كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

والثَّاني قاله الكلبيُّ . وبعضهم : ما فصَّلَ من الشَّرائع ، وبعضهم أمر دينكم ، وهي متقاربة ، ويجوز في الآية وجه آخر [ حَسَنٌ ] ؛ وهو أن تكون المسألَةُ من باب الإعمال تنازع : « يبيِّن » و « يَهدي » في « سنن الذين من قبلكم » ، لأنَّ كلاَّ منهما يطلبه من جهة المعنى ، وتكونُ المسألة من إعمال الثَّاني ، وحذف الضَّمير من الأوَّلِ تقديره : ليبينها لكم ويهديكم سُننَ الَّذين من قبلكم .
والسُّنَّةُ : الطَّريقَةُ؛ لأنَّ المفسّرين نقلوا أن كلَّ ما بَيَّن لنا تحريمه وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك أيضاً في الأمم السَّالفةِ ، أو أنه بين لَكُمْ المصالح؛ لأنَّ الشَّرَائِعَ ، وإن كانت مختلفة في نفسها إلا أنَّها متَّفِقَةٌ في المصلحة .
فصل
قال بعضُ المفسَّرينَ { لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ } معناهما واحد وقال آخرون هذا ضعيفٌ .
والحقُّ أنَّ قوله : { لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } أي : يميِّزَ الحلالَ من الحرامِ ، والحسن من القبيح .
وقوله تعالى : { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } أي : أن الذي بيَّن تحريمه ، وتحليله لنا في الآيات المتقدّمة وقد كان كذلك في شرائع [ الإسلام ] من قبلنا ، أو يكون المراد منه { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } [ في ] بيان ما لكم فيه من المصلحة [ فإنَّ الشَّرائعَ ، وإن اختلفت في نفسها إلاَّ أنَّهَا متفقة في المصالح ] .
قوله : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } قال القاضي : معناه أنَّهُ تعالى كما أراد منّا نفس الطّاعة ، فلا جَر\ضمَ بيَّنَها وأزال الشُّبْهَةَ عنها وإذا وقع التَّقصيرُ والتَّفريط منَّا؛ فيريد أن يتوبَ علينا؛ لأنَّ المكلف قد يطيع فيستحق الثَّوابَ ، وقد يطيع فيستحقّ الثَّوابَ ، وقد يعصي فيحْتَاج إلى التلافي في التَّوبَةِ وفي التَّوْبَةِ وفي الآية إشكالٌ ، وهو أنَّ الحَقَّ إمَّا أن يكون قول أهل السُّنَّةِ [ من أنَّ فعل العبدِ ] مخلوقٌ للهِ [ وَإمَّا أن الحقَّ قولُ المعتزلة : من أنَّ فعلَ العبدِ ليسَ مخلوق اللهِ تعالى؛ والآيةُ مُشْكَلَةٌ على القَوْلَيْنِ ] أمَّا على الأوَّلِ [ فلانّ ] كلِّ مَا يريده الله تعالى [ فَإنَّهُ ] يحصلُ ، فإذا أرَاد أن يتوبَ علينا وأحبَّ أن تحصل التَّوْبَةَ لكلنا ، ومعلومٌ أنَّهُ ليس لذلك ، وأمَّا على القول الثَّاني : فهو تعالى يريدُ مِنَّا أن نتُوبَ باختيارنا ، وفعلنا وقوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } [ ظاهره ] مشعر بأنَّهُ تعالى هو الَّذي يخلق التَّوْبَةَ فينا .
فالجوابُ أن قوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } صريحٌ في أنَّهُ تعالى هو الذي يقبلُ التَّوْبَةَ فينا والعقل يؤكِّدُهُ؛ لأنَّ التَّوْبَةَ عبارةٌ عن النَّدمِ في الماضي ، والعزم على التَّرْكِ في المستقبل ، والنَّدم والعزم من باب الإراداتِ ، والإرادةُ لا يمكن إرادتها وإلا لزم التَّسلسل؛ فإذن الإرادةُ يمتنع أن تكونَ فعل الإنسان فعلمنا أن هذا النَّدم والعزم لا يحصلان إلا بتخليق اللهِ تعالى فَدَلَّ البرهانُ العقليُّ على صحَّةِ ما أشعر به القرآن ، وهو أنَّهُ تعالى [ هو ] الذي يتوبُ علينا .
وإن قالوا : لو تاب عليْنَا لحصلتْ هذه التَّوْبَةُ [ لهم فزاد هذا الإشكال واللهُ أعلم ] .
فنقولُ : قوله تعالى : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } خطابٌ مع الأمَّةِ ، وقد تابَ عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيَّات المذكورة في هذه الآيات وحصلت هذه التَّوْبَةِ لهم فَزَالَ الإشكالُ واللهُ أعلم .
] ثم قال { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : [ عليم ] بمصالح عبادة حكيم في أمر دينهم ودنياهم وحكيم فيما دبَّرَ من أمورهم .

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)

قوله تعالى : { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } زعم بعضهم أنَّ [ في ] قوله { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } تكريراً لقوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } المعطوف على التّبيين .
قال عطيَّةُ : وتكرار إرادة الله تعالى التَّوبة على عباده تقوية للإخبار الأوَّل وليس القصد في الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشَّهوات فقدمت إرادة الله تَوْطِئة مُظْهِرَةً لفسادِ إرادة مُبتغي الشَّهَوَاتِ ، وهذا الذي قاله إنَّمَا يتمشّى على أنَّ المجرور باللامِ في قوله { لِيُبَيِّنَ } مفعول به للإرادة لا على كونه علّةً ، وقد تقدَّمَ أنَّ ذلك قول الكوفيِّين ، وهو ضعيفٌ ، وقد ضعَّفه هو أيضاً ، إذا تقرر هذا فنقول : لا تكرار في الآية؛ لأن تعلّق الإرادة بالتَّوبة في الأَّولِ على جهة العِلِّيَّة ، وفي الثَّاني على جهة المفعوليَّة ، فقد اختلف المتعلقان .
وقوله { عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الذين } بالرَّفع عطفاً على { والله يُرِيدُ } عطف جملة على جملة اسميّة ، ولا يجوز أن ينصب لفساد المعنى؛ إذ يصير التَّقدير : واللهُ يريدُ أن يتوب ، ويريد أن يريد الذين ، واختار الرَّاغِبُ : أنَّ الواو للحال تنبيهاً على أنَّهُ يريدُ التَّوْبَةَ عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا فخالف بَيْنَ الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجملة الأولى ، وتأخيره في الثَّانية؛ ليبيّن أنَّ الثَّاني ليس على العطف ، وقد رُدَّ عليه بأنَّ إرادة اللهِ بالجملة الأولى اسميّة دلالة على الثَّبوت ، وبالثَّانية فعلية دلالة على الحدوث .
فصل في تحليل المجوس لما حرم الله تعالى
قيل : إنَّ المجوسَ كانوا يحلُّون الأخوات ، وبنات الإخوة والأخوات ، فلما حرمهنَّ اللهُ تعالى قالوا إنَّك تحلُّون بنت الخالة والعمَّةِ ، والخالةُ والعمةُ حرام عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلتْ هذه الآية .
وقال السُّدِّيُّ : المرادُ بالَّذينَ يتبعونَ الشَّهوات هم اليهودُ والنَّصارى .
وقال مجاهدٌ هم الزُّناةُ يريدون أن يميلوا عن الحقِّ فيزنون كما يزنون .
وقيل : هم جميع أهل الباطل .
فصل
قالت المعتزلة قوله { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } يدلّ على أنه تعالى يريد التوبة من الكلِّ والطَّاعة من الكُلِّ .
وقال أهل السُّنَّةِ ، هذا محال؛ لأنَّهُ تعالى علم من الفاسق أنَّهُ لا يتوب ، وعلمه بأنَّهُ لا يتوب مع توبته ضدان ، وذلك العلم ممتنعٌ الزَّوال مع وجود أحدِ الضِّدَّين ، وكانت إرادة ضدّ الآخر إرادة لما علم كونه محالاً ، وذلك محالٌ ، وأيضاً فإنَّهُ إذَا كان يريدُ التَّوْبَةَ من الكُلِّ ، ويريد الشَّيْطَانُ أن تميلوا ميلاً عظيماً ، ثم يحصلُ مراد الشَّيطان لا مراد الرحمن ، فحينئذٍ نفاذ الشيطان في ملك الرحمن أتمُّ من نفاذ الرحمنِ في ملك نَفْسِهِ ، وذلك مُحالٌ؛ فثبت أن قوله { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } خطاب مع قوم معنيين حصلت هذه التَّوبة لهم .

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)

في هذه الجملة احتمالان :
أصحُّهما : أنَّها حال من قوله { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } العامل فيها يريد أي : واللهُ يريد أن يتوبَ عليكم يريد أن يخفف عنكم ، وفي هذا الإعراب نَظَرٌ من وجهين :
أحدهما : أنَّهُ يؤدِّي إلى الفصل بين الحال ، وبين عاملها بجملة معطوفة على جملة العامل في الحال ضمير تلك الجملة المعطوف عليها ، والجملةُ المعطوفة وهي { وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ } جملة أجنبية من الحال وعاملها .
والثَّاني : أنَّ الفعل الذي وقع حالاً رفع الاسم الظَّاهر فوقع الرَّبط بالظاهرِ؛ لأن { يُرِيدُ } رفع اسم الله ، وكان من حقِّه أن يرفع ضميره ، والرَّبْطُ بالظَّاهِرِ إنَّمَا وقع بالجملة الواقعة خبراً أو وصلة ، أمَّا الواقعة حالاً وصفة فلا ، إلا أن يَردَ به سماع ، ويصير هذا الإعراب نظير : « بكر يخرج يضربُ بكر خالداً » ولم يذكر مفعول التخفيف فهو محذوف ، فقيل تقديره : يخفف عنكم تكليف النظر ، وإزال الحيرة ، وقيل : إثم ما يرتكبون ، وقيل : عام في جميع أحكام الشرع وقد سهل علينا كما قال تعالى { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } ] [ الأعراف : 157 ] وقال عليه السلام : « بعثت بالحنفية السمحة » وقال { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } [ البقرة : 185 ] وقال { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وقال مجاهد ومقاتل : المراد به [ إباحة ] نكاح الأمة عند الضرورة .
قوله تعالى : { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } والمعنى أنه بضعفه خفف تكليف ، والأقرب أن يحمل هذا الضعف على كثرة الدواعي إلى اتباع الشهوة واللذة لا على ضعيف الخلقة [ لأن ضعيف الخلقة ] لو قوى الله داعيته إلى الطاعة كان في حكم القوي والقوي في الخلقة إذا كان ضعيف الدواعي إلى الطاعة صار في حكم الضعيف ، فالتأثير في هذا الباب لضعف الداعية وقوتها لا لضعف البدن .
قال طاوس والكلبي وغيرهما : في أمر النساء لا يصبر عنهن .
وقال ابن كيسان : خلق الله الإنسان ضعيفاً أي بأن تستميله شهوته .
وقال الحسن : المراد ضعيف الخلقة وهو أنه [ خلقه ] من ماء مهين . وقال تعالى { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } [ الروم : 54 ] . فصل
وفي نصب ضعيفاً أربعة أوجه :
أظهرها : أنه حال من الإنسان وهي حال مؤكدة .
والثاني : - كأنه تمييز قالوا : لأنه يصلح لدخول « مِنْ » وهذا غلط .
الثالث : أنه على حذف حرف الجرِ ، والأصل : خلق من شيء ضعيف ، أي : من ماء مهين ، أو من نطفة ، فلما حُذِفَ الموصوف وحرف الجر وَصَلَ الفعل إليه بنفسه فنصبه .
الرابع : - وإليه أشار ابن عطية ، أنه منصوب على أنه مفعول ثانٍ ب « خلق » قالوا : ويصح أن يكون خلق بمعنى « جُعِلَ » فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى المفعولين فيكون قوله « ضعيفاً » مفعولاً ثانياً ، وهذا الذي ذكره غريب لم نرهم نَصُّوا على أن خلق يكون ك « جعل » فيتعدى لاثنين مع حصرهم الأفعال المتعدية للاثنين ، ورأيناها يقولون : إن « جَعَلَ » إذا كان بمعنى « خَلَقَ » تعدت لواحد .

فصل
روي عن ابن عباس أنه قال : ثماني آيات في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت قوله تعالى { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } و { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] { إِنَّ [ الله لاَ يَظْلِمُ ] مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } النساء : 40 ] ، { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] و { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ } [ النساء : 147 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)

في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : أنه تعالى لما ذكر كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر كيفية التصرف في الأموال .
الثاني : لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإبقاء المهور بيَّن بعد ذلك كيفية التصرف في الأموال ، وخص الأكل بالذكر دون غيره من التصرفات لأنه المقصود الأعظم من الأموال؛ لقوله تعالى { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] ، واختلفوا في تفسير الباطل فقيل هو الربا والغضب والقمار والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة ، وعلى هذا تكون الآية مجملة لأنه يصير التقدير : لا تأكلوا أموالكم التي حصلتموها بطريق غير مشروع ، ولم يذكر ههنا الطريقة المشروعة على التفصيل فصارت الآية مجملة .
وروي عن ابن عباس والحسن أن الباطل هو ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض وعلى هذا لا تكون الآية مجملة لكن قال بعضهم : إنها منسوخة : قال لما نزلت هذه الآية تحرّج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئاً وشق ذلك على الخلق . فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في سورة النور { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النور : 61 ] وأيضاً إنما هو تخصيص ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة .
وقيل : المراد بالباطل [ هو ] العقود الفاسدة ، وقوله { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ يدخل فيه أكل مال الغير بالباطل ] وأكل مال نفسه بالباطل فيدخل فيه القسمان معاً كقوله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُم } يدل على النهي عن قتل غيره وقتل نفسه أما أكل مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله تعالى ، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه .
قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } في هذا الاستثناء قولان :
أصحهما : أنه استثناء منقطع لوجهين :
أحدهما : أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل حتى يستثنى عنها سواء فسرنا الباطل بغير عوض ، أو بغير طريق شرعيّ .
والثاني : أن المستثنى كون ، والكون ليس مالاً من الأموال .
الثالث : أنه متصل قيل : لأن المعنى لا تأكلوها بسبب إلا أن تكون تجارة .
قال أبو البقاء : وهو ضعيف؛ لأنه قال : بالباطل ، والتجارة ليست من جنس الباطل ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره؛ إلا في حال كونها تجارة ، أو في وقت كونها تجارة انتهى . ف « أن » تكون في محل نصب على الاستثناء وقد تقدم تحقيقه .
وقرا الكوفيون تجارة نصباً على أن كان ناقصة ، واسمها مستتر فيها يعود على الأموال ، ولا بد من حذف مضاف من « تجارة » تقديره : إلا أن تكون الأموال أموال تجارة ، ويجوز أن يفسر الضمير بالتجارة بعدها أي : إلا أن تكون التجارةُ تجارةً كقوله : [ الطويل ]

1790- . ... إذَا كَانَ يَوْمَاً ذَا كَواكِبَ أشْنَعَا
أي إذا كان اليوم يوماً ، واختار أبو عبيدةَ قراءة الكوفيين ، وقرأ الباقون « تجارةٌ » رفعاً على أنها « كان » التامة قال مكي « وأكثر كلام العرب أن قولهم » إلا أن تكون « في هذا الاستثناء بغير ضمير فيها يعود على معنى : يحدث ويقع ، وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة .
وقوله : { عَن تَرَاضٍ } متعلق بمحذوف لأنه صفة ل » تجارة « فموضعه رفع أو نصب على حسب القراءتين ، وأصل » تراض « » تراضِوٌ « بالواو؛ [ لأنه مصدر تراضي تَفَاعَلَ من رَضِيَ ، ورَضِيَ من ذوات الواو بدليل الرُّضوان ، وإنما تطرفت الواو بعد كسرة ] فقلبت ياء فقلت : تراضياً ، و » منكم « صفة لتراضٍ ، فهو محل جر و » من « لابتداء الغاية .
فصل
والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ومنه الجر الذي يعطيه الله تعالى للعبد عوضاً من الأعمال الصالحة .
قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] وقال { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ فاطر : 29 ] وقال { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } [ التوبة : 111 ] ، فسمَّى ذلك كُلَّهُ بيعاً وشراءً على وَجْهِ المَجَازِ ، تشبيهاً بِعُقُود المبيعَاتِ الّتي تحصلُ بها الأغْرارُ .
فصل : كل معاوضة تجارة
اعلم أنَّ كُلَّ مُعَاوَضَةٍ تجارةٌ على أيّ وجْهٍ كان العوض ، إلا أنَّ قوله تعالى { بالباطل } أخرج منها كُلَّ عوضٍ لا يجوزُ شَرْعَاً من رباً وغيره أو عوض فَاسِدٍ كالخمرِ ، والخَنْزِيرِ ، وغير ذلِكَ ، ويخرج أيضاً كُلُّ عقدٍ جائزٍ لا عوض فيه كالقرض والصَّدَقَةِ ، والهِبَةِ ، لا للثَّوابِ ، وجازت عُقُودُ التَّبرُّعاتِ بأدلَّةٍ أخَر ، وخَرَجَ منها دٌعاءُ أخيك إيَّاكَ إلى طَعَامِهِ ، بآيةِ النُّورِ ، على ما سيأتي إن شاء الله - تعالى- .
فصل
قال القرطبيُّ : لَوِ اشْتَرَيْتَ فِي السُّوقِ شَيْئاً فقالَ لَكَ صًاحِبُهُ قبل الشِّرَاءِ ذُقْهُ ، وأنت في حلٍّ ، فلا تَأكُلْ منه؛ لأن إذْنهُ في الأكْلِ لأجْلِ الشِّراءِ ، فربما لا يقعُ بيعٌ ، فيكونُ ذلك شُبْهَة ، لكن لو وصف لَكَ فاشْتَرَيْتَ ، فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيَار .
فصل
قوله { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } أي : بطيبة نَفْسِ كلِّ وَاحدٍ على الوَجْه المَشْرُوعِ .
وقيل هو أن يخير كُلُّ وَاحدٍ من المُتابِعيْنَ صاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْع ، فيلزمُ وإلا فلهما الخِيَارُ ما لم يَتَفَرَّقَا لقوله عليه السلامُ : » الْبَيْعانِ بالخيارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا « أو يخير كُلّ واحد منهما صاحبَهُ متبايعاً على ذلك ، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ ، واعلم : أنَّهُ كَمَا يحلُّ المستفاد منَ التِّجارَة ، فقد يَحِلُّ أيضاً المالُ المستفاد مِنَ الهِبَةِ ، والوصيَّةِ والإرث ، والصَّدَقَةِ ، والمهر ، ِ وأرُوشِ الجنايَاتِ ، فإنَّ أسْباب المالِ كثيرةٌ سوى التِّجارة .
فإن قُلْنَا : الاستثناءُ مُنقطِعٌ ، فلا إشْكالٌ؛ لأنَّهُ تعالى ذَكَرَ هَاهُنا شيئاً واحداً ، من أسْبَابِ المِلْكِ ، ولم يذكره غيرهُ بنفي ، ولا إثْبَاتٍ .

وإن قلنا : الاسْتثناء مُتَّصِلٌ كان ذلك حكماً بأنَّ غيرَ التِّجَارةِ لا يفيد الحلّ ، وعلى هذا لا بُدّ مِنَ النَّسْخِ ، والتَّخْصيصِ .
فصل
ذهب بعضُ الْعُلَمَاءِ إلى أنَّ النَّهْيَ في المعاملات يَقْتَضِي البُطْلاَنَ ، وقال أبُو حنيفَةَ : لا يَدُلُّ عليه واحتجّ الأوَّلُونَ بوجوهٍ :
أحدُهَا : أنَّ جميعَ الأمْوالِ مملوكةٌ للهِ تعالى ، فإذا أذن لبعض عبيده في بعض التَّصَرُّفَاتِ ، ثم إنَّ الوكِيلَ تَصَرّفَ على خِلافِ قَولِ الموكل ، فذلك غير مُنعقدٍ ، فإذا كان التَّصرفُ الواقع على خلاف قول المِالِكِ المجازي لا يَنْعَقدُ ، فالتصرفُ الواقِعُ على خِلاَفِ قَوْلِ المالِكِ الحقيقيّ غير مُنْعَقِدٍ بِطَرِيقِ الأوْلَى .
وثانيها : أنَّ التصرُّفات الفَاسِدَة؛ إمَّا أن تكُونَ مُسْتَلْزَمَةً لِدُخُولِ المُحرَّم المنهيّ في الوُجُودِ أو لا ، فإن كان الأول وجب القول ببطلانها قياساً على التصرفات الفاسدة ، والجامِعُ السعي في ألا يَدخُلَ منشأ النَّهي في الوُجُودِ ، وإنْ كانَ الثَّانِي؛ وَجَبَ القَوْلُ بصحَّتها قياساً على التصرُّفَاتِ الصَّحيحةِ ، والجامعُ كونُهَا تَصرُّفَاتٍ خالية عن المفْسَدَة ، فثبت أنَّهُ لا بُدَّ من وُقُوعِ التَّصرُّفِ على هذين الوجْهَيْنِ ، فأمَّا القَوْلُ بتصرف لا يكُونُ صحيحاً ، ولا باطلاً ، فهو محال .
وثالثها : أنَّ قوله : « لا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بالدِّرْهَمَيْن » كقوله : « لا تبيعوا الحر بالعبد » فكما أن هذا نهي في اللفْظِ ، لكنَّهُ نَسْخٌ للشَّرعيةِ [ فكذا الأوَّلُ ، وإذا كان نَسْخاً للشَّرْعيَّةِ ] ، بطل كونُهُ مُفيداً للحكم .
قوله { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } قرأ عَلِي -رضي اللهُ عنه- : « تُقْتَّلُوا » بالتَّشْديدِ على التكثير ، والمعنى لا يَقْتلُ بَعضُكُم بعضاً ، وإنَّما قَالَ { أَنْفُسَكُمْ } لقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلام : « المُؤْمِنُونَ كنَفْسٍ وَاحِدَةٍ » ولأن العَرَبَ يَقُولُونَ « قُلْنَا وَرَبِّ الكَعْبَةِ » إذا قتل بعضهم؛ لأنَّ قتل بعضِهِم ، يجري مَجْرَى قَتْلِهِمْ .
فإن قيل : المُؤمِنُ مع إيمانِهِ لا يجُوزُ أن ينهى عَنْ قَتْلِ نَفْسِهِ ، لأنه ملجأ إلى ألاَّ يَقْتُلَ نَفْسَهُ ، لأنَّ الصَّارِفَ عنه قائمٌ ، وهو الألَمُ الشَّديدُ ، والذَّمُّ العَظِيم ، والصَّارف عنه في الآخرة قَائِمٌ وهو استحقاقُ العَذَابِ العَظِيمِ .
إذا كان كذلك ، لم يَكُنْ للنَّهْيِ عَنْهُ فائدة ، وإنَّمَا يُمْكِنُ هَذَا النهي ، فِيمَنْ يَعْتَقِدُ في قَتْلِ نَفْسِهِ ما يعتقدُهُ أهْلُ الهِنْدِ ، وذَلِكَ لا يَتَأتَّى مِنَ المُؤْمِنِ .
فَالجَوَابُ : أنَّ المُؤْمِنَ مع إيمانِهِ ، قد يَلْحَقُهُ مِنَ الغَمِّ ، والأذِيَّةِ ما يكُونُ القَتْلُ عليه أسْهَل مِنْ ذلك ، ولذلك نَرَى كَثيراً مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَلُونَ أنْفُسَهُم ، بمثل السَّبَبِ الذي ذَكَرْنَاهُ ، ويحتمل أنَّ مَعْنَاهُ لا تَفْعَلُوا ما تَسْتَحِقُّونَ به القتل كالزِّنَا بعد الإحْصَانِ والرِّدَّةِ ، وقتلِ النَّفْسِ المعصومة ، ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّهُ رحيمٌ بعباده ، ولأجْلِ رحمته نهاهم هم كُلِّ ما يستوجبون به مَشَقَّة ، أو مِحْنَة حَيْثُ لم يأمرهم بقتلهم أنفسَهُم كما أمَرَ به بني إسرائيل ليَكُونَ تَوْبَةُ لهم وكان بكُم يَا أمَّة محمَّد رحيماً ، حيث لم يكلفكم تلك التَّكاليف الصَّعْبَة .

وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)

قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } « مَنْ » شرطيَّة [ مبتدأ ] ، والخبر « فَسَوْفَ » والفاءُ هنا واجبة لِعَدَمِ صلاحيَّةِ الجَوَابِ للشَّرْطِ ، و « ذَلٍكَ » إشارةٌ إلى قتل الأنفُسِ قال الزَّجَّاجُ : يَعُودُ إلى قَتْلِ الأنْفُسِ ، وأكل المالِ بالبَاطِلِ؛ لأنَّهُمَا مذكوران في آية واحدة .
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّهُ يعودُ على كُلِّ ما نهى اللهُ عنه من أوَّلِ السُّورةِ إلى هذا المَوْضعِ ، وقال الطَّبريُّ : « ذلك » عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد وذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } [ النساء : 19 ] ؛ لأنَّ كل ما ينهى عنه من أوَّلِ السُّورةِ قرن به وعيد ، إلا مِنْ قوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } [ النساء : 19 ] فإنَّهُ لا وعيدَ بَعْدَهُ إلا قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً } [ النساء : 30 ] الآية . وقيل الوعيد بذكر العُدْوَانِ والظُّلْمِ ، ليخرج منه فعل السَّهْوِ والغلط ، وذكر العًُدْوَانِ ، والظُّلْمِ مع تقارب معناهما لاختلافِ ألفاظِهِما كقوله : « بُعْداً » و « سُحْقاً » وقوله يعقوب عليه السلام : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] وقوله : [ الوافر ]
1791 أ- .. وألْفَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنَا
و « عدواناً وظلماً » حالان أي : متعدياً ظالماً أو مفعول من أجلها وشروط النصب متوفرة وقُرِئَ : « عِدْواناً » بكسر العين . و « العدوان » : مُجاوَرَةُ الحَدّ ، والظُّلْمُ : وضع الشَّيْءِِ في غير مَحَلِّه ، ومعنى { نُصْلِيهِ نَاراً } ، أي : يمسُّه حَرُّهَا . وقرأ الجمهور : { نُصْلِيهِ } من أصْلَى ، والنون للتعظيم . وقرأ الأعْمَشُ : « نُصْلِّيه » مُشَدّداً .
وقرئ : « نَصْليه » بفتح النُّونِ من صَلَيْتُه النَّار . ومنه : « شاة مصلية » .
و « يصليه » بياء الغَيْبَةِ . وفي الفاعِلِ احتمالان :
أحدهُمَا : أنَّهُ ضميرُ الباري تعالى .
والثًَّاني : أنَّهُ ضميرٌ عائدٌ على ما أُشير به إلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ؛ لأنَّهُ سَبَبٌ في ذلك ونكر « ناراً » تعظيماً .
{ وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } أي : هيناً .

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)

قرأ ابْن جُبَيْرٍ ، وابنُ مَسْعُود : « كَبِيرَ » بالإفراد والمرادُ به الكُفْرُ وقرأ المفضّلُ : « يُكَفِّر » ، « ويدخلكم » بياء الغَيْبَةِ للهِ تعالى .
وقرأ ابْنُ عَبَّاسٍ : « من سيئاتكم » بزيادة « من » . وقَرَأَ نَافِعٌ وحده هنا وفي الحج : « مَدْخَلاً » بفتح الميم ، والباقُونَ بضمها ، ولم يَخْتَلِفُوا في ضَمِّ التي في الإسراء . فأمَّا مَضْمُومُ الميم ، فإنَّهُ يحتملُ وجهين :
أحدهُمَا : أنَّهُ مَصْدرٌ وقد تَقَرَّر أنَّ اسْمَ المصْدَرِ من الرُّبَاعِيّ فما فَوْقَهُ كاسْمِ المفعُولِ ، والمدخول فيه على هذا مَحْذُوفٌ أي : « ويدخلكم الجنة إدخالاً » .
والثَّانِي : أنَّهُ اسمُ مَكَانِ الدُّخُولِ ، وفي نصبه حينئذٍ احتِمَالاَنِ «
أحدهُمَا : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرْفِ ، وهو مَذْهَبُ سيبوَيْهِ .
والثَّاني : أنَّه مفعولٌ به ، وهو مَذْهَبُ الأخْفَشِ ، وهكذا كُلُّ مكان مختص بعد » دخل « فإنَّ فيه هذين المذْهَبَيْنِ ، وهذه القِرَاءَةُ واضحةٌ ، لأنَّ اسم المصْدَرِ ، والمكان جَارِيَانِ على فعليهما .
وَأمَّا قِرَاءةُ نافِع ، فتحتاجُ إلى تأويل ، وذلك لأنَّ الميمَ المفتوحة إنَّما هو من الثُّلاثِيُّ ، والفعل السَّابقُ لهذا رُباعِيّ فقيل : إنَّهُ منصوبٌ بفعل مقدّر مطاوع لهاذ الفِعْلِ ، والتقدِيرُ : يدخلكم ، فتدخلون مدخلاً .
و » مَدْخَلاً « مَنْصُوبٌ على ما تقدَّمَ : إمَّا المصدريّة ، وإما المَكَانِيَّة بوجهيها .
وقيل : هُوَ مصْدَرٌ عَلَى حَذْفِ الزَّوائِدِ نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] على أحد القَوْلَيْنِ .
فصل
روى ابْنُ عمرو عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : » الكَبَائِرُ الإشْرَاكُ باللهِ عزَّ وجلَّ وعقوقُ الوالِدَيْنِ ، وقَتْلُ النَّفْسِ ، واليَمِينُ الغَمُوسُ « .
وقال عليه السَّلام : » ألاَ أنبِئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبَائِر؟ « ثلاثاً . فقالوا : بَلَى يا رسُولَ اللَّهِ . قال : » الإشْرَاكُ باللَّهِ ، وَعُقُوقُ الوَالِديْنِ -وَكَانَ مُتّكئاً فَجَلَسَ- وَقَالَ : ألاَ وَقَوْلُ الزُّورِ « فما زال يُكَرِّرُهَا ، حَتَّى قُلْنا لَيْتَهُ سَكَتَ .
وعن عُمَرَ بْنِ شراحيل عن عَبْدِ اللَّهِ قال : قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ : أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ . قال : » أنْ تَجْعَلَ للَّهِ نِدَّاً وَهُوَ خَالِقُكَ « قال : ثُمَّ أي . قال : » لأنْ تَقْتَلُ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أنْ يَأكُلَ مَعَكَ « . قُلْتُ : ثمَّ أيْ . قال » أنْ تُزَانِيَ حَليلَةَ جَارِك « فأنزلَ اللَّهُ -تعالى- تَصديقَ قَوْلِ النَّبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] وعن أبي هريرةَ عنِ النَّبِي صلى اله عليه وسلم قال : » اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبقَاتِ قالُوا يا رَسُول اللَّهِ ، وما هُنَّ؟ قال : الشِّرْكُ باللَّهِ ، والسِّحْرُ ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بالحقِّ وأكْلُ الرَِّبَا ، وأكْلُ مَالِ اليتيمِ ، والتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْف المُحصنَاتِ الغَافِلاَتِ « .
وقال عبدُ الله بْنُ مسعودِ : أكْبَرُ الكَبَائِرِ الشِّرْكُ باللَّهِ ، والأمن من مَكْرِ اللَّه والقنوط من رحمة اللَّه ، واليأسُ من روح اللَّهِ .

وعن النَّبَيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « مِنْ أكْبَر الكبَائِر يسبُّ الرَّجُلِ وَالديْهِ : قالَ وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالدَيْهِ قال : [ يَسُبُّ الرجُل أبَا الرجل وَأمه ] فَيَسُب أباهُ وَيسُبُّ أمَّهُ » .
وعن سعيد بْنِ جُبَيْرٍ أنَّ رَجُلاً سألَ ابْنَ عباس عن الكبائِرِ أسَبْعٌ هي قال : هي إلى السبعمائة أقرب [ غير ] أنه لاَ كبيرَةَ مع الاستغْفَارِ ، ولا صغيرَةَ معَ الإصْرَارِ ، وقال : كُلُّ شيْءٍ عصي اللَّه به ، فهو كبيرة ، فمن عمل شيئاً منها ، فَلْيَسْتَغْفِر اللَّهَ فإنَّ اللَّه لا يخلد في النَّارِ من هذه الأمَّةِ إلاَّ من كان راجعاً عن الإسلامِ ، أو جاحداً فريضته ، أو مكذباً بقدره . قال ابْنُ الخطيبِ : وهذا القول ضعيف؛ لأنَّهُ لا فرقَ بينهما كقولهِ : يكفر ، وما لا يكفرون في الحديث : تعيين أشيَاء من الكبائرِ منها : الشركُ ، واليمينَ الغَمُوسُ [ والرِّبا ] وعُقوقُ الوالدين ، والقَتْلُ ، وغيرهما ولقوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات : 7 ] فالكبائِرُ هي الفُسُوقُ والصغائر هي العصيان حتى يصحّ العطف . احتجّ ابنُ عبَّاس ما إذا اعتبر المعاصي بالنِّسْبَةِ إلى جلال اللَّه تعالى ، وعظمته كانت كبائر بالنِّسْبَةِ لِكثَةِ نعمه تعالى ، فذلك لعدم تناهيها ، فَكُلُّ ذنبٍ كبيرة .
والجوابُ كما أنَّهُ سبحانه وتعالى أجلُّ الموجودات ، وأشرفهم ، وهو أرحمُ الراحِمينَ ، وأغنى الأغنياءِ عن الطَّاعات وذلك يوجبُ خفة الذنب ثم إنَّهَا وإن كان كبيرة فبعضها أكبر مِنْ بعض .
فصل
قال بعضهم : لتمييز الكبيرةِ عن الصَّغيرة بذاتها ، وقيل : إنَّما تتميزُ بحسب [ حال فاعليها ] فالأولون لهم أقوال ، أوَّلُهَا : قال ابْنُ عبَّاسٍ : كلُّ ما قرن بذكر الوعيد ، فهو كبيرةٌ كالقَتْلِ ، والقذف .
الثَّاني : عن ابْنِ مسعُودٍ : كلّ ما نهي عنه من أوَّلِ النِّسَاءِ إلى ثلاثة وثلاثين آية فهو كبيرة لقوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } .
الثالث : قتل كل عمد فهو كبيرةٌ على الأوَّل لأنَّ كل ذنٍ لا بُدّ أن يكون متعلّق الذَّم عاجلاً ، والعقاب آجلاً وهذا يقتضي أنَّ كُلَّ ذنْبٍ كبيرة ، وعلى الثَّانِي أنَّ الكبائِرَ مذكورة في سائر السور ، فلا معنى لتخصيصها بهذه السُّورة ، وعن الثَّالث إنْ أرادَ بالعَمْدِ أنَّهُ ليس بساهٍ فهذا هو الذي نهي عنه ، فيكونُ كُل ذنب كبيرة ، وإنْ أرَاد انه يَفْعَلُهُ مع العِلْمِ به ، فإنَّهُ معصيةٌ فمعلومٌ أنَّ اليَهُودَ والنَّصَارَى يكفُرُونَ بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ولا يعلمون أنه معصيةٌ ، وذلك كفرٌ وكبيرةٌ ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثةُ .
وأما القولُ الثَّاني أنَّ الكبائر تمتزُ عن الصّغَائِرِ باعْتِبَارِ فاعلها ، فهو قَوْلُ مَنْ يقولُ للطَّاعَةِ قدر من الثواب وللمعصية قدر من العقاب فالقِسْمَةُ العقْلِيَّةُ تقتضي أقْسَامَ التَّساوي والتعادل ، ورُجْحَان الثَّوابِ ، ورجحان العِقَابِ فالأوَّلُ ممكنٌ عقلاً إلا أن الدليل السمعي دلل على أنه لا يوجد لقوله تعالى : { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } [ الشورى : 7 ] ولو وجد ذلك لم يكن في الجنَّةِ ، ولا في السَّعيرِ .

والثَّاني : ينحبط العقابُ بما يُساويه مِنَ الثَّوابِ ، والمعصية هي الصَّغيرة تسمى الانحباط بالتَّكفير .
والثَّالثُ : ينحبطُ الثَّوابُ بما يساويه من العقاب ، ويسمى الكبيرة ، وسمي الانحبَاط بالإحباط ، فَظَهَرَ الفرقُ بين الكبيرةِ والصغيرةِ ، وهذا قول جمهور المُعتزِلَةِ ، وهو مَبْنِيٌّ على أصولٍ باطلةٍ :
الأول : أنَّ الطَّاعةَ توجبُ ثواباً والمعصية توجب عقاباً ، وهو بَاطِلٌ لما تقدَّم من أنَّ الفعل يتوقَّفُ على دَاعِيَةٍ مِن اللَّه تعالى ، وذلك يَمْنَعُ الإيجاب .
ولأنَّ من اشْتَغَلَ بالعِبَادَةِ والتَّوحيدِ ثمانين سنة ، ثم شَرِبَ قطرة خمر ، فإنْ قالوا بالإحْبَاطِ خالف الضرورة والإجماع ، وإن خالف وقالوا بترجيح الثَّوابِ نقضوا أصْلَهُم مِنَ التحسين والتقبيح العَقْلِيَّيْن فتبطل قواعدهم .
ولأنَّه سمى الله تعالى كبيرة لسابقه [ على الطاعة ] وموجبة لها [ فأوَّلُ واجب ] لا يستحقّ ثواباً ، فيكون عِقَاب كُلّ معصية أن لا بد مِنْ ثَوَاب فاعلها ، فتكون جميع المعاصي كبائر ، وهو بَاطِلٌ ، وقد تقدَّم القول بإبطال القَوْلِ بالإحْبَاط .
فصل
قال ابنُ الخطيبِ : الأكثرُونَ على أنَّ اللَّه تعالى لم يُميِّز الكبائِرَ ، ولم يُعَيِّنْهَا ، قالوا : لأنَّ تمييزها وتعيينها مع إخباره بأن اجتنابها يكفِّر الصَّغَائِرَ إغراء بالإقدام على الصغائر ، وذلك قَبيحٌ لا يليقُ بالحكمة ، أمَّا إذَا لم يميِّزْهَا ، كتحرير كَوْنِ المعْصيَةِ كبيرة زاجراً غن الإقدام عليها كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والصلاة الوسطى ووقت الموت مع تجوز تعيين بعض الكبائر كما ورد في الحديث والآيات كما ذكر عن ابن عباس أنها سَبْعَةٌ فقال هي إلى السّبعمائة أقرب .
فصل
احتج الكعبيُّ بهذه الآية على القَطْعِ بوعيد أصْحَابِ الكبائرِ قال : لأنَّهُ تعالى بَيَّن أنَّ من اجتنب الكبَائِرَ يكفر عنه سيئاته ، فَدَلَّ على أنَّ مَنْ لَمْ يَجْتنبها لم تكفَّرْ عَنْهُ ، ولو جَازَ أنْ يغفرَ الكبائِرَ ، والصَّغائِرَ ، لم يَصِحَّ هذا الكلامُ .
والجوابُ مِنْ وُجُوهٍ :
الأوَّلُ : إنكم إما أن تستدلوا بأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه ، فذلك باطل عِندْ المُعتزِلَةِ ، وعِنْدَنَا دلالتُهُ ظَنيَّةٌ ضعيفةٌ .
وإما أن تستدلوا به من حيث أنَّ المعلق على الشيء بكلمة « إن » عدم عند عدم ذلكَ ، فهذا أيضاً ضعيفٌ لقوله تعالى : { واشكروا نِعْمَةَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ النحل : 114 ] والشكر واجب مطلقاً ولقوله تعالى { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } [ البقرة : 283 ] وأداء الأمانة واجب مطلقاً ولقوله تعالى { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } [ البقرة : 282 ] يجوزُ شهادَتُهُم مع وُجُودِ الرِّجَالِ وقوله : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } [ البقرة : 283 ] ، { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [ النور : 33 ] ، { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] .
وقوله { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا إِنَّ الكافرين } [ النساء : 101 ] .
{ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ] { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ } [ النساء : 35 ] ، { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] .
وهذا كُلُّهُ يَدُلُّ على العدمِ بهذا الكلامِ ، والعَجَبُ أنَّ القَاضِي عَبْدَ الجبَّارِ لا يرى أنَّ المعلّق على الشَّيءِ كلمة « إنْ » عدمٌ عنه العدمِ ، واسْتَحْسنَ في التَّفْسير استدلاله على الكفر بهذه الآية .

الجوابُ الثَّاني : قال أبُو مُسْلِمِ : جَاءَت هذه الآيةُ عقيبَ نِكَاحِ المحرَّمات ، وعضل النِّسَاء ، وأخذ أمْوالِ اليتامى [ وأكل المال بالباطل و ] غير ذلك فالمُرادُ إن تجتنبوا هذه الكبائرِ التي نهيناكم عنها ، كَفرنَا عنكم سَيِّئاتِكُمْ [ أي : ما سلف ] من ارتكابها وإذا احْتملَ هذَا؛ لم يَتَعيَّن ما ذكرهُ المعتزِلَةُ ، واعترضه القاضي بوجهين :
أحدهُمَا : أنَّ الآية عامَّة ، فلا تخْصيصَ بِذَلِكَ .
الثَّانِي : أن اجتنابهم إمّا أنْ يكُونَ مع التَّوْبَة ، والتَّوْبَةُ قد أزالت العقاب أو بدونها ، فمن أيْنَ أنَّ اجتنابَ هذه الكبائِر ، تُوجِبُ تكفيرَ تلك السَّيّئَاتِ .
والجواب عن الأوَّلِ : أنّا لا نَدْفَعُ القَطْعَ بذلك ، بل نَقُولُ : هو يحتمل ، فلا يَتعيَّن ما ذكرتموه .
وعن الثَّاني : أنَّ ما ذكروه لا يَقْدَحُ في الاحتمال المذكور [ هنا ] .
الجوابُ الثَّانِي : أنَّ المَعَاصِي : قد تكُونُ كبيرَة بالنِّسْبَةِ إلى شيء ، صغيرة بالنسبة إلى شَيْءٍ آخر ، وكذلك العكسُ ، فليس ثمّة ما يكونُ كبيرةً مطلقاً ، إلا الكُفْر ، وأنواعه [ كثيرة ] ، فلمَّا لم يكن المراد إن تجتنبوا الكُفْرَ بأنواعِهِ ، يغفر لكم ما وَرَاءَهُ ، وهذا احْتِمَالٌ ظاهرٌ مُطابقٌ لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، سقط استدلالهم بذلك .
فصل
قال القرطبِيُّ : قال الأصولِيُّونَ : لا يَجِبُ القَطْعُ بِتكْفيرِ الصَّغائِرِ باجتناب الكبائر ، وإنَّمَا محمل ذلك على غلبَةٍ الظَّنِّ ، وقوَّةِ الرَّجَاءِ ، والمشيئة ثابتةٌ ، ودلَّ على ذلك : أنا لو قَطَعْنَا لمجتنب الكبائِرِ ، وممتثلِ الفرائِضِ ، تكفيرَ صَغَائِرهِ قطعاً؛ لكانت لَهُ في حُكْمِ المُبَاحِ الذي يقطع بأن أتباعه عليه ، وذلك نَقْضٌ لعُرَى الشَّريعة ، ولا صغيرةَ عِنْدَنَا .
قال القُشَيْرِيُّ : والصَّحيحُ أنها كَبَائِر ولكن بعضُهَا أعْظُم وقعاً من بعضٍ ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي .
قال القرطبي : وأيضاً مَنْ نظر إلى بعض المُخالفَةِ كما قالَ بعضهُمُ : لا تنظر إلى صغر الذَّنْبِ ، ولكن انظُرْ مَنْ عَصيتَ [ فإن كان الأمْرُ كذلِكَ ] كانت الذنوب بهذه النِّسْبَةِ كُلِّها كبائر ، وعلى هذا النَّحْوِ يُخَرَّجُ كلامُ القُشَيْريّ ، وأبي إسْحَاقَ الإسفراييني والقاضي أبي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّب قالوا : وإنَّما يقالُ لبعضها صغيرة بالإضَافَةِ إلى ما هو أكْبرُ منها كما يقالُ : الزنا صغيرة بإضافته إلى الكفر ، والقُبْلَةُ المحرَّمَةُ صغيرَةٌ بالنِّسْبَة إلى الزِّنَا ، ولا ذنبَ عِنْدَنَا يُغْفَرُ باجْتِنَابِ ذنبٍ آخر ، بل كُلُّ ذنْبٍ كبيرةٌ ومرتكبُهُ في المشيئةِ ، غير الكُفْرِ لقوله تعالى { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] قالوا : هذه الآية يردُّ إليها جميع الآيات المُطلقةُ ، يزيدُ عليها قوله عليه السلام : « من اقْتطعَ حَقَّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ بيمينه فقدْ أوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وحرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ فقال رَجُلٌ : يا رسُولَ الله ، وإنْ كَانَ شيئاً يَسِيراً فقَالَ : وَإنْ كَانَ قَضِيباً مِنَ أراك »

، فقد جاء الوَعِيدُ الشَّديدُ على اليَسيرِ ، كما جَاءَ على الكثير .
وقال عبدُ اللَّهِ بْنُ [ مسعود : « ما نَهَى اللَّه عنْهُ في تلكَ السُّورَةِ إلى قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } فهو كبيرة .
وقال [ علي ] بن ] أبي طلحة : الكبيرة : كلُّ ذنب ختمه اللَّهُ بِنَارٍ ، أو غضَبٍ ، أو لَعْنَةٍ ، أو عَذابٍ [ أو آثامٍ » .
وقال الضحاك : « البيرة ما أوعد الله عليه حَدَّا في الدُّنْيَا ، وعَذَاباً في الآخرة » .
وقال الحُسَيْنُ [ بنُ الفضل ] : ما سمّاه اللَّهُ في القرآن كَبيراً ، أو عظيماً نحو قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [ النساء : 2 ] ، { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [ الإسراء : 31 ] ، { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، { سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النور : 16 ] ، { إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } [ الأحزاب : 53 ] .
وقال سُفْيانُ الثَّورِيُّ : « الكَبَائِرُ هي المظالِمُ بَيْنكَ وبَيْنَ العِبادِ ، والصَّغَائِرُ : ما كان بَيْنَكَ وبَيْنَ اللَّهِ ، إن اللَّه كَريمٌ يَعْفُو [ ويصفح ] » .
وقال مالك بن مغول : « الكبَائِرُ » ذُنُوبُ أهْلِ البِدَعِ ، والسّيئات : ذُنُوبُ أهْلِ السّنة [ الصَّغَائِر ] « .
وقيل : » الكَبَائِرُ ذُنُوب العَمْدِ ، والسيئات الخَطأ والنِّسيان ، وما أكْره عَلَيْهِ ، وحديث النَّفْسِ المرفوعة عَنْ هذه الأمَّةِ « .
وقال السُّدِّيُّ : الكَبَائِرُ ما نهى اللَّه عنه من [ الذُّنُوب ] الكبائر والسَّيِّئات مقدّماتُها وتوابعها ، وما يَجْتَمِعُ فيه الصَّالحُ والفاسقُ مثل النَّظْرَةِ ، واللَّمْسَةِ ، والقُبْلَةِ ، وأشباهها . قال عليه السلامُ : » الْعَيْنَانِ تَزْنيانِ ، واليَدَانِ تَزْنيانِ ، والرِّجْلانِ تَزْنيانِ ، وَيُصدِّقُ ذلك الفَرْجُ ، أو يُكذِّبُهُ « .
وقيل : الكَبَائِرُ الشِّرْكُ ، وما يؤدِّي إليْهِ ، وما دُونَ الشِّرْكِ ، فهو من السَّيِّئاتِ . قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] .
قوله : { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } .
قال المفسِّرُون : أي من الصَّلاة إلى الصَّلاةِ ، ومن الجُمْعَةِ إلى الجُمْعَةِ ، ومن رَمضَان إلى رمضَان ، لقوله عليه السلامُ : » [ الصَّلَوَاتُ ] الخمسُ والجمعةُ إلى الجُمعةِ ورَمضَانُ إلى رَمضَان مُكَفِّراتٌ لِّمَا بَيْنهُنَّ إذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرِ « .
{ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } أي حسناً وهو الجنة .

وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)

في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : قال القفَّالُ : « لما نَهاهُم في الآية المُتقدِّمَةَ عن أكل الأمْوَالِ بالباطل ، وعن قتْلِ النُّفُوسِ ، أمرهم في هذه الآيةِ بما سهَّلَ عليهم تَرْكَ هذه المنهيَّاتِ ، وهو أن يَرْضَى كُلُّ واحد بِمَا قسَمَ اللَّهُ ، فإنَّهُ إذا لم يَرْض ، وَقَعَ في الحَسَدِ ، وإذا وقع في الحَسَدِ وَقعَ لا مَحَالَة في أخْذِ الأمْوَالِ بالبَاطلِ ، وفي قتل النُّفُوسِ » .
الثَّانِي : أنَّ أخْذ الأمْوَالِ بالبَاطلِ ، وقتلَ النُّفُوسِ من أعمال الجَوَارِحِ ، فأمر أوَّلاً بتركها ليصيرَ الظَّاهِرُ طاهراً عن الأفعال القبيحة ، ثُمَّ أمَرَهُ بعْدَهَا بترك التَّعَرُّضِ لِنُفُوسِ النَّاسِ ، وأموالهم بالقَلْب على سَبيلِ الحَسَدِ ، ليصيرَ البَاطِنُ أيضاً طاهراً عن الأخلاق الذَّمِيمَةِ .
فصل في سبب نزول الآية
قال مُجاهِدٌ : « قالت أمُّ سلمةَ : يا رسُولَ اللَّهِ ، إنَّ الرِّجَالَ يَغْزُونَ ولا نَغْزُو ، ولهم ضِعْفُ مَا لَنَا مِنَ المِيراثِ ، فلو كُنَّا رجالاً غَزَوْنَا كما غَزَوا ، وأخذْنَا مِنَ المِيراثِ مثلما أخذُوا؟ فنزلت هذه الآية » .
وقيل : لمّا جَعَلَ اللَّهُ للذَّكر مِثْلُ حَظِّ الانثيين في الميراثِ ، قالتِ النِّسَاءُ : نَحْنُ أحْوجُ إلى الزِّيَادةِ مِنَ الرِّجَالِ؛ لأنا ضعفاء ، وهم أقْويَاء ، وأقدر منا على المَعَاشِ فنزلت الآية .
وقال قتَادَةُ والسُّدِّيُّ : لما نزل قوله تعالى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } [ النساء : 11 ] ؛ قال الرِّجالُ : إنَّ لنرجو أن نُفَضَّل على النِّسَاءِ بحسناتنا في الآخرة ، فيكون أجرنا على الضّعف من أجر النِّسَاءِ كما فُضِّلْنَا عليهنَّ في الميراثِ في الدُّنْيَا ، فقال اللَّهُ تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن } [ النساء : 32 ] .
وقيل : أتَتِ امْرَأةٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت : رَبُّ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ واحِدٌ ، وأنتَ الرَّسُول إليْنَا ، وإليهم ، وأبونا آدَمُ ، وأمُّنا حَوَّاءُ ، فما السَّبَبُ في أنَّ اللَّه يَذكُرُ الرِّجَالَ ، ولا يَذْكُرُنَا؛ فنزلت الآية ، فقالَتْ : وقد سَبَقَنَا الرِّجَالُ بالجهادِ فمَا لَنَا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّ لِلْحَامِلِ مِنْكُنَّ أجْرُ الصَّائِمِ القَائِم ، فإذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ لم يدْر أحدٌ مَا لَهَا مِنَ الأجْرِ ، فَإذَا أرْضَعَتْ كَانَ لَهَا بِكُلِّ مَصَّة أَجر إحيَاء نَفْسٍ » .
قوله : { مَا فَضَّلَ الله } « ما » موصولة ، أو نكرة موصوفة ، والعائدُ الهاء في « بِهِ » ، و « بعضكُم » مفعول ب « فَضَّلَ » ، و « عَلَى بَعْضٍ » متعلّق به .
فصل
قال القرطبِيُّ : التَّمني نوع من الإرادَةِ يَتَعلَّقُ بالمستقبلِ ، واعْلَم أنَّ الإنسان إذَا شَاهَدَ أنواع الفَضَائِلِ حاصلة لإنسان ، ووجد نَفْسَهُ خالياً عن جملتها ، أو عن أكثرها ، فحينئذٍ يتألَّمُ قلبه ، ثُمَّ يعرض ها هنا حالتان :
إحداهما : [ أن يتمنى ] زوال تِلْكَ السعادات عن ذلك الإنْسَانِ .
والأخرى : لا يَتمَنَّى ذلك ، بَلْ يَتَمنَّى حصول مثلها له .
فالأوَّلُ هو الحَسَدُ المذْمُومُ ، والثَّانِي هو الغِبْطَةُ ، فأمّا كون الحسد مذموماً؛ فلأن اللَّه تعالى لمّا دَبَّر هذا العَالَم ، وأفاض أنواع الكَرَمِ عليهم ، فمن تمنى زوال ذلك؛ فكأنه اعْتَرَضَ على اللَّه في فعله ، وفي حِكْمَتِهِ ، وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ في نفسه ، أنَّهُ أحَقُّ بتلك النِّعَمِ من ذلِكَ الإنْسَانِ ، وهذا اعْتِرَاضٌ على اللَّهِ ، فيما يلقيه من الكُفْرِ ، وفساد الدِّين ، وقطعَ المَوَدَّةِ ، والمَحَبَّةِ ، وَيَنْقَلِبُ ذلك إلى أضداده .

وأما سبب المنع من الحَسَدِ ، فعلى مذهَبِ أهْلِ السُّنَّة ، فلأنه تعالى { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ] ، { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ، ولا اعْتراضَ علَيْه في فعله ، وعلى مذْهَبِ المُعتزِلَةِ ، فلأنه تعالى علاَّم الغيوب ، فهو أعرف من خَلْقِهِ بوجوهِ المَصَالِح ، ولهذا [ المعنى ] قال تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } [ الشورى : 27 ] ، فلا بد لِكُلِّ عاقل من الرِّضَا بقضاء اللَّهِ ، وممَّا يؤكِّدُ ذلك ، قوله عليه السلامُ : « لاَ يَخْطبُ الرَّجُلُ علَى خِطبَةِ أخيه ، ولا يَسُومُ عَلى سَوْمِ أخيهِ ، ولا تَسْألِ المرأةُ طلاقَ أخْتِهَا لتلقي مَا فِي إنَائِهَا ، فإنَّ الله -تعالى- هُو رَازِقُهَا » والمقصودُ من كُلِّ ذلِكَ المُبَالَغة في المَنْعِ مِنَ الحَسَدِ .
وَأمَّا الثَّاني ، وهو الغِبْطَةُ ، فَمِنَ النَّاسِ من جَوَّزَهُ ، ومنعه آخرون قالوا : لأنَّهُ رُبَّمَا كانت تلك النِّعْمَةُ مفسدة في دينِهِ ، ومضرّة عليه في الدُّنْيَا ، ولذلك لا يجُوزُ للإنْسَانِ أنْ يَقُولَ : « اللَّهُمَّ أعطني دَاراً مثلَ دَارِ فُلانٍ ، وزوجةً مِثْلَ زوْجَةِ فُلانٍ ، بل ينبغِي أنْ يقُولَ : اللَّهُمَّ أعْطِنِي ما يَكُون صَلاَحاً في دِيني ودنياي ، وَمَعادي ومَعَاشي » وإذا تأمَّلَ الإنْسَانُ لم يجد دُعَاءً أحْسَنَ مِمَّا ذكرهُ اللَّهُ في القُرآنِ تعْلِيماً لِعبَادِهِ ، وهو قوله تعالى : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار } [ البقرة : 201 ] ، ولهذا قال : { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] .
وأمّا من جوّزه فاسْتَدَلَّ بقوله عليه السلامُ : « لاَ حَسَد إلاَّ في اثْنَتَيْن ، رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرآنَ ، فَهُو يقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ ، وأطرافَ النَّهَارِ ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً ، فهُوَ يَنُفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ ، وأطرافَ النَّهَارِ » فمعنى قوله : « لا حسد » ، أي : لا غبطة أعظم وأفضل مِنَ الغبْطَةِ في هذين الأمْرَين .
قال بعضُ العُلَمَاءِ : « النَّهي [ عن ] التَّمنِّي المذكورِ في هذهِ الآية ، هو ما لا يجوزُ تمنِّيه من عَرَضِ الدُّنْيَا ، وأشباهها ، وأما التَّمني في الأعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، فحَسَنٌ قال عليه السَّلامُ : » اللَّهُمَّ وَددْتُ أنِّي أحْيَى ، ثُمَّ أقتَلُ [ ثم أحيي ثم أقتل « ] ، وذلك يَدُلُّ على فَضْلِ الشَّهَادةِ على سَائِر أعْمَالِ البِرّ؛ لأنَّهُ -عليه السلامُ- تمنَّاهَا دون غيرها فرزقه اللَّهُ إيَّاهَا لقوله عليه السلامُ : » مَا زَالَتْ أكْلةَ خيبرٍ تعاودني [ كُل عامٍ ، حتى كان هذا ] أوان انقطاع أبْهري « .
وفي الصَّحِيح : » إنَّ الشَّهيد يُقالُ لَهُ : تَمَنَّ ، فَيقُولُ : أتَمَنَّى أنْ أرجعَ إلى الدُّنْيَا ، فأقتَل في سَبيلكَ مَرَّة أخْرَى « وكان عليه السَّلامُ يتمنى إيمانَ أبي طالب وأبي لهب ، وصَنَادِيد قُرَيْشٍ ، مع علمه بأنَّهُ لا يكونُ .

قوله : { بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ } قيل : مِنَ الجِهَادِ .
{ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن } ، أي : من طَاعَةِ أزواجهن [ وحفظ فُرُوجهِنَّ ] .
وقيل : ما قدر لهن من الميراث ، يجبُ أن يرضوا به ، ويتركوا الاعتراض نهى اللَّهُ -عزَّ وجلَّ- عن التَّمنِّي على هذا الوجه لما فيه من دَوَاعِي الحَسَدِ ، ولأنَّ اللَّه -عزّ وجلّ- أعلم بمصالحهم منهم؛ فوضَعَ القِسْمَةَ بينهم مُتَفَاوِتَةً على حَسْبِ ما علم مِنْ مصالِحِهمْ ويكونُ الاكتساب بمعنى : الإصَابَةِ .
وقيل : ما يَسْتَحِقُّوهُ من الثَّواب في الآخِرَةِ .
وقيل : [ المرادُ ] الكلُّ؛ لأنَّ اللَّفْظَةَ محتملة ولا منافاة .
فصل : إثبات الهمزة في الأمر من السؤال
الجمهورُ على إثْباتِ الهمْزَةِ في الأمرِ من السُّؤالِ الموجه نحو المخاطب ، إذا تَقدَّمَهُ واو ، أو فاء نحو : { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ } [ يونس : 94 ] ، { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] ، وابن كثير ، والكسَائِي بنقل حركة الهمْزَة إلى السِّين تخفيفاً لكثرة استعماله . فإن لم تتقدَّمه واو ، ولا فاء ، فالكًُلُّ على النقل نحو : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 211 ] ، وإن كان لغائب ، فالكُلُّ على الهمز نحو : { وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } [ الممتحنة : 10 ] .
وَوَهِمَ ابْنُ عَطيَّة ، فنقل اتِّفَاقَ القُرَّاءِ على الهَمْزِ في نحو : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ } [ الممتحنة : 10 ] ، وليس اتفاقهم في هذا ، بل في « وليسألوا ما أنفقوا » كما تقدَّم .
وتخفيف الهَمْزَةِ لغةُ الحِجَازِ ، ويحتملُ أن يكونُ ذلك من لغة من يقُولُ « سَالَ يَسَالُ » بألف مَحْضَةٍ ، وقد تقدَّمَ تحقيق ذلك ، وهذا إنَّمَا يتأتى في « سَلْ » ، و « فَسَلْ » وأمّا « وسَألوا » ، فلا يَتَأتَّى فيه ذلك؛ لأنَّهُ كان ينبغي أنْ يُقَالَ : سالوا كَخَافُوا ، وقد يُقَالُ : إنَّهُ التزم الحذف لكثرة الورود ، وقد تقدّم في البَقَرة عند { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 211 ] .
وهو يَتعَدَّى لاثْنَيْنِ ، والجلالة مفعول أوّل ، وفي الثَّاني قولان :
أحدهما : أنَّهُ محْذُوفٌ ، فقدَّره ابْنُ عطيَّة : « أمانيَّكم » وقدّره أبُو عليِّ الفارسِيُّ وغيره : شيئاً مِنْ فَضْلِه ، فحذفَ المَوْصُوف ، وأبْقَى صِفَتَهُ نحو : « أطعمته من اللحم » ، أي : شيئاً منه ، و « مِنْ » تبعيضيَّة .
والثَّاني : أن « مِنْ » زائدة ، والتَّقديرُ : « واسألوا الله فَضْلَهُ » ، وهذا إنَّما يَتَمَشَّى على رَأي الأخْفَشِ لفقدان الشَّرْطَيْنِ ، وهما تنكيرُ المجْرُورِ ، وكون الكلام [ غير موجب ] .
فصل
قال عليه السلامُ : « سَلوا اللَّه مِنْ فَضْلِه ، فإنَّهُ يحِبُ أنْ يُسْألَ ، وأفْضَلُ العِبَادَةِ انْتِظَارُ الفَرَج » ، وقال -عليه السلامُ- : « مَنْ لَمْ يَسْألِ اللَّهَ يَغْضَبْ عليْهِ » .
وقال القُرْطُبِيُّ : « وهذا يَدُلُّ على أنَّ الأمْرَ بالسُّؤالِ للَّهِ تعالى واجبٌ ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الإنسَانَ لا يجوزُ له أنْ يعيِّن شيئاً في الدُّعَاءِ ، والطَّلب ، ولكن يَطْلُبُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ -تعالى- ما يكُونُ سبباً لصلاحِ دينهِ ودُنْيَاهُ » . ثُمَّ قَالَ { إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } ومعناه : أنَّهُ العالم بما يكونُ صلاحاً للسَّائِلينَ .

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)

« جعلنا » فيه سِتَّةُ أوْجُهٍ ، وذلك يَسْتَدْعِي مقدِّمَةً قبله ، وَهُوَ أنّ « كُلّ » لا بدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ تُضَافُ إليْهِ .
قال القُرْطُبِيُّ : « كُلّ » في كلام العربِ مَعْناهَا : الإحَاطَةُ والعموم ، فإذا جَاءَتْ مُفْرَدَة ، فلا بدَّ وأن يكُونَ في الكَلاَمِ حَذْفٌ عند جميع النحويين « .
واختلفوا في تقديرهِ : فقيل تقدِيرُهُ : ولكلِّ إنسان .
وقيل : لِكُلِّ مال ، وقيل : لِكُلِّ قوم ، فإنْ كانَ التَّقْديرُ : لكل إنسان ، ففيه ثلاثة أوجه :
أحدُهَا : وَلِكُلِّ إنسانٍ موروثٍ جعلنا موالي ، أي : وُرَّاثاً مِمَّا تَرَكَ ، ففي » تَرَكَ « ضميرٌ عائد على » كُلّ « ، وهنا تمّ الكلام .
وقيل : تَقْدِيرُهُ : ويتعلق » مِمَّا تَرَك « ب » مَوَالي « لما فيه من معنى الوراثة ، و » موالي « : مَفْعُولٌ أوَّ ل » جَعَلَ « ، و » جَعَلَ « بمعنى : » صَيَّر « ، و » لِكُلّ « جار ومجرور هو المفعول الثَّاني ، قُدِّم على عامِلِهِ ، ويرتفع » الوِلْدَان « على خبر مبتدأ محذوف ، أو بفعل مقدّر ، أي : يرثون مما [ ترك ] ، كأنه قيل : ومَنْ الوارثُ؟ فقيل : هم الوَالِدَان والأقْرَبُون ، والأصل : » وجعلنا لكل ميت وراثاً يرثون مما تركه هم الوالدان والأقربون « .
والثَّانِي : أنَّ التَّقديرَ : ولكلِّ إنْسَانٍ موروث ، جعلنا وراثاً مما ترك ذلك الإنسان . ثُمَّ بين الإنْسَان المضاف إليه » كُلّ « بقوله : { الوالدان } ، كأنه قيل : ومن هو هَذَا الإنسان الموروث؟ فقيل : الوالدان والأقربُونَ ، والإعراب كما تقدَّمَ في الوَجْهِ قَبْلَهُ ، إنَّمَا الفرقُ بينهما أنَّ الوالِدَيْنِ في الأوَّلِ وارثون ، وفي الثانِي مورثون ، وعلى هذيْنِ الوجْهَيْنِ فالكلامُ جُمْلَتَانِ ، ولا ضميرَ ، محذُوف في » جعلنا « ، و » موالي « مفعول أول ، و » لكل « مفعول ثان .
الثَّالِثُ : أن يكُونَ التَّقدِيرُ : ولكل إنسان وارِث ممَّن تركُ الولِدَانِ والأقْرَبُون جعلنا موالي ، أي : موروثين ، فَيُراد بالمَولى : الموْرُوثُ ، ويرتفع » الوالدان « ب : » ترك « ، وتكون » مَا « بمعنى » مَنْ « ، والجارّ ، والمجرورُ صِفَةٌ للمضاف إليه » كُلّ « ، والكلامُ على هذا جُمْلَةٌ واحِدَةٌ ، وفي هذا بُعْدٌ كبير .
الرَّابعُ : إذا كان التَّقديرُ وَلِكلِّ قوْمٍ ، فالمعنى : ولكل قوم جعلنهم مَوَالي نصيبٌ مِمَّا تَرَكَهُ والدُهم وأقربوهم ، ف » لكل « خبر مقدّم ، و » نَصِيب « مُبْتَدَأٌ مُؤخَّرٌ ، و » جعلناهم « صفة لقوم ، والضَّمِيرُ العَائِدُ عليهم مفعولُ : » جعل « ، و » موالي « : إما ثانٍ وإمّا حالٌ ، على أنَّهَا بمعنى » خلقنا « ، و » مما ترك « صفةٌ للمبتدأ ، ثم حُذف المُبْتَدَأ ، وبقيت صفته ، [ وحُذِفَ المُضَافُ إليه » كُلّ « وبقيت صفته أيضاً ] ، وحُذف العَائِدُ على المَوْصُوفِ .

ونظيره : لِكُلِّ خَلَقَهُ اللَّه إنْسَاناً مِنْ رِزْقِ اللَّه ، أي : لِكُلِّ أحدٍ خلقه اللَّه إنْسَاناً نَصِيبٌ من رزقِ اللَّهِ .
الخَامِسُ : إنْ كَانَ التَّقدِيرُ : ولكلِّ مالٍ ، فقالوا : يكون المعنى : ولكلِّ مال مِمَّا تركه الوالدانِ والأقربون جعلنا موالي ، أي : وُرَّاثاً يلونه ، ويحوزونه ، وجعلوا « لِكُلّ » متعلقة : ب « جَعَلَ » ، و « مِمَّا ترك » صفة ل « كُلّ » ، والوالدان فَلعِلٌ ب « تَرَكَ » ، فيكونُ الكلامُ على هذا ، وعلى الوجهين قبله كلاماً واحداً ، وهذا وإنْ كَانَ حَسَناً ، إلاّ أنَّ فيه الفَصْلَ بين الصِّفَةِ والموْصُوفِ بجملةٍ عامِلَةٍ في الموْصُوفِ .
قاتل أبُو حَيَّان : « وهو نظير قولك : بكلِّ رَجُلٍ مَرَرْتُ تميميٍّ وفي جواز ذلك نَظَرٌ » .
قال شهَابُ الدِّينِ : « ولا يحتاجُ إلى نَظَرٍ؛ لأنَّهُ قد وُجِدَ الفصلُ بَيْنَ الموْصُوفِ والصِّفَةِ بالجملةِ العَامِلَةِ في المُضَافِ إلى المَوصُوفِ ، كقوله تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات والأرض } [ الأنعام : 14 ] ف { فَاطِرِ } صفة ل { الله } ، وقد فُصِلَ [ بينهما ] ب { أَتَّخِذُ } العامل في { أَغَيْرَ } فهذا أولى » .
السَّادسُ : أنْ يكُونَ لكلِّ [ مال ] مفعولاً ثانياً ل « جعَلَ » على أنَّها تصييرية ، و « مَوَالي » مفعول أوَّل ، والإعرابُ على ما تقدَّمَ .
فصل
« المَولى » لفظ مُشْتَرَكٌ بيْنَ مَعَانٍ :
أحدها : المعتِقُ؛ لأنَّهُ ولي نعمة من أعتقه ، ولذلك سمي مولى النعمة . ثانيها : الْعَبْدُ المُعْتَقُ لاتِّصَالِ ولايَةِ مَوْلاَهُ به في إنْعَامِه عليه ، وهذا كما سُمِّيَ الطَّالِبُ غرِيماً؛ لأنَّ له اللُّزُوم والمطالبة بحقِّه ، ويسمَّى المطلوب غريماً ، لِكونِ الدِّينِ لازِماً له .
وثالثها : الحليفُ؛ لأنَّ المحالف يلي أمْرَهُ بِعَقْدِ اليَمينِ .
ورابعُهَا : ابْنُ العَمِّ؛ لأنَّهُ يليه بالنُّصْرَةِ .
وخامسها : المولى لأنَّ يليه بالنُّصْرَةِ ، قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } [ محمد : 11 ] .
سادسُهَا : العَصَبَةُ ، وهو المُرادُ بهذه الآية؛ لقوله عليه السلامُ : « أنا أوْلَى بالمؤمنينَ ، مَنْ مَات وتَرَكَ مالاً ، فَمَالُهُ لمَوَالِي الْعَصَبَةِ ، ومَنْ ترك ديناً؛ فأنَا وَلِيُّه » .
وقال عليه السلامُ : « ألْحِقُوا الفَرَائِضَ بأهْلِهَا ، فَمَا بَقِيَ فللأوْلَى عصبَةٍ ذكر » .
قوله { والذين عَقَدَتْ } في محلّهِ أربعة أوجهٍ :
أحدُهَا : أنَّهُ مُبْتدأ والخبر قوله : « فآتوهم » [ ودخلت الفاء في الحيز لتضمن الذي معنى الشرط ] .
الثَّاني : أنَّهُ منصوبٌ على الاشْتِغالِ بإضمار فعلٍ ، وهذا أرجحُ مِنْ حَيْثُ إنَّ بَعْدَهُ طلباً .
والثَّالِثُ : أنَّهُ مرفوعٌ عطفاً على { الوالدان والأقربون } ، فإن أريدَ بالوالدين أنَّهُم موروثون ، عادَ الضَّميرُ من « فآتوهم » على « موالي » وإن أُريد أنَّهُم وَارِثُون جازَ عودُه على « موالي » وعلى الوالدَيْنِ وما عُطِفَ عليهم .
الرَّابِعُ : أنَّهُ منصوب عطفاً على « موالي » .
قال أبُو البَقَاءِ : [ أي : ] « وجعلنا الذين عاقدتْ وُرّاثاً؛ وكان ذلك ونسخ » ، وردّ عليه أبُو حَيَّان بِفَسَادِ العطْفِ ، قال : فإن جُعِل من عطْفِ الجُمَل ، وحُذِفَ المفعولُ الثَّاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أيْ : جعلنا وُرَّاثاً لكلِّ شَيْءٍ من المال ، أو لِكُلِّ إنسان ، وجَعلنَا الذِينَ عاقَدَتْ أيمانكم وراثاً وفيه بعد ذلِكَ تَكَلُّفٌ .

انتهى .
وقرأ عاصمٌ وحمْزَةُ والكسَائِيُّ : « عقدت » والباقون : « عاقدت » بألف وروي عن حمزة التَّشديد في « عقدت » ، والمفاعلة هنا ظَاهِرَةٌ؛ لأنَّ المَرَادَ المخالفة .
والمفعولُ محذوفٌ على كُلٍّ من القِرَاءاتِ ، أي : عاقدْتَهم أو عَقَدْتَ حِلْفهم ، ونسبة المُعاقَدَةِ ، أو العَقْدِ إلى الأيمان مجاز ، سوَاءٌ أُريد بالأيْمَانِ الجَارِحَة ، أم القَسمُ .
وقيل : ثمَّ مُضافٌ محذوفٌ ، أي : عقدت ذَوُو أيْمَانِكُم .
فصل في : « معنى المعاقدة والأيمان »
المُعَاقَدَةُ المُحالَفَةُ ، والأيْمَانُ جمع يَمينٍ من اليد والقسَمِ ، وذلك أنَّهُم كانُوا عند المُحالَفَةُ يأخذُ بعضهُمُ يدَ بَعْضٍ ، على الوفَاءِ [ والتمسك ] بالعهد .
فصل الخلاف في نسخ الآية
قال بعضهم : إنَّ هذه الآية مَنْسُوخَةٌ ، واسْتدلُّوا على ذلك بوجوه :
أحدها : أنَّ الرَّجُلَ كان في الجاهلِيَّةِ يُعَاقِدُ غيْرَهُ ، فيقُولُ : « دَميَ دمُكَ وسِلْمِي سِلْمُك ، وَحَرْبِي حَرْبُكَ ، وترثُنِي وَأرِثُك ، وَتَعْقِلُ عَنِّي ، وأعْقِلُ عنك » ، فيَكُونُ لهذا الحليف السّدس [ من ] الميراثِ ، فذلك قوله : « فآتوهم نصيبهم » ، فنُسِخ ذلك بقوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } [ الأنفال : 75 ] ، وبقوله : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] .
وثانيها : أنَّ الرَّجُلَ كانَ يتَّخِذُ أجنبياً فيجعله ابْناً له ، وَهُمُ المُسَمُّوْنَ بالأدْعِيَاء في قوله تعالى : { أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ، وكانوا يتوارثون بذلك ، ثم نُسِخَ .
وثالِثُهَا : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُثْبِتُ المؤاخاة بيْنَ الرَّجلين مِنْ أصحابِهِ ، وكان ذلك سَبَباً للِتَّوَارُثِ ، ثم نسخ .
وقال آخرُونَ : الآيةُ غير مَنْسُوخَةٍ .
وقال إبْراهيمُ ومُجاهِدٌ : أرادَ : « فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة ولا ميراث » .
وقال الجبَّائِيُّ : تقدير الآية : « ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون » ، « والذين عاقدت أيمانكم » معطوف على قوله : « الوالدان والأقربون » ، وسمى اللَّهُ تعالى الوارث مولى ، والمعنى : لا تَدفعُوا المالَ إلى الحليفِ ، بل للمولى ، والْوَارِثِ .
وقال آخرون : المُرادُ ب « الذين عاقدت أيمانكم » الزَّوْجُ ، والزَّوْجَةُ ، فأراد عقد النِّكاح قال تعالى { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } [ البقرة : 235 ] وهو قول أبِي مُسْلِم الأصفهانيَّ قال : ونظيره آية المواريث ، لما بَيَّنَ آية ميراث الوالدَيْنِ ، ذكر معهم ميراثَ الزَّوْجِ ، والزَّوْجَةِ .
وقيل : أراد بقوله : « الذين عاقدت أيمانكم » : الميراث بِسَبَبِ [ الوَلاَء ] وقيل : « نزَلَتِ الآيةُ في أبِي بكرٍ الصِّدِّيق ، وابنه عبد الرَّحْمن ، أمره اللَّه أن يؤتيه نَصِيبَهُ » .
وقال الأصمُّ : المُرادُ بهذا النَّصِيب على سبيل الهِبَةِ ، والهديَّة بالشيءِ القَلِيلِ كأمره تعالى لمن حَضَرَ القِسمَةَ أن يجعل لَهُ نصيباً كما تقدّم .
فصل الخلاف في إرث المولى الأسفل من الأعلى
قال جمهور الفُقَهَاءِ : « لا يَرثُ المَولى الأسْفَل من الأعلى » .

وحكى الطَّحَاوِيُّ عن الحسن بنِ زيادٍ أنَّهُ قال : « يَرِثُ » ، لما روى ابن عباس -رضي الله عنه- أنَّ رجُلاً أعتق عبداً له؛ فَمَاتَ المُعْتِق ، ولم يترك إلا المُعتَق ، فجعل رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق ولأنَّهُ داخلٌ في عموم قوله : « والذين عاقدت أيمانهم فآتوهم نصيبهم » .
وأجيب بأنه لَعَلّ ذلك لما صار لبيت المال دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغُلامِ لحاجته ، وفقره؛ لأنه كانَ مالاً لا وارث لَهُ ، فَسَبيلُهُ أن يُصرف إلى الفُقَرَاءِ .
ثم قال تعالى [ { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] ثم قال ] { إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } ، وهذه كلمة وعد للمطيعين ، ووعيد لِلْعُصَاةِ ، والشَّهِيدُ الشَّاهد ، والمرادُ إمّا علمه تعالى بجميع المَعْلُومَاتِ ، فيكونُ المُرَادُ بالشَّهيدِ العالم ، وإمّا شهادته على الخلق يَوْمَ القِيامَةِ ، فالمُرَادُ بالشَّهيدِ المخبر .

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)

وجه النَّظْم : أنَّ النِّسَاءَ لمّا تَكلَّمْنَ في تَفْضيل [ الله ] الرِّجال عليهن في الميراثِ؛ بيَّن في هذه الآيَةِ أنَّهُ إنَّمَا فضَّل الرِّجَال على النِّسَاءِ في الميراث؛ لأنَّ الرِّجالَ قوَّامون على النساء؛ فهم وإن اشْترَكُوا في اسْتِمْتَاعِ كُلّ واحدٍ منهم بالآخر ، فاللَّهُ أمَرَ الرِّجَالَ بالْقِيَامِ عليهنَّ والنفقة ، ودفع المَهْرِ إليهنَّ .
وَالْقَوَّامُ ، والقَيِّمُ بمعنى واحد ، والقوام أبْلَغُ ، وهو القيم بالمصالح ، والتَّدْبِيرِ ، والتَّأدِيبِ ، والاهتمام بالْحِفْظِ .
قال مُقَاتِلٌ : « نزلت في سَعْد بْنِ الرَّبيعِ ، وكان من النقباء وفي امرأته حبيبةَ بِنْتِ [ زَيْدِ ابْنِ خارجة بن أبي زهير ] .
وقال ابْنُ عَبَّاس ، والكلْبِيُّ : » امرأته عَميرَةُ بِنْتُ محمد بْن مَسْلَمةَ ، وذلك أنَّها نَشَزَتْ عليه ، فَلَطَمَهَا فانْطلقَ أبُوها معها إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفَرْشْتُهُ كريمَتِي فلطمَهَا ، وإنَّ أثَرَ اللَّطْمَةِ بَاقٍ في وَجْهِهَا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اقتصِّي منه ثم قال : اصبري حتى أنظر ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبي عليه السلام : أردْنَا أمراً ، وأرَادَ اللَّهُ أمْراً ، والَّذِي أرَادَ اللَّهُ خَيْر ، ورَفَعَ الْقِصَاصَ « .
قوله : { عَلَى النسآء } متعلق ب { قَوَّامُونَ } وكذا » بما « والباء للسَّبَبيَّةِ ، ويجوز أن تكُونَ لِلْحَالِ ، فتتَعلَّق بِمحذُوفٍ؛ لأنَّهَا حَالٌ من الضَّميرِ في { قَوَّامُونَ } تقديره : مُسْتَحِقِّينَ بتفضيل اللِّهِ إيَّاهُمْ ، و » مَا « مَصْدَريَّةٌ ، وقيل : بمعنى الَّذِي ، وهو ضعيفٌ لحذف العائِدِ من غَيْرِ مُسَوِّغ .
والبعضُ الأوَّلُ لمُرادُ به الرِّجالُ ، والبَعْضُ الثَّاني : النسَاءُ ، وعَدلَ عَنِ الضَّميريْن فلم يَقُل : بما فَضَّلَهم اللَّهُ عَلَيْهِنَّ ، للإبهام الذي في بَعْض .
فصل في دلالة الآية على تأديب النساء
دَلَّت الآيةُ عَلَى تأديبِ الرِّجَالِ على النِّسَاءِ من وُجُوهٍ كثيرةٍ؛ بعضها صفات حقيقيَّة ، وبعضها أحْكَامٌ شرْعيَّةٌ ، فالصِّفَاتُ الحقيقيَّة [ أن ] عُقُولَ الرِّجَالِ وعُلُومَهُم أكْثَر ، وقُدْرَتهم على الأعْمَالِ الشَّاقَّة أكْمَل ، وفيهم كذَلِكَ من الْعَقْلِ والْقُوَّةِ والكِتَابَةِ في الغالب والفُرُوسيَّةِ ، والرَّمْي ، وفيهمُ العُلَمَاءُ ، والإمَامَةُ الكُبْرَى [ والصغرى ] ، والجهادُ والأذانُ ، والخطبةُ ، والجمعةُ ، والاعْتِكَافُ ، والشَّهَادَةُ على الحدود والقِصَاص ، وفي الأنْكِحَةِ عند بعضِهِم ، وزيادة نصيب الميراث ، والتَّعْصيب ، وتحمل الدِّية في قتل الخَطَأ ، وفي القَسَامَةِ ، وفي ولايةِ النِّكَاحِ ، والطَّلاقِ ، والرَّجْعَةِ ، وعَدَدِ الأزْوَاجِ ، وإليهم الانتساب .
وأمّا الصِّفَاتُ الشَّرعيَّةُ فقوله تعالى : { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } والمرادُ : عطية المَهْرِ ، والنَّفَقَة عليها ، وكُلُّ ذلك يَدُلُّ على فَضْل الرِّجَالِ على النِّسَاءِ .
قوله تعالى : { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ } يَتَعَلَّقُ بما تَعَلَّق به الأوَّلُ ، و » مَا « يَجُوزُ أنْ تكُونَ بمعنى » الّذِي « من غير ضَعْفٍ؛ لأنَّ للحذف مسوِّغاً ، أي : » وبما أنفقوه من أموالهم « .
{ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } متعلّق ب { أَنْفَقُواْ } ، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من الضَّمير المحذُوف .
فصل
قال القُرْطبِيُّ : قوله : { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } يدلُّ على أنَّهُ متى عجز عن نَفَقَتِهَا ، لم يَكُن قوَّاماً عليها [ وإذا لم يكن قوّاماً ] كان لها فَسْخُ العَقْدِ؛ لزوال المَقْصُودِ الَّذي شُرع لأجْلِهِ النِّكَاحُ ، فدلَّ ذلك على ثبوت فَسْخِ النِّكَاحِ عند الإعسار بالنَّفَقَةِ ، والكِسْوَةِ ، وهذا مَذْهَبُ مَالِكٍ والشَّافعيّ ، وأحْمدَ .

وقال أبو حنيفة : لا يُفْسَخُ لقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] .
قوله : { فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله } ] « الصَّالحات » مبتدأ ، وما يَعْدَهُ خبران لَهُ ، و « للغيب » مُتعلِّق ب « حَافظاتٌ » و « أل » في « الغيب » عوض من الضَّميرِ عند الكُوفييِّنَ كقوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] ، أي : رأسي وقوله : [ البسيط ]
1791- ب- لميَاءُ في شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وَفِي اللِّثَاتِ وفِي أنْيَابِهَا شَنَبُ
أي : لثاتها .
والجمهور على رفع الجلالةَ من { حَفِظَ الله } وفي « مَا » على هذه القراءة ثلاثَةُ أوْجُه :
أحدُهَا أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ ، والمعنى : بحظ اللَّه إيَّاهُنَّ أي : بتوفيقه لهن ، أو بالوصيَّةِ منه تعالى عليهنَّ .
والثاني : أن تكُونَ بمعنى الذي ، والعَائِدُ محذوفٌ ، أي : بالَّذي حفظه اللَّهُ لَهُنَّ مِنْ مُهُورِ أزواجهِنَّ ، والنّفقة عليهن ، قاله الزَّجَّاجُ .
والثَّالِثُ : أن تكُونَ « مَا » نكرة موصوفة ، والعَائِدُ محذوفٌ أيضاً ، كما تقرَّرَ في المَوْصُولَةِ ، بمعنى الَّذِي .
وقرأ أبُو جَعْفَرٍ بنصب الجَلاَلَةِ . وفي « مَا » ثلاثة أوجه أيضاً :
أحدُهَا : أنَّها بمعنى الَّذِي .
والثَّانِي : [ أنها ] نكرةٌ موصُوفَةٌ ، وفي { حَفِظَ } ضمير يعُودُ على [ « ما » ] أي : بما حفظ من البرِّ والطَّاعَةِ ، ولا بدّ من حَذْفِ مضافٍ تقديره : بما حَفِظَ دين اللَّه ، أو أمر اللَّه؛ لأنَّ الذَّات المقدَّسة لا يحفظها أحَدٌ .
والثَّالِثُ : أنْ تكُونَ « مَا » مَصْدريَّة ، والمعنى : بما حفظن اللَّه في امتثال أمره ، وَسَاغَ عَوْدُ الضَِّميرِ مُفْرَداً على جَمْعِ الإنَاثِ؛ لأنَّهُنَّ في معنى الجنس كأنه قيل : « فمن صلح » فَعَاد الضَّميرِ مُفْرداً بهذا الاعتبارِ ، ورُدَّ هذا الوجه بِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الضَّميرِ لما يعودُ عليه وهذا جوابه ، وجعله ابْنُ جِنّي مثل قول الشَّاعِرِ : [ المتقارب ]
1792- .. فإنَّ الحَوَادِثِ اوْدَى بِهَا
أي : أوْدَيْنَ ، وَيَنْبَغِي أن يُقَالَ : الأصْلُ بما حفظت الله ، والحوادث أوْدَتْ ، لأنَّهَا يَجُوزُ انْ يَعُودَ الضَّميرُ عَلَى [ جمع ] الإنَاثِ كَعَوْدِهِ عَلَى الوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ ، تقول : النِّسَاءُ قَامَتْ ، إلاَّ أنَّهُ شَذَّ حذفُ تَاءِ التَّأنيثِ مِنَ الْفِعْلِ المُسْندِ إلى ضَميرِ المُؤنَّثِ .
وقرأ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودِ -وهي في مُصْحَفِهِ كَذَلِكَ- « فالصالح قوانت حوافظ » بالتكسير .
قال ابْن جني : وهي أشْبَهُ بالمَعْنَى لإعطائِهَا الكَثْرَة ، وَهِيَ المَقْصُودَةُ هُنَا ، يعني : أن « فَوَاعِل » من جُمُوعِ الكَثْرَةِ ، وجمع التَّصحيح جمع قلَّةٍ ، ما لم تَقْتَرِنْ بالألف واللاَّمِ . وظاهِرُ عِبَارَةَ أبِي البَقَاءِ أنه لِلقِلَّةِ ، وَإنْ اقْتَرَنَ ب « أل » فإنَّهُ قال : وجمع التَّصحيح لا يدلّ على الكثرة بوضعِهِ ، وقد استعمل فيها كقوله تعالى : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } [ سبأ : 37 ] .
وفيما قالهُ [ أبُو الفتح ] وأبُو البقاءِ نَظَرٌ ، فإنَّ « الصَّالِحات » في القراءةِ المَشْهُورَةِ مُعَرَّفَةٌ بِأل ، وقَد تَقَدَّمَ أنَّه تكُونُ لِلْعُمُومِ ، إلاَّ انَّ العموم المفيد للكثرة ، ليس مِنْ صيغَةِ الجَمْعِ ، بل مِنْ « ألْ » ، وإذا ثَبَتَ أن « الصَّالِحَاتِ » جمع كَثْرَةٍ ، لَزِمَ أنْ يكُونَ « قَانِتَات » و « حَافِظَات » للكثرة؛ لأنَّهُ خبرٌ عن الجميعِ ، فَيُفِييدُ الكَثْرَةَ ، ألا تَرَى أنَّكَ إذا قلت : الرِّجَالُ قَائِمُونَ ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ قَائِماً ، ولا يجوز أن يكُونَ بعضُهم قاعداً ، فإذاً القراءةُ الشَّهيرةُ وافيةٌ بالْمعنى [ المقصود ] .

فصل
قال الواحديُّ : لفظ القنُوتِ يُفيدُ : الطَّاعَةَ ، وَهُوَ عَامٌّ في طَاعَةِ اللهِ ، وطاعة الأزْوَاجِ ، وما حَالُ المرأةِ عِنْدَ غَيْبَةِ الزَّوْجِ فقد وصفها اللهُ بقوله : { قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ } ، واعْلَمْ أنَّ الغيب ، خلاف الشَّهَادَةِ ، والمعنى : كَوْنُهنَّ حافِظَاتٌ بموجب الغَيْب ، وهو أنْ تَحْفَظَ نَفْسَهَا عن الزِّنَا؛ لئلا يلحق الزَِّوْج الغَائب عار الزِّنَا ، ويلحق به الوَلَد المتكون من نُطْفَةِ غيرِهِ ، وتحفظ ماله لئلا يضيع ، وتحفظ مَنْزِلَهُ عَمَّا لا يَنْبَغِي ، قال عليه السَّلامُ : « خَيْرُ النِّسَاءِ امرأةٌ إن نَظَرَتْ إلَيْهَا سَرَّتْكَ ، وَإنْ أمرتها أطاعَتْكَ ، وإنْ غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ في مَالِكَ ونفسها » وتلا هذه الآية .
قوله : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } لما ذكر الصالحات ذكر بعده غير الصّالحات فقال : « واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهنّ » والخَوْفُ عِبَارَةٌ عَن حَالَةٍ تَحْصُلُ في القَلْبِ ، عند حُدُوثِ أمر مَكْرُوهٍ في المُسْتَقْبل .
قال الشَّافِعيُّ -رضي الله عنه- : دَلالَةُ النُّشوُزِ قَدْ تكُونُ قَوْلاً ، وقد تكُونُ فِعْلاً ، فالقول مثل أن تلبيه إذا دَعَاهَا ، وتخْضَعُ لَهُ بالقَوْلِ إذَا خَاطَبَهَا ثُم تغيَّرتْ ، والفِعْلُ إن كَانَتْ تَقومُ إلَيْهِ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا ، أوْ تُسارعُ إلى أمره وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها ، ثم [ إنها ] تغيرت عَنْ كل ذلك ، فهذه إمارَاتٌ دالةٌ على النُّشوزِ ، فحينئذٍ ظنَّ نُشُوزهَا ، فهذه المقدمَاتُ تُوجِبُ خَوْفَ النُّشُوزِ ، وأمّا النشوز فهو مغصية الزَّوْج ، وُخَالَفَتَهُ ، وأصْلُهُ مِنْ قولهم : نَشَزَ الشَّيْئُ إذا ارتفع ، ومنه يُقالُ للأرضِ المرتفعة : « نَشَزٌ » ، يُقَالُ : نَشَزَ الرَّجُلُ ينشِز [ وينشُز ] إذا كان قاعداً فَنَهض قَائِماً ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ يَرْفَعِ الله } [ المجادلة : 11 ] ارتفعوا أو انهضوا إلى حرب أو أمر من أمور اللهِ تعالى .
وقال أبُو منْصُورٍ اللُّغَويُّ : « النُّشُوزُ كرَاهِيَةُ كُل واحد من الزَّوْجَيْنِ صاحِبَهُ ، يقال : نَشَزَتْ تَنْشَزُ ، فهي نَاشِزٌ بغير هاء ، وهي السَّيِّئَةُ العِشْرَةِ » .
وقال ابْنُ دُرَيْدٍ : « نَشَزَتْ المرْأةُ ، وَنَشَسَتْ ، ونَشَصَتْ بمعنى واحد » .
قوله : « فعظوهنّ » ، أي : بالتخويف من الله تعالى ، فَيُقَالُ : اتَّقي الله فإنَّ عليك حقًّا لي ، وارجعي عمّا أنت عليه ، واعْلَمِِي أنَّ طاعتي فرضٌ عليك ، فإن أصرَّت على النُّشوزِ ، فيهجرها في المَضْجَعِ .
قال ابْنُ عَبَّاسٍ « يوليها ظَهْرَهُ في الفِرَاشِ ، ولا يُكَلِّمُها » .
وقال غيره : « يَعْتَزِلُ عَنْهَا إلى فِرَاشٍ آخر » .

قال الشَّافعيُّ : « ولا يزيد في هجره في الكلام على ثَلاثٍ ، فإذَا هجرها في المَضْجَع ، فإن كانت تَبْغَضُه ، وافقها ذلك الهجران ، فيكونُ ذلك دليلاً على كمال النُّشوزِ » .
ومنهم من حَمَلَ الهِجْرَانَ في المَضَاجِعِ على تَرْكِ المُبَاشَرَةِ .
وقال القرطبي : وقيل : اهْجرُوهُنَّ مِنَ الهُجْرِ ، وهو القَبيحُ من الكَلاَمِ ، أي : غلظُوا عليْهِنَّ فِي القَوْلِ ، ضاجعوهن للجماع وغيره و [ قال ] معناه سفيان [ الثَّوْرِي ] ، وروي عن ابْن عَبَّاسٍ .
وقيل : شدّوهن [ وثاقاً ] في بيوتهن ، من قولهم : هجر البعيرَ ، أي : ربطه بالهجار ، وهو حَبْلٌ يُشَدُّ به البعيرُ ، وهذا اختِيارُ الطَّبري ، وقدح في سائر الأقْوالِ ، ورَدَّ عليه القاضِي أبُو بَكْرٍ بْن العَرَبِيّ وقال : « يا لها من هَفْوَة عالمٍ بالقرآن والسُّنَّةِ ، والَّذي حملَهُ على [ هذا ] التأويلِ حديثٌ غريبٌ ، رواه ابْنُ وهب عن مالكٍ : أنَّ أسْمَاءَ بنتَ أبي بكر الصّديق امرأةَ الزُّبَيْرِ بنِ العَوّامِ كانت قد نَشَرَتْ على زوجها فقد شعر واحدة بالأخْرَى ثم ضَرَبَهَا » الحديث .
فرأى الرَّبط والعقد ، مع احْتِمَالِ اللَّفْظِ ، مع فعل الزُّبَيْرِ ، فأقدم على هذا التَّفْسيرِ « .
قال القرطبيُّ : وهذا الهَجْرُ غَايَتُهُ عِنْدَ العُلَمَاءِ شهر ، كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين أسَرَّ إلى حَفْصَة حديثاً ، فأفشته إلى عَائِشَةَ -رضي الله عنها- .
قوله : { فِي المضاجع } فيه وجهان :
أحدها : أنَّ » في « على بابها من الظرفيَّةِ متعلّق ب { اهجروهن } أي : اتركوا مضاجعتهن ، أي : النَّوْمَ مَعَهُنَّ دون كلامِهِنَّ ومؤاكلتهنَّ .
والثَّاني : أنها للِسَّبَبِ . قال أبُو البقاءِ : { واهجروهن } بسبب المضاجع ، كما تَقُولُ : في هذه الجِنَايَةِ عُقُوبَةٌ ، وجعل مكي هذا الوجه مُتَعَيِّناً ، ومنع الأول ، قال : ليس { فِي المضاجع } ظرفاً للهجران ، وإنَّمَا هو سَبَبٌ لِهِجْرَانِ التَّخَلُّفِ ، ومعناه : فاهجروهنّ من أجل تخلفهن عن المُضاجَعَةِ معكم ، وفيه نَظَرٌ لا يخفى .
وكلام الوحِدِي يُفْهِم أنَّهُ يجوزُ تعلُّقه ب { نُشُوزَهُنَّ } ، فإنه قال -بعدما حكى عن ابْنِ عَبَّاسٍ كلاماً- : والمعنى على هذا : » واللاتي تخافون نشوزهن في المضاجع « ، والكلامُ الذي حَكاهُ عن ابن عباس هو قوله : هذا كُلُّهُ في المَضْجَعِ ، إذا هي عَصَتْ أن تَضْطَجِعَ مَعَهُ ، ولكن لا يجوزُ ذلك؛ لئلاّ يلزمَ الفَصْلُ بين المَصْدَرِ ومعموله بأجنبيّ .
وقدّر بعضهم مَعْطُوفاً بعد قوله : » واللاتي تخافون « ، أي : واللاتي تخافون نشوزهن ، ونَشَزْنَ ، كأنَّهُ يريد أنَّهُ لا يجوُز . ُ الإقدام على الوَعْظِ ، وما بعده بِمُجَرَّدِ الخَوْفِ .
وقيل : لا حَاجَةَ إلى ذلك؛ لأنَّ الخَوْفَ بمعنى اليقين [ قال تعالى { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } [ البقرة : 182 ] ، قال ابن عباسٍ : تخافون بمعنى تتيقّنون ] ، وقيل : غلبة الظنِّ في ذلك كافِيَةٌ .
قوله : { واضربوهن } يعني : أنَّهُنّ [ إن ] لم ينزعن مع الهجران فاضربُوهُنَّ ، يعني ضرباً غَيْرَ مُبَرَّحٍ ، ولا شَائِنٍ .
قال عَطَاءٌ : » [ هو ] ضَرْب بالسِّواكِ « .
وقال عليه السَّلامُ في حقّ المرْأةِ :

« أنْ تُطْعِمَهَا إذَا طَعِمَتْ ، وتكسوها إذا اكْتَسَيت ، ولا تضرب الوَجْهُ ، ولا تهجر إلاَّ في البَيْتِ » .
قال الشَّافِعيُّ : يكُونُ دون الأرْبَعينَ .
وقال بعضُهُم : لا يَبْلغُ به عِشْرِينَ ، لأنَّهُ حدٌّ كامِلٌ في حَقّش العبد ، ويكونُ بحيث لا يُفْضي إلى الهَلاَكِ ، ويَكُونُ مفرقاً على بدنها ، ولا تجوزُ الموالاة في مَوْضِعٍ واحدٍ ، ويتقي الوجه .
قال بعضُ العُلَمَاءِ : يكُونُ الضَّرْبُ بمنديلٍ مَلْفُوفٍ ، أو بِيَدِهِ ، ولا يَضْرِبُهَا بالسِّياطِ ، ولا بالعَصَا ، وبالجملة فالتَّخفيفُ مراعى في هَذَا البَابِ .
قال الشَّافعيُّ : « الضَّرْبُ مُبَاحٌ وتركُهُ أفْضَلُ » .
واختلفوا : هل هذا الحُكْمُ على الترتيبِ ، أم لا؟ قال عَلِيُّ بْنُ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- : يَعِظُهَا بِلِسَانِهِ ، فإنْ أبَتْ هَجَرَهَا فِي المَضْجَعِ [ فإن أبتْ ضَرَبَهَا ] ، فإن لم تَتَّعِظْ بالضَّرْبِ بَعَثَ الحكم [ مِنْ أهْلِهِ ] .
وقال آخرون : هذا الترتيب مراعى عند خَوْف النُّشُوزِ أمّا عند تحقق النشوز ، فلا بأس بالجمع بين الكُلِّ .
قوله : « [ فإن أطعنكم ] فلا تبغوا عليهن سبيلاً » في نَصْبِ « سبيلاً » وجْهَانٍ :
أحدهما : أنه مفعول به .
والثَّانِي : أنَّهُ على إسْقَاطِ الخَافِضِ ، وهذان الوَجْهَانِ مبنيان على تفسِير البَغْي هنا ما هو؟ فقيل : هو الظٌّلْمُ من قوله : { فبغى عَلَيْهِمْ } [ القصص : 76 ] ، فعلى هذا يَكُونُ لازِماً ، و « سبيلاً » منصوب بإسْقَاطِ الخَافِضِ أي : كسبيل .
وقيل : هو الطَّلب ، من قولهم : بَغَيْتُه ، أي : طلبته ، وفي { عَلَيْهِنَّ } وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق ب { تَبْغُواْ } .
والثَّاني : أنَّهُ مُتَعَلِّق بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من { سَبِيلاً } ، لأنه في الأصلِ صفة النكرة قُدِّم عليها .
فصل
قال بعضُهُم : معناه : لا تتجنّوا عليهنَّ بقولٍ ، أو فِعْلٍ . قال ابْنُ عيينَةَ لا تكِّفوهُنَّ محبتكم ، فإنَّ القلب ليس بأيديهن ، ثم قال تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } مُتعلياً عن أنْ يكلّف العبادَ ما لا يُطيقُونَهُ ، فلذلك لا تُكلفوهنّ محِبَتَكُم ، فإنهن لا يطقنَ ذِلكَ .
وقيل : إنَّهُ مع عُلُوِّهِ ، وكبريائه لا يُؤاخِذُ العَاصي إذَا تَابَ ، فأنتم أولى إذا تابت المرأةُ من نُشُوزِهَا بأن تقبلوا تَوْبَتَهَا ، وقيل : إنَّهُنَّ إن وضعن عن دَفْعِ ظلمكم فاللهُ سبحانه كبيرٌ عليٌّ قاهر يَنْتَصِفُ لَهُنَّ مِنْكُمْ .

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)

لما ذكر الضربَ ذَكَرَ هذه المحاكمة؛ لأنَّ بها يتبينّ المظلومُ من الظَّالِمِ .
قال ابْنُ عَبَّاسٍ : { خِفْتُمْ } أي : علمتم قال : وَهَذَا بِخِلافِ قوله تعالى : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } ، فإنَّ ذلك محمول على الظَّنِّ ، والفرق بَيْنَ الموضِعَيْنِ في الابْتِدَاءِ يظهرُ له أمارات النُّشُوزِ ، فعند ذلِك يحصل الخَوْفُ ، وأمّا بَعْدَ الوعْظِ ، والهجر والضَّرْبِ إن أصرّت على النُّشُوزِ ، فقد حَصَلَ العِلْمُ بالنُّشُوزِ ، فَوَجَبَ حملُ الخَوْفِ ههنا على العِلْمِ .
وقال لزَّجَّاجُ : القول بأن الخَوْفَ ها هنا بمعنى اليَقِيِنِ خطأ ، فإنّا لو عِلِمْنَا الشقاق عَلَى الحَقيقَةِ لم يحتج إلى الحُكمِ ، وأُجيبَ بأن وجود الشقاق وإن كانَ مَعْلُوماً ، إلاَّ أنا لا نَعْلم أن ذلك الشِّقاق صدر عَنْ هَذَا ، أو عَنْ ، ذلك ، فالحَاجَة إلى الحَكَمِيْنِ لمَعْرِفَةِ هذا المَعْنَى .
قال ابْنُ الخَطيبِ : ويمكنُ أن يُقالَ : وُجود الشِّقَاقِ ف بالحَالِ مَعْلُومٌ ، ومثل هذا لا يَحْصُلُ منهُ خَوْفٌ ، إنَّمَا الخَوْفُ في أنَّهُ هل يَبْقَى ذلك الشِّقَاقُ أم لا ، فالفَائِدَةُ في بعث الحكمين لِيْسَتْ إزالة الشِّقَاقِ الثَّابِت ، فإنَّ ذلك مُحَالٌ ، بل الفائِدَةُ إزالة ذلك الشِّقاق في المُسْتَقْبَلِ .
قوله : { شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الشِّقَاقَ مضاف إلى « بَيْنَ » ومعناها الظَّرْفِيَّةُ ، والأصْلُ : « شقاقاً بينهما » ، ولكنَّهُ اتَّسع فيه ، فأضيف الحَدَثُ إلى ظَرْفِهِ وإضافة المصدر إلى الظرف جائزة لحصوله فيه ، وظرفيته باقية نحو : سَرَّنِي مسير اللَّيْلَةِ ، ويعجبني صَوْمُ يَوْم عَرَفَةَ ، ومنه : { بَلْ مَكْرُ الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] .
والثَّاني : أنه خَرَجَ عن الظَّرفيَّةِ ، وبقي كَسَائِرِ الأسْمَاءِ ، كأنه أُريد به المُعَاشرة ، والمصاحبة بين الزَّوْجَيْنِ ، وإلى مَيْلِ أبي البقاء قال : والبَيْنُ هنا الوَصْلُ الكائنُ بين الزوجين « وللشقاق تأويلان :
أحدهما : أن كل واحد منهما يفعل ما يَشُقُّ على صاحبه .
والثاني : أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة .
فصل [ معاني الشقاق ]
وقد ورد الشِّقاقُ على أربعة أوْجُهٍ :
الأوَّلُ : بمعنى الخِلاَفِ كهذه الآية ، أي : خلاف بينهما .
الثَّاني : الضَّلالُ ، قال تعالى : { وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ الحج : 53 ] أي : في ضلال .
الثَّالث : أن الشِّقَاقَ : العداوة قال تعالى : { وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي } هود : 89 ] أي : عداوتي ، و [ العداوة ] وممّا يشق على صاحبه .
الرابع : أنّ كُلَّ واحدٍ منها صار في شقّ بالعداوة ، والمباينة .
فصل [ هل البعث خطاب للإمام أم لآحاد الناس ]
قوله { فابعثوا } قال بعضهم : هذا خِطَابٌ للإمام ، أو نائبة وقال آخرون : هَذَا خطابٌ عامٌّ للجميع ، وليس حمله على البَعْضِ أولى من حَمْلِهِ على البَقِيَّةِ ، فَوَجَبَ حملُهُ على الكُلِّ ، فعلى هذا يكونُ أمراً لآحاد الأمة سواء وجد الإمام ، أم لم يُوجَدْ ، فللصَّالحين أنْ يَبْعَثُوا حكماً من أهلِهِ ، وحكماً من أهْلِهَا للإصلاح ، ولأنَّ هذا يَجْرِي مَجْرَى دَفْع الضَّرَر ، ولكل أحد أنْ يَقُومَ به .
قوله : { مِّنْ أَهْلِهِ } فيه وجهان :
أحدُهُمَا : أنه متعلِّق ب { فابعثوا } فهي لابتداء الغاية .

والثَّاني : أن يتعلَّق بمحذُوف؛ لأنَّهَا صفة للنكِرَةِ ، أي : كائناً من أهله فهي للتَّبْغيضِ .
فصل
شَرْطُ الحَكَمَيْنِ أن يكونَا عَدْلَيْنِ ، ويجعلهما الحَاكِمُ حَكَمَيْنِ ، والأولى أنْ يكُونَ [ واحد من أهْلِهِ ، وواحد من أهْلِهَا ، لأنَّ أقاربهما أعرف بحالهما من الأجَانِبِ ، وأشدّ طلباً للصلاح ، فإن كانا ] أجنبيّين [ جَازَ ] .
وفائدة الحكمين أن يخلو كُلّ واحد منهما بِصَاحِبِه ، ويستكشف منه حقيقةَ الحَالِ ، ليعرفَ رَغْبَتَهُ في الإقَامَةِ معه على النِّكَاحِ ، أو المُفَارَقِةِ ، ثمَّ يَجتمعُ الحكمان ، فَيَفْعَلاَنِ ما هو المَصْلَحَةُ من طلاقٍ ، أو خَلْع .
وهل للحكمين تَنْفِيذُ أمْرٍ يُلْزِمُ الزَّوِجَيْنِ دون إذْنِهِمَا ، مثل : أن يطلق حَكَمُ الرَّجل ، أو يفتدي حَكَمُ المرْأةِ بشيءٍ من مالِهَا؟
قال أبُو حَنِيفَةَ : لاَ يَجُوزُ .
وقال غيره : يَجُوزُ .
قوله : { إِن يُرِيدَآ } يَجُوزُ أن يَعُودَ الضميران في { إِن يُرِيدَآ } و { بَيْنَهُمَآ } على الزَّوْجَيْنِ ، أي : إن يُرد الزَّوجان إصلاحاً يُوفِّق اللهُ بَيْنَ الزوجين ، وأنْ يَعُودا على الحَكَمَيْنِ ، وأن يُعودَ الأوَّلُ على الحَكَمَيْنِ ، والثَّانِي على الزَّوْجَيْنِ ، وأنْ يَكُونَ بالعكس وأُضْمِرَ الزَّوجان وإن لم يجر لهما ذكرٌ لدلاَلَةِ ذِكرِ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ عليهما . وجعل أبُو البقاءِ الضَّميرَ في { بَيْنَهُمَآ } عائداً على الزَّوْجَينِ فقط ، سَوَاءٌ قيل بأن ضمير { يُرِيدُ الله } عائداً على الحكمين ، او الزوجين .
فصل
قال القُرْطُبِيُّ : ويجزي إرسالُ الوَاحِدِ قال : لأن الله - تعالى - حكم في الزنا بأربعة شهود ، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزَّانية أنَيْساً وحده ، وقالَ له : « إن اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا » قال : وإذا جَازَ إرسال الواحد فلو حَكَّمَ الزوجان واحداً أجْزَأ إذَا رَضِيَا بذلك ، وإنما خاطب الله الحكام دون الزوجين ، فإن أرسل الزوجان حَكَمَيْنِ وحَكما نفذ حكمهما؛ لأن التحكيم عندنا جائز ، وينفذ فعلُ الحكم في كل مسألة ، إذا كان كل واحد منهما عدلاً .
وأصل التوفيق المُوافَقَةَ ، وهي المُسَاوَاة في أمْرِ من الأمور ، فالتَّوْفِيق اللُّطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة . ثم قال : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } والمراد : الوعيد للزَّوْجَيْنِ والحَكَمَيْنِ في طريق سُلُوك المُخَالفِ الحق .

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)

لمَّا أرشد كُلَّ وَاحِدٍ من الزَّوْجَيْنِ إلى المُعَاملة الحسنة [ مع الآخر ، أرشد في هَذهِ الآية إلى سَائِرِ الأخْلاَق الحَسَنة ] وذكر منها [ هَهُنا ] عَشْرَة أنْوَاع :
الأول : قوله - تعالى - { واعبدوا الله } قال ابن عبَّاس : وَحِّدوُهُ ، واعلم أن العِبَادة عبارةٌ عن كل عَمَل يُؤْتَى به لمجَرَّد أمْر الله - تعالى - بذلك ، ولما أمَر بالعبَادَةِ ، أمر بالإخلاصِ فيها : فقال { وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } .
قال القرطُبي : ذكر العُلَمَاء أن من تطهَّر [ تَبَرُّداً ] أو صام [ حميَّة ] لِمعدَتِهِ ، ويرى مع ذَلِكَ التَّقرُّب لم يُجْزِه؛ لأنه مَزَج [ نية ] التَّقرُّب بنيَّة دُنْيَويَّة ، ولذا إذا أحسَّ الإمام بداخِلٍ وهو رَاكِعٌ لم يَنْتَظِرْه ، لأنه يُخْرِج ذكر [ الله ] بانتظاره عن كَوْنِه خالصاً - لله - تعالى .
ثم قال { وبالوالدين إِحْسَاناً } وتقدم الكلام على نظير هذا في البَقَرَةِ ، واتَّفقوا على أن ههنا مَحْذوفاً ، والتَّقْدير : « وأحسنوا بالوالدين إحساناً » ؛ كقوله : « فضرب الرقاب » أي : فاضْربُوها ، وقرأ ابن أبي عَبْلَة : « إحسان » بالرَّفع على أنَّه مُبْتَدأ ، وخبره الجَارّ [ والمجرور ] قَبْلَهُ .
والمراد بهذه الجُملَةِ : الأمر بالإحسان وإن كانت خبريةً؛ كقوله- تعالى- { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 18 ] .
قوله : { وَبِذِي القربى } فأعاد الباء ، وذلك لأنها في حق هذه الأمَّة ، فالاعتناء بها أكثر ، وإعادة الباء تدل على زيادة تأكيد فنتسب ذلك هنا ، بخلاف آية البَقَرَة ، فإنَّها في حقِّ بني إسْرائيل ، والمراد الأمْر بصلَة الرَّحم ، كما ذكر في أول السُّورة بقوله : { والأرحام } [ النساء : 1 ] .
واعلم أن الوَالِدَيْنِ من القَرَابة أيضاً ، إلا أنَّهما لمّا تَخَصَّصَت قرابتهما بكَوْنِهمَا أقرب القَرَابات ، لا جرم خصّهما بالذِّكْر .
{ واليتامى } فاليتيم مَخْصُوص بنوعِيْن من العَجْز :
أحدهما : الصِّغر .
والثاني : عَدَم المُنْفِق ، ومن هذا حَالهُ كان في غَايَة العَجْزِ واستِحْقَاقِ الرحمة .
قوله { والمساكين } فالمسْكين وإن كان عدِيم المالِ ، إلا أنَّه لكبره يمكنه أن يَعْرض حالَ نَفْسَه على الغَيْرِ؛ فيجتلب به نَفْعَاً أو يدفعَ به ضرراً ، وأما اليتيمُ ، فلا قُدرة له؛ فلهذا المعنى قدَّم الله اليتيم في الذِّكر على المِسْكِين ، والإحْسَان إلى المِسْكِين إما بالإجْمَالِ إلَيْهِ ، وإمّا بالرَّدِّ الجميل ، لقوله : { وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 10 ] .
وقوله : { والجار ذِي القربى } الجمهور على خفض الجارّ ، والمراد به القَرِيب النَّسِيب ، وبالجار الجُنُب : لبعيد النَّسِيب .
وعن مَيْمُون بن مَهْرَان : والجار ذِي القُرْبَى ، أُريد به الجارِ القريب ، قال ابن عطيَّة : وهذا خطأ؛ لأنَّه على تأويله جمع بين ألَ والإضافة ، إذ كان وَجْه الكَلاَمِ : وجار ذي القُرْبَى [ الجار القريب ] ، ويمكن جوابُه على ان ذِي القُرْبَى ، بدل من الجارِّ على حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : والجار ذِي القُرْبَى؛ كقوله : [ الخفيف ] .
1793- نَصَرَ اللهُ أعْظُماً دَفَنُوهَا ... بسجِسْتَانَ طَلحة الطَّلحَاتِ
أي : أعْظُم طَلْحَة ، [ ومن كلامهم ] : لو يعلمُون العِلْم الكبيرة سنة ، أي : علم الكبيرة سنّه ، فحذف البَدل لدلالة الكلام عليه .

وقرأ بعضهم : « والجار ذا القربى : نصباً ، وخرجه الزَمَخْشَرِي على الاخْتِصَاص لقوله - تعالى - : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] والجُنُب صِفَة على فُعُل ، نحو : » ناقة سُرُح « ، ويَسْتَوي فيه المُفْرَدَ والمثّنَّى والجُمُوع ، مذكراً أو مؤنثاً ، نحو : » رجال جنب « وقال - تعالى- : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً } [ المائدة : 6 ] ، وبعضهم يثنيه ويجمعه ، ومثله : شُلُل ، وعن عَاصِم : والجَار الجَنْبِ ، بفتح الجيم وسُكُون النون وهو وَصْفٌ أيضاً بمعنى المُجَانِب ، كقولهم : رجل عَدْل ، وألفُ الجَار عن واو؛ لقولهم : تجاورُوا ، وجَاوَرْتُه ، ويُجْمَع على جيرة وجِيَران ، والجَنَابَةِ البُعْد؛ قال [ الطويل ]
1794- فَلاَ تَحْرمَنِّي نَائلاً عَنْ جَنَابَةٍ ... فَإنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ القبابِ غَريبُ
لأن الإنْسَان يُتركُ جَانباً ، ومنه { واجنبني وَبَنِيَّ أَن [ نَّعْبُدَ الأصنام } ] [ إبراهيم : 35 ] ، وأصله من الجَنَابَة ، ضِدّها القَرَابَة ، وهو البُعْدُ ، يقال : رَجُلٌ جُنُبٌ ، إذا كان غريباً مُتَبَاعِداً عن أهله ، ورَجُل أجْنَبِيٌّ ، وهو البَعيد منك في القَرَابة ، ومنه الجَنَابَة من الجِمَاع؛ لتباعده عن الطَّهَارَةِ وعن الصَّلاة حَتَّى يَغْتَسِل ، وهذان الجنبانِ؛ لبُعْد كلِّ واحدٍ منهما عن الآخر .
فصل : في الإحسان إلى الجار
قالت عَائِشَة - رضي الله عنها- : » يا رسولُ الله ، إن لي جارَيْن ، فإلى يهما أُهْدِي ، قال : إلى أقربِهِمَا منكِ باباً « ، وعن ابْن عُمر؛ قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : » ما زال جِبْريلُ يُوصِيني بالجَارِ ، حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُورِّثُهُ « ، وقال - عليه السلام - : » لا يَدْخُلُ الجَنَّة من لا يَأمَنْ جَارَهُ بَوائِقَهُ ، ألاَ وَإنَّ الجَوارَ أرْبَعُون « وكان الزهري يقول : أرْبَعُون يَمْنَة ، وأربعون يَسْرَة ، وأربعون أمَامَه ، وأرْبَعُون خَلْفه .
وعن بي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - : » قيل : يا رسولُ الله ، إن فُلانَة تَصُوم النَّهار وتصلي بالَّيْلِ ، وفي لِسَانِها شَيءٌ يؤذي جِيرانَهَا ، [ فقال : « لا يَحْفَظُ ] حق الجَارَ إلا مَنْ رَحم الله ، وقليل ما هُم ، أتدرون ما حَقَّ الجَارِ : إن افْتَقَر أغْنَيْتَه ، وإن استقْرَضَ أقْرَضْتَه ، وإن أصابه خير هَنَّيْتَه ، وإن أصَابه ضَرٌّ عَزَّيته ، وإن مَرِضَ عُدْتَه ، وإن ماتَ شَيَّعْت جَنَازته » .
وقال نَوف الشَّامِي : { والجار ذِي القربى } المُسْلِم ، [ والجار ] الجُنُب : اليَهُودي والنَّصرَاني .
قال القرطبي : وعلى هذه فالوصاية بالجارِ ، مأمورٌ بها مَنْدُوب إليها ، مسلِماً كان أو كَافِراً ، وهو الصَّحيح ، والإحْسَان قد يكون بِمَعْنَى المُواسَاة ، وقد يكون بِمَعْنَى حُسْن العِشْرَةِ ، وكَفّ الأذَى ، والمُحَامَاة دُونَه .
وقال - عليه الصلاة والسلام- : « الجيرَان [ ثلاثة : ] فجارٌ له ثلاثة حُقُوقٍ ، وجار له حَقَّان وجارٌ له حَقٌّ واحد » .
فأما الجار الَّذِي له ثلاَثَةُ حُقُوقٍ : فالجار القَريب المُسْلِم ، له حقُّ الجِوار ، وحق القَرَابَة ، وحَقّ الإسْلام .
والجارُ الذي له حَقَّان : فهو الجَار المُسْلِم فله حق الإسلام ، وحق الجِوارِ .
والجار الذي له حَقٌّ واحد : هو الكَافِر ، له حق الجِوَار .
وقال بَعْضُ العُلَمَاءِ : { والجار ذِي القربى } هو القريب المَسْكَن منك ، { والجار الجنب } هو البعيد المَسْكَن منك .

قال القَرْطُبِي : وأحَاديثُ إكرامِ الجَارِ جاءت مُطْلَقَةٌ غير مُقَيَّدة ، حتى الكَافِر وفي الخبر « قالُوا : يا رسولُ الله ، أنطعمهم من لُحُوم النُّسُك؟
قال : » لا تطعم المشركين من نسك المسلمين « فنهيه - عليه السلام - عن إطْعَام المُشْرِكين من نُسُك المُسْلِمِ ، يحتمل النُّسُك لوَاجب الذي لا يجُوزُ للنَّاسِك أن يَأكُل مِنْهُ ، ولا أن يُطْعِمَهُ الأغْنِيَاء ، فأما غير الوَاجِبِ الذي يُجْزِيه إطعام الأغنياء ، فيجوز أن يُطعِمَهُ أهْل الذِّمَّة » قال - عليه الصلاة والسلام - لِعَائِشَةَ - رضي الله عنها - عند تفريقِ لَحْمِ الأضحِيَة : « أهْدِي جَارَنَا اليَهُودِيّ » .
قوله : { والصاحب بالجنب } قال مُجاهد ، وابن عبَّاس ، وعِكرمة ، وقتادة : يعني : الرفيق في السَّفَر ، وقال عَلِيّ وعبد الله ، والنَّخعِي : وهو المرْأة تكون إلى جِنْبِهِ .
وقال ابن جُرَيْج ، وابن زِيْد : هو الذي يَصْحَبُك رجاء نَفعِك ، وقيل : هو الَّذِي صحبك إما رفيقاً في سَفَرٍ ، وإما جًاراً مُلاصِقاً ، وإما شريكاً في تَعَلُّم أو حرْفَة ، وإما قاعداً إلى جَنْبِك في مَجْلس وَاحِدٍ أو مَسْجِد أو غير ذلك ، من أدنى صُحْبَة التأمَت بينك وبَيْنَهُ .
وقوله : { بالجنب } في الباء وجْهَان :
أحدهما : أن تكون بمعنى « في » .
والثاني : أن تكون على بَابِها وهو الأوْلَى ، وعلى كلا التَّقْدِيرَيْن تتعلّق بمحذُوف؛ لأنها حَالٌ من الصَّاحِبِ .
قوله : { وابن السبيل } قيل : هو المُسافِرِ الذي انْقَطع عن بلده ، وقيل : هو الضَّيْف ، قال - عليه السَّلام- : « من كان يُؤمِن بالله واليَوْمِ الآخر فليُكْرِم ضَيْفَهُ » .
وقوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْْ } [ النساء : 3 ] يجوز أن يُرَاد ب « ما » غير العَبِيد والإمَاء حَمْلاً على الأنْوَاع؛ لقوله - تعالى - { مَا طَابَ لَكُمْ } [ النساء : 3 ] وأن يكون أُريد جميع ما مَلَكَهُ [ الإنسان ] من الحَيَوانات ، فاختلط العَاقِلُ بغيره ، فأتى ب « ما » .
فصل
روت أمّ سَلَمة - رضي الله عنها - : « قالت : كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ في مَرَضِه : » الصَّلاة وما ملكت أيمانكم « ، وقال - عليه السلام - : » هم إخْوَانكُم جَعَلهم الله تَحْتَ أيْديكم ، فمن جعل الله أخَاه تحت يَده ، فَلْيُطْعِمْه ممّا يأكُل ، وليلبسه مما يَلْبِس ، ولا يُكَلِّفْه من العَمَل ما يغلبه [ فإن كَلَّفَهُ مَن العَمَل مَا يغلبه ] فَلْيُعِنْهُ عليه « .
ثم قال : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } : المُخْتَال هو ذُو الخُيَلاَء والكِبْر .
قال أهل اللغة : هو التيَّاه ، والمُخْتَال اسم فاعِلٍ من اخْتَال يَخْتَال ، أي : تَكَبَّر وأعْجِب بنَفْسِهِ ، وألفهُ عن ياءٍ؛ كقولهم : الخُيَلاَءُ والمَخِيلَة ، وسُمِع أيضاً : خَالَ الرَّجُل يخال خَوْلاً بالمعنى الأوَّل ، فيكون لهذا المَعْنَى مَادَّتَان خَيْلَ وَخَوَلَ .
قال ابن عبَّاس : » يريد المُخْتَال العَظِيم في نَفْسِهِ ، الذي لا يَقُوم بحقُوقُ أحَد « .
والفَخُور صيغة المُبَالَغَة ، وهو الَّذِي يعد مَنَاقِبَ نَفْسِه ومحاسنه ، وقال ابن عبَّاس : الفَخُور الذي يَفْخَر على عِبَاد الله بما أعْطَاه من أنْواع نِعَمِهِ .
وقال - عليه السلام - : » بينما رجل يتبختر في بردين ، وفد أعْجِبَتْه نَفْسُه ، خسف الله به الأرْض ، فهو يتجْلجَل فيها إلى يَوْم القِيِامَةِ « .
وقال -عليه السلام- : » لا يَنْظُر الله إلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيْلاَء يوم القِيامَة « .

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)

في : { الذين يَبْخَلُونَ } سَبْعَة أوجه :
أحدها : أن يكُون مَنْصُوباً بدلاً مِنْ « مَنْ » ، وجُمِعَ حَمْلاً على المَعْنَى .
الثاني : أنه نَصْب على البَدَل من { مُخْتَالاً } وجُمِعَ أيضاً لما تقَدَّم .
الثالث : أنه نُصِبَ على الذَّمِّ .
قال القرطبِي : ويجوز أن يكُون مَنْصوباً بإضْمَار « أعْنِي » ، وقالَ : ولا يجوز أن يكون صِفَة؛ لأن « مَنْ » و « ما » لا يوصفان ولا يُوصَفُ بهما .
الرابع : أنه مُبْتَدأ وفي خَبَره قولان :
أحدُهُما : محذوف فَقَدَّرهُ بعضُهم : « مبغضون » لدلالة « إن الله لا يحب » [ وبعضهم : ] « معذبون » ؛ لقوله : « وأعتدنا للكافرين عذاباً » .
وقدَّره الزمخشري « أحقَّاء بكل مَلاَمَة » ، وقدره أبو البَقَاء : أُولَئِكَ أوْلِيَاؤُهُم الشَّيْطَان .
والثاني : أن قوله : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] ويكون قوله : [ { والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس } ] [ النساء : 38 ] عطفاً على المُبْتدأ والعَائِد مَحْذُوفٌ ، والتقدير : الذين يَبْخَلُون ، والَّذين يُنْفِقُون أموالهم ، [ رئاء النَّاسِ ] { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] ، [ أو مثقال ذرة ] لَهُم ، وإليه ذَهَب الزَّجَّاج وهذا متكَلَّف جدًّا؛ لكثرة الفَواصِل ولقَلَقِ المَعْنَى أيضاً .
الخامس : أنه خبر مُبْتَدَ مُضْمَر ، أي : هم الذين .
السادس : أنه بَدَلٌ من الضَّميرِ المستكن في { فَخُوراً } ذكره أبو البَقَاء ، وهو قلق .
السابع : أنه صِفَة ل « مَنْ » ؛ كأنه قيل : لا يُحِبُّ المختالَ الفَخْور البَخِيل .
وفي البخل أرْبَع لُغاتٍ :
فتح الخَاءِ والبَاء مثل الكَرَم ، وبها قرأ حَمْزَةُ والكسائي ، وبِضمِّهَا ذكره المُبرِّد ، وبها قرأ الحَسَنُ وعِيسَى بن عُمَر ، وبفتح البَاءِ وسُكُون الخَاء ، وبها قرأ قتادةُ وابن الزبير ، وبضم الباء وسكون الخاء ، وبها قرأ الجمهور . والبُخْلُ والبَخَلُ؛ كالحُزْنِ والحَزَن ، والعُرْبِ والعَرَبِ .
قوله : { بالبخل } فيه وجْهَان :
أحدهما : أنه متَعلِّق ب « يَأمُرُونَ » ، فالبَاء للتَّعْدِية على حَدّ أمرتك بِكَذَا .
والثَّاني : أنها باء الحاليّة والمأمور مَحْذُوف ، والتَّقْدير : ويأمرون النَّاسَ بشكرهم مع التباسِهِم بالبُخل ، فيكون في المعنَى؛ لقولا الشَّاعر : [ البسيط ]
1795- أجْمَعْتَ أمْرَيْنِ ضَاعَ الحَزْمُ بَيْنَهُمَا ... تِيهَ المُلُوكِ وأفْعَالَ المَمَالِيكِ
فصل
قال الواحدي : البُخْلُ في كلامِ العَرَب عبارة عن مَنْع الإحْسَان ، وفي الشَّرِيعَةِ عبارة عن مَنْعِ الوَاجِبِ .
قال ابن عبَّاس : نزلت في اليَهُود ، بخلوا بِبَيَان صِفَة محمَّد صلى الله عليه وسلم وكَتمُوها . وقال سعيد بن جبير : هَذَا في كِتْمَان العِلْمِ .
وقال ابن عبَّاسٍ وابن زيد : نَزَلَتْ في كردم بن يزيد ، وحُيَيٍّ بن أخْطَب ، ورِفَاعة بن التَّابُوت وأسَامة بن حَبِيبٍ ، ونَافِع بن أبِي نافع ، وبحري بن عمرو ، وكانُوا يأتُون رجالاً من النْصَارِ يُخَالِطُونَهُم ، فيقولون : لا تُنْفِقُوا أموالكُم ، فإنّا نَخْشَى عليكم الفَقْرَ ولا تَدْرُون مَا يَكُون ، فأنزل هذه الآية .
وقيل : إنها عَامَّة في البُخْلِ بالعِلْم والدِّين والمَالِ : لأن البخل مَذْمُومٌ واللفظ عامٌّ .

قال القرطبي : والمراد بهذه الآيَةِ في قَوْل ابن عبَّاس وغيره : اليَهُود؛ لأنهم جمَعُوا بين الاختيال والتَّفاخر ، والبخل بالمَالِ ، وكِتْمَان ما أنْزَل الله في التَّوْرَأة من صِفَةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقيل المراد : المُنَافقُون الذي كان إنْفاقهم وإيمانهم تقية .
قوله : { وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } يعني المال ، وقيل : يَبْخَلُون بالصَّدَقَة ، وقوله : { مِن فَضْلِهِ } ، يجوز أن يتعلَّق ب { آتَاهُمُ } أو بمَحْذُوف على أنه حالٌ من « مَا » ، أو من العَائِد عَلَيْها .
قال تعالى { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } فصَّل الله -تعالى- تَوعُّدَ المؤمنين البَاخِلين من تَوَعُّد الكَافِرِين ، بأن جعل الأوَّل عدم المَحبَّة ، والثّضاني عذاباً مُهِيناً .

وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)

قوله : { والذين يُنْفِقُونَ } فيه ثلاثة أوْجُه :
أحدها : أن يكون مَرْفُوعاً عطفاً على { الذين يَبْخَلُونَ } ، والخبر : أن الله لا يَظْلِم كما تقدم وصفه .
والثاني : مجرور عَطْفاً على { االكافرين } أي : أعْتَدْنا للكافِرِين ، والذين يُنْفِقُون أموالهم رئاء النَّاسِ ، قاله ابن جَرِير .
الثالث : أنه مُبْتَدأ ، وخبره مَحْذُوف ، أي : معذَّبُون أو قَرِينُهم الشَّيْطَان ، فعلى الأوَّلَيْن يكون من عَطْف المُفردات ، وعلى الثالث من عَطْفِ الجُمَل .
قوله : { رِئَآءَ الناس } فيه ثلاثة أوْجُه :
أحدُها : أنه مَفْعُول من أجْلِه ، وشُرُوط النَّصْبِ متوفِّرة .
الثاني : أنه حَالٌ من فَاعل « ينفقون » يعني : مصْدراً واقعاً مَوْقع الحالِ ، أي : مرائين .
والثالث : أنه حَالٌ من نَفْس المَوْصُول ، ذكره المَهْدَوي ، و « رئاء » مصدر مُضَافٌ إلى المَفْعُول .
فصل
قال الوَاحِدِي : نزلت في المُنَافِقِين وهو الوَجْه لذكر الرِّيَاء ، وهو ضرْب من الإنْفَاقِ ، وهو قول السدي ، وقيل : نزلتْ في اليَهُود وقيل : نزلَتْ في مُشْرِكِي مكَّة المُنْفِقِين على عَداوَة الرَّسُول -عليه السلام- .
قال ابن الخَطِيب : والأوْلَى أن يُقَال : إنه -تعالى- لمَّا أمر بالإحْسَان إلى المُحْتَاجِين ، بين أن المُمْتَنِعِ من ذَلِكَ قِسْمَان :
إما بألاّ يُعْطي شيئاً ، وهو البُخْل فَذَكَرَهُ .
وإما بأن يُعْطِي رياءً وسُمْعَةً؛ فهذا أيضاً مذمومٌ ، فلم يَبْقَ إلا الإنْفَاق للإحْسَان .
وقوله : { وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مُسْتأنف .
والثاني : أنه عَطْف على الصِّلة ، وعلى هذين الوَجْهَيْن ، فلا مَحَلَّ له من الإعْرَابِ .
والثالث : أنه حالٌ من فاعل يُنْفِقُون ، إلا أن هذين الوَجْهَيْن الأخيريْن ، أعني : العطف على الصِّلة ، والحالية مُمْتَنعان على الوجْه المَحْكِيّ عن المَهْدَوي ، وهو كون « رئاء » حالاً من نَفْسِ المَوْصُول؛ لئلا يَلْزَم الفَصْل بين أبعاض الصِّلة ، أو بين الصِّلة ومعمولها بأجْنَبِيّ ، وهو « رِئَاءَ » ؛ لأنه حَالٌ من المَوْصُول لا تعلُّق له بالصِّلَة ، بخلاف ماع إذا جَعَلْنَاه مَفْعُولاً [ له ] أو حَالاً من فَاعِل { يُنْفِقُونَ } فإنَّه على الوَجْهَين معمول ل { يُنْفِقُونَ } فليس أجْنَبِيّاً ، فلم يُبَالَ بالفَصْل به ، وفي جَعْلِ { وَلاَ يُؤْمِنُونَ } حالاً نَظرٌ؛ من حَيْث أن بَعْضهم نَصَّ على أنَّ المُضَارع المُنفِيّ ب « لا » كالمُثبت؛ في أنَّه لا يَدْخل عَليْه واو الحَال ، وهو مَحَلُّ تَوَقُّف ، وكرِّرت لا في قوله -تعالى- : { وَلاَ يُؤْمِنُونَ [ بالله وَلاَ ] باليوم الآخر } ؛ وكذا الباء إشعاراً بأنَّ الإيمان مُنتفٍ عن كلِّ على حدته [ كما ] لو قُلت : لا أضرب زيداً أو عَمْرًا ، احْتمل في الضَّرْب عن المَجْمُوع ، ولا يَلْزَم منه نَفْي الضَّرْب عن كل وَاحِدٍ على انْفِرَادِه ، [ واحتمل نَفْيه عن كُلِّ واحِدٍ بالقرآنِ ] .
وإذا قُلْت ولا عَمْراً ، تعيَّن هذا الثَّاني .
قوله -تعالى- : { وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } :
قوله : { وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } أي : صاحِباً وخَليلاً ، والمَعْنى : أن الشَّيْطَان قَرين لأصْحَاب هذه الأفْعَالِ .

قال القرطبي : في الكلام إضْمَار ، تقديره : { وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } فَقَرينُهُم الشَّيْطَان { وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } .
قوله : { فَسَآءَ قِرِيناً } وفي « فساء » هذه احتمالان :
أحدهما : أنَّها نقلت إلى الذَّمِّ ، فجرت مُجْرى « بِئْسَ » ، ففيها ضَميرٌ فاعلٌ لها مُفَسِّر بالنكِرَة بعده ، وهو { قِرِيناً } والمخصُوص بالذَّمِّ مَحْذُوف ، أي : فَسَاءَ قريناً هُوَ ، وهو عائد [ إما ] على الشَّيْطَان ، وهو الظَّاهِر ، وإمَّا على « مَنْ » ، وقد تَقَدَّم كم نِعْم وبِئْس .
الثاني : على بابها ، فهي مُتَعَدِّية ، ومَفْعُولها مَحْذُوف ، و « قريناً » على هذا مَنْصُوب على الحَالِ أو على القَطْعِ ، والتَّقدير : فساءَهُ ، أي : فساء الشَّيْطَان مُصَاحَبَة؟
قال القُرْطُبِي : { قِرِيناً } مَنْصوب على التَّمييز ، واحتجُّوا للوجْه الأوَّل بأنَّه كان يَنْبَغِي أن يحذف الفَاءَ من « فَسَاءَ » ، أو تَقْتَرِن به « قَدْ » ، لأنه حينئذٍ فِعْل مُتَصرِّف ماض ، وما كان كذلِك ووقع جواباً للشَّرْط ، تَجَرَّد من الفَاءِ أو اقْتَرَن ب « قد » ، هذا معنى كَلاَم أبِي حيَّان .
قال شهاب الدين : وفيه نَظَر؛ لقوله -تعالى- : { وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النمل : 90 ] { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] مما يُؤوّل به هذا ونحوه يَتَأوّل به هذا ، وممَّن ذَهَب إلى أن { قِرِيناً } منصوب على الحالِ ابن عَطِيَّة ، ولكن يُحْتَمل أن يكُون قَائِلاً بأن « سَاءَ » متعدِّيَة ، وأن يكون قَائِلاً برأي الكُوفيِّين ، فإنَّهم يَنْصُبُون ما بَعْدَ [ نِعْمَ ] و « بِئْسَ » على الحَالِ .
والقَرِين : المُصَاحِب [ الملازِم ] وهو فعيل بِمَعْنَى مُفَاعِل : كالخَليطِ والجَليسِ ، والقَرَنُ : الحَبْل؛ لأنه يُقْرَنَ به بَيْنَ البعيريْن قال : [ البسيط ]
1796- . ... وَابْنُ اللَّبَون إذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ

وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)

قوله : « وماذا عليهم » .
قد تقدم الكلام على نَظِيرتِها ، و « ماذا عليهم » استفهام بمعنى الإنكار .
قال القرطبي : « ما » : في موضع رفع بالابتداء ، و « ذا » خبره ، و « ذا » خبره ، و « ذا » بمعنى الَّذِي ، وهذا يحتمل أن يكُون الكلام قد تَمَّ هنا ، ويجوز أن يكونُ « وماذا » اسماً واحداً ، ويكون المَعنى أي : وأيُّ شيء عليهم في الإيمانِ باللهِ ، أو ماذا عَلَيْهم من الوَبَال والعَذَابِ يَوْم القِيَامَة .
ثم استأنف بقوله : { لَوْ آمَنُواْ } ويكُون جَوَابُهَا مَحْذُوفاً ، أي : حصلت لهم السَّعَادة ، ويحتمل أن يَكُون [ تمام ] الكَلاَمب « لو » ومَا بَعْدَها ، وذلك على جَعْل « لو » مصدريَّة عند من يُثْبِتُ لها ذلك ، أي : وماذا عليهم في الإيمان ، ولا جَواب لها حينئذٍ ، وأجاز ابن عطيَّة أن يَكُون { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ } جواباُ ل « لَوْ » ، فإن أراد من جهة المَعْنَى فمُسلَّمٌ وإن أرادَ من جهة الصِّنَاعة فَفَاسِدٌ؛ لأن الجواب الصِّنَاعي لا يتقدّم عند البَصْرِيِّين ، وأيضاً فالاستفهام لا يُجَاب ب « لو » ، وأجاز أبُو البَقَاء في « لو » أن تكُون بمعنى « إن » الشَّرطيّة؛ كما جاء في قوله : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } [ البقرة : 221 ] أي : وأيُّ شيءٍ عليهم إن آمَنُوا .
قال الجبائي : ولو كانوا غَيْرَ قَادِرين ، لم يجز أن يقُول الله ذلِك؛ كما لا يُقالُ لمن هُو في النَّار مُعَذِّب : ماذا عليهم لَوْ خَرَجُوا مِنْها ، وصَارُوا إلى الجَنَّة ، وكما لا يُقال للجَائِع الذي لا يَقْدِر على الطَّعام : ماذا عَلَيْه لو أكَل . [ وقال الكعبي ] لا يجوز أن يَمْنَعه القُدْرة ، ثم يَقُول : ماذا عَلَيْه لو آمَنَ ، كما [ لا ] يقال لمن بِه مَرَضٌ : ماذا عليه لَوْ كَانَ صَحِيحاً ، ولا يُقَال للمرأة : ماذا عليها لو كَانَت رَجُلاً ، وللقَبيح : ماذا عَلَيْه لو كان جميلاً كما لا يَحْسُن هذا القَوْل من العَاقِل ، كذلك لا يَحْسُن من الله - تعالى- .
وقال القَاضِي عبد الجَبَّار : لا يُجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتَّصرُّف في الصَّفَقَة ، ويَحْبِسهُ بحيث لا يتمكَّنُ من مُفارقة الحَبْس ، ثم يقولُ لَهُ : مَاذَا عليك لو تصَرَّفْت ، وإذا كان من يَذكر مثل هذا الكلام [ سفيهاً ] دل ذلك على أنَّه على الله - تعالى - غير جَائِزٍ واعلم أن مِمَّا تمسَّك به المُعْتَزِلة من المَدْح والذَّمِّ والثَّواب والعِقَاب ، معارضتهم بمسْألة العِلْم والدَّاعِي .
قال ابن الخَطِيب : قد يَحْسُن منه ما من غيره؛ لأن المُلْك مُلْكُه .
ثم قال : { وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً } أي : عليم ببواطنِ الأمُور كما هو عَليمٌ بِظَاهِرِها ، وهذا كالرَّدْع للمكلَّف عن القَبَائح من أفْعال القُلُوبِ؛ مثل النِّفاق والرِّيَاء والسُّمْعَة .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)

لمّا بيَّن أنه عَلِيم ببَواطِنِهم وظَواهِرِهم ، بيَّن أنَّه كما علمها ، لا يَظْلِم مثقال ذرَّة منها .
قوله : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } فيها وَجْهَان :
أحدهما : أنه مَنْصُوب على أنه نَعءت لمصْدر مَحْذُوف ، أي : لا يَظْلِم أحَداً ظُلْمَاً وَزْن ذَرَّة ، فحذف المفْعُول والمَصْدر ، وأقام نَعْتَه مَقَامه ، ولمّا ذكر أبو البقاء هذا الوَجْه ، قَدَّر قبله مُضَافاً مَحْذُوفَاً ، قال تقْدِيره : ظلماً قَدْر مِثْقال ذرَّة ، فحذفَ المَصْدر وصِفَتَه ، وأقَام المُضَاف إلَيْه مَقَامَه ، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن المثْقال نفسه هو قَدَرٌ من الأقْدَار ، جُعِل مِعْيَاراً لهذا القَدَر المَخْصُوص .
والثاني : أنه مَنْصُوب على أنه مفعول ثانٍ ل « يظلم » ، والأوّل ، مَحْذُوف؛ كأنهم ضَمَّنُوا « يظلم » معنى « يغضب » أو « ينقص » فعَدُّوهُ لاثنين ، والأصْل أن الله لا يَظْلِمُ أحَدَاً مِثْقَالَ ذَرَّة .
والمِثْقَال مِفْعَال من الثِّقَل ، يُقال : هذا على مثال هَذَا ، أي : وَزْنه ، ومعنى الآيَةِ : أنه - تعالى - لا يَظْلَمِ أحداً لا قَلِيلاً ولا كَثِيراً ، وإنما أخْرَجَهُ على أصْغَر ما يتعارَفَه النَّاس ، ويُؤيِّده قوله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً } [ يونس : 44 ] والذَّرَّة ، قال أهل اللُّغَة : هي النَّمْلَة الحمراء ، وقيل : رَأْسُها ، وقيل : الذَّرَّة جُزْء من أجْزَاء الهَبَاء في الكوة ، ولا يَكُون لها وَزْن .
وروي أن ابْن عبَّاس أدْخَل يَدَه في التُّرَاب ، ثم رَفَعَها ، ثم نَفَخَ فيها ، ثم قال : كل وَاحِدٍ من هَذِه الأشْيَاء .
والأول هو المَشْهُور : لأن النَّمْلَةَ يُضْرب بها المثل في القِلَّة ، وأصغر ما يَكُون إذا مرّ عليها حَوْل ، وقالوا : لأنَّها حينئذٍ تَصْغُرُ جِدَّاً .
قال حَسّان : [ الخفيف ]
1797- لَوْ يَدِبُّ الحَوْليُّ مِنْ وَلَدِ الذَّرْ ... رِ عَلَيْهَا لأندَبَتْها الكُلُومُ
وقال امْرُؤُ القَيْس : [ الطويل ]
1789- مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الإتْبِ مِنْهَا لأثَّرَا
فصل
روي مُسْلِم عن أنس؛ قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يَظْلِمُ اللهُ مُؤْمِناً حَسَنَة ، يُعْطَى بها [ في الدُّنْيَا ] ويُجْزَى بها في الآخِرَة ، وأما الكَافِر فَيُعْطى حسناتٍ ما عامل الله بِهَا في الدُّنْيَا ، حتى إذا مَضَى إلى الآخِرَةِ ، لم يَكُن له حَسَنَة يُجْزَى عَلَيْهَا » .
فصل : دليل أهل السنة على خروج المؤمنين من النار
واحتج أهْل السُّنَّة بهذه الآية ، على أنَّ المُؤمنين يَخْرجُون من النَّار إلى الجَنَّة؛ قالوا : لأن ثَوَاب الإيمان والمُداوَمَة على التَّوْحيد ، والإقْرَار بالعُبُودِيَّة مائة سَنَة ، أعْظَم ثواباً من عِقَابِ شُرْب جَرْعَة من الخَمْر ، فإذا حضر هذا الشَّارِبُ القيامَة وأسْقِط [ عنه ] قدر عِقَاب هذه المَعْصِية من ذلك الثَّواب العَظيم ، فَضُل له من الثَّواب قَدْر عَظيم ، فإذا دخل النار بسبب القَدْر من العِقَابِ ، فلو بَقي هُنَاك ، لكان ذَلِكَ ظُلْمَاً ، فوجب القَطْع بأنه يَخْرُج إلى الجَنَّة .
وقوله : { وَإِن تَكُ حَسَنَةً } حذفت النَّون تَخْفِيفاً ، لكثرة الاستعمَال ، وهذه قَاعِدَةٌ كُلِّية ، وهو أنه يجوز حذْف نُون « تكُون » مجْزوُمة ، بشرط ألاَّ يلِيهَا ضميرٌ متَّصل؛ نحو لم يَكُنْه ، وألاَّ تُحرِّك النٌّون لالتقاء الساكنَين ، نحو :

{ لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ } [ البينة : 1 ] خلافاً ليُونُس؛ فإنه أجَازَ ذلك مستدلاً بقوله : [ الطويل ]
1799- فَإنْ لَمْ تَكُ المِرْآةِ أبْدَتْ وَسَامَةً ... فَقَدْ أبْدَتْ [ المِرْآةُ ] جَبْهَةَ ضَيْغَمِ
وهذا عند سيبويه ضرُورةٌ ، وإنما حُذِفَت النَّون لغُنّتها وسُكُونِها ، فأشْبهت الواو ، وهذا بِخلاف سَائِرِ الأفْعال ، نحو : لم يَضِنَّ ، ولم يَهِنَّ؛ لكثرة اسْتِعْمال « كَانَ » ، وكان ينبغي أن تَعُودَ الواو عند حذف هذه النُّون؛ لأنها إنَّما حُذِفَت لالتقاء الساكنين ، وقد زالَ ثانيهما وهو النُّونُ؛ إلاَّ أنَّها كالملفوظ بِهَا .
واعلم أن النُّون السَّاكِنَة ، إذا وقعت طرفاً تشبه حُرُوف اللِّين ، وحُرُوف اللِّين إذا وقعت طرفاً سَقَطت للجزم ، وقد جاء القُرْآن بالحَذْف والاثبات :
أما الحَذْف : فهذه الآية .
[ وأما الإثبات ] فكقوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً } [ النساء : 135 ] .
وقرأ الجمهور { حَسَنَةً } نصباً على خَبَر كان النَّاقِصة ، واسْمُهَا مستَتِرٌ فيها يَعْود على مِثْقَال ، وإنَّما أنْت ضميره حَمْلاً على المَعْنَى؛ لأنه بمعْنَى : وإن تَكُن زِنة ذَرَّة حَسَنة ، أو لإضافته إلى مُؤنَّثِ ، فاكتَسبَ منه التَّأنِيث .
وقرأ ابن كثير ونافع : « حَسَنَةٌ » رفعاً على أنَّها التَّامَّة ، أي : وإن تقع أو تُوجد حَسَنةٌ وقرأ ابن كثير وابن عامرٍ « يضعفها » بالتضعيف ، والباقون : « يضاعفها » قال أبو عبيدة ضاعَفَهُ يقتضي مِرَاراً كثيرة ، وضَعَّفَ يقتضي مَرَّتَيْن ، وهذا عكس كَلاَم العَرب ، لأن المُضَاعَفَة تقتَضِي زيادة المِثْل ، فإذا شُدِّدت ، دَلَّت البنية على التكثير ، فيقْتَضي ذلك تَكْرِيرُ المُضاعفة ، بحسبِ ما يكون من العَدَدِ .
وقال الفَارِسِيّ : فيها لغتان بمعنى يدُلُّ عليه قوله : { يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] وقد تقدَّم ذلك ، وقرأ ابن هُرْمُز : « نضاعفها » [ بالنون ، وقُرئ « يضعفها » ] بالتَّخْفيف من أضْعَفَه مثل أكْرَمَ .
فصل
قال أبو عُثْمَان لنَّهْدي : بلغني عن أبي هُرَيْرَة؛ أنه قال : إن الله بعطِي عبده المُؤمِن فقلت : بَلَغَني أنك تقول إن الله يُعْطِي عبده المُؤمِن بالحسنة ألف ألف حسنَة ، قال أبو هريرة : لم أقُلْ ذلك ، ولَكِن قُلْتُ : إن الحَسَنَة تُضاعف بألفي ضِعْف ، ثم تلا هذه الآية؛ وقال : قال الله - تعالى : { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } لمن يَقْدر قَدْرَه .
قوله : { مِن لَّدُنْهُ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتَعَلِّق ب « يؤت » و « من » للابْتِدَاءِ مَجَازاً .
والثاني : متعلّقٌ بمْذُوف على أنه حَالٌ من « أجراً » ، فإنه صِفَة نكرة في الأصْلِ ، قُدِّم عليها فانْتَصَب حالاً .
و « لدن » بمعنى عِنْد ، إلا أن « لدن » أكثر تمكيناً ، يقول الرَّجُل : عندي مَالٌ ، إذا كان [ مَالهِ ] ببلَدٍ آخر ، ولا يُقَال : لَدَيّ مالٌ في حالٍ ، ولا لَدَيّ إلاَّ لما كان حَاضَراً .

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)

« فكيف » فيها ثلاثة أقْوَال :
أحدها : أنَّها في مَحَلِّ رفْع خَبَراً لمبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : فكيف [ تكُون ] حالهم أو صُنْعُهم ، والعَامِل في « إذَا » هو هَذَا المُقَدَّر .
والثاني : أنها في مَحَلِّ نَصْب بِفِعْلٍ مَحْذُوف ، أي : فكيف تكُونونُ أو تَصْنَعُون ، ويَجْزِي فيها الوَجْهَان النَّصْب على التَّشْبِيه بالحَالِ؛ كما هو مَذْهَب سَيبويْه ، أو على التَّشْبِيه بالظَّرفيّة؛ كما هو مذهب الأخْفَش ، وهو العَامِل في « إذَا » أيْضَاً .
والثالث : حكاه ابن عَطيّة عن مَكِّي أنها معمولة ل { جِئْنَا } ، وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ .
قوله { مِن كُلِّ } فيه وجْهَان :
أحدهما : أنه مُتعلِّق ب { جِئْنَا } .
والثاني : [ أنه متعلِّقٌ ] بمحذوفٍ على أنَّه حَالٌ من { شَهِيداً } ، وذلك على رَأي من يُجَوِّزُ تقديم حالِ المجرُور بالحَرْفِ عليْهِ ، كما تقدَّم ، والمشهود مَحْذُوف ، أي : شهيد على أمَّتِه .
فصل : معنى { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا }
من عَادَى العرب أنَّهم يقُولُون في الشَّيء الذي يتوقَّعُونَهُ : كيف بك إذا كان كَذَا وكَذَا ، ومعنى الكلام : كَيْفَ يرون [ يَوْمَ ] القيامة : إذا اسْتَشْهَد الله على كُلِّ أمَّة برسُولِهَا يشهد عليهم بما عَمِلُوا ، { وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء } أي : شاهداً على جميع الأمَم .
روى أبو مَسْعُود؛ « قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : » اقْرَأ عَلَيَّ « . فقلت : يا رسُول الله ، اَقْرَأ عَلَيْكَ ، وعَلَيْكَ أنْزِلَ؟ قال : » نَعَم ، أحِبُّ أن أسْمَعَهُ من غَيْرِي « ، فقرأت سُورة النِّسَاء حتى أتيْتُ إلى هذه الآيةِ ، قال : حَسْبُك الآن ، فالتَفَتُّ إلَيْه فإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفان » .
قوله { وَجِئْنَا بِكَ } في هذه الجُمْلَة ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها في مَحَلِّ جرِّ عطفاً على { وَجِئْنَا } الأولى ، أي : فكيف تصنعون في وَقْتِ المجيئين .
والثاني : أنها في مَحَلِّ نصب على الحَالِ و « قَدْ » مُرَادةٌ معها ، والعَامِلُ فيها { وَجِئْنَا } [ الأولى ، أي : جئنا ] من كُلِّ أمَّة بشهيدٍ وقد جِئْنَا؛ وفيه نَظَر .
الثالث : أنها مُسْتأنَفَة فلا مَحَل لها قال أُو البَقَاء ويجوز أن تكون مُسْتأنَفَة ، ويكون المَاضِي بمعنى المُسْتَقْبَل انتهى .
وإنما احْتَاج [ إلى ذلك ] ؛ لأن المَجِيءَ بعد لَمْ يَقَع فادّعى ذلك ، والله أعْلَم .
قوله : { على هؤلاء } متعلِّق ب { شَهِيداً } و « عَلَى » على بابها ، وقيل : بمعْنَى اللام ، وفيه بُعْدٌ [ وأجيز أن يكُونَ « عَلَى » متعلِّقَة بمحذُوفٍ على أنَّها حالٌ من { شَهِيداً } وفيه بُعْدٌ ] ، و { شَهِيداً } حالٌ من الكَافِ في « بِكَ » .

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)

قوله : { يَوْمَئِذٍ } فيه ثلاثة أوجُه :
أحدها : أنه مَعْمُولٌ ل { يَوَدُّ } أي : يَوَدُّ الذين كَفَروا يَوْمَ إذ جِئْنَا .
والثاني : أنه مَعْمُول ل { شَهِيداً } ، قاله أبو البَقَاء؛ قال وعلى هذا يكُون « يود » صفة ل « يوم » ، والعائد مَحْذُوفٌ ، تقديره : فيه ، وقد ذكر ذلك في قوله : { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي } [ البقرة : 48 ] ، وفيما قاله نظر .
والثَّالث : أن « يوم » مَبْنِيٌّ ، لإضافته إلى « إذْ » قاله الحُوفيّ ، قال : لأنَّ الظرف إذا ضيفَ إلى غير مُتَمكِّنٍ ، جَازَ بناؤهُ معه ، و « إذْ » هنا اسْمٌ؛ لأن الظروف إذا أُضِيفَ إليها ، خَرَجَتْ إلى مَعْنَى الاسميَّة ، من أجل تَخْصِيص المُضَافِ إليْها ، كما تخَصّص الأسْمَاء مع استحقَاقِها الجرّ ، والجرُّ ليس من علامَاتِ الظُّروف ، والتَّنْويِن في « إذْ » تنوين عوض على الصَّحيح ، فقيل : عِوضٌ من الجُمْلَة الأولى ، في قوله : { جِئْنَا مِن كُلِّ } أي : يومئذٍ جِئْنَا من كُلِّ أمَّة بشهيدٍ ، وجئنا بِكَ على هؤلاء شهيداً ، و « الرسول » على هذا اسْم جِنْسٍ ، وقيل : عِوَضٌ عن الجُمْلَة الأخيرةَ وهي { وَجِئْنَا بِكَ } ، ويكون المُراد ب « الرسول » : محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأن النَّظْم وعَصَوْك ، ولكن أبرز ظاهراً بضفة الرِّسَالة تَنْوِيهاً بقدره وشرفِه .
وقوله : { وَعَصَوُاْ } فيه ثلاثة أوْجُه :
أحدها : أنها جُمْلَة معطوفة على { كَفَرُواْ } فتكون صِلَةً ، فيكونون جَامِعِين بين كُفْرٍ ومَعْصِيَة؛ لأن العَطْفَ يقتضي المُغَايَرَة ، وإذا كان ذَلِكَ ، فَيُجْمل عصيان الرَّسُول على المعَاصِي المغايرة للكُفْر ، وإذا ثبت ذلك ، فالآيَةُ دالَّة على أنَّ الكُفَّار مخاطبُون بفُرُوع الإسلام .
وقيل : هي صِلَةٌ لموصول أخَر ، فيكون طَائِفَتَيْن ، وقيل : إنها في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من { كَفَرُواْ } ، و « قد » مُرَادَة ، أي : وقد عَصَوا .
قوله : { لَوْ تسوى } إن قيل إن « لو » على بابها كما هو قَوْل الجُمْهُور ، فَمَفْعُول { يَوَدُّ } محذوفٌ ، أي : يودُّ الَّذِين كَفَرُوا تَسْوية الأرْض بهم ، ويدل عليه { لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض } ، وجوابها حينئذٍ مَحْذُوف ، أي : لسُرُّوا بذلك .
وإن قيل : إنها مصدريَّة ، كانت وهي وما بَعْدَها في محلّ مَفْعُول { يَوَدُّ } ، ولا جواب لها حينئذ ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك في { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ البقرة : 96 ] .
قال أبو البقاءِ : « وعصوا الرسول » في موضع الحالِ ، و « قد » مًُرَادةٌ ، وهي معْتَرِضَة بين « يود » وبين مَفْعُولها ، وهي « لو تسوى » و « لو » بمعنى المصدريَّة انتهى .
وفي جَعْلِ الجنلة الحَاليَّة معترضة بين المَفْعُول وعامِله نَظَرٌ لا يَخْفَى؛ لأنها من جُمْلَة متعلِّقات العامِل الذي هو صِلَة للمَوْصُول؛ وهذا نظير قولك : ضَرَب الذين جَاءُوا مُسْرِعين زَيْداً ، فكما لا يُقال : إن مُسْرِعين مُعْتَرض به ، فكذلك هذه الجملة .

وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم : تُسَوَّى [ بضم التَّاءِ ، وتخفيف السّين مبنياً للمفعُول ، وقرأ حمزة والكِسائي : « تَسَوَّى » ] بفتح التَّاء والتخفيف ، ونافع وابن عامر : بالتَّثْقِيل .
فأما القراءة الأولَى ، فمعناها : أنَّهم يودُّون أن الله -سبحانه وتعالى- يُسَوِّي بهم الأرض : إمّا على أن الأرْض تَنْشَقُّ وتبتلِعُهم ، وتكون البَاءُ بمعنى « عَلَى » ، وإما على أنَّهم يودُّون أن لو صارُوا تُرَاباً كالبَهَائِمِ ، والأصْل يودُّون أن الله -تعالى- يُسَوِّي بهم الأرض ، فَقٌلِبَت إلى هَذَا؛ كقولهم : أدْخَلْتُ القََلُنْسُوَة في رَأسِي ، وإمذا على أنَّهم يودُّون لو يُدْفَنُون فيها ، وهو كالقَوْلِ الأوَّل . وقيل : لو تُعْدَلُ بهم الأرْضُ ، أي : يُؤْخَذ ما عَلَيْها منهم فِدْيَة .
وأما القِرَاءة الثانية : فأصلها « تتسوى » [ بتاءَيْن ] ، فحذفت إحداهما ، وأدغمت في السّين لقربها منها .
وفي الثَّالِثَة حذفت إحداهما ، ومعنى القراءتين ظاهرٌ ممَّا تقدَّم؛ فإن الأقوال الجاريةَ في القراءة الأولى ، جاريةٌ في القراءتين الأخيرتَيْن غاية ما في البَابِ أنه نَسَب الفِعْل إلى الأرْض ظاهراً .
قوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله } : وذلك أن هذه الواو تَحْتَمِل أن تكون لِلْعَطْف ، وأن تكون للحالِ .
فإن كانت للعَطْف ، احْتمل أن تكُون من عطف المفرداتِ ، [ وأن تكون من عطف الجُمَلِ ، إذا تقرر هذا ] ، فقوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله } يجوزُ أن يكون عَطْفاً على مَفْعُول { يَوَد } أي : يودذُون تسوية الأرْضِ بهم ، وانتفاء كتمان الحديُ ، و « لو » على هذا مَصدريَّة ، ويبعد جَعْلُها حرفاً لما سيَقَع لوُقُوع غَيْرِه ، ويكون و « لا يكتمون » عطفاً على مَفعُول « يود » المحذُوف ، فهذان وَجْهَان على تقدِير كَوِنِه من عطف المفردات .
ويجوز أن سكون عَطْفاً على جُمْلة « يود » أخبر -تعالى- عنهم بخبرين :
أحدهما : الودادةُ لِكَذَا .
والثاني : أنهم لا يقدرُون على الكضتْمِ في مواطِنِ دون [ مَوَاطِن ] ، و « لو » على هذا مَصدريَّة ، ويجوز أن تكون [ لو ] حرْفاً لما سيقع لوقُوع غيره ، وجوابُهَا مَحْذوف ، ومفعول « يود » أيضاً مَحْذُوف ، ويكون « ولا يكتمون » عطفاً على « يود » وما في حيزها ، ويكون -تعالى- قد أخبر عَنْهُم بثلاثِ [ جمل ] : الوَدَادَة ، وجُمْلَة الشرط ب « لو » ، وانتفاء الكِتْمَان ، فهذان أيضاً وَجْهَان على تقدير كونِه من عطفة الجُمَل ، وإن كانت للحالِ ، جاز أن تكُون حالاً من الضمير في « بهم » ، والعامِل فيها « تسوى » ، ويجوز في « لو » حينئذٍ ان تكون مصدريَّة ، وأن تكون امتناعيَّة ، والتقدير : يُريدُون تَسْوِيَة الأرْض بهم غير كَاتِمين ، أو لَوْ تُسَوَّى بهم غير كَاتِمين لكان ذلك بُغْيَتهم ، ويجوز أن تكون حالاً من « الذين كفروا » ، والعامل فيها « يود » ويكون الحالُ قيداً في الوَدَادَةِ ، و « لو » على هذا مصدريَّة في [ محل ] مفعُول الوَدَادَة ، والمعْنَى [ يومئذٍ ] يَودُّ الذين كفرُوا تسوية الأرْض بهم غّير كاتمين الله حَديثاً ، ويَبْعد أن تكون « لو » على هذا الوجه امتناعِيَّة ، للزوم الفَصْل بين الحَالِ وعامِلِها بالجُمْلَة ، و « يكتمون » يتعدى لاثْنَيْن ، والظَّاهِر أنه يَصِل إلى أحدهما بالحَرْف ، والأصل : ولا يكتُمون من الله حديثاً .

فصل
قال عَطَاء : وَدُّوا لَوْ تُسوَّى بهم الأرْضُ ، وأنهم لم يكُونوا امر مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ولا نعته ، وقال آخرُون : بل هو كلامٌ مُسْتأنفٌ ، يعني : ولا يكتثمون الله حديثاً؛ لن جضوَارحَهُم تَشْهَد عليهم .
قال سعيد بن جُبَيْر : قال رَجُل لابن عبَّاس : إني أجد في القُرْآن أشياء تختلفُ عليّ ، قال : هَاتِ ما اخْتَلَفَ عليك ، قال : قال تعالى : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] وقال : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } ، و { قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] فقد كتمُوا ، وقال : { أَمِ السمآء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] إلى قوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] ، فذكر خَلْق السَّماء قبل خلق الأرْضِ ، ثم قال { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9 ] إلى « طائِعين » . فذكر في هذه الآية خَلْق الأرض قبل خَلْق السَّماء ، وقال : « وكان الله غفوراً رحيماً » و « عزيزا حكيماً » فكأنه كان ثم مَضَى .
فقال ابن عباس : فلا أنْسَابَ بَيْنَهم في النَّفْخَة الأولى ، وقال -تعالى- : « ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض [ إلا أن شاء الله ] » فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءَلُون ، ثم في النَّفْخَة الأخيرَة أقْبَل بعضهم على بَعْض يتساءَلُون .
وأما في قوله : ما كنا مشركين و « لا يكتمون الله حديثا » فإن الله يَغْفِر لأهْل الإخْلاَص ذُنُوبهم فيقول المُشْرِكُون : تعَالَوْا نقل : ما كُنا مُشركين ، فيختم على أفواههم ، وتنطقُ أيديهم وأرْجُلهم ، فَعِنْدَ ذلك عَرَفُوا أنَّ الله لا يَكْتُم حَديثاً ، وعنده « يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض » .
وخلق الله الأرْضَ في يومين ثم خلق السَّماء ، ثم اسْتَوَى إلى السَّمَاء فَسَوَّاهُن في يَوْمَيْن آخرَيْن ، ثم دَحَى الأرض ، وَدَحْيُها أن أخْرَج منها المَاءَ والمَرْعَى ، وخلق الجِبَال والآكَامَ ، وما بينهُمَا في يومين آخريْن؛ فقال « خلق الأرض في يومين [ ثم دَحَى الأرض في يومين؛ فخلقت الأرْضُ وما فيها من شيء في أربعةِ أيام ، وخلقت السماوات في يومين ] » وكان الله غفوراً رحيماً « أي : لم يَزَلْ كَذَلِك ، فلا يختلف عليك القُرْآن؛ فإن كُلاًّ من عَِنْد الله » .
وقال الحسن : إنها مواطِنٌ : ففي مَوْطن لا يتكلَّمُون ، ولا تَسْمَ إلا هَمْساً ، وفي موطنٍ [ يعترفون على أنفسهم فهو قوله : { فاعترفوا بِذَنبِهِمْ } [ الملك : 11 ] ، و [ في موطن يتكلّمون ويكذبون ، ويقولون : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، و { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } ] [ النحل : 28 ] ، وفي مواطن لا يُتساءَلُون الرَّجعة ، [ وفي مَوْطِن يتساءلُون الرجْعَة ] وآخر تلك المَوَاطِن ، أن يُخْتَمَ على أفْوَاهِهم ، وتتكلَّم جوارحُهم ، وهو قوله : « ولا يكتمون حديثاً » .
وقال آخرون : [ قولهم ] : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] أي : على حَسْبِ ما توهَّمنا في أنْفُسِنَا ، بل كُنَّا مُصيبين في ظُنُونِنَا حتى تَحقَّقْنا الآن .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

وجه اتِّصال هذه الآية بما قَبْلَها : أنه -تعالى- لما قال : « واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً » ذكر بعض الإيمان الصَّلاة التي هِيَ رأسُ العِبَادات ، ولذلك يُقْتَل تارِكُها ، ولا يَسْقُط فرضُهَا .
قال ابن عباس : نزلت في جَمَاعةٍ من أكابر الصَّحَابَة ، قبل تَحْرِيم الخَمْرِ ، كانوا يَشْرَبُونَها ثم يأتُون المَسْجِد للصَّلاة مع النَّبي صلى الله عليه وسلم فنهوا لهذه الآية .
وقال جماعة من المفسرين : إن عبد الرَّحْمن بن عَوْف صنع طَعَاماً وشراباً -حين كانت الخَمْر مُبَاحة - ودَعَا من أكَابِرِ الصَّحَابة ، فأكَلُوا وشَرِبُوا ، فلما ثَمِلُوا ، جاء وقت صَلاَة المَغْرِب ، فقدموا أحدهم لِيُصَلِّي بهم ، فقرأ : « قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون » وحذف « لاَ » هكذا ، إلى أخر السُّورة ، فأنزل الله -تعالى- هذه الآية ، فكَانُوا يَجْتَنِبُونَ السُّكْر أوْقات الصَّلوات ، فإذا صَلُّوا العشاء ، [ شربوها ] ، فلا يُصْبِحُون إلا وقدْ ذَهَب عنهم السُّكْر ، حتى نَزَل تَحْرِيم الخَمْرِ على الإطْلاَقِ في سورة المَائِدة .
وعن عمر [ بن الخطاب : رضي الله عنه- ] ؛ أنه لما بلغَهُ ذلك قال : « اللهم إنَّ الخَمْر تضر بالعُقُولِ والأمْوَال ، فأنزل فيها أمْرَكَ » قال : فَصَبَّحهم الوَحْي بآيَةِ المائِدَةِ .
قوله : « لا تقربوا الصلاة » فيه وجهان :
أحدهما : أن في الكَلاَمِ حذف مُضافٍ ، تقديره : مواضع الصَّلاةِ والمراد بمواضعها المَسَاجد ، ويؤيِّدُه قوله بعد ذلك : « إلا عابري سبيل » في أحد التَّأويلَيْن .
والثاني : أنه لا حَذْف ، والنَّهْي عن قُرْبَان نفس الصَّلاةِ في هذه الحالةِ .
فصل
قال بَعْضُهم : إن هذا يكون من باب إطْلاَق اسم الحَالِ على المَحَلِّ ، وعلى الأوَّل : لمنع السَّكْرَان [ والجُنْب ] من المسْجِد إلا عابري سبيل ، فيجوز للجُنُب العُبُور في المسْجِد .
وعلى الثاني : أنه نَهْي للجنب عن الصَّلاة ، إلا إذا كان عَابِر سبيلٍ وهو المُسَافِر عند العَجْزِ عن المَاءِ .
ورجح أصْحَاب الشَّافعي الأول؛ بأن القُرْب والبعد حقيقةٌ في المسْجِد ، مجَازٌ في الصَّلاة ، والحقيقة أوْلَى من المجَاز؛ لأن الاسْتِثْنَاء يَصِحُّ عليه ، ولا يَصِحُّ على الثَّاني؛ لأن غير العَابِري سبيل والعَاجِزَ عن المَاءِ ، والتَّيَمُّم عقبيها ، وقد استحب القُرَّاءُ الوقُوفَ عند قوله -تعالى- : « حتى تغتسلوا » ثم يسْتأنف « وإن كنتم مرضى » لأنه حُكم آخر .
ورُجِّح ليس فيه قَوْل مَشْرُوع يمنع الشكْر ، وأيْضاً سبب النُّزُول يرجِّحُه .
قوله : « وأنتم سكارى » مُبْتَدأ وخبر في مَحَلِّ نصب على الحَالِ من فاعل « تقربوا » ، وقرأ الجُمْهُور « سُكارى » بضم السّين وألف بعد الكَافِ ، وفيه قولان :
أصحهما : أنه جَمْع تكسير نَصَّ عليه سيبويْه : قال : وقد يُكَسِّرُونَ بَعْضَ هذا « فُعَلَى » ؛ وذَلِك كقول بعضهم سُكَارَى وعُجَالَى .
والثاني : أنه اسم جَمْع ، وزعم ابن البَاذش أنه مذْهب سيبويْه؛ قال : وهو القياس؛ لأنه لم يَأتِ من أبْنِيَة الجمع شَيْءٌ على هذا الوَزْنِ ، وذكر السَِّيرَافِي الخِلاف ، ورجَّحَ كونه تَكْسِيراً .

وقرأ الأعْمَش : « سُكْرَى » بضم السِّين وسكُون الكَافِ ، وتَوْجِيهها أنَّها صِفَة على « فُعْلَى » ؛ كحبلى ، وقعت صِفَة لجماعةِ ، أي : وأنتُم جماعَةٌ سُكْرى ، وحكى جناح بن حبيش كُسْلَى وكَسْلَى ، بضم الكَافِ ، وتَوْجِيهها أنَّها صِفَة على
فُعْلَى « ؛ كحبلى ، وقعت صِفَة لجماعة ، أي : وأنتُم جماعَةٌ سُكْرى ، وحكى جناح بن حبيش كُسْلى وكَسْلَى ، بضم الكَافِ وفتحها؛ قاله الزمخشري .
وقرأ النَّخْعي » سَكْرَى « بفتح السِّين وسكون الكَافِ ، وهذه تَحْتَمِل وَجْهَيْن :
أحدهما : ما تقدَّم في القراءة قبلها ، وهو أنَّهَ صِفَة مُفْرَدة على » فَعْلَى « ؛ كامرأة سَكْرَى ، وصف بها الجمَاعة .
والثَّاني : أنَّها جَمْع تكسير؛ كجَرْحى ، ومَوْتى ، وهَلْكى ، وإنما جمع سَكْرَان على » فَعْلَى « حملاً على هذه؛ لما فيه من الآفَةِ اللاَّحِقَة للفِعْل ، وقد تقدَّم شَيْء من هَذَا في قوله : { وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى } [ البقرة : 85 ] .
وقرئ : » سَكارى « بفتح السين والألف ، وهذا جمع تكسير ، نحو : نَدْمَان ونَدَامى ، وعَطْشَان ، وعَطَاشَى ، والسُّكْرُ : لُغَة السَّدِّ ، ومنه قيل لما يَعرض للمرءِ من شُرْبِ المُسْكِر ، لأنَّه يسد ما بين المَرْء وعَقْلِه ، وأكثر ما يُقَال ذلك لإزالَتِه بغضب ونحوه ، من عشق وغيره قال : [ الكامل ]
1800- سُكْرَانِ سُكْرُ هَوَى وسُكْرُ مُدَامَةٍ ... أنَّى يُفيقُ فَتًى به سُكْرَانِ
و » السكر « بالفتح وسكون اكَافِ : حبس الماءِ ، وبكسر السِّين : نفس الموضع السْدُود ، وأما » السَّكَر « بفتحيهما فما يسكر به من المشروب ، ومنه : { سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 67 ] وقيل السُّكْر : بضم السين وسكون الكاف [ السّدّ ] أي : الحَاجِز بين الشَّيْئَيْن ، قال : [ الهزج ]
1801- فمَا زِلنَا عَلَى السُّكْرِ ... نُدَاوِي السُّكْر بالسُّكْرِ
والحاصل : أنَّ أصل المادة الدَّلالة على الانْسداد ، ومنه : سَكرت عين البَازِي ، إذا خَالَطَهَا نوم ، وسكر النَّهر؛ إذا لم يَجْرِ ، وسَكَرْتُه أنا ، وقال -تعالى- : { إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } [ الحجر : 15 ] ، أي : غُشيت ، والسُّكْر من الشراب ، وهو أن يَنْقَطِع عما عَلَيْه من النَّفَاذ حال الصَّحْو ، فلا ينفذ رأيه كنَفَاذَه حَال الصَّحْو ، وقال الضحَّاك : أراد به سُكْر النّوم نهى عن الصَّلاة عند غَلَبَة النَّوْم ، قال -عليه الصلاة والسلام- : » إذا نَعسَ أحدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَلْيَرْقُد حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ؛ فإنَّ أحَدَكُم إذا صَلَّى وهو يَنْعَسُ ، لَعَلهُ يَذْهَبُ يستَغْفِرُ فَيَسب نَفْسَه « .
والصحيح الأوَّل؛ لأن السكر حَقيقةً هو من شُرْب الخَمْرِ ، فأمّا السّكر من الغَضَبِ أو العِشْقِ أو النَّوْمِ فَمَجَازٌ ، إنما اسْتُعِْمِل مقيَداً؛ قال -تعالى- : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } [ ق : 9 ] ، { وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى } الحج : 2 ] قال الفرزْدَق : [ الطويل ]
1802- مِنَ السَّيْرِ وَالإسْآدِ حَتَّى كَأنَّمَا ... سَقَاهُ الَرَى فِي مَنْزِلَةٍ خَمْراً
ولأن عند النَّوْم تمتلئ مَجَاري الرُّوح من الأبخرة الغليظَة ، فلا ينفذ الروح للبَاصِر .
قوله -تعالى- : » حتى تعلموا « » حتى « جارَّة بمعنى إلى ، فهي مُتعلِّقَةٌ بفعل النَّهْي ، والفعل بَعْدَها مَنْصوب بإضمار » أن « وتقدّم تَحْقِيقُه ، وقال بَعْضُهم : إن حَتَّى هنا بمعنى [ » كَيْ « ] فهي » تَعْلِيلِيَّة « ، والمَعْنَى : كي تَعْلَمُوا ما تَقُولُون .

و « ما » يجوز فيها ثَلاَثَة أوْجُه : أن تكون بِمَعْنَى الَّذِي ، أو نكرة مَوْصُوفة ، والعَائِد على هَذَيْن القَوْلَيْن مَحْذُوف ، أي : يَقُولُونَهُ ، أو مصدرية ، فلا حَذْف إلا عَلَى رأي ابن السَّرَّاج ومن تَبِعَهُ .
فصل قول البعض بنسخ الآية
قال بَعْضهم : هذه الآية مَنْسُوخة بآية المائدة .
قال ابن الخَطِيب : والَّذي يمكن النَّسْخُ فيه ، أنَّه -تعالى- نَهَى عن قُرْبَان الصَّلاةِ حَالَ السُّكْر مَمْدُوداً إلى غَايَة أن يَصير بِحَيْث يَعْلَم ما يَقُول ، والحكم المَمْدُود إلى غاية ، يَقْتَضِي انتهاء ذَلِك الحُكْم عند تلك الغَايَةِ ، وهذا يَقْتَضِي جواز قُرْبَان الصَّلاة مع السُّكْر الذي يَعْلَمُ مِنْهُ ما يَقُول ، ومعلوم أنَّ الله -تعالى- لما حرَّم الخَمْر بآية المائدَة ، فقد رَفَع هذا الجوازَ ، فثبت أن آية المائِدَة ناسِخَةٌ مَدْلُولات هذه الآية .
والجواب : أن هَذَا نَهْي عن قُرْبَان الصَّلاة حَال السُّكْرِ ، وتخصيصُ الشيء بالذِّكْرِ لا يَدُلُّ على نَفي الْحُكم عما عداه ، إلا على سبيل الظَّنِّ الضَّعيف ، ومثل هَذَا لا يَكُون نَسْخاً .
فصل : التكليف بما لا يطاق
قال بَعْضُهم : هذه الآية تَدُلُّ على جواز التَّكْليف بما لا يُطَاق؛ لأنه -تعالى- قال : « ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى » ، وهذه جملة حاليَّة ، فكأنه -تعالى- قَالَ للسَّكْرَان : لا تُصَلِّ وأنْت سَكْرَان ، وهذا خطاب للسكران .
والجواب عنه : بأن هذا لَيْس خِطَاباً للسَّكْرَان ، بَلْ هو خِطَاب للَّذِين آمَنُوا؛ فكأنه قال : يأيُّهَا الذين آمَنُوا لا تَسْكَرُوا ، فقد نهى عن السُّكْر؛ ونظيره قوله -تعالى- : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] وهو ليس نَهْياً عن المَوْت ، وإنما هو أمْر بالمُدَاوَمَةِ على الإسْلامِ ، حتى يَأتيهُ المَوْت وهو في تلك الحَالِ .
قوله : « ولا جنباً » نصب على أنه مَعْطُوف على الحَالِ قبله ، وهو قوله : « وأنتم سكارى » عطف المُفْرَد على الجُمْلَة لمّا كَانَتْ في تأويله ، وأعاد معها « لا » تَنْبيهاً على أنَّ النَّهْي عن قُرْبَان الصَّلاة مع كل واحدٍ من هَذَيْن الحَالَيْن على انْفِدَادَهَما ، فالنَّهي عنها مع اجْتِمَاعِ الحَالَيْنِ آكَدَ وأوْلى ، والجُنُبُ مشتقٌّ من الجَنَابَة وهو البُعْدُ؛ قال : [ الطويل ]
1803- فَلا تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عَنْ جَنَابَةٍ ... فَإنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ القِبَابِ غَريبُ
وسمي الرَّجُل جُنُباً : لبعده عن الطَّهَارةِ؛ أو لأنهَّ ضَاجَع بِجَنْبِه وَمسَّ به ، والمشْهُور أنه يستعمل بِلَفْظٍ واحدٍ كالمُفْرد والمُثَنَّى والمَجْمُوع ، والمُضكَّر والمُؤنَّث ، ومنه الآية الكَرِيمة .
قال الزمخشري : لجريانه مَجْرَى المصدَرِ الذي هو الإجْنَابُ ، ومن العَرَب من يُثَنِّيه فيَقول جُنُبَان ويجمعه جمع سَلاَمة فيقول : جُنُبُون ، وتكْسِيراً فيقول : أجْنَاب ، ومثله في ذلك شُلُل ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك .
قوله : « إلا عابري سبيل » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَنْصُوب على الحَالِ فهو استثْناء مُفَرَّغ ، والعامِل فيها فِعْل النَّهْي ، والتَّقْدير : « لا تقربوا الصلاة في حالة [ الجنابة إلا في حال السفر ] أو عُبُور المَسْجِد على حَسَب القَوْلَيْن .

وقال الزَّمَخْشَريّ : « إلا عابري سبيل » استثنَاء من عامَّة أحوال المُخَاطبين ، وانتصَابه على الحال .
فإن قُلْت « كيف جَمَع بين هذه الحَال ، والحَالِ التي قَبْلَها .
قلت : كأنه قيل : لا تَقْرَبُوا الصَّلاة في حال الجَنابة : إلا ومَعَكُم حالٌ أخْرَى تَعْتَذِرون فيها : السَّفَر وعُبُور السًّبِيل عبارة عَنْه .
والثَّاني : أنه مَنْصُوب على أنه صِفَةٌ لقوله » جنباً « ب » إلاَّ « بمعنى » غبر « ، فظهر الإعْرَاب فيما بَعْدَهَا ، وسيأتي لهذا مزيد بَيَانٍ عند قوله -تعالى- : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] كأن قيل : » لا تقربوها جنباً غير عابري سبيل « ، أي : جُنُباً مُقِيمين غير مَعْذُورين ، وهذا معنى وَاضِحٌ على تَفْسير العُبُور بالسَّفر ، وهذا قَوْل عَلِيّ وابن عبَّاس ، وسَعيد بن جُبَيْرٍ ، ومُجَاهِد قالوا : مَعْنَاه إلاَّ أن تكُونُوا مُسَافرين ولا تَجدُون المَاءَ فَتَيَمَّمُوا؛ مَنَع الجُنُب من الصَّلاة [ حتى يَغْتَسِل ، إلا أن يَكُونَ في سَفَر ولا يجدهَا فيصلّي بالتيمم وأمَّا من قدَّر مَوَاضِعَ الصَّلاة ] فالمعنى عنده : لا تَقْرَبُوا المَساجِد جُنُباً إلا مُجْتَازين؛ لكونه لا مَمَرَّ سواه ، وهو قول عبد الله بن مَسْعُود ، وسعيد بن المسيَّب ، والحسن ، وعِكْرِمَة ، والنَّخعِي ، والزُّهري ، وذلك أن قَوْماً من النْصار ، كانت أبوابُهم في المَسْجِد ، فتُصيبهم الجَنَابة ، ولا مَاء عندهم ، ولا مَمَرَّ لهم إلا في المَسْجِد ، فَرُخِّصَ لهم في العُبُور ، قالوا : والمُراد من الصَّلاةِ؛ لقوله -تعالى- : { وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ } [ الحج : 40 ] والمعنى : لا تَقْرَبُوا المسجد وأنتم جُنُب ، إلا مُجْتازين فيه للخُرُوجِ منه ، مثل أن يَنَام في المَسْجِد ، فَيَجْنُبُ أو تُصِيبُه جَنَابة والماءُ في المَسْجِد ، والعُبُور الجَوَاز؛ ومنه : » نَاقَةٌ عُبْرُ الهَوَاجِر « قال : [ الكامل ]
1804- عَيْرَانَةُ سُبُحُ اليَدَيْنِ شِمِلَّةٌ ... عُبْرُ الهَوَاجِرِ كالهِزَفِّ الخَاضِبِ
وقوله : » حتى تغتسلوا « ؛ كقوله : » حتى تعلموا « فهي مُتعلَّقة بفعل النَّهِي .
فصل : حكم عبور المسجد للجنب
اختلفوا في عُبُور المَسْجِد للجُنُب ، فأبَاح الحَسَنُ ومَالِكٌ والشَّافِعِيُّ المُرور فيه على الأطلاقِ ، وهو قَوْل أصْحَاب الرأي ، وقال بَعْضُهم : يَتَيَمَّمُ للمرور فيه ، وأما المُكْثُ فلا يجوز عند أكْثرِ العُلَمَاء؛ لقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم » وَجَّهُوا [ هذه البُيُوت عن المَسْجِد ] فَإنِّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لحائضٍ ولا جُنُبٍ « وجوّز أحْمَدُ المُكْثَ فيه ، وضعَّف الحديث؛ لأن رَاويه مَجْهُول .
قوله : » وإن كنتم مرضى « جمع مَريض ، وأراد به مَرَضاً يَضُرُّه أساس الماء كالجُدَرِي والقُرُوح العَظيمَة ، أو كان على مَوْضِع طَهَارته جِرَاح يخاف من اسْتِعْمَال الماء التَّلف ، أو زيادة المَرَضِ ، فإنه يُصَلِّي بالتَّيَمُّمِ وإن كان مَوْجُوداً ، وإن كان بَعْض أعضاء طهارته صحيحاً والبَعْض جَريحاً ، غسل الصَّحيحَ ، وتيَمَّم عن الجَرِيح؛ لما رَوَى جَابر؛ قال : خَرَجْنَا في سَفَرٍ ، فأصَابَ رَجُلاً منا حَجَرٌ ، فَشَجَّهُ في رَأسِهِ فاحْتَلَم ، فسَال أصْحَابَهُ هلْ تجدُون رُخْصَة في التَّيَمُّم؟ قَالُوا : ما نَجِدُ لك رُخْصَة في التَّيَمُّم ، وأنت قَتَلَهُم اللهُ إلا سَألُوا إذ لَمْ يَعْلَمُوا ، فإنما شِفَاء العيِّ السُّؤالُ ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ، ويعْصِر أو يَعْصِب -شك الراوي- على جُرْحِهِ خِرْقَة ، ثم يَمْسَح عليها ويَغْسِل سَائِر جَسَده .

ولم يجوِّز أصْحَاب الرَّأي الجمع بين التَّيَممُّم والغُسْل ، وقالوا : إن كَانَ أكْثَر أعْضَائه وصَحِيحاً ، غسل الصَّحيحَ وكَفَاهُ ، وإن كان الأكْثَر جَريحاً ، اقْتَصر على التَّيَمُّم ، والحديث حُجَّةٌ عليهم .
قوله : « أو على سفر » في محلِّ نصبٍ عطفاً على خَبَر كان ، وهو المَرْضَى؛ وكذلك قَولُه : « أو جاء أحد منكم » « أو لامستم النساء » ، وفيه دليلٌ على مجيء [ خبر ] كان فِعْلاً مَاضياً من غَيْر « قَدْ » ، وادِّعاء حَذْفها تكلُّفٌ لا حَاجَة إلَيْه؛ كذا اسْتَدَلَّ به أبو حيان ، ولا دليل فيه؛ لاحْتِمَال أن يَكُون « أو جاء » عَطْفاً على « كنتم » تَقْديره : وإن جَاءَ أحَدٌ ، وإليه ذهَب أبُو البَقِاء ، وهو أظْهَر من الأوَّل والله أعلم .
فصل
أراد مُطْلق السَّفَر طويلاً كان أو قَصيراً ، إذا عَدِمَ المَاءَ فإنه يُصَلِّي بالتَّيَمُّم ، ولا إعادة عَلَيه؛ لما روي عن أبِي ذرٍّ؛ قال : قال النَّبي صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الصَّعيد الطَّيِّبَ وضُوء المسْلِمِ ، وإن لم يَجد المَاءَ عَشْرَ سِنِين ، فإذا وَجَد المَاءَ ، فَلْيَمُسَّهُ بَشَرتهُ فإن لم يَكُن مَرِيضاً ولا في سَفَرِ ، ولكنه عَدِم المَاءَ في مَوْضِع لا يُعْدَم فيه المَاءُ غَالِباً : كقرية انقطع مَاؤُهَا فقال بَعْضُهم يصلِّي بالتَّيَمُّم ، ويُعيدُ إذا قدر على المَاءِ » ، وقال آخَرُون : لا إعَادة [ عَلَيْه ] وهو قول الأوْزَاعِي ومَالِكٍ ، وقال أبو حَنيفَة : يؤخِّر الصَّلاة حتى يجد المَاءَ . وقوله : « أو جاء أحد منكم من الغائط » أراد به : إذا أحْدَث ، وقوله : « أو جاء أحد » يدل على الانتقال من مَكَان الغائِط والانتقَال عنه .
و « منكم » في مَحَلِّ رفع؛ لأنه صِفَة لأحد فَيَتعلَّق بمحذوف ، و « من الغائط » متعلِّق ب « جَاءَ » فهو مَفْعُوله ، وقرأ الجُمْهُور : « الغائط » بزنة « فَاعِل » وهو المكان المُطَمْئِن من الأرْضِ [ وجَمْعُه الغيطان ثم عَبَّر عَن الحَدَثِ كِناية؛ للاستحْيَاء من ذِكْره ، وفرَّقت ] العرب بين الفِعْلَيْن منه ، فقالت : غَاطَ في الأرض ، أي : ذَهَب وأبْعَد إلى مَكَانِ لا يَراهُ فيه إلا من وَقَف عليه ، وتَغَوَّط : إذا أحْدَث .
وقرأ ابن مَسْعُود : « من الغيط » وفيه قَوْلاَن :
أحدهما : وإليه ذهب ابن جني : أنه مُخَفَّف من « فَيْعِل » ؛ كهَيْن ، ومَيْت [ في هَيِّن ومَيِّت ] .
والثاني : أنه مَصْدر على وَزْن « فَعَل » قالوا : غَاطَ يَغيطُ غَيْطاً ، وغَاطَ يَغُوطُ غَوْطاً .

وقال أبو البَقَاء : هو مَصْدرَ « يغوط » فكان القياس « غوطاً » فقلبت الوَاوُ ياءً ، و [ إن ] سُكِّنت وانْفتح ما قبلها لِخفَّتِها كأنه لم يطَّلِع على أنَّ فيه لُغَة أخْرَى من ذَوَات اليَاءِ حتى ادّعى ذَلِك .
قوله : « أو لامستم المساء » قرأ الأخوان هنا ، وفي المَائِدَة : « لمستم » ، والباقون : « لامستم » [ فقيل ] فَاعَلَ بمعنى فَعَل ، وقيل لمس : جامع ، ولامَس « لِما دُون الجِمَاع .
قال ابن عباس والحسن ومُجَاهِد وقتَادَة : كُنِّي باللَّمْس عن الجِماع؛ لأن اللَّمْسَ يُوصِل إلى الجِمَاع ، ولأن اللَّمْس والمَسَّ وردَا في القُرْآن كِناية عن الجَماع [ في ] قوله : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [ المجادلة : 3 ] ، و { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] ولأن الحَدَثَ الأصْغر مَذْكُور في قوله : » أو جاء أحد منكم من الغائط « فلو حُمَل اللمس على الأصْغر ، لم يَبْق للحدث الأكْبر ذِكْرٌ ، وقال ابن مَسْعُود ، وابن عُمَر ، والشعبي ، والنَّخعِي ، هما التقاء البَشَرتَيْن سواءٌ كان بِجِماع أو غير جِمَاع؛ لأن حُكْم الجَنَابَة تقدَّم في قوله : » ولا جنباً « فلو حَمَلْنَا اللَّمس على الجَنَابةِ ، لزم التّكْرَارُ .
قوله : » فلم تجدوا « الفَاء عَطَفت ما بَعْدَها على الشَّرْط ، وقال أبُو البَقَاءِ : على » جَاء « لأنه جَعَل » جَاء « عطفاً على » كنتم « ، فهو شرْط عنده ، والفاءُ في قَوْله : » فتيمموا « هي جَوَاب الشَّرط ، والضَّمِير في » تيمموا « لِكُلِّ من تَقَدَّم؛ من مريض ومُسَافرٍ ومُتغوِّط ومُلامِس أوْ لامسِ ، وفيه تَغْليبٌ للخطاب على الغَيْبَة؛ وذلك أنَّهُ تقدَّم غَيْبَة في قوله : » أو جاء أحد « وخطاب في » كنتم « ، و » لمستم « فغلَّب الخطاب ، في قوله : » كنتم « وما بَعْده عليه ، وما أحْسَن ما أتي هُنا بالغَيْبَة ، لأنه كِنَاية عما يُسْتَحْيَا منه فَلَم يُخَاطِبْهم به ، وهذا من مَحَاسِنِ الكَلامِ؛ ونحوه قوله : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] [ و » وجَد « هنا بمعنى » لقِيَ « ] فتعدت لِوَاحِدٍ و » صعيداً « مفعول به لقوله » تيمموا « أي : اقْصدُوا .
وقيل : هو على إسْقَاطِ حَرْفٍ ، اي : بصعيدٍ ، وليس بشيءٍ لعدم اقْتِيَاسه ، والصَّعيد » فَعِيلٌ « بمعنى الصَّاعد ، [ قيل : الصَّعيد ] : وَجْه الأرْضِ تراباً كَانَ أوْ غيره .
فصل : الخلاف في وجوب تكرار طلب الماء في الصلاة الثانية
قَال الشَّافِعِي : إذا دخل وَقْتُ الصلاة فَطَلَب المَاءَ ولم يجد النَاءَ ، وتيمم وصلَّى ، ثم دَخَل وقْتُ الصَّلاةِ الثَّانية ، يجب عليه الطلب ثانياً؛ لقوله » فلم تجدوا « وهذا يشعر بسَبْق الطَّلَب .
وقال أبو حنيفَة : لا يجب ، واعْتَرض على الآيةِ بأن قوله : » فلم تجدوا « لا يُشْعر بسبق الطلب؛ قال -تعالى- : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } [ الأعراف : 102 ] { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى وَوَجَدَكَ عَآئِلاً } [ الضحى : 7 ، 8 ] ، { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }

[ طه : 115 ] وهذا لا يَسْبِقُه طَلَبٌ؛ لاستِحَالَتِه على الله -تعالى- .
فصل
قال أبو حنيفَة : التيمم هو القَصْد ، والصَّعيد وهو ما يَصْعَد من الأرْض؛ فقوله « فتيمموا صعيداً طيِّباً » أي : اقْصُدوا أرْضاً ، وقال الشَّافعي : هذه الآيةُ مطْلَقَة ، وآية المائدة مُقيَّدة بقَوْله : { مِّنْهُ } [ المائدة : 6 ] وكلمة « مِنْ » للتَّبعيض ، وهذا لا يَتَأتَّى في الصَّخْر الذي لا تُرَابَ علَيْه ، فوجب حمل المُطْلَقِ على المُقَيَّد .
فإن قيل : إن كَلِمَة « مِنْ » لابْتداء الغَايَة ، قال صَاحِب الكَشَّاف لا يَفْهَم أحدٌ من العرب من قَوْل القائِل : مَسَحْتُ برأسِهِ من الدُّهْن ومن المَاءِ ومن التُّرَاب ، إلا مَعْنى التَّبْعيض .
ثم قال : والإذْعَان للحَقِّ أحقُّ من المِرَاء .
وقال الوَاحِدي : إنه -تعالى- قال : « صعيداً طيباً » والأرْض الطَّيِّبَة التي تُنْبِتُ؛ لقوله -تعالى- : { والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [ الأعراف : 58 ] ، وقال -عليه الصلاة والسلام- : « التُّرابُ طَهُور المُسْلمِ إذَا لَمْ يجدِ المَاءَ » .
قوله : « فامحسوا بوجوهكم » هذا الجَارُّ متعلِّق ب « امسحوا » وهذه الباء يُحْتَمَل أن تكون زَائِدة ، وبه قال أبُو البَقِاء ، ويحتمل أن تكُون مُتعدِّية؛ لأن سيبويْه حكى : مَسَحْتُ رَاسه وبِرأسه ، فيكون من بَابِ نَصَحْتُه ونَصَحْتُ له ، وحذف المَسْمُوح به ، وقد ظَهَر في آية المَائِدة ، في قوله : { مِّنْهُ } [ المائدة : 6 ] فحُمِلَ عَلَيْه هذا .
ثم قال -تعالى- : « إن الله كان غفوراً رحيماً » وهو كِناية عن التَّرخيص والتَّيْسِير لأن من غَفَر للمذْنِبين ، فبِأن يُرَخّص للعَاجِزين أوْلَى .
فصل
قال القرطبي : أجْمَع العلماءُ على أن التَّيَمُّم لا يَرْفعَ الجَنَابَة ، ولا الحَدَث ، وأن المُتَيِّمم لَهُما إذا وجد المَاءَ ، عاد جُنُباً أو مُحْدِثاً كما كان؛ لقوله عليه السلام لأبي ذر : « إذَا وَجَدْت المَاءَ ، فأمِسَّهُ جِلْدَكَ » .
فصل
قال القرطبي : والمَسْحُ لفظ مُشْتَرَك يكون بمعنى الجماع ، يقال : مَسَح الرَّجُل المَرْأة ، إذا جَامَعهَا ، والمَسْحُ : مسْح الشيء بالسَّيْف وقَطْعه به ، ومَسَحَت الإبل يَوْمَها إذا سَارَت ، والمسْحَاءُ المرأة الرسماء التي لا أسْت لها ، ولِفُلان مَسْحَة من جمالٍ ، والمُرادُ هُنا بالمَسْحِ : عبارة عن مَرِّ اليد على المَمْسُوح .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)

لما ذكر -تعالى- أنْوَاع التَّكَالِيف من أوَّل السُّورة إلى هنا ، ذكر أقَاصيص المُتقدِّمين؛ لأن الانْتَقال من نَوْع من العُلُومِ إلى نَوع آخر كأنه يُنَشِّط الخَاطِر ، وقد تقدَّم الكلام في قوله -تعالى- { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ } [ البقرة : 258 ] والمراد ب « الذين أوتوا نصيباً من الكتاب » هم اليَهُود « .
وقال ابن عبَّاس : نزلت هذه الآيةُ في حَبْرٍ من أحْبار اليَهُود ، كانا يأتِيَان رَأس المُنَافِقِين عبد الله أبيّ [ ابن سَلُول ] ورَهْطه ، يُثَبِّطُونهُم عن الإسْلاَم .
وعن ابن عباس أيضاً؛ قال : نزلَتْ في رفاعة بن زَيْدٍ ، ومالك بن دخشم ، كَانَا إذا تَكَلم رسُول الله صلى الله عليه وسلم لوياً لِسَانَهُمَا ، وعَابَاه ، فأنزل الله -تعالى- هذه الآية .
قوله : » من الكتاب « فيه وَجْهَان :
أحدهما : أنه مُتَعِّق بمحْذُوفٍ ، إذ هو صِفَة ل » نصيباً « فهو في مَحَلِّ نصبٍ .
والثاني : متعلَِّق ب » أوتوا « أي أُوتوا من الكِتاب نصيباَ ، و » يشترون « : حالٌ ، وفي صاحبها وَجْهَان :
أحدهما : أنه واو » [ أوتوا ] « .
والثاني : أنه المَوْصُول وهي على هذا حَالٌ مُقَدرة ، والمُشْتَري به مَحْذُوف ، أي : بالهُدَى ، كما صرح به في مَوَاضِع ، ومعنى » يشترون « : يستبدِلون الضَّلالة بالهُدَى .
قوله : » ويريدون « عطف على » يشترون « .
وقال النَّخْعِي : » وتريدون أن تضلوا « بتاء الخطاب ، والمَعْنَى : تُرِيدُون أيها المؤمنون أن تدَّعو الصَّواب ، وقرأ الحسن : » أن تَضِلُّوا « من أضل . وقرئ » أن تُضَلُّوا السبيل « بضم التَّاءِ وفتح الضَّادِ على ما لَمْ يُسَمّ فَاعِلُه ، والسَّبيل مفعول به؛ كقولك : أخطأ الطَّريقَ ، وليس بِظَرْف ، وقيل : يتعدى ب » عن « ؛ تقول : ضلَلْت السَّبيل ، وعن السَّبيل ، ثم قال : » والله أعلم بأعدائكم « أي : أعْلَم بما في قُلُوبهم وصدورهم من العَدَاوة والبَغْضاء .
قوله : » وكفى بالله ولياً « تقدم الكلام عليه أوّل السُّورة ، وكذا الكلام في المَنْصُوب بَعْده ، والمعنى : أنه -تعالى- لما بيَّن شِدَّة عداوتِهم للمسْلِمين ، بين أنه -تعالى- وليُّ المؤمِنين ونَاصِرُّهُم .
فإن قيل : ولاية الله لعبده عِبَارةَ عن نُصْرَته ، فَذَكْر النَّصِير بعد ذِكر الوَلِي تكْرَارٌ .
فالجواب : أن الوَلِيَّ هو المُتَصرِّف في الشَّيْء ، والمتصرِّف في الشَّيء يجب أن يكُونَ نَاصِراً .
فإن قيل : ما الفَائِدة من تكْرار قوله : » وكفى بالله « .
فالجواب : أن التِّكْرَا في مِثْل هذا المقَام يكون أشَد تَأثِيراً في القَلِب ، وأكْثَر مُبَالَغَة .
فإن قيل : ما فائدة تكرار الباء في قوله : » بالله « فذكروا وجوهاً :
أحدها : لَوْ قيل : كفى الله ، يتصل الفِعْل بالفَاعِل ثم ههُنا زيدَت البَاء إيذَاناً بأن الكفاية منالله لَيْسَت كالكِفَايَة من غَيْره .
وثانيها : قال ابن السَّرَّاج : تقديره : كفى اكْتِفَاؤُه بالله وَليًّا ، ولما ذكرت » كفى « دلَّ على الاكتفاءِ؛ كما تقول : من كذب كان شَرّاً له ، أي : كان الكَذِبُ شرًّا له ، فأضمرته لدلالة الفِعْل عليه .
وثالثها : قال ابنُ الخَطيب : البَاءُ في الأصْل للإلْصَاقِ ، وإنما يَحْسُن في المؤثِّر لذي لا وَاسِطَة بَيْنَهُ وبين التَّأثِير ، فلو قيل : كَفَى اللهُ ، دلَّ ذلك على كَوْنَهَ فاعلاً لهذه الكِفَايَةِ ، ولكن لا يَدُلُّ [ ذَلِك على أنَّهُ فعل ] بِواسِطَة أو غير وَاسِطَة ، فإذا ذَكَرْت البَاء ، دلَّ على أنه -تعالى- يَفْعَل بغير واسِطَة ، بل هو -تعالى- يتكفَّل به ابتداء من غير واسطَة؛ كقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] .

مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)

قوله تعالى : [ { مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } ] الآية .
لما حكَى عنهم أنَّهم يَشْترون الضلالة ، بيَّن تلك الضَّلالَةَ ما هي .
قوله : « من الذين هادوا » فيه سَبْعَةُ أوْجُه :
أحدها : أن يكُون « من الذين » خبر مُقدم ، و « يحرفون » جُمْلَة في محلِّ رفع صِفَة لموصُوف مَحْذوف هو مُبْتَدأ ، تقديره : مِنَ الذين هَادُوا قومٌ يُحَرِّفون ، وحَذْف الموْصُوف بَعْد « مِنَ » التَّبِعِيضيَّة جَائِزٌ ، وإنْ كانت الصِّفَة فِعْلاً؛ كقولهم « مّنَّا ظَعَنَ ، ومَنَّا أقَامَ » ، أي : فريقٌ أقام ، وهذا مَذْهَب سيبويه والفارسِي؛ ومثله : [ الطويل ]
1805- وَمَا الدَّهْرُ إلا تارتانِ فَمِنْهُمَا ... أمُوتُ وأخرى أبْتَغِي العَيْشَ أكدحُ
أي : فمنهما تَارةٌ أمُوت فِيها .
الثاني : قول الفرَّاء ، وهو أن الجَارَّ والمجرور خَبَر مقدَّم أيضاً ، ولكن المُبْتدأ المحذُوف يقدره مَوصولاً ، تقديره : « من الذين هادوا من يحرفون » ، ويكون قد حمل على المَعنى في « يحرفون » قال الفرَّاء : ومِثْله [ قول ذي الرِّمَّة ] [ الطويل ]
1806- فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ ... وآخَرُ يَثْنِي دَمْعه العَيْنِ بِاليَدِ
قال : تقديره ، ومنهم [ مَنْ ] دَمْعه سَابِقٌ لَهُ ، والبَصْرِيُّون لا يُجَوِّزُونَ حذف الموصُولِ؛ لأنه جُزْءُ كلمة ، وهذا عِنْدَهم مؤولٌ على حَذْفِ موصوفٍ كما تَقَدَّمَ ، وتأويلُهُم أولى لعطفِ النكرة عليه ، وهو : آخر وأخْرَى في البَيْت قَبْلَه ، فيكون في ذلك دلالةٌ على المَحْذُوفِ ، والتقدير : فمنهم عَاشِقٌ سَابِقٌ دَمْعه لَهُ وآخَر .
الثالث : أن « من الذين » خَبَر مُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : « هم الذين هادوا » ، و « يحرفون » على هذا حَالٌ من ضمير « هادوا » وعلى هذه الأوْجُه الثَّلاثة يكون الكلام قم تَمَّ عند قوله : « نصيراً » .
الرابع : أن يكون « من الذين » حَالاً [ من فاعل « يريدون » قاله أبو البقاء ، ومنع أن يكُون حالاً ] من الضَّمير في « أوتوا » ومن « الذين » أعنِي : في قوله -تعالى- : « ألم تر إلى الذين أوتوا : قال : لأنَّ الحال لا تكُون لِشَيْءٍ واحِدٍ ، إلا بعطف بَعْضِها على بَعْضٍ .
قال شهاب الدين : في هذه المسْألة خلافٌ بين النحويين : منهم من مَنَعَ ، وَمِنْهم من جَوَّزَ ، وهو الصَّحيح .
الخامس : أن { مِّنَ الذين } بيان للموصول في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ } لأنهم يهُود ونَصَارَى ، فَبَيْنَهُم باليهُودِ ، قاله الزمخشري ، وفيه نظر من حَيْث إنَّه قد فُصِلَ بينهما بثلاثة جمل هي : { والله أَعْلَمُ } ، { وكفى بالله } ، { وكفى بالله } .
وإذا كان الفَارِسيّ قد منع الاعتراض بجُمْلَتيْن ، فما بالك بِثلاثٍ ، قاله أبو حيان ، وفيه نَظَرٌ؛ فإن الجُمَل هنا مُتَعَاطِفَة ، والعَطْفُ يصير الشَّيْئيْن شيئاً واحِداً .
السادس : أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم ، وما بَيْنَهما اعْتراض أيضاً ، وقد عُرِف ما فيه .
السابع : أنه متعلِّق ب { نَصِيراً } وهذه المادَّة تتعَدَّى ب » مِن « ؛ قال -تعالى- :

{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله } [ غافر : 29 ] على أحد تأويلَيْن :
إمَّا على تَضْمِين النَّصْر معنى المَنْع ، أي : مَنَعْنَاهُ من القَوْم ، وكذلك : كَفَى بالله مَانِعاً بِنصْره من الذين هَادُوا .
وإمَّا : على جعل « مِنْ » بمعنى « عَلَى » ، والأوَّل مَذْهَب البَصْريين ، فإذا جَعَلْنَا { مِّنَ الذين } بياناً لما قَبْلَهُ ، فبِمَ يتعلَّق والظاهر [ أنَّه يتعلَّقُ بمحذُوفٍ؛ ويدل على ذَلِك أنَّهُم قالوا في سقيا لك ] ، إنه مُتعلِّق بمحذوف لأنه بَيَانٌ له ، وقال أبو البقاء : [ وقيل ] وهو حَالٌ من أعْدَائِكُم ، أي : [ والله أعلم بأعْدَائِكُم ] كائنين من الذين هادُوا ، والفَصْل بينهما مُسَدَّد ، فلم يمنع من الحَالِ ، فقوله هذا يُعْطي أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم مع إعْرَابه له حالاً ، فيتعَلَّق أيضاً بمحذُوفٍ ، لكن لا على ذلك الحَذْف المَقْصُود في البَيَان ، وقد ظهر مِمَّا تقدم أن { يُحَرِّفُونَ } ، إما لا مَحَلَّ له ، أو لَهُ مَحَلُّ رَفْع أو نَصْبٍ على حَسَب ما تقدَّم وقال أبو رَجَاءٍ والنَّخْعي : « الكَلاَم » وقُرئ : « الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام ، جمع « كَلِم » مخففة من كلمة ، ومعانيها مُتَقَارِبَة .
قوله : { عَن مَّوَاضِعِهِ } متعلِّق ب { يُحَرِّفُونَ } وذكر الضمير في { مَّوَاضِعِهِ } حملاً على { الكلم } ، لأنَّها جِنْس .
وقال الوَاحِدِي : هذا جمع حُرُوفه أقَلُّ من حُروف واحِده ، وكل جَمْع يكون كذلِك ، فإنه يجوز تَذْكِيرُه .
وقال غيره : يمكن أن يُقال : كون هذا الجَمْعِ مؤنَّثاً ليس أمْراً حقيقيَّا ، بل هو أمر لَفْظِيٌّ ، فكان التَّذكير والتَّأنِيث فيه جَائِزاً . وجاء هُنَا « عن مواضعه » وفي المائدة : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [ المائدة : 41 ] .
قال الزَّمَخْشَرِي : أما { عَن مَّوَاضِعِهِ } فعلى ما فَسَّرْناه من إزالَتِه عن مواضِعِه ، التي أوْجَبَت حِكْمَة الله وَضْعُه فِيهَا بما اقْتَضَت شَهَوَاتُهم من إبْدّال غيره مَكَانَه ، وأما « من بعد مواضعه » ، فالمَعْنَى : أنه كَانَت له مواضعُ هو فمِنٌ بأن يكُون فيها فحين حَرَّفوه ، تركُوهُ كالغَرِيب الذي لا مَوْضِع له بَعْد مَوَاضِعِه ومَقَارّه والمعنيان مُتَقَارِبَان .
قال أبو حيَّان : وقد يُقَال : إنهما سِيَّان لكنه حذف هُنَا وفي أول المائدة [ الآية 13 ] من بعد مواضعه؛ لأن قوله { عَن مَّوَاضِعِهِ } يدل على استِقْرَار مواضِع له ، وحذف في ثَانِي المَائِدة « من مواضعه » ؛ لأن التَّحْرِيف « من بعد مواضعه » يدل على أنَّه تحريفٌ عن مَوَاضِعِه ، فالأصل : يُحَرِّفون الكَلِم من بعد مَواضِعِه عنها . فحذف هنا البَعْدِيَّة ، وهناك تَوَسُّعاً في العِبَارة ، وكانت البَدْأة هنا بِقَوْله : « عن مواضعه » ؛ لأنه أخصر ، وفيه تَنْصِيصٌ باللَّفْظ على « عَنْ » وعلى المَوَاضِع ، وإشارة إلى البَعْدِيّة .
وقال أيْضاً : والظَّاهِر أنهم حَيْثُ وُصِفُوا بشدة التَّمَرُّد والطُّغْيَان ، وإظْهَار العَدَاوة ، واشْتراء الضَّلالة ، ونقص المِيثَاقِ ، جاء « يحرفون الكلم عن مواضعه » كأنَّهم حَرَّفُوها من أوَّل وهْلَة قبل اسْتَقْرَارِها في مَوَاضِعِها ، وبادَرُوا إلى ذلك ، ولذلك جاء أوّل المَائِدة كهذه الآية؛ حَيث وَصَفَهمُ بِنَقْض المِيثَاقِ ، وقسْوة القُلُوب ، وحيث وُصِفوا باللّين وترديد الحُكْم إلى الرَّسُول ، جاء « من بعد مواضعه » كأنهم لم يُبَادِرُوا إلى التَّحرِيف ، بل عَرَضَ لهم بَعْد استِقْرَار الكَلِمِ في مواضِعِهَا ، فهما سِيَاقان مُخْتَلِفَان .

[ وقوله : ] { وَيَقُولُونَ } عَطْفٌ على { يُحَرِّفُونَ } وقد تَقَدَّم ، وما بعده في محلِّ نَصْب به .
فصل : الخلاف في كيفية التحريف
اخْتَلَفُوا في كيْفِيَّة التَّحريف ، فقيل : كانوا يُبْدِّلُون اللَّفْظَ بلفظ آخَرَ؛ كتحريفهم الرَّجْم [ ووضعُوا ] موضِعَهُ الجَلْدَ؛ ونظيره { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله } [ البقرة : 79 ] .
فإن قيل : كيف يُمْكن هَذَا في الكتاب الَّذي بَلَغَتْ آحَادُ حُرُوفه ، وكلماته مَبْلَغَ التَّوَاتُر ، واشتهر في الشَّرْق والغَرْب .
فالجواب : لعل القَوْم كانوا قليلين ، والعُلَمَاء بالكِتَاب كانوا في غَايَةِ من القِلَّة فَقَدَرُوا على ذَلِك .
وقيل : المُرَاد بالتَّحْرِيفِ : إلْقاء الشُّبَه والتَّأويلاَتِ الفاسدَةِ لتلك النُّصًوصِ ، وأما الآيَةُ التي في المَائِدة : فهي دالَّة على الجَمْع بين الأمْرَيْنِ ، فكانوا يَذْكُرُون التَّأوِيلاَت الفاسِدَةِ ، وكانوا يُحَرِّفُون اللَّفْظَ أيضاً من الكِتَابِ .
فقوله : { يُحَرِّفُونَ الكلم } إشارة إلى التَّأويل الباطل .
وقوله : « من بعد مواضعه » إشارة إلى إخراجه عن هذا الكِتَابِ .
وقيل : المراد بالتَّحْرِيف : تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عبَّاس : كانت اليَهُود يأتون رسُول الله صلى الله عليه وسلم ويسْألُونه عن الأمْر ، فيُخْبِرهم ، فيرى أنَّهُم يأخُذُون بِقَوْلِهِ ، فإذا انصرفوا من عِِنْدِه ، حرِّفوا كلامه { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا } منك قولك { وَعَصَيْنَا } أمْرَك ، وهو المُرَادُ بقوله : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } .
قوله : { واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ } ، في نصبِ « غَير » وجْهَان :
أحدهما : أنه حَالٌ .
والثاني : أنه مَفْعُول به ، والمعنى ، اسْمَع غير مُسْمَعٍ كلاماً ترضاه ، فَسَمْعُك عنه نَابٍ .
قال الزَّمَخْشَريّ ، بعد حكايته نَصْبه على الحَالِ ، وذكرهُ المعنى المتقدّم : ويجوزُ على هَذَا أن يكون « غير مسمع » مفعول اسْمَع ، أي : اسْمَع كلاماً غير مُسْمَع إيَّاك؛ لأن أذُنَك لا تعيه نبُوّاً عنه ، وهذا الكلام ذُو مُسْمَع مكْرُوهاً ، فيكون قد حَذَفَ المَفْعُول الثَّاني؛ لأن الأوّل قَامَ مَقَام الفَاعِل .
وبإرادة الذَّمِّ تقدّر « غير مسمع خيراً » وحذف المفعول الثاني : أيضاً [ والمعنى : كانوا يَقُولُون للنَّبِي صلى الله عليه وسلم اسْمع ، ويقُولون في أنْفُسِهم : لا سَمِعْتَ ] .
وقال أبو البقاء : وقيل : أرادُوا غير مَسْمُوع مِنْكَ ، وهذا القَوْل نقله ابن عطيّة عن الطَّبَرِي ، وقال : إنه حِكَايةٌ عن الحَسَن ومُجَاهِد .
وقال ابن عطيَّة : ولا يُسَاعِده التَّصْريف ، يَعْني : أنّ العَرَب لا تقُولُ أسْمَعْتُكَ بمعنى قَبِلْتُ منك ، [ وإنما تقول أسْمَعْتُه بمعنى : سَبَبْتُه ، وسمعت منه بمعنى قَبِلْتُ ويعبرون بالسماع لا بالإسماع عن القبول مجازاً ، وتقدم القولُ في { رَاعِنَا } [ البقرة : 104 ] ، وفيها وجوه :
أحدُها : أن هذه كلمةٌ كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخريةِ ، وقيل معناها : أرِعْنَا سمْعَك ، أيْ : اصرف سمْعَك إلى كلامنَا ، وقيل : كانوا يقولُونَ : راعِناً ، ويُوهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ رَاعِنَا سَمْعَك ، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونةِ في لُغَتِهم .

وقيل : كانوا يَلْوُون ألْسِنَتهم ، حتى يصيرَ قولُهم : { وَرَاعِنَا } : رَاعِينَا ، ويُريدُون : أنَّك كُنْتَ تَرْعَى أغْنَاماً لَنَا .
قال الفراءُ : كانوا يَقُولُونَ : رَاعِنَا [ ويُهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ سَمْعَك ، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونة ] ويريدون الشَّتْمَ ، فذاك هو اللَّيُّ ، وكذلك قولهم : { غَيْرَ مُسْمَعٍ } أرَادوا به ، لا سَمِعْتَ فهذا هو اللَّيُّ .
فإنْ قيلَ : كَيْفَ جاءُوا بقولٍ يحتملُ الوجهيْنِ بعد تَصْريحهم بقولهم : سَمِعْنَا وعَصَيْنَا؟ فالجوابُ : أنه قال بعضُ المفسَّرين : إنهم كانوا يقولون « وعصينا » سراً في نفوسهم . وقيل : كان بعضُهم يقولُه سِرًّا ، وبعضهم يقول جَهْراً .
قوله « لَيًّا بألسنتهم وطعناً » فيهما وجهانِ :
أحدهما : أنَّهُمَا مفعول مِنْ أجْلهِ ناصبُهما « ويقولونَ » .
والثَّاني : أنَّهُمَا مَصْدَرَانِ في موضع الحَالِ ، أيْ : لاوين وطاعنينَ ، وأصْلُ لَيًّا [ « لَوْيٌ ] » من لَوَى يلْوي ، فأدغِمَتِ الواوُ في الياءِ بعد قلبها ياءً ، فهو مِثْلُ « طَيٍّ » مصدر طَوَى ، يَطْوِي .
و « بألسنتهم » ، و « في الدين » متعلّقان بالمَصْدَرَيْنِ قبلهما ، وتقدَّم في البَقَرة على قَوْله : « ولو أنهم قالوا » .
قوله : « لكان خيراً لهم » فيه قَوْلاَن :
أظهرهما : أن يكُون بمعنى أفْعَل ، ويكون المُفَضَّل عَلَيْه « محذوفاً ، أي : لو قالُوا هذا الكلام ، لكان خَيْراً من ذَلِك الكَلاَمِ .
والثاني : أنه لا تَفْضِيل فيه ] بل يَكُون بمعنى جيّد وفَاضِل ، فلا حَذْف حينئذٍ ، والباءُ في » بكفرهم « للسَّبَبية .
قوله : » إلا قليلاً « فيه ثلاثة أوجُه :
أحدها : أنه مَنْصُوب على الاستثنَاء من { لَّعَنَهُمُ } ، أي : لعنهم الله إلا قليلاً منهم ، فإنَّهم آمنُوا فلم يَلْعَنْهُم .
والثاني : أنه مستثْنى من الضَّمِير في » فلا يؤمنون « ، والمراد بالقَلِيلِ عبد الله بن سَلاَم وأضرابه ، ولم يَسْتَحسن مَكِّي هذيْن الوَجْهَيْن :
أما الأوّل : قال : لأنَّ مَنْ كَفَرَ مَلْعُونٌ لا يُسْتَثْنَى منهم أحد .
وأما الثاني : فلأن الوجْه الرَّفع على البَدَل؛ لأن الكَلامَ غير مُوجِبٍ .
والثالث : أنَّه صِفَةٌ لمصدر محذُوف ، أي : إلا إيماناً قَلِيلاً؛ وتعليله هو أنَّهُم آمنوا بالتَّوحيد وكَفَرُوا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وشَرِيعَته .
وعبَّر الزَّمَخْشَري وابن عطيّة عن هذا التَّقليل بالعَدَم ، يعني : أنَّهُم لا يؤمِنُون ألْبَتَّةَ كقوله : [ الطويل ]
1807- قَلِيلُ التَّشَكِّي للمُهِمِّ يُصِيبُهُ ... كَثيرُ الهَوَى شَتَّى النَّوَى والمَسَالِك
قال أبو حيان : وما ذكراهُ من أنَّ التقْليل يُرادُ به العَدَم صَحِيحٌ ، غير أن هَذَا التَّرْكيب الاستثنائي يأباه ، فإذا قُلت : لم أقُمْ إلاَّ قَلِيلاً ، فالمعنى انْتفَاء القِيَامِ إلا القَلِيل ، فيوجد منك إلا أنَّه دالٌّ على انْتِقَاءِ القِيَام ألْبَتَّةَ ] ، بخلاف : قلَّما يقُول ذلك أحَدٌّ إلا زَيْد ، وقَلَّ رَجُلٌ يفعل ذلك ، فإنه يَحْتَمِل التَّقْليل المُقَابل للتكثيرِ ، ويحتمل النَّفْي المَحْض ، أما أنك تَنْفِي ثم تُوجِب ، ثم تُريد بالإجَابِ بعد النَّفْي نَفْياً فلا؛ لأنه يَلْزَم أن تَجيء » إلاَّ « وما بَعْدَهَا لَغْواً من غير فائدةٍ؛ لأن انْتِفَاء القِيَام قد فُهِمَ من َوْلِكَ : لَمْ أقُمْ ، فأيُّ فَائِدةٍ في استِثْنَاءٍ مُثْبَتٍ يرادُ به انْتِفَاء مَفْهُوم من الجُمْلَة السَّابِقة ، وأيْضاً فإنَّه يُؤدِّي إلى ان يكُون ما بَعْدَ » إلاَّ « مُوافقاً لما قبلها في المَعْنَى ، والاستِثْنَاء يَلْزَم أن يكُون ما بعد إلا مُخالفاً لما قبلها فيهِ .

فصل : الخلاف في القليل الوارد في الآية
معنى الكَلاَم « فلا يُؤمِن إلاَّ أقْوامٌ قَلِيلُون ، واخْتَلَفُوا في ذلك القليل :
فقال بعضُهم : هو عَبْد الله بن سَلاَم ، ومن أسْلَم معه مِنْهُم .
وقليل : القَلِيل صفة للإيمان ، والتَّقدير : فلا يؤمِنوُن إلا إيماناً قليلاً ، فإنَّهم كَانُوا يرمِنُون بالله والتَّوْرَاة [ موسى ] ، والتَّقْدِير : فلا يُؤمِنُون إلا بِمُوسَى ، ولكنَّهم كانوا يَكْفُرون بسائِر الأنبياءِ ، وَرَجَّحَ أبو عَلِيٍّ الفَارِسِيّ هذا القَوْل؛ قال : لأن { قَلِيلاً } لفظ مُفْرَد ، والمُرَادُ به الجَمْع ، قال - تعالى - : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] ، وقال : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ } [ المعارج : 10 ، 11 ] فدلَّ عَوْد الذكر مَجْمُوعاً إلى الآيتيْن على أنَّه أريد بهما الكَثْرة .
فصل : الاستدلال بالآية على جواز تكليف ما لا يطاق
استدل بَعْضُ العُلماء بهذه الآيةِ مع الآيةِ التي بَعْدَهَا ، على جَوازِ تكْلِيفِ ما لا يُطَاق؛ لأنه - تعالى - أخْبَرَ عَنْهُم في هذه الآية بأنَّهُم لا يُؤمِنُون ، وخبرُهُ - تعالى - صِدْق وحَقٌّ ، ثم أمرهم في الآيةِ التي بَعْدَها بالإيمانِ ، فقال : { يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ } [ النساء : 47 ] فأمرهم بالإيمان مع إخْبَارِه بأنَّهمُ لا يُؤمِنُون .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)

« وذلك أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كَلَّم أحْبَارَ اليَهُود : عِبْد اللهِ بن صوريا ، وكَعْب بن الأشْرَف ، فقال : يا مَعْشَر اليَهُود ، اتَّقُوا الله وأسْلِمُوا ، والله إنكُم تَعْلَمُون أن الَّذِي جِئْتُم به الحَقّ ، قالوا : ما نَعْرِفُ ذلك ، وأصَرُّوا على الكُفْرِ؛ » فَنَزَلَت هذه الآية .
فإن قيل : كان يَجِبُ أن يأمُرهُم بالنَّظَرِ والتفكُّر في الدَّلاَئِل ، حتى يكُون إيمانُهُم استِدْلاليّاً ، فلما أمرهُم بالإيمان ابْتِداءً؛ فكأنه - تعالى - أمَرَهُم باٌيمَان على سَبِيل التَّقْليد .
فالجوابُ : أن هذا خِطابٌ مع أهْلِ الكتاب ، وكانُوا عَالِمين بِهَا في التَّوْراة؛ ولهذا قال : { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } أي : من الآيَاتِ الموْجُودَة فِي التَّوْرَاة الدَّالة على نُبُوَّة محمد - عليه الصلاة والسلام- .
قوله : { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ } متعلِّق بالأمْرِ في قوله : { آمِنُواْ } ونطمِسُ يكون متعدِّياً ومنه هذه الآية؛ ومثلها : { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } [ المرسلات : 8 ] لبنائه للمَفْعُول من غير [ حَرْف ] جَرٍّ ، ويكُون لازِماً ، يقال : طَمَسَ المَطَرُ الأعلامَ ، وطَمَسَت الأعْلامُ .
قال كعب : [ البسيط ]
1808- مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذَّفْرَى إذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأعلامِ مَجْهُولُ
وقرأ الجُمْهُور : { نَّطْمِسَ } بكسر الميم ، وأبو رَجَاء بِضَمِّها ، وهما لُغَتَان في المُضَارِع ، وقدَّر بعضهم مُضافاً أي : « عيون وجوه » ويقوَّيه أن الطَّمْس للأعْيُن؛ قال - تعالى - : { لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } [ يس : 66 ] .
فصل في معنى الطمس والخلاف فيه
الطَمْسُ : المَحْوُ؛ تقول العرب في وصف المفَازَةِ : إنها طَامِسَةُ الأعلامِ ، وطَمس الطَّرِيق إذا دَرَسَ ، وقد طَمَسَ الله على بَصَرِه؛ إذا أزَالَهُ ، وَطَمَست الرِّيحُ الأثَر : إذا مَحَتْهُ ، وطَمَسْت الكِتَاب : إذا مَحَوْتَه ، واخْتَلَفُوا في المراد بالطَّمْسِ هُنَا .
فقال ابن عباس : نَجْعَلُهَا البَعِير .
وقال قتادة والضَّحَّاك « نُعْميها .
وقيل : نمحو آثارَهَا وما فيها من أعْيُن ، وأنفُ ، وَفَم ، وحَاجِب .
وقيل : نجعل الوُجُوه منابِتَ الشَّعَر ، كوُجُوهِ القِرَدَةِ ، وقيل : يجعلُ عَيْنَيْهِ في القَفَا؛ فَيَمْشِي القَهْقَرِى ، وقيلَ : المرادُ ب » الوجوهِ « : الوجَهَاءُ ، والرؤسَاءُ .
ورُوِيَ : أنَّ عبد الله بْنَ سلامٍ ، ولمّا سَمِعَ هذه الآية؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أنْ يأتِيَ أهْلُهُ ، ويدَهُ على وَجْهِهِ ، وأسْلَم ، وقال : يا رسُولَ الله ، ما كنتُ أرَى أنْ أصِلَ إليْك؛ حَتَّى يتحولَ وَجْهِي إلى قَفَايَ؛ وكذلك كعبُ الأحْبَارِ ، لَمَّا سَمِعَ هذه الآيةَ ، أسْلَمَ في زَمَنِ عُمَرَ ، فقال : يا رَبِّ ، آمَنْتُ ، يا رَبِّ ، أسلمتُ؛ مخافَةَ أنْ يُصِيبَه- وعيدُ هذه- الآية .
فإن قيلَ : قد أوعدهم بالطمْسِ إنْ لم يُؤمِنُوا ، ولَمْ يَفْعَلْ ذلك بِهم؟
فالجوابُ : أنَّ الوَعِيدَ باقٍ ، ويكونُ طَمْسٌ ، ومَسخٌ في اليهود ، قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ ، وقيل : إنَّه جَعَل الوِعيدَ : إمَّا الطمسَ ، وإمَّا اللَّعْنَ ، وقد فَعَلَ أحَدَهُمَا ، وهو اللَّعْنُ .
وقيل : كان هذا وَعيداً بشرطٍ فلما أسْلَمَ عبد الله بن سلام ، وأصحابُه ، رفع ذلك عن الباقينَ ، وقيل : أرَادَ بِهِ في القيامةِ .

وقال مُجَاهِدٌ : أراد بقوله { نَّطْمِسَ وُجُوهاً } ، أيْ : يترُكهُم في الضَّلاَلَة ، فيكون المرادُ طَمْسَ وَجْهِ القَلْبِ ، والردَّ عن الهُدَى .
وقال ابنُ زَيْدٍ : نَمْحُو آثَارَهُمْ مِنْ وجُوهِهِم ، ونَوَاصيهم التي هم بها وقد لحقَ اليهودَ ، ومضى ، وتأويل ذلك في إجْلاءِ قُُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ إلى الشَّام ، فردَّ اللهُ وُجُوهَهُم على أدْبَارِهم ، حين عادوا إلى أذْرِعَاتٍ ، وأريحاء من الشامِ .
قوله : { على أَدْبَارِهَآ } فيه وَجْهَانِ :
أظهرهُمَا : أنَّهُ متعلقٌ ب { فَنَرُدَّهَا } .
والثَّاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من المفعولِ في « نلعنهم » يَعُودُ على الوُجُوهِ ، على حَذْفِ مُضَاف إلَيْهِ : أيْ : وُجُوم قَوْم ، أوْ عَلَى أن يُرادَ بِهمُ : الوُجَهَاءَ والرؤساءَ ، أو يعودَ على الَّذين أوتُوا الكِتَابَ ، ويطونُ ذلك التِفاتاً مِنْ خَطَابٍ إلى غَيْبَةٍ ، وفيه اسْتِدْعاؤهُم للإيمانِ؛ حيثُ لم يُوَاجِهْهُمْ باللَّعْنَةِ بَعْدَ أن شَرَّفَهُم بكوْنِهم مِنْ أهْل الكتابِ .
فصل في المراد باللعن
قال مُقَاتِلٌ ، وغَيْرهُ : المرادُ باللَّعْنِ : مَسْخُهُمْ قِرَدَةً ، وخَنَازِير ، فإنْ قيل : قد كان اللَّعْنُ حَاصِلاً قبل هذا الوعيد . فالجوابُ : إنَّ اللَّعْنَةَ بعد الوعيد ، أزْيَدُ تأثيراً في الخِزْيِ ، وقيل : المرادُ بهذا اللَّعْن ، الطَّرْدُ ، والإبْعَادُ [ و ] قولهُ { وَكَانَ أَمْرُ الله } : أمرٌ واحدٌ أُريدَ به الأمُورُ ، وقيل : هو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به ، أيْ : مَأمُوره ، أي : ما أوْجَدَه كائِنٌ لا مَحَالَة .
قال ابنُ عبَّاس : يريدُ لا رَادَّ لِحُكْمَه ، ولا ناقِضَ لأمْرِه ، وعلى [ مَعْنَى ] أنه لا يَبْعُدُ عليه شَيءٌ [ يُريدُ ] أن يَفْعَلهُ ، وإنَّما قال : { وَكَانَ } إخباراً عن جريان عادةِ اللهِ في الأنْبِياءِ المتقدَّمِينَ ، أنَّه مَتَى أخْبَرَهم بإنْزَال العَذَابِ عليْهم فعل ذلك لا مَحَالة .
فصل : دفع شبهة الجبائي
احتجَّ الجُبَّائِيُّ بهذه الآيةِ على أنَّ كلامَ اللهِ مُحْدَثٌ؛ لأنَّ المفعولَ مَخْلُوقٌ .
فالجوابُ : أنَّ الأمْرَ في اللُّغَةِ ، جاءَ بمعنى الشَّأنِ ، والطَّريقَةِ ، والفِعْلِ؛ قال تعالى : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ] .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)

لما توعَّدَ الكُفْرُ ، وبين أنَّ ذلك التقديرَ لا بُدَّ من وُقُوعِهِ ، يَعْنِي : أنَّ ذلك إنَّما هو مِنْ خَواص الكُفْرِ ، أمَّا سَائِرُ الذُّنُوبِ غيرَ الشِّرْكِ ، فإنه يَغْفِرُها ، إن شاءَ .
قال الكَلْبِيُّ : نزلتْ في وَحْشِيّ بن حَرْبٍ ، وأصحابه؛ وذلك أنَّه لما قُتِل حَمْزَةُ ، كان قد جُعِلَ له على قَتْلِه أنْ يُعْتَقَ ، فلم يُوفَّ له بذلك ، فلما قَدمَ مَكَّةَ ، نَدِمَ على صُنْعِهِ ، هُوَ ، وأصحابُهُ؛ فكَتَبُوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : إنَّا قَدْ نَدِمْنَا على الذي صَنَعْنَا ، وإنَّه لَيْسَ يَمْنَعُنَا عن الإسلامِ إلاَّ أنَّا سَمعناكَ تَقُولُ بِمَكَّةَ : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] الآياتِ ، وقد دعونا مع الله إلهاً أخر ، وقتلنا النفس التي حرم الله قتلها وزنينا ، فلوْلا هذه الآياتُ ، لاتَّبَعْنَاك؛ فنزلت : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70 ] ، الآيتين ، فبعثَ بهما [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] إليهم فلما قرءُوا ، كتبوا إليْهِ : إنَّ هذا شَرْطٌ شَدِيدٌ نَخَافُ إلاَّ نَعْمَلَ عَمَلاً صالحاً فنزلَ : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } ، فَبَعَثَ بها إليهمْ ، فبَعَثُوا إليه : إنَّا نَخَافُ ألاَّ نكون مِنْ أهْلِ المشيئةِ؛ فنزلتْ : { ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } [ الزمر : 53 ] فبعث بها إليهم؛ فَدَخَلُوا في الإسلامِ ، ورجعُوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَبِل مِنْهم ، ثم قال [ عليه الصلاة والسلام ] لِوَحْشِي : « أخْبِرْنِي : كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ » ؟ فلَمَّا أخْبَرَهُ ، قال : « وَيْحَكَ! غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي » ، فَلَحِقَ وَحْشِيٌّ بالشَّامِ ، وكانَ بِهَا إلى أنْ ماتَ .
وروى أبُو مِجْلَز ، عن ابْنِ عُمَر : « لمَّا نزلت : » يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم « الآية ، قام رَجُلٌ ، فقال : والشِّرْك يا رسُولَ الله ، فَسَكَتَ ، ثم قام إلَيْهِ مَرَّتَيْنِ ، أو ثلاثاً؛ فنزلتْ : » إن الله لا يغفر أن يشرك به « الآية ، قال مُطْرِّفُ بنُ الشَّخِّير : قال ابنُ عُمَرَ : كُنَّا على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذَا مَاتَ الرجلُ على كَبِيرَةٍ ، شَهِدًنَا أنَّه مِنْ أهْلِ النَّارِ ، حتى نزلتْ هذه الآيةُ ، فأمْسَكٍنَا عن الشَّهَادَاتِ .
حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أنَّ هذه الآيةَ أَرْجَى آيةٍ في القُرْآنٍ .
قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } ، كلامٌ مُسْتأنفٌ ، ولَيْسَ عَطْفاً على { َيَغْفِرُ } الأوَّلِ؛ لفسادِ المعنى ، والفَاعِلُ في { يَشَآءُ } ضميرٌ عَائِدٌ على الله تعالى ، ويُفْهَمُ مِنْ كلام الزَمخْشريّ : أنَّهُ ضميرٌ عائِدٌ على مَنْ في » لمنْ « لأنَّ المعنى عِنْدَه : إنَّ الله لا يغفرُ الشِّرْكَ لمن لا يشاء أن يغفر له؛ لِكَوْنِه مَاتَ على الشِّرْكِ ، غَيْر تائِب مِنْه ، ويغفرُ ما دُونَ ذَلِك لِمَنْ يشاءُ أنْ يغفرَ له ، بكونه ماتَ تَائباً مِنَ الشِّرْكِ ، و { لِمَن يَشَآءُ } متعلِّقٌ ب { َيَغْفِرُ } .

قوله : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } أيْ : اختلق ذَنْبتً غيرَ مَغْفُورٍ .
يُقالُ : افْتَرَى فُلانٌ الكَذِبَ ، إذا اعْتَمَلَهُ ، واخْتَلَقَهُ ، وأصْلُه : من الفَرْي ، بمعنى القَطْعِ .
رَوَى جَابرٌ قال : « أتى النبيِّ صلى الله عليه وسلم رَجَلٌ ، فقال : يا رسولُ الله ، ما المُوجِبتان؟ قال مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بالله شيئاً ، دَخَلَ الجَنَّة ، ومَنْ مَاتَ يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً ، دَخَلَ النَّارَ » .
وقال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّي لأرْجُو ، كَمَا لا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ؛ كَذلِكَ لا يَضُرُّ مَعَ التَّوحِيد ذَنْبٌ ، ذَكَرَ ذلك عِنْدَ عُمَر بْنَ الخطَّابِ؛ فَسَكَتَ عُمَرُ .
وروى أبُو ذَرٍّ ، « قالَ : أتَيْتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، وعليه ثَوْبٌ أبْيَض ، وهو نَائِمٌ ، ثُمَّ أتَيْتُهُ ، وقد استَيْقَظَ؛ فقال : » مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لا إله إلا اللهُ ، ثُمَّ مَاتَ على ذَلِكَ؛ إلاَّ دَخَلَ الجنَّة
« . قُلْتُ : وَإنْ زَنا ، وإنْ سَرَقَ! قَال : » وإنْ زَنَا ، وإنْ سَرَقَ « .
[ قُلْتُ : وَإنْ زَنَا ، وإنْ سَرَقَ! قَال : » وإنْ زَنَا ، وإنْ سَرَقَ « ، قُلْتُ : وَإنْ زَنا ، وإنْ سَرَقَ! قَال : » وإنْ زَنَا ، وإنْ سَرَقَ ] ، عَلَى [ أنْفِ ] أبِي ذَرٍّ « ، وكانَ أبُو ذَرٍّ إذا حدث بهذا ، وإنْ رَغم أنْفُ أبِي ذَرٍّ .
فصل
قال القُرطُبِيُّ : قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } من المُحْكَمِ المتفقِ عليه ، الذي لا خلاف فيه بَيْنَ الأمةِ ، وقوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } ، من المُتَشَابَهِ ، الَّذي قد تَكَلَّمَ العلماءُ فيه .
فقال مُحَمدُ بن جَريرٍ الطَّبريّ : قد أبَانَتْ هذه الآيةُ كُلَّ صاحِبِ كَبيرةٍ ، فَفِي مَشِيئةِ الله عز وجل إن شاء [ عفَا لَهُ ، وَإنْ شَاءَ ] ، عاقَبَه ، مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرتُهُ شِرْكاً ، وقالَ بعضُهُم : قد بين الله تعالى ، بقوله عز وجل : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] .
فأعْلَمَ أنَّهُ : يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ لمن اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ ، لمنْ يشاءُ ، ولا يَغْفِرُ الصغَائِرَ لمنْ أتَى الكَبَائِرَ .
وقال بعضُهم : هذه الآيةُ ناسِخَةٌ للتي في آخرِ الفُرْقَانِ .
قال زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ : نزلتْ سُورةُ النِّسَاءِ بَعْدَ سُورَةِ الفُرقَانِ بِسِتَّةِ أشْهُرٍ .
قال القُرِطُبِيُّ : والصحيح أنَّهُ لا نَسْخَ ، لأنَّ النَّسْخَ فِي الأخْبَارِ مُسْتَحِيلٌ ، وسيأتي الجمعُ بَيْنَ الآي ، في هذه السُّورةِ؛ وَفِي الفُرْقَانِ ، إنْ شَاءَ اللهُ تعالى .
فصل هل يسمى اليهودي مشركاً في الشرع؟
قال ابنُ الخطيب : دلتْ هذه الآيةُ على أنَّ اليَهُودِيِّ يُسَمَّى مُشْرِكاً في الشَّرْعِ؛ لأنها دالَّةٌ على أنَّ مَا سِوَى الشركِ من الكَبَائِرِ يُغْفَرُ ، فَلَوْ كَانَتِ اليهوديَّةُ مُغَايِرة للشِّرْكِ ، كَانَتْ ] مَغْفُورَةً بحكم الآية ، وهو خِلاَفُ الإجْمَاعِ ، ولأنَّ هذه الآيةَ مُتَّصِلَةٌ بوعِيِدِ اليَهُودِ ، فَلَوْلاَ دُخُوُل اليهوديةِ تحتَ اسْمِ الشِّرْكِ ، لم يحْصُل الالتئامُ .
فإنْ قيلَ : عَطْفُ » الذين أشركوا « على » الذين هادوا « في قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ }

[ الحج : 17 ] ثُمَّ قَالَ [ بعده ] : « والذين أشركوا » يَقْتَضِي المُغَايَرَةَ .
قُلْنَا : المغايرةُ في المفهومِ اللُّغَويِّ ، والاتِّحاد في الشرعي؛ دَفْعَاً للتَّنَاقُضِ ، ويتفرَّعُ عليه أنَّ المسلمَ لا يُقْتَلُ بالذِّمي؛ لأنَّ المشركَ مُبَاحُ الدَّكِ؛ لقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] ، ومُبَاحُ الدَّمِ لا يُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ ، ولا يتوجَّهُ النَّهْيُ عن قَتْلِه ، ترك العَمَلِ بهذا الدليلِ في حقِّ النهي فَبَقِيَ مَعْمُولاً به في سُقُوطِ القِصَاصِ عَنْ قَاتله .
فصل في دلالة الآية على العفو عن أصحاب الكبائر
هذه الآيةُ أقْوَى الدلائلِ على صِحَّة العَفْوِ عن أصْحَابِ الكَبَائِرِ ، من وجوه :
الأوَّلُ : أنَّ قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } أيْ لا يغفرُهُ فَضْلاً معَ عدمِ التوبةِ؛ لأنَّهُ يُغْفَرُ وُجُوباً عند التوبةِ بالإجماع؛ فيكون قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } على سَبِيلِ الفَضْلِ ، حَتَّى يتواردَ النَّفْيُ والإثباتُ على مَعْنَى واحدٍ؛ كما لو قال : إنَّ فُلاناً شَاءَ لا يُعْطِي على سبيلِ فَضْلِ الوُجُوبِ ، كان رَكِيكاً ، وحينئذٍ : يَجِبُ أنْ يكُونَ المرادُ أصْحابَ الكَبَائِرِ ، قَبْلَ التَّوْبَةِ؛ لأنَّ عند المعتزِلَةِ ، غُفْرَانَ الصَّغائِرِ ، والكبائِرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ- وَاجِبٌ عَقْلاً ، فلا يُمْكن حَمْلُ الآيةِ عَلَيْهِ ، فلم يَبْقَ إلاَّ الكَبَائِرُ قَبْلَ التَّوْبَةِ .
الثّاني : أنَّ ما سِوَى الشِّرْكِ ، يَدْخُلُ فيه الكبائرُ قَبْلَ التوبةِ ، وبعدَهَا ، ثُمَّ حَكَمَ على الشِّرْكِ بأنَّهُ غيرُ مَغْفُورٍ ، وَعَلَى غَيْرِ الشِّرْكِ بأنَّهُ مَغْفورٌ لمنْ يشاءُ ، فَوَجَبَ أنْ تكونَ الكبيرةُ قَبْلَ التوبةِ مَغْفُورةٌ .
الثالثُ : أنَّه علَّقَ الغُفْرَان بالمشيئَةِ ، وغُفْرَانُ الكَبِيرةِ بعد التوبةِ والصَّغِيرَةِ مَقْطُوعٌ به ، فوجب أنْ يكونَ المعلَّق الكبيرة قبلَ التوبةِ .
فإن قيلَ : إنَّ تَعْلِقَهُ على المشِيئَةِ ، لا يُنَافِي وُجُوبَهُ ، كقوله تعالى : { بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } ، ثُمَّ إنَّا نَعْلَمُ أنَّه لا يُزَكِّي إلاّ مَنْ يكونُ أهْلاً للتَّزكِية ، وإلاَّ فكانَتْ كَذِباً .
واعلمْ : أنه ليس للمعتزلةِ في مُقَابلة هذه الوُجُوهِ كلامٌ يُلْتفتُ إليه ، [ إلا المعَارَضَة بآياتِ الوعِيدِ ] .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)

قد تقدَّمَ الكلامُ على مِثْل قوله : « ألم تر » ، وقوله : « بل » ، إضْرَابٌ عَنْ تزكيتهم أنفُسَهُم ، وقدّر أبُو البقاء قبل هذا الإضراب جُمْلَةً؛ قال : تقديرهُ : أخْطؤوا ، { بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } .
[ وقوله : « ولا يظلمون » ، يجوزُ أنْ يكونَ حَالاً ممَّا تقدَّم ، وانْ يكون مُسْتَأنفاً ، والضميرُ في « يظلمون » يجوزُ أنْ يعود على « من يشاء » ] أيْ : لا يُنْقِصُ مِنْ تزكيتهم شيئاً ، وإنَّما جَمَعَ الضميرَ؛ حَمْلاً على مَعْنَى « من » وأنْ يَعُودَ على الذين يُزَكونَ ، وأنْ يعُودَ على القَبِيليْن مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ ، وَمَنْ زَكَّاهُ الله ، فَذَاكَ لاَ يُنْقِصُ من عقابه شَيْئاً ، وهذا لا يُنْقِصُ مِنْ ثَوَابِهِ شَيْئاً ، والأوَّلُ أظْهَرُ؛ لأن « من » أقَرْبُ مَذْكُورٍ ، ولأنَّ « بل » إضرابٌ مُنْقطعٌ ما بَعْدَهَا عمَّا قَبْلَهَا .
وقال أبُو البَقَاءِ : ويجوزُ أن يكُونَ مُسْتأنَفاً ، أيْ : منْ زَكَّى نَفْسَه ، ومَنْ زَكَّاهُ اللهُ . انتهى .
فجعل عودَ الضميرِ على الفَريقَيْنِ؛ بِناءً على وَجْهِ الاسْتِئْنافِ ، وهذا غيرُ لازِمٍ [ بل ] يجوزُ عودهُ عَلَيْهِمَا ، والجملةُ حَالِيَّةٌ .
و { فَتِيلاً } مَفعُولٌ ثانٍ؛ لأن الأولَ قامَ مَقَامَ الفاعِلِ ، ويجوزُ أنْ يكونَ نَعْت مَصْدرٍ مَحْذُوفٍ ، كما تقدَّمَ تقديره في : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] ، والفَتِيلُ : خَيْطٌ رَقيقٌ في شِقِّ النَّواة [ يَضْرَبُ به المَثلُ في القِلَّةِ ، قالَهُ ابنُ السّكيتِ ، وغيرُهُ .
وقيل : هو مَا خَرَجَ مِنْ بيْن إصْبَعَيْكَ ، أو كَفَّيْكَ مِنَ الوَسَخ ] حين تَفْتُلُهُمَا ، فهو فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُولٍ ، وقد ضرب العَرَبُ المثلَ في القِلّةِ التافِهَةِ بأربَعةِ أشْيَاء ، اجتمعْتَ في النواةِ ، وهي : الفَتِيلُ ، والنَّقِيرُ : وهو النُّقْرَةُ التي في ظهر النَّواةِ ، والقِطْميرُ : هو القِشْرُ [ الرقيقُ ] فوقها [ وهذه الثلاثةُ واردَةٌ في الكتابِ العزيز ، والثُّفْروق : وهو ما بيْنَ النواةِ والقِمْع ] الَّذِي يكوُنُ في رَأسِ التَّمرة كالعلاقَةِ بَيْنَهُمَا .
فصل
لما هَدّد اليهود بأنه تعالى لا يغفرُ أنْ يشركَ به ، قالوا : لَسْنَا منَ المشركينَ ، بل نحنُ مَنْ خَوَّاصِّ اللهِ .
قال الكَلْبيُّ : « نزلت هذه الآيةُ في رِجَالٍ مِنْ اليهود : منهم » بَحْرى بنُ عُمَرَ « ، و » النُّعْمانُ بنُ أوْفَى « ، و » مَرْحَبُ بنُ زَيْدٍ « أتَوْا بأطْفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقَالُوا : يا محمدُ [ هَلْ ] على هَؤلاءِ مِنْ ذنْبٍ؟ فقال : لاَ ، قالوا : ما نَحْنُ إلاَّ كَهَيْئتهم ، ما عَمِلْنَا بالنهار ، يُكَفِّر عنّا بالليل ، وما علمنا بالليل ، يكفرُ عنَّا بالنهار ، يُكَفِّر عنّا بالليل ، وما علّمنا بالليل ، يكفرُ عنَّا بالنهارِ » ، فنزلت هذه الآيةُ .
وقال مُجاهِدٌ ، وعكْرمة : كانُوا يُقدِّمُونَ أطْفَالَهُم في الصلاةِ ، يَزْعمُوَن أنَّهم لا ذُنُوبَ لَهُم ، فتِلْكَ التزكيةُ .
وقال الحَسنُ ، والضحاكُ ، وقتادةُ ، ومقاتلٌ : نزلت في اليهود ، والنصارى ، حينَ قَالُوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] .
قال عبدُ الله بنُ مسعودٍ : هو تزكيةُ بعضِهم لبَعضٍ .
فصل
التَّزْكِيَةُ - ها هنا - عِبارةٌ عنْ مَدْح الإنْسَانِ نَفْسَهُ .
قال تعالى : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } [ النجم : 32 ] والتَّقْوَى : لا يَعْلَمُ حقيقتَها إلاَّ الله تعالى .
فإن قيل : ألَيْسَ قد قال - عليه الصلاة والسلام- : « واللهِ ، إنّي لأمِينٌ في السَّماءِ ، وأمِينٌ في الأرْضِ » .
فالجوابُ : إنَّما قال ذلك حين قال المنافِقُون له : اعدِلْ في القِسْمَة؛ ولأنَّ الله تعالى لمَّا زكَّاه أوَّلاً بِقِيامِ المعْجزةِ ، جاز له ذَلِكَ ، خلافِ غيرِه .

انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)

{ كَيفَ } منصوبٌ ب { يَفْتَرُونَ } وتقدم الخِلافُ فيه ، والجملةُ في محلِّ نَصْبِ ، بعد إسقاط الخَافِضِ؛ لأنَّها مُعلقةٌ ل « انظر » يتعدى ب « في » ؛ لأنها - هنا- ليستْ بَصريَّةً ، و « على الله » مُتعلِّقٌ ب { يَفْتَرُونَ } ، وأجاز أبُو البَقَاءِ : أنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من الكذبِ ، قُدِّمَ عليه ، قال : « ولا يجوز أن يتعلق بالكذب؛ لأن معمولَ المصْدَرِ لا يتقدَّمُ عليه ، فإن جعل على التَّبيين جَازَ » ، وجوّز ابن عطيةَ : أن يكون « كيف » مُبْتدأ ، والجملةُ مِنْ قوله { يَفْتَرُونَ } الخَبَرُ ، وهذا فاسدٌ ، لأن « كَيْفَ » لا تُرْفَعُ بالابتداءِ ، وعلى تقدير ذلك ، فأيْن الرَّابِطُ بينها وبَيْنَ الجملةِ الوَاقعَةِ خبراً عنها ولم تكن نفس المُبْتدأ ، حتى تِسْتغْنِي عَنْ رَابِطٍ ، و { إِثْماً } تمييزٌ ، والضميرُ في « به » عائدٌ على الكذبِ ، وقِيلَ : على الافْتِرَاءِ وجعلهُ الزمخشريُّ عَائِداً على زَعمهمْ ، يعْنِي : من حَيْثُ التقديرُ .
فصل في تعجيب النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود
هذا تَعْجيبٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ فرْيتهم على الله ، وهو تَزْكيتهُم أنْفسَهُمِ وافْتراؤهم ، وهو قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] .
فصل في معنى الكذب
الكَذِبُ : هو الإخْبَارُ عَنِ الشيء على خلافِ المُخبرِ عَنْهُ ، سَواءٌ عَلِمَ قَائِلُه كَوْنَهُ كذلك ، أوْ لا يَعْلَمُ ، وقال الجَاحِظُ : شَرْطُ كَوْنِهِ كَذِباً ، أنْ يعلمَ القائِلُ كَوْنَه بِخلافِ ذلكِ ، وهذه الآيةُ دليلٌ عليه؛ لأنَّهم كانُوا يَعْتَقدٌون في أنْفسهم الزِّكاءَ ، والطَّهَارَةَ : وكذبهم الله فيه .
وقوله : { وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } يقالُ في المدْحِ ، وفي الذَّمِّ ، أمَّا فِي المدْحِ ، فكقوله { والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وكفى بالله وَلِيّاً وكفى بالله نَصِيراً } [ النساء : 45 ] وأمَّا في الذَّمِّ ، فكما في هذا الموضع .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)

قال المُفسِّرون : خرج كَعْبُ بنُ الأشْرَفِ ، وحُيَيّ بن أخْطَبَ ، فِي سَبْعِينَ رَاكِباً من اليَهُودِ إلى مَكَّةَ بعد وَقْعَةِ أحُد؛ ليُحالفُوا قُرَيْشَاً ، على مُحَارَبَةِ الرَّسُول -عليه الصَّلاة والسلام- ويَنقُضُوا العهدَ الذي كان بينَهُم وبين النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فنزل كَعْبٌ علَى أبي سُفْيانَ؛ فأحْسَن مَثْوَاه ، ونزلت اليهودُ في دُورِ قُرَيْشٍ ، فقال أهْلُ « مكةَ » : إنكم أهل كتاب ، ومُحَمَّدٌ صاحب كِتابٍ ، ولا نأمَنُ أن يكُونَ هذا مَكراً مِنكم ، فإن أرَدْتَ أن نخرجَ مَعَكَ ، فاسْجُدْ لهذين الصَّنَمَيْنِ وآمنوا بهما ، فَفَعلُوا ذلك؛ فذلك قوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت } .
ثم قال كَعْبٌ لأهْلِ مَكَّةِ : ليجيء منكم [ الآن ] ثلاثُونَ ومِنَّا ثلاثُونَ فنلْزق أكْبَادنا بالكعبةِ؛ فنعاهد رَبَّ هذا البيتِ ، لنجهدنَّ على قِتَالِ مُحَمَّدٍ؛ فَفَعلُوا ، ثُمَّ قال أبُو سُفْيانَ لِكَعْبٍ : إنَّك امرؤٌ تَقْرَأُ الكِتَابَ ، وتَعْلَمُ ، ونحنُ أُمُّيُّون ، ولا نَعْلَمُ ، فَأُّنَا أهْدَى طَريقاً : نَحْنُ أم مُحَمَّدٌ؟
فقال كَعْبٌ لأبي سُفْيان : اعرضُوا عليَ دينكم ، فقال أبُو سُفْيَانَ : نحن نَنْحَرُ للحَجِيج الكُومَاء ، ونَسْقيهمُ [ الماء ] ونَقْري الضَّيْفَ ، ونُقِلُّ العَانِ ، ونَصِلُ الرَّحِمَ ، ونعَمِّرُ بين رَبِّنَا ، ونطوفُ به ، ونحنُ أهْلُ الحَرَم ، ومحمدٌ فارق دينَ آبَائِهِ ، وقطعَ الرَّحمَ ، وفارقَ الحَرَمُ ، ودينُنَا القَديمُ ، ودينُ محمدٍ الحديثُ ، فقال كَعْبٌ : أنْتُمْ واللهِ أهْدَى سَبِيلاً مَمَّا عليه محمدٌ؛ فنزلتْ هذه الآيةُ .
قوله : { يُؤْمِنُونَ } فيه وجهانِ :
أحدُهُمَا : انه حَالٌ إمَّا من : « الذين » وإمَّا مِنْ واوِ « أوتوا » ، و « بالجبت » مُتعلِّقٌ به ، و « يقولون » عطفٌ عليه ، و « الذين » مُتعلِّقٌ ب « يقولون » ، واللامُ؛ إمَّا للتبيلغِ ، وإمَّا لِلْعِلةِ؛ كنظائرها ، و « هؤلاء أهدى » مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ في محل نَصْبٍ بالقول و « سبيلاً » تَميِيزٌ .
والثَّانِي : أنَّ « يؤمنون » مُسْتأنَفٌ ، وكأنَّه تعجَّبَ مِنْ حَالِهم؛ إذْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ أوتِيَ نَصيباً من الكتاب؛ إلاَّ يَفْعَلَ شَيْئاً مِمَّا ذُكِرَ ، فَيكُونُ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ؛ كأنَّهُ قيلَ : إلاَ تَعْجَبُ مِنْ حَالِ الذِين أوتُوا نَصِيباً من الكتاب؟ فقيل : وما حالُهم؟ فقالَ : يؤمِنُون [ ويقولونَ ، وهذان ] منافيان لحالهم .
والجِبْتُ : حَكَى القَفّضالُ ، وغيرهُ ، عَن بَعْضِ أهلِ اللُّغَةِ : وهو الجِبْسُُ ، بِالسِّينِ المُهْمَلَةِ ، أُبدلتْ تاءً ، كالنَّات ، والأكْيَاتِ ، وست؛ في النَّاسِ ، والأكياسِ ، وسدس ، قال [ الرجز المشطور ]
1809- .. شِرَارَ النَّاتِ لَيْسُوا بِأجْوَادٍ ولاَ أكْيَاتِ
والجبس : هو الذي لا خير عنده .
يُقالُ رَجِلٌ جِبس ، وجِبتٌ ، أيْ : رَذْلٌ ، قِيلَ : وإنما ادَّعَى قلبَ السِّين تاءً؛ لأنَّ مَادَةَ ( ج ب ت ) مُهْمَلَةٌ . قَالَ قُطْرُبٌ : وغيرهُ يَجْعَلُها مَادَّةً مُسْتَقِلَّةً ، وقِيل : الجِبْتُ : السّضاحِرُ بلُغَةِ الحَبَشَةِ ، والطَّاغُوتُ : الكَاهِنُ ، قالهث سعيدُ بنُ جُبَيْر ، وأبُو العَالِيَةِ ، وقال عِكْرمَةُ : هما صَنَمانِ ، وقال أبُو عُبَيْدَةَ : هُما كُلُّ مَعْبُودٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ .
وقال عُمَر : الجِبْتُ : السِّحْرُ ، والطاغُوتُ : الشَّيْطَانُ؛ وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، ومُجاهِدٍ ، وقال مُحمدُ بنُ سيرينََ ، ومَكْحُولٌ : الجِبْتُ : الكاهنُ ، والطَّاغُوتُ : السَّاحِرُ ، ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ : الجِبْتُ : -بلسانِ الحبَشَةِ- : شَيْطَانٌ ، وقال الضَّحَّاكُ : الجبتُ : حُيَيُّ بنُ أخْطب ، والطَّاغُوتُ : كَعْبُ بنُ الأشْرَف ، وقِيل : الجبتُ كُلُّ مَا حَرَّمَ اللهُ ، والطاغوتُ : كُلُّ ما يُطْغي الإنْسانَ .
ورَوى قَبيصةُ : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : العِيَافَةُ : والطَّرْقُ ، والطِّيرةُ : مِنَ الجِبْتِ .
الطَّرْقُ : الزَّجْرُ ، والعِيَافَة : الحط .

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)

بَيَّنَ أنَّ عليهم اللَّعْنَ من الله ، وهو الخِذْلانُ ، والإبْعَادُ ، لقوله : { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا } [ الأحزاب : 61 ] وإنَّما استَحقُّوا هذا اللَّعْن ، لتفْضيلهمْ عَبَدَةَ الأوْثَانِ على المؤمِنينَ مبحمدٍ صلى الله عليه وسلم .

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)

لمَّا وصف [ تعالى ] اليهودَ بالجَهْلِ في الآية المتقدمة؛ لتفضيلهم عِبَادَةَ الأوْثَانِ على عبادَةِ الله تعالى ، وصفَهُم في هذه الآية بالبُخْلِ والحَسَدِ ، وهذا على سَبيلِ الإنْكَارِ .
والبخلُ : ألاَّ يدفعَ إلى أحدٍ شَيْئاً مما أوتِيَ مِن النعمةِ ، [ والحَسَدُ : أنْ يتمنَى ألاَّ يُعْطِي اللهُ غيرَهُ شَيْئاً من النِّعَم ] فها يَشْترِكَانِ في إرادةِ مَنْعِ النعمَةِ من الغَيْرِ ، وإنما قدّم وَصْفَ الجَهْلِ علَى وصفِ البُخْلِ ، والحَسَدِ؛ لأن الجهل سَبَبُهَا؛ وذلك لأنَّ البَخِيلَ ، والحَاسِدَ يجهلانِ أنَّ الله تعالى هو الذي أعْطَى هذا ، ومَنَعَ هذا .
واعلمْ أنَّهُ تعَالَى جَعَل بُخْلَهم كالمانع مِنْ حُصُولِ الملْكِ لَهُم ، وهذا يدلُّ على أنَّ الملكَ والبُخْلَ لا يَجْتَمِعَانِ؛ وذلك لأنَّ الانقيادَ [ للغير مكروهٌ لِذَاته ، وإنما يُحْمَلُ الإنْسَانُ على الانقيادِ لِلْغَيْر ] بالإحسانِ الحسن؛ كما قيل : « بالبر يستعبد الحر » ، فمتى لم يُوجد الإحْسانُ ، لَمْ يُوجد الانقيادُ ، ثُمَّ قدْ يكونُ المُلْكُ على الظَّاهِرِ فَقَطْ؛ وهو مُلْكُ المُلُوكِ ، وقد يكونُ الملكُ على البَاطِنِ فقط؛ وهو مُلْكُ العُلَمَاءِ وقد يكون الملكُ عَلَيْهمَا؛ وهو مُلْكُ الأنْبِيَاءِ ، فوجب في الأنبياء أنْ يكُونُوا في غَايَةِ الجُودِ ، والكَرَمِ ، والرَّحْمَةِ ، والشَّفَقَةِ؛ حَتَّى يحصلَ الانقيادُ بالبَاطنِ والظَّاهِرِ ، وكمالُ هذه الصفاتِ كان حَاصِلاً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم .
و « أم » مُنقطعةٌ؛ لِفواتِ شَرْطِ الاتِّصال ، كما تقدم أوَّل البقرةِ فتُقَدر ب « بَلْ » ، والهمزة التي يُرادُ بها الإنْكار ، وكذلك هُو في قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } وقال بعضُهم : الميمُ صلة ، وتقديره : ألَهُمْ؛ لأنَّ حَرْفَ « أمْ » إذَا لَمْ يَسْبِقْهُ استفهامٌ ، كانتِ الميمُ صِلَةً فيه ، وقيل : « أمْ » هنا مُتصلةٌ ، وقد سبقه -هاهنا- استفهامٌ على سَبيلِ المعْنَى؛ لأنَِّهُ لمَّا حَكَى قَوْلَهُمْ لِلمشرِكينَ بأنَّهم أهْدَى سَبِيلاً مِنَ المؤمنِينَ عطفَ عليه قوله { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ } فكأنَّهُ قال : أمْنِ ذلك يتعجَّبُ؟ أمْ مِنْ كَوْنِهِم لَهُم نَصِيبٌ من الملك؛ مع أنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمْ مُلْكٌ ، لَبَخِلُوا بأقلِّ القَلِيلِ؟ . فصل في معنى « الملك »
اختلفوا في هذا { الملك } ، فقيل : إنَّ اليهودَ كانوا يقُولُونَ : نحنُ أوْلَى بالملكِ ، والنُّبوةِ؛ فكَيْفَ نَتْبَعُ العَرَبَ؟ فأبطل اللهُ ذلك ، بهذه الآيةِ .
وقيل : كانوا يَزْعُمُونَ أنَّ الملكَ يعودُ إليهم ، في آخرِ الزمانِ ، فيخرجُ مِنَ اليهودِ مَنْ يُجَدِّدُ مُلْكَهُم؛ فَكَذَّبهم الله [ تعالى ] بهذه الآيةِ .
وقيل [ المرادُ ] بالمُلْكِ -هاهنا- التَّمليكُ : يَعْنِي : أنَّهم إنَّما يَقْدِرُونَ على دفعِ نُبُوَّتِكَ؛ لو كان التمليكُ إليهم ، [ و ] لو كان التمليكُ إلَيْهمْ؛ لبخلوا بالنَّقِير ، والقِطْمِيرِ . فكيفَ يَقْدِرُونَ على النَّفْيِ والإثْبَاتِ .
قال أبُو بَكْرٍ الأصَمّ : كَانُوا أصْحَابَ بَسَاتِينَ وأمْوَالٍ ، وكانوا في عِزَّةٍ ، ومَنَعَةٍ ، وكانوا يَبْخَلُونَ على الفُقَراءِ بأقل القَلِيلِ؛ فنزلت هذه الآيةُ .
قوله : « فإذن » حَرْفُ جَوَاب ، [ وجَزَاء ] ونُونُها أصلية ، قال مَكي [ وحذاق النحويِّين على كتب نونها نوناً ] وأجاز الفرَّاءُ أن تُكْتَبَ ألفاً ، وما قاله الفرَّاءُ هو قِيَاسُ الخَطِّ؛ لأنه مَبْنيٌّ على الوَقْفِ [ والوقف على نُونها بالألف ، وهي حرفٌ يَنْصِبُ المضارع بِشُرُوطٍ تقدَّمَتْ ] ، ولكنْ إذَا وَقَعَتْ بعد عَاطِفٍ ، فالأحْسَنُ الإهمالُ وقد قرأ ابنُ مَسْعُودٍ ، وابنُ عَبَّاسٍ -هنا- بإعْمَالِهَا ، فَحَذَفَ النُّونَ مِنْ قَوْلِه : { لاَّ يُؤْتُونَ } .

وقال أبُو البَقَاءِ : ولَمْ يَعْملْ -هنا- من أجْلِ حَرْفِ العَطْف وهُوَ الفَاء ، ويجوزُ في غَيْرِ القُرْآنِ ، أنْ يَعملَ مع الفَاءِ ، وليس المبطل لا؛ لأنَّ « لا » يتخطَّاهَا العامِلُ ، فظاهِرُ هذه العبارَةِ : أنَّ المانِعَ حَرْفُ العَطْفِ ، وليس كذلك ، بل المانِعُ التلاوةُ ، ولذلك قال آخراً : ويجوزُ في غَيْرِ القُرْآنِ .
قال سِيبَويْهِ : « إذن » في أصل الأفعالِ بمنزِلَةِ « أظن » في عَوَامِلِ الأسْمَاءِ ، وتقريرهُ : أنَّ الظنَّ إذَا وَقَعَ أوَّلَ الكلام -نَصَبَ ، لا غَيْرَ؛ كقولِكَ : أظُنُّ زَيْداً قائماً ، وإنْ تَوَسَّطَ جَازَ إلْغَاؤه ، وإعْمَالهُ تقول : زَيدٌ ظننْتُ مُنْطلِقٌ ، ومنطلقاً ، وإنْ تأخَّر ، ألْغِيَ .
والسببُ في ذلك؛ أن « ظن » وأخواتِهَا ، عَلِمَ ، وحَسِبَ ، ضَعِيفةٌ في العملِ؛ لأنها لا تُؤثِّرُ في مَفْعُولاتِهَا ، فإذا تَقَدَّمَتْ دلَّ تقدمُهَا على شِدَّةِ العِنَايَةِ فلغى ، [ وإنْ توسَّطَتْ ، لا يكون في مَحَلِّ العنايةِ مِنْ كُلِّ الوُجُوهِ ، ولا في مَحَلِّ الإهْمَالِ من كل الوجوه ، فَلاَ جَرَمَ أوْجَبَ توسُّطُها الإعْمالَ ] ، والإعْمالُ في حَالِ التوسطِ أحسنُ والإلغاءُ حَالَ التأخُّرِ ، أحْسَنُ ، وإذا عرفتَ [ ذلك ] فنقول : « إذن » على هذا الترتيبِ ، [ فإن تقدمَّتْ نَصَبَتِ الفعلَ ، وإنْ توسَّطَتْ ، أوْ تأخرتْ جاز الإلْغَاءُ ] .
والنَّقِيرُ : قال أهلُ اللغةِ : النَّقِيرُ : نُقْطَةٌ في ظَهْرِ النواةِ ، ومنها تَنْبُتُ النخلةُ ، وقال أبُو العَالِيَة : هو نَقْدُ الرجلِ الشَّيْئِ بِطَرفِ إصْبَعِهِ ، كما يُنْقِرُ الدِّرْهَمَ ، وأصْلُه : أنَّهُ فِعْلٌ مِنَ النَّقِرِ ، يُقالُ للخشبِ الذي يُنْقَرُ فيه : إنَّهُ نَقِيرٌ؛ لأنه يُنْقَرُ ، والنَّقْرُ : ضَرْبُ الحَجَرِ وغَيْرِه بالمِنْقِارِ ، يُقَالُ : فلانٌ كَرِيمُ النَّقِيرِ ، أي : الأصْلِ ، والمِنْقِارُ : حَدِيدَةٌ كالفأسِ تُقْطَعُ بها الحِجَارَةُ ، ومِنْهُ : مِنْقِارُ الطائِرِ؛ لأنه يَنْقُرُ بِهِ ، وذكْرُ النَّقيرِ هُنَا تَمْثِيلٌ ، والغَرَضُ منه ، أنَّهم يَبْخَلُونَ بأقلِّ القَلِيلِ .
قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } .
قال قَتَادَة : المرادُ أنَّ اليهودَ يَحْسُدُونَ العَرَبَ على النُّبوةِ ، وما أكْرَمَهُمُ اللهُ تعالى بِمُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام- .
وقال ابنُ عَبَّاسٍ ، والحَسَنُ ، ومُجَاهدٌ { وجَمَاعَةٌ ] : المراد ب « الناس » رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم حَسَدُوهُ على ما أحَلَّ اللهُ له من النِّساءِ ، وقالوا : « ما له هم إلا النكاح » وهو المرادُ بقوله : « على ما آتاهم الله من فضله » ، وقيلَ حَسَدوهُ على النُّبوةِ ، والشَّرفِ في الدينِ والدنيا ، وهذا أقْربُ ، وأوْلَى .
وقيل : المرادُ ب { الناس } محمدٌ وأصحابه ، ولمّا بيَّنَ [ اللهُ ] تعالى أنَّ كثرةَ نِعَمِ اللهِ [ عليهِ ] صَارَ سبباً لحَسَدِ هؤلاءِ اليهودِ ، بَيَّنَ ما يدفع ذلك الحَسَدَ ، [ فقال ] { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } ، أيْ أنَّهُ جَعَلَ فِي أوْلادِ [ إبراهيم ] جماعةً كثيرين ، جمعُوا بَيْنَ النبوةِ ، والملْكِ والحكمة ، وأنْتُم لا تَعْجَبُونَ من ذلك ، ولا تَحْسُدُونهم ، فَلِمَ تَتَعَجَّبُونَ من حالِ محمد ولِمَ تَحْسُدُونهُ؟ والمرادُ ب { آلَ إِبْرَاهِيمَ } دَاوُدُ ، وسُلَيْمانُ - عليهما السلام - وب { الكتاب } مَا أنْزَلَ عليهم وب { الحكمة } النبوةُ .

فمن فَسَّر { الفضل } : بِكّثْرةِ النساءِ ، والمُلْكِ العَظيمِ ، والمعنى : أنَّ دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ أوتيا مُلْكاً عَظِيماً ، وكان لسُليمانَ صلوات الله وسلامه عليه ألفُ امرأةٍ : ثلاثُمائَةٍ مُهْرِيَّة ، وسَبْعُمائة سُرِّيَّة ، وكان لداود - عليه السلام - مائةُ امْرَأةٍ ، ولم يكُنْ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ تِسْعُ نِسْوةٍ ، فلمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ ، سَكتُوا .
وقوله : « فمنهم من لآمن به » ، الضميرُ في به عَائِدٌ على « إبراهيم » أوْ على « القرآن » أوْ على الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - ، أوْ عَلَى ما أُوتيه إبراهيم - عليه السلام - فإنْ عَادَ غلى مُحَمدٍ ، فالمرادُ بالذين آمنُوا به ، الذين أُوتُوا الكتابَ؛ آمن بعضُهم كعبدِ اللهِ بنِ سلام ، وأصْحَابه ، وبَقِيَ بعضهم على الكُفْرِ والإنْكارِ ، وكذلك إنْ عادَ إلَى مَا أُوتِيه إبراهيم - علّيه السلام - قال السديُّ : الهاءُ في « بِهِ » و « عنه » رَاجِعَةٌ إلى إبْرَاهِيم ، وذلك أنَّهُ زَرَعَ ذَاتَ سَنَة ، وزرع الناسُ [ فِي تِلْكَ السَّنَةِ ] فَهَلَكَ زَرْعُ الناسِ ، وَزَكَا زَرْعُ إبْراهيمَ - عليه السلامِ- فاحتاج الناسُ إلَيْه ، فكان يقولُ : « من آمن بي أعطيته » فمن آمَنَ ، أعْطَاهُ مِنْه ، [ وَمَنْ لَمْ يُؤمِنْ ، منعه مِنْه ] ، وإنْ عاد إلى القُرْآنِ ، فالمعنى : أنَّ الأنبياءَ - عليهم الصلاة والسلام - واتْباعَهمُ معهم ، صَدَّقُوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وقال آخُرون : المرادُ [ أنَّ ] أولئِكَ الأنبياءَ مع ما خُصُّوا به مِنَ النُّبوةِ ، والمُلْكِ ، جَرَتْ عادَةُ أممِهمْ : أنْ آمَنَ بعضُهم ، وكَفَرَ بعضُهم ، فَلاَ تَتَعَجَّب يا محمدُ ، مِنْ أمتِكَ ، فإنَّ أحْواَلَ جَميعِ الأمَمِ هكذا ، وذلك تَسْلِيةٌ له - عليه السلام- .
قوله : « ومنهم من صد عنه » قَرَأ الجُمْهُورُ « صَدَّ » بفتح الصَّادِ ، وقرأ ابنُ مسعودٍ ، وابنُ عباسٍ ، وعكرمةُ : « صُدًّ » بضمها ، وقرأ أبُو رَجَاء ، وأبو الجَوْزَاءِ : بِكَسْرِهَا ، وكلتا القِرَائتين على البِنَاء للمفعولِ ، إلا أنَّ المضاعَفَ الثُّلاثِيَّ ، كالمعْتَلِّ العَيْنِ منه ، فيجوزُ في أوله ثلاثُ لغاتٍ ، إخْلاَصُ الضَّمِّ ، وإخلاصُ الكَسْرِ ، والإشمامُ .
قوله : { وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } ، أيْ : كَفَى بجهنَّمَ [ في ] عذابِ الكُفَّارِ سعيراً والسَّعيرُ : الوقودُ ، وهو تَميِيزٌ ، فإنْ كان بِمَعْنَى : مُسَعَّرِ ، فلا يَحْتَاجُ إلى حَذْفٍ .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)

قرأ الجمهورُ : « نصليهم » بِضَمِّ النونِ مِنْ أصْلَى ، وحُمَيْدٌ : بِفَتْحِهَا مِنْ صَلَيْتُ ثُلاثِيَّا . قال القَرْطُبِيُّ : ونَصْبُ : « ناراً » على هذه القراءةِ ، بِنَزْعِ الخَافِضِ تقديرهُ : بنارٍ . وقَرأ سَلاَّم ، ويَعْقُوبُ : « نصليهُم » بضَمِّ الهَاءِ ، وَهِيَ لُغَةُ الحِجَازِ ، وقد تَقَدَّمَ تَقْرِيرهُ .
وقال سِيبويْهِ : « سوف » [ كَلِمَةٌ ] تُذكَرُ لِلتَّهديدِ ، والوَعِيدِ : يُقَالُ : سَوْفَ أفْعَلُ ، وَينوبُ عَنْهَا حرفُ السين؛ كقوله : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [ المدثر : 26 ] وقد يردُ « سوف » و « السِّينُ » : في الوَعْدِ أيْضاً : قال تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] ، وقال : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } [ مريم : 47 ] ، وقال : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي } [ يوسف : 98 ] ، قِيلَ ، أخَّرَهُ إلى وقْتِ السَّحر؛ تَحْقِيقاً للدعاءِ ، وبالجملةِ ، فالسَّينُ ، وسَوْفَ : مَخْصُوصَتَانِ بالاسْتِقْبَالِ .
فصل في معنى قوله « بآياتنا »
يَدْخُلُ في الآيات كُلُّ مَا يَدُلُّ على ذاتِ اللهِ تعالى وصفته ، وأفْعالِهِ ، [ وأسْمَائِه ] ، والملائكةِ ، والكُتُبِ ، والرسُلِ؛ وكُفْرُهُم قدْ يكونُ بالجَحْدِ ، وقد يكونُ بِعَدَمِ النَّظْرِ فيها ، وقد يكونُ بإلقاءِ الشكُوكِ والشُّبُهَاتِ فيها ، وقَدْ يكونُ بإنْكَارِهَا؛ عِنَاداً ، أو حَسَدَاً .
وقوله : « نَصْلِيهم » أيْ : نُدْخِلُهم النارَ ، لكن قولُه : { نُصْلِيهِمْ } فيه زِيَادَةٌ على ذلك ، فإنَّهُ بمنزلَةِ شَوَيتُهُ بالنارِ ، يُقالُ شَاةٌ مَصْليَّةٌ ، أيْ : مَشْوِيَّةٌ .
قوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } ، { كُلَّمَا } : ظَرْفُ زَمَانٍ ، والعَامِلُ فيها { بَدَّلْنَاهُمْ } ، والجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ على الحَالِ ، مِنَ الضميرِ المنْصُوبِ في { نُصْلِيهِمْ } ، ويجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً ل « ناراً » والعائِدُ محذوفٌ ، ولَيْسَ بالقَوِيِّ ، و « ليذوقوا » مُتعلِّقٌ ب « بدلناهم » .
قال القُرْطُبِيُّ : يُقالُ : نَضِجَ الشَّيْءُ نُضْجاً ونَضجاً ، وفلانٌ نَضِيجُ الرَّأي : أيْ : مُحْكَمُهُ .
فصل في معنى قوله { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ }
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ [ جُلُودُهُمْ } أيْ : ] كلما احْترقَتْ جُلودهم ، بَدلنَاهُم جُلُوداً غيْرَ الجلودِ المُحْترقَةِ .
قال ابنُ عَبَّاسٍ : يُبَدِّلُونَ جُلُوداً بِيضاً ، كأمثالِ القَرَاطِيسِ . رُوي أنَّ هذه الآيةَ قُرِئَتْ عند عُمَرَ - رضي الله عنه - فقال عُمرُ للقارئ : أعِدْهَا ، فأعَادَهَا ، وكان عِنْدَهُ مُعَاذُ ابنُ جَبَلٍ ، فقال مُعَاذُ بنُ جَبَل - رضي الله عنه- عِندي تَفْسِيرُها : تُبدَّلُ في الساعَةِ مائةَ مرَّةٍ ، فقال عمرُ : هكذا سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم .
قال الحَسَنُ : تأكُلُهمُ النارُ كُلَّ يومٍ سَبْعِينَ ألْفَ مرَّةٍ ، كُلَّما أكَلَتْهُم ، قِيلَ لَهُمْ : عُودُوا ، فيعُودُونَ كَمَا كَانُوا .
رَوَى أبُو هُرَيرَة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما بَيْنَ مِنْكبي الكافِرِ مَسِيرةُ ثلاثَةِ أيَّامٍ ، للرّاكِبِ المًسْرِعِ » .
وعن أبي هُرَيْرة ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « ضِرْسُ الكَافِر ، أو نابُ الكَافر ، مِثْلُ أحُدٍ وغِلَظُ [ جِلْدِه ] مَسِيرةُ ثلاثَةَ أيَّامٍ » .
فَإنْ قِيل : إنَّهُ تعالى قادِرٌ على إبْقَائِهِمْ أحْياء في النَّارِ أبَدَ الآبَادِ فَلِمَ لَمْ يُبْقِ أبْدانهمُ في النَّارِ مَصُونةً عن النضْجِ ، مع إيصالٍ الألم الشديد إليها ، مِنْ غيْرِ تَبْدِيلٍ لَهَا؟ فالجوابُ : أنَّهُ لا يُسْألُ عما يفعلُ ، بل نقولُ : إنَّهُ قَادِرٌ على أنْ يُوصِلَ إلى أبْدانِهم آلاماً عظيمةً ، من غيرِ إدْخَالِ النَّارِ ، مع أنه تعالى أدْخلَهم النَّارِ ، فإنْ قِيلَ : كَيْفَ يُعَذَّبُ جُلُوداً لم تكن في الدنيا ولم تَعْصِهِ؟ فالجوابُ من وُجُوهٍ :
الأوَّلُ : أنه يُعَادُ الأولُ في كُلِّ مَرَّةٍ ، وإنَّما قال غيرَها ، لتبدل صفتها ، كما تقولُ : صَنَعْتُ مِن خَاتَمِي خَاتَماً غيرَهُ ، فالخَاتَمُ الثَّانِي هُوَ الأولُ؛ إلاَّ أنَّ الصناعةَ ، والصِّفَةَ تبدَّلتْ .

الثاني : المعذَّبُ هو الإنسانُ في الجِلْدِ ، لا الْجِلْدُ ، بل الجِلْدُ كالشَّيءِ الملتَصِقِ به ، الزَّائِدِ على ذَاتِهِ ، فإذا جُدِّدَ الجِلْدُ ، صَارَ ذلك الجلدُ سَبَباً لوصولِ العذاب إلَيْهِ ، فالمعذبُ لَيْسَ إلاَّ العَاصِي؛ يدلُّ عليه قولُه تعالى : { لِيَذُوقُواْ العذاب } ولَمْ يَقُلْ : ليَذُوقَ .
الثالثُ : قال السُّدِّيُّ : يُبَدَّلُ الجِلْدُ جِلْداً غَيرَهُ مِنْ لَحْمِ الكَافِرِ .
الرابعُ : قال عَبْدُ الْعَزِيز بنُ يَحْيَى : إنَّ اللهَ - تعالى - يُلبِسُ أهْلَ النَّارِ جُلُوداً لا تألَّمُ ، بل هي تُؤلِمُهُم : وَهِيَ السَّرَابِيلُ فكُلَّمَا [ احترق ] جِلْدٌ بدّلَهُم جِلْدَاً غَيْرَهُ . طعن القَاضِي في هذا فقال : إنه تَرْكٌ للظَّاهِرِ ، وأيضاً السَّرَابِيلُ مِنَ القَطرَانَ لا تُوصَفُ بالنُّضْجِ ، وإنما تُوصَفُ بالاحْتِراقِ .
الخَامِسُ : يمكنُ أنْ يكونَ هذا استعارةً عن الدَّوَامِ ، وعّدّمِ الانْقِطَاعِ؛ يُقالُ للموصوفِ بالدَّوام : كُلَّمَا انْتَهى فقد ابْتَدَأ ، وكُلَّمَا وَصَلَ [ إلى آخره ] فقد ابتدَأ من أوله ، فكذلك قوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } يَعْني : أنهم كُلّما ظَنُّوا أنهم نَضِجُوا واحْتَرقُوا وانتهوا إلى الهلاكِ ، أعْطَيناهُم قُوَّةً جَديدةً من الحياة؛ بحيثُ ظنُّوا أنَّهم الآنَ وجدُوا ، فيكونُ المقصودُ بيانَ دَوَام العَذَابِ .
فإن قيل : قوله : « ليذوقوا العذاب » إنما يُقالُ : فلانٌ ذَاقَ الشَّيءَ ، إذَا أدْرَكَ شَيْئاً قَلِيلاً منه ، والله تعالى قَدْ وَصَفَهُمْ بأنهم كانوا في أشدِّ العذابِ ، فكيْفَ يَحْسُنُ أن يذكرَ بعد ذلك أنَّهم ذَاقُوا العذابَ؟
فالجوابُ : المقصودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ ، الإخبارُ بأنَّ إحساسَهُم بذلك العذابِ ، في كُلِّ حالٍ ، يَكُونُ كإحْسَاسِ الذَّائِقِ بالنذُوق من حيثُ إنه لا يَدْخُلُ فيه نُقْصَانٌ ، ولا زَوَالٌ ، بِسَبَبِ ذلك الاحتراقِ .
ثُمَّ قال تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } ، فالعزيزُ : القادِرُ الغَالِبُ ، والحَكِيمُ : الذي لا يَفْعَلُ إلاَّ الصَّوابَ ، وما تَقْتَضِيه الحكمةُ؛ لأنَّهُ قد يَقَعُ في القَلْبِ تَعَجُّبٌ مِنْ كَوْنِ الكريمِ الرَّحيمِ يُعَذِّبُ هذا الشخص الضَّعِيفَ إلى هذا الحدِّ العَظيمِ أبَدَ الآبادِ .
فقيل : ليس هذا [ بَعِجب ] ؛ لأنه القادِرُ الغَالِبُ ، فكما أنه رحيمٌ فهو أيضاً حَكِيمٌ ، والحكمةُ تَقْتَضِي ذلك .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)

قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } .
تعلمْ أنَّ الوعْدَ والوعيدَ مُتلازِمَانِ في الذِّكْرِ غَالِباً ، فإنَّ عَادَة القرآنِ إذا ذَكَرَ الوعِيدَ أنْ يذكر مَعَهُ الوَعْدَ .
قوله : { والذين آمَنُواْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أظهرُهَا : أنه مبتدأٌ ، وخبرُهُ { سَنُدْخِلُهُمْ } .
والثاني : أنَّه في مَحلِّ نَصْبٍ؛ عَطْفاً على اسْمِ « إنَّ » وهُوَ { الذين كَفَرُواْ } ، والخَبَرُ أيْضاً : { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ } ويصيرُ هذا نَظِير قولِكَ : إنَّ زَيْدَاً قَائِمٌ وعمراً قَاعِدٌ ، فعطفتَ المنصُوبَ على المنصُوبِ ، والمرفوعَ على المرفوعِ .
والثالث : أنْ يكونَ في محلِّ رَفْع؛ عطفاً على مَوْضِعِ اسْم « إنَّ » ؛ لأن مَحَلَّهُ الرفعُ ، قالهُ أبُو البَقَاءِ؛ وفيه نَظَرٌ ، مِنْ حَيْثُ الصناعةِ اللَّفْظِيَّةِ ، حَيْثُ يُقالُ : { والذين آمَنُواْ } في مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ عطفاً على { الذين كَفَرُواْ } ، وأتى بجملةِ الوعيدِ مُؤكِّدةً ب « إن » ؛ تنبيهاً على شِدَّةِ ذلك ، وبجملةِ الوَعْدِ حَاليَّةً مِنْه؛ لتحققها وأنه لا إنْكَارَ لذلك ، وأتَى فيها بحرفِ التَّنْفِيسِ القَريبِ المدَّة تنبيهاً على قُرْبِ الوَعْدِ .
فصل في أن الإيمان غير العمل
دلت هذه الآيةُ ، على أنَّ الإيمانَ غيرُ العَمَلِ؛ لأنه تعالى عَطَفَ العملَ على الإيمانِ ، والمعطوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعطُوفِ عليه .
قال القَاضِي : مَتَى ذُكِرَ لفظُ الإيمانِ وَحْدَهُ ، دخل فيه العَمَلُ ، ومَتى ذُكِرَ مَعَهُ العَمَلُ ، كان الإيمانُ هو التَّصْديقَ ، وهذا بعيدٌ ، لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الاشتراك ، وعدمُ التغييرِ ولوْلاَ أنَّ الأمْرَ كذلك ، لخرج القرآنُ عن كونِهِ مُفيداً ، فلَعَلَّ هذه الألفاظَ التي تَسْمَعُها في القرآنِ ، يَكُون لِكُلِّ وَاحدٍ منها مَعْنَى سِوَى ما نَعْلَمُ ، ويكونُ مرادُ الله [ تعالى ] ذلِكَ المعْنَى .
قوله : « سندخلهم » قَرَأ النَّخعِيُّ : سَيْدخلُهم ، وكذلك : « ويدخلهم ظلاً » بِيَاءِ الغَيْبَةِ؛ رَدَّا على قوله : « إن الله كان عزيزاً » ، والجمهورُ بالنون رَدَّاً على قوله : « سوف نصليهم » ، وتقدَّم الكلامُ على قوله : « جنات تجري من تحتها الأنهار » .
وقوله : { خَالِدِينَ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُهَا : أنه حالٌ من الضمير المنصُوبِ في { سَنُدْخِلُهُمْ } .
والثَّاني : وأجازَهُ أبُو البَقَاءِ : أنْ يكونَ حالاً من { جَنَّاتٍ } .
[ قال : لأن فيها ضميراً لكُلِّ واحدٍ منهما ، يَعْنِي : أنه يجوزُ أنْ يكونُ حالاً من ] مفعول { سَنُدْخِلُهُمْ } كما تقدَّمَ ، أوْ « من جنات » ؛ لأنَّ في الحَالِ ضميريْنِ :
أحدُهُمَا : مَجْرُورٌ ب « في » العائِدِ على { جَنَّاتٍ } فصح أنْ يُجْعَلَ حالاً مِنْ كُلٍّ واحدٍ؛ لوجودِ الرَّابِطِ ، وهو الضميرُ ، وهذا الذي قالُ فيه نظرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أحدُهُمَا : أنه يَصِيرُ المعنى : أنَّ الجناتِ خالداتٍ في أنفُسِهَا؛ لأنَّ الضَّميرَ في فيها عائذٌ عليْهَا . فكأنه قِيلَ : جناتٍ خَالِدَاتٍ في الجنَّاتِ أنفُسِهَا .
والثَّاني : أنَّ هذا الجمعَ شَرْطُهُ العَقْلُ ، ولد أُرِيد ذلك ، لقيل : خَالِدَاتٍ .

والثالثُ : أنْ يَكُونَ صِفَةً ل { جَنَّاتٍ } أيضاً . قال أبُو البَقَاءِ : على رَأي الكُوفيِّينَ يعْنِي أنَّهُ جَرَتْ الصِّفَةُ على غَيْرِ مِنْ هِيَ لَهُ في المعنى ، ولم يَبْرُزُ الضَّمِيرُ ، وهذا مَذْهَبُ الكوفيِّينَ ، وهو انَّهُ إذَا جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هي له ، وأمِنَ اللِّبْسُ ، لم يَجبْ بُرُوزُ الضميرِ كهذه الآيةِ .
ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ : وُجُوبُ بروزِهِ مُطْلَقَاً ، فكان يَنْبَغِي أنْ يُقَالَ عَلَى مَْهلِهمْ : « خالدين هم فيها » ، ولمّا لَمْ يَقُلْ كذلك ، دَلَّ على فَسَادِ القَوْلِ ، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ذلك .
[ فإن قُلْتَ : ] فَلْتَكُنِ المسْألَةُ الأولَى كذلِكَ ، أعني : أنَّكَ إذا جعلت { خَالِدِينَ } حالاً من { جَنَّاتٍ } ، فيكون حَالاً مِنْهَا لفظاً ، وهي لغيرها مَعْنَى ، ولم يَبْرُزْ الضَّميرُ على رَأي الكُوفيِّينَ ، ويَصِحُّ قول أبي البَقَاءِ .
فالجواب : أنَّ هذا ، لو قيلَ به لَكَانَ جيِّداً ، ولكن لا يَدْفَعُ الرَّدَّ عن أبِي البَقَاءِ ، فإنَّهُ خَصَّصَ مَذْهبَ الكُوفيينَ بوجه الصِّفَةِ ، دون الحالِ .
فصل
ذكر الخُلُودِ والتَّأبِيد : فيه ردٌّ على جَهْم بْنِ صفْوَانَ ، حيث يقُولُ : إنَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ وعَذَابَ الآخِرَةِ يَنْقَطِعَانِ ، وأيضاً فَذِكْرُهُ الخُلُودَ مع التَّأبيد؛ يَدُلُّ على أنَّ الخُلودَ غَيْر التَّأبْيد وإلا لزم التكرارُ ، وهو غير جَائِزٍ؛ فدَلَّ على أنَّ الخُلُودَ لَيْسَ عِبَارَة عن التَّأبيدِ ، بلِ اسْتِدْلاَلُ المُعْتزِلَةِ بقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } [ النساء : 93 ] على أنَّ صاحب الكَبيِرَةِ يبقى في النَّارِ أبَداً ، لأنَّ هذه الآية دَلَّتْ على أنَّ الخُلُودَ طولُ المُكْثِ لا التَّأبيدِ .
قوله : { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ [ مُّطَهَّرَةٌ } ] مبتدأ وخبر ، وَمَحَلُّ هذه الجُمْلَةِ ، إمَّا النَّصْب أو الرَّفْعُ .
فالنَّصْبُ إمَّا على الحَالِ مِنْ { جَنَّاتٍ } ، أو مِنْ الضَّميرِ في { سَنُدْخِلُهُمْ } وإما على كَوْنِهَا صِفَةً ل { جَنَّاتٍ } بعد صِفَةٍ .
والرَّفْعُ على أنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ .
فصل
المُرَادُ : طَهَارتُهُنَّ من الحَيْضِ والنّفاسِ ، وجميع أقْذَارِ الدُّنْيَا ، كما تَقَدَّمَ في سُورةِ البَقَرَةِ .
وقوله « وندخلهم ظلاَّ ظليلاً » .
قال الوَاحِدِيُّ : الظَّلِيلُ ليس يُنبِئُ عن الفِعْلِ ، حتى يُقالَ : إنَّهُ بمعنى : فاعِلٍ ، أو مَفْعُولٍ ، بل هو مُبَالَغةٌ في نَعْتِ الظِّلِّ ، مثل قولهم : « لَيْلٌ ألْيَلٌ » .
قال المُفَسْرُونَ : الظَّلِيلُ : الكَثيفُ الَّذِي لا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ ، ولا يؤذيهم بَرْدٌ ، ولا حَرٌّ .
قال ابْنُ الخَطِيبِ : واعلَمْ أنَّ بلاد العَرَبِ كانت في غَايَةِ الحَرَارَةِ ، وكانَ الظِّلُّ عندهم مِنْ أعْظَمِ أسْبَابِ الرَّاحَة ، ولها المَعْنَى؛ جَعَلٌوه كِنَايَةً عن الرَّاحَةِ .
قال عليه الصَّلاة والسلامُ : « السُّلْطَانُ ظِلُّ الله فِي الأرْضِ » .
وإذَا كان الظّل عِبَارَةً عن الرَّاحَة؛ كَانَ كِنَايَةً عن المُبَالَغَةِ العَظِيمَةِ في الراحة ، وبهذا يَنْدَفِعُ سُؤالُ مَنْ يَقُولُ : إذا لم يَكُنْ شَمْسٌ تُؤْذِي بحرِّهَا ، فما فائِدَةُ وَصْفِهَا بالظِّلِّ الظَّلِيلِ؟
وأيضاً نرى في الدُّنْيَا أنَّ المَوَاضِعَ الَّتِي يَدُومُ الظِّلُّ فيها ، ولا يَصِلُ نُورُ الشَّمْسِ إليْهَا ، يكُونُ هَوَواؤهَا فَاسِداً مُؤْذِياً فما معنى وَصْفِ الجَنَّةِ بذلك ، فعلى هذا الوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ تَنْدَفَعُ هذه الشُّبُهَاتِ .

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)

لما شَرَحَ أحوالَ الكُفَّارِ ، وشرحَ وعِيدَهُم؛ عاد إلى التَّكْلِيف ، وأيضاً لمّا حكى عن أهْل الْكِتابِ أنَّهُم كَتَمُوا الحَقَّ ، حيث قالُوا للذين كَفرُوا { هَؤُلاءِ أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً } [ النساء : 51 ] أمَرَ المُؤمنينَ في هذه الآيةِ بأداء الأمَانَاتِ في جميع الأمور ، سواء كانَتْ دِينيَّةٌ ، أو دُنْيَويَّة .
قوله : { أَن تُؤدُّواْ } مَنْصُوبُ المحلّ ، إمَّا على إسْقَاطِ حَرْفِ الجَرّ؛ لأن حذفه يطَّرِدُ مع « أنْ » ، إذَا أمِنَ اللَّبْس؛ لطولهما بالصِّلَةِ ، وإما لأنَّ « أمر » يتعدى إلى الثَّاني بنفسه ، نحو : أمَرْتُكَ الخَيْرَ ، فعلى الأوَّل يَجْري [ الخلاف في مَحَلَّها ، أهي في مَحَلّ نصب ، أم جر ، وعلى الثَّاني هي في محلِّ نصب فقط ، وقرئ « الأمانة » ] .
فصل : فيمن نزلت الآية؟
نزلت في عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنَ أبِي طَلْحَةَ الحجبي مِنْ بَني عبْدِ الدَّارِ ، وكان سادِنَ الكَعْبَةِ ، فلمَّا دَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ أغْلَقَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بَابَ الكَعْبَةِ ، وصَعَدَ السَّطْحَ ، فطلبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيلَ : إنَّه مع عثمان ، فَطَلَبَهُ منه فأبى ، وقال : او عَلِمْتُ أنَّهُ رسولُ اللهِ [ صلى الله عليه وسلم ] لمْ أمْنَعْهُ المِفْتَاحَ ، فَلَوَى عليُّ بن أبي طالب يده ، وأخذ منه المفتاح ، ودخل رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم البيت ، وصلّى فيه ركعتين ، فلمّا خَرَجَ سألَهُ العَبَّاسُ [ المفتاحً ] أن يعطيه ، ويجمع له بين السِّقَايَةِ ، والسِّدَانة ، فأنزل اللهُ - تعالى - هذه الآية ، فأمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عليّاً أنْ يردَّ المِفْتَاحَ إلى عُثْمَانَ ، وَيَعْتَذِرَ إليه ، ففعل ذلك عليٌّ ، فقال عثمان : أكْرَهْتَ ، وآذَيْتَ ، ثم جئْتَ تَرْفُق ، فقال : لقَدْ أنْزَلَ اللهُ في شأنِكَ ، وَقَرَأ عليه الآية ، فقال عُثْمَانُ : « أشْهَدُ [ ألا إله إلاّ الله و ] أنَّ مُحَمّداً رسُولُ اللهِ ، وأسْلَمَ ، وكانَ المِفْتَاحُ معه ، فلما مَاتَ دفعه إلى أخيه شَيْبَةَ ، فالمِفْتَاحُ والسِّدَانَةُ في أولادهم إلى يَوْمِ القِيَامَةِ .
وقيل : المرادُ من الآية جميعُ الأمَاناتِ .
واعْلمْ أنَّ معاملة الإنْسانِ إما أنْ تكُونَ مع رَبِّه ، أو مع العِبَادِ ، أوْ مع نفسه . فمعاملة الرَّبِّ فهو : فعل المأمُورَات ، وترك المَنْهيَّاتِ .
قال ابْنُ مَسْعُودٍ : الأمَانَةُ في كُلِّ شَيٍْ لازمةٌ؛ في الوُضُوءِ ، والجَنَابَةِ ، والصَّلاةِ ، والزَّكَاةِ ، والصَّوْم .
[ قال أبُو نُعِيْم الحَافِظُ في » الحِلْيَةِ « : ومِمَّنْ قال إنَّ الآية عامّة في الجميع : البَرَاءُ ابْنُ عَازِبٍ ، وابْنُ مَسْعُودٍ ، وابْنُ عَبَّاسٍ ، وأبيُّ بْنُ كَعبٍ .
قالوا : الأمَانَةُ في كُلِّ شَيءٍ لازمةٌ ، في الوُضُوءِ ، والجَنَابَة ، والصّلاة ، والزكاةِ ، والصّوم ، والكيل ، والوزن ، والودائع .
قال ابْنُ عبَّاسٍ : لم يرخص اللهُ لمُعْسِرِ ، ولا لمُؤمِنٍ أن يُمْسِكَ الأمَانَة ] .
وقال ابْنُ عُمَرَ : » إنَّهُ - تعالى - خَلَقَ فَرْجَ الإنسان ، قال : « هذَا أمانةٌ [ خَبَّأتُهَا ] عِنْدَكَ ، فاحْفَظْهَا إلاَّ بِحَقِّهَا » .

فأمانة اللِّسَانِ ألاّ يستعمله في الكذِبِ ، والغيبةِ ، والنَّميمَةِ ، والكُفْرِ ، والبدعةِ ، والفُحْشِ ، وغيرها .
وأمانة العَيْنِ ألاّ يَسْتَعْمَلَهَا في النَّظَرِ الحَرَامِ ، وأمَانَةَ السَّمْعِ ألاّ يَسْتَعْمِلَهُ في سَمَاعِ المَلاَهِي ، والمَنَاهِي ، وسماع الفُحْشِ ، والأكاذيبِ ، وغيرها .
وكذا جميع الأعْضَاءِ ، وأمَّا الأمَانَةُ مع سَائِرِ الخَلْقِ فلردِّ الوَدَائِعِ ، وتركِ التَّطفيفِ في الكَيْلِ ، والوزْنِ ، وعدْلِ الأمرَاءِ في الرَّعِيَّةِ ، وعدلِ العُلَمَاءِ في العَوَامِ : بأن يُرْشِدُوهم إلى الاعتِقَاداتِ ، والأعْمَالِ الَّتي تنفعهم في دُنْيَاهُم وأخْرَاهُم ، ولا يحملوهم عَلَى التَّعصُّبَات البَاطِلَةِ ، وأمَانَةُ الزَّوْجَةِ للزَّوْجِ في حفظ فَرْجِهَا ، وألا تُلْحِقَ به وَلَداً من غَيْرِهِ ، وفي إخبارِها عن انْقِضَاءِ عدَّتها ، ونهي اليهود عن كِتْمَانِ أمر محمد عليه الصَّلاة والسلام - وأما أمَانَته مع نفسه ، فهو ألا يَخْتَارُ [ لِنَفْسِهِ ] إلاّ الأنْفَعَ ، والأصْلَحَ ، في الدِّين والدُّنْيَا ، وألا يقدم بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ ، والغَضَبِ على مَا يَضُرُّهُ في الآخِرَةِ قال أنَسٌ -رضي الله عنه- : قلَّ ما خَطَبَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال « لا إيْمَانَ لَمنْ لا أمَانَةَ لَهُ ، وَلاَ دِينَ لمَنْ لا عَهْدَ لَهُ » ، وقال تعالى { لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ } [ الأنفال : 27 ] ، وقد عظَّم الله أمْرَ الأمَانَةِ فقال : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان } [ الأحزاب : 72 ] .
[ ويروي أنَّ الله - تعالى - خَلَقَ الدُّنْيَا كالبُسْتَانِ ، وزينها بخمسة أشْيَاء :
عِلْمَ العُلَمَاءِ ، وعَدْلِ الأمَرَاءِ ، وعِبَادَةِ العُلَمَاءِ ، ونَصِيحَةِ المُسْتَشَارِ ، ودفع الخيانة ] .
فصل في الخلاف في ضمان الوديعة
الأكْثَرُونَ على أنَّ الوديعةَ غير مضمونةٍ عند عَدَمِ التَّفْرِيطِ ، وعن بعض السَّلَفِ أنَّهَا مَضْمُونَةٌ .
روى الشَّعْبِيُّ عن أنَسٍ قال : اسْتَحْمَلَنِي رَجُلٌ بضاعةً ، فضاعت من بين ثيابي . فضمنني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- .
وعن أنسٍ قال : كان لإنسان عندي وديعَةٌ سِتَّةُ ألاف درهَمٍ ، فذهبت فقال عُمَرُ : « ذهب لك معها شيء » ؟ [ قلت : لاَ ] فألزمني الضَّمَان .
وحجة الجُمْهُورِ ما رَوَى عمرة بنُ شُعَيْبٍ عن أبيه قال : قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم « لا ضَمَانَ عَلَى دَاع ، ولا [ على ] مُؤتَمَنٍ » ، وأما فِعْلُ عمر - رضي الله عنه- [ فهو ] محمولٌ على أنَّ المودع اعترف بفعل يوجب الضمان .
فصل في الخلاف في ضمان العارية
قال الشافعيُّ وأحمد : العاريةُ مَضْمُونَةٌ بعد الهَلاَكِ لقوله تعالى { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات [ إلى أَهْلِهَا } ] والأمر لِلوُجُوبِ ، وقوله - عليه الصلاة والسلام : « على اليَد مَا أخَذْتْ حَتَّى تُؤديهُ » وخصت منه الوديعَةُ ، فيبقى العامُّ بَعْدَ التَّخْصيصِ حجة ، وأيضاً فإنَّا أجمعْنَا على أنَّ المستام مَضْمُونٌ ، وأنَّ المودع غيره مَضْمونٍ والعَارِيَة وقعت في البين ، ومشابهتها لِلْمُسْتَام أكثر؛ لأنَّ كلاّ منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه ، والوديعة أخذها لِغَرَضِ المالِكِ ، فظهر الفَْقُ بيْنَ العاريةِ والوديعة .
وقال أبُو حنيفةَ : [ العارية ] ليست مضمونة كقوله عليه السلامُ « لاَ ضَمانَ عَلَى مُؤتَمنٍ »

وجوابه مَخصوصٌ بالمستام ، فكذا في العَارِيَةِ ، ودليلنا ظاهِرُ الْقُرآنِ .
قوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } [ فيكون ] قوله { أَن تَحْكُمُواْ } معطوف على { أَن تُؤدُّواْ } أي : يأمرُكُمْ بتَأدِيةِ الأمَانَاتِ والحكم بالعَدْلِ ، فيكونُ قد فصل بَيْنَ حرف العَطْفِ ، والمعطوف بالظَّرْفِ . وهي مسألة خلاف ذَهَبَ الفَارِسِيُّ إلى منعها لإلاّ في الشِّعْرِ .
وذهب غَيرُهُ إلى جَوازِهَا مُطْلَقاً ، ولنصححّ مَحَلّ الخلافِ أولاً : فنقولُ : إن حرف العطف إذا كان على حَرْفٍ واحدٍ كالواو ، والفاء هل يجوزُ أن يفصل بينه ، وبين ما عطفه بالظَّرف وشبهه أم لا؟
فَذَهَبَ الفَارسِيُّ إلى منعه مُسْتَدِلاً بأنَّهُ إذا كانَ على حَرْفٍ واحدٍ ، فقد ضَعُفَ ، فلا يتوسّط بينه ، وبين ما عطفه إلاّ في ضَرُورةٍ كقوله : [ المنسرح ]
1810- يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أرْدِيَةِ الْ ... عَصْبِ وَيَوْماً أديمَهَا نَغِلاَ
تقديره : وترى أديمها نغلاً يوماً ، [ ففَصَل ب « يَوْماً » ] ، وذَهَبَ غَيْرَهُ إلى جَوَازَهُ مُسْتَدِلاّ بقوله : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] ، { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] ، { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً [ ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً ] فَأغْشَيْنَاهُمْ } [ يس : 9 ] { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] . { أَن تُؤدُّواْ الأمانات } [ الآية ] ، وقالَ صَاحِبُ هذا القول : إنَّ المَعْطُوفَ عليه إذَا كانَ مَجْرُوراً بِحَرْفِ ، أُعيدَ ذلك الحَرْفُ المعطوف نحو : امرر بزيدٍ وغداً بِعَمْرو ، وهذه الشَّواهدُ لا دَليلَ فيها .
أمَّا « في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة » ، وقوله { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } [ يس : 9 ] ، فلأنه عطف على شَيْئَيْنِ : عطف الاخرة على الدُّنْيَا بإعَادَةِ الخافض وعطف حسنة الثانية على حَسَنة الأولى ، وكذلك عطف « من خلفهم » على « من بين أيديهم » و « سدَّا » على « سدَّا » ، وكذلك البيت عطف فيه « أديمها » على المفعول الأوَّل ل « تَرَاها » ، و « نَغلاً » على الثاني وهو كشبه و « يوماً » الثَّاني على « يَوْماً » الأوَّلِ ، فلا فصل فيه حينئذٍ ، [ وحينئذ ] يقال : [ ينبغي ] لأبي عَلِيٍّ أنْ يمنعَ مطلقاً ، ولا يستثنى الضَّرُورَةَ ، فإن ما استشهده به مُؤوَّل على ما ذكرناه .
فإن قيل : إنَّما لم يجعله أبُو عَلِيّ من ذلك؛ لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تخصيص الظَّرْفِ الثَّاني بما وقع في الأوَّلِ ، وهو أنَّه تراها كشبه أردية العصب في اليوم الأوَّلِ والثاني؛ لأنَّ حُكْمَ [ المعطُوف حكم ] المعطوف عليه ، فهو نَظِيرُ قولك : ضَرَبْتَ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ ، ويوم السَّبْت ، ف « يَوْمَ » السَّبْت مُقيّدٌ بضرب [ زيد كما يُقَيَّدُ به يَوْمَ الجٌمعة ، لكن الغَرَضَ أنَّ اليومَ الثَّانِي في البيت مُقَيَّدٌ بِقَيْدٍ آخر ] وهو رُؤيَةُ أديمها نغلاً .
فالجوابُ : أنه لو تركنا [ و ] الظَّاهر من غير تَقْييدِ الظّرف الثَّاني بمعنى آخر كان الحكم كما ذكرت [ لأن الظاهر كما ذكرت ] في مثالك : ضربت زيداً يوم الجُمعَةِ [ وعَمراً ] يَوْمَ السَّبْتِ [ أما إذا قيَّدته بشيءِ آخر ، فقد تركت ذلِكَ الظَّاهِرَ لهذا النص ، ألا تَرضاكَ تَقُولُ : ضربتُ زيداً يَوْمَ الجُمْعَة ، وعمراً يوم السَّبت ] ، فكذلك هَذَا ، وهو مَوْضِعٌ يحتاجُ لِتَأمُّلِ .

وأما « فبشرناها بإسحاق » ، فيعقوب ليس مجروراً عَطْفاً على إسْحَاق ، بل منصوباً بإضْمَارِ فعل أي : ووهبنا لها يعقوبَ ، وَيَدُلُّ عليه قراءةُ الرَّفِع ، فإنَّهَا مؤذنة بانْقطَاعِهِ من البِشَارَة [ به ] ، كيف وقد تَقدَّم أنَّ هذا القائل يَقُولُ : إنَّهُ متى كان المَعْطُوفُ عليه مجروراً ، أُعيدَ مع المَعْطُوفِ الجار . [ و ] أما « أن يؤدوا الأمانات » ، فلا دلالة فيها أيضاً؛ لأن « إذَا » ظرف لا بُدَّ من عامل ، وعامله إما { أَن تَحْكُمُواْ } وهو الظَّاهِرُ من حيث المعنى ، وإما { يَأْمُرُكُمْ } فالأوَّلُ ممتنع ، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ ما في حيز الموصول لا يتقدَّمُ عليه عند البصريين ، وأمّا الكُوفِيُّون فيجوِّزونَ ذلك ، ومنه الآية عِنْدَهُم ، واستَدَلُّوا بقوله : [ الرجز ]
1811- ... كَانَ جَزَائِي بالْعَصَا أنْ أجْلَدَا
وقد جاء ذلِكَ في المفعول الصَّريح في قوله : [ الكامل ]
1812- ... وَشِفَاءُ غَيِّكِ خَابِراً أنْ تَسْألِي
فكيف بالظرف وشبهه .
والثاني ممتنعٌ أيضاً؛ لأنَّ الأمْرَ ليس واقعاً وَقْتَ الحكم ، كذا قاله أبُو حَيَّان وفيه نَظَرٌ وإذا بَطَلَ هذا فالعامِلُ فيه مُقَدَّرٌ يُفَسَِرُهُ ما بَعْدَهُ تَقْدِيره : « وأن تحكموا إذا حكمتم » ، و « أن تحكموا » الأخيرة دالة على الأولى .
قوله « بالعدل » يجوزُ فيه وجهان :
أحَدُهُمَا : أنْ يتعلَّقَ ب « تحكموا » ، فتكونُ البَاء للتَّعدية ، والثانية : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من فاعل تحكموا ، فتكونُ الباء للمصاحبة ، أي : ملتبسين بالعَدْلِ مصاحبين له .
والمعنيان مُتَقَارِبَان .
فصل
اعْلَمْ أن الأمانة عبارة عن أداء ما وَجَبَ عليك لِغَيْرِكَ ، والحكم بالحق عما إذا وجب لإنْسَانٍ على غيره حق ، فأمر من وَجَبَ عليه ذلك الحقّ بأن يدفعه إلى مَنْ له ذلك الحق .
ولما كان التَّرْتيب الصَّحيحُ أن يبدأ الإنسان بِنَفْسِهِ في جلب المَنَافِعِ ، ودفع المضار ، ثم يشتغل بغيره ، لا جَرَمَ أمر تعالى بِأدَاءِ الأمَانَةِ أوّلاً ، ثم ذكر بعد الأمر الحكم بالحَقّ ، وهذا من اللَّطَائِف المودعة في ترتيب القرآن .
فصل في وجوب حكم الإمام بالعدل
أجّمعُوا على أنَّهُ يَجِبُ على الحَكِمِ أنْ يَحْكُم بالعَدْلِ ، لهذه الآية ، ولقوله تعالى { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } [ النحل : 90 ] وقوله { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } [ الأنعام : 152 ] وقوله { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } [ ص : 26 ] ، وقال - عليه الصلاة والسلام : « لا تَزَالُ هذه الأمَّةُ بخَيْرٍ ما إذَا قَالَتْ صَدَقَتْ ، وإذَا حَكَمَتْ عَدَلَتْ وإذَا اسْترْحَمتْ رَحِمَتْ » وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ « المُقْسِطُونَ عِند اللهِ علَى منابر مِنْ نُورٍ عن يمينِ الرَّحمن ، وكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ؛ هُمُ الذين يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأهْلِيهِمْ ما وُلُّوا » وقال عليه الصَّلاة والسلامُ « إنَّ أحَبَّ النَّاس إلى اللهِ يومَ الْقِيَامَةِ ، وأقْرَبَهَمْ مِنْهُ مَجْلِساً إمامٌ عادِلٌ وإنَّ أبْغَضَ النَّاسِ إلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وأشَدّهُمْ عَذَاباً إمامٌ جَائِرٌ »

وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ « يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ أيْنَ الظَّلَمَةُ ، فَيُجْمَعُونَ عَلَيْهِ في النَّارِ » .
يحقق ذلك قوله تعالى { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] وقوله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } [ إبراهيم : 42 ] .
فصل فيما يجب على القاضي نحو الخصمين
يجب على القاضي أن يسوِّي بَيْنَ الخصمين في الدُّخُول عيه ، والجُلُوس بَيْنَ يَدَيْهِ ، والإقبال عَلَيْهِمَا ، والاستماعِ منهما ، والحكم بَيْنهُمَا ، وينبغي إلا يلقِّنَ أحدهُمَا حُجَّةً ، ولا شاهداً شهادته ، ولا يلقّن المدّعي الدَّعْوَى ، والاستخلافَ ، ولا يلقنَ المُدَّعى عليه الإقْرَارَ ، ولا الإنْكارَ ، ولا يَضِيفَ أحَد الخَصْمَيْنِ دُونَ الأخر ، ولا يُجِيبَ هو إضَافَةَ أحدهِمَا ، ولا إلى إضافتهما مَا دَاما مُتَخَاصِمَيْنِ ، وعليه التَّسْوِيَة بينهما في الأفْعَالِ دون القلب؛ لأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يتحرَّز من ميل قلبه .
قوله : { إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } قد تقدَّمَ الكلامُ على ما المتصلة ب « نعم » ، و « بئس » إلا أنَّ ابْن عَطِيَّة نقل هنا نَقْلاً لا يَبْعُدُ مِنْ وَهْمٍ! . قال : و « ما » المُرْدَفَةُ على نعم ، وبئس إنَّمَا هي المُهيئَةُ لاتّصَالِ الفِعْلِ كما هي في رُبَّمَا ، ومما في قوله : وكان رَسُولُ الله مما يحرك شَفَتَيْه وكقول الشَّاعر : [ الطويل ]
1813- وإنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً ... عَلَى رَأسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ
وفي هذا بمنزِلَةِ رُبَّمَا ، ومنزلتها مخالفة في المَعْنَى؛ لأنَّ رُبَّمَا للتَّعْلِيلِ ، ومما للتَّكْثِيرِ ومع إنما هي موطّئة ، فهي بمعنى الَّذي ، وما وطَّأتْ إلاّ وهي اسمٌ . ولكن المقصد إنما هو لا يليها من المَعْنَى الذي في الفِعْل .
قال أبُو حَيَّان وهذا متهافتٌ؛ لأنه من حَيْثُ جعلها مُوَطِّئَةً مُهَيَّئَةً ، لا تكونُ أسماء ، ومن حَيْثُ جعلها بمعنى الَّذِي يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ اسْماً ، فتدافعا .
فصل : في معنى قوله « نعما يعظكم »
المعنى : نِعْمَ شَيئاً يعظكم به ، أو نِعْمَ الشَّيء الذي يعظكُم بِه .
والمخصوص بالمدح مَحْذُوفٌ ، أي : نِعْمَ ما يَعِظُكُم بِهِ ذلك ، وهو المأمور به : من أدَاءِ الأمَانَاتِ والحُكْمِ بالعَدْلِ ، أي : بالقسط ، ثم قال : { إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } ، أي : إذا حكمت بالعدل ، فهو يَسْمَعُ ذلِكَ ، لأنَّهُ سميعٌ لِكُلّ المَسْمُوعاتِ ، وإنْ أدَّيْتَ الأمَانَةَ ، فهو بَصِيرٌ بكُلِّ المبصرات يبصر ذلك ، وهذا أعْظَمُ أسْبَابِ الوَعْدِ للمطيع ، وأعظم أسْبَابِ الوعيدِ للعاصي . وإليه الإشارة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - « اعْبُد اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ فإنْ لَمْ تكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

اعلم أنَّهُ تعالى لما أمر الولاة بالعَدْلِ ، أمر الرعية بطاعة الوُلاَةِ .
قال ابْنُ عَبَّاسٍ وجَابِرٌ : أولو الأمْرِ : [ هُمُ ] الفُقَهَاءُ ، والعلماءُ الَّذِينَ يعلِّمُونَ النَّاسَ دينهم .
وهو قَوْلُ الحَسَنِ ، والضَّحاكِ ومُجاهِدٍ . لقوله تعالى « ولو ردوه إلى الرسول [ وإلى ] أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم » .
وقال أبُو هُرَيرَة : هم الأمَرَاءُ والوُلاة ، وقال عليُّ بْنُ أبي طالبٍ : حقٌّ على الإمام أن يَحْكُمَ بما أنْزَلَ اللهُ ، ويُؤَدِّي الأمَانَة ، فإذا فَعَلَ ذلك؛ حَقَّ علي الرَّعِيَّةِ أنْ يَسْمَعُوا ، وَيُطِيعُوا .
وروى أبُو هُرَيْرَة قال : قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم « مَنْ أطَاعَنِي؛ فَقَدْ أطَاعَ اللهَ ، ومَنْ يَعْصِنِي ، فَقَدْ عَصَى الله ، ومَنْ يُطِعِ الأمِيرَ؛ فَقَدْ أطَاعَنِي ومن يعصي الأميرَ ، فَقَدْ عَصَانِي » وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ « السَّمْعُ والطَّاعَةُ على المرءِ المُسْلِمِ فيما أحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ ، فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ » .
وروى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قال : بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على السَّمْعِ والطَّاعَةِ في اليُسْر ، والعُسْر ، والمَنْشَطِ ، والمَكْرَه ، وألاَّ نُنَازعَ الأمْرَ أهْلَهُ ، وأنْ نَقُومَ ، أوْ نَقُولَ بالحَقّ ، حَيْثُ مَا كُنَّا ، لا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ .
وعن أنَسٍ : أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذرّ : « اسْمَعْ ، وأطِعْ وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيّ كأنَّ رَأسَهُ زَبيبة » .
وروى أبُو أمَامَةَ قال : « سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطِبُ في حجة الوَدَاعِ فقالَ : » اتَّقُوا اللهَ ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ ، وأدُّوا زَكَاةَ أمْوالِكُمْ ، وأطِيعوا إذا أمَرَكُم؛ تَدْخُلُوا جَنَّةَ ربِّكُم « .
وقال سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ المُرادُ السَّرَايَا قال : نزلت هذه الآية في عبيد الله بن أبي حُذَافَةَ بْنِ قَيْس بْن عدِيّ السّهميّ إذ بعثه النّبي صلى الله عليه وسلم [ في سرية ، وعن ابن عباس أنَّها نزلت في خَالدِ بْنِ الوَلِيدِ بَعَثَهُ ] النبي صلى الله عليه وسلم على سَرِيَّةٍ ، وفيها عَمَّارُ بْنُ يَاسِر فجرى بَيْنَهُمَا اخْتِلاف في شَيْءٍ ، فَنَزَلَتْ هذه الآية .
[ و ] قال عكْرمَة : أولو الأمْرِ أبُو بَكْر وعُمَر؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - » [ اقتدوا ] باللذيْنِ من بَعْدِي أبِي بكْرٍ وعُمَر « ، وقيلَ : هم الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُون .
وقال عَطَاء : هم المُهَاجِرُون والأنْصَار ، والتَّابِعُون لهم بإحْسَانٍ؛ لقوله - تعالى- : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار } [ التوبة : 100 ] الآية ، ولقوله- عليه السلام- : » مَثَلُ أصْحَابِي في أمَّتِي كالمِلْحِ في الطَّعَامِ ، ولا يَصْلُح الطَّعَامُ إلا بالمِلْحِ « ، وقال الحسَن : قد [ ذهب ] مِلحُنَا ، فكيف نَصْلُحَ .
ونُقِلَ عن الرَّوافِضِ أنَّ المُرَاد بأولي الأمْرِ : الأئِمُّة المَعْصُومون .
فإن قيل : طَاعَةُ الرَّسُولِ هي طاعَةُ اللهِ ، فالمعنى العَطْفُ .
فالجواب : قال القَاضِي : الفَائِدَةُ في ذَلِكَ بَيَان الدِّلالَتَيْنِ ، فلكتاب يَدُلُّ على أمْرِ الله ، ثم يُعْلَم مِنْهُ أمر الرَّسُولِ لا مُحَالَة ، والسُّنَّة تدلُّ على أمْرِ الرَّسُول ، ثم يُعْلَم مِنْهُ أمر اللهِ لا محالة ، فَدَلّ قوْلُه : » أطيعوا الله وأطيعوا الرسول « على وُجُوب مُتَابَعَة الكِتَابِ والسُّنَّةِ .

فصل في معنى « الطَّاعَة »
قالت المعتزلة : الطَّاعَة موافقَةُ الإرَادة ، وقال أهْل السُّنَّة : الطَّاعَةُ مُوافقَةُ الأمرِ لا مُوافَقَةُ الإرَادَةِ؛ لأنَّ الله قد يَأمُر ولا يُريدُ؛ كما أمر أبَا لَهَبٍ بالإيمَانِ مع انَّه لم يُرِدْهُ منه ، إذ لو أرَادَهُ لا مَحَالَة .
فصل
استدلُّوا بقوله - تعالى- : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } على أن الأمَر للوُجُوب ، [ واعترض عليه المُتَكَلِّمُون؛ فقالوا : هذه الآيةُ لا تَدُلُّ على الوُجُوب إلا إذا ثَبَتَ أن الأمْرَ للوجُوبِ ] ، وهذا يَقْتَضِي افْتَقَار الدَّليل إلى المَدْلُولِ .
وأجيبُ بوَجْهَينِ :
الأوَّل : أن الأمر الوَارِدَ في الوَقَائِع المخصُوصةِ على النَّدْبيَّة ، فقوله : { أَطِيعُواْ الله } لو اقْتَضَى النَّدْبَ ، لم يَبْقَ لِهَذِه الآيَةِ فائِدَةٌ .
الثاني : أنه خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ : { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } وهذا وعيد .
قوله : « منكم » في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من « أولي الأمر » فيتعَلَّقُ بمَحْذُوفٍ ، أي : وأُولِي الأمْرِ كائِنِينِ مِنكُم ، و « مِنْ » تَبْعِيضية .
قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } [ اختلَفْتُم ] ، { فِي شَيْءٍ } [ أيْ : ] من أمْرِ دينكُم ، والتَّنَازُع : اخْتِلافَ الآرَاءِ .
قال الزَّجَّاج : اشْتِقَاق المُنَازَعَة من النَّزْعِ الَّذِي هُوَ الجَذْب ، والمُنَازَعَةُ : عبارة عن مُجَاذَبَةِ كُلِّ واحدٍ من الخَصْمَيْن ، يَجْذِب بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ .
قوله : { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } [ أي : إلى الكِتَابِ والسُّنَّةِ ] .
وقيل : الرَّدُّ إلى الله والرَّسُول؛ أن يقُول لما لا يعْلَمُ : « الله ورسوله أعلم » .
فصل في دلالة الآية على حجية القياس
دلت هذه الآيةُ على أنَّ القياس حُجَّة؛ لأن قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } إمَّا أن يكُون المُرادُ منه « فإن اختلفتم في شيء » أي : حكم مَنْصُوصٍ عليه [ في الكِتابِ أو السُّنَّةِ أو الإجْمَاعِ ] ، [ أو يكون المُرادُ : « فإن اختلفتم في شيء » حكمه غير مَنْصُوصٍ عليه في شَيء من هذه الثَّلاثة ] .
والأوَّل بَاطِلٌ : لأنَّ الطَّاعَة واجِبَةٌ ، لقوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } فيَصِيرُ قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } إعادة لعين ما مَضَى ، وذلك غيْر جَائِزٍ ، فيتَعَيَّن أن يكُون المُرَادُ : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } حكمه غير مَذْكُورٍ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ والإجْمَاعِ ، فيَجِبُ أن يُرَدّ حُكْمُه إلى الأحْكَامِ المَنْصُوصَةِ المُشَابِهَة له ، وذلِك هُوَ القِيَاسُ .
فإن قيل : لِمَ لا يَجُوزُ أن يكُون المرادُ بِقَوْلِهِ : { فَرُدُّوهُ } أي : فَوَّضُوا حُكْمَه إلى اللهِ ولا تَتَعرَّضُوا له ، أو يكون المرادُ : رُدُّوا غيْر المَنْصُوصِ إلى المَنْصُوصِ؛ في أنَّه لا يُحْكَمً فيه إلاَّ بالنَّصِّ ، أو فرُدُّوا هذه الأحْكَام إلى البَراءة الأصْلِيَّة .
والجواب عن الأوَّل والثَّاني : أنه - تعالى - جعل الوَقَائِعَ قِسْمَيْن : منها ما هُو مَنْصُوصٌ علَيْه ، ومِنْهَا ما لا يكُون كذلك ، ثم أمر في القِسْمِ الأوَّلِ بالطَّاعةِ والانْقِيَادِ ، وأمر في الثَّانِي بردِّه إلى الله وإلى الرَّسُول ، ولا يجوزُ أن يكُونَ المُرادُ بِهَذَا الرَّدِّ السكوت؛ لأن الواقِعَةَ رُبَّمَا كانَت لا يَحِلُّ السُّكُوت فيها ، بل لا بُدَّ من قطْعِ الخُصُومَةِ فيها ، إما بِنَفْيٍ أو إثْبَاتٍ ، فامْتَنَعَ حَمْلُ الرَّدِّ إلى اللهِ على السُّكُوتِ .

وأما الثالث : فإنَّ البَرَاءَة الأصْلِيَّة مَعْلُومَةٌ بحكم العَقْلِ ، فارَّدُّ إليها لَيْسَ رَدَّاً إلى الله ، وإذا رَدَدْنا حكْمَ الواقِعَةِ إلى الأحْكامِ المَنْصُوص عليها ، كان ذلك رَدّاً إلى أحْكام الله - تعالى- .
فصل في تقديم الكتاب والسنة على القياس
دَلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ الكِتَاب والسُّنَّة مُقدِّمان على القِياسِ مُطْلقاً ، فلا نَتْرُك العَمَل بهما بِسَبَبِ القِياسِ ، ولا يجوزُ تَخْصِيصُهَا ألْبَتَّة ، سَوَاءً كان القِياسُ جَليَّا أو خَفيَّا ، وسواءً كان ذلِكَ النَّصُّ مَخْصُوصَاً قبل ذَلِك أمْ لاَ؛ لأن الله - تعالى - أمَر بطاعَةِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ في قوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } سواء حَصَلَ قياسٌ يُعَارِضُهمَا أو يُخَصِّصُهُمَا ، أوْ لم يُوجَد؛ ولأن قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله } صريح بأنه لا يجوزُ العُدولُ إلى القياسِ ، إلاَّ عند فُقْدان الأصُولِ الثلاثةَ ، وأيضاً فإنَّهُ أخّر ذلك القياس عن ذِكْرِ الأصُولِ الثَّلاثَةِ ، وذلك فُقْدان الأصُولِ الثلاثَةِ؛ ولأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَبَرَ هذا التَّرتيبَ في قِصَّةِ مُعَاذٍ ، وأخر الاجتهاد عن الكِتَابِ والسُّنَّةِ ، وعَلَّقَ جَوازَهُ على عدمِ وُجْدَانِهِمَا ، ولمَّا عَارَضَ إبْليسُ عموم الأمْرِ بالسُّجُودِ بِقياسِهِ في قوله : « خلقتني من نار وخلقته من طين » فخصَّ العُمُوم بالقياس ، وقدَّمه على النَّصِّ ، فصَار بهذا السَّبَبِ مَلعُوناً ، وأيضاً فغن القُرْآن مَقْطُوع بِمتْنِهِ ، والقِيَاسُ مَظْنُون من جميع الجهاتِ ، والمَقْطُوع راجحٌ على المَظْنُون ، وأيضاً العَمَلُ بالظَّنِّ من صِفَاتِ الكُفَّارِ في قولهم : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] . ثم قال { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ النجم : 23 ] وقال -عليه السلام- : « إذَا رُوِي عَنِّي حَدِيثٌ ، فاعْرِضُوهُ على كِتَابِ اللهِ ، فإن وَافَقَهُ فاقْبَلُوهُ ، وإلا فَرُدُّوهِ » فهذه النٌّصوصُ تَقْتَضِي ، أن لا يجُوزُ العَمَلَ بالقِيَاسِ الْبَتَّةَ ، وإنما عَمِلْنَا بالقِيَاسِ فيما لا نَصَّ فيه ، ولا دلالة دَلَّت على وُجُوبِ العَمَلِ بالقِيَاسِ ، جَمْعاً بَيْنَهَا وبين هذه الأدِلَّةِ . انتهى .
فصل في دلالة الآية على أكثر علم الأصول
دَلَّت هذه الآيةُ على أكْثَرِ أصُولِ الفِقْه؛ لأن أصُول الشَّريعَة هي الكِتَابُ والسُّنَّةُ والإجْماع والقياسُ ، فقوله : [ تعالى ] « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول » إشارة للكِتَابِ والسُّنَّةِ ، وقوله : « وأولي الأمر منكم » يدل على الإجماع؛ لأنه -تعالى- أوْجَب طَاعَةَ أولي الأمْر ، وذلِك يَسْتَلْزمُ عِصْمَتَهُم عن الخَطَأ ، وإلاَّ لَوجَبَ طاعَتُهُ عند كَوْنهِ مُخْطِئاً ، واتِّبَاع الخَطَأ مَنْهِيٌّ عَنْه ، فيجتمع الأمْرُ والنَّهْي [ وهو مُحَالٌ ] ؛ فَثَبتت العِصْمَةُ لأولِي الأمْرِ ، إمَّا أن يكُونُوا جَميع الأمَرَاء ، أو بَعْضَهُم ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونُوا بعضهُم؛ لأن الأمْرَ بِطَاعَتِهِم مَشْروطٌ بمعْرِفَتِهِم ، والقُدْرَةِ على الاسْتِفَادِةِ مِنْهُم ، ونحن عَاجِزُونَ قَطْعاً عن مَعْرِفَةِ الإمام المَعْصُوم والوُصُول إليْه؛ فوجَبَ أن يكُونَ المُرَادُ من { َأُوْلِي الأمر } أولي الحَلِّ والعَقْدِ من هَذِه [ الأمَّة ] وهو الإجْمَاعُ .

فإن قيلَ : المُرَادُ ب { َأُوْلِي الأمر } الخُلَفاء الرَّاشِدُون ، او أمَرَاءُ السَّرايا أو العُلَماء المُفْتُون في الأحْكَامِ الشَّرعيَّة ، أو الأئمَّةُ المعْصُومون عند الرَّوَافِضِ ، فالقَوْلُ الذي اخْتَرْتُمُوهُ خارجٌ عن أقْوَالِ الأمَّة فيَكُون بَاطِلاً ، أو تُحمَلُ الآيةُ على الأمَرَاءِ والسَّلاطين؛ لنفوذ أمرهم في الخَلْقِ ، بخلاف أهل الإجْمَاع؛ ولقوله -عليه السلام- : « مَنْ أطَاعَنِي فَقَدْ أطَاعَ الله ، [ ومَنْ أطاعَ أمِيرِي فَقَدْ أطَاعَنِي ] ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله ، ومَنْ عَصَى أمِيري فَقَدْ عَصَانِي » .
فالجواب عن الأوَّل : أنَّ جماعةً من الصَّحابَة والتَّابعين حَمَلُوا « أولي الأمر » على العلماء ، فليْسَ قولُنَا خَارِجاً عَنْهُم .
وعن الثَّاني : أنَّ الوُجُوه التي ذكرُوهَا ضَعِيفَةً ، لا تعارض بالبُرْهَانِ القَاطِعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مع أنَّهَا مُعَارَضَة بوجوهٍ :
الأوَّل : أنَّ طاعَة الأمَراءِ إنَّما تَجِبُ فيما عُلِمَ بالدَّلِيلِ أنَّهُ حَقٌّ ، وذلِك الدَّلِيلُ هُو الكِتَابُ والسُّنَّةُ؛ ليكُون هذا داخلاً في طَاعَةِ الله [ ورسُولِهِ ] كما أنَّ الوالِدَيْن والزَّوْج ، والأستاذِ داخِلٌ في ذَلِكَ ، وإذا حَمَلْنَاهُ على الإجْمَاعِ ، لم يَدْخُل في ذلك؛ لأنَّهُ ربما ثبت بالإجْمَاعِ حكم ولا دليل في الكتاب والسُّنَّة عليه فَكَانَ أوْلَى .
الثاني : أنَّ طاعَة المَرَاءِ إنما تَجِبُ إذا كانُوا على الحّقِّ فطاعتهم مَشْرُوعة بالاسْتَقَامَةِ .
الثالث : قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } يُشْعِر بإجْمَاعٍ تَقَدَّمَ ، وحدث بَعْدَه التَّنَازُع .
الرابع : أنَّ طاعَةَ [ أهْل ] الإجْمَاعِ واجبَةٌ قَطْعاً ، [ وأمَّا طاعَة ] الأمَرَاء والسَّلاطين فغير وَاجِبَةٍ قَطْعاً ، بل الأكْثَر تكون مُحَرَّمة؛ لأنهم لا يَأمُرون إلاَّ بالظُّلْم ، وفي الأقل تكون وَاجِبَةً [ لهذا كَانَ حَمْل الآيَةِ على الإجْمَاعِ أولى ] .
الخامس : أوامِرُ السَّلاطِين مَوْقُوفَة على فَتَاوى العُلَمَاء؛ فالعُلَمَاءُ في الحَقِيقَةِ أمَرَاء ، فَحَمْلُ أولي الأمْرِ عَلَيْهِم أوْلى ، وأمَّا حَمْل الرَّوَافِض الآية على الإمَامِ المَعْصُوم ، فَيُقَيَّد بما ذُكر من أنَّ طَاعَتَهُم تتوَقَّفُ على مَعْرَفَتهم ، والقُدْرَة على الوُصُولِ إلَيْهِم ، فَوُجُوبُها قَبْل ذلك تَكْلِيفُ ما لا يُطَاقُ ، وأيضاً فَطَاعَتُهُم مَشْرُوطَةٌ وظاهر قوله : { أَطِيعُوا } يقتضي الإطْلاق ، وأيضاً فَقَوْلُه : { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } لو كان المُرادُ منه الإمام المَعْصُوم ، لقيل : فردُّوهُ إلى الإمَام .
فصل : من المعتبر في الإجماع؟
إذا ثَبَت أن الإجْماع حُجَّة ، فاعلم : أن المُعْتَبَر إجْمَاعُهم هُمُ الذين يُمْكِنُهُم استِنْبَاط الأحْكَام الشَّرعيَّة من الكِتَابِ والسُّنَّة ، و [ هم ] المُسَمَّون بأهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ ، فهم الَّذين يُمْتَثَلُ أمْرُهُم ونَهْيُهُم بِخلاف المُتَكَلِّم ، والمُقْرِئ والمُحْدِّث والعَوَامّ لا يُمْكِنُهم الاسْتِنْبَاط .
فصل : لا عبرة في الإجماع بالفرق الضالة
دَلَّت الآيةُ على أنّ العِبْرَة بإجْمَاع المُؤمِنين ، فأمَّا من يشكُّ في بإيمانِهِ من سائِرِ الفرقِ فلا عِبْرَةِ بِهِم .
فصل : حصر الأدلة أربعة
دَلَّت [ هذه ] الآيةُ على أنَّ ما سِوَى هذه الأصُولِ الأرْبَعَة ، أعني : الكِتَابِ والسُّنَّة والإجْمَاعِ والقياسَ باطِلٌ؛ لأنه -تعالى- جعل الوَقَائِعِ قِسْمَيْن :
أحدهما : مَنْصُوص عليه فأمر فيه بالطَّاعَةِ ، بقوله [ -تعالى- ] : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } .

والثاني : غير مَنْصُوص عليه [ وأمر فيه بالاجتهاد بقوله -تعالى- : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } ] ، ولم يزد على ذَلِكَ؛ فدلَّ على أنه لَيْسَ للمكَلَّفِ أن يَتَمَسَّك بشَيْءٍ سِوَى هذه الأرْبَعَة ، فالقَوْلُ بالاسْتِحْسَانِ الذي تَقُولُ به الحَنَفِيَّةُ ، والقول بالاسْتِصْحَابِ الذي تقُولُ به المالِكِيَّة قو بَاطِلٌ لهذه الآية .
فصل : في الاقتداء بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله
المنْقُول عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إن كان قَوْلاً ، وَجَبَ طَاعَتُهُ؛ لقوله -تعالى- : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } وإن كان فِعْلاً ، وجب الاقْتِدَاءُ بِهِ إلاّ ما خصَّه الدَّلِيل؛ لقوله -تعالى- : { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] ، والمُتَابَعَةُ عِبارَةٌ عن الإتْيَانِ بمثل فِعْل الغَيْرِ؛ لأجْلِ أنَّ ذلك الغَيْر فَعَلَهُ .
فصل : الأمر في الشرع يدل على التكرار
ظَاهِر الأمْرِ في عُرْفِ الشَّرْع يدل على التِّكْرَارِ لوُجُوه :
الأول : أن قوله : { أَطِيعُواْ الله } يَصِحُّ منه اسْتِثْنَاء أيِّ وقْتٍ كان ، وحُكْمُ الاسْتِثْنَاء إخْرَاج ما لوْلاَهُ لَدَخَل؛ فوجَبَ أن يكُون قوله : { أَطِيعُواْ الله } مُتَنَاوِلاً لكُلِّ الأوْقَاتِ ، وذلِك يَقْتَضِي التَّكْرَار .
والقول الثاني : لو لَمْ يفدْ ذَلِك ، لصارت الآيةُ مُجْمَلة؛ لأن الوَقْتَ المخصُوصَ والكيْفِيَّة المخْصُوصَة غير مَذْكُورة ، فإذا حَمَلَنَاهُ على العُمُوم كانت مُبَيِّنة ، وهو أوْلَى من الإجْمَالِ ، أقصَى ما في البَابِ أنَّه يدخل التَّخْصيص ، والتَّخْصيص خَيْرٌ من الإجْمَال .
الثالث : أنه أضَاف لَفْظَ الطَّاعَةِ إلى لَفْظِ اللهِ ، [ وهذا ] يَقْتَضِي أن مَنْشَأ وجوب الطَّاعَةِ هو العُبُودِيَّةُ والرُّبُوبِيَّةِ ، وذلك يَقْتَضِي دوامَ وُجوبِ الطَّاعَةِ على المكَلَّفين إلى يَوْمِ القِيَامَة .
فصل
قال - [ تعالى ] - : « أطيعوا الله » فأفرَدَهُ بالذِّكْر [ ثم ] قال : « وأطيعوا الرسول وأولِي الأمر » وهذا تَعليمٌ من الله لنا الأدب ، ولذلك « رُوِيَ أن رجلاً قال بِحَضْرَة الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- : » مَنْ أطَاعَ اللهَ والرَّسُولَ فَقَدْ رشَدَ ومَنْ يَعْصِهِمَا فقد غَوَى « ، فقال -عليه السلام- :
» بِئْس الخَطِيبُ أنْتَ هَلا قُلْتَ : مَنْ عَصَى اللهَ وعَصَى رَسُولَهُ « أو لفظ هذا مَعْنَاه؛ وذلك لأنَّ الجَمْعَ بينَهُمَا في اللَّفْظِ يوهِمُ نَوْع مُنَاسَبةٍ ومُجَانَسة ، والله - تعالى - مُنَزَّهٌ عن ذلك .
فصل : في فروع تتعلق بالإجماع
دلَّ قوله - تعالى- : { وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } على أن الإجْمَاع حُجَّة ، وهَهُنا فروعٌ :
الأوَّل : أن الإجْماع لا يَنْعَقِدُ إلا بقوْل العُلَمِاء ، الذين يمكِنُهُم اسْتِنْبَاطُ أحْكَامِ الله - تعالى - من نُصُوص الكِتَابِ والسُّنَّةِ ، وهؤلاء هم المُسَمَّون بأهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ .
الثاني : اخْتَلَفُوا في الإجماعِ الحَاصِلِ عَقِيب الخلافِ ، هل هو حُجَّة أمْ لاَ ، وهذه الآيةُ تَدُلُّ على أنَّه حُجَّة ، لأنَّه قَوْلً جميعِ أهْل الحَلِّ والعَقْدِ من الأمَّةِ ، فيدخُل في الآيةِ سَواءٌ وجد قَبْلَهُ خِلافٌ ، أم لا . الثالث : اختلفُوا في انقِراض أهْل العَصْرِ ، هل هو شَرْطٌ أم لا ، وهذه الآية تَدُلُّ على انَّه لَيْسَ بِشَرْط؛ لأنَّها تَدُلُّ على وُجُوبِ طَاعَةِ المُجْمِعين ، سَوَاء انْقِرض [ أهْل ] العَصْرِ أم لم يَنْقَرِضِ .

الرابع : دَلَّت الآيَةُ على أن العِبْرَةِ بإجْمَاعِ المُؤمِنين؛ لقوله - [ تعالى ] - « يا أيّها [ الذين آمنوا ] ثم قال : » وأولي الأمر منكم « .
قوله : إن كُنتُم » شرط ، جوابُه مَحْذُوفٌ عند جُمْهُور البَصْريَّين ، أي : فَرُدُّوه إلى اللهِ ، وهو مُتقدِّم عند غيرهم .
وهذا الوعِيدُ يحتمل أن يكُون مَخْصُوصاً بقوله : { فَرُدُّوهُ } ، ويُحْتَمل أن يكُون عَائِداً إلى قوله : « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول » .
فصل
ظاهر قوله : { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } يَقْتَضِي أنَّ من لم يُطِع الله والرَّسُول لا يَكُونُ مُؤمِناً ، فيخرج المُذْنِب عن الإيمانِ ، لكِنَّه مَحْمُولٌ على التَّهْديدَ ، وقوله : { ذلك خَيْرٌ } أي : الَّذي أصْدُقُكم في هذه الآيَاتِ من الأحْكَام ، والطَّاعَة ، والردِّ إلى اللهِ والرَّسُول خيرٌ لكم ، « وأحسن تأويلاً » ، أي : مآلاً؛ لأن التَّأوِيل عِبَارةٌ عن الشَّيْء ومرْجِعِه وعاقِبتهِ و { تَأْوِيلاً } نَصْب على التَّمْيِيز .
فصل
قال أبو العبَّاس المُقْرِي : ورَدَ التَّأويل في القُرْآنِ على أرْبَعَةِ أوْجُه :
الأوَّل : بمعنى العَاقِبَة كَهَذِه الآيَة .
الثاني : بمعنى المُنْتَهى؛ قال - تعالى - : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } [ آل عمران : 7 ] أي : ما يَعْلَمُ مُنْتَهَى تأويلِهِ إلا الله .
الثالث : بمعنى تَعبير الرُّؤيَا؛ قال - تعالى - : { أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ [ فَأَرْسِلُونِ ] } [ يوسف : 45 ] أي : بعبَارتهِ؛ ومثله : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } [ يوسف : 6 ] أي : تَعْبير الرُّؤيَا .
الرابع : بمعنى التَّحقِيق؛ قال - تعالى- : { هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 100 ] أي : تحقيق رُؤيَايَ؛ ومثل الوجه الأوَّل : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } [ الأعراف : 53 ] أي : عاقبته ، [ ومثله : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [ يونس : 39 ] أي : عَاقبته .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)

لما أوْجَبَ الطَّاعَة على جميع المُكَلَّفين في الآيةِ الأولَى ، ذكر في هذه الآيةِ أن المُنَافقين والذين في قُلُوبهم مَرَضٌ لا يُطيعُون الرَّسولَ ، ولا يَرْضُونَ بحُكْمِهِ ، وإنما يُريدُون حُكْمَ غيره ، و « الزَّعم » بفتح الزَّاي وضمها وكسرها مصدر زَعَم ، وإنما يُريدُون به اعتِقادٌ ظَنِّيٌّ؛ قال : [ الطويل ]
1814- فَإنْ تَزْعُمِيني كُنْتُ أجْهَلُ فِيكُمُ ... فَإنِّي شَرَيْتُ الْحِلْمَ بَعْدَكَ بِالجَهْلِ
قال ابنُ دُرَيْد : أكثرُ ما يَقَعُ على البَاطِلِ ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : « بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا » .
وقال الأعْشى : [ المتقارب ]
1815- وَنُبِّئْتُ قِيْساً وَلَمْ أبْلُهُ ... كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أهْلِ الْيَمَنْ
فقال المَمْدُوح : وما هُو إلا الزَّعْم ، وحَرَمَهُ ولم يُعْطِهِ شَيْئاً ، وذكر صَاحِبُ العين أنَّها تَقَع غَالِباً [ على « انَّ » ] وقد تَقَعُ في الشِّعْر على الاسْمِ ، وأنشد بيت أبي ذُؤيْب ، وقول الآخر : [ الخفيف ]
1816- زَعَمَتْنِي شَيْخاً وَلَسْتُ بِشَيْخٍ ... إنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دبِيبَا
قيل : ولا يُسْتَعْمَل في الأكْثَرِ إلا في القَوْلِ الذي لا يَتَحَقَّقُ .
قال الليث : أهْل العَرَبيَّةِ يَقُولُون : زَعم فُلانٌ؛ إذَا شَكَّوا فيه فلم يَعْرِفُوا أكذبَ أمْ صَدَق؛ وكذلك تَفْسِير قوله : { هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ } [ الأنعام : 136 ] أي : بقولهم الكَذِب .
قال الأصْمَعِيّ : الزَّعُومُ من الغَنَم الذي لا يُعْرَفُ أبها شحم أم لا وقال ابن الأعْرابِيّ : الزَّعْم قد يُسْتَعْمل في الحَقِّ ، وأنشد لأميَّة بن أبي الصَّلْت : [ المتقارب ]
1817- وإنِّي أدينُ لَكُم أنَّهُ ... سَيَجْزيكُمُ رَبُّكُمُ مَا زَعَمْ
وزعم [ تكُون ] بمعنى : ظَنَّ وأخَوَاتِهَا ، فيعَدَّى لاثْنَيْنِ في هَذِه الآيةِ ، و « أنَّ » سادَّةٌ مَسَدَّ مفْعُوليها ، وتكون بمعْنًى « » كَفَل « فتتعدى لِوَاحِدٍ؛ ومنه : { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [ يوسف : 72 ] ، وبمعنى رَأس ، وكذب وسَمُن ، وهَزُلَ ، فلا تتعَدَّى ، وقرأ الجمهور : { أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } مبنياً للمَفْعُول ، وقُرِئا مبنيِّيْن للفاعِلِ ، وهو الله -تعالى- .
فصل : سبب نزول الآية
روي في سبب النُّزُولِ وُجُوه :
أحدُها : قال الشَّعْبِي : كان بَيْنَ رَجُلٍ من المُنَافِقِين خُصُومَة ، فقال اليَهُودِيّ : نتحاكمُ إلى مُحَمَّد؛ لأنه عَرَفَ أنَّهُ عَرَفَ أنَّهُ لا يأخُذ الرَّشْوَة ، ولا يَمِيلُ في الحُكْمِ ، وقال المُنَافِقُ : نتحَاكمُ إلى اليَهُودِِ؛ لِعِلِمه أنَّهم يأخذُون الرَّشْوَة ويميلُون في الحُكْمِ ، فاتَّفَقَا على أن يَأتِيَا كَاهِناً في جُهَيْنَةَ ، فَيَتَحَاكَمَا إلَيْه ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية .
قال جابر : كَانَتِ الطَّواغِيتُ التي يَتَحَاكَمُون إليها واحدٌ في جُهَيْنَة ، ووَاحِدٌ في أسْلَم ، وفي كُلِّ حَيٍّ واحدٌ كَهَّان .
وروى الكَلْبِي عن أبِي صَالِح عن ابن عبَّاسٍ : نَزَلَتْ في رَجُلٍ من المُنَافِقِين يُقال لَهُ : بشر ، كان بَيْنَهُ وبَيْنَ يَهُودِيّ خُصُومَة ، فقال اليَهُودِيّ : نَنْطَلِقُ إلى مُحَمَّد ، وقال المُنَافِق : بل إلى كَعْبِ بن الأشْرَف ، وهُوَ الذي سَمَّاهُ اللهُ طاغُوتاً ، فأبَى اليَهُودِيُّ أن يُخَاصِمَه إلاَّ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رَأى المُنَافِق ذَلِك ، أتَى معه إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فَقَضَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لليهُوديِّ ، فلما خَرجَا من عِنْدِه ، قال المُنَافِقُ : لا أرْضَى [ بهذا الحكم ] فانْطلقْ بِنَا إلى أبِي بكْرٍ ، فحكم لليَهُودِيُّ ، فلم يَرْضَ ، ذكره الزَّجَّاج .

فَلَزِمَهُ المُنَافِقِ وقال : انْطلِقْ بَنَا إلى عُمَر ، فَصَار إلى عُمَر ، فقال اليَهُودِيُّ [ لعمر ] اخْتَصَمْتُ أنَا وهَذَا إلى محمَّدٍ ، فقضى [ لي ] عليْهِ ، فلم يَرْض بقَضَائِهِ ، وزَعَم أنه يُخَاصِم إلَيْكَ ، فقال عمر : [ للمُنَافِقِ ] أكذلك؟ قال : نَعَم؛ فقال لهما : رُوَيْدَكُمَا حتى أخْرُجَ إلَيْكَما . فدخَلَ عُمَرُ البَيْتَ وأخذَ السَّيْفَ واشْتَمل عَلَيْه ، ثم خَرَجَ ، فَضَرَبَ بِهِ المُنَافِقَ حَتَّى برد ، وقال : هكذا أقْضِي بَيْن مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاء الله ورسُولِهِ ، فنَزَلَت هذه الآية .
وقال جِبْريل -عليه السلام- : إن عُمَر فرّق بين الحقِّ والبَاطِلِ ، فَسُمِّي الفَارُوق .
وقال السُّدِّي : كان نَاسٌ من اليَهُود [ قد ] أسْلَمُوا ونَافَقَ بعضُهُم ، وكانَتْ قُرَيْظَةُ والنَّضيرُ في الجَاهِليَّة ، إذا قَتَلَ رَجُلٌ من بَنِي قُرَيْظَة [ رَجُلاً من بني النضير قُتِل بِهِ ، أو أخَذَ ديتهُ مئة وَسْقٍ من تَمْرٍ ، وإذا قتل رَجُلٌ من بني النضير رَجُلاً من قُرَيْظة لم يُقْتَل بِهِ ] وأعْطَى ديتهُ سِتِّين وسْقاً ، وكانت النَّضِير وهم حُلَفَاءُ الأوْسِ أشْرَف وأكْثَر من قُرَيْظَة ، وهم حُلَفَاءُ الخَزْرَج ، فَلَمَّا جَاء الإسْلاَمُ ، وهاجر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المَدِينَةِ قَتَل رجُلٌ من النَّضِير رَجُلاً من قُرَيْظَة ، فاخْتَصَمُوا في ذَلِكَ ، فقال بَنُو النَّضِير : كُنَّا وأنتم اصْطَلَحْنَا على أن نَقْتُل مِنكم ولا تَقْتُلُون مِنَّا ، وديتُكُم سِتُّون وَسْقاً ، وديَتُنَا مئةُ وَسْقٍ ، فنحن نُعْطِيكُم ذَلِك .
فقالت الخَزْرج : هذا شَيْءٌ كنتم فَعَلْتُمُوه في الجَاهِليَّةِ؛ لكَثْرَتِكُم وقِلَّتِنَا فَقَهَرتُمُونا ، ونحن وأنْتُم اليَوْم إخوةٌ ، ودينُنَا ودِينُكُم وَاحِدٌ ، فلا فَضْلَ لكُم عَلَيْنَا ، فقال المُنَافِقُون مِنْهم : انْطَلِقُوا بِنَا إلى أبِي بردة الكَاهِن الأسْلمِيّ ، وقال المُسْلِمُون من الفَريقَيْن : لا بلْ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فأبى المُنافِقُونَ فانْطَلَقُوا إلى أبِي ليَحْكُمَ بَيْنَهُم ، فقال : أعْطُوا اللُّقْمَة ، يعني : الخطر ، فقالوا : لَكَ عَشْرَة أوْسُق ، فقال : لاَ بَلْ مئة وَسْقٍ ديَتِي ، فأبَوْا أن يعطوهُ فوقَ عَشْرَة أوسْق ، فأبَى أنْ يَحْكُمَ بيْنَهُم ، فأنزَلَ الله - تعالى - آيتي القِصَاص ، فدَعَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الكَاهِن إلى الإسْلامِ فأسْلَمَ ، وعلى هذه الرِّوَايَة فالطَّاغُوتُ هو الكَاهِن .
وقال الحَسَن : إن رَجُلاً من المُسْلِمِينِ كان لَهُ على رَجُلٍ من المُنَافِقِين حَقٌّ ، فدَعَاهُ المُنَافِقُ إلى وَثَنٍ كان أهْلُ الجَاهِليَّةِ يَتَحَاكَمُون إلَيْهِ ، ورَجُلٌّ قائِمٌ يترجَّم الأبَاطيلَ عن الوثَنِ ، فالمُرادُ بالطَّاغُوتِ؛ هو ذَلِكَ الرَّجُل ، وقيلَ : كانوا يَتَحَاكَمُون إلى الأوْثَانِ ، وكانَ طَريقُهم أنهم ] يَضْرِبُونَ القِدَاحَ بِحَضْرَةِ الوَثَنِ ، فما خَرَجَ على القِدَاحِ حَكَمُوا بِهِ ، وعلى هَذَا فالطَّاغُوتُ الوَثَنِ .
قال أبو مُسْلِم : ظاهر الآيَةِ يَدُلُّ على أنه كان المُخَاصِمُ منافِقاً من أهْلِ الكِتَاب ، كان يُظهر الإسْلامَ عَلَى سبيل النِّفَاقِ ، لأن قوله - تعالى- : { يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } إنما يليقُ بمثل هذا المُنافِقِ .

قوله : { يُرِيدُونَ } حال من فَاعِل [ { يَزْعُمُونَ } أو من { الذين يَزْعُمُونَ } .
وقوله : { وَقَدْ أمروا } حال من فَاعِل ] { يُرِيدُونَ } فهما حالان مُتَدَاخِلان ، { أَن يَكْفُرُواْ } في مَحَلِّ نَصْب فقط إن قدَّرْت تعدية « أمر » إلى الثَّانِي بِنَفْسِه ، وإلا ففيها الخِلاَفُ المَشْهُور ، والضَّمِير في [ بِهِ ] عَائدٌ على الطَّاغُوتِ ، وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويُؤنَّث ، والكلام عليه في البقرة .
وقرأ عبَّاس بن الفضل : « أن يكفروا بهن » ، بضمير جَمْع التَّأنيث .
فصل
قال القاضي : يَجِبُ أن يَكُونَ التحَاكُم إلى الطَّاغُوتِ كالكُفرِ ، وعدم الرِّضَى [ بِحُكْمِ ] مُحَمَّد - عليه السلام - كُفْرٌ؛ لوجوه :
أحدها : قوله : { يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } فجعل التَّحاكم [ إلى لطَّاغُوت ] مقابلاً للكُفْر به ، وهذا يَقْتَضِي أن التَّحَاكُم إلى الطَّاغُوت كُفْر بالله ، كما أن الكُفْرَ بالطَّاغُون إيمانٌ باللهِ .
ثانيها : قوله - [ تعالى ] - : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] وهذا نَصٌّ في تكْفِير من لَمْ يَرْضَ بحُكْم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام- .
وثالثها : قوله -تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] وهذه الآياتُ تَدُلُّ على أنَّ من رَدَّ شيئاً من أوَامِرِ الله والرَّسُول فهُو خَارِجٌ عن الإسْلام ، سواءٌ رَدَّهُ من جِهَةِ الشِّرْكِ أو من جِهَةِ الشِّرْكِ أو من جَهَةِ التَّمَرُّد ، وذلك يُوجِبُ صِحَّة ما ذَهَبَتْ إليه الصَّحَابَة- رضي الله عنهم- من الحُكْمِ بارْتِدَادِ مَانِعِي الزَّكاة ، وقَتْلِهم ، وسَبي ذراريهم .
قوله : { أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } في { ضَلاَلاً } ثلاثة أقوال :
أحدُها : أنه مصْدَرٌ على غير المَصْدَر ، نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، والأصْل « إضلالاً » و « إنباتاً » فهو [ اسْم ] مصدر لا مَصْدَر .
والثاني : أنه مَصْدَر لمطَاوع { أَضَلَّ } أي : أضَلَّهُم فَضَلُّوا ضَلاَلاً .
والثالث : أن يَكُون من وَضْعِ أحد المَصْدَرَيْن مَوْضِع الآخَر .
فصل
قالت المعتزِلَةُ : قوله - تعالى - : { وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } يدُلُّ على أن كُفْر الكَافِرِ ليس بِخَْلق [ الله - تعالى- ] ولا بإرادَته؛ لأنه لو خَلَقَ الكُفْر في الكَافِرِ وأرَادَهُ منه ، فأيُّ تأثيرٍ للشَّيْطَانِ فيه ، وأيضاً فإنَّه ذَمَّ للشيطان؛ بسبب أنَّه يُريد هذه الضَّلالة ، فلو كان - تعالى - مُرِيداً لها ، لَكَانَ هُو بالذَّم أوْلى ، لأن [ كُلَّ ] من عابَ شيئاً ثم فَعلَهُ ، كان بالذَّمِّ أوْلَى به؛ قال - تعالى - : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] وأيضاً فإنَّه تعَجُّبٌ من تحاكُمِهِم إلى الطَّاغُوتِ ، مع أنَّهمُ أمِرُوا أن يَكْفُرُوا به ، ولو كَانَ ذلك التَّحاكُم بِخَلْقِ اللهِ ، لما بقي التَّعَجُّب ، فإنه يُقالُ : إنك خَلَقْتَ ذلك الفِعْلَ فيهم ، وأرَدْتَهُ مِنْهُم ، بل التَّعَجُّب من هذا التَّعَجُّب [ هو ] أولى . وجوابُهم المُعارضَة بالعِلْم والدَّاعِي .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)

لما بين - [ تعالى ] - رغبتَهُم في التَّحَاكُم إلى الطَّاغُوتِ [ بين ] نَفْرَتهم عن التَّحَاكُم إلى الرَّسُولِ ، وقد تَقَدَّم الكَلاَمُ على { تَعَالَوْاْ } في آل عمران .
قوله : { رَأَيْتَ } فيها وجهان :
أحدهما : [ أنها من رُؤيَة البَصَرِ ، أي : مُجَاهَرَة وتصْرِيحاً ] .
[ والثاني : ] أنَّها من رُؤيَة القَلْب ، أي عَِلِمْتَ؛ ف { يَصُدُّونَ } في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ على القَوْلِ الأوَّلِ ، وفي مَحَلِّ المَفْعُول الثَّانِي على الثَّانِي .
وقوله : { صُدُوداً } فيه وجهان :
أحدهما : أنه اسْم مَصْدَرٍ ، والمصْدَر إنما هو الصَّدُّ ، وهذا اخْتِيَار ابن عطيَّة ، وعزَاه مكِّي للخَلِيل بن أحمد .
والثَّاني : أنه مَصْدر بِنَفْسِه؛ يقال : صَدَّ صَدَّا وصُدُوداً ، وال بَعْضُهم : الصُّدُود مَصْدَرُ صَدَّ اللازم ، والصَّدُّ مصدرُ صَدَّ المُتَعَدَّي ، نحو : { فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } [ النمل : 24 ] والفعْل هنا مُتَعَد بالحَرْفِ لا بِنَفْسِه ، فلذلك جاءَ مصدَرُه على « فُعُول » ؛ لأن « فُعُولا » غالباً اللازِم ، وهذا فيه نَظَر؛ إذا لِقَائِل أن يقُول : هو هُنا مُتَعَدٍّ ، غاية ما فيه أنه حَذَفَ المَفْعُول ، أي : يَصُدُّون غيرَهُم ، أو المُتَحاكِمين عنك صُدُوداً ، وأما « فُعُول » فجاء في المُتَعَدِّي ، نحو : لَزِمَهُ لُزُوماً ، وفَتَنَهُ فُتُوناً .
ومعنى الآية : يعرضون عنك ، وذكر المَصْدَر للتَّأكيد والمُبَالَغَةِ؛ كأنه قال : صُدُوداً أيَّ صُدُودٍ .

فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)

في اتَّصال هذه الآيةِ بما قَبْلَهَا وَجْهَان :
الأوَّل أنه اْعْتِرَاضٌ ، وما قَبْلَ الآية مُتَّصلٌ بما بَعْدَهَا ، والتَّقْدير : وإذا قيل لَهمُ : تعالَوْا إلى ما أنْزل اللهُ وإلى الرَّسُول رَأيْتَ المُنَافِقين يَصُدون صُدُوداً ، ثُمَّ جاءُوك يَحْلَفُون باللهِ إن لأردْنَا إلاَّ إحساناً وتوْفِيقاً ، يعني : أنَّهُم في أوَّلِ الأمْر يصُدُّون عنك ، ثم بَعْدَ ذلك يَجيئُونَك ، ويَحْلِفُون باللهِ كَذِباً أنَّهُم ما أرَادُوا بِذَلِكَ إلا الإحْسَانَ والتَّوْفِيق ، وشرط الاعتراضِ أن يَكُونَ لَهُ تَعَلُّق بذلك الكلامِ من بَعْضِ الوُجُوه؛ كقوله : [ السريع ]
1818- إنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا ... قَدْ أحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تَرْجُمَانْ
فقوله : « وبُلِّغْتَهَا » [ كلامٌ ] أجْنَبِيٌّ اعْتَرِض به ، لكنه دُعَاء للمُخَاطَبِ ، وتَلَطُّفٌ في القَوْلِ مَعَهُ ، وكذلك الآية؛ لأن أوّل الآيةِ وآخِرَهَا في شَرْحِ قبائِح المُنافقِين وكَيْدهم ومَكْرهم ، فإنه -تعالى- حكى عنهم أنَّهُم يَتَحَاكمُون إلى الطَّاغُوتِ ، مع لأنَّهم أمِرُوا بالكُفْرِ به ، ويَصُدُّون عن الرَّسُول ، مع أنَّهم أمِروا بطاعته ، فذكر هُنَا ما يَدُلُّ على شِدَّة الأهْوَالِ عَلَيْهِم؛ بِسَبب هذه الأعْمَال القَبِيحَة في الدُّنْيَا والآخِرَةِ ، فقال : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : فَكَيْفَ حالُ تِلْك الشِّدَّةِ وحَالُ تِلْك المُصِيبَةِ ، قاله الحسن البَصْرِيّ ، وهو اخْتِيَار الوَاحِدِيّ .
الثاني : لأنه -تعالى- لما حَكَى عنهُم تحاكُمَهُم إلى الطَّاغُوت ، وفِرارِهم من الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- دلَّ ذلك على شِدَّة نَفْرتهم من الحُضُورِ عندَ رسُول اللَّهِ والقُرْبِ مِنْهُ ، فلمَّا ذكر ذَلِكَ ، قال : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } يَعْني : إذا كانَت نَفْرتُهُم من الحُضُورِ عند الرسول في أوْقَاتِ السَّلامةِ هكذا ، فكَيْفَ يكُون حَالُهُم في النُّفْرَة في شِدَّة الغمِّ والحُزْن ، إذا أتَوُا بجنَايَةٍ خافُوا بسَبَبِها مِنْك ، ثم جَاءُوك شَاءُوا أم أبَوْا ، ويَحْلِفُونَ باللَّه كَذِباً ما أردْنا بتلك الجِنَايَة إلاَّ الخَيْر والمَصْلَحَة ، والغَرَضُ من هَذا الكلامِ : بَيَانُ أنَّ نَفرتَهُم عن الرَّسُول لا غاية لَهَا سواءٌ غابُوا أم حَضَرُوا ، ثم إنه -تعالى- أكَّدَ هذا المَعْنَى بقوله : { أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ } ومعناه : أنَّ من أرادَ المُبَالَغَة في شَيْءٍ ، قال : هذا شَيْءٌ لا يَعْلَمُهُ إلا اللَّه يعني : لكَثْرَتهِ وقُوَّتِه لا يقْدرِ أحَدٌ على مَعْرَفَتهِ إلا اللَّه - [ تعالى ] - .
قوله : { فَكَيْفَ } يجوز فيها وَجْهَان :
أحدهما : أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ ، وهو قول الزَّجَّاج؛ قال : تقديره : فكَيْفَ تَرَاهُم؟
والثاني : أنها في مَحَلِّ رفع خبرٍ لمُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : فكيْف صنيعُهُم في وَقتِ إصَابَة المُصِيبَةِ إيَّاهُم؛ وإذا مَعْمُولَةٌ لذلك المُقَدَّر بَعْد كَيْف ، والبَاءُ في « بِهَا » للسَّببيَّة ، و « مَا » يجوز أن تكون مَصْدَرِيَّة أو اسْمِيَّة ، والعَائدُ مَحْذُوف .
فصل في المقصُود بالمُصِيبَة في الآية
قال الزَّجَّاج : [ المراد ] بالمُصِيبَة : قَتْل صَاحِبهم الَّذِي أقَرَّ أنَّه لا يَرْضَى بِحُكْم الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- ، جَاءُوا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وطالَبُوا عُمَر بِهِ ، وحَلَفُوا أنَّهُم ما أرَادُوا بالذَّهَاب إلى غير الرَّسُول إلا الخَيْرَ والمَصْلَحة .

وقال الجُبَّائِيُّ : المُراد ب « المصيبة » هُنَا : ما أمر اللَّهُ -تعالى- نَبِيَّهُ من أنَّه لا يَسْتَصحبهُم في الغَزَوات ، وأنَّه يَخُصُّهم بمزيد الإذْلاَل والطَّرْدِ عن حَضْرتِهِ ، وهو قوله -تعالى- : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } [ الأحزاب : 60 ] ، إلى قوله : { وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [ الأحزاب : 61 ] ، وقوله : { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً } [ التوبة : 83 ] ، وهذا يُوجِب لَهُم الذُّلَّ العَظيم ، وإنما أصَابَهُم ذلك لأجْلِ نفاقهم .
وقوله : « ثم جاءوك » أي : وقْتَ المُصِيبَةِ يحلفون ويعْتَذِرُون ، وأنَّا ما أرَدْنَا بما كان مِنَّا إلا الإصْلاحَ ، وكانوا كَاذِبين؛ لأنَّهُم أضْمَرُوا خِلاف ما أظْهَرُوهُ .
وقال أبو مُسْلِم : إنه -تعالى- لمَّا أخْبَر عن المُنَافِقِين ، ورغبتهم في حُكْمِ الطَّاغُوتِ ، وكَراهتهم في حُكْمِ الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - أنه سَيُصيبُهم مَصَائِب تُلْجِئُهم إلَيْه وإلى أَن يُظْهِرُوا الإيمَانَ لَهُ ، ويَحْلِفُون أنَّ مُرَادَهُم الإحْسَان والتَّوفِيق ، قال : ومن عادَةِ العَرَبِ عند التَّبشير والإنْذَارِ أن يقُولُوا : كيف أنت إذا كان كَذَا وكَذا؛ ومثله قولُه - تعالى- : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } [ آل عمران : 25 ] ، ثم أمرهُ - تعالى- إذا كان مِنْهُمُ ذلِك ، أن يُعْرِضَ عَنْهُم ويَعظُهم .
وقال غيره : المراد ب « المصيبة » : كُلُّ مُصِيبةٍ تُصيبُ المُنَافِقِين في الدُّنْيَا والآخِرَةِ .
قال القُرْطُبِيّ : وقيل : إن قوله - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } نزل في شَأنِ الذين بَنَوْا مَسْجِد الضِّرار ، فلما أظهر اللهُ - تعالى- نِفَاقَهُم ، وأمرهم بهَدْمِ المَسْجِد- حَلَفُوا للرَّسُول صلى الله عليه وسلم دِفَاعاً عن أنْفُسهم : ما أردنا بِبِنَاء المَسْجِد إلاَّ طاعة الله ومُوافَقَةِ الكِتَابِ .
قوله : « يحلفون : حالٌ من فَاعِل جَاءُوك ، و » إن « نافية ، أي : ما أردْنَا و » إحساناً « مَفْعُول به ، أو اسْتِثْنَاء على حَسَبِ القوْلَيْن في المسْألة .
فصل في تفسير الإحسان
والمراد ب » الإحسان « قيل : ما أرَدْنَا بالتَّحاكُم إلى غَيْرِ الرَّسول إلاَّ الإحْسَان إلى خُصُومِنَا ، واستِدَامة الاتِّفَاق والائتِلاف بَيْنَنَا .
وقيل : ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى عُمَر ، إلا أنَّهُ يُحْسِنُ إلى صَاحِبنَا بالحُكْمِ والعَدْلِ ، والتَّوْفيقِ بينَهُ وبين خَصْمِهِ ، وما خَطَر بِبَالِنَا أنَّه يَحْكُمُ لهُ بِمَا حَكَمِ . وقيلَ : ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى غَيْرك ، إلا انَّك لا تَحْكُمُ إلاَّ بالحقِ ، وغَيْرُك يُوَفَّقُ بين الخَصْمَيْن ، ويأمُرُ كُلَّ واحدٍ بما ذَكَرْنَا ويقرب مراده من مُرَادِ صَاحِبهِ حتى تَحْصُل المُوافَقَة بَيْنَهُمَا .
وقال الكَلْبي : » إلا إحساناً « في القَوْل » وتوفيقاً صواباً .
وقال ابن كَيْسَان : حقَّا وعَدْلاً؛ نظيرُه : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } [ التوبة : 107 ] ، وقيل : هو تَقْرِيبُ الأمْر من الحقِّ ، لا القَضَاءُ على أمْرِ الحُكم .
ثم قال : « أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم » أي : من النِّفَاقِ والغَيْظِ والعَدَاوة .

ثم قال : « فأعرض عنهم » وهذا يُفيدُ أمْرَيِن :
الأوّل : أن لا يَقْبَل مِنْهُم العَذْر ويَصْبِر على سُخْطِهِ ، فإن مَنْ لا يَقْبَلُ العُذْرَ فقد يُوصَفُ بأنه مُعْرِضٌ عَنْه ، غير مُلْتَفِت إليه .
الثاني : أن هذا يَجْرِي مُجْرَى قوله : اكْتَفِ بالإعْرَاضِ ولا تَهْتِك سَتْرَهُم ، ولا تُظْهِر لَهُم علمك بما في بَوَاطِنهم ، فإنَّ من هَتَكَ سَتْر عُدُوِّه وأَظهر عِلْمَه بما في قَلْبِهِ ، فربما يُجَرِّئُهُ ألاَّ يُبَالِي بإظْهَارِ العَدَاوَة ، فَيَزْدَاد الشَّرُّ ، وإذا تركَهُ على حَالِهِ ، بَقِيَ في خَوْف ووجَلٍ فَيَقِلُّ الشَّرُّ .
ثم قال : « وعظهم » أي : ازجرهم عن النِّفَاقِ والمكْرِ والمكيدَة والحَسَد والكَذِبِ ، وخَوِّفْهُم بعقاب الله - تعالى- في الآخِرَةِ ، كما قال- تعالى- : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] .
ثم قال- تعالى- : « فقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً » .
قوله تعالى : « في أنفسهم » فيه أوجه :
الأول : أن يتعلّق ب « قل » ، وفيه معنيان :
الأوّل : قُلْ لهم خالياً لا يكُونُ معهم احد؛ لأن ذلك أدعى إلى قبول النصيحة .
الثاني : قل لهم في معنى أنفسهم المنطوية على النفاق قولاً يبلغ بهم ما يزجرهم عن العود إلى النفاق .
الثالث من الأوجه : أن يتعلق ب « بليغاً » ، أي قولاً مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً ، ويستشعرون به استشعاراً . قال معناه الزمخشري ، ورد عليه أبو حيان بأن هذا مَذْهَبُ الكُوفيين؛ إذ فيه تقدِيم مَعْمُول الصِّفَةِ على المَوْصُوف ، لو قُلْت : « جَاء زَيْداً رجلٌ يَضْرِبُ » ، لم يَجُزْ عند البَصْريين لأنه لا يتقدم المعْمُول إلا حَيْثُ يَجُوزُ تَقْدِيم العَامِل ، والعَامِلُ هُنَا لا يجوزُ تَقْدِيمُه؛ لأن الصِّفَة لا تَتَقَدَّم على المَوْصُوف ، والكُوفِيُّون يُجِيزُون تَقْديم مَعْمُول الصِّفَة على المَوْصُوف ، وأمَّا قَوْل البَصْريَّين : إنه لا يَتَقدَّم المَعْمُول إلا حَيْثُ يَتَقدَّم العَامِل فيه بَحْثٌ؛ وذلك أنَّا وجدْنا هذه القَاعِدَة مُنْخَرمَة في نَحْوِ قوله : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 ، 10 ] ف « اليتيم » مَعْمُول ل « تقهر » و « السائل » مَعْمُول ل « تنهر » ، وقد تقدَّمَا على « لاَ » النَّاهِيَة والعَامِل فيهما لا يجوزُ تَقْدِيمُه عليهما؛ إذا المجْزُوم لا يتَقَدَّم على جَازِمِه ، فقد تَقَدَّم المَعْمُول حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل .
وكذلك قَالُوا في قوله : [ الطويل ]
1819- قنَافِذُ هَدَّاجُونَ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ ... بِمَا كَانَ إيَّاهُمْ عَطِيَّةُ عَوَّدَا
خَرَّجوا هذا البَيْتَ على أنَّ في « كان » ضَمِيرَ الشَّأنِ ، و « عَطِيَّة » مبْتَدأ و « عَوَّدَ » خبره حتى لا يلي « كان » معْمُول خَبَرها ، وهو غير ظَرْفٍ ولا شِبْهُه ، فَلَزمَهُم من ذِلك تَقْديم المَعْمُول ، وهو « إيَّاهُم » حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل؛ لأن الخَبَر مَتَى كَانَ فِعْلاً رافعاً لضمِيرٍ مُسْتَتِرٍ ، امْتَنَع تَقْدِيمه على المُبْتَدأ ، لئلا يَلْتبس بالفَاعِلِ ، نحو : زَيْد ضَرَب عَمْراً ، وأصل مَنْشَأ هذا البَحْث تَقْدِيم خَبَر « لَيْس » عليها ، أجازه الجُمْهُور؛ لقوله -تعالى- :

{ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] ووجه الدَّليل أن « يَوْم » مَعْمُولٌ ل « مصروفاً » وقد تَقَدَّم على « لَيْسَ » ، وتقديم المَعْمُول يؤذِنُ بتقديم العَامِلِ ، فعورضوا بما ذَكَرْنَا .
فصل في تفسير القول البليغ
قيل المراد ب « القَوْل البَلِيغ » : التَّخْوِيف باللَّه -عزَّ وجَلَّ- ، وقيل : تَوعَّدَهُم بالقَتْل إن لم يَتُوبُوا .
وقال الحَسَن : القَوْلُ البَلِيغُ أن يَقُول لَهُم : إن أظْهَرْتم ما في قُلُوبكُم من النِّفَاقِ ، قُتِلْتُم؛ لأنه يَبْلُغ في نُفُوسِهِم كُلَّ مَبْلَغٍ .
وقال الضَّحَّاك : « فأعرضْ عَنْهُم وعِظْهُم » في المَلأ [ الأعْلى ] ، « وقل لهم في أنفسهم قولا بليغاً » في السِّرِّ والخَلاَء .
وقيل : هذا مَنْسُوخٌ بآيةِ القِتَالِ .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)

لما أمر - [ تعالى ] - بطاعَةِ الرَّسُول في الآيةِ الأولَى ، رغَّب في هذه الآيةِ مَرَّة أخْرَى .
قال الزَّجَّاج : كلمة « مِنْ » هَهُنَا صِلَة زَائِدَة ، والتَّقْدِير : وَمَا أرْسلْنَا رَسُولاً .
قوله : « ليطاع » هذه لاَمُ كي ، والفِعْلُ بَعْدَها مَنْصُوب بإضْمَار « أن » ، وهذا استِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ من المَفْعُول لَهُ ، والتَّقْدِير : ومَا أرسَلْنَا من رسُولٍ لشَيْءٍ من الأشْيَاءِ إلاَّ للطَّاعَةِ .
و « بإذن الله » . فيه ثلاثَةَ أوْجُه :
أحدها : أنه يَتَعَلَّق ب { لِيُطَاعَ } والبَاءُ للسَّبَبِيَّة ، وإليه ذَهَب أبُو البَقَاءِ؛ قال : وقيل : مَفْعُولٌ به ، أي : بِسَبَبِ أمْر اللَّه .
الثاني : أن يَتَعَلَّق ب « أرسلنا » أي : وما أرسلنا بأمْرِ اللَّه ، أي : بِشَرِيعَته .
الثالث : أن يتعلَّق بِمحْذُوفٍ على أنه حالٌ من الضَّمِير في « يطاع » وبه بَدأ أبُو البَقَاء .
وقال ابن عَطِيَّة : وعلى التَّعْلِيقَيْنِ؛ أي : تعليقُهُ ب « يطاع » أو ب « أرسلنا » ، فالكلام عَامٌّ واللَّفْظُ خاصٌّ ، المعنى لأنَّا نَقْطَع أن اللَّه قد أرَاد من بَعْضِهِم ألاَّ يُطيعُوه ، ولذلِك تأوَّل بَعْضُهم الإذْن بالعِلْمِ ، وبعضهم بالإرْشَادِ .
قال أبو حَيَّان : ولا يَحْتَاجُ لذلك؛ لأن قَوْلَه عامُّ اللَّفْظِ مَمْنُوع؛ وذلك أن « يطاع » مبني للمَفْعُول فيقدر ذَلِك الفَاعِل المَحْذُوف خَاصاً ، وتقديره : إلاَّ ليُطيعَه من أراد [ الله ] طاعَتَهُ .
فصل
قال الجُبَّائِيّ : معنى الآية : وما أرْسَلْنَا من رسُول إلاّ وأنا مُريدٌ ، أن يُطَاعَ ويُصَدَّق ، ولم أرسِلْهُ لِيُعْصَى ، [ و ] وهذا يَدُلُّ على بُطْلان مَذْهَب المجَبَّرة؛ لأنَّهُم يَقُولون : إنه -تعالى- أرْسَل رُسُلاً لتُعْصَى ، والعَاصي من المَعْلُومِ أنَّهُ يَبْقَى على الكُفْرِ ، وقد نَصَّ الله -تعالى- على كَذبِهِم في هَذِه الآيَة ، وكان يَجِبُ على قَوْلِهِم أن يكُون قَدْ أرْسَل الرُّسُل لِيُطاعُوا وليُعْصُوا جَميعاً ، فدلَّ ذلك على أنَّ مَعْصِيتَهُم للرُّسُل غير مُرَادةٍ لله -تعالى- ، وأنَّه ما أرَادَ إلا أنْ يُطاعَ .
والجواب من وُجُوه :
الأول : أن قوله : « إلا ليطاع » يكفي في تحقيق مَفْهُومه أن يُطيعَهُ مُطِيعٌ واحِدٌ ، لا أن يُطيعَه جميع النَّاسِ في جَمِيع الأوْقَاتِ ، وعلى هذا فَنَحْنُ نَقُولُ بموجبه؛ وهو [ أن ] كُلَّ ما أرْسَلَهُ الله -تعالى ] ، فقد أطَاعَهُ بَعْضُ النَّاسِ في بَعْضِ الأوْقَاتِ ، اللَّهُم إلا أن يُقَالَ : تَخْصِيص الشَّيْء بالذِّكْر يَدُلُّ على نَفْيِ الحُكْمِ همَّا عدا ، والجُبَّائِيّ لا يَقُول بِذَلِك ، فَسَقَطَ هذا الإشْكَال .
الثاني : يجُوز أن يكُون المُرادُ به : أن كُلَّ كافِرٍ لا بُدَّ وأن يُقرّ [ به ] عند مَوْتهِ؛ لقوله -تعالى- : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } [ النساء : 159 ] أو يحمل ذَلِكَ على إيمانِ الكُلِّ بهم يَوْم القِيَامَة ، ومن المَعْلُوم أن الوَصْفَ في جَانِب الثُّبوتِ ، يكْفي في حُصُول مُسَمَّاه في بَعْضِ الصُّوَر وفي بعض الأحْوَالِ .
الثالث : أن العِلْمَ بعدم الطَّاعَةِ مع وُجُودِ الطَّاعَةِ مُتَضَادَّان ، [ والضِّدَّان ] لا يَجْتَمِعَانِ ، وذلك العلْم مُمْتَنِع العَدَم ، فكانت مُمْتَنِعَة الوُجُود ، والعَالِم بكون الشَّيءِ ممتنع الوُجُود لا يكُونُ مُرِيداً له؛ فثبت بهذا البُرْهَانِ القَاطِع أن يَسْتَحيلَ أن يُريدَ اللَّهُ من الكَافِرِ كَوْنَه مُطِيعاً ، فوجَبَ تأويلُ هذه اللَّفْظَة؛ بأن يكون المُرَاد من الكَلاَمِ لَيْس الإرَادَةَ بل الأمْر ، والتَّقْدِير : وما أرسَلْنَا من رسول إلا ليُؤمَر النَّاسَ بِطَاعَتِهِ .

فصل
استَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّه لا يُوجَد شَيْءٌ من الخَيْرِ والشَّرِّ؛ والكُفْرِ والإيمانِ ، والطَّاعَةِ والعِصْيَان ، إلا بإرَادَة الله؛ لقوله : « إلا ليطاع بإذن الله » ولا يمكنُ أن يكُون المُرَادُ من هَذَا الإذْنِ : الأمْر والتَّكْليف؛ لأنَّه لا مَعْنَى لكونه رَسُولاً إلا أنَّ الله -تعالى- أمر بِطَاعته ، فلو كان [ المُرَادُ ] من الإذْنِ هذا لصَارَ التَّقْدِير : وما أذِنَّا في طَاعَةِ من أرْسَلْنَاهُ إلا بإذْنِنَا ، وهو تَكْرَاراٌ قَبِيحٌ؛ فوجب حمل الإذْنِ على التَّوْفِيقِ والإعَانَةِ ، فيصير التَّقْدِير : وما أرْسَلْنَا من رسُولٍ إلا ليُطَاع بتَوْفِيقِنَا وإعانَتِنَا ، وهذا تَصْرِيحٌ بأنه -تعالى- ما أرَادَ من الكُلِّ طاعة الرَّسُول ، بل لا يُريدُ ذلك [ إلا منَ الَّذِي وفَّقَهُ اللَّه لذلك وهم المؤمِنُون ، فما من لم يُوَفِّقْهُ ، فللَّهِ -تعالى- ما أرَادَ ذَلِكَ منهم ] .
فصل
دلَّت هذه الآيةُ على أن الأنْبِيَاء - [ عليهم الصلاة والسلام ] - مَعْصُومُون عن الذنُوبِ؛ لأنَّهَا دَلَّت على وُجُوبِ طاعَتِهِم مطلقاً ، فلو أتَوْا بِمَعْصِيةٍ ، لوجَبَ الاقْتدَاء بهم في تِلْكَ المعصِيَة ، فتَصِيرُ وَاجِبةً علينا ، وكَوْنُها معْصِيَةً يجب كوْنُهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْنَا ، فيلزم تَوَارُد الإيجَابِ والتَّحْرِيم على الشَّيْءِ الوَاحِدِ ، وهو مُحَال .
فإن قيل : ألَسْتُم في الاعْتِرَاض على الجُبَّائِيّ ذكَرْتُم أن قوله : « إلا ليطاع » لا يفيد العُمُوم ، فَكَيْفَ تَمَسَّكتُم به في هَذِه المَسْألة ، مع أن [ هَذَا ] الاسْتِدْلاَل لا يَتِمُّ إلا مَعَ القَوْلِ بأنَّهَا تفيد العُمُوم .
فالجواب : ظاهر [ هذا ] اللَّفْظِ يُوهِمُ العُمُوم ، وإنما تَرَكْنَاهُ في تلك المَسْألَةِ؛ للدَّلِيلِ القَاطِعِ الَّذِي ذكَرْنَاه ، على أنه يَسْتَحِيلُ منه -تعالى- أن يُريدَ الإيمَان من الكَافِرِ ، فلأجْل ذلك المُعَارِض القَاطِعِ صَرَفْنَا الظَّاهِر عن العُمُوم ، ولَيْس هَهُنَا بُرْهَان قاطِعٌ عَقْلِيٌّ يوجب القَدْحَ في عِصْمَة الأنبياء -عليهم السلام- ، فظهر الفَرْق .
قوله : « ولو أنهم » قد تقدم الكلام على « أنَّ » الوَاقِعَة بعد « لَوْ » ، و « إذْ » ظَرْفٌ معمول لخبرِ « أنَّ » وهُو « جاءك » ، وقال : « واستغفر لهم الرسول » ، ولم يقل : واسْتَغْفَرْت ، خُرُوجاً من الخِطَابِ إلى الغَيْبَة ، لما فِي هذا الاسْمِ الظَّاهِر من التَّشْرِيف بوَصْفِ الرِّسَالة ، إجْلالاً للرَّسُول -عليه السلام- و « وَجَدَ » هنا يُحْتَمِل أن تكُون العِلْمِيَّة ، فتَتَعَدَّى لاثْنَيْن والثاني : « تواباً » ، وأن تكون غير العِلْميَّة ، فتتعدى لِوَاحِدٍ ، ويكون « تواباً » ويحتمل أن يَكُون خَبَراً ثَانياً في الأصْلِ ، بنَاءً على تعَدُّد الخَبَر وهو الصَّحيح ، فلما دَخَل النَّاسِخ ، نَصَب الخَبَر المُتَعَدَّد ، تقول : زَيْد فَاضِلٌ شاعِرٌ فَقِيهٌ عَالِمٌ ، ثم تقول : علمت زَيْداً فَاضِلاً شَاعِراً فَقِيهاً عَالِمَاً ، إلا أنَّهُ لا يَحْسُن أن يُقَال هُنا : شاعراً : مفعول ثالِث ، وفَقِيهاً [ مفعول ] رابع ، وعَالِماً : خامس .

فصل : سبب نزول الآية
في سَببِ النُّزُول وَجْهَان :
الأول : أن مَنْ تقَدَّم ذِكْرُه مع المُنَافِقِين ، عندما ظَلَمُوا أنْفُسَهُم بالتَّحَاكُمِ إلى الطَّاغُوت ، والفِرَار من التَّحَاكُمِ إلى رسُولِ الله - [ صلى الله عليه وسلم ] ، [ لو جَاءُوا ] للرَّسُول ، وأظْهَرُوا النَّدَم على ما فَعَلُوهُ ، وتَابُوا عَنْهُ واسْتَغْفَرُوا عنه ، واسْتَغْفَر لهم الرَّسُول بأن يَسْألَ اللَّه أن يَغْفر لَهُم ، وجَدُوا اللَّه تَوَّاباً رَحِيماً .
الثاني : قال الأصم : « إن قَوْماً من المُنَافِقِين اتَّفَقُوا على كَيْد الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- ، ثمَّ دَخَلُ ا عليه لأجْل [ ذلك الغَرَضِ ، فأتَاهُ جِبْرِيل -عليه السلام- فأخبرهُ بِه ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن قوماً ] دَخَلُوا عليه لأجْل يُريدُون أمْراً لا ينَالُونَه ، فليقُومُوا وليَسْتَغْفِرُوا اللَّه حَتَّى أسْتَغْفِر لهم ، فلَمْ يَقُومُوا ، فقال : ألا تَقُومُون؛ فلم يَفْعَلُوا ، فقال صلى الله عليه وسلم : قُمْ يا فُلانُ ، قُمْ يا فُلاَنُ ، حَتَّى عدَّ اثْنَيْ عَشَر رَجُلاً منهم ، فقاموا وقَالُوا : كُنَّا عَزَمْنَا على ما قُلْتَ ، ونَحْنُ نَتُوب إلى اللَّهِ من ظُلْمِنَا أنْفُسِنَا ، فاسْتَغْفِرْ لَنَا .
فقال : الآن اخْرُجُوا ، أنا كُنْتُ في بَدْءِ الأمْرِ أقْرَبُ إلى الاسْتِغْفَارِ ، وكان اللَّهُ أقْرَبُ إلى الإجَابَةِ ، اخْرُجُوا عَنِّي » .
فإن قيل : ألَيْسَ لِوَ اسْتَغْفَرُوا اللَّه وتَابُوا على وَجْهٍ [ صَحِيحٍ ] ، لكَانَت تَوْبَتُهم مَقْبُولة ، فما فَائِدَة ضَمِّ اسْتَغْفَار الرَّسُولِ إلى اسْتِغْفَارِهِم؟
فالجواب من وُجُوهٍ :
أحدُهَا : أن ذلك التَّحَاكُم إلى الطَّاغُوتِ كان مُخَالَفَةً لحُكْمِ اللَّه -تعالى- ، وكانَ إسَاءَةً للرَّسُول -عليه السلام- وإدْخَالاً للغَمِّ في قَلْبِهِ ، ومن كَانَ ذَنْبُهُ كَذَلِك ، وجَبَ عليه الاعْتِذَارُ عن ذَلِك لِغَيْرِه؛ فلهذا المَعْنَى وَجَب عليهم إظهار طَلَب الاسْتِغْفَارِ [ من الرَّسُولِ ] .
ثانيها : أنَّهُم لمَّا لم يَرْضوا بحُكْم الرَّسُول -عليه السلام- ، ظهر مِنْهُم التمَرُّد ، فإذا نَابُوا ، وَجَبَ عليهم أن يَفْعَلُوا ما يُزيلُ عنهم ذلك التَّمَرُّد؛ بأن يَذْهَبُوا إلى الرَّسُول ويَطْلُبُوا مِنْهُ الاسْتِغْفار .
وثالثها : أنهم إذا أتَوا بالتَّوْبَةِ أتوا بها على وجْهِ خَلَلٍ ، فإذا انْضَمَّ إليها اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ ، صارَتْ مُحَقَّقَة القَبُولِ ، وهذه الآيَةُ تَدُلُّ على أن اللَّه -تعالى- يَقْبَلُ التَّوْبَة؛ لقوله : « لوجدوا الله تواباً رحيماً » .

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)

في سَبَي النُّزُولِ قَوْلان :
الأوّل : قال عَطَاء ومُجَاهِد والشَّعْبِي : نزلت في قِصَّة المُنَافِقِ واليَهُودِيّ اللَّذين اخْتَصَما إلى عُمر . الثاني : روي عن عُرْوَة بن الزُّبَيْر؛ « أنه رجُلاً من الأنْصَار قد شهد بَدْراً مع رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شِرَاجٍ مِنَ الحرَّة ، وكانَا يَسْقِيَانِ به كلاهما ، فقال رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم للزُّبَيْر : اسْقِ يا زُبَيْر ، ثم أرْسِلْ إلى جَارِكَ ، فغَضِب الأنْصَارِيُّ ، وقال : أن كان ابنُ عَمَّتِكَ؟ فتلوّن وَجْهُ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزُّبَيْر : اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجع إلى الجِدْرِ » واعلم [ أن الحكم ] أن مَنْ كَان أرْضُهُ أقْربَ إلى فَمِ الوَادِي ، فهو أوْلَى [ بأَوَّل ] المَاءِ ، وحَقُّهُ تَمَام السَّقْي ، فالرَّسُول عليه الصلاة والسلامِ أَذِن للزُّبَيْر في السَّقْي على وَجْهِ المُسَامَحَةِ [ ابْتدَاء ] ، فلما أسَاءَ خَصْمُهُ الأدَب ، ولم يعرف حَقَّ ما أمَرَهُ به الرَّسُولُ -عليه الصلاة والسلام- من المُسَامَحَةِ لأجْلهِ ، أمَرَهُ النَّبِي -عليه السلام- باسْتِيفَاءِ حَقِّه على التَّمَامِ ، وحَمْل خَصْمِهِ على مُرِّ الحَقِّ .
قال عروة بن الزُّبَيْر : [ أحسبُ هذه الآية نزلَتْ في ذلِك ، وروي أن الأنْصَارِي الذي خاصَمَ الزُّبَيْر ] كان اسْمُهُ حَاطِب بن [ أبِي ] بَلْتعة ، فلما خَرَجَا مَرَّ على المِقْدَاد . فقال : لمن كان القَضَاءُ فقال الأنْصَارِيّ : قَضَى لابْن عَمَّتِهِ ، ولَوَى شِدْقَيْه ، فَفَطِنَ له يَهُودِيٌّ كان مع المِقْدَادِ ، فقال : قَاتَل اللَّه هَؤلاء ، يَشْهَدُون أنَّهُ رسول اللَّهِ ثم يتهمُونَهُ في قَضَاء يَقْضِي بَيْنَهُم ، وأيْمُ اللَّه لقد أذْنَبْنَا ذَنْباً مَرَّة في حَيَاةِ مُوسَى -عليه الصلاة والسلام- فدعانا مُوسَى إلى التَّوْبَةِ مِنْهُ ، فقال : فاقْتُلُوا أنفُسَكُم ففعلنا ، فبلغ قَتْلاَنا سَبْعِين ألْفاً في طَاعَةِ رَبِّنا ، حتىَّ رَضِيَ عَنَّا . فقال ثَابِت بن قَيْس بن شماس : أما واللَّه إنَّ الله لَيَعْلَمُ منّي الصِّدْق ، ولو أمَرَنِي مُحَمَّد ن أقْتُل نَفْسِي ، لَفَعَلْتُ ، فأنزل اللَّه في شَأنِ حَاطِب بن أبِي بَلْتَعَة هَذِه الآية .
قوله : « فلا وربك لا يؤمنون » فيه أربعة أقْوالٍ :
أحدها : وهو قَوْلَ ابن جَرِير : أن « لا » الأولَى ردّ لِكَلاَم تَقَدَّمَها ، تقديرُه : فلا تَعْقِلُون ، أو لَيْس الأمْر كما يَزْعُمُون من أنَّهمُ آمَنُوا بما أنْزِل إلَيْك ، وهُم يُخَالِفُون حُكْمَكَ ، ثم اسْتأنَفَ قَسَماً بعد ذَلِك ، فعلى هذا يَكُون الوَقْفُ على « لاَ » تَامّاً .
الثاني : أن « لا » الأولَى قُدِّمت على القَسَمِ اهْتِمَاماً بالنَّفْي ، ثم [ كُرِّرت ] توكيداً للنَّفْي ، وكان يَصِحُّ إسقاط الأولى ، ويَبْقَى مَعْنَى النَّفْي ، ولكن تَفُوت الدَّلالة على الاهْتِمَامِ المذكور ، [ وَكَان يَصِحُّ إسْقَاطُ الثَّانِية ويبقى مَعْنَى الاهْتِمَامِ ، ولكن ] تفُوت الدَّلالةَ على النَّفْي ، فَجَمَعَ بينهما لذلك .
الثالث : أن الثَّانِية زَائِدةٌ ، والقَسَم معْتَرِضٌ بين حَرْفَي النَّفْي والمَنْفِيّ ، وكان التقدير : فلا يُؤمِنُون وَرَبُّك .
الرابع : أن الأولى زائدةٌ ، والثَّانِيَة غير زائدة ، وهو اخْتِيَار الزَّمَخْشَرِي؛ فإنه قال : « لا » مزيدةٌ لتأكِيد مَعْنَى القَسَمِ؛ كما زِيدَتْ في

{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] لتأكِيد وُجُوب العِلْم ، و « لا يؤمنون » جواب القَسَم .
فإن قلت : هلاّ زَعَمْتَ أنَّها زَائِدة لتظاهر لا في لا يؤمنون؟ « .
قلت : يَأبَى ذلك اسْتِوَاء النَّفْيِ والإثْبَات فيه؛ [ وذلك لقوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ الحاقة : 38-40 ] يعني : أنه قد جاءَت » لاَ « قبل القَسَمِ؛ حَيْثُ لم تكُن » لا « موجودة في الجَوَابِ ] ، فالزَّمَخْشَرِي يرى : أن » لاَ « في قَوْلِهِ -تعالى- : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } [ الحاقة : 38 ] أنها زائدَة أيضاً لتأكيدِ مَعْنَى القَسَم ، وهو أحَدُ القَوْلَيْن .
والقول الآخر : كَقَوْلِ الطَّّبَرِي المتقَدِّم؛ ومثل الآيَةِ في التَّخَارِيج المَذْكُورة قول الآخر : [ الوافر ]
1820- فَلاَ وَاللَّه لا يُلْفى لما بِي ... ولا لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ
قوله : » حتى يحكموك « غاية مُتَعلِّقَةٌ بقوله : » لا يؤمنون « أي : ينْتَفِي عنهم الإيمَانُ إلى هَذِه الغَايَةِ ، وهي تَحْكِيمُك وَعَدم وُجْدَانِهِم الحَرَج ، وتسليمهم لأمْرِك ، والتَفَتَ في قوله : » وربك « من الغَيْبَةِ في قوله : واستغفر لهم [ الرسول ] رجُوعاً إلى قوله : { ثُمَّ جَآءُوكَ } [ النساء : 62 ] .
قوله : { شَجَرَ } قرأ أبو السَّمَّال : » شَجْرَ « بسكون الجيمِ هَرَباً من تَوَالِي الحَرَكَاتِ ، وهي ضَعيفَةٌ؛ لأن الفَتْح أخو السُّكُون ، و » بينهم « ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ ب { شَجَرَ } ، هذا هو الصَّحيحُ .
وأجاز أبو البَقَاءِ فيه : أن يكُون حالاً ، وجعلَ في صَاحِب هذه الحَالِ احْتَمَالَيْنِ :
أحدهما : أن يكون حالاً من » مَا « المْصُوَلَة .
والثاني : أنه حَالٌ من فَاعِل { شَجَرَ } وهو نَفْس الموصُول أيضاً في المَعْنَى ، فعلى هَذَا يتعلَّق بمَحْذُوفٍ .
فصل في معنى التشاجر
يقال : شَجَر يَشْجُرُ شُجُوراً وشَجْراً : إذا اخْتَلَف واخْتَلَطَ ، وشَاجَرَهُ : إذا نَازَعَهُ ، وذلك لتداخل [ الكلام بعضه في بعض عند المُنازعةِ ، ومنه يقال لخشبات الهَوْدج : شِجَار ] ، لتَداخُل بعضها في بعض .
قال أبو مُسلم : وهو مأخُوذٌ عندي من التِفَافِ الشَّجَرِ؛ فإن الشَّجَرَ يتداخلُ بَعضُ أغْصَانه في بَعْضٍ .
قوله { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ } عطفُ على ما بَعْدَ » حتى « ، و » يجدوا « يحتمل أن تكُون المُتعدِّية لاثْنَين [ فيكون الأوَّل : » حَرَجاً « ، والثاني : الجار قَبْلَه ، فيتعلَّق بمحذُوفٍ ، وأن تكُون المتعدِّية لوَاحِدٍ ] فيجوز في { في أَنْفُسِهِمْ } وجْهَان :
أحدهما : أنه مُتعلِّق ب { يَجِدُواْ } تعلُّق الفَضَلاتِ .
والثاني : أن يتعلَّق بمَحْذُوفٍ على أنه حَالٌ من { حَرَجاً } ؛ لأن صِفَة النَّكِرَة لما قُدِّمَت عليها انْتَصَبت حَالاً .
قوله { مِّمَّا قَضَيْتَ } فيه وجهان :
أحدهما : نه مُتَعَلِّق بنفس { حَرَجاً } ؛ لأنَّك تقُول : خرجْتُ من كَذَا .
والثاني : أنه متعلِّق بمحْذُوفٍ فهو في مَحَلِّ نَصْبٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل { حَرَجاً } ، و » مَا « يجُوزُ أن تكون مصدريَّة [ وأن تكُون بمَعْنى الَّذِي ، أي : حَرَجاً من قَضَائِك ، أو مِن الَّذي قضََيْتَهُ ] ، وأن تكون [ نكرة ] موصُوفة ، فالعَائِدُ على هَذَيْن القَوْلَيْن مَحْذُوفٌ .

فصل
أقْسَم الله -تعالى- على أنَّهُم لا يَصِيرُون مُؤمنين إلا عِنْد شَرِائِط :
أولُها : { حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ من لَمْ يَرْض بحُكْم الرَّسُول ، - [ عليه الصلاة والسلام ] - لا يَكُون مؤمناً .
وثانيها : قوله : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ [ في أَنْفُسِهِمْ ] حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } .
قال الزجاج : لا تضيقُ صُدورُهُم من أقْضِيَتِك ، وقال مُجاهِد : شكّاً ، وقال الضَّحَّاك : إثْماً ، أي : يأثمُون بإنْكَارِهِم .
وثالثها : قوله : { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } أي : ينقادوا للأمْرِ كحَالَ الانْقِيَادِ ، واعلم أن قوله : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } المراد منه : الانْقِيَاد في البَاطِنِ ، وقوله { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } المُرَاد منه : الانْقِيَادُ في الظَّاهِرِ ، والحَرَجُ على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى الشَّكّ؛ كهذه الآية ، [ و ] مثله : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [ الأعراف : 2 ] أي : شك .
والثاني « بمعنى الضِّيق؛ قال -تعالى- : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] أي ضيقٍ .
الثالث : بمعنى الإثْمِ؛ قال : -تعالى- : { وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ } [ التوبة : 91 ] أي : إثْمٌ .
فصل في عصمة الأنبياء
دلَّت هذه الآيةُ على عِصْمَة الأنْبِيَاء -عليهم السلام- عن الخَطَإ في الفَتَاوى والأحْكَام؛ لأنه -تعالى- أوْجَبَ الانْقِيَاد لحُكْمِهِم ، وبالغ في ذَلِك الإيَجابِ ، وبيَّن أنه لا بُدَّ من حُصُولِ الانْقِيَاد في الظَّاهِرِ والقَلْبِ ، وذلك يَنْفِي صُدُورَ الخَطَإ عَنْهُم ، فَدَلَّ ذلك على أنَّ قَولَه : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، وفتواه في أسْرَى بَدْرٍ ، وقوله : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } [ التحريم : 1 ] ، وقوله : { عَبَسَ وتولى } [ عبس : 1 ] كل ذلِكَ مَحْمُول على التَّأوِيل .
فصل
قالت المعتزلة : لو كانت الطَّاعَاتُ والمَعَاصِي بَقَضَاء الله -تعالى- لَزِم التَّنَاقُضُ؛ لأن الرَّسُول إذا حَكَم على إنْسَانٍ بأنه لا يَفْعلُ كَذَا ، وجب على جَمِيع المكَلَّفين الرِّضَا بذلك؛ لأنه قضاءُ الرّسُول ، والرِّضى بقَضَاءِ الرَّسُولِ وَاجِبٌ [ لهذه الآية ، ثم إن ذلك المكلَّف فعل ذَلِكَ بقَضَاءِ اللَّهِ ، والرِّضَا بقضَاء اللَّه وَاجِبٌ ] فيَلْزَمُ أن يَجِب على جَمِيع المكلَّفِين الرِّضَا بِذلِكَ الفِعْل ، لأنه قضاء اللَّه ، فوجب أن يَلْزَمَهُم الرِّضَا بالفِعْلِ والتَّرْكِ مَعاً ، وذلك مُحَالٌ .
والجوابُ : أن المُرَاد من قَضَاءِ الرَّسُول : الفَتْوى بالإيجَابِ والمُرَاد من قَضَاء الله : التكوِين والإيجَادِ ، وهما مفهومان مُتغايَران ، فالجَمْعُ بينهما لا يفضي إلى التَّنَاقُض .

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)

هذه الآيةِ مُتَّصِلَة بما تقدَّم من المُنَافَقِين ، وترغيب لَهُم في تَرْكِ النِّفَاقِ ، والمَعْنَى : أنَّا لو شَدَّدْنا التكلِيف على النَّاسِ؛ نحو أن نأمُرَهُم بالقَتْلِ ، والخُرُوج عن الأوْطَانِ ، لَصَعُبَ ذلك عليهم ولما فَعَلَهُ إلا قَلِيلٌ ، وحينئذٍ يظهر كُفْرُهُم ، فلم نَفْعَلْ ذلك رَحْمَةً مِنَّا على عِبَادِنا ، بل اكْتَفَيْنَا بتكْلِيفِهِم في الأمُور السَّهْلَة ، فَلْيَقْبَلُوهَا ولْيَترُكُوا التَّمرُّد .
نزلت في ثَابت بن قَيْس بن شِمَاس ، نَاظَر يهُودِيَّا . فقال اليَهُودِيّ : إن مُوسَى أمَرَنا بقَتِْ أنْفُسِنَا فَفَعَلْنَا ذَلِك ، ومحمد يأمرُكُم بالقِتَال فتكْرَهُونَهُ . فقال ثابت بن قَيْس : لو أنَّ مُحَمَّداً أمَرَنِي بقَتْل نفسي ، لفَعَلْت ذلك فنزلت الآيةُ ، وهو من القَِيلِ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ .
وقال الحسن ومُقاتِل : لماّ نَزَلَت هذه الآيةُ ، « قال عُمَر ، وعمَّار بن يَاسِر ، وعبد لله بن مَسْعُود ، وناسٌ من أصْحَاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليلُ : واللَّه لَوْ أمَرَنَا لفعلنا ، فالحَمْدُ للَّه الذي عَافَانا اللَّه فبلغ ذَلِك النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال » إنَّ مِنْ أمَّتِي لَرِجَالاً ، الإيمانُ أثْبَتُ في قُلُوبِهِم مِنَ الجِبَالِ الرَّواسِي « .
والضَّمِيرُ في قوله : { كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } فيه قولان :
الأوّل : قال ابن عبَّاسٍ ومُجَاهِد : إنه عَائِد إلى المُنَافِقين لأنه -تعالى- كَتَبَ على بَنِي إسرائيلَ أن يَقْتُلوا أنْفُسَهم ، وَكَتَب على المُهَاجِرِين أن يَخْرُجُوا من ديارِهم ، فقال : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا } على هؤلاءِ المُنَافِقِين القَتْل والخُرُوجَ ، ما فَعلهُ إلا قَلِيلٌ ريَاءً وسُمْعَة ، وهذا اخْتِيَار الأصَمِّ والقَفَّال .
[ القول ] الثاني : المراد : لو كَتَب اللَّه على النَّاسِ ما ذَكَر ، لم يَفْعَلْه إلا قَلِيلٌ منهم ، فَيَدْخُل فيه المُؤمِنُ والمُنَافِق .
قوله : { أَنِ اقتلوا } » أن « فيها وجهان :
أحدهما : أنها المُفَسِّرة؛ لأنَّها أتت بعد ما هُو بمعنى القَوْلِ لا حَرُوفهِ ، وهو أظْهَر .
الثاني : أنها مَصْدَريَّة ، وما بَعْدَها من فِعْل الأمْرِ صِلَتُها ، وفيه إشْكَالٌ؛ من حيث إنَّه إذا سُبك منها ومِمّا بَعْدَها مَصْدرٌ ، فأتت للدِّلالةَ [ على الأمر ، ألا تَرَى أنَّك إذا قُلْتَ : كتَبْتُ إلَيْه أنْ قُمْ فيه من الدَّلالَةِ ] على طَلَبِ القِيَام بطريق الأمْرِ ، ما لا في قَوْلِك : كَتَبْتُ إليه القِيَام ، ولكنَّهمُ جَوَّزوُا ذلك واسْتَدَلُّوا بقولِهِم : كَتَبْتُ إليه بأن قُمْ . ووجه الدلالة : أن حَرْفَ الجَرِّ لا يُعَلَّق .
وقرأ أبو عمرو : بكسر نُونِ » أن « وضَمّ واو » أو « ، قال الزَّجَّاج : ولست أعرف لِفَصْل أبي عَمْروٍ بين هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ خَاصيَّة إلاّ أن يَكُون رِوَايَةً .
وقال غيره : أمّا كَسْر النُّونِ؛ فلأن الكَسْرَ هُو الأصْلُ في التِقَاء السَّاكِنَيْن ، وأما ضَمُّ الواو فللإتبَاعِ؛ لأن الضَّمَّة في الواوِ أحسن؛ لأنَّها تُشْبِه وَاوَ الضَّمِير ، نحو : { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل } [ البقرة : 237 ] وكَسَرَهُمَ حَمْزَة وعَاصِم؛ لالْتِقَاء السَّاكِنَيْن ، وضَمَّهُمَا ابن كَثِير ، ونَافِع [ وابن عامر ] والكسائي؛ للاتبَاعِ فيهما .
قوله { مَّا فَعَلُوهُ } .

الهاء يُحْتَمَلُ أن تكُون ضمير مَصْدر { اقتلوا } ، أو { اخرجوا } أي : ما فَعَلُوا القَتْل؛ أو ما فَعَلُوا الخُرُوج .
وقال فَخْر الدِّين الرَّازي : تعود إلى القَتْلِ والخُرُوج معاً؛ لأنه الفِعْل جَنْسٌ وَاحِدٌ وإن اخْتَلَفَت ضُرُوبُه .
قال شهاب الدِّين : وهذا بَعيدٌ لنُبُوّ الصِّنَاعة عَنْهُ ، وأجَازَ أبو البقاء أن يَعُود على المكْتُوب ويَدُلُّ عليه : { كَتَبْنَا } .
قوله : « إلاَّ قليلٌ » رفْعُه من وَجْهَيْن :
أحدهما : أنه بَدَلٌ من فَاعِل { فَعَلُوهُ } وهو المخْتَار على النَّصْبِ؛ لأن الكلام غير مُوجِبٍ .
الثاني : أنه مَعْطُوف على ذَلِكَ الضَّمِير المَرْفُوع ، و « إلاَّ » حَرْف عَطْفٍ ، وهذا رأي الكوفِيِّين .
وقرا ابن عامر وجَماعة : { إلاَّ قَلِيلاً } بالنَّصْب ، وكذا هُو في مَصَاحِفِ لأهْل الشَّامِ ، ومصْحَف أنس بن مَالِكٍ ، وفيه وَجْهَان :
أشهرهما : أنه نَصْبٌ على الاسْتِثْنَاء وإن كان الاخْتِيَار الرَّفع؛ لأن المعنى موجُود [ معه كما هُو مَوْجُود ] مع النَّصْب ، ويزيد عليه بمُوَافَقَة اللَّفْظِ .
والثَّاني : أنه صِفَةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ، تقديره : إلا فِعْلاً قليلاً ، قاله الزَّمَخْشَرِي وفيه نَظَرٌ؛ إذ الظَّاهر أن « منهم » صِفَةٌ ل { قَلِيلاً } ، ومَتَى حمل القَلِيل على غَيْر الأشْخَاصِ ، يقلق هذا الترْكِيب؛ إذ لا فَائِدَة حينئذٍ في ذكر « منهم » .
قال أبو علي الفَارِسي : الرَّفْع أقْيَس ، فإن مَعْنَى ما أتَى أحَدٌ إلا زَيْد ، [ وما أتَانِي إلا زَيْد ] واحِدٌ؛ فكما اتَّفَقُوا في قَوْلِهِم : ما أتَاني إلا زَيْدٌ ، على الرَّفع ، وجب أن يكُون قَوْلهُم : ما أتَانِي أحَدٌ إلا زَيْدُ بِمَنْزِلَتِهِ .
قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } تقدم الكَلاَم على نَظِيره ، و « ما » في { مَا يُوعَظُونَ } [ موصولة ] اسميَّة .
والباء في : « بِهِ » يُحْتَمل أن تكُون المُعَدِّية دَخَلَتْ على الموعُوظ به [ والموعوظ به ] على هَذَا هو التَّكَالِيفُ من الأوَامِرِ والنَّوَاهِي ، وتُسَمَّى أوَامِر اللَّه [ تعالى ] ونَوَاهِيه مَوَاعِظ؛ لأنها مقْتِرَنَةٌ بالوَعْد والوَعيد ، وأن تكون السَّبَبِيَّة ، والتقدير : ما يُوعَظُون بسببه أي : بسبب تَرْكِهِ ، ودلَّ على التَّرْكِ المحذوف قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } [ واسم « كان » ضمير عَائِدٌ على الفِعْل المفْهُومَ من قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } ] أي : لكَان فِعْل ما يُوعظون به ، و « خَيْراً » خبرها ، و « شيئاً » تَمْييز ل « أشَدَّ » ، والمعْنَى : أشَدّ تَحْقِيقاً وتَصْديقً لإيمانهم .
قوله : « وإذن » : حرف جَوَابٍ وجَزَاء ، وهل هَذَان المعْنَيَانِ لازمَان لها ، أو تكُون جَوَابَاً فَقَطْ؟ قولان : الأوّل : قَوْل الشلوبين تَبَعاً لظَاهِر قول سيبَويْه .
والثاني : قول الفَارِسيِّ؛ فإذا قال القَائِلُ : أزُورُك غَدَا ، فقلت : إذْن أكرِمُكَ ، فهي عِنْدَهُ جَوَابٌ وجَزَاء ، وإذا قُلْتَ : إذن جواب مُلْغَاة ، فظاهر هذه العِبَارَةِ موافِقٌ لقَوْل الفَارسِيِّ [ وفيه نَظَر؛ لأن الفارسيّ ] لا يقُول في مِثْل هذه الآية إنَّها جَوابٌ فَقَطْ ، وكَونهَا جَوَاباً يَحْتَاجُ إلى شيء مُقَدَّرٍ .
قال الزَّمَخْشَرِيّ : « وإذن » -جواب لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ؛ كأنه قيل : وماذَا يكُون لَهُمْ بعد التَّثْبِيتِ أيضاً؟ فقيل : لو تَثَبَّتُوا لآتَيْنَاهُم؛ لأن « إذَنْ » جوابٌ وجَزَاءٌ .

و { مِّن لَّدُنَّآ } : فيه وَجْهَان :
أظهرهما : أنه مُتعلِّق [ ب { وَءَاتَيْنَاهُمْ } .
والثاني : أنه مُتَعَلِّق ] بمحْذُوفٍ؛ لأنه حالٌ من « أجْراً » لأنَّه في الأصْلِ صِفَة نكرة قُدِّمَت عليها . و « أجْراً » مَفْعُول ثانٍ ل « ءَاتَيْنَاهُم » ، و { صِرَاطاً } مَفْعول ثانٍ ل { لَهَدَيْنَاهُمْ } .
فصل
قال الجُبَّائِي : دَلَّت هذه الآيَةُ على أنَّه -تعالى- لمَّا لم يُكَلِّفْهُم ما يَثْقُلُ عَلَيْهم ، فبأن لا يَكَلِّفَهُم ما لا يُطِيقُونَ أوْلَى .
والجواب : إنَّما لم يُكَلَّفُهم بهذه الأشْيَاءه الشَّاقَّة؛ لأنَّه لو كَلَّفَهُم بها لما فَعَلُوهَا ، ولو لم يَفْعلُوهَا ، لوقَعُوا في العَذَاب ، ثم إنَّه -تعالى- عَلِم من أبِي جَهْلٍ وأبِي لَهَبٍ عدم الإيمانِ ، وأنهم لا يسْتَفِيدُون من التَّكْلِيفِ إلاَّ العِقَاب الدَّائِم ، ومع ذلِك فإنَّهُ كَلَّفَهُم الإيمَان فلمَّ كان جَوَاباً عن هَذَا ، فهو جوابٌ عما ذكَرْت .
فصل : دلالة الآية على عظم الآجر
دلَّت هذه الآيةُ على عِظَمِ هذا الأجْرِ من وُجُوه :
أحدُها : أنه ذَكَر نَفْسه بصيغة العَظَمَةِ ، وهو قوله : { لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ } والمُعْطِي الحكيم إذا ذكَر نَفْسَه ( باللَّفْظِ الدَّالِّ على ) العظمة ، وهو قوله : { وَءَاتَيْنَاهُم } عند الوَعْد بالعَطِيَّة -دلَّ على عِظَم تَِلْك العَطِيَّة .
وثانيها : قوله : { مِّن لَّدُنَّآ } هذا التَّخصيص يَدُلُّ على المُبَالَغَةِ ، كما في قوله : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] .
وثالثها : أنه وَصَفَ الأجْرَ بكَوْنِهِ عَظِيماً ، والذي وَصَفَهُ أعْظَم العُظَمَاء بالعَظَمَةِ ، لا بد وأن يكُون في نِهَاية العِظَم ، قال -عليه الصلاة والسلام- : « [ فيها ] ما لاَ عَيْنٌ رَأتْ ، ولا أذُنٌ سَمِعَتْ ، ولا خَطَر على قَلْبِ بَشَر » .
والمراد ب « الصراط المستقيم » : هو الدِّين الحَقّ؛ لقوله : « وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم » .
وقيل : الصِّرَاط هو الطَّريق من عرصة القيامة إلى الجَنَّة؛ لأنه -تعالى- ذكَرَهُ بعد الثَّوابِ والأجْرِ ، فكان حَمْلُه عليه في هَذَا الموضِع أولى .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75