريُّ : انقطع هذا يوم الفتح .
وقال سفيان الثوري : لا يعمل به اليوم .
وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضاً . حكاه القشيري .
فصل
قال القرطبي : الآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم الفهري ، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام .
وقال البغويُّ : روي عن ابن عبَّاسٍ قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرات ، ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة ، كانت تحت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروعُ بنت عقبة ، وكانت تحت شماس بن عثمان ، وغرة بنت عبد العزيز بن نضلة ، وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وأم كلثوم بنت جرول ، وكانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما رجعن إلى الإسلام ، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة .

فصل في رد مهر من أسلمت
اختلفوا في رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن ، هل كان واجباً ، أو مندوباً؟ وأصله أن الصلح هل كان قد وقع على رد النساء؟ على قولين :
أحدهما : أنه وقع على رد الرجال ، والنساء جميعاً ، لما روي من قولهم : لا يأتيك منا أحد ، إلا رددته ، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله : { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } ، فعلى هذا كان رد المهر واجباً .
والثاني : أن الصلح لم يقع على ردّ النساء؛ لأنه روي أنه لا يأتيك منَّا رجل ، وإن كان على دينك إلا رددته ، وذلك؛ لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها ، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت ، وأكرهت عليها؛ لضعف قلبها ، وقلة هدايتها إلى المخرج منه ، بإظهار كلمة الكفر مع التورية ، وإضمار الإيمان ، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته ، وهدايته إلى التقية ، فعلى هذا كان رد المهر مندوباً .
واختلفوا في أنه يجب به العمل اليوم في رد المال إذا اشترط في معاقدة الكفار فقال عطاء ومجاهد وقتادة : لا يجب ، وزعموا أن الآية منسوخة .
وقيل : هي غير منسوخة ، ويرد إليهم ما أنفقوا .
فصل في معنى الآية .
معنى الآية : إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل « مكة » ، وليس بينكم وبينهم عهد ، ولها زوج مسلم قبلكم ، فغنمتم فأعطوا هذا الزَّوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس ، [ وهو قول ابن عبَّاس رضي الله عنهما ] .
وقال الزهري : يعطى من الفيء .
وعنه : يعطى من صداق من لحق منا .
وقيل : إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم ، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم ، فخذوا ذلك منهم { واتقوا الله } ، أي : احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

قوله تعالى : { ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ } الآية .
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم « مكة » ، جاءه نساء أهل « مكة » يبايعنه ، فأمر أن يأخذ عليهن أن لا يشركن .
قالت عائشة رضي الله عنها : « والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا بما أمر الله - عز وجل - وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط ، وكان يقول إذا أخذ عليهن : » قَدْ بايعْتُكنَّ « كلاماً »
وروي أنه - عليه الصلاة والسلام - ، بايع النساء ، وبين يديه وأيديهن ثوب ، وكان يشترط عليهن .
وقيل : لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا ، ومعه عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أسفل منه ، فجعل يشترط على النساء البيعة ، وعمر يصافحهن .
وروي أنَّه كلف امرأة وقفت على الصفا ، وكلفها أن تبايعهن ، ففعلت .
قال ابن العربي : وذلك ضعيف ، وإنما التعويل على ما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنه المتقدم . قالت : كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى : { ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ } إلى آخر الآية ، قالت عائشة : « فمن أقر بهذا من المؤمنات ، فقد أقر بالمحنة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن ، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم : » انْطَلقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ « ، لا والله ما مَسَّتُ يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط ، غير أنه بايعهن بالكلام »
وقالت أمُّ عطيَّة رضي الله عنها : « لما قدم رسول الله المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب ، فقام على الباب فسلَّم فرددن عليه السلام فقال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن : » ألا تشركن بالله شيئاً « الآية ، فقلن : نعم ، فمد يده من خارج البيت ، ومددنا أيدينا من داخل البيت ، ثم قال : اللَّهُمَّ اشْهَدْ »
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ، ثم أمر النساء فغمسن أيديهن فيه .
فصل
روي « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال يوم فتح » مكة « ، وهو على الصفا ، وعمر بن الخطَّاب أسفل منه يبايع النساء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغهن عنه ، على ألاَّ يشركن بالله شيئاً ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعته بحمزة يوم أحد ، فقالت : والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال ، وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام ، والجهاد فقط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » ولاَ يَسْرِقْنَ « ، فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله قوتنا ، فلا أدري أيحلّ لي أم لا؟ .
فقال أبو سفيان : ما أًصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر ، فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها : وإنَّك لهِنْدُ بِنْتُ عتبة؟ قالت : نعم ، فاعف عني ما سلف ، فقال عَفَا اللَّهُ عنكِ ، ثم قال : { وَلاَ يَزْنِينَ } فقالت هند : أو تزنِي الحُرَّة؟ فقال : { وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } ، أي : لا يئدن الموءودات ولا يسقطن الأجنة ، فقالت هند : ربَّيناهُمْ صغاراً وقتلتهم كباراً يوم بدر ، وأنت أعلم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان - وهو بكرها - قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى ، وتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : { وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } »

قال أكثر المفسرين : معناه لا يلحقن بأزواجهن ولداً من غيرهم ، وكانت المرأة تلتقط ولداً ، فتلحقه بزوجها وتقول : هذا ولدي منك ، فكان هذا من البهتان والافتراء؛ لأن النهي عن الزنا قد تقدم .
وقال بعض المفسرين : المرأة إذا التقطت ولداً ، كأنَّما التقطت بيدها ومشت برجلها إلى أخذه ، فإذا أضافته إلى زوجها ، فقد أتت ببهتان تفتريه بين يديها ورجليها .
وقيل : يفترينه على أنفسهن حيث يقلن : هذا ولدنا ، وليس كذلك ، إذ الولد ولد الزنا .
وقيل : ما بين يديها ورجليها كناية عن الولد؛ لأن البطن التي تحمل فيه الولد بين يديها ، وفرجها الذي تلد منه بين رجليها ، وهذا عام في الإتيان بولد ، وإلحاقه بالزوج ، وإن سبق النهي عن الزنا .
وقيل : معنى « بين أيديهن » : ألسنتهن بالنميمة ، و « بين أرجلهن » : فروجهن .
وقيل : ما بين أيديهن من قبلة أو جسة ، وبين أرجلهن الجماع .
وروي أن هنداً لما سمعت ذلك قالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ما تأمر إلا بالأرشد ، ومكارم الأخلاق ، ثم قال : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } أي : في كل أمر وافق طاعة الله .
قال بكر بن عبد الله المزنيُّ : في كل أمر فيه رشدهن .
وقال مجاهدٌ : لا تخلو المرأة بالرجال .
وقال سعيدُ بنُ المسيِّب والكلبيُّ وعبدُ الرحمنِ بن زيدٍ : هو النهي عن النوح ، والدعاء بالويلِ ، وتمزيق الثوب ، وحلق الشعر ، ونتفه ، وخمش الوجه ، ولا تحدِّث المرأة الرجال إلا ذا محرم ، ولا تخلو برجل غير ذي محرم ، ولا تسافر إلا مع ذي محرم .
وروت أم عطيَّة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم إن ذلك في النوح ، وهو قول ابن عباس .

وروى شهر بن حوشب عن أم سلمة « عن النبي صلى الله عليه وسلم : { ولا يَعْصِينكَ فِي مَعْرُوفٍ } ، قال : » هُوَ النَّوحُ «
وفي صحيح مسلم عن أمِّ عطيَّة : » لما نزل قوله : « يُبَايِعْنَك » ، إلى قوله : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } ، قالت : كان منه النياحة ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، إلا آل بني فلان ، فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية ، فلا بد لي من أن أسعدهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إلا آل بني فلان »
قوله : « يُبَايعْنكَ » : حال ، و « شَيْئاً » : مصدر ، أي شيئاً من الإشراك .
وقرأ علي والسلمي والحسن : « يُقَتِّلْنَ » بالتشديد .
و « يفترينه » : صفة ل « بهتان » ، أو حال من فاعل : « يأتين » .
فصل
ذكر الله - عز وجل - في هذه الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة البيعة خصالاً شتى ، صرح فيهن بأركان النهي في الدين ، ولم يذكر أركان الأمر ، وهي ستة أيضاً : الشهادة ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والاغتسال من الجنابة ، وذلك لأن النهي دائم في كل الأزمان ، وكل الأحوال ، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد .
وقيل : إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها ، ولا يحجزهن [ عنها ] شرف النسب ، فخصت بالذكر لهذا ، ونحو منه قوله - عليه الصلاة والسلام - لوفد عبد القيس : « » وأنْهَاكُم عن الدُّبَّاء والحنتمِ والنَّقيرِ والمزفَّتِ «
فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي؛ لأنها كانت شهوتهم وعادتهم ، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي ، هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها .
فصل
» لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في البيعة : « { وَلا يَسْرِقْنَ } { وَلاَ يَزْنِينَ } ، قالت هند : يا رسول الله إنَّ أبا سفيان رجل مسِّيك ، فهل عليَّ حرج إن أخذت ما يكفيني وولدي؟ فقال : » لا ، إلاَّ بالمعرُوفِ « ، فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها ، فتضيع ، أو تأخذ أكثر من ذلك ، فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك » ، أي : لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف ، يعني : من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة .
قال ابن العربي رحمه الله : « وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب ، ولا يضبط عليه بقفل ، فإنه إذا هتكته الزوجة وأخذت منه [ كانت ] سارقة تعصي بها ، وتقطع يدها » .
فصل في الكلام على الآية
فإن قيل : هلاَّ قيل : إذا جاءك المؤمنات فامتحنوهن ، كما قال في المهاجرات؟ .
فالجواب من وجهين : أحدهما : أن الامتحان حاصل بقوله تعالى : { على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ } إلى آخره .

وثانيهما : أن المهاجرات يأتين من دار الحرب فلا اطلاع للمبايع على ما في قلبها ، فلا بد من الامتحان ، وأما المؤمنات ، فهن في دار الإسلام ، وعلمن الشرائع ، فلا حاجة إلى الامتحان مع ظاهر حالها .
فإن قيل : ما الفائدة في تقديم البعض في الآية على البعض وترتيبها؟ .
فالجواب : قدم الأقبح على ما هو الأدنى منه في القبح ، ثم كذلك إلى آخره ، وقدم في الأشياء المذكورة على ما هو الأظهر فيما بينهم .
فصل
قال عبادةُ بن الصامت : « أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء : أنْ لا تُشرِكُوا باللَّه شَيْئاً ولا تَسْرقُوا ولا تزْنُوا ولا تقتلُوا أوْلادكُمْ ، ولا يعضه بعضُكُمْ بعضاً ، ولا تَعْصُوا في مَعْرُوفٍ آمُرُكمْ بِهِ » .
معنى « يعضه » : يسحر ، والعضه : السحر .
ولهذا قال ابن بحر وغيره في قوله تعالى : { وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ } إنه : السحر .
وقال الضحاكُ : هذا نهي عن البهتان ، أن لا يعضه رجل ولا امرأة « بِبُهتَانٍ » أي : بسحر ، والجمهور على أن معنى « ببهتان » : بولد ، يفترينه « بين أيديهن » : ما أخذته لقيطاً ، « وأرجلهن » : ما ولدته من زنا كما تقدم .
فصل في هذا الأمر
قال المهدويُّ : أجمع المسلمون على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا ، والأمر بذلك ندب لا إلزام .
وقال بعض العلماء : إذا احتيج إلى المِحْنَةِ من أجل تباعد الدَّار كان على إمام المسلمين إقامة المحنة .
قوله : { فَبَايِعْهُنَّ واستغفر لَهُنَّ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية : { أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً } قالت : وما مسَّتْ يَدُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم إلا يد امرأة يملكها .
وقالت [ أميمة ] بنت رقيقة : « بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة ، فقالت : » فِيْمَا اسْتطعْتُنَّ وأطَعْتُنَّ « ، فقلت : يا رسول الله صافحنا ، فقال : » إنِّي لا أصَافِحُ النِّساءَ ، إنَّما قَوْلِي لامرأةٍ كَقوْلِي لمِائةِ امرأة «

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ } ، وهم اليهود .
فقوله : { غضب الله عليهم } صفة ل « قوماً » ، وكذلك : « قَدْ يَئِسُوا » وقوله : { مِنَ الآخرة } .
« مِنْ » لابتداء الغاية ، أيضاً كالأولى أي : أنهم لا يوقنون [ بالآخرة ألبتة ] .
و { مِنْ أَصْحَابِ القبور } . فيه وجهان :
[ أحدهما : أنها لابتداء الغاية أيضاً كالأولى ، والمعنى : أنهم لا يوقنون ببعث الموتى ألبتة ، فيأسهم من الآخرة من موتاهم ] لاعتقادهم عدم بعثهم .
والثاني : أنها لبيان الجنس ، يعني : أن الكفار هم أصحاب القبور .
والمعنى : أنَّ هؤلاء يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار الذين هم أصحاب القبور من خير الآخرة ، فيكون متعلق « يئس » الثاني محذوفاً .
وقرأ ابن أبي الزِّناد : « الكافر » ب « الإفراد » .
فصل في نزول الآية
قال ابنُ زيدٍ : إنَّ ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين ، ويواصلونهم ، فيصيبون بذلك من ثمارهم ، فنهوا عن ذلك ، { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة } يعني : اليهود قد يئسوا من الآخرة بأن يكون لهم فيها ثواب وخير ، { كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور } أي : يئس الكفار الذين ماتوا وصاروا إلى القبور من أن يكون لهم ثواب وحظ في الآخرة .
وقال مجاهد : الكفار حين دخلوا قبورهم يئسوا من رحمة الله .
وقيل : هم المنافقون .
وقال الحسن وقتادة : هم اليهود والنصارى .
وقال ابن مسعودٍ : معناه : أنهم تركوا العمل للآخرة ، وآثروا الدنيا .
وقال الحسنُ وقتادةُ : معناه : أن الكُفَّار الذين هم أحياء ، يئسوا من الكفار ومن أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم .
وقيل : إن الله - تعالى - ختم السورة بما بدأها من ترك موالاة الكفار ، وهي خطاب لحاطب بن أبي بلتعةَ وغيره .
قال ابن عباس : قوله : { لاَ تَتَوَلَّوْاْ } أي : لا توالوهم ، ولا تناصحوهم ، رجع تعالى بطوله وفضله على حاطب بن أبي بلتعة ، يريد أن كفار قريش يئسوا من خير الدنيا ، كما يئس الكفار المقبورون من حظ يكون لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى .
روى الثَّعلبيُّ في تفسيره عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورةَ المُمتحنةِ كَانَ المُؤمِنُونَ والمُؤمِنَاتُ لَهُ شُفَعَاء يَوْمَ القِيَامَةِ » والله سبحانه وتعالى أعلم .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)

قال ابن الخطيب : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها ، هو أن في السورة التي قبلها ، بين الخروج إلى الجهاد في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته بقوله : { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي } [ الممتحنة : 1 ] ، وفي هذه السورة بين ما يحمل المؤمن ، ويحثّه على الجهاد ، فقال : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } [ الصف : 3 ] .
فإن قيل : ما الحكمة في أنه - تعالى - قال في بعض السور : « سبَّح للَّهِ » بلفظ الماضي ، وفي بعضها : « يُسَبِّحُ » بلفظ المضارع ، وفي بعضها بلفظ الأمر؟ .
فالجواب : أن الحكم في ذلك تعليم العبد ، أن تسبيح الله تعالى دائم لا ينقطع ، كما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان ، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان والأمر يدل عليه في الحال .
و « العَزِيزُ » : هو الغالب على غيره أي شيءٍ كان ذلك الغير ، ولا يمكن أن [ يحكم ] عليه غيره ، و « الحَكِيمُ » : هو الذي يحكم على غيره ، أي شيء كان ذلك الغير .
فإن قيل : هلاَّ قيل : سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وما فيهما وهو أكثر مبالغة؟ فالجواب : إنما يكون كذلك ، إذا كان المراد التَّسبيح بلسان الحال ، أما إذا كان المراد من التسبيح المخصوص باللسان فالبعض بوصف معين ، فلا يكون كذلك .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } .
روى الدَّارميُّ في مسنده قال : أنْبَأنَا مُحمَّدُ بنُ كثيرٍ عَنِ الأوزاعيِّ عنْ يَحْيى بْنِ أبِي كثيرٍ عن أبِي سلمةَ عن عبْدِ اللَّهِ بن سلام ، قال : قَعَدنَا مع نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا؟ فأنزل الله - تعالى - : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } حتى ختمها ، قال عبد الله : قرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها ، قال أبو سلمة : فقرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها ، قال يحيى : فقرأها علينا أبو سلمة ، فقرأها علينا يحيى ، فقرأها علينا الأوزاعي ، فقرأها علينا محمد ، فقرأها علينا الدارمي .
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : قال عبد الله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، [ فلما نزل الجهاد كرهوه ] .
[ وقال الكلبي : قال المؤمنون : يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها ] ، فنزلت : { هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] ، فمكثوا زماناً يقولون : لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين؟ فدلَّهم الله عليها بقوله : { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 11 ] الآية ، فابتلوا يوم أحد ، ففروا ، فنزلت هذه الآية تعبيراً لهم بترك الوفاء .
وقال محمَّدُ بنُ كعبٍ : لما أخبر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء « بدر » ، قالت الصحابة رضي الله عنهم اللهم اشهد لئن لقينا قتالاً لنفرغنّ فيه وسعنا ففروا يوم أحد ، فعيرهم الله بذلك .
وقال قتادة والضحاك : نزلت في قوم كانوا يقولون : نحن جاهدنا وابتلينا ، ولم يفعلوا .
وقال صهيب : كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر ، وأنكاهم ، فقتله ، فقال رجل : يا نبي الله ، إني قتلت فلاناً ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف : يا صُهيبُ ، أما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك قتلت فلاناً ، فإن فلاناً انتحل قتله ، فأخبره ، فقال : أكذلك يا أبا يحيى؟ قال : نعم ، والله يا رسول الله ، فنزلت الآية في المنتحل .
وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين ، كانوا يقولون « للنبي » صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم ، وقاتلنا ، فلما خرجوا نكثوا عنهم وتخلفوا .
فصل
قال القرطبي : « هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة أن يفي بها » .
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى : أنه بعث قراء إلى أهل « البصرة » ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل ، قد قرأوا القرآن ، فقال أنتم خيار أهل « البصرة » وقراؤهم ، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمدُ ، فتقسوا قلوبكم ، كما قست قلوب من قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة تشبهها في الطول والشدة ب « براءة » ، فأنسيتها غير أني قد حفظت منها « لَوْ كَان لابْنِ آدَمَ وادِيَانِ مِنْ مالٍ لابْتَغَى وَادِياً ثَالثاً ، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابنِ آدمَ إلاَّ التُّرابُ » ، وكُنَّا نقرأُ سُورة تُشبههَا بإحْدَى المُسَبِّحاتِ ، فأنْسيتُهَا غير أنِّي قد حفظت منها : « يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقُولُون ما لا تفعَلُونَ ، فتُكْتب شهادة في أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة » .

قال ابن العربي : وهذا كله ثابت في الدين ، أما قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } فثابتٌ في الدين لفظاً ومعنى في هذه السورة ، وأما قوله : شهادة في أعناقكم عنها يوم القيامة ، فمعنى ثابت في الدين ، فإن من التزم شيئاً لزمه شرعاً ، والملتزم على قسمين :
[ أحدهما : النذر ، وهو ] على قسمين :
نذر تقرب مبتدأ ، كقوله : لله عليّ صلاة أو صوم أو صدقة ، ونحوه من القرب ، فهذا يلزم الوفاء به إجماعاً .
ونذر مباح ، وهو ما علق به شرط رغبة ، كقوله : إن قدم غائبي فعلي صدقة ، أو علق بشرط رهبة ، كقوله : إن كفاني الله شر كذا فعليَّ صدقة ، ففيه خلاف : فقال مالك وأبو حنيفة : يلزم الوفاء به .
وقال الشافعي في قول : لا يلزم الوفاء به .
وعموم الآية حجة لنا؛ لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق ، أو مقيد بشرط .
وقد قال أصحابه : إن النذر إنَّما يكون بما يقصد منه القربة مما هو من جنس القربة ، وهذا وإن كان من جنس القربة ، لكنه لم يقصد منه القربة ، وإنما قصد منه منع نفسه عن فعل ، أو من الإقدام على فعل .
قلنا : القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات ، وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة كجلب نفع أو دفع ضرر ، فلم يخرج عن سنن التكليف ، ولا زال عن قصد التقرب .
قال ابن العربي : « فإن كان المقول منه وعداً فلا يخلو أن يكون منوطاً بسبب كقوله : إن تزوجت أعنتك بدينار ، أو ابتعت جارية كذا أعطيتك ، فهذا لازم إجماعاً من الفقهاء ، وإن كان وعداً مجرداً .
فقيل : يلزم بتعلقه ، واستدلوا بسبب الآية ، فإن روي أنهم كانوا يقولون : لو نعلم أي الأعمال أفضل وأحب إلى الله لعملناه ، فأنزل الله هذه الآية ، وهو حديث لا بأس به .
وروي عن مجاهد أن عبد الله [ بن رواحة ] لما سمعها قال : » لا أزال حبيساً في الله حتى أقتل « .
والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال » .

قال القرطبي : « قال مالك : فأما العدد مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له هبة ، فيقول : نعم ، ثم يبدو له ألاَّ يفعل ، فلا أرى ذلك يلزمه » .
فصل
قال القرطبي : ثلاث آيات منعتني أن أقضي على الناس : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [ هود : 88 ] ، { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] .
وخرج أبو نعيمٍ الحافظ من حديث مالكِ بنِ دينارٍ عَنْ ثُمامةَ عن أنس بْنِ مالكٍ ، قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أتَيْتُ لَيْلةَ أسْري بِي عَلَى قوْمٍ تُقْرَضُ شِفاهُهُمْ بِمقاريضَ مِنْ نارٍ ، كُلَّما قُرِضتْ عادتْ ، قُلْتُ : مَنْ هؤلاء يَا جِبْريْلُ؟ .
قال : هَؤلاءِ خُطَبَاءُ أمَّتِكَ الذينَ يقُولُونَ ولا يَفْعَلُون ويقرءُونَ كِتَابَ اللَّهِ ولا يعملُون بِهِ «
فصل
قوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } .
استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله ، أما في الماضي ، فيكون كذباً ، وفي المستقبل ، يكون خلفاً ، وكلاهما مفهوم .
قال الزمخشري : هي لام الإضافة ، دخلت على » ما « الاستفهامية ، كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : » بم ، وفيم ، وعمَّ « ، وإنما حذفت الألف؛ لأن » ما « والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالها في كلام المستفهم » ، ولو كان كذلك لكان معنى الاستفهام واقعاً في قوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ } ، والاستفهام من الله تعالى مُحَال؛ لأنه عالم بجميع الأشياء ، والجواب هذا إذا كان المراد حقيقة الاستفهام ، وأما إذا كان أراد إلزام من أعرض عن الوفاء مما وعد أو أنكر الحق وأصرَّ على الباطل فلا .
وتأول سفيانُ بنُ عيينة قوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } أي : لم تقولون [ ما ليس الأمر فيه ] إليكم ، فلا تدرون هل تفعلون ، أو لا تفعلون ، فعلى هذا يكون الكلام محمولاً على ظاهره في إنكار القول .
قوله : { كَبُرَ مَقْتَاً } . فيه أوجه :
أحدها : أن يكون من باب : « نعم وبئس » ، فيكون في « كَبُر » ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده ، و « أن تقُولُوا » هو المخصوص بالذم ، فيجيء فيه الخلاف المشهور : هل رفعه بالابتداء وخبره الجملة مقدمه عليه؟ أو خبره محذوف ، أو هو خبر مبتدأ محذوف ، كما تقدم تحريره؟ .
وهذه قاعدة مطردة : كل فعل يجوز التعجّب منه ، يجوز أن يبنى على « فَعُل » - بضم العين - ويجري مجرى « نعم وبئس » في جميع الأحكام .
والثاني : أنه من أمثلة التعجّب .
وقد عده ابن عصفور في « التعجب » المبوَّب له في النحو ، فقال : « صيغة : ما أفْعَلَهُ ، وأفْعِلْ به ، ولَفَعُل ، نحو : لرمُو الرجل » .
وإليه نحا الزمخشري فقال : هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه ، قصد في « كَبُر » : التعجب من غير لفظه؛ كقوله : [ الطويل ]

4762 - .. غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَواؤهَا
ثم قال : وأسند إلى : « أن تقولوا » ، ونصب : « مقتاً » ، على تفسيره ، دلالة على أن قوله : { مَا لاَ تَفْعَلُون } : مقت خالص لا شوب فيه .
الثالث : أنَّ « كَبُرَ » ليس للتعجب ولا للذم ، بل هو مسند إلى « أن تقولوا » و « مقتاً » : تمييز محول من الفاعلية والأصل : كبر مقتاً أن تقولوا أي : مقت قولكم .
ويجوز أن يكون الفاعل مضمراً عائداً على المصدر المفهوم من قوله : « لِمَ تَقُولُونَ » أي : « كبر أي القول مقتاً » ، و « أن تقولوا » على هذا إما بدل من ذلك الضمير ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أن تقولوا .
قال القرطبي : و « مقتاً » نصب بالتمييز ، المعنى : كبر قولهم ما لا تفعلون مقتاً .
وقيل : هو حال ، والمقت والمقاتة : مصدران ، يقال : رجل مقيت وممقوت إذا لم يحبّه الناس .
فصل
قال القرطبيُّ : قد يحتجّ بهذه الآية في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولي الشافعي .

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)

قرأ زيد بن علي : « يُقَاتَلُون » - بفتح التاء - على ما لم يسم فاعله .
وقرىء : « يُقَتَّلُونَ » بالتشديد .
و « صفًّا » : نصب على الحال ، أي : صافين أو مصفوفين .
قل القرطبي : « والمفعول مضمر ، أي : يصفون أنفسهم صفًّا » .
وقوله : « كأنَّهُمْ » يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل : « يقاتلون » ، وأن يكون حالاً من الضَّمير في « صفًّا » ، فتكون حالاً متداخلة قاله الزمخشري .
وأن يكون نعتاً ل « صفًّا » ، قاله الحوفي .
وعاد الضمير على « صفًّا » ، فيكون جمعاً في المعنى ، كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
فصل
فإن قيل : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها ، أن قوله تعالى : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله } في ذم المخالفين في القتال ، وهم الذين وعدوا بالقتال ولم يقاتلوا ، وهذه الآية مدح [ للموافقين ] في القتال . واعلم أن المحبة على وجهين .
أحدهما : الرضا عن الخلق .
وثانيهما : الثَّناء عليهم .
والمرصوص ، قيل : المتلائم الأجزاء المستويها .
وقيل : المعقود بالرصاص . قاله الفراء .
وقيل : هو من التضام من تراصّ الأسنان .
وقال الراعي : [ الرجز ]
4763 - مَا لَقِيَ البِيضُ من الحُرْقًوصِ ... يَفْتَحُ بَابَ المغْلَقِ المَرْصُوصِ ... الحرقوص : دويبة تولع بالنساء الأبكار .
وقال القرطبي : والتَّراصُّ : التلاصق ، ومنه قوله : وتراصوا في الصف ، ومعنى الآية : إن الله - تعالى - يحب من يثبت في الجهاد ، وفي سبيله ، ويلزم مكانه ، كثبوت البناء .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يوضع الحجر على الحجر ، ثم يرص بأحجار صغار ، ثم يوضع اللبن عليه ، فيسمونه أهل مكة المرصوصُ .
قال ابنُ الخطيب : ويجوز أن يكون المعنى على أن يكون ثباتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة ، وموالاة بعضهم بعضاً ، كالبنيان [ المرصوص ] .
وقال سعيدُ بن جبيرٍ : هذا تعليم من الله للمؤمنين ، كيف يكونون عند قتال عدوهم .
فصل في أن قتال الراجل أفضل من الفارس
قال القرطبي : استدل بهذه الآية بعضهم على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس؛ لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة .
قال المهدويُّ : وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة ، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية؛ لأن معناه الثبات .
فصل في الخروج من الصف
لا يجوز الخروج من الصفِّ إلا لحاجة تعرض للإنسان ، أو في رسالة يرسلها الإمام ، أو منفعة تظهر في المقام ك « فرصة » تنتهز ولا خلاف فيها .
وفي الخروج عن الصف للمبارزة [ خلاف ] .
فقيل : إنه لا بأس بذلك إرهاباً للعدو ، وطلباً للشهادة ، وتحريضاً على القتال .
وقيل : لا يبرز أحد طلباً لذلك؛ لأن فيه رياء وخروجاً إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدو ، وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر ، كما كانت في حروب النبي صلى الله عليه وسلم يوم « بدر » ، وفي غزوة « خيبر » ، وعليه درج السلف .
وقد تقدم الكلام في ذلك في سورة « البقرة » عند قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ الآية : 195 ] .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ } الآية .
لما ذكر الجهاد ، بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد ، وجاهدا في سبيل الله ، وحل العقاب بمن خالفهما ، أي : واذكر لقومك يا محمد هذه القصة .
قوله : { لِمَ تُؤْذُونَنِي } .
وذلك حين رموه بالأدرة ، كما تقدم في سورة الأحزاب .
ومن الأذى : ما ذكر في قصة قارون أنه دس إلى امرأة تدَّعي على موسى الفجور ، ومن الأذى قولهم : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] ، وقولهم : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 124 ] ، وقولهم : أنت قتلت هارون .
قوله : { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } . جملة حالية .
قال ابن الخطيب : و « قَدْ » معناه : التوكيد ، كأنه قال : وتعلمون علماً يقيناً ، لا شبهة [ لكم ] فيه .
قوله : { أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } .
والمعنى : أنَّ لرسول الله يحترم يقيناً .
قوله : { فَلَمَّا زاغوا } ، أي : مالوا عن الحق ، { أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } أي : أمالهم عن الهدى .
وقيل : { فَلَمَّا زاغوا } عن الطاعة ، { أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } عن الهداية .
وقيل : { فَلَمَّا زاغوا } عن الإيمان ، { أزاغ الله قلوبهم } عن الثواب .
وقيل : لمَّا تركُوا ما أمرُوا به من احترام الرسول - عليه الصلاة والسلام - وطاعة الرب ، « خلق » الله في قلوبهم الضلالة عقوبة لهم على فعلهم .
{ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } .
قال الزجاجُ : « يعني من سبق في علمه أنه فاسق » .
قال ابنُ الخطيب : « وهذه الآية تدلّ على عظم إيذاء الرسول ، حتى إنه يؤدّي إلى الكفر ، وزيغ القلوب عن الهدى » .
قوله : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ } .
أي اذكر لهم هذه القصة أيضاً ، وقال : { يابني إِسْرَائِيلَ } ولم يقل : « يا قوم » كما قال موسى؛ لأنه لأنه لا نسب له فيهم ، فيكونون قومه ، وقوله : { إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم } أي : بالإنجيل .
قوله : « مُصدِّقاً » حال ، وكذلك : « مُبَشِّراً » والعامل فيه : « رسول »؛ لأنه بمعنى المرسل .
قال الزمخشري : فإن قلت : بم انتصب : « مصدقاً ، ومبشراً » أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟ قلت : بمعنى : الإرسال؛ لأن « إليكم » صلة للرسول ، فلا يجوز أن تعمل شيئاً لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها ، ولكن بما فيها من معنى الفعل ، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل؟ انتهى .
يعني بقوله : صلات ، أنها متعلقة ب « رسول » صلة له ، أي : متصل معناها به لا الصلة الصناعية .
قوله : { يأتي من بعدي } ، وقوله : « اسمه أحمد » ، جملتان في موضع جر نعتاً لرسول .
أو « اسْمهُ أحمدُ » في موضع نصب على الحال من فاعل « يأتي » .
أو تكون الأولى نعتاً ، والثانية حالاً ، وكونهما حالين ضعيف ، لإتيانهما من النكرة وإن كان سيبويه يجوزه .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : « مِنْ بَعدِيَ » - بفتح الياء - وهي قراءة السلمي ، وزرّ بن حبيش ، وأبو بكر عن عاصم ، واختاره أبو حاتم؛ لأنه اسم ، مثل الكاف من « بعدك » ، والتاء من « قمت » .
والباقون : قرءوا بالإسكان .
وقرىء : { من بعد اسمه أحمد } ، فحذف الياء من اللفظ .
و « أحمدُ » اسم نبينا صلى الله عليه وسلم هو اسم علم .
يحتمل أن يكون من صفة ، وهي : « أفعل » التفضيل ، وهو الظَّاهر ، فمعنى « أحمد » أي : أحمدُ الحامدين لربِّه .
والأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - كلهم حمادون لله ، ونبينا « أحْمَد » أكثرهم حمداً .
قال البغويُّ : والألف في « أحْمَد » ، للمبالغة في الحمد ، وله وجهان :
أحدهما : أنه مبالغة من الفاعل ، أي : الأنبياء كلهم حمادون لله - عز وجل - ، وهو أكثر حمداً لله من غيره .
والثاني : أنه مبالغة في المفعول ، أي : الأنبياء كلهم محمودون ، لما فيهم من الخصال الحميدة ، وهو أكثر مبالغة ، وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها ، انتهى .
وعلى كلا الوجهين ، فمنعه من الصرف للعلمية والوزن الغالب ، إلاَّ أنَّهُ على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة . وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً؛ لأنه يخلف العلمية للصفة .
وإذا أنكر بعد كونه علماً جرى فيه خلاف سيبويه والأخفش ، وهي مسألة مشهورة بين النحاة .
وأنشد حسان - رضي الله عنه - يمدحه - عليه الصلاة والسلام - ويصرفه : [ الكامل ]
4764 - صَلَّى الإلَهُ ومَنْ يَحُفُّ بِعرْشِهِ ... والطَّيِّبُونَ على المُبَارَكِ أحْمَدِ
« أحمد » : بدل أو بيان « للمُبَارك » .
وأما « مُحَمَّد » فمنقول من صفة أيضاً ، وهو في معنى « محمود » ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار ، ف « محمّد » هو الذي حمد مرة بعد أخرى .
قال القرطبي : « كما أن المكرَّم من الكرم مرة بعد أخرى ، وكذلك المدح ونحو ذلك ، فاسم » محمد « مطابق لمعناه ، فالله - سبحانه وتعالى - سماه قبل أن يسمي به نفسه ، فهذا علم من أعلام نبوته ، إذ كان اسمه صادقاً عليه ، فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه ، ونفع به من العلم والحكمة ، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة ، فقد تكرر معنى الحمد ، كما يقتضي اللفظ ، ثم إنه لم يكن محمداً حتى كان : » أحمد « حمد ربه فنبأه وشرفه ، فلذلك تقدم اسم : » أحمد « على الاسم الذي هو محمد ، فذكره عيسى فقال : » اسمه أحمد « ، وذكره موسى - عليه الصلاة والسلام - حين قال له ربه : تلك أمة أحمد ، فقال : اللهم اجعلني من أمَّة محمد ، فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له ، فلما وجد وبعث ، كان محمداً بالفعل ، وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه ، فيكون أحمد الناس لربه ، ثم يشفع فيحمد على شفاعته » .

رُوِيَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اسْمِي في التَّوراةِ أحْيَدُ؛ لأنِّي أحِيدُ أمَّتِي عن النَّارِ ، واسمي في الزَّبُورِ : المَاحِي ، مَحَا اللَّهُ بي عبدةَ الأوثانِ ، واسْمِي في الإنجيلِ : أحْمَدُ ، وفي القُرْآنِ : مُحَمَّدٌ؛ لأنِّي محمُود فِي أهْلِ السَّماءِ والأرْضِ » .
وفي الصحيح : « لِي خَمْسَةُ أسْمَاء : أنَا مُحمَّدٌ وأحمدُ ، وأنا المَاحِي الذي يَمحُو اللَّهُ بِيَ الكُفر ، وأنا الحَاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ على قدمِي ، وأنَا العَاقِبُ » وقد تقدم .
قوله : { فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات } .
قيل : عِيْسَى .
وقيل : مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم .
{ قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } .
قرأ حمزة والكسائي : « ساحر » نعتاً للرجل .
وروي أنها قراءة ابن مسعود .
والباقون : « سحر » نعتاً لما جاء به الرسول .
قال أبو حيان هنا : وقرأ الجمهور : « سحر » ، وعبد الله ، وطلحة والأعمش ، وابن وثاب : « ساحر » ، وترك ذكر الأخوين .
قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب } أي : لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب .
قوله : { وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام } .
جملة حالية من فاعل : « افْتَرَى » ، وهذه قراءة العامة .
وقرأ طلحة : « يدَّعي » - بفتح الياء والدال مشددة - مبنياً للفاعل .
وفيها تأويلان :
أحدهما : قاله الزمخشري ، وهو أن يكون « يفتعل » بمعنى : « يفعل » نحو : « لمسه والتمسه » .
والضميران ، أعني : « هو » ، والمستتر في : « يدعى » لله تعالى ، وحينئذ تكون القراءتان بمعنى واحد ، كأنه قيل : والله يدعو إلى الإسلام .
وفي القراءة الأولى يكون الضَّميران عائدين على « من » .
والثاني : أنه من ادّعى كذا دعوى ، ولكنه لما ضمن يدّعي معنى ينتمي وينتسب عُدِّي باللام؛ وإلا فهو متعدٍّ بنفسه .
وعلى هذا الوجه فالضميران ل « من » أيضاً ، كما هما في القراءة المشهورة .
وعن طلحة : « يُدَّعى » - مشدد الدال - مبنياً للمفعول .
وخرجها الزمخشري على ما تقدم من : ادَّعاه ودعاه بمعنى : لمسه والتمسه .
والضميران عائدان على « من » عكس ما تقدم عنده في تخريج القراءة الأولى ، فإن الضميران لله ، كما تقدم تحريره .
وهذا تعجب ممن كفر بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم بعد المعجزات التي ظهرت لهما ، ثم قال : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } أي : من كان في حكمه أن يختم له بالضلالة والغي .
قوله : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ } .
الإطفاءُ هو الإخماد ، يستعملان في النار ، وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور ، ويفترق الإخماد والإطفاء من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل ، فيقال : أطفأت السراج ، ولا يقال : أخمدت السراج .

وفي هذا اللام أوجه :
أحدها : أنَّها مزيدة في مفعول الإرادة .
قال الزمخشري : أصله { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } كما في سورة التوبة [ 32 ] ، وكأنَّ هذه اللام ، زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئت لإكرامك وفي قولك : « جئت لأكرمك » ، كما زيدت اللام في : « لا أبا لك » توكيداً لمعنى الإضافة في : « لا أباك » .
وقال ابن عطية : « واللام في : » ليطفئوا « لام العلة مؤكدة ، ودخلت على المفعول؛ لأن التقدير : » يريدون أن يطفئوا نور الله « ، وأكثر ما تلزم هذه اللام إذا تقدم المفعول ، تقول : لزيد ضربت ، ولرؤيتك قصدت انتهى .
وهذا ليس مذهب سيبويه ، وجمهور النَّاس ، ثم قول أبي محمد : » وأكثر ما يلزم « ليس بظاهر؛ لأنه لا قول بلزومها ألبتة ، بل هي جائزة للزيادة ، وليس الأكثر أيضاً زيادتها جوازاً ، بل الأكثر عدمها .
الثاني : أنَّها لام العلة والمفعول محذوف ، أي : يريدون إبطال القرآن ، أو دفع الإسلام ، أو هلاك الرسول صلى الله عليه وسلم ليطفئوا .
الثالث : أنَّها بمعنى : » أن « الناصبة ، وأنها ناصبة للفعل بنفسها .
قال الفرَّاء : العرب تجعل » لام كي « في موضع : » أن « ، في » أراد وأمر « ، وإليه ذهب الكسائي أيضاً .
وقد تقدم نحو من هذا في قوله : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } في سورة النساء : [ الآية : 26 ] .
فصل
قال ابن عباسٍ وابن زيدٍ رضي الله عنهما : المراد بنور الله - هاهنا - القرآن ، يريدون إبطاله ، وتكذيبه بالقول .
وقال السديُّ : الإسلام ، أي : يريدون دفعه بالكلام .
وقال الضحاكُ : إنَّه محمد صلى الله عليه وسلم يريدون إهلاكه بالأراجيف .
وقال ابنُ جريجٍ : حجج الله ودلائله ، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم ، وقيل : إنه مثل مضروب ، أي : من أراد إطفاء نور الشمس بفيه ، وجده مستحيلاً ممتنعاً ، كذلك من أراد إبطال الحق ، حكاه ابنُ عيسى .
فصل في سبب نزول هذه الآية
قال الماورديُّ : سبب نزول هذه الآية ، ما حكاه عطاء عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً ، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر اليهود ، أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد ، فما كان ينزل عليه ، وما كان ليتم أمره ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية واتصل الوحي بعدها .
قوله : { والله مُتِمُّ نُورِهِ } .
قرأ الأخوان وحفص وابن كثير : بإضافة : » متم « ، ل : » نوره « .
والباقون : بتنوينه ونصب : » نوره « .
فالإضافة تخفيف ، والتنوين هو الأصل .
وأبو حيَّان ينازع في كونه الأصل .
وقوله : » والله متم « ، جملة حالية من فاعل : » يريدون « ، أو » ليطفئوا « .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75