كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

فصل في بيان حركة الشمس
قال ابن الخطيب : إن الشَّمْس لها نوعان من الحركة :
أحدهما : حَرَكَتُهَا بحسب ذاتِهَا ، وهي إنما تتم في سَنَةٍ كامِلَةٍ وبسبب هذه الحركة تحصلُ السَّنةُ .
والنوعُ الثاني : حركتها بحسب حركة الفلك الأعظم ، وهذه الحركة تَتِمُّ في اليومِ بليلته .
وإذا عُرف هذا فنقول : اللَّيْلُ والنَّهَارُ لا يحصل بحركة الشَّمْس ، وإنَّمَا يحصلُ بسبب حركةِ السَّماءِ الأقصى التي يقالُ لها : العَرْشُ ، فلهذا السبب لمَّا ذكر العَرْشَ بقوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } ربط به قوله : { يُغْشِي الليل النهار } تنبيهاً على أنَّ سبب حُصُول اللَّيْلِ والنَّهارِ هو حركة الفلك الأقصى ، لا حركة الشمس والقمر ، وهذه دقيقةٌ عجيبةٌ .
قوله : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } .
يجوزُ أن يكون مَصْدراً على بابِهِ ، وأن يكُونَ واقِعاً مَوْقِعَ المفعوُولِ به .
« لَهُ الخَلْقُ » ؛ لأنَّهُ خلقهم ، و « الأمْرُ » : يأمر في خلقه بما يشاء قال سفيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ . فرّق الله بين الخلق والأمر ، فمن جمع بَيْنَهُمَا فقد كَفَرَ .
« تَبَارَكَ اللَّهُ » أي : تعالى الله وتعظم .
وقيل : ارتفع ، والمباركُ : المرتفعُ .
وقيل : تَبَارَكَ : تَفَاعَل ، من البَرَكَةِ وهي النَّمَاءُ والزِّيَادَةُ ، أي : البركةُ تكسب ، وتنالُ بذكْرِهِ .
وعن ابن عَبَّاسِ قال : جَاءَ بِكُلِّ بَرَكَةٍ .
وقال الحسنُ : تَجِيءُ البَرَكَةُ من قِبَلِهِ .
وقيل : تبارك : تَقَدَّس ، والقُدْسُ : الطهارة .
وقال المحقِّقُونَ : معنى هذه الصِّفَةِ ، ثبت ودام كما لم يزل ولا يزال ، وأصلُ البركةِ الثُّبُوتُ ويقال : تَباركَ اللَّهُ ولا يقال : يتباركُ ولا مباركٌ؛ لأنَّهُ لم يرد به التَّوقيف .
وقوله : « رَبُّ العَالمينَ » والعالمُ : كلُّ موجود سوى الله تعالى .

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)

لمَّا ذكر الدَّلائلُ الدّالة على كمالِ القُدْرَةِ ، والحكمة ، والرَّحْمَةِ أتبعه بذكر الأعْمَال اللاَّئقةِ بتلك المعارفِ ، وهو الاشتغالُ بالدُّعَاءِ والتَّضَرُّع ، فقوله : « تَضَرُّعاً وخُفْيةً » نُصِبَ على الحال : أي : متضرعين مُخْفين الدُّعَاءَ ليكون أقْرَبَ إلى الإجَابَةِ . ويجوزُ أن ينتصبا على المصدرِ ، أي : دعاءَ تضرّعٍ وخُفْيةٍ .
وقرأ أبُو بَكْرٍ : « خِفْية » بكسر الخاء ، وقد تقدَّم ذلك في الأنعام إلا أنَّ كلام أبي عليٍّ يُرْشد إلى « خِفْيَةً » بالكسر بمعنى الخَوْفِ ، وهذا إنَّما يَتأتَّى على ادِّعاءِ القلْب أي يُعتقد تقدم اللاَّم على العَيْنِ وهو بعيدٌ؛ لأنَّهُ كان يَنْبَغِي أنْ تعود الواو إلى أصلها ، وذلك أن « خِفْية » ياؤُهَا عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها ، [ ولمَّا أخِّرَت الواوُ تحرَّكتْ ، وسُكِّن ما قبلها ، ] إلاَّ أن يقال : إنَّهَأ قلبت متْرُوكَةً على حالها .
وقرأ الأعمش « وخِيْفة » وهي تؤيِّدُ ما ذكره الفَارِسِيُّ ، نقل هذه القراءة عنه أبو حَاتِمٍ .
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } قرأ ابن أبي عَبْلَة « إنَّ اللَّه » أتى بالجلالةِ مكان الضَّميرِ ، والمُرَادُ بالتَّضَرُّعِ : التَّذَلُّلُ والاستكانة ، وبالخية : السِّرُّ .
قال الحسنُ : بين دعوة السِّرِّ ، ودعوة العلانيةِ سبعون ضعفاً ، ولقد كان المُسْلِمُونَ يجتهدون في الدُّعَاءِ ، وما يسمع لهم صوت ، إلاَّ هَمْساً بينهم وبين ربهم ، وذلك أنَّ الله يقول : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } ، وإنَّ الله ذكر عبدهُ زكريا ، ورضي فعله فقال : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] .
وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « دَعْوَةُ السِّرِّ تَعْدِلُ سَبعِيْنَ دَعْوَة في العَلاَنِيَةِ » ، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : « خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ » وروى أبو موسى الأشعريُّ - رضي الله عنه - أنَّهُم كانُوا في غزاة فأشْرَفُوا على وادٍ فجعلُوا يكبِّرون ويهلِّلُونَ رَافِعِي أصواتهم ، فقال عليه الصَّلاة والسّلام : « ارْبعُوا على أنفُسِكُمْ فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ، ولا غَائِباً ، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً وإنَّهُ لَمَعَكُمْ »
واختلفوا في أنَّ الأفضل الدُّعاء خفيةً ، أو علانيةً؟ فقيل : الإخفاءُ أفْضَلُ لهذه الآية ولقوله تعالى : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] ، ولما تقدَّم ، ولأنَّهُ مُصون عن الرياء .
وقال آخرون : العانيَةُ أفضلُ؛ لترغيب الغَيْرِ في الاقتداء به .
وقال آخرونَ : إن خَافَ على نفسه الرِّيَاءَ؛ فالإخفاءُ أفضلُ وإلاَّ فالعلانية .
فصل في بيان شبهة منكري الدعاء
من النَّاسِ من أنكر الدُّعاء ، واحتج على صحَّة قوله بوجوه :
الأول : أنَّ المطلوب بالدُّعاء إن كان معلوم الوقوع ، كان واجب الوُقُوع؛ لامتناع وقُوع التَّغير في علم الله تعالى ، وما كان واجبَ الوُقُوع لم يكن في طَلَبِهِ فائدةٌ ، وإن كان معلومَ اللاوقوع؛ كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في طلبه أيضاً .
الثاني : أنَّهُ تعالى : إن كان قد أراد في الأزَلِ إحْدَاثَ ذلك الشيء فهو حاصلٌ سواءٌ كان هذا الدُّعَاء أو لم يكن ، وإنْ كان أرَادَ في الأزَلِ ألاَّ يعطيه ، فهو ممتنعٌ الوقوع ، فلا فائِدَةَ في الطَّلَبِ ، وإن قلنا : إنَّه ما أراد في الأزَلِ ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه ، ثم إنَّهُ عند ذلك الدُّعَاءِ صار مُرِيداً له لَزِمَ وقوع التَّغير في ذاتِ الله ، وفي صفاته ، وهو مُحالٌ .

وعلى هذا التقدير يصيرُ إقْدَامُ العبد على الدُّعاء عِلَّةً لحدوث صِفَةٍ في ذات الله - تعالى - فيكون العبد متصرِّفاً في صفة اللَّهِ - تعالى - بالتَّبْديلِ والتَّغْيير ، وهو محال .
الثالث : أنَّ المَطْلُوبَ بالدُّعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه ، فهو تعالى يُعْطِيهِ من غير هذا الدُّعاء؛ لأنَّهُ منزَّهٌ عن أن يكون بَخِيلاً ، وإن اقْتَضَتِ الحكمةُ مَنْعَهُ فهو لا يطعيه سواء أقْدَمَ العَبْدُ على الدُّعَاءِ ، أو لم يُقْدِم عليه .
الرابع : أنَّ الدُّعَاءَ غير الأمر ، ولا تَفَاوُتَ بين البَابَيْنِ إلا كون الدَّاعي أقَلَّ رتبةْ ، وكون الآمر أعلى رُتْبَةً ، وإقدام العبد على أمر الله سُوءُ أدَبٍ وإنه لا يجوز .
الخامس : الدُّعَاءُ يُشْبِهُ ما إذا أقْدَمَ العَبْدُ على إرشاد ربِّه وإلهه إلى فعل الأصْلَح والأصْوَبِ ، وذلك سوءٌ أدبٍ ، أو أنَّهُ ينبه الإله على شيءٍ ما كان منتبهاً له ، وذلك كُفْرٌ ، وأنَّ اللَّه عالى قصَّرَ في الإحسان والفَضْلِ ، وذلك جهلٌ .
السادس : أنَّ الإقدام على الدُّعاء يدلُ على كون العَبْدِ غير راضٍ بالقضاءِ ، إذْ لو رَضِيَ بما قضاه اللَّهُ عليه لترك تصرّفَ نفسه ، ولما طلب من الله شيئاً على التَّعيين ، وترك الرِّضَا بالقضاء من المنكرات .
السابع : روي أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام قال حَاكياً عن اللَّهِ - تعالى - « مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطي السَّائلينَ » وذلك يدلُّ على أنَّ الأوْلَى ترك الدُّعَاءِ .
الثامن : أنَّ علم الله - تعالى - محيطٌ بحاجة العبد ، والعبدُ غذا علم أن مَوْلاَهُ عالم باحتياجه فَسَكَتَ ولم يذكر تلك الحاجة ، كان ذلك أدْخَلَ في الأدَبِ ، وفي تعظيم المولى ، ممَّا إذَا أخذ يشرح كيفيَّة تلك الحاجةِ ، وإذا كان الحالُ على هذا الوجْه في الشاهد؛ وجَبَ اعتبار مثله في حقِّ الله - تعالى - ، وكذلك نُقل أن الخليل - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمَّا وضع في المَنْجَنيقِ للرّمي إلى النَّارِ قال له جبريلُ - عليه السَّلامُ - « ادْعُ ربَّكَ » ، فقال الخليل - عليه السَّلام - : « حسبي من سؤالي علمه بحالي » .
والجوابُ : أنَّ الدُّعَاءَ نوعٌ من أنواع العبادةِ ، والأسئلةُ المذكورة واردة في جميع أنواع العباداتِ ، فإنَّهُ يقال : إن كان هذا الإنسان سعيداً في علم الله فلا حاجة إلى الطَّاعات والعبادات ، وإن كان شقِيّاً في علمه؛ فلا فائدة في تلك العبادات ، ويجبُ أيضاً ألاَّ يُقْدِمَ الإنسانُ على أكل الخُبْزِ ، وشرب الماء؛ لأنَّهُ إن كان شبعاناً في علم اللَّه فلا حاجة إلى أكل الخبز ، وإن كان جَائِعاً فلا فائدة في أكل الخبز ، وكما أنَّ هذا الكلامَ باطلٌ؛ فكذا فيما ذكروه ، بل نقول : المقصودُ من الدُّعَاءِ معرفةُ ذلَّةِ العبوديَّة ، ومعرفة عزِّ الرُّبوبيَّةِ ، وهذا هو المقصودُ الأعلى من جميع العِبَادَاتِ؛ لأنَّ الدَّاعِي لا يقدم على الدُّعَاءِ إلا إذا عرف من نفسه كَوْنَهُ محتاجاً إلى ذلك المَطْلُوب ، وكونه عَاجِزاً عن تحصيله ، وعرف من ربِّه ، وإلهه أنَّهُ يسمعُ دُعَاءهُ ، ويعلم حاجته ، وهو قادرٌ على دفع تلك الحاجة ، فإذَا كان الدُّعَاءُ مستجمعاً لهذين المقامين كان الدُّعَاءُ أعظم العِباداتِ ، ولهذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ :

« الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادةِ »
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } أجمع المُسْلِمُونَ على أنَّ المحبة صفة من صفات اللَّه - تعالى - واتَّفَقُوا على أن ليس معناها شهوة النفس وميل الطَّبْعِ ، وطلب التَّلَذُّذِ بالشَّيء؛ لأنَّ كل ذلك في حقِّ الله - تعالى - محالٌ ، واختلفوا في تفسير المحبَّة في حقِّ الله - تعالى - فقيل : هي عبارة عن إيصال الثَّوابِ ، والخير إلى العبد ، والمراد ب « المُعْتَدينَ » المجاوزين ما أمِرُوا به .
قال الكلبيُّ وابن جريج : من الاعتداء رَفْعُ الصَّوتِ في الدُّعَاءِ .
وقال أبُو مِجْلَزٍ : هم الذين يسألون منازل الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام - .
روي أنَّ عبدَ الله بْنَ مُغفَّل سمع ابنه يقول : اللَّهُمَّ إني أسألك القَصْرَ الأبْيَضَ عن يمين الجَنَّةِ إذا دخلتها فقال : يا بني سل اللَّه الجَنَّةَ ، وتعوَّذ به من النَّارِ ، فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سَيَكُونَ فِي هَذِهِ الأمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الظُّهُورِ والدُّعَاءِ .
وقال عَطِيَّةُ : هم الَّذين يدعون على المُؤمنينَ ، فيما لا يحل فيقولون : « اللَّهُمَّ أخْزِهم اللَّهُمَّ الْعَنْهُم » .

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

يدخل فيه المنع من إفْسَادِ النُّفُوسِ بالقَتْلِ ، وقطع الأعضاء ، [ وإفساد الأموال بالنَّهْبِ ، والغصب ، والسَّرِقَةِ ، ووجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر والبِدَع ] وإفساد الإنسانِ بالزِّنَا واللِّواط والقَذْفِ ، وإفساد العقول بشرب المُنْكَرَاتِ ، فهذا النَّهْيُ يقتضي مَنْعَ إدخال ماهيَّة الفَسَادِ في الوُجُودِ بجميع أنْواعِهِ وأصنافه .
وقوله : « بَعْدَ إصلاحِهَا » يحتمل أنْ يكون المرادُ بعد أن صح خلقها على الوَجْهِ المطابق لمنافع الخَلْقِ ، ويحتمل أنْ يكون المرادُ بعد إصلاح الأرْضِ ببعثة الرُّسُلِ ، وإنزال الكُتُبِ ، وتفصيل الشَّرَائِع .
قوله : { وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً } .
هذانِ حالانِ ، أي : ادْعُوهُ ذُوُو خَوْفٍ وطَمَعٍ ، أو خَائِفِينَ طامعين ، أو مَفْعُولان من أجلهما ، أي : لأجْلِ الخوفِ والطَّمَعِ .
فإن قيل : قد قال في الآية الأولى : « ادْعُوا رَبَّكُمْ » ، ثم قال هاهنا : « وَادْعُوهُ » ، وهذا يقتضي عَطْفَ الشَّيْءِ على نفسه ، وهو باطل .
والجوابُ : أنَّ الَّذينَ فسروا قوله : « ادْعُوا رَبَّكُمْ » بأنَّ المرادَ به العِبادَة ، قالوا : المُرَادُ بهذا الدُّعَاء الثَّانِي هو الدُّعَاءُ نفسه .
وأمّا الذين قالوا : المرادُ بقوله : « ادْعُوا رَبَّكُمْ » هو الدُّعَاءُ قالوا : المراد بهذا الدُّعَاءِ أن يكون الدُّعَاءُ المأمور به أوَّلاً مقروناً بالتَّضَرُّع ، والأخْفَاءِ ، ثم بيَّن هاهنا أنَّ فائدةَ الدُّعَاءِ أحد هذين الأمرين .
فالأولى في بيان شَرْطِ صحَّةِ الدُّعاء .
والثانية في بيان فَائِدِةِ الدُّعَاءِ ومنفعته .
قوله : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ } إنَّمَا لم يُؤنِّثْهَا وإن كانت خبراً لمؤنث لوجوه :
منها أنَّهَا في معنى الغُفْرَانِ والعفو والإنعامِ ، فحُمِلت عليه ، قاله النَّضْرُ بْنُ شُمَيْل واختاره الزَّجَّاجُ .
قال سعيدُ بْنُ جُبَيْر : الرَّحْمَةُ هاهنا الثَّوَابُ فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ كقوله : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] ولم يقل : « مِنْهَا » ؛ لأنَّهُ أراد الميراث والمال .
ومنها أنها صفة لموصوف مذكَّرٍ حذف ، وبقيت صِفَتُهُ ، والتَّقديرُ : إنَّ رحمة الله شيءٌ قريبٌ .
ومنها : أنها في معنى العفو أو المطر ، أو الرحم .
ومنها : أنَّهَا على النَّسب كحائضِ ولابنٍ وتامرٍ ، أي : ذات حيض .
ومنها : تشبيه فعيل بمعنى فاعل بِفَعيلٍ بمعنى مفعول ، فيستوي فيه المُذَكَّر والمؤنَّث كجريح ، كما حُمِلَ هذا عليه حيثُ قالوا : أسير وأسَرَاءُ ، وقبيل وقُبَلاء حَملاً على رَحِيمٍ ورحماء ، وعليهم وعُلَمَاء ، وحكيم وحُكماء .
[ ومنها : أنَّه ] مصدر [ جاء على فعيل كالنَّعيق وهو صَوْت الضِّفْدَع ، والضغيب وهو صَوْتُ الأرنب وإذا كان مَصْدراً ] لَزِمَ الإفراد والتذكير .
ومنها : انَّهَا بمعنى مَفْعُولٍ أي مُقَرَّبة ، قاله الكَرْمَانِيُّ ، وليس بجيد؛ لأنَّ فعيلاً بمعنى مفعول لا يَنْقَاسُ ، وعلى تقدير اقتياسه فإنَّمَا يكونُ من الثُّلاثِي المجرَّد ، لا من المزيدِ فيه ، ومُقَرَّبة من المزيد فيه .
ومنها : أنَّهَا من باب المُؤنَّث المجازي ، فلذلك جاز التَّذكير كطلع الشَّمس .
قال بعضهم : وهو غَيْرُ جَيِّدٍ؛ لأنَّ ذلك حيث كان الفعل متقدَّماً نحو : طلع الشَّمس ، أمَّا إذا تأخَّر وجب التَّأنيثُ ، إلا في ضرورة شِعْرٍ كقوله : [ المتقارب ]

2487 - . . ... وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا
قال شهابُ الدِّين : « وهذا يجيءُ على مذهب ابن كَيْسَان ، فإنَّهُ لا يَقْصُر ذلك على ضرورة الشِّعر ، بل يجيزه في السَّعَةِ » .
وقال الفرَّاءُ : قريبةٌ وبعيدةٌ : إمَّا أن يُراد بها النَّسَبُ وعدمُه ، فتؤنِّثها العرب ليس إلاَّ فيقولون : فلانٌ قريبة مني في النَّسَبِ ، وبعيدةٌ مني أي في النَّسَبِ ، أمَّا إذا أُريدَ القُرْب في المكان ، فإنَّهُ يجوزُ الوجهان؛ لأنَّ قريباً وبعيداً قائم مقام المكان فتقولُ : فلانة قريبة وقريبٌ ، وبعيدة وبعيد .
التَّقديرُ : هي في مكان قَريبٍ وبعيد؛ وأنشد : [ الطويل ]
2488 - عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ ... فَتَدْنُوا ولا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ
فجَمَعَ بين اللُّغَتَيْنِ إلا أنَّ الزَّجَّاج ردّ على الفرَّاءِ قوله وقال : « هذا خطأ؛ لأنَّ سبيل المذكر والمؤنث أنْ يجريا على أفعالهما » .
قال شِهَابُ الدِّين : وقد كَثُرَ في شِعْرِ العرب مجيءُ هذه اللَّفظة مُذكَّرة ، وهي صِفَةٌ لمُؤنَّثٍ .
قال امْرُؤ القَيْسِ : [ الطويل ]
2489 - لَهُ الوَيْلُ إنْ أمْسَى وَلاَ أمُّ سَالِمٍ ... قَرِيبٌ ولا البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
وفي القرآن : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } [ الأحزاب : 63 ] .
وقال أبو عبيدة : « قَرِيبٌ في الآية ليس وَصْفاً لها ، إنَّمَا هو ظَرْفٌ لها وموضع ، فيجيءُ هكذا في المُفْرَد والمثنى والجمع ، فإن أُرِيدَ بها الصِّفَةُ؛ وَجَبَ المُطابَقَةُ ، ومثلُها لفظة بعيد أيضاً » إلاّ أنَّ عليَّ بْنَ سُلَيْمَانَ الأخفشَ خطَّأهُ قال : « لأنَّهُ لو كانت ظَرْفاً لانتصب كقولك : » إنَّ زَيْداً قريباً منك « وهذا ليس بِخَطَأ ، لأنَّهُ يجوز أن يتَّسعَ في الظَّرْفِ ، فيعطى حكم الأسماء الصَّريحةِ فتقُولُ : زيد أمامك وعمرو خلفُك برفع أمام وخلف ، وقد نصَّ النُّحَاةُ على أنَّ نحو : » [ أن قريباً ] منك زيد « أن » قريباً « اسم » إنّ « ، و » زيدٌ « خبرها ، وذلك على الاتِّسَاع » .
و « مِنَ المُحْسِنِينَ » متعلِّقٌ ب « قَرِيبٍ » ، ومعنى هذا القرب هو أنَّ الإنسان يَزْدَادُ في كلِّ لَحْظَةٍ قرباً من الآخرة وبعداً من الدُّنْيَا ، فإنَّ الدُّنْيَا كالماضي والآخرة كالمستقبل ، والإنسانُ في كلِّ ساعة لحظة يَزْدَادُ بعداً عن الماضي ، وقرباً من المُسْتَقْبَل .
قال الشِّاعِرُ : [ الطويل ]
2490 - فَلاَ زَالَ ما تَهْوَاهُ أقْرَبَ مِنْ غَدٍ ... وَلاَ زَالَ مَا تَخْشَاهُ أبْعَدَ مِنْ أمْسِ
ولمَّا كانت الدُّنْيَا تزداد بعداً في كلِّ سَاعَةٍ ، والآخرة تزداد قُرْباً في كلِّ سَاعَةٍ ، وثبت أنَّ رحمة الله إنَّمَا تحصلُ بعد الموت ، لا جرم قال الله - تعالى - : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } .
فصل في دحض شبهة للمعتزلة
قالت المعتزلةُ : العَفْوُ عن العذابِ رَحْمَةٌ ، والتَّخلُّصُ من النَّارِ بعد الدُّخول فيها رَحْمَةٌ [ فوجب ألا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا من المحسنين ] فوجب ألاَّ يحصل لهم العفوُ عن العقاب والخلاص من النَّارِ .
والجوابُ : أنَّ من آمن بالله وأقرّ بالتَّوْحيدِ والنُّبوَّةِ ، فقد أحْسَنَ بدليل أن الصَّبِيَّ إذا بلغ وقت الضَّحْوَةِ ، وآمن بالله ورسوله ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد اجتمعت الأمَّةُ على أنَّهُ دخل تحت قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } [ يونس : 26 ] وهذا لم يَأتِ بِشَيْءِ من الطَّاعات سوى المعرفة والإقْرَارِ .

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)

في كيفيَّة النَّظْمِ وجهان :
الأولُ : أنه تعالى لمّا ذكر دَلاَئِلَ الإلهيَّةِ ، وكمال العلم والقدرة من العالم العلويّ ، وهو السَّموات والشَّمْسُ ، والقمر ، والنُّجُوم ، أتبعه بذكر الدَّلائل من أحوال العَالمِ السُّفْلِيّ .
واعلم أنَّ أحوال هذا العالم محصورةٌ في أمور أربعة : الآثار العُلْويَّة ، والمعادن ، والنَّبَات ، والحيوان ، ومن جملة الآثار العلويَّة : الرياحُ السَّحَابُ والأمطار ، ويترتب على نزول الأمطار أحوال النَّبَات ، وهو المذكور في هذه الآية .
الثاني : أنَّهُ تعالى لمَّا أقاَمَ الدَّلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادِرِ العالم الحكيم؛ أقَامَ الدَّلالة في هذه الآية على صِحَّةِ القول بالحشر ، والنَّشْرِ ، والبعث ، والقيامة ليحصلَ بمعرفة هايتن الآيتين كلُّ ما يحتاج إليه في معرفة المَبْدَأ والمعاد .
قوله : « الرِّيَاح بُشْراً » قد تقدَّم خلاف القرَّاءِ في إفراد « الرِّيحِ » وجمعها بالنِّسْبَة إلى سائر السُّور في البقرة .
وأمّا « بُشْراً » فقأه في هذه السّورة - وحيث ورد في غيرها من السُّورِ - نافع وأبو عمرو وابن كثير بضم النون والشِّين ، وهي قراءة الحسنِ وأبي عَبْدِ الرَّحْمنِ ، وأبي رجاء بخلاف عنهم ، وشَيْبَةَ بْن نصَاحٍ وعيسَى بْنِ عُمر وأبِي يحيى ، وأبي نَوْفَلٍ الأعْرَابيَّيْنِ . وفي هذه القراءة وجهان فيتحصَّلَ فيها ستَّةُ أوْجُه :
أحدها : أن « نُشُراً » جمع نَاشِرٍ ك « بازل » و « بُزُلٍ » و « شَارِفٍ » و « شُرُفٍ » وهو جمع شاذٌّ في فاعل .
ثم « نَاشِرٌ » هذا اختلف في معناه فقيل : هو على النَّسَبِ : إمَّا إلى النِّشْر ضدَّ الطيِّ ، وإمَّا إلى النُّشُورِ بمعنى الإحياء كقوله : { وَإِلَيْهِ النشور } [ الملك : 25 ] ، والمعنى : ذا نَشْرٍ ، أو نشورٍ ك « لابنٍ » و « تَامِرٍ » .
وقيل : هو فاعل من نَشَرَ مطاوع أنْشَرَ يُقال : أنْشَرَ اللَّهُ الميِّتَ ، فَنَشَرَ فهو نَاشِرٌ ، وأنشد : [ السريع ]
2491 - حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأوْا ... يَا عَجباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
وقيل : ناشرٌ بمعنى مُنِشِرٌ أي : المُحْيي تقول : نَشَرَ اللَّهُ الموتى وأنْشَرَهَا ، ففعل وأفْعل على هذا بمعنى واحد ، وهذه الثَّالِثَةُ ضعيفة .
الوجه الثاني : أنَّ نُشُراً نَشُور ، وهذا فيه احتمالان :
أرجحهما : أنَّهُ بمعنى فاعل ، وفعول بمعنى فاعِل ينقاس جمعُه على فُعُل كصَبُور ، وصُبُر ، وشكور ، وشُكُر أي متفرقة ، وهي الرِّيَاحُ التي تأتي من كل ناحية والنّشر التفريق ، ومنه نَشْرُ الثَّوْبِ ، ونشر الخَشَبةِ بالمِنْشَارِ .
وقال الفراءُ : « النَّشْرُ من الرِّيح الطيِّبة اللينَةِ التي تنشىء السَّحاب ، واحدها نُشُورٌ ، وأصله من النَّشْرِ وهو الرَّائِحَةُ الطيِّبَةُ .
والثاني : أنَّهُ بمعنى مفعول كَرَكُوبٍ وحلوب بمعنى مَرْكوب ومَحْلُوبٍ قالوا : لأنَّ الرِّيح تُوْصَفُ بالمَوْتِ وتوصفُ بالإحياء فمن الأوَّل قوله : [ الرجز ]
2492 - إنِّي لأرْجُو أنْ تمُوتَ الرِّيحُ ... فأقْعُدُ اليَوْمَ وأسْتَرِيحُ
ومن الثاني قوله : » أنْشَر الله الرِّيحَ وأحْيَاهَا « وفعول بمعنى مفعول يُجْمع على فُعُل كرسول ورُسُلٍ .

وبهذا قال جماعةٌ كثيرةٌ ، إلا أنَّ ذلك غير مقيس في المُفْرَدِ وفي الجمع ، أعني أنه لا يَنْقَاسُ فعول بمعنى مفعول لا تقُولُ : زيد ضروب ولا قتول بمعنى مضروب ومقتول ، ولا ينقاسُ أيضاً جمع فَعُول بمعنى مفعول على فُعُل . فَحَصَلَ في هذه القراءة ستَّة أوْجُهٍ :
الأول : أنَّها جمع لناشرٍ بمعنى : ذا نشر ضدَّ الطيِّ .
الثاني : جمع ناشِرُ بمعنى : ذي نشور .
الرابع : جمع ناشر بمعنى مُنْشِرٍ .
الخامس : جمع نُشورٍ بمعنى : فاعلٍ .
السادس : جمع نُشورٍ بمعنى : مَفْعول .
وقرأ ابن عامر بضمِّ النُّون وسكون الشين ، وهي قراءة ابن عبَّاس ، وِزرِّ بين حُبَيْشٍ ، ويحيى بن وثَّابٍ ، والنَخَعيِّ وابن مصرف ، والأعمش ، ومَسْرُوقٍ ، وتخريجها بما ذكر في القراءة قبلها ، فإنَّهَا مخفَّفة منها ، كما قالوا : رُسْل في رُسُل وكُتْب في كُتُب ، فَسكّنوا الضمَّة تخفيفاً ، وإذا كَانُوا قد فعلوا ذلك في المفرد ، الذي هو أخفُّ من الجَمْعِ كقولهم في عُنُقٍ : عُنْقٌ ، وفي طُنُبٍ : طُنْبٌ ، فما بالهم في الجمع الذي هو أثقل من المفرد؟
وقرأ الأخوان : « نَشْراً » بفتح النُّونِ وسكون الشِّين ، ووجهها أنَّهَا مَصْدَرٌ واقع موقع الحَالِ بمعنى ناشرة ، أو منشورة ، أو ذاتُ نَشْرٍ [ كُلُّ ذلك على ما تقدَّم في نظيره .
وقيل : نَشْراً مصدر مؤكِّد؛ لأنَّ أرسل ، وأنْشَرَ متقاربان .
وقيل : نَشْراً ] مصدر على حذف الزَّوائد أي : إنشاراً ، وهو واقع موقع الحال أي : مُنْشِراً ، أو مُنْشَراً حسب ما تقدَّم في ذلك .
وقرأ عَاصِمٌ : « بُشْراً » بالبَاءِ الموحَّدَةِ مضمومة وسكون الشِّين ، وهو جمع بشيرة كنذيرة ونُذُر . وقيل : جمع فعيل كَقَلِيبٍ وقُلُب ورغيب ورُغُف ، وهي مأخوذةٌ في المعنى من قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] أي تبشّرُ بالمطر ، ثم خفِّفت الضَّمَّةُ كما تقدَّم في « النُّشُر » ، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ ابن عباس والسُّلمي وابن أبي عبلة قرأوا بضمِّهَا ، وهي مرويَّة عن عاصم نفسه فهذه أرْبَعُ قراءات في السَّبْع .
والخامسة : ما ذكرناه عن ابن عباس ومن معه .
وقرأ مسورق : « نَشَراً » بفتح النُّونِ ولاشِّين وفيها تخريجان :
أحدهما : نقله أبُو الفتحِ : أنَّهُ اسم جمعٍ ك « غَيَب » وَ « نشأ » لغائبة وناشئَةٍ .
والثاني : أنَّ فَعَلاً بمعنى مفعول كَقَبَضَ بمعنى مَقْبُوضٍ .
وقرأ أبُو عبد الرحمن : « بَشْراً » بفتح الباء وسكون الشِّين ورُويت عن عاصم أيضاً على أنه مصدر « بَشَر » ثلاثياً .
وقرأ ابن السَّمَيْفَع : « بُشْرى » بزنة رُجْعَى ، وهو مصدر أيضاً ، فهذه ثَمَان قِراءاتٍ :
أربع مع النُّونِ ، وأربع مع الباء ، هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات ، وما هي بالنِّسْبَةِ إلى كونها مفردة أو جمعاً .
وأمَّا نَصْبُها فإنَّها في قراءة نَافِعٍ ، ومن معه وابن عامر منصوبة على الحال من « الرِّياح » أو « الرِّيح » حسب ما تقدَّم من الخلاف وكذلك هي في قراءة عَاصِمٍ ، وما يشبهها .

وأمَّا في قراءة الأخوين ، ومسروق فيحتمل المصدريَّة ، أو الحاليَّة ، وكلُّ هذا واضح ، وكذلك قراءة « بُشْرَى » بزنة رجعى ولا بدَّ من التَّعرُّض لشيء آخر ، وهو أنَّ من قرأ « الرِّياح » بالجمع وقرأ « نُشْراً » جمعاً كنافع ، وأبي عمرو فواضح .
وأما من أفرد « الرِّيح » وجمع « نُشْراً » كابن كثير ، فإنَّهُ يجعل الرِّيح اسم جنس ، فهي جمع في المَعْنَى ، فوصفها بالجمع كقول عنترة : [ الكامل ]
2493 - فيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً ... سُوداً كخَافِيَةِ الغُرَابِ الأسْحَمِ
والحاليَّةُ في بعض الصُّوَرِ يجوز أن تكون من فاعل « يُرْسلُ » ، أو مفعوله وكلُّ هذا يُعْرف مما تقدم .
فصل
روى أبو هريرة قال : أخذتِ النَّاس ريحٌ بطريق مكَّةَ ، وعمر حاجٌّ فاشتدت ، فقال عُمَرُ ، لمن حوله : ما بلغكم في الرِّيح فلم يرجعوا إليه شيئاً ، فبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح ، فاستحثثتُ راحلتي حتى أدْرَكْتُ عمر ، فكنت في مُؤخَّر النَّاس ، فقلتُ : يا أمير المؤمنين : أخبرتُ أنَّكَ سألت عن الرِّيحِ ، إنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ : الرِّيحُ من روح الله ، تأتِي بالرَّحْمَةِ وتَأتِي بالعذابِ ، فلا تَسبُّوهَا ، وسلُوا الله من خَيْرِهَا ، وتعوَّذُوا به من شرِّها .
فصل في ماهية الريح .
قال ابن الخطيب - رحمه الله - : الرِّيحُ : هواء متحرك ، وكونه متحرِّكاً ليس لذاته ، ولا للوازم ذاته ، وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته ، فلا بدَّ وأن يكون بتحريك الفاعل المختار وهو الله تعالى .
وقالت الفلاسفةُ : هاهنا سَبَبٌ آخَرُ ، وهو أنَّهُ يرتفعُ من الأرضِ أجزاءٌ أرضيَّةٌ لطيفةٌ ، تسخنه تَسْخِيناً فبسبب تلك السُّخُونَةِ الشَّديدة ترتفعُ وتتصاعَدُ ، فإذا قربت من الفلك ، كان الهواءُ ألْصَقَ بمقعرِ الفلكِ ، مُتحرِّكاً على استدارة الفلكِ بالحركةِ المستديرةِ التي حَصَلَتْ لتلك الطبقة من الهواءِ ، فيمنع هذه الأدْخِنَة من الصُّعُودِ ، بل يردها عن سمتِ حركتِهَا ، فحينئذٍ ترجعُ تلك الأدْخِنَةُ ، وتتفرق في الجوانبِ ، وبسبب ذلك التَّفَرُّق تحصلُ الرِّيَاحُ ثمَّ كلما كانت تلك الأدْخِنَةُ أكثر ، كان صعودها أقْوَى ، وكان رجوعها أشدَّ حركةً ، فكانت الرِّياحُ أقْوَى وأشَدّ ، هذا حاصلُ ما ذَكَرُوهُ ، وهو بَاطِلٌ لوجوهٍ :
الأول : أنَّ صعُودَ الأجْزَاء الأرضيَّةِ إنَّمَا يكون لشدَّةِ تسخينها وذلك التسخينُ عَرَضٌ؛ لأنَّ الأرْضَ باردةٌ يابسة بالطَّبْعِ ، فإذا كانت الأجزاءُ الأرضيَّةُ متصَعِّدَة جداً كانت سريعة الانفصار فإذا تَصَاعَدَتْ ووصلت إلى الطِّبَقَةِ الباردة من الهواء؛ امتنع بقاءُ الحرارةِ فيها ، بل تبرد جداً؛ امتنع بلوغها في الصُّعُود إلى الطبقةِ الهوائيَّةِ المتحركة بحركة الفلكِ فَبَطَلَ ما ذكروه .
الثاني : إذا ثَبَتَ أنَّ تلك الأجزاء الدُّخانيَّة ، صعدتْ إلى الطَّبقة الهوائيَّةِ المتحرّكَةِ بحركة الفلكِ ، لكنها لمّا رَجَعَتْ ، وجب أن تنزل على الاسْتِقَامَةِ ، لأنّ الأرْضَ جسم ثقيلٌ ، والثَّقِيلُ إنام يتحرك بالاستقامَةِ ، والرِّيَاحُ ليست كذلِكَ ، فإنَّهَا تتحرك يُمْنةٌ ويُسْرَةٌ .

الثالث : أنَّ حركة تلك الأجزاء الأرضيَّةِ النَّازلة لا تكونُ حركة قاهرةً ، فإنَّ الرِّياح إذا أحضرت الغُبَارَ الكَثِيرَ ، وعاد ذلك الغُبَارُ ونزل على السُّطُوحِ ، لم يحسَّ أحَدٌ بنزولها ونرى هذه الرِّياح تقلعُ الأشْجَارَ ، وتهدمُ [ الجِبَالَ ] ، وتموجُ البِحَارَ .
الرابع : لو كانَ الأمرُ على ما قالوهُ لكانت الرِّياحُ كلَّما كانت أشَدَّ وجب أنْ يكون حُصُولُ الأجزاء الغباريَّةِ الأرضيَّةِ أكثر ، لكنَّهُ ليس الأمر كذلِكَ؛ لأنَّ الرِّيَاحَ قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البَحْرِ ، مع أن الحِسَّ يشهدُ بأنَّهُ ليس في ذلك الهواء العَاصفِ شيء من الغبارِ والكدورة ، فبطل بهذه الوجوه العقليَّةِ ما ذكروه في حركةِ الرِّياحِ .
وقال المُنَجِّمُونَ : إن قوى الكَواكبِ هي الَّتي تحرك هذه الرِّياح ، وتوجبُ هبوبَها ، وذلِكَ أيضاً بعيد؛ لأنَّ الموجب لحركةِ الرِّياح إن كانت طَبِيعةُ الكواكبِ؛ وجب دوامُ الرِّياح بدوام تلك الطبيعة ، وإن كان الموجبُ هو طبيعةُ الكواكبِ بشرط حصوله في البُرْجِ المُعَيَّنِ ، أو الدَّرجةِ المعيَّنَةِ؛ وجب أن يتحرك هواء كل العالم ، وليس كذلك .
وأيضاً قد ثبت في العقليَّاتِ أنَّ الأجْسامَ مُتَمَاثِلَةٌ ، فاختصاص الكوكب المعين والبرج المعيَّنِ بالطَّبيعة التي اقتضت ذلك الأثر لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعلِ المُخْتَارِ ، فثبتَ بهذا البرهان العقليِّ أنَّ محرك الرِّياح هو الله - سبحانه وتعالى - وأيضاً فقوله تعالى : « نشراً » أي مُنَشَّرَةً متفرقةً ، فجزء من أجزاء الريح يذهب يُمَنْةً ، وجزء آخرُ يذهبُ يُسْرَةً ، وكذا سَائِرُ أجزاء الرِّياحِ ، كلُّ واحد منها يَذْهَبُ إلى جانب آخر ، ولا شكَّ أنَّ طبيعة الهواءِ طبيعةٌ واحدةٌ ، ونسبة الأفلاكِ والانْجُم والطَّبائع إلى كلِّ واحدٍ من الأجَزْاءْ التي لا تتجزَّأ من تلك الريح نسبة واحدة ، فاختصاصُ بعضِ أجْزَاءِ الرِّيح بالذَّهَابِ يمنةً ، والجزءُ الآخر بالذَّهَابِ يًسْرَةً يجبُ أن يكُون ذلك بتخصيص الفاعل المُخْتَارِ .
قوله : « بَيْنَ » : ظَرْفٌ ل « يُرْسِلُ » ، أو للبشارة فيمن قرأه كذلك .
وقوله : { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي بين يدي المَطَرِ الذي هو رحمته ، وحسنُ هذا المجاز أنَّ اليدين تستعملهما العربُ في معنى التقدُمَةِ على سبيل المجاز؛ يقال إن الفتن تحدثُ بين يدي السَّاعةِ يريدونَ قبلها ، وذلك لأنَّ يدي الإنسان مُتَقَدِّمَانِهِ ، فكل ما يتقَدَّمُ شيئاً يطلق عليه لفظ اليَدَيْنِ مجازاً لهذه المشابَهَةِ ، كما تقولُ لمن أحسن إليك وتقدَّم إحسانه ، له عندي أيادٍ ، ولما كانت الرِّيَاحُ تتقدَّمُ المطر عَبَّرَ عنه بهذا اللفظ .
فإن قيل : قد نجد المطرَ لا يتقدَّمُهُ ريَاحٌ ، فنقول : ليس في الآية أنَّ هذا التَّقدُّمَ حاصل في كلِّ الأحوال ، وأيضاً يجوز أن تتقدَّمَهُ هذه الرِّياحُ وإن كنَّا لا نعرفها .
قوله : { حتى إِذَآ أَقَلَّتْ } غاية لقوله : « يُرْسِلُ » ، وأقلَّت أي حملت من أقْلَلْتُ كذا أي : حملته بسهُولَةٍ .
قال صاحبُ « الكشَّافِ : » واشتقاقُ الإقلال من القلَّةِ ، فإن مَنْ يرفعُ شيئاً فإنَّهُ يرى ما يرفعه قليلاً ، أقلَّهُ أي حمله بِسُهُولَةٍ ، والقُلَّةُ بضمِّ القافِ هو الظَّرْفُ المعروف وقِلال هَجَرٍ كذلك؛ لأنَّ البعيرَ يُقِلُّها أي يحملها .

وتقدَّم تفسير « السَّحابِ » ، وأنَّهُ يُذكَّر ويؤنَّثُ ، ولذلك عاد الضَّميرُ عليه مُذَكَّراً في قوله : « سُقْنَاهُ » . ولو حمل على المعنى كما حمل قوله « ثِقَالاً » فجُمِعُ لقال : « سُقْنَاهَا » .
و « لِبَلَدٍ » جعل الزَّمَخْشَرِيُّ « اللاَّم » للعلَّةِ ، أي : لأجل .
وقال أبُو حيَّان : فرقٌ بين قولك : سقتُ له مالاً ، وسُقْتُ لأجله مالاً ، بأنَّ سُقْتُ له أوْصَلْتُ إليه ، وأبْلَغْتَهُ إيَّاهُ ، بخلاف سُقْتُهُ لأجْلِهِ ، فإنَّهُ لا يلزمُ منه إلاَّ إيصاله له ، فقد يسوق المال لغير لأجلي ، وهو واضح .
وقيلك هذه اللامُ بمعنى « إلى » ، يقال : هَدَيْتُهُ للدِّين ، أو إلى الدِّين . وتقدَّم الخلافُ في تخفيف « مَيِّتٍ » وتثقيله في آل عمران وجاء هنا وفي الروم [ 46 ] { يُرْسِلُ } بلفظ المستقبل مناسبة لما قبله ، فإنَّ قبله : « ادْعُوهُ خَوْفاً » وهو مستقبلَ ، وفي الروم [ 45 ] : { لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ } ، وهو مستقبل .
وأمَّا في الفرقان : [ 48 ] وفاطر [ 9 ] فجاء بلفظ الماضي : « أرْسَلَ » لمناسبة ما قَبْلَهُ وما بعدهُ في المضي؛ لأنَّ قبله : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } [ الفرقان : 45 ] ، وبعده : { مَرَجَ البحرين } [ الفرقان : 53 ] ، فناسب ذلك الماضي ، ذكره الكَرْمَانِيُّ .
والبلد يطلق على كلِّ جُزْءٍ من الأرْضِ ، عامِراً كان ، أو خراباً ، وأنشدوا على ذلك قول الأعشى : [ البسيط ]
2494 - وَبَلْدَةٍ مِثْلِ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ ... لِلجِنِّ باللَّيْلِ في حَافَاتِهَا زَجَلُ
قوله : « فَأنْزَلْنَا بِهِ » الضَّميرُ في « به » يعود على أقرب مذكورٍ ، وهو « بَلَدٍ مَيّتٍ » ، وعلى هذا فلا بدَّ من أن تكون الباء ظرفيّة ، بمعنى أنزلنا في ذلك البلدِ الميِّتِ الماء ، وجعل أبُو حيّان هذا هو الظَّاهِرُ .
وقيل : الضَّميرُ يعود على « السَّحَابِ » ، ثم في « البَاءِ » وجهان :
أحدهما : هي بمعنى « مِنْ » أي : فأنزلنا من السَّحَابِ الماء .
والثاني : أنَّهَا سببيَّةٌ أي : فأنزلنا الماء بسبب السَّحَابِ .
وقيل : يعودُ على السَّوْقِ المفعوم من الفعل و « الباءُ » سببية أيضاً [ أي ] : فأنزلنا بسبب سَوْقِ السَّحابِ ، وهو ضعيفٌ لعَوْد الضَّمير على غير مذكور مع إمكان عَوْدِهِ على مذكُورٍ .
قوله : « فَأخْرَجْنَا بِهِ » الخلافُ في هذه الآيةِ كالَّذِي في قبلها ، ونزيد عليه وجهاً أحْسَنَ منها ، وهو العودُ على الماء ، ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه .
وقوله : { مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } « من » تبعيضية ، أو ابتدائية ، وقد تقدم نظيره .
فصل
اعلم أنَّ السَّحَابَ للمياه العظيمةِ إنما يبقى معلقاً في الهواء؛ لأنَّهُ تعالى دبَّر بحكمته أن يحرِّكَ الرِّياح تحركاً شديداً ، فلأجل الحركاتِ الشَّديدةِ التي في تلك الرياح تحصل فوائد .
أحدها : أنَّ أجزاء السَّحابِ ينضمُّ بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقدُ السَّحابُ الكثيرُ المَاطِرُ .

وثانيها : أنَّ بسبب حركات الرِّياح الشَّديدةِ يمنةً ويُسْرَةً يمتنع على تلك الأجزاء المائيَّة النُّزُول ، فلا جَرَمَ يبقى معلّقاً في الهواء .
وثالثها : أن بسب حركات تلك الرِّياح يناسقُ من موضع غلى موضع آخر يكون محتاجاً في علم اللَّهِ - تعالى - إلى نزولِ الأمْطَارِ .
ورابعها : أنَّ حركاتِ الرِّياحِ تارةً تكون جامعةً لأجزاء السَّحابِ ، وتارةً مفرقة لأجزاءِ السَّحَابِ .
وخامسها : أنَّ هذه الرِّياحَ تارةً تكونُ مُقَوِّيَةً للزُّرُوع والأشجار مكلمة لما فيها من النشوء والنَّمَاءِ ، وهي الرِّيَاحُ اللَّواقِحُ ، وتارةً تكونُ مبطلة لها ، كام تكونُ في الخريف .
وسادسها : أنَّ هذه الرِّياح تارةً تكون طيِّبة موافقة للأبدان ، وتارةً تكون مُهْلِكَة : إمَّا بسبب ما فيها من الحرِّ الشَّديدِ كما في السَّمُومِ ، أو بما فيها من البرد الشَّديدِ ، كما في الرِّياحِ الباردة والمهلِكَة .
وسابعها : أنَّ هذه الرِّياحَ تكونُ [ تارةً ] شرقيَّةً ، وتارة غربيَّة ، وشماليَّةً ، وجنوبيَّةً ، كذا ضبطه بعض النَّاسِ ، وإلا فالرِّياحُ تهبُّ من كلِّ جانبٍ من جوانبِ العالم ، ولا اختصاصَ لها بجانب من جَوَانبِ العالمِ .
وثامها : أنَّ هذه الرِّياحَ تصعدُ من قعر البَحْرِ ، فإنَّ من ركب البَحْرَ يشاهد أن البَحْرَ ، يحصل له غليان شديد بسبب تولُّدِ الرِّياحِ في قَعْرِ البَحْرِ ، ثمَّ لا يَزَالُ يَتَزَايدُ الغليانُ ويقوى إلى أن تَنْفَصِلُ تلك الرِّيَاحُ من قَعْرِ البَحْرِ إلى ما فوقَ البَحْرِ ، وحينئذٍ يَعْظُمُ هبُوبُ الرِّيَاح في وجه البَحْرِ ، وتارةً ينزل الرِّيح من جهة فوق فاختلافُ الرِّياحِ بسبب هذه المعاني عجيبٌ .
وعن ابْن عُمَرَ الرِّيَاحُ ثمانٍ : أربعٌ عَذَابٌ وهي القَاصِفُ ، والعاصفُ والصَّرْصَرُ ، والعَقِيمُ ، وأربعٌ منها رحمة وهي : النَّاشِرَاتُ ، والمبشّرَاتُ ، والمُرْسلاتُ ، والذَّارِيَاتُ .
وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ : « نُصِرْتُ بالصَّبَا ، وَأهْلِكَ عادٌ عادٌ بالدَّبُّورِ » و « الجَنُوبُ مِنْ رِيحِ الجَنَّةِ » .
وعن كعب : لَو حَبَسَ اللَّهُ الرِّيحَ عن عَبَادِهِ ثلاثةً أيَّام لأنْتَنَ أكثر أهْلِ الأرْضِ .
وعن السُّدِّيِّ أنَّه تعالى يرسل الرِّيَاحَ ، فتأتي بالسَّحَابِ ، ثم إنَّهُ تعالى يسبطه في السَّمَاءِ كيف يشَاءُ ، ثم يفتح أبوابَ السَّمَاءِ فيسيلُ الماءُ على السَّحابِ ، ثم يُمْطِرُ السَّحَابُ بعد ذلك ، ورحمته هو المَطَرُ .
وإذا عُرف ذلك فنقولُ : اختلاف الرّياحِ في الصِّفات المذكورَةِ مع أنَّ طبعها واحد ، وتأثيرات الطَّبائع والأنجم والأفلاك واحدة ، يدلُّ على أنَّ هذه الأحوال لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المُخْتَارِ .
قوله : « كَذَلِكَ » نعت مصدر محذوف ، أي : يُخْرج المَوْتى إخْرَاجاً كإخْراجِنَا هذه الثَّمَرَاتِ ، وفي هذا التَّشبيه قوان :
الأول : أنَّ المَعْنَى كما خلق الله - تعالى - النَّبَاتَ بالأمطار ، فكذلك يحيي الموتى بمِطِرٍ ينزله على الأجْسَادِ الرَّميمة .
قال أبُو هُريْرَةَ وابن عباس : إذا مَاتَ النَّاسُ كلُّهم في النَّفْخَةِ ، أرسل اللَّهُ عليهم مَطَراً كمنيِّ الرِّجالِ من ماء تَحْتَ العَرْشِ يدْعَى ماءُ الحيوانِ ، ينبتون في قُبُورِهِم نبات الزَّرْعِ ، حتى إذا استكملت أجْسَادهم نفخ فيه ارُّوح ، ثم يلقى عليهم نومة فينامُونَ في قبورهم ، ثم يُحْشَرُونَ بالنَّفْخَةِ الثَّانية ، وهم يجدون طعم النَّوْم في رُءُوسهم وأعينهم ، فعند ذلك يَقُولُونَ :

{ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ يس : 52 ] .
الثاني : أن [ هذا ] التَّشْبِيه إنَّمَا وقع بأصل الإحْيَاء ، والمعنى : أنَّهُ تعالى أحيى هذا البَلَدَ بعد خَرَابِهِ ، فأنبت فيه الشَّجَرَ فكذلك يحيى الموتى بعد أن كانوا أمْواتاً؛ لأنَّ من قدر على إحداث الجسم ، وخلق الرُّطُوبَةِ والطعم فيه ، يكون قادراً على إحداث الحياة في بدن الميِّتِ .
قال ابن الخطيب : واعلم أنَّ الذَّاهبين إلى القولِ الأوَّلِ إن اعتقدوا أنَّهُ لا يمكن بَعْث الأجْسَادِ ، إلا بأنْ يمطر على تلك الأجساد البَاليةِ مَطَراً على صفة المَني فقد بعدوا؛ لأنَّ القادر على أنْ يحدث في ماء المطر صفة ، تصير باعتبارها منيّاً ، لم لا يَقْدِرُ على خلق الحياةِ في الجِسْم؟ وأيضاً فهب أن ذلك المطر ينزل ، إلا أنَّ أجزاء الأمْوات متفرقة ، فبعضها بالمَشْرِقِ وبعضها بالمغربِ ، فمن أين ينفعُ ذلك المَطَرُ في توليد تلك الأجْسَام؟
فإن قالوا : إنَّهُ تعالى بقدرته وحكمته يجمع تلك الأجْزَاءَ المتفرّقَةَ ، فَلِمَ لمْ يقُولوا : إنَّهُ بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجْزاء المتفرقة ابتداءً من غير واسطة ذلك المطر؛ وإن اعتقدُوا أنه تعالى قادر على إحياء الأمْواتِ ابتداءً ، إلا أنه تعالى إنَّمَا يحييهم على هذا الوَجْهِ ، كما أنَّهُ قادرٌ على خلق الأشخاص في الدُّنْيَا ابتداءً إلا أنَّهُ أجرى عادته بأنَّهُ لا يخلقهم إلاَّ من أبوين ، فهذا جَائِزٌ .
ثم قال تعالى : { لَعلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : أنكم لما شاهدتم أنَّ هذه الأرض كانت مزيَّنَة وقت الرَّبيع والصَّيْفِ بالأزهار والثِّمار ، ثم صارت عند الشِّتاء ميتة عارية عن تلك الزّينة ، ثم إنَّهُ تعالى أحياها مرَّةً أخرى ، فالقادر على إحيائها بعد موتها يَجِبُ أن يكون قَادِراً على إحياء الأجساد بَعْدَ موتها أيضاً .

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

قيل : هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكَافِر بالأرْضِ الخيرة والأرض السَّبِخَةِ ، وشبه نُزُولَ القرآن بنُزُولِ المطرِ ، فشبّه المؤمن بالأرض الخيرةِ التي ينزلُ عليها المَطَرُ ، فَتُزْهِرُ وتثمرُ ، وشبَّهَ الكافر بالأرض السَّبخة ، فهي وإنْ نزل عليها المطر لم تزهر ولم تثمر .
وقيل : المرادُ أنَّ الأرض السَّبخة يقلُّ نفعها وثمرها ، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها ، بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليقُ بها من المَنْفَعَةِ ، فمن طلبَ هذا النفع اليَسِيرَ بالمشَقَّةِ العظيمة ، فلأن يطلب النَّفْعَ العَظيم الموعود به في الآخرة بالمَشَقَّةِ الَّتِي لا بد من تحصيلها في أداء الطَّاعاتِ أوْلَى .
قوله : « بإِذْنِ رَبِّهِ » يجوزُ أن تكون « الباء » سببية أو حالية وقرىء : « يُخْرِجُ نَبَاتَهُ » ، أي : يخرجه البلد وينبته .
قوله : « والَّذِي خَبُثَ » يريد الأرْضَ السَّبخةَ التي لا يخرج نباتها .
يقال : خَبُثَ الشَّيءُ يَخْبُثُ خُبثاً وخَبَاثَةً .
قال الفراء : قوله : « إلاَّ نَكِداً » فيه وجهان :
أحدهما : أن ينتصب حالاً أي عَسِراً مُبْطئاً . نَكِدَ يَنْكَدُ نَكَداً بالفَتْحِ ، فهو نِكدٌ بالكسر .
والثاني : أن ينتصب على أنَّهُ نَعْتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : إلاخروجاً نَكداً ، وصف الخروج بالنَّكد كما يوصَفُ به غيره ، ويؤيِّدُهُ قراءة أبي جعفر بن القَعْقَاعِ : « إلاَّ نَكَداً » بفتح الكاف .
قال الزَّجَّاج : وهي قراءة أهْلِ المدينةِ ، وقراءة ابن مصرِّف : « إلا نَكْداً » بالسُّكُونِ وهما مصدران .
وقال مكيٌّ : « هو تخفيفُ نَكِد بالكَسْرِ مثل كَتْفٍ في كَتِف » .
يقال : رجل نَكِد ، وأنْكَد ، والمَنْكُود : العطاء النَّزْرُ وأنشدوا [ في ذلك ] : [ السريع ]
2495 - وأعْطِ مَا أعْطَيْتَهُ طَيِّيباً ... لا خَيْرَ في المَنْكُودِ والنَّاكِدِ
وأنشدوا : [ المنسرح ]
2496 - لا تُنْجِزُ الوَعْدَ إنْ وَعَدْتَ وَإنْ ... أعْطَيْتَ أعْطَيْتَ تَافِهاً نَكِدا
وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بْن عُمَرَ : « يُخْرَج » مبنيّاً للمفعول ، « نَبَاتُه » مرفوعاً لقيامة مقام الفاعل ، وهو الله تعالى .
وقوله : « والَّذِي خَبُثَ » صفة لموصوف محذوف ، أي : والبلد التي خَبُثَ ، وإنَّما حذف لدلالةِ ما قبله عليه ، كما أنَّهُ قد حذف منه الجار في قوله : « بإِذْنِ ربِّهِ » ، إذ التقديرُ : والبلد الذي خَبث لا يخرج بإذن ربه إلا نَكِداً . ولا بدَّ من مضاف محذوف : إمّا من الأوَّلِ تقديرُهُ : ونبات الذي خبُث لا يخرج ، وإمَّا من الثَّاني تقديره : والذي خَبُثَ لا يخرجُ نباته إلا نكداً ، وغاير بين الموصُوليْنِ ، فجاء بالأول بالألِفِ واللاَّمِ ، وفي الثَّاني جاء بالذي ، ووُصِلَتْ بفعل ماض .
قوله : « كَذَلِكَ » تقدم نظيره .
{ نُصَرِّفُ الآيات } . قرئ : « يُصرِّفُ » أي يصرفها الله ، وختم هذه الآية بقوله : { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } ؛ لأنَّ الذي سبق ذكره هو أنَّهُ تعالى يحرك الرِّياح اللطيفة النافعة ، ويجعلها سبباً لنزول المطر ، الذي هو الرَّحمة ، ويجعل تلك الرياح والأمطار سبباً لحدوث أنواع النَّبات النافعةِ ، فمن هذا الوجهِ ذكر الدَّليل الدَّال على وجود الصَّانع ، وعلمه ، وقدرته ، وحكمته ، ونبَّه من وجه آخر على إيصال هذه النعم العظيمةِ إلى العبادِ ، فمن الوَجْهِ الأوَّلِ وصفها بأنَّهَا آيات ، ومن الوجْهِ الثَّانِي أنَّها نعم يجبُ شكرها وخصَّها بكونها آيات للشَّاكرين؛ لأنَّهُم المنتفعون بها ، كقوله :

{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
روى أبُو بُرْدَةَ عن أبي موسى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : مثل ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثيرِ أصَابَ أرضاً ، فَكَانَ مِنْهَا بُقْعَة قَبِلتِ الماءَ ، فأنْبَتَت الكَلأ والعُشُبَ الكثيرَ ، وكانَ مِنْهَا أجَادبُ أمسكَتِ المَاءَ ، فَنَفَعَ اللَّهُ به النَّاس فَشَرِبُوا وسَقَوْا من فقههُ في دين اللَّهِ ، ونَفَعَهُ بما بعثني اللَّهُ به فعلم وعلَّمَ ، ومثل من لم يَرْفَعْ بذلك رَأساً ولمْ يَقْبْلْ هدى الله الذي أرْسِلْتُ بِهِ .

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)

لمَّا قرر المعاد بالدَّليل الظَّاهِرِ أتبعه بذكْرِ قَصَصِ الأنْبِياء لفوائد :
أحدها : التَّنبيه على أنَّ إعراض النَّاسِ عن قبول الدلائل والبينات ليس مَخْصوصاً بِقَوْم مُحَمَّد - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - بل هذه العادَةُ المذمُومَة كانت حاصلة في جميع الأمَم السَّابقة ، والمصيبة إذا عمَّت خَفَّت ، ففي ذِكْرِ قَصَصِهم تسلِيَة للرَّسُولِ - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - وتخفيف عن قَلْبِهِ .
وثانيها : أنَّهُ تعالى يحكي في هذه القَصَصِ أنَّ عَاقِبَة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللّعْنِ في الدُّنْيَا ، والخسارة في الآخِرَةِ ، وعاقبة أمر المحقّين [ إلى الدَّوْلَةِ في الدُّنْيَا ، والسَّعادة في الآخرة ، وذلك يقوي قلوب المُحِقِّين ] ، ويكسر قلوب المبطلين .
وثالثها : التنبيه على أنَّهُ تعالى ، وإن كان يمهل المبطلين لكنَّهُ لا يُهْمِلُهُمْ بل يعاقِبُهُم ، وينتقمُ منهم .
ورابعها : بيان ما في هذه القصص من الدّلالةِ على نُبُوَّةِ محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأنَّهُ كان أميّاً ، لم يطالع كتاباً ، ولا تَلْمَذَ لأستاذن فإذا ذكر هذه القصص من غير تحريف ولا خطأ دَلَّ ذلك على أنَّهُ عرفها بوحي من الله تعالى .
قوله : « لقد أرْسَلْنَا » جواب قسم محذوف تقديره : « والَّه لقد أرْسَلْنَا » .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قلت : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللاَّم إلاَّ مع « قَدْ » ، وقلَّ عنهم قوله : [ الطويل ]
2497 - حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ ... لَنَامُوا . . .
قلتُ : إنَّمَا كان ذلك؛ لأنَّ الجملة القسميَّة لا تساقُ إلا تأكيداً للجملةِ المُقْسَم عليها ، التي هي جوابها ، فكانت مَظَنَّةً لمعنى التَّوَقُّعِ الذي هو معنى « قَدْ » استماع المخاطب كلمة القسم .
وأما غير الزَّمَخْشَريِّ من النُّحَاةِ فإنَّهُ قال : إذا كان جواب القسم ماضياً مثبتاً متصرفاً : فإمَّا أن يكُونَ قريباً من زمن الحال فتأتي ب « قَدْ » وإلاَّ أتيت باللاَّم وَحْدَهَا فظاهر هذه العبارة جواز الوَجْهَيْنِ باعتبارَيْنِ .
وقال هناهنا : « لقد » من غير عاطف ، وفي « هود » [ 25 ] و « المؤمنين » [ 23 ] : ولقد بعاطف ، وأجاب الكَرْمَانيُّ بأن في « هود » قد تقدَّم ذكر الرَّسولِ مرَّات ، وفي « المؤمنين » ذكر نُوحٍ ضِمْناً في قوله { وَعَلَى الفلك } [ غافر : 80 ] ؛ لأنَّهُ أوَّلُ من صنعها ، فحسن أن يُؤتى بالعاطف على ما تقدَّمن بخلافِهِ في هذ السُّورةِ .
فصل
هو نُوحُ بْنُ لملك بْنِ متوشلح بْنِ اخنوخ ، وهو إدريس وهو أول نبيّ بعثه الله بعد إدريس .
وقال القُرْطُبِيُّ : « وهو أوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ بعد آدم بتحريم النبات والعمَّاتِ ، والخالاتِ ، وكان نَجَّاراً ، بعثَهُ اللَّهُ إلى قومه وهو ابن خمسين سنة » .
وقال مُقَاتِلٌ : « ابن مِائَةِ سَنَةٍ » .
قال النَّحَّاسُ : « وانصرف؛ لأنَّهُ على ثلاث أحرف » .
وقال ابن عباس : « سُمِّي نوحاً لكثرة نَوْحِهِ على نَفْسِهِ » .

واختلفُوا في سبب نَوْحِهِ ، قال بعضُهُم : لدعوته على قومه بالهلاكِ ، وقيل : لمراجعته رَبَّه في شأنِ ابنه كَنْعَانَ .
وقيل : لأنَّهُ مرّ بكلب مَجْذُومٍ فقال : اخْسَأ يا قبيحُ يا كَلْبُ ، فأوْحَى الله إليه : أعبتني أم عبت الكلب .
قال ابن عباس : « معنى أرْسَلْنَا : بَعَثْنَا » .
وقال آخرون : معنى الإرسال أنَّهُ تعالى حمَّلُهُ رسالة يُؤدِّيهَا ، فارِّسَالةُ على هذا التَّقديرِ تكون متضَمِّنَةً للبعث ، فيكونُ البعث كالتَّابشع لا أنَّهُ الأصلِ .
قوله : « فقال يا قوم اعْبُدُو الله » جيء هنا بفاء العطف في قوله : « فَقَال » ، وكذا في المؤمنين وفي قصّة هودٍ وصالحٍ وشُعَيْبٍ هنا بغير فِاء ، والأصلُ الفاء ، وإنَّمَا حذفت تَخْفيفاً ، وتوسعاً [ و ] اكتفاء بالرّبْطِ المَعْنَوِيِّ ، وكانت اللواتي بعدها بالحذف أولى . وأما في هود فيقدَّر قبل قوله : « إنّي لَكُمْ » : « فقال » بالفَاءِ على الأصْلِ .
وجاء هنا : { مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } فلم يعطف هذه الجملة المنفيَّةِ بفاءٍ ولا غيرها ، لأنَّهَا مبنية ومثبتة على اختَصَاصِ اللَّهِ - تعالى - بالعبادةِ ورفض ما سواه ، فكانت في غايةِ الاتِّصال فقال : يا قَوْمِ اعبدُوا الله .
فصل في بيان نسب « نوح »
قال ابن العربيِّ : ومن قال : إن إدْرِيسَ كان قبل نوح فقد وهمَ ، بدليل حديث الإسْرَاءِ الصَّحيحن حين لَقِيَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم آدمَ وإدريس ، فقال له آدمُ : مرحباً بالنَّبِيِّ الصالح والابن الصالحن وقال له إدريس : مرحباً بالنَّبيِّ الصَّالح ، والأخ الصَّالح فلما قال له : « والأخ الصالح » دلَّ على أنَّهُ يجمع معه في نُوح .
قال القَاضِي عياضٌ : جواب الآبَاء هناهنا كَنُوحٍ ، وإبراهيم وآدم : مرحباً بالابن الصالح ، وقال عن إدريس : بالأخ الصالح كما ذكر عن مُوسَى وعيسى ، ويوسف [ وهارون ويحيى ممَّنْ ليس بأبٍ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم باتِّفَاقٍ ] .
فصل في بيان أجناس البشر
قال القُرْطُبِيُّ : ذكر النَّقَّاشُ عن سليمان بن أرقم عن الزهري أنَّ العربَ ، وفارسَ والرُّومَ ، وأهلَ الشَّامِ واليمن من ولد سام بن نوح ، والهند والسِّنْد والزِّنْج ، والحبشَة والزُّطّ والنُّوبة وكل جِلْدٍ أسْوَدَ من ولد حامٍ ، والترْك ، والبربر ووراء النهر والصين ، ويأجوج ومأجوج والصَّقَالِبَة من ولد يافثِ بن نُوحٍ ، والخلق كلهم ذُرية نُوحٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
قوله : { }
قرأ الكِسَائِيُّ « غيره » بخفض الرَّاءِ في جميع القُرآنِ ، والباقون برفعها ، وقرأ عيسى بْنُ عمرَ بنصبها ، فالجرُّ على النَّعْتِ والبَدَلِ من موضع « إله » ؛ لأن « مِنْ » مزيدة فيه ، وموضعه رفع : إما بالابتداء ، وإمَّا بالفاعليةَّ ، ومنع مكيٌّ في وجه الجرِّ أن تكون بدلاً من إله على اللَّفْظِ ، قال : كما لا يَجُوزُ دخول « مِنْ » لو حذفت المبدل منه؛ لأنّضاه لا تدخل في الإيجابِ ، وهذا كلام متهافت .

والنَّصْبُ على الاستِثْنَاءِ ، والقراءتانِ الأوليانِ أرجح؛ لأنَّ الكلام متى كان غير إيجاب ، رجَّح الاتباع على النَّصْبِ على الاستثناء وحكم غير حكم الاسم الواقع بعد « إلاَّ » ، و « مِنْ إلهٍ » إذا جَعَلْته مبتدأ فلك في الخبر وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ « لَكُمْ » .
والثاني : أنَّهُ محذوف ، أي : ما لكم من إله في الوجود ، أو في العالم غير الله ، و « لَكُمْ » على هذا تخصيص وتبيين .
فصل فيما تضمنته الآية من حذف
قال الواحِدِيُّ : « في الكلام حذفٌ ، وهو خبر ما؛ لأنَّكَ إذا جعلت غيره صفة لقوله : » إله « لم يبق لهذا المنفي خبر ، والكلامُ لا يستقِلُّ بالصِّفةِ والموصوف ، فإنَّكَ إذا قلتَ : زيدٌ العاقلُ وسكتَّ لم يُفِدْ ما لم تذكر خبره ويكون التَّقْدِيرُ : ما لكم من إله غيره في الوجود » .
قال ابن الخطيب : اتَّفَقَ النَّحويُّونَ على أنَّ قولنا : « لا إله إلا الله » لا بد فيه من إضمار ، والتَّقْديرُ : لا إله في الوجود إلا الله ولا إله لنا إلا الله ، ولم يذكروا على هذا الكلام حجَّةً ، فنقولُ : لِمَ لا يجوز أن يقال : دخل حرف النَّفي على هذه الحقيقةِ وعلى هذه الماهِيَّةِ ، فيكون المعنى أنَّهُ لا تحقق لحقيقة الإلهية إلا في حقِّ الله تعالى ، وإذا حملنا الكلامَ على هذا المعنى استغنينا عن الإضْمَارِ الذي ذكروه .
فإنْ قالوا : صرف النفي إلى الماهِيَّةِ لا يمكنُ؛ لأنَّ الحقائِقَ لا يُمْكِنْ نَفْيُهَا ، فلا يمكن أن يُقَال : لا سواد بمعنى ارتفاع هذه الماهِيَّةِ ، وإنَّمَا الممكن أن يقال : إنَّ تلك الحَقَائِقَ غيرُ موجودة ، ولا حاصلة ، وحينئذٍ يجب إضمار الخبر فنقول : هذا الكلامُ بِنَاءٌ على أنَّ الماهيَّة لا يمكن انتِفَاؤُهَا وارتفاعها ، وذلك بَاطِلٌ قطعاً ، إذ لو كان الأمر كذلك؛ لوَجَبَ امتناعُ ارتفاع الوُجُودِ؛ لأنَّ الوُجُود أيضاً حقيقة من الحقائق ، وماهيّة من المَاهِيَّات؛ فوجب ألاَ يرتفعَ الوُجودُ أيضاً ، فإن أمكن ارتفاع الوُجُودِ مع أنَّهُ ماهيّة وحقيقة فلم لا يمكنُ ارتفعُ سائر الماهيَّاتِ .
فصل في بيان أن المستحق للعبادة هو الله
دلَّ ظَاهِرُ الآيةِ على أنَّ الإله هو الذي يستحقُّ العبادة؛ لأن قوله : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } إثبات ونفي ، فيجب أن يتواردا على مَفْهُوم وَاحِدٍ حتى يستقيم الكلامُ ، فكان المَعْنَى : اعبدوا الله ما لكم من معبودٍ غيره ، حى يَتَطابَقَ النَّفي والإثبات ، ثم ثبت بالدَّليل أنَّ الإله ليس هو المعبود ، وإلاَّ لوجب كونُ الأصنام آلهة ، وألاَّ يكون الإله إلهاً في الأزَلِ ، لأنَّهُ في الأزَلِ غير معبود ، فوجب حملُ لفظ الإله على أنَّهُ المُسْتَحِقُّ للعبادةِ .
قوله : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .
اختلفوا في معنى قوله : { إني أَخَافُ } هل هو اليقين؟ أو الخوف بمعنى الظنِّ والشكِّ؟ فقيل : المرادُ : الجزم واليقين؛ لأنَّهُ كان جازماً أنَّ العذابَ ينزل بهم : إمَّا في الدُّنْيَا ، وإمَّا في الآخرة ، إن لم يَقْبَلُوا الدَّعْوَة .

وقيل : بل المرادُ منه الشَّكُّ لوجوه :
[ أحدها ] : إنَّمَا قال : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ } ؛ لأنَّهُ جوَّزَ أن يؤمنوا ، وأن يستمروا على كفرهم ، ومع هذا التَّجْويز لا يكون قاطعاً بنزول العذاب ، فهذا قال : « أخَافُ عَلَيْكُمْ » .
وثانيها : أنَّ حُصُولَ العذاب على الكُفْرِ والمعصية أمْرٌ لا يعرف إلا بالسَّمْع ، فَلَعَلْ الله - تعالى - ما بيّن له كيفيَّة هذه المسألة ، فلا جرم جوَّزَ أنَّ الله - تعالى - هل يعاقبهم أم لا؟ .
وثالثها : يحتمل أنْ يكُون المرادُ من الخَوْف الحذر ، كقوله في الملائكة : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن } [ النحل : 50 ] أي يحذرون المعاصي خَوْفاً من العقاب .
ورابعها : أنهُ بتقدير أن يكُون قاطعاً بنُزُولِ العذابِ لكنَّهُ ما كان عارفاً بمقدار ذلك العذاب فكان هذا الشَّكُ راجعاً إلى وصف العذاب لا في أصْلِ حصولهِ ، والمراد بذلك العذاب إمَّا عذاب يوم القيامة ، أو عذابُ الطُّوفان .
فإن قيل : إنه تعالى حكى عن نُوحٍ - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - في هذه الآية أنَّهُ أمر قومه بثلاثَةِ أشياء :
الأوَّلُ : أمرهم بعبادة الله ، والمقصودُ منه إثبات التَّكليف .
الثاني : أنَّهُ حكم أن لا إله غَيْرُ الله ، والمقصودُ منه الإقرار بالتَّوْحيد ، ثم قال عقيبَهُ : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ، وهذا هو الدَّعوى الثَّالثة ، وعلى هذا التَّقديرِ فقد ادَّعى الوحي والنُّبوَّةَ من عند اللَّه ، ولم يذكر على صِحَّةِ واحد منها دليلاً ولا حجَّةً ، فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التَّقْلِيد فهذا باطل؛ لأنَّ الله - تعالى - مَلأَ القرآنَ من ذمِّ التقليد ، فكيف يليق بالرَّسُول المعصوم الدَّعوةُ إلى التقليد؟ وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدَّليل ، فهذا غير مذكور .
فالجوابُ : أن الله - تعالى - ذكر في أوَّلِ السُّورةِ دلائلَ التَّوحيد والنُّبوَّةِ وصحَّةِ المعاد ، وذلك تنبيه منه تعالى على أنَّ أحداً من الأنبياء لا يدعو إلى هذا الأصُولِ إلا بذكر الحُجَّةِ والدَّلِيل أقصى ما في البابِ أنَّهُ تعالى ما حكى عن نُوحٍ في هذا المقام ذكر تلك الدَّلائل لما كانت معلومة .

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)

قوله : « قَالَ المَلأ » .
قال ابن عطية : وقرأ ابن عامر : « المَلَؤُ » بواوٍ ، وهي كذلك في مصاحفِ الشَّامِ ، وهذه القراءةِ ليست مَشْهُورةٌ عنه قال المفسِّرُونَ : الملأ : الكبراء والسَّاداتُ الذين جعلَوا أنفسهم أضداد الأنبياء ، ويدلُّ على ذلك قوله : « مِنْ قَوْمِهِ » ؛ لأنَّهُ يقتضي التَّبْعِيضَ ، وذلك البَعْضُ لا بدَّ وأن يكونوا موصوفين بِصِفَةٍ لأجلها استحقُّوا هذا الوَصْفَ بأن يكونوا هم الذين يملئون صدور المَجَالس ، وتمتلىء القلوب من هَيْبَتِهِم ، وتمتلىءُ الأبصارُ من رُؤيتهم ، وهذه الصِّفاتُ لا تحصل إلا في الرُّؤسَاءِ .
قوله : « إنَّا لَنَرَاكَ » يجوزُ أن تكون الرُّؤيَةُ قلبية فتتعدى لاثنين ثانيهما « في ضلالِ » ، وأن تكون البَصريَّة وليس بظاهر فالجارُّ حال ، وجعل الضَّلالِ ظَرْفاً مبالغة في وصفهم له بذلكَ ، وزادوا في المبالغة أكَّدثوا ذلك بأن صَدَّرُوا الجملة ب « إنَّ » وفي خبرها اللاَّم .
وقوله : { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } الضَّلالُ ، والضَّلالةُ ، العدول عن الحق .
فإن قيل : قولهم : إنَّا لنراك في ضلال جوابه أن يقال : ليس في ضلال فَلِمَ أجاب بقوله { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } .
فالجوابُ أنَّ قوله : { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } من أحسن الردِّ وأبلغه؛ لأنَّهُ نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة فضلاً عن أن يحيط به الضلالُ ، فكان المعنى : ليس بي نوع من أنْواعِ الضَّلالة ألْبَتَّةَ ، فكان هذا أبْلَغَ في عموم السّلب فلو قال : لستُ ضالاًّ لم يُؤدِّ هذا المعنى .
واعلم أنَّ القَوْمَ إنما نسبوا نوحاً في ادِّعَاءِ الرِّسالةِ إلى الضَّلالة لأمور :
أحدها : أنَّهُمْ استبعدوا أن يكون للَّهِ رَسُولاً إلى خلقه ، لاعتقادهم أن المقصود من الإرْسَالِ التَّكْلِيفُ : والتَّكْلِيفُ لا منفعة فيه للمَعْبُودِ؛ لأنَّهُ متعالٍ عن النَّفْعِ والضَّرَرِ ، ولا مَنْفَعَةَ فيه للعابد؛ لأنَّهُ فِي الحالِ مضرَّة ، وما يوحى فيه من الثَّواب والعقاب فاللَّهُ - تعالى - قادر على تحصيله بغير واسطة تكليفٍ ، فيكونُ التَّكليف عبثاً ، واللَّهُ منزهٌ عن العَبَثِ .
وثانيها : أنَّهُم وإن جَوَّزُوا التَّكْلِيفَ إلا أنَّهُم قالُوا : ما علمنا حسنه بالعَقْلِ فعلناه ، وما علمنا قُبْحَهُ تركناه حَذَراً من خَطَرِ العقابِ ، فاللَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن أنْ يكلِّفَ عبده ما لا طاقة له به ، وإذا كان رسولُ العقل كافياً ، فلا حاجة إلى بعثه رسولاً آخر .
وثالثها : أي بتقدير أنَّهُ لا بدَّ من الرسول ، فإرسال الملائكة أولى؛ لأنَّ مهابتهم أشَدُّ ، وطهارتهم أكملُ ، وبعهدهم عن الكذب أعْظَمُ .
ورابعها : اعلم أنَّ بتقدير أن يَبْعَثَ رَسُولاً من البشرِ ، فلعلَّ القوم اعتقدوا أن الفقيرُ الذي ليس له أتباعٌ ، ولا رئاسة لا يليق به منصب الرسالة ، أو لعلَّهم اعتقدُوا أنَّ ادعاء نوح الرِّسالة من باب الجُنُونِ وتخييلات الشَّيطان ، فلهذه الأسباب حَكَمُوا على نوح بالضَّلالِ ، وقد أجابهم نُوحٌ ببقية الآيَةِ على ما يأتي في أثنائها .
ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما نفى العيبَ عن نفسه ، وصف نفسه بأشرف الصِّفات وهو قوله : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } جاءت « لَكِنَّ » هنا أحسن مجيء؛ لأنَّها بين نقيضين؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو من أحدَ شَيْئَيْنِ : ضلال ، أو هدى ، والرِّسَالة لا تجامع الضَّلال .
و « مِنْ رَبِّ » صفة ل « رَسُول » ، و « مِنْ » لابتداء الغاية المجازية .

أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)

قوله : « أبَلَّغُكُمْ » يجوزُ أن تكون جملة مستأنفة أتى بها لبيانِ كونه رسولاً ، ويجوز أن تكون صفةً ل « رَسَولِ » ، ولكنَّهُ راعى الضَّمِيرَ السَّابِقَ الذي للمتكلِّم فقال : أبَلِّغُكُمْ ، ولو راعى الاسم الظَّاهِرَ لقال : يُبَلِّغكم ، والاستعمالان جائزان في كلِّ اسم ظاهرٍ سبقه ضمير حاضر من متكلم ، أو مخاطب فتحرَّر لك فيه وجهان :
مراعاةُ الضَّميرِ السَّابِقِ ، وهو الأكثر ، ومراعاة الاسم الظَّاهر فيقول : أنَا رجلٌ أفعل كذا مراعاة ل « أنا » ، وإن شئت أنا رجل يفعل كذا مراعاة لرجُلٍ ، ومثله : أنْتَ رجلٌ يفعل وتفعلُ بالخطاب والغيبة .
وقرأ أبو عَمْرو : « أبْلِغُكُمْ » بالتَّخفيف ، والباقون بالتَّشديدِ ، وهذا الخلافُ جارٍ هنا في الموضعين ، وفي الأحقاف والتَّضعيف والهمزة للتَّعْدِيَةِ كأنْزَلَ ، ونَزَّلَ ، وجمع « رسالة » باعتبار أنواعها من أمر ونهي ، ووعظ ، وزجر ، وإنذار ، وإعذار ، وقد جاء الماضي على أفْعَل في قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ } [ هود : 57 ] فهذا شاهدٌ لقراءة أبِي عَمْرٍو ، وجاء على فعَّل في قوله : { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [ المائدة : 67 ] فهذا شاهدٌ لقراءة الجماعة .
واعلم أنَّهُ ذكر ما هو المقصود من الرِّسالة ، وهو أمران : أن يبلغ الرِّسالة ، وتقدرير النَّصِيحَةِ ، والفرقُ بينهما أنَّ تبليغ الرِّسالة معناه : أن يعرفهم أنْوَاعَ تَكَاليفِ اللَّه ، وأوامره ، ونواهيه ، وأمَّا النَّصيحةُ فهو ترغيبهم في الطَّاعَةِ ، وتحذيرهم عن المعاصي .
قوله : « وأنْصَحُ لَكُمْ » .
قال الفرَّاءُ : العربُ لا تَكَادُ تقُولُ : نصحتك ، إنَّمَا يقولون : نصحتُ لك ، ويجوز أيضاً : نَصَحْتُكَ .
قال النابغة : [ الطويل ]
2498 - نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَقْبَلُوا نُصْحِي ... وسُؤلِي ، وَلَمْ تَنْجَحْ لَديْهِمْ رَسَائِلِي
فصل في بيان حقيقة النصح
وحقيقةُ النُّصْحِ الإرْشَادُ إلى المصلحةِ مع خلوص النية من شوائب المكروه ، والمعنى : إنِّي أبَلِّغ لَكُمْ تَكَالِيفَ اللَّهِ ، ثمَّ أرشدكم إلى الأصوب ، والأصْلَحِ ، وأدعوكم إلى ما دَعَانِي ، وأحبِّبُ لكم ما أحبه لنفسي .
قوله : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
قيل : أعلم أنكُم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطُّوفَانِ .
وقيل : أعلم أنَّهُ يعاقكم في الآخرة عذاباً شديداً ، خارجاً عمَّا تتصوَّرُهُ عقولُكْمْ .
وقيل : أعلم من توحيد الله وصفاتِ جلالهِ ما لا تعلمون . والمقصود من ذكر هذا الكلام : حملُ القَوْمِ على أنْ يرجعوا إليه في طلب تلك العُلُومِ .
واعلم أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - أزال تعجبهم وقال : إنَّه تعالى خالق الخلق ، فله بحكم الإلهية أنْ يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ، ولا يجوزُ أن يخاطبهم بتلك التَّكاليف من غير واسطة؛ لأنَّ ذلك ينتهي إلى حَدِّ الإلجاء ، وهو يُنَافِي التَّكْلِيف ، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسُولُ من الملائكة ، لما تقدَّم في « الأنعام » في قوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } [ الأنعام : 9 ] ، فلم يَبْقَ إلا أن إيصال التَّكالِيف إلى الخَلْقِ بواسطة إنسان يبلغهم ، وينذرهم ويحذرهم ، وهذا جوابُ شُبَهِهم .

قوله : « أوَ عَجْبتُمْ » ألفُ استفهامٍ دخلت على واو العَطْفِ ، وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهَمْزَةِ السَّابقة على الواو ، وقدَّر الزمخشري على قاعدته معطوفاً عليه محذوفاً تقديره : أكذَّبْتُمْ وعجبتم « أنْ جَاءَكُمْ » أي : مِنْ جاءكم ، فلما حذف الحَرْفَ جرى الخلاف المشهورُ .
« مِنْ رَبِّكُمْ » صفةٌ ل « ذِكْر » .
« عَلَى رَجُلٍ » : قال ابْنُ قُتَيْبَةَ : [ قال الفرَّاءُ ] : يجوز أن تكون على حذف مضافٍ ، أي : على لِسَانِ رَجُل « .
وقيل : على بمعنى » مع « ، أي : مع رجل فلا حذف .
وقيل : لا حاجة إلى حَذْف ، ولا إلى تضمين حرف؛ لأنَّ المعنى أُنزل إليكم ذِكْر على رَجُلٍ ، وهذا أوْلى؛ لأنَّ التَّضْمِينَ في الأفعال أحسن منه في الحُرُوفِ لقوَّتِهَا وضعف الحُرُوفِ .
فصل في معنى » الذكر «
قال ابنُ عَبَّاسٍ : الذَّكْرُ الموعظة .
وقال الحَسَنُ : إنه الوَحْيُ الَّذي جَاءَهُمْ بِهِ .
وقيل : المراد بالذِّكْرِ المُعْجِز .
وقيل : بيان » عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ « أي تعرفون نسبه ، فهو منكم نسباً .
» ليُنْذِرْكُمْ « أي : لأجْلِ أن ينذركم عذابَ اللَّه .
» وَلِتَتَّقُوا « أي : لكي تَتَّقُوا .
» وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون « أي : لكي ترحموا .
فصل في دحض شبهة للمعتزلة
قال الجُبُّائِيُّ ، والكَعْبِيُّ ، والقاضي : دلَّتْ هذه الآية على أنَّهُ تعالى أراد من بعثة الرُّسُل إلى الخلق التَّقْوَى ، والفوزَ بالرَّحْمَةِ ، وذلك يبطل قول من قالك إنَّهُ تعالى أراد من بعضهم الكُفْرَ والعِنَادَ ، وخلقهم لأجل العذاب والنارِ .
والجوابُ بأن نقول : إن لم يَتَوَقَّفِ الفعل على الدّاعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح ، وإن توقَّف لزم الجَبْرُ ، ومتى لزم ذلك ، وجب القطعُ بأنَّهُ تعالى أراد الكُفْرَ ، وذلك يبطلُ مذهبكم .
قوله : » فَكَذَّبُوهُ « : أي في ادِّعَاءِ النُّبوُّةِ والرِّسالةِ .
» فَأنْجَيْنَاهُ « من الطُّوفان ، وأنجْينا من كان معه [ وكانوا أرْبَعِينَ رجلاً ، وأربعين امرأة ] .
وقيل : عشرةٌ : بَنُوه : حَامٌ ، وسامٌ ، ويافث ، وسبعة ممن آمن معه من المؤمنين .
» فِي الفُلْكِ « أي : في السَّفِينَةِ ، وأغرقنا الكُفَّارَ والمكذِّبين ، وبين العِلَّة في ذلك فقال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } .
قوله : » فِي الفُلْكِ « يجوزُ أن يتعلق ب » أنْجَيْنَاهُ « ، أي : أنجيناه في الفلك ، [ ويجوز أن تكون » فِي « حينئذٍ سببيَّةً أي : بسبب الفُلْكِ ] كقوله : » إنَّ امْرَأةً دخلت النَّارَ في هِرَّةٍ « ، ويجوزُ أن يتعلق في الفلك بما تعلَّق به الظَّرْفُ الواقع صلةً ، أي : الذين استقرُّوا في الفلك معه .
» وعَمِيْنَ « جمع عَمٍ ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة .
وقيل : عمٍ هنا إذا كان أعْمَى البصيرة ، [ قال ابن عباس : عَمِيَتْ قلوبُهُم عن معرفة التَّوْحِيد ، والنَّبوة والمعَادِ قال أهل اللُّغَة ] : غير عارفٍ بأموره ، وأعْمَى أي في البَصَرِ .
قال زُهَيْرٌ : [ الطويل ]
2499 - وأعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ... ولَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمٍ
قاله اللَّيْثُ وقيل : عم وأعْمَى بمعنىً ، كخَضِرٍ وأخْضَر .
وقال بعضهم : » عَم « فيه دلالةٌ على ثبوت الصِّفةِ واستقرارها [ كفَرِح ] وضيّق ، ولو أريد الحدوث لَقِيلَ : عامٍ كما يقال : فارحٌ وضَائِقٌ .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : قريء » قَوْماً عَامِينَ « .

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)

قوله « أخَاهُمْ » نصب ب « أرْسَلْنَا » الأولى ، كأنه قيل : لقد أرسلنا نُوحاً ، وأرسلنا إلى عادٍ أخاهُم ، وكذلك ما يأتي من قوله : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ } [ الأعراف : 73 ] ، { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ] { وَلُوطاً } [ الأعراف : 85 ] ، ويكونُ ما بعد « أخَاهُم » بدلاً أو عطف [ بيان ] . وأجاز مكيٌّ أن يكون النَّصْبُ بإضمار « اذْكُرْ » وليس بشيء لأنَّ المعنى على ما ذكرنا مع عدمِ الاحْتِيَاجِ إليه .
و « عاد » اسم للحيِّ ، ولذلك صَرَفَه ، ومنهم من جعله اسْماً للقبيلة ولذلك [ منعه ] قال : [ الرجز ]
2500- شَهْدَ عَادَ فِي زَمَانِ عَادِ ... ابْتَزَّهَا مَبَارِكَ الجِلادِ
الأصل اسم الأب الكبيرِ ، وهو عادُ بْنُ عوصِ بْنِ إرمِ بْنِ سَامِ بن نوُحٍ فسُمِّيت به القبيلةُ ، أو الحيّ .
وقيل : عادُ بْنُ أرمٍ بْنِ شَالِخ بِنْ أرفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نوح وهودُ بْنُ عبد الله بْنِ رَبَاحِ بْنِ الجَارُودِ ابْنِ عَادِ بِنْ عوص بن إرمٍ بْنِ سَامِ بْنِ نُوح ، وهي عادٌ الأولى ، وكذلك ما أشبهه من نحو « ثَمُود » إن جَعَلْته اسماً لمذكَّر صَرَفْتَه ، وإن جعلته اسماً لمؤنث مَنَعتهُ ، وقد بَوَّبَ له سيبويه باباً .
وأمّضا هو فاشتهر في ألْسِنَةِ النُّحَاةِ إنه عَرَبِيٌّ ، وفيه نظر؛ لأن الظَّاهِرَ من كلام سيبويه لمَّا عَدَّه مع نُوح ، ولوط أنَّهُ أعجمي ، ولأن : أبَا البركاتِ النَّسَّابَةَ الشَّريفَ حكى : أن أهلَ وعلى هذا يكون « هُودُ » أعجمياً ، وإنَّمَا صُرِفَ لما ذكر في أخوته نوحٍ ولُوطٍ .
وهود اسمه عابرُ بْنُ شَالِح بْنِ أرفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ .
فصل في نسب هود
اتَّفقوا [ على ] أن هوداً ما كان أخاهم في الدِّين ، واختلفوا في أنَّه هل كان هناك قَرَابَةٌ أم لا .
قال الكَلْبِيُّ : « كان واحداً منهم » .
وقال آخرون : كان من غيرهم ، وذكروا في تفسير هذه الأخوة وجهين :
الأول : قال الزَّجَّاجُ : كان من بني آدم ، ومن جِنْسِهِمْ ، لا من الملائكة ، ويكفي هذا القَدَرُ في تسمية الأخوة ، والمعنى : أنّا بعثنا إلى عادٍ واحداً من جنسهم ، لِيَكُون الفَهْمُ والأنس بكلامه وأفعاله أكْمَلُ ، ولم يبعث إليهم من غير جنسهم مثل ملك أو جني .
قال ابن إسحاق : وكان أوسطهم نَسَباً ، وأفْضَلَهُم حُسْناً .
روي أن عاداً كانت ثلاثَ عَشْرَةَ قبيلةً ينزلون الرِّمال ، وكانوا أهل بساتين وزروع وعمارةٍ ، وكانت بلادهم أخصبَ البلاد ، فسخط الله عليهم؛ فجعلهم مفاوز لأجل عبادتهم الأصْنَامَ ، ولحق هود حين أهلك قومه بمن آمن معه بِمَكَّةَ ، فلم يزالوا بها حتى ماتوا .
الثاني : « أخاهم » أي صاحبهم ، ورسولهم ، والعرب تسمِّي صاحب القوم أخَا القَوْم ، ومنه قوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] أي : صاحبتها ، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « إن أخَا صداء قَدْ أذن »

يريدُ صَاحِبَهُمْ .
فصل في مكان قوم عاد
اعلم أنَّ عاداً قوماً كانوا باليمينِ بالأحقاف .
قال ابن إسحاق : « والأحقافُ : الرَّمْلُ الذي بين عُمَان إلى حضرموت » .
واعلم أن ألفاظ هذه القصَّةِ موافقة للألْفَاظِ المذكورة في قصَّةِ نوح - عليه السَّلامُ - إلا في أشياء .
[ الأول ] : أن في قصَّة نُوحٍ : « فقال يا قَوْم » بالفاء ، وهنا قال بغير فاء ، فالفرق أنَّ نُوحاً - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - كان مواظباً على دعوتهم ، وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة ، وأما هودٌ فلم يبلغ إلى هذا الحدِّ؛ فلا جرم جاء بفاء التعقيب في كلام نُوح دون كلام هود .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قُلْتَ : لم حذف العَاطِف من قوله [ قال يا قوم ] ولم يقل « فقال » كما في قِصَّةِ نوح .
قلت : هو على تَقْدير سُؤالِ سائلٍ قال : فما قال لهم هود؟ فقيل : له : « قال يا قوم » .
الثاني : قال في قصة نوح : { مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 59 ] .
وهنا قال : « أَفَلاَ تَتَّقُونَ » ، والفرقُ بينهما أنَّ قبل نوح لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعةِ العظيمةِ ، وهي الطُّوفَانُ العظيم ، فلا جرم أخبر نُوحٌ عن تلك الواقعة فقال : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .
وأمّا واقعة هود - عليه السَّلامُ - فقد سبقتها واقعة نوح ، وكان عهد النَّاسِ بتلك الواقعة قريباً ، فلا جرم قال : « أفَلاَ تَتَّقُونَ » أي : تعرفون أنَّ قوم نوح لمَّا لم يتقوا الله ولم يطيعوه أنْزل بهمْ ذلكَ العذاب الذي اشتهر خَبَرُهُ في الدُّنْيَا ، فكان ذلك إشَارَةً إلى التَّخْوِيفِ بتلك الوَاقِعَةِ .
الثالث : قال في قصَّة نُوحٍ { قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ } [ الأعراف : 60 ] .
وقيل : في هود : { قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } فوصف الملأ بالكُفْرِ ، ولم يُوصَفُوا في قصَّة نوح ، والفرقُ أنَّهُ كان في أشْرَاف قوم هُودٍ مَنْ آمنَ بِهِ مِنْهُم مرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ أسْلَمَ ، وكان يكتمُ إيمانَهُ بخلاف قَوْم نُوحٍ ، لأنَّه لم يؤمن منهم أحَدٌ .
قاله الزَّمخشريُّ وغيره ، وفيه نَظَرٌ لقوله تعالى : { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] وقال : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] ويحتمل أنَّ حال مخاطبة نُوحٍ لقومِهِ لم يُؤمِنْ منهم أحَدٌ بعدُ ثمَّ آمنوا ، بخلاف قصَّةِ هود فإنَّهُ حال خطابهم كان فيهم مُؤمن ويحتملُ أنها صفة لمُجَرَّدِ الذَّمِّ من غير قَصْدِ تميزٍ بها .
الرابع : حكي عن قَوْم نُوح قولهم : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وحكي عن قوم هُود قولهم : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } [ الأعراف : 66 ] الفرقُ أنَّ نُوحاً خوف الكُفَّارَ بالطُّوفانِ العام وكان مشتغلاً بإعْدَادِ السَّفينةِ ، فلذلك قالوا : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } حيثُ تُتْعِبُ نَفْسَكَ في إصلاح سفينة كبيرةٍ في مفازة ليس فيها قَطْرَةٌ من المَاءِ ، ولم يظهر شيءٌ من العلامات تدلُّ على ظهورِ المَاءِ في تلك المَفَازة .

وأمَّا هود فلم يذكر شيئاً إلا أنه زَيَّفَ عبادة الأوثان ، ونسب من اشتغل بعبادتها إلى السَّفَاهَةِ وقلَّةِ العَقْل ، فلَّما سفَّهَهُم قابلوه بمثله ، ونسبُوهُ إلى السَّفاهةِ ، ثم قالوا : { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } في ادِّعَاءِ الرِّسالة .
قال ابءنُ عبَّاسٍ : في سفاهة أي تدعو إلى دينٍ لا نقر به .
وقيل : في حُمْقِ ، وخفَّةِ عَقْلٍ ، وجهالةٍ .
{ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } اختلفُوا في هذا الظن فقيل : المرادُ القَطْعُ والجزم كقوله تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] وهو كثير .
وقال الحسنُ والزَّجَّاجُ : كان ظنّاً لا يقيناً ، كفرُوا به ظانين لا متيقّنين وهذا يَدُلُّ على أنَّ حوصل الشَّكِّ والتَّجويز في أصول الدِّين يوجبُ الكفر .
الخامس : قال نوح - عليه السلامُ - : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ } .
وقال هود عليه السلام : { وأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِيْنٌ } ، فأتى نوح بصيغة الفعل ، وهود أتى بصيغة اسم الفاعل ، ونوح - عليه السلام - قال : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، وهود لم يقل ذلك ، وإنَّما زاد كونه « أمِيناً » ، والفرقُ بينهما أنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ القَاهِرِ النَّحْوِيَّ ذكر في كتاب « دلائِلِ الإعْجازِ » أن صيغة الفعل تدلُّ على التَّجَدُّدِ ساعةً فساعَةً .
وأما صِيغَةُ اسم الفاعِلِ فهي دالَّةٌ على الثَّباتِ ، والاستمرار على ذلك الفعل .
وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ : إنَّ القَوْمَ كانوا مبالغين في السَّفَاهَةِ على نوح - عليه السَّلام - ثم إنَّهُ في اليوم الثَّاني كان يعودُ إليهم ، ويدعوهم إلى الله كما ذكر اللَّهُ - تعالى - عنه في قوله : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } [ نوح : 5 ] .
فلما كانت عادته - عليه السلام - العود إلى تجديد الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة ، لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال : « وأنْصَحُ لَكُمْ » .
وأما قول هود - عليه السلامُ - : { وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } فإنَّهُ يَدُلُّ على كونه مثبتاً مستقراً في تلك النَّصِيحَةِ ، وليس فيها إعلامُ بأنه سيعود إليها حالاً فحالاً ، ويوماً فيوماً .
وأما قول نوح - عليه السَّلامُ - { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وهود - عليه السلام - وصف نفسه بكونه أميناً ، فالفرقُ أنَّ نوحاً - عليه السَّلأامُ - كان منصبه في النُّبُوَّةِ أعلى من منصب هود عليه السَّلام ، فلم يبعد أن يقال : إن نُوحاً - عليه السلام - كان يعلم من أسرار حكم اللَّهِ ما لا يصلُ إليه هُودٌ ، فلهذا أمْسَكَ هود لسانه عَنْ ذكر تلك الجملة ، واقتصر على وَصْفِ نفسه بالأمانة ومقصود منه أمور :
أحدها : الرَّدُ عليهم في قولهم : { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } .
وثانيها : أن مدار الرِّسالة والتبليغ عن الله على الأمانة ، فوصف نفسه بالأمانةِ تقريراً للرِّسالة والنبوة .

وثالثها : كأنَّهُ قال لهم : كنت قبل هذه الدعوى أميناً فيكم ، وما وجدتمْ منِّي غدراً ولا مكراً ولا كذباً ، واعترفتم لي بِكَوْنِي أميناً ، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟
والأمين هو الثقة ، وهو فعيل من أمِنَ فهو أمِنٌ وأمين بمعنى واحد .
واعلم أنَّ القومَ لمَّا قالوا له : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } لم يقابل سفاهتهم بالسَّفاهَةِ ، بل قابلها بالحلم ، ولم يزد على قوله : { لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ } ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ ترك الانتقام أولى كما قال : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] .
وقوله : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } مدح نفسه بأعْظَمِ صفات المَدْحِ ، وإنَّمَأ فعل ذلك؛ لأنَّهُ كان يجب عليه إعلام القوم بذلك ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ مدح الإنسان لِنَفْسِه في موضع الضَّرُورةِ جائزٌ .
السادس : قال نوحٌ عليه السلامُ : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ } إلى قوله : { وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، [ وفي قصَّةُ هود حذف قوله : { وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، والفرق أنَّهُ لمَّا ظهر في قِصَّةِ نُوح - عليه السلام - أنَّ فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة ، لم يكن لإعادته في هذه القصَّة حاجة .
قوله : « إذْ جَعَلَكُمْ » في « إذْ » وجهان :
أحدهما : أنَّه ظرفٌ منصوبٌ بما تضمنتهُ الآلاء من معنى الفعلِ ، كأنه قيل : « واذكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ عليكم في هذا الوَقْتِ » ، ومفعول « اذْكُرَوا » محذوفٌ لدلالة قوله بعد ذلك : { فاذكروا آلآءَ الله } ، ولأن قوله : { إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ } ، وزادكم كذا هو نفس الآلاء وهذا ظاهر قول الحُوفِي .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « إذْ » مفعول « اذْكُرُوا » أي : اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسيمة ، وتقدَّم الكلامُ في الخلفاء والخلائف والخليف .
قوله : « فِي الخَلْقِ » يحتملُ أن يراد به المصدر بمعنى في امتداد قامتكم وحسن صوركم ، وعظم أجْسَامِكُمْ ، ويحتمل أنْ يراد به معنى المفعول به ، أي : في المَخْلُوقين بمعنى زادكم في النَّاسِ مثلكم بسطة عليهم ، فإنَّهُ لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام .
قال الكَلْبِيُّ والسُّدِّيُّ : « كانت قامة الطّويل منهم مائة ذراع ، وقامة القصير ستُّون ذراعاً » .
وتقدم الكلامُ على « بسطة » في البقرة .
قوله : { فاذكروا آلآءَ الله } ، أي : نعمه ، وهو جمع مفرده « إلْي » بكسر الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ؛ كحِملْل وأحْمَالِ ، أو « ألْيٌ » بضمِّ الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ : كقُفْل ، وأقْفَالٍ ، أو « إلى » بكسر الهمزة ، وفتح اللام؛ كضِلَع وأضلاع ، وعِنَب وأعْنَاب ، أو « ألَى » بفتحهملا كقَفَا وأقْفَاء؛ قال العْشضى : [ المنسرح ]
2501 - أبْيَضُ لا يَرْهَبُ الهُزَالَ وَلاَ ... يَقْطَعُ رِحْماً ولا يَخُونُ ألَى
يُنشد بكسر الهمزة ، وهو المشهورُ ، وبفتحها؛ ومثلها « الآنَاء » جمع « إِنْي » أو « أُنْي » أو « إِنّى » أو « أَنّى » .
وقال الأخفش : « إنْوٌ » .

والآناء الأوقات كقوله : { وَمِنْ آنَآءِ الليل } [ طه : 130 ] ، وسيأتي .
ثم قال : « لعلَّكُم تُفْلِحُونَ » فلا بُدَّ هاهنا من إضمار؛ لأنَّ الصَّلأاح الذي هو الظَّفر بالثَّواب لا يحصل بمجرد التذكر ، بل لا بدّ من العمل ، والتقدير : فاذكروا آلاء اللَّهِ واعملوا عملاً يليق بذلك الإنعام لعلّكم تفلحون .
قوله : « لِنَعْبُدَ » متعلق بالمجيء الذي أنكروه عليه .
واعلم أنَّ هوداً - عليه السلام - لما دعاهم إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدَّلِيل القاطع ، وهو أنَّهُ بيَّن أنَّ نعم الله عليهم كثيرة والأصنام لا نعمة لها؛ لأنَّهَا جمادات ، والجمادُ لا قُدْرَةَ له على شَيْءٍ أصلاً - لم يكن للقوم جوابٌ عن هذه الحُجَّةِ إلا التمسك بالتَّقْليد فقالُوا : { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } فأنكروا عليه أمره لهم بالتَّوحيد ، وترك التقليد للآباء ، وطلبوا منه وقوع العذاب المشار إليه بقوله : « أفَلاَ تَتَّقُونَ » وذلك أنَّهُم نسبوه إلى الكذب ، وظنُّوا أنَّ الوعيد لا يتأخر ، ثم قالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } جوابه محذوف أو متقدِّم ب « ما » ، وذلك لأنَّ قوله : { اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } مشعر بالتَّهْديد والتّضخويف بالوعيد ، فلهذا قالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } .
قوله : { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } جوابه محذوف أو مُتَقَدِّم ، وهو فأت به .
واعلم أنَّ القوم كانُوا يتقدون كذبه لقولهم : { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } فلهذا قالوا : { فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الشعراء : 31 ] وإنَّما قالُوا كذلِكَ لظنهم أن الوعيد لا يجوز أن يتأخر ، فعند ذلك قال هود - عليه السلام - : { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ } ، أي : وجب عليكم .
فصل في تفسير هذه الآية
قال القَاضِي : تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر؛ لأنَّ بعد كفرهم وتكذيبهم
حدثت هذه الإرادة ، واعلمْ أنَّ هذا بَاطِلٌ؛ لأنَّ في الآية وجوهاً من التَّأويل .
أحدها : أنَّهُ تعالى أخبر في ذلك الوقت بنزول العذابِ عليهم ، فلمَّا حدث الإعلام في ذلك الوقت ، لا جرم قال هُودٌ في ذلك الوقت : { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ } .
وثانيها : أنَّهُ جعل المُتَوقَّع الذي لا بُدَّ من نزوله بمنزلة الواقع ، كقوله : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] .
وثالثها : أن يحمل قوله : « وقع » على معنى وجد وجعل ، والمعنى : إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل .
قوله : « مِن رَّبِّكُمْ » إمَّا متعلق ب « وقع » و « من » للابتداء مجازاً ، وإمَّا أن يتعلق بمحذوف لأنَّهَا حال ، إذْ كانت في الأصل صفة ل « رجس » .
والرِّجْس : العذاب والسين مبدلة من الزاي .
وقال ابن الخطيب : لا يمكن أن يكون المراد لأنَّ المُرادَ من الغضب العذابُ ، فلو حملنا الرِّجْسَ عليه لَزِمَ التَّكْرِيرُ ، وأيضاً الرجس ضد التطهير قال تعالى : { لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }

[ الأحزاب : 33 ] والمرادُ التَّظْهِيرُ عن العقائد الباطلةِ .
وإذا ثبت هذا فالمراد بالرجس أنَّهُ تعالى خصّهم بالعقائِدِ المذمُومَةِ ، فيكون المعنى أنَّهُ تعالى زادهم كُفْراً ثم خصَّهم بمزيدِ الغضبِ .
قوله : « أتُجَادِلُونَنِي » استفهام على سبيل الإنْكَارِ في أسماء الأصنام وذلك أنهم كانوا يسمون الأصْنَامَ بالآلهة ، مع أن معنى الإلهية فيها معدومٌ ، سموا واحداً منها بالعُزَّي مشتقاً من العزِّ ، والله - تعالى - ما أعطاه عِزّاً أصلاً ، وسمُّو آخر منها باللاَّتِ ، وليس له من الإلهية شيء .
قوله : « سَمَّيْتُمُوهَا » صفة ل « أسْمَاء » ، وكذلك الجملة من قوله : { مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } يُدلُّ على خلوِّ مذاهبهم عن الحُجَّةِ .
و « مِنْ سُلْطَانِ » مفعول « نزَّلَ » ، و « مِنْ » مزيدةٌ ، ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ذكر لهم وعيداً مجرَّداً فقال : فانتظروا ما يحصل لكم من عبادة الأصْنَامِ إنِّي معكم من المنتظرين .
فقوله : « مِنَ المُنْتَظِريْنَ » خبر « إني » ، و « مَعَكُمْ » فيه ما تقدَّم في قوله : إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } ، ويجوزُ - وهو ضعيف - أن يكون « مَعَكُمْ » هو الخبر و « مِنَ المُنْتَظِرِينَ » حال ، والتقديرُ : إني مصاحبكم حال كوني من المنتظرين النّصر والفرج من الله ، وليس بذلك؛ لأنَّ المقصُودَ بالكلامِ هو الانتظار ، لمقابلة قوله : « فانْتَظِرُوا » فلا يُجعل فضلة .

فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

قوله : { فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } لأنهم استحقوا الرحمة بسبب إيمانهم و { وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي : استأصلناهم ، وأهْلكناهُم عن آخرهم وما كانوا مؤمنين ، فإن قيل : لما أخبر عنهم بأنَّهُم كانوا مكذبين لَزِمَ القطع بأنَّهم كانوا غير مؤمنين فمنا الفائدة في قوله بعد ذلك { وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } .
فالجوابُ : أن معناه أنَّهُم مكذبون في علم الله منهم أنَّهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضاً ، فلو علم أنَّهم سيؤمنون لأبقاهم .

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)

ثمود : اسم رجل : وهو ثَمُودُ بْنُ عاد بْن إرم بْنِ سَام بْنِ نُوحٍ ، وهو أخو جديس ، فثمود وجديس أخوان ، ثم سُمِّيت به هذه القبيلة .
قال أبُو عَمرو بْن العلاء : سميت ثمود لقلَّة مائها ، والثَّمَدُ : الماء القليلُ : [ قال النابغة : [ البسيط ]
2502 - أحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الحَيِّ إذْ نَظَرَتْ ... إلَى حَمَامٍ شِرَاعٍ وارِدِ الثَّمَدِ ]
وكانت مساكنهم « الحجر » بين « الحِجاز » و « الشَّام » إلى « واد القرى » ، والأكثر منعه الصرف اعتباراً بما ذكرناه أوَّلاً ، ومن جعله اسماً للحيّ صرفه ، وهي قراءة الأعمش ، ويحيى بن وثَّابٍ في جميع القرآن ، وقد ورد القرآن بهم صَرِيحاً .
قال تعالى : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُم بُعْداً لِّثَمُودَ } [ هود : 68 ] .
وسيأتي الخلاف من القُرَّاء السَّبْعةِ في سورة « هُودٍ » وغيرها .
وصالح : اسم عربيٌّ ، وهو صالح بن آسف .
وقيل : ابْنُ عُبَيْدِ بْنِ آسف بن كَاشِح بْنِ أروم بْنِ ثَمُودَ [ ابن جاثر ] .
« قال : يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِن إله غيرُهُ » أمرهم بعبادة الله ، ونهاهم عن عبادة غير الله ، كما ذكره عمن قبله من الأنبياء .
قوله : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } .
قد كثر إيلاءُ هذه اللَّفظة العوامل ، فهي جارية مَجْرَى « الأبْطح » و « الأبْرَقِ » في عدم ذكر موصوفها .
وقوله : « مِن ربِّكُمْ » يحتمل أن يتعلق ب « جَاءَتْكُمْ » و « مِنْ » لابتداء الغايةِ مجازاً ، وأنْ تتعلق بمحذوف؛ لأنَّها صفةٌ بيِّنة ، ولا بدَّ من حذف مُضاف ، أي : من بينات ربكم ليتصادق الموصوف وصفته .
وهذا يدلُّ على أنَّ كُلَّ شيءٍ كان يذكر الدلائل على صحَّةِ التَّوْحيدِ ، ولم يكتف بالتَّقْلِيدِ ، وإلاَّ كان ذكر البينة - وهي الحجة - هاهنا لغواً .
قوله : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً } أضاف النَّاقة إليه على سبيل التفضيلِ ، كقولك : بيت الله ، وروح الله؛ لأنَّهَا لم تتوالد بين جمل وناقة ، بل خَرَجَتْ من حَجَرٍ .
و « آيَةً » نصبَ على الحال؛ لأنَّها بمعنى العلامة ، والعاملُ فيها إمَّا معنى التنبيه ، وإما معنى الإشارةِ ، كأنَّهُ قال : أنبهكم عليها ، وأشير إليها في هذه الحال .
ويجوزُ أن يكون العامل مُضْمَراً تقديرُهُ : انظروا إليها في هذه الحال ، والجملة لا محلَّ لها؛ لأنَّها كالجواب لسُؤالٍ مقدَّر ، كأنهم قالوا : أين آيتك؟ فقالك هذه ناقةُ الله .
وقوله : « لَكُم » أي : أعني لكم به ، وخصّوا بذلك ، لأنَّهُم هم السَّائِلُوهَا ، أو المنتفعون بها من بين سَائِرِ النَّاسِ لو أطاعوا .
ويحتمل أن تكون « هَذِه نَاقَةُ الله » مفسرة لقوله : « بَيِّنَةٌ » ؛ لأنَّ البَيِّنَةَ تستدعي شيئاً يتبين به المدعى ، فتكون الجملة في محل رفع على البدل ، وجاز إبدالُ جملة من مفرد؛ لأنَّهَا في قوته .

فصل في إعجاز الناقة
اختلفوا في وجه كون النَّاقة آيةً :
فقال بعضهم : « كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة » .
قال القاضي : إن صحَّ هذا فهو معجزٌ من جهاتٍ :
أحدها : خروجها من الجَبَلِ .
والثانية : كونها لا من ذَكَرٍ وأنثى .
والثالثة : كمالُ خَلْقِها من غير تَدْرِيجٍ .
وقيل : إنّضما كانت آية؛ لأجل أنَّ لها شرب يوم ، ولجميع ثمود شرب يوم ، واستيفاء ناقةِ شرب أمَّة من الأمَمِ عجيب .
وقيل : إنَّما كانت آيَة؛ لأنَّهُم كانوا في شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم مقام الماء في يوم شربهم .
وقال الحسَنُ بالعكس من ذلك فقال : إنَّها لم تحلب قطرة لبن قط .
وقيل : وجه كونها آية أن يوم مجيئها إلى الماء ، كانت جميع الحيوانات تمتنع من الوُرُودِ على المَاءِ ، وفي يوم امتناعها تَرِدُ جميع الحيوانات .
واعلم أنَّ القرآن قد دلَّ على أنَّها آية ، ولكن من أي الوُجُوه؟ فليس في القرآن ذكره .
فصل في تخصيص الناقة بهؤلاء القوم
فإن قيل : تلك النَّاقَةُ كانت آية لكلِّ أحد ، فلم خصّ أولئك القوم بها بقوله : « لَكُمْ آيَة » .
فالجوابُ : من وجهين :
الأول : أنَّهم عاينوها ، وغيرهم أُخبروا عنها ، ولَيْسَ الخبر كالمُعاينة .
الثاني : لَعلَّه يثبت سائر المعجزات ، إلاَّ أنَّ القَوْمَ التمسوا من صَالح هذه المعجزة نفسها على سبيل الاقْتِرَاح ، فأظهرها الله تعالى لهم ، فلهذا المعنى حسن هذا التخصيص .
قوله : « فَذَرُوهَا تَأْكُلْ » أي : العشب في أرض اللَّهِ ، أي : ناقة الله ، [ فذروها تأكل في أرض ربَّها ، فليست الأرض لكم ولا ما فيها منن النبات من إنباتكم .
وقيل : يجوز تعلقه بقوله : « فَذَرُوهَا » ، وعلى هذا فتكون المسألة من التَّنازع وإعمال الثَّاني ، ولو أعمل الأوَّل لأضمر في الثَّاني فقال : { تَأْكُلْ في أَرْضِ الله } وانجزم « تأكلْ » جواباً للأمر وقد تقدَّم الخلافة في جازمه : هل هو نفس الجملة الطَّلَبِيَّةِ أو أداء مقدّرة؟ .
وقرأ أبو جعفر : « تَأكُلُ » برفع الفِعْلِ على أنَّهُ حال ، وهو نظير : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } [ مريم : 5 ، 6 ] رفعاً وجزماً .
قوله : { وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء } أي لا يمسوها بسوء الظاهر أن « الباء » للتعدية ، أي : لا توقعوا عليها سوءاً ولا تلصقوه بها . ويجوز أن تكون للمصاحبة ، أي : لا تمسُّوها حال مصاحبتكم للسُّوء .
قوله : « فَيَأخُذَكُمْ » نصب على جواب النَّهْي ، أي : لا تجمعوا بين السمّ بالسّوء وبين أخذ العذاب إيَّاكم ، وهم وإنْ لم يكن أخذ العذاب لهم من صنعهم إلا أنَّهم تعاطوا أسبابه .
قال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب : « أشْقَى الأوَّلِيْنَ عَاقِرُ نَاقَةِ صالحٍ ، وأشْقَى الآخَرِيْنَ قَاتِلُكََ »

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)

قيل : لمَّا أهلك الله - تعالى - عاد عمرت ثمود بلادها ، وخلفوهم في الأرض ، وعمّروا أعماراً طوالاً .
قوله : { وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض } بوَّأه : أنزله منزلاً ، والمباءَةُ المنزل ، وتقدَّمت هذه المادة في « آل عمران » ، وهو يتعدى لاثنين ، فالثَّاني محذوف أي : بوَّأكم منازل .
و « فِي الأرْضِ » متعلّق بالفِعْلِ ، وذكرت ليبنى عليها ما يأتي بعدها من قوله : « تَتَّخِذُونَ » .
قوله : « تَتَّخِذُونَ » يجوز أن تكون المُتَعدية لواحد فيكون من سهولها متعلقاً بالاتخاذ ، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من قصوراً إذ هو في الأصل صِفَةٌ لها لو تَأخَّر ، بمعنى أنَّ مادة القُصُور من سهل الأرض كالطّين واللّبن والآجر كقوله : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ } [ الأعراف : 148 ] [ أي مادته من الحلي ] .
وقيل : « مِنْ » بمعنى « في » . وفي التَّفسير أنَّهُم كانوا يسكنون في القُصُورِ صَيْفاً ، وفي الجبال شِتَاء ، وأن تكون المتعدية لاثنين ثانيهما « مِنْ سُهُولِهَا » والسهلُ من الأرض ما لان وسهل الانتفاع به ضد الحزن ، والسهولة : التّيسير .
قوله : « قُصُوراً » [ والقصور هو جمع قصر ] وهو البيت المُنِيفُ ، سُمِّي بذلك لقصور النَّاس عن الارتقاء إليه ، أو لأن عامة النَّاس يقصرون عن بناء مثله بخلاف خواصهم ، أو لأنَّهُ يقتصر به على بقعة من الأرض ، بخلاف بيوت الشّعر والعُمُد ، فإنَّهَا لا يقتصر بها على بقعة مخصوصة لارتحال أهلها؛ أو لأنَّه يقصر من فيه أي : يحبسه ، ومنه : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام } [ الرحمن : 72 ] .
قوله : { وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً } يجُوزُ أن يكون نصب « الجِبَالَ » على إسْقَاطِ الخافض أي : من الجبال ، كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ، فتكون « بُيُوتاً » مفعوله .
ويجوز أن يُضَمَّن « تَنْحِتُونَ » معنى ما يتعدَّى لاثنين أي وتتخذون الجبال بُيُوتاً بالنحت أو تصيرونَها . [ بيوتاً بالنَّحت .
ويجوز أن تكون « الجبَالَ » هو المفعول به و « بُيُوتاً » حال مقدرة كقولك : خِطْ هذا الثَّوب جبة [ وابْرِ هذه القصبة قلماً؛ وذلك لأن الجبال لا تكون بيتاً في حال النحت ، ولا الثوب ولا القصبة قميصاً وقلما في حالة الخياطة والبري ] ، أي : مُقَدّراً له كذلك ] و « بُيُوتاً » وإن لم تكن مشتقة فإنَّهَا في معناه أي : مسكونة .
وقرأ الحسنُ : « تَنْحَتُون » بفتح الحاء . وزاد الزَّمَخْشَرِيُّ أنه قرأ « تنحاتُونَ » بإشباع الفتحة [ ألفاً ] ، وأنشد : [ الكامل ]
2503 - يَنْبَاعُ مِنْ ذْفَرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ .. . .
وقرأ يحيى بن مصرف وأبو مالكٍ بالياء من أسفل على الالتفات إلا أن أبا مالك فتح الحاء كقراءة الحسنِ .
والنَّحتُ : النَّجر في شيء صُلب كالحجر والخشبِ .
قال : [ البسيط ]
2504 - أمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْدٍ وسِلْسسلَةٍ ... واللَّيْلأُ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِن السَّاجِ

فصل في جواز البناء الرفيع
قال القُرْطُبِي : استدلَّ بهذه الية من أجاز جواز البناء الرفيع كالقُصُور ونحوها ، وبقوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق } [ الأعراف : 32 ] . وبقوله عليه الصَّلاة والسلام : « إنَّ الله إذَا أنْعَمَ على عَبْدٍ نِعْمَةً يُحِبُّ أنْ يُرَى أثَرُ النِّعْمَةِ عليْهِ »
ومن آثار النعمة البناء الحسن ، والثياب الحسنة ، ألا ترى أنه لو اشترى جارية جميلة بمال عظيم ، فإنَّهُ يجوز ، وقد يكفيه دون ذلك ، فكذلك البناء ، وكرهه الحسن وغيره لقوله عليه الصَّلاة والسلام : « إذا أرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ سُوءاً أهْلَكَ مَالَهُ فِي الطِّيْنِ واللَّبنِ »
وقوله عليه الصلاة والسلام : « مَن بَنَى فوق مَا يَكْفِيْهِ جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ على عُنْقِهِ »
قوله : { فاذكروا آلآءَ الله } أي نعم الله عليكم .
{ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ } قرأ الأعمش بكسر حرف المضارعة وقد تقدم أن ذلك لغة .
و « مُفْسِدِيْنَ » حال مؤكدة إذ معناها مفهوم من عَامِلِهَا .
و « فِي الأرْضِ » متعلق بالفعل قبله أو ب « مفسدين » .

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

قوله : « قَالَ المَلأُ » قرأ ابنُ عامرٍ وحدَهُ « وَقَال » بواو عطف نسقاً لهذه الجملة على ما قبلها ، وموافقة لمصاحفِ الشَّام ، فإنها مرسومة فيها ، والباقون بحذفها : إما اكتفاء بالربط المعنوي ، وإمّا لأنَّهُ جواب لسؤال مقدَّر كما تقدَّم ، وهذا موافقة لمصاحفهم ، وهذا كما تقدَّم في قوله : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ } [ الأعراف : 43 ] إلا أنَّهُ هو الذي حذف الواو هناك .
قوله : { الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا } .
السين في « اسْتَكْبَرُوا » و « اسْتُضْعَفُوا » يجوز أن تكون على بابها من الطلب ، أي : طلبوا - أولئك - الكِبْرَ من أنفسهم ومن المؤمنين الضعف .
ويجوزُ أن يكون « اسْتَفْعَلَ » بمعنى : فعل [ كَعَجِبَ ] واسْتَعْجَبَ .
واللاَّم في « الذِينَ اسْتَضْعَفُوا » للتبليغ ، ويضعف أن تكون للعلّة ، والمراد بالذين استكبروا الرّؤساء ، وبالذين استضعفوا المساكين .
قوله : { لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } بدلٌ من « الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا » بإعادة العامل ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ بدل كلٍّ من كُلٍّ ، إن عاد الضَّمير في « مِنْهُم » على قومه ، ويكون المستضعفون مؤمنين فقط ، كأنَّهُ قيل : قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح .
والثاني : بدلُ بعض من كلٍّ ، إنْ عاد الضَّميرُ على المستضعفين ، ويكون المستضعفون ضربين : مؤمنين وكافرين ، كأنَّهُ قيل : قال المستكبرون للمؤمنين من الضُّعَفَاءِ دون الكَافِرينَ من الضُّعفاء .
وقوله : « أتَعْلَمُونَ » في محل نصب بالقول .
و « مِن رَّبِّهِ » متعلق ب « مُرْسَلٌ » ، و « من » لابتداء الغاية مجازاً ، ويجوز أن تكون صفةً فتتعلق بمحذوف .
واعلم أنَّ المستكبرين لمَّا سألوا المُسْتَضْعفين عن حال صالح وما جاء بهن فأجاب المُسْتَضْعَفُون بقولهم : إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ صالح مؤمنون ، أي : مُصَدّقون ، فقال المستكبرون : بل نحن كافرون بما آمنتم به ، أي : بالذي جاء به صالح .
قوله : { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ } متعلق ب « مُؤمِنُونَ » قُدِّم للاختصاص والاهتمام وللفاصلة .
قوله : « قَالَ الذي » « ما » موصولة ، ولا يجوزُ هنا حذف العائد وإن اتحد الجار للموصول وعائده؛ لاختلاف العامل في الجارين وكذلك قوله : {بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } .
قوله : « فَعَقَرُوا النَّاقَةَ » أصل العَقْرِ : كَشْفُ العَراقِيبِ في الإبل ، وهو أن يضرب قَوَائمَ البَعِيرِ أو النَّاقَةِ فتقع ، وكانت هذه سنتهم في الذَّبْحِ .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
2505 - وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي ... فَيَا عَجَباً مِنْ رَحْلِهَا المُتَحَمَّلِ
ثم أطلق على كل نَحْرِ « عَقْرٌ » ، وإن لم يكن فيه كشف عراقيب تسمية للشَّيء بما يلازمه غالباً ، إطلاقاً للمسبّب على مسببّبه هذا قول الازهري .
وقال ابن قتيبة : « العَقْرُ : القتل كيف كان ، عَقَرْتُها فهي معقورة » .
وقيل : العقر : الجرح . وعليه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
2506 - تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا معاً ... عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ القَيْسِ فانْزِلِ

يريد : جَرَحْتَهُ بثقلك وتمايلك ، والعَقْر والعُقر بالتفح ، والضمّ [ الأصل ] ، ومنه عَقَرْتُه أي : أصبتُ عقره يعني أصله كقولهم : كَبَدْتُه ورَأسْتُه أي : أصبت كَبِدَهُ ورأسه ، وعَقَرْتُ النخل : قطعته من أصله ، والكَلْبُ العقور منه ، والمرأة عَاقِرٌ ، وقد عُقِرَت .
والعقر بالضَّمِّ آخر الولد وآخر بيضة يقال : عُقر البيض .
والعَقار بالفتح : الملك من الأبنية ، ومنهُ « ما غُزِيَ قومٌ في عُقْرِ دارِهمِ إلاَّ ذُلُّوا » ، وبعضهم يخصه بالنَّخل .
والعُقارُ بالضمِّ : الخمر؛ لأنَّها كالعَاقِرَة للعقل ، ورفع عَقِيْرَتَهُ أي : صَوْتَهُ ، وأصله أن رجلاً عَقَر رجْلَه فرفع صوته فاستعير لكلِّ صائحٍ ، والعُقر بالضمِّ : المَهْرُ .
وأضاف العقر إليهم مع أنَّه ما كان باشره إلا بعضهم؛ لأنَّهُ كان برضاهم .
قوله : « وَعَتَوْا » العُتُوُّ ، والعُتِيُّ : النُّبُوُّ أي : الارتفاع عن الطَّاعة يقال منه : عَتَا يَعْتُوا عُتْوّاً وعُتِيّاً بقلب الواوين ياءين ، والأحسن فيه إذا كان مصدراً تصحيح الواوين كقوله : { وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] وإذا كان جمعاً الإعلالُ نحو : قوم عُتِيٌّ ، لأنَّ الجمع أثقلُ ، قياسُه الإعلال تخفيفاً .
وقوله : { أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } [ مريم : 66 ] محتمل للوجهين قوله : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] أي : حالة تتعذر مداواتي فيها كقوله : [ الكامل ]
2507 - ... وَمِنَ العَنَاءِ رِيَاضَةُ الهَرِمِ
وقيل : العاتي : الجاسي أي اليَابِسُ . ويقال : عَثَا يَعْثُوا عُثُوّاً بالثاء المثلثة من مادة أخرى؛ لأنَّهُ يقال : عَثِي يَعْثَى عِثِيّاً وعثا يَعْثُوا عُثُواً ، [ فهو في إحْدَى لغتيه يشاركه « عَتَا » بالمثناة وزناً ومعنى ، ويقاربه في حروفه . والعيث أيضاً - بتقديم الياء من أسْفَل ] على الثاي المثلثة - هو الفساد ، فيحتمل أن يكون أصلاً ، وأن يكون مقلوباً فيه .
وبعضهم يجعل العَيْث الفساد المدرك حِسّاً ، والعِثِيَّ في المدرك حكماً ، وقد تقدَّم طرفٌ من هذا .
ومعنى الآية : استكبورا عن امتثال امر ربّهم وكذّبوا بنبيهم .
قوله : { وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا } يجوزُ لك على رواية من يسهِّل الهمزة وهو وَرْشٌ والسوسي أن تقلب الهمزة واواً ، فتلفظ بصورة « يَا صالح وُتِنا » في الوصل خاصة تُبْدل الهمزة بحركة ما قبلها ، وإن كانت منفصلة من كلمة أخْرَى .
وقرأ عاصمْ وعيسى بْنُ عُمَرَ « أُوْتِنَا » بهمزة وإشباع ضم ولعله عاصم الجحدريّ لا عاصم بن أبي النجود ، وهذه القراءة لا تبعد عن الغلطِ؛ لأن همزة الوصل في هذا النحو مكسورة فمن أين جاءت ضمة الهمزة إلاَّ على التوهُّم؟
قوله : « بِمَا تَعِدُنَا » العائِدُ محذوف أي : « تَعِدُناه » ولا يجوز أن تقدر « تَعِدُنا » متعدياً غليه بالباء ، وإنْ كان الأصْلُ تعديته إليه بها ، لئلا يلزم حذف العائد المجرور بحرف من غير اتّحاد متعلقهما لأن « بِمَا » متعلِّقٌ ب « الإتيان » ، و « به » متعلق ب « الوعد » ثم قالوا { إِن كُنتَ مِنَ المرسلين } وإنما قالوا ذلك؛ لأنَّهم كانوا مكذبين في كل ما أخبر عنه من الوَعْدِ والوَعِيدِ .

قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } قال الفراء والزجاج هي الزلزلة الشديدة يُقالُ رَجَفَتِ الأرْضُ تَرْجُفُ رَجْفاً وَرَجيفاً ورجفاناً قال تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال } [ المزمل : 14 ] .
وقال اللَّيثُ : الرَّجْفَةُ : الطَّامة التي يتزعزع لها الإنسان ويضطرب . ومنه قيل للبحر رجَّافٌ لاضطرابه .
وقيل : أصله مِنْ رَجفَ به البعيرُ إذا حركه في سيره ، كما يرجف الشجر إذا رجفه الريح .
قال ابن أبي ربيعة : [ الطويل ]
2508 - ولمَّا رَأيْتُ الحَجَّ قَدْ حَانَ وَقْتُهُ ... وَظَلَّتْ جِمَالُ الحَيِّ بالقَوْمِ تَرْجُفُ
والإرْجَافُ إيقاعُ الرَّجْفَةِ ، وجمعه الأرَاجِيفُ ، ومنه « الأراجِيفُ ملاقيحُ الفتنِ » .
وقوله : { تَرْجُفُ الراجفة } [ النازعات : 6 ] .
كقوله : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] .
ومنه [ الطويل ]
2509 - تُحْيِي العِظَامَ الرَّاجِفَاتِ مِنَ البِلَى ... فَلَيْسَ لِدَاءِ الرُّكْبَتَيْنِ طبِيبُ
قوله : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ يعني في بلدهم ، كما يقال : دار الحرب ، ودار البزّازين ] .
الجثوم : اللُّصوق بالأرْضِ من جثوم الطَّائر والأرْنَبِ ، فإنَّهُ يلصق بطنه بالأرْضِ ، ومنه رجل جُثَمَةٌ وجثَّامَةٌ كناية عن النَّؤوم والكَسْلان ، وجثمانُ الإنسان شَخْصُه قاعداً وقال أبو عبيد : « الجُثُوم للنَّاس والطير كالبرول للإبل » وأنشد لجرير : [ الوافر ]
2510 - عَرَفْتُ المُنْتأى وعَرَفْتُ مِنْهَا ... مَطَايَا القِدْرِ كالْحِدَأ الجُثُومِ
قال الكَرْمَانِيّ : حيث ذُكِرَت الرجفة وُحدت الدَّار ، وحيث ذكرت الصيحة جُمِعَت الدار ، لأنَّ الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكبر وأبلغ من الزلزلة ، فذكر كل واحد بالأليق [ به ] وقيل : في دارهم أي في بلدهم كما تقدَّم ، وقيل : المراد بها الجنس .
فصل في بيان فائدة موضع الفاء في الآية
الفاء في « فأخذتهم » للتَّعقيب ، وقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } يقتضي أنَّ الرَّجفة أخذتهم عقيب قولهم : { ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ } وليس الأمر كذلك لقوله تعالى في آية أخرى : { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ]
فالجوابُ : أنَّ أسباب الهلاك وجدت عقيب قولهم : { ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ } ، وهو أنَّهم اصفرت وجوههم في اليوم الأوَّل ، واحمرّت في اليوم الثاني : واسودَّت في اليوم الثالث ، فكان ابتداء العذاب متعقباً قولهم .
ويمكن أن تكون عاطفة على الجملة من قوله : « فَأئْتِنَا » أيضاً وذلك على تَقْديرِ قرب زمان الهلاك من زمان طلبِ الإتيان . ويجوز أن يقدر ما يصحُّ العطف عليه بالفاءِ ، والتقديرُ : فوعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت فأخذتهم .
فصل في دحق شبهة للملاحدة .
لا يلتفت إلى ما ذكره بعض الملاحدةِ في قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } ، وفي موضع آخر { الصيحة } [ هود : 67 ] ، وفي موضع آخر { بالطاغية } [ الحاقة : 5 ] واعتقد ما لا يجوز من وجوب التناقض إذ لا منافاة بين ذلك فإن الرجفة مترتبة على الصَّيحة؛ لأنَّهُ لمَّا صيح بهم؛ رجفت قلوبهم فماتوا ، فَجَازَ أن يسند الإهلاكُ إلى كل منهما .
وأمّا « بالطَّاغية » فالباء للسببية ، والطَّاغية : الطغيان مصدر كالعاقبة ، ويقال للملك الجبَّار : طاغية ، والتّاء فيه كعلاَّمةٍ ونسَّابةٍ ، ففي أهلكوا بالطاغيَة ، أي : بطغيانهم كقوله :

{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } [ الشمس : 11 ] .
قال أبو مسلم : « الطَّاغية : اسم لكلِّ ما تجاوز عن حدِّه سواء كان حيواناً أو غير حيوان : { إِنَّ الإنسان ليطغى } [ العلق : 6 ] ، وقال : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } [ الشمس : 11 ] .
وقال غير الحيوان : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء } [ الحاقة : 11 ] أي : غلب وتجاوز عن الحدِّ .
فصل في شهود الناقة
قيل إنَّ القوم قد شاهدوا خُرُوج النَّاقةِ من الصخرة ، وذلك معجزة قاهرة تلجىء المكلف ، وأيضاً شاهدوا الماء الذي كان شرباً لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين ، كان شَرباً لتلك النَّاقة الواحدة في اليَوْمِ الثَّانِي ، وذلك معجزة قَاهِرَةٌ تقرب الملك فمن الإلجاء .
وأيضاً إنَّ القوم لما نحروها توعدهم صالح بالعذابِ ، وشاهدوا صدقه على ما روي أنَّهم احمروا في اليوم الأوَّل ، واصفرُّوا في اليوم الثَّاني ، واسودُّوا في اليود الثالث ، مع مشاهدة تلك المعجزة العظيمة ، ثم شاهدوا علامات نُزول العذاب الشديد في آخر الأمر ، هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مُصرّاً على كفره؟
فالجوابُ : أن يقال : إنَّهَم قبل مشاهدتهم تلك العلامات من نزول العذاب كانُوا يكذبون ، فلما نزلت بهم أول علامات العذاب وشاهدوها خرجوا عند ذلك عن حد التكليف فلم تكن توبتهم مَقْبُولَةً .
قوله : » فَأصْبَحُوا « يجوز أن تكون النَّاقصة و » جَاثِمينَ « خبرها و » في دَارِهِم « متعلّق به ، ولا يجوز أن يكثونَ الجارُّ خبراً و » جَاثِمِين « حال ، لعدم الفائدة بقولك : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ، وإن جاز الوجهان في قولك : أصبح زيد في الدَّار جالساً .
ويجوز أن تكون التامة ، أي : دخلوا في الصباح ، و » جَاثِمِينَ « حال ، والأول أظهر .
قوله : { فتولى عَنْهُمْ } .
قيل : إنه تولى عنهم بعد موتهم لقوله تعالى : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فتولى } و » الفاءُ « تقتضي التعقيب .
وقيل : تولّى عنهم قبل موتهم لقوله : { وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين } فدلَّ ذلك على كونهم أحياء من ثلاثة أوْجُهٍ :
[ الأول ] : قوله لهم » يَا قَوْم « ، والأموات لا يوصفون بالقوم ، لاشتقاق لفظ القوم من القيام ، وهو مفقود في حقِّ الميت .
والثاني : أنَّ هذه الكلمات خِطَاب معهم ، وخطاب الميت لا يجوز .
والثالث : قوله : { وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين } يقتضي كونهم بحيث تصحُّ حصول المحبّة فيهم .
ويمكن الجوابُ : بأنَّه قد يقولُ الرَّجلُ لصاحبه الميت ، وقد كان نصحه فلم يقبل النَّصيحة ، حتى ألقى نفسه في الهلاك : يا أخي منذ كم نصحتك فلم تقبل ، وكمن منعتك فلم تمتنع ، فكذا هاهنا .
وفائدتُهُ : إمّا لأن يسمعه الحيُّ فيعتبر به ، وينزجِر عن مثل تلك الطريقة ، وإما لإحراق قلبه بسبب تلك الواقعة ، فإذا ذكر ذلك الكلام فرَّجت تلك القضية من قلبه .
وذكروا جواباً آخر ، وهو أن صالحاً - عليه السلامُ - خاطبهم بعد كونهم » جَاثِمِينَ « ، كما خاطب نبينا - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قتلى » بدر « .
فقيل : تتكلم مع هؤلاء الجيف؟ فقال : » مَا أنْتُمْ بأسْمَعَ مِنْهُم ، ولكنْ لا يَقْدِرُونَ على الجوابِ «
وقيل : في الآية تقديمٌ وتأخير ، تقديره : فتولَّى عنهم وقال : يا قَوْم لَقَدْ أبْلَغَتُكم رسالةَ ربِّي ، فأخذتهم الرجفة .

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)

قوله تعالى : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة } القصة . في نصب « لُوطاً » وجهان :
أحدهما : أنه منصوب ب « أرْسَلْنَا » الأوَّلِ ، و « إذ » ظرف الإرسال .
والثاني : أنَّهُ منصوبٌ بإضمار « اذْكُرْ » ، وفي العامل في الظرف حينئذ وجهان :
أحدهما - وهو قول الزمخشريِّ أنَّهُ بدلٌ من « لوطاً » قال : « بمعنى : واذكر وقت إذ قال لقومه » وهذا على تسليم تصرف « إذ » .
والثاني : أنَّ العامل فيها مُقَدَّرٌ تقديره : « واذْكُرْ رسالةَ لُوط إذْ قَالَ » ف « إذ » مصوبة ب « رسالة » . قاله أبُو البقاء ، والبدل حينئذٍ بدل اشتمال .
وصرّف نوح ولوط لخفَّتِه ، فإنَّهُ ساكنُ الوسط ، مركب من ثلاثة أحرف .
، لُطْتُ الحوض إذا ملسته بالطين ، وهذا غلط؛ لأنَّ الأسماء الأعجميّة لا تشتق كإسْحَاق ، فلا يقال : إنه من السُّحق وهو البعد؛ وإنَّمَا صرف لخفته؛ لأنَّه على ثلاثة أحْرُف ساكن الوسط ، فأمَّا لطتُ الحوضَ ، وهذا أليط فصحيح ، ولكن الاسم أعجميّ كإبراهيم وإسحاق .
وهو : لوطُ بْنُ هَاران بْنِ تَارخ ابْنِ أخير إبراهيم ، كان في أرض بابل مع عمه إبراهيم ، ، فهاجر إلى الشَّام ، فنزل إبراهيمُ إلى فلسطين ، وأنزل لوطاً الأردن ، فأرسله اللَّهُ عز وجل إلى أهل سَدُوم .
قوله : « أتأتُونَ الفَاحِشَة » أتفعلون السيئة المتناهية في القبح ، وذكرها باسم الفاحشة ليبين أنَّها زنا لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] .
{ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّهَا مستأنفة لا محلَّ لها من الإعرابِ ، وعلى الاستئناف يحتمل أن تكون جواباً لسؤال وألا تكون جواباً .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « فإن قلت : ما موقع هذه الجملة » ؟
قلت : لا مَحَلَّ لها لأنَّها مُسْتَأنفة ، أنكر عليهم أوّلاً بقوله : « أتَأتُونَ الفَاحِشَةَ » ثُمَّ وبخهم عليها فقال : أنتم أوَّلُ من عملها . أو تكون جواباً لسؤال مقدَّر ، كأنَّهُم قالوا : لِمَ لا تأتيها؟ فقال : « ما سبقكم بها أحَدٌ؛ فلا تفعلوا ما لم تُسْبَقُوا به » وعلى هذا فتكون صفة للفاحشة ، كقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] وقال الشَّاعِر : [ الكامل ]
2511- وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّني .. . . .
والباء في « بِهَا » فيها وجهان :
أظهرهما أنها حالية ، أي : ما سبقكم أحدٌ مصاحباً لها أي : ملتبساً بها .
والثاني : أنَّها للتعدية .
قال الزمخشريُّ : الباءُ للتعدية من قولك : « سَبَقْته بالكُرة » إذا ضربتها قبله . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : « سَبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ » .
قال أبو حيان : « والتّعدية هنا قلقة جداً؛ لأنَّ » الباء « المعدِّية في الفعل المتعدي لواحد [ هي ] بجعل المفعولِ الأوَّلِ يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة ، وبيان ذلك أنَّك إذا قلت : » صَكَكْتُ الحجرَ بالحَجر « كان معناه : أصْكَكْت الحجرَ بالحجر أي : جَعَلْت الحجر يَصُكُّ الحجر ، فكذلك : دفعت زيداً بعمرو عن خالد ، معناه : أدْفَعْتُ زيداً عمراً عن خالد أي جعلت زيداً يدفع عمراً عن خالد فللمفعول الأوَّل تأثير في الثَّاني ولا يصحُّ هذا المعنى هنا؛ إذْ لا يصحُّ أن يقدَّر : أسْبَقْتُ زيداً الكرة أي : جعلت زَيْداً يسبق الكَرَةَ غلا بمجاز متكلَّف ، وهو أن تجعل ضربك للكرةِ أول جَعْل ضربة قد سقبها أي : تقدَّمها في الزمان فلم يجتمعا » .

و « مِنْ » الأولى لتأكيد استغراق النفي والثانية للتبعيض .
والوجه الثاني من وجهي الجملة : أنَّها حال ، وفي صاحبها وجهان :
والثاني : هو المفعول أي : أتأتونها مُبْتَدَأ بها غير مسبوقة من غيركم .
قال عمرو بن دينار : « ما يراد ذكر على ذكر في الدُّنيا حتى كان قوم لوط » .
قوله : « أإنَّكُمْ » قرأ نافعٌ وحفصٌ عن عاصم : « إنكم » على الخبر المستأنف ، وهو بيان تلك الفاحشة ، وقرأ الباقون بالاستفهام المقتضي للتّوبيخ ، فقرأ ابنُ كثير بهمة غير ممدودة وتليين الثَّانية ، وقرأ أبُوا عمرو بهمزة ممدودة للتّخفيف وتليين الثانية ، والباقون بهمزتين على الأصل .
قال الواحديُّ : « كان هذا استفهاماً معناه الإنكار لقوله تعالى : » أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ « ، وكلُّ واحد من الاستفهامين جملة مستقلة غير محتاجة في تمامها إلى شيء آخر » .
قوله : { لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً } قيل : نصب « شَهْوَةٍ » على أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل الاشتِهَاءِ لا حامل لكم عليه إلاَّ مجرّد الشَّهوة لا غير .
وقيل : إنَّها مصدر واقعٌ موقع الحال ، أي : مشتهين أو باق على مصدريَّته ، ناصبة « أتَأتُونَ » ؛ لأنَّهُ بمعنى أتشتهون .
ويقال : شَهِيَ يَشْهَى شَهْوَةً ، [ وشَهَا يَشْهُو شَهْوَةٍ ] قال الشَّاعر : [ الطويل ]
2512 - وَأشْعَثَ يَشْهَى النَّوْمَ قُلْتُ لَهُ : ارْتَحِلْ ... إذَا مَا النُّجُومُ أعْرَضَتْ واسْبَكَرَّتِ
وقد تقدَّم ذلك في آل عمران .
قوله : { مِّن دُونِ النسآء } فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنَّهُ متعلق بمحذوف ، لأنَّهُ حال من « الرِّجالِ » أي : أتأتونهم منفردين عن النِّساء .
والثاني : أنَّهُ متعلِّق ب « شَهْوَة » ، قاله الحوفيُّ . وليس بظاهر أن تقول : « اشتهيتُ من كذا » ، إلاَّ بمعنى غير لائق هنا .
والثالث : أن يكُون صفة ل « شهوة » أي : شهوة كَائِنَة من دونهن .
قوله : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } « بل » للإضراب ، والمشهور أنهُ إضراب انتقالٍ من قصّة إلى قصّة ، فقيل : عن مذكور ، وهو الإخبار بتجاوزهم عن الحدِّ في هذه الفاحشة ، أو عن توبيخهم وتقريرهم ، والإنكار عليهم .
وقيل : بل للإضراب عن شيء مَحْذُوفٍ . واختف فيه :
فقال أبُو البقاء : « تقديرُهُ : ما عَدَلْتُم بل أنتم » .

وقال الكَرْمَانيُّ : « بل » ردٌّ لجواب زعموا أن يكون لهم عذراً أي : « لا عذر لكم بل » .
وجاء هان بصفة القوم اسم الفاعل وهو « مُسْرِفُونَ » ؛ لأنَّهُ أدلُّ على الثُّبوت ولموافقة رءوس الآي؛ فإنَّهَأ أسماء .
وجاء في النمل [ 55 ] { تَجْهَلُونَ } دلالة على أنَّ جهلهم يتجدد كل وقت ولموافقة رءوس الآي فإنها أفعال .
فصل في الإسراف
معنى « مُسْرِفُونَ » أي : يتجاوزون الحلال إلى الحَرَامِ .
قال الحسنُ : « كانوا لا ينكحون إلا الغرباء » .
وقال الكلبيُّ : « إنَّ أوَّل من عملَ عملَ قوم لوط إبليس؛ لأنَّ بلادهم أخُصَبَتْ فانتجعها أهلُ البلدان ، فتمثل لهم إبليس في صورة شابّ ، ثم دعى إلى دُبرِهِ فنكح في دبره ، فأمر الله - تعالى - السَّماءَ أن تحصبهم ، والأرض أن تخسف بهم .

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)

قوله : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } العامَة على نصب « جَوَابَ » خبراً للكون ، والاسمُ « أن » وما في حيِّزِهَا وهو الأفصح؛ إذ فيه جعل الأعرف اسماً .
وقرأ الحسن « جوابُ » بالرَّفع ، وهو اسمها ، والخبر « إلاَّ أن قالُوا » وقد تقدَّم ذلك .
وأتى هنا بقوله « ومَا » ، وفي النّمل [ 56 ] والعنكبوت [ 24 ] « فَمَا » ، والفاء هي الأصل في هذا الباب؛ لأنَّ المراد أنَّهُم لم يتأخر جوابهم عن نصيحته ، وأما الواو فالعتقيب أحدُ محاملها ، فتعيَّن هنا أنَّها للتعقيب لأمرٍ خارجي وهي العربية في السّورتين المذكورتين لأنَّها اقتضت ذلك بوضعها .
قوله : { أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } أي : أخرجوا لوطاً وأتباعه . { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } أي : يتنزهون عن أدبار الرِّجالِ .
وقيل : « يَتَطَهَّرونَ » أي : يتنزهون عن أدبار الرِّجالِ .
وقيل : « يَتَطَهَّرونَ » يتباعَدُنَ عن المعاصي والآثام .
وقيل : « يَتَطَهَّرُونَ » أي على سبيل السخرية بهم ، كما يقول بعض الفسقة لمن وعظة من الصلحاء : أبْعِدُوا عنَّا هذا المتقشّفَ ، وأريحونا من هذا المتزهِّدِ .

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)

المراد ب « أهله » : أنصاره وأتباعه .
وقال ابن عباس : « المراد : النتاه » وقوله : « إلا امْرَأتَهُ » أي : زوجتهُ ، يقال : امرأةُ الرَّجل أي زوجته ويقال : رجل المرأة بمعنى زوجها؛ لأنَّ الزوج بمنزلة المالك لها ، وليست المرأة بمنزلة المالك للرّجل .
وقوله : « مِنَ الغَابِرِينَ » يعني الباقين في العذاب .
وقيل : من الباقين المعمّرين قد أتى عليها دَهْرٌ طويل فهلكت ، فهي مع من هلك .
يقال : غبر الشيء يغبرغبوراً إذا مكث وبقي .
وقوله : { كَانَتْ مِنَ الغابرين } جواب سؤال مقدَّر ، وهذا كما تقد في البقرة ، وفي أوَّل هذه السُّورة في قصة « إبليس » .
والغابر : المقيم وهذا [ هو ] مشهور اللُّغة ، وأنشدوا قول بي ذُؤَيْبٍ الهذلي : [ الكامل ]
2513 - فَغَبَرْتُ بَعْدَهُمُ بِعَيْشٍ نَاصِبٍ ... وإخَالُ أنِّي لاحِقٌ مُسْتَتْبَعُ
ومنه غُبَّرُ اللبن لبقيته في الضَّرْع ، وغُبَّرُ الحَيْض أيضاً ، قال أبو كبير الهُذَلِيُّ ، ويروى لتأبَّط شَرّاً : [ الكامل ]
2514 - ومُبَرَّأ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُعْضِلِ
ومعنى « مِنَ الغَابِرِينَ » في الآية أي : من المقيمن في الهلاكِ .
وقال بعضهم : « غبر بمعنى مضى وذهب » ومعنى الآية يساعده؛ وأنشد للأعشى : [ السريع ]
2515 - عَضَّ بِمَا أبْقَى المَوَاسِي لَهُ ... مِنْ أمِّهِ فِي الزَّمَنِ الغَابِرِ
أي : الزمان الماضي .
وقال بعضهم : غَبَرَ : أي غاب ، ومنه قولهم : « غَبَر عَنَّا زماناً » .
وقال أبُو عبيدة : « غبر : عُمِّر دَهْراً طويلاً حتّى هَرِمَ » ، ويدلُّ له : { إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين } [ الصافات : 135 ] .
وقد تقدَّم . والحاصل أنَّ الغبور مشتركٌ ك « عَسْعَسَ » ، أو حقيقة ومجازٌ وهو المرجح . والغبارُ : ما يبقى من التُّراب المُثَارِ ومنه : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } [ عبس : 40 ] .
تخييلاً لتغيرها واسودادها والغَبْراء : الأرْضُ؛ قال طرفةُ : [ الطويل ]
2516 - رَأيْتُ بَنِي غَبْرَاءَ لا يُنْكِرُونَنِي ... وَلاَ أهْلُ هَذَاكَ الطِّرَافِ المُمَدَّدِ

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

قوله : « وأمْطَرْنَا » قال أبو عُبَيْدٍ : « يقال : مُطِر في الرحمة ، وأمْطِر في العذاب » .
وقال [ أبو القاسم ] الرَّاغِبُ : ويقال : مطر في الخير ، وأمطر في العذاب ، قال تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً } [ الحجر : 74 ] .
وهذا مردود بقوله تعالى : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] فإنهم إنَّما عنوا بذلك الرحمة ، وهو من أمْطَرَ : وأمْطرتهم ، وقوله تعالى هنا : « وأمْطَرْنا » ضُمِّن معنى « أرْسَلْنَا » ولذلك عُدِّي ب « عَلَى » ، وعلى هذا ف « مَطَراً » مفعولٌ به لأنَّهُ يُراد به الحجارة ، ولا يُرَادُ به المصدر أصلاً ، إذ لو كان كذلك لقيل : أمطار .
ويوم مَطِيرٌ : أي : مَمْطُورٌ . ويوم ماطر ومُمْطِرٌ على المجاز كقوله : { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] ، ووادٍ مطير فقط فلم يُتَجَوَّزْ فيه ومطير بمعنى مُمْطِر؛ قال : [ الطويل ]
2517 - حَمَامَةَ بَطْنِ الوَاديَيْنِ تَرَنَّمِي ... سَقَاكِ من الغُرِّ الغَوَادِي مَطِيرُهَا
فعيل هنا بمعنى فاعل؛ لأنَّ السَّحاب يمطرُ غيرها ، ونكَّر « مطراً » تعظيماً ، والمرادُ بالمطر هنا يعني حجارة من سجيل .
قال وهب : « هي الكبريت والنَّار فانظر كَيْفَ كان عاقِبةُ المجرمين » .
فصل في إيجاب اللواط الحد
اللِّوَاط يوجب الحد ، وهذه الآية تدلُّ عليه من وجوه :
الأول : أنَّهُ ثبت في شريعةِ لُوطٍ رجم اللوطيّ ، والأصل بقاء ما ثبت إلى أنْ يرد الناسخ ، ولم يرد في شرع مُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - ما ينسخه ، فوجب الحكم ببقائه .
الثاني : قوله تعالى : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] .
الثالث : قوله تعالى : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين } .
والمرادُ من هذه العاقبة ما سبق ذكر من إنْزالِ الحجر عليهم من المجرمين الذين يعملون عمل قوم لوط؛ لأنَّ ذلك هو المدلول السابق ، فينصرف إليه ذكر الحكم عقيب الوَصْفِ مشعراً بالعليَّة .
وقال أبو حنيفة : « اللَّوَاطُ لا يوجب الحدَّ » .
واختلفوا في حدّ اللاَّئط : فقال بعضهم : « يُرجم مُحْصَناً كان ، أو غير محصن ، وكذلك المفعول به إن كان محتلماً » .
وقال بعضهم : « إنْ كان محصناً رجم ، وإن كان غير محصن أدّب وحبس » .
وقال أبو حنيفة : يُعزَّر ، [ وحجة الجمهور أن الله تعالى ] عذب قوم لوط بالرجم وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ : « مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَل عَمَلَ قَوْمِ لوطٍ فاقْتُلُوا الفاعلَ والمَفْعُولَ بِهِ »
وروي عن أبي بكر الصديق أنَّهُ حَرَّقَ رجُلاً يُسَمّى الفُجَاءَة حين عمل عمل قوم لوط بالنَّار ، وأحرقهم ابن الزُّبير في زمانه ، ثم أحرقهم هِشامُ بنُ الوليدِ ، ثم أحرقهم خالد القَسْريُّ ب « العراق » .
وروي أن سبعة أخذوا في زمان ابن الزُّبير في لواط ، فسألَ عنهم ، فوجد أرْبَعةً منهم أحصنوا ، فخرج بهم من الحرم ، فرُجموا بالحجارة حتى ماتوا ، وحد الثلاثة ، وعنده ابن عباس وابن عمر فلم ينكرا ، وهذا مذهب الشافعي .
قال ابن العربيِّ : الأوَّلُ أصحُّ سنداً وهو مذهب مالك .
فإن أتى البهيمة قيل : يقتل هو والبهيمة .
وقيل : يقتل دون البهيمة .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

قوله تعالى : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } القصة .
اختلف في « مَدْيَنَ » : فقيل : أعجميٌّ ، فمنعه للعُجْمَةِ والعلمية ، وهو مدين بن إبراهيم - عليه السلام - فسُمِّيت به القبيلة .
وقيل : هو عربيٌّ اسم بلد ، قاله الفرَّاءُ ، وأنشد : [ الكامل ]
2518 - رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذينَ عَهِدْتُهُمْ ... يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العَذَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلامَهَا خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجُودَا
فمنعهُ للعَلِميَّة والتَّأنيث .
ولا بدّ حينئذ من حذف مضاف ، أي : وإلى أهل مدين ، ولذلك أعاد الضَّمير في قوله : « أخَاهُم » على الأهل ، ويجوز أن يراد بالمكان سَاكِنُوه ، فروعي ذلك بالنِّسْبَةِ إلى عود الضمير عليه وعلى تقدير كونه عربياً قالوا : فهو شاذ ، إذ كان من حقِّه الإعلال كمتاع ومقام ، ولكنهم شذُّوا فيه كما شذوا في مَرْيم ومَكْوذَة ، وليس بشاذٍ عند المبرِّد ، لعدم جَرَيَانِهِ على الفعل ، وهو حقٌّ وإن كان الجمهور على خلافه .
قوله : « شُعَيْباً » يجوز أن يكون تصغير شَعْب أو شِعْب هكذا قالوا ، والأدبُ ألاَّ يقالَ ذلك ، بل هذا موضوضعٌ على هذه الزِّنَةِ ، وأمَّا أسماءُ الأنْبِيَاءِ فلا يدخلُ فيها تصغيرٌ ألْبَتَّةَ ، إلا ما نطق به القرآن على صيغة تشبهه كشُعَيْب عليه السلام ، وهو عربي لا أعجمي .
فصل
قال عطاء : « هو شعيبُ بْنُ نويب بنِ مَدْينَ بنِ إبراهيمَ » .
وقال ابْنُ إسحاقَ : « هو شُعَيْبُ بْنُ ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم ، وأم ميكائيل بنت لوط » .
وقيل : هو شُعَيْبُ بنُ ميرون بن مدْينَ ، وكان شعيب أعمى ، ويقال له : « خِطِيبُ الأنْبِيَاء » لحسن مراجعته قومه وكان أهل كفر وبخس للكَيْلِ والميزان ، وهم أصحاب الأيكة .
{ قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء .
{ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } واعلم أنَّ المراد من البيِّنَةِ هنا المعجزة ، ولم تذكر في القرآن . كما لم يذكر في القرآن كثير من مُعْجِزاتِ رسُولِنَا .
قال الزمخشريُّ : « ومن معجزات شعيب أنَّهُ دفع إلى موسى عصاه وصارت ثعباناً ، وأيضاً قال لموسى - عليه [ الصلاة ] والسلام - : هذه الأغنام تلد أوْلاداً فيها سواد وبياض ، وقد وهبتها لك ، فكان الأمر كذلك » .
قوله : { فَأَوْفُواْ الكيل والميزان } .
اعلم أنَّ قوم شُعَيْبٍ كانوا مشغوفين بالبَخْسِ والتَّطْفيف .
فإن قيل : « الفاء » في قوله : « فأوفوا » توجب أن يكون الأمر بإيفاء الكيل كالتعليل لما سبق ذكره ، وهو قوله : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } فكيف وجهه؟
فالجوابُ : كأنَّهُ يقول لهم : البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشَّيءِ القليل ، وهو مستقبح في العقل ، ومع ذلك فقد جاءت البينة والشريعة بتحريمه فلم يبق فيه عذر « فَأْفُوا الكَيْلَ » .

وقال هنا : « الكَيْلَ » ولم يقل : « المِكْيَالَ » كما في سورة هود [ 84 ] ؛ لأنَّهُ أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال ، أو يسمى ما يكال به الكيل كما يقال : « العيش » لما يعاش به .
قوله : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ } قد تقدّم معنى هذه اللفظة في قوله : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } [ البقرة : 282 ] ، وهو يتعدّى لاثنين ، وهما « النَّاس » و « أشياءهم » ، أي : لا تنقصوهم أشياءهم ولا يظلموهم ، ويدخلُ فيه المَنْعُ من الغَصْبِ ، والسرقة والرشوة ، وقطع الطريق ، وانتزاع الأموال بطريق الحيل .
قوله : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } .
وذلك أنَّهُ لما كان أخذُ أموال النَّاس بغير رضاهم يوجب المُنازَعَة والخصومة ، وهما يوجبان الفَسَادَ ، لا جَرَمَ قال بعده : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } .
وقيل : أراد المَنْعَ من كلِّ فسادٍ .
وقيل : أراد بقوله : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ } المنع من فساد الدُّنيا ، وبقوله : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض } المنع من فساد الدِّين .
واختلفوا في معنى « بَعْدَ إصْلاحِهَا » : فقيل : بعد أن صلحت ببعثة الرسل .
وقيل : بعد أن أصلحها بتكثير النّعَمِ .
ثم قال : « ذَلِكُمْ » وهو إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الأمر والنهي « خَيْرٌ لَّكُمْ » في الآخرة { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } مصدِّقين بما أقول .

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

يجوز أن تكون « الباء » على حالها من الإلصاق أو المصاحبة ، أو تكون بمعنى « في » يقال : قَعَدَ لَهُ كذا ، وعلى مكان كذا ، وفي مكان كذا ، فتتعاقب هذه الحروف في هذا الموضع لتقارب معانيها ، فقعد بمكان : الباء للغلصاق ، وقد التصق بذلك المكان ، و « على » للاستعلاء ، وقد علا ذلك المكان ، و « في » للحلول ، وقد حلّ ذلك المكان .
و « تُوعَدُونَ » ، و « تَصُدُّون » ، و « تَبْغُونَ » هذه الجمل أحوال [ أي ] : لا تَقْعُدُوا مُوْعدين وصادِّين وباغين .
ولم يذكر الزعد له لِتَذْهَبَ النَّفسُ كلَّ مذهبٍ : ومفعول « تصدُّون » « مَنْ آمَن » .
قال أبُو البقاء : « مَنْ آمَنَ » مفعول « تَصُدُّونَ » لا مفعول « تُوعدُونَ » ، إذْ لو كان مفعولاً للأوَّل لقال : « تَصُدُّونَهُم » ، يعني أنَّه لو كان كذلك لكانت المسألة من التَّنازع ، وإذا كانت من التنازع وأعْمَلْتَ الأولَ لأضْمَرْتَ في الثاني فكنت تقول : « تَصُدُّونهم » لكنه ليس القرآن كذا ، فدل على أن « تُوعَدُونَ » ليس عاملاً فيه ، وكلامُه يحتمل أنْ تكون المسألة من التَّنازع - يكون ذلك على إعمال الثاني ، وهو مختار البصريين وحذف من الأوَّل - وألاَّ تكون وهو الظَّاهِر .
وظاهرُ كلام الزمخشري : أنَّهَا من التَّنَازُع ، وأنَّهُ من أعمال الأوَّل ، فإنَّهُ قال : فإن قلت : إلاَمَ يَرْجِعُ الضَّميرُ في « من آمَنَ بِهِ » ؟
قلتُ : إلى كلِّ صراطٍ ، تقديره : تُوْعِدون من آمن به وتَصُدُّون عنه ، فوضعَ الظَّاهِر الذي هو « سبيل الله » موضع المضمر زيادة في تقبيح أمرهم .
قال أبو حيَّان : « وهذا تعسُّف وتكلُّفٌ مع عدم الاحتياج إلى تقديم وتأخير ، ووضع ظاهر موضع مضمر ، إذ الأصل خلاف ذلك كُلَّهِ ، ولا ضرورة تَدْعُوا إليه ، وأيضاً فإنَّهُ من أعمال الأوَّل وهو مذهب مَرْجُوحٌ ، ولو كان من إعمال الأوَّلِ لأضمر في الثاني وُجُوباً ، ولا يجوز حذفهُ إلا في ضرورة شعرٍ عند بعضهم [ كقوله ] : [ مجزوء الكامل ]
2519 - بِعُكَاظَ يُعْشِي النَّاظِري ... نَ إذَا هُمُ لَمَحُوا شُعَاعَهْ
فأعمل » يُغشي « ورفع به » شُعَاعه « وحذفَ الضمير من » لَمَحُوا « تقديره : لمحوه ، وأجازه بعضهم بقلةٍ في غير الشِّعْرِ .
والضَّمير في » به « : إمَّا لكل صراط كما تقدَّم عن الزمخشريِّ ، وإمَّا على الله للعلم به ، وإمَّا على سبيل الله ، وجاز ذلك؛ لأنَّهُ يذكَّر ويُؤنَّثُ ، وعلى هذا فقد جمع بين الاستعمالين هنا حيث قال : » به « فذكَّر ، وقال : » وتَبْغُونها عِوَجاً « فأنَّث ، ومثله : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] [ وقد تقدَّم ] نحو قوله : { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } [ آل عمران : 99 ] في آل عمران .

ومعنى الآية أنَّهُم كانوا يجلسون على الطَّريق فيقولون لمن يريدُ الإيمانَ بشُعَيْبٍ : إنَّ شُعَيْباً كذاب فلا يفتننَّك عن دينك ، ويتوعدون المؤمنين بالقَتْل ، ويخوفونهم .
قال الزمخشريُّ : قوله : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ } أي : ولا تقتدوا بالشَّيْطان في قوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] قال : والمرادُ من قوله : « صِرَاطٍ » كلُّ ما كان من مناهج الدِّين ويدلُّ عليه قوله : { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } .
قوله : « وَاذْكُرُوا » إمَّا أن يكون مفعوله محذوفاً ، فيكون هذا الظَّرف معمولاً لذلك المفعول أي : اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عليكم في ذلك الوقت ، وإمَّا أن يجعل نفس الظرف مفعولاً به . قاله الزمخشريُّ .
وقال ابن عطية : « إنّ » الهاء « في » به « يجوز أن تعود على شعيب عند مَنْ يرى أنَّ القُعُودَ على الطرق للردِّ عن شعيب ، وهو بعيد؛ لأن القائل : » ولا تقعدوا « هو شعيب ، وحينئذ كان التركيب » مَنْ آمَنَ بِي « ، والادِّعَاءُ بأنَّهُ من باب الالتفات بعيد جداً؛ إذ لا يَحْسُن أن يُقال : » [ يا ] هذا أنا أقول لك لا تُهِنْ مَنْ أكرَمَه « أي : مَنْ أكرمني .
قوله : { إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } .
قل الزَّجَّاج : » هذا الكلام يحتمل ثلاث أوجه : كثر عددكم بعد القلّة ، وكثركم بالغنى بعد الفقر ، وكثركم بالقوة بعد الضعف « قال السدي : » كانوا عشارين « .
[ قوله ] : { وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } .
» كيف « وما في حيِّزها معلِّقة للنظر عن العمل ، فهي وما بعدها في محل نصب على إسقاط الخافض .
والنظرُ هنا التفكُّرُ ، و » كيف « خبر كان ، واجب التقديم .
والمعنى : انظر كيف كان عاقبة المفسدين أي : جزاء قوم لوط من الخزي والنكار وعذاب الاستئصال .

وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)

قوله : { وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مَّنكُمْ آمَنُواْ بالذي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ } أي : اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنين ومكذبين ، و « طائفة » الثانية عطف على « طائفة » الأولى فهي اسم كان و « لم يؤمنوا » معطوف على « آمنوا » الذي هو خبر كان ، عَطَفَتْ اسماً على اسم ، وخبراً على خبر ، ومثله لو قلت : « كان عبد الله ذاهباً وبكر خارجاً » ، عطفْتَ المرفوع على مثله ، وكذلك المنصوب ، وقد حذف وصف طائفة الثانية لدلالة وصف الأولى عليه ، إذ التقدير : « طائفة منكم لم يؤمنوا » ، وحذف أيضاً متعلق الإيمان في الثانية ، لدلالة الأولى عليه ، إذ التقديرك لم يؤمنوا بالذي أُرسلت به ، والوصف بقوله : منكم الظاهر أو المقّر هو الذي سَوغ وقوع « طائفة » اسماً ل « كان » من حيث أن الاسم في هذا الباب كالمتبدأ ، والمبتدأ لا يكون نكرة إلا بمسوّغٍ تقدم التنبيه عليه .
قوله « فَاصْبِرُوا » يجوز أن يكون الضمير للمؤمنين من قومه ، وأن يكون للكافرين منهم ، وأن يكون للفريقين ، وهذا هو الظاهر أَمَرَ المؤمنين بالصبر ليحصُل لهم الظفر والغلبة ، والكافرون مأمورون به ليَنْصُرَ الله عليهم المؤمنين لقوله : { قُلْ تَرَبَّصُواْ } [ الطور : 31 ] ، أو على سبيل التنازل معهم أي : اصبروا فستعلمونَ مَنْ ينتصر ومن يَغْلب مع علمه بأن الغلبة له و « حتى » بمعنى « إلى » فقط .
وقوله « بيننا » غَلَّب ضمير المتكلم على المخاطب ، إذ المرادُ بيننا جميعاً من مؤمن وكافر ، ولا حاجة إلى ادِّعاء حذف معطوف تقديره : بيننا وبينكم . ثم قال : { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } أي : أنه حاكم منزه عن الجور والميل والحيف .

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)

قوله تعالى : { قَالَ الملأ الذين استكبروا } هم الرؤساء { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب } ونخرج أتباعك من قريتنا .
وقوله : { والذين آمَنُواْ } عطف على الكاف ، و « يا شعيبُ » اعتراض بين المتعاطفين .
قوله : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } عطف على جواب القسم ، إذ التقدير : والله لنخرجنَّكَ والمؤمنين أو لتعودُنَّ ، فالعَوْدُ مُسند إلى ضمير النبي ومَنْ آمن معه .
فإن قيل : إن شعيباً لم يكن قطّ على دينهم ولا ملتهم ، فكيف يحسن أن يقال : « أو لتعودن في ملتنا » ، وقوله : { قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً } يدل أيضاً على ذلك؟ .
فالجواب : إن « عاد » في لسان العرب لها استعمالان .
أحدهما - وهو الأصل - أنه الرجوع إلى ما كان عليه من الحال الأول .
والثاني : استعمالُها بمعنى « صار » ، وحينئذ ترفعُ الاسم وتنصبُ الخبرَ ، فلا تكتفي بمرفوع وتفتقر إلى منصوب ، [ وهذا عند بعضهم ] ومنهم من منع أن تكون بمعنى « صار » فمن مجيئها بمعنى « صار » قوله : [ الطويل ]
2520 - وَرَبَّيْتُهُ حَتَّى إذَا ما تَرَكْتُهُ ... أخَا القَومِ واسْتَغْنَى عَنِ المَسْحِ شَارِبُهَ
وَبِالْمَحْضَ حَتَّى عَادَ جَعْداً عَنَطْنَطاً ... إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ
فرفع ب « عاد » ضمير الأول ونصب بها « جَعْداً » ، ومَنْ مَنَع ذلك يَجْعل المنصوب حالاً قال : [ الطويل ]
2521 - فَإنْ تَكُنْ الأيَّامُ أحْسَنَ مُدَّةً ... إليَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّْ ذُنُوبُ
أي : صار لهن ذنوب ، ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان ، وعلى هذا فزال الإشكال ، والمعنى : لتصرينّ في ملتنا بعد أن لم تكونوا ، ف « في ملتنا » خبر على هذا وأمّا على الأول فالجواب من وجوه :
أحدها : أن هذا القول من رؤسائهم ، قصدوا به التلبيس على العوام ، والإيهام لهم أنه كان على دينهم وفي مِلَّتِهِمْ .
الثاني : أنهم خاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه ، وأجروا عليه أحكامهم .
الثالث : أن يُراد بعَوْده رجوعُه إلى حالة سكوته قبل بعثته؛ لأنه قبل أن يبعث إليهم كان يُخْفي إيمانه ، وهو ساكت عنهم بريء مِنْ معبودهم غير الله .
وعدَّى « عاد » ب « في » الظرفية ، كأن المِلَّة لهم بمنزلةِ الوعاءِ المحيط بهم .
قوله : { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } الاستفهامُ للإنكار تقديره : أيوجدُ منكم أحد هذين الشيئين : أعني الإخراج من القرية ، والعَوْد في الملة على كل حال حتى في حال كراهتنا لذلك؟ .
وقال الزمخشري : « الهمزةُ للاستفهام ، والواوُ واو الحال تقديره : أتعيدوننا في ملَّتكم في حال كراهتنا » .
قال أبو حيان : « وليست هذه واو الحال ، بل واو العطف ، عطفت هذه الحال على حال محذوفة ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - : » رُدُّوا الساَّئِلَ ولَوْ بِظلْفٍ مُحرقٍ «

ليس المعنى : رُدُّوه حال الصدقة عليه بظلف مُحرق ، بل معناه : رُدُّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلفٍ محرق ، وقد تقدّمت هذه المسألة ، وأنه يصح أن تُسمَّى واو الحال وواو العطف [ وتحرير ذلك ، ولولا تكريره لما كرَّرْته ] .
وقال أبو البقاء : و « لو » هنا بمعنى « إنْ » لأنها للمستقبل ، ويجوز أن تكون على أصلها ، ويكون المعنى : لو كنا كارهين في هذا الحال أي أن كنا كارهين لذلك فتجبروننا عليه .
وقوله : « لأنها للمستقبل » ممنوع .
قوله : « إنْ عُدْنَا » شرط جوابه محذوف عند الجمهور أي : فقد افترينا ، حذف لدلالة ما تقدم عليه ، وعند أب زيد والمبرد والكوفيين هو قوله : « فقد افتَرْينا » وهو مردود بأنه لو كان جواباً بنفسه لوَجَبَتْ فيه الفاء .
وقال أبو البقاء : « قد افترينا بمعنى المستقبل؛ لأنه لم يقع ، وإنما سَدَّ مَسَدَّ جواب » إنْ عُدْنا « وساغ دخولُ » قد « هنا لأنهم نَزَّلوا الافتراء عند العود منزلة الواقع فقرنوه ب » قد « ، وكأنَّ المعنى : قد افترَيْناه الآن إن هَمَمْنا بالعود » .
وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها استئناف إخبار فيه معنى التعجب ، قاله الزمخشري ، كأنه قيل : ما أكذبنا على الله إن عُدْنا في الكفر .
والثاني : أنها جواب قسم محذوف حذفت اللام منه ، والتقدير : والله لقد افترينا ، ذكره الزمخشري أيضاً ، وجعله ابن عطية احتمالاً وأنشد : [ الكامل ]
2522 - بَقَّيْتُ مَالِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلَى ... وَلَقِيتُ أضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ
قال : « كما تقول : افتريتُ على الله إن كلَّمت فلاناً » ولم يُنْشِدْ ابن عطية البيت الذي بعد هذا ، وهو محلُّ الفائدة؛ لأنه مشتمل على الشرط وهو : [ الكامل ]
2523 - إنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدِ غَارَةً ... لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نهابِ نُفُوسِ
قوله : { بَعْدَ إذْ نَجَّانَا } منصوب ب « نعود » أي : ما يكون ولا يستقيم لنا عود بعد أن حصل لنا التنجيةُ منها .
فصل في معنى التنجية
وفي معنى { نَجَّانَا الله مِنْهَا } وجوه :
الأول : علمنا قبحه وفساده وبطلانه .
الثاني : أن الله نجّى قومه من تلك الملة ، وإنما نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً منهم تغليباً للأكثر .
الثالث : أن القوم أوهموا المستضعفين أنه كان على ملتهم ، فقوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } أي على حسب معتقدكم .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } في هذا الاستثناء وجهان :
أحدهما : أنه متصل .
والثاني : أنه منقطع . ثم القائلون بالاتصال مختلفون : فمنهم من قال : هو مستنثى من الأوقات [ العامة ] والتقدير : وما يكونُ لنا أن نعود فيها في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك ، وهذا متصور في حقِّ مَنْ عدا شعيباً ، فإن الأنبياء لا يشاء الله ذلك لهم؛ لأنه عَصَمهم .
ومنهم من قال : « هو مستثنى من الأحوال العامة والتقدير : ما يكون لنا أن نعود فيها في كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى » .

وقال ابن عطية : « ويُحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعَبَّد الله [ به ] المؤمنين ممَّا تفعلهُ الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم : إنا لا نعودُ في مِلَّتكم ، ثم خشي أن يتعَبَّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول : هذه عودة إلى ملَّتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبَّدَ به » .
قال أبو حيان : « وهذا الاحتمال لا يَصِحُّ لأن قوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البر » .
قال شهاب الدين : « قد حكى ابن الأنباري هذا القول عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإرادة ثم قال : وهذا القول مُتَنَاولهُ بعيد ، لأن فيه تبعيض الملّة » .
وقيل : هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدُّب .
قال ابن عطية : « ويقلق هذا التأويلُ من جهةِ استقبال الاستثناء ، ولو كان الكلام : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ } قوي هذا التأويل » .
وهذا الذي قاله سهوٌ؛ لأنَّ الماضيَ يتخلَّص للاستقبال بعد « إنْ » الشرطية ، كما يتخلَّص المضارع له ب « أنْ » المصدرية .
وقيل : إن الضمير في قوله : « فيها » ليس عائداً على المِلَّة ، بل عائد على الفِرْية ، والتقدير : وما يكون لنا أن نعود في الفِرْية إلا أن يشاء ربنا ، وهو حَسَنٌ لولا بُعْدُه .
فصل في بين المشيئة
استدل أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر ، واستدل المعتزلة بها على أنه لا يشاء إلا الخير .
فأمّا وجه استدلال اهل السنة فمن وجهين :
الأول : قوله : { إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } [ يدل على أن المنجي من الكفر هو الله - تعالى - ، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد ، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على نقيض قوله { إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } ] .
الثاني : أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة ، وتلك الملة كفر ، فكان هذا تجويزاً من شعيب - عليه السلام - أن يعيدهم إلى الكفر .
قال الواحدي : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر؛ ألا ترى إلى قوله الخليل - عليه الصلاة والسلام - : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] وكان محمد صلى الله عليه وسلم يقول : « يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ والأبْصَارِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلى دِيْنِكَ وطاعَتِكَ » . وقال يوسف - عليه السلام - : { تَوَفَّنِي مُسْلِماً } [ يوسف : 101 ] وأجاب المعتزلة بوجوه :
أحدها : أن قوله : « ما لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء [ الله ] أن يعيدنا إيها قضية [ شرطية ، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء .

وثانيها : أن هذا مذكور على طريق التبعيد ] كما يقال : لا أفعل ذلك إلاَّ إذا ابيضّ القَارُ وشاب الغراب ، فعلّق شعيب - عليه السلام - عوده إلى ملتهم على مشيئته بما علم أنه لا يكون منه ذلك أصلاً على طريق التبعيد لا على وجه الشرط .
وثالثها : قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } ليس فيه بيان أن الذي يشاء الله ما هو؟ فنحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله بأن يظهر الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل ، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل ، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره ، وما كان جائزاً كان مراداً لله - تعالى - ، وكون الصبر أفضل من الإظهار لا يخرج الإظهار من أن يكون مراداً لله - تعالى - كما أن المسح على الخفين مرادٌ لله تعالى ، وإن كان غسل الرجلين أفضل .
ورابعها : أن المراد بقوله : { لنخرجنك يا شعيب } أي من القرية ، فيكون المراد بقوله : { أن نعود فيها } أي القرية .
وخامسها : أن نقول : يجب حمل المشيئة هاهنا على الأمر؛ لأن { وما كان لنا أن فيها إلاَّ أن يشاء الله } معناه : فإنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيءها ، فقوله : « لنا أن نعود فيها } أي يكون ذلك العود جائزاً ، والمشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل ، فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عنده ولا يجوز له فعله ، إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر ، فثبت أن المراد من المشيئة هاهنا الأمر ، فكان التقدير إلاَّ أن يأمر الله [ عودنا في ملتكم فإنا نعود إليها ، والشريعة المنسوخة لا يبعد أن يأمر الله ] بالعمل بها مرة أخرى ، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم .
وسادسها : قال الجبائي : المراد من الملّة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصلاة والصيام وغيرهما ، فقال شعيب : { وما كان لنا أن نعود في ملتكم } فلما دخل في ذلك كل ما هم عليه ، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير مسنوخ ، لا جرم قال : { إلا أن يشاء الله } والمعنى : إلا أن يشاء الله بقاء بعضها ، فيدلّنا عليه ، فحينئذ نعود إليها ، فهذا الاستثناء يعود إلى الأحكام التي يجوز النسخ والتغيير فيها ، ولا يعود إلى ما لا يقبل التغيير ألبتة ، فهذه أسئلة القوم .
وتمسك المعتزلة بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين :
الأول : أن ظاهر قوله { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله } يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها ، وذلك يقتضي أن كلَّ ما شاء الله جوده كان فعله جائزاً مأذوناً فيهن ولم يكن حراماً ، قالوا : وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد حصوله كان حسناً مأذوناً فيه ، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى .

الثاني : ان قولهم : « لنخرجنّك أو لتعودُنَّ » لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم ، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك القرية أيضاً بخلقه ، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله ، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة .
واعلم أنه لمّا تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى بقية الآيات في هذا الباب .
قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } نصب « عِلْماً » على التمييز وهو منقول من الفاعلية ، تقديره : وَسِعَ علمُ ربِّنا كلَّ شيء كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 24 ] والمعنى : أحاط علمه بكل شيء .
ثم قال : { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا } فيما توعدوننا به ، ثم دعا شعيب بعدما أيس من فلاحهم فقال : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } .
قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : « احكم واقض » .
وقال الفراء : « وأهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح؛ لأنه يفتح مواضع الحقِّ » .
وعن ابن عباس قال : « ما كنت أدري قوله { ربنا افتح بيننا وبين قومنا } حتَّى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : أفاتحك أي : أحاكمك » ، وقد تقدَّم أن الفتح الحُكْم بلغة حمير .
وقيل : بلغة مُرَاد وأنشد : [ الوافر ]
2524 - ألاَ أبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُولاً ... بِأنِّي عَنْ فَتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
قال الزجاج : وجائز أن يكون قوله : { افتح بيننا وبين قومنا بالحق } أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبني قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذاباً يدلُّ على كونهم مبطلين ، وعلى كون شعيب وقومه محقين ، وعلى هذا المراد بالفتح الكشف والتبيين ، وكرر { بيننا وبين قومنا } بخلاف قوله : { حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا } [ الأعراف : 87 ] زيادة في تأكيد تمييزه ، ومَنْ تبعه من قومه ثم قال : { وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ أي : خير الحاكمين أو خير المظهرين ، وذا معنى قول من على المعنيين ] ، والمراد به الثناء على الله تعالى .

وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)

لمّا بيَّن عظيم ضلالهم بتكذيب شعيب بيَّن أنهم لم يقتصروا على التكذيب حتى أضلّوا غيرهم ولاموهم على متابعة شعيب بقولهم : { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً [ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } .
قوله : { إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُون } « إذن » حرفُ جواب وجزاء ، وقد تقدّم الكلام عليها مُشْبعاً ] وهي هنا معترضة بين الاسم والخبر ، وقد توهمَّ بعضهم فجعل « إذن » هذه « إذا » الظرفية في الاستقبال نحو [ قولك ] : « ألْزِمُك إذا جئتني » أي وقت مجيئك .
قال : « ثم حُذِفَت الجملة المضافةُ هي إليها ، والأصل : إنكم إذا اتبعتموه لخاسرون ، ف » إذا « ظرف والعاملُ فيه » لخاسرون « ، ثم حذفت الجملة المضافة إليها وهي » اتبعتموه « ، وعُوِّضَ منها التنوين ، فلما جيء بالتنوين وهو ساكن التقى بمجيئه ساكنان ، هو والألفُ قبله ، فحُذِفَت الألفُ لالتقاء الساكنين ، فبقي اللفظ » إذن « كما ترى » .
وزعم هذا القائل أن ذلك جائز بالحَمْل على « إذا » التي للمضيّ في قولهم : « حينئذٍ » و « يومئذٍ » فكما أن التنوين هنا عوض عن جملة عند الجمهور كذلك هنا .
وردّ أبو حيان هذا بأنه لم يَثْبُتْ هذا الحكم ل « إذا » الاستقبالية في غير هذا الموضع فيحمل هذا عليه .
قال شهاب الدين : وهذا ليس بلازم إذ لذلك القائل أن يقول : قَد وَجَدْتُ موضعاً غير هذا وهو قوله تعالى : { إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } [ يوسف : 79 ] .
وقد رأيت كلام القرافي في قوله صلى الله عليه وسلم لمّا سألوه عن بيع الرطب بالتمر فقال : « أينقص الرُّطبُ إذا جفَّ؟ فقالوا : نعم . فقال : فلا إذن » أن « إذن » هذه هي « إذا » الظرفية ، قال : كالتي في قوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] فحذفت الجملة ، وذكره إلى آخره .
وكنت لمّا رأيته تعجبت غاية العجب كيف يَصْدرُ هذا منه حتى رأيته في كتاب الشيخ في هذا الموضع عن بعضهم ولم يُسَمِّه ، فذهب تعجبي منه ، فإن لم يكن ذلك القائلُ القرافيَّ فقد صار له في هذه المسألة سَلَفٌ ، وإلاَّ فقد اتحد الأصل ، والظاهر أنه غيره .
وقوله : « إنكم » هو جواب والقسم الموطَّأ له باللاَّم .
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما جوا بالقسم الذي وطَّأتْه اللام في قوله : { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً } وجوابُ الشرط؟ .
قلت : قوله : { إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُون } سادٌّ مسد الجوابين .
قال أبو حيان : « فالذي قاله النحويون : إن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، ولذلك وجب مُضِيُّ فعل الشرط فإن عَنَى بأنه سادٌّ مَسَدَّهما أنه اجْتُزِئ بذكره عن ذكر جواب الشرط فهو قريب ، وإن عنى من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم ، لأن الجملة يمتنع ألا يكون لها محل من الإعراب وأن يكون لها محلٌّ من الإعراب » .
وهذه المسألة قد تقدَّمَتْ مِراراً واعتراض الشيخ عليه ، وتقدَّم جوابه ويعني الشيخ بقوله : لأنَّ الجلمة يمتنع أن يكون لها محلٌّ من الغعراب إلى آخره؛ لأنها من حيث كونها .
جواباً للشرط تستدعي ألا يكون لها محل إذ الجملة [ الابتدائية ] لا محل لها .
فصل في معنى الخسران
قوله : « لخاسرون » أي في الدين ، وقال بعضهم : « في الدنيا أي مغببونون » .
وقال عطاء : « جاهدون » .
وقال الضحاك : « عجزة » .

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)

قال الكلبي : « الزلزلة الشديدة المهلكة » .
وقال ابن عباس وغيره : فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عليهم حرّاً شديداً فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب ليبردوا فيها فيجدوها أشدّ حرّاً من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية ، فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم ، فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ، فألهبها الله عليهم ناراً ، ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رماداً .
وروي أن الله حبس عنهم الريح سبعة أيّام ثم سلط عليهم الحرّ ، ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل ، فإذا تحته أنهار وعيون ، فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم ، فذلك قوله : « عذاب يوم الظلة » .
[ قال قتادة : بعث الله شعيباً إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين ، فأمّا أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة ] ، وأمّا أصحاب مدين فأخذتهم [ الصيحة ] صاح بهم جبريل - عليه السلام - صيحة فهلكوا بالظلة جميعاً .
قال أبو عبد الله البَجِلِيُّ : كان أبْجَدْ وهَوَّز وحُطِّي وكَلَمُنْ وسَعْفَص وقَرَشَت ملوكَ « مَدْيَنَ » ، وكان ملكُهُمْ في زمن شعيب يوم الظُّلَّة « كَلَمُنْ » ، فلما هلك ، قالت ابنته تبكيه :
[ الرمل ]
2525 - كَلَمُنْ هَدَّمَ رُكْني ... هُلكُهُ وَسْطَ المَحِلَّهْ
سَيِّدُ القَوْمِ أتَاهُ الْ ... حَتْفُ نَارٌ تَحْتَ ظُلَّهْ
جُعِلَتْ نَاراً عَلَيْهِم ... دَارُهُمْ كالمُضْمَحِلَّهْ
وقد تقدم الكلام على قوله : { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } .

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)

قوله : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن هذا الموصول في محل رفع بالابتداء وخبره الجملة التشبيهية بعده .
قال الزمخشري : « وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص ، كأنه قيل : الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهْلِكوا واستُؤصلوا كأن لم يُقيموا في دارهم؛ لأن الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى » .
قال شهاب الدين : « قوله : » يفيد الاختصاص « هو معنى قول الأصوليين : » يفيد الحصر « على خلاف بينهم في ذلك إذا قلت : زيد العالمن والخلاف في قولك : العالم زيد أشهرُ منه فيما تقدَّم فيه المبتدأ » .
الثاني : أن الخبر هو نفس الموصول الثاني وخبره ، فإن الموصول الثاني مبتدأ والجملةُ من قوله : { كانوا هم الخاسرين } في محل رفع خبراً له ، وهو وخبره خبر الأول ، و { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } : إمَّا اعتراض ، وإمَّا حال من فاعل « كذَّبوا » .
الثالث : أن يكون الموصولُ الثاني خبراً بعد خبر عن الموصول الأول ، والخبر الأول الجملة التشبيهية .
الرابع : أن يكون الموصول الثاني بدلاً من قوله : { وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } [ الأعراف : 90 ] فكأنه قال : « وقال الذين كفروا منهم الذين كذّبوا شعيباً » وقوله : { لئن اتبعتم شعيباً } معمول للقول فليس بأجنبي .
الخامس : أنه صفة له ، أي : للذين كفروا من قومه .
هذه عبارة عن أبي البقاء ، وتابعه أبو حيان عليها ، والأحسن أن يقال : بدلٌ من الملأ أو نعت له؛ لأنه هو المحدَّثُ عنه والموصول صفة له ، والجملة التشبيهية على هذين الوجهين حال من فاعل « كذَّبوا » .
وأمّا الموصول الثاني فقد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً باعتبارين : أعني كونه أول أو ثانياً ، ويجوز أن يكون بدلاً من فاعل « يغنوا » أو منصوباً بإضمار « أعني » أو مبتدأ وما بعده الخبر . وهذا هو الظاهر لتكون كل جملة مستقلة بنفسها ، وعلى هذا الوجه ذكر الزمخشري أيضاً أن الابتداء يفيد الاختصاص قال : « أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه ، وقد تقدَّم موضحاً » .
قوله : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } يغنون : بمعنى يقيمون يقال : غَنِي بالمكان يَغْنى فيه أي : أقام دهراً طويلاً ، والمغاني المنازل التي كانوا فيها واحدها مغنى ، وقيَّده بعضهم بالإقامة في عيش رغد ، فهو أخصُّ من مطلق الإقامة؛ قال الأسَودُ بْنُ يَعْفُرَ : [ الكامل ]
2526 - وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا بأنْعَمِ عِيشَةٍ ... فِي ظِلِّ مَلْكٍ ثَابتِ الأوْتَادِ
وقيل : معنى اآية هنا من الغِنَى الذي هو ضد الفقر ، قاله الزجاج وابن الأنباري وتابعهما ابن عطية؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
2527 - غَنِيَا زَمَاناً بالتَّصَعْلُك والغِنَى ... [ كما الدَّهرُ في أيَّامِهِ العُسْرُ واليُسْرُ ]
كَسَبْنَا صُرُوفَ الدَّهْرِ لِيناً وغلْظَةً ... وكُلاًّ سَقَانَاهُ بِكأسمهما الدَّهْرُ

قالوا : معناه استغنينا ورضينان فمعنى { كأن لم يغنوا فيها } كأن لم يعيشوا فيها مستغنين .
قال ابن الخطيب : فعلى هذا التفسير شبّه الله - تعالى - حال هؤلاء المكذبين بحال من من لم يكن قط في تلك الديار قال الشاعر : [ الطويل ]
2528 - كأن لم يَكُنْ بَيْنَ الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بَلَى نَحْنُ كُنَّا أهْلَهَا فأبَادَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي والحُدُودُ العَواثِرُ
وقدّر الراغب غني بمعنى الإقامة بالمكان إلى معنى الغنى الذي هو ضد الفقر فقال : { وغني ي مكان كذا إذا طال مقامه فيه مُسْتَغْنِياً به عن غيره « .
قوله : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين } كرر قوله : { الذين كذبوا شعيباً } تعظيماً لذمهم وتعظيماً لما يستحقون من الجزاء ، والعرب تكرر مثل هذا في التعظيم والتفخيم ، فيقول الرجل لغيره : » أخوك الذي ظلمنا ، أخوك الذي أخذ أموالنا ، أخوك الذي هنا أعرضانا « ، ولمَّا قال القوم : { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون } بيَّن الله - تعالى - أن الذين لم يتبعوه وخافوه هم الخاسرون ، وقد تقدم الكلام على قوله : » فتولّى عنهم « في أن التولي بعد نزول العذاب أو قبله .
قال الكلبي : » لم يعذب قوم نبي حتى أخرج من نبيهم « .
فصل في الدلالة من الآية
دلّت الآية على أشياء : منها : أن ذلك العذابإنما حدث بتخليق فاعل مختار لا بتأثير الكواكب والطبيعة ، وإلا لحصل في أتباع شعيب كما حصل للكفّار .
[ ومنها أنها تدل على أن ذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات حتى يمكن التمييز بين المطيع والعاصي ] .
ومنها : أنها تدل على المعجز العظيم في حق شعيب - عليه السلام -؛ لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجموعين في بلدة واحدة كان ذلك من أعظم المعجزات .

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)

قوله : { فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ } « كيف » هنا مثل « كيف » في : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] وتقدم الكلام على « آسى » وبابه .
وقرأ ابن وثاب وابن مصرّف والأعمش : « إيسى » بكسر الهمزة التي هي حرف مضارعة ، وتقدم أنها لغة بني أخْيَل في « الفاتحة » ، ولزم من ذلك قلب الفاء بعدها ياءً؛ لأن الأصل أأسى بهمزتين .
والأسى : شدة الحظن قال العجّاج : [ الرجز ]
2529 - وانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ منْ فَرْطِ الأسَى ... والأسى : الصبر .
وفي المعنى قولان :
الأول : أنه اشتد حزنه على قومه ، لأنهم كانوا كثيرين ، وكان يتوقع منهم الإيمان ، فلمّما نزل بهم الهلاك العظيم حصل في قلبه من جهة القرابة والمجاورة وطول الألفة حزن ، ثم عزى نفسه وقال : { كيف آسى على قوم كافرين } ، لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بإصْرارِهِمْ على الكُفْرِ .
الثاني : أنَّ المعنى : لقد أعْذَرْتُ إليكم في الإبلاغِ والنَّصِيحَةِ والتَّحْذِير مما حلَّ بكم؛ فلم تسمعوا قولي ، ولم تَقْبَلُوا نَصِيحَتِي « فَكْيَفَ آسَى عَلَيْكُمْ » ، بمعنى أنَّكُمْ لستم مستحقِّين بأنْ آسى عليكم .
قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ } الآية .
لمَّا عرَّفنا أحوال هؤلاءِ الأنْبِيَاءِ ، وما جرى على أمَمِهِمْ كان من الجَائزِ أن يُظَنَّ أنَّهُ تعالى ما أنزل عذاب الاستئِصَالِ إلاّ في زمن هؤلاء الأنبياء فَقَطْ؛ فَبَيَّنَ في هذه الآيَةِ أنَّ هذا الهلاكَ قد فعلهُ بغيرهم ، وبيَّن العِلَّة الَّتي فعل بها ذلك فقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء } ، وفيه حذفٌ وإضمار وتقديره : « من نَبِيّ فَكَذَّبُوهُ ، أو فكذبه أهْلُهَا » . وذكر القريةَ؛ لأنَّهَا مجتمع القوم ، ويَدْخُلُ تحت هذه اللَّفْظَةِ المدينة؛ لأنَّهَا مجتمع الأقْوَامِ .
قوله : « إلاَّ أخَذْنَا » هذا استثناءٌ مفرَّغٌ ، و « أخَذْنَا » في محلِّ نَصْبٍ [ على الحَالِ ] والتَّقديرُ : وما أرْسَلْنَا إلاَّ آخذين أهلها ، والفِعْلُ الماضي لا يقعُ بعد « إلاَّ » إلاَّ بأحد شرطين : إمَّا تقدُّم فعل كهذه الآية ، وإمَّا أن يصحب « قَدْ » نحو : ما زيد إلاَّ قد قَامَ ، فلو فُقِد الشَّرْطان امتنع فلا يجوز : ما زيد إلاَّ قام .
قوله : { بالبأسآء والضرآء } .
قال الزَّجَّاجُ : « البَأسَاءُ : كلُّ ما ينالم من الشِّدَّةِ في أحوالهم ، والضراء : ما ينالهم من الأمْرَاضِ » .
وقيل : « على العكس » .
وقال ابْنُ مسعود : « البَأسَاءُ : الفقر ، والضَّرَّاءُ : المَرَضُ » .
وقيل : « البَأسَاءُ في المال ، والضَّرَّاءُ في النَّفْسِ » .
وقيل : « البَأسَاءُ : البؤس ، وضيقُ العيشِ ، والضَّرَّاءُ : الضرُّ وسوءُ الحال » .
وقيل : « البَأسَاءُ : في الحزن والضَّرَّاءُ : في الجدب » .
« لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ » لكي يَتَضَرَّعُوا؛ فيتوبوا .

ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)

بين تعالى أنَّ تدبيره في أهْلِ القرى لا يجري على نَمَطٍ وَاحِدٍ وَإنَّمَا يُدَبِّرُهُم بما يَكُونُ إلى الإيمانِ أقرب فقال : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة } ؛ لأنَّ ورود النِّعمة [ في البدن والمال ] بعد البأساء والضَّرَّاءِ يدعو إلى الانْقِيَادِ ، والاشتغال بالشُّكْرِ .
وفي « مكان » وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ مفعول به لا ظَرْف ، والمعنى : بَدَّلْنَا مكان الحال السَّيِّئَةِ [ الحال الحسنة ] ، فالحسنةُ هي المأخوذة الحاصلةُ ومكان السيِّئةِ هو المتروك الذَّاهِبُ ، وهو الذي تصحبه « الباء » في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره : بدَّلْتُ زيداً بِعَمْروٍ ، فزيدٌ هو المأخوذ ، وعمرو المتروكُ ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ هذا في البَقَرَةِ في موضعين :
أولهما : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } [ البقرة : 59 ] .
والثاني : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } [ البقرة : 211 ] .
ف « مَكَانَ » و « الحَسنَة » مفعولان إلاَّ أن أحدهُما وصل إليه الفعل بِنَفْسِهِ [ وهو « الحَسَنَةُ » ] ، والآخر بحذف حرف الجرِّ وهو « مكان » .
والثاني : أنَّهُ مَنْصُوبٌ على الظَّرْفِ ، والتَّقديرُ : « ثمَّ بَدَّلْنَا [ في ] مكان السَّيِّئَةِ الحسنةِ » إلا أنَّ هذا ينبغي أن يُردَّ؛ لأن « بدَّل » لا بُدَّ له من مفعولين أحَدُهَمَا على إسقاط الباءِ .
والمراد بالحَسَنَةِ والسيِّئَةِ هاهنا : الشِّدَّةُ والرَّخَاءُ .
قال أهل اللُّغَةِ : « السَّيِّئَةُ : كلُّ ما يَسُوءُ صَاحِبَهُ ، والحسنَةُ : كل ما اسْتَحسَنَهُ الطَّبْعُ والعَقْلُ » .
قوله : « حَتَّى عَفَوا » « حتَّى » هنا غائيةٌ ، وتقدير مَنْ قدّرها ب « إلَى » فإنَّمَا يريدُ تَفْسِيرَ المعنى لا الإعرابَ؛ لأن حتَّى الجارَّة لا تُبَاشِرُ إلاَّ المضارع المنصوب بإضمار « أنْ » ؛ لأنها في التَّقْديرِ داخلة على المصدر المُنْسَبِك منها ، ومن الفعل ، [ وأمّا الماضي ] فلا يطَّرِدُ حذف « أنْ » معه ، فلا يقدّر معه أنَّها حرف جرٍّ داخلة على أن المصدريَّة ، أي : حتَّى أن عفوا ، وهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قول أبي البقاءِ : « حتَّى عَفَوْا أي : إلى أن عفوا » .
ومعنى « عَفَوا » هنا كَثُروا من عَفَا الشعْر إذا كَثُر ، ومنه : « وأعْفُوا اللِّحَى » يُقَالُ : عَفَاه ، وأعْفَاه ثلاثياً ورباعيّاً؛ قال زهيرٌ : [ الوافر ]
2530 - أذَلِكَ أمْ أقَبُّ البَطْنِ جَأبٌ ... عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عَفِاءُ
وفي الحديث : « إذَا عَفَا الوَبَرُ وبَرَأ الدُّبُرُ فَقَدْ حضلَّت العُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ؛ وأنشد الزَّمَخْشريُّ على ذلك قولَ الحُطَيْئَةِ : [ الطويل ]
2531 - بِمُسْتأسِدِ القُرْبَانِ عَافٍ نَبَاتُهُ .. . .
وقول لَبِيد : [ الوافر ]
2532 - ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا ... بأسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ
وتقدَّم تحقيقُ هذه المادّة في البقرة .
فصل في المراد من الآية
ومعنى الآية أنَّ الله - تعالى - أبدلهم مكان الباساء والضرَّاء الحسنة ، وهي النِّعءمَةُ والسَّعَةُ والخَصْبُ والصِّحَّةُ .
» حتى عفوا « كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ، وقالوا من غرتهم وغفلتهم : { قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء } ، أي : هكذا كانت عادة الدَّهر قديماً لنا ولآبائنا ، ولم يكن ذلك عقوبةً من اللَّهِ ، فكُونُوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤُكم ، فإنَّهُم لم يتركوا دِينَهُم لما أصابهم من الضَّرَّاءِ .

قوله : « فَأخَذْنَاهُمْ » .
قال أبُو البقاءِ : « هو عطفٌ على » عَفَوْا « . يريدُ : وما عطف عليه أيضاً ، أعني أنَّ الأخذ ليس متسبباً عن الَفَاءِ فقط ، بل عليه وعلى قولهم تلك المَقَالةِ الجاهليَّةِ؛ لأنَّ المعنى ليس أنَّهُ لمُجرَّدِ كثْرَتِهِمْ ، ونموِّ أموالِهِمْ أخذهم بغتة بل بمجموع الأمْرَيْنِ ، بل الظَّاهِرُ أنَّهُ بقولهم ذلك فقط .
و » بَغْتَةً « إمَّا حالاً أو مَصْدراً ، والبَغْتَةُ الفُجَاءَة ، { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حال أيضاً وهي في قوَّةِ المُؤكِّدَةِ؛ لأنَّ » بَغْتَةً « تفيدُ إفادتها ، سواء أعْرَبْنَا » بغتة « حالاً أم مَصْدراً .
واعلم أنَّ الحكمة في حكاية هذا المعنى ليعتبر من سمع هذه القصَّة .

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)

لمّا بيَّن أنَّ الذين عَصَوا وتَمَرَّدُوا؛ أخذهم بَغْتَةً بيَّن في هذه الآية انَّهُم لو أطَاعُوا فتح عليهم أبْوابَ الخيرات ، وقد تقدَّمَ أنَّ ابن عامر يَقْرَأُ : « لَفَتَّحنْا » بالتَّشديد ووافقه هنا عيسى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ ، وأبو عبد الرَّحْمنِ السُّلمِيُّ .
وأصل البركة المواظبةُ على الشَّيءِ ، أي تابعنا عليهم المطر والمراد ب « بَرَكَات السَّماءِ » المَطَرُ ، وب « بركات الأرْضِ » النَّبَاتُ والثَّمَارُ وكثرة المواشي والأمن والسَّلامة ، وذلك لأنَّ السَّماءَ تجري مجرى الأب ، والأرض تجري مجرى الأم ، ومنهما يَحْصُلُ المَنَافِع ، والخَيْرَات بخلق الله تعالى تدبيره .
ثم قال : { ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ } بالجدب والقَحْطِ { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الكفر والمَعْصِيَةِ ، ثمَّ إنَّهُ تعالى أعاد التَّهْديدَ بعذابِ الاسْتئِصَالِ فقال : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } يعني « مكَّة » وما حولها { أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا } أي : العذاب ، وهذا استفهامٌ بمعنى الإنْكَارِ ، خوَّفَهُم الله - تعالى - بنزول العذاب عليهم في وقت غَفْلَتِهِم ، وهو حال النَّومْ باللَّيْل ، وحال الضُّحَى بالنَّهَارِ؛ لأنَّهُ وقت اشتغال المرء باللَّذَّاتِ .
وقوله : « وَهُمْ يَلْعَبُونَ » يحتملُ التَّشَاغُلَ بأمور الدُّنيا فهي لَعِبٌ ولهو ، ويحتملُ في كُفْرِهِم؛ لأنَّهُ كاللَّعِبِ في أنَّهُ يضرُّ ولا يَنْفَعُ .
قوله : « أفَأمِنَ » .
قال الزَّمخشريُّ : « فإن قلت : ما المعطوف عليه ، ولم عطفت الأولى بالفَاءِ والثَّانية بالواو؟ .
قلتُ : المعطوف عليه قوله : » فَأخَذْنَاهُم بَغْتَةً « ، [ وقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى } إلى : » يَكْسِبُونَ « وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنَّمَا عطفت بالفاء؛ لأنَّ المعنى : » فَعَلُوا وَصَنعوا فأخذناهم بغتة ، أبعد ذلك ] أمن أهل القرى أن يأتيَهُمْ بأسنا بياتاً أو أمن أهل القُرَى أن يأتيهم بَأسُنَا ضُحىً « .
قال أبُو حيَّان : وهذا الَّذي ذَكَرَهُ رجوعٌ عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجَماعَةِ ، وذلك أنَّ مَذْهبَهُ في الهمزة المصدرة على حرف العطف تقدير معطوف عليه بين الهمزة وحرف العطفِ ، ومذهب الجماعةِ أنَّ حَرْفَ العطف في نِيَّةِ التقدُّم ، وإنَّمَا تأخَّرَ وتقدَّمت عليه همزةُ الاستفهام لقوَّةِ تَصَدُّرها في أوَّلِ الكلام » . وقد تقدَّم تحقيقه ، والزَّمَخْشريُّ هنا لم يقدِّر بينهما معطوفاً عليه ، بل جعل ما بعد الفاءِ معطوفاً على ما قَبْلَهَا من الجُمَلِ ، وهو قوله : « فأخَذْنَاهُم بَغْتَةً » .
قوله : « بَيَاتاً » تقدَّم أوَّلَ السُّورةِ أنَّهُ يجوز أن يكون حالاً ، وأن يكون ظرفاً .
وقوله : « وهُمْ نَائِمُونَ » جدملة حاليّة ، والظَّاهِرُ أنَّها حال من الضَّميرِ المستتر في « بَيَتاً » ؛ لأنَّهُ يتحمَّلأ ضميراً لوقوعه حالاً ، فيكون الحالان مُتَدَاخِلَيْنِ .
قوله : « ضُحىً » مَنْصوبٌ على الظَّرف الزَّمانيِّ ، ويكون متصرفاً وغير متصرف ، [ فالمتصرَّفُ ] ما لم يرد به وقته من يوم بِعَيْنِهِ نحو : « ضُحاك ضحىً مُبَرَك » .

فإن قلت : « أتَيْتُكَ يوم الجُمْعَةِ ضُحىً » فهذا لا يتصرّف ، بل يَلْزَمُ النَّصْبُ على الظَّرْفية ، وهذه العبارَةُ أحسنُ من عِبَارَةِ أبِي حيَّان حيث قال : « ظرف متصرِّفٌ إذا كان نكرةً ، وغير متصرِّلإ إذا كان من يوم بعينه » ؛ لأنَّهُ تَوَهَّم [ متى ] كان معرفةً بأي نوع كان من أنواع التَّعْرِيف فإنَّهُ لا يتصرَّفُ ، وليس الأمر كذلك قال تعالى : { والضحى } [ الضحى : 1 ] فاستعمله مجروراً بالقسم مع أنه معروفٌ بأل ، وقال تعالى : { والشمس وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] جرّه بحرف القسم أيضاً مع أنَّهُ معرَّفٌ بالإضافة ، وهو امتداد الشَّمْسِ وامتداد النَّهار .
ويقال : ضُحى ، وضحاءُ ، إذا ضَمَمْتَ قَصَرْتَ ، وإذا فتحت مَدَدْتَ .
وقال بعضهم : الضُّحى بالضم والقسر لأول ارتفاع الشمس والضَّحَاءُ بالفتح والمدِّ لقوَّة ارتفاعها قبل الزَّوَالِ .
والضُّحى مُؤنَّثٌ ، وشذُّوا في تصغيرِهِ على « ضُحَيٌّ » بدون تاء كعُرَيْب وأخواتها ، والضَّحَاءُ أيضاً طعامُ الضُّحَى كالغّدَاء طَعَامُ وَقْتِ الغدْوَة يقال منهما : تَضَحَّى ضَحَاءً وتَغَدَّى غَدَاءً : وضَحِيَ يَضْحَى إذَا برز للشَّمْسِ وقت الضُّحَى ، ثم عُبِّر بِه عن إصَابَةِ الشَّمْسِ مطلقاً ، ومنه قوله : { وَلاَ تضحى } [ طه : 119 ] [ أي ] : لا تبرزُ للشمس .
ويقال : ليلة أضحِيَانَةٌ بضمِّ الهمزة ، وضَحْيَاء بالمدِّ أي : مضيئة إضاءَةُ الضُّحى ، والأضْحِيَة وجمعها : أضَاحِ ، والضَّحِيَّة وجمعها ضحايا ، والأضْحَاة وجمعها أضْحىً هي المَذْبُوحُ يوم النَّحْرِ ، سمِّيَت بذلك لذَبْحها ذلك الوقت لقوله عليه الصلاة والسلام : « مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ صَلاتِنَا هَذِهِ فَلْيُعِدْ »
وضواحي الشَّيء نواحيه البارزة .
قوله : « وَهُمْ يَلْعَبُونَ » حالٌ ، وهذا يقوِّي أنَّ « بَيَاناً » ظرفٌ لا حال ، لتتطابق الجملتان فيصيرُ في كلٍّ منهما وقت وحال ، وأتى [ بالحال ] الأولى مُتَضَمِّنَة لاسم فاعلٍ؛ لأنَّهُ يدلُّ على ثباتٍ واستقرارٍ وهو مناسب للنَّوْمِ ، وبالثَّانيةِ متضمِّنة لفعل؛ لأنَّهُ يدلُّ على التجدُّدِ والحدوث وهو مناسبٌ لِلَّعب والهزل .
قال النَّحَّاسُ : « وفي الصَّحاح : اللَّعِبُ معروفٌ ، واللّعْبُ مثله ، وقد لَعِبَ يَلْعَبُ ، ويَلْعبُ مرة بعد أخرى ، ورجل تَلْعَابَةٌ : كثيرٌ اللَّعبِ والتَّلْعَابُ بالفتح المصدر ، وجارته لَعُوبٌ » .
وقرأ نافع وابن عامِر وابنُ كثيرٍ « أوْ » بسكون الواو والباقون بفتحها ، ففي القراءة الأولى تكونُ « أو » بجملتها حرف عطف ومعناها حينئذ التقسيم .
قال ابنُ الخطيبِ : تسعتملُ على ضَرْبَيْن :
أحدهما : أن تكون بمعنى أحد الشَّيْئيْنِ كقوله : زيد أو عمرو جاءك ، والمعنى : أحدهما جاء .
والثاني : أن تكون للإضْرابِ عمَّا قبلها كقولك : « أنَا أخْرُجُ » ثم تقول : « أو أقيم » أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة ، كأنك قلت : لا بل أقيمُ ، فوجه هذه القراءة أنَّهُ جعل « أو » للإضراب ، لا على أنَّه أبطل الأوَّلَ .
وزعم بعضهم أنَّها للإبَاحةِ والتَّخْيير ، وليس بظاهرٍ .
وفي القراءة الثَّانية هي واو العَطْفِ دخلت عليها همزة الاستفهام مقدَّمة عليها لفظاً ، وإنْ كانت بَعْدَهَا تقديراً عند الجمهور .
وقد عرف مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ في ذلك ، ومعنى الاستفهام هنا : التَّوبيخُ ، والتَّقريعُ .
وقال أبُو شَامَة وغيره : « إنَّهُ بمعنى النَّفي » .
وكرّرت الجملة في قوله تعالى : { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } : « أفَأمِنوا » توكيداً لذلك ، وأتي في الجُمْلَةِ الثَّانية بالاسم ظاهراً ، وحقّه أن يضمر مبالغة في التَّوْكِيد .

أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)

ومعنى : « مَكْرَ اللَّهِ » أي إضافة المخلوق إلى الخَالقِ كقولهم : ناقة الله ، وبيتُ الله ، والمرادُ بشهِ فعلٌ يعاقب به الكفرة ، وأضيف إلى الله لمَّا كان عقوبة الذَّنْبِ ، فإنَّ العرب تسمِّي العقوبة على أي جهة كانت باسم الذَّنْبِ الذي وقعت عليه العقوبة .
قال ابن عطيَّة : « وهو تأويلٌ حسنٌ » .
وقال البَغَوِيُّ : « مَكْرُ اللَّهِ : استدراجُهُ إيَّاهُم بما أنْعَمَ عليهم في دنياهم » .
وقد تقدَّم في آل عمران في قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ الآية : 54 ] أنَّه من باب المُقَابلَةِ أيضاً .
و « الفاء » في قوله : « فَلاَ يأمَنُ » للتَّنْبِيهِ على أنَّ العذابَ يعقب أمن مَكْرَِ اللَّهِ .
قال ابنُ الخطيبِ : « وقوله : » مَكْرَ اللَّهِ « المرادُ أنْ يأتيهم عذابُهُ من حيث لا يَشْعُرُونَ ، قاله على وجه التَّحْذيرِ ، وسمى هذا العذاب مَكْراً تَوَسُّعاً؛ لأنَّ الواحد منا إذا أرَادَ المكر بصاحبه فإنه يوقعه في البلاءِ من حيث لا يَشْعُرُ » .

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)

قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَهْدِ } يريدُ كبراء مكَّةَ .
قرأ الجمهور : « يَهْد » بالياء من تحت ، وفي فاعله حينئذ ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّهُ المصدرُ المؤوَّلُ من « أن » وما في حيِّزها ، والمفعول محذوفٌ ، والتقديرُ : أو لم يهد أي يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم ، وإصابتنا إيَّاهُم بذنُوبِهم لو شئنا ذلك ، فقد سبكنا المصدر من « أنْ » ومن جواب لو .
والثاني : أنَّ الفاعل هو ضميرُ الله تعالى ، أي : أو لم يبيِّن الله ويُؤيِّدُه قراءةُ من قرأ « نَهْدِ » بالنون .
الثالث : أنَّهُ ضمير عائدٌ على ما يفهم من سياق الكلام ، أي : أو لم يهد ما جرى للأمم السَّالِفَةِ كقولهم : إذَا كَانَ غَداً فأتني أي : إذا كان ما بيني وبينكَ مما دلَّ عليه السِّياق .
وعلى هذين الوجهين ، ف « أنْ » وما في حيِّزها بتأويلِ مصدر كما تقدَّم في محلِّ المفعُولِ والتَّقديرُ : أو لم يبين ويوضِّح الله أو ما جرى لأمم إصابتنا إيَّاهُم بذنوبهم أي : بعقاب ذُنُوبِهِم لو شئنا ذلك .
وقرأ مُجاهدٌ وقتادةُ ويعقوبُ : « نَهْدِ » بنون العَظَمَةِ و « أنْ » مفعولٌ فقط ، و « أنْ » هي المخفَّفةُ من الثَّقيلة و « لَوْط فاصلةٌ بينها وبين الفِعْلِ ، وقد تقدَّم أنَّ الفصل بها قليل .
و » نَشَاءُ « وإن كان مُضَارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنى؛ لأنَّ » لو « الامتناعية تخلِّصُ المضارع للمُضِيِّ .
وفي كلام ابن الأنْبَاريِّ خلافه ، فإنَّهُ قال في » ونَطْبَعُ « : » هذا فعل مستأنفٌ ومنقطعٌ مما قبله؛ لأنَّ قوله : « أصَبْنَا » ماضٍ و « نَطْبع » مستقبل ثم قال : ويجوزُ أن يكون معطوفاً على « أصَبْنَا » إذ كان بمعنى نُصِيبُ ، والمعنى : « لو يَشَاءُ يصيبهم ويطبع » ، فوضع الماضي موضعَ المستقبلِ عند وضوح معنى الاستقبال كقوله تعالى : { إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ } [ الفرقان : 10 ] [ أي : ] يجعلُ ، بدليل قوله : « ويَجْعَل لَكَ » ، وهذا ظَاهِرٌ قَوِيٌّ في أن « لَوْ » هذه لا تخلِّصُ المضارع للمضيّ ، وتنظير بالآية الأخْرَى مُقَوِّل أيضاً ، وسيتي تحقيقُ ذلك عند قوله : « ونَطْبَعُ »
وقال الفرَّاءُ : « وجاز أنْ تَرُدَّ » يَفْعل « [ على فَعَلَ ] في جواب » لو « كقوله : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ } [ يونس : 11 ] فقوله : » فَنَذَرُ « مردود على » لقضى « ، وهذا قولُ الجمهور ، ومفعول » يَشَاءُ « محذوف لدلالةِ جواب » لو « عليه ، والتَّقديرُ : لو يشاء تعذيبهم ، أو الانتقام منهم .
وتى جوابها بغير لام ، وإن كان مبنيّاً على أحد الجائزين وإن كان الأكثر خلافه ، كقوله تعالى : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً }

[ الواقعة : 70 ] .
قوله : « ونَطْبَعُ » في هذه الجملة أوْجُهٌ :
أحدها : أنَّهَا نسقٌ على « أصَبْنَاهم » وجاز عطف المضارع على الماضي؛ لأنَّهُ بمعناه ، وقد تقدَّم أنَّ « لو » تخلِّص المضارع للمُضِيِّ ، ولما حكى أبُو حيَّان كلام ابن الأنْبَارِيْ المتقدم قال : « فَجَعل » لو « شرطيّةً بمعنى » إنْ « ولم يجعلها التي هي لِما كان سيقعُ لوقوع غيره ، ولذلِكَ جعل » أصَبْنَا « بمعنى نُصِيبُ .
ومثال وقوع » لو « بمعنى » إن « قوله : [ الكامل ]
2533 - لا يُلْفِكَ الرَّاجِيكَ إلاَّ مُظْهِراً ... خُلُقَ الكِرَامِ ولَوْ تكُونُ عَدِيمَا
وهذا الذي قاله ابن الأنباريّ ردَّهُ الزَّمخشريُّ من حيث المعنى ، لكن بتقدير : أن يكون » ونَطْبَعُ « بمعنى » طَبْعَنا « فيكون قد عطف المضارع على المَاضِي لكَوْنِهِ بمعنى المضاي وابن الأنباري جعل التَّأويل في » أصَبْنَا « الذي هو جواب » لو نَشَاءُ « فجعله بمعنى » نُصِيبُ « فتأوَّلَ المعطوف عليه وهو الجوابُ ، وردَّهُ إلى المستقبل ، والزمخشريُّ تأوَّلَ المعطوف وردَّهُ إلى المضي وأنتج ردُّ الزَّمخشري أنَّ كلا التقديرين لا يصحُّ » .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : هل يجوزُ أن يكون » وَنَطْبَعُ « بمعنى » طَبَعْنَا « كما كان » لَوْ نَشَاءُ « بمعنى » لَوْ شِئْنَا « ويعطف على » أصَبْنَاهُم « ؟
قلت : لا يساعدُ على المعنى؛ لأنَّ القَوْمَ كانوا مطبوعاً على قلوبهم ، موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذُّنوب والإصابةِ بها ، وهذا التَّفسيرُ يؤدِّي إلى خلوِّهِم من هذه الصِّفةِ ، وأن الله لو شاء لاتَّصَفُوا بها » .
قال أبو حيَّان : « وهذا الرَّدُّ ظَاهِرُ الصِّحَّةِ ، وملخصهُ : أن المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ ، سواءً تأوَّلْنَا المعطوف عليه أم المعطوف ، وجواب » لو « لم يقع بَعْدُ ، سواءً كانت حرفاً لما كان سيقعُ لوقوع غيره أمْ بمعنى » إن « الشَّرطية ، والإصابة لم تقع ، والطَّبْعُ على القلوب واقعٌ ، فلا يَصِحُّ أن تعطف على الجوابِ . فإن تؤوِّل » ونُطِبعُ « على معنى : ونستمرُّ على الطَّبْعِ على قلوبهم ، أمكن التَّعاطف؛ لأنَّ الاستمرار لم يقع بعدُ ، وإن كان الطَّبْعُ قد وقع » .
قال شهابُ الدِّين : « فهذا الوجه الأوَّلُ ممتنعٌ لما ذكره الزَّمخشريّ » .
ونقل ابنُ الخطيبِ عن الزَّمَخْشَري أنَّهُ قال : « ولا يجوز أن يكون معطوفاً على » أصَبْنَاهُمْ « ؛ لأنَّهُم كانوا كُفَّاراً ، إذْ كل كَافِرِ فهو مَطْبُوعٌ على قلبه ، فقوله بعد ذلك : { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ } يَجْرِي مَجْرَى تحصيل الحاصلِ وهو مُحَالٌ » .
قال ابن الخطيب : « وهذا ضَعِيفٌ؛ لأنَّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لم يكن هذا منافياً لصِحَّةِ العطفِ » .
الوجه الثاني : أن يكون « نَطْبَعُ » مستأنفاً ، ومنقطعاً عمَّا قبله فهو في نيَّةِ خبر مبتدأ مَحْذُوفٍ أ : ونحن نَطْبَعُ .

وهذا اختيار الزَّجَّاج والزمخشري وجماعة .
الثالث : أن يكون معطوفاً على « يَرثُونَ الأرْضَ » قال الزَّمَخْشَرِيُّ .
قال أبو حيَّان : « وهو خطأٌ؛ لأنَّ المعطوف على الصِّلةِ صلةٌ ، و » يَرِثُونَ « صلة ل » الَّذين « ؛ فَيَلْزِمُ الفصلُ بين أبعاض الصِّلة بأجنبي ، فإن قوله : { أَن لَّوْ نَشَآءُ } إمَّا فاعل ل » يَهد « أو مفعوله كما تقدم وعلى كلا التقديريْنِ فلا تعلق له بشيء من الصِّلة ، وهو أجنبيٌّ منها ، فلا يفصل به بين أبعاضها ، وهذا الوجْهُ مؤدٍّ إلى ذلك فهو خطأ » .
الرابع : أن يكون معطوفاً على ما دَلَّ عليه معنى « أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ » كأنَّهُ قيل : يغفلون عن الهداية ، ونَطْبَعُ على قُلُوبِهِم قاله الزَّمخشريُّ أيضاً .
قال أبو حيَّان : « وهو ضعيف؛ لأنَّه إضمار لا يحتاج إليه ، إذْ قد صحَّ عطفه على الاستِئْنافِ من باب العطفِ على الجُمَلِ ، فهو معطوف على مَجْمُوع المصدَّرة بأداء الاستفهام ، وقد قاله الزَّمخْشَرِيُّ وغيره .
وقوله : { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أتى ب » الفاء « هنا إيذاناً بتعقيب عدم سماعهم على أثَرِ الطَّبْع على قلوبهم .
فصل في بيان أنه تعالى ق يمنع العبد من الإيمان
استدل أهل السُّنَّةِ بقوله تعالى : { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون } على أنَّهُ تعالى قد يمنع البعدَ من الإيمانِ ، والطَّبعُ والختم والرَّيْنُ والغشاوةُ والصدُّ والمنع واحد على ما تقدَّم .
قال الجبائِيُّ : المرادُ من هذا الطبع أنَّهُ تعالى يسمُ قلوب الكفَّارِ بسماتِ وعلامت نعرف الملائكة بها أنَّ صاحبها لا يؤمن ، وتلك العلامةُ غير مانعة من الإيمان .
وقال الكعبيُّ : إنَّمَا أضاف الطَّبْعَ إلى نفسه ، لأجْلِ أنَّ القومَ إنَّما صاروا إلى ذلك الكُفْرِ عند أمره وامتحانه ، فهو كقوله تعالى : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] وقد تقدَّم البَحْثُ في مثل ذلك .

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)

قوله تعالى : { تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ } .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : كقوله : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ } [ هود : 72 ] في كونه مبتدأ وخبراً وحالاً يعني أن « تِلْكَ » مبتدأ مشارٌ بها إلى ما بعدها ، و « القُرَى » خبرها ، و « نَقُصُّ » حال أي قاصِّينَ كقوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما معنى « تِلْكَ القُرَى » حتى يكون كلاماً مفيداً؟
قلت : هو مفيدٌ ولكن بالصِّفةِ في قولك : « هو الرَّجُلُ الكريم » يعني أنَّ الحال هنا لازمه ليفيد التَّركيب كما تلزم الصِّفةِ في قولك : « هو الرَّجُلُ الكريمُ » ألا ترى أنَّكَ لو اقتصرت على « هو الرَّجُلُ » لم يكن مفيداً ، ويجوزُ أن تكون « القُرَى » صفة لتلك ، و « نقصُّ » الخبر ، ويجوز أن يكون « نقصُّ » خبراً بعد خبر .
و « نَقُصُّ » يجوز أن يكون على حاله من الاستقابل أي : قد قصصنا عليك من أبْنَائِهَا ونحن نَقُصُّ عليك أيضاً بعض أبنائها [ ويجوز أن يكون عبر به عن الماضي ، أي : قد قَصَصْنَا عليك من أبنائها ] وأُشير بالبُعْدِ تنبيهاً على بعد هلاكها وتقادمه عن زمن الإخبار فهو من الغيب ، وأراد القصص المتقدمة .
وفي قوله : « القُرَى » ب « أل » تعظيم كقوله تعالى : { ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 22 ] ، وقول الرسول - عليه الصلاة والسلام : « أوْلَئِكَ المَلأُ مِنْ قُريشٍ » ، وقول أمية : [ البسيط ]
2534 - تِلْكَ المَكَارِمُ لا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أبْوَالاً
و « مِنْ » للتبعيض كما تقدَّم؛ لأنَّهُ إنَّما قصَّ عليه - عليه الصلاة والسلام - ما فيه عظةٌ وانزجارٌ دون غيرهما ، وإنَّما قصّ أنباء أهل القرى؛ لأنَّهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النِّعم فتوهموا أنَّهُم على الحقِّن فذكرها الله - تعالى - لقوم محمد - عليه الصلاة والسلام - ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال ، ثم قال : { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } .
قوله : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ } الظَّاهِرُ أنَّ الضَّمائرَ عائدة على أهل القرى .
وقال يمان بن رئاب : « إنَّ الضميرين الأوَّلين لأهل القرى ، والضَّميرُ في » كذَّبُوا « لأسْلافِهم . وكذا جوَّزهُ ابن عطية أيضاً أي : » فما كان الأبناء ليؤمِنُوا بما كذَّب به الآباء « ، وقد تقدَّم الكلامُ على لام الجُحُودِ ، وأنَّ نفي الفِعْلِ معها أبْلَغُ .
و » ما « موصولة اسميَّة ، وعائدها مَحْذُوفٌ؛ لأنَّه مَنصوبٌ متَّصل أي : بما كذبوه [ ولا يجوز أن يقدر به وإن كان الموصول مجرورا بالباء أيضاً لاختلاف المتعلقن وقال هنا » بما كذبوا « ] فلم يذكر متعلق التكذيب ، وفي » يونس « ذكره فقال : { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ } [ يونس : 74 ] ، والفرق أنَّهُ لمَّا حذفه في قوله :

{ ولكن كَذَّبُواْ } [ الأعراف : 96 ] أستمرّ حذفه بعد ذلك ، وأمَّا في يونس فقد أبرزه في قوله : { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ } [ يونس 74 ] .
{ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } [ يونس : 73 ] فناسب ذكره موافقة قال معناه الكرمَانِيّ .
فصل في معنى « ما كانوا ليؤمنوا »
قال ابن عباس والسُّدِّيُّ : « فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عن إرسالي بما كذبوا به يوم أخذنا مِيثاقَهُم حين أخرِجُوا من ظهر آدم فآمنوا كرهاً وأقرُّوا باللِّسانِ وأضمروا التَّكذيب » .
وقال الزَّجَّاجُ : « فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤيةِ تلك المعجزات بما كَذَّبُوا قبل رؤية المُعْجِزَاتِ » .
وقيل : معناه ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم في دار التكليف ليؤمنوا بما كذَّبُوا به قبل إهلاكهم ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] .
[ وقيل : إنه قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل ] وقيل : ليؤمنوا في الزَّمانِ المستقبل
قوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين } .
قال الزَّجَّاجُ : والكاف في « كذلك » في محلِّ نصب [ أي : مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى المنتفي عنهم الإيمان يطبع الله على قلوب الكفرة الجانين ] .
قوله تعالى : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } [ الأعراف : 102 ] .
قوله « لأكْثَرِهِمْ » فيه وجوه :
الظَّاهِرُ أنَّهُ متعلقٌ بالوجْدانِ كقولك : ما وجدتُ له مالاً أي : ما صَادَفْتُ له مالاً ولا لقيته .
الثاني : أن يكون حالاً من « عهد » ؛ لأنَّه في الأًل صفة نكرةٍ فلما قُدِّم عليها نُصب على الحال ، والأصْلُ : ما وجدنا عهداً لأكثرهم ، وهذا ما لم يذكر أبُو البقاءِ غيره .
وعلى هذين الوجهين ف « وَجَدَ » متعدِّية لواحد وهو « من عَهْدٍ » ، و « منْ » مزيدةٌ فيه لوجود الشرطين .
الثالث : أنَّهُ في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً لوجَدَ إذ هي بمعنى علمية ، والمفعول هو « مِنْ عَهْدٍ » . وقد يترجَّحُ هذا بأنَّ « وَجَدَ » الثانية علمية لا وجدانيَّة بمعنى الإصابة ، وسيأتي دليل ذلك . وإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام ومناسبة له ، ومن يرجّح الأوَّل يقولُ : إنَّ الأولى لمعنى : والثَّانية لمعنى آخر .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس : يريدُ : وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، الوفاء بالعهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم حيث قال : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] .
وقال ابن مَسْعُودٍ : « المرادُ بالعهد هاهنا الإيمان ، لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 87 ] أي قال : لا إله إلا الله » .
وقيل : المرادُ بالعهدِ وضع الأدلَّةِ على صِحَّةِ التَّوحيد والنَّبوةِ [ تقديره : ] وما وجدنا لأكثرهم من الوفاءِ بالعهد .
قوله : « وَإنْ وَجدْنَا » « إنْ » هذه هي المخفَّفةُ وليس هنا عاملة لمباشرتها الفعل فَزَالَ اختصاصُهَا المُقْتَضِي لإعمالها .
وقال الزَّمخشريُّ : « وإنَّ الشَّأن والحديث وجدنا » .

فظاهِرُ هذه العبارة أنَّها مُعْملَة ، وأنَّ اسمها ضميرُ الأمر والشَّأن ، وقد صرَّحَ أبُو البقاء هنا بأنَّها معملةٌ ، وأن اسمها محذوف ، إلا أنَّهُ لم يقدِّر ضمير الحديث بل غيره فقال : « واسمها محذوفٌ أي : إنَّا وَجَدْنَا » . وهذا مذهب النَّحويين أعني اعتقاد إعمال المخفَّف من هذه الحروف في « أن » المفتوحة على الصَّحيح ، وفي « كأن » التَّشبيهية ، وأمَّا « إنْ » المخففة المكسورة فلا . وقد تقدَّم إيضاحه .
ووجدنا هنا متعدية لاثنين أولهما « أكْثَرَهُم » ، والثاني « لفاسقين » ، قال الزمخشريُّ : والوجود بمعنى العلم من قولك : وجدتُ زيداً ذا الحفاظ بدليل دخول « إنْ » المخفَّفة ، واللاَّم الفارقة ولا يسوغ ذلك إلاَّ في المبتدأ والخبر والأفعالِ الدَّاخلة عليهما يعني أنها مختصة بالابتداء ، وبالأفعال النَّاسخةِ له ، وهذا مذهبُ الجُمْهُورِ ، وقد تقدَّم الخلافُ عن الأخْفَشِ أنَّهُ يجوزُ على غيرها ، وتقدَّم دليله على ذلك ، واللاَّمُ فارقة وقيل : هي عوض من التَّشديد .
قال مَكيٌّك « ولزمت اللاَّمُ في خبرها عوضاً من التشديد والمحذوف الأوَّلِ ، وقد تقدَّم أنَّ بعض الكوفيين يجعلون » إن « نافية ، واللاَّم بمعنى » إلاَّ « في قوله تعالى : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } [ البقرة : 143 ] .
ومعنى فاسقين خارجين عن الطَّاعةِ ، مارقين عن الدِّينِ ، وقيل : ناقضين العَهْدَ .
وقوله : » لأكْثَرهُم « ، و » أكْثَرهُم « ، و » من بعدهم « : إنْ جعلنا هذه الضَّمائر كلَّها للأمم السَّالِفَةِ فلا اعتراضَ ، وإن جعلنا الضَّمير في » لأكثرهُم « و » أكْثَرهُمْ « لعموم النَّاسِ والضَّمير في » من بعدهم « للأمم السَّالِفَةِ كانت هذه الجملة - أعني ما وجدنا - اعتراضاً كذلك قاله الزمخشريُّ ، وفيه نظر؛ لأنَّهُ إذا كان الأوَّلُ عاماً ثم ذكر شيء يندرجُ فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضاً بين الخاصين .
وأيضاً ، فالنَّحْويُّون إنما يعرفون الاعتراض فيما اعترض به بين متلازمين ، إلاَّ أنَّ أهل البيان عندهم الاعتراض أعمُّ من ذلك ، حتَّى إذا أتي بشيء بين شيئين مذكورَيْنِ في قصَّةٍ واحدة سَمَّوه اعتراضاً .

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)

قوله : « لأكْثَرِهِمْ » فيه وجوه :
الظَّاهِرُ أنَّهُ متعلقٌ بالوجْدانِ كقولك : ما وجدتُ له مالاً أي : ما صَادَفْتُ له مالاً ولا لقيته .
الثاني : أن يكون حالا من « عهدِ » ؛ لأنَّهُ في الأصل صفة نكرةٍ فلما قُدِّم عليها نُصب على الحال ، والأصْلُ : ما وجدنا عهداً لأكثرهم ، وهذا ما لم يذكر أبُوا البقاءِ غيره .
وعلى هذين الوجهين ف « وَجَدَ » متعدِّية لواحد وهو « من عَهْدٍ » ، و « منْ » مزيدةٌ فيه لوجود الشرطين .
الثالث : أنَّهُ في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً لوجَدَ إذ هي بمعنى علمية ، والمفعول هو « مِنْ عَهْدٍ » . يترجَّحُ هذا بأنَّ « وَجَدَ » الثانية علمية لا وجدانيَّة بمعنى الإصابة ، وسيأتي دليل ذلك . وإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام ومناسبة له ، ومن يرجّح الأوَّل يقولُ : إنَّ الأولى لمعنى ، والثَّانية لمعنى آخر .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس : يريدُ : وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، الوفاء بالعهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم حيث قال : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] .
وقال ابن مَسْعُودٍ : « المرادُ بالمعهد هاهنا الإيمان ، لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 87 ] أي قال : لا إله إلا الله » .
وقيل : المرادُ بالعهدِ وضع الأدلَّةِ على صِحَّةِ التَّوحيد والنَّبوة [ تقديره : ] وما وجدنا لأكثرهم من الفواءِ بالعهد .
قوله : « وَإنْ وَجَدْنَا » « إنْ » هذه هي المخفَّفةُ وليس هنا عاملة لمباشرتها الفعل فَزَالَ اختصاصُهَا المُقْتَضِي لإعمالها .
وقال الزَّمخشريُّ : « وإنَّ الشَّأن والحديث وجدنا » .
فظاهِرُ هذه العبارة أنَّها مُعْملَة ، وأنَّ اسمها ضميرُ الأمر والشَّأن ، وقد صرَّحَ أبُو البقاءِ هنا بأنَّها معملةٌ ، وأن اسمها محذوف ، إلا أنَّهُ لم يقدِّره ضمير الحديث بل غيره فقال : « واسمها محذوفٌ أي : إنَّا وَجَدْنَا » . وهذا مذهب النَّحويين أعني اعتقاد إعمال المخفَّف من هذه الحروف في « أن » المفتوحة على الصَّحيح ، وفي « كأن » التَّبيهية ، وأمَّا « إنْ » المخففة المكسورة فلا . وقد تقدَّم إيضاحه .
ووجدنا هنا متعدية لاثنين أولهما « أكْثَرَهُم » ، والثاني « لفاسقين » ، قال الزمخشريُّ : والوجود بمعنى العلم من قولك : وجدتُ زيداً ذا الحفاظ بدليل دخول « إنْ » المخفَّفة ، واللاَّم الفارقة ولا يسوغ ذلك إلاَّ في المبتدأ والخبر والأفعالِ الدَّاخلة عليهما يعني أنها مختصة بالابتداء ، وبالأفعال النَّاسخِة له ، وهذا مذهبُ الجُمْهُورِ ، وقد تقدَّم الخلافُ عن الأخْفَشِ أنَّهُ يجوزُ على غيرها ، وتقدَّم دليله على ذلك ، واللاَّمُ فارقة وقيل : هي عوض من التَّشديد .
قال مَكيٌّ : « ولزمت اللاَّمُ في خبرها عوضاً من التشديد والمحذوف الأوَّلِ » ، وقد تقدَّم أنَّ بعض الكوفيين يجعلون « إن » نافية ، واللاَّم بمعنى « إلاَ » في قوله تعالى :

{ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } [ البقرة : 143 ] .
ومعنى فاسقين خارجين عن الطَّاعةِ ، ماريقين عن الدِّين ، وقيل : ناقضين العَهْدَ .
وقوله : « لأكْثَرهُم » ، و « أكْثَرهُم » ، و « من بعدهم » : إنْ جعلنا هذه الضَّمائر كلَّها للأمم السَّالِفَةِ فلا اعتراضَ ، وإن جعلنا الضَّمير في « لأكثرهُم » و « أكْثَرهُمْ » لعموم النَّاسِ والضَّمير في « من بعدهم » للأمم السَّالِفَةِ كانت هذه الجملة - أعني ما وجدنا - اعتراضاً كذلك قاله الزمخشري ، وفيه نظر؛ لأنَّهُ إذا كان الأوَّلُ عاماً ثم ذكر شيء يندرجُ فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضاً بين الخاصين .
وأيضاً ، فالنَّحْويُّون إنما يعرفون الاعتراض فيما اعترض به بين متلازمين ، إلاَّ أنَّ أهل البيان عندهم الاعتراض أعمُّ من ذلك ، حتَّى إذا أتي بشيء بين شيئين مذكورَيْنِ في قصَّةٍ واحدة سَمَّوه اعتراضاً .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)

اعلم أنَّ الكناية في قوله : « مِنْ بَعْدِهِمْ » يجوز أنْ تعود إلى الأنبياء الذين جرى ذكرهم وهم : نُوحٌ ، وصالحٌ ، وشعيبٌ وهود ويجوز أن تعود إلى الأمم الذين تقدَّم إهلاكهم .
وقوله : « بآياتنا » أي بأدلَّتِنَا ومعجزاتنا ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ النبي لا بد له من آية ومعجزة يتميز بها عن غيره ، وإلا لم يكن قوله أولى من قول غيره .
قال ابن عباس : أوَّلُ آياته العَصَا ثم اليَدُ ، ضرب بالعصا باب فرعون فَفَزعَ منها فشاب رَأسَهُ ، فاسْتَحْيَا فخضب بالسَّوادِ ، فهو أوَّلُ من خضب ، قال : وآخر الآيات الطَّمْسُ ، قال : وللعصا فوائِدُ :
منها ما هو مذكور في القرآن كقوله : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] ، وقوله : { اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً } [ البقرة : 60 ] ، { اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } [ الشعراء : 63 ] .
وذكر ابن عباس أشياء أخرى : منها أنَّهُ كان يغرسها فتنبت كالثمر وانقلابها ثعباناً وكان يحارب بها اللُّصوص والسباع التي كانت تقصد غنمه .
ومنها أنَّها كانت تشتعل في الليل كالشَّمْعَةِ ومنها أنَّها كانت تصيرُ كالحَبْلِ الطَّويلِ فينزح الماء من البئر العميقة .
ومنها أنَّهُ كان يضربُ بها الأرْضَ فَتَنْبُتُ .
واعلم أنَّ المذكور في القرآن مَعْلُومٌ ، وأمَّا المذكور في غير القرآن فإن ورد في خبر صحيح فهو مقبول ، وإلاَّ فلا . قوله : « فَظَلَمُوا بها » يجوز أن يضمن « ظَلَمُوا » معنى « كَفَرُوا » فيتعدَّى بالياء كتعديته ويؤيده { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، ويجوز أن تكون « الباء » سببيّة والمفعول محذوف تقديره : فظلموا أنْفُسَهُم وظلموا النَّاسَ بمعنى صدوهم عن الإيمان بسبب الآيات .
والظُّلْمُ : وضع الشَّيءِ في غير موضعه فظلمهم : وضع الكُفْرِ موضع الإيمان .
قوله : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } « كَيْفَ » خبر ل « كان » مقدَّمٌ عليها واجب التَّقديم؛ لأنَّ له صدر الكلام ، و « عَاقِبَة » اسمها وهذه الجملة الاستفهامية في محلّ نصب على إسْقَاطِ حرف الجرِّ إذ التقديرُ : فانظر إلى كذا ، والمعنى : فانْظُرْ بعين عقلك كيف فعلنا بالمفسدين .

وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)

كان يُقَالُ لمُلُوكِ مصر الفراعِنَة ، كما يقال لملوك فارس الأكَاسِرَة ، فكأنه قال : يا مَلِكَ [ مصر ] وكان اسمه قابوس وقيل : الوليدُ بْنُ مُصْعبِ بْنِ الرَّيَّان .
وقوله : { رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } يدلُّ على وجود الإله تعالى ، فإنَّهُ يدلُّ على أنَّ للعالم ربٌّ يربيه ، وإله يوجده ويخلقه .
قوله : « حَقِيقٌ » أي واجب « عَلَى أنْ لا أقُولُ » .
قرأ العامة « على أنْ » ب « عَلَى » التي هي حرف جر داخلة على أن وما في حيّزها .
ونافع قرأ « عليّ » ب « عَلَى » التي هي حرف جرّ داخلة على ياء المتكلِّم .
فأما قراءة العامة ففيها سِتَّةٌ أوْجُهٍ ، ذكر الزَّمخشريُّ منها أربعة أوجه :
قال رحمه الله : « وفي المشهورةِ [ إشكال ] ، ولا يخلو من وجوده :
أحدها : أن تكون مما قلب من الكلامِ كقوله : [ الطويل ]
2535 - . . ... وتَشْقَى الرِّمَاحُ بالضَّيَاطِرَةِ الحُمْرِ
معناه : وتشقى الضياطرة بالرِّمَاحِ .
قال أبُو حيَّان : » وأصحابنا يخصُّون القلب بالضَّرُورةِ ، فينبغي أن يُنزَّه القرآن عنه « .
وللنَّاس فيه ثلاثةُ مذاهب : الجواز مطلقاً ، [ المنع مطلقاً ] ، التَّفصيل : بين أن يفيد معنىً بديعاً فيجوزُ ، أو لا فيمتنع ، وقد تقدَّم إيضاحه ، وسيأتي منه أمثلة أخر في القرآن العظيم .
وعلى هذا الوجه تصيرُ هذه القراءة كَقِرَاءةِ نافع في المعنى ، إذ الأصلُ : قول الحق حقيق عليَّ ، فقلب اللفظ فصار : » أنَّ حقيق على قول الحقِّ « .
قال : » والثاني : أن ما لزمك فقد لزمته ، فلمَّا كان قول الحقِّ حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحقِّ أي لازماً له « .
والثالث : أن يضمَّنَ حقيق معنى حريص كما ضمت » هيجّني « معنى ذكْرني في البيتِ المذكور في كتاب سيبويه وهو قوله : [ البسيط ]
2536 - إذَا تَغَنَّى الحَمَامُ الوُرْقُ هَيَّجَنِي ... وَلَوْ تَسَلَّيْتُ عَنْهَا أمَّ عَمَّارِ
الرابع : أن تكون » عَلَى « بمعنى » الباء « ، وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء والفارسيُّ ، قالوا : إنَّ » على « بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى » على « في قوله : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ } [ الأعراف : 86 ] أي : على كلٍّ .
وقال الفرَّاءُ : العرب تقول : رَمَيْتُ على القوس وبالقوس وجئتُ على حالٍ حسنة وبحال حسنة ، وتؤيده قراءة أبيّ والأعمش » حقيق بأن لا أقول « إلاَّ أنَّ الأخفش قال : » وليس ذلك بالمطَّرد لو قلت : « ذهبتُ على زيْدٍ » تريد : « بزيدٍ » لم يجز « ، وأيضاً فلأن مذهب البصريِّين عدم التجوُّزِ في الحُرُوفِ .
الخامس : - وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن - أن يغرق موسى - عليه الصلاة والسلام - [ في وصف نفسه ] بالصِّدْق في ذلك المقام لا سيما وقد رُوِيَ أنَّ فرعون - لعنه الله - لمَّا قال موسى : إنِّي رسول من رب العالمين قال له : كذبت فيقول : أنا حقيقٌ على قول الحقِّ أي : واجب عليَّ قول الحقِّ أن أكون أنا قائله والقائم به ، ولا يَرْضى إلاَّ بمثلي ناطقاً به .

قال أبُو حيَّان : ولا يصحُّ هذا الوجه إلاَّ إن عنى أنه يكون « أن لا أقُول » صفة له كما تقول : أنَا على قول الحقِّ أي : طريقتي وعادتي قول الحقّ .
السادس : أن تكون « على » متعلقة ب « رَسُول » .
قال ابن مقسم : حقيقٌ من نعت « رَسُول » أي رسول حقيق من ربِّ العالمين أرْسِلْتُ على ألاَّ أقولَ على الله إلا الحقَّ ، وهذا معنى صحيح واضحٌ ، وقد غفل أكثرُ المفسرين من أرباب اللُّغَة عن تعليق « على » ب « رسول » ، ولم يخطر لهم تعليقه إلاَّ ب « حقيق » .
قال أبُو حيَّان : وكلامه فيه تَنَاقضٌ في الظَّاهِرِ؛ لأنَّهُ قدَّر أولاً العامل في « عَلَى » « أرسلت » وقال أخيراً : « لأنهم غفلوا عن تَعْليق » على « ب » رسول « ، فأمَّا هذا الأخير فلا يجوزُ عند البصريين؛ لأنَّ رسولً قد وُصِف قبل أن يأخذ معموله ، وذلك لا يَجُوزُ ، وأمَّا تعليقه ب » أرسلت « مقدَّراً لدلالةِ لفظ » رَسُوله « عليه فهو تقديرٌ سائغ .
ويتأوَّل كلامه أنَّه أراد بقوله تُعَلَّقُ » على « ب » رسول « أنه لمَّا كان دالاًّ عليه صحَّ نسبة التَّعلق له .
قال شهابُ الدِّين : » وقال أبُو شامَةَ بعد ما ذكر هذا الوجه عن ابن مقسم : والأوْجهُ الأربعةُ التي للزمخشريِّ ولكن هذه وجوهٌ متعسِّفةٌ ، وليس المعنى إلاَّ على ما ذكرته أوَّلاً ، يعني وجه ابن مقسم ، وهذا فيه الإشكال الذي ذكره الشيخ يعني أبا حيَّان يعني من إعمال اسم الفاعل أو الجاري مجراه وهو موصوفٌ « .
وأمَّا قراءة نافع فواضحةٌ وفيها ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحدها : أن يكون الكلامُ قد تم عند قوله : » حقيق « ، و » عليَّ « خبر مقدَّمٌ ، » ألاَّ أقُولَ « مبتدأ مؤخر ، كأنَّهُ قيل : عليَّ عدم قول غير الحقِّ أي : فلا أقُولُ إلا الحقَّ .
الثاني : أن يكون » حَقِيقٌ « خبراً مقدماً ، و » ألاَّ أقولَ « مبتدأ على ما تقدَّم بيانه .
الثالث : » أن لا أقول « فاعلٌ ب » حقيقٌ « كأنَّهُ قيل : يحقُّ ويجبُ أن لا أقول ، وهذا أغربُ الوُجُوهِ لوضُوحِهِ لفظاً ومعنى ، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلَّق » عليَّ « ب » حقيقٌ « لأنَّك تقول : » حقَّ عليهِ كذا « قال تعالى : { أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } [ الأحقاف : 18 ] . وعلى الوجْهِ الأوَّلِ يتعلَّق بمحذوف على ما تقرر .

وأمّا رفع « حقيقٌ » فقد تقدَّم أنَّهُ يجوز أن يكون خَبَراً مقدَّماً ، ويجوز أن يكون صفةً ل « رَسُول » ، وعلى هذا فيضعف أن يكون « مِنْ رب » صفةً لئلا يلزم تقديم الصفة غير الصّريحَة [ على الصَّريحة ] ، فينبغي أن يكون متعلّقاً بنفس « رَسُول » ، وتكون « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً .
ويجوز أن يكون خبراً ثانياً . ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده الخبر على قراءة من شددَّ الياء ، وسوَّغَ الابتداء بالنكِرَةِ حينئذٍ تعلُّق الجارِّ بها .
فقد تحصَّل في رفعه أربعة أوجُهٍ ، وهل هو بمعنى فاعل ، أو بمعنى مفعول؟ الظَّاهِرُ أنَّهُ يحتمل الأمرين مُطْلَقاً ، أعني على قراءة نَافِعٍ وقراءة غيره .
وقال الوَاحِدِيُّ نَاقِلاً عن غيره : « إنَّهُ مع قراءةِ نافع محتمل للأمرين ، ومع قراءة العامَّةِ بمعنى مفعول فإنَّهُ قال : » وحقيقق على هذا القراءةِ - يعني قراءة نَافِعٍ - يجوز أن يكون بمعنى فاعل « .
قال شمرٌ : » تقولُ العربُ : حقَّ عليَّ أن أفعل كذا « .
وقال الليثُ : » حقَّ الشَّيء معناه وجب ، ويحقُّ عليك أن تفعله ، وحقيق عليَّ أنْ أفعله ، فهذا بمعنى فاعلٍ « ثم قال : وقال اللَّيْثُ : وحقيقٌ بمعنى مفعول ، وعلى هذا تَقُولُ : فلان محقوقٌ عليه أن يفعل .
قال العشى : [ الطويل ]
2537 - لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ ... وَأنْ تَعْلَمِي أنَّ المُعَانَ مُوَفَّقْ
وقال جريرٌ : [ البسيط ]
2538 - .. قَصَّرْ فَإنَّكَ بالتَّقْصيرِ مَحْقُوقُ
ثم قال : » وحقيقٌ على هذه القراءة - يعني قراءة العامَّة - بمعنى محقوق « انتهى .
[ وقرأ أبَيٌّ » بأن لا أقُولَ « وهذه تقوي أنَّ » على « بمعنى الباء ] .
وقرأ عبدُ الله والأعمشُ » لاّ أقُولَ « دون حرف جرّ ، فاحتمل أن يكون ذلك الجارّ » على « كما هو قراءة العامَّةِ ، وأن يكون الجارُّ الباء كقراءة أبيّ المتقدمة .
والحقُّ هو الثابت الدَّائِمُ ، والحقيق مبالغة فيه .
قوله : » إلاَّ الحَقَّ « هذا استثناء مفرَّغٌ ، و » الحقُّ « يجوزُ أن يكون مفعولاً به ، لأنَّهُ يتضمن معنى جملة ، وأن يكون منصوباً على المصدر أي : القول الحق .
قوله : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } يعني العَصَا واليد { فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ } أي أطلق عنهم وخلِّهم يرجعون إلى الأرْضِ المقدَّسةِ ، وكان فرعونُ قد استخدمهم في الأعمال الشَّاقَّة ، فقال فرعونُ مجيباً له : { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } والمعنى : إنْ كنت جئت من عند من أرْسَلَكَ بآيةٍ؛ فأحضرها عندي لتصحَّ دعواك .
فإن قيل قوله : { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } جزاء واقع بين شرطين فكيف حمله؟
والجوابُ : أنَّ هذا نظير قولك : إنْ دخلت الدَّارَ فأنت طالق إن كلمت زيداً ، وهاهنا المؤخر في اللَّفظ يكون مقدماً في المعنى؛ كما سبق تقريره .

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)

لما طلب فرعون من موسى إقَامَةِ البَيِّنَةِ على صحَّةِ دعواه ، بين الله تعالى أنَّ معجزته كانت قلب العصا ثعباناً ، وأظهار اليد البيضاء .
« فإذَا » فجائية وقد تقدَّم أنَّ فيها مذاهبَ ثلاثةً :
ظرف مكان ، أو زمان ، أو حرف .
وقال ابن عطية هنا : « وإذَا ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرِّد من حيثُ كانت خبراً عن جثة ، والصَّحيحُ الذي عليه النَّاسُ أنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ في كلِّ مَوْضِعٍ » .
قال شهابُ الدِّين : « والمشهورُ عند النَّاسِ قول المبردِ ، وهو مذهب سيبويه » .
وأمَّا كونها زماناً فهو مَذْهَبُ الرِّيَاشي ، وعُزِيَ لسيبويه أيضاً .
وقوله : « من حيث كانت خبراً عن جثَّة » ليست هي هنا خبراً عن جُثَّة ، بل الخبرُ عن « هي » لفظ « ثُعْبَان » لا لَفْظ « إذا » .
والثُّعْبَانُ هو ذَكَرُ الحيَّاتِ العظيم ، واشتقاقُه من ثَعَبْتُ المكان أي : فجَّرْتُه بالمَاءِ ، شُبِّه في انسيابه بأنْسِيَابِ الماء ، يقال : ثَعَبْتُ الماءَ فجَّرْتُه فانْثَعَبَ . ومنه مَثْعَبُ المطر ، وفي الحديث : « جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَجَرْحُهُ يَثْعَبُ دماً »
فصل
فإن قيل إنَّهُ وصفها هنا بكونها ثُعْبَاناً ، وهو العظيمُ الهائل الخلق ، وفي موضع آخر يقول : { كَأَنَّهَا جَآنٌ } [ النمل : 10 ] ، والجان من الحيَّاتِ الخفيف الضّئيل الخلق ، فكيف الجَمْعُ بين هاتين الصّفتين؟
وقد أجاب الزَّمَخْشَرِيُّ في غير هذا المكان بجوابين :
أحدهما : أنَّهُ يجمع لها بين الشيئين : أي كبر الجُثَّةِ كالثُّعْبَانِ وبين خفَّةِ الحركة ، وسرعة المشي كالجَان .
والثاني : أنَّها في ابتداء أمرها تكون كالجَان ، ثمَّ يتعاظمُ ويتزايد خلقها إلى أن تصير ثُعْبَاناً .
وفي وصف الثُّعبانِ بكونه مُبيناً وجوه :
أحدها : أنُّهُ تمييز ذلك عمَّا جاءت به السَّحرَة من التمويه الذي يلتبسُ على من لا يعرف سببه .
وثانيها : أنَّهم شاهدوا كونه حيَّةً ، فلم يشتبه الأمر عليهم فيه .
وثالثها : أنَّ الثَّعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي لكاذب .

وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)

النّزع في اللُّغَةِ عبارة عن إخراج الشَّيء عن مكانه ، فقوله : « نَزعَ يَدَهُ » أي أخرجها من جَيْبِهِ ومن جناحه ، بدليل قوله : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } [ النمل : 12 ] ، وقوله : { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } [ طه : 22 ] .
قوله : { فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ } قال ابن عباس : « كان لها نور ساطع يضيء بين السَّماء والأرض » ، واعلم أنَّهُ لمَّا كان البياض كالعيب بيَّن تعالى في غير هذه الآية أنَّهُ كان من غير سوء .
قوله : « للنَّاظرينَ » متعلق بمحذوف لأنَّهُ صفة ل « بيضاء » وقال الزَّمخشريُّ : « فإن قلت : بم تعلق للناظرين؟ قلت : يتعلَّقُ ب » بيضاء « والمعنى : فإذا هي بيضاء للنَّظارة ، ولا تكون بيضاء للنَّظَّارةِ إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادةِ ، يجتمعُ النَّاس للنَّظر إليه ، كما يجتمع النَّظَّارة للعجائب » .
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وكيف يريدُ تفسير الإعراب؟ وإنَّما أراد التعلُّق المعنويُّ لا الصّناعي ، كقولهم : هذا الكلامُ يتعلق بهذا الكلام . أي إنَّهُ من تتمَّةِ المعنى له .
فإن قيل : إنَّ كثرة الدَّلائل توجب القوَّةَ في النَّفْسِ ، وسيأتي في سورة طه - إن شاء الله تعالى - أن انقلاب العصا أعظم من اليد البيضاء .

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)

اعلم أنَّهُ سبحانه وتعالى أسند القول في هذه السُّورة إلى الملأ ، وفي « الشعراء » [ 34 ] أسند القول إلى فرعون في قوله : « قَالَ لِلْمَلأ حَوْلَهُ » ، وأجاب الزَّمَخْشَرِيُّ عن ذلك بثلاثة أوْجُهٍ :
أحدها : أن يكون هذا الكلام صادراً منه ومنهم ، فحكى هنا عنهم وفي الشَّعراء عنه .
والثاني : أنَّهُ قاله ابتداء ، وتلقَّته عنه خاصَّته فقالوه لأعقابهم .
والثالث : أنَّهُم قالوه عنه للنَّاسِ على طريق التَّبليغ ، كما يفعل الملوكُ ، يرى الواحدُ منهم الرّأي فيبلغه الخاصَّة ، ثم يبلغوه لعامَّتهم ، وهذا الثَّالِثُ قريبٌ من الثَّانِي في المعنى .
وقولهم : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } يعنون أنَّهُ ليأخذ بأعين النَّاسِ حتى يخيل إليهم العصا حيَّة ، واليد بيضاء ، وكان موسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ آدم اللّون ، ويرى الشَّيء بخلاف ما هو عليه ، وكان السّحر غالباً في ذلك الزمان ، ولا شَكَّ أن مراتب السّحر كانت متفاوتة ، فالقوم زَعَمُوا أن موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان في النِّهاية من علم السّحر ، فلذلك أتى بتلك الصّيغة ، ثم ذكروا أنَّه إنَّما أتى بذلك السّحر طلباً للملك والرّئاسة فقالوا : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } [ الأعراف : 110 ] .

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)

قوله : « فَمَاذَا تَأْمُرُونَ » قد تقدَّم الكلامُ على « ماذا » ، والجمهور على « تَأمُرُونَ » بفتح النُّونِ ، وروى كردم عن نافعٍ كسرها ، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن تكون « ماذا » كلمة اسماً واحداً في محلِّ نصب على أنَّهُ مفعولٌ ثانٍ ل « تَأمُرُون » بعد حذف الياء ، ويكون المفعول الأوَّلُ ل « تَأمُرُونَ » محذوفاً ، وهو ياء المتكلم والتقديرُ : بأي شْيءٍ تأمرونني .
وعلى قراءة نافع لا تَقُول إنَّ المفعول الأوَّلَ محذوف ، بل هو في قوَّةِ المَنْطُوق به؛ لأنَّ الكسرة دالة عليه ، فهذا الحَذْفُ غير الحذف في قراءة الجماعة .
ويجوزُ أن تكون « ما » استفهاماً في محل رفع بالابتداء ، و « ذا » موصول ، وصلته العائد منصوب المحل غير معدى إليه بالباء فتقديرُهُ : فما الذي تأمرونيه .
وقدّره ابن عطية « تَأمُرُونِي بِهِ » ، وردَّ عليه أبُو حيَّان بأنَّهُ يلزم من ذلك حذف العائد المجرور بحرف لم يجر الموصول بمثله ، ثم اعتذر عنه بأنَّه أراد التقدير الأصلي ، ثم اتّسع فيه بأن حذف الحرف ، فاتّصل الضَّميرُ بالفعل . وهذه الجملة هل هي من كلام المَلأ ، ويكونُون قد خاطبوا فِرعَوْنَ بذلك وحده تعظيماً له كما يُخاطب الملوك بصِيغَةِ الجمع ، أو يكونون قالوه له ولأصحابه أو يكون من كلام فرعون على إضمار قول أي : فقال لهم فرعون فماذا تَأمُرون ويكون كلام الملأ قد تم عند قوله : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } ويؤكد كونها من كلام فرعون قوله تعالى : { قالوا أَرْجِهْ } [ الأعراف : 111 ] .
وهل « تَأمُرُونَ » من الأمر المعهود أو من الأمر الذي بمعنى المشاورة؟ والثاني منقول عن ابن عباس .
وقال الزمخشريُّ : « هو من أمَرْتُه فأمرني بكذا أي : شاورته فأشار عليَّ برأي » .

قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)

قوله : { قالوا أَرْجِهْ } في هذه الكلمة هنا وفي « الشُّعراءِ » [ 36 ] ست قراءات في المشهور المتواتر ، ولا التفات إلى مَنْ أنكر بعضها ولا لمن أنكر على روايها . وضبط ذلك أنْ يقال : ثلاث مع الهَمْزِ وثلاث مع عدمه .
فأمّا الثَّلاثُ التي مع الهمزة فأولُها قراءة ابن كثير ، وهشام عن ابن عامر : أرجِئْهو بهمزة ساكنة ، وهاء متصلة بواو .
والثانية : قراءة أبي عَمْرو : أرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنَّه لم يصلها بواو .
الثالثة : قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر : أرْجِئْهِ بهمزة ساكنة وهاء مكسورة من غير صفة .
وأمّا الثَّلاثُ التي بلا همة فأوَّلهَا : قراءة الأخوين : « أرْجِهْ » بكسر الجيم وسكون الهاء وصلاً ووقفاً .
الثانية : قراءة الكسائيِّ ، وورشٍ عن نافعٍ : « أرْجِهِي » بهاء متصلة بياء .
الثالثة : قراءة قالون بهاء مكسورة دون ياء .
فأمّا ضمُّ الهاء وكسرها فقد عُرف مما تقدَّم . وأمَّا الهمزُ وعدمه فلغتان مشهورتان يقال : أرْجَأته وأرْجَيْتُه أي : أخَّرته ، وقد قرئ قوله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ } [ الأحزاب : 51 ] بالهَمْزِ وعدمه ، وهذا كقولم : تَوَضَّأتُ وتَوَضَّيْتُ ، وهل هما مادتان أصليتان أم المبدل فرع الهمز؟ احتمالان .
وقد طعن قَوْمٌ على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسي : « ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز [ غيره ] ، ورواية ابن ذُكْوَان عن ابن عامر غلطٌ » .
وقال ابنُ مُجَاهدٍ : « وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ الهَاءَ لا تكسَرُ إلاَّ بعد كسرة أو ياء ساكنة » .
وقال الحُوفِيُّ : « ومن القرَّاء مَنْ يكسر مع الهَمْزِ وليس بجيِّد » .
وقال أبو البقاءِ : « ويُقْرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف؛ لأنَّ الهمزة حرف صحيحٌ ساكنٌ ، فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر » .
وقد اعتذر النَّاس عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين :
أحدهما : أن الهَمْزَة ساكنةٌ والسَّاكن حاجزٌ غير حصين ، وله شواهدٌ [ مذكورة في موضعها ] ، فكأنَّ الهاء وليست الجيم المكسورة فلذلك كُسِرت .
[ الثاني : أن الهمزة كثيراً ما يطرأ عيلها التغيير وهي هنا في معرض أن تبدل ياء ساكنة لسكونها بعد كسره فكأنها وليت ياء ساكنة فلذلك كسرت ] .
وقد اعترض أبُو شَامَةَ على هذين الجوابين بثلاثةِ أوجه :
الأولُ : أنَّ الهمز حاجز معتدٌّ به بإجماع في { أَنبِئْهُم } [ البقرة : 33 ] ، { وَنَبِّئْهُمْ } [ القمر : 28 ] والحكم واحد في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكَسْرِ والضمّ .
الثالث : أنَّ الهمز لو قلب يَاءٌ لكان الوَجْه المختارُ ضمّ الهاء مع صريح الياءِ نظراً إلى أنَّ أصلها همزة ، فما الظنُّ بمَنْ يكسر الهاء مع صريح الهَمزةِ ، وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقفِ حمزةَ وهشام ، فضمُّ الهَاء مع الهمزةِ هو الوَجْهُ .
وقد استضعف أبُو البقاءِ قراءة ابن كثير وهشام فإنَّهُ قال : « وَأرْجِئْهُ » يقرأ بالهمزة وضمِّ الهاء من غير إشابع وهو الجيِّد ، وبالإشباع وهو ضَعِيفٌ؛ لأنَّ الهاء خفيَّة ، فكأنَّ الواو التي بعدها تتلو الهمزة ، وهو قريبٌ من الجمع بين السَّاكنين ومن هاهنا ضَعْف قولهم : « عليهمي مال » بالإشْبَاع .

قال شهابُ الدِّينِ : « وهذا التَّضْعيف ليس بشيء؛ لأنَّهَا لغة ثابتة عن العَرَبِ ، أعني إشباع حركة الهاء بعد ساكن مطلقاً ، وقد تقدَّم أنَّ هذا أصل لابن كثير ليس مختصاً بهذه اللَّفْظَةِ ، بل قاعدته كلُّ هاء كناية بعد ساكن أنْ تُشْبع حركتها حتى تتولَّد منها حرف مدِّ نحو : » منهو ، وعنهو ، وأرجِئْهو « إلاَّ قبل ساكن فإن المدَّ يُحذفُ لالتقاء الساكنين إلاَّ في موضع واحد رواه عنه البَزِّيُّ وهو { عَنْهُ تلهى } [ عبس : 10 ] بتشديد التَّاءِ ، ولذلك استضعف الزَّجَّاج قراءة الأخوين قال بعد ما أنشد قول الشَّاعر : [ الرجز ]
2539 - لَمَّا رَأى أنْ لا دَعُهُ وَلاَ شِبَعْ ... مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقْفٍ فَالطَجَعْ
» هذا شعرٌ لا يعرف قائله ولا هو بِشَيءٍ ، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له : أخطأت؛ لأنَّ الشَّاعر يجوز أن يخطئ مذهب لا يُعَرَّج عليه « .
قال شهابُ الدِّين : » وقد تقدَّم أنَّ تسكين هاء الكناية لغة ثابتة ، وتقدَّم شواهدها ، فلا حاجةَ إلى الإعادة « .
قوله : » وَأخَاهُ « الأحسنُ أن يكون نسقاً على الهاء في » أرْجِهْ « ويضعف نصله على المعيَّة لإمكان النَّسق من غير ضعف لَفْظي ولا معنوي .
قال عطاءٌ : » معنى أرْجِهْ أي أخّره « .
وقيل : احبسه وأخاه ، وهو قول قتادة والكَلْبِي ، وهذا ضعيف لوجهين :
أحدهما : أنَّ الإرجاء في اللُّغَةِ هو التَّأخير لا الحبس .
والثاني : أنَّ فرعونَ ما كان قادراً على حبس موسى بعد أنْ شاهد العصا فأشاروا عليه بتأخير أمره وترك التَّعَرُّضِ إليه بالقتل .
قوله : { وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ } .
» فِي المَدَائِنِ « متعلق ب » أرْسِلُ « ، و » حَاشِرينَ « مفعول به ، ومفعول » حَاشِرِين « محذوفة أي : حاشرين السَّحَرة ، بدليل ما بعده .
و » المَدائِنُ « جمع مَدينَةٍ ، وفيها ثلاثُة أقوال :
أصحها : أنَّ وزنها فعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة مشتقة من مَدُنَ يَمْدُنُ مدوناً أي قام ، واستدلَّ لهذا القول بإطْبَاقِ القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف ، وسفينة وسفائن ، والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة ، وإذا كانت من نفس الكلمةِ لم تهمز نحو : معايش ومعيشة ، [ ولو كانت مفعلة لم تهمز نحو : مَعِيشَةِ ومعايش ولأنَّهُم جمعوها أيضاً على مُدنٍ كقولهم سفينةٍ وسُفُنٍ وصُحُفٍ ] .
قال أبُو حيَّان : » ويقطعُ بأنَّها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا : مدن كما قالوا صُحْفٌ في صحيفة « .
قال شهابُ الدِّين : » قد قال الزجاجي : المدن في الحقيقةِ جمع المدين ، لأنَّ المدينة لا تُجْمَععْ على مُدُن ولكن على مدائن ومثل هذا سفن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوه على سفن « ولا أدري ما حمله على جعل مدن جمع مدين ، ومدين جمع مدينة مع اطَّراد فُعُل على فَعِيلَةٍ لا بمعنى مفعولة ، اللهم إلا أن يكون قد لحظ في مدينة أنَّهَا فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأنَّ معنى المدينةِ أن يمدن فيها أي يقام ، ويُؤيِّدُ هذا ما سيأتي أنَّ مدينة وزنها في الأصْلِ مديونة عند بعضهم .

القول الثاني : أن وزنها مفعلة من دَانَهُ يَدِينُهُ أي ساسه يَسُوسُهُ ، فمعنى مدينة أي مَمْلُوكَة ومسوسة أي مَسُوسٌ أهلها من دانهم ملكهم إذا سَاسَهُم ، وكان ينبغي أن يجمع على مداين بصريح الياء كمعايشَ في مشهور لُغَةِ العَرَبِ .
الثالث : أن وزنها مفعولة ، وهو مَذْهَبُ المبرِّد قال : « هي من دَانَهُ يَدينُهُ إذا ملكه
وَقَهَرَهُ ، وإذا كان أصلها مديونة فاستثقَلُوا حركة الضَّمَّة على الياء فسكنوها ، ونقلوا حركتها إلى ما قبلها ، فاجتمع ساكنان : الواو والمزيدة الَّتي هي واو المفعول ، والياء التي هي من نفس الكلمة ، فحذفت الواو؛ لأنَّها زائدة ، وحذف الزَّائد أولى من حذف الحرف الأصلي ، ثم كَسَرُوا الدَّال لتسليم الياء ، فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها ، فتختلط ذوات الواو بذوات الياءِ ، وهكذا تقولُ في المبيع والمخيط والمكيل فلاَ ينقلب واواً لانضمام ما قبلها ذوات الواو ، والخلاف جارٍ في المحذوف ، هل هو الياء الأصليّة؟ أو الواو الزائدة؟ الأوَّلُ قول الأخْفَشِ ، والثَّاني قول المَازني ، وهو مذهب جماهير النُّحَاةِ .
فصل في تعريف » المدينة «
المدينةُ معروفةٌ ، وهي البُقعةُ المسورة المستولي عليها ملك وأرادَ مدائن صعيدِ مِصْرَِ ، أي : أرسل إلى هذه المدائن رجالاً يحشرون إليك من فيها من السَّحرةِ ، وكان رؤساء السَّحرةِ بأقْصَى مدائن الصَّعيدِ .
ونقل القاضي عن ابن عباس أنَّهُم كانوا سَبْعِينَ سَاحِراً سوى رئيسهم ، وكان الذي يعلمهم رجلي مَجُوسِيِّيْنِ من أهْلِ » نينوى « بلدة يونس - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، وهي قرية بالموصل .
قال ابن الخطيب : » وهذا النَّفْلُ مشكل؛ لأنَّ المَجُوسَ أتباع زرادشت ، وزرادشت إنَّما جاء بعد مُوسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - .

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)

قرأ الأخوان هنا وفي سورة « يونس » [ 79 ] « سحّار » والباقون « ساحر » ، فسحَّارٌ للمبالغة وساحر يحتملها ، ولا خلاف في التي في « الشُّعراء » أنها سحَّارٌ مثال مبالغة .
واختلفوا في السَّاحر والسحَّار : فقيل : السَّاحر الذي يعلم السِّحْرَ ولا يعلم ، والسحَّارُ الذي يعلم .
وقيل : السَّاحِرُ من يكون سحره في وقت دون وقت ، والسحَّارُ من يديم السحر .
و « الباء » في قوله : « بِكلّ » يحتمل أن تكون باء التَّعدية ويحتمل أن تكون بمعنى مع .
وقال ابن عباس وابن إسحاق والسُّدِّيُّ : إنَّ فرعون اتخذ علمه من بني إسرائيل ، فبعث بهم إلى قرية يقال لها : الفرما يعلموهم فعلموهم سحراً كثيراً ، فلما بعث إلى السَّحرة بجاءوا ومعلمهم معهم . وهذه الآية تدلُّ على كثرة السَّحرةِ في ذلك الزَّمانِ ، وذلك يدلُّ على صِحَّةِ قول المتكلِّمين من أنه تعالى يجعل معجزة كل نبيّ من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان ، فلما كان السِّحر غالباً على أهل زمان موسى كانت معجزته من جنس السحر . ولما كان الطبُّ غالباً على أهل زمان عيسى كانت معجزته من جنس الطبِّ . ولما كانت الفصحاة غالبة على أهل زمان محمد صلى الله عليه وسلم كانت معجزته من جنس الفصاحة .

وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)

وحذف ذكر الإرْسَالِ لعلم السَّامع .
وفي قوله : { إِنَّ لَنَا لأَجْراً } وجهان :
أظهرهما : أنَّهَا لا محلَّ لها من الإعْرَاب؛ لأنَّها استئناف جواب لسؤال مقدر ، ولذلك لم تعطف بالفاء على ما قبلها .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : هلا قيل : « وجاءَ السَّحرةُ فرعون فقالوا » .
قلت : هو على تقدير سائل سأل : ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله قالوا : « أإن لنا لأراً » وهذا قد سبقه إليه الواحديُّ إلاَّ أنه قال : « ولم يقل » فقالوا « لأنَّ المعنى لما جاءوا قالوا » فلم يصحَّ دخول الفاء على هذه الوَجْهِ .
والوجه الثاني : أنَّهَا في محلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعل « جاءُوا » قاله الحوفي .
وقرأ نَافِعٌ وابن كثير وحفصٌ عن عاصم « إنَّ » بهمزة واحدة بكسر الألف على الخبر والباقُونَ بهمزتين على الاستفهام . وهم على أصولهم من التحقيق والتسهيل وإدخال ألفٍ بينهما وعدمه .
فقراءة الحَرَميِّيْن على الإخبار ، وجوَّز الفارسيُّ أن تكون على نيَّةِ الاستفهامِ يدلُّ عليه قراءة البقاين .
قال الواحديُّ : الاستفهام أحْسَنُ في هذا الموضع؛ لأنَّهُم أرادوا أن يعلموا هل لهم أجر أم لا ، ولا يقطعون على أن لهم الأجر ، ويقوي ذلك إجماعهم في سورة « الشعراء » على الاستفهام .
وحجَّةُ نافع وابن كثير أنَّهُما أرادا همزة الاستفهام ، ولكنهما حذفا ذلك من اللَّفْظِ ، وإن كانت باقية في المعنى كقوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 2 ] وقول الشاعر : [ المنسرح ]
2540 - أفْرَحُ أنْ أرْزَأ الكِرَامَ وَأنْ .. .
وقول الآخر : [ الطويل ]
2541 - . . .. وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
وكقوله : { هذا رَبِّي } [ الأنعام : 76 ] التقدير : أهذا ربي؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا ، وأنَّهُ مذهب أبي الحسن ونكر « أجراً » للتعظيم .
قال الزَّمخشريُّ : « كقول العربِ : إنَّ له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة » .
قوله : « إنْ كُنَّا » شرط جوابه محذوفٌ للدِّلأالة عليه عند الجمهور ، أو ما تقدَّم عند من يجيز تقديم جواب الشَّرْط عليه .
و « نَحْنُ » يجوز فيه أن يكون تأكيداً للضَّمير المرفوع ، وأن يكون فصلاً فلا محل له عند البصريين ، ومحله الرَّفع عند الكسائيِّ ، والنَّصب عند الفرَّاء .

قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)

فإن قيل : قوله : { وإنكم لمن المقربين } معطوف على ماذا؟ فالجوابُ أنَّهُ معطوف على محذوف ، وهو الجملة التي نابت « نعم » عنها في الجاوب إذا التقديرُ : قال : نعم إنَّ لكم لأجراً وإنكم لمن المقربين ، أي : إني لا أقصركم على الثَّواب ، بل أزيدكم عليه بأن أجعلكم من المقرّبين عندي .
قال المتكلمون : « وهذا يدلُّ على أنَّ الثواب إنَّما يَعظم موقعه إذا كان مقروناً بالتعظيم » .
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى ، ويدلُّ على أن السَّحَرَة ذليلاً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالحسرة في دفع موسى ، ويدلُّ على أن السَّحَرَة لم يقدروا على قلب الأعيان ، وإلا لما احتاجوا إلى طلبِ الأجْرِ والمال من فرعون؛ لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان فَلَمَ لم يقلبوا التراب ذهباً ، ولِمَ لَمْ ينقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ، ولِمَ لَمْ يجعلوا أنفسهم مُلُوك العالم . والمقصودُ من هذه الآيات تنبيه الإنسان على الاحتراز عن الاغترار بكلمات أهل الأبَاطيل .

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)

قوله : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ } : إمَّا هنا للتخيير ، ويطلق عليها حرف عطف مجازاً .
قال المفسرُون : « تأدَّبوا مع موسى - عليه السلام - فكان ذلك سبب إيمانهم » .
قال الفرَّاءُ والكسائِيُّ في باب « أمّا » : و « إمّا » إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحة ، وإذا كنت مشترطاً أو شاكّاً أو مخيراً فهي مكسورةٌ ، تقول في المفتوحة : إمّا اللَّه فأعْبُدْه ، وأما الخمرُ فلا تَشْرَبها وأما زيد فقد خَرَجَ ، فإن كنت مشترطاً فتقول : إمّا تعطينَّ زيداً فإنه يشكرك قال تعالى : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم } [ الأنفال : 57 ] ، وتقولُ في الشَّكِّ : لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو ، وتقولُ في التَّخْيير : لي في الكوفة دارٌ إما أن أسْكُنَهَا وإمَّا أن أبيعها .
والفرق بين « إمّا » إذا كانت للشكِّ وبين « أو » أنك إذا قلت : « جاءني زَيْدٌ أو عمرو » فقد يجوزُ أن تكون قد بنيت كلامك على اليقينِ ثم أدركك الشّك فقلت : أو عمرو ، فصار الشك فيهما ، فأوَّلُ الاسمين في « أو » يجوز أن يحسن السكوت عليه ، ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر؛ ألا ترى أنَّكَ تَقُولُ : قام أخُوكَ وتسكت ثم تشكُّ فتقول : أو أبوك .
وإذا ذكرت « إمّا » فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك ، فلا يجوز أن تقول : ضربت إمَّا عبد الله وتسكت . وفي محل : { أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ } ثلاثة أوجه :
أحدها : النصب بفعلٍ مقدَّر أي : افعل إمَّا إلقاءك وإما إلقاءنا ، كذا قدّره أبو حيَّان ، وفيه نظر؛ لأنَّهُ لا يَفْعَلُ إلقاءهم فينبغي أن يُقَدِّر فعلاً لائقاً بذلك وهو اختر أي : اختر إمَّا إلقاءك وإمّا إلقاءنا .
وقدره مكي وأبو البقاءِ فقالا : « إمَا أن تَفْعَلَ الإلقاء » .
قال مَكِّيٌّ : كقوله : [ البسيط ]
2542 - قَالُوا : الرُّكُوبَ فَقُلْنَا : تِلْكَ عَادَتُنَا .. .
بنصب « الركوب » إلا أنَّهُ جعل النَّصْبَ مذهب الكوفيين .
الثاني : الرفع على خبر ابتداءٍ مضمر تقديره : أمْرُك إمَّا إلقاؤك وإما إلقاؤُنا .
الثالث : أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره إمَّا لقاؤك مبدوءٌ به ، وإمَّا إلقاؤنا مبدوءٌ به .
فإن قيل : كيف دخلت « أن » في قوله : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ } وسقطت من قوله : { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] .
فالجواب قال الفراء : دخول « أن » في « إما » في هذه الآية لأنها في موضع الأمر بالاختيار ، وهي في موضع نصب كقولك : اختر ذا أو ذا ، كأنَّهُم قالوا : اختر أن تلقي أو نلقي ، وفي آية التَّوْبَةِ ليس فيها أمر بالتخيير؛ ألا ترى أنَّ الأمر لا يَصْلُحُ هاهنا فلذلك لم يكن فيه « أن »
وقال غيره : « إنَّما أتى هنا ب » أن « المصدرية قبل الفعل بخلاف قوله تعالى

{ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] . لأن « أن » وما بعدها هنا : إمّا مفعول به او مبتدأ ، والمفعولُ به والمبتدأ لا يكونان فعلاً صريحاً ، بل لا بُدَّ أن ينضمَّ إليه حرفٌ مصدري يجعله في تأويل اسمٍ ، وأما آية التَّوبةِ فالفعلُ بعد « إمّا » خبر ثان ل « آخرُونَ » ، وإمَّا صفة له ، والخبرُ والصِّفةُ يقعان جملة فعلية من غير حرف مصدري .
وحذف مفعولُ الإلقَاءِ للعلم به والتقدير : إمَّا أن تُلْقي حبالَكَ وعِصِيَّك - لأنَّهُم كانوا يَعْتَقِدُونَ أن يفعل كفعلهم - أو نلقي حبالنا وعصِيَّنا .

قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)

قوله : { قَالَ أَلْقَوْاْ } وفيه سؤالٌ : وهو أنَّ إلقاءهم كان سحراً ومعارضة للمعجزة ، وذلك كفر ، فكيف يجوز لموسى - عليه الصلاة والسلام - أن يأمُرَهُم به؟ .
والجوابُ من وجوه :
أحدها : أنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنما أمرهم بشرط أنْ يعلموا في فعلهم أن يكون حقّاً ، فإذا لم يكن كذلك فالأمرُ هناك كقول القائل لغيره : اسقني الماء من الجرَّةِ ، فهذا الكلامُ إمَّا أن يكون بشرط حصول الماء في الجرَّةِ ، فأمَّا إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألْبَتَّةَ كذلك هاهنا .
قال الفرَّاءُ : « المعنى : ألْقُوا إن كنتم مُحِقِّين ، وألقوا على ما يصح ويجوز » .
وقيل : تهديدٌ لهم أي : ابتدأوا بالإلْقَاءِ فسترون ما يحل بكم في الافتضاح .
وثانيها : أنَّ القوْمَ إنَّمَا جاءُوا لإلقاء تلك الحبال والعصي ، وعلم موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - أنَّهم لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التَّخيير في التَّقْدِيم والتَّأخير ، فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراءً لشأنهم ، وقلَّة مبالاته بهم وثقة بما وعده اللَّهُ به من التَّأييد ، وأنَّ المعجزة لن يغلبها سحر أبداً ، ولأنَّ الأمر لا يستلزمُ الإرادة .
وثالثها : قوله عليه السلامُ كان يريدُ إبطال ما أتوا به من السحر وذلك لا يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله مثل من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها فيقول له : هات وقل واذكرها ، وبالغ في تقريرها ، ومراده من ذلك أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة فإنَّهُ يظهر لكل أحدٍ ضعفها وسقوطها ، فكذا هاهنا .
وقال الفرَّاء : في الكلام حذفٌ ، والمعنى : قال لهم موسى : إنكم لن تغلبوا ربَّكم ، ولن تبطلوا آياته ، وهذا من معجزات القرآن الذي لا يأتي مثله في كلامِ الناس ولا يقدرون عليه يأتي اللفظ اليسير بجميع المعاني الكثيرة .
وإنما أمرهم تعجيزاً لهم وقطعاً لشبهتهم واستبطالهم ، ولئلا يقولوا : لو تركنا نَفْعَلُ لَفَعَلْنَا بمعانٍ كثيرة .
قوله : { فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس } .
قال القاضي : « لو كان السِّحْرُ حقّاً لكانوا قد سحروا قلوبهم ، لا أعينهم ، فثبتَ أنَّ المُرَاد أنَّهم تخيَّلُوا أحوالاً عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفقِ ما تَخَيَّلُوهُ » .
وقال الواحديُّ : « بل المرادُ : سَحَرَوا أعْيُنَ النَّاسِ ، أي قلبوها عن صحَّةِ إدراكها ، بسبب تلك التَّمْوِيهاتِ » .
وقيل : إنهم أتوا بالحِبالِ والعصيِّ ولطَّخوا تلك الحِبالَ بالزِّئْبَقِ وجعلوا الزِّئبقَ في دواخل تلك العصي ، فلمَّا أثر تَسْخين الشَّمْسِ فيها تحركت والتوى بعضها على بعض ، وكانت كثيرةً جداً فتخيَّل النَّاسُ أنَّها تتحرَّك وتلتوي باختيارها وقدرتها .
قوله تعالى : { واسترهبوهم } يجوز أن يكون استفعلَ فيه بمعنى أفعل أي : أرهبوهم ، وهو قريب من قولهم : قرّ واستقرّ ، وعظّم واستَعْظَمَ وهذا رأي المبرِّدِ .

ويجوز أن تكون السين على بابها ، أي استدعوا رهبة النَّاس منهم ، وهو رأي الزجاج .
روي أنَّهم بَعثُوا جماعة يُنَادُونَ عند إلْقاءِ ذلك : أيها الناس احْذَرُوا . وروي عن ابن عباس أنَّهُ خيل إلى موسى أن حبالهم وعصيهم حيَّاتٌ مثل عصا موسى ، فأوحى الله - عزَّ وجلَّ - إليه { أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } .
وقال المحققون هذا غير جائزِ؛ لأنَّه - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لما كان نبياً من عند اللَّه كان على ثقة ويقين من أنَّ القوم لَنْ يغلبوه ، وهو عالم بأن ما أتَوْا به على وجه المعارضة من باب السحر والباطل ، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف .
فإن قيل : ألَيْسَ أنَّهُ تعالى قال : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } [ طه : 67 ] .
فالجوابُ : ليس في الآية أن هذه الخيفة إنَّما حصلت لهذا السَّبب ، بل لعله عليه [ الصَّلاةِ ] والسَّلام خاف من وقوع التَّأخير في ظهور حجّته على سحرهم ثم قال تعالى : { وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } أي عندهم؛ لأنه كان كثيراً . روي أنَّ الأرض كانَتْ ميلاً في ميل فامتلأت حيات يركبُ بعضها بعضاً .

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

يجوز في « أن » : أن تكُون المفسِّرة لمعنى الإيحَاءِ .
ويجوزُ أنْ تكون مصدريّةً؛ فتكونُ هي ، وما بعدها مفعول الإيحَاءِ .
قوله : { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } قرأ العامَّةُ : « تَلَقَّفُ » بتشديد القافِ ، من « تَلَقَّفَ » والأصلُ : « تَتَلَقَّفُ » بتاءيْنِ ، فحذفت إحداهُمَا ، إمَّا الأولى ، وإمَّا الثانية وقد تقدَّم ذلك في نحو { تَتَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] .
والبزِّيُّ : على أًلها في إدغامِهَا فيما بعدها ، فيقرأُ : « فإذا هي تَّلَقَّفُ » بتشديد التاء أيضاً ، وقد تقدم تحقيقه عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } [ البقرة : 267 ] .
وقرأ حفصٌ « تَلْقَفُ » بتخفيف القافِ من « لَقِفَ » ك « عَلِمَ يَعْلَمُ » ، ورَكِب يَرْكَبْ « .
يقال : لَقِفْتُ الشَّيءَ ألْقَفُهُ لَقْفاً ، ولَقَفَاناً ، وتَلقفتُهُ أتَلقَّفُهُ تَلَقُّفاً : إذا أخَذْتهُ بِسُرعةٍ ، فأكَلْتَهُ أو ابْتَلَعْتَهُ .
وفي التفسير : أنها ابتلعَتْ جميع ما صَنَعُوه ، وأنشدُوا على : لَقِفَ يَلْقَفُ ، ك » عَلِمَ يَعْلَمُ « قول الشَّاعِر : [ السريع ]
2543 - وأنتَ عَصَا مُوسَى الَّتي لَم تَزَلْ ... تَلْقَفُ مَا يَصْنَعُهُ السَّاحِرُ
ويُقَالُ : رَجُلٌ ثقفٌ لقفٌ ، وثَقِيفٌ لَقِيفٌ ، بَيِّن الثَّقافة واللَّقَافة . ويُقَالُ : لَقِفَ ولَقِمَ بمعنى واحدٍ ، قاله أبُو عُبيدٍ .
ويقالُ : تَلْقَفُ ، وتَلْقَمُ ، وتَلْهَمُ : بمعنىً واحدٍ .
والفَاءُ في » فإذَا هِيَ « يجوزُ أن تكُون العاطفة ، ولا بُدَّ من حَذْفِ جملةٍ قَبْلهَا ليترتَّبَ ما بعد الفاءِ عليها ، والتقديرُ : » فألْقَاهَا فإذا هِيَ « .
وَمَنْ جوَّز أن تكون الفاءُ زائدةً في نحو : » خَرَجْتُ فإذا الأسَدُ حَاضِرٌ « جوَّز زيادتها هُنَا .
وعلى هذا فتكونُ هذه الجملةُ قد أوحيت إلى موسى كالَّتي قَبْلَهَا .
وأمَّا على الأوَّل - أعني كون الفاءِ عاطفةً - فالجملةُ غير موحى بها إليه .
قوله : » مَا يَأفكونَ « يجوزُ في » ما « أن تكون بمعنى » الذي « والعائدُ محذوفٌ ، أي : الذي يأفِكُونهُ .
ويجوز أن تكُون » ما « مصدرية ، » والمصدر « حينئذٍ واقعٌ موقعَ المفعُولِ به ، وهذا لا حَاجةَ إلَيْهِ .
وذلك قولُهُ : { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يَجُوز أن تكون » ما « بمعنى » الذين « ، فيكونُ المعنى : بَطَلَ الحبالُ والعِصيُّ الذي عملوا به السِّحر : أي : زَالَ ، وذهب بِفُقْدانِهَا ، وأن تكون مصدرية ، أي : وبطل الذي كانوا يعملونه ، أو عملهم .
وهذا المصدرُ يجوزُ أن يكون على بابه .
وأن يكون واقعاً موقع المفعول به . بخلاف » مَا يَأفكُون « فإنَّ يتعيَّنُ أن يكُونُ واقعاً موقع المفعُول به ليصحَّ المعنى؛ إذ اللَّقْفُ يستدعي عَيْناً يصحُّ تسلُّطُه عليها .
ومعنى الإفكِ في اللُّغةِ : قلبُ الشَّيءِ عن وجْههِ ، ومنه قِيلَ للكذبِ إفْكٌ ، لأنَّهُ مقلْوبٌ عن وجهه .
قال ابنُ عبَّاسٍ : » مَا يَأفِكُونَ « يُريدُ : يَكْذِبُونَ ، والمعنى : أنَّ العصا تلقَفُ ما يأفِكُونَهُ ، أي : يَقْلِبُونَهُ عن الحَقِّ إلى البَاطِلِ .

قوله : { فَوَقَعَ الحَقُّ « قال مُجاهدٌ والحسنُ : ظَهَرَ .
وقال الفرَّاءُ : » فتبيَّنَ الحَقُّ مِنَ السِّحْرِ « .
قال أهْلُ المعاني : الوُقُوعُ : ظُهُورُ الشَّيءِ بوجوده نازلاً إلى مُسْتَقرَّهِ ، { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، من السِّحْرِ ، وذلك أنَّ السَّحرة قالوا : لئن كان ما صنعَ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - سِحراً لَبَقِيَتْ حبالُنا وعصينا ولم تُفْقَدْ ، فلما فقدت؛ ثَبَتَ أنَّ ذلك من أمر الله .
قال القَاضِي : قوله : » فَوَقَعَ الحَقُّ « : يفيد قُوَّة الظُّهُورِ والثُّبُوتِ بحيثُ لا يَصحُّ فيه البُطلان كما لا يَصِحُّ في الواقعِ أن يصيرَ إلاَّ واقعاً .
فصل
قلت : فإن قيل : قوله : » فوقع الحَقُّ « يدُلُّ على قوَّةِ الظَّهُورِ .
فكان قوله : { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تكريراً .
فالجوابُ : أنَّ المرادَ : مع ثبوت الحقِّ زالت الأعيانُ الَّتي أفكوها ، وهي الحِبَالُ والعصا ، فعند ذلك ظهرت الغلبةُ .
فصل
قوله : » فَغَلِبُوا هُنالِكَ « يجوزُ أن يكون مكاناً ، أي : غُلِبُوا في المكانِ الذي وقع فيه سحرهم ، وهذا هو الظَّاهِرُ .
وقيل : يجوزُ أن يكون زماناً ، وهذا ليس أصْلُهُ ، وقد أثبت لَهُ بعضهم هذا المعنى بقوله تعالى : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } [ الأحزاب : 11 ] .
ويقول الآخر : [ الكامل ]
2544 - .. فَهُنَاكَ يَعْترفُونَ أيْنَ المَفْزَعُ؟
ولا حُجَّةَ فيهما ، لأنَّ المكانَ فيهما واضحٌ .
قوله : » وانقلبُوا صاغرينَ « أي : ذليلين مقهورين . وصاغرين حالٌ من فاعل انقلبُوا والضميرُ في انقلبُوا يجوزُ أن يعودَ على قوم فرعون وعلى السَّحرةِ ، إذا جعلنا الانقلابِ قبل إيمان السحرةِ ، أو جعلنا انقلبُوا بمعنى : صاروا ، كما فسَّره الزمخشريُّ ، أي : صاروا أذلاَّءَ مبهوتين مُتَحَيِّرين .
ويجوز أن يعودَ عليهم دُونَ السَّحرةِ إذا كان ذلك بعد إيمانهم ، ولم يجعلْ انْقلبُوا بمعنى : صاروا : لأنَّ اللا لا يَصِفُهُم بالصَّغَارِ بعد إيمانهم .
قوله : { وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } .
قال مقاتل : » ألْقاهُمُ اللَّهُ « . وقيل : ألهمهم اللَّهُ أنْ يسجدُوا فَسَجَدُوا .
قال الأخفشُ : من سرعة ما سَجدُوا كأنَّهم ألقوا .
ف » ساجدين « حال من السَّحرة ، وكذلك قالوا أي ألقوا ساجدين قائلين ذلك ، ويجوزُ أن يكُون حالاً من الضَّمير المستتر في ساجدينَ .
وعلى كلا القولين هُمْ متلبِّسُون بالسُّجُودِ للَّهِ تعالى .
ويجوزُ أن يكون مستأنفاً لا محلَّ له ، وجعله أبُو البقاءِ حالاً من فاعل » انْقَلَبُوا « ، فإنَّهُ قال : » يجوزُ أن يكُون حالاً ، أي : فانْقَلَبُوا صاغرين « .
قالوا وهذا ليس بجيِّد للفصل بقوله » وَألقى السَّحرةُ « .
قوله : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } .
قال المفسِّرونَ : لما قالوا : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } قال فِرعونُ : إيّايَ تعنُون؛ فقالوا : { رَبِّ موسى وَهَارُونَ } ، ف : » ربِّ مُوسَى « يجوز أن يكون نعتاً ل : » ربِّ العالمينَ « ، وأن يكون بدلاً ، وأنْ يكون عطف بيان .
وفائدُ ذلك : نَفْيُ تَوَهُّم من يتوهَّمُ أنَّ رب العالمينَ قد يطلق على غير اللَّه تعالى ، لقول فرعونَ

{ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] وقدَّمُوا « مُوسَى » في الذِّكْرِ على « هَارُونَ » وإن كان هارون أسَنَّ منه ، لكبره في في الرُّتْبَةِ ، أو لأنَّهُ وقع فاصِلة هنا .
ولذلك قال في سورة طه : { بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } [ طه : 70 ] لوقوع « موسى » فاصلةً ، أو تكون كل طائفة منهم قالت إحدى المقالتين ، فنسبَ فعل البعض إلى المجمُوعِ في سورةٍ ، وفعل بعضهم الآخر إلى المجمُوعِ في أخرى .
فصل
احتجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بقوله تعالى : { وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } على أن غيرهم ألقاهُم ، وما ذاك إلاَّ اللَّهُ رب العالمين ، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلقُ الله تعالى .
وأجاب المُعتزِلَةُ بوجوهٍ :
أحدها : أنَّهُمْ لمَّا شاهدوا الآياتِ العظيمةَ ، لم يتمالَكُوا أن وقعوا ساجدين ، فصاروا كأنَّ مُلقِياً ألقاهُم .
وثانيها : ما تقدَّم من تفسير الأخفش .
وثالثها : أنَّهُ ليس في الآية أنَّ ملقياً ألقاهم ، فنقولُ ذلك المُلقي هُم أنفسُهم .
والجوابُ : أن خالق تلك الدَّاعيةِ في قلوبهم هو اللَّهُ تعالى ، وإلا لافتقر خَلْقُ تلك الدَّاعِيِةِ إلى داعيةٍ أخرى ، ولزم التَّسلسل ، وهو مُحَالٌ ، ثمَّ إن أصل القدرةِ مع تلك الدَّاعية الجازمة تصيرُ موجبةً للفعل ، وخالقُ ذلك الموجب هو اللَّهُ تعالىن فكان ذلك الفعل مُسنداً إلى اللَّهِ تعالى .
فصل
فإن قيل : إنَّهُ تعالى ذكر أوَّلاً أنَّهُمْ صاروا ساجدين ، ثمَّ ذكر بعد ذلك أنهم قالوا : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } .
فما الفائدة فيه مع أن الإيمان يجبُ أن يكون متقدِّماً على السُّجُودِ؟ .
فالجوابُ ، من وجوه ، أحدها : أنَّهُم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا للَّه تعالى في الحال ، وجعلوا ذلك السُّجُود شكراً لِلَّه تعالى على الفَوْزِ بالمَعْرفِة والإيمان ، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان ، وإظهاراً للتَّذلل ، فكأنَّهم جعلوا ذلك السُّجُود الواحد علامةً على هذه الأمور .
وثانيها : لا يبعد أنَّهُمْ عند الذهاب إلى السُّجود قالوا : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } .
فصل
فإن قيل : لمّا قالوا : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } دخل موسى وهارون في ملة العالمي ، فما فائدة تخصيصهما بعد ذلك؟
فالجواب من وجهين :
الأول : ان التقدير آمنا برب العالمين ، وهو الذي دعا إلى الإيمان به وبموسى وهارون .
الثاني : خَصَّهُمَا بالذِّكْرِ تشريفاً ، وتفضيلاً كقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
قوله : « آمنتم » اختلف القرَّاءُ في هذا الحرف هنا ، وفي طه وفي الشعراءِ ، فبعضهم جرى على منوالٍ واحد ، وبعضهم قرأ في موضع بشيءٍ لمْ يقرأ بِهِ في غيره ، وهم في ذلك على أربع مراتب .
الأولى : قراءة الأخوينِ ، وأبي بكر عن عاصمٍ بتحقيق الهمزتين في السُّور الثَّلاثِ من غير إدخال ألف بينهما ، وهو استفهام إنكارٍ ، وأمَّا الألفُ الثَّالثة فالْكلُّ يَقْرءُونَهَا كذلك ، لأنَّهَا فاءُ الكلمة ، أبدلتْ لسكونها بعد همزة مفتوحة ، وذلك أنَّ أصْلَ هذه الكلمةِ أَأَأْمنْتم بثلاثِ همزاتٍ : الأولى للاستفهام ، والثَّانيةُ همزة « أفْعَلَ » ، والثَّالثةُ فاء الكلمة ، فالثَّالثة يجبُ قبلها ألفاً ، لما تقدم أوَّل الكتاب ، وأمَّا الأولى فمُحَقَّقه ليس إلاَّ ، وأمَّا الثَّانيةُ فهي الَّتي فيها الخلاف بالنِّسبة إلى التَّحقيقِ والتَّسْهيلِ .

الثانية : قراءة حفص وهي « منتم » بهمزة واحدة بعدها الألفُ المشار إليها في جميع القرآن ، وهذه القراءةُ تحتمل الخبرَ المَحْضَ المتضمِّنَ للتَّوبيخ ، وتحتمل الاستفهامَ المشارَ إليه ، ولكنه حُذِفَ لفهم المعنى ، ولقراءة الباقين .
الثالثة : قراءة نافعٍ وابن عمروٍ وابن عامر والبزِّي عن ابن كثير وهي تحقيقُ الأولى ، وتسهيلُ الثانية بين بين ، والألف المذكورة ، وهو استفهام إنكاري ، كما تقدم .
الرابعة : قراءةُ قنبلٍ عن ابنِ كثير ، وهي التَّفرقةُ بين السُّور الثَّلاثِ .
وذلك أنَّهُ قرأ في هذه السُّورة حال الابتداء ب « أآمنتم » بهمزتين ، أولاهما محققة والثَّأنية مُسَهَّلة بَيْنَ بَيْنَ وألف بعدها كقراءة البزِّي ، وحال الوصل يقرأ : « قَالَ فِرْعَوْنُ وآمَنْتُم » بإبدال الأولى واواً ، وتسهيل الثَّانية بين بين وألف بعدها ، وذلك أنَّ الهمزة إذا كانت مفتوحةً بعد ضمَّةٍ جاز إبدالُهَا واواً سواء أكانت الضَّمَّةُ والهمزةُ في كلمةٍ واحدةٍ نحو : مُرْجَؤونَ ، و { يُؤَاخِذُكُمُ } [ البقرة : 225 ] ومُؤجَّلاً أم في كلمتنين كهذه الآيةِ ، وقد فعل ذلك أيضاً في سورة الملك في قوله : { وَإِلَيْهِ النشور أَأَمِنتُمْ } [ الملك : 15-16 ] فأبدلَ الهمزةَ الأولى واواً ، لانضمام ما قَبْلهَا حال الوصل ، وأمَّا في الابتداءِ فيخففها لزوال الموجبِ لقلبها ، إلاَّ أنَّه ليس في سورة الملكِ ثلاثُ همزاتٍ ، وسيأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في موضعه .
وقرأ في سورة طه كقراءة حفص : أعني بهمزة واحدة بعدها ألف ، وفي سورة الشعراء كقراءة رفيقه الزّيّ ، فإنَّهُ ليس قبلها ضمة؛ فيبدلها واواً في حال الوصل .
ولم يُدخلْ أحدٌ من القراء مدّاً بين الهمزتين هنا سواءً في ذلك من حقَّق أو سهَّل ، لئلاَّ يجتمع أربعُ متشابهاتٍ ، والضميرُ في « به » عائدٌ على اللَّهِ تعالى لقوله : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } ويجوزُ أن يعود على موسى ، وأمَّا الذي في سورة طه والشعراء في قوله { آمَنتُمْ بِهِ } فالضَّميرُ لموسَى لقوله { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ } .
فصل
اعلم أنَّ فرعون لمَّا رأى إيمان السَّحرةٍ بنبوة موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - عند اجتماع الخلق خاف من أن يصير ذلك حجّة قويَّة على صحَّةِ نبوة موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فألقى في الحالِ شبهتين إلى أسْماعِ العوامِّ؛ ليمنع القوم من اعتقاد نُبوةِ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
الأولى : قوله : { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة } أي : إنَّ إيمان هؤلاء بموسى ليس لقوة الدَّليل بل لأنَّهم تَوَاطَئُوا مع مُوسى أنَّه إذا كان كذا وكذا فنحن نُؤمن بِك .
الثانية : أنَّ غرض موسى والسَّحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة ، وإبطال ملكهم .
ومعلوم عند جمع العقلاء أنَّ مُفارقَةَ الوطنِ والنِّعْمَة المألوفة من أصعبِ الأمور فجمع فرعون اللّعينُ بين الشُّبهتين ، ولا يوجد أقوى منهما في هذا الباب .

وروى محمَّدُ بنُ جريرٍ عن السُّدِّي في حديثٍ عن ابن عباس ، وابن مسعودٍ وغيرهما .
من الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين أن موسى عليه السلام وأمير السحرة التقيا فقال موسى - عليه الصلاة والسلام - : أرأيتك إن غلبتك أن تؤمن بي وتشهدَ أنَّ ما جِئتُ به الحقّ؟ فقال الساحر : واللَّهِ لئن غلبتني لأومِنَنَّ بك ، وفرعون ينظر إليهما ويسمعُ قولهما ، فهذا قولُ فرعون : { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة } .
قال القاضي : وقوله { قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ } دليلٌ على مناقضة فرعون في ادِّعاءِ الألوهية ، لأنَّهُ لو كان غلهاً لما جاز أن يأذنَ لهم في أن يُؤمنوا به مع أنَّهُ يدعثوهُمْ إلى إلهيَّةِ غيره ، وذلك من خذلان اللَّهِ الذي يظهرُ على المُبطلين .
قوله : « فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ » حُذِفَ مفعولُ العلم ، للعلم به ، أي : تعلمون ما يحلُّ بكم ، وهذا وعيدٌ مجمل ، ثُمَّ فَسَّرَ هذا المُبْهَمَ بقوله : « لأقَطَّعَنَّ » جاء به في جملةٍ قَسَمِيِّةِ؛ تأكيداً لِمَا يَفْعَله .
وقرأ مجاهدُ بنُ جبر ، وحميد المكي ، وابنُ مُحَيْصنٍ :
« لأقْطعَنَّ » مخففاً من « قَطَعَ » الثلاثي ، وكذا لأصْلُبَنّكُم من « صَلَبَ » الثلاثي .
رُوي بضم اللام وكسرها ، وهما لغتان في المضارع ، يُقال : صَلَبَهُ يَصْلُبُهُ ويَصْليُهُ .
قوله : « مِنْ خلافٍ » يُحتمل أن يكون المعنى : على أنَّهُ يقطع من كُلِ شقَّ طرفاً ، فيقطع اليدَ اليمنى ، والرِّجل اليسرى ، وكذا هو في التفسير ، فيكونُ الجارُّ والمجرور في محلِّ نصبٍ على الحال ، كأنَّهُ قال : مُختلفةً ، يُحْتملُ أن يكون المعنى : لأقَطَّعَنَّ لأجْلِ مخالفتكم إيَّاي فتكون « مِنْ » تعليليةً وتتعلَّق على هذا بنفس الفعل ، وهو بعيدٌ .
و « أجْمَعِينَ » تأكيدُ أتى به دون كلّ وإن كان الأكثرُ سبقهُ ب « كلّ » وجيء هنا ب « ثُمَّ » ، وفي : طه والشعراء بالواو ، لأن الواو صالحةٌ للمُهْلة ، فلا تَنَافِيَ بين الآيات .
فصل
اختلفوا هل فعل بهم ذلك أم لا؟ فنقل عن ابْنِ عبَّاسٍ أنَّهُ فعل بهم ذلك .
وقال غيره : لم يقع من فرعون ذلك ، بل استجاب اللَّه دعاءهم في قولهم : « وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ » .
وقوله : { إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } جَوَّزُوا في هذا الضَّمير وجهين ، أحدهما : أنَّهُ يَخُصُّ السَّحرةَ ، لقوله بعد ذلك { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ } فإنَّ الضَّميرَ في مِنَّا يَخُصُّهُمْ .
وجَوَّزُوا أن يعود عليهم ، وعلى فرعون ، أي : إنَّا - نحن وأنت - ننقلب إلى للَّهِ ، فيُجازي كلاًّ بعمله ، وهذا وإن كان هو الواقعَ إلاَّ أنَّهُ ليس من هذا اللَّفظِ .
قوله وَمَا تَنقِمُ قد تقدَّم في المائدةِ أنَّ فيه لغتين وكيفية تعدِّيه ب « مِنْ » وأنَّهُ على التَّضمين .
وقوله : { إلاَّ أنْ آمنَّا } يجوز أن يكون في محلَِّ نصبٍ مفعولاً به ، أي : ما تَعِيبُ علينا إلاَّ إيماننا ويجوزُ أن يكون مفعولاً من أجله ، أي : ما تنال مِنَّا وتعذِّبنا لشيءٍ من الأشياء إلاَّ لإيماننا وعلى كلا القولينِ فهو استثناءٌ مفرغ .

قوله « لَمَّا جَاءَتْنَا » يجوزُ أن تكون ظرفيةً كما هو رأي الفارس ، وأحد قولي سيبويه ، والعامِلُ فيها على هذا آمَنَّا أي : آمنَّا حين مجيء الآيات ، وأن تكون حرف وجوب لوجوب ، وعلى هذا فلا بدَّ لها من جواب وهو محذوف تقديره : لما جاءتنا آمّنا بها من غير توقّف .
قوله : « لَمَّا جَآءَتْنَا » معنى الإفراغ في اللَّغَةِ : الصَّبُّ . وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه بالكليَّة ، فكأنَّهُمْ طلبوا من اللَّه كلَّ الصَّبْرِ لا بعضه .
ونكَّرُوا « الصَّبْر » وذلك يدلُّ على الكمالِ والتَّمَامِ ، أي : صبراً كَاملاً تاماً ، كقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] أي : على حياة كاملة تامَّةٍ .
وقوله : { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي : توفنا على الدِّين الحقِّ الذي جاء بِهِ موسى . واحْتَجَّ القاضي بهذه الآية على أنَّ الإيمان والإسلامَ واحد .
فقال : إنَّهُم قالوا أوَّلاً : { آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا } ، ثمَّ ثانياً ، « وَتَوَفَّنَا مُسْلِمينَ » ، فوجب ان يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان .
قوله : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض } .
[ اعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف ، فلهذا لم يحبسه ولم يتعرض له بل خلى سبيله ، فقال له قومه : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ] .
أي : يُفسدوا على النَّاسِ دينَهُمْ .
قوله : « وَيَذَركَ » العامةُ « ويَذَرَكَ » بالغيبةِ ، ونصب الرَّاءِ ، وفي النَّصْبِ وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ عطف على « لِيُفْسِدُوا » والثاني : أنَّهُ منصوبٌ على جواب الاستفهام كما يُنْصب في جوابه بعد الفاء؛ كقول الحُطيئةِ : [ الوافر ]
2545 - ألَمْ أكُ جَارَكُمْ ويكُونَ بَيْنِي ... وبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإخَاءُ؟
والمعنى : كيف يكون الجمعث بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين ، وبين تركهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك ، أي : لا يمكن وقوعُ ذلك .
وقرأ الحسنُ في رواية عنه ونعيمُ بن ميسرة « وَيَذَرُكَ » برفع الرَّاء ، وفيها ثلاثة أوُجه :
أظهرها : أنَّه عطف نسق على « أتذر » أي : أتطلق له ذلك .
الثاني : أنه استئناف أي ، إخبار بذلك .
الثالث : أنَّهُ حالٌ ، ولا بدَّ من إضمارِ مبتدأ ، أي : وهو يَذَرُكَ .
وقرأ الحسنُ أيضاً والأشهبُ العُقَيْلِيُّ « وَيَذَرْكُ » بالجزم ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّه جزم على التَّوهُّم ، كأنه توهَّم جزم « يُفْسِدُوا » في جواب الاستِفْهَامِ وعطف عليه بالجزمِ ، كقوله : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] بجزم « أكُنْ » .
والثاني : أنَّهَأ تخفيفٌ كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] وبابه .
وقرأ أنس بن مالك « ونَذَرُكَ » بنون الجماعة ورفع الرَّاءِ ، تَوَعَّدُوهُ بذلك ، أو أنَّ الأمْرَ يؤولُ إلى ذلك فيكونُ خبراً محضاً . وقرأ عبد الله والاعمش بما يخالف السَّوادَ ، فلا حاجة إلى ذكره .
وقرأ العامةُ « آلهَتَكَ » بالجمع .

رُوِيَ أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبَقَرِ ، ولذلك أخرجَ السَّامري لهم عجلاً ، ورُوي أنَّهُ كان يعبدُ الحِجارةَ والكواكب ، أو آلهتَه التي شَرَعَ عبادَتَها لهم وجعل نَفْسَهُ الإله الأعلى في قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] .
وقرأ علي بنُ أبي طالب ، وابنُ مسعود ، وابن عبَّاسٍ ، وأنسٌ وجماعة كثيرةٌ « وإلاهتكَ » ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّ « الإلاهَةَ » اسمٌ للمعبود ، ويكونُ المرادُ بها معبودَ فرعون ، وهي الشَّمْسُ .
رُوى أنَّهُ كان يعبُد الشَّمْسَ ، والشَّمْسُ تُسَمَّى « الإهَةً » ، عَلَماً عليها ، ولذلك مُنِعَت الصَّرف ، للعمليَّة والتأنيث؛ قال الشَّاعرُ : [ الوافر ]
2546 - تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّغْباءِ عَصْراً ... فأعْجَلْنَا الإلهَةَ أنْ تَئُويَا
والثاني : أنَّ الإلاهة مصدرٌ بمعنى العبادة ، أي وتذرُ عبادتك ، لأنَّ قومه كانوا يعبدونه .
ونقل ابنُ الأنْباري عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ كان يُنكر قراءة العامَّة ، ويقرأ « وإلاهتك » ، وكان يقول : إنَّ فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ .
قال ابنُ الخطيبِ : والذي يخطر ببالي أنَّ فرعون إن قلنا : إنَّه ما كان كامل العقل لم يَجُزْ في حكم اللَّهِ تعالى إرسال الرسول إليه ، وإن كان عَاقِلاً لم يَجُز أنْ يعتقدَ في نفسه كونه خالقاً للسَّمواتِ والأرضِ ، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك ، لأنَّ فسادهُ معلوم بالضَّرُورةِ ، بل الأقربُ ان يقال : إنَّهُ كان دَهْرياً مُنكراً لوجود الصَّانِع ، وكان يقُولُ : مُدبِّرُ هذا العالم السُّفْلي هو الكواكِبُ ، وأنا المخدوم في العالمِ للخلق ، والمُربي لهم فهو نفسه .
فقوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] أي : مُرببكم والمنعم عليكم والمطعم لكم .
وقوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] أي : لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلاَّ أنا ، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنَّهُ كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب يعبدها ، ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب ، وعلى هذا فلا امتناع في حمل قوله تعالى : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } على ظاهره .
قوله : « قَالَ سَنُقَتِّلُ » قرأ نافعٌ وابْنُ كثير بالتخَّفيفِ سنقتل والباقون بالتضعيف لتعدُّد المحالّ . وسيأتي أنَّ الجماعة قَرَءُوا « يُقَتِّلُونَ أبناءكم » بالتضعيف إلاَّ نافعاً فيخفف .
فتخلص من ذلك انَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف ، وابن كثير يُخَفف « سنَقْتُل » ويثقل « يُقَتِّلُونَ » ، والباقون يثقِّلونها .
قوله : « ونستحيي نِسَاءهُمْ » . أي نتركهم أحياء . والمعنى : أنَّ موسى إنَّما يُمْكنه الإفسادُ برهطه وبشيعته فنحنُ نسسعى في تقليل رهطه وشيعته ، بأنْ نقتِّلَ أبناء بني إسرائيل ، ونستحيي نساءهم .
ثم بَيِّن أنَّهُ قادرٌ على ذلك بقوله : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } أي : إنَّمَا نترك موسى لامِنْ عجزٍ وخوفٍ ، ولو أردنا البَطْشَ به لقدرنا عليه .
قال ابنُ عباس : أمر فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل ، فشكت ذلك بنو إسرائيل إلى موسى ، فقال لهم مُوسَى : { استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الأرض للَّهِ } يعني أرض مصر .

قوله : « يُورِثهَا » في محلِّ نصب على الحَالِ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : الجلالة ، أي هي له حال كونه مُورِثاً لها من يشاؤه .
والثاني : أنَّه الضَّميرُ المستترُ في الجَارِّ أي : إنَّ الأرضَ مستقرة للَّهِ حال كونها مُوَرَّثَةً من الله لمن يشاءُ ، ويجوز أن يكون « يُورِثُهَا » خبراً ثانياً ، وأنْ يكون خبراً وحده ، و « لِلَّهِ » هو الحالُ ، و « مَن يشاءُ » مفعولٌ ثاني ويجوزُ أن تكون جملةً مستأنفة .
وقرأ الحسنُ ، ورُويت عن حفص « يُوَرِّثُهَا » بالتشديد على المبالغة ، وقرئ « يُورَثها » بفتح الراء مبنياً للمفعول ، والقائم مقام الفاعل هو : « مَن يَشَاءُ » . والألفُ واللاَّم في « الأرض » يجوزُ أن تكون للعهدِ ، وهي أرضُ مصر كما تقدَّم ، أو للجنس ، وقرأ ابن مسعود بنصب « العَاقِبَة » نسقاً على الأرض و « للمتَّقينَ » خبرُها ، فيكون قد عطف الاسم على الاسم ، والخبر على الخبر فهو مِنْ عطف الجمل .
فصل
قال الزخشريُّ : فإن قلت : لِمَ أخليَتْ هذه الجملة من الواو وأدخلتْ على الَّتي قبلها؟ .
قلت : هي جملةٌ مبتدأةٌ مستأنفةٌ ، وأمَّا : « وقَالَ الملأ » فهي معطوفة على ما سبقها من قوله : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ } . والمرادُ من قوله : « والعاقِبَةُ » أي النَّصْرُ والظفر ، وقيل : الجَنَّةُ .
فصل
قوله : { قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } . لما هدَّد فرعونُ قوم موسى وتوعدهم خافوا ، و { قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا } لأنَّهم كانُوا قبل مجيء موسى - عليه الصلاة والسلام - كانوا مستضعفين في يد فرعون ، يأخذُ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمالِ الشَّاقة ، ويمنعهم من الترفة ، ويقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، فلمَّا بعث اللَّهُ موسى - عليه الصَّلاة والسلام - قوي رجاؤُهم في زوال تلك المضار ، فلما سمعوا تهديدَ فرعون ثانياً عظُم خوفُهثم ، فقالوا هذا الكلام .
فصل
فإن قيل : هذا القول يدلُّ على كراهتهم مجيء موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك يوجب الكفر .
فالجواب : أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لمَّا جاء وعدهم بزوال تلك المضار فَظَنُّوا أنَّهَا تزول على الفور ، فلَّما رأوا أنَّهَا ما زالت رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد ، فبيَّن لهم موسى - عليه السلام - أن الوعدَ بإزالتها لا يُوجِب الفور ، بل لا بدَّ أن يستنجزَ ذلك الوعد في الوقت المقدر لَهُ .
فالحاصل أنَّ هذا ما كان نُفرةً عن مجيء موسى بالرِّسالةِ ، بل استكشافاً لكيفية ذلك .
فعند هذا قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } . قال سيبويه : « عَسَى » طمع وإشفاق . قال الزَّجَّاجُ : وما يطمع اللَّه فيه فهو واجب .
ولقائل أن يقول : هذا ضعيف؛ لأنَّ لفظ « عسى ههنا ليس كلام اللَّه بل هو حكاية عن كلام موسى ، ويُجاب بأنَّ هذا الكلامِ إذا صدر عن الرسول الذي ظهرت نبوته بالمعجزات أفاد قوة اليقين فَقَوَّى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - قلوبهم بهذا القولِ وحقَّق عندهم الوعدَ ليصبروا ويتركوا الجزع المذموم .

قال القرطبي : « جَدَّدَ لهم الوعدَ وحقَّقَهُ . وقد استُخلفوا في مصر في زمن داود وسليمان - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ، وفتحثوا بيت المقدس مع يُوشع بن نون كما تقدم ، وروي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى ، وتبعهم فرعون ، فكان وراءهم ، والبحرُ أمامهم ، فحقَّقَ اللَّه الوعد : بأن غرق فرعون وقومه ، وأنجاهم » .
ثُم بيَّن بقوله : { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } ما يَجْرِي مجرى الحثِّ له على التَّمسُّك بطاعة اللَّهِ .
واعلم أنَّ النظر قد يُراد به النَّظر الذي يفيد العِلْمَ ، وهو على اللَّهِ محال ، وقد يُرَادُ به تقليب الحدقة نحو المرئيّ التِمَاساً لرؤيته وهو أيضاً على اللَّهِ محال ، وقد يراد به الرُّؤية ، ويجب حملُ اللَّفْظِ ههنا عليها .
قال الزَّجَّاجُ : أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم ، لأنَّ اللَّه تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم وإنَّمَا يجازيهم على ما يقعُ منهم .
فإن قيل : إذا حملتم هذا النَّظَر على الرُّؤيَةِ لزم الإشكالُ ، لأن الفاءَ في قوله : « فَيَنْظُرَ : » للتعقيب ، فيلزم أن تكون رؤية اللَّهِ لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعْمَالِ ، وذلك يُوجِبُ حُدُوث صفة في ذات اللَّهِ .
فالجواب : أن المعنى تعلُّق رؤية اللَّه تعالى بذلك الشَّيءِ ، والتَّعلق نسبة حادثة ، والنِّسَبُ والإضافاتُ؛ لا وجود لها في الأعيانِ ، فلم يلزم حدوث الصِّفةِ الحقيقية في ذات اللَّهِ تعالى .
وقد حَقَّقَ اللَّهُ ذلك الوعدَ ، فأغرق فرعون واستخلفهم في ديارهم ، وأموالهم؛ فعبدُوا والعِجْلَ .

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)

لما قال موسى لقومه : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } [ الأعراف : 29 ] بدأ بذكر ما أنزل بفرعون وقومه من المِحَنِ حالاً بعد حال ، إلى أن وصل الأمرُ إلى الهلاكِ تنبيهاً للمكلَّفين على الزَّجْرِ عن الكفر .
« والسِّنينَ » : جمعُ سنة ، وفيها لغتان أشهرهما : إجْرَاؤُهُ مُجرَى المُذكر السَّالم فيُرفع بالواو ويُنْصَبُ ويُجَرُّ بالياء ، وتُحْذَفُ نُونُه للإضافة .
قال النُّحَاةُ : إنَّمَا جرى ذلك المجرى جَبْراً لما فاته من لامة المحذوفةِ ، وسيأتي في لامه كلامٌ ، واللغة الثانيةُ : أن يُجْعَلَ الإعرابُ على النُّون ولكن مع الياء خاصَّةً . نقل هذه اللُّغة أبُو زيد والفراءُ . ثم لك فيها لغتان : إحدهما : ثبوتُ تنوينها . والثانية : عدمهُ .
قال الفرَّاءُ : هي في هذه اللُّغة مصروفة عند بني عامر ، وغير مصروفة عند بني تميم ، ووجه حذف التنوين التَّخفيف ، وحينئذ لا تُحْذَفُ النُّون للإضافة وعلى ذلك جاء قوله : [ الطويل ]
2547 - دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سِنِينَهُ ... لَعْبِنَ بِنَا شيباً وشَيِّبْنَنَا مُرْدَا
وجاء في الحديث : « اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سنينَ كَسِنِي يُوسُفَ » « وسِنيناً كسِنِينِ يُوسفُ » باللُّغتين ، وفي لام سَنَةٍ لغتان ، أحدهما : أنَّهَا واو لقولهم : سنوات وسَانَيْتُ ، وسُنَيَّةٌ . الثانية : أنَّها هاء لقولهم : سانَهْتُ وسَنَهَات وسُنَيْهَة ، وليس هذا الحكمُ المذكور أعني : جريانه مجرى جمع المذكر أو إعرابه بالحركات مقتصراً على لفظ « سِنينَ » بل هو جارٍ في كلِّ اسم ثلاثي مؤنث حُذِفَتْ لامُهُ ، وعُوِّضَ منها تَاءُ التَّأنيثِ ، ولم يُجْمَع جمع تكسير نحو : ثُبَةٍ وثُبين ، وقُلة ، وقُلينَ .
فصل
قال شهابُ الدِّين : « وتَحرَّزْتُ بقولي : حُذِفَتْ لامُه مِمَّا حُذِفَتْ فاؤه ، نحو : لِدة وعِدَة .
وبقولي ولم يُجْمع جمع تكسير من ظُبَةٍ وظُبّى ، وقد شَذَّ قولهم : لِدُونَ في المحذوف الفاء ، وظِبُونَ في المكسَّر .
2548 - يَرَى الرَّاءُونَ بالشَّفرَاتِ مِنْهَا ... وقُودَ أبِي حُبَاحِبَ والظُّبِينَا
واعلم أنَّ هذا النَّوَع إذَا جَرَى مَجْرَى الزيدينَ فإنْ كان مكسورَ الفاء سَلِمَتْ ، ولم تُغَيَّر نحو : مائة ومئين ، وفئة وفئين ، وإنْ كان مفتوحها كُسِرَتْ نحو : سنين ، وقد نُقِلَ فَتْحُها وهو قليلٌ جدّاً ، وإن كان مضمومَهَا جاز في جمعها الوجهان : أعني السَّلامة ، والكسر نحو : ثُبين وقُلين .
قال أبُو عَلِي : السَّنة على معنيين : أحدهما : يراد بها العام . والثاني : يراد بها الجدْب .
وقد غلبت السَّنَةُ على زمانِ الجدْبِ ، والعام على زمان الخصب حتى صَارَا كالعلم بالغلبة ولذلك أشتقُّوا من لفظ السَّنَةِ فقالوا : أسْنَتَ القَوْمُ .
قال : [ الكامل ]
2549 - عَمْرُوا الذي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنتُونَ عِجَافُ
وقال حاتم الطائِيُّ : [ الطويل ]
2550 - فإنَّا نُهِينُ المَالَ مِنْ غَيْرِ ضِنَّةٍ ... وَلاَ يَشْتَكِينَا في السِّنينَ ضَرِيرُهَا
ويُؤيِّدُ ذلك في سورة يوسف [ الآية 47 ] : » { تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً } ثم قال : { سَبْعٌ شِدَادٌ } [ يوسف : 48 ] فهذا في الجدب .
وقال : { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس }

[ يوسف : 49 ] .
وقوله : « مِنَ الثَّمَرَاتِ » متعلِّق ب « نَقْصٍ » .
قال قتادةُ : أمَّا السنُونَ فلأهل البوادي ، وأمَّا نقص الثَّمراتِ فلأهل الأمصار .
« لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُّونَ » يتَّعظون ، وذلك لأنَّ الشدة ترقق القلوب ، وترغب فيما عند اللَّهِ .
قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] .
فصل
قال القاضي : هذه الآية تدلُّ على أنَّهُ تعالى فعل ذلك لإرادة أن يذكَّرُوا وأنْ لا يقيموا على كفرهم ، وأجاب الواحديُّ : « بأنَّهُ قد جاء لفظا الابتلاء ، والاختبار في القرآن لا بمعنى أنَّه تعالى يمتحنهم ، لأنَّ ذلك على اللَّهِ مُحَالٌ ، بل إنَّ تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء ، والامتحان ، فكذا ههنا » .
ثم بيَّن أنَّهُم عند نزول تلك المحن عليهم يزيدون في الكُفْرِ ، والمعصيةِ .
فقال : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه } .
قال ابْنُ عبَّاسٍ : يُريد بالحسنةِ : العُشْبَ ، والخصب ، والمواضي ، والثَّمار وسعة الرزق ، والعافية ، أي : نحن أهلها ومستحقُّها على العادة فلم يشكروا ويقوموا لِلَّهِ بحق النِّعمة . { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : قَحْط وجدْب وبلاء ومرض : { يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } أي : يتشاءمُوا بموسى ، ومن معه ، ويقولُوا : إنَّمَا أصَابَنا هذا الشَّرُّ بِشُؤمِ مُوسَى وقومه .
قال سعيدُ بْنُ جبيرٍ ومحمَّدُ بنُ المُنْكَدرِ : كان مُلْكُ فرعون أربعمائة سنة ، وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروهاً ، ولو كان حصل لَهُ في تلك المُدَّة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لَمَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ قط .
فصل
أتى في جانب الحَسَنَة ب « إذا » الَّتي للمحقق ، وعُرِّفَتِ الحسنة ، لسعة رَحْمَةِ اللَّهِ تعالى ، ولأنَّها أمر محبوبٌ ، كلُّ أحدٍ يتمانه ، وأتى في جانب السيئة ب « إن » التي للمشكوك فيه ، ونُكِّرتِ السيئة ، لأنَّهُ أمرٌ كل أحدٍ يَحْذَره . وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال : فإن قلت : كيف قيل فإذا جَاءَتْهُمْ الحسنةُ ب « إذا » وتعريفُ الحسنة و { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } ب « إن » وتنكير السيئة؟
قلت : لأنَّ جنسَ الحسنة وقوعه كالواجب ، لكثرته واتِّساعه ، وأمَّا السَّيَّئةُ فلا تقع إلاَّ في الندرَةِ ، ولا يقع إلاَّ شيء منها ، وهذا من محاسن عِلْمِ البَيَانِ .
قوله « يَطَّيَّرُوا » الأصْلُ : « يتطيَّروا » فأدغمتِ التَّاءُ في الطَّاءِ ، لمقاربتها لها .
وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ : وطلحةُ بنُ مصرف « تَطَيَّروا » بتاءٍ من فوق على أنَّهُ فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورةٌ . إذ لا يقعُ فعل الشَّرْطِ مضارعاً ، والجزاء ماضياً إلاَّ ضرورةً ، كقوله : [ الخفيف ]
2551 - مَنْ يَكِدْنِي بِسَيِّىءٍ كُنْتُ مِنْهُ ... كالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ والوريدِ
وقوله : [ البسيط ]
2552 - إن يَسْمَعُوا سُبَّةً طَارُوا بِهَا فَرحاً ... مِنِّي وما يَسْمَعُوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا
وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك . والتَّطير : التَّشاؤُم ، وأصلُهُ ، أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم فيطير لِكُلِّ أحدٍ حظَّه ، ثمَّ أطلق على الحَظِّ ، والنَّصيب السَّيِّىء بالغَلبَةِ .
وأنشدوا للبيد : [ الوافر ]

2553 - تَطِيرُ عدائِدُ الأشْرَاكِ شَفْعاً ... وَوِتْراً والزَّعَامَةُ لِلْغُلامِ
الاشْرَاكَ جمع شِرْكٍ ، وهو النَّصيب . أي : طار المال المقسوم شَفْعاً للذَّكر ، وَوِتْراً للأنثى والزَّعامةَ : أي : الرِّئاسة للذكر ، فهذا معناه : تَفَرَّق ، وصار لكُل أحد نصيبُه ، وليس من الشُّؤمِ في شيءٍ ، ثم غلبَ على ما ذكرناه .
قوله : { ألا إنما طائرهم عند الله } أي حَظُّهم ، وما طار لهم في القضاء والقدر ، أو شؤمهم أي : سبب شؤمهم عند الله ، وهو ما ينزله بهم .
قال ابن عباس : يريد شؤمهم عند الله ، وهو ما ينزله بهم .
قال ابن عباس : يريد شُؤمَهُمْ عند الله ، أي من قِبَل الله ، أي : إنما جاءهم الشَّرُّ بقضاءِ الله وحُكْمِهِ .
قال الفَرَّاءُ : وقد تَشَاءَمَت اليهود بالنبي - عليه السلام - ب « المدينة » ، فقالوا : غَلَتْ أسْعَارُنَا ، وقَلَّتْ أمطارنا مذ أتانا ، وكثرت أمواتنا .
ثم أعلم الله على لسان رسوله - عليه السلام - أن طيرتهُمْ باطلة ، فقال : « لا طيرة ولا هامة » - وكان النبي عليه السلام يَتفَاءَلُ ولا يَتَطَيَّرُ .
وأصل الفَألِ : الكلمة الحسنة ، وكانت العرُب مذهبها في الفَألِ والطِّيرةِ واحداً ، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الفَألَ ، وأبطل الطِّيرةَ . والفَرْقُ بينهما أن الأرْوَاحَ الإنسانية أقوى وأصْفَى من الأرواح البهيمية والطيرية ، فالكلمة التي تَجْري على لسان الإنسان يمكن الاسْتِدْلالُ بها؛ بخلاف طيرانِ الطير ، وحَرَكَاتِ البهائم ، فإن أرْوَاحَهَا ضعيفة ، فلا يمكن الاستدلالُ بها على شيء من الأحوال ، ثم قال تعالى : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ أي ] : أن الكل من الله تعالى؛ لأن أكثر الخَلْقِ يُضِيفُونَ الحوادث إلى الاسبابِ المحسوسة ، ويقطعونها عن قضاءِ الله وقَدجره ، والحق أن الكل من الله؛ لأن كل موجود إما واجب لذاته ، أو ممكن لذاته ، والواجب لِذَاتِهِ واحد ، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الوَاجِبِ لذاته ، فكان الكل من الله - تعالى - ، فإسنادها إلى غير الله يكون جَهْلاً بكمال الله تعالى .
قال الأزهريُّ : قيل للشُّؤم طاءر وطير ، لأنَّ العرب كانت إذ خرجت وطار الطَّائِرُ ذات اليسار تشَاءَمُوا بها ، فَسَموا الشؤمَ طيراً وطَائِراً لتشاؤمهم بها .
قال القُرْطُبِيُّ : وأصل هذا من الطِّيرةِ وزجر الطَّيْرِ ، ثمَّ كَثُر استعمالهم حتَّى قيل لِكُلَ مَنْ تشاءم : تَطّيَّر . وكانت العربُ تَتَيَمَّن بالسَّانِحِ : وهو الذي يأتي من ناحية اليَمينِ وتتشاءهم بالبَارحِ : وهو الذي يأتي من ناحية الشّمَالِ . وكانوا يَتَطَيَّرُون أيضاً بِصَوْتِ الغراب ويتأوَّلُونَهُ البَيْن ، ويستدلُّونَ بمجاوبات الطيور بعضها بعضاً على أمور ، وبأصواتها في غير أوقاتها المَعْهُودَة على مثل ذلك .
ويتطيّر الأعاجم إذَا رَأوْ صَبِيّاً يُذْهَب به إلى المُعَلِّم بالغَدَاةِ ، وَيَتَيمَّنُون برؤية صبيٍّ يرجع من عند المعلم إلى بيته ، ويَتَشَاءَمُونَ برؤية السَّقَّاء على ظهره قِرْبَةٌ مملوءةٌ مشدودة ، ويتيمَّنُونَ برؤية فارغ السِّقاءِ مفتوحة ، ويتشاءَمُونَ برؤية الحَمَّالِ المُثْقَل بالْحِمْلِ والدَّابَّة الموقرة ، وَيَتَيَّمنُونَ بالحَمَّال الذي وضع حمله ، وبالدَّابة الَّتي وضع عنها .

فَجَاء الإسْلامُ بالنَّهْيِ عن التَّطيُّرِ ، والتَّشَاؤُم بما يُسمع من صوت طائر ما كان ، وعلى أيّ حال كان؛ فقال عليه الصلاة والسلام : « أقرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا » وذلك أن كثيراً من أهل الجاهليةِ كان إذا أراد الحَاجَةَ ذهب إلى الطَّير في وَكْرها فنفَّرها فإذا أخذت يميناً مضى إلى حاجته ، وهَذَا هو السَّانِحُ عندهم ، وإن أخذت شمااً رجع وهذا هو البَارحُ عندهم ، فنهى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن هذا بقوله « أقِرُّوا الطَّيْرَ على مُكنَاتِهَا » هكذا في الحديث .
وأهل العربيَّة يقولون : « وكناتِهَا » ، والوكْنَةُ : اسمٌ لكلِّ وَكْرٍ وعشٍّ . والوَكْنُ : اسمٌ للموضع الذي يبيض فيه الطَّائِرُ ويُفرخُ ، وهُوا الخَرْقُ في الحِيطَانِ والشَّجرِ .
ويقال : وَكَنَ الطائرُ يَكِنُ وَكْناً ووكُوناً : دخل في الوَكْنِ ، ووكن بَيْضَهُ ، وعليه : حضنه ، وكان أيضاً من العرب من لا يرى التَّطيُّرَ شيئاً نقله القرطبيُّ .
وروى عبد اللَّهِ بنُ عمرو بن العاصِ عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : « مَنْ رَجَّعَتْهُ الطِّيرةُ عن حَاجَتِه فَقَدْ أشْرَكَ » .
قيل : وما كفارةُ ذلك يا رسُول اللَّهِ .
قال : « أنْ يقُولَ أحَدُكم : اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ ، ولا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ ، وَلاَ إله غَيرُك ، ثُمَّ يمضي إلى حاجته »
قوله { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا } . لَمَّا حكى عنهم أوَّلاً أنَّهم بجهلهم أسْنَدُوا الحوادث إلى قضاء اللَّه وقدره ، حكى عنهم ثانياً نوعاً آخر من الجهل والضَّلالة ، وهو أنَّهم لم يُميّزُوا بين المعجزاتِ والسّحر ، وجعلوا آيات موسى مثل انقلاب العَصَا حَيَّة .
وقالُوا ذلك من باب السِّحر فلا يقبلُ منها شيء .
« مَهْمَا » اسمُ شرطٍ يجزم فعلين ك « إنْ » هذا قولُ جمهور النُّحَاةِ ، وقد تأتي للاستفهام وهو قليلٌ جداً .
كقوله : [ الرجز ]
2554- مَهْمَا لِيَ اللَّيْلَةَ مَهْمَا لِيَهُ؟ ... أوْدَى بِنَعْلَيَّ وسِربَالِيَهْ
يريد : ما لي اللِّيلة مالي؟ والهاءُ للسَّكت . وزعم بعض النُّحاة أنَّ الجازمةَ تأتي ظرف زمان؛ وأنشد : [ الطويل ]
2555 - وإنَّكَ مَهْمَا تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤلَهُ ... وَفَرْجَكَ نَالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا
وقول الآخر : [ الكامل ]
2556- عَوَّدْتَ قَوْمَكَ أنَّ كُلَّ مُبَرَّزٍ ... مَهْمَا يُعَوَّدْ شِيَمةً يتَعَوَّدِ
وقول الآخر : [ الكامل ]
2557 - نُبِّئْتُ أنَّ أبَا شُتَيْمٍ يَدَّعِي ... مَهْمَا يَعِشُ يَسْمَعْ بمَا لَمْ يَسْمَعِ
قال : ف « مَهْمَا » هنا ظرف زمان ، والجمهور على خلافه ، وما ذكره متأوّل ، بل بعضُهُ لا يظهر فيه للظَّرفية معنى ، وشنَّع الزمخشري على القائل بذلك .
فقال : وهذه الكلمة في عداد الكلمات الَّتي يُحَرِّفُهَا مَنْ لا يدّ له في علم العربية ، فيضعها في غير موضعها ويحسب « مَهْمَا » بمعنى « متى ما » .
ويقولُ : مَهْمَا جئتني أعطيتك ، وهذا من كلامِهِ ، وليس من واضع العربية ، ثم يذهبُ فيفسِّر : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ } [ الأعراف : 132 ] بمعنى الوقت ، فَيُلْحد في آيات اللَّهِ ، وهو لا يشعر ، وهذا وأمثاله مِمَّا يُوجب الجُثُوَّ بين يدي النَّاظر في كتاب سيبويه .

قال شهابُ الدِّين : هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت ، فإن ذلك قولٌ ضعيفٌ ، لم يَقُلْ به إلاَّ الطَّائفة الشَّاذَّةُ .
وقد قال جمال الدِّين بْنُ مالكٍ : جميع النَّحويين يقول إنَّ « مَهْمَا » و « مَا » مثل « مَنْ » في لزوم التَّجرُّدِ عن الظَّرف ، مع أنَّ استعمالها ظرفين ثابتٌ في أشعار فصحاء العرب . وأنشد بعض الأبْياتِ المتقدمة
وكفى بقوله جميع النَّحويين دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما . وهي اسمٌ لا حرفٌ ، بدليل عَوْد الضَّمير عليها ، ولا يعودُ الضَّمير على حرف؛ لقوله : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ } فالهاءُ في « بِهِ » تعود على « مَهْمَا » وشَذَّ السُّهيليُّ فزعم أنَّهم قد تأتي حرفاً .
واختلف النَّحويون في « مَهْمَا » هل هي بسيطة أو مركبة؟ والقَائِلُونَ بتركيبها اختلفوا : فمنهم مَنْ قال : هي مركبة مِنْ « مَا مَا » كُرِّرَتْ « ما » الشَّرطيَّة توكيداً ، فاستثقل توالي لفظين فأبْدِلَت ألف « ما » الأولى هاء .
وقيل : زيدت « ما » على « ما » الشَّرطية ، كما يُزَادُ على « إنْ » « ما » في قوله : « فَإمَّا يَأتينَّكُم » .
فَعُمِلَ العمل المذكور للثقل الحاصل ، وهذا قولُ الخليل وأتباعه من أهل البصرة .
وقال قَوْمٌ : هي مركبة من مَهْ التي هي اسم فعلٍ بمعنى الزَّجْر ، و « مَا » الشَّرطيَّة ثم رُكِّبت الكلمتان فصارا شَيْئاً واحداً .
وقال بعضهم : لا تركيب فيها هنا ، بل كأنَّهُم قالوا له مَهْ ، ثم قالوا { مَا تَأْتِنَا بِهِ } ويُعْزَى هذان الاحتمالان للكسائيِّ .
قال شهابُ الدِّين : « وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ ذلك قد يأتي في موضع لا زَجْرَ فيه ، ولأنَّ كتابتها متصلة ينفي كون كلٍّ منهما كلمةً مستقلة » .
وقال قومٌ : إنَّهَا مركَّبةً من « مَهْ » بمعنى اكفف و « مَن الشَّرطيَّةِ » ؛ بدليل قول الشاعر : [ الطويل ]
2558 - أماوِيَّ مَهْمَنْ يَسْتَمِعْ في صديقِهِ ... أقَاوِيلَ هذا النَّاسِ مَاوِيَّ يَنْدَمِ
فأبْدِلَتْ نونُ « مَنْ » ألفاً كما تبدل النُّونُ الخفيفة بعد فتحة ، والتَّنوين ألفاً ، وهذا ليس بشيء بل « مَهْ » على بابها من كونها بمعنى : اكْفُفْ ، ثم قال : مَنْ يستمعُ .
وقال قوم : بل هي مركَّبة مِنْ « مَنْ » و « مَا » فأبدلت نونُ « مَنْ » هاءً ، كما أبدلوا من ألف « ما » الأولى هاءً ، وذلك لمؤاخاة مَنْ ما في أشياء ، وإن افترقَا في شيء واحد ، ذكره مكيٌّ .
ومَحَلُّهَا نصبٌ أو رفعٌ ، فالرَّفعُ على الابتداء وما بعده الخبر ، وفيه الخلافُ المشهورُ هل الخبرُ فعلُ الشَّرْط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً؟ والنَّصْبُ من وجهين :
أظهرهما : على الاشتغال ويُقَدَّرُ الفعلُ متأخراً عن اسم الشَّرْطِ ، والتقديرُ : مَهْمَا تُخْضِر تَأتِنَا ، ف « تَأتِنَا » مُفَسِّرة ل تُحَضر ، لأنَّهُ من معناه .

والثاني : النصبُ على الظرفية عند مَنْ يَرَى ذلك ، وقد تقدَّم الرَّدُّ على هذا القول ، والضَّميرانِ من قوله بِهِ و « بِهَا » عائدان على « مَهْمَا » ، عاد الأوَّلُ على اللَّفظ ، والثاني المعنى ، فإنَّ معناها الآية المذكورة ، ومثله قول زُهَيْرٍ : [ الطويل ]
2559 - وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِىءٍ مِنْ خَلِيقةٍ ... وإنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
ومثله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] فأعَادَ الضَّمير على « ما » مؤنثاً ، لأنَّهَا بمعنى الآية .
وقوله : « فَمَا نَحْنُ » يجوز أن تكون « ما » حجازيةً أو تميميةً والباءُ زائدةٌ على كلا القولين ، والجملةُ جوابُ الشَّرْطِ فمحلّها جزم .
فصل
قال ابْنُ عباس ، وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق :
لما قال قوم موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ } [ الأعراف : 132 ] فهو سِحْرٌ ، ونحن لا نُؤمن بها وكان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - رجلاً جديداً ، عند ذلك دَعَا عليهم فقال : يا ربِّ إنَّ عبدك فرعون علا في الأرض وبَغَى وَعَتَا ، وإنَّ قومه نَقَضُوا عهدك؛ فَخُذْهُمْ بعقوبةٍ تجعلها لهم نقمةً ولقومي عظة ، ولمن بعدهم آية وعبرة ، فأرسل اللَّهُ عليهم الطُّوفان وهو الماء ، وبيوت بني إسرائيل ، وبيوت القبط مشتبكة ، فامتلأت بيوت القبط حَتَّى قضامُوا في المَاءَ إلى ترابيهم ، ومن جَلَسَ منهم غرق ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة ، ودام ذلك عليهم من السَّبت إلى السبت .
فقالوا لموسى : ادْعَ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِف عنَّا المطر؛ فنُؤمِنُ بك ، ونرسل معك بني إسرائيل .
فدعا رَبَّهُ فرفع عنهم الطوفان ، وأرسل الرِّيَاحَ فَجَفَّفَت الأرْضُ ، وخرج من النَّبَاتِ مَا لَم يَرَوْا مثله قط ، وأخصبت بلادهم .
فقالوا : ما كان هَذَا الماء إلاَّ نعمة عَلَيْنَا لكنَّا لم نشعر؛ فمكثوا شهراً في عافيةٍ فنكثُوا العهد .
وقالوا : لا نُؤمِنُ بك ، ولا نرسل معك بني إسرائيل؛ فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الجَرادَ ، فأكل عامَّة زرعهم ، وثمارهم ، وأوراق الشَّجَرِ؛ حتَّى أكلت الخَشَبَ وسقوفَ البيُوتِ ومسامير الأبْوابِ من الحديد حتَّى وقع دورهم ، وباتلي الجراد بالجُوعِ فكان لا يشبع ، ولم يصب بني إسرائيل شَيءٌ من ذلك فَضجُّوا إلى موسى .
وقالوا : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ لئن كَشَفْتَ عَنَّا لرجز لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بَنِي إسرائيل ، وأعطوه عَهْدَ اللَّهِ وميثاقة .
فَدَعَا موسى رَبَّه فَكَشَفَ عنهم الْجرادَ بعد سبعة أيام ، وفي الخَبَرِ « مَكْتوبٌ على صدر كلّ جرادة جند اللَّهِ الأعظم » فأرسل اللَّهُ ريحاً فحمل الجراد؛ فألقاه في البحر .
وقيل : إنَّ مُوسَى برز إلى الفضاءِ ، وأشارَ بعصاه إلى المشرق والمغرب؛ فرجعت الجراد من حيثُ جاءت .
وكانت قد بقيت من زروعهم ، وغلاتهم بقيّة .
فقالُوا : قد بَقِيَ لَنَا ما يكفينَا ، فَنَقَضُوا العَهْدَ ولم يُؤمنوا ، فأقَامُوا شَهْراً في عافية .

فأرسل اللَّه القملَ سبتاً إلى سبت ، فلم يبق بأرضهم عود أخضر إلاَّ أكلته .
فَصَاحوا بمُوسَى فسأل ربَّهُ ، فأرسل اللَّه عليها ريحاً حارّة فأحرقتها ، وألقتها في البحر فلم يُؤمِنُوا .
فأرسل اللَّهُ عليهم الضَّفادع سبعة أيَّام؛ فخرج من البَحْرِ مثل اللَّيْلِ الدَّامس ووقع في النَّبَاتِ والأطْعِمَةِ ، فكان الرَّجُلُ يجلسُ في الضَّفادع إلى رقبته ، ويهم أن يتكلَّم ، فيثب الضِّفْدَعُ في فِيهِ .
فَصَرَخوا إلى موسى وَحَلَفُوا لَهُ لئن رفعت عنَّا هذا العذاب لنُؤمننَّ بكَ ، فَدَعَا اللَّهُ تعالى فأمات الضَّفادع ، فأرسل عليها المطر؛ فأحملتها ، ثمَّ أقَامُوا شَهْراً ثم نَقَضُوا العهد وعادُوا لكفرهم .
فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الدَّمَ فجرت أنهارهم دماً ، فما يستقون من الآبار والأأنهار إلاَّ وَجَدوهُ دماً عَبِيطاً أحمر ، فَشَكَوْا إلى فرعون .
فقال : إنَّه سحركم وكان فرعون يجمع القبطيَّ والإسرائيلي على الإناءِ الواحد؛ فيكون ما يَلِي الإسرائيليّ ماءً ، وما يَلِي القبطي دماً ، ويقومان إلى البُحَيْرَة فيها الماء ، فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دماً ، حتى كانت المرأةُ من آلفرعون تأتي المَرْأةَ من بني إسرائيل حينَ جَهَدَهُمُ العَطَشُ فتقولُ : اسقِني من مائك فتصب لها من قربتها؛ فيعود دماً في الإناء ، حَتَّى كانت تَقُولُ اجعليه في فِيكِ ثم مُجِّيهِ فِي فِيَّ فتأخذ في فِيهَا ماءً ، فإذا مَجّته في فِيهَا؛ صَارَ دَماً ، وإنَّ فرعون اضطره العطشُ حتَّى مضغ الأشجار الرَّطْبَةَ فَصَارَ ماؤُها في فِيهِ مِلْحاً أجَاجاً ، فمكثُوا في ذلك سبعة أيام ، فقالوا : يا مُوسى { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز } [ 134 ] . إلى آخر الآية .
أحدهما : أنَّهُ جمع : طُوفَانة ، أي : هو اسمُ جنس ك : قمح وقمحة ، وشعير وشعيرة .
وقيل : هو مصدرٌ كالنُّقْصَان والرُّجْحان ، وهذا قول المُبَرِّدِ في آخرين والأوّلُ قول الأخْفَشِ .
وقال : هو « فُعْلان » من الطَّواف ، لأنَّه يطوفُ حتَّى يَعُمَّ الأرضَ ، وواحدته في القياس « طُوفَانَة » ؛ وأنشد : [ الرمل ]
2560 - غَيَّرَ الجِدَّةَ مِنْ آيَاتِهَا ... خُرُقُ الرِّيحِ وطُوفَانُ المَطَرْ
والطُّوفان : المَاءُ الكثير ، قاله اللَّيْثُ؛ وأنشد للعجّاج : [ الرجز ]
2561 - وعَمَّ طُوفانُ الظَّلامِ الأثْأبَا ... شَبَّهَ ظلامَ اللَّيلِ بالماءِ الذي يَغْشَى الأمكِنة ... وقال أبُو النَّجْمِ : [ الرجز ]
2562 - وَمَدَّ طُوفانٌ مُبيدٌ مَدَدَا ... شَهْراً شَآبيبَ وشَهْراً بَرَدَا
وقيل : الطُّوفان من كُلِّ شيءٍ : ما كان كثيراً مُحيطاً مُطْبقاً بالجماعة من كُلِّ جهة كالمَاءِ الكثيرِ ، والقَتْلِ الذَّريع ، والمَوْتِ الجارفِ ، قاله الزَّجَّاجُ .
وقد فَسَّرَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم بالموتِ تارةً ، وبأمرٍ من اللَّهِ أخرى ، وتلا قوله : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [ القلم : 19 ] وهذ المادَّةُ وإن كانت قد تَقدَّمَتْ في « طَائِفَة » إلاَّ أنَّ لهذه البنية خصوصيةً بهذه المعاني المذكورة .
والجَرَادُ معروف ، وهو جَمْعُ : جَرَادةٍ ، الذَّكَرُ والأنْثَى فيه سواء .
يقال : جَرَادَةٌ ذَكَرٌ وجَرَادة أنْثى ، ك : نَمْلَة ، وحمامة .
قال أهلُ اللُّغَةِ : وهو مشتقٌّ من « الجَرْدِ » .
قالوا : والاشتقاقُ في أسماءِ الأجْنَاس قليلٌ جِداً .

يقال : أرْضٌ جَرْدَاء ، أي : مَلْسَاء وثَوْبٌ جَرْدٌ ، إذا ذَهَبَ زئبره .
فصل
قال القرطبيُّ : اختلف الفُقهَاءُ في جواز قتل الجَرَادِ .
فقيل : يُقتل ، لأنَّ في تركها فساد الأموال ، وقد رخَّصَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتال المسلم إذا أخذَ ماله ، فالجرادُ إذا أراد فسادَ الأموال كانت أوْلَى بجوازِ قتلها ، كما أنَّهم اتفقوا على جواز قتل الحيّة ، والعقرب؛ لأنَّهُمَا يُؤذِيَان النَّاس فكذلك الجَرَادُ .
وروى ابْنُ ماجَةَ عن أنس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذَا دَعَا على الجراد قال : « اللَّهُمَّ أهْلِك كِبارَهُ واقْتُل صغَارَهُ ، وأفْسِد بيضَه ، واقطع دابرهُ ، وخُذْ بأفْواهِه عن مَعَايِشِنَا وأرْزَاقنَا إنَّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ » .
فقال رجل : يَا رسُول اللَّهِ ، كيف تَدْعُو إلى جُنْد من أجْنَادِ اللَّهِ بقطع دَابره؟
قال : « إنَّ الجراد نثرة حوت في البَحْرِ » وهذا قول جمهور الفقهاءِ .
وقيل : لا يُقْتَلُن لأنَّه خلق عظيم من خَلْقِ اللَّهِ يأكل من رزق اللَّهِ .
وقد رُوِي « لا تَقْتُلُوا الجَرَادَ فإنَّهُ جُنْدُ اللَّهِ الأعْظَمُ »
والقُمَّلُ : قيل : هي القِرْدَان ، وقيل : دوابُّ تشبهها أصْغَرَ مِنْهَا .
وقال سعيدُ بن جبير : هو السُّوسُ الذي يخرج من الحِنْطة .
وقال ابْنُ السِّكِّيت ، إنَّه شيء يقع في الزَّرع ليس بجرادٍ؛ فيأكل السُّنبلة ، وهي غضة قبل أن تقوى ، وحينئذٍ يطولُ الزَّرءعُ ولا سنبل له .
وقيل : إنَّهَا الحمنان الواحدة : حَمْنَانَة ، نوع من القِرْدَان .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية من قُرَى مصر تدعى « بعين شمس » فذهب موسى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاهُ فانْهَالَ عليهم القُمَّل ، وعلى هذا هو القَمْل المعروف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه ، ويؤيد هذا قراءة الحسن « والقَمْل » بفتح القاف وسكون الميم ، فيكونُ فيه لغتان : القُمَّل « كقراءة العامةِ و » القَمْل « كقراءة الحسن البصري .
وقيل : القملُ البراغيث ، وقيل : الجعلان .
والضفَادعُ : جمع ضِفْدَع ، بزنة دِرْهَم ، ويجوز كسر دَالِهِ فتصير بزنة » زِبْرِج « وقدْ تُبْدَلُ عَيءنُ جمعه ياء ، كقوله : [ الرجز ]
2563 - وَمَنْهَلٍ لَيْسَ لَهُ حَوَازِقُ ... ولِضَفَادِي جَمِّهِ نَقَانِقُ
وشَذَّ جمعُهُ على : ضِفْدَعَات ، والضِّفْدَعُ : مؤنَّث ، وليس بمذكر ، فعلى هذا يُفَرَّقْ بين مذكّره ومؤنثه بالوصفِ .
فيقال : ضِفْدَع ذكر وضفدع أنثى ، كما قلنا ذلك في المتلبِّس بتاء التأنيث ، نحو حمامة ، وجرادة ، ونملة .
فصل
روى أبُو داوود وابنُ ماجةَ عن أبي هريرة قال : نَهَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عن قتل : الصُّرَدِ والضِّفْدَع ، والنَّمْلَةِ ، والهُدْهُدِ . ولمَّا خرج إبراهيمُ - عليه السلام - من الشَّام إلى الحَرَم في بناء البيتِ كانت السِّكينَة معه والصُّرَدُ دليلة إلى الموضع ، والسكينةَ مقداره ، فلمَّا صار إلى البقعَةِ؛ وقعت السَّكينة على موضع البيتِ ونادت : ابْنِ يَا إبراهيمُ على مقدار ظِلِّي .
فنهى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن قتل الصُّرَدِ؛ لأنه كان دليل إبراهيم ، وعن قتل الضّفدع؛ لأنها كانت تصب الماء على نَارِ غبراهيم ، ولما تسلَّطت على فرعون جاءت ، وأخذت الأمكنة كلها ، فلما صارت إلى التَّنُّور وثَبَتْ فيها وهي نار تسعر طاعة لله ، ولكن نار يسعرها الله بها؛ فَجَعَلَ » نقيقها « تسبيحاً .

والدَّم ذكرناه وهو معروف .
قال زيد بنُ أسلم : الدَّم الذي سلطة اللَّهُ عليهم كان الرُّعَاف ، ونقله الزمخشريُّ .
قوله : « آيَاتٍ مفصّلات » . آياتٍ منصوبة على الحال من تلك الأشياءِ المتقدّمة أي أرْسَلْنَا عليهم هذه الأشياءَ حال كونها علاماتٍ ممزياً بعضها من بعض ، ومُفَصَّلاتٍ فيها وجهان :
أحدهما : مُفَصَّلات أي : مُبينات لا يشكلُ على عاقل أنَّهَا من آيات اللَّهِ التي لا يقدر عليها غيره .
وقي : مُفَصّلات أي : فَصَّلَ بعضها من بعض بزمانٍ يمتحن فيه أحوالهم هل يقبلون الحُجَّة ، أو يستمرون على المُخالفةِ؟ فاسْتَكْبَرُوا عن عبادة اللَّهِ { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } .
فصل فإن قيلَ لمَّا علم اللَّهُ تعالى من حالهم أنَّهُم لا يؤمنون بتلك المُعجزاتِ ، فما الفائدة في تواليها؟ وقوم مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم طلبُوا المعجزات فما أجِيبُوا فما الفرق؟
فالجوابُ : قال بعضُ أهل السُّنَّةِ : يفعلُ اللَّهُ ما يشاءُ ، ويحكم ما يريد .
وقال آخرون : إنَّمَا فعلَ ذلك زَجْراً لنا ، وموعظةً وإعلاماً بأنَّ المُصرَّ على الكُفْرِ يستوجبُ العذابَ المؤبّد . وأجاب المُعتزلَةُ : برعاية الصالح ، فلعلَّهُ علم من قوم مُوسَى أنَّ بعضهم كان يؤمن عند ظهور المعجزة الزَّائدة كمؤمن آل فرعونَ وكالسَّحرةِ ، وعَلِمَ من قوم محمَّد صلى الله عليه وسلم أنَّ أحداً منهم لا يَزْداد بِظُهُورِ المُعْجِزَةِ الزَّائِدِة إلاَّ كُفْراً . فظهر الفرقُ .
قوله : { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز } ، أي نزل بهم العذاب من الطُّوفَانِ ، وغيره .
وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ : الطاعون .
وقيل : مات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد . وتقدم الكلام على الرِّجْز في البقرة عند قوله : { فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء } [ البقرة : 59 ] .
قوله { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } . يجوزُ في هذه الباء وجهان :
أظهرهما : أن تتعلَّق ب « ادْعُ أي : ادْعُهُ بالدُّعاء الذي علَّمك أن تدعوه به .
والثاني : أنَّها باء القسم .
قال الزمخشريُّ : والباء إمَّا تتعلَّق ب » ادْع « على وجهين :
أحدهما : اسْعِفْنَا إلى ما نطلب إليك من الدُّعاء بحق ما عندك من عهد الله ، وكرامته إيَّاك بالنُّبُوَّةِ أو ادع اللَّه لنا مُنتَوَسِّلاً إليه بعهده عندك ، وإمَّا أن يكون قَسَماً مُجَاباً ب » لنُؤمِنَنَّ « أي : » أقْسَمْنَا بِعَهْدِ اللَّهِ عندك « .
فصل
اعلمْ أنَّهُ تعالى بيَّن ما كانُوا عليه من المُناقضة القبيحة ، لأنَّهم تارة يكذبون موسى عليه الصَّلاة والسَّلام ، وأخرى عند الشَّدائد يفزعون إليه فزع الأمة إلى نبيّها ويسألونه أن يسأل رَبَّه رفع العذاب عنهم ، وذلك يقتضي أنهم سَلَّمُوا كونه نبيّاً مجاب الدَّعْوَة ، ثُمَّ بعد زوال تلك الشَّدائد يعودون إلى تكذيبه .

وقوله : { فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى } . أي : العذاب . إلى أجلٍ فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلَّقَ ب « كَشَفْنَا وهو المشهور ، وعليه إشكال وهو أنَّ ما دخَلَتْ عليه » لَمَّا « يترتَّبُ جوابُهُ على ابتداء وقوعه ، والغايةُ تنافي التعليق على ابتداء الوقوع ، فلا بُدَّ من تعقُّل الابتداء والاستمرار حتَّى تتَحقَّقَ الغاية ، ولذلك لا تقعُ الغاية في الفعل غير المتطاول .
لا يُقالُ : لمَّا قتلتُ زيداً إلى يوم الخميس جَرضى كَذَا ، ولا لمَّا وثبت إلى يوم الجمة اتَّفق كذا ، وقد يُجَابُ بأنَّ المرادَ بالأجَل هنا : وقتُ إيمانهم ، وإرسالهم بني إسرائيل معه ، ويكون المرادُ بالكشفِ : استمرارَ رفع الرِّجْزِ .
كأنه قيل : فَلَمَّا تمادَى كَشَفْنَا عنهم إلى أجل ، وأمَّا مَنْ فَسَّرَ » الأجَلَ « بالمَوْتِ أو بالغَرَقِ فيحتاج إلى حَذْفِ مضاف تقديرُهُ : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ إلى أجل قُرْب أجل هم بالغوه ، وإنَّما احتاج إلى ذلك ، لأنَّ بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكثٌ ، فكيف يُتَصَوَّرُ أن يكون النَّكْثُ منهم بعد موتهم ، أو غرقهم؟
والثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حال من » الرِّجز « أي : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ كَائِناً إلى أجل ، والمعنى : أنَّ العذابَ كان مُؤجَّلاً .
قال أبُو حيَّان : وَيُقَوِّي هذا التأويلَ كونُ جواب » لمَّا « جاء ب » إذا « الفجائية أي : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم العذابَ المقرَّر عليهم إلى أجلٍ فاجؤوا بالنَّكْثِ ، وعلى معنى تَغْيِيَتِهِ الكشفَ بالأجَل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلاَّ على تأويل الكشفِ بالاستمرار المُغيَّا فيمكن المفاجأة بالنَّكْث إذْ ذاك ممكن .
قوله : » هم بَالِغُوهُ « في محلِّ جرٍ صفة ل » أجَلٍ « والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ من وصفِهِ بالمفرد ، لتكررِ الضَّمير المؤذن بالتَّفخيم .
وقوله : { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } هذه » إذَا « الفُجَائيَّةِ ، وتقدَّم الكلامُ عليها قريباً : و » هُمْ « مبتدأ ، و » ينكُثُونَ « خبره ، و » إذَا « جوابُ » لمَّا « كما تقدَّم بالتَّأويلِ المذكور .
قال الزمخشريُّ : { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } جواب » لَمَّا « يعني : فلمَّا كشفنا عنهم العذاب فاجؤوا بالنّكث وبَادَرُوهُ ولَمْ يؤخِّروه ، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نَكَثُوا .
قال أبُو حيان : » ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير « . انتهى . يعني فلا بُدَّ من تأويل الكشْفِ بالاستمرار ، كما تقدَّم ، حتَّى يَصِحَّ ذلك . وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يَدَّعي في » لَمَّا « أنَّهَا ظَرْفٌ ، إذْ لا بُدَّ لَهَا حينئذٍ من عامل ، وما بعد » إذَا « لا يعمل فيما قبلها ، كما تحرَّر في موضعه .
وقرأ أبُو حَيْوَةَ وأبو هشام » يَنْكِثُون « بكسر الكاف ، والجمهور على الضَّمِّ ، وهما لغتان في المضارع .
والنَّكْثُ : النَّقْضُ ، وأصله : مِنْ نَكْثِ الصُّوف المغزول لِيُغْزل ثانياً ، وذلك المنكوث : نِكثٌ ك : ذِبْح ، وَرِعْي . والجمعُ : أنكاث ، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه كما في خيوط الأكسية إذا نُكِثَتْ بعدما أبْرِمَتْ ، وهذا مِنْ أحسن الاستعارات .

قوله : « فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ » هذه الفاءُ سببيَّة ، أيْ : تَسَبَّب عن النَّكْثِ الانتقامُ ثم إن أريد بالانتقام نَفْسُ الإغْراق ، فالفاءُ الثَّانية مُفَسِّرةٌ عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك وإلاَّ كان التقدير : فَأرَدْنَا الانتقام ، والانتقام في اللُّغَةِ : سلب النعمة بالعذابِ .
و « في اليمِّ » متعلق ب « أغْرَقْنَاهُم » ، واليَمّ : البحر ، والمشهور أنَّهُ عربيّ .
قال ذو الرُّمَّة : [ البسيط ]
2564 - دَاوِيَّة ودُجَى لَيْلٍ كأنَّهُمَا ... يَمٌّ تراضَنَ في حَافَاتِهَا الرُّومُ
وقال ابْنُ قتيبةَ : أنَّه البَحْرُ بالسُّريانِيَّةِ .
وقيل : بالعبرانيَّة . والمشهور أنه لا يتقيَّد ببحر خاص قال الزمخشري : اليَمّ : البحرُ الذي لا يُدْرَكُ قعره .
وقيل : هو لُجَّة البحر ومعظم مائه .
وقال الهروِيُّ - في « غريبيه » - : واليَمُّ : البَحْرُ الذي يقالُ له : إسَافٌ وفيه غَرِقَ فرعونُ . وهذا ليس بجيد ، لقوله تعالى : { فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ] والمرادُ : نيلُ مِصْرَ ، وهو غيرُ الذي غَرِق فيه فرعون .
فصل
قيل : واشتقاقه من التيمم ، وهو القصد ، لأنَّ النَّاسَ يقصدونه .
قوله : « بِأنَّهُمْ » الباء للسببيّة ، أي : أغْرَقْنَاهم بسببِ تكذيبهم بآياتِنَا ، وكونهم عَنْهَا غافلين ، أي : غَافِلينَ عن آياتنا ، فالضَّمِيرُ في عَنْهَا يعودُ على الآيات ، وهذا هو الظَّاهِرُ .
وبه قال الزَّجَّاجُ وغيره .
وقيل : يجوزُ أن يعود على النِّقْمَةِ المدلولِ عليها ب « انتَقَمْنَا » ويُعْزَى هذا لابن عباس ، وكأن القائل بذلك تَخَيَّلَ انَّ الغفلةَ عن الآيات عُذْرٌ لَهُم من حيثُ إنَّ الغفلة ليست من كسب الإنسان .
وقال الجمهور : إنَّهم تَعَاطَوْا أسبابَ الغَفْلَة ، فَذُمّوا عليها ، كما يُذَمُّ الناس على نِسْيَانه لتعاطيه أسبابه .
فصل
قوله : « وَأوْرَثْنَا » يتعدى لاثنين ، لأنَّه قبل النَّقلِ بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو : وَرِثْتُ أبي ، فبالنَّقْلِ اكتسب آخَرَ .
فأولهما : القومَ والَّذينَ وصلتُه في محل نصب نعتاً له .
وأما المفعولُ الثَّانِي ففيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرها : أنَّهُ « مشارِقَ الأرضِ ومغَاربَهَا » .
وفي قوله : { التي بَارَكْنَا فِيهَا } على هذا وجهان : أحدهما : أنَّه نعتٌ ل : مشارق ومغارب . والثاني : أنَّهُ نعتٌ للأرض ، وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوف بَيْنَ الصفةِ والموصوفِ .
وهو نظيرُ قولك : قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ .
وقال أبُو البقاءِ هنا : وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ فيه العطفَ على الموصوفِ قبل الصِّفَةِ . وهذا سبْقُ لسان أو قلم ، لأنَّ العطفَ ليس على الموصُوفِ ، بل على ما أضيف إلى الموصوف .
والثاني من الأوجه الثلاثة : أن المفعول الثاني هو : { التي بَارَكْنَا فِيهَا } أي : أورثناهم الأرض التي باركنا فيها .
وفي قوله تعالى : { مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا } وجهان : أحدهما : هو منصوبٌ على الظَّرف ب « يُسْتَضْعَفُونَ » . والثاني : أنَّ تقديره : يُسْتَضْعَفُون في مشارق الأرض ومغاربها فلمَّا حُذِفَ الحرفُ وصل الفعلُ بنفسه؛ فنصب ، هكذا قال أبو البقاءِ .
قال شهابُ الدِّين : ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن ، فإنَّ القول بالظَّرفية هو عينُ القولِ بكونه على تقدير في ، لأنَّ كلَّ ظرف مقدَّرٌ ب « في » فكيف يجعل شيئاً واحد شيئين؟
الوجه الثالث : أنَّ المفعول الثَّاني محذوفٌ ، تقديره : أورثناهم الأرضَ ، أو الملكَ ، أو نحوه ويُسْتَضْعَفُونَ يجوز أن يكون على بابه من الطَّلبِ ، أي : يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً وأن يكون استفعل بمعنى : وَجَدَهُ ذَا كَذَا ، والمُرَادُ بالأرْضِ : أرَضُ الشَّام .

وقيل : أرض مصر ، لأنها أرض القبط .
وقيل : مصر والشَّام ، ومشارقها ، ومغاربها جهات المشرق ، والمغرب { الَّتِي بَاركْنَا فِيهَا } بإخراج الزَّرع ، والثِّمار ، والأنهار .
وقيل : المرادُ جملة الأرض؛ لأنَّه خرج من بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرْضَ .
قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى } . قرأ الحسنُ ورُويت عن أبي عمرو وعاصم كَلِمَات بالجمع .
قال الزمخشر ] ُّ : ونظيره : { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } [ النجم : 18 ] . يعني في كون الجمع وُصِفَ بمُفْردٍ .
قال أبُو حيَّان : ولا يتعيَّن في الكُبْرَى ما ذكر لجواز أن يكون التقدير : لَقَدْ رَأى الآية الكُبْرَى ، فهو وصفُ مُفْردٍ لا جمعٍ ، وهو أبلغُ .
قال شهابُ الدِّين : في بعض الأماكن يتعيَّنُ ما ذكره الزمخشريُّ نحو { مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] وهذه الآية ، فلذلك اختار فيها ما يتعيَّن في غيرها والمرادُ بالكلمةِ الحسنى : قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض } [ القصص : 5 ] إلى قوله : { مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } [ القصص : 6 ] والحُسْنَى : تأنيثُ الأحسنِ صفة للكلمة .
وقيل : معنى تمام الكلمةِ : إنجاز الوعْدِ الذي تقدَّم بغهلاك عدوهم . ومعنى : « تَمَّتْ » أي : مَضَتْ واستمرَّتْ من قولهم : تَمَّ عليه الأمر إذَا مَضَى عليه .
قوله بِمَا صَبَرُوا متعلِّق ب « تَمَّتْ » والبَاءُ للسببيَّةِ و « مَا » مصدريةٌ ، أي : بسبب صبرهم ومتعلَّقُ الصَّبرِ محذوفٌ أي : على أذَى فرعون وقومه .
قوله : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } . يجوزُ ههنا أوجه : أحدها : أن يكون فِرْعَونُ اسم كان ، ويَصْنَعُ خبرٌ مقدم ، والجملةُ الكونِيَّة صلةُ « ما » والعائد محذوف ، والتقديرُ ودَمَّرنا الذي كان فرعون يَصْنَعُهُ ، واستضعف أبُو البقاءِ هذا الوجه .
فقال : لأنَّ يَصْنَعُ يَصْلُحُ أن يعمل في فِرْعَوْن فلا يُقَدَّر تأخيره ، كما لا يُقدَّر تأخيرُ الفعل في قولك : قام زيدُ . يعني : أنَّ قولك : « قَامَ زَيْدٌ » يجب أن يكونَ من باب الفِعْلِ والفاعل ، ولا يجوز أن يُدَّعى فيه أنَّ « قام » فعلٌ وفاعلٌ ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌ ، وزيد : مبتدأ مؤخَّرٌ لأجل اللَّبس بباب الفاعل ، فكذا هنا؛ لأنَّ يَصْنَعُ يَصحُّ أن يتسلَّطَ على فِرْعَوْنَ فيرفعهُ فاعلاً فلا يُدَّعَى فيه التقديم ، وقد سبقه إلى هذا مكيٌّ .
وقال : ويلزم من يجيز هذا أن يُجيزَ : يقومُ زيدٌ ، على الابتداء والخبر ، والتَّقديم والتَّأخير ، ولمْ يُجزْهُ أحَدٌ .
وقد تقدَّمت هذه المسألةُ وما فيها ، وأنَّهُ هل يجوز أن يكون من باب التَّنازع أم لا؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان مُتَخَيَّلاً في بادئ الرأي ، فإنه كل باب الابتداء ، والخبر ، ولكن الجَواب عن ذلك : أنَّ المانع في « قَامَ زيدٌ » هو اللَّبس ، وهو مفقودٌ هَهُنَا .

الثاني : أنَّ اسمَ « كان » ضميرٌ عائدٌ على « مَا » الموصولة ، ويَصْنَعُ مسندٌ ل « فِرْعَوْن » والجُملةُ خبر « كان » والعائدُ محذوف أيضاً ، والتَّقديرُك ودمَّرْنَا الذي كان هو يصنعه فرعون .
الثالث : أن تكون « كان » زائدةً و « مَا » مصدرية والتقديرُ : ودمَّرْنَا ما يصنع فرعون . أي : صُنْعَهُ ، ذكره أبُو البقاءِ .
قال شهابُ الدِّين : وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً ، وإن كانت « مَا » موصولة اسمية ، على أنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُهُ : ودَمَّرْنَا الذي يصنعه فرعون .
الرابع : أن « ما » مصدرية أيضاً و « كان » لَيْسَتْ زائدةً بن ناقصة ، واسمُهَا ضميرُ الأمر والشَّأن ، والجملةُ من قوله يَصْنعُ فرعَونُ خبرُ « كان » فهي مفسِّرة لضمير .
وقال أبُو البقاءِ هنا : وقيل : ليست « كان » زائدةً ، ولكن « كان النَّاقِصَة لا يُفْصَل بها بين » ما « وبين صلتها ، وقد تقدَّم ذلك في قوله : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] وعلى هذا القول تحتاج » كان « إلى اسم .
ويضعُف أن يكون اسمُها ضمير الشَّأنِ؛ لأَّ الجُلة التي بعدها صلةُ » ما « فلا تَصْلُح للتَّفسير ، فلا يحصُل بها الإيضاحُ ، وتمامُ الاسم ، والمفسِّر يجبُ أن يكون مستقلاً ، فتدعو الحَاجَةُ إلى أن يجعل » فرعون « اسم » كان « وفي : » يَصْنَعُ « ضمير يعود عليه .
قال شهابُ الدِّين بعد فرض كونها ناقصةً : يلزم أن تكون الجملة من قوله : يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ خبراً ل » كان « ويمتنع أن تكون صلةً ل » ما « .
وقوله : فتدعُوا الحاجةُ أي : ذلك الوجُه الذي بدأت به ، واستضعفه ، وهو الذي احتاج إليه في هذا المكان فراراً من جعل الاسم ضمير الشَّأن ، لمَّا تخيَّلهُ مانعاً ، والتَّدميرُ : الإهلاكُ .
قال الليث : الدَّمَارُ : الهَلاك التَّامن يقال : دَمَرَ القومُ يَدمُرُونَ دماراً : أي : هلكوا وهو مُتَعَدٍّ بنفسه ، فأمَّا قوله : { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } [ محمد : 10 ] بمفعولُه محذوفٌ ، أي : خَرَّب عليهم منازلهم وبُيُوتَهم .
وقوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } أي : في أرض مصر من العمارات .
قوله : » يَعْرِشُونَ « قرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النَّحل { يَعرُشُونَ } بضم الرَّاءِ .
والباقون بالكسر فيهما ، وهما لغتانِ : » عَرَشَ الكرمَ يَعْرِشُهُ ويَعْرُشُهُ . والكَسْرُ لغة الحِجَازِ .
قال اليَزِيديُّ : وهي أفصحُ .
وقال مُجاهدٌ : ما كانُوا يبنون من القصور والبيوت . وقُرئ شاذّاً بالغين المعجمةِ والسِّين المهملة ، من غَرْس الأشجَار . وقال الزمخشري وبلغني أنه قرأ بعض الناس يعرشون من عرش وما أظُنّه إلاّ تصحيفاً . وقرأ ابن أبي عبْلَةَ يُعَرِّشُونَ بضمِّ الياء وفتحِ العين ، وكسرِ الرَّاءِ مشدَّدَةً على المُبالغة والتَّكثير . وهذا آخر قصةِ فرعونَ .

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)

قوله : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ } كقوله : { فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } [ البقرة : 50 ] من كونِ الباء يجوز أنْ تكون للتَّعدية ، وأن تكون للحاليَّة ، كقوله : [ الوافر ]
2565 - . . ... تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبَا
وقد تقدَّم . و « جاوز » بمعنى : جاز ، ف « فاعل » بمعنى « فَعَل » .
وقرأ الحسنُ ، وإبراهيم ، وأبو رجاء ويعقوب جَوَّزْنَا بالتِّشْديدِ وهو أيضاً بمعنى « فَعَلَ » المجردِ ك قَدَرَ وقَدَّر .
قوله : يَعْكُفُونَ صفة ل « قَوْم » . وقرأ الأخوان « يَعْكِفُونَ » بكسر الكاف ، وتروى عن ابي عمرو أيضاً ، والباقون بالضمِّ ، وهما لغتان في المضارع ك « يَعْرشُون » . وقد تقدَّم معنى « العكوف » واشتقاقه في البقرة .
قال قتادة : كان أولئك القومُ من لَخْم ، وكانُوا نُزولاً بالرِّقَّةِ .
وقال ابنُ جريج : كانت تلك الأصْنَام تماثيل بقر ، وذلك أول شأن قصة العِجْلِ .
قال الكلبيُّ : عبر بهم موسى البَحْرَ يومَ عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه ، فصاموه شكراً للَّه عزَّ وجلَّ .
قوله : { قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها } أي : مثالاُ نعبده . ولم يكن ذلك شكّاً من بني إسرائيل في وحدانية اللَّهِ ، وإنَّمَا معناه : أجعل لنا شيئاً نعظمه ، ونتقرب بتعظيمه إلى اللَّهِ ، وظَنُّوا أنَّ ذلك لا يضر الدِّيانة ، وكان ذلك لشدَّة جهلهم ، لأنَّ العبادة غاية التَّعظيم ، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام ، وهو خالقُ الجسمِ ، والحياةِ والقدرةِ ، والعقلِ ، والأشياءِ المنتفع بها . وليس ذلك إلاَّ الله تعالى .
فصل
واعْلَمْ أنَّ هذا القولَ لم يصدر عن كلّهم ، وإنَّما صدرَ من بعضهم؛ لأنَّه كان مع موسى السبعون المُختارون ، وفيهم من يرتفعُ عن مثل هذا السُّؤالِ .
قوله كمَا لَهُمْ آلِهَةٌ الكافُ في محلِّ نصب صفة ب « إلهاً » ، أي : إلهاً مماثلاُ لإلههم .
وفي « ما » ثلاثةُ أوجه : أحدها : موصولةٌ حرفية ، أي : تتأوَّلُ بمصدرِ ، وعلى هذا فصلتُهَا محذوفة ، وإذا حُذِفَتْ صلة « ما » المصدريَّة ، فلا بدَّ من إبقاء معمولِ صلتها ، كقولهم : لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِرَاءَ مَكَانَهُ ، أي : ما ثَبَتَ أنَّ حِرَاءَ مكانه ، وكذا هنا تقديره : كما ثبت لهم آلهة ، ف « آلهة » فاعل « ثبت » المقدر ، أي : كما أنَّ « أنَّ » المفتوحةَ في المثالِ المتقدم فاعل « ثبت » المقدر .
وقال أبُو البقاءِ - هذا الوجه - ليس بجيد « والجملة بعدها صلةٌ لها ، وحسَّن لك أنَّ الظرف مقدَّرٌ بالفعل » .
فصل
قال شهابُ الدِّينِ : كلامُهُ على ظاهِره ليس بجيِّد؛ لأنَّ « ما » المصدريةَ لا تُوصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور ، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك ، فيشترط فيها غَالِباً أن تُفْهِم الوقت كقوله : [ الكامل ]
2566 - وَاصِلْ خِلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ ... فلأنْتَ أوْ هُوَ عَنْ قَرِيبٍ ذَاهِبُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75