كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)

لما حكى عنهم أنهم اتَّخَذُوا دِين الإسلام هُزُواً ولعِباً ، فقال : ما الذي تَجِدُون فيه ممَّا يُوجِب اتَّخَاذه هُزُواً ولعباً؟
قوله تعالى : « هل تَنْقِمُون » : قراءة الجُمْهُور بكسر القَافِ ، وقراءة النَّخْعي ، وابن أبي عَبْلَة ، وأبي حَيْوَة بِفَتْحها ، وهاتان القِرَاءتَانِ مفرَّعَتَان على المَاضِي ، وفيه لُغَتَان : الفُصْحَى ، وهي التي حَكَاهَا ثَعْلَب في « فَصِيحه » : نَقَم بفتح القَاف ، يَنْقِم بِكَسْرها .
والأخرى : نَقِم بكسر القاف يَنْقَمُ بفَتْحِها ، وحكاها الكَسَائي ، ولم يَقْرأ في قوله تعالى : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } [ البروج : 8 ] إلا بالفتح .
قال الكسّائِي : « نقِم » بالكسر لُغَةً ، ونَقَمْتُ الأمْر أيضاً ، وَنَقِمْتُهُ إذا كَرِهْته ، وانْتَقَم اللَّه منه إذا عَاقَبَه ، والاسم منه : النِّقْمة ، والجمع نَقِمَاتٌ ونَقِمٌ مثل كَلِمة وكَلِمَات وكَلِم ، وإن شِئْت سَكَّنت القَافَ ، ونَقَلْت حَرَكَتَها إلى النُّون فقلت نِقْمة ، والجَمْع : نِقَم ، مثل نِعْمة وَنِعَم ، نقله القرطبي وأدغم الكسَائِي لام « أهَلْ » في تَاء « تَنْقِمُون » ، وَلِذَلِكَ تُدْغَمُ لام « هَلْ » في التَّاء والنُّون ووافقه حَمْزة في التَّاء والثَّاء وأبُو عَمْرٍو في « هَلْ تَرَى » في موضعَيْن .
فصل
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أتى رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - نَفَرٌ من اليَهُود : أبو يَاسِر بن أخْطَب ، ورَافِع بن أبي رَافِع وغيرهما ، فَسَألُوه : عمَّن يُؤمِن به من الرُّسُل ، فقال : { اا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } [ البقرة : 136 ] ، إلى قوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 136 ] فلما ذكر عيسى - عليه الصلاة والسلام - جَحَدُوا نُبُوتَهُ ، وقالُوا : والله ما نَعْلَمُ أهْلَ دِينٍ أكْثَر خَطَأ في الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْكُم ، ولا دِيناً شرًّا من دينكُمْ ، فأنْزَل الله هذه الآية الكريمة .
قوله تعالى : { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا } ، مفعول ل « تَنْقِمُون » بمعنى : تَكْرَهُون وتَعِيبُون ، وهو استِثْنَاء مُفَرَّغٌ .
و « مِنَّا » متعلِّق به ، أيْ : ما تَكْرَهُون من جِهَتِنَا ، إلاَّ الإيمَان وأصل « نَقَمَ » أن يتعدَّى ب « عَلَى » ، نقول : « نَقَمْتُ عليْهِ كذا » وإنَّما عُدِّيَ هُنَا ب « مِنْ » لِمَعْنًى يَأتي .
وقال أبُو البَقَاء : و « منَّا » مفعول « تَنْقِمُون » الثَّاني ، وما بَعْد « إلاَّ » هو المَفعُول الأوَّل ، ولا يجُوز أن يكُون « منَّا » حالاً من « أنْ » والفِعْل لأمْرين :
أحدهما : تقدُّمُ الحالِ على « إلاَّ » .
والثاني : تقدم الصِّلَة على الموْصُول ، والتَّقْدِير : هل تَكْرَهُون مِنَّا إلاَّ إيماننا . انتهى .
وفي قوله : مَفْعُول أوَّل ، ومفعول ثَان نَظَر؛ لأنَّ الأفْعَال الَّتِي تتعدَّى لاثْنَيْن إلى أحدهما بِنَفْسِها ، وإلى الآخَرِ بحَرْف الجرِّ مَحْصُورة ك « أمر » ، و « اخْتَار » ، و « استغْفَرَ » ، و « صَدَّق » و « سَمَّى » ، و « دَعَا » بمعناه ، و « زَوَّج » ، و « نَبَّأ » ، و « أنْبَأ » ، و « خَبَّر » ، و « أخْبَر » ، و « حَدَّث » غير مُضَمَّنَةٍ معنى « أعْلَم » ، وكلُّها يَجُوز فيها إسْقَاط الخَافِضِ والنَّصب ، ولَيْسَ هذا مِنْها .

وقوله : « ولا يجُوز أن يكُونَ حالاً » يعني : أنَّه لو تَأخَّر بعد « أن آمَنَّا » لَفْظَة « مِنّا » ، لجاز أن تكون حَالاً من المصْدر المؤوَّل من « أنْ » وصلَتِها ، ويَصِير التَّقْدِير : هل تكرهون إلاَّ الإيمان في حال كونه « منا » ، لَكِنَّهُ امتنع من تقدُّمِهِ على « أنْ آمنَّا » للوجهين المذكورين .
أحدهما : تقدُّمه على « إلاّ » ويعني بذلك : أن الحال لا تتقدم على « إلاَّ » .
قال شهابُ الدِّين : ولا أدري ما يمنع ذلك لأنه إذا جعل « مِنَّا » حالاً من « أن » و « ما » في حيزها كان حال الحال مقدراً ، ويكونُ صاحب الحال محصوراً ، وإذا كان صاحب الحال محصوراً وَجَبَ تقديم الحال عليه ، فيقال : « مَا جَاءَ رَاكِباً إلاَّ زَيْدٌ » ، و « ما ضَربْتُ مَكْتُوفاً إلا عَمْراً » ، ف « راكباً » و « مكتوفاً » حالان مقدمان وجوباً لحصر صاحبيهما فهذا مثله .
وقوله : « [ والثاني : تقدُّم الصلة على الموصول ] لم تتقدَّم صلة على موصول .
بيانه : أنَّ الموصول هو » أنْ « ، والصلة » آمَنَّا « ، و » منَّا « ليس متعلّقاً بالصلة ، بل هو معمول لمقدَّر ، ذلك المقدر في الحقيقة منصوب ب » تنقمون « ، فَمَا أدْرِي ما توهمه حتى قال ما قال؟
على أنه لا يجوز أن يكون حالاً ، لكن لا لما ذكر؛ بل لأنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير : » هَلْ تَنْقِمُونَ إلا إيماننا منا « فمن نفس قوله : » إيماننا « فهم أنَّه منَّا ، فلا فائدة فيه حينئذٍ .
فإن قيل : تكون حالاً مؤكدة .
قيل : هذا خلاف الأصل ، وليس هذا من مَظَانِّهَا ، وأيضاً فإنَّ هذا شبيه بتهيئة العامل للعمل ، وقطعه عنه ، فإن » تَنْقِمُونَ « يطلب هذا الجار طلباً ظاهراً .
وقرأ الجمهور » وما أنزل إلَيْنَا وما أنزل [ مِنْ قَبْل ] « بالبناء للمفعول فيهما ، وقرأ أبو نهيك : » أنْزل ، وأنْزل « بالبناء للفاعل ، وكلتاهما واضحة .
فصل
المعنى : قُلْ لأهل الكتاب : لِمَ اتخذتم هذا الدين هزواً ولعباً ، ثم قال على سبيلِ التعجب : هل تجدون في هذا الدين إلا الإيمان بالله؟! فهو رَأسُ جميع الطاعات ، وإلاَّ الإيمان بمحمد ، وبجميع الأنبياء فهو الحق والصدق؛ لأنه إذا كان الطريق إلى تصديق بعض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في ادعاء الرسالة والنبوة هو المعجزة .

ثم رأينا أن المعجز حصل على يدي محمد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فوجب الإقرار بكونه رسولاً ، فأمَّا الإقرار بالبعض وإنكار البعض فذلك تناقض ومذهب باطل .
قوله تعالى : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } قرأ الجمهور : « أنَّ » مفتوحة الهمزة .
وقرأ نعيم بن ميسرة بكسرها .
فأمَّا قراءة الجمهور فتحتمل « أنَّ » فيها أن تكون في محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، فالرفع من وجه واحد ، وهو أن تكون مبتدأ ، والخبر محذوف .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « والخبر محذوف ، أي : فسقكم ثابت معلوم عندكم؛ لأنكم علمتم أنَّا على الحق ، وأنْتُمْ على الباطل ، إلا أن حب الرئاسة ، وجمع الأموال لا يدعكم فتنصفوا » .
فقدر الخبر متأخراً .
قال أبُو حيَّان : ولا ينبغي أن يُقَّدَرَ الخبر إلا مقدماً؛ لأنه لا يبتدأ ب « أن » على الأصح إلا بعد « أمَّا » انتهى .
ويمكن أن يقال : يُغْتَفَرُ في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في اللفظية ، لا سيما أنَّ هذا جارٍ مجرى تفسير المعنى ، والمراد إظهار ذلك الخبر [ كيف ] يُنْطَقُ به؛ إذْ يقال : إنه يرى جواز الابتداء ب « أنَّ » مطلقاً ، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير .
وأمَّا النَّصْبُ فمن ستَّةِ أوجه :
أحدها : أن يُعْطَفَ على « أن آمنَّا » واستشكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقدير : هل تكرهون إلا إيماننا ، وفسق أكثركم ، وهم لا يعترفون بأن أكثرهم فاسقون حتى يكرهونه .
وأجاب الزمخشري وغيره عن ذلك بأن المعنى : « وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا ، وبين تمرُّدكم ، وخروجكم عن الإيمان ، كَأنَّه قِيلَ : وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حَيْثُ دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه » .
ونقل الواحدي عن بعضهم أن ذلك من باب المُقَابَلَة والازدواج ، يعني أنه لما نقم اليهود عليهم الإيمان بجميع الرسل ، وهو مما لا يُنْقَمُ ذَكَرَ في مُقَابلته فسقَهُمْ ، وهو مما يُنْقَم ، ومثل ذلك حَسًنٌ في الازدواج ، يقول القائل : « هل تنقم مني إلا أن عفوت عنك ، وأنَّكَ فاجر » فيحسن ذلك لإتمام المعنى بالمقابلة .
وقال أبُو البقاء : والمعنى على هذا : إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم ، أي كرهتم مخالفتنا إياكم وهذا كقولك للرجل : « ما كرهت مني إلا أني مُحَبَّبٌ للناس ، وأنك مبغض » ، وإن كان لا يعترف بأنه مبغض .
وقال ابن عطية : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } هو عند أكثر المتأوِّلين معطوف على قوله : « أنْ آمنَّا » ، فيدخل كونهم فاسقين فيما نَقَمُوهُ وهذا لا يتجه معناه .
ثم قال بعد كلام : « وإنَّمَا يَتَّجِهُ على أن يكون معنى المحاورة : هل تنقمون منا إلا مجموع هذه الحال من أنا مؤمنون وأنتم فاسقون ، ويكون { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } مما قرره المخاطب لهم ، وهذا [ كما ] يقول لمن يخاصم : » هل تنقم عليَّ إلا أن صدقت أنا ، وكذبت أنت « ، وهو لا يُقِرُّ بأنه كاذب ، ولا ينقم ذلك ، لكن معنى كلامك : هل تنقم إلا مجموع هذه الحال » وهذا هو مجموع ما أجاب به الزَّمَخْشَرِيُّ والواحِديُّ .

الوجه الثاني من أوجه النصب : أن يكون معطوفاً على « أنْ آمنَّا » أيضاً ، ولكن في الكلام مضاف محذوف لصحة المعنى ، تقديره : « واعتقاد أنَّ أكثركم فاسقون » وهو معنى واضح ، فإنَّ الكفار ينقمون اعتقاد المؤمنين أنهم فاسقون .
الثالث : أنه منصوب بفعل مقدر ، تقديره : هل تنقمون منا إلا إيماننا ، ولا تنقمون فسق أكثركم .
الرابع : أنه منصوب على المعيَّة ، وتكون « الواو » بمعنى « مع » تقديره : « وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون » .
ذكر جميع هذه الأوجه أبُو القَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ - رحمه الله - .
الخامس : أنه منصوب عَطْفاً على « أنْ آمنَّا » ، و « أن آمنَّا » مفعول من أجله فهو منصوب ، فعطف هذا عليه ، والأصل : « هل تنقمون إلا لأجل إيماننا ، ولأجل أن أكثركم فاسقون » ، فلمَّا حذف حرف الجر من « أنْ آمنَّا » بقي منصوباً على أحد الوجهين المشهورين ، إلا أنه يقال هنا : النصب هنا ممتنع من حيث إنَّهُ فُقِد شرطٌ من المفعول له ، وهو اتحاد الفاعل ، والفاعل هنا مختلف ، فإن فاعل الانتقام غير فاعل الإيمان ، فينبغي أن يُقَدَّر هنا محلُّ « أنْ آمنَّا » جراً ليس إلاَّ ، بعد حذف حرف الجر ، ولا يجري فيه الخلاف المشهور بين الخَلِيلِ وسيبَويْهِ في محل « أنْ » إذَا حذف منها حرف الجر ، لعدم اتحاد الفاعل .
وأجِيبَ عن ذلك بأنَّا وإنْ اشترطنا اتحاد الفاعل فإنَّا نجوِّزُ اعتقادَ النصب في « أنْ » و « أنَّ » إذا وقعا مفعولاً من أجله بعد حذف حرف الجر لا لكونهما مفعولاً من أجله ، بل من حيث اختصاصهما من حيث هما بجواز حذف حرف الجر لطولهما بالصلة وفي هذه المسألة بخصوصها خلاف مذكور في بابه ، ويدُلُّ على ذلك ما نقله الواحدي عن صاحب « النَّظْم » ، فإنَّ صاحب « النظم » ذكر عن الزجاج معنًى ، وهو : هل تكرهون إلا إيماننا على دينكم ، وهذا معنى قول الحسنِ : نقمتم علينا .
قال صاحب « النَّظْمِ » : فعلى هذا يجب أن يكون موضع « أن » في قوله : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } نَصْباً بإضمار « اللام » على تأويل « ولأنَّ أكْثَرَكُمْ » ، والواو زائدة ، فقد صرح صاحب النظم بما ذكرناه .
الوجه السادس : [ أنه ] في محل نَصْب على أنه مفعول من أجله ل « تنقمون » والواو زائدةٌ كما تقدَّم تقريره عن الزمخشري .

[ وهذا الوجه الخامس يحتاج إلى تقرير ] ليفهم معناه ، قال أبُو حيَّان بعد نقله الأوجه المتقدمة : « ويظهر وجه آخر [ لعلَّه ] يكون الأرجح ، وذلك أن » نَقَمَ « أصله أنْ يتعدى ب » على « تقول : » نَقَمْتُ عَلَيْه « ، ثم تبني منه [ افتعل إذ ذاك ] ب » من « ويضمَّن معنى الإصابة بالمكروه ، قال تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، ومناسبة التضمين فيها أنَّ مَنْ عاب على شخص فعله ، فهو كاره له ، ومصيبه عليه بالمكروه ، فجاءت هنا » فَعَل « بمعنى » افْتَعَل « ك » قدر « و » اقتدر « ، ولذلك عُدِّيت ب » من « دون » على « التي أصلها أن تتعدى بها ، فصار المعنى : وما تنالون منا ، وما تصيبوننا بما نكره ، إلا أنْ آمَنَّا ، [ أي : إلاَّ لأنْ آمنا ، ] فيكون » أن آمنَّا « مفعولاً من أجله ، ويكون { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } معطوفاً على هذه العلة ، وهذا - والله أعلم - سبب تعديته ب » من « دون » على « انتهى ما قاله ، ولم يصرح بكون حينئذٍ في محلِّ نصب أو جرٍّ ، إلاَّ أن ظاهر حاله أن يُعتقَدَ كونه في محل جرٍّ ، فإنه إنَّمَا ذكر في أوجه الجر .
وأمَّا الجَرُّ فمن ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عطف على المؤمن به .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : » أي : وما تنقمون منَّا إلا الإيمان بالله ، وما أنزل ، وبأن أكْثرَكُمْ فِاسِقُونَ « وهذا معنى واضح ، قال ابن عطية : » وهذا مستقيمُ المعنى؛ لأن إيمان المؤمنين [ بأنَّ ] أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فَسَقَةٌ هو مما ينقمونه « .
الثاني : أنَّهُ مجرورٌ عَطْفاً على علّةٍ محذوفة ، تقديرها : ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم ، واتباعكم شهواتكم ، ويدلُّ عليه تفسير الحسن البصري » لفسقكم نقمتم علينا ، ويروى لفسقكم تنقمون علينا الإيمان « ، [ ويروى » لفسقهم نقموا علينا الإيمان « . عطفاً على محل » أن آمنا « إذا جعلناه مفعولاً من أجله ، واعتقدنا أن » أن « في محل جر ] .
الثالث : أنَّهُ في محل جر بعد حذف الحرف وقد تقدم ذلك في الوجه الخامس ، فقد تحصَّل في قوله تعالى : » وأن أكثركم « أحد عشر وجهاً وجهان في حالة الرفع بالنسبة إلى تقدير الخبر ، هل يُقَدَّرُ مُقدَّماً وجوباً أو جوازاً؟ وقد تقدم ما فيه ، وستة أوجه أنها على الاستئناف ، أخبر أن أكثرهم فاسقون ، ويجوز أن تكون منصوبة المحلِّ لعطفها على معمول القول ، أمر نبيه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أن يقول لهم : { هل تنقمون منا } إلى آخره ، وأن يقول لهم : إنَّ أكثركم فاسقون ، وهي قراءة [ جليَّة ] واضحة .

فصل
وتفسير المعنى على وجوه الإعْرَاب المتقدمة . قال ابن الخطيب فإن قيل : كيف تنقم اليهود على المسلمين وكون أكثرهم فاسقين .
فالجواب أنه كالتعريض؛ لأنهم لم يتبعوهم على فسقهم أي : أنْ آمَنَّا ، وما فسقنا مثلكم وهو كقولهم : « ما تنقم مني إلا أنِّي عفيف ، وأنت فَاجِرٌ » ، على وجه المقابلة ، أو لأن أحد الخصمين إذا كان متصفاً بصفات حميدة وخصمه بضد ذلك كان ذكر صفات الخير الحميدة مع صفات خصمه الذميمة أشد تأثيراً ونكاية مِنْ ألاَّ يذكر الذميمة ، فتكون الواو بمعنى « مع » أو هو على حذف مضاف أيْ : واعتقاد أن أكثركم فاسقون ، والمعنى : بأن أكثركم فاسقون نقمتم الإيمان علينا .
أو تعليل معطوف على محذوف كأنه قيل : نقمتم لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون .
فصل
اليهود كلهم فُسَّاقٌ وكُفَّارٌ فَلِمَ خُصَّ الأكثر بوصف الفسق؟ فالجواب من وجهين :
الأول : يعني أنْ أكثركم إنَّمَا يقولون [ ما يقولون ] ويفعلون ما يفعلون طلباً للرياسة ، والجاه وأخذ الرشوة ، والتقرب إلى الملوك ، فإنَّهُمْ في دينهم فُسَّاقٌ لا عُدولٌ ، فإن الكافر المبتدع قد يكون عادلاً في دينه ، وفاسقاً في دينه ، ومعلومٌ أن كلهم ما كانوا كذلك فلهذا خص أكثرهم بهذا الحكم .
الثاني : ذكر أكثرهم لِئلاَّ يظن أن من [ آمن منهم داخل في ذلك ] .

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)

قوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } : قرأ الجمهور ، « أنَبِّئُكُمْ » بتشديد الباء من نبأ ، وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب « أنْبِئُكُمْ » بالتخفيف من أنبأ وهما لغتان فصيحتان والمخاطب في « أنبئكم » فيه قولان :
أحدهما : وهو الذي لا يعرف أهل التفسير غيره - أن المراد به أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم .
والثاني : أنه للمؤمنين .
قال ابن عطية : ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمرَ أن يقول لهم : « هل أنبئكم » هم اليهود والكفار ، والمتخذون ديننا هُُزُواً ولعباً . قال ذلك الطبري ، ولم يسند في ذلك [ إلى ] متقدم شيئاً ، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين . انتهى .
فعلى كونه ضمير المؤمنين واضحٌ ، وتكون « أفْعَلُ » التفضيل أعني « بِشَرّ » على بابها؛ إذ يصير التقدير : قل هل أنبئكم يا مؤمنون بشر من حال هؤلاء الفاسقين ، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله ، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم ، كذا قدره ابن عطية ، وإنما قدَّرَهُ مضافاً ، وهو حال ليصح المعنى ، فإن ذلك إشارة للواحد ، ولو جاء من غير حذف مضاف لقيل : بشر من أولئكم بالجمع .
قال الزمخشري : « ذلك » إشارة إلى المنقوم ، ولا بد من حذف مضاف قبله أو قبل « من » تقديره : بِشَرٍّ من أهل ذلك ، أو دين من لعنه [ الله ] انتهى .
ويجوز ألاَّ يقدر مضاف محذوف لا قَبْلُ ولا بَعْدُ ، وذلك على لغة من يشير للمفرد والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً بإشارة الواحد المذكر ، ويكون « ذلك » إشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب ، كأنه قيل : بشرٍّ من أولئك ، يعني أن السَّلف الذي لهم شرٌّ من الخَلَفِ ، وعلى هذا يجيء قوله : « مَنْ لَعَنَه » مفسراً [ لنفس « ذلك » وإن كان ضمير أهل الكتاب وهو قول عامة المفسرين فيشكل ويحتاج إلى جواب ] ووجه الإشكال أنه يصير التقدير : هل أنبئكم يا أهل الكتاب بِشَرٍّ من ذلك ، و « ذلك » يرادُ به المنقوم ، وهو الإيمان ، وقد علم أنه لا شَرَّ في دين الإسلام ألبتة ، وقد أجاب الناس عنه ، فقال الزمخشري عبارةً قرر بها الإشكال المتقدم ، وأجاب عنه بعد أن قال : فإن قلت : المثوبة مختصة بالإحسان ، فكيف وقعت في الإساءة؟ قلت : وضعت موضع عقوبة ، فهو كقوله : [ الوافر ]
1988- . ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
ومنه { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] ، وتلك العبارة التي ذكرتها [ لك ] هي أن قال : « فإن قلت : المُعَاقب من الفريقين هم اليهود ، فلمَ شورك بينهم في العقوبة؟
قلت : كان اليهود - لعنوا - يزعمون أن المسلمين ضالُّون مستوجبون للعقوبة ، فقيل لهم : مَنْ لعنه الله شَرٌّ عقوبة في الحقيقة ، فاليقين لأهل الإسلام في زعمكم ودعواكم » .

وفي عبارته بعض علاقة وهي قوله : « فَلِمَ شورك بينهم » أي : بين اليهود وبين المؤمنين .
وقوله : « من الفريقين » يعني بهما أهل الكتاب المخاطبين ب « أنبئكم » ، ومَنْ لعنه الله وغضب عليه ، وقوله : « في العقوبة » ، أي : التي وقعت المثوبة موقعها ، ففسرها بالأصل ، وفسَّر غيره المثوبة هنا بالرجوع إلى الله - تعالى - يوم القيامة ، ويترتب على التفسيرين فائدة تظهر قريباً .
قال القرطبي : المعنى فبشِّر من نقمكم علينا ، وقيل : من شر ما تريدون لنا من المكروه ، وهذا جواب لقولهم : « ما نعرف ديناً أشرَّ من دينكم » .
و « مَثُوبَةً » نصبٌ على التمييز ، ومميَّزُها « شَرٌّ » ، وقد تقدَّم في البقرة الكلامُ على اشتقاقها ووزنها ، فَلْيُلْتَفَتْ إليه . قوله تعالى : « عِنْدَ الله » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ بنفس « مَثُوبَةٌ » ، إن قُلْنا : إنها بمعنى الرجوع؛ لأنك تقول : « رَجَعْتُ عِنْدَهُ » ، والعندية هنا مجازية .
والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف؛ لأنه صفة ل « مَثُوبَةً » ، وهو في محلِّ نصبٍ ، إن قلنا : إنها اسمٌ مَحْضٌ وليستْ بمعنى الرجوعِ ، بل بمعنى عقوبة .
وقرأ الجمهورُ : « أنَبِّئُكُمْ » بتشديد الباء من « نَبَّأ » ، وقرأ إبراهيم النَّخَعِيُّ ويحيى بْنُ وثَّابٍ : « أنْبِئُكُمْ » بتخفيفها من « أنْبَأَ » ، وهما لغتان فصيحتان ، والجمهور أيضاً على « مَثُوبَة » بضم الثاء وسكون الواو ، وقرأ الأعرَجُ وابن بُرَيْدَة ونبيح وابن عمران : « مَثْوبة » بسكون الثاء وفتح الواو ، وجعلها ابن جِنِّيّ في الشذُوذِ؛ كقولهم « فَاكِهَةٌ مَقْودَةٌ للأذَى » ، بسكون القاف وفتح الواو ، يعني : أنه كان من حقِّها أن تُنْقَلَ حركةُ الواو إلى الساكن قبلها ، وتُقْلب الواوُ ألفاً ، فيقال : مَثَابَة ومقادَة كما يقال : « مَقَام » والأصل : « مَقْومٌ » .
قوله تعالى : « مَنْ لَعَنَهُ » في محلِّ « مَنْ » أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه في محلِّ رفع على خبر مبتدأ مضمرٍ ، تقديره : هُوَ مَنْ لَعنَهُ الله فإنه لما قال : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك } ، فكأنَّ قَائِلاً قال : من ذلك؟ فقيل : هو من لَعَنَهُ الله .
ونظيرُهُ قوله تعالى : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار } [ الحج : 72 ] أي : هو النار .
وقدَّر مكيٌّ قبله مضافاً محذوفاً ، قال : « تقديرُه : لَعْنُ مَنْ لَعَنَهُ الله » ، ثم قال : وقيل : « مَنْ » في موضعِ خَفْضٍ على البدلِ من « بِشَرٍّ » بدلِ الشيء من الشَّيْء ، وهو هو ، وكان ينبغي له أن يقدِّرَ في هذا الوجه مضافاً محذوفاً؛ كما قدَّره في حالة الرفع؛ لأنه إنْ جَعَلَ « شَرًّا » مراداً به معنًى ، لزمه التقديرُ في الموضعين ، وإن جعله مراداً به الأشخاصُ ، لزمَهُ ألاَّ يُقَدَّر في الموضعَيْن .

الثاني : أنه في محل جر ، كما تقدَّم بيانُه عن مكيٍّ والمعنى : أنبئكم عن من لَعَنَهُ الله .
الثالث : أنه في محلِّ نصبٍ على البَدَل من محل « بِشَرٍّ » .
الرابع : أنه في محلِّ نصبٍ على أنه منصوبٌ بفعل مقدَّر يدل عليه « أنَبِّئُكُمْ » ، تقديره : أعَرِّفُكُمْ من لَعَنَهُ الله ، ذكره أبو البقاء ، و « مَنْ » يُحْتَملُ أن تكون موصولةً ، وهو الظاهرُ ، ونكرةً موصوفةً ، فعلى الأوَّل : لا محلَّ للجملة التي بعدها ، وعلى الثاني : لها محلٌّ بحسب ما يُحْكَمُ على « مَنْ » بأحد الأوجه السابقة ، وقد حمل على لفظها أولاً في قوله « لَعَنَهُ » و « عَلَيْهِ » ، ثم على معناها في قوله : « مِنْهُمُ القِرَدَة » ، ثم على لفظها في قوله : « وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ » ثم على لفظها في قوله : « أولَئِكَ » ، فجَمَع في الحمل عليها أربعَ مرَّاتٍ .
و « جَعَلَ » هنا بمعنى « صَيَّرَ » فيكون « مِنْهُمْ » في محل نصب مفعولاً ثانياً ، قُدِّم على الأول فيتعلق بمحذوف ، أي : صَيَّر القردةَ والخنازيرَ كائِنِينَ منهم ، وجعلها الفارسيُّ في كتاب « الحُجَّة » له بمعنى « خَلَقَ » ، قال ابن عطية : « وهذه منه - رحمه الله - نزعةٌ اعتزاليَّة؛ لأن قوله : » وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ « ، تقديره : ومن عَبَد الطَّاغُوت ، والمعتزلةُ لا ترى أن الله تعالى يُصَيِّرُ أحَداً عابد طاغُوتٍ » انتهى ، والذي يُفَرُّ منه في التَّصْييرِ هو بعينه موجودٌ في الخَلْق .
وجعل أبو حيان قوله تعالى { مَن لَّعَنَهُ الله } إلى آخره - مِنْ وَضْعِ الظاهرِ موضعَ المضْمَر؛ تنبيهاً على الوصف الذي به حصل كونهم شرًّا مثوبةً ، كأنه قيل : قل هَلْ أنبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلك عند الله مَثُوبَةً؟ أنتم ، أيْ : هُمْ أنْتُمْ ، ويَدُلُّ على هذا المعنى قوله بعدُ : { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا } [ المائدة : 61 ] ، فيكون الضميرُ واحداً ، وجعل هذا هو الذي تقتضيه فصاحةُ الكلام ، وقرأ أبيُّ بْنُ كَعْبٍ وعبد الله بْنُ مَسْعُود - رضي الله عنهما - : « من غضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَجَعَلهُمْ قِرَدَةً » وهي واضحةٌ .
فصل
المُرادُ { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } يعني : اليَهُودَ ، { وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة } : وهم أصْحَابُ السَّبْتِ ، و « الخَنَازِير » : وهم كُفَّارُ مائِدة عيسى - عليه الصلاة والسلام - ، ورُوِي [ عن ] عَلِيّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّ الممسُوخِين مِنْ أصْحَاب السَّبْت فشبابُهُم مُسِخُوا قِرَدَةً ، وَمَشَايِخُهُمْ مُسِخُوا خَنَازِيرَ .
قوله تعالى : « وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ » في هذه الآية أربعٌ وعشرون قراءة ، اثنتان في السَّبْعِ ، وهما « وعَبَدَ الطَّاغُوت » على أنَّ « عَبَدَ » فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للفاعل ، وفيه ضميرٌ يعودُ على « مَنْ » ؛ كما تقدَّم ، وهي قراءة جمهور السَّبْعة [ غيرَ حَمْزة ] أي : جعل منهم من « عَبَدَ الطَّاغُوتَ » أي : أطَاعَ الشَّيْطَان فيما سَوَّل له ، ويؤيده قراءة ابن مسعُودٍ « وَمَنْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ » .

والثانية : « وَعبُدَ الطَّاغُوتِ » بضم الباء ، وفتح الدال ، وخَفْض الطاغوتِ ، وهي قراءةُ حمزة - رحمه الله - والأعْمَشِ ويحيى بْنِ وثَّاب؛ وتوجيهُها كما قال الفارسيُّ وهو أن « عَبُداً » واحدٌ يُرادُ به الكَثْرةُ ، كقوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ } [ النحل : 18 ] وليس بجَمْعِ « عَبْدٍ » ؛ لأنه ليس في أبنيةِ الجَمْعِ مثلُه ، قال : « وقد جاءَ على فعُلٍ؛ لأنه بناءٌ يُرَادُ به الكثرةُ والمبالغةُ في نحْوِ يَقُظٍ وندُسٍ؛ لأنه قد ذهب في عبادة الطاغوت كلَّ مذْهَبٍ ، وبهذا المعنى أجاب الزمخشريُّ أيضاً ، قال - رحمه الله تعالى - : معناه الغُلُّو في العبوديَّة؛ كقولهم : » رَجُلٌ حَذُرٌ وفَطُنٌ « للبليغ في الحَذَر والفطْنة؛ وأنشد لِطَرَفَة : [ الكامل ]
1989- أبَنِي لُبَيْنَى ، إنَّ أمَّكُم ... أمَةٌ ، وَإِنَّ أبَاكُمُ عَبُدُ
قد سَبَقُهمَا إلى هذا التوجيهِ أبو إسْحَاق ، وأبو بَكْر بنُ الأنْبَارِيِّ ، قال أبو بَكْرٍ : » وضُمَّتِ الباءُ للمبالغةِ؛ كقولهم للفَطِن : « فَطُنٌ » وللحَذِر : « حَذُرٌ » ، يَضُمُّون العين للمبالغةِ؛ قال أوس بن حُجْرٍ : [ الكامل ]
1990- أبَنِي لُبَيْنَى ، إنَّ أمَّكُمُ ... أمَةٌ ، وإنَّ أبَاكُمُ عَبُدُ
بضمِّ الباء « . ونَسَب البيت لابن حُجْر ، وقد تقدَّم أنه لطرفة ، ومِمَّنْ نَسَبه لطرفة الشيخُ شهابُ الدينِ أبو شَامَةَ .
وقال أبو إسحاق : ووجْهُ قراءةِ حمزة : أنَّ الاسم بُني على » فَعُلٍ « ؛ كما تقول : » رَجُلٌ حَذُرٌ « ، وتأويلُه أنه مبالغٌ في الحَذَرِ ، فتأويلُ » عَبُدٍ « : أنَّه بلغَ الغايةَ في طاعة الشيطانِ ، وكأنَّ هذا اللفظ لفظٌ واحدٌ يَدُلُّ على الجَمْعِ؛ كما تقول للقوم » عَبُدُ العَصَا « تريدُ : عَبيدَ العَصَا ، فأخذ أبو عليّ هذا ، وبَسَطَهُ . ثم قال » وجاز هذا البناءُ على عَبْدٍ؛ لأنه في الأصلِ صِفَةٌ ، وإن كان قد استُعْمِلَ استعمالَ الأسماءِ ، لا يُزيله ذلك عن حُكْمِ الوصْفِ ، كالأبْطَحِ والأبْرَقِ استُعْمِلاَ استعمال الأسماء حتَّى جُمِعَا جَمْعَهَا في قولهم : أبَارِق وأبَاطِح كأجَادِل ، جَمْع الأجْدَل ، ثم لم يُزِلْ ذلك عنهما حكم الصفة؛ يَدُلُّكَ على ذلك مَنْعُهم له الصَّرْف؛ كأحْمَرَ ، وإذا لم يَخْرج العبدُ عن الصفة ، لم يمتنعْ أنْ يُبنَى بناءَ الصفات على فَعُلٍ ، نحو : يَقُظٍ « .
وقال البَغَوِي : هُمَا لُغَتَانِ : » عَبْد « بجزم الباء ، و » عَبُد « بضمها ، مثل سَبْع ، وَسَبُع .
وطعن بعض الناس على هذه القراءة ، ونسب قارئها إلى الوهْم؛ كالفراء ، والزجاج ، وأبي عُبَيْدٍ ، ونصيرٍ الرازيِّ النحويِّ صاحب الكسائيِّ؛ قال الفرَّاء : » إنما يجوز ذلك في ضرورةِ الشِّعْرِ - يعني ضمَّ باء « عَبُدٍ » - فأمَّا في القراءة فَلاَ « ، وقال أيضاً : » إنْ تكنْ لغةً مِثْلَ حَذُرٍ وعَجُلٍ ، جاز ذلك ، وهو وجهٌ ، وإلاَّ فلا تجوزُ في القراءة « ، وقال الزَّجَّاج : » هذه القراءةُ ليستْ بالوجهِ؛ لأنَّ عَبُداً على فَعُلٍ ، وهذا ليس من أمثلةِ الجَمْعِ « ، وقال أبو عُبَيْدٍ : » إنما معنى العَبُدِ عندهم الأعْبُدُ ، يريدون خَدَم الطَّاغوتِ ، ولم نجدْ هذا يَصِحُّ عند أحدٍ من فصحاء العرب أن العَبْدَ يقال فيه عَبُدٌ ، وإنما عَبْدٌ وأعْبُدٌ « ، وقال نصيرٌ الرزايُّ : » هذا وَهْمٌ مِمَّن قرأ به ، فليتَّق الله مَنْ قرأ به ، وليسألْ عنه العلماء حتى يُوقَفَ على أنه غير جائز « .

قال شهاب الدين : قد سألوا العلماءَ عن ذلك ووجدوه صحيحاً في المعنى بحمد الله تعالى ، وإذا تواتر الشيءُ قرآناً ، فلا التفاتَ إلى مُنْكِره؛ لأنه خَفِيَ عليه ما وَضَح لغيره .
وقَدْ ذَكَرُوا في تَوْجِيه هذه القِرَاءة وُجُوهاً : مِنْهَا ما تقدَّمَ [ من أنَّهم ] ضَمُّوا البَاءَ للمبالَغَة ، كقولِهِم : « حَذُر » و « فَطُن » ومنها ما نقله البَغَوِي وغيره : أنَّ « العبْد » و [ « العبُد » ] لغتان كقولهم سَبْع ، وسَبُع .
ومنها : أن العَبْد جمعه عِبَاد ، والعِبَادُ جَمْعُ عُبُد ، كثِمَار وَثُمُر ، فاستثقلوا ضَمَّتَيْن مُتَواليتيْن فأبْدِلت الأولى فَتْحَة .
ومنها : يحتمل أنهم أرادوا أعْبُد الطَّاغُوت ، مثل فَلْسٍ وأفْلُسٍ ثم [ حُذِفَتِ « الهَمْزَةُ » ونقلت حَرَكَتُها إلى « العَيْن » .
ومنها : أنه أراد : وعبدةَ الطَّاغُوت ، ثم ] حذفت الهاء وضم الباء لِئَلاَّ يُشْبِه الفِعْلَ . وأمَّا القراءاتُ الشاذَّةُ فقرأ أبَيٌّ : « وعَبَدُوا » بواو الجمع؛ مراعاةً لمعنى « مَنْ » ، وهي واضحةٌ ، وقرأ الحسنُ البصريُّ في رواية عبَّادٍ : « وعَبْدَ الطَّاغُوتَ » بفتح العين والدال ، وسكون الباء ، ونصب التاء من « الطَّاغُوتَ » ، وخرَّجها ابن عطية على وجهيْنِ أحدهما : أنه أراد : « وعَبْداً الطَّاغُوتَ » ، فحذف التنوينَ من « عَبْداً » ؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله : [ المتقارب ]
1991- . . ... وَلاَ ذَاكِرِ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا
والثاني : أنه أراد « وعَبَدَ » بفتح الباء على أنه فِعْلٌ ماضٍ؛ كقراءة الجماعة ، إلا أنه سكَّن العينَ على نحوِ ما سكَّنها في قول الآخر : [ الطويل ]
1992- وَمَا كُلُّ مَغْبُونٍ وَلَوْ سَلْفَ صَفْقُهُ .. . . .
بسكون اللام ، ومثله قراءةُ أبي السَّمَّال : { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } [ المائدة : 64 ] بسكون العين ، قال شهاب الدين : ليس ذلك مثل « لُعْنُوا » ؛ لأنَّ تخفيف الكسْرِ مقيسٌ؛ بخلاف الفتح؛ ومثلُ « سَلْفَ » قولُ الآخر : [ الرمل ]
1993- إنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ ... قَدْ خُلِطْ بجُلْجُلاَنِ
من حيث إنه خَفَّف الفَتْحة . وقال أبو حيان - بعد أن حكى التخريج الأوَّل عن ابن عطية - : لا يَصِحُّ؛ لأنَّ عَبْداً لايمكنُ أن ينصبَ الطاغوتَ؛ إذ ليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعلٍ ، فالتخريجُ الصحيحُ أن يكون تخفيفاً من « عَبَدَ » ك « سَلْفَ » في « سَلَفَ » ، قال شهاب الدين : لو ذكر التخريجَيْن عن ابن عطيَّة ، ثم استشكل الأولَ ، لكان إنصافاً؛ لئلا يُتَوَهَّم أن التخريج الثاني له ، ويمكن أن يقال : إنَّ « عَبْداً » لِما في لفظه من معنى التذلل والخضوعِ دَلَّ على ناصبٍ للطاغوت حُذِفَ ، فكأنه قيل : مَنْ يعبدُ هذا العَبْدَ؟ فقيل : يَعْبُدُ الطاغوتَ ، وإذا تقرَّر أنَّ « عَبْدَ » حُذِفَ تنوينُه فهو منصوبٌ عطْفاً على القِردَةِ ، أي : وجعلَ منْهُمْ عَبْداً للطَّاغوتِ .

وقرأ الحسنُ أيضاً في روايةٍ أخرى كهذه القراءة ، إلا أنه جَرَّ « الطَّاغُوت » وهي واضحةٌ ، فإنه مفرد يُرادُ به الجنسُ أضيفَ إلى ما بعده ، وقرأ الأعْمَشُ والنخَعِيُّ وأبو جعفر : « وعُبِدَ » مبنيًّا للمفعول ، « الطَّاغُوتُ » رفعاً ، وقراءة عبد الله كذلك ، إلا أنَّه زاد في الفعل تاء التأنيث ، وقرأ : « وعُبِدَتِ الطَّاغُوتُ » والطاغوتُ يذكَّر ويؤنَّث؛ قال تعالى : { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] وقد تقدَّم في البقرة [ الآية : 25 ] ، قال ابن عطية : « وضَعَّفَ الطبريُّ هذه القراءةَ ، وهي متجهةٌ » ، يعني : قراءةَ البناءِ للمفعولِ ، ولم يبيِّنْ وجهَ الضعفِ ، ولا توجيهَ القراءة ، ووجهُ الضعْفِ : أنه تخلو الجملة المعطوفة على الصِّلَةِ من رابطٍ يربُطُها بالموصولِ؛ إذ ليس في « عُبِدَ الطَّاغُوتُ » ضميرٌ يعودُ على « مَنْ لَعَنَهُ الله » ، لو قلت : « أكْرَمْتُ الذينَ أهَنْتَهُمْ وضُرِبَ زَيْدٌ » على أن يكون « وضُرِبَ » عطفاً على « أكْرَمْتُ » لم يَجُزْ ، فكذلك هذا ، وأمَّا توجيهُها ، فهو كما قال الزمخشريُّ : إنَّ العائدَ محذوفٌ ، تقديرُه : « وعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ أوْ بِيْنَهُمْ » .
وقرأ ابن مسعُود في رواية عبد الغفَّار عن علقمة عنه : « وعَبُدَ الطَّاغُوتُ » بفتح العين ، وضمِّ الباء ، وفتحِ الدالِ ، ورفعِ « الطَّاغُوتُ » ، وفيها تخريجان :
أحدهما : - ما ذكره ابن عطية - وهو : أن يصيرَ له أنْ عُبِدَ كالخُلُقِ والأمْرِ المعتاد المعروفِ ، فهو في معنى فَقُهَ وشَرُفَ وظَرُفَ ، قال شهاب الدين : يريد بكونه في معناه ، أي : صار له الفِقْهُ والظَّرْفُ خُلُقاً معتاداً معروفاً ، وإلاَّ فمعناه مغايرٌ لمعاني هذه الأفعال .
والثاني : - ما ذكره الزمخشري - وهو : أنْ صارَ معبوداً من دونِ الله ك « أمُرَ » ، أي : صَارَ أميراً ، وهو قريبٌ من الأوَّلِ ، وإنْ كان بينهما فرقٌ لطيفٌ .
وقرأ ابن عبَّاس في رواية عِكْرِمة عنه ومُجَاهِد ويحيى بن وثَّاب : « وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ » بضم العين والباء ، وفتح الدال وجر « الطَّاغُوتِ » ، وفيها أقوال :
أحدها : - وهو قول الأخفش - : أنَّ عُبُداً جمع عَبِيدٍ ، وعَبِيدٌ جَمْعُ عَبْدٍ ، فهو جمعُ الجمعِ ، وأنشد : [ الرمل ]
1994- أنْسُبِ الْعَبْدَ إلى آبَائِهِ ... أسْوَدَ الْجِلْدَةِ مِنْ قَوْمٍ عُبُدْ
وتابعه الزمخشريُّ على ذلك ، يعني أنَّ عَبِيداً جمعاً بمنزلة رَغيفٍ مفرداً فيُجْمَعُ جمعُه؛ كما يُقال : رَغِيفٌ ورُغُفٌ .

الثاني - وهو قولُ ثَعْلَب - : أنه جمعُ عَابِدٍ كشَارِفٍ وشُرُفٍ؛ وأنشد : [ الوافر ]
1995- ألاَ يَا حَمْزَ للشُّرُفِ النِّوَاءِ ... فَهُنَّ مُعَقَّلاتٌ بِالْفِنَاءِ
والثالث : أنه جَمْعُ عَبْدٍ؛ كسَقْفٍ وسُقُفٍ ورَهْنٍ ورُهُنٍ .
والرابع : أنه جمع عبادٍ ، وعبادٌ جمعُ « عَبْدٍ » ، فيكونُ أيضاً جمعَ الجَمْع؛ مثل « ثِمَار » هو مع « ثَمَرَةٍ » [ ثم يُجْمَعُ على « ثُمُرٍ » ] ، وهذا؛ لأنَّ « عِباداً » و « ثِمَاراً » جمعَيْن بمنزلة « كِتَابٍ » مفرداً ، و « كِتَاب » يجمع على « كُتُب » فكذلك ما وازَنَه .
وقرأ الأعمَشُ : « وعُبَّدَ » بضمِّ العين وتشديد الباء مفتوحةً وفتحِ الدَّال ، « الطَّاغُوتِ » بالجرِّ ، وهو جمع : عَابدٍ؛ كضُرَّبٍ في جمعِ ضَاربٍ ، وخُلَّص في جمع خالصٍ .
وقرأ ابنُ مسعود أيضاً في رواية علقمة : « وعُبَدَ الطَّاغُوتِ » بضمِّ العين وفتحِ الباء والدالِ ، و « الطَّاغُوتِ » جَرًّا؛ وتوجيُهها : أنه بناءُ مبالغةٍ ، كحُطَمٍ ولُبَدٍ ، وهو اسْمُ جِنْسٍ مفردٍ يُرَادُ به الجَمْعُ ، والقولُ فيه كالقول في قراءةِ حمزة ، وقد تقدَّمَتْ .
وقرأ ابن مَسْعُودٍ في رواية عَلْقمَةَ أيضاً : « وعُبَّدَ الطَّاغُوتَ » بضمِّ العين ، وبشد الباء مفتوحة ، وفتح الدال ، ونصب « الطَّاغُوت » ؛ وخرَّجها ابن عطية على أنها جمعُ عَابِدٍ؛ كضُرَّبٍ في جمع ضارِبٍ ، وحَذَف التنوين من « عُبَّداً » ؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله : [ الطويل ]
1996- . . ... وَلاَ ذَاكِر اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ
قال : « وقد تقدَّمَ نَظِيرُهُ » ، يعني قراءةَ : « وَعَبْدَ الطَّاغُوتَ » بفتح العين والدال ، وسكونِ الباءِ ، ونصبِ التاء ، وكان ذَكَر لها تخريجَيْن ، أحدُهما هذا ، والآخرُ لا يمكنُ ، وهو تسكينُ عين الماضي ، وقرأ بُرَيدة الأسلَمِيُّ فيما نقلَه عنه ابنُ جريرٍ « وعَابِدَ الشَّيْطَان » بنصب « عَابِدَ » وجَرِّ « الشَّيْطَانِ » بدلَ الطَّاغُوتِ ، وهو تفسيرٌ ، لا قراءةٌ ، وقرأ أبو واقدٍ الأعْرَابِيُّ : « وعُبَّادَ » بضمِّ العين وتشديد الباءِ بعدها ألف ونصبِ الدال ، والطَّاغُوتِ بالجرِّ ، وهي جمعُ عابدٍ؛ كضُرَّابٍ في ضاربٍ .
وقرأ بعضُ البصْريِّين : « وعِبَادَ الطَّاغُوتِ » بكسر العين ، وبعد الباء المخفَّفة ألف ، ونصْبِ الدال ، وجَرِّ « الطَّاغُوتِ » ، وفيها قولان :
أحدهما : أنه جمعُ عابدٍ؛ كقَائِمٍ وقيَامٍ ، وصَائِمٍ وصيَامٍ .
والثاني : أنها جمعُ عَبْد؛ وأنشد سيبَوَيْهِ : [ الوافر ]
1997- أتُوعِدُنِي بِقَوْمِكَ يَا بْنَ حَجْلٍ ... أُشَابَاتٍ يُخَالُونَ الْعِبَادَا
قال ابن عطية : « وقد يجوزُ أن يكونَ جَمْعَ » عَبْدٍ « ، وقلَّما يأتي » عِبَاد « مضافاً إلى غير الله تعالى ، وأنْشَد سيوَيْهِ : » أتُوعِدُنِي « البيتَ ، قال أبو الفتْحِ : يريد عبادَ آدم - عليه السلام - ولو أراد عِبَاد [ الله ] فليس ذلك بشَيْءٍ يُسَبُّ به أحدٌ ، فالخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادُ الله » قال ابن عطيَّة : « وهذا التعليقُ بآدَمَ شاذٌ بعيدٌ ، والاعتراضُ باقٍ ، وليس هذا مِمَّا تَخَيَّلَ الشاعرُ قَصْدَهُ ، وإنما أرادَ العَبِيدَ ، فساقَتْه القافيةُ إلى العِبَادِ؛ إذ قد يُقَالُ لِمَنْ يملكه مِلْكاً مَّا ، وقد ذكر أن عربَ الحِيرةِ سُمُّوا عِبَاداً؛ لدخولهم في طاعةِ كِسْرَى ، فدانَتْهم مملكتُه » ، قال شهاب الدين : قد اشْتَهَرَ في ألسنةِ الناسِ أن « عَبْداً » المضافَ إلى الله تعالى يُجْمَعُ على « عِبَاد » وإلى غيره على « عَبِيد » ، وهذا هو الغالبُ ، وعليه بَنَى أبو محمَّد .

وقرأ عَوْنٌ العقيليُّ في رواية العبَّاس بْنِ الفَضْل عنه : « وعَابِدُ الطَّاغُوتِ » بضمِّ الدالِ ، وجَرِّ الطاغوت؛ كضَاربِ زَيْدٍ ، قال أبو عمرو : تقديرُه : « وهُمْ عَابِدُ الطَّاغُوتِ » ، قال ابن عطية : « فهو اسمُ جنْسٍ » ، قلت : يعني أنه أرادَ ب « عابد » جماعةً ، قلتُ : وهذه القراءةُ يجوز أن يكونَ أصلُها « وَعَابِدُو الطَّاغُوتِ » جَمْعَ عابد جمع سلامةٍ ، فلمَّا لَقِيتِ الواوُ لامَ التعريفِ ، حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين ، فصار اللفظُ بدالٍ مضْمُومةٍ؛ ويؤيِّدُ فَهْمَ هذا أنَّ أبا عَمْرو قدَّر المبتدأ جَمْعاً ، فقال : « تقديرُه : هُمْ عَابِدُو » ، اللهم إلا أنْ ينقلُوا عن العقيليِّ أنه نَصَّ على قراءتِه أنها بالإفراد ، أو سمعُوهُ يقف على « عَابِد » ، أو رَأوْا مصحفَه بدالٍ دونَ واوٍ؛ وحينئذٍ تكونُ قراءته كقراءةِ ابن عبَّاس : « وعَابِدُوا » [ بالواو ] ، وعلى الجملة ، فقراءتُهما متَّحِدةٌ لفظاً ، وإنَّما يَظْهَرُ الفَرْقُ بينهما على ما قالُوه في الوقْفِ أو الخَطِّ .
وقرأ ابن عبَّاس في روايةٍ أخرى لعكْرِمَةَ : « وعَابِدُوا » بالجمْعِ ، وقد تقدَّم ذلك ، وقرأ ابن بُرَيْدَةَ : « وعَابِدَ » بنصب الدالِ؛ كضَارِبِ زَيْدٍ ، وهو أيضاً مفرد يُرادُ به الجِنْسُ ، وقرأ ابن عبَّاس وابن أبي عَبْلَة : « وعبدَ الطَّاغُوت » بفتحِ العينِ والباءِ والدالِ ، وجَرِّ « الطَّاغُوتِ » ؛ وتخريجُها : أنَّ الأصلَ : « وَعَبَدَةَ الطَّاغُوتِ » وفاعِل يُجْمَعُ على فَعَلَة ، كَفَاجِرٍ وفَجَرَةٍ ، وكَافِرٍ وكَفَرةٍ ، فحُذِفَتْ تاءُ التأنيثِ للإضافة؛ كقوله : [ الرجز ]
1998- قَامَ وُلاَهَا فَسَقوْهُ صَرْخَدَا ... أي : وُلاتُهَا؛ وكقوله : [ البسيط ]
1999- . . ... وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذِي وَعدُوا
أي : عدةَ الأمرِ ، ومنه : { وَإِقَامَ الصلاة } [ الأنبياء : 73 ] أي : إقامةِ الصلاة ، ويجوزُ أن يكون « عبد » اسم جنسٍ لعابدٍ؛ كخَادِمٍ وخدمٍ ، وحينئذ : فلا حَذْفَ تاء تأنيثٍ لإضافة ، وقُرِئ : « وعبَدَةَ الطَّاغُوتِ » بثبوت التاء ، وهي دالَّةٌ على حَذْفِ التاء للإضافة في القراءةِ قبلها ، وقد تقدَّم توجيُهها أنَّ فَاعِلاً يُجْمَعُ على « فَعَلَةٍ » كَبَارٍّ وبررَةٍ ، وفَاجِرٍ وفَجَرَةٍ .
وقرأ عُبْيدُ بْنُ عُمَيْر : « وأعْبُدَ الطَّاغُوتِ » جمع عَبْدٍ ، كفَلْسٍ وأفْلُس ، وكَلْبٍ وأكْلُبٍ ، وقرأ ابن عبَّاس : « وعَبِيدَ الطَّاغُوتِ » جمعَ عَبْدٍ أيضاً ، وهو نحو : « كَلْبٍ وكَلِيبٍ » قال : [ الطويل ]
2000- تَعَفَّقَ بِالأرْطَى لَهَا وَأرَادَهَا ... رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ

وقُرئ أيضاً : « وعَابِدِي الطَّاغُوتِ » ، وقرأ عبد الله بن مسعُود : « ومَنْ عَبَدُوا » ، فهذه أربعٌ وعشرون قراءة ، وكان ينبغي ألاَّ يُعَدَّ فيها : « وعَابِدَ الشَّيْطَانِ » ؛ لأنها تفسيرٌ ، لا قراءة . وقال ابن عطيَّة : « وقد قال بعضُ الرواة في هذه الآية : إنها تجويزٌ ، لا قراءة » يعني : لَمَّا كَثُرت الرواياتُ في هذه الآية ، ظَنَّ بعضُهم؛ أنه قيل على سبيلِ الجَوَاز ، لا أنها منقولةٌ عن أحَدٍ ، وهذا لا ينبغي أنْ يُقال ، ولا يُعْتقدَ؛ فإنَّ أهلَها إنما رَوَوْهَا قراءةً تَلَوْهَا على مَنْ أخَذُوا عنه ، وهذا بخلاف و « عَابِدَ الشَّيْطَانِ » ، فإنَّه مخالفٌ للسَّوَاد الكريم .
وطريقُ ضبْطِ القراءةِ في هذا الحَرْفِ بعدما عُرِفَ القُرَّاء : أن يقال : سبع قراءاتٍ مع كَوْنِ « عَبَدَ » فعلاً ماضياً ، وهي : وعَبَد ، وعَبَدُوا ، ومَنْ عَبَدُوا ، وعُبِدَ ، وعُبِدَت ، وعَبُدَ ، وعَبْدَ في قولنا : إنَّ الباء سَكَنَتْ تخفيفاً ، ك « سَلْفَ » في « سَلَفَ » ، وتِسْعُ قراءاتٍ مع كونه جمعَ تكسِيرٍ ، وهي : وعُبُدَ ، وعُبَّدَ ، مع جَرِّ الطاغوتِ ، وعُبَّدَ مع نصبه ، وعُبَّاد ، وعَبَدَ على حَذْفِ التاءِ للإضافةِ ، وعَبَدَةَ ، وأعْبُد ، وعَبِيدَ ، وستٌّ مع المفْرَدِ : وعَبُدَ ، وعُبَدَ ، وعَابِدَ الطَّاغُوتِ ، وعَابِدُ الطاغوتِ بضم الدال ، وعَابِدَ الشيطانِ ، وعَبْدَ الطَّاغُوتِ ، وثِنتان مع كونه جمع سلامة : وعَابِدُوا بالواو ، وعَابِدِي بالياء ، فعلى قراءةِ الفِعْلِ يجُوزُ في الجملةِ وجهان :
أحدهما : أن تكون معطوفةً على الصِّلة قبلها ، والتقدير : مَنْ لَعَنَهُ الله وعَبَدَ الطَّاغُوتَ .
والثاني : أنه ليس داخلاً في حَيِّز الصلةِ ، وإنما هو على تقديرِ « مَنْ » ، أي : ومن عَبَدَ؛ ويدُلُّ له قراءةُ عبد الله بإظهارِ « مَنْ » ، إلاَّ أنَّ هذا - كما قال الواحديُّ - يؤدِّي إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه ، وهو ممنوعٌ عند البصريِّين ، جائزٌ عند الكوفيين ، وسيأتي جميعُ ذلك في قوله تعالى : { وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } [ العنكبوت : 46 ] ، أي : وبالذي أُنْزِلَ ، وعلى قراءةِ جمع التكسير ، فيكون منصوباً عطفاً على القِرَدَةِ والخَنَازِيرِ ، أي : جَعَل منهمُ القِرَدَةَ وعِبَادَ وعُبَّادَ وعَبِيدَ ، وعلى قراءةِ الإفراد كذلك أيضاً ، ويجوزُ النصبُ فيها أيضاً من وجهٍ آخر ، وهو العطفُ على « مَنْ » في { مَن لَّعَنَهُ الله } ، إذا قلنا بأنه منصوبٌ على ما تقدَّم تحريرُه قبلُ ، وهو مرادٌ به الجنْسُ ، وفي بعضها قُرئ برفعه؛ نحو : « وعَابِدُ الطَّاغُوتِ » ، وتقدَّم أن أبا عمرو يُقَدِّر له مبتدأ ، أي : هُمْ عَابِدُو وتقدَّم ما في ذلك .
قال شهاب الدين : وعندي أنه يجوزُ أن يرتفع على أن معطوفٌ على « مَنْ » في قوله تعالى { مَن لَّعَنَهُ الله } ؛ ويَدُلُّ لذلك : أنهم أجازوا في قراءةِ عبد الله : « وَعَابِدُوا » بالواوِ هذين الوجهَيْن ، فهذا مثله ، وأما قراءة جمع السلامة ، فمن قرأ بالياء ، فهو منصوبٌ؛ عطفاً على القردةِ ، ويجوزُ فيه وجهان آخران :
أحدهما : أنه منصوبٌ عطفاً على « مَنْ » في { مَن لَّعَنَهُ الله } إذا قلنا : إنَّ محلَّها نصبٌ كما مَرَّ .

والثاني : أنه مجرورٌ؛ عطفاً على { مَن لَّعَنَهُ الله } أيضاً ، إذا قُلْنا بأنَّها في محلِّ جرٍّ بدلاً من « بِشَرٍّ » ؛ كما تقدَّم إيضاحُه ، وهذه أوجهٌ واضحةٌ عَسِرةُ الاستنباطِ ، والله أعلمُ .
ومَنْ قرأ بالواو فرفعه : إمَّا على إضمار مبتدأ ، أي : هُمْ عَابِدُوا الطَّاغُوتِ ، وإمَّا نَسَقٌ على « مَنْ » في قوله تعالى : { مَن لَّعَنَهُ الله } كما تقدَّم .
فصل
قِيلَ : الطَّاغُوتُ الْعِجْل ، وقيل : الأحْبَارُ ، وكلُّ مَنْ أطاعَ أحَداً فِي مَعْصِيَةٍ فَقَدْ عَبَدَه .
واحْتَجُّوا بهذه الآية على أنَّ الكُفْرَ بِقَضَاءِ اللَّهِ ، قالُوا : لأنَّ تقديرَ الآيَة : وجَعَلَ اللَّهُ منهم من عَبَدَ الطَّاغُوت ، وإنَّما يُعْقَلُ معنى هذا الجَعْل ، إذا كانَ هُوَ الذي جعل فيهم تِلْكَ العِبَادَةَ ، إذْ لوْ كَانُوا هُمُ الجَاهِلُون لكَانَ اللَّهُ تعالى [ ما ] جعلهم عَبَدَة الطَّاغُوت ، بلْ كَانُوا هُمُ الذين جعلوا أنْفُسَهُم كذلك وذلك خِلافُ الآية .
قالتِ المُعْتَزِلَة : مَعْنَاه أنَّهُ تعالى حَكَمِ عليهم بذلك كَقوْلِهِ تعالى : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] وقد تقدَّمَ الكلامُ فيه .
[ قوله تعالى : « أولئك شَرٌّ » مبتدأ وخبر ، و « مكاناً » نصب على التمييز ، نَسَب الشَّر للمكان وهو لأهله ، كنايةً عن نهايتهم في ذلك ] كقولهم : فلانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ ، وحَاصِلُهُ يرجع إلى الإشَارَةِ إلى الشَّيْءِ بذكرِ لوَازِمِه وتَوَابِعِهِ و « شَرّ » هنا على بابه من التفضيل ، والمفضَّلُ عليه فيه احتمالان :
أحدهما : أنهم المؤمنون ، فإن قيل : كيف يُقال ذلك ، والمؤمنون لا شَرَّ عنْدَهُمْ ألبتة؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : - ما قاله النحاس - أنَّ مكانَهم في الآخرة شَرٌّ مِنْ مكانِ المؤمنين في الدُّنيا؛ لِمَا يلحقُهم فيه من الشَّرِّ ، يعني : من الهمومِ الدنيويةِ ، والحاجةِ ، والإعسارِ ، وسماعِ الأذَى ، والهَضْمِ من جانبهم ، قال : « وهذا أحسنُ ما قيل فيه » .
والثاني : أنه على سبيلِ التنازُلِ والتسليم للخَصْم على زعمه؛ إلزاماً له بالحُجَّة ، كأنه قيل : شَرٌّ من مكانِهِمْ في زعْمِكُمْ ، فهو قريبٌ من المقابلة في المعنى .
والثاني من الاحتمالين : أنَّ المفضَّل عليه هم طائفةٌ من الكفارِ ، أي : أولئكَ الملعونَون المغضُوبُ عليهم المجعُولُ منهم القردةُ والخنازيرُ العابدُونَ الطَّاغوت - شرٌّ مكاناً من غيرهم مِنَ الكفرة الذين لم يَجْمَعُوا بَيْنَ هذه الخصَالِ الذَّميمة .
قوله تعالى : { وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل } أي : طريق الحقِّ .
قال المُفَسِّرون : لمَّا نزلت هذه الآيَةُ عيَّر المسلمُون أهْلَ الكِتَاب ، وقالُوا : يا إخْوَان القِرَدَةِ والخَنَازِير ، فافْتَضَحُوا ونَكَّسُوا رؤُوسَهم قال الشَّاعِر : [ الرجز ]
2001- فَلَعْنَةُ اللَّهِ على اليَهُودِ ... إنَّ اليَهُودَ إخْوَةُ القُرُودِ

وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)

قوله تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا } : الضميرُ المرفوعُ لليهودِ المعاصرينَ؛ فحينئذ : لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ ، أي : وإذا جاءَكُمْ ذريتُهم ، أو نَسْلُهم؛ لأنَّ أولئك المجعولَ منهم القردَةُ والخنازيرُ ، لم يَجِيئُوا ، ويجوزُ ألاَّ يقدَّر مضافٌ محذوفٌ؛ وذلك على أن يكونَ قولُه { مَن لَّعَنَهُ الله } [ المائدة : 60 ] إلى آخره عبارةً عن المخاطَبِينَ في قوله تعالى : { يَا أَهْلَ الكتاب } [ المائدة : 19 ] ، وأنه مِمَّا وُضِع فيه الظاهرُ موضعَ المضْمَرِ ، وكأنه قيل : أنْتُمْ ، كذا قاله أبو حيان ، وفيه نظرٌ؛ فإنه لا بدَّ من تقدير مضافٍ في قوله تعالى : { وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة } [ المائدة : 60 ] ، تقديره : وجعل من آبائِكُمْ أو أسْلافِكُمْ ، أو مِنْ جِنْسِكُمْ؛ لأن المعاصِرِينَ ليسوا مجعولاً منهم بأعيانِهِم ، فسواءٌ جعله مِمَّا ذكر أم لا ، لا بُدَّ من حذف مضاف .
قوله تعالى : { وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر } هذه جملةٌ حاليةٌ ، وفي العامل فيها وجهان :
أحدهما - وبه بدأ أبو البقاء - : أنه « قَالُوا » ، أي : قالُوا كذا في حَالِ دخولهم كفرةً وخُرُوجهم كفرةً ، وفيه نظرٌ؛ إذ المعنى يأبَاهُ .
والثاني : أنه « آمَنَّا » ، وهذا واضحٌ ، أي : قالوا آمنَّا في هذه الحالِ ، و « قَدْ » في « وَقَدْ دَخَلُوا » « وَقَدْ خَرَجُوا » لتقريب الماضِي من الحال ، وقال الزمخشريُّ : « ولمعنى آخرَ ، وهو : أنَّ أماراتِ النفاقِ كانَتْ لائحةً عليهم؛ فكان الرسولُ - عليه السلام - متوقِّعاً لإظهار الله تعالى - ما كتموه ، فدَخَلَ حرفُ التوقُّعِ ، وهو متعلِّقٌ بقوله » قَالُوا آمَنَّا « ، أي : قالوا ذلك وهذه حالهم » ، يعني بقوله : « وهُو متعلِّقٌ » ، أي : والحال ، وقوةُ كلامه تُعْطِي : أنَّ صاحبَ الحالِ وعاملَها الجملةُ المَحْكِيَّة بالقَوْل ، و « بالكُفْرِ » متعلقٌ بمحذُوفٍ؛ لأنه حالٌ من فاعلِ « دَخَلُوا » ، فهي حال من حال ، أي : دَخَلُوا ملتبسين بالكُفْر ، أي : ومعهُمُ الكُفْرُ؛ كقولهم : « خَرَجَ زَيْدٌ بِثيَابِهِ » ، وقراءةِ من قرأ : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] ، أي : وفيها الدُّهْنُ؛ ومنه ما أنشدَ الأصمعيُّ : [ الطويل ]
2002- وَمُسْتَنَّةٍ كَاسْتِنَانِ الْخَرُو ... فِ قَدْ قَطَعَ الحَبْلَ بِالْمِرْوَدِ
أي : ومِرْوَدُهُ فيه ، وكذلك « بِهِ » أيضاً حالٌ من فاعل « خَرَجُوا » . فالبَاءُ في قوله تعالى : { دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } ، يُفيدُ أنَّ الكُفْرَ معهم حالةَ الدُّخُولِ والخُرُوجِ من غيْرِ نُقْصَانٍ ، ولا تَغْيِير ألْبَتَّة ، كما تَقُولُ : « دَخَلَ زَيْدٌ بِثَوْبِهِ وخَرَجَ » أي : ثوْبُهُ حال الخُرُوجِ ، كما كَانَ حَالَ الدُّخُول . وقوله : « وَهُمْ » مبتدأ ، و « قَدْ خَرَجُوا » خبرُه ، والجملةُ حالٌ أيضاً عطفٌ على الحالِ قبلَها ، وإنما جاءتِ الأولَى فعليَّةً والثانيةُ اسميةً؛ تنبيهاً على فرطِ تهالِكهم في الكُفْرِ؛ وذلك أنهم كان ينبغي لهم ، إذا دخلُوا على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أنْ يُؤمنُوا؛ لِما يَرَوْن من حُسْنِ شيمته وهَيْبَته ، وما يظهرُ على يديهِ الشريفة من الخوارقِ والمعجزاتِ؛ ولذلك قال بعض الكَفَرَةِ : « رَأيْتُ وَجْهَ مَنْ لَيْسَ بِكَذَّابٍ » ، فلمَّا لم يَنجَعْ فيهم ذلك ، أكَّد كفرهم الثاني بأنْ أبْرَز الجملة اسميةً صدْرُها اسمٌ ، وخبرها فعلٌ؛ ليكون الإسنادُ فيها مرتين ، وقال ابن عطية : « وقوله : » وَهُمْ « تخليصٌ من احتمالِ العبارةِ أن يدخُلَ قومٌ بالكُفْرِ ، ثم يؤمنوا ، ويخرجَ قومٌ ، وهم كَفَرَة ، فكان ينطبِقُ على الجميع ، وهم قد دخلوا بالكفر ، وقد خَرَجوا به ، فأزال اللَّهُ الاحتمال بقوله : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } ، أي : هُمْ بأعيانهم » ، وهذا المعنى سبقه إليه الواحديُّ ، فبسطه ابن عطيَّة ، قال الواحديُّ : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } أكَّد الكلام بالضَّمير ، تعييناً إياهم بالكفر ، وتمييزاً لهم عن غيَرِهِمْ ، وقال بعضهم : معنى « هُم » التأكيدُ في إضافة الكُفْر إليهم ، ونَفْيِ أن يكون من الرسولِ ما يوجبُ كفرَهُمْ؛ مِنْ سوءِ معاملته لهم ، بل كان يلطفُ بهم ويعاملُهم أحسنَ معاملةٍ ، فالمعنَى : أنهم هم الذين خَرَجُوا بالكُفْر باختيار أنفُسِهِمْ ، لا أنَّكَ أنْتَ الذي تسبَّبْتَ لبقائِهم في الكُفْر ، وقال أبو البقاء : « ويجوز أن يكون التقديرُ : وقد كانوا خرجُوا به » ، ولا معنى لهذا التأويلِ ، والواوُ في قوله تعالى : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون عاطفةً لجملةِ حالٍ على مثلها .

والثاني : أن تكونَ هي نفسُها واوَ الحال؛ وعلى هذا : يكونُ في الآية الكريمة حجةٌ لمن يُجِيزُ تعدُّدَ الحال لذي حالٍ مفردٍ من غير عطف ، ولا بدل إلا في أفعلِ التفضيل ، نحو : « جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكاً كَاتِباً » ؛ وعلى الأول : لا يجوزُ ذلك إلا بالعطفِ أو البدلِ ، وهذا شبيهٌ بالخلاف في تعدُّد الخبر .
قوله تعالى : « وإذا جَاءُوكم » يعني : هؤلاء المُنَافِقِين وقيل : هُم الذين آمَنُوا بالذي أنْزِلَ على الَّذِين آمَنُوا وجْهَ النَّهار ، دَخَلوا على النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وقالوا : آمَنَّا بِكَ وصدَّقْنَاك فيما قُُلْتَ ، وهُمْ يُسِرُّون الكُفْر .
{ وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } أي : دخلوا كافِرِين وخرَجُوا كافِرِين ، واللَّه أعلَمُ بما يَكْتُمُون ، والغرض منه : المُبَالَغَةُ فِيمَا في قُلُوبِهِم من الجدِّ والاجتِهَادِ في المكر بالمُسْلِمِين ، والكَيْدِ والبُغْضِ والعَداوَةِ لهم .
قالت المُعْتَزِلَةُ : إنَّه تعالى أضَافَ الكُفْرَ إليْهِم حالَتَي الدخُول والخُرُوج على سبيل الذَّمِّ ، وبالَغَ في تَقْرِيرِ تِلْكَ الإضَافَةِ بقوله : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } ، فدلَّ هذا على أنَّه من العَبْدِ لا من اللَّه تعالى .
والجوابُ : المُعارضَةُ بالْعِلْمِ والداعي .

وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)

قوله : « وترى » : يجوز أن تكون بصريَّةً ، فيكون « يُسَارِعُونَ » حالاً ، وأن تكون العلميَّةَ أو الظنيَّة ، فينتصب « يُسَارعُونَ » مفعولاً ثانياً ، و « مِنْهُمْ » في محلِّ نصب؛ على أنه صفةٌ ل « كَثِيراً » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائناً منهم ، أو استقرَّ منهم ، وقرأ أبو حيوة : « العِدْوان » بالكسر ، و « أكْلِهِمُ » هذا مصدرٌ مضافٌ لفاعله ، و « السُّحْتَ » مفعولُه ، وقد تقدَّمَ ما فيه .
فصل
الضَّميرُ في « مِنْهُمْ » لليهُود ، والمُسَارعة في الشَّيْءِ الشُّرُوعُ فيه ، والمُراد بالإثْمِ الكذِب ، وقيل : المَعَاصِي ، والعُدْوَان الظُّلْم ، وقيل : الإثْمُ ما يخْتَصُّ بهم ، والعُدْوانُ ما يتعدَّاهُمْ إلى غيرهم ، وقيل : الإثْمُ ما كتمُوا من التَّوْراة ، والعُدْوان ما زَادُوا فيها ، « وأكْلِهِمُ السُّحْتَ » الرِّشْوَة .
وقوله تعالى : « كَثِيراً مِنْهُم » لأنَّهمُ كُلُّهُمْ ما كانُوا يَفْعَلُون ذَلِكَ ، لَفْظ المُسارعة إنما [ يُسْتَعْمَلُ ] في أكْثَرِ الأمْر في الخَيْرِ ، قال تعالى : { وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات } [ آل عمران : 114 ] وقال تعالى : { نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات } [ المؤمنون : 56 ] فكان اللاَّئِقُ بهذا الموضِعِ لفظ العَجَلَةِ .
فإن قيل : إنَّه تعالى ذكر المُسارعة [ الفائدة؛ وهي أنَّهم ] كانوا يُقْدِمُون على هَذِهِ المُنْكَرَات [ كأنهم مُحِقُّون ] فيها وقد تقدَّم حُكْمُ « مَا » مع بِئْسَ ونِعْمَ .

لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)

و « لولا » : حرفُ تحضيض ومعناه التوبيخ أي : هلاَّ ، وقرأ الجَرَّاحُ وأبُو وَاقِدٍ : « الرِّبِّيُّونَ » مكان الرَّبَانِيِّين ، قال الحسن - رحمه الله - : « الرَّبَانِيُّون عُلَمَاءُ أهل الإنجيل ، والأحْبَار عُلَمَاءُ أهْل التَّوْرَاة » ، وقال غيره : كُلُّهُم في اليهُود؛ لأنَّه مُتَّصِل بذكرهم ، والمعنى : أنَّ اللَّه اسْتَبْعَدَ من عُلَمَاءِ أهْلِ الكتاب أنَّهُمْ ما نهوا سَفَلتهم وعَوامَّهُم عن المَعَاصِي ، وذلك يُدُلُّ على أنَّ تَرْكَ النَّهْي عن المنكر بمنزلة مُرْتَكِبِهِ؛ لأنَّهُ تعالى ذَمَّ الفَرِيقَيْنِ في هَذِهِ الآيَةِ على لَفْظٍ واحدٍ ، بل نقُول : أنَّ ذَمَّ تَارِك النهي عن المُنْكَر أقْوَى؛ لأنَّه قال في المُقْدِمِين على الإثْمِ والعُدْوان وأكلهم السُّحْت : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ المائدة : 62 ] وقال في العُلَمَاء التَّاركِين للنَّهْي عن المنكر : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } والصُّنْعُ أقوى مِنَ العَمَلِ؛ فإنَّما العمل يُسَمَّى صِناعَةً ، إذا صَارَ مُسْتَقِرّاً راسخاً مُتَمَكِّناً ، فجعل [ حُرْمَ ] العامِلين ذَنْباً غير رَاسخٍ ، وذنب التَّارِكِين للنهْي المُنْكر ذَنْباً راسِخاً ، والأمْرُ في الحقيقَة راسخاً كذلك؛ لأنَّ المعْصِيَة مرضُ الرُّوح ، وعلاجُه العِلْمُ باللَّه وبصفَاتِهِ وبأحْكَامِه ، فإذا حَصَل هذا العِلْم ولم تزل المعْصِيَة ، كان كالمَرِيض الذي يعالج بأدويته ، قَلَّ فيها الشِّفَاءُ ، ومثل هذا المرض صَعْبٌ شديد لا يَكَادُ يَزُولُ ، وكذلك العَالِمُ إذا أقْدَم على المعْصِيَة دَلّ على أنَّ مرض فَقْد الإيمَان في غايَةِ القُوَّةِ والشِّدَّةِ .
رُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال : هِيَ أشَدُّ آية في القُرْآن ، وعَنِ الضَّحَّاك : ما في القُرآن آية أخْوَفُ عِنْدِي مِنْهَا .
وقرأ ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - « بِئْسَمَا » بغير لام قسم ، و « قَوْلِهِمْ » مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه ، و « الإثْمَ » مفعولُه .
والظاهر أن الضمير في « كانُوا » عائدٌ على الأحْبَار والرُّهْبَان ، ويجوز أن يعودَ على المتقدِّمين .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

في هذه الحكاية قولان :
أحدهما : أنه خبر محض ، وزعم بعضهم أنه على تقدير همزة استفهام ، تقديره : « أيد الله مغلُولة » ؟ قالوا ذلك لمَّا قَتَّر عليهم معيشتهم ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير .
قال ابنُ الخطيب : في هذا الموْضِع إشكَالٌ ، وهُو أنَّ اللَّه تعالى حكى عن اليَهُودِ أنَّهُمْ قالوا ذَلِك ، ولا شَكَّ في أنَّ اللَّهَ تعالى صَادِقٌ في كُلِّ ما أخْبَر عنه ، ونرى [ اليهُود ] مُطبقِين مُتَّفِقِين على أنَّا لا نَقُولُ ذلكَ ولا نعْتَقدهُ ، والقولُ : بأنَّ { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } باطل بِبَديهَةِ العَقْل؛ لأنَّ قَوْلَنَا : اللَّهَ اسمٌ لموْجُودٍ قديم ، قادرٍ على خَلقِ العَالم وإيجَادِه وتكوينه ، وهذا الموجُود يَمْتَنِعُ أن تكون يدُهُ مَغْلُولة مُقيَّدة قَاصِرَة ، وإلاَّ فَكَيْفَ يُمْكِنُه ذلك مع قُدْرته النَّاقِصَة حِفْظ العَالم وتدبيره . إذا ثَبَتَ هذا فقد حَصَل الإشْكال في كَيْفِيَّة تَصْحيح هذا النَّقْل وهذه الرِّواية فَنَقُول فيه وُجُوهٌ :
الأوَّل : لَعَلَّ القَوْم إنَّما قالوا هذا القَوْل على سَبِيلِ الالتزام؛ فإنَّهُم لمَّا سَمِعُوا قوله تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] قالوا : لو احْتَاج إلى القَرْضِ لكَانَ فَقِيراً عاجِزاً [ فلما حكموا بأنَّ الذي يسْتَقْرِضُ من عبادهَ شَيْئاً فقيرٌ مُحْتَاج مَغْلُولُ اليديْن ، لا جرم حكى اللَّهُ عَنْهُم هذا الكلام ] .
الثاني : لعَلَّ القوم لمَّا رأوا أصْحَاب الرَّسُول عليه الصلاة والسلام في غَايَةِ الشِّدَّةِ والفَقْرِ والحَاجَةِ ، قالُوا ذلك على ذلك سَبيلِ السُخْرِيَةِ والاسْتِهزاء .
قالوا : إنَّ إله مُحَمَّدٍ فَقِير مَغْلُولُ اليَدِ ، فَلما قالوا ذلك حَكَى اللَّه تعالى عَنْهُمْ هذا الكلام .
الثالث : قال المُفَسِّرُون - رحمهم الله - : كانُوا أكثر النَّاسِ مالاً وثَرْوَة ، فلما بَعَثَ اللَّهُ محمداً - صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وسلم - فكذبَّوُه ضَيَّقَ اللَّهُ عليهم المَعيشَةَ ، فعند ذلك قالت اليَهُود : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } أي : مَقْبُوضَةٌ من العَطَاءِ على جِهَةِ الصِّفَةِ بالبُخْلِ ، والجاهلُ إذا وقع في البلاءِ والشِّدَّة والمِحْنَة يقول مثل هَذِه الألْفَاظ .
الرابع : لعلَّه كان فيهم مِمَّن كان على مَذْهَبِ الفَلْسَفَة ، وهو أنَّهُ مُوجِبٌ لذاتِه ، وأنَّ حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نَهْجٍ واحدٍ وهو أنَّهُ تعالى غير قادر على إحْداثِ الحوادِثِ على غير الوُجُوه الَّتِي عليها تقع ، فَعَبَّرُوا عن عَدَمِ الاقْتِدَار على التَّغْيِير والتبْدِيل بغلِّ اليَد .
الخامس : قال بعضهم : المراد منه - هو قَوْلَ اليَهُود أنَّ اللَّه تعالى لا يعذِّبُنَا إلا قدْرَ الأيَّامِ التي عَبدْنَا فيها العِجْلَ - إلاَّ أنهم عبَّروا على كونه تعالى غير مُعَذِّبٍ لهم إلاَّ هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة ، واسَتْوجَبُوا اللَّعن بِسَبَبِ فساد العِبَادَة ، وعدم رِعَايَة الأدَب ، وهذا قول الحسن .
قال البغوي بعد أن حَكَى قولَ المُفَسِّرين ، ثم بعده قول الحَسَن : والأوَّلُ أوْلَى لمعنى قول المفسرين لِقَوْله تعالى بَعْدَ ذلك : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } .

وقوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ } يحتمل الخبرَ المَحْضَ ، ويحتمل أن يُرادَ به الدعَاءُ عليهم أي : أمْسَكَتْ أيْديهم عن الخَيْرَات ، والمعنى : أنَّه - تعالى - يُعَلِّمُنَا الدُّعَاءَ عليهم ، كما عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ على المُنافقين في قوله تعالى : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] فإن قيل : كان يَنْبَغي أن يُقَال : « فَغُلَّتْ أيديهم » .
فالجَوَاب : أنَّ حَرْفَ العَطْف وإنْ كان مُضْمَراً إلا أنَّهُ حُذِفَ لفائدة ، وهي أنَّه لما حُذِفَ كان قوله « غُلَّتْ أيْدِيهم » كالكلام المبتدأ به ففيه [ زيادة ] قُوَّة؛ لأنَّ الابْتِدَاء بالشَّيْء يَدلُّ على شِدَّةِ الاهْتِمَام به وقُوَّة الاعْتِنَاء ، ونَظِيرُه في الحَذْفِ والتَّعْقِيب قوله تعالى { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } [ البقرة : 67 ] ولَمْ يَقُل : فقالوا أتَتَّخِذنَا .
وقيل : هو من الغلِّ يوم القِيَامَةِ في النَّار كقوله تعالى : { إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل } [ غافر : 71 ] .
« ولُعِنُوا » عُذِّبوا « بما قالوا » فَمِنْ لَعْنِهم - أنَّهُ مَسَخَهُمْ قردة وخَنَازِير ، وضُرِبَت عليهمُ الذِّلَّة والمَسْكَنَة في الدُّنْيا ، وفي الآخِرَة بالنَّار .
قوله تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } .
وفي مصحف عبد الله : « بُسُطَانِ » يقال : « يَدٌ بُسُطٌ » على زنة « نَاقَةٌ سُرُحٌ » ، و « أحُدٌ » و « مِشْيَةٌ سُجُحٌ » ، أي : مبسوطة بالمعروف ، وقرأ عبد الله : « بَسِيطَتَانِ » ، يقال : يَدٌ بسيطةٌ ، أي : مُطْلَقَةٌ بالمَعْرُوف .
[ وغَلُّ ] اليدِ وبَسْطُهَا هنا استعارةٌ للبُخْل والجودِ ، وإن كان ليس ثَمَّ يدٌ ولا جارحة ، وكلامُ العربِ ملآنُ من ذلك ، قالتِ العربُ : « فلانٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ » ؛ قال : [ الطويل ]
2003- يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ ، فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ ... وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ
وقال أبو تمام : [ الطويل ]
2004- تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حَتَّى لَوَ أنَّهُ ... دَعَاهَا لقَبْضٍ لَمْ تُطِعْهُ أنَامِلُهْ
وقد استعارت العربُ ذلك حيثُ لا يدَ ألبتة ، ومنه قولُ لبيدٍ : [ الكامل ]
2005- .. إذْ أصْبَحَتَ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمامُهَا
وقال آخر : [ الكامل ]
2006- جَادَ الحِمَى بَسْطُ اليَدَيْنِ بوابِلٍ ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلاعُهُ ووِهَادُهُ
وقالوا : « بَسَطَ اليأسُ كفَّيْهِ في صَدْرِي » ، واليأسُ معنًى ، لا عينٌ ، وقد جعلوا له كفَّيْنِ مجازاً ، قال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : لِم ثُنِّيَتِ اليدُ في { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } ، وهي في { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } مفردةٌ؟ قلتُ : ليكونَ ردُّ قولهم وإنكارُه أبْلَغ وأدلَّ على إثبات غايةِ السَّخَاءِ له ، ونَفْيِ البُخْلِ عنه ، وذلك أنَّ غايةَ ما يبذله السَّخِيُّ مِنْ ماله بنفسِه : أن يعطيَه بيديه جميعاً ، فبنى المجازَ على ذلك » .
فصل
اعلم أنه قد وَرَدَ في القرآن آياتٌ كثيرة ناطِقَةٌ بإثْبَات اليد ، فتارَةً ذكر اليد من غير بيان عددٍ كقوله تعالى : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] ، وتارةً ذكر اليدين كما في هذه الآية ، وفي قوله تعالى لإبليس عليه اللعنة { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }

[ ص : 75 ] ، وتارة أثْبَت الأيْدي قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً } [ يس : 71 ] ، وإذا عرف هذا فَنَقُولُ : اختفت الأمَّةُ في تَفْسِير يد اللَّه تعالى .
فقالت المُجَسِّمَةُ : إنَّها عُضْو جُسْمَانِيٌّ كما في حقِّ كُلِّ أحدٍ ، واحتَجُّوا بقوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } [ الأعراف : 195 ] ذكر ذلك قد جاء في إلاهيَّةِ الأصنامِ ، لأجل أنَّهُ ليْسَ لَهَا شيءٌ من هذه الأعْضَاء ، فلو لم يَحْصُل لِلَّهِ هذه لزمَ القَدْحُ في كونه إلهاً ، فلما بَطُل ذلك ، وَجَبَ إثْبَات هذه الأعْضَاء له ، قالوا : واسمُ اليد موضوع لِهَذا العُضْو ، فَحَمْلُه على شيء آخر ترك للُّغَة ، وإنَّه لا يجُوزُ .
والجوابُ عنه : أنَّه تعالى ليس بِجِسْمٍ؛ لأنَّ الجسم لا ينفَكُّ عن الحَرَكَةِ والسُّكُون وهما مُحْدَثَانِ ، وما لا يَنْفَكُّ عن المُحْدَثِ فَهُو مُحْدَثٌ ، ولأنَّ كُلَّ جسم فهو مُتَنَاهٍ في المِقْدَار ، وكلّ ما كان متناهياً في المقدار فهو محدثٌ ، ولأنَّ كلَّ جسم فهو مؤلَّفٌ من الأجزاء ، وكلّ ما كان كذلك افتقر إلى ما يؤلِّفُهُ ويُركِّبُهُ ، وكلّ ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ ، فَثَبت بهذه الوجوه أنَّه يمتنع كونه تعالى جِسْماً ، فيمتَنِعُ أنْ يكون عُضْواً جُسْمَانِياً .
وأما جمهور المُوَحِّدين فلهُمْ في لَفْظِ اليَدِ قولان :
أحدهما : قول من يقول : إنَّ القرآن لمَّا دلَّ على إثْبَات اليد للَّه آمنَّا باللَّه ، والعقْل دلَّ على أنَّه يمتنع أن يكون يدُ الله عبارة عن جِسْم مخْصُوصٍ وعضو مُرَكَّب من الأجزاء والأبْعَاض آمنَّا به ، فأمَّا أنَّ اليد ما هي وما حَقِيقَتُهَا ، فقد فَوَّضْنَا مَعْرِفَتَها إلى الله تعالى ، وهذه طَرِيقَةُ السَّلَفِ .
[ وثانيهما : قَوْلٌ المُتكَلِّمِين فقالوا : اليدُ تذكر في اللُّغَة على وُجُوهٍ :
أحدُها : الجَارِحَة ] .
وثانيها : النِّعْمَةُ : نقول : لفلان يد أشكُرُه عليها .
وثالثها : القُوَّةُ : قال تعالى : { أُوْلِي الأيدي والأبصار } [ ص : 45 ] فسَّرُوهُ بِذِي القُوَّةِ والعُقُول .
وحكى سيَبَويْه أنَّهُم قالوا : « لا يَدَ لَكَ بِهَذا » والمعنى : سلب كمال القُدْرَة .
رابعها : المِلْك فقال في هذه الصِّفَة : في يَدِ فُلان ، أي : في مِلْكِه قال تعالى : { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } [ البقرة : 237 ] أي : يملِكُ ذلك . وخامسها : شِدَّةُ العِنَايَة والاخْتِصَاص ، قال : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] ، والمراد : تخصيص آدم - عليه الصلاة والسلام - بهذا التَّشْرِيف ، فإنَّه تعالى الخالق لجميع المخلوقات ، ويُقَال : « يدي رَهْنٌ لك بالوَفَاء » إذا ضمنت له شَيْئاً .
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُول : اليد في حقِّ اللَّه تعالى مُمْتَنِعٌ أن تكون الجارِحَة ، وأما سائر المعاني فكُلُّهَا حَاصِلَة .
وها هنا قَوْلٌ آخر : وهو أنَّ أبا الحسن الأشْعَرِي زعم في بَعْضِ أقواله : أنَّ اليد صِفَةٌ قائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّه تعالى ، وهي صِفَةٌ سِوى القُدْرَة ، ومنْ شَأنِها التَّكْوِين على سَبِيل الاصْطِفَاءِ .
قال : ويدلُّ عليه أنَّه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيده عِلة الكَرَامة لآدم واصْطِفَائه ، فلو كانت اليدُ [ عبارة ] عن القُدْرَةِ لامْتَنَع كونُه - عليه الصلاة والسلام - اصطُفِيَ؛ لأنَّ ذلِكَ في جَميعِ المخْلُوقَات ، فلا بُدَّ من إثْبَاتِ صِفَةٍ أخْرى وراءَ القُدْرة يقع بها الخَلْقُ والتَّكْوين على سبيلِ الاصْطِفَاء ، وأكْثَرُ العُلَمَاء زَعَمُوا : أنَّ اليد في حقِّ اللَّه تعالى عِبَارَة عنِ القُدْرة وهذا مُشْكِلٌ؛ لأنَّ قُدْرةَ اللَّه واحِدَةٌ ، ونصُّ القُرْآن نَاطِقٌ بإثْبَات اليدين تارَةً وبإثْبَاتِ الأيْدي تارةً أخْرَى ، وإن فَسَّرْتُمُوها بالنِّعْمة ، فَنَصُّ القُرْآن ناطِقٌ بإثبات اليديْن ، ونعم الله غير محدُودَةٍ ، لقوله تعالى :

{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ } [ النحل : 18 ] .
والجوابُ : إن اخْتَرْنَا تفسير اليد بالقُدْرَة ، كان الجوابُ عن الإشْكَال المذكُور : أنَّ القوْم جعلوا قولهم : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } كناية عن البُخْلِ ، فأجيبوا على وِفْقِ كلامهم ، فقيل : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } ، أي : ليس الأمْرُ على ما وَصَفْتُمُوه من البُخْلِ ، بل هو جوادٌ على سَبيلِ الكمال ، وأنَّ من أعْطَى بيده فَقَدْ أعْطَى عطاءً على أكْمَل الوُجُوهِ .
وأمَّا إن اخترنَا تفسير اليد بالنِّعْمَةِ ، كان الجوابُ عن الإشْكَال المذْكُور من وجهين :
الأول : أنَّ التَّثْنِيَةَ بحسَبِ الجِنْسِ يُدخِلُ تحت كُلِّ واحدٍ من الجِنْسَيْنِ أنْوَاع لا نِهَاية لها نِعْمَة الدنيا ونعمة الدين ، ونعمة الظاهر ونعمة الباطن ، ونعمة النفع ونعمة الدفع ، ونعمة الشدة ونعمة الرخاء .
الثاني : أنَّ المُرادَ بالتَّثْنِيَةِ المُبَالَغَةُ في وَصْفِ النِّعْمة ، ألا ترى قولك « لَبَّيْكَ » ، معناه : مُساعدةٌ بعد مُسَاعَدة ، وليس المراد [ منه طاعتين ] ولا مُساعدتَيْن ، فكذلك الآيَة معناها : أنَّ النِّعْمَة مُتَظَاهِرَةٌ مُتَتَابِعَةٌ ، ليْسَت كما ادَّعَى اليَهُودُ أنَّهَا مَقْبُوضَةٌ مُمْتَنِعَة .
قوله : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } في هذه الجملة خمسةُ أوجه :
أحدها - وهو الظاهر - : أنْ لا محلَّ لها من الإعراب؛ لأنها مستأنفة .
والثاني : أنها في محلِّ رفع؛ لأنها خبر ثان ل « يَدَاهُ » .
والثالث : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ المستكنِّ في « مَبْسُوطَتَانِ » ؛ وعلى هذين الوجهين؛ فلا بُدَّ من ضمير مقدَّرٍ عائدٍ على المبتدأ ، أو على ذي الحال ، أي : ينفقُ بهما ، وحذفُ مثل ذلك قليلٌ ، وقال أبو البقاء : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } مستأنفٌ ، ولا يجوزُ أن يكون حالاً من الهاء - يعني في « يَدَاهُ » -؛ لشيئين :
أحدهما : أنَّ الهاءَ مضاف إليها .
والثاني : أنَّ الخبر يفْصِل بينهما ، ولا يجوز أن تكون حالاً من اليدين؛ إذ ليس فيها ضمير يعود إليهما . [ قال شهاب الدين ] : قوله : « أحدهما : أنَّ الهاء مضاف إليها » ليس ذلك بمانع؛ لأن الممنوع إنما هو مجيءُ الحَالِ من المضافِ إليه ، إذا لم يكن المضافُ جزءاً من المُضافِ إليه ، أو كجزئه أو عاملاً فيه ، وهذا من النوع الأول ، فلا مانع فيه ، وقوله : « والثاني : أن الخبر يفصلُ بينهما » هذا أيضاً ليس بمانعٍ ، ومنه : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] إذا قلنا : إن « شَيْخاً » حالٌ من اسم الإشارة ، والعامل فيه التنبيه .

وقوله : « إذْ ليسَ فيها ضميرٌ » قد تقدَّم أن العائِدَ يُقَدَّر ، أي : ينفق بهما .
الرابع : أنها حالٌ من « يدَاهُ » وفيه خلافٌ - أعني مجيءَ الحالِ من المبتدأ - ووجه المنع : أنَّ العامل في الحالِ هو العالمُ في صاحبهَا ، والعاملُ في صاحبها أمرٌ مَعْنَوِيٌّ لا لفظيٌّ ، وهو الابتداء ، وهذا على أحد الأقوال في العاملِ في الابتداء .
الخامس : أنها حالٌ من الهاء في « يَدَاهُ » ، ولا اعتبارَ بما منعه أبو البقاءِ؛ لما تقدَّم من تَصْحيح ذلك .
و « كَيْفَ » في مثل هذا التركيب شرطيةٌ؛ نحو : « كيْفَ تكُونُ أكُونُ » ومفعولُ المشيئة محذوفٌ ، وكذلك جوابُ هذا الشرط أيضاً محذوفٌ مدلولٌ عليه بالفعل السابق ل « كَيْفَ » ، والمعنى : يُنْفِقُ كما يشاءُ أنْ يُنْفِقَ يُنْفِقُ ، ويبسطُ في السَّماء ، كَيْفَ يشاء أنْ يَبْسُطَهُ يَبْسُطُهُ ، فحذف مفعول « يَشَاءُ » وهو « أنْ » وما بعدها ، وقد تقدَّم أن مفعول « يشَاء » و « يُريد » لا يُذْكران إلا لغرابتهما ، وحذفَ أيضاً جواب « كَيْفَ » وهو « يُنْفِقُ » المتأخرُ ولا جائزٌ أن يكون « يُنْفِق » المتقدمُ عاملاً في « كَيْفَ » ، لأنَّ لها صدر الكلامِ ، وما له صدرُ الكلام لا يعمل فيه إلا حرفُ الجر أو المضاف .
وقال الحوفيُّ : « كَيْفَ » سؤالٌ عن حال ، وهي نصبٌ ب « يَشَاء » ، قال أبو حيان : « ولا يُعْقَلُ هنا كونُها سُؤالاً عن حال » ، وقد تقدم الكلامُ عليها مشبعاً عِنْدَ قوله : { يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ } [ آل عمران : 6 ] .
فصل
ومعنى { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } أي : يَرْزُق كيف يُريد وكيف يشاءُ ، إن شاء قَتَّر ، وإن شاء وَسَّعَ . وقال تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } [ الشورى : 27 ] .
وقال تعالى : { يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [ الرعد : 26 ] .
وقال عزَّ وجلَّ : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير } [ آل عمران : 26 ] ، وهذه الآية ردّ على المعتزلة؛ لأنَّهُم قالوا : يَجِبُ على اللَّه إعْطَاء الثَّوَاب للمُطِيع ، ويجبُ عليه ألاَّ يُعاقِبَهُ ، فَهَذَا المَنْعُ والقَيْدُ يَجْري مُجْرَى الغلّ ، فهم في الحقيقة [ قائلون بأنَّ يَدَ الله مَغْلُولة ] .
وأمَّا أهْلُ السُّنَّةِ - رضي الله عنهم - [ فهُمُ ] القَائِلُونَ : بأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ ، وليس لأحدٍ عليه اسْتِحْقَاقٌ ولا اعتِرَاضٌ ، كما قال تعالى : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } [ المائدة : 17 ] فقوله تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } لا يسْتَقِيم إلا على هذا المَذْهَبِ .
قوله تعالى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } والمراد بالكثير : علماء اليهود ، يعني : ازدَادُوا عند نُزُولِ ما أنْزِل إليك من رَبِّكَ من القرآنِ والحُجَجِ غُلُواً في الكُفْرِ والإنكَار ، كما يُقال : « ما زادَتْكَ الموْعِظَةُ إلا شَرّاً » ، وهم كُلَّما نزلت آيةٌ كَفَرُوا بها فازْدَادُوا طُغْيَاناً وكُفْراً .

وقيل : إقامَتُهُمْ [ على الكُفْر ] زِيَادَةٌ مِنْهُمْ في الكُفْر .
قوله تعالى : « ما أنْزِلَ » « مَا » هنا موصولةٌ اسميَّة في محلِّ رفع؛ لأنها فاعل بقوله : « ليزِيدَنَّ » ، ولا يجوزُ أن تكون « مَا » مصدريةً ، و « إلَيْكَ » قائمٌ مقام الفاعل ل « أُنْزِلَ » ، ويكون التقديرُ : « وليَزِيدَنَّ كَثِيراً الإنْزَالُ إلَيْكَ » ؛ لأنه لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّلِ ، والذي يزيدُهُمْ إنما هو المُنَزَّلُ ، لا نفسُ الإنزال ، وقوله : « مِنْهُمْ » صفةٌ ل « كَثِيراً » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، و « طًغْيَاناً » مفعولٌ ثان ل « يَزيد » .
فصل
دلّ هذا الكلامُ على أنَّه تعالى لا يُرَاعى مصالح الدِّين والدُّنيا؛ لأنَّه تعالى عَلِمَ أنَّهم يَزْدَادُون عند إنْزالِ تِلْك الآيَاتِ ، [ كفراً وضلالاً ، فلو كانَتْ أفعَالُه مُعَلَّلَة برعاية المصالِحِ للعباد ، لامْتَنَع عليه إنْزَال تلك الآيات ] فلما أنْزَلَهَا عَلِمْنَا أنَّهُ تعالى ما يُرَاعي مصالح العِبَادِ ، ونظيرُه قوله تعالى : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] ، فإن قالوا : عَلِمَ اللَّه تعالى من حَالِهِم سواءً أنْزَلَهَا أو لم يُنْزِلْها ، فإنَّهُم يأتون بتلكِ الزِّيَادة من الكُفْرِ ، فلهذَا حَسُن منه تعالى إنْزَالُها .
قلنا : فَعلى هذا التَّقْدير لم يكن ذلك الازْديَادُ لأجل تِلكَ الآيات ، وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدِيَاد الكفر إلى إنْزال تِلْكَ الآياتِ بَاطِلاً ، وذلِكَ تكذيبٌ لنَصِّ القُرْآن .
قوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء } الضمير في « بَيْنَهُم » يجوز أن يعود على اليَهُود والنَّصَارى؛ لتقديم ذكرهم ، ولاندراج الصِنْفَيْن في قوله تعالى : { يَا أَهْلَ الكتاب } [ المائدة : 19 ] ، ويجُوزُ أن يعُودَ على اليَهُود وحْدَهُم ، لأنَّهُم فِرَقٌ مُخْتَلِفَةٌ ، فعلى هذين قال الحسن ومجاهد : يعني بين اليَهُود والنَّصارى ، لأنَّ ذكرهم جرى في قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى } [ المائدة : 51 ] ، وقيل : بين فِرَق اليهُود ، فإنَّ بعضهم جَبْرِيَّةٌ ، وبعضَهم قَدَرِيَّةٌ ، وبعضهم [ مُوَحِّدَة ] وبعضهم مُشَبِّهَة ، وكذلك بين فرقِ النَّصَارى كالمَلْكَانِيَّة والنَّسْطُوريَّةِ واليَعْقُوبِيَّةِ .
فإن قيل : فهذا المعنى حَاصِلٌ بين فرقِ المُسْلمين ، فكيف يمكن جعلهُ عَيْباً في اليَهُودِ والنَّصَارى؟
فالجواب : أنَّ هذه البدَعَ إنَّما حدثَتْ بعدَ عصر الصَّحَابةِ والتَّابعين ، أما في ذلك الزَّمَانِ فلم يكن شَيءٌ من ذَلِك ، فلا جَرَمَ حَسُنَ جَعْل ذلك عَيْباً في اليَهُود والنَّصَارى .
ووجْهُ اتِّصَال هذا الكلام بما قَبْلَهُ : أنَّه تعالى بيَّن أنَّهُم إنَّما يُنْكِرُون نُبُوَّتَه بعد ظُهُور الدَّلائِلِ على صِحَّتِها لأجل الحَسَدِ ، ولأجل حُبِّ الجَاه والمال والسَّعادة ، فلمَّا رجَّحُوا الدُّنْيَا على الآخِرَة لا جَرَم حَرَمهم سعادَة الدِّين ، فلذلك حَرمَهم سَعَادةَ الدُّنْيَا؛ لأنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُم مُصِرٌّ على مذهبه ، ومُبَالِغٌ في نصرته ، ويَطْعَنُ في كل ما سِوَاه من المذاهِب تَعْظِيماً لِنَفْسِه وتَرْويجاً لمذهَبِهِ ، فصار ذلك سَبَباً لوقوع الخُصُومَة الشَّدِيدَة بين فرقِهم ، انْتَهى الأمر فيه إلى أنَّ بَعْضَهُم يُكَفِّر بَعْضاً .

وقوله تعالى : { إلى يَوْمِ القيامة } متعلِّقٌ ب « ألقَيْنَا » ، ويجوز أن يتعلَّق بقوله : « والبغْضَاءَ » ، أي : إنَّ التباغُضَ بينهم إلى يوم القيامة ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بالعداوةِ؛ لئلا يَلْزَم الفصْلُ بين المصدَرِ ومعموله بالأجنبيِّ ، وهو المعطوفُ؛ وعلى هذا : فلا يجوزُ أن تكون المسألةُ من التنازُع؛ لأن شرطه تسلُّطُ كلٍّ من العاملَيْن ، والعاملُ الأولُ هنا لو سُلِّط على المتنازع فيه ، لم يَجُزْ للمحذورِ المذكور ، وقد نَقَل بعضُهُمْ : أنه يجوز التنازُعُ في فعلي التعجُّبِ مع التزامِ إعمال الثاني؛ لأنه لا يُفْصَل بين فعْلِ التعجُّبِ ومعموله ، وهذا مثلُه ، أيْ : يُلْتَزَمُ إعمالُ العامل الثاني ، وهو خارجٌ عن قياسِ التنازُعِ ، وتقدَّم لك نظيره ، والفرقُ بين العداوة والبغضاء : أن العداوَةَ كلُّ شيء مشتهرٌ يكون عنه عَمَلٌ وحَرْبٌ ، والبغضاءُ لا تتجاوزُ النفُوسَ ، قاله ابن عطيَّة وقال أبو حيان : « العداوة أخَصُّ من البغضاء؛ لأنَّ كلَّ عَدُوٍّ مُبْغَضٌ ، وقد يُبْغَضُ مَنْ لَيْس بعدُوٍّ » .
قوله تعالى : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } ، وهذا نوْع آخر من أنْوَاع المِحَنِ في اليهُود ، وهو أنَّهُم كلّما همُّوا بأمر من الأمُور جُعِلوا فيه خَاسِرِين خَائِبِين مَقْهُورين مَغْلُوبين .
قال المفسرون : يعني اليهود أفسدوا وخَالَفُوا حُكْمَ التَّوْراة ، فبعث الله عليْهم بُخْتَنَصَّرَ ثُمَّ أفْسَدُوا فَبَعَثَ عَلَيْهَم طيطوس الرُّومِي ، ثم أفْسَدُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عليهمُ المجُوسَ ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهمُ المُسْلِمين .
وقيل : كُلَّمَا أجْمَعُوا أمْرَهُمْ ليُفْسِدوا أمْرَ محمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأوْقَدُوا ناراً لِمُحاربته أطْفَأهَا اللَّهُ ، فردَّهم وقَهَرَهُم ونصر دينَهُ ونبيَّهُ ، وهذا قول الحَسَن وقال قتادة : هذا عامٌّ في كل حرب طَلَبْتَهُ اليهود ، فلا تَلْقَى اليهود في بلد إلا وجَدْتَهُم من أذَلِّ النَّاسِ .
قوله تعالى : « لِلْحَرْبِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ ب « أوْقَدُوا » ، أي : أوقدوها لأجْلِ الحرب .
والثاني : أنه صفة ل « نَاراً » فيتعلَّق بمحذوف ، وهل الإيقادُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ قولان . و « أطْفَأهَا الله » جواب « كُلَّمَا » ، وهو أيضاً حقيقةٌ أو مجازٌ؛ على حسب ما تقدَّم ، والحربُ مؤنثةٌ في الأصل مصدر وقد تقدَّم الكلام عليها في البقرة ، وقوله : « فَسَاداً » قد تقدَّم نظيره [ الآية 33 من المائدة ] ، وأنه يجوز أن يكون مصدراً من المعنى؛ وحينئذ لك اعتباران : أحدهما : ردُّ الفعل لمعنى المصدر ، والثاني : ردُّ المصدر لمعنى الفعْلِ ، وأن يكون حالاً ، أي : يَسْعَوْن سعيَ فسادٍ ، أو : يُفْسِدُونَ بسعيهم فَسَاداً ، أو : يَسعوْن مُفْسِدين ، وأن يكون مفعولاً من أجله ، أي : يَسْعَوْنَ لأجْلِ الفساد والألف واللام في « الأرض » يجوزُ أن تكون للجنس وأن تكون للعهد .
ثم قال : { والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } ، وهذا يدُلُّ على أنَّ السَّاعي في الأرْضِ بالفَسَاد مَمْقُوتٌ عِنْدَ اللَّهِ .

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)

وقد تقدَّم الكلام على نَظِير قوله : « وَلَوْ أنَّ » .
واعلم أنَّهُ تعالى لما بالغَ في ذَمِّهِمْ وتهجين طريقهِم ، بيَّن أنهم لو آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - واتقَوْا لكفَّرنَّا عنهم سَيِّئاتِهِمْ ، ولأدْخلْنَاهُمْ جَنَاتِ النَّعِيم .
فإن قيل : الإيمانُ وحدهُ سبب مسْتَقِلٌّ [ باقتضاء تكفير ] السَّيِّئَاتِ ، وإعْطَاء الحَسَناتِ ، فلم ضمَّ إلَيْه شَرْطٌ آخر وهُو التَّقْوَى .
فالجوابُ : أنَّ المُراد كَوْنه آتياً الإيمان لِغَرَض التَّقْوى ، والطَّاعة لا لغرضٍ آخر من الأغْرَاض العَاجِلَة كما يفعله المُنَافِقُون .
قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } الآية لما بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّهُم لو آمَنُوا لفَازُوا بسَعَادة الآخِرة ، بيَّن في هذه الآية أيْضاً ، أنَّهُمْ لو آمَنُوا لفَازُوا بسَعَادةِ الدُّنْيَا ووجدُوا طَيِّبَاتِهَا وخَيْرَاتِها ، وفي إقَامَةِ التَّوْرَاةِ والإنْجِيل ثلاثةُ أوْجُه :
أحدها : أن يعملوا بما فيهما من الوَفَاءِ بالعُهُودِ ، ومن الإقْرَار باشْتِمَالهما على الدَّلائل الدَّالَّة على بَعْثَةِ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - .
وثانيها : أنَّ المراد إقامَةُ أحْكَامِهِمَا وحُدُودِهمَا ، كما يُقَال : أقامَ الصَّلاة إذا قام بِحُدُودِهَا وحُقوقِهَا ، ولا يُقَال لمن لم يُوَفِّ بشَرَائِطها أنَّهُ أقَامها .
وثالثها : [ أنَّ المراد ] جعلوهما نصْبَ أعيْنِهِم ، لئلاَّ يَزِلُّوا في شَيْء من حدُودِهِمَا .
وقوله تعالى : { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ } يعني : القُرْآن وقيل : كتب أنبياء بني إسرائيلَ مثل كُتُبِ شُعَيْبٍ ، وكتاب حَيقُوق ، وكتاب دَانْيَال ، فإنَّ هذه الكتب مملوءة من البشَارَة بِمَبْعَثِ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - .
قوله تعالى : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } : مفعولُ الأكْلِ هنا محذوفٌ اقتصاراً ، أيْ : لوُجِدَ منهم هذا الفعلُ ، و « منْ فوقِهِمْ » متعلِّقٌ به ، أي : لأكَلُوا من الجهَتَيْنِ ، وقال أبو البقاء : « إنَّ » مِنْ فوْقِهِمْ « صفةٌ لمفعول محذوفٍ ، أي : لأكَلُوا رِزْقاً كَائِناً مِنْ فَوْقِهِمْ » .
فصل
اعلم أنَّ اليهود لما أصَرُّوا على تَكْذِيب سيِّدنا محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أصابَهُمُ القَحْطُ والشِّدَّةُ ، وبلغُوا إلى حيث قالوا : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } [ المائدة : 64 ] ، فبيَّن اللَّه لَهُمْ أنَّهُم لو تركوا ذَلِك الكُفْر لانْقَلَب [ الأمر ] وحصل الخَصْبُ والسَّعَة .
قوله تعالى : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } .
قيل : المراد منه المُبالغُة في شرْحِ السَّعَةِ والخَصْب ، والمعنى : لأكلوا أكلاً مُتَّصِلاً كثيراً ، كما يُقال : « فلان في الخَيْرِ مِنْ فَوْقِهِ إلى قَدَمِهِ » يريدُ كَثْرَةَ الْخَيْرِ عنده؛ قالَهُ الفَرَّاءُ .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : المراد « مِنْ فَوْقِهِمْ » نُزُول المَطَرِ ، و { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } خرُوج النَّبَات كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } [ الأعراف : 96 ] ، وقيل : الأكل من فَوْقٍ كَثْرَة الأشْجَار المُثْمِرة ، ومن تَحْتِ الأرْجُل الزُّروع المغلة ، وقيل : يَرْزُقُهم الله تعالى الجِنَانَ البَالِغَةَ الأشْجَار المُثْمِرة ، ومن تَحْتِ الأرْجُل الزُّروع المغلة ، وقيل : يَرْزُقُهم الله تعالى الجِنَانَ البَالِغَةَ الثِّمَار ما يَنْزِلُ مِنْهَا من رُؤوس الشَّجر ، ويلتقطون ما تساقَطَ على الأرض مِنْ تَحْت أرجلهم ، وهذا إشارة إلى ما جَرَى على اليَهُود من بَني قُرَيْظَة وبني النَّضِير ، من قطع نَخِيلهِمِ ، وإفساد زُرُوعهم وقوله تعالى : « مِنْهُمْ » خبر مقدَّم ، و « أمَّةٌ » فاعلاً بالجار ، وقوله : « { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ } تنويعٌ في التفصيل ، فأخبر في الجملة الأولى ، بالجارِّ والمجرور ، ووصف المبتدأ بالاقتصادِ ، ووصف المبتدأ في الجملة الثانية ب » مِنْهُمْ « ، وأخبر عنهم بأنَّهم من جملة أهل الكتاب؛ فإنَّ الوصف ألزمُ من الخبر؛ فإنهم إذا أسلموا ، زالَ عنهم هذا الاسمُ ، وأما الطائفة الثانية ، فإنهم وصفوا بكونهم من أهْلِ الكتاب؛ فإنَّ الوصفَ ألزمُ ، وهم كفَّار فهم منهم ، وأخبر عنهم بالجملة الذَّمِّيَّة ، فإنَّ الخبر ليس بلازمٍ ، وقد يُسْلِمُ منهم ناسٌ ، فيزول عنهم الإخبارُ بذلك .

فصل
المُراد بالأمَّة المُقْتَصِدَة : مؤمِنُو أهْلِ الكِتَاب ، كعَبْدِ اللَّهِ بنْ سلام من اليَهُود والنَّجَاشِيِّ من النَّصَارى ، « مُقْتَصِدَة » أي : عادِلَةٌ غير غَالِية ولا مقصِّرة ، والاقتصادُ في اللُّغَة : الاعتِدَال في العمل من غير غُلُوِّ ولا تَقْصِير .
وقيل : المُرَاد بالأمَّةِ المقْتَصِدَةِ : كُفَّارُ أهل الكتاب الذين يكنون عُدُولاً في دينهِم ، ولا يكون فيهم عِنَادٌ شديدٌ ولا غِلْظَةٌ ، كما قال تعالى : { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [ آل عمران : 75 ] .
قوله تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } ، وفيه معنى التعجُّبِ ، كأنَّه قيل [ كثير ] منهم ما أسْوَأ عََمَلَهم .
والمراد بهم : الأجْلاف المُبْغِضُون ، مثل كَعْبِ بن الأشْرفِ وأصحابه و « سَاءَ » هذه يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن تكون تعجباً؛ كأنه قيل : ما أسوأ عملهُمْ ، ولم يذكُرِ الزمخشريُّ غيره ، ولكن النحاة لمَّا ذكروا صيغَ التعجُّبِ لم يَعُدُّوا فيها « سَاءَ » ، فإن أراد من جهةِ المعنى ، لا من جهة التعجُّب المبوبِ له في النحوِ فقريبٌ .
الثاني : أنها بمعنى « بِئْسَ » فتدلُّ على الذَّمِّ؛ كقوله تعالى : { سَآءَ مَثَلاً القوم } [ الأعراف : 177 ] .
وقال البَغَوِي : بئس ما يَعْمَلُون ، بِئْس شَيْئاً عملهم .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : عملوا بالقَبِيحِ مع التَّكْذِيب بالنَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - .
وعلى هذين القولين ف « سَاء » غيرُ متصرِّفة ، لأن التعجُّب وباب المدح والذمِّ لا تتصرَّفُ أفعالُهما .
الثالث : أن تكون « سَاء » المتصرِّفة؛ نحو : سَاءَ يَسُوءُ ، ومنه : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } [ الإسراء : 7 ] { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } [ تبارك : 27 ] ، والمتصرِّفةُ متعديةٌ؛ قال تعالى : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } [ الإسراء : 7 ] فإن قيل فأيْنَ مفعولُ هذه؟ قيل : هو محذوفٌ ، تقديرُه : ساء عَملُهُم المؤمنين ، والَّتِي بمعنى « بِئْسَ » لا بدَّ لها من مميِّز ، وهو هنا محذوفٌ ، تقديره : سَاءَ عَمَلاً الذي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ .

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)

قوله تعالى : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } الآية : ناداه المولى سبحانه بأشْرَفِ الصِّفَات البشرية ، وقوله : { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } [ وهو قد بَلَّغَ!! ] فأجابَ الزمخشريُّ بأن المعنى : جميعَ ما أُنزِلَ إليْكَ ، أي : أيَّ شيءٍ أُنْزِلَ غير مُرَاقِبٍ في تبليغِهِ أحَداً ، ولا خائفٍ أنْ يَنَالَكَ مَكْرُوهٌ ، وأجاب ابن عطية بقريبٍ منه ، قال : « أمَر الله رسوله بالتبليغِ على الاسْتِيفَاءِ والكمالِ؛ لأنه كان قَدْ بَلَّغَ » ، وأجاب غيرُهما بأنَّ المعنى على الديمومة؛ كقوله : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ] .
وقوله : « مَا » يحتمل أن تكون اسميةً بمعنى « الَّذِي » ولا يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً؛ لأنه مأمورٌ بتبليغ الجميعِ كما مَرَّ ، والنكرةُ لا تَفِي بذلك؛ فإن تقديرها : « بَلِّغْ شَيْئاً أُنْزِلَ إليْكَ » ، وفي « أُنْزِلَ » ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على ما قام مقام الفاعلِ ، وتحتملُ على بُعْدٍ أن تكون « مَا » مصدريَّةً؛ وعلى هذا؛ فلا ضمير في « أُنْزِلَ » ؛ لأنَّ « مَا » المصدرية حرفٌ على الصَّحيح؛ فلا بُدَّ من شيءٍ يقومُ مقامَ الفاعلِ ، وهو الجارُّ بعده؛ وعلى هذا : فيكونُ التقديرُ : بَلِّغِ الإنْزَالَ ، ولكنَّ الإنزالَ لا يُبَلَّغُ فإنه معنى ، إلا أن يُراد بالمصدر : أنه واقعٌ موقع المفعول به ، ويجوز أن يكون المعنى : « اعلم بتبليغ الإنْزَالِ » ، فيكونُ مصدراً على بابه .
والمعنى أظهر تَبْلِيغَهُ ، كقوله تعالى : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] .
فصل
روي عن مَسْروق [ قال ] : قالتْ عائِشَةُ - رضي الله عنها - : « من حدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّداً - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - كتَم شَيئاً ممّا أنْزل الله ، فقد كذب » وهو سبحانه وتعالى يقول : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } الآية .
ورُوِيَ عن الحسن : أنَّ الله لمَّا بَعَثَ رسولَهُ ، وعرف أنَّ مِنَ النَّاس من يُكَذِّبُه ، فَنَزَلَتْ هذه الآية ، وقيل : نَزَلَتْ في عيب من اليَهُود وذلك أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - دَعَاهُم إلى الإسلام ، فقالوا : أسْلَمْنَا قَبْلَكَ ، وجعلوا يَسْتهْزِئُون بِهِ فَيَقُولُون : تريد أن نَتَّخِذَكَ حَنَاناً كما اتَّخَذَ النَّصَارى عِيسى حَنَاناً ، فلمَّا رأى النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك سَكَت ، فنزَلَتْ هذه الآية ، فأمَرَهُ أنْ يقُولَ لأهْلِ الكِتَاب : { لَسْتُمْ على شَيْءٍ } [ المائدة : 68 ] الآية .
وقيل : بلِّغ الإنْزَال ما أُنْزِلَ إليك من الرَّجْمِ والقِصَاصِ في قصَّةِ اليهود ، وقيل : نَزَلَتْ في أمرِ زَيْنَب بِنْتِ جَحْشٍ ونِكَاحها .
وقيل : نزلت في الجِهَاد وذلك أنَّ المُنَافِقِين كَرِهوه ، كما قال تعالى : { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت }

[ محمد : 20 ] فكرهَهُ بَعْضُ المُؤمِنين .
قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ } [ النساء : 77 ] الآية ، وكان النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يمسك في بعض الأحَايِين عن الحثِّ عن الجهاد لِمَا يَعْلمُ من كَرَاهَةِ بعضهم فأنزَلُ اللَّهُ تعالى هذه الآية ، والمَعْنَى : بَلِّغْ واصْبِر على تَبْلِيغ ما أنْزَلَهُ إلَيْك من كَشْفِ أسْرَارهم وفَضَائحِ أفعالهم ، فإنَّ الله تعالى يَعْصِمُك من كَيْدِهِم ومَكْرِهِم ، وقيل : نزلتَ في حجَّة الوَدَاع ، لمَّا بيَّن الشَّرائِع والمَنَاسِكَ قال : هل بلَّغْتُ؟ قالُوا : نَعَمْ قال : اللَّهُم فاشْهَدْ ، وقِيلَ : لمَّا نزلَتْ آيَة التَّخْيِير وهِيَ قوْلُه تعالى : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } [ الأحزاب : 28 ] فلم يَعْرِضْهَا عليهنَّ خَوْفاً من اختيارِهِنَّ للدُّنْيَا فنزلت .
قوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } ، أي : وإنْ لم تفعل التبليغ ، فحذف المفعول به ، ولم يقل : « وإن لم تبلّغْ فما بلّغتَ » لما تقدَّم في قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } في البقرة [ آية : 24 ] ، والجوابُ لا بُدَّ أن يكون مغايراً للشرط؛ لتحصُل الفائدةُ ، ومتى اتَّحدَا ، اختلَّ الكلامُ ، لو قلتَ : « إنْ أتَى زيدٌ ، فقدْ جَاءَ » ، لم يَجُزْ ، وظاهرُ قوله : « وإنْ لَمْ تَفْعَلْ ، فما بَلَّغْتَ » اتحادُ الشرطِ والجزاء ، فإن المعنى يَئُولُ ظاهراً إلى قوله : وإن لم تفعل ، لم تفعل ، وأجاب الناسُ عن ذلك بأجوبةٍ؛ أسَدُّها : ما قاله الزمخشريُّ ، وقد أجاب بجوابَيْنِ :
أحدهما : أنه إذا لم يمتثلْ أمر اللَّهِ في تبليغِ الرِّسالاتِ وكتَمَها كُلَّها؛ كأنه لم يُبْعَثْ رَسُولاً - كان أمراً شنيعاً لا خَفَاء بشناعته ، فقيل : إنْ لم تُبَلِّغْ أدنَى شيء ، وإن كلمةً واحدةً ، فكنْتَ كمَنْ رَكِبَ الأمر الشنيعَ الذي هو كتمانُ كُلِّهَا ، كما عَظَّمَ قَتْلَ النفْسِ في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] .
والثاني : المراد : وإنْ لَمْ تَفْعَلْ ذلك ، فلك ما يُوجِبُ كتْمَانَ الوَحْي كلِّه من العقابِ ، فوضَع السَّبَبَ مَوْضِعَ المُسَبِّبِ؛ ويؤيده : « فأوْحَى الله إليَّ : إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رسَالاَتِي ، عَذَّبْتُكَ » .
وأجاب ابن عطية : أي : وإنْ تركْتَ شيئاً ، فقد تركْتَ الكلَّ ، وصار ما بَلَّغْتَ غيرَ معتدٍّ به ، فمعنى « وإنْ لَمْ تَفْعَلْ » : « وإنْ لَمْ تَسْتَوْفِ » ؛ ونحوُ هذا قولُ الشاعر : [ الطويل ]
2007- سُئِلْتَ فَلَمْ تَبْخَلْ ، وَلَمْ تُعْطِ نَائِلاً ... فَسِيَّان لا حَمْدٌ عَلَيْكَ وَلاَ ذَمُّ
أي : فلم تُعْطِ ما يُعَدُّ نَائِلاً ، وإلاَّ يتكاذَبِ البيتُ ، يعني بالتكاذُب أنه قد قال : « فَلَم تَبْخَلْ » فيتضمَّن أنه أعطى شيئاً ، فقوله بعد ذلك : « ولَمْ تُعْطِ نَائِلاً » لو لم يقدِّر نَائِلاً يُعْتَدُّ به ، تكاذَبَ ، وفيه نظرٌ؛ فإن قوله « لَمْ تَبْخَلْ وَلَمْ تُعْطِ » لم يتواردا على محلٍّ واحد؛ حتَّى يتكاذَبا ، فلا يلزمُ من عدمِ التقدير الذي قدَّره ابن عطية كَذبُ البيت ، وبهذا الذي ذكرتُه يتعيَّنُ فسادُ قولِ مَنْ زعَمَ أنَّ هذا البيتَ مِمَّا تنازعَ فيه ثلاثةُ عواملَ : سُئِلْتَ وتَبْخَلْ وتُعْطِ ، وذلك لأن قوله : « وَلَمْ تَبْخَلْ » على قولِ هذا القائلِ متسلِّطٌ على طائِل ، فكأنه قيل : فلم تَبْخَلْ بطائلٍ ، وإذا لم يبخَلْ به ، فقد بذله وأعطاه ، فيناقضُه قوله بعد ذلك « ولَمْ تُعْطِ نَائِلاً » .

وقد أفسد ابنُ الخطيب جواب ابنِ عطيَّة فقال : « أجَابَ الجمهُور ب » إنْ لَمْ تُبَلِّغْ وَاحِداً مِنْهَا ، كُنْت كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ شَيْئاً « ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مَنْ ترك البعضَ وأتَى بالبعض ، فإن قيل : إنه ترك الكلَّ ، كان كذباً ، ولو قيل : إن مقدار الجُرْمِ في ترك البعْضِ مثلُ الجرم في ترك الكل ، فهذا هو المُحالُ الممتنعُ؛ فسقط هذا الجوابُ ، والأصحُّ عندي : أن يقال : خرج هذا الجوابُ على قانون قوله : [ الرجز ]
2008- أنَا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي ... ومعناه : أنَّ شِعْرِي قد بلغَ في الكمالِ والفصَاحَةِ والمتانَةِ إلى حيْثُ متى قيل : إنه شِعْري ، فقد انتهى مدحُه إلى الغايَةِ التي لا يُزَادُ عليها ، وهذا الكلامُ يفيد المبالغةَ التامَّةَ من هذا الوجهِ ، فكذا هنا ، كأنه قال : فإن لم تبلِّغْ رسالاتِه ، فما بلَّغْتَ رسالاته ، يعني : أنه لا يمكنُ أن يوصَفَ ترْكُ التبليغِ بتهديدٍ أعظمَ من أنه ترك التبليغ ، فكان ذلك تنبيهاً على غايةِ التهديد والوعيد » .
قال أبو حيان : « وما ضعَّفَ به جوابَ الجُمْهور لا يُضَعَّفُ به؛ لأنه قال : » فإنْ قيل : إنه تركَ الكُلَّ ، كان كذباً « ، ولم يقولوا ذلك ، إنما قالوا : إنَّ بعضها ليس أوْلَى بالأداء مِن بعضٍ ، فإن لم تُؤدِّ بعضها ، فكأنَّك أغْفَلْتَ أداءَها جميعَها ، كما أن مَنْ لم يؤمِنْ ببعضها كان كَمَنْ لم يؤمنْ بكلِّها؛ لإدلاءِ كلٍّ منها بما يُدْلِي به غيرُها ، وكونُها كذلك في حكْمِ شيءٍ واحدٍ ، والشيءُ الواحدُ لا يكون مبلَّغاً غير مبلَّغ ، مُؤمَناً به غيرَ مؤمنٍ به؛ فصار ذلك التبليغُ للبعضِ غير معتدٍّ به » ، قال شهاب الدين : وهذا الكلام الأنِيقُ ، أعني : ما وقع به الجواب عن اعتراضِ الرَّازِيِّ كلامُ الزمخشري أخَذَه ونقله إلى هنا ، وتمامُ كلام الزمخشريِّ : أن قال بعد قوله : « غَيْرَ مُؤمَنٍ » ، وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - : « إنْ كَتَمْتَ آيَةً لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالاَتِي » ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « بَعَثَنِي الله بِرِسَالاتِهِ ، فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعاً ، فأوْحَى الله إلَيَّ : إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالاتِي ، عَذَّبْتُكَ وضَمِنَ لِي العِصْمَةِ؛ فقَوِيتُ » ، قال أبو حيَّان : « وأما ما ذكر من أن مقدار الجُرْمِ في تَرْكِ البعْضِ مثلُ الجُرْم في ترك الكلِّ مُحالٌ ممتنعٌ ، فلا استحالة فيه؛ لأن الله تعالى أن يرتِّب على الذنْبِ اليسيرِ العقابَ العظيمَ ، وبالعكس ، ثم مَثَّلَ بالسارقِ الآخِذِ خفيةً يُقْطَعُ ويُرَدُّ ما أخَذَ ، وبالغاصبِ يُؤخَذُ منه ما أخذ دونَ قَطْعٍ » .

وقال الواحديُّ : أي : إنْ يَتْرُك إبلاغَ البعْضِ ، كان كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ؛ لأنَّ تَرْكه البعضَ مُحْبِطٌ لإبلاغِ ما بلَّغَ ، وجُرْمَهُ في كتمانِ البعضِ كجُرْمِهِ في كتمان الكلِّ؛ في أنه يستحقُّ العقوبة من ربِّهِ ، وحاشا لرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أن يكتُمَ شيئاً مِمَّا أوْحَى الله تعالى إليه ، وقد قالت عائشةُ - رضي الله عنها - : « مَنْ زَعَمَ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئاً من الوحْي ، فقَدْ أعْظَمَ عَلى الله الفِرْيَةَ ، والله تعالى يقول : { ياأيها الرسول بَلِّغْ } ، ولو كَتَم رسُول الله صلى الله عليه وسلم شَيْئاً من الوحْيِ ، لَكَتَمَ قولَهُ تعالى : { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } [ الأحزاب : 37 ] الآية » ، وهذا قَريبٌ من الأجوبة المتقدِّمة؛ ونظيرُ هذه الآيةِ في السؤالِ المتقدِّم الحديثُ الصحيحُ عن عُمر بن الخطَّاب - رضي الله تعالى عنه - : « فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتَهُ إلى الله ورسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى الله ورسُولِه » فإنَّ نفس الجواب هو نفسُ الشرطِ ، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقديرٍ تحْصُلُ به المغايرةُ ، فقالوا : « تقدِيرُهُ : فمنْ كانَتْ هجرتُهُ إلى الله ورسُولِهِ نيَّةً وقصْداً فهجرتُه إلى الله ورسُولِهِ حُكْماً وشَرْعاً ، ويمكنُ أن يأتِيَ فيه جوابُ الرَّازِيِّ الذي اختاره .
وقرأ نافعٌ وابن عامر وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر : » رِسَالاَتِهِ « جَمْعاً ، والباقون : » رِسَالَتَهُ « بالتوحيد ، ووجهُ الجمْع : أنه عليه السَّلام بُعِثَ بأنْواعٍ شتَّى من الرسالة؛ كأصول التوحيد ، والأحكام على اختلاف أنواعها ، والإفرادُ واضحٌ؛ لأنَّ اسمَ الجنس المضافَ يَعُمُّ جميعَ ذلك ، وقد قال بعض الرسُلِ : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } [ الأعراف : 62 ] ، وبعضُهم قال : { رِسَالَةَ رَبِّي } [ الأعراف : 79 ] ؛ اعتباراً للمعنيين .
قوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } أي : يَحْفَظُكَ ، ويمنعُكَ من النَّاسِ .
» رُوِيَ أنَّه - عليه الصلاة والسلام - نزل تَحْتَ شَجَرَةٍ في بَعْضِ أسْفَارِه وعلق سَيْفَه عليها ، فأتَاه أعْرَابِيٌّ - وهو نَائِمٌ - ، فأخذ سَيْفَهُ واخْتَرَطَهُ ، وقال : يا مُحَمَّدُ من يَمْنَعُك مِنِّي؟ فقال : « اللَّهُ » فرعدت يَدُ الأعْرَابِيِّ ، وسقطَ من يده ، وضرب برأسه الشَّجَرة حتى انْتَثَر دِمَاغُهُ « ، فأنزل اللَّهُ تعالى { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } .
فإن قيل : كيْفَ الجَمْعُ بين هذه الآية وبين ما رُوِيَ أنَّه شُجَّ في وجْهِه يوم أحد وكسرت رَبَاعِيَّتُهُ ، وأوذي بِضُرُوبٍ من الأذَى .
فالجواب من وجوه :
فقيل : يَعْصِمُك من القَتْلِ ، فلا يَصِلُوا إلى قَتْلِك .
وقيل : نزلَتْ هذه الآية بعدمَا شُجَّ رَأسُهُ يَوْم أُحُدٍ؛ لأنَّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القُرْآن .
والمُراد ب » النَّاس « هاهنا : الكفار لقوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } .
وعن أنَسٍ رضي الله عنه :
» كان رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يَحْرُسُه سَعْدٌ وحُذَيْفَة حتى نَزَلتْ هذه الآية ، فأخْرَجَ رَأسَهُ مِنْ قُبَّةِ أديمٍ فقال : « انْصَرِفُوا أيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي مِنَ النَّاسِ » .
وقيل : المُراد والله يَخُصُّكَ بالعِصْمَة من بين النَّاسِ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - معصُومٌ { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)

لمَّا أمره الله بالتَّبْلِيغ فقال : قل يا أهْلَ الكِتَابِ من اليَهُود والنَّصَارى لَسْتُمْ على شَيْءٍ من الدِّين ، ولا في أيْدِيكم شَيْءٌ من الحقِّ والصَّوَاب ، كما تقول : هذا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، إذا أرَدْتَ تَحْقِيره .
وقوله تعالى : { حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } ، وقد تقدَّم الكلام على نظيرِه ، والتَّكْريرُ للتَّأكيد .
وقوله : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين } فيه وجهان :
أحدهما : لا تأسَفْ عليهم بسبب طغيانهم وكُفْرِهم ، فإنَّ ضرر ذلك راجعٌ إليهم ، لا إلَيْكَ ولا إلى المُؤمنين .
والثاني : لا تأسَفْ بسبب نُزُولِ اللَّعْن والعذابِ عليهم فإنَّهُمْ من الكَافِرِين المُسْتَحِقِّين لِذَلك .
وروى ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله تعالى عنهما - « أنَّ جماعَةً مِنَ اليَهُود قالوا : يا مُحَمَّد ألَسْتَ تُقِرُّ أنَّ التَّوْرَاة حَقٌّ مِنْ عند اللَّهِ تَعَالى؟ قال : بلى ، قالُوا : فإنَّا مُؤمِنُون بها ، ولا نُؤمِن بِغَيْرها » ، فنَزَلَتْ هذه الآية .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

قرأ الجمهور : « والصَّابئُونَ » بالواو ، وكذلك هو في مصاحِفِ الأمْصَار ، وفي رفعه تسعة أوجه :
أحدها : وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة : الخليل وسيبويه وأتباعهما أنه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ؛ لدلالةِ خبر الأول عليه ، والنيةُ به التأخيرُ ، والتقديرُ : إنَّ الذينَ آمَنُوا والذينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ منهم إلى آخره والصَّابِئُونَ كذلك ، ونحوه : « إنَّ زَيْداً وعمرٌو قائمٌ » ، [ أي : إنَّ زَيْداً قائِم وعمرٌو قائمٌ ] ، فإذا فعَلْنا ذلك ، فهل الحذفُ من الأول أي : [ يكونُ ] خبرُ الثاني مثبتاً ، والتقديرُ : إنَّ زَيْداً قائِمٌ وعمرٌو قائمٌ ، فحذف « قائمٌ » الأول ، أو بالعكس؟ قولان مشهوران ، وقد وَرَد كلٌّ منهما؛ قال : [ المنسرح ]
2009- نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُخْتَلِفُ
أي : نحنُ راضُونَ ، وعكْسُه قوله : [ الطويل ]
2010- فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
التقدير : وقيارٌ بها كذلِكَ ، فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ الحذفُ من الأول أيضاً؟ فالجوابُ : أنه يلزم من ذلك دخولُ اللامِ في خَبَر المبتدأ غيرِ المَنْسُوخِ ب « إنَّ » ، وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضَرُورة شِعْرٍ ، فالآيةُ يجوزُ فيها هذا التقديران على هذا التخْريج ، قال الزمخشريُّ : « والصَّابئُونَ : رفعٌ على الابتداء ، وخبرُه محذوفٌ ، والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز » إنَّ « من اسمها وخبرها؛ كأنه قيل : إنَّ الذين آمَنُوا والذينَ هَادُوا والنَّصارى حُكْمُهُمْ كَذَلِكَ والصَّابِئُونَ كذلكِ؛ وأنشد سيبويه شاهداً على ذلك : [ الوافر ]
2011- وَإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شِقَاقِ
أي : فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنْتُمْ كذلك » ثم قال بعد كلامٍ : « فإنْ قلْتَ : فقوله » والصَّابئُونَ « معطوفٌ لا بدَّ له من معطوفٍ عليه ، فما هو؟ قلت : هو مع خبره المحذوفِ جملةٌ معطوفة على جملة قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } إلى آخره ، ولا محلَّ لها؛ كما لا محلَّ للتي عطفتْ عليها ، فإن قلتَ : فالتقديمُ والتأخيرُ لا يكون إلا لفائدةً ، فما هي؟ قلتُ : فائدتُه التنبيهُ على أن الصابئين يُتابُ عليهم ، إنْ صحَّ منهم الإيمانُ والعملُ الصالحُ ، فما الظنُّ بغيرهم؟ وذلك أنَّ الصابئين أبينُ هؤلاءِ المعدُودِينَ ضَلاَلاً وأشدُّهم عِتِيّاً ، وما سُمُّوا صابئين إلا أنهم صَبَئُوا عن الأديان كلِّها ، أي : خَرَجُوا؛ كما أن الشاعر قدَّمَ قوله : » وأنْتُمْ « ؛ تنبيهاً على أن المخاطبينَ أوغلُ في الوصْفِ بالبغْيِ من قومِه ، حيثُ عاجلَ به قبل الخبر الذي هو » بُغاةٌ « ؛ لئلا يدخُلَ قومُه في البغيِ قبلهم مع كونهم أوغلَ فيه منهم وأثبتَ قدماً ، فإن قُلْتَ : فلو قيل : » والصَّابئينَ وإيَّاكُمْ « ، لكان التقديمُ حاصلاً ، قلت : لو قيل هكذا لم يَكُنْ من التقديم في شيء؛ لأنه لا إزالةَ فيه عن موضعه ، وإنما يُقال مقدَّمٌ ومؤخَّرٌ للمُزَالِ لا للقارِّ في مكانه ، وتجْرِي هذه الجملة مَجْرَى الاعتراض » .

الوجه الثاني : أنَّ « إنَّ » بمعنى « نَعَمْ » فهي حرفُ جوابٍ ، ولا محلَّ لها حينئذ ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء ، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفعِ ، وخبرُ الجميعِ قوله : « مَنْ آمَنَ » إلى آخره ، وكونُها بمعنى « نَعَمْ » قولٌ مرجوحٌ ، قال به بعضُ النحْويِّين ، وجعل من ذلك قوله تعالى : { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } [ طه : 63 ] في قراءةِ من قرأهُ بالألف ، وفي الآية كلامٌ طويلٌ يأتي - إنْ شاء الله تعالى - في موضعه ، وجعل منه أيضاً قول عبد الله بْنِ الزُّبَيْر : « إنَّ وصاحبهَا » جواباً لمنْ قال له : « لَعَنَ الله ناقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ » ، أي : نَعَمْ وصاحِبهَا ، وجعل منه قول الآخر : [ الكامل ]
2012- بََرَزَ الغَوَانِي فِي الشَّبَا ... بِ يَلُمْنَنِي وألُومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ ... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ
أي : نَعَمْ ، والهاءُ للسكْتِ ، وأجيبَ : بأنَّ الاسم والخبر محذوفان في قول ابن الزُّبَيْرِ ، وبقي المعطوفُ على الاسمِ دليلاً عليه ، والتقديرُ : إنَّها وصاحِبُهَا ملعونَانِ ، وتقدير البيتِ : إنَّهُ كذلِكَ ، وعلى تقدير أَنْ تكون بمعنى « نَعَمْ » ، فلا يَصِحُّ هنا جعلُهَا بمعناها؛ لأنها لم يتقدَّمْها شيءٌ تكونُ جواباً له ، و « نَعَمْ » لا تقعُ ابتداءَ كلامٍ ، إنما تقع جواباً لسؤالٍ ، فتكونُ تصديقاً له ، ولقائل أن يقول : يجوزُ أن يكُونَ ثَمَّ سُؤالٌ مقدَّرٌ ، وقد ذَكرُوا ذلك في مواضِعَ كثيرةٍ منها قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ } [ القيامة : 1 ] { لاَ جَرَمَ } [ هود : 22 ] ، قالوا : يُحتملُ أن يكونَ ردّاً لقائلِ كَيْتَ وكَيْتَ .
الوجه الثالث : أن يكون معطوفاً على الضَّميرِ المستكنِّ في « هَادُوا » أي : هَادُوا هم والصَّابئُونَ ، وهذا قول الكسائيِّ ، ورَدَّه تلميذُهُ الفرَّاء والزَّجَّاج . قال الزَّجَّاج : « هو خطأٌ من جهتَيْن » :
إحداهما : أن الصابئ في هذا القولِ يشاركُ اليهوديَّ في اليهوديَّة ، وليس كذلك ، فإن الصابئ هو غيرُ اليهوديِّ ، وإن جُعِلَ « هَادُوا » بمعنى « تَابُوا » من قوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] لا من اليهوديَّة ، ويكون المعنى : تابوا هم والصابئون ، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك؛ لأنَّ معنى « الَّذِينَ آمَنُوا » في هذه الآية؛ إنما هو إيمانٌ بأفواهِهِم؛ لأنه يريد به المنافقين؛ لأنه وصفُ الذين آمَنُوا بأفواههمْ ولم تؤمِنْ قلوبُهُمْ ، ثم ذكر اليهودَ والنصارى ، فقال : مَنْ آمَنَ منهُمْ بالله ، فله كذا ، فجعَلَهُمْ يهوداً ونصارى ، فلو كانوا مؤمنين ، لم يحتجْ أنْ يقال : « مَنْ آمَنَ ، فَلَهُمْ أجْرُهُمْ » ، وأُجِيبَ بأن هذا على أحدِ القولينِ ، أعني : أنَّ « الَّذِينَ آمَنُوا » مؤمنُونَ نفاقاً ، ورَدَّهُ أبو البقاء ومكي بن أبي طالبٍ بوجه آخر ، وهو عدمُ تأكيدِ الضمير المعْطُوفِ عليه ، قال شهاب الدين : هذا لا يلزمُ الكسائيَّ من حيث إنه قال بقولٍ تردُّه الدلائلُ الصحيحةُ ، والله أعلم ، وهذا القولُ قد نقله مكيٌّ عن الفرَّاء ، كما نقله غيره عن الكسائيِّ ، وردَّ عليه بما تقدَّمَ ، فيحتملُ أن يكونَ الفرَّاء كان يوافق الكسائيَّ ، ثم رجَع ، ويحتمل أن يكون مخالفاً له ، ثم رجع إليه ، وعلى الجُمْلةِ ، فيجوز أن يكونَ له في المَسْألة قولان .

الوجه الرابع : أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم « إنَّ » ؛ لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء ، فلمَّا دخلَتْ عليه ، لم تُغَيِّر معناه ، بل أكدَتْهُ ، غايةُ ما في الباب : أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً ، ولذلك اختصَّتْ هي و « أنَّ » بالفتح ، ولكن على رأي بذلك ، دون سائر أخواتها؛ لبقاء معنى الابتداء فيها ، بخلاف « لَيْتَ ولعلَّ وكَأنَّ » ، فإنه خرج إلى التمنِّي والتَّرَجِّي والتشبيه ، وأجرى الفراء الباب مُجْرًى واحداً ، فأجاز ذلك في لَيْتَ ولعلَّ ، وأنشد : [ الرجز ]
2013- يَا لَيْتَنِي وأنْتِ يَا لَمِيسُ ... فِي بَلَدٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُ
فأتى ب « أنْتِ » ، وهو ضميرُ رفع نسقاً على الياء في « لَيْتَنِي » ، وهل يَجْري غيرُ العطْفِ من التوابع مَجْرَاهُ في ذلك؟ فذهَبَ الفرَّاء ويونُسُ إلى جوازِ ذلك ، وجعلا منه قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب } [ سبأ : 48 ] فرفعُ « علاَّم » عندهما على النعْتِ ل « رَبِّي » على المحلِّ ، وحكوا « إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ » ، وغلَّط سيبويه مَنْ قال من العرب : « إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ » ، وأخذ الناس عليه في ذلك من حيْثُ إنه غَلَّط أهْلَ اللسان ، وهم الواضعُون أو المتلقُّون من الواضعِ ، وأجيبَ بأنهم بالنسبة إلى عامَّة العرب غالطُونَ ، وفي الجملة : فالناسُ قد رَدُّوا هذا المَذهبَ ، أعني : جواز الرفع عطفاً على محلِّ اسم « إنَّ » مطلقاً ، أعني قبل الخبر وبعده ، خَفِيَ إعرابُ الاسم أو ظهر ، ونقل بعضهم الإجماع على جوازِ الرفْعِ على المحلِّ بعد الخبر ، وليس بَشْيء ، وفي الجملة : ففي المسألةِ أربعةُ مذاهبَ : مذهبُ المحقِّقين : المنعُ مطلقاً ، مذهبُ بعضهم : التفصيلُ قبل الخَبَر؛ فيمتنعُ ، وبعده؛ فيجوز ، ومذهب الفراء : إنْ خَفِيَ إعرابُ الاسمِ ، جاز ذلك؛ لزوال الكراهية اللفظية ، وحُكِيَ من كلامهم : « إنَّكَ وَزَيْد ذَاهِبَانِ » ، الرابع : مذهب الكسائيِّ : وهو الجوازُ مطلقاً؛ ويستدلُّ بظاهر قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ } الآية ، وبقول ضَابِىءٍ البُرْجُمِيِّ : [ الطويل ]
2014- فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدينةِ رَحْلُهُ ... فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
وبقوله : [ البسيط ]
2015- يَا لَيْتَنَا وَهُمَا نَخْلُو بِمَنْزِلَةٍ ... حَتَّى يَرَى بعْضُنَا بَعْضاً وَنَأتَلِفُ
وبقوله : [ الوافر ]
2016- وَإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ ..
وبقوله : [ الرجز ]
2017- يَا لَيْتَنِي وأنْتِ يَا لَمِيسُ ... وبقولهم : « إنَّكَ وَزَيْدٌ ذَاهِبَانِ » ، وكلُّ هذه تَصْلُحُ أن تكونَ دليلاً للكسائيِّ والفراء معاً ، وينبغي أن يُوردَ الكسائيُّ دليلاً على جوازِ ذلك مع ظهور إعراب الاسم؛ نحو : « إنَّ زَيْداً وعَمْرو قائِمَانِ » ، وردَّ الزمخشريُّ الرفع على المحلِّ؛ فقال : « فإنْ قلتَ : هلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطْفِ على محَلِّ » إنَّ « واسمها ، قلتُ : لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخَبَرِ ، لا تقول : » إنَّ زَيْداً وعمرٌو مُنْطَلِقَانِ « ، فإنْ قلتَ : لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ ، وكأنك قلتَ : إنَّ زَيْداً مُنْطلقٌ وعمرٌو؟ قلتُ : لأني إذا رفعته رفعتُه على محلِّ » إنَّ « واسمها ، والعاملُ في محلِّهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخَبَرِ؛ لأنَّ الابتداء ينتظم الجزأيْنِ في عمله ، كما تنتظِمُها » إنَّ « في عملها ، فلو رَفَعْتَ » الصَّابِئُونَ « المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء ، وقد رفعت الخبر ب » إنَّ « ، لأعْمَلْتَ فيهما رافعيْن مختلفين » ، وهو واضحٌ فيما رَدَّ به ، إلاَّ أنه يُفْهِمُ كلامُه أنه يُجيزُ ذلك بعد استكمال الخَبَر ، وقد تقدَّم أنَّ بعضهم نقل الاجماع على جوازه .

وضعَّف ابنُ الخطيب ما قاله الزَّمَخْشَرِيُّ ، قال : هذا الكلام ضَعِيفٌ وبَيَانُه من وجوه :
الأوَّل : أنَّ هذه الأشْيَاء التي يُسَمِّيها النَّحْويُّونَ : رَافِعَةً وناصبةً ، ليس معناهُ أنَّهَا كذلك لذَوَاتها ولأعْيَانِها ، فإنَّ هذا لا يقوله عاقل ، بل المراد أنَّهُمَا مُعَرَّفانِ بحسَبِ الوضْعِ والاصْطِلاَح لهذه الحركات ، واجْتِمَاع المُعَرَّفَات الكَثيرَة على الشَّيْءِ والوَاحِدِ غير مُحَالٍ ، ألا ترى أنَّ جَمِيع أجْزَاء المُحْدَثَاتِ دَالَّةٌ على وُجُودِ اللَّه تعالى؟
الثاني : أنَّ هذا الجواب بناءٌ على أنَّ كلمة « إنَّ » مُؤثِّرة في نَصْبِ الاسْم ورفْعِ الخبر ، والكُوفِيُّونَ يُنْكِرون ذلك ، ويقولون : لا تَأثِير لهذا الحَرْفِ في رَفْعِ الخَبَرِ ألْبَتَّةً .
الثالث : أنَّ الأشْيَاء الكَثِيرة إذا عُطِفَتْ بَعْضُهَا على بَعْض ، فالخَبَرُ الوَاحِدُ لا يكُونُ خَبَراً عنهم؛ لأنَّ الخبر عن الشَّيْءِ إخبارٌ عن تَعْريف حالِهِ وبيان صِفَتِهِ ، ومن المُحَال أن يكون حالُ الشَّيء وَصِفَتُهُ عينُ حَالِ الآخَرِ وعيْنُ صفتِهِ ، لامتناع قيام الصِّفة الواحدة للذَّوات المُخْتَلِفَة ، وإذا ثَبَتَ هذا ظهر أنَّ الخَبَر ، وإنْ كان في اللَّفْظِ واحِداً ، لكنَّه في التقدير مُتَعَدِّدٌ ، وإذا حصل التَّعَدُّدُ في الحقيقةِ ، لم يمتنع كَوْنُ البَعْضِ مرتَفِعاً بالخَبَر ، وبَعْض بالابْتِدَاء بهذا التَّقْدير ، ولم يلزم اجْتِمَاعُ الرَّافِعَيْن على مَرْفُوعٍ واحدٍ .
والذي يُحَقِّقُ ذلك أنَّهُ سَلَّم أنَّ بعد ذَكْرِ الاسْمِ وخَبَرهِ جَازَ الرَّفْعُ والنَّصْبُ في المَعْطُوفِ عليه ، ولا شكَّ أنَّ هذا المَعْطُوفَ إنَّما جَازَ ذَلِكَ فيه؛ لأنَّا نُضْمِرُ له خَبَراً ، وحَكَمْنَا بأنَّ ذلك الخَبَرَ المُضْمَر مُرْتَفِعٌ بالابْتِدَاء .
وإذا ثَبَت هذا فَنَقُول : إن قبل ذكر الخبر إذا عَطَفْنَا اسماً على اسم ، حكم صَريح العَقْل ، بأنَّهُ لا بُدَّ من الحُكْمِ بتقدير الخَبَرِ ، وذلك إنَّما يحصل بإضمار الأخْبَار الكَثِيرَة ، وعلى هذا التقديرِ يَسْقُطُ ما ذكر من الإلْزَام .
الوجه الخامس : قال الواحديُّ : « وفي الآية قولٌ رابعٌ لهشام بن معاوية : وهو أنْ تُضْمِرَ خبرَ » إنَّ « ، وتبتدئ » الصَّابِئُونَ « ، والتقدير : » إنَّ الذينَ آمَنُوا والذين هَادُوا يُرْحَمُونُ « على قولِ من يقولُ : إنَّهم مسْلِمُونَ ، و » يُعَذِّبُونَ « على قولِ من يقول : إنهم كفَّار ، فيُحْذَفُ الخبرُ؛ إذ عُرِف موضِعُه؛ كما حُذِف من قوله :

{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر } [ فصلت : 41 ] ، أي : يُعَاقَبُونَ « ثم قال الواحديُّ : وهذا القولُ قريبٌ من قولِ البصريِّينَ ، غيرَ أنَّهم يُضْمِرُون خبر الابتداءِ ، ويجعلُونَ » مَنْ آمَنَ « خبرَ » إنَّ « ، وهذا على العكْسِ من ذلك؛ لأنه جعل » مَنْ آمنَ « خبر الابتداء ، وحذفَ خبرَ » إنَّ « ، قال شهاب الدين : هو كما قال ، وقد نَبَّهْت على ذلك في قَوْلِي أولاً : إنَّ مِنْهُم مَنْ يُقَدِّر الحذف من الأوَّلِ ، ومنهم مَنْ يَعْكِسُ .
الوجه السادس : أنَّ » الصَّابِئُونَ « مرفوعٌ بالابتداء ، وخبرُه محذوفٌ؛ كمذهب سيبويه والخليلِ ، إلا أنه لا يُنْوى بهذا المبتدأ التأخيرُ ، فالفرقُ بينه وبين مذهب سيبويه نيةُ التأخيرِ وعدمُها ، قال أبو البقاء : » وهو ضعيفٌ أيضاً؛ لما فيه من لزومِ الحذْفِ والفصلِ « ، أي : لِما يلزمُ من الجَمْع بين الحذفِ والفَصْلِ ، ولا يَعْنِي بذلك؛ أنَّ المكان من مواضع الحذف اللازمِ؛ لأنَّ القرآن يلزمُ أنْ يُتْلَى على ما أُنْزِلَ ، وإنْ كان ذلك المكان في غيره يجوزُ فيه الذكرُ والحذفُ .
الوجه السابع : أنَّ » الصَّابِئُونَ « منصوبٌ ، وإنما جاء على لغةِ بني الحرثِ وغيرهمُ الذين يَجْعَلون المثنَّى بالألفِ في كل حال؛ نحو : » رأيْتُ الزَّيْدَانِ ، ومَرَرْتُ بالزَّيْدَانِ « نقل ذلك مكي بن أبي طالب وأبو البقاء ، وكأنَّ شبهةَ هذا القائلِ على ضَعْفِها؛ أنه رأى الألف علامةَ رفعِ المثنَّى ، وقد جُعِلَتْ في هذه اللغةِ نائبةً رفعاً ونصباً وجرًّا ، وكذا الواو هي علامةُ رفعِ المجموعِ سلامةً ، فيبقى في حالةِ النصْب والجرِّ؛ كما بَقِيت الألفُ ، وهذا ضعيفٌ ، بل فَاسدٌ .
الوجه الثامن : أنَّ علامةَ النصب في » الصَّابِئُونَ « فتحةُ النون ، والنونُ حرفُ الإعراب ، كهي في » الزَّيْتُونِ « و » عُرْبُونٍ « ، قال أبو البقاء : » فإنْ قيلَ : إنما أجاز أبو عليٍّ ذلك مع الياءِ ، لا مع الواوِ ، قيل : قد أجازه غيرُه ، والقياسُ لا يدفعُهُ « ، قال شهاب الدين : يشير إلى مسألة ، وهو : أن الفارسيَّ أجازَ في بعضِ جموعِ السَّلامة ، وهي ما جَرَتْ مجرى المكسَّرِ كَبنينَ وسِنينَ؛ أن يَحُلَّ الإعرابُ نونها؛ بشرطِ أن يكونَ ذلك مع الياءِ خاصَّةً دونَ الواوِ ، فيقال : » جاءَ البَنِينُ « ؛ قال : [ الوافر ]
2018- وَكَانَ لَنَا أبُو حَسَنٍ عَلِيٌّ ... أباً بَرًّا ونَحْنُ لَهُ بَنِينُ
وفي الحديث : » اللَّهُمَّ ، اجْعَلْهَا عَلَيهِمْ سِنيناً كَسِنين يُوسُفَ « ؛ وقال : [ الطويل ]
2019- دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سنينَهُ ... لَعِبْنَ بِنَا شِيباً وَشَيَّبْنَنَا مُرْدَاً
فأثْبَتَ النونَ في الإضافةِ ، فلمَّا جاءت هذه القراءةُ؛ ووجِّهتْ بأن علامة النصب فتحةُ النونِ ، وكانَ المشْهُورُ بهذا القولِ إنما هو الفارسيُّ ، سأل أبو البقاء هذه المسألة ، وأجاب بأنَّ غيره يُجيزُهُ حتَّى مع الواو ، وجعل أنَّ القياسَ لا يأباه ، قال شهاب الدين : القياسُ يأباه ، والفرقُ بين حال كونه بالياء وبين كونه بالواوِ ظاهرٌ قد حَقَّقْته في » شَرْحِ التَّسْهِيلِ « ، نعم ، إذا سُمِّي بجمعِ المذكرِ السالمِ ، جاز فيه خمسةُ أوجه :
أحدها : أنْ يُعْرَبَ بالحركاتِ مع الواوِ ، ويصيرَ نظيرَ » الذون « ، فيقال : » جَاءَ الزَّيْدُونُ ورَأيْتُ الزَّيْدُونَ ومَرَرْتُ بالزَّيْدُونِ « ، ك » جَاءَ الذُونُ ورَأيْتُ الذونَ ومَرَرْتُ بالذونِ « ، هذا إذا سُمِّيَ به ، أمَّا ما دام جمعاً ، فلا أحْفَظُ فيه ما ذكره أبو البقاءِ ، ومن أثْبَتَ حجةٌ على مَنْ نَفَى ، لا سيما مع تقدُّمِه في العلمِ والزمان .

الوجه التاسع : قال مكيٌّ : « وإنما رفع » الصَّابِئُونَ « ؛ لأن » إنَّ « لم يظهر لها عملٌ في » الَّذينَ « فبقي المعطوفُ على رفعه الأصليِّ قبل دخول » إنَّ « على الجملة » ، قلت : وهذا هو بعينه مذهَبُ الفراء ، أعني : أنه يجيز العطف على محلِّ اسم « إنَّ » إذا لم يظهر فيه إعرابٌ ، إلا أن عبارة مَكيٍّ لا توافق هذا ظاهراً .
قال ابنُ الخطيبِ مُعَلِّلاً قول الفرَّاء : أن « إنَّ » ضعيفةٌ في العَمَلِ هاهنا ، وبيانُهُ مِنْ وجوه :
الأوَّلُ : أنَّ كلمة « إنَّ » لم تَعْمَلْ إلاَّ لكوْنِهَا مُشابِهَة للفِعْل ، ومعلُومٌ أنَّ المشابَهَة بين الفِعْلِ والحَرْفِ ضَعِيفَةٌ .
الثاني : أنَّها ، وإن كانَت تَعْمَل في الاسمِ فقط ، أمَّا الخَبَر ، فإنَّه يبقى مَرْفُوعاً ، لِكَوْنِه خَبَرَ المُبْتَدَأ ، وليس لهذا الحرف في رَفْعٍ الخَبَرِ تَأثيرٌ ، وهذا مَذْهَبُ الكُوفيِّين .
والثالث : أنَّهَا إنما يَظْهَرُ أثَرُهَا في تَغْيير الأسْمَاءِ أمَّا الأسماءُ الَّتِي لا تَتَغيَّرُ عند اختلافِ العوامل ، فلا يظهر أثَرُ هذا الحرف فيها ، والأمر هاهُنا كذلك؛ لأنَّ الاسمَ هاهُنَا هو قوله « الَّذِين » وهذه الكَلِمَةُ لا يظهر فيها أثَرُ النَّصْبِ والرَّفْعِ والخَفْضِ .
وَإذا ثبت هذا فَنَقُولُ : إذَا كان اسم « إنَّ » بحيث لا يَظْهَرُ فيه أثَرُ الإعراب ، فالَّذِي يُعْطَفُ عليه يجُوز النَّصْبُ فيه على إعْمَال هذا الحَرْفِ ، والرَّفْعُ على إسْقَاطِ عَمَلِه ، فلا يَجُوز أن يُقَال : « إنَّ زيداً وعَمْراً قَائِمَان » لأنَّ زيْداً ظهر فِيهَا أثَرُ الإعراب ، ويجُوزُ أن يُقَال : « إنَّ هؤلاءِ إخْوتكَ يُكْرِمُونَنَا ، وإنَّ قَطَامَ وهِنْد عِنْدنَا » والسَّبَبُ في جَوَازِ ذلك أنَّ كَلِمَة « إنَّ » كانَتْ في الأصْلِ ضعيفَةُ العَمَل ، فإذَا صارت بِحَيْثُ لا يَظْهَرُ لَهَا أثَرٌ في اسمهَا صَارَتْ في غاية الضَّعفِ ، فجاز الرَّفْعُ بِمُقْتَضَى الحُكْم الثَّابِتِ قبل دخول هذا الحَرْفِ عليه ، وهو كَونُهُ مُبْتَدأ ، فهذا تَقْرِير قول الفرَّاء ، وهو مَذْهَبٌ حَسَنٌ ، وأولى من مذهَبِ البصْرِيِّين؛ لأن الَّذي قالوه يَقْتَضِي أنَّ كلام الله على التَّرْتِيب الَّذِي وردَ عليه ليس بصحيح ، وإنَّمَا تَحصُل الصِّحَّة عند تَفْكيكِ هذا النَّظْمِ ، وعلى قوْلِ الفرَّاءِ فلا حاجَةَ إليه ، فكَانَ ذلك أوْلَى .

وقرأ أبيُّ بن كعْبٍ ، وعثمان بنُ عفان ، وعائشةُ ، والجحْدَرِيُّ وسعيدُ بن جُبَيْرٍ ، وجماعة : « والصَّابئينَ » بالياء ، ونقلها صاحب « الكَشَّاف » عن ابن كثيرٍ ، وهذا غير مشهُور عنه ، وهذه القراءةُ واضحةُ التخريج؛ عطفاً على لفظِ اسْم « إنَّ » ، وإن كان فيها مخالفةٌ لسوادِ المصْحَفِ ، فيه مخالفةٌ يسيرةٌ ، ولها نظائرُ كقراءة قُنْبُلٍ عن ابن كثيرٍ : { سراط } [ الفاتحة : 5 ] وبابه بالسين ، وكقراءة حمزة إيَّاهُ في روايةٍ بالزَّاي ، وهو مرسومٌ بالصَّاد في سائر المصاحِف ، ونحو قراءة الجميع : { إيلافهم } [ قريش : 1 ] بالياء ، والرسم بدونها في الجميعِ ، وقرأ الحسن البصريُّ والزهريُّ : « والصَّابيُون » بكسر الباء بعدها ياءٌ خالصة ، وهو تخفيف للهمزة ، كقراءة من قرأ : { « يستهزيون } [ الأنعام : 5 ] بخلوص الياء ، وقد تقدَّم قراءة نافعٍ في البقرة [ الآية 62 ] .
وأما » النَّصَارى « ، فهو منصوب عطْفاً على لفظ اسمِ » إنَّ « ، ولا حاجة إلى ادِّعاء كونه مرفوعاً على ما رفع به » الصابئُونَ « ؛ لكلفةِ ذلك .
قوله تعالى : » مَنْ آمَنَ « يجوز في » مَنْ « وجهان :
أحدهما : أنها شرطيةٌ ، وقوله : » فلا خَوْفٌ « إلى آخره جوابُ الشرط ، وعلى هذا ف » آمَنَ « في محل جزمٍ بالشرط ، و » فلا خَوْفٌ « في محلِّ جزمٍ بكونه جوابه ، والفاءُ لازمةٌ .
والثاني : أن تكون موصولةً والخبر » فلا خوفٌ « ، ودخلت الفاءُ لشبهِ المبتدأ بالشرطِ ، ف » آمَنَ « على هذا لا محلَّ له؛ لوقوعه صلةً ، و » فَلا خَوفٌ « محلُّه الرفعُ لوقوعه خبراً ، والفاءُ جائزةُ الدخولِ ، لو كان في غير القرآن ، وعلى هذين الوجهين ، فمحلُّ » مَنْ « رفعٌ بالابتداء ، ويجوز على كونها موصولةً : أن تكون في محلِّ نصب بدلاً من اسم » إنَّ « وما عُطِف عليه ، أو تكون بدلاً من المعطوفِ فقط ، وهذا على الخلافِ في » الَّذِينَ آمَنُوا « : هل المرادُ بهم المؤمنونَ حقيقةً ، أو المؤمنونَ نِفَاقاً؟ وعلى كلِّ تقدير من التقادير المتقدِّمة ، فالعائدُ من هذه الجملة على » مَنْ « محذوفٌ ، تقديرُه : » مَنْ آمن مِنْهُمْ « ؛ كما صَرَّح به في موضعٍ آخر ، وتقدَّم إعرابُ باقي الجُمْلَةِ فيما مَضَى .
فصل في معنى الآية
معنى قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } ، أي : باللِّسَان وقوله تعالى : { مَنْ آمَنَ } بالقَلْبِ ، وعلى هذا فالمُرَادُ بِهِم : المنافقون ، وقيل : إنَّ الذين على حقيقةِ الإيمان { مَنْ آمَنَ بالله } أي : ثبتَ على الإيمان باللَّه واليومِ الآخر وعمل صالحاً فلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يَحْزَنُون .

ولهذا التكرير فائدتان :
الأولى : أن المُنَافِقِين كانوا يَزْعُمُون أنَّهُم مُؤمِنُون ، فأخْرَجَهُمْ بهذا التكرير عن [ وعد ] عدمِ الخَوْف ، وعدمِ الحزن .
والثاني : أنَّهُ تعالى ذكر لَفْظَ الإيمان ، والإيمانُ يدخل تحته أقسامٌ : فأشرفُها : الإيمان باللَّهِ واليوم الآخر ، فكرره تنبيهاً على أنَّ هذيْنِ القسمَيْن أشْرَف أقْسَام الإيمان .
وقد تقدَّمَ في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } [ المائدة : 35 ] كلامٌ يناسب هذا الموضع .
واعلم أنَّه لما بَيَّنَ أن أهل الكِتاب ليسُوا على شَيء ما لم يُؤمِنُوا بيَّن أنَّ هذا الحُكْمَ عامٌّ في الكُلِّ ، وأنَّهُ لا يَحْصُلُ لأحدٍ فضيلة إلاَّ إذا آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخَرِ ، وعَمِلَ صَالِحاً .
قالت المُعَتزِلَة : إنَّه تعالى شرَطَ عدمَ الخَوْفِ والحُزْن بالإيمان والعَمَلِ الصَّالح ، والمشروط بالشَّيء عدم عند عدمِ الشَّرْطِ ، فإنْ لم يَأتِ مع الإيمان بالعملِ الصَّالِح ، فإنَّه يحصل له الخَوْفُ والحزن ، وذلكَ يَمْنَعُ من العَفْوِ عن صاحبِ الكَبيرَة .
والجواب : أنَّ صاحِبَ الكَبيرَةِ لا يقطعُ بأنَّ الله يَعْفُو عنه لا مَحَالَة ، فكان الخَوْفُ والحزن حاصِلاً قبل إظهَارِ العَفْو والله أعلم .

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)

والمقصودُ : بيان عُيُوب بني إسرائيل ، وشدَّة تَمَرُّدهم عن الوفاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ ، وهذا مُتعلِّقٌ بأوَّلِ السُّورة ، وهو قولُه تعالى : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] .
قوله تعالى : { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } : قد تقدَّم الكلامُ [ الآية 20 من البقرة ] على « كُلَّمَا » مشبَعاً ، فأغْنَى عن إعادته ، وقال الزمخشريُّ : « كُلَّمَا جاءَهُمْ رسولٌ » جملةٌ شرطيةٌ وقعت صفةٌ ل « رُسُلاً » ، والراجعٌ محذوفٌ ، أي : « رسولٌ منهُمْ » ، ثم قال : « فإنْ قلتَ : أينَ جوابُ الشرط ، فإنَّ قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ناب عن الجواب؛ لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقَيْن؛ ولأنه لا يحسُن أن تقول : » إنْ أكْرَمْتَ أخِي ، أخَاك أكْرَمْتُ « ؟ قلتُ : هو محذوفٌ؛ يَدُلُّ عليه قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ ، وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ، كأنه قيل : كلما جاءهم رسولٌ ، ناصَبُوه ، وقوله : » فَرِيقاً كَذَّبُوا « جوابٌ مستأنفٌ لقائلٍ يقول : كيف فعلُوا برسُلِهِمْ؟ » قال أبو حيان : « وليس » كُلَّمَا « شرطاً ، بل » كُلَّ « منصوبٌ على الظرف و » مَا « مصدريةٌ ظرفيةٌ ، ولم يجزم العربُ ب » كُلَّّمَا « أصلاً ، ومع تسليم أن » كُلَّمَا « شرط؛ فلا يمتنع؛ لما ذكر ، أمّا الأول؛ فلأنَّ المرادَ ب » رَسُول « الجنسُ لا واحدٌ بعينه ، فيصحُّ انقسامُه إلى فريقَيْن؛ نحو : » لا أصْحَبُكَ ما طَلَع نَجْمٌ « أي : جنس النجوم ، وأما الثاني؛ فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه » . وهذا الذي منعه إنما منعه الفرَّاءُ وحدَه ، وأما غيرُه ، فأجاز ذلك ، وهذا مع تسليم أنَّ « كُلَّمَا » شرط ، وأمَّا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ ، فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك ، ولا يمتنعُ تقديمُ معمولِ الفعلِ العاملِ في « كُلَّمَا » تقول : « كُلَّمَا جِئْتَنِي أخَاكَ أكْرَمْتُ » ، قال شهاب الدين : هذا واضحٌ من أنها ليستْ شرطاً ، وهذه العبارةُ تكثُرُ في عبارة الفقهاءِ دُونَ النُّحَاةِ ، وفي عبارة أبي البقاء ما يُشْعر بما قاله الزمخشريُّ ، فإنه قال : « وَكَذَّبُوا » جواب « كُلَّمَا » و « فَرِيقاً » مفعول ب « كَذَّبُوا » ، و « فَرِيقاً » منصوب ب « يَقْتُلُونَ » ، وإنما قدَّمَ مفعول « يَقْتُلُونَ » لتواخي رؤوس الآي ، وقدَّم مفعولَ « كَذَّبُوا » مناسبةً لما بعده .
قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلت : لِمَ جِيءَ بأحد الفعلَيْن ماضياً ، وبالآخر مضارعاً؟ قلتُ : جِيء ب » يَقْتُلُونَ « على حكايةِ الحالِ الماضية؛ استفظاعاً للقتلِ ، واستحضاراً لتلْكَ الحالِ الشنيعةِ؛ للتعجُّبِ منها » . انتهى ، وقد يقال : فلِمَ لا حُكِيَتْ حالُ التكْذيبِ أيضاً ، فيُجَاءُ بالفعْلِ مضارعاً لذلك؟ ويجَابُ بأنَّ الاستفظاع في القتلِ وشناعَتِهِ أكثرُ من فظاعةِ التكذيبِ ، وأيضاً؛ فإنه لمَّا جيء به مضارعاً ناسب رؤوس الآي .

وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)

قرأ حمزةُ والكسائيُّ وأبو عمرو « تَكونُ » برفع النون ، والباقون بنصبها ، فمنْ رفع ف « أنْ » عنده مخفَّفةٌ من الثقيلة ، واسمها ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ ، تقديرُه ، أنهُ ، و « لاَ » نافية ، و « تَكُونُ » تامة ، و « فِتْنَةٌ » فاعلها ، والجملةُ خبر « أن » ، وهي مفسِّرةٌ لضميرِ الأمرِ والشأن ، وعلى هذا ، ف « حَسِبَ » هنا لليقين ، لا للشكِّ؛ ومن مجيئها لليقين قولُ الشاعر : [ الطويل ]
2020- حَسِبْتُ التُّقَى والْجُودَ خَيْرَ تِجَارةٍ ... رَبَاحاً إذَا مَا المَرْءُ أصْبَحَ ثَاقِلا
أي : تيقَّنْتُ؛ لأنه لا يليقُ الشكُّ بذلك ، وإنما اضْطُرِرْنَا إلى جعلها في الآية الكريمة بمعنى اليقين؛ لأنَّ « أن » المخففةَ لا تقع إلا بعد يقينٍ ، فأمَّا قوله : [ البسيط ]
2021- أرْجُو وَآمُلُ أنْ تَدْنُوْ مَوَدَّتُهَا ... وَمَا إخَالُ لَدَيْنَا مِنْكَ تَنْوِيلُ
فظاهرُه : أنها مخفَّفةٌ؛ لعدم إعمالها ، وقد وقعت بعد « أرْجُو » و « آمُلُ » وليسا بيقينٍ ، والجوابُ من وجهين :
أحدهما : أنَّ « أنْ » ناصبةٌ ، وإنما أُهْمِلَتْ؛ حَمْلاً على « مَا » المصدريَّة؛ ويَدُلُّ على ذلك أنها لو كانت مخفَّفَةً ، لفُصِلَ بينها وبين الجملة الفعليةِ بما سنذكره ، ويكون هذا مثل قولِ الله تعالى : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] ؛ وكقوله : [ البسيط ]
2022- يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نَفْسِي نُفُوسَكُمَا ... وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لُقِّيتُمَا رَشَدَا
أنْ تَحْمِلا حَاجَةً لِي خَفَّ مَحْمَلُهَا ... تَسْتوَجِبَا نِعْمَةً عِنْدِي بِهَا وَيَدَا
أنْ تَقْرَآنِ عَلَى أسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ... مِنِّي السَّلامَ وألاَّ تُشْعِرا أحَدَا
فقوله : « انْ تَقْرآنِ » بدلٌ من « حَاجَة » ، وقد أهْمَلَ « أنْ » ؛ ومثلُه قوله : [ مجزوء الكامل ]
2023- إنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ ... قَةُ إنْ نَجَوْتِ مِنَ الرَّزَاحِ
وَنَجَوْتِ مِنْ وَصَبِ الْعَدْوْ ... وِ مِنَ الغُدُو إلى الرَّوَاح
أنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قوْ ... مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاحِ
وكيفما قُدِّر فيما ذكرته من الأبيات ، يلزم أحد شذوذَيْنِ قد قيل باحتمال كلٍّ منهما : إمَّا إهمالُ « أنْ » ، وإمَّا وقوعُ المخفَّفة بعد غير علمٍ ، وعدمُ الفصل بينها ، وبين الجملة الفعليَّة .
والثاني من وجهي الجواب : أنَّ رجاءَهُ وأملَهُ قويَا حتَّى قربا من اليقينِ ، فأجراهما مُجْراهُ في ذلك .
وأما قول الشاعر : [ الخفيف ]
2024- عَلِمُوا أنْ يُؤمَّلُونَ فَجَادُوا ... قَبْلَ أنْ يُسْألُوا بأعْظَمِ سُؤلِ
فالظاهرُ أنها المخفَّفة ، وشَذَّ عدمُ الفصْلِ ، ويحتملُ أن تكون الناصبة شذَّ وقوعُها بعد العلْمِ ، وشذَّ إهمالُها ، ففي الأوَّلِ شذوذٌ واحدٌ ، وهو عدم الفصلِ ، وفي الثاني شذوذَانِ : وقوعُ الناصبةِ بعد العلمِ ، وإهمالُها حَمْلاً على « مَا » أختِها .
وجاءَ هنا على الواجب - عند بعضهم - أو الأحسنِ - عند آخرين - وهو الفصلُ بين « أن » الخفيفةِ وبين خبرها ، إذا كان جملة فعليةً متصرفةً غير دعاءٍ ، والفاصلُ : إمَّا نفي كهذه الآية ، وإمَّا حرفُ تنفيس؛ كقوله تعالى :

{ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى } [ المزمل : 20 ] ، ومثله : « عَلِمْتُ أنْ سوْفَ تقُومُ » ، وإمَّا « قَدْ » ؛ كقوله تعالى : { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } [ المائدة : 113 ] ، وإمَّا « لَوْ » - وهي غريبةٌ -؛ كقوله : { وَأَلَّوِ استقاموا } [ الجن : 16 ] { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب } [ سبأ : 14 ] . وتحرَّزْتُ بالفعلية من الاسمية؛ فإنها لا تحتاج إلى فاصل؛ كقوله تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] ، وكقوله : [ البسيط ]
2025- فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد قَدْ عَلِمُوا ... أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
وبالمتصرِّفةِ من غيرِ المتصرِّفة؛ فإنه لا تحتاج إلى فاصلٍ؛ كقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] { وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ } [ الأعراف : 185 ] ، وبغير دعاءٍ من الواقعةِ دعاءً؛ كقوله تعالى : { أَنَّ غَضَبَ الله } [ النور : 9 ] في قراءة نافعٍ .
ومَنْ نصب « تَكُونَ » ف « أنْ » عنده هي الناصبة للمضارعِ ، دخلت على فعلٍ منفيٍّ ب « لاَ » ، و « لاَ » لا يمنعُ أن يعملَ ما قبلها فيما بعدها من ناصبٍ ، ولا جازم ، ولا جارٍّ ، فالناصبُ كهذه الآية؛ والجازم كقوله تعالى : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 73 ] { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } [ التوبة : 40 ] ، والجارُّ نحو : « جِئْتُ بِلا زادٍ » .
و « حَسِبَ » هنا على بابها من الظَّنِّ ، فالناصبة لا تقعُ بعد علْم ، كما أنَّ المخففة لا تقع بعده غيرِه ، وقد شَذَّ وقوعُ الناصبةِ بعد يَقِينٍ ، وهو نصٌّ فيه كقوله : [ البسيط ]
2026- نَرْضَى عَنِ النَّاسِ إنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا ... ألاَّ يُدانِيَنَا مِنْ خَلْقِهِ بَشَرُ
وليس لقائلٍ أن يقول : العلمُ هنا بمعنى الظَّنِّ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه ، والأكثرُ بعد أفعالِ الشكِّ النصبُ ب « أنْ » ، ولذلك أُجْمِع على النصْب في قوله تعالى : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا } [ العنكبوت : 2 ] ، وأمَّا قوله تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ } [ طه : 89 ] فالجمهورُ على الرفع؛ لأن الرؤية تقعُ على العلْمِ .
والحاصل أنه متى وقَعَتْ بعد علْمٍ ، وجبَ أن تكونَ المخفَّفةَ ، وإذا وقعت بعد ما ليس بعلمٍ ولا شكٍّ ، وجَبَ أن تكونَ الناصبةَ ، وإن وقعت بعد فعْلٍ يحتملُ اليقينَ والشك جاز فيها وجهان باعتباريْنِ : إنْ جعلناه يقيناً ، جعلناها المخففةَ ورفعنا ما بعدها ، وإن جعلناه شكّاً جعلناها الناصبةَ ونصبْنَا ما بعدها ، والآيةُ الكريمةُ من هذا الباب ، وكذلك قوله تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ } [ طه : 89 ] وقوله : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا } [ العنكبوت : 2 ] لكن لم يُقرأ في الأولى إلا بالرفعِ ، ولا في الثانية إلا بالنصْب ، لأن القراءة سنةٌ متبعة ، وهذا تحريرُ العبارة فيها ، وإنما قلنا ذلك؛ لأن بعضهم يقول : يجوزُ فيها بعد أفعال الشكِّ وجهان ، فيوهمُ هذا أنه يجوزُ فيها أن تكونَ المخفَّفةَ ، والفعلُ قبلها باقٍ على معناه من الشكِّ ، لكن يريد ما ذكرتُه لك من الصلاحيةِ اللفظيةِ بالاعتبارين المتقدمَيْن ، ولهذا قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلْتَ : كيف دخَلَ فعلُ الحُسْبَانِ على » أن « التي هي للتحْقِيق؟ قلْتُ : نَزَّل حسبانَهم؛ لقوَّته في صدورِهِمْ منزلةَ العلْمِ » والسببُ المقتضي لوقوعِ المخفَّفةِ بعد اليقين ، والناصبةِ بعد غيره ، وجواز الوجهَيْن فيما تردَّد بين الشَّكِّ واليقينِ : ما ذكروه ، وهو « أن » المخفَّفة تَدُلُّ على ثباتِ الأمر واستقراره؛ لأنها للتوكيدِ كالمشدَّدة ، والعلمُ وبابُه كذلك ، فنَاسَبَ أنْ تُوقِعَها بعد اليقين للملائمةِ بينهما ، ويدلُّ على ذلك وقوعُها مشدَّدةً بعد اليقين؛ كقوله تعالى :

{ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } [ النور : 25 ] { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 106 ] { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } [ البقرة : 107 ] إلى غير ذلك ، والنوعُ الذي لا يدلُّ على ثبات واستقرارٍ تقع بعده الناصبة؛ كقوله تعالى : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي } [ الشعراء : 82 ] { نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } [ المائدة : 52 ] { فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا } [ الكهف : 80 ] { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } [ المجادلة : 13 ] إلى غير ذلك ، والنوعُ المحتملُ للأمرين تقع بعده تارة المخففةُ ، وتارةً الناصبةُ؛ كما تقدَّم من الاعتبارَيْنِ ، وعلى كلا التقديرين ، أعني : كونها المخففةَ أو الناصبةَ ، فهي سادَّةٌ مسدَّ المفعوليْنِ عند جمهورِ البصْريين ، ومسدَّ الأولِ ، والثاني محذوفٌ عند أبي الحسن ، أي : حَسِبُوا عدمَ الفتنةِ كائناً أو حاصلاً ، وحكَى بعض النحويِّين أنه ينبغي لِمَنْ رفع أن يَفْصِلَ « أنْ » من « لاَ » في الكتابة؛ لأنَّ الهاء المضْمَرة حائلةٌ في المعنى ، ومن نصب ، لم يَفْصِلْ لعدمِ الحائل بينهما ، قال أبو عبد الله : « هذا ربَّما ساغَ في غير المُصْحفِ ، أمَّا المُصْحَفُ ، فلَم يُرْسَمْ إلا على الاتِّصَال » . انتهى ، وفي هذه العبارة تجوُّزٌ؛ إذ لفظُ الاتصالِ يُشْعِرُ بأنْ تُكْتَبَ « أنلا » فتوصل « أنْ » ب « لاَ » في الخطِّ ، فينبغي أن يقال : لا تُثْبَتُ لها صورةٌ ، أو تُثْبتُ لها صورةٌ منفصلة .
فصل
اختَلَفُوا في الفِتْنَةِ فقِيلَ : هِيَ العَذَابُ أي : وظنُّوا ألا يكون عذابٌ ، وقيل : هي الابْتِلاءُ والاخْتِبَارُ بالقَحْطِ ، والوَبَاء ، والقَتْلِ والعَدَاوَةِ ، والبَغْضَاءِ فيما بَيْنَهُم ، وكُلُّ ذلك قد وقعَ بِهِم ، وكُلُّ واحدٍ من المُفَسِّرين حَمَل الفِتْنَةَ على واحدٍ من هذِهِ الوُجُوه .
واعلم أنَّ حُسْبَانَهُمْ ألاَّ تقع فِتْنَةٌ يحتمل وجهين :
إمَّا أنهم كانوا يَعْتقدُون أنَّ الواجِبَ عليْهِم في كل رَسُول جَاءَ بِشَرْعٍ آخَر؛ أنَّه يجب عَلَيْهِم قَتْلُه وتَكْذِيبُه .
وإمَّا أنهم وإن اعْتَقَدُوا في أنْفُسِهِم كَوْنهم مُخْطِئِين في ذلك التَّكْذِيب والقَتْلِ ، إلاَّ أنَّهُم كانوا يَقُولُون : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] وكانوا يعتقدون أنَّ نُبُوَّةَ أسْلاَفهم وآبَائِهم تَدْفَعُ عَنْهُم العذاب الذي يَسْتَحِقُّونَهُ بِسَببِ ذلِكَ القَتْلِ والتَّكْذِيب .
قوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } أي : فَعَمُوا عن الحقِّ فلم يُبْصِرُوا « وصَمُّوا » بعد مُوسَى { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ } ببعْثَ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وقيل : عَمُوا وَصمُّوا في زَمَان زَكريَّا ، ويحيى ، وعيسى - عليهم الصلاة والسلام - ، ثم تاب اللَّهُ على بعضهم ، حيْثُ آمَنَ بعضُهُم به ثمَّ عمُوا وصمُّوا كثيرٌ منهم في زَمَانِ مُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، بأنْ أنْكَرُوا نُبُوَّتَه ورِسَالَتَهُ ، وإنَّما قال « كثيرٌ مِنْهُم » ؛ لأنَّ أكثرَ اليهُود وإنْ أصَرُّوا على الكفر بمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، إلاَّ أنَّ جَمْعاً آمَنُوا به كَعَبْدِ اللَّه بن سلام وأصحَابِه .

وقيل : عَمُوا حين عَبَدُوا الْعِجْلَ ، ثمَّ تَابُوا عَنْهُ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِم ، ثمَّ عَمُوا وصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُم بالتعَنُّتِ ، وهو طَلَبُهُم رُؤيَةَ اللَّهِ جَهْرَةً ، ونُزُولَ الملائِكة .
وقال القَفَّال : ذَكَرَ اللَّهُ تعالى في سُورةِ بَنِي إسْرائيل ما يجُوزُ أنْ يكُونَ تَفْسيراً لِهَذِه الآية ، فقالَ تعالى : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [ الإسراء : 4 ، 5 ، 6 ] ، فهذا في معنى « فَعَمُوا وصمَّوا » ثم قال تعالى { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } [ الإسراء : 7 ] فهذا في معنى قوله « فَعَمُوا وصَمُّوا » .
قوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } في هذا التركيب خمسة أوجه :
أحدها : أنَّ الواوَ علامةُ جمع الفاعلِ ، كما يَلْحق الفعل تاءُ التأنيث؛ ليدلَّ على تأنيثِ الفاعل ، ك « قَامَتْ هِنْدٌ » ، وهذه اللغة جاريةٌ في المثنى وجمع الإناث أيضاً ، فيقال : « قَامَا أخَواكَ ، وقُمْنَ أخَوَاتُكَ » ؛ كقوله : [ الطويل ]
2027- .. وَقَدْ أسْلَمَاهُ مُبْعَدٌ وحَمِيمُ
وقوله : [ الطويل ]
2028- ولَكِنْ دِيَافِيٌّ أبُوهُ وأمُّهُ ... بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّليطَ أقَارِبُهْ
واستدلَّ بعضُهم بقوله - عليه السلام - : « يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ ملائِكَةٌ » ، ويعبِّر النحاة عن هذه اللغةِ بلغةِ « أكَلُونِي البَرَاغِيثُ » ، ولكنَّ الأفصحَ ألاَّ تلحقَ الفعلَ علامةٌ ، وفرَّق النحويُّون بين لحاقِهِ علامةَ التأنيث ، وعلامةَ التثنية والجمع؛ بأنَّ علامةَ التأنيث ألزمُ؛ لأن التأنيث في ذاتِ الفاعلِ بخلافِ التثنيةِ والجمعِ؛ فإنه غيرُ لازمٍ .
الوجه الثاني : أنَّ الواوَ ضميرٌ عائدٌ على المذكورينَ العائد عليهم واو « حَسِبُوا » ، و « كَثِيرٌ » بدلٌ من هذا الضمير ، كقولك : « إخْوَتُكَ قَامُوا كَبِيرُهُمْ وصَغِيرُهُمْ » ونحوه . والإبْدَال كَثيرٌ في القُرْآنِ قال تعالى : { الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [ السجدة : 7 ] .
وقال تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] .
الوجه الثالثك أن الواو ضمير أيضاً ، و « كَثِيرٌ » بدلٌ منه ، والفرقُ بين هذا الوجه والذي قبله : أن الضمير في الوجْهِ الأوَّلِ مفسَّرٌ بما قبلَه وهم بنو إسْرائِيلَ ، وأمَّا في هذا الوجه ، فهو مفسَّرٌ بما بعده ، وهذا أحدُ المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعده ، وهو أن يُبْدَلَ منه ما يفسرهُ ، وهي مسألةُ خلافٍ ، وقد تقدَّم تحريرها .

الوجه الرابع : أن الضمير عائدٌ على مَنْ تقدَّم ، و « كَثِيرٌ » خبر مبتدأ محذوف ، وقدَّره مكي تقديرين : أحدهما : قال : « تقديرُه العُمْيُ والصُّمُّ كثيرٌ منهم » ، والثاني : العَمَى والصَّمَمُ كثيرٌ منهم؛ ودلَّ على ذلك قوله : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } ، فعلى تقديره الأوَّل : يكون « كَثِيرٌ » صادقاً عليهم و « مِنْهُمْ » صفة ل « كَثِير » ؛ وعلى التقدير الثاني : يكون « كَثِيرٌ » صادقاً على العَمَى والصَّمَمِ لا عليهِمْ ، و « مِنْهُمْ » صفةٌ له بمعنى أنه صادرٌ منهم ، وهذا الثاني غيرُ ظاهرٍ ، وقدَّره الزمخشريُّ فقال : « أولَئِكَ كَثِيرٌ منهم » .
الوجه الخامس : أنَّ « كَثيرٌ » مبتدأ والجملةُ الفعليَّة قبله خبرٌ ، ولا يُقالُ : إنَّ الفعلَ متى وقع خبراً ، وجبَ تأخيرُه؛ لأنَّ ذلك مشروطٌ بكونِ الفاعل مستتراً؛ نحو : « زَيْدٌ قَامَ » ؛ لأنه لو قُدِّم ، فقيل : « قَامَ زَيْدٌ » ، لألبس بالفاعل ، فإن قيلَ : وهذا أيضاً يُلْبِس بالفاعلِ في لغة « أكَلُونِي البَراغيثُ » ، فالجواب : أنها لغةٌ ضعيفةٌ لا نبالي بها ، وضعَّفَ أبو البقاء هذا الوجه بمعنًى آخَرَ ، فقال : « لأنَّ الفعل قد وقَعَ في موضِعِه ، فلا يُنْوَى به غيرُه » ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنه وقع موقعه ، وإنما كان واقعاً لو كان مجرَّداً من علامةٍ ، ومثلُ هذه الآيةِ أيضاً قوله تعالى : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] .
والجمهورُ على « عَمُوا وصَمُّوا » بفتح العين والصاد ، والأصل : عَمِيُوا وصَمِمُوا؛ كَشَرِبُوا ، فأعِلَّ الأولُ بالحذفِ ، والثَّاني بالإدغامِ ، وقرأ يحيى بن وثَّاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من « عَمُوا » ، قال الزمخشريُّ : « على تقدير عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ ، أي : رَمَاهُمْ وضَرَبَهُمْ بالعَمَى والصَّمَمِ؛ كما يقال : نَزَكْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بالنَّيْزَكِ ، وركَبْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ » ، ولم يعترضْ عليه أبو حيان - رحمه الله - ، وكان قد قال قبل ذلك بعد أن حكى القراءة : « جَرَتْ مَجْرَى زُكِمَ الرجُلُ ، وأزْكَمَهُ الله ، وحُمَّ وأحَمَّه الله ، ولا يقال : زَكَمَهُ الله ولا حَمَّهُ؛ كما لا يقال : عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُه ، وهي أفعالٌ جاءت مبنيَّةً للمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه ، وهي متعدِّيةٌ ثلاثيةٌ ، فإذا بُنيتْ للفاعلِ ، صارتْ قاصرةً ، فإذا أردت بناءَها للفاعلِ متعدِّيةً ، أدخَلْتَ همزة النقْلِ ، وهي نوعٌ غريبٌ في الأفعال » . انتهى ، فقوله : « كمَا لا يُقَالُ عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُهُ » يقتضي أن الثلاثيَّ منها لا يتعدَّى ، والزمخشريُّ قد قال على تقدير : « عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ » فاستعملَ ثلاثيَّةُ متعدِّياً ، فإن كان ما قاله أبو حيان صحيحاً ، فينبغي أن يكون كلام الزمخشريِّ فاسداً أو بالعكس .

وقرأ ابن أبي عَبْلة « كَثِيراً » نصباً؛ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف ، وتقدم غيرَ مرَّة أنه عند سيبويه حالٌ ، وقال مكي : « ولو نَصَبْتَ » كَثِيراً « في الكلام ، لجازَ أن تجعله نعتاً لمصدر محذوف ، أي : عَمى وصَمَماً كثيراً » ، قلت : كأنه لم يطَّلِعْ عليها قراءةً ، أو لم تَصِحَّ عنده؛ لشذُوذها .
وقوله : « فَعَمُوا » عطفَه بالفاء ، وقوله : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } عطفه ب « ثُمَّ » ، وهو معنى حسنٌ؛ وذلك أنهم عَقِيبَ الحُسْبَانِ ، حصل لهم العمى والصَّمَمُ من غير تَرَاخٍ ، وأسند الفعلين إليهم ، بخلافِ قوله : { فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ } [ محمد : 23 ] ، لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هدايةٌ ، وأسند الفعل الحسنَ لنفسِه في قوله : { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ } ، وعطف قوله : « ثُمَّ عَمُوا » بِحَرْفِ التراخِي؛ دلالةً على أنهم تمادَوْا في الضَّلال إلى وقْتِ التوبة .
فصل في معنى العمى والصّمم
المُرَادُ بهذا العمى والصّمم الجَهْلُ والكُفْرُ ، وإذا كان كذلِكَ فنقول : فَاعِلُ هذا الجَهْلِ إمَّا أن يكون هو اللَّهُ - تعالى - أو العَبْدُ .
فالأول : يُبْطِلُ قول المُعْتَزِلَةِ .
والثاني : بَاطِل؛ لأنَّ الإنسان لا يَخْتَارُ ألْبَتَّةَ تَحْصِيلَ الجَهْلِ والكُفْرِ لِنَفْسِهِ .
فإن قيل : إنَّمَا اختاروا ذلك؛ لأنَّهُمْ ظَنُّوا أنَّهُ علمٌ .
قلنا : هذا الجَهْلُ يسبقه جَهْلٌ آخَر ، إلاَّ أنَّ الجهالات لا تتَسَلْسَلُ ، بل لا بد من انْتِهائِهَا إلى الجَهْلِ الأوَّل ، ولا يجوز أنْ يَكُون هو العَبْدُ لِما ذَكَرْنَا فوَجَب أن يكون فاعله هو اللَّهُ تعالى .
ثُمَّ قال تعالى : { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : مِنْ قَتْل الأنْبيَاء وتكْذِيب الرُّسُلِ المقصود منه التَّهْدِيد .

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)

لمَّا تكلم مع اليهود شَرَعَ في الكلام هَاهُنا مع النَّصارى .
فحكى عَنْ فَريقٍ مِنْهُم أنَّهُمْ قالوا : { إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } وهذا قول المَلْكَانِيَّة واليَعْقُوبِيَّة؛ لأنهم يَقُولُون : إنَّ مَرْيم ولدَت إلهاً ، ولعلَّ معنى هذا المَذْهَب أنَّهُمْ يقولون : إنَّ الله تعالى حَلَّ في ذَاتِ عيسى واتّحد بِذاتِ عيسى ، ثم حكى - سبحانه وتعالى - عن المسيح أنَّهُ قال : { يا بني إِسْرَائِيلَ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ } ، وهذا تنبيه على ما هُوَ الحُجَّةُ القَاطِعَةُ على فسَاد قول النَّصَارى؛ وذلك لأنَّه - عليه الصَّلاةُ والسلام - لم يُفَرِّقْ بينه وبين غيره ، في أنَّ دلائل الحُدُوثِ ظَاهِرَةٌ عليه ، ثم قال تعالى : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وَمَأْوَاهُ النار وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } ومعْنَاهُ ظاهرٌ واحتَجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بهذا على أنَّ عِقَابِ الفُسَّاقِ لا يكون مُخَلَّداً قالوا : لأنَّه تعالى جَعَل أعظم أنواع الوعيدِ والتَّهْديد في حَقِّ المُشْرِكينِ ، وهو أنَّ اللَّه - تعالى - حَرَّم عليهم الجَنَّة ومأوَاهُمُ النَّار ، وأنَّهُ ليس لهم نَاصِرٌ يَنْصُرهُم ، ولا شَافِعٌ يَشْفَعُ لهُمْ ، فلو كان حال الفُسَّاقِ من المُؤمنين كَذَلِك لما بَقِي لتهْدِيدِ المُشركين على شِرْكِهِم بهذَا الوعيد فائدة .

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

معناه أحدُ الثلاثةِ ، ولذلك منع الجمهورُ أن يُنْصَبَ ما بعده ، لا تقولُ : ثَالِثٌ ثلاثةً ، ولا رَابعٌ أربعةً؛ قالوا : لأنه اسمُ فاعلٍ ، ويعملُ عَمَلَ فعله ، وهنا لا يقع موقعَه فعلٌ؛ إذ لا يقال : رَبَّعْتُ الأرْبَعَةَ ، ولا ثَلَّثْتُ الثلاثةَ ، وأيضاً : فإنه أحدُ الثلاثة؛ فيلزم أن يعمل في نَفْسِهِ ، وأجاز النصْبَ بمثلِ هذا ثَعْلَبٌ ، وردَّه عليه الجمهورُ بما ذُكِرَ ، أمَّا إذا كان من غيرِ لَفْظِ ما بعده ، فإنه يجوزُ فيه الوجْهَان : النصبُ ، والإضافة؛ نحو : رَابعٌ ثلاثةً ، وإن شئْتَ : ثَلاثَةٍ ، واعلم : أنه يجوز أن يُشتقَّ من واحد إلى عَشَرَةٍ صيغةُ اسمِ فاعلٍ؛ نحو : « وَاحِد » ، ويجوز قلبه فيقال : حَادِي وثَانِي وثالِث إلى عَاشِر ، وحينئذٍ : يجوز أن يستعملَ مفرداً؛ فيقال : ثَالِثٌ ورَابعٌ؛ كما يقال : ثلاثةٌ وأربعةٌ من غير ذكرِ مفسِّرٍ ، وأن يستعمل استعمالَ أسماءِ الفاعلينَ؛ إنْ وقع بعده مغايرُهُ لفظاً ، ولا يكونُ إلا ما دونهُ برتْبةٍ واحدةٍ؛ نحو عَاشِرُ تِسْعَةٍ ، وتَاسِعُ ثَمَانِيَةٍ ، فلا يجامعُ ما دونَه برتبتين؛ نحو : عَاشِرُ ثمانِيَةٍ ، ولا ثَامِنُ أرْبَعَةٍ ، ولا يُجامِعُ ما فوقه مطلقاً ، فلا يقال : تَاسِعُ عشرةٍ ولا رَابعُ ستَّةٍ .
إذا تقرَّر ذلك فيعطى حكم اسم الفاعل؛ فلا يعملُ إلا بشروطه ، وأمَّا إذا جامع موافقاً [ له لفظاً ] وجبتْ إضافتُه؛ نحو : ثَالثُ ثلاثةٍ ، وثَاني اثْنَيْنِ ، وتقدَّم خلاف ثَعْلَبٍ ، ويجوز أن يُبْنَى أيضاً من أحَدَ عشر ، إلى تِسْعَة عشر ، فيقال : حَادِي عشرَ وثالثَ عشرَ ، ويجوز أنْ يُستعمل مفْرداً؛ كما ذكرنا ، ويجوز أن يُسْتَعْمَل مجامعاً لغيره ، ولا يكونُ إلا موافقاً ، فيقال : حَادِي عشر أحدَ عشرَ ، وثالثَ عشرَ ثلاثةَ عشرَ ، ولا يقالُ : ثالثَ عشرَ اثْنَيْ عشرَ ، وإن كان بعضُهم خالفَ ، وحكمُ المؤنثِ كحكْمه في الصفَاتِ الصريحةِ ، فيقال : ثَالِثَة ورابعة ، وحادية عشْرَةَ ، وثَالِثَة عشْرَةَ ثلاثَ عَشْرَة ، وله أحكامٌ كثيرة مذكورة في كُتب النَّحْو . فصل في تفسير قول النصارى « ثالث ثلاثة »
هذا قول المَرْقُوسِيَّة : وفيه طريقان : أحدهما : قول المُفَسِّرين : وهو أنَّ النَّصَارى يقولون : الإلهِيَّة مشتركة بَيْنَ اللَّه ومرْيَم وعيسَى ، وكُلُّ واحد من هؤلاء إله .
ويؤكد ذَلِكَ قوله تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] فقوله : « ثَالِثُ ثلاثَةٍ » أي : أحَد ثلاثة ، وواحد من ثلاثةِ آلهةٍ ، يَدُلُّ عليه قوله تعالى في الرَّدِّ عليهم : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله وَاحِدٌ } . قال الواحديُّ والبَغَوِي : من قال : إنَّ اللَّه تعالى ثَالِثُ ثلاثةٍ ، هُو لَمْ يُرِدْ ثالثُ ثلاثةِ آلهة ، فإنَّه ما مِنْ شَيْءٍ إلاَّ واللَّه ثالثُهُ بالعِلْم ، قال تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] .
وقال النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لأبي بكرٍ : « ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا » .

الطريق الثاني : أنَّ المُتَكَلِّمين حكوا عن النَّصَارى أنَّهُمْ يقولون : جَوْهَرٌ واحدٌ : ثلاثةُ أقْسَام : أبٌ ، وابْنٌ ، ورُوحُ القُدُس ، وهذه الثَّلاثَةُ إلهٌ واحِدٌ ، كما أنَّ الشَّمْس اسمٌ يتناوَلُ القُرْصَ والشُّعَاع والحَرَارَة ، وعنُوا بالأبِ الذَّات ، وبالابْنِ الكَلِمَة ، وبالرُّوحِ الحَيَاة ، وأثْبَتُوا الذَّاتَ والكَلِمَة والحَيَاة .
وقالوا : إنَّ الكَلِمَة التي هي كلامُ اللَّه اخْتلطَتْ بِجِسْمِ عيسَى اخْتِلاطَ الماءِ بالخَمْر ، واختلاط الماءِ باللَّبْن .
وزعمُوا أنَّ الأبَ إلهٌ ، والابْنَ إله ، والرُّوح إلهٌ ، والكُلُّ إلهٌ وهذا بَاطِلٌ بيديهَةِ العقْلِ ، فإنَّ الإلهَ لا يكونُ إلاَّ واحِداً ، والواحِدُ لا يكونُ ثلاثةٌ ، وليس في الدُّنْيا مقالةٌ أشَدَّ فَسَاداً ، وأظْهَر بُطْلاناً من مقالَةِ النَّصارى - لعنهُمُ اللَّهُ تعالى - .
قوله تعالى : { وَمَا مِنْ إله } « مِنْ » زائدةٌ في المبتدأ؛ لوجود الشرطين ، وهما كونُ الكلام غير إيجابٍ ، وتنكيرُ ما جرَّتْهُ ، و « إلهٌ » بدل من محلِّ « إلهٍ » المجرورِ ب « مِنْ » الاستغراقية؛ لأن محلَّه رفعٌ كما تقدَّم ، وما إلهٌ في الوجُودِ إلاَّ إلهٌ مُتَّصِفٌ بالوحْدَانية ، قال الزمخشريُّ : « مِنْ » في قوله : « مِنْ إلهٍ » للاستغراقِ ، وهي المقدَّرةُ مع « لاَ » التي لنفي الجنْسِ في قولك : « لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ » والمعنى : وما مِنْ إلهٍ قَطُّ في الوجُود إلاَّ إلهٌ مُتَّصِفٌ بالوحدانيَّة ، وهو الله تعالى « ، فقد تحصَّل مِنْ هذا أنَّ » مِنْ إلهٍ « مبتدأ ، وخبرُه محذوفٌ ، و » إلاَّ إلَهٌ « بدلٌ على المحلِّ ، قال مكي : » ويجوزُ في الكلام النصبُ : « إلاَّ إلهاً » على الاستثناء « ، قال أبو البقاء : » ولو قُرئَ بالجرِّ بدلاً من لَفْظ « إلهٍ » ، لكان جائزاً في العربيَّة « ، قال شهاب الدين : ليس كما قال؛ لأنه يلزمُ زيادةُ » مِنْ « في الواجبِ؛ لأن النفي انتقضَ ب » إلاَّ « ، لو قلت : » ما قَامَ إلاَّ مِنْ رَجُلٍ « ، لم يَجُزْ فكذا هذا ، وإنما يجوزُ ذلك على رأي الكوفيين والأخفش؛ فإنَّ الكوفيين يشترطون تنكيرَ مجرورها فقط ، والأخفشُ لا يشترط شيئاً ، قال مكي » واختار الكسائيُّ الخفضَ على البدل من لفظ « إلهٍ » ، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ « مِنْ » لا تُزَاد في الواجبِ « ، قال شهاب الدين : ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ قوله » إلاَّ إلهٌ « خبر المبتدأ ، وتكونُ المسألةُ من الاستثناءِ المفرَّغِ ، كأنه قيل : ما إلَهٌ إلاَّ إلَهٌ مُتَّصِفٌ بالواحدِ ، لما ظهر له منعٌ ، لكنِّي لم أرَهُمْ قالوه ، وفيه مجالٌ للنظر .
ثم قال تعالى : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
قال الزَّجَّاجُ : معناه : ليمسن الذين أقامُوا على هذا الدِّين؛ لأنَّ كثيراً منهم تَابُوا عن النَّصْرانيَّةِ ، فخصَّ الذين كفروا لِعِلْمهِ أنَّ بعضَهُمْ يُؤمِنُ .

قوله : « لَيَمَسَّنَّ » جوابُ قَسَم مَحْذُوفٍ ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ؛ لدلالةِ هذا عليه ، والتقديرُ : واللَّهِ ، إنْ لَمْ يَنْتَهُوا لَيَمَسَّنَّ ، وجاء هذا على القاعدَةِ التي قَرَّرْتُهَا : وهو أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقَسَمٌ أُجيبَ سابقُهما ما لم يسبقْهُمَا ذو خَبَرٍ ، وقد يجابُ الشرطُ مطْلقاً ، وقد تقدَّم أيضاً : أن فعلَ الشرطِ حينئذٍ لا يكون إلا ماضياً لفظاً ومعنًى لا لفظاً كهذه الآية ، فإنْ قيلَ : السابقُ هنا الشرطُ؛ إذ القسمُ مقدَّرٌ ، فيكونُ تقديرُه متأخِّراً ، فالجوابُ أنه لو قُصِدَ تأخُّرُ القسَمِ في التقدير ، لأجيبَ الشرْطُ ، فلمَّا أُجِيبَ القسمُ ، عُلِمَ أنه مقدَّرُ التقديمِ ، وعبَّر بعضهم عَنْ هذا ، فقال : لامُ التوطئةِ للقسمِ قد تُحْذَفُ ويُراعَى حكمُها؛ كهذه الآيةَ؛ إذ التقدير : « ولَئِنْ لَمْ » كما صرَّح بهذا في غير موضع؛ كقوله : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون } [ الأحزاب : 60 ] ؛ ونظيرُ هذه الآية قوله : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ } [ الأعراف : 23 ] { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] ، وتقدَّم أنَّ هذا النوع من جواب القسمِ يجبُ أن يُتلقَّى باللام وإحدى النونَيْنِ عند البصريِّين ، إلاَّ ما استثني ، كما تقدَّمَ ، قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلت : فهلاَّ قيل : لَيَمسُّهُمْ عذابٌ ، قلتُ : في إقامة الظاهر مقامَ المضْمَرِ فائدةٌ ، وهي تكريرُ الشهادة عليهم بالكُفْر » .
وقوله : « مِنْهُمْ » في محلِّ نصبٍ على الحال ، قال أبو البقاء : إمَّا من « الَّذِينَ » ، وإمَّا من ضمير الفاعل في « كَفَرُوا » ، قلتُ : لم يتغيَّر الحكمُ في المعنى؛ لأن الضميرَ الفاعِلَ هو نَفْسُ الموصُولِ ، وإنما الخلافُ لفظيٌّ ، وقال الزمخشريُّ : « مِنْ » في قوله تعالى : { لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ } للبيان كالتي في قوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] قال شهاب الدين : فعلى هذا يتعلقُ « مِنْهُمْ » بمحذوفٍ ، فإن قلتَ : هو على جعله حالاً متعلقٌ أيضاً بمحذوف ، قلت : الفرقُ بينهما أنَّ جَعْلَهُ حالاً يتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ذلك المحذوفُ هو الحالُ في الحقيقة ، وعلى هذا الوجه يتعلَّقُ بفعلٍ مفسِّرٍ للموصولِ الأول ، كأنه قيل : أعني منهُمْ ، ولا محلَّ ل « أعْنِي » ؛ لأنها جملةٌ تفسيريةٌ ، وقال أبو حيان : « و » مِنْ « في » مِنْهُمْ « للتبعيض ، أي : كائناً منهُمْ ، والربطُ حاصلٌ بالضمير ، فكأنه قيل : كَافرُهُمْ ، وليسوا كلهم بَقُوا على الكُفْر » . انتهى ، يعني : هذا تقديرٌ لكونها تبعيضيةً ، وهو معنى كونها في محلِّ نصبٍ على الحال .
وقوله تعالى : « أفَلا يَتُوبُونَ » : تقدَّم نظيره مراراً ، وأنَّ فيه رأيين : رأيُ الجمهور : تقديمُ حرفِ العطف على الهمزة تقديراً ، ورأيُ أبي القاسِمِ : بقاؤه على حاله وحذفُ جملةٍ معطوفٍ هذا عليها ، والتقديرُ : أيثبُتُونَ على كُفرِهِمْ ، فلا يتُوبُونَ ، والاستفهامُ فيه قولان :
أظهرهما : أنه للتعجب من حالهم : كَيْفَ لا يتوبُونَ ويستغفُرونَ من هذه المقالةِ الشَّنعاء؟
والثاني : أنه بمعنى الأمر ، وهو رأي ابن زياد الفَرَّاء؛ كأنه قال : تُوبُوا واسْتَغْفِرُوا من هاتيْنِ المقالتيْنِ؛ كقوله تعالى :

{ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] . وكلامُ ابن عطيَّة يُفْهِم أنه للتحضيضِ ، قال : « رَفَقَ جَلَّ وعلا بهمْ بتحضيضهِ إياهُمْ على التوبة وطلب المغفِرَةِ » ، يعني بذلك من حيث المعنى ، وإلاَّ فَفَهْمُ التحضيض من هذا اللفظ غيرُ مُسَلَّم ، وكيف يُعْقَلُ أنَّ حرف العطفِ فصلَ بين الهمزة و « لا » المفهمةِ للتحضيض؟ [ فإنْ قلت ] :
هذا إنما يُشْكِلُ على قولنا : إنَّ « ألاَ » التحضيضية بسيطةٌ غيرُ مركَّبةٍ ، فلا يُدَّعى فيها الفصلُ بحرفِ العطف ، أما إذا قلنا : إنها همزةُ الاستفهام دَخَلَتْ على « لا » النافيةِ ، وصارَ معناهما التحضيضَ ، فلا يَضُرُّ الفصلُ بحرف العَطْف؛ لأنه عُهِد في « لا » النافيةِ الداخلِ عليها همزةُ الاستفهام ، فالجواب : أنه لا يجوزُ مطلقاً؛ لأنَّ ذلك المعنى قد انسلخ وحدثَ معنى آخرُ ، وهو التحضيضُ؛ فلا يلزم من الجوازِ في الأصْلِ الجوازُ بعد حدوثِ معنى جديد .

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

وهذا كقوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } [ آل عمران : 144 ] . و « قَدْ خَلَتْ » صفةٌ له كما في الآيةِ الأخرى ، وتقدَّم معنى الحصر أي : ما هُو إلاَّ رسول من جنسِ الذين مَضَوْا من قَبْلِهِ ، وليْسَ بإله ، كما أنَّ الرُّسُل الذين مَضَوْا لم يكونوا آلهَةً ، وجاء بالبَيِّنَات من اللَّهِ كما أتَوْا بأمْثَالِهَا ، وإنَّ إبراءَ عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأكْمَهَ والأبْرَصَ ، وإحْيَاء الموتى فبإذْنِ اللَّهِ على يدهِ من اللَّه ، كما أحيا مُوسَى العَصَا ، وجعلها حَيَّة تَسْعَى ، وفُلِقَ له البحر ، وضرب الحَجَرَ فانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ، وإن كان خلقَهُ من غير ذكرٍ ، فقد خلق اللَّهُ - تعالى - آدَمَ من غَيْرِ ذكرٍ ولا أنْثَى .
وقوله تعالى : « وأمُّهُ صدِّيقةٌ » ابتداءٌ وخبرٌ ، ولا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب ، و « صِدِّيقةٌ » تأنيثُ « صدِّيق » ، وهو بناءُ مبالغةٍ ك « فعَّال » و « فَعُول » ، إلا أنه لا يعملُ عمل أمثلةِ المبالغة ، فلا يقال : « زَيْدٌ شِرِّيبٌ العسلَ » ؛ كما يقال : « شرَّابٌ العَسَل » ، وإن كان القياس إعماله ، وهل هو مِنْ « صَدَقَ » الثلاثيِّ ، أو من « صَدَّقَ » مضعَّفاً؟ القياسُ يقتضي الأولَ ، لأنَّ أمثلةَ المبالغةِ تطَّرِدُ من الثلاثي دون الرباعيِّ ، فإنه لم يَجيء منه إلا القليلُ ، وقال الزمخشري : « إنه من التَّصْديقِ » ، وكذا ابنُ عطية ، إلا أنَّه جعله محتملاً ، وهذا واضحٌ لقوله : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا } [ التحريم : 12 ] ، فقد صرَّح بالفعل المسند إليها مضعَّفاً ، وعلى الأول معناه أنَّها كثيرةُ الصِّدْقِ .
وقوله تعالى : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } لا محلَّ له؛ لأنه استئنافٌ وبيان لكونهما كسائر البشرِ في احتياجهما إلى ما يحتاج إليه كلُّ جِسْمٍ مُولدٍ ، والإلهُ الحقُّ سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن ذلك ، وقال بعضهم : « هو كنايةٌ عن احتياجهما إلى التَّغَوُّطِ » وهُو ضعيفٌ مِنْ وُجُوه :
الأول : أنَّهُ ليْسَ كُلُّ من أكل أحْدَث ، فإنَّ أهل الجَنَّةِ يأكلون ولا يُحْدِثُون .
الثاني : أنَّ الأكْلَ عبارةٌ عن الحاجَةِ إلى الطَّعَامِ وهذه الحاجَةُ من أقْوى الدَّلائلِ على أنَّهُ ليس بإله ، فأي حَاجَةٍ إلى جَعْلِهِ كِنَايَةً عن شَيْءٍ آخر؟
الثالث : أنَّ الإله هو القادِرُ على الخَلْقِ والإيجَادِ ، فلو كانَ إلهاً لقدر على دَفْعِ ألَم الْجُوعِ عن نَفْسِهِ بِغَيْرِ الطَّعَامِ ، فلمَّا لم يقدر على دَفْعِ الضَّررِ عن نَفْسِه ، كيف يُعْقَلُ أن يكُون إلهاً للعالمين؟!
والمقصودُ من هذا : الاستِدلاَلُ على فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى ، فإنّ من كان له أمٌّ فقد حَدَثَ بَعْدَ أن لَمْ يكُنْ ، وكلُّ من كان كذلك كان مَخْلُوقاً لا إلهاً ، وكُلُّ من احْتَاجَ إلى الطَّعَام أشَدَّ الحاجَةِ لَمْ يكن إلهاً؛ لأنَّ الإله هُوَ الَّذِي يكونُ غَنِيّاً عن جَمِيعِ الأشْيَاء ، وبالجُمْلَةِ فسادُ قولِ النَّصَارى أظْهَرُ من أن يُحْتَاجَ فيه إلى دَليلٍ .

قوله تعالى : « كَيْفَ » منصوب بقوله : « نُبَيِّنُ » بعده ، وتقدم ما فيه في قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] وغيره ، ولا يجوز أن يكون معمولاً لما قبله؛ لأن له صدر الكلام ، وهذه الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ؛ لأنها معلِّقةٌ لفعل قبلها ، وقوله : { ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ } كالجملةِ قبلَها ، و « أنَّى » بمعنى « كَيْفَ » ، و « يُؤفَكُونَ » ناصبٌ ل « أنَّى » ويُؤفَكُونَ : بمعنى يُصْرَفُونَ .
وفي تكرير الأمر بقوله : « انْظُرْ » « ثُمَّ انْظُرْ » دلالةٌ على الاهتمام بالنظرِ ، وأيضاً : فقد اختلف متعلَّقُ النظريْنِ؛ فإنَّ الأولَ أمرٌ بالنظَرِ في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآياتِ ، وبيانها؛ بحيث إنه لا شكَّ فيها ولا ريب ، والأمرُ الثاني بالنَّظَر في كونهم صُرِفُوا عن تدبُّرها والإيمان بها ، أو بكونِهِم قُلِبُوا عمَّا أريدَ بهم ، قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلت : ما معنى التراخي في قوله : » ثُمَّ انْظُرْ « ؟ قلت : معناه ما بين التعجُّبَيْنِ ، يعني : أنه بيَّن لهم الآياتِ بياناً عجباً ، وأنَّ إعراضهم عنها أعْجَبُ منه » . انتهى ، يعني : أنه من باب التراخِي في الرُّتَبِ ، لا في الأزمنةِ ، ونحوه { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] وسيأتي .
فصل في معنى الإفك
يُقَالُ : أفَكَهُ يأفِكُهُ إفْكاً إذا صَرَفَهُ ، والإفْكُ : الكَذِبُ؛ لأنَّهُ صَرْفٌ عَنِ الحَقِّ ، وكُلُّ مَصْرُوفٍ عَنِ الشَّيْء مأفوكٌ عنه .
وقد أفَكَت الأرْضُ ، إذا صُرِفَ عَنْهَا المَطَرُ .
والمعنى : كَيْف يصرفون عن الحَقِّ؟
قال أهْلُ السُّنَّةِ : دلَّتِ الآيَةُ على أنَّهُمْ مَصْرُوفُون عن تَأمُّلِ الحَقِّ ، والإنْسَان يمتنع أن يَصْرِفَ نَفْسَهُ عن الحقِّ والصِّدْق إلى البَاطِلِ والجَهْلِ والْكَذِب ، لأنَّ العاقل لا يختار لِنَفْسِه ذلك ، فَعَلِمْنَا أنَّ الله تعالى صَرَفَهُمْ عن ذلك .

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)

وهذا دَلِيلٌ أيضاً على فَسَادِ قول النَّصارَى وذلك من وُجُوهٍ :
الأوَّلُ : أنَّ اليَهُود كانوا يعادُونَ عيسى - عليه الصلاة والسلام - ، ويَقْصُدُونَهُ بالسُّوءِ ، فما قَدرَ على إضْرَارِهِمْ ، وكان له أيضاً أنْصَارٌ وصَحَابَةٌ يُحِبُّونَهُ ، فما قَدَرَ على إيصَالِ نَفْعٍ من منَافِعِ الدُّنْيَا إليْهِمْ ، والعاجِزُ عن الإضْرار والنَّفْعِ كَيْفَ يُعْقَلُ أن يكُون إلهاً؟!
الثاني : أن مذْهَبَ النَّصَارى - لعنهم اللَّهُ - : أنَّ اليهود صَلَبُوه ومَزَّقُوا أضْلاَعَهُ ، ولما عَطِشَ وطلبَ الماءَ مِنْهُم صبُّوا الخَلَّ فِي مَنخريْهِ ، ومن كان في الضَّعْفِ هكذَا ، كَيْفَ يُعْقَل أن يكُون إلهاً؟!
الثالث : أنَّ إلهَ العالم يَجِبُ أنْ يكُون غَنِيًّا عن كل ما سواهُ مُحْتَاجاً إليه ، فلو كان عيسَى كذلك لامْتَنَعَ كَوْنُهُ مَشْغُولاً بعبادة الله تعالى؛ لأنَّ الإله لا يَعْبُدُ شَيْئاً ، إنَّمَا العبد هو الذي يَعْبُدُ الإله ، فلما عُرِفَ بالتَّوَاتُرِ أنَّهُ كانَ مُوَاظِباً على الطَّاعَات والعبادَاتِ ، عَلِمْنَا أنَّهُ كان يفعلها لكونه مُحْتَاجاً في تَحْصِيل المَنَافِعِ ، ودفْعِ المضَارِّ إلى غيره ، ومن كان كذلك كيْفَ يَقْدِرُ على إيصال المَنَافِعِ إلى العِبَادِ ، ودَفْعِ المضارّ عنهم؟! وإذَا كان كذِلكَ كان عَبْداً كَسَائِرِ العَبيدِ ، وهذا هو عَيْنُ الدَّليلِ الذي حَكَاهُ اللَّهُ تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - حيث قال : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] .
قوله تعالى : { مَا لاَ يَمْلِكُ } : يجوزُ أن تكون « مَا » بمعنى « الَّذِي » ، وأن تكون نكرةً موصوفةً ، والجملةُ بعدها صلةٌ ، فلا محلَّ لها ، أو صفةٌ ، فمحلُّها النصبُ ، وفي وقوع « مَا » على العاقلِ هنا؛ لأنه أُريد به عيسَى وأمُّه وجوهٌ :
أحدها : أنه أُتِي ب « مَا » مراداً بها العاقلُ؛ لأنها مبهمةٌ تقعُ على كل شيء ، كذا قاله سيبويه ، أو أُريد به النوعُ؛ كقوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ، أي : النوع الطَّيِّبَ ، أو أُريدَ به العاقلُ مع غيره؛ لأنَّ أكثر ما عبد من دون اللَّهِ غيرُ عاقلٍ؛ كالأصنامِ والأوثانِ والكواكبِ والشَّجَرِ ، أو شبهُهُ على أولِ أحواله؛ لأنه في أولِ حاله لا يُوصفُ بعقلٍ ، فكيف يُتَّخَذ إلهاً معبوداً؟
قوله تعالى : { والله هُوَ السميع العليم } « هو » : يجوزُ أن يكون مبتدأ ثانياً ، و « السَّميعُ » خبرُه ، و « العَلِيمُ » خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ ، والجملة خبرُ الأوَّل ، ويجوزُ أن يكون فَصْلاً ، وقد عُرِفَ ما فيه ، ويجوزُ أن يكونَ بدلاً ، وهذه الجملةُ الظاهرُ فيها : أنها لا محلَّ لها من الإعراب ، ويحتمل أن يكون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من فاعلِ « تَعْبُدونَ » ، أي : أتعبُدُونَ غير الله ، والحالُ أن الله هو المستحقُّ للعبادة؛ لأنه يَسْمَعُ كلَّ شيء ويعلمه ، وإليه ينحو كلامُ الزمخشريِّ؛ فإنه قال : { والله هُوَ السميع العليم } متعلِّق ب « أتَعْبُدُونَ » ، أي : أتشركون بالله ولا تَخْشَوْنَهُ ، وهو الذي يسمَعُ ما تقولُونَ ويعلَمُ ما تعتقدُونَ؟ أتعبدون العاجزَ ، واللَّهُ هو السميعُ العَلِيم؟ . انتهى ، والرابطُ بين الحالِ وصاحبها الواوُ ، ومجيء هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة؛ فإنَّ السميع يسمع ما يُشْكَى إليه من الضُّرِّ وطلب النفْعِ ، ويعلم مواقعهما كيف يكُونَانَ؟

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)

لما تكلَّمَ أوَّلاً على أباطيلِ اليهُودِ ، ثم تكلَّم ثانياً على أباطيلِ النَّصَارى ، وأقَامَ الدَّلائل على بُطْلانِها وفسادِهَا ، فعند هذا خاطب مجمُوعَ الفريقَيْنِ ، فقال تعالى : { ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } ، أي : لا تتجاوَزُوا الحَدَّ ، والغُلُوَّ نَقيضُ التَّقْصِير ، ومعْنَاهُ : الخُرُوجُ عَنِ الحَدِّ .
قوله تعالى : « غَيْرَ الحَقِّ » : فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : لا تَغْلُوا في دينكُمْ غُلُوًّا غَيْرَ الحقِّ ، أي : غُلُوًّا باطلاً ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره .
الثاني : أنه منصوبٌ على الحال من ضمير الفاعلِ في « تَغْلُوا » ، أي : لا تَغْلُوا مُجاوِزينَ الحَقَّ ، ذكره أبو البقاء .
الثالث : أنه حالٌ من « دينكُمْ » ، أي : لا تغلُوا فيه وهو باطلٌ ، بل اغْلُوا فيه وهُوَ حَقٌّ؛ ويؤيِّد هذا ما قاله الزمخشريُّ؛ فإنه قال : « لأنَّ الغُلُوَّ في الدين غُلُوَّانِ : حقٌّ؛ وهو أنْ يُفْحَصَ عن حقائقه ، ويُفَتَّشَ عن أباعدِ معانيه ، ويُجْتَهَد في تحصيله حُجَجه ، وغُلُوٌّ باطلٌ؛ وهو أن يتجاوز الحقَّ ويتخطَّاه بالإعْرَاضِ عن الأدلَّة » .
الرابع : أنه منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل .
الخامس : على الاستثناء المنقطع ، ذكر هذين الوجهين أبو حيان عن غيره ، واستبعدَهُما؛ فإنه قال : « وأبعد من ذهب إلى أنها استثناءٌ متَّصِلٌ ، ومن ذهب إلى أنها استثناءٌ منقطعٌ ، ويقدِّره ب » لَكِنَّ الحقَّ فاتَّبِعُوهُ « قال شهاب الدين : والمستثنى منه يَعْسُرُ تعيينُه ، والذي يظهر فيه : أنه قوله تعالى : » في دينكُمْ « ؛ كأنه قيل : لا تَغْلُوا في دينكُم إلا الدِّينَ الحقَّ ، فإنه يجوز لكم الغلوُّ فيه ، ومعنى الغلُوِّ فيه ما تقدَّم من تقرير الزمخشريِّ له .
وذكر الواحديُّ فيه الحالَ والاستثناء ، فقال : وانتصابُ » غَيْرَ الحَقِّ « من وجهين :
أحدهما : الحالُ والقَطْعُ من الدِّينِ؛ كأنه قيل : لا تَغْلُوا في دينِكُمْ مخالِفيَن للحَقِّ؛ لانهم خالَفُوا الحقَّ في دينهمْ ، ثم غلوْا فيه بالإصْرارِ عليه .
والثاني : أن يكون منصوباٌ على الاستثناء ، فيكون » الحَقّ « مستثنًى من المَنْهِيِّ عن الغلوِّ فيه؛ بأنْ يجوزَ الغلوُّ فيما هو حقٌّ على معنى اتباعه والثبات عليه ، وهذا نصٌّ كما ذكرنا من أنَّ المستثنى هو » دِينُكُمْ « .
وتقدَّم معنى الغُلُوِّ في سورة النساء [ الآية 171 ] فظاهرُ هذه الأعاريب المتقدِّمةِ : أنَّ » تَغْلُوا « فعلٌ لازمٌ ، وكذا نصَّ عليه أبو البقاء ، إلا أن أهل اللغةِ يفسِّرونهُ بمعنى متعدٍّ؛ فإنهم قالوا : معناه لا تتجَاوَزُوا الحدَّ ، قال الراغب : الغُلُوُّ تجاوزُ الحَدِّ ، يقال ذلك إذا كان في السِّعْرِ » غَلاَءً « ، وإذا كان في القَدْرِ والمنزلةِ » غُلُوًّا « ، وفي السهم » غَلْواً « ، وأفعالها جميعاً غَلاَ يَغْلُو؛ فعلى هذا : يجوز أن ينتصب » غَيْرَ الحَقِّ « مفعولاً به ، أي : لا تتجاوَزُوا في دينكُمْ غير الحقِّ ، فإنْ فسَّرنا » تَغْلُوا « بمعنى تتباعَدُوا من قولهم : » غَلاَ السَّهْمُ « ، أي : تباعدَ كان قَاصِراً ، فيحتمل أن يكون من قال بأنه لازمٌ ، أخذه من هذا لا من الأوَّل .

فصل في معنى الآية
قال بعضُ المُفَسِّرين : معنى قوله « غَيْرَ الحَقِّ » أي : في دينِكُمُ المُخالِف للحَقِّ؛ لأنَّهُمْ خَالَفُوا الحقَّ في دينهِمْ ، ثُمَّ غَلَوْا فيه بالإصْرَار عَليْه .
وقال ابْنُ الخَطيبِ : مَعْنَى الغُلُّو الباطل : أن تَتَكَلَّفَ الشُّبَهَ وإخْفَاءَ الدَّلائلِ ، وذلك الغُلُوُّ أنَّ اليهُودَ - لعنُهُم اللَّهُ - نَسَبُوا سَيِّدنَا عيسَى - عليه الصلاة والسلام - إلى الزِّنَا وإلى أنَّهُ كَذَّابٌ والنَّصارى - لعنهم اللَّهُ - ادَّعَوا فيه الإلَهِيَّةِ .
قوله تعالى : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } الآية .
الأهْوَاء : جمْعُ الهَوَى ، وهو ما تَدْعُو إلَيْه شهوةُ النَّفْسِ .
والمراد هَاهُنَا : المذاهِبُ الَّتِي تدعو إليها الشَّهْوةُ دُونَ الحُجَّة .
قال الشَّعْبِيُّ : ما ذكر اللَّهُ بلفظ الهوى في القُرآن إلاَّ ذَمَّهُ .
قال تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله } [ ص : 26 ] ، { واتبع هَوَاهُ فتردى } [ طه : 16 ] ، { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] ، { أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] .
قال أبُو عُبَيْدٍ : لم نجدِ الهوى يوضع إلا في مَوْضِعِ الشَّرِّ ، لا يقال : فلانٌ يَهْوَى الخَيْر ، إنما يقال : يريدُ الخَيْر ويُحِبُّهُ .
وقال بعضُهم : الهَوَى إلهُ يعبدُونَهُ من دُونِ اللَّهِ .
وقيل : سُمِّي الهَوَى هَوى؛ لأنَّهُ يَهْوِي بَصَاحِبِه في النَّارِ وأنْشَدُوا في ذَمِّ الهَوَى قوله : [ الكامل ]
2029- إنَّ الهَوَى لَهُوَ الْهَوَانُ بِعَيْنِهِ ... فَإذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيتَ هَوَانَا
وقالَ رَجُلٌ لابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهُمَا - : الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَل هَوَايَ على هواك ، فقال ابنُ عبَّاس : « كُلَّ هوى ضلالةٌ » .
قوله تعالى : { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } في نصب « كثيراً » وجهان :
أحدهما : أنه مفعولٌ به ، وعلى هذا أكثرُ المتأوِّلين؛ فإنهم يفسِّرونه بمعنى : وأضلُّوا كَثِيراً مِنْهُمْ أو مِنَ المُنَافِقِينَ .
والثاني : أنه منصوبٌ على المصدرية ، أي : نعت لمصدرٍ محذوف ، أي : إضلالاً كثيراً ، وعلى هذا ، فالمفعولُ محذوف ، أي : أضَلُّوا غَيْرَهُمْ إضْلالاً كَثِيراً .
فصل
اعلم أنَّهُ تعالى وَصَفَهُمْ بثلاثِ دَرَجَات في الضَّلالِ ، فَبَيَّنَ أنَّهُم كانوا ضَالِّين من قبل .
والمراد رُؤسَاء الضَّلالةِ من فَرِيقَيِ اليهُود والنَّصَارى لِمَا تَبَيَّنَ ، والخطاب لِلَّذِين في عَصْرِ النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، نُهُوا عن اتِّباعِ أسلافِهِم فيما ابْتَدَعُوه بأهْوَائِهِم ، فتبيَّن أنهم كانوا مُضِلِّينَ لغيرهم ، ثم ذكروا أنَّهُمْ استَمَرُّوا على تلك الحَالَةِ ، حتى أنَّهم الآن ضَالُّون كما كَانُوا ، ولا نجد حالةً أقْرَبَ إلى البُعْدِ من اللَّه تعالى ، والقُرْب من عِقَابِ اللَّهِ من هذه الحالة - نعُوذُ باللَّه منها - .
ويحتَملُ أن يكُون المُرَاد أنَّهُم ضَلُّوا وأضَلُّوا ، ثمَّ ضلُّوا بسبب اعتقادِهِمْ في ذلك الإضلال أنَّهُ إرشادٌ إلى الحقِّ ، ولمَّا خَاطَبَهُمْ بهذَا الخطابِ وصَفَ أسلافهم ، فقال تعالى : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } .

قال أكثر المفسِّرِين : يعني أهْلَ « أيلة » لمَّا اعْتَدُوا في السَّبْتِ قال داوُدُ : « اللَّهُمَّ الْعَنْهُم واجْعلْهُم آيَةً » فَمُسِخُوا قِرَدَةً ، وأصحاب المائدة لما أكلُوا من المائدة ، ولم يُؤمِنُوا ، قال عيسى - عليه السلام - : اللَّهُمَّ العَنْهُم كما لَعَنْتَ أصْحَابَ السَّبْتِ ، فأصْبَحُوا وقد مسخوا خنازير ، وكانوا خمسَةَ آلافِ رَجُلٍ ما فيهمُ امْرأةٌ ولا صَبِيٌّ .
قال بعضُ العُلَماء : إنَّ اليَهُود كانُوا يفْتَخِرُون بأنَّهُم من أوْلاد الأنْبِيَاء ، فَذَكَر اللَّهُ هذه الآيَة؛ لتَدُلَّ على أنَّهُمْ مَلْعُونِين على ألْسِنَةِ الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام - .
وقيل : إنَّ داوُد وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - بَشَّرَا بِمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، ولعنَا من يُكَذِّبُه وهو قولُ الأصَمِّ .
قوله تعالى : { مِن بني إِسْرَائِيلَ } : في محلِّ نصْبٍ على الحال ، وصاحبُها : إمَّا « الَّذينَ » وإمَّا واو « كَفَرُوا » وهما بمعنى واحدٍ ، وقوله : { على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى } المرادُ باللسانِ الجارحةُ ، لا اللغةُ ، كذا قال أبو حيان ، يعني : أنَّ الناطِقَ بلعْنِ هؤلاء لسانُ هذيْن النبيَيْنِ ، وجاء قوله « عَلَى لِسَانِ » بالإفرادِ دون التثنيةِ والجَمْعِ ، فلم يَقُلْ : « عَلَى لِسَانَيْ » ولا « عَلَى ألْسِنَةِ » لقاعدةٍ كليةٍ ، وهي : أن كلَّ جزأيْنِ مفردَيْنِ من صاحبيهما ، إذا أُضِيفَا إلى كليهما من غير تفريقٍ ، جازَ فيهما ثلاثةُ أوجه : لفظُ الجمعِ - وهو المختارُ - ، ويليه التثنيةُ عند بعضهم ، وعند بعضهم الإفرادُ مقدَّمٌ على التثنية ، فيقال : « قطَعْتُ رُءُوسَ الكَبْشَيْنِ » ، وإنْ شئْتَ : رَأسَي الكَبْشَيْن ، وإن شئْتَ : رَأسَ الكَبْشَيْنِ ، ومنه : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] .
فقولي « جُزْأيْن » : تحرُّزٌ من شيئين ليْسَا بجزأيْن؛ نحو : « دِرْهَمَيْكُمَا » ، وقد جاء : « مِنْ بُيُوتِكُمَا وعَمَائِمِكُمَا وأسْيَافِكُمَا » لأمْنِ اللَّبْسِ .
وبقولي : « مُفْردَيْنِ » : من نحو : « العَيْنَيْنِ واليَدَيْنِ » ، فأمَّا قوله تعالى : { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ففُهِم بالإجْماعِ .
وبقولي : « مِنْ غَيْرِ تَفريقٍ » : تحرُّزٌ من نحو : قطعْتُ رَأسَ الكَبْشَيْنِ : السَّمِين والكَبْشِ الهَزيلِ؛ ومنه هذه الآية ، فلا يجوزُ إلا الإفرادُ ، وقال بعضهم : « هُوَ مُخْتَارٌ » ، أي : فيجوز غيرُه ، وقد مضى تحقيقُ هذه القاعدةِ .
قال شهاب الدين : وفي النفسِ من كونِ المرادِ باللسان الجارحةَ شيءٌ ، ويؤيِّد ذلك ما قاله الزمخشريُّ؛ فإنه قال : « نَزَّلَ اللَّهُ لَعْنَهُمْ في الزَّبُورِ على لسانِ دَاوُدَ ، وفي الإنجيلِ على لسانِ عيسى » ، وقوةُ هذا تأبَى كونه الجارحةَ ، ثم إنِّي رأيتُ الواحديَّ ذكر عن المفسِّرين قولين ، ورجَّح ما قلته؛ قال - رحمه الله - : « وقال ابن عبَّاس : يريد في الزَّبُور وفي الإنجِيلِ ، ومعنى هذا : أنَّ اللَّهَ تعالى لَعَنَ في الزَّبُور من يكْفُرُ مِنْ بني إسرائيل ، وكذلك في الإنجيلِ ، وقيل : على لسان دَاوُدَ وعيسَى؛ لأنَّ الزبورَ لسانُ داوُدَ ، والإنجيلَ لسانُ عيسى » ، فهذا نصٌّ في أن المراد باللسانِ غيرُ الجارحَةِ ، ثم قال : « وقال الزَّجَّاج : » وجائزٌ أن يكون داوُدُ وعيسَى عَلِمَا أنَّ محمَّداً نَبِيٌّ مبعوثٌ ، وأنهما لَعَنَا من يَكْفُرُ به « ، والقول هو الأوَّل ، فتجويزُ الزجَّاجِ لذلك ظاهرٌ أنه يرادُ باللسانِ الجارحةُ ، ولكن ليس قولاً للمفسِّرين ، و » عَلَى لسانِ « متعلِّقٌ ب » لُعِنَ « قال أبو البقاء : » كما يُقال : جَاءَ زَيْدٌ على فَرَسٍ « ، وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهر أنه حالٌ ، وقوله : » ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا « قد تقدَّم نظيره ، وقوله : » وَكَانوا يَعْتَدُونَ « في هذه الجملةِ الناقصةِ وجهان :
أظهرهما : أن تكون عطفاً على صلةِ » مَا « وهو » عَصَوْا « ، أي : ذلك بسبب عصيانِهم وكونهم معتدين . والثاني : أنها استئنافيةٌ ، أي : أخبر الله تعالى عنهم بذلك ، قال أبو حيان : » ويُقَوِّي هذا ما جاءَ بعده كالشَّرْحِ له ، وهو قولُه : كانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ « .

كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)

قوله تعالى : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ } التَّنَاهِي هاهُنَا له مَعْنَيَانِ :
أحدهما : الذي عَلَيْه الجُمْهُور أنَّهُ تَفَاعُل من النَّهي أي : كان لا ينهى بَعْضُهُم بَعْضاً .
روى ابنُ مسعُود - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - قال : « كَانَ فِيمَنْ كانَ قَبْلَكُم مِنْ بَني إسْرَائِيلَ إذا عَمِلَ العَامِلُ بالخَطِيئَةِ نَهَاهُ النَّاهِي تعذيراً ، فَإذَا كَانَ مِنَ الغَدِ جَاءَ لَهُ وواكلَهُ وشَارَبَهُ ، كَأنَّهُ لَمْ يَرَهُ على الخَطِيئَةِ بالأمْسِ ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُم ضَرَبَ قُلُوبَ بَعْضِهِم عَلَى بَعْضِ ، وجَعَلَ مِنْهُم القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ ، ولَعَنَهُمْ على لِسَانِ دَاوُدَ وعيسَى ابْنِ مَريمَ ، ذَلِكَ بِمَا عَصوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ والَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ لَتَأمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكر ولتأخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ ولَتأطرنَّه على الحقِّ أطْراً أوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَلْعَنُكُم كَما لَعَنَهُم » .
المعنى الثاني : التَّنَاهِي بمعنى الانتِهَاء ، يُقَال : انْتَهَى الأمر ، وتَنَاهَى عَنْهُ إذا كَفَّ عَنْه .
وقوله تعالى : { عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } : متعلِّقٌ ب « يَتَناهَوْنَ » و « فَعَلُوهُ » صفةٌ ل « مُنْكَرٍ » ، قال الزمخشريُّ : « ما معنى وصفِ المنكرِ ب » فَعَلُوهُ « ، ولا يكونُ النَّهْيُ بعد الفِعْلِ؟ قلتُ : معناه لا يتناهَوْنَ عن معاودةِ منْكَرٍ فعَلُوهُ ، أو عن مِثْلِ مُنْكَر فَعلُوهُ ، أو عن منْكرٍ أرادُوا فِعْلَهُ ، كما ترى أماراتِ الخَوْضِ في الفسْقِ وآلاتِه تُسوَّى وتُهَيَّأُ ، ويجوز أن يُرادَ : لا ينتهون ولا يمتنعونَ عن مُنْكَرٍ فعلُوه ، بل يُصِرُّونَ عليه ويُداوِمُونَ ، يقال : تناهَى عن الأمر وانتهى عنه ، إذا امتنع منه » .
وقوله تعالى : « لَبِئْسَمَا » : و « بِئْسَمَا قَدَّمَتْ » قد تقدَّم إعرابُ نظيرِ ذلك [ الآية 9 في البقرة ] ؛ فلا حاجة إلى إعادته ، وهنا زيادةٌ أخرى؛ لخصوصِ التركيب يأتي الكلامُ عليها .
قوله تعالى : { ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ } قيل : مِنَ اليَهُود كَعْبُ بنُ الأشْرَف ، { يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ } مُشْرِكي مَكَّةَ حين خَرَجُوا إليهم يجيشون على النَّبِي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - .
وقال ابنُ عبَّاس والحَسَنُ ومُجَاهِد - رضي الله عنهم - : « مِنْهُمْ » يعني المُنَافِقِين يَقُولُون لِلْيَهُود : « لِبِئْسَ ما قدَّمَتْ لَهُمْ أنْفُسُهُمْ » ، بِئسَ مَا قَدَّموا من العَملِ لمعَادِهِم في الآخِرَة .
قوله تعالى : { أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } في محلِّه أوجهٌ :
أحدها : أنه مرفوعٌ على البدلِ من المخصُوصِ بالذمِّ ، والمخصوصُ قد حُذِفَ ، وأُقيمَتْ صفتُه مقامه ، فإنك تُعْرِبُ « مَا » اسماً تامّاً معرفةً في محلِّ رفعٍ بالفاعلية بفعلِ الذمِّ ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ، و { قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ } جملةٌ في محلِّ رفع صفةً له ، والتقديرُ : لَبِئْسَ الشيءُ شَيءٌ قَدَّمَتْهُ لَهُمْ أنْفُسُهمْ ، ف { أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } بدلٌ من « شَيْء » المحذوفِ ، وهذا هو مذهبُ سيبويه؛ كما تقدَّم تقريرُه .

الثاني : أنه هو المخصوصُ بالذمِّ ، فيكونُ فيه الثلاثةُ أوجه المشهورة :
أحدها : أنه مبتدأٌ ، والجملةُ قبله خبرُه ، والرابطُ على هذا العمومُ عند مَنْ يَجْعَلُ ذلك ، أو لا يحتاج إلى رابط؛ لأن الجملةَ عينُ المبتدأ .
الثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ لأنك لمَّا قلت : « بِئْسَ الرَّجُلُ » قيل لك : مَنْ هو؟ فقلتَ : فلانٌ ، أي : هُوَ فلانٌ .
الثالث : أنه مبتدأ ، خبرُه محذوفٌ ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك ، وإلى كونه مخصوصاً بالذمِّ ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ ، ولم يذكر غيره ، قال : { أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } هو المخصوصُ بالذمِّ؛ كأنه قيل : لبِئْسَ زادُهُمْ إلى الآخرة سخطُ اللَّهِ تعالى عليْهِمْ ، والمعنى : مُوجِبُ سُخط الله « ، قال شهاب الدين : وفي تقدير هذا المضاف من المحاسنِ ما لا يَخْفَى على متأمِّلِهِ؛ فإنَّ نفسَ السُّخْطِ المضاف إلى الباري تعالى لا يقالُ هو المخصوصُ بالذمِّ ، إنما المخصوصُ بالذمِّ أسبابُه ، وذهبَ إليه أيضاَ الواحديُّ ومكي وأبو البقاء ، إلاَّ أنَّ أبا حيان بعد أنْ حكى هذا الوجه عن أبي القاسم الزمخشريِّ قال : » ولَمْ يَصِحَّ هذا الإعرابُ إلا على مذهبِ الفرَّاءِ والفارسيِّ في جَعْلِ « مَا » موصولةً ، أو على مذهب من يجعلُ « مَا » تمييزاً ، و « قَدَّمَتْ لَهُمْ » صفتها ، وأمَّا على مذهبِ سيبويه ، فلا يتأتَّى ذلك « ثم ذكر مذهبَ سيبويه .
والوجه الثالث من أوجه » أنْ سَخِطَ « : أنه في محلِّ رفع على البدلِ من » مَا « ، وإلى ذلك ذهب مكي وابنُ عطية ، إلا أن مكِّيًّا حكاه عن غيره ، قال : » وقيل : في موضعِ رفع على البدلِ من « مَا » في « لَبِئْسَ » على أنها معرفةٌ « ، قال أبو حيان - بعد ما حكى هذا الوجه عن ابن عطيَّة - : » ولا يَصِحُّ هذا ، سواءٌ كانت « مَا » تامَّةً أو موصولةً؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه ، و « أنْ سَخِطَ » لا يجوزُ أنْ يكونَ فاعلاً ل « بِئْسَ » ؛ لأنَّ فاعل « بِئْسَ » لا يكونُ أن والفِعْلَ « وهو إيرادٌ واضحٌ كما قاله .
الوجه الرابع : أنه في محلِّ نصْبٍ على البدلِ من » مَا « ، إذا قيل بأنها تمييزٌ ، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء ، وهذا لا يجوزُ ألبتة؛ وذلك لأنَّ شرطَ التمييز عند البصريين أن يكون نكرةً ، و » أنْ « وما في حيِّزها عندهم من قبيل أعرف المعارفِ؛ لأنَّها تُشْبِهُ المُضْمَرَ ، وقد تقدم تقريرُ ذلك ، فكيف يَقعُ تمييزاً؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدَلِ منه؟ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك؛ لأنَّهم لا يُجيزون التمييزَ بكلِّ المبدَلِ منه؛ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك؛ لأنَّهم لا يجيزون التمييزَ بكلِّ معرفةٍ خُصُوصاً أنْ والفعل .

الخامس : أنه في محلِّ نصبٍ على البدل من الضمير المنصوب ب « قَدَّمَتْ » العائدِ على « مَا » الموصولةِ أو الموصوفة؛ على حسبِ ما تقدَّم ، والتقديرُ : قدَّمَتْهُ سُخْطَ الله؛ كقولك : « الذي رَأيْتُ زَيْداً أخُوكَ » وفي هذا بحثٌ يذكَرُ في موضعه .
السادس : أنه في موضع نصب على إسقاط الخافض؛ إذ التقديرُ : لأنْ سخطَ ، وهذا جارٍ على مذهب سيبويه والفراء؛ لأنهما يَزْعُمان أنَّ محل « أنْ » بعد حذْفِ الخافض في محلِّ نصب .
السابع : أنه في محلِّ جرٍّ بذلك الخافضِ المقدَّرِ ، وهذا جارٍ على مذهبِ الخليلِ والكسائيِّ؛ لانهما يَزْعُمان أنَّها في محل جرٍّ ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ مرَّةٍ ، وعلى هذا ، فالمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ، أي : لَبِئْسَمَا قدَّمَتْ لَهُمْ أنفُسُهُمْ عَملُهُمْ أو صُنْعُهُمْ ، ولامُ العلَّةِ المقدَّرة معلَّقَةٌ إمَّا بجملةِ الذمِّ ، أي : سببُ ذَمِّهِمْ سُخْطُ اللَّهِ عليهم ، أو بمحذوفٍ بعده ، أي : لأنْ سخطَ اللَّهُ عليْهِمْ كَانَ كَيْتَ وكَيْتَ .
و « تَرَى » يجوز أنْ تكونَ مِنْ رؤية البَصَر ، ويكونُ الكثيرُ المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تكونَ العلميَّةَ ، والكثيرُ على هذا أسلافُهم ، فمعنى « تَرَى » : تَعْلَمُ أخبارَهم وقصَصَهم بإخبارنا إيَّاك ، فعلى الأوَّل يكون قوله « يَتَوَلَّوْن » في محلِّ نصبٍ على الحال ، وعلى الثَّاني يكون في محلِّ نصبٍ على المفعول الثاني .
قوله تعالى : « ولو كانوا » : الظاهرُ أنَّ اسم « كَانَ » وفاعل « اتَّخَذُوهُمْ » عائدٌ على « كَثِيراً » من قوله : « { ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ } ، والضميرُ المنصوب في » اتَّخَذُوهمْ « يعودُ على » الَّذِينَ كَفَرُوا « في قوله : { يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ } .
والمعنى : لوْ كانُوا يُؤمِنُون باللَّه ، والنَّبِيِّ ، وهو مُوسَى عليه الصلاة والسلام ، وما أُنْزِلَ إليهِ ما اتَّخَذُوا المُشْركين أوْلِيَاء؛ لأنَّ تَحْريمَ ذلك مُتَأكدٌ في التَّوْرَاة ، وفي شَرْع مُوسَى صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا فَعَلُوا ذلك ، ظَهَرَ أنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُمْ تَقْرِير دين مُوسى - عليه الصلاة والسلام - بل مرادُهُمُ الرِّياسَةُ والجَاهُ ، ويسعونَ في تَحْصيلهِ بأيِّ طريقٍ قدروا عليه ، وبهذا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بالفِسْقِ ، فقالَ تعالى : { ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
وأجاز القفَّالُ أن يكون اسم » كَانَ « يعودُ على » الَّذِينَ كَفَروا « ، وكذلك الضميرُ المنصوبُ في » اتَّخَذُوهُمْ « ، والضميرُ المرفوعُ في » اتَّخَذُوهُمْ « يعودُ على اليهود ، والمرادُ بالنبيِّ [ محمدٌ ] صلى الله عليه وسلم والتقديرُ : ولو كان الكافرون المُتَولَّوْنَ مؤمنينَ بمحمَّدٍ والقرآنِ ، ما اتخذَهُمْ هؤلاء اليهودُ أولياءَ ، والأولُ أوْلَى؛ لأن الحديثَ عن كثيرٍ ، لا عن المتولَّيْنَ ، وجاء جواب » لَوْ « هنا على الأفصحِ ، وهو عدمُ دخولِ اللام عليه؛ لكونه منفيًّا؛ ومثله قول الآخر : [ البسيط ]
2030- لَوْ أنَّ بالعْلمِ تُعْطَى مَا تَعِيشُ به ... لَمَا ظَفِرْت مِنَ الدُّنْيَا بِثُفْرُوقِ
وقوله تعالى : { ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ } هذا الاستدراكُ واضحٌ بما تقدَّم ، وقوله تعالى : » كَثِيراً « هو من إقامةِ الظاهرِ مقام المضمر؛ لأنه عبارةٌ عن » كَثِيراً منهم « المتقدِّم؛ فكأنه قيل : تَرَى كثيراً مِنْهُمْ ، ولكنَّ ذلك الكَثِيرَ ، ولا يريدُ ، ولكنَّ كثيراً من ذلك الكَثِيرِ فَاسِقُون .

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)

لما ذكرَ عداوةَ اليهُودِ للمُسْلِمِين ، فلذَلِكَ جَعَلَهُمْ قُرناءَ للمشركين في شدَّةِ العداوةِ ، بل نَبَّه على أنَّهُمْ أشدُّ في العداوةِ من المُشْركين ، لكونه - تعالى - قدَّم ذكرَهُم على ذِكْر المُشْرِكِين .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « ما خَلاَ يَهُودِيانِ بِمُسْلِمٍ إلاَّ هَمَّا بِقَتْلِهِ » ، وذكر تعالى أنَّ النَّصارى ألَيْنَ عِرِيكَة مِنَ اليهُودِ ، وأقْرَبَ إلى المُسْلِمِين منهم ، والمقصود من بَيَانِ هذا التَّفَاوُتِ تَخْفِيفُ أمْرِ اليَهُود على الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - و « اللاَّمُ » في قوله : « لتَجدنَّ » هي لامُ القسم .
وقد تقدّم إعْرَابُ هذا في نحو قوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] ، فأغْنَى عن إعادته وقال ابنُ عطيَّة : « اللامُ للابْتداءِ » ، وليس بشيء ، بل هي لامٌ يُتلَقَّى بها القسمُ ، و « أشدَّ النَّاسِ » مفعولٌ أوَّل ، و « عَدَاوَةً » نصب على التمييز ، و « لِلَّذِينَ » متعلِّقٌ بها ، قَوِيَتْ باللامِ؛ لمَّا كانت فَرْعاً في العمل على الفعل ، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها؛ فهي كقوله : [ الطويل ]
2031- . . . وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ . . .
ويجوزَ أن يكون « لِلَّذِينَ » صفةً ل « عَدَاوَةً » فيتعلَّقَ بمحذوف ، و « اليَهُودَ » مفعولٌ ثانٍ ، وقال أبو البقاء : « ويجوزُ أن يكون » اليهُودَ « هو الأولَ ، و » أشَدَّ « هو الثاني » وهذا هو الظاهرُ؛ إذ المقصودُ أنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركينَ بأنَّهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين ، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناس موَدَّةً لهم ، وليس المرادُ أنْ يخبرَ عن أشدِّ الناسِ وأقْرَبِهِمْ بكَوْنِهِم من اليهودِ والنصارى ، فإنْ قيل : متى استوَيَا تعْرِيفاً وتنْكيراً ، وجبَ تقديمُ المفعولِ الأول وتأخيرُ الثاني؛ كما يجب في المبتدأ والخبرِ ، وهذا من ذاك ، فالجوابُ : أنه إنما يجب ذلك حيث ألْبَسَ ، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك ، جاز التقديمُ والتأخيرُ؛ ومنه قول : [ الطويل ]
2032- بَنُونَا بَنُو أبْنَائِنَا ، وبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أبْنَاء الرِّجَالِ الأبَاعِدِ
ف « بَنُو أبْنَاء » هو المبتدأ ، و « بَنُونَا » خبره؛ لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء؛ ومثلُه قول الآخر : [ البسيط ]
2033- قَبِيلَةٌ الأمُ الأحْيَاءِ أكْرَمُهَا ... وَأَغْدَرُ النَّاسِ بالجِيرَانِ وَافِيهَا
« أكْرمُهَا » هو المبتدأ و « الأمُ الأحْيَاءِ » خبرُه ، وكذا « وَافِيهَا » مبتدأ و « أغْدَرُ النَّاس » خبره ، والمعنى على هذا ، والآيةُ من هذا القبيلِ فيما ذكرنا وقوله : « والذينَ أشْرَكُوا » عطفٌ على اليَهودِ ، والكلامُ على الجملة الثانيةِ كالكلام على ما قبلها .
فصل
تَقْدِيرُ الكلام قَسَماً : إنَّكَ تَجِدُ اليَهُودَ والمُشْرِكينَ أشَدّ عَدَاوةً مع المُؤمنين ، وقدْ شَرَحْتُ لك أنَّ هذا التَّمَرُّدَ والمَعْصِيَة عادةٌ قَدِيمَةٌ ، ففرِّغْ خَاطِرَك عنهم ، ولا تُبَالِ بمكْرِهِم وكيْدهِم .

وقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى } .
قال ابُن عباسٍ وسعيد بن جبير وعطاء والسُّدِّيُّ - رضي الله عنهم - المُرادُ به : النَّجَاشِي وقومه الذين قَدِمُوا من الحَبَشَةِ ، وآمَنُوا به ، ولم يُرِدْ جَمِيعَ النَّصارى؛ لأنَّهُمْ في عَداوتِهِم للمُسْلِمين ، كاليَهُودِ في قَتْلِهمْ المُسْلِمِين وأسْرِهِمْ ، وتَخْريبِ بلادِهِمْ ، وهَدْمِ مَسَاجِدِهِمْ ، وإحْرَاقِ مَصَاحِفِهِمْ ، ولا كَرَامَةَ لَهُمْ ، بَل الآيَةُ فيمَنْ أسْلَمَ مِنْهُم .
وقال آخرون : مَذْهَبُ اليَهُود الفَاسِد ، أنَّهُ يَجِبُ إيصَالُ الشّرِّ إلى من يُخَالِفُهُمْ في الدِّين بأيِّ طريقٍ كان ، فإن قَدَرُوا على القَتْل فذلِكَ ، وإلاَّ فنهب المالِ والسَّرِقَة ، أو بِنَوْع من المَكْرِ والكَيْدِ والحِيلَةِ ، وأمَّا النَّصَارى فليس مذهبهم ذلك ، بل الإيذَاءُ في دينهم حَرَامٌ فهذا وَجْهُ التَّفاوُتِ ، ثمَّ ذكر - سبحانه - سَبَبَ التَّفَاوُتِ ، فقال { ا ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } .
فإن قِيلَ : لِم أسند تسمية النَّصَارى إليهم ، بقوله تعالى : { الذين قالوا إِنَّا نصارى } ؛ ولمَّا ذكر اليهود سمَّاهم بقوله تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود } ولم يُسْنِدِ التَّسْمِيّةَ إلَيْهم .
فالجوابُ : لأنَّ تسميتهم باليَهُود إن كانت لِكَوْنِهِمْ من أوْلادِ يَهُوذَا بْنِ يَعقُوبَ فَهِيَ تسْمِيَةٌ حَقِيقَةٌ أيضاً ، وإن كانت من التَّحَرُّكِ في دِرَاسَتِهِمْ ، فكذلك أيْضاً ، والنَّصَارَى فَهُم الذين سَمُّوا أنفُسَهُمْ حين قال لهم عيسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنصَارُ الله } [ الصف : 14 ] ، فلذلك أسْنَدَ التَّسْمِيَة إليْهِم ، وإنْ كانوا إنَّمَا سُمُّوا نصارَى؛ لأنَّهُمْ كانوا يَسْكُنُون قَرْيَةً يقال لها : « نَاصِرَة » ، فكُلُّهُمْ لمْ يكُونُوا سَاكِنِين فيها ، بَلْ بعضُهُم أوْ أكثرُهُمْ ، فالحقيقة لم تُوجَدْ فيهم .
وقد تقدَّمَ الكلامُ في تَسْمِيَتهِم عند قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ } [ الآية : 62 ] في البقرة .
قوله تعالى : « ذَلِكَ بأنَّ » مبتدأ وخبرٌ ، وتقدم تقريره ، و « مِنْهُمْ » خبر « أنَّ » ، و « قِسِّيسِينَ » اسمها ، وأن واسمُها وخبرها في محلِّ جرِّ بالباء ، والباءُ ومجرورُها ههنا خبر « ذَلِكَ » ، والقِسِّيسِينَ جمع « قِسِّيس » على فَعِّيلٍ ، وهو مثالُ مُبالغة ك « صدِّيقٍ » ، وقد تقدَّم ، وهو هنا رئيسُ النصارى وعابدُهُمْ ، وأصلُه من تَقَسَّس الشَّيْء ، إذا تَتَّبَعَهُ وطلبَهُ باللَّيْلِ ، يقال : « تَقَسَّسْتُ أصْواتَهُم » ، أي : تَتَبَّعْتهَا باللَّيْلِ ، ويُقال لرئيس النصارى : قِسٌّ وقِسِّيسٌ ، وللدليلِ بالليلِ : قَسْقَاسٌ وقَسْقَسٌ ، قاله الراغب ، وقال غيرُه : القَسُّ بفتح القاف تَتَبُّعُ الشيءِ ، ومنه سُمِّيَ عالم النصارى؛ لتتبُّعِه العِلْمَ ، قال رُؤبَةُ بْنُ العَجَّاجِ : [ الرجز ]
2034- أصْبَحْنَ عَنْ قَسِّ الأذَى غَوَافِلاَ ... يَمْشِينَ هَوْناً خُرُداً بَهَالِلا
ويقال : قَسَّ الأثَرَ وقصَّهُ بالصَّاد أيضاً ، ويقال : قَسٌّ وقِسٌّ بفتح القاف وكسرها ، وقِسِّيس ، وزعم ابن عطية أنه أعجميٌّ مُعَرَّبٌ ، وقال الواحديُّ : « وقد تكلَّمتِ العربُ بالقسِّ والقِسِّيسِ » وأنشد المازنيُّ : [ الرجز ]
2035- لَوْ عَرَفَتْ لأيْبُلِيِّ قَسِّ ... أشْعَثَ في هَيْكَلِهِ مُنْدَسِّ ... حَنَّ إليها كَحَنين الطَّسِّ ...

وأنشد لأميةَ بْنِ الصَّلْتِ : [ البسيط ]
2036- لَوْ كانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ ... يُحْييهِمُ اللَّهُ فِي أيْديهِمُ الزُّبُرُ
هذا كلامُ أهل اللغة في القِسِّيسِ ، ثم قال : « وقال عروةُ بْنُ الزُّبيرِ : ضَيَّعَتِ النصارى الإنجيلَ وما فيه ، وبَقِيَ منهمْ رَجُلٌ يقالُ له قِسِّيسٌ » يعني : بقي على دينه لم يُبَدِّلْهُ ، فمَنْ بَقِيَ على هديه ودينه ومذهبه ، قيل له : « قِسِّيسٌ » ، وقال قطربٌ : القَسُّ والقِسِّيسُ : العَالِمُ بلغة الرُّوم؛ قال وَرَقَةُ : [ الوافر ]
2037أ- بِمَا خَبَّرْتَنا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ ... مِنَ الرُّهْبَانِ أكْرَهُ أنْ يَبُوحَا
فعلى هذا : القَسُّ والقِسِّيسُ مما اتفق فيه اللغتان ، قلتُ : وهذا يُقَوِّي قول ابن عطيَّة ، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ « القُسّ » بضم القاف ، لا مصدراً ولا وصْفاً ، فأما قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الإيَادِيُّ ، فهو عَلَمٌ ، فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّرَ بطريق العلمية ، ويكون أصلُه « قَسٌّ » أو « قِسٌّ » بالفتح أو الكسر؛ كما نقله ابن عطية ، وقُسُّ بْنُ ساعدَةَ كان أعلم أهْلِ زمانِهِ ، وهو الذي قال فيه عليه السلام : « يُبْعَثُ أمَّةً وَحْدَهُ » ، وأمَّا جمعُ قِسِّيسٍ ، فجمعُ تصحيحٍ؛ كما في الآية الكريمة ، قال الفراء : « ولو جُمِعَ قَسُوساً » ، كان صواباً؛ لأنهما في معنًى واحدٍ « ، يعني : قِسًّا » و « قِسِّيساً » ، قال : ويُجْمَعُ القِسِّيسُ على « قَسَاوِسَة » جمعوه على مثال المَهَالبَة ، والأصلُ : قَسَاسِسَة ، فكثُرت السِّينَاتِ فأُبْدِلت إحداهُنَّ واواً ، وأنشدوا لأميَّة : [ البسيط ]
2037ب- لَوْ كَانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ .. . .
قال الواحديُّ : « والقُسوسَة مصدرُ القِسِّ والقِسِّيس » ، قلت : كأنه جعل هذا المصدر مشتقًّا من هذا الاسْمِ؛ كالأبُوَّة والأخُوَّة والفُتُوَّة من لفظ أبٍ وأخٍ وفَتًى ، وتقدم أن القَسَّ بالفتحِ في الأصْل هو المصدرُ ، وأنَّ العالِمَ سُمِّيَ به مبالغةً ، قال شهاب الدين : ولا أدري ما حملَ مَنْ قال : إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما تقدم؟ .
والرُّهْبَانُ : جمعُ رَاهِبٍ؛ كَرَاكِبٍ ورُكْبَانٍ ، وفَارِسٍ وفُرْسانٍ ، وقال أبو الهيثمِ : « إنَّ رُهْبَاناً يكُونُ واحِداً ويكون جَمْعاً » ؛ وأنشد على كونه مفرداً قول الشاعر : [ الرجز ]
2038- لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في القُلَلْ ... لأقْبَلَ الرُّهْبَانُ يَعْدُو ونَزَلْ
ولو كان جمعاً ، لقال : « يَعْدُونَ » و « نَزَلُوا » بضمير الجمع ، وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنه قد عاد ضميرُ المفْرَدِ على الجَمْعِ الصريحِ؛ لتأوُّله بواحدٍ؛ كقوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] ، فالهاء في « بُطُونِهِ » تعود على الأنعامِ؛ وقال : [ الرجز ]
2039- وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ ... في « بَرَدَ » ضميرٌ يعودُ على « ألْبَان » ، وقالوا : « هو أحْسَنُ الفِتْيَانِ وأجملُه » ؛ وقال الآخر : [ الرجز ]
2040- لَوْ أنَّ قَوْمِي حِينَ أدْعُوهُمْ حَمَلْ ... على الجِبَالِ الشُّمِّ لانْهَدَّ الْجَبَلْ

إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذكرُه ، ومن مجيئه جمعاً الآيةُ ، ولم يَرِدْ في القرآنِ الكريمِ إلا جَمْعاً؛ وقال كثيرٌ : [ الكامل ]
2041- رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذِينَ عَهِدتهُمْ ... يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العِقَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلاَمَهَا ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وَسُجُودَا
قيل : ولا حُجَّة فيه؛ لأنه قال : « والَّذِينَ » فيُحتمل أنَّ الضمير إنما جُمِعَ؛ لأجلِ هذا الجمعِ ، لا لكونِ « رُهْبَانٍ » جمعاً ، وأصرحُ من هذا قولُ جريرٍ : [ الكامل ]
2042- رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأوْكِ تَنَزَّلُوا ... والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفَادِرِ
قال أبو الهيثم : وإنْ جُمِعَ الرُّهْبَانُ الواحدُ « رَهابين ورَهَابَنَة » ، جاز ، وإنْ قلت : رَهَبانِيُّونَ كان صواباً؛ كأنك تَنْسُبُه إلى الرَّهْبَانِيَّة ، والرَّهْبَانِيَّةُ من الرَّهْبَةِ ، وهي المخافةُ ، وقال الراغب ، « والرُّهْبَانُ يكون واحداً وجمعاً ، فمنْ جعلهُ واحداً ، جَمعه على رَهَابِينَ ، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ » ، يعين : أن هذه الصيغةَ غَلَبَتْ في الجمع كالفَرَازِنَة والمَوَازِجَة والكَيَالِجَة ، وقال الليث : « الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرُ الراهبِ والتَّرَهُّب : التعبُّد في صَوْمَعَة » ، وهذا يُشْبِهُ الكلام المتقدِّم في أن القُسُوسَة مصدرٌ من القَسِّ والقسِّيس ، ولا حاجةَ إلى هذا ، بل الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّبِن وهو التعبُّد أو من الرَّهَبِ ، وهو الخوفُ ، ولذلك قال الراغب : « والرهبانيَّةُ غُلُوُّ مَنْ تحمَّلَ التعبُّدَ مِنْ فَرْطِ الرَّهْبة » ، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] .
وعِلَّةُ هذا التَّفَاوُتِ : أنَّ اليَهُودَ مخْصُوصُون بالحِرْصِ الشَّديد على الدُّنْيَا ، قال : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } [ البقرة : 96 ] لِقُرْبِهِمْ في الحِرْصِ بالمُشرِكِين المنكِرينَ للمَعَادِ ، والحِرْصُ مَعْدِنُ الأخلاقِ الذَّمِيمَةِ ، لأن من كان حَرِيصاً على الدُّنيا طرح دينه في طَلَبِ الدُّنْيا ، وأقدمَ على كل مَحْظُورٍ مُنْكَرٍ بسببِ طلبِ الدُّنْيَا ، فلا جَرَم تشْتَدُّ عداوَتُهُ مع كُلِّ مَنْ نَالَ مَالاً وَجَاهاً ، وأمَّا النَّصَارى ، فإنَّهُمْ في أكْثَرِ الأمْرِ مُعْرِضُون عَنِ الدُّنْيَا ، مُقْبِلُون على العِبَادَةِ ، وتَرْكِ طلبِ الرِّياسة والتكبُّرِ والتَّرفُّعِ ، وكُلُّ مَنْ كان كذلِكَ ، فإنَّه لا يَحْسُدُ النَّاس ولا يُؤذِيهم ، بل يكون ليِّن العَرِيكَة في طلبِ الحقِّ ، سَهْل الانقِيَاد له ، فَهَذَا هو الفَرْقُ بين هذيْنِ الفرِيقَيْن ، وهو المرادُ بقوله تعالى : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } .
وفيه دقِيقَةٌ نافِعَةٌ في طَلب الدِّينِ ، وهو أنَّ كُفْرَ النَّصَارى أغْلَظ من كُفْرِ اليَهُود؛ لأنَّ النَّصَارى يُنَازِعُون في الإلهيَّات والنُّبُوَّاتِ ، واليَهُودُ : لا ينازِعُون إلاَّ في النُّبُوَّاتِ ، ولا شَكَّ أن الأوَّل أغْلَظَ؛ لأنَّ النَّصَارى مع غِلَظِ كُفْرِهم ، لم يشْتَدَّ حِرْصُهُم على طلبِ الدُّنْيَا ، بل كان في قَلْبِهِم شَيْءٌ من المَيْلِ إلى الآخِرَة ، شَرَّفَهُم اللَّه بقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى } .
وأمَّا اليهودُ مع أنَّ كُفْرَهُم أخفُّ مِنْ كُفْرِ النَّصَارى ، طردهم اللَّهُ وخصَّهُم بمزيدِ اللَّعْنَة ، وما ذلِكَ إلاَّ بسببِ تَهَالُكِهِمْ على الدُّنيا ، ويُؤيِّد ذلِكَ قولُهُ - عليه الصلاة والسلام - :

« حُبُّ الدُّنيا رَأسُ كُلِّ خَطِيئةٍ » .
فإن قيل : كيف مدَحَهُم اللَّه تعالى بذلك ، مع قوله تعالى : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } [ الحديد : 27 ] ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : « لا رَهْبَانِيَّة في الإسلام » ؛ فالجواب : أنَّ ذَلِكَ صار مَمْدُوحاً في مُقابلةِ اليهُودِ في القَسَاوَةِ ، والغِلْظَةِ ، ولا يَلْزَمُ من هذا كونُهُ مَمْدُوحاً على الإطلاق .
قوله تعالى : { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } نسقٌ على « أنَّ » المجرورةِ بالباء ، أي : ذلك بما تقدَّم ، وبأنَّهم لا يستكبرون .
فصل
المراد بقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى } يَعْنِي : وفْدَ النَّجَاشِي الذين قدمُوا مع جعفر ، وهم السَّبْعُون ، وكانوا أصْحاب الصَّوامعِ .
وقال مُقَاتِل والكَلْبِي : كَانُوا أرْبَعينَ رَجُلاً ، اثنَانِ وثلاثُون من الحَبَشَةِ ، وثمانِيَةٌ من الشَّام . وقال عطاء : كانوا ثَمَانِين رجُلاً ، أرْبَعُون مِنْ أهْلِ نَجْرَان من بَنِي الحارثِ بن كَعْب ، واثنان وثلاثُون من الحَبَشَةِ ، وثمانِيَة رُومِيُّون مِنْ أهْلِ الشَّام .
وقال قتادة : نزلت في ناسٍ من أهْلِ الكتابِ ، كانُوا على شَرِيعَةٍ من الحقِّ مِمَّا جَاءَ بِه عيسى - عليه السلام - ، فلمَّا بُعِثَ محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - صَدَّقوه ، وآمَنُوا به ، فأثْنَى اللَّهُ عليهم بقوله : تعالى : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } أي : عُلَمَاء .
قال قُطْرُب : القِسُّ والقِسِّيسُ : العَالِمُ بِلُغَةِ الرُّومِ .
قوله تعالى : « وإذَا سَمِعُوا » « إذَا » شرطيةٌ جوابُها « تَرَى » ، وهو العاملُ فيها ، وهذه الجملةُ الشرطيةُ فيها وجهان :
أظهرهما : أنَّ محلَّها الرفعُ؛ نسقاً على خبر « أنَّهُم » الثانية ، وهو « لا يَسْتَكْبِرُونَ » ، أي : ذلك بأنَّ منهم كذا ، وأنهم غيرُ مستكْبرينَ ، وأنهم إذا سمعُوا : فالواو عطفتْ مُفْرَداً على مثله .
والثاني : أنَّ الجملةَ استئنافية ، أي : أنه تعالى أخْبَرَ عنهم بذلك ، والضميرُ في « سَمِعُوا » ظاهرُه : أنْ يعود على النصارى المتقدِّمين؛ لعمومهم ، وقيل : إنما يعودُ لبعضِهمْ ، وهم مَنْ جاء من « الحبشةِ » إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في روايَةِ عطاء : يريد النَّجاشي وأصحابه ، قرأ عليْهِمْ جَعفرُ بالحبَشَةِ « كهيعص » فأخَذَ النجاشِيُّ نَبْتَةً من الأرض ، وقال : واللَّه ما زَادَ على ما قال في الإنْجِيلِ مِثْل هذه مثلاً ، فما زالوا يَبْكُون ، حتى فََرَغَ جَعْفَرُ من القراءة ، واختارَه ابْنُ عَطِيَّة ، قال : « لأنَّ كل النصارى ليسوا كذلك » .
و « مَا » في « مَا أنْزِلَ » تحتملُ الموصولةَ ، والنكرةَ الموصوفة ، وقوله تعالى : « تَرَى » بصَريَّةٌ ، فيكون قوله { تَفِيضُ مِنَ الدمع } جملةً في محلِّ نصبٍ على الحالِ .
وقرئ شاذًّا : « تُرَى » بالبناء للمفعول ، « أعْيُنُهُمْ » رفعاً ، وأسند الفيض إلى الأعين؛ مبالغةً ، وإن كان الفائضُ إنَّمَا هو دمعها لا هِيَ؛ كقول امرئِ القيسِ : [ الطويل ]
2043- فَفَاضَتْ دُمُوعُ العيْنِ مِنِّي صَبَابَةً ... عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي

والمرادُ : المبالغةُ في وصفهم بالبكاءِ ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهُمْ تمتلئُ حتى تفيضَ؛ لأنَّ الفيضَ ناشئٌ عن الامتلاءِ؛ كقوله : [ الطويل ]
2044- قَوَارِصُ تَأتِينِي وَتَحْتَقِرُونَهَا ... وَقَدْ يَمْلأ المَاءُ الإنَاءَ فَيُفْعَمُ
وإلى هذين المعنَيَيْن نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال : « فإنْ قلت : ما معنى { تَفِيضُ مِنَ الدمع } ؟ قلتُ : معناه تَمْتَلِئُ من الدمْع حتَّى تفيضَ؛ لأنَّ الفيضَ أنْ يتملئَ الإناءُ حتَّى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه ، فوضَعَ الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء ، وهو من إقامةِ المسبَّب مُقام السَّبَب ، أو قصدت المبالغةَ في وصفهم بالبكاء ، فجعلْتَ أعينهم ، كأنها تفيضُ بأنفسها ، أي : تسيلُ من الدمعِ؛ من أجلِ البكاءِ ، من قولك ، دَمَعتْ عَيْنُهُ دَمْعاً » .
قوله تعالى « مِنَ الدَّمْعِ » فيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه متعلِّقٌ ب « تَفِيضُ » ، ويكون معنى « مِن » ابتداء الغاية ، والمعنى : تَفِيضُ من كثرة الدمع .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف؛ على أنه حالٌ من الفاعلِ في « تَفِيضُ » قالهما أبو البقاء ، وقَدَّر الحالَ بقولك : « مَمْلُوءَةً من الدَّمْعِ » ، وفيه نظر؛ لأنه كونٌ مقيَّدٌ ، ولا يجوزُ ذلك ، فبقيَ أن يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً ، أي : تفيضُ كائنةً من الدمْعِ ، وليس المعنى على ذلك ، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي ، فإن قيل : هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكون « مِنَ الدَّمْعِ » تمييزاً؛ لأنهم لا يَشْترطُونَ تنكيرَ التمييز ، والأصل : تفيض دمعاً؛ كقولك : « تَفَقَّأ زَيْدٌ شَحْماً » ، فهو من المنتصب عن تمام الكلام؟ قيل : إن ذلك لا يجوزُ ، لأنَّ التمييز ، إذا كان منقولاً من الفاعلية ، امتنع دخولُ « مِنْ » عليه ، وإن كانت مقدَّرة معه ، فلا يجوز : « تَفَقَّأ زَيْدٌ من شَحْمٍ » ، وهذا - كما رأيت - مجرورٌ ب « مِنْ » ؛ فامتنع أن يكون تمييزاً ، إلا أن الزمخشريَّ في سورة براءة [ الآية 92 ] جعله تمييزاً في قوله تعالى : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } ، ولا بدَّ من نقلِ نصِّه لتعرفه؛ قال - رحمه الله تعالى - : { تَفِيضُ مِنَ الدمع } كقولك : « تَفِيضُ دَمْعاً » ، وهو أبلغُ من قولِك : يفيضُ دَمْعُها؛ لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائضٌ ، و « مِنْ » للبيان؛ كقولك : « أفديكَ مِنْ رَجُلٍ » ، ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز « ؛ وفيه ما قد عرفْتَه من المانِعَيْنِ ، وهو كونُه معرفةً ، وكونُه جُرَّ ب » مِنْ « وهو فاعلٌ في الأصْل ، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ؛ فعلى هذا : تكونُ هذه الآية الكريمةُ كتلك عنده ، وهو الوجهُ الثالث .
الرابع : أنَّ » مِنْ « بمعنى الباء ، أي : تفيضُ بالدمْعِ ، وكونُها بمعنى الباء رأيٌ ضعيفٌ ، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى : { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] أي : بِطَرْفٍ؛ كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى » مِنْ « ؛ كقوله : [ الطويل ]

2045- شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ ترفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ
أي : مِنْ مَاء البَحْرِ .
قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } « مِنْ » الأولَى لابتداءِ الغاية ، وهي متعلقةٌ ب « تَفِيضُ » ، والثانيةُ يُحْتملُ أن تكونَ لبيانِ الجنس ، أي : بَيَّنَتْ جنس الموصولِ قبلَها ، ويُحتملُ أن تكون للتبعيضِ ، وقد أوضح الزمخشريُّ هذا غايةَ الإيضاح؛ قال - رحمه الله - : « فإنْ قلتَ : أيُّ فَرْقٍ بين » مِنْ « و » مِنْ « في قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ؟ قلتُ : الأولَى لابتداء الغاية؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ ، وكان من أجله وبسببه ، والثانيةُ : لبيان الموصول الذي هو » ما عَرَفُوا « ، وتحتمل معنى التبعيض؛ على أنهم عرفوا بعض الحقِّ ، فأبكاهم وبلغ منهم ، فكيف إذا عرفوه كلَّه ، وقرَءُوا القرآن ، وأحاطُوا بالسنة » . انتهى ، ولم يتعرَّض لما يتعلَّق به الجارَّان ، وهو يمكن أنْ يُؤخَذَ من قوةِ كلامه ، ولْنَزِدْ ذلك إيضاحاً ، و « مِن » الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ؛ على أنها حال من « الدَّمْع » ، أي : في حالِ كونه ناشئاَ ومبتدئاً من معرفةِ الحقِّ ، وهو معنى قول الزمخشريِّ؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ ، ولا يجوزُ أن يتعلَّق ب « تَفِيضُ » ؛ لئلا يلزم تعلُّقُ حرفَيْن مُتَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى بعامل واحد؛ فإنَّ « مِنْ » في « مِنَ الدَّمْعِ » لابتداءِ الغاية؛ كما تقدَّم ، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ « مِنْ » في « مِنَ الدَّمْعِ » للبيانِ ، أو بمعنى الباء ، فقد يجوز ذلك ، وليس معناه في الوضُوحِ كالأول ، وأمَّا « مِنَ الحَقِّ » فعلى جعله أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف ، أي : أعْنِي من كذا ، وعلى جعله أنَّها للتبعيض تتعلَّق ب « عَرَفُوا » ، وهو معنى قوله : « عَرَفُوا بَعْضَ الحقِّ » .
وقال أبو البقاء في « مِنَ الحَقِّ » : إنه حالٌ من العائد المحذوف على الموصولِ ، أي : مِمَّا عرفوه كائناً من الحق ، ويجوزُ أن تكون « مِنْ » في قوله تعالى : « مِمَّا عَرَفُوا » تعليليةً ، أي : إنَّ فَيْضَ دمعهم بسبب عرفانِهِمُ الحقَّ؛ ويؤيِّدُه قول الزمخشري : « وكان من أجله وبسببه » ، فقد تحصل في « من » الأولى أربعةُ أوجه ، وفي الثالثةِ ضعفٌ ، أو منعٌ؛ كما تقدَّم ، وفي « مِن » الثانية أربعةٌ أيضاً : وجهان بالنسبة إلى معناها : هل هي ابتدائية أو تعليليةٌ؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلًَّق به : هل هو « تَفِيضُ » ، أو محذوفٌ؛ على أنها حالٌ من الدمع ، وفي الثالثة : خمسةٌ : اثنان بالنسبة إلى معناها : هل هي بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ؟ وثلاثةٌ بالنسبة إلى متعلَّقها : هل هو محذوفٌ ، وهو « أعْنِي » ، أو نفسُ « عَرَفُوا » ، أو هو حالٌ ، فتتعلَّق بِمَحْذُوفٍ أيضاً؛ كما ذكره أبو البقاء .

وقوله تعالى : { ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ، يَدُلُّ على أنَّ الإخلاصَ والمعرفةَ بالقَلْبِ مع القولِ تكُونُ إيماناً .
قوله تعالى : « يَقُولُون » الآية . فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه مستأنفٌ ، فلا محلَّ له ، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ .
الثاني : أنها حال من الضمير المجرور في « أعْيُنَهُمْ » ، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه؛ لأنَّ المضافَ جزؤهُ؛ فهو كقوله تعالى : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] .
الثالث : أنه حالٌ من فاعل « عَرَفُوا » ، والعاملُ فيها « عَرَفُوا » ، قال أبو حيان لمَّا حكى كونه حالاً : « كذا قاله ابن عطية وأبو البقاء ، ولم يُبَيِّنا ذا الحال ، ولا العامل فيها » ، قال شهاب الدين : أمَّا أبو البقاء ، فقد بَيَّنَ ذا الحال ، فقال : « يَقُولُونَ » حالٌ من ضمير الفاعل في « عَرَفُوا » ، فقد صرَّح به ، ومتى عُرِفَ ذو الحال ، عُرِفَ العالمُ فيها؛ لأنَّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها ، فالظاهرُ : أنه اطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاءِ سَقَطَ منها ما ذكرته لك ، ثم إنَّ أبا حيان ردَّ كونها حالاً من الضمير في « أعْيُنَهُمْ » ؛ بما معناه : أن الحالَ لا تَجيءُ من المضافِ إليه ، وإن كان المضافُ جُزْأهُ ، وجعله خطأ ، وأحال بيانه على بعضِ مصنَّفاته ، ورَدَّ كونها حالاً أيضاً من فاعل « عَرَفُوا » ؛ بأنه يلزمُ تقييدُ معرفتهم الحقَّ بهذه الحال ، وهم قد عرفوا الحقَّ في هذه الحالِ وفي غيرِها ، قال : « فالأوْلَى : أن يكون مستأنفاً » ، قال شهاب الدين : أمَّا ما جعله خطأ ، فالكلام معه في هذه المسألة في موضوعٍ غَيْرِ هذا ، وأمَّا قوله : « يَلْزَمُ التَّقييدُ » ، فالجوابُ : أنه إنما ذُكِرَتْ هذه الحالُ؛ لأنَّها أشرفُ أحوالهم ، فَخَرَجَتْ مخرجَ المدحِ لهم ، وقوله تعالى : « رَبَّنا آمَنَّا » في محلِّ نصب بالقول ، وكذلك : « فاكْتُبْنَا » إلى قوله سبحانه : « الصَّالِحِينَ » .
فصل
المعنى : يَقُولُون ربَّنَا آمنَّا بما سَمِعْنَا وشَهِدْنَا بأنَّهُ حقٌّ ، { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } يريد : أمَّةَ مُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - لقوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] .
وقيل : كُلُّ مَنْ شَهِدَ من أنْبِيَائِك ومُؤمِنِي عِبَادك بأنَّكَ لا إله غَيْرك .
قوله تعالى : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين } : « مَا » استفهاميَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء ، و « لَنَا » جارٌّ ومجرورٌ خبرهُ ، تقديرُه : أيُّ شيءٍ اسْتَقَرَّ لنا ، و « لا نُؤمِنُ » جملة حالية ، وقد تقدَّم الكلام على نظير هذه الآية ، وأنَّ بعضهم قال : إنها حالٌ لازمةٌ لا يتمُّ المعنى إلا بها؛ نحو :

{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، وتقدَّم ما قلتُه فيه ، فأغْنَى ذلك عن إعادته ، وقال أبو حيان هنا : « وهي المقصودُ وفي ذكرهَا فائدةُ الكلامِ؛ وذلك كما تقول : » جَاء زَيْدٌ رَاكِباً « لِمَنْ قال : هَلْ جَاءَ زَيْدٌ مَاشِياً أو رَاكِباً؟ » .
فصل
قوله : « وَمَا جَاءَنَا » في محلِّ « مَا » وجهان :
أحدهما : أنه مجرور نسقاً على الجلالة ، أي : بالله وبِمَا جَاءَنَا ، وعلى هذا فقوله : « مِنَ الحَقِّ » فيه احتمالان :
أحدهما : أنه حالٌ من فاعل « جَاءَنَا » ، أي : جاء في حال كونه من جِنْسِ الحقِّ .
والاحتمال الآخر : أن تكونَ « مِنْ » لابتداء الغاية ، والمرادُ بالحقِّ الباري تعالى ، وتتعلَّقُ « مِنْ » حينئذ ب « جَاءَنَا » ؛ كقولك : « جَاءَنَا فلانٌ مِنْ عِنْدِ زَيْدٍ » .
والثاني : أنَّ محلَّه رفعٌ بالابتداء ، والخبر قوله : « مِنَ الحَقِّ » ، والجملةُ في موضع الحال ، كذا قاله أبو البقاء ، ويصيرُ التقدير : وما لَنَا لا نُؤمِنُ بالله ، والحالُ أنَّ الذي جاءنا كَائِنٌ من الحَقِّ ، و « الحقُّ » يجوز أن يُرادَ به القرآنُ؛ فإنه حقٌّ في نفسه ، ويجوزُ أن يُرادَ به الباري تعالى - كما تقدمَ - والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تَضَمَّنَهُ قولُه « لَنَا » .
قوله : « وَنَطْمَعُ » في هذه الجملة ستَّة أوجه :
أحدها : أنها منصوبة المحلِّ؛ نسقاً على المحكيِّ بالقول قبلها ، أي : يقولُونَ كذا ويقولون نطمعُ وهو معنًى حسنٌ .
الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً وهو « لَنَا » ؛ لأنه تضمَّنَ الاستقرارَ ، فرفع الضمير وعملَ في الحال ، وإلى هذا ذهب الزمخشري؛ فإنه قال : « والواوُ في » ونَطْمَعُ « واوُ الحال ، فإن قلتَ : ما العاملُ في الحال الأولى والثانية؟ قلتُ : العاملُ في الأولى ما في اللام من معنى الفعلِ؛ كأنه قيل : أيُّ شيءٍ حَصَل لنا غَيْرَ مؤمِنينَ ، وفي الثانية معنى هذا الفعل ، ولكن مقيَّداً بالحال الأولى؛ لأنك لو أزَلْتَها ، وقلت : » مَا لَنَا وَنَطْمَعُ « ، لم يكنْ كلاماً » . قال شهاب الدين : وفي هذا الكلام نظرٌ ، وهو قولُه : « لأنَّكَ لَوْ أزَلْتَه . . . إلى آخره » ؛ لأنَّا إذا أزَلْنَاها وأتَيْنَا ب « نَطْمَعُ » ، لم نأتِ بها مقترنةً بحرفِ العطف ، بل مجرَّدة منه؛ لنحلَّها محلَّ الأولى؛ ألا ترى أنَّ النحويين إذا وضَعُوا المعطوفَ موضعَ المعطُوف عليه ، وضعوه مجرَّداً من حرفِ العطف ، ورأيتُ في بعض نسخ الكشَّافِ : « مَا لَنَا نَطْمَعُ » من غير واوٍ مقترنةٍ ب « نَطْمَعُ » ولكن أيضاً لا يَصِحُّ؛ لأنك لو قلت : « مَا لَنَا نَطْمَعُ » كان كلاماً؛ كقوله تعالى :

{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، ف « نَطْمَعُ » واقعٌ موقعَ مفردٍ هو حال ، كما لو قلت : مَا لَكَ طَامِعاً ، وما لَنَا طَامِعِين ، وردَّ عليه أبو حيان هذا الوجه بشيئينِ : أحدهما : أن العامل لا يقتضي أكثر من حالٍ واحدة ، إذا كان صاحبُه مفرداً دون بدل أو عطف ، إلا أفعل التفضيل على الصَّحيح .
والثاني : أنه يلزم دخولُ الواو على مضارعٍ مُثْبَتٍ . وذلك لا يجُوز إلا بتأويل تقدير مبتدأ ، أي : ونحْنُ نَطْمَعُ .
الثالث : أنها في محل نصبٍ على الحال من فاعل « نُؤمِنُ » ، فتكون الحالان متداخلَتَيْنِ ، قال الزمخشريُّ : « ويجوز أن يكون » ونَطْمعُ « حالاً من » لا نُؤمِنُ « على معنى : أنهم أنْكَرُوا على أنفسهم؛ أنهم لا يوحِّدون الله ، ويطمعُون مع ذلك أن يَصْحَبُوا الصالحين » ، وهذا فيه ما تقدَّم من دخول واو الحال على المضارع المثْبَت ، وأبو البقاء لمَّا أجاز هذا الوجْهَ ، قدَّر مبتدأ قبل « نَطْمَعُ » ، وجعل الجملةَ حالاً من فاعل « نُؤمِنُ » ؛ ليخلصَ من هذا الإشكال؛ فقال : ويجوزُ أن يكون التقديرُ : « ونَحْنُ نَطْمَعُ » ، فتكون الجملةُ حالاً من فاعل « لا نُؤمِنُ » .
الرابع : أنها معطوفةٌ على « لا نُؤمِنُ » ، فتكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ذلك الضمير المستترِ في « لَنَا » ، والعاملُ فيها هو العاملُ في الحال قبلها .
فصل
فإن قيل : هذا هو الوجه الثاني المتقدِّم ، وذكرت عن أبي حيان هناك؛ أنه منع مجيء الحالين لِذِي حالٍ واحدةٍ ، وبأنه يلزمُ دخولُ الواو على المضارع ، فما الفرقُ بين هذا وذاك؟ فالجوابُ : أنَّ الممنوع تعدُّدُ الحالِ دُونَ عاطف ، وهذه الواوُ عاطفةٌ ، وأنَّ المضارع إنما يمتنعُ دخولُ واوِ الحال عليه ، وهذه عاطفةٌ لا واوُ حالٍ؛ فحَصَلَ الفرقُ بينهما من جهة الواو؛ حيثُ كانت في الوجه الثاني واوَ الحال ، وفي هذا الوجه واو عطف ، ولَمَّا حكى الزمخشريُّ هذا الوجه ، أبدى له معنيين حسنين؛ فقال - رحمه الله - : « وأن يكون معطوفاً على » لا نُؤمِنُ « على معنى : وما لنا نَجْمَعُ بَيْنَ التثْليثِ وبين الطَّمَع في صُحْبَةِ الصَّالحينَ ، أو على معنى : ومَا لَنَا لا نَجْمَعُ بينهما بالدُّخُولِ في الإسلام؛ لأنَّ الكَافِرَ ما ينبغي له أن يطمعَ في صُحْبَة الصَّالحِينَ » .
الخامس : أنها جملة استئنافية ، قال أبو حيان : الأحسنُ والأسهلُ : أن يكون استئناف إخبارٍ منهم؛ بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم؛ بإدخالهم مع الصالحين ، فالواوُ عطافةٌ هذه الجملة على جملة { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } ، قال شهاب الدين : وهذا المعنى هو ومعنى كونها معطوفةً على المَحْكيِّ بالقول قبلها - شيءٌ واحدٌ - فإن [ فيه ] الإخبار عنهُمْ بقولهم كَيْتَ وكَيْتَ .

السادس : أن يكون « وَنَطْمَعُ » معطوفاً على « نُؤمِنُ » ، أي : وما لنا لا نَطْمَعُ ، قال أبو حيان هنا : « ويظهر لي وجهٌ غيرُ ما ذكرُوه ، وهو أن يكون معطوفاً على » نُؤمِنُ « ، التقديرُ : وما لَنَا لا نُؤمِنُ ولا نَطْمَعُ ، فيكونُ في ذلك إنكارٌ لانتفاءِ إيمانهمْ وانتفاءِ طمعهِمْ مع قدرتهم على تحصيل الشيئين : الإيمان والطَّمع في الدخول مع الصالحين » ، قال شهاب الدين : قوله : « غَيْرُ ما ذَكَرُوهُ » ليس كما ذَكَرَهُ ، بل ذكر أبو البقاء فقال : « ونَطْمَعُ » يجُوزُ أن يكون معطوفاً على « نُؤمِنُ » ، أي : « وما لَنَا لا نَطْمَعُ » ، فقد صرَّحَ بعطفه على الفعل المنفيِّ ب « لاَ » ، غايةُ ما في الباب أن الشيخَ زاده بَسْطاً .
والطَّمَعُ قال الراغب : « هو نزوعُ النَّفْسِ إلى الشَّيْءِ شَهْوَةً له » ، ثم قال : « ولَمَّا كَانَ أكْثَرُ الطَّمَعِ من جهةِ الهوى ، قيل : الطَمَعُ طَبعٌ والطمعُ يدنِّسُ الإهَابَ » ، وقال أبو حيان : « الطمعُ قَرِيبٌ من الرَّجَاءِ يقال منه طَمِعَ يَطْمَعُ طَمعاً » ؛ قال تعالى : { خَوْفاً وَطَمَعاً } [ السجدة : 16 ] وطماعةً وطماعيةً كالكراهِيَة؛ قال : [ الطويل ]
2046- .. طَمَاعِيَةً أنْ يَغْفِرَ الذَّنْبَ غَافِرُهْ
فالتشديدُ فيها خطأٌ ، واسمُ الفاعِلِ منه طَمِعٌ ك « فَرِحٍ » و « أشرٍ » ، ولم يَحْكِ أبو حيان غيرَه ، وحكى الراغب : طَمِعٌ وطَامِعٌ ، وينبغي أن يكون ذلك باعتبارين؛ كقولهم « فَرِحٌ » لمن شأنه ذلك ، و « فَارِحٌ » لمن تجدَّد له فَرَحٌ .
قوله : « أنْ يُدْخِلَنَا » ، أي : « في أنْ » فمحلُّها نصبٌ أو جرٌّ؛ على ما تقدَّم غير مرة . و « مَعَ » على بابها من المصاحبة ، وقيل : هي بمعنى « في » ولا حاجة إليه؛ لاستقلال المعنى مع بقاءِ الكلمة على موضوعها .
فصل
قال المُفَسِّرُون - [ رحمهم الله ] - إنَّ اليَهُودَ عَيَّرُوهم ، وقالُوا لَهُمْ : لِمَ آمَنْتُم؟ فأجابُوهُم بِهَذا .
والمراد : يدْخِلُنَا ربُّنَا مع القَوم الصَّالحِيِنَ جَنَّتَهُ ، ودارَ رِضوانه قال - تعالى - : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } [ الحج : 59 ] ، إلا أنه حَسُنَ الحَذْف لِكَوْنه مَعْلُوماً .
قوله تعالى : { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ } [ المائدة : 85 ] .
وقرأ الحسن : « فآتاهُمُ اللَّهُ » : من آتاه كذا ، أي : أعطاهُ ، والقراءةُ الشهيرةُ أوْلَى؛ لأنَّ الإثابةَ فيها مَنْبَهَةٌ على أنَّ ذلك لأجْلِ عملٍ؛ بخلاف الإيتاء؛ فإنه يكونُ على عملٍ وعلى غيره ، وقوله تعالى : « جَنَّاتٍ » مفعولٌ ثانٍ ل « أثَابَهُمْ » ، أو ل « آتاهُمْ » على حسب القراءتَيْنِ . و { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } في محلِّ نصبٍ صفةً ل « جَنَّاتٍ » . و « خَالِدِينَ » حالٌ مقدرةٌ .
فإن قيل : ظَاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ على أنَّهُم إنَّما اسْتَحَقُّوا ذلك الثَّوابَ بمُجَرَّدِ القوْلِ؛ لأنَّهُ - تعالى - قال : { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ } ، وذَلِكَ غير مُمْكِن؛ لأنَّ مُجَرَّدَ القَوْلِ لا يُفيدُ الثَّوَابَ .

فالجوابُ مِنْ وجهين :
الأوَّلُ : أنَّهُ قد سَبَقَ من وَصْفِهِم مَا يدلُّ على إخلاصِهِمْ فيما قالوا وهُو المعرفَةُ ، وذلك قوله - تعالى - : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ، وكُلَّما حصلتِ المعْرِفَةُ والإخْلاصُ وكمَال الانْقِيَادِ ، ثُمَّ انْضَافَ إليْه القَوْلُ ، لا جَرَمَ كمل الإيمان .
الثاني : روى عطاءُ عن ابْن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّه قال : قوله - تعالى - : « بِمَا قَالُوا » يُرِيدُ بما سَألُوا ، يعني قولهُمْ : « فاكتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين » .
فصل
دَلَّتِ الآيَةُ على أنَّ المُؤمِنَ الفَاسِقَ لا يُخَلَّدُ في النَّارِ من وجْهَيْن :
أحدهما : أنَّهُ - تعالى - قال : { وذلك جَزَآءُ المحسنين } ، وهذا الإحْسَانُ لا بُدَّ وأنْ يكُونَ هُوَ الذي تقدَّم ذِكْرُه من المَعْرِفَةِ ، وهُوَ قوله - تعالى - : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ، ومِنَ الإقْرَارِ به ، وهو قولُهُ - تعالى - : { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ } ، وإذا كَانَ كَذَلِك فإمَّا أنْ يُقال : إنَّ هذه الآيَةُ دالَّةٌ على أنَّ المعرفة ، وهُوَ إقرارٌ يوجِبُ هذا الثَّواب ، فإمَّا أنْ يُنقل من الجَنَّةِ إلى النَّارِ ، وهذا بَاطِلٌ بالإجْمَاع ، أو يُقَال : يُعاقَبُ على ذَنْبِهِ ، ثمَّ يُنْقَلُ إلى الجَنَّةِ ، وهُوَ المَطْلُوب .
الثاني : أنَّهُ - تعالى - قال : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم } ، فقولُهُ تعالى : { أولئك أَصْحَابُ الجحيم } يُفِيدُ الحصر ، أي : أولَئِكَ أصْحَابُ الجحيمِ لا غَيْرهِم ، والمُصَاحِبُ للشَّيءِ المُلازِم له الذي لا يَنْفَكُّ عَنْهُ ، وهذا يقتضي تَخْصِيصُ الكُفَّارِ بالدَّوَام .
قوله تعالى : « وذَلِكَ جَزَاءُ » مبتدأ وخبرٌ ، وأُشِيرَ ب « ذَلِكَ » إلى الثواب أو الإيتاء ، و « المُحْسنين » يُحتمل أن يكون من باب إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ ، والأصل : « وذَلِكَ جَزَاؤهُمْ » ، وإنما ذُكِر وصفُهم الشريفُ مَنْبَهَةً على أن هذه الخَصْلَةَ محصِّلة جزائِهِمْ بالخَيْرِ ، ويُحْتَمَلُ أن يرادَ كلُّ مُحْسِنٍ ، فيندرجُون اندراجاً أوليًّا .
والمُرَادُ بالمُحْسِنينَ : المُوَحِّدين المُؤمِنِين .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

لما اسْتَقْصَى في المُنَاظَرَةِ مع اليَهُودِ والنَّصَارى ، عَادَ إلى بيان الأحْكَامِ ، وذكر منها جُمْلَةً :
أوَّلُهَا : ما يتعلَّقُ بالمطَاعِمِ والمَشَارِب واللَّذَاتِ ، وهي هَذِه الآيَةُ ، والمراد بالطَّيِّبَاتِ : ما تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ ، وتميلُ إلَيْه القُلُوب وفيه قولان :
الأول : قال المُفَسِّرون - [ رحمهم الله ] - « ذكَّرَ النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - النَّاسَ يَوْماً في بَيْتِ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ - رضي الله عنه - فوَصَفَ القِيَامَة ، وبالغ في الإنْذَارِ والتَّحْذِيرِ ، فَرَقَّ له النَّاسُ وبَكَوْا ، فاجْتَمَعَ عَشْرَةٌ مِنَ الصَّحَابَة - رضي الله عنهم أجمعين - وهُمْ : أبُو بَكْر ، وعَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ ، وعبْدُ الله بن مَسْعُود ، وعَبْدُ الله بن عُمَر ، وأبُو ذَرٍّ الغِفَاري ، وسَالِم مَوْلى أبِي حُذَيْفَة والمِقْدَادُ بنُ الأسْوَد ، وسَلْمَان الفَارِسِي ، ومَعْقِلُ بنُ مقرّن - رضي الله عنهم - ، وتَشاوَرُوا على أنْ يَتَرَهَّبُوا ، ويَلْبِسُوا المُسُوحَ ، ويُجْبُوا مَذَاكِيرهِمْ ، ويصُومُوا الدَّهْرَ ، ويقُومُوا اللَّيْل ، ولا ينَامُونَ على الفُرُش ، ولا يَأكُلُونَ اللَّحْمَ والوَدَكَ ، ولا يَقْرَبُون النِّسَاء والطِّيب ، ويَسِيحُوا في الأرْض ، وحَلَفُوا على ذَلِكَ ، فَبَلَغ النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - [ ذلك ] ، فأتَى دَارَ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ الجُمحِي ، فَلَمْ يُصَادِفْهُ ، فقالَ لامْرَأتِهِ أمِّ حَكِيم بِنْت أبِي أمَيَّة - واسمُهَا » الحَوْلاَء « ، وكانت عطَّارَة - : أحقٌّ ما بَلَغَنِي عن زَوْجِكِ وأصْحَابِه؟ فَكَرِهَتْ أنْ تَكْذِبَ ، وكَرِهَتْ أنْ تُبْدِيَ على زَوْجِهَا ، فَقَالَتْ : يا رسُول اللَّهِ : إن كانَ أخْبَرَكَ عُثْمَانُ فَقَدْ صَدَقَ ، فانْصَرَفَ رسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فلَّما دَخَلَ عُثْمَانُ أخْبَرَتُهُ بذلك ، فأتى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - هُوَ وأصْحَابهُ ، فقالَ لَهُمُ رسُولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : ألَمْ أُنَبَّأْ أنَّكُم اتَّفَقْتُمْ على كَذَا وكَذَا ، قَالُوا : بَلَى يا رسُول اللَّهِ ، ما أرَدْنَا إلا الخَيْرَ ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : إنِّي لَمْ أؤمَرْ بِذلِكَ ، ثُمَّ قال : إنَّ لأنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حقًّا ، فصُومُوا وأفْطِرُوا ، وقُومُوا ونَامُوا ، فَإنِّي أقُومُ وأنَامُ ، وأصُومُ وأفْطِر ، وآكُل اللَّحْم والدَّسم ، وآتِي النِّسَاء ، فَمَنْ رَغِب عن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي . ثمَّ جمع إليه النَّاس وَخَطَبَهُمْ فقَالَ : ما بَالُ أقْوَامٍ حَرَّمُوا النِّساء والطَّعام ، والطِّيب والنَّوم ، وشهوات الدُّنيا؟! أما إنِّي لَسْتُ آمُرُكُمْ أنْ تكُونُوا قِسِّيسِينَ ورُهْبَاناً ، فإنَّه ليْسَ في دِينِي تَرْكُ اللَّحْمِ ، ولا اتِّخاذ الصَّوَامِعِ ، وأنَّ سِيَاحةَ أمَّتِي الصَّومُ ، ورهبَانِيَّتُهُمُ الْجِهَادُ ، اعبُدُوا اللَّه ولا تُشْرِكُوا به شَيْئاً ، وحجُّوا واعتَمِرُوا وأقِيموا الصَّلاة وآتُوا الزَّكاة ، وصُومُوا رمضَانَ ، واستَقِيمُوا يستقمْ لَكُمْ ، فإنَّمَا هَلَكَ من كان قَبْلَكُم بالتَّشْديدِ ، شَدَّدُوا على أنْفُسِهِم ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِم ، فأُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَار والصَّوَامِعِ » ، فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة .
وعن عُثْمَانَ بنِ مَظْعُون - رضي الله تعالى عنه

« - أنَّه أتَى النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال : ائْذَنْ لنا في الاخْتِصَاء ، فقال رسول اللَّهِ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم : ليس منا من خَصَى أو اخْتَصَا ، إنَّ خِصَاءَ أمَتِّي الصِّيَامُ ، فقال يا رسُولَ اللَّه : ائْذَنْ لنا في السِّيَاحَةِ ، فقال : إنَّ سِيَاحَةَ أمَّتِي الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّه ، قال يا رسُول اللَّه : ائْذَنْ لنا في التَّرَهُّبِ فقال : إنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي الجُلُوسُ في المَسَاجِدِ ، وانْتِظَار الصَّلاة » .
وعلى هذا ظَهَر وجه النَّظْم بين هذه الآية ، وبَيْنَ ما قَبْلَها ، وذلك أنَّهُ تعالى مدحَ النَّصَارى ، بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِين ورُهْبَاناً ، وعادَتُهُم الاحْتِرَازُ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا ولذَّاتِها ، فلمَّا مَدَحَهم أوْهَمَ ذلك المدحُ ترغيب المسلمين في مِثْلِ تِلْكَ الطَّريقَةِ ، فَذَكَرَ تعالى عَقِيبَهُ هذه الآيَة ، إزالةً لذلك الوَهْمِ؛ ليظْهَرَ لِلْمُسْلِمِين أنَّهُمْ ليْسُوا مَأمُورين بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ؛ واللَّه أعلم .
فإن قيل : ما الحكْمَةُ في هذا النَّهْي؟ ومن المعْلُومِ أنَّ حبَّ الدُّنْيَا مُسْتَوْلٍ على الطَّبَاع والقُلُوبِ ، فإذا تَوَسَّع الإنْسَانُ في اللَّذَّاتِ والطَّيِّبَاتِ : اشتدَّ مَيْلُهُ إليها وعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فيها ، وكُلَّمَا أكْثر التَّنْعِيم ودَامَ كان ذلك المَيْلُ أقْوَى وأعْظَم ، وكُلَّمَا ازدَادَ المَيْلُ قوَّةً ورغْبَةً ، ازدَادَ حِرْصُهُ في طَلَبِ الدُّنْيَا ، واسْتِغْرَاقُهُ في تحصيلهَا ، وذلك يمنعه عن الاستغراقِ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ - تعالى - وطاعَتِهِ ، ويمنَعُهُ عن طلب سَعَادَات الآخِرَةِ ، وأمَّا إذا أعْرَضَ عن لَذَّاتِ الدُّنيا وطيِّبَاتها ، فكُلَّمَا كَانَ ذَلِكَ الإعْرَاض أتَمَّ وأدْوَمَ ، كان ذلك المَيْلُ أضْعَف ، وحينئذٍ تتفرَّغُ النَّفْسُ لطَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّه تعالى ، والاسْتِغْرَاق في خدمَتِهِ ، وإذا كان الأمْرُ كَذَلِكَ فما الحكمة في نَهْيِ اللَّهِ تعالى عَنِ الرَّهْبَانِيَّة؟ .
فالجواب من وجوه :
الأولُ : أنَّ الرَّهْبَانِيَّة المفرطة ، والاحتِرَاز التَّامَّ عن الطَّيِّبَاتِ واللَّذَّاتِ ، ممَّا يوقع الضَّعْفَ في الأعْضَاء الرَّئِيسيَّة - التي هي القَلْبُ والدِّمَاغُ - ، وإذا وَقَعَ الضَّعْفُ فيهما اخْتلت الفِكْرَة وتَشَوَّش العَقْلُ .
ولا شَكَّ أنَّ أكْمَل السَّعَاداتِ وأعظمَ القُرُبَات ، إنَّما هو مَعْرِفَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى ، فإذَا كانتِ الرَّهْبَانِيَّةُ الشَّديدةُ مِمَّا يوقع الخَلَلَ في ذلِكَ ، لا جَرَمَ وقعَ النَّهْي عَنْهُ .
الثاني : سَلَّمنَا أنَّ اشْتِغَال النَّفْسِ باللَّذاتِ يَمْنَعُهَا عن الاشْتِغَال بالسَّعَادَاتِ العَقْلِيَّة ، ولكن في حقِّ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ أمَّا النُّفُوسُ المسْتَعْلِيَةُ الكامِلَةُ ، فإنَّه لا يَكُونُ اشتِغَالُها في اللَّذاتِ الحِسِّيَّةِ مانِعاً من الاشْتِغَالِ بالسَّعَادَات العَقْلِيَّة ، فإنَّا نُشَاهِدُ بعض النُّفُوس قد تكون ضَعِيفَة ، بِحَيْثُ متى اشْتَغَلَتْ بِمُهِمٍّ امْتَنَعَ عليها الاشْتِغَالُ بِمُهِمٍّ آخر ، وكُلَّما قَويَتِ النَّفسُ كانت هذه الحَالَةُ أكْمَل ، وإذا كانَ كذَلِكَ ، فالمرادُ الكَمَالُ في الوَفَاءِ بالجهَتَيْنِ .
الثالث : أنَّ من اسْتَوْفَى اللَّذَاتِ الحِسِّيَّةَ ، وإن غرضُهُ بذلك الاسْتِعَانَة على استِيفَاء اللَّذَّاتِ العَقْلِيَّةِ ، فإنَّ مجاهَدَتَهُ أتَّمُّ مِنْ مُجَاهَدَة من أعْرَض عَنِ اللَّذَاتِ الحِسَّيَّةِ .
الرابع : أنَّ الرَّهْبَانِيَّةِ مع المُواظَبَةِ على المَعْرِفَةِ والمَحَبَّةِ والطَّاعة ، فإنَّه عِمَارةُ الدُّنْيَا والآخِرَة ، فكانَتْ هَذِهِ الحال أكْمَل القول .
الثاني في تفْسِير هذه الآية ذَكَرَهُ القَفَّال - [ رحمه الله ] - وهو أنَّهُ تعالى قال في أوَّل السُّورةِ :

{ أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] فبيَّنَ أنَّهُ لا يجُوزُ استحلاَلُ المُحرَّمِ ، كذلك لا يجُوزُ تَحْرِيمُ المُحَلَّلِ ، وكانت العرب تُحرِّمُ من الطَّيِّبَاتِ ما لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تعالى ، وهو : البَحيرة ، والسَّائِبَةُ ، والوَصِيلةُ ، والحامُ ، وكانُوا يُحَلِّلُون المَيْتَةَ والدَّمَ وغيْرهما ، فأمَرَ اللَّه تعالى أن لا يُحرِّمُوا ما أحَلَّهُ اللَّهُ ، ولا يُحَلِّلُوا ما حَرَّمهُ اللَّهُ ، حتى تَدْخُلوا تَحْتَ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] .
فقوله تعالى : { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } يحتمل وُجُوهاً :
الأول : ألا تَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ .
وثانيها : لا تُظْهِرُوا باللِّسان تَحرِيمَ ما أحلَّ الله لَكُمْ .
وثالثها : لا تَجْتَنِبُوهَا اجْتِنَاباً يُشبِهُ الاجْتِنَابَ عن المُحَرَّمَاتِ ، فهذه الوُجُوه الثلاثَةُ مَحْمُولَةٌ على الاعتِقَاد والقول والعَملِ .
ورابعها : لا تُحَرِّمُوا على غَيْرِكم بالفَتْوَى .
وخامسها : لا تَلْتَزِمُوا تحريمها بِنَذْرٍ أو يَمِينٍ ، ونَظِيرُهُ قوله تعالى : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } [ التحريم : 1 ] .
وسادسها : أن يخلطَ المغصُوبَ بالمَمْلُوكِ اختِلاَطاً لا يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ ، وحينئذٍ يَحْرُمُ الكُلُّ ، ذلك الخَلْطُ سببٌ لتحريم ما كان حلالاً ، وكذلِكَ إذا خَلَطَ النَّجِسَ بالطَّاهِر ، فالآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لكُلِّ هذه الوجوه ، ولا يَبْعُدُ حَمْلُهَا على الكُلِّ .
قوله - تعالى - : { وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } فقيل : لا تجاوزُوا الحلال إلى الحرام ، وقيل : لا تُسْرِفُوا وقيل : هو جَبُّ المذاكيرِ ، وجعل تَحْرِيم الطَّيِّبَات اعتِدَاءً وتَعَدٍّ عما أحلَّهُ اللَّهُ ، فنهى عن الاعتِدَاء؛ ليدخل تَحْتَ النَّهْيِ عن تحريمهَا .
قوله تعالى : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً } .
في نصب « حَلاَلاَ » : ثلاثة أوجه :
أظهرُها : أنه مفعولٌ به ، أي : كُلُوا شَيْئاً حلالاً ، [ وعلى هذا الوجه ، ففي الجَارِّ ، وهو قوله : « مِمَّا رَزَقَكُمْ » وجهان :
أحدهما : أنه حالٌ من « حَلاَلاً » ؛ ] لأنه في الأصل صفةٌ لنكرَةٍ ، فلمَّا قُدِّم عليها ، انتصبَ حالاً .
والثاني : أنَّ « مِنْ » لابتداء الغاية في الأكْل ، أي : ابتدِئُوا أكْلَكُمْ الحلالَ من الذي رزَقَهُ الله لكُمْ .
الوجه الثاني من الأوجه المتقدِّمة : أنه حالٌ من الموصول أو من عائده المحذوف ، أي : « رَزَقَكُمُوهُ » فالعاملُ فيه « رَزَقَكُمْ » .
الثالث : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، أي : أكْلاً حلالاً ، وفيه تجوُّزٌ .
وقال : { كلوا مما رزقكم الله } ولَمْ يَقُلْ : ما رزقكم؛ لأنَّ « مِنْ » للتَّبْعِيضِ ، فكأنَّه قال : اقْتَصِرُوا في الأكْلِ على البَعْضِ واصرفُوا البَقِيَّةَ إلى الصَّدقَاتِ والخَيْرَاتِ ، وأيضاً إرْشَاد إلى تَرْكِ الإسْرَاف ، كقوله : { وَلاَ تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] .
قال عبدُ الله بن المُبَارَك - رضي الله عنه - : الحَلاَلُ ما أخَذْتَهُ من وجهه ، والطَّيِّبُ : ما غُذِيَ وأنْمِي .
فأمَّا الجَوَامِدُ : كالطِّينِ والتُّرَابِ وما لا يُغذِّي ، فمكرُوه إلاَّ على وجْهِ التَّدَاوِي .
قالت عَائِشَة - رضي الله عنها - : « كان النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يُحِبُّ الحَلْوَاءَ والعَسَلَ » .
قوله تعالى : « اتَّقُوا اللَّهَ » تأكيد للوصيَّةِ بما أمَرَ به ، وزادَهُ تَأكِيداً بقوله تعالى : { الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } ؛ لأنَّ الإيمان به يُوجِبُ التَّقْوَى في الانْتِهَاء .

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

وهذا النَّوْعُ الثَّانِي من الأحْكام المذْكُورَةِ ، ووَجْهُ المُنَاسَبَةِ بَيْنَ هذا الحُكْم والَّذِي قَبْلَهُ حتى حَسُنَ ذِكْرُهُ عَقِيبَهُ ، أنَّا ذكرنَا أنَّ سبب نزول الآية : أنَّ قوماً من الصَّحابَةِ - رضي الله عنهم أجمعين - حرَّموا على أنْفُسِهِمُ المطاعِمَ والمَلاَذَّ ، واخْتَارُوا الرَّهْبَانِيَّةَ ، وحَلَفُوا على ذلك ، فلما نَهَاهُمُ اللَّهُ تعالى عنْ ذلك قالُوا : يا رسُول اللَّه ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ بأيْمَانِنَا؟ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة ، وقدْ تقدَّم إعرابُ نَظيرهَا في البَقَرةِ واشْتِقَاق مُفْرَدَاتِها .
قوله تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } .
قرأ حمزة والكسائيُّ وأبو بكْرٍ عن عاصم : « عَقَدتُمْ » بتخفيف القاف دون ألف بعد العين ، وابن ذَكْوَان عن ابن عامر : « عَاقَدتُّمْ » بزنة « فاعَلْتُمْ » والباقون : « عَقَّدتُّمْ » بتشديد القاف ، فأمَّا التخفيفُ ، فهو الأصل ، وأمَّا التشديدُ ، فيحتمل أوجهاً :
أحدها : أنه للتكثير؛ لأنَّ المخاطبَ به جماعةٌ .
والثاني : أنه بمعنى المجرَّدِ ، فيوافِقُ القراءة الأولى ، ونحوه : قَدَّرَ وقَدَرَ .
والثالث : أنه يَدُلُّ على توكيد اليمين ، نحو : « واللَّهِ الَّذِي لا إلهَ إلاَّ هُوَ » .
والرابع : أنه يدلُّ على تأكيد العزم بالالتزام .
الخامس : أنه عِوَضٌ من الألف في القراءة الأخرى ، وقال شهاب الدين : ولا أدري ما معناه ولا يجوز أن يكون لتكرير اليمين ، فإنَّ الكفارةَ تَجِبُ ولو بمَرَّةٍ واحدةٍ .
وقد تَجَرَّأ أبو عُبَيْدٍ على هذه القراءةِ وزيَّفَها ، فقال : « التشديدُ للتكريرِ مرةً من بعد مرَّة ، ولستُ آمَنُ أن تُوجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفَّارةِ في اليمينِ الواحدة؛ لأنها لم تُكَرَّرْ » . وقد وَهَّموه الناسُ في ذلك ، وذكروا تلك المعاني المتقدِّمة .
وأجَاب الواحِدِي بوجْهَيْن :
الأول : أنَّ بعضَهُم قال : عَقَدْتُم بالتَّخفيفِ وبالتَّشْديدِ واحدٌ في المعنى .
والثاني : هَبْ أنَّها تُفِيدُ التكرير ، كَمَا في قوله تعالى : { وَغَلَّقَتِ الأبواب } [ يوسف : 23 ] ، إلاَّ أنَّ هذا التكريرَ يحصل بأن يَعْقِدَهَا بقَلْبِهِ ولِسَانِه ، ومتَى جَمَعَ بَيْنَ القَلْبِ واللِّسَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّكْرِيرُ ، أمَّا لَوْ عُقِدَ اليَمِينُ بأحَدِهِمَا دُونَ الآخَر لَمْ يَكُن منعقداً لَهَا فَسَلِمَتِ القِرَاءَةُ تِلاوَةً ولِلَّهِ الحَمْدُ .
وأمَّا « عَاقَدَتْ » ، فيُحتملُ أن تكون بمعنى [ المجرَّد نحو ] : « جَاوَزْتُ الشَّيْءَ وَجُزْتُهُ » ، وقال الفارسيُّ : « عَاقَدتُمْ » يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون بمعنى « فَعَلَ » ، كطَارَقْتُ النَّعْلَ ، وعَاقَبْتُ اللِّصَّ .
والآخر : أن يُرَادَ به « فاعَلْتُ » التي تقتضي فاعلين؛ كأن المعنى : بما عَاقَدتُّمْ علَيْهِ الأيْمَانَ ، عَدَّاه ب « عَلَى » لمَّا كان بمعنى عَاهَدَ ، قال : { بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله } [ الفتح : 10 ] ؛ نحو : { نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 58 ] ب « إلَى » ، وبابُها أن تقول : نَادَيْتُ زَيْداً؛ نحو : { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور } [ مريم : 52 ] لمَّا كانت بمعنى دَعَوْتُ إلى كذا ، قال : { مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } [ فصلت : 33 ] ثم اتُّسِعَ فحُذِفَ الجارُّ ، ونُقِلَ الفعلُ إلى المفعْول ، ثم حُذِفَ من قوله :

{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] ، قال شهاب الدين : يريد - رحمه الله - أن يبيِّنَ معنى « المُفَاعَلَةِ » ، فأتى بهذه النظائر للتضمين ، ولحذفِ العائدِ على التدريج ، والمعنى : بِمَا عَاقَدتُّمْ عليه الأيْمَانَ ، وعاقَدَتْكُمُ الأيْمَانُ عليه ، فنَسَبَ المعاقَدَةَ إلى الأيْمَانِ مجازاً ، ولقائل أن يقول : قد لا نَحْتَاجُ إلى عائدٍ حتَّى نحتاجَ إلى هذا التكلُّفِ الكثير ، وذلك بأن نجعل « مَا » مصدريةً ، والمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُه : بِمَا عَاقَدتُّمْ غيْرَكُمُ الأيْمَانَ ، أيْ : بمُعَاقدتِكُمْ غيرَكُمُ الأيْمَانَ ، ونخلُصُ من مجازٍ آخر ، وهو نسبةُ المعاقدةِ إلى الأيمان؛ فإنَّ في هذا الوجه نسبة المعاقَدَةِ للغَيْرِ ، وهي نسبةٌ حقيقية ، وقد نَصَّ على هذا الوجه - جماعةٌ .
قالُوا : « مَا » مَعَ الفِعْلِ بِمَنْزِلةِ المصْدَرِ ، ولكِن يُؤاخِذُكُم بِعَقْدِكُمْ ، أوْ بِتَعْقِيدِكُمْ ، أو بِمُعَاقَدَتِكُم الأيْمَان إذا خنتم ، فحذف وقتاً لمؤاخَذَة؛ لأنَّه مَعْلُومٌ ، أو يَنْكُثُ ما عَاقَدْتُمْ ، فَحَذَفَ المُضَافَ .
وقد تعقَّبَ أبو حيان على أبي عليٍّ كلامَهُ؛ فقال : « قوله : إنَّه مثل » طارَقْتُ النَّعْلَ « و » عَاقَبْتُ اللِّصَّ « ، ليس مثله؛ لأنَّك لا تقول : طَرَقْتُ ولا عَقَبْتُ ، وتقول : عاقدتُّ اليمينَ ، وعقدُّهَا » ، وهذا غيرُ لازم لأبي عليٍّ؛ لأنّ مرادَه أنه مثلُه من حَيْثُ إنَّ « المُفَاعَلَةَ » بمعنى أن المشاركة من اثنين منتفيةٌ عنه؛ كانتفائها من عاقَبْتُ وطارَقْتُ ، أمَّا كونُه يقالُ فيه أيضاً كذا ، فلا يضُرُّه ذلك في التشبيه ، وقال أيضاً : « تقديرُه حذف حَرْفِ الجرِّ ، ثم الضمير على التدرُّج - بعيدٌ ، وليس بنظيرِ : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] ؛ لأن » أمَرَ « بتعدَّى بنفسِه تارةً ، وبحرف الجرِّ أخرى ، وإن كان الأصلُ الحَرْفَ ، وأيضاً ف » مَا « في » فَاصْدَعْ بِمَا « لا يتعيَّن أن تكون بمعنى » الَّذي « بل الظاهر أنها مصدريَّةٌ ، [ وكذلك ههنا الأحسنُ : أن تكون مصدريةً ] لمقابلتها بالمصْدرِ ، وهو اللَّغْوُ » .
قال الوَاحِدِي : يُقَالُ : عَقَدَ فلانٌ اليمينَ والعهدَ والحبلَ عَقْداً ، إذَا وكَّده وأحْكَمَهُ ، ومثل ذلك أيضاً « عَقَّدَ » بالتَّشْديد إذا وكَّدَ ، ومثله : عَاقَد بالألفِ .
وقد تقدم الكلامُ في سورة النِّساء عند قوله تعالى : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ الآية : 33 ] و « عاقَدت » ، وذُكِرَ في هذه ثلاثُ قراءاتٍ في المشْهُور ، وفي تِيكَ قراءتانِ ، وقد تقدم في النساء أنه رُوِيَ عن حمزة : « عَقَّدَتْ » بالتشديد فيكون فيها أيضاً ثلاثُ قراءاتٍ ، وهو اتفاقٌ غريبٌ ، فإنَّ حمزة من أصحابِ التخفيفِ في هذه السورة ، وقد رُوِيَ عنه التثقيلُ في النساء .
والمرادُ بقوله : « عقَّدتم ، وعاقَدْتُم » أي : قَصَدْتُم وتَعمَّدْتُم ، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في سُورةِ البَقَرةِ .
قوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ } مبتدأ وخبر ، والضميرُ في « فَكَفَّارتُهُ » فيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه يعودُ على الحِنْثِ الدَّالِّ عليه سياقُ الكلام ، وإنْ لم يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ ، أي : فكفَّارةُ الحِنْثِ .

الثاني : أنه يعود على « مَا » إنْ جَعَلْنَاهَا موصولةً اسميَّةً ، وهو على حذف مضافٍ ، أي : فكفارة نُكْثِهِ ، كذا قدَّره الزمخشريُّ .
والثالث : أنه يعودُ على العَقْدِ؛ لتقدُّمِ الفعْلِ الدالِّ عليه .
الرابع : أنه يعود على اليمين ، وإن كانت مؤنثة؛ لأنها بمعنى الحَلْفِ ، قالهما أبو البقاء ، وليسا بظاهَرْين .
و « إطْعَامُ » مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ، وهو مقدَّرٌ بحرفٍ وفعلٍ مبنيٍّ للفاعل ، أي : فكفَّارته أن يُطْعِمَ الحَانِثُ عشرة ، وفاعلُ المصدرِ يُحْذَفُ كثيراً ، ولا ضرورة تدعو إلى تقديره بفعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ ، أي : أن يُطْعَمَ عشرةٌ؛ لأنَّ في ذلك خلافاً تقدَّم التنبيه عليه؛ فعلى الأول : يكونُ محلُّ « عشرة » نصباً؛ وعلى الثاني : يكون محلُّها رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ ، ولذلك فائدةٌ تَظْهر في التابع ، فإذا قلت : « يُعْجِبُنِي أكْلُ الخُبْزِ » فإن قدَّرته مبنياً للفاعل ، فتتبع « الخُبْز » بالجرِّ على اللفظ ، والنَّصْبِ على المحلِّ ، وإنْ قَدَّرْتَه مبنيًّا للمفعول ، أتْبَعْتَهُ جرًّا ورفعاً ، فتقول : « يُعْجِبُني أكْلُ الخُبْزِ والسَّمْنِ والسَّمْنَ والسَّمْنُ » ، وفي الحديث : « نَهَى عن قَتْلِ الأبْتَرِ وذُو الطُّفَيَتَيْنِ » برفع « ذُو » على معنى : أنْ يُقْتَلَ الأبْتَرُ ، قال أبو البقاء : « والجَيِّدُ أن يُقَدَّرَ - أي المصدرُ - بفعلٍ قد سُمِّي فاعلُه؛ لأنَّ ما قبله وما بعده خطاب » ، يعني : فهذه قرينةٌ تُقَوِّي ذلك؛ لأنَّ المعنى : فكفَّارَتُهُ أنْ تُطْعِمُوا أنْتُمْ أيها الحَالِفُونَ ، وقد تقدم أنَّ تقديره بالمبنيِّ للفاعلِ هو الراجحُ ، ولو لم تُوجَدُ قرينةٌ؛ لأنه الأصلُ .
قوله تعالى : « مِنْ أوسطِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه في محلِّ رفعِ خبراً لمبتدأ محذوفٍ يبيِّنه ما قبله ، تقديرُه : طعامُهُمْ مِنْ أوسطِ ، ويكون الكلامُ قد تَمَّ عِنْدَ قوله : « مَسَاكِينَ » ، وسيأتي له مزيد بيان قريباً إن شاء الله تعالى .
والثاني : أنه في موضعِ نصْبٍ؛ لأنه صفةٌ للمفعول الثاني ، والتقديرُ : قوتاً أو طعاماً كائناً من أوسطِ ، وأما المفعولُ الأوَّل فهو « عَشَرَة » المضافُ إليه المصدرُ ، و « مَا » موصولةٌ اسميَّةٌ ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : من أوْسَطِ الذي تطعمُونَهُ ، وقَدَّره أبو البقاء مجروراً ب « مِنْ » ، فقال : « الَّذِي تُطْعَمُونَ مِنْهُ » ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ من شرط العائد المجرورِ في الحذف : أنْ يتَّحِدَ الحرفانِ والمتعلَّقانِ ، والحرفان هنا ، وإن اتفقا وهما « مِنْ » و « مِنْ » إلا أنَّ العامل اختلف؛ فإنَّ « مِن » الثانيةَ متعلِّقةٌ ب « تُطْعِمُون » ، والأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ ، وهو الكون المطلقُ؛ لأنها وقعت صفة للمفعول المحذوف ، وقد يقالُ : إنَّ الفعلَ لَمَّا كان مُنْصَباً على قوله : « مِنْ أوْسَطِ » ، فكأنه عاملٌ فيه ، وإنما قدَّرْنَا مفعولاً لضرورة الصِّناعة ، فإن قيل : الموصولُ لم ينجرَّ ب « مِنْ » إنما انجرَّ بالإضافةِ ، فالجوابُ : أنَّ المضافَ إلى الموصول كالموصولِ في ذلك؛ نحو : « مُرَّ بِغُلامٍ الَّذي مَرَرْتُ » .

و « أهلِيكُمْ » مفعولٌ أول ل « تُطْعِمُونَ » ، والثاني محذوفٌ؛ كما تقدم ، أي : تُطْعِمُونَهُ أهْلِيكُمْ ، و « أهْلِيكُمْ » جمعُ سلامةٍ ، ونَقَصَهُ من الشروط كونُه ليس عَلَماً ولا صفةً ، والذي حسَّن ذلك : أنه كثيراً ما يُستعملُ استعمال « مُسْتَحِقٌّ لِكَذَا » في قولهم : « هُوَ أهْلٌ لِكَذَا » ، أي : مُسْتَحِقٌّ له ، فأشبه الصفاتِ ، فجُمِعَ جمعَها ، وقال تعالى : { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } [ الفتح : 11 ] { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] ، وفي الحديث : « إنَّ لله أهلينَ » قيل : يا رسُول الله : مَنْ هُمْ؟ قال : « قُرَّاء القرآن هم أهلُو الله وخاصَّتُه » ، فقوله : « أهلُو الله » جمعٌ حُذِفَتْ نونُه للإضافة ، ويُحتمل أن يكون مفرداً ، فيكتب : « أهْلُ الله » ، فهو في اللفظِ واحدٌ .
وقرأ جَعْفَرٌ الصَّادقُ : « أهَالِيْكُمْ » بسكونِ الياء ، وفيه تخريجانِ :
أحدهما : أنَّ « أهَالِي » جمعُ تكسيرٍ ل « أهْلَة » ، فهو شاذٌّ في القياس؛ ك « لَيْلَةٍ وليالٍ » ، قال ابنُ جِني : « أهَالٍ » بمنزلةِ « لَيَالٍ » واحدها أهلاَة ولَيْلاَة ، والعربُ تقول : أهْلٌ وأهْلَة؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
2047- وَأهْلَةِ وُدٍّ سُرِرْتُ بِوُدِّهِمْ .. .
وقياسُ قولِ أبي زيدٍ : أن تجعله جمعاً لواحدٍ مقدَّرٍ؛ نحو : أحَادِيث وأعَارِيض ، وإليه يشير قولُ ابن جنِّي : « أهالٍ بمنزلة ليالٍ واحدُها أهلاة وليْلاَة » ، فهذا يحتمل أن يكونَ [ بطريق ] السماعِ ، ويحتملُ أن يكون بطريقِ القياس؛ كما يقول [ أبو زيد .
والثاني : أنَّ هذا اسمُ جمعٍ ل « أهْلٍ » قال الزمخشريُّ : « كَالليالي في جمع لَيْلَة والأرَاضِي في جمع أرْضٍ » ] . قوله « في جَمْعِ لَيْلَةٍ ، وجمعِ أرضٍ » أرادَ بالجمعِ اللغويَّ؛ لأنَّ اسمَ الجمع جمعٌ في المعنى ، ولا يريد أنه جمعُ « لَيْلَة » و « أرْض » صناعةً؛ لانه قد فَرَضَه أنه اسمُ جمعٍ ، فكيف يجعلُه جمعاً اصطلاحاً؟ .
وكان قياسُ قراءةِ جعفرٍ تحريكَ الياءِ بالفتحة؛ لخفَّتها ، ولكنه شَبَّه الياء بالألف ، فقدَّر فيها الحركةَ ، وهو كثيرٌ في النظْمِ؛ كقول النابغة : [ البسيط ]
2048- رَدَّتْ عَلَيْهِ أقَاصِيهِ وَلَبَّدَهُ ... ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بِالْمِسْحَاةِ في الثَّأدِ
وقول الآخر : [ الرجز ]
2049- كَأنَّ أيْديهِنَّ بِالْقَاعِ القَرِقْ ... أيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الوَرِقْ
وقد مضى ذلك .
فصل
اختَلَفُوا في قَدْرِ هذا الإطعامِ ، فقالَ قَوْمٌ : يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُداً من طعام بمُدِّ النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهو رَطلٌ وثُلُثٌ مِنْ غالبِ قُوتِ البَلْدَة ، وكذَلِكَ في جَمِيعِ الكفَّارَاتِ ، وهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثابتٍ ، وابْن عبَّاس ، وابن عُمَر - رضي الله عنهم - ، وبه قال سعيدُ بْنُ المُسَيِّب والحَسَن والقَاسِم ، وسُلَيْمَان بنُ يَسَار ، وعطاء ، والشَّافِعيُِّ - رضي الله تعالى عنهم - وقال أهْلُ العِرَاقِ : عليه لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ - وهو نصف صاع ، ويُرْوَى ذلِكَ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ - رضي الله عنهما - .

وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : إنْ أطعم من الحِنْطَةِ فنِصْفُ صَاعٍ ، وإنْ أطعم من غيرها فصاعٌ ، وهو قول الشَّعْبِيِّ ، والنَّخْعِيِّ ، وسعيد بن جُبَيْرٍ ، ومُجَاهِد ، والحكم - رحمهم الله - ولو غدَّاهم وعشَّاهُمْ لا يجُوزُ ، وجوَّزهُ أبُو حنيفةَ - رضي الله عنه - ، ويُروَى ذَلِكَ عن عليٍّ - رضي الله عنه - ، ولا يَجُوزُ الدَّرَاهِمُ و الدَّنَانِيرُ ، ولا الخُبْزُ ، والدَّقِيقُ ، بل يَجِبُ إخْرَاجُ الحَبِّ إليْهِم ، وجوَّز أبُو حنيفةَ - رضي الله عنه - كُلَّ عشرةٍ إلى مسكينٍ واحدٍ في عشرة أيام ولا يَجُوزُ أن يُصرَف إلا إلى مُسْلِمٍ حر مُحْتَاج ، فإن صُرِفَ إلى ذِمِّيٍّ أوْ عَبْدٍ أو غَنِيٍّ لَمْ يَجُزْ ، وجوَّز أبُو حنيفةَ صرْفَهُ إلى أهْلِ الذَّمَّةِ ، واتَّفَقُوا على أنَّ صَرْفَ الزَّكَاةِ إلى أهْلِ الذَّمَّة لا يَجُوزُ .
فصل
واختلفُوا في الوسط .
فقيل : مِنْ خَيْر قُوتِ عيالِكُمْ ، والوسَطُ : الخُبْزُ [ وتقدم في البقرة في ] قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] .
وقال عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ : الأوْسَطُ الخُبْزُ والْخَلُّ ، والأعلى الخُبْزُ واللَّحْم ، والأدْنَى الخُبْزُ البحْتُ ، والكُلُّ يُجْزِئُ .
قوله تعالى : « أوْ كِسْوَتُهُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه نَسَقٌ على « إطْعَام » ، أي : فكفارتُه إطعامُ عشرةٍ أو كسْوَة تلك العشرة .
والثاني : أنه عطفٌ على محلِّ « مِنْ أوْسَط » [ وهو أن يكون « مِنْ أوسط » خبراً لمبتدأ محذوفٍ يدُلُّ عليه ما قبله ، تقديرُه : طعامُهُمْ مِنْ أوْسَط ] ، فالكلامُ عنده تامٌّ على قوله « عَشرةِ مساكِينَ » ، ثم ابتدأ إخباراً آخر بأن الطعام يكونُ من أوسط كذا وأمَّا إذا قلنا : إنَّ « مِنْ أوْسَطِ » هو المفعولُ الثاني ، فيستحيل عطف « كِسْوَتُهُمْ » عليه؛ لتخالفهما إعراباً .
وقرأ الجمهور : « كِسْوتُهُمْ » بكسر الكاف . وقرأ إبراهيمُ النخعيُّ وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ وسعيدُ بنُ المُسَيِّب بضمِّها ، وقد تقدَّم في البقرة [ الآية 233 ] أنهما لغتان في المصدر ، وفي الشيء المَكْسُوِّ ، قال الزمخشريُّ : « كالقِدْوَة في القُدْوَة ، والإسْوَة في الأسْوَة » إلا أن الذي قرأ في البقرة بضَمِّها هو طلحة فلم يذكُرُوه هنا ، ولا ذكَرُوا هؤلاء هناك .
وقرأ سعيدُ بن جُبَيْر وابنُ السَّميفع : « أوْ كأسْوتِهِمْ » بكاف الجر الداخلة على « أُسْوَة » قال الزمخشريُّ : « بمعنى : أو مِثْلُ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ ، إسْرَافاً أو تَقْتيراً ، لا تُنْقصونَهُمْ عن مقْدارِ نفقتِهِمْ ، ولكنْ تواسُونَ بينهم ، فإنْ قُلْتَ : ما محلُّ الكافِ؟ قلتُ : الرفعُ ، تقديرُه : أو طعَامُهُمْ كأسوتِهِمْ ، بمعنى : كَمِثْلِ طعامهم ، إن لَمْ يُطْعِمُوهُم الأوْسَطَ » . انتهى ، وكان قد تقدم أنه يجعل « مِنْ أوسَطِ » مرفوع المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوف ، فتكونُ الكاف عنده مرفوعةً؛ عطفاً على « مِنْ أوْسَطِ » ، وقال أبو البقاء قريباً من هذا؛ فإنه قال : « فالكاف في موضعِ رفعٍ أي : أو مِثْلُ أسْوَةِ أهْلِيكُمْ » ، وقال أبو حيان : « إنه في موضع نصْبٍ عطفاً على محلِّ : مِنْ أوْسطَ » ؛ لأنه عنده مفعولٌ ثان ، إلاَّ أنَّ هذه القراءة تنفي الكسْوةَ من الكَفَّارةِ ، وقد أجمعَ الناسُ على أنها إحدى الخصَالِ الثلاثِ ، لكن لصاحب هذه القراءة أن يقول : « اسْتُفيدتِ الكسْوةُ من السُّنَّةِ » ، أمَّا لو قام الإجماعُ على أن مستندَ الكسْوَة في الكفَّارة من الآية؛ فإنه يَصِحُّ الردُّ على هذا القارئ .

والكِسْوَةُ في اللُّغَةِ معناهُ اللِّبَاسُ ، وهو كُلُّ ما يُكْتَسَى بِه .
فصل
كُلُّ مَنْ لَزمتْهُ كَفَّارَةُ يمينٍ فهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أطْعَمَ عشْرَة مساكين ، وإن شاءَ كَسَاهُم ، وإن شاء أعْتَقَ رقبَةً ، فإن اخْتَارَ الكِسْوَة ، فاخْتَلَفُوا في قدرهَا ، فذهبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ يَكْسُوا كُلَّ مِسْكينٍ ثوباً واحداً مِمَّا يَقَعُ عليه اسم الكِسْوَةِ ، إزَارٌ ، أوْ رِدَاءٌ ، أو قميصٌ ، أو سراويل ، أو عمامة مقَنَّعَة ، أو كِسَاء أو نَحْوها ، وهُو قولُ ابن عبَّاس والْحَسَن ومُجاهد وعطاء وطاوُس - رضي الله عنهم - ، وإليه ذهبَ الشَّافِعيُّ - رضي الله عنه - .
وقال مالك - رضي الله عنه - : يَجِبُ لِكُلِّ إنسان ما يجُوزُ فيه صلاتُهُ ، فيكْسُوا الرجُلَ ثَوْباً والمرْأةُ ثَوْبَيْن دِرْعاً وخِمَاراً .
وقال سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبُ : « لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبَان » .
قوله تعالى : { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } عطف على « إطعامُ » وهو مصدر مضاف لمفعوله ، والكلامُ عليه كالكلام على [ « إطعامُ ] عشرَةِ » من جوازِ تقديره بفعلٍ مبنيٍّ للفاعل أو للمفعول وما قيل في ذلك ، [ وقوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } كقوله في النساء : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } [ النساء : 92 ] ] ، وقد تقدَّم ذلك .
فصل
المُرَادُ بالرَّقَبَةِ الجملة .
قيل : الأصْلُ في هذا المجازِ ، أنَّ الأسِير في العربِ كان يجمع إلى رقبتِهِ بحبْلٍ ، فإذا أطلقَ حلَّ ذلك الحَبْل ، فسُمِّيَ الإطلاقُ مِنَ الرَّقبَةِ فَكُّ رقبة ، وأجازَ أبُو حنيفَةَ والثَّوْرِي إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَة في جَميعهَا ، إلاَّ كَفارَة القَتْل؛ لأنَّ اللَّه تعالى قَيَّدَ الرَّقَبة فيها بالإيمان ، قُلْنَا : المُطْلَقُ يُحْمَلُ على المُقَيَّدِ ، كما أنَّ اللَّهَ تعالى قَيَّدَ الشَّهَادَة بالعَدَالَةِ في موضعٍ فقال تعالى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ الطلاق : 2 ] ، وأطلق في موضعٍ فقال تعالى : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } [ البقرة : 282 ] ، ثم العدالةُ مشروطةٌ في جميعها حَمْلاً للمُطْلَقِ على المُقَيَّدِ ، كذلك هذا .
ولا يجُوزُ إعْتَاقَ المُرْتَدِّ بالاتِّفَاقِ عن الكَفَّارة ، ويُشْتَرَطُ أن يكونَ سليمَ الرِّقِّ ، حتَّى لو أعْتَقَ عن كَفَّارتِهِ مُكَاتباً ، أوْ أمَّ ولدٍ ، أوْ عبداً اشْتَراه بِشَرْطِ العَتْقِ ، أو اشْتَرَى قَرِيبَهُ الذي يُعْتَقُ عليه بِنيَّةِ الكَفَّارة يعتق ، ولا يجُوزُ عن الكفَّارة .
وجوَّز أصْحَابُ الرَّأي عِتْق المُكَاتِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ أدَّى شيئاً من النُّجُومِ ، وعِتْق القَرِيبِ عن الكَفَّارة .

ويُشترطُ أن تكُون الرَّقَبَةُ سليمةً من كُلِّ عَيْبٍ يَضِرُّ بالعمل ضَرَراً بَيِّناً ، حتَّى لا يجُوزُ مَقْطُوع إحْدَى اليَدَيْنِ ، أو إحْدَى الرِّجْلَيْن ، ولا الأعمَى ، ولا الزَّمِن ، ولا المجْنُونُ المُطْبَقُ ، ويجُوزُ الأعْوَرُ ، والأصَمُّ والمقْطُوعُ الأُذَنَيْنِ ، والأنْفِ؛ لأنَّ هذهِ العُيُوبَ لا تَضِرُّ بالعَمَلِ إضْرَاراً بَيِّناً وعند أبي حنيفَة - رضي الله تعالى عنه - كُلُّ عَيْبٍ يُفَوَّتُ جِنْساً من المَنْفَعَةِ يَمْنَعُ الجَوازَ ، حَتَّى جوَّزَ مَقْطُوعَ إحْدَى اليَدَيْن ، ولم يجوِّز مَقْطُوعَ إحْدى الأذُنَيْنِ .
فصل
معنى الواجب المخيَّر : هُوَ أنَّهُ لا يَجِبُ عليه الإتْيان بكُلِّ واحدٍ من هذه الثلاثةِ ، ولا يجُوزُ له تَرْكُ جَميعها ، ومتى أتى بأيِّ واحدٍ من هذه الثلاثةِ خَرَجَ عن العُهْدَة ، فإذا اجْتَمَعَتْ هذه القُيُود الثلاثةُ ، فذلك هو الواجِبُ المُخَيَّرُ .
وقال بعض الفُقَهَاءِ : الواجِبُ واحدٌ لا بِعَيْنِه ، وهذا الكلامُ يَحْمِلُ أمْرَيْن :
الأوَّلُ : أنْ يُقَال : الواجِبُ عليه أن يُدخِلَ واحداً من هذه الثلاثة لا بِعَيْنِهِ ، وهذا مُحَالٌ في العُقُولِ؛ لأنَّ الشَيْء الذي يَكُونُ مُعَيَّناً في نَفْسِه يَكُونُ مُمْتَنِع الوُجُودِ لذاتِهِ ، وما كان كذلك ، فإنَّهُ لا يَرِدُ به التَّكْلِيف .
والثاني : أن يُقَال : الوَاجِبُ عليه واحدٌ مُعَيَّنٌ في نَفْسِهِ وفي عِلْم الله تعالى ، إلاَّ أنَّهُ مَجْهُولُ العيْنِ عند الفاعلِ ، وذلك أيْضاً مُحَالٌ؛ لأنَّ كون ذلك الشَّيْء واجباً بِعَيْنِه في عِلْم الله تعالى هو أنَّهُ لا يجُوزُ تَرْكُهُ بِحَالٍ ، واجْتَمَعتِ الأمَّةُ على أنَّهُ يجُوزُ له تركُهُ بتَقْييدِ الإتْيَان بِغَيْرِه ، والجَمْعُ بَيْنَ هذيْنِ القوْلَيْن جمعٌ بين النَّفي والإثْبَات ، وهُو مُحَال ، وتمامُ هذا البَحثِ مَذْكُورٌ في أصُولِ الفِقْه .
فإنْ قِيلَ : أيُّ فائدةٍ لِتَقْدِيمِ الإطعامِ على العِتْقِ مع أنَّ العتقَ أفْضَلُ؟ فالجوابُ من وُجُوه :
أحدها : أنَّ المقصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيه على أنَّ هذه الكَفَّارَة وَجَبَتْ على التَّخْيِير لا عَلَى التَّرْتيب ، لأنها لوْ وَجَبَتْ على التَّرْتِيبِ لوجَبَتِ البدَايَةُ بالأغْلَظِ .
وثانيها : قدَّم الإطعام؛ لأنَّه أسْهَلُ ، ولكَوْنِ الطَّعامِ أعمّ وُجُوداً ، والمقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ على أنَّهُ تعالى يُراعِي التَّخْفِيفَ والَّسْهِيلَ في التَّكالِيفِ .
وثالثها : أنَّ الإطعامَ أفْضَلُ؛ لأن الحُرَّ الفَقِيرَ قَدْ لا يَجِدُ طعاماً ، ولا يكونُ هُنَاكَ مَنْ يُعْطِيه الطَّعام ، فَيقعَ في الضُّرِّ .
وأمَّا العَبدُ فَيَجِبُ على مَولاَهُ إطعامُهُ وكِسْوَتُهُ .
قوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } إذا عَجزَ الذي لَزِمَتْهُ كفَّارةُ اليمينِ عَنِ الإطْعَامِ ، أو الْكِسْوَةِ ، أو تَحْرِيرِ رقبةٍ ، يجبُ عليهِ صوْمُ ثلاثةِ أيَّامٍ ، والعاجزُ ألا يَفْضُل من مالهِ عن قُوتِهِ ، وقُوتِ عيالِهِ وحاجَتِهِ ما يُطْعِمُ ، أو يَكْسُو ، أو يَعْتِقُ ، فإنَّهُ يصومُ ثلاثة أيام ، وقال بعضهم : إذا مَلكَ ما يمكنه الإطْعَامُ ، وإنْ لم يَفضُل عن كِفَايتِهِ ، فليس له صِيَامٌ ، وهو قوْلُ الحَسَن ، وسعيد بن جُبَيْر .
واختلفُوا في وجوب التَّتَابعُ في هذا الصِّيَام ، فذهب جماعةٌ إلى أنَّه لا يجب فيه التَّتَابُعُ ، بل إنْ شاء تابع وإن شاء فرَّقَ ، والتَّتَابعُ أفْضَلُ ، وهُو أحد قولي الشَّافِعِيِّ - رضي الله عنه - .

وذهب قوم إلى وُجوبِ التَّتَابع فيه ، قِيَاساً على كَفَّارةِ القَتْلِ والظِّهَارِ ، وهو قَوْلُ الثَّوْرِي وأبي حنيفةَ - رضي الله تعالى عنهما - وتدلُّ عليه قِرَاءة ابن مَسْعُود - رضي الله تعالى عنه - « فصِيَام ثلاثةِ أيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ » .
وأُجِيبُ : بأنَّ القراءةَ الشَّاذَّةَ مردُودَةٌ ، إذ لَوْ كانَتْ قُرْآناً ، لنُقِلَتْ نَقْلاً مُتَوَاتراً ، ولو جوَّزنا في القُرْآن ألا ينقل متواتراً ، لَزِمَ طَعْن الرَّوَافِضِ والملاحِدَة في القُرْآن ، وذلك بَاطِلٌ ، فعِلمْنَا أن القراءة الشَّاذَّة مردُودةٌ ، فلا تَصْلحُ أنْ تكون حُجَّةً .
وأيضاً نُقِلَ عن أبَيِّ بن كعب أنَّهُ قرأ : « فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر مُتَتَابِعَات » ، مع أنَّ التَّتَابع هُناكَ ما كان شَرْطاً وأجابُوا عَنْهُ أنَّهُ رُوِي عن النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - « أنَّ رَجُلاً قال لَهُ : عَلَيَّ أيَّامُ رمضانَ أفَأقْضِيهَا مُتفَرِّقاتٍ ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : » أرأيْتَ لوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَ الدِّرْهِمَ بِالدِّرْهَم أمَا كان يُجْزِيك؟ قال : بلَى قال : فاللَّه تعالى أحَقُّ أن يَغْفِرَ ويَصْفَحَ « وهذا الحَدِيثُ وإن وَقَعَ جواباً عن هذا السُّؤال في صَوْم رمضان ، إلاَّ أنَّ لَفْظَهُ عامٌّ ، وتَعْلِيلُهُ عَامٌّ في جَميعِ الصِّيَامَاتِ ، وقد ثبتَ في الأصُولِ أنَّ العِبْرة بعُمُوم اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السبب ، فهذا من أقوى الدَّلائلِ على جَوازِ التَّفْرِيق هاهُنَا .
قوله تعالى : { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } ، ذلك إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الإطْعَام والكِسْوَة ، وتحْرِيرِ الرَّقَبَة يُكفِّر عنكم حِنْثَ اليَمِين وقْتَ حَلْفِكُمْ و » إذَا حَلَفْتُمْ « قال أبو البقاء : » منصوبٌ على الظَّرْف وناصبُه « كَفَّارة » ، أي : ذلك الإطعامُ ، أو ما عُطِفَ عليه يُكَفِّر عنْكُمْ كَفَّارةُ « ، لكان صحيحاً بمعنى تلك الأشياء ، أو التأنيث للكفَّارة ، والمعنى : » إذَا حَلَفْتُمْ حَنْثْتُم ، فترك ذِكْرَ الحِنْثِ؛ لوقوع العلْمِ بأن الكفَّارة ، إنما تَجِبُ بالحِنْثِ بالحَلِفِ لا بنَفْسِ الحَلِفِ ، كقوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] أي : فأفْطَرَ « . ؟ ولا بد من هذا الذي ذكره الزمخشريُّ ، وهو تقديرُ الحِنْثِ ، ولذلك عِيبَ على أبي البقاء قوله : » العَامِلُ في « إذَا » كفارةُ أيْمانِكُمْ؛ لأن المعنى : ذلك يُكَفِّرُ أيْمَانكُمْ وَقْتَ حَلْفِكُمْ « ، فقيل له : الكفَّارةُ ليستْ واقعةً في وقْتِ الحَلْفِ ، فكيف يَعْمَلُ في الظرْفِ ما لا يقعُ فيه؟ وظاهرُ الآية أنَّ » إذَا « متمحِّضَة للظرفيَّةِ ، وليس فيها معنى الشرطِ ، وهو غيرُ الغالبِ فيها ، وقد يجوزُ أن تكون شرطاً ، ويكونُ جوابُها محذوفاً على قاعدةِ البصريِّين يدُلُّ عليه ما تقدَّم ، أو هو نفسُ المتقدِّم عند أبي زَيْدٍ والكوفيين ، والتقدير : إذا حَلَفْتُمْ وحَنِثْتُم ، فذلك كفارةُ إثْمِ أيْمَانِكُمْ؛ كقولهم : » أنْتَ ظَالِمٌ إنْ فَعَلْتَ « .

فصل
اخْتَلَفُوا في تقديم الكَفَّارة على الحنْثِ؛ فذَهَبَ قَوْمٌ إلى جَوَازِهِ لقَوْل النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : « من حَلَفَ بِيَمِينٍ ، فَرأى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا ، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلْيَفْعَل الذي هُو خَيْر » وهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَر ، وابْنِ عبَّاس وعائِشَة - رضي الله عنهم - وبه قال الحَسَنُ وابنُ سيرين ، وإليه ذهبَ مالِكٌ ، والأوْزَاعِيُّ ، والشَّافعيُّ - رضي الله عنهم - ، إلاَّ أنَّ الشَّافعيَّ يقُولُ : إن كَفَّرَ بالصَّوْمِ قبل الحنْثِ لا يَجُوزُ ، لأنه بدَنِيٌّ ، إنَّمَا يجوزُ الإطْعَامُ والكسْوَة والعِتْقُ؛ لأنَّه مَالِيٌّ ، فأَشْبَه تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ ، كما يجُوزُ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ على الحَوْل ، ولا يجُوزُ تَعْجِيلُ صَوْمِ رمضانَ .
قالوا : وقوله : « إذَا حَلَفْتُم » فيه دَقِيقَةٌ ، وهو التَّنْبِيهُ على أنَّ تقْدِيم الكَفَّارة قبْل اليَمِين لا يجُوز ، وأمَّا بعد اليمين وقبل الحنْثِ فيجُوز ، لانعِقَادِ سببها وهو اليمينُ ، فصارت كمِلْكِ النِّصاب .
وقال أبو حنيفةَ - رضي الله عنه - : لا يجُوزُ تقديم الكَفَّارَة على الحنْثِ .
قوله تعالى : { واحفظوا أَيْمَانَكُمْ } قيل : المرادُ به تَرْكُ الحَلْفِ ، أي : لا تحلِفُوا ، وقِيل : المُرَادُ تَقْلِيلُ الأيْمان ، أي : لا تُكثِروا مِنْهَا .
قال الشَّاعر : [ الطويل ]
2050- قَليلُ الأَلايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... فإنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الألِيَّةُ بَرَّتِ
والصحيحُ : أنَّ المُرَادَ : حِفْظُ اليمينِ على الحنْثِ ، هذا إذا لم يكن حلف بِيَمينِهِ على ترْكِ مَنْدُوبٍ أو فعلٍ مكرُوهٍ ، فإن حَلَفَ على تَرْكِ مَنْدُوبٍ أو فِعْلِ مَكْرُوهٍ ، فالأفْضَلُ أن يُحنِثَ نَفْسَهُ ويُكَفِّر للحَدِيثِ المُتقدِّم .
قوله تعالى : « كَذِلِكَ » هذه الكاف نعتٌ لمصدر محذوف عند جماهير المُعْربين ، أي : يبيِّن الله آياته تبييناً مثل ذلك التبيين ، وعند سيبويه أنه حالٌ من ضميرِ ذلك المصْدَرِ على ما عُرِفَ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

هذا هو النَّوْعُ الثَّالثُ من الأحْكَامِ المذكُورَةِ هُنَا ، ووجهُ اتِّصاله بما قبله ، أنَّه - تعالى - قال : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] ، إلى قوله تعالى : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً } [ المائدة : 88 ] ، ثم كان من جُمْلَةِ الأمُورِ المستَطَابَة للجُمْهُورِ الخَمْرُ والمَيْسِرُ ، فبيَّن الله - تعالى - أنَّهُمَا غير دَاخِلَيْن في المُحَلَّلات ، بل في المُحرَّمَات ، وقد تقدَّم بَيَانُ الخَمْرِ والمَيْسِر في سُورة البَقرَة [ البقرة 219 ] ، وبيان الأنْصَاب والأزلام في أوَّل هذه السُّورة [ المائدة 3 ] .
وفي اشتِقَاقَ الخَمْرِ وجهان :
أحدهما : سُمِّيَ خَمْراً لِمُخَامَرَته العقل ، أي : خَالَطَتْهُ فَسَتَرَتْهُ .
الثاني : قال ابنُ الأعْرَابِي : تُرِكَتْ فاخْتَمَرَتْ ، أي : تَغَيَّر رِيحُهَا .
فصل
قال القُرْطُبِي : تحريمُ الخَمْرِ كان بالتَّدْرِيج ونَوازِلَ كَثِيرة ، لأنَّهُمْ كانوا مُولَعِينَ بشُرْبِهَا ، وأوَّلُ ما نزلَ في أمْرِهَا : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] ، أي : في تِجَارَتِهِم ، فلما نَزلَتْ هذه الآيةُ تركَهَا بَعْضُ النَّاس ، وقالُوا : لا حَاجَةَ لنا فِيمَا يَشْغَلُنَا عَنِ الصلاة ، وشَرِبَهَا بَعْضُهُمْ في غَيْرِ أوقاتِ الصَّلاة ، حتى نَزَلَتْ هذه الآيَةُ ، فصارتْ حَرَاماً عَلَيْهم ، وذلك في ستة ثلاث من الهِجْرَة بعد وَقْعَةِ أُحُد .
قوله تعالى : « رجسٌ » : خبرٌ عن هذه الأشياء المتقدِّمة ، فيقال : كيف أخبر عن جَمْع بمفردٍ؟ فأجاب الزمخشريُّ بأنه على حَذْف مضافٍ ، أي : إنما شأنُ الخَمْرِ ، وكذا وكذا ، ذكر ذلك عند تعرُّضِه للضَّميرِ في « فاجْتَنِبُوهُ » كما سيأتي ، وكذا قدَّره أبو البقاء ، فقال : « لأنَّ التقدير : إنما عَمَلُ هذه الأشياء » . قال أبو حيان بعد حكايته كلامَ الزمخشريِّ : ولا حاجة إلى هذا ، بل الحكم على هذه الأربعة نفسها أنَّها رِجْسٌ أبلغُ من تقدير هذا المضاف؛ كقوله : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وهو كلامٌ حسن ، وأجاب أبو البقاء أيضاً بأنه يجوزُ أن يكونَ « رِجْسٌ » خبراً عن « الخَمْر » ، وحُذِفَ خبرُ المعطوفاتِ؛ لدلالةِ خبر الأولِ عليها ، قال شهاب الدين : وعلى هذا : فيجوزُ أن يكونَ خبراً عن الآخر ، وحُذِفَ خبرُ ما قبله؛ لدلالةِ خبر ما بعده عليه؛ لأنَّ لنا في نحو قوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] هذين التقديرين ، وقد تقدَّم تحقيقُهما مراراً .
والرجسُ قال الراغب : « هو الشيْءُ القَذِرُ ، رجلٌ رِجْسٌ ، ورِجَالٌ أرْجَاسٌ » ، ثم قال : « وقيل : رِجْسٌ ورِجْزٌ للصَّوْت الشديد ، يقال : بَعِيرٌ رَجَّاسٌ : شديدُ الهدير ، وغمامٌ راجِسٌ ورجَّاسٌ : شديدُ الرعْد » ، وقال الزجَّاج : هو اسمٌ لكلِّ ما استُقْذِرَ من عمل قبيحٍ ، يقال : رَجِسَ ورَجَسَ بكسر الجيم وفتحها يَرْجُسُ رِجْساً إذا عمل عملاً قبيحاً ، وأصله من الرَّجْسِ بفتح الراء ، وهو شدة صوت الرعد؛ قال : [ الرجز ]

2051- وَكُلُّ رَجَّاسٍ يَسُوقُ الرَّجْسَا ... وفرَّق ابن دُرَيْدٍ بين الرِّجْسِ والرِّجْزِ والرِّكْسِ ، فجعل الرِّجْسَ : الشرَّ ، والرِّجْزَ : العذابَ ، والرِّكْسَ : العَذِرةَ والنَّتْنَ ، ثم قال : « والرِّجْسُ يقال للاثْنَيْنِ » ، فتحصَّلَ من هذا؛ أنه اسمٌ للشيءِ القَذِرِ المنتنِ ، أو أنه في الأصل مصدرٌ .
وقوله تعالى : { مِّنْ عَمَلِ الشيطان } في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل « رِجْس » .
وهذا أيْضاً مُكَمِّلٌ لكونِهِ رجْساً؛ لأنَّ الشَّيطان نَجْسٌ خَبِيثٌ؛ لأنه كَافِرٌ ، والكَافِرُ نَجسٌ لقوله تعالى { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] والخبيث لا يَدْعُو إلاَّ إلى الخَبِيثِ لقوله تعالى : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ } [ النور : 26 ] والهاء في « فَاجْتَنِبُوهَ » تعودُ على الرِّجْس ، أي : فاجتنبُوا الرِّجْسَ الذي أخْبَرَ به مما تقدَّم من الخَمْر وما بعدها ، وقال أبو البقاء : « إنها تعود على الفِعْلِ » ، يعني الذي قدَّره مضافاً إلى الخَمْر وما بعدها ، وإلى ذلك نحا الزمخشريُّ أيضاً ، قال : « فإنْ قلتَ : إلامَ يَرْجِعُ الضميرُ في قوله : فاجتنبُوهُ؟ قلت : إلى المضافِ المحذوفِ ، أو تعاطيهمَا ، أو ما أشبه ذلك ، ولذلك قال : رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطَانِ » ، وقد تقدَّم أن الأحْسَنَ : أن هذه الأشياء جُعِلَتْ نفسَ الرِّجْسِ مبالغةً .
قوله تعالى : « فِي الخَمْرِ » : فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب « يُوقِعَ » ، أي : يُوقعَ بينكم هذين الشيئينِ في الخمر ، أي : بسبب شرْبها ، و « في » تفيد السسببيةَ؛ كقوله عليه السَّلام : « إنَّ امرأةً دخلتِ النَّارَ في هِرَّةٍ » .
الثاني : أنها متعلِّقة بالبغضاء؛ لأنه مصدر معرف ب « ألْ » .
الثالث : أنه متعلقٌ ب « العداوة » ، وقال أبو البقاء : « ويجوزُ أن تتعلَّق » في « بالعداوة ، أو ب » البَغْضَاء « ، أي : [ أنْ ] تَتَعادَوْا وأنْ تَتَبَاغَضُوا بسبَبِ شُرْبِ الخَمْرِ » ؛ وعلى هذا الذي ذكره : تكونُ المسألةُ من باب التنازعِ ، وهو الوجهُ الرابع ، إلاَّ أنَّ في ذلك إشكالاً ، وهو أنَّ من حقِّ المتنازعين؛ أن يصلُحَ كلٌّ منهما للعملِ ، وهذا العاملُ الأولُ ، وهو العداوة ، لو سُلِّط على المتنازعِ فيه ، لزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبيٍّ وهو المعطوف ، وقد يقال : إنه في بعضِ صُورِ التنازع يُلْتَزَمُ إعمالُ الثاني ، وذلك في فِعْلَي التعجُّبِ ، إذا تنازعا معمولاً فيه ، وقد تقدَّمَ مُشْبَعاً في البقرة .
فصل في مفاسد الأشياء المذكورة في الآية
اعلم أنَّه تعالى لمّا أمَرَ باجْتِنَابِ هذه الأشياءِ ، ذكر فِيهَا نوعَيْنِ من المَفْسَدَة :
الأول : ما يتعلَّقُ بالدُّنْيَا وهُوَ قولُهُ تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر } .
والثاني : المَفْسَدَةُ المُتعلِّقَةُ بالدِّين ، وهو قولُهُ تعالى : { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة } .
فأمَّا شَرْحُ هذه العداوة [ والبغضاء أولاً في الخَمْر ثمَّ في المَيْسِر ] : وأمَّا الخَمْرُ ، فاعْلَم : أنَّ الظَّاهر فيمَنْ يَشْرَبُ الخَمْرَ ، أنَّه يَشْرَبُهَا مع جَمَاعةٍ ، ويكونُ غَرَضُهُ الاسْتِئْنَاس برُفَقَائِهِ ، ويفرحُ بِمُحَادثَتِهمْ ، ويكون بذلك الاجْتِمَاع تأكيدُ المَحَبَّةِ والألْفَةِ ، إلاَّ أنَّ ذلِكَ في الأغْلَبِ ينقلبُ إلى الضِّدِّ؛ لأنَّ الخَمْرَ يُزيلُ العَقْلَ ، وإذا أزَالَ العَقْلَ اسْتَوْلَتِ الشَّهْوَةُ والغَضَبُ من غير مُدَافَعَةِ العقل ، وعند اسْتِلائِهما تَحْصُلُ المُنازَعَةُ بين أولَئِكَ الأحْبَاب ، وتِلْكَ المُنَازَعَةُ رُبَّما أدَّتْ إلى الضَّرْبِ والقَتْلِ ، والمُشافَهَةِ بالفُحْشِ ، وذلك يُورِثُ أشَدَّ العداوةِ والبَغْضَاء ، كما فعل الأنْصَارِيُّ الذي شَجَّ رأسَ سَعْد بن أبي وقّاص بلحي الجَمَل .

ورُوِيَ أن قَبيلَتَيْنِ من الأنْصَارِ شَرِبُوا الخَمْرَ ، وانْتَشَوْا فَعَبَث بعضُهم على بَعْض ، فلما [ صَحَوْا رأى بعضُهُم في وجْهِ ] بعْضٍ آثَار ما فَعلُوا ، وكانوا إخْوَةً ليْسَ في قُلُوبِهِمْ ضَغَائِن ، فجعل بَعْضُهُم يقُولُ : لو كان أخي بي رَحيماً ما فعل بِي هذا ، فحدثَتْ بَيْنَهُم الضَّغَائِنُ ، فالشَّيطان يُسَوِّلُ أنَّ الاجتماعَ على الشُّرْبِ يوجِبُ تَأكِيدَ الألْفَةِ والمَحَبَّةِ بين الأخوة ، فينْقَلِبُ الأمْرُ ، وتحصُلُ العداوَةُ والبَغْضَاءُ .
وأمَّا المَيْسِرُ ، ففيه بإزَاءِ التَّوْسِعَةِ على المُحْتَاجِينَ من الإجْحَافِ بأرْبَابِ الأمْوالِ؛ لأنَّ من صارَ مَغْلُوباً في القُمَارِ مَرَّةً ، دَعَاهُ ذلك إلى اللِّجَاحِ فيه ، يَرْجُو بذلِكَ إلى أنْ يَصِيرَ غَالِباً ، وقد يتَّفِقُ أنَّه لا يَحْصُلُ لَهُ ذلك ، إلى أن لا يَبْقَى لَهُ شيءٌ من المَالِ ، وإلى أن يُقَامِرَ على لحْيَتِهِ وأهْلِهِ وَوَلَدِهِ .
قال قتادةُ : كان الرَّجُلُ يُقامِرُ على الأهْلِ والمالِ ، ثم يَبْقَى مَسْلُوبَ الأهْل والمالِ ، ولا شكَّ أنَّه يَبْقَى بعد ذلك فَقِيراً مِسْكِيناً ، ويصيرُ من أعْدَى الأعْدَاءِ لأولئكَ الذين غلبُوه ، فَظَهَر أنَّ الخَمْرَ والمَيْسِر سبَبَانِ عَظِيمَان في إثَارَةِ العَدَاءِ والبغْضَاءِ بين النَّاسِ ، والعداوةُ والبَغضَاءُ تُفْضِي إلى أحْوالٍ مَذْمُومَةٍ من الهرَج والمَرجِ والفِتَنِ ، وذلك مُضَادٌّ لمصالِحِ العِبَادِ .
فلو قِيلَ : لما جمع الخَمْرَ والمَيْسر مع الأنْصَاب والأزلامِ ، ثم أفرَدَهُمَا في آخر الآية .
قلنا : لأنَّ لهذه الآيَةِ خِطَابٌ مع المُؤمنين ، لقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر } والمقصُودُ نَهْيُهُم عن الخَمْرِ والميْسِر ، وإنَّما ضمَّ الأنْصَابَ والأزْلاَم إلى الخَمْرِ والميْسِرِ ، إظهاراً أنَّ هذه الأرْبَعَة مُتَقَارِبةٌ في القُبْح والمفْسَدَة ، فلما كان المَقْصُودُ من الآيَةِ النَّهْي عن الخَمْرِ والميْسِر ، لا جَرَم أفَردهُمَا في آخِرِ الآيَةِ بالذِّكْرِ .
قال شهاب الدين : ويظهرُ شيءٌ آخرُ ، وهو أنه لم يُفْردِ الخَمْرَ والميْسِرَ بالذِّكْر [ آخراً ] ، بل ذَكَرَ مَعهُمَا شيئاً يَلْزَمُ منه عدمُ الأنصاب والأزلام [ فكأنه ] تكملة ذكر الجميع ، بيانه أنه قال : « في الخَمْرِ والميسِرِ ويَصُدُّكُمْ عنْ ذِكْرِ الله » بعبادة الأنْصَاب أو بالذبحِ عليها للأصنام على ما علم تفسيره أوَّلَ السُّورة ، و « عن الصلاةِ » باشتغالِكم بالأزْلام ، وقد تقدَّم فَذِكْرُ الله والصَّلاة مُنَبِّهَانِ على الأنْصَاب والأزلام .
وأمَّا النَّوع الثَّانِي من المفاسِد الموجُودة في الخَمْرِ والميْسِر : المفَاسِدُ المتعلِّقةُ بالدِّينِ ، وهو قوله تعالى : { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة } ، أمَّا كَوْنُ شُرْبِ الخَمْرِ يَمْنَعُ عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة ، فظاهرٌ؛ لأنَّ شُرْبَ الخَمْرِ يُورِثُ الطَّربَ واللَّذَّة الجُسْمَانيَّة ، والنَّفسُ إذا اسْتَغْرَقَت في اللَّذَّات الجُسْمانِيَّة ، غَفلَتْ عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة ، وأمَّا كونُ الميْسِر مانِعاً عن ذكر اللَّه وعن الصلاة ، إنْ كانَ غَالِباً صارَ استغراقُهُ في لذَّةِ الغلبَةِ من أنْ يَخْطُر بِبَالِه شيءٌ سِوَاه ، وإن صَارَ مَغْلُوباً صار شِدَّة اهتمامِه بأنْ يحْتَال بحِيلَةٍ ، حتَّى يَصِيرَ غَالِباً مَانِعاً من أنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ شَيءٌ سواه ، ولا شكَّ أنْ هذه الحالةَ مما يَصُدُّ عَنْ ذِكرِ اللَّهِ وعن الصَّلاة ، ولمَّا بيَّن تعالى اشْتِمَال شُرْبِ الخَمْرِ ، واللَّعِب بالميْسِر على هذه المفاسِدِ العَظِيمَةِ في الدِّينِ ، قال تعالى { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } .

فصل
قال القُرْطُبِي : فَهِمَ الجُمْهُورِ من تَحْرِيم الخَمْرِ ، وإطلاقِ الرِّجْس عليها ، والأمْر باجْتِنَابِهَا ، الحكم بِنَجَاسَتِهَا ، وخَالَفَهُمْ في ذلك رَبيعَةُ ، واللَّيْثُ بنُ سَعْد ، والمُزَنِيُّ ، وبَعْضُ المُتَأخِّرِين من البَغْدَادِيِّين والقَرَويِّين ، وقالُوا : إنَّها طَاهِرَةٌ وأنَّ المُحرَّمَ إنما هو شُربُهَا؛ لأنَّ المَيْسِر والأنْصَاب والأزْلامَ ليسوا بِنَجسٍ ، فكذلِكَ الخَمْرُ ، ولجواز سَكْبِهَا [ في ] طُرُقِ المدينَةِ ، مع نَهْيِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - عن التَّخَلِّي في الطريق .
قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } هذا الاستفهامُ فيه معنى الأمر ، أي : انْتَهُوا .
رُوِيَ أنَّه لمَّا نزلَ قوْلُ اللَّهِ تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] قال عُمَر بنُ الخطَّابِ - رضي الله تعالى عنه - : « اللَّهُمَ بيِّن لَنَا في الخَمْرِ بَيَاناً شافياً » فلما نَزَلَتْ هذه الآيَةُ قال عُمَرُ - رضي الله عنه - : « انْتَهَيْنَا يا رَبِّ ، انْتَهَيْنَا يَا ربِّ » ويدلُّ على أن المراد منه الأمر أيضاً : عطفُ الأمر الصَّريحِ عليه في قوله « وأطيعُوا » ، كأنه قيل : انتهوا عن شُرْبِ الخَمْرِ ، وعن كذا ، وأطِيعُوا ، فمجيءُ هذه الجملةِ الاستفهاميةِ المصدَّرة باسْم مُخْبَرٍ عنه باسمِ فاعلٍ دالٍّ على ثبوتِ النهي واستقراره - أبلغُ من صريح الأمر .
قال ابنُ الخطيب : وإنما حَسُنَ هذا المجازُ؛ لأنَّ الله تعالى ذمَّ هذه الأفعالَ ، وأظْهَرَ قُبْحَهَا للمُخَاطَبِ ، فلما استفهم بَعْدَ ذَلِكَ عن تَرْكِهَا ، لم يَقْدِر المُخَاطبُ إلاَّ على الإقْرَارِ بالتَّرْكِ ، وكأنَّه قِيلَ لَهُ : أتَفْعَلُه وقَدْ ظَهَر من قُبحهِ ما ظَهَر؛ فصار { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } ؛ جَارِياً مُجْرَى تنصِيصِ اللَّهِ تعالى على وُجُوبِ الانْتِهَاءِ ، مَقْرُوناً بإقْرَارِ المُكَلَّفِ بوجوبِ الانْتِهَاءِ .
واعلم : أنَّ هذه الآيةُ دالَّةٌ على وُجوبِ تحريم شُرْبِ الخَمْرِ من وُجُوهٍ :
أحدها : تَصْدِيرُ الجُمْلَة ب « إنَّما » وهي لِلْحَصْرِ ، فَكَأنَّهُ قال : لا رِجْسَ ولا شَيءَ من أعْمَالِ الشَّيْطَانِ إلاَّ هذِهِ الأربَعَةُ .
وثانيها : أنَّهُ تعالى قَرَنَ الخَمْرَ والميْسِر بِعبَادةِ الأوْثَان ، ومنه قولُهُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « شَارِبُ خَمْرٍ كَعَابدٍ وثَنٍ » .
وثالثها : قال « لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون » ، جعلَ الاجْتِنَاب من الفلاحِ ، وإذا كان الاجْتِناب فَلاَحاً ، كان الارْتِكَابُ خَيْبَةً .
ورابعها : ما تقدَّم من اشْتِمَال الاسْتِفْهَامِ على المَنْفِي .

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)

وخامسها : قوله تعالى بعد ذلك : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا } وظاهرُ الأمْرِ بالطَّاعَةِ ، فيما تقدَّم ذكرُه من أمرهم بالاجْتِنَابِ عَنِ الخمْرِ والميْسِر .
وقوله « واحْذَرُوا » أي : احْذَرُوا عن مُخَالَفتهِمَا في هذا التَّكْلِيفِ .
وسادسها : قوله تعالى : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ } ، وهذا تَهْدِيد عَظِيمٌ ووعيدٌ شَدِيدٌ في حقِّ من خَالَفَ في هذا التَّكْلِيفِ ، وأعْرَضَ عن حُكْمِ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّ مَعْنَاه إنْ تَوَلَّيْتُم فالحُجَّةُ قد قَامَتْ عَلَيْكُمْ ، والرَّسُول قد خَرَجَ عن عُهْدَةِ التَّبْلِيغِ والإعْذَارِ ، فأمَّا ما وراء ذلِكَ من عِقَابِ من خَالَفَ هذا التَّكْلِيف وأعرض ، فذَلِكَ إلى اللَّهِ تعالى ، وهذا تَهْديدٌ عظيمٌ ، وهذا نصٌّ صَرِيحٌ في أنَّ كلَّ مُسكرٍ حرَامٌ؛ لاشْتِمَالِهِ على ما تَشْتَمِلُ عليه الخَمْرُ .
قال - عليه الصَّلاة والسلام - : « كلّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وإن حتماً على اللَّهِ أنْ لا يَشْرَبَهُ عبْدٌ في الدُّنيا إلاَّ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَة من طِينَةِ الخَبَالِ ، هَلْ تَدْرُونَ مَا طِيْنَةُ الخَبَالِ؟ » قلنا : لا . قال : « عَرَقُ أهْلِ النَّارِ » ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : « مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا في الآخِرَةِ » .
وعن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - أنَّهُ قال : أشْهَدُ أنِّي سَمِعْتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهو يقُولُ : « لَعَنَ اللَّهُ الخَمْرَ وشَاربَهَا وساقِيهَا وبَائِعَهَا ومُبْتَاعَهَا وعاصِرهَا ومُعْتَصِرهَا وحَامِلَهَا والمحمولةَ إلَيْه وآكِلَ ثَمَنِهَا » .

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

سبَبُ نزولِ هذه الآيَةِ : أنَّ الصَّحابَةَ - رضي الله عنهم - أجمعين ، لمَّا نزلَ تَحْريمُ الخَمْرِ ، قالوا : يا رسُول اللَّهِ كَيْفَ بإخوَانِنَا الَّذِين مَاتُوا وهم يَشْرَبُونَ الخَمْرَ ، ويأكُلُون من مالِ الميْسِر؛ فنزلت هذه الآيةُ ، والمعنى لا إثْمَ عليْهم؛ لأنَّهُم شَرِبُوها حال ما كَانَتْ مُحَلَّلَةً ، وهذه الآيةُ مُشَابِهَةٌ لقوله تعالى في نَسْخِ القِبْلَةِ من بَيْتِ المقْدِسِ لِلْكَعْبَةِ : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي : أنَّكُم حين اسْتَقْبَلْتُمْ بَيْتَ المَقْدِس ، اسْتَقْبَلْتُمُوه بأمْرِي ، فلا أضَيِّعُ ذلك .
قوله تعالى : { إِذَا مَا اتقوا } : ظرفٌ منصوبٌ بما يُفْهَمُ من الجملة السابقة ، وهي : « لَيْسَ » وما في حَيِّزها ، والتقدير : لا يَأثَمُونَ ، ولا يُؤاخَذُونَ وقْتَ اتِّقائهم ، ويجوزُ أن يكون ظَرْفاً محْضاً ، وأن يكونَ فيه معنى الشرط ، وجوابه محذوفٌ ، أو متقدِّمٌ على ما مَرَّ .
فصل
الطعَامُ في الأغْلَبِ من اللُّغَةِ خلاف الشَّرَاب ، ولذلك يُقَالُ : الطعم خلافُ الشُّرْب ، إلاَّ أن اسم الطعام يقعُ على المَشْرُوبات ، كقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } [ البقرة : 249 ] ، وعلى هذا يجُوزُ أن يكون قوله : « فِيمَا طَعِمُوا » أي : شَرِبُوا الخَمْرَ ، ويجوزُ أن يَكُونَ معنى الطَّعْمِ راجعاً إلى التَّلَذُّذِ بما يُؤكَلُ ويُشْرَبُ .
وقد تقُولُ العربُ : تطعّم حتى تطعم أي : ذُق حتى تَشْتَهِيَ ، فإذا كانَ مَعْنَى الكَلِمَة راجِعاً إلى الذَّوقِ ، صَلُحَ لِلْمأكُولِ والمشْرُوبِ معاً .
فإن قيل : إنهُ تعالى شَرَطَ نَفْيَ الجناح بِحُصُولِ التَّقْوَى والإيمان مرَّتَيْن ، وفي المَرَّةِ الثَّالِثَةِ : بحُصُولِ التَّقْوَى والإحْسَان .
وللنَّاس في هذا قولان :
أحدهما : أنَّ هذا من باب التوكيد ، ولا يَضُرُّ حرفُ العطف في ذلك؛ كقوله تعالى : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 3 ، 4 ] ، حتى إنَّ ابن مالكٍ جعل هذا من التوكيدِ اللفظيِّ المبوبِ له في النحو .
والثاني : أنه للتأسيس ، إلا أنَّه جعل التغايُرَ حاصلاً بتقديرِ المتعلّقاتِ .
واختلفُوا في تَفْسِير هذه المراتبِ الثَّلاثةِ على وجوه :
أحدها : قال الأكْثَرُونَ : الأوَّل : عَمَلُ الاتِّقَاء .
والثاني : دوامُ الاتِّقاء والثبَات عليه .
والثالث : اتقاء ظُلم العباد مع ضم الإحسان إليه .
وثانيها : أن الأول اتِّقَاء جميع المعاصِي قَبْلَ نُزُول هذه الآيَة .
والثاني : اتِّقَاء الخَمْرِ والميْسِر وما في هذه الآية .
والثالث : اتِّقَاء ما يَجِبُ تَحْرِيمُهُ بعد هذه الآية [ وهذا قول الأصَمِّ ] .
وثالثها : اتَّقُوا الكُفْرَ ثمَّ الكبائِر ، ثُمَّ الصَّغَائر .
ورابعها : قال القفَّال - رحمه الله تعالى - : التَّقْوى الأولى عبارةٌ عن الاتقاء من القَدْحِ في صِحَّةِ النَّسْخِ؛ وذلك لأنَّ اليَهُود يقولُون : النَّسخ يدُلُّ على البداء ، فأوْجَبَ على المُؤمنين عند سمَاع تَحْرِيم الخَمْر ، بَعْدَ أنْ كانَتْ مُبَاحَة أنْ يَتَّقوا عن هذه الشُّبْهَةِ الفَاسِدَةِ .
والتقوى الثانية : الإتْيَان بالعَمَلِ المُطَابِق لهذه الآيَة وهي الاحتِرَاز عن شُرْبِ الخَمْرِ . والتقوى الثالثة : عِبَارة عن المُداومةِ على التَّقْوى المَذْكُورَةِ في الأولى والثانِية ، ثم يَضُمُّ إلى هذه التَّقْوى الإحسَان إلى الخَلْقِ .

وخامسها : أنَّ المَقْصُود من هذا التَّكْرير التَّأكيدُ ، والمُبالغَةُ في الحَثِّ على الإيمانِ ، فإن قيل : لِمَ شرطَ دَفْعِ الجُنَاحِ عن تناوُلِ المطْعُومات بِشَرْط الإيمان والتَّقْوى؛ مع أنَّ المَعْلُوم أن من لم يُؤمِن ومن لَمْ يتَّقِ ، ثُمَّ تناول شَيْئاً من المُبَاحَاتِ فإنَّه لا جُناح عليْه في ذلك التَّنَاوُلُ ، بل إنما عليه جُنَاحٌ في تَرْكِ التَّقْوى والإيمَان ، إلاَّ أن ذلك لا تعلُّق له بِتَنَاوُل ذلِكَ المُبَاح ، فذكرُ هذا الشَّرْط في هذا المَعْرِض غَيْرُ جَائِزٍ .
فالجوابُ : لَيْسَ هذا اشْتِرَاطٌ ، بل لِبَيَانِ أنّ أولَئِكَ الأقْوَام الذين نَزَلَتْ فيهِمْ هذه الآيَةُ ، كَانُوا على هذه الصِّفَةِ ثَنَاءً عَلَيْهِم ، وحَمْداً لأحْوَالهم في الإيمَان والتَّقْوَى والإحْسَان . ومثَالُهُ أنْ يُقال لك : « هَلْ عَلَى زَيْدٍ فيما فَعَل جُنَاحٌ » ، وقد عَلِمْتَ أنَّ ذلك الأمْرَ مُبَاحٌ؛ فتقول : ليس على أحَدٍ جُنَاح في المُبَاحِ إذا اتَّقَى المَحَارِمَ وكان مُؤمِناً مُحْسِناً ، تريدُ أنَّ زَيْداً إنْ بَقِي مُؤمِناً مُحْسِناً ، فإنَّه غير مُؤاخَذٍ بما فَعَل .
فصل
قال ابن الخطيب : زَعَم بَعْضُ الجُهَّال : أنَّ [ اللَّه ] تعالى لمَّا بيَّن في الخَمْرِ أنَّها مُحَرَّمَةٌ عِنْدَما تكُون مُوقِعَةً لِلْعَدَاوَة والبَغْضَاء ، وصَادَّة عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة ، بيَّن في هذه الآيَةِ أنَّه لا جُنَاح على من طَعمَها ، إذا لم يَحْصُل مَعَهُ شَيْءٌ من تلك المفاسِدِ ، بل حَصَّل أنْواع المَصَالِح من التَّقْوَى والطَّاعَة والإحْسَانِ إلى الخَلْقِ ، قالوا : ولا يُمْكِنُ حَمْلُه على أحْوالٍ من شُرْب الخَمْرِ قبل نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيم؛ لأنه لو كان المُرَادُ ذلك لقالَ : ما كان جُنَاحٌ على الَّذِين طَعِمُوا ، كما ذكر مِثْل ذلك في آيَة تحْويل القِبْلَةِ ، فقال : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] ولكنه لم يَقُلْ ذلك ، بل قال : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ، إلى قوله تعالى : { إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ } ، وهذا للمُسْتَقْبَلِ لا لِلْمَاضِي ، وهذا القولُ مردودٌ بإجْماعِ الأمَّةِن وقولهم : إنَّ كَلِمَة « إذَا » للمُسْتَقبلِ ، فجوابه : ما رَوَى أبُو بَكْر الأصَمّ - رحمه الله - أنَّه لمَّا نزل تَحْرِيم الخَمْرِ ، قال أبُو بكر - رضي الله عنه - : يا رسُول الله كيف بإخْوانِنَا الَّذِين ماتُوا ، وقد شَرِبُوا الخَمْرَ ، وفَعَلُوا القُمَار ، وكيف بالغائبين عَنَّا في البُلْدانِ لا يَشْعُرونَ أنَّ اللَّهَ حرَّم الخَمْرَ وهم يَطْعَمُونَهَا؛ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة ، لكن في حَقِّ الغَائِبين الذين لَمْ يَبْلُغْهُم هذا النَّصُّ .
قوله تعالى : { والله يُحِبُّ المحسنين } أي : أنَّه تعالى ما جَعَلَ الإحْسَان شَرْطاً في نَفْيِ الجُنَاح فقط ، بل وَفِي أنْ يحبَّهُ اللَّهُ ، وهذا أشْرَفُ الدرَجَات .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)

اللام جواب قسم محذوفٍ ، أي : واللَّهِ ، ليَبْلُونَّكُمْ ، وقد تقدَّم أنه تَجِبُ اللامُ وإحدى النونَيْن في مثل هذا الجواب واللام في « لَيْبلونَّكُمْ » مفتوحة لالتقاء الساكنين . قوله تعالى : « بِشَيءٍ » متعلِّقٌ ب « لَيَبلُونَّكُمْ » أي : لَيَخْتبرنَّكُمْ بشيءٍ؛ وقوله تعالى : « مِنَ الصَّيْدِ » : في محلِّ جرٍّ صفةً ل « شَيْء » فيتعلَّقُ بمحذوف ، و « مِن » الظاهرُ أنها تبعيضيةٌ؛ لأنه لم يُحَرِّم صيدَ الحلال ، ولا صيدَ الحِلِّ ، ولا صيد البْحرِ ، وقيل : إنها لبيان الجِنْسِ ، وقال مكيٌّ : « وقيل » مِنْ « لبيان الجنس ، فلما قال » بِشَيء « لم يُعْلَمْ من أي جنْسٍ هو : فبيَّن ، فقال : » مِنَ الصَّيْدِ « ؛ كما تقولُ : لأعْطِيَنَّكَ شَيْئاً مِنَ الذَّهَب » ، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ، ثم قال : « وقيل : إنَّها للتبعيض » ، وكونُها للبيان فيه نظرٌ؛ لأنَّ الصَّحيحَ أنها لا تكونُ للبيان ، والقائلُ بأنها للبيان يُشْترطُ أنْ يكونَ المُبَيَّنُ بها معرَّفاً بألِ الجنسيَّة؛ كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ، وبه قال ابن عطيَّة أيضاً ، والزَّجَّاج هو الأصل في ذلك ، فإنه قال : وهذا كما تقولُ : « لأمْتَحِنَنَّكَ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّزْقِ » ، وكما قال تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .
والمرادُ بالصَّيْد : المَصِيدُ ، لقوله تعالى : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } والصَّيْدُ إذا كان بِمَعْنَى المصدرِ يكون حدثاً ، وإنما يُوصفُ بِنَيْلِ الأيْدِي والرِّمَاحِ ما يكونُ عَيْناً .
قوله تعالى : « تَنَالُهُ » في محلِّ جر؛ لأنَّه صفةٌ ثانيةٌ ل « شَيْء » ، وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً : إمَّا من الصَّيْد ، وإمَّا من « شَيْء » ، وإن كان نكرة؛ لأنه قد وُصِفَ فتخصَّصَ ، واستبعدَ أبو حيان جَعْلَه حالاً من الصَّيْد ، ووجهُ الاستبعادِ : أنه ليس المقصودَ بالحديثِ عنه ، وقرأ الجُمْهُور : « تَنَالُهُ » بالمنقوطةِ فوقُ؛ لتأنيثِ الجمع ، وابنُ وثَّاب والنخعي بالمنقوطةِ من تحْتُ؛ لأنَّ تأنيثه غيرُ حقيقيٍّ .
فإن قيل : نزلتْ هذه الآيةُ عام « الحُدَيْبِيَةِ » ، وكانوا مُحْرِمِينَ ابتلاهُمُ اللَّه بالصَّيْد ، وكانت الوُحُوش تَغْشَى رحالَهُم من كَثْرَتِها ، فهمُّوا بأخْذِهَا ، فنَزَلَتْ هذه الآيَةُ أي : لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ .
وفائِدَةُ البَلْوَى : إظْهَارُ المُطِيعِ من العَاصِي ، وإنَّما بَعَّضَ الصَّيْد؛ لأنه ابتلاهُم بِصَيْدِ البَرِّ خاصَّةً ، وقيل : صَيْد الإحْرامِ دونَ صَيْدِ الإحلالِ .
وقوله تعالى : « تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ » يعني : الفَرْخَ والبَيْضَ ، وما لا يَقْدِرُ أن يضِرَّ من صِغَارِ الصَّيْدِ ، و « رِمَاحُكُمْ » يعني : الكِبَار من الصَّيْدِ « لِيَعْلَمَ اللَّهُ » قاله الواحدي وغيره ، وقال مُقَاتِل بن حيان : كانت الوُحُوشُ والطَّيْر تَغْشَاهُم في رِحَالِهِم ، حتى يَقْدِرُون على أخْذِهَا بالأيدي ، وصَيْدِهَا بالرِّمَاحِ .
وقال بعضهم : هذا غَيْر جَائزٍ؛ لأن الصَّيْد المُتوحِّش هو المُمْتَنِعُ دون ما لاَ يَمْتَنِع .

« ليَعْلَمَ اللَّهُ » قيل : اللامُ متعلِّقةٌ ب « لَيَبْلُونَّكُمْ » ، والمعنى : ليتميَّزَ أو ليظهر لكم ، وقد مضى تحقيقُه في البقرة ، وأنَّ هذه تسمَّى لام كي ، وقرأ بعضهم : « لِيُعْلِمَ » بضم الياء وكسر اللام من « أعْلَمَ » ، والمفعول الأوَّل على هذه القراءة محذوفٌ ، أي : لِيُعْلِمَ اللَّهُ عِبَادَهُ ، والمفعول الثاني هو قوله : « مَنْ يَخَافُهُ » فَ « أعْلَمَ » منقولةٌ بهمزة التعدية لواحدٍ بمعنى « عَرَفَ » وهذا مجازٌ؛ لأنَّه - تعالى - عَالِمٌ لَمْ يَزَلْ ولا يَزَالُ ، واخْتَلَفُوا في معناه ، فَقِيلَ ، يعامِلُكُم مُعَامَلَةَ من يَطْلُبُ أنْ يَعْلَمَ ، وقيل : لِيظهر المَعْلُوم ، وهو خَوْفُ الخَائِفِ ، وقيل : هذا بِحَذْفِ المُضَافِ والتَّقْدِيرٌ : لِيَعْلَمَ أوْلِيَاءُ اللَّهِ من يَخَافُهُ بالغَيْبِ ، وقِيلَ : ليرى اللَّه لأنَّهُ قَدْ عَلِمَهُ .
وقوله تعالى : « بالغَيْبِ » أي : يَخَافُ اللَّه ولمْ يَرَه ، كقوله تعالى : { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب } [ الأنبياء : 49 ] أي : يَخَافُون ، فلا يَصْطَادُون في حال الإحرامِ ، وكقوله تعالى : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } [ البقرة : 3 ] ، وقيل : معنى يَخَافُهُ بالغَيْبِ أي : بإخلاصٍ وتحْقِيقٍ ، ولا يختلف الحالُ بسِبَبِ حضُورِ واحدٍ أو غَيْبَتِهِ ، كما في حقِّ المُنَافِقِين الذين { إِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكْمْ } [ البقرة : 14 ] . قوله تعالى : « بالغَيْبِ » في محلِّ نصب على الحال من فاعل « يَخَافُهُ » ، أي : يخافُه مُلْتَبِساً بالغيبِ ، وقد تقدَّم معناه في البقرة [ الآية 3 ] .
والمعنى : من يخافُهُ حال كونهِ غَائباً عن رُؤيتِهِ ، كقوله تعالى : { مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب } [ ق : 33 ] .
وجوَّز أبو البقاء ثلاثة أوجه :
أحدها : ما ذكرناه .
والثاني : أنه حالٌ مِنْ « مَنْ » في « مَنْ يَخَافُهُ » .
والثالث : أنَّ الباءَ بمعنى « في » ، والغيب مصدرٌ واقعٌ موقع غائبٍ ، أي : يخافه في المكانِ الغائب عن الخَلْقِ ، فعلى هذا يكونُ متعلِّقاً بنفْسِ الفعل قبله ، وعلى الأوَّلَيْن يكونُ متعلِّقاً بمحذوفٍ على ما عُرِف .
قوله تعالى : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : اصْطَادَ بعد تَحْرِيمِهِ ، فله عذابٌ أليمٌ ، والمراد : عذابُ الآخرة ، والتَّعْزيرُ في الدُّنْيَا .
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - : هذا العذابُ هَوْ أنْ يُضَرب ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضرباً وجيعاً ، ويُنْتَزَع ثِيَابُه .
قال القَفَّالُ : وهذا غير جائزٍ؛ لأن اسم العذابِ قد يقعُ على الضَّرْبِ ، كما سُمِّيَ جَلْدُ الزَّانِيين عذاباً { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } [ النور : 2 ] ، وقال تعالى : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } [ النساء : 25 ] وقال تعالى حَاكياً عن سُلَيْمان - عليه السلام - في الهُدْهُدِ { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } [ النمل : 21 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

في المرادِ بالصَّيْدِ قولان :
الأوَّلُ : الذي توحَّشَ ، سواءً كان مَأكُولاً أو لم يَكُنْ ، فعلى هذا المُحْرِم إذا قتل سَبُعاً لا يُؤكَلُ لَحْمُهُ ضَمِن ، ولا يجاوزُ به قِيمَة شَاةٍ ، وهو قولُ أبِي حنيفةَ - رضي الله عنه - .
وقال زُفَر : [ يجب ] قيمَتُهُ بَالِغاً ما بَلَغَ .
الثاني : أنَّ الصَّيْدَ هو ما يُؤكَل لَحْمُهُ ، فعلى هذا لا يجبُ الضَّمانُ ألْبَتَّةُ في قَتْلِ السَّبُع ، وهو قولُ الشَّافعيِّ [ - رضي الله عنه - ] وغيره ، وحكم أبو حنيفةَ - رضي الله عنه - أنَّه لا يَجِبُ الجَزَاءُ في قَتْلِ الفواسِقِ الخَمْس ، وفي قَتْل الذِّئْبِ ، واسْتَدَلَّ الشافعيُّ بقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } [ المائدة : 96 ] ، فأحلَّ الصَّيْدَ خَارِجَ الإحْرَام ، فَثَبَت أنَّ الصيد هو ما أحِلَّ أكْلُهُ .
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « خَمْسٌ فواسقٌ يُقْتَلن في الحلِّ والحَرَم : » الغُرَابُ ، والحدَأةُ ، والحَيَّةُ ، والعقرَبُ ، والكَلْبُ العَقُورُ « وفي روايةٍ » والسَّبُع العَادِي « ، فوصَفُوهَا بِكَوْنِهِا فواسق ، فدل على أنّ كونهَا فواسِق عِلَّة لِحِلِّ قَتْلِها .
ومعنى كونِها فواسِق كونُها مُؤذِيَة ، والأذَى في السِّبَاع أقْوى مِنْهَا ، فوجَبَ جَوَازُ قَتْلِهَا .
قوله تعالى : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } : في محلِّ نصب على الحال من فاعل » تَقْتُلُوا « ، و » حُرُمٌ « جمع حرام ، وحرامٌ يكون للمُحْرِمِ ، وإنْ كان في الحلِّ ، ولِمَنْ في الحرمِ ، وإنْ كان حلالاً ، وهما سيَّان في النهي عن قتل الصيد وهل يدخل فيه المحرمُ بالعُمْرة؟ فيه خلافٌ ، وهذه الآيةُ نَزَلَتْ في رَجُلٍ يُقَالَ لَهُ : أبو اليَسَرِ شدَّ على حِمَارٍ وَحْشِيٍّ وهو مُحْرِمٌ فَقَتلَهُ ، وهذا يَدُلُّ على المنْعِ من القَتْلِ ابتداء ، والمَنْعُ مِنْه تَسَبُّباً ، فَلَيْسَ لهُ أنْ يتعَرَّضَ للصَّيْد ما دامَ مُحْرِماً ، لا بالسِّلاح ولا بالجَوارِحِ من الكلابِ والطَّيْرِ ، سواء كان الصَّيْدُ صَيْد الحِلِّ أو الحَرَمِ ، وأمَّا الحلالُ فلَهُ أنْ يَتَصيَّدَ في الحلِّ وفي الحَرَم .
قوله تعالى : » مِنْكُمْ « في محل نصبٍ على الحال من فاعل » قَتَلَهُ « ، أي : كائناً منْكُمْ ، وقيل : » مِنْ « للبيان ، وليس بشيء؛ لأنَّ كُلَّ من قتل صَيْداً حكمُه كذلك ، فإن قُلْتَ : هذا واردٌ أيضاً على جعله حالاً ، فالجواب : لم يُقْصَدْ لذلك مفهومُ؛ حتَّى إنه لو قتله غيرُكُمْ ، لم يكن عليه جزاءٌ؛ لأنَّه قصد بالخطابِ معنًى آخرَ ، وهو المبالغةُ في النهي عن قَتْلِ الصيد .
قوله : » مُتَعَمِّداً « حالٌ أيضاً من فاعل » قَتَلَهُ « ، فعلى رأي مَنْ يُجَوِّز تعدُّدَ الحال ، يُجيز ذلك هنا ، ومن منع يقول : إنَّ » مِنْكُمْ « للبيانِ؛ حتَّى لا تتعدَّد الحالُ ، و » مَنْ « يُجَوِّزُ أنْ تكونَ شرطيةً ، وهو الظاهرُ ، وموصولةً ، والفاءُ لشبهها بالشرطيةِ ، ولا حاجةَ إليه وإنْ كانوا فعلوه في مواضع .

قوله تعالى : « فَجَزَاءٌ » الفاءُ جوابُ الشرطِ أو زائدةٌ؛ لشبه المبتدأ بالشرط؛ فعلى الأوَّل : الجملةُ بعدها في محلِّ جزمٍ؛ وعلى الثاني : في محلِّ رفعٍ ، وما بعد « مَنْ » على الأولِ في محلِّ جزمٍ؛ لكونه شرطاً؛ وعلى الثاني : لا محلَّ له لكونه صلةً ، وقرأ الكوفيُّون : « فَجَزاءٌ مثلُ » بتنوين « جَزَاء » [ ورفعه ] ورفع « مِثْلُ » ، وباقي السبعة برفعه مضافاً إلى « مِثْل » ، ومحمَّد بن مُقاتِل بتنوين « جَزَاءً » ، ونصبه ، ونصب « مِثْلَ » ، والسُّلَمِي برفع « جَزَاءٌ » منوناً ، ونصب « مِثل » ، وقرأ عبد الله « فَجَزَاؤهُ » برفع « جَزَاء » مضافاً لضمير « مِثْل » رفعاً .
فأمَّا قراءةُ الكوفيِّين فواضحةٌ لأنَّ « مِثْل » صفةٌ ل « جَزَاء » ، أي : فعليْه « جَزَاءٌ » موصوفٌ بكونه « مِثْلَ ما قَتَلَهُ » أي مماثله .
قالوا : ولا يَنْبَغِي إضافَةُ جزاءٍ إلى المثْلِ ، ألا ترى أنَّهُ ليْسَ عليْه جَزَاءُ مثل ما قتلَ في الحقيقَةِ ، إنَّمَا عليه جَزَاءُ المقْتُولِ لا جَزَاء مثل المقَتُول الذي لم يَقْتُلْه .
وجَوَّز مكي وأبو البقاء وغيرُهما أنْ يرتفعَ « مِثْل » على البدلِ ، وذكر الزجَّاج وجْهاً غريباً ، وهو أن يرتفع « مِثْلُ » على أنه خبرٌ ل « جَزَاءٌ » ، ويكونُ « جزَاءٌ » مبتدأ ، قال : « والتقديرُ : فجزاءُ ذلك الفعلِ مِثْلُ ما قتل » ؛ قال شهاب الدين : ويؤيِّد هذا الوجه قراءةُ عبد الله : « فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ » ، إلاَّ أن الأحسنَ أن يقدِّر ذلك المحذوف ضميراً يعودُ على المقتول ، لا أنْ يُقَدِّره : « فَجَزَاءُ ذلك الفِعْلِ » و « مِثْلُ » بمعنى مماثل قال مكيٌّ : قاله الزمخشريُّ ، وهو معنى اللَّفْظِ ، فإنَّها في قُوَّةِ اسم فاعل ، إلاَّ أنَّ مَكِّيًّا تَوَهَّم أن « مِثْلاً » قد يكون بمعنى غير مماثل؛ فإنه قال : « ومثل » في هذه القراءة - يعني قراءة الكوفيين - بمعنى مُمَاثِل ، والتقديرُ : فَجَزَاءٌ مُمَاثِلٌ لما قَتَل ، يعني في القيمةِ ، أو في الخِلْقَةِ؛ على اختلافِ العلماء ، ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً بعيْنِهِ لا جَزَاءٌ مِثْلُه؛ لأنه إذا ودى جزاءً مثل المقْتُولِ ، صار إنما ودى جزاء ما لم يُقْتَلْ؛ لأنَّ مثل المقتولِ لم يَقْتُلْهُ ، فصَحَّ أن المعنى : فعليه جزاءٌ مماثِلٌ أبداً ، فكيف يقول « ولَوْ قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفْظه؟ » وأيضاً فقوله : « لصار المعنى إلى آخره » هذا الإشكالُ الذي ذكره لا يُتَصَوَّرُ مجيئُه في هذه القراءة أصْلاً ، وإنما ذَكَرَهُ الناسُ في قراءةِ الإضَافَة؛ كما سيأتي ، وكأنه نَقَلَ هذا الإشكالَ من قراءةِ الإضافةِ إلى قراءةِ التنوين .
وأمَّا قراءة باقي السَّبْعة ، فاستبعَدَهَا جماعةٌ ، قال الواحِدِيُّ : « ولا ينبغي إضافةُ الجزاءِ إلى المثلِ؛ لأنَّ عليه جزاءَ المقتولِ لا جزاءَ مِثلِه ، فإنه لا جزاءَ عليه لَمَّا لم يقتلْه » .

وقال مكيٌّ بعد ما تقدَّم عنه : « ولذلك بَعُدَت القراءةُ بالإضافة عند جماعةٍ؛ لأنها تُوجِبُ جزاءً مثلَ الصيْدِ المقْتُولِ » ولا التفاتَ إلى هذا الاستبعادِ؛ فإنَّ أكثر القراء عليها ، وقد أجاب الناسُ عن ذلك بأجْوبةٍ سديدةٍ ، لمَّا خفيتْ على أولئكَ طَعنُوا في المُتَوَاتِرِ ، منْها : أنَّ « جَزَاء » مصدرٌ مضافٌ لمفعوله؛ تخفيفاً ، والأصلُ : فعليه جزاءٌ مِثْلُ ما قَتلَ ، أي : أن يَجْزِيَ مثل ما قتلَ ، ثم أُضيفَ ، كما تقول : « عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبٍ زَيْداً » ثم « مِنْ ضَرْبٍ زَيْدٍ » ذكر ذلك الزمخشريُّ وغيره ، وبَسْطُ ذلك؛ أنَّ الجزاءَ هنا بمعنى القضاء ، والأصلُ : فعليه أن يُجْزَى المقتولُ من الصيْدِ مثله من النَّعَمِ ، ثم حُذِف المفعولُ الأوَّلُ؛ لدلالة الكلامِ عليه ، وأُضيفَ المَصْدَرُ إلى ثانيهما؛ كقولك : « زَيْدٌ فَقِيرٌ ويُعْجِبُنِي إعْطَاؤُكَ الدِّرْهم » ، أي : إعطاؤكَ إيَّاه ، ومنها : أنَّ « مِثْل » مُقْحَم؛ كقولهم : « مِثْلُكَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ » ، [ أي : أنْتَ لا تفعَلُ ذلك ] وأنَا أكْرِمُ مثلك أيْ : أنا أكْرِمُكَ ، ونحو قوله تعالى : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] أي : بِمَا آمَنْتُمْ به ، وكقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، والتقديرُ ليس كهو شيءٌ ف « مِثْل » زائدةٌ . وقوله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات } [ الأنعام : 122 ] ، ومِنْهَا أن يكونَ المعنى « فَجَزَاءٌ من مِثْلِ ما قَتَلَ من النَّعَم » كقولك : « خَاتِمُ فضَّة » أي : « خاتمٌ من فضةٍ » ، وهذا خلاف الأصْلِ فالجوابُ ما تقدَّم و « مَا » يجوزُ أن تكون موصولةً اسميَّة ، أو نكرةً موصوفةً ، والعائدُ محذوفٌ على كلا التقديرين ، أي : مثلُ ما قَتَلَهُ من النَّعَمِ .
فَمَنْ رفع « جَزَاء » ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبرُ محذوفٌ ، تقديرُه : فعليه جزاء .
والثاني : أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف ، تقديرُه : فالواجبُ جزاء .
والثالث : أنه فاعلٌ بفعل محذوف ، أي : فيلزَمُه الجزاءُ ، أو يَجِبُ عليه جزاءٌ .
الرابع : أنه مبتدأ وخبره « مِثْل » ، وقد تقدَّم أن ذلك مذهبُ أبي إسْحَاق الزجَّاج ، وتقدم أيضاً رفع « مِثْل » في قراءة الكوفيين؛ على أحدِ ثلاثةِ أوجه : النعْتِ ، والبدلِ ، والخبرِ؛ حيث قلنا : « جَزَاء » مبتدأٌ عند الزجَّاج .
وأمَّا قراءةُ « فَجَزَاؤه مِثْلُ » ، فظاهرةٌ أيضاً ، وأمَّا قراءة « فَجَزَاءٌ مِثْلَ » برفع « جَزَاءٌ » وتنوينه ، ونصب « مِثْل » ، فعلى إعمال المصدر المنوَّنِ في مفعوله ، وقد تقدَّم أنَّ قراءة الإضافة منه ، وهو نظيرُ قوله تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 - 15 ] وفاعلُه محذوف ، أي : فجزاءُ أحدِكُمْ أو القاتلِ ، أي : أنْ يُجْزَى القاتلُ للصَّيْدِ ، وأما قراءة : « فَجَزَاءً مِثْلَ » بنصبهما ف « جَزَاءً » منصوبٌ على المصدر ، أو على المفعول به ، و « مِثْلَ » صفتُه بالاعتبارين ، والتقدير : فَلْيَجْزِ جَزَاءً مِثْلَ ، أو : فَلْيُخْرِجْ جَزاءً ، أو فليُغَرَّمْ جَزَاءً مِثْلَ .

قوله : « مِنَ النَّعَمِ » فيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنه صفةٌ ل « جَزَاء » مطلقاً ، أي : سواءً رُفِعَ أم نُصِبَ ، نُوِّن أم لم يُنَوَّنْ ، أي : إنَّ ذلك الجزاءَ يكونُ من جنسِ النَّعَمِ ، فهذا الوجهُ لا يمتنع بحالٍ .
الثاني : أنه متعلق بنفسِ « جَزَاء » ؛ لأنه مصدرٌ ، إلا أنَّ ذلك لا يجوزُ إلا في قراءة من أضاف « جَزَاء » إلى « مثْل » ، فإنه لا يلزمُ منه محذورٌ؛ بخلافِ ما إذا نَوَّنْتَهُ ، وجعلتَ « مِثْلَ » صفته ، أو بدلاً منه ، أو خبراً له؛ فإنَّ ذلك يمتنع حينئذ ، لأنَّك إنْ جَعلْتَه موصوفاً ب « مِثْل » كان ذلك ممنوعاً من وجهين :
أحدهما : أنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعملُ ، وهذا قد وُصِفَ .
والثاني : أنه مصدر ، فهو بمنزلةِ الموصولِ ، والمعمولُ من تمامِ صلته ، وقد تقرَّر أنه لا يُتْبَعُ الموصولُ إلا بعد تمام صلته؛ لئلا يلزمَ الفصلُ بأجنبيٍّ ، وإنْ جعلْتَه بدلاً ، لَزِم أن يُتْبَعَ الموصولُ قبل تمام صلته ، وإنْ جَعَلْتَه خبراً ، لزم الإخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صلته ، وذلك كلُّه لا يجوزُ .
الثالث : ذكره أبو البقاء وهو أنْ يكون حالاً من عائدِ الموصولِ المحذوفِ؛ فإنَّ التقدير : فجزاءً مثل الذي قتله حالَ كونه من النَّعَم ، وهذا وَهْمٌ؛ لأن الموصوف بكونه من النَّعم ، إنما هو جزاءُ الصيد المقتولِ ، وأمَّا الصيد نفسُه ، فلا يكونُ من النعم ، والجمهورُ على فَتْحِ عَيْن « النَّعَم » ، وقرأ الحسن بسكُونها ، فقال ابنُ عطيَّة : « هي لغةٌ » ، وقال الزمخشريُّ : استثقَلَ الحركةَ على حرفِ الحلق ، كما قالوا : « الشَّعْرُ » في « الشَّعَرِ » .
فصل
اخْتَلَفُوا في هذا العَمْد : فقال قَوْمٌ : هو تَعَمُّدُ قتْل الصَّيْد مع نسْيَان الإحْرَام ، أمَّا إذا قَتَلَهُ عَمْداً وهو ذَاكِرٌ لإحْرَامِهِ ، فلا حُكْمَ عليه ، وأمْرُهُ إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنَّه أعْظَمُ مِنْ أنْ يكون له كفَّارةٌ ، وهو قوْلُ مُجَاهِد والحَسَن .
وقال آخَرُون : هُنَاكَ فَرْقٌ بين أن يَعْمَدَ المُحْرِمُ قَتْلَ الصَّيْد ذاكراً لإحْرَامِهِ ، فعليه الكَفَّارَةُ ، واخْتَلَفُوا فيمَا لو قَتَلَهُ خَطَأً ، فذهَبَ أكْثَرُ الفُقَهَاء إلى أنَّ العَمْدَ والخَطَأ وَاحِدٌ في لُزُومِ الكَفَّارَةِ .
قال الزُّهرِي : على المُتَعَمِّدِ بالكِتَاب ، وعلى المُخْطِئ بالسُّنَّةِ وقال سَعِيدُ بن جُبَيْر : لا تجبُ كفَّارةُ الصَّيْد بِقَتْلِ الخَطَأ ، وهُوَ قول دَاوُد .
فصل
المُرَادُ بالمِثْلِ ما يَقْرُبُ من الصَّيدِ المقْتُولِ شَبَهاً من حيث الخِلْقَةِ ، لا من حَيْثُ القِيمَة .
وقال محمَّدٌ بنُ الحسنِ : الصَّيدُ ضرْبَانِ : مَا لَهُ مِثلٌ ، وما لا مِثْلَ له .

فما له مثلٌ يُضْمَنُ بِمِثْلِه من النَّعَمِ ، وما لا مِثْلَ لَهُ يُضْمَنُ بالقِيمَة .
وقال أبو حَنيفَةَ وأبو يُوسُف : المِثْلُ الواجبُ هو القِيمَةُ .
فصل
إذا قَتَل المُحْرِمُ الصَّيْدَ وأدَّى جَزاءَه ، ثم قتل صَيْداً آخَر لَزِمَه جَزَاء آخَر ، وقال دَاوُدُ : لا يَجِبُ ، وحجَّةُ الجُمْهُورِ هذه الآيَةُ ، فإنَّ ظَاهِرَهَا يقْتَضِي أن يكُون علَّةُ وُجُوب الجَزَاءِ هو القَتْلُ ، فوجَبَ أنْ يتكرَّر الحُكْمُ بِتكْرَارِ العِلَّةِ ، فإن قيل : إذا قَالَ الرَّجُل لِنِسَائِهِ من دَخَلَتْ مِنْكنَّ الدَّارَ فِهِي طَالِقٌ ، فدخلت واحِدَةٌ مرَّتَيْنِ ، لم يقع الطَّلاق مرَّتَيْن .
فالجوابُ أنَّ القَتْلَ عِلَّة لوُجُوبِ الجَزَاء ، فيلْزَمُ تكْرَار الوُجُوبِ لِتكْرارِ العِلَّةِ ، وأمَّا دُخُولُ الدَّارِ فهو شَرْطٌ لوُقُوعِ الطَّلاق ، فلَمْ يَلْزَم تكْرَارُ الحُكْم عند تكْرارِ الشَّرْط ، واحْتَجَّ داوُدُ بقوْلِهِ تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } فجَزَاءُ العَائِدِ الانْتِقَامُ لا الكَفَّارةُ .
قوله : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ } في موضع نصْبٍ على الحال منه ، أو على النَّعْتِ ل « جَزَاء » فيمَنْ نَصَبه ، وخصَّصَ أبو البقاء كونه صفةً بقراءةِ تنوين « جَزَاء » ، والحالَ بقراءةِ إضافته ، ولا فرقَ ، بل يجوزُ أنْ تكون الجملةُ نعتاً أو حالاً بالاعتبارين؛ لأنه أذا أُضيفَ إلى « مِثْل » ، فهو باقٍ على تنكيرِه؛ لأنَّ « مِثْلاً » لا يتعرَّفُ بالإضافة ، وكذا خَصَّصَ مكي الوصفَ بقراءةِ إضافةِ الجزاء إلى « مِثْل » فإنه قال : « ومِنَ النَّعَم في قراءةِ مَنْ أضافَ الجَزَاء إلى » مِثْل « صفةً ل » جَزَاء « ، ويَحْسُنُ أنْ تتعلَّق » مِنْ « بالمصدر ، فلا تكونُ صفةً ، وإنما المصدرُ مُعَدى إلى » مِنَ النَّعَمِ « ، وإذا جعلته صفةً ، ف » مِنْ « متعلِّقةٌ بالخبرِ المحذوف ، وهو فَعَلَيْهِ » ، وفي هذا الكلامِ نظرٌ مِنْ وجهَيْن :
أحدهما : قد تقدَّم ، وهو التخصيصُ بقراءةِ الإضافة .
والثاني : أنه حين جعل « مِنَ النَّعَم » صفةً عَلَّقها بالخبرِ المحذوفِ لِمَا تضمَّنه من الاستقرار؛ وليس كذلك؛ لأنَّ الجارَّ ، إذا وقعَ صفةً تعلَّقَ بمحْذوفٍ ، ذلك المحذوفُ هو الوصفُ في الحقيقةِ ، وهذا الذي جعله متعلَّقاً لهذه الصفةِ ليس صفةً للموصوف في الحقيقةِ ، بل هو خبرٌ عنه؛ ألا ترى أنك لو قلت : « عِنْدِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ » أنَّ « مِنْ بَنِي » متعلِّقٌ بوصفٍ محذوفٍ في الحقيقة ، لا بقولِكَ « عِنْدِي » ، ويمكن أن يُقال - وهو بعيدٌ جِدًّا - إنه أراد التعلُّقَ المعنويَّ؛ وذلك أنَّ العاملَ في الموصوفِ عاملٌ في صفته ، و « عَلَيْهِ » عاملٌ في « جَزَاء » ، فهو عاملٌ في صفته ، فالتعلُّقُ من هذه الحَيْثِيَّةِ ، ولكن إنما يتأتَّى ذلك حيث جعلنا الخبرَ عاملاً في المبتدأ ، أو قلنا : إنَّ الجارَّ يرفع الفاعلَ ، ولو لم يعتمدْ وإنما ذكر هنا التوجيهاتِ؛ لأنَّ القائلين بذلك مِمَّنْ لا يُلْغَى قولهم بالكلية .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75