كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

{ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] . وأيضاً فقوله : « العَاكِفُ » المراد منه المقيم ، وإقامته لا تكون في المسجد بل في المنازل . وقيل : { سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد } في تعظيم حرمته وقضاء النسك به وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة ، أي ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس ، قال عليه السلام : « يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلب من وُلِّي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت أو صَلّى أية ساعة من ليل أو نهار » وهذا قول من أجاز بيع دور مكة .
وقد جرت مناظرة بين الشافعي وإسحاق الحنظلي بمكة وكان إسحاق لا يرخِّص في كراء بيوت مكة ، فاحتج الشافعي بقوله تعالى : { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم } [ الحج : 40 ] . فأضاف الديار إلى مالكيها أو إلى غير مالكيها . وقال عليه السلام يوم فتح مكة : « من أغلق بابه فهو آمن » ، وقوله عليه السلام : « هل ترك لنا عقيل من رباع » وقد اشترى عمر بن الخطاب دار السجن ، أترى أنه اشتراها من مالكيها أو من غير مالكيها .
قال إسحاق : فلما علمت أن الحجة لزمتني تركت قولي . والقول بجواز بيع دور مكة وإجارتها قول طاوس وعمرو بن دينار وبه قال الشافعي .
قوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن مفعول « يُرِدْ » محذوف ، وقوله : « بإلحَادٍ بظُلمٍ » حالان مترادفان ، والتقدير : ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً نذقه من عذاب إليم . وإنما حذف ليتناول كل متناول ، قال معناه الزمخشري .
والثاني : أنّ المفعول أيضاً محذوف تقديره : ومن يرد فيه تَعَدِّيا ، و « بإلحاد » حال ، أي : ملتبساً بإلحاد ، و « بِظُلْمٍ » بدل بإعادة الجار .
الثالث : أن يكون « بظلم » متعلقاً ب « يُرِدْ » والباء للسببية ، أي : بسبب الظلم و « بإلحَادٍ » مفعول به ، والباء مزيدة فيه كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] .
3756- لاَ يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ ... وإليه ذهب أبو عبيدة ، وأنشد للأعشى :
3757- ضَمِنَتْ بِرِزْقِ عِيالنَا أَرْمَاحُنَا ... أي : ضمنت رزق . ويؤيده قراءة الحسن : { وَمَنْ يُرِدْ إلحَادَهُ بِظُلْمٍ } .
قال الزمخشري : أراد إلحاده فيه ، فأضافه على الاتساع في الظرف ك « مَكْرُ اللَّيْلِ » ومعناه : ومن يرد أن يلحد فيه ظالماً .
الرابع : أن تضمن « يُرِدْ » معنى يلتبس فذلك تعدى بالباء ، أي : ومن يلتبس بإلحاد مريداً له . والعامة على « يُرِد » بضم الياء من الإرادة . وحكى الكسائي والفراء أنه قرئ « يَرد » بفتح الياء ، قال الزمخشري : من الورود ومعناه : من أتى فيه بإلحاد ظالماً .
فصل
الإلحاد : العدول عن القصد ، وأصله إلحاد الحافر . واختلف المفسرون فيه ، فقيل : إنه الشرك ، أي مَن لجأ إلى الحرم ليشرك به عَذّبه الله ، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد وقتادة .

وروي عن ابن عباس هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم من لا يظلمك . وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن سعد حيث استسلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - فارتد مشركاً ، وفي قيس بن ( ضبابة ) . وقال مقاتل : نزلت في عبد الله بن خطل حيث قتل الأنصاريّ وهرب إلى مكة كافراً ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله يوم الفتح . وقال مجاهد : تضاعَفُ السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات .
وعن سعيد بن جبير وحبيب بن أبي ثابت : هو احتكار الطعام بمكة . وعن عطاء هو قول الرجل في المبايعة : لا والله وبلى والله . وعن عبد الله بن عمر : أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل ، فقيل له في ذلك فقال : كنا نُحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله ، وبلى والله .
وعن عطاء : هو دخول الحرم غير محرم وارتكاب شيء من محظورات الإحرام من قتل صيد أو قطع شجر . ولما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بيَّن تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلاً إلى الظلم فلهذا قرن الظلم بالإلحاد؛ لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم ، ولذلك قال تعالى { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
وقوله : { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } بيان للوعيد .

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

قوله تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت } الآية . أي؛ اذكر حين ، واللام في « لإبراهيم » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها للعلة ، ويكون مفعول « بَوَّأْنا » محذوفاً ، أي : بوأنا الناس لأجل إبراهيم مكان البيت ، و « بَوَّأَ » جاء متعدياً صريحاً قال تعالى : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ } [ يونس : 93 ] { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] ، وقال الشاعر :
3758- كَمْ صَاحِبٍ لِي صَالِحٍ ... بَوَّأْتُه بِيَدَيَّ لَحْدا
والثاني : أنها مزيدة في المفعول به ، وهو ضعيف لما تقرر أنها لا تزاد إلا بعد تقدم معمول أو كان العامل فرعاً .
الثالث : أن تكون معدية للفعل على أنه مضمن معنى فعل يتعدى بها ، أي؛ هيأنا له مكان البيت ، كقولك : هيأت له بيتاً ، فتكون اللام معدية قال معناه أبو البقاء .
وقال الزمخشري : واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة ففسر المعنى بأنه ضمن « بَوأْنا » معنى ( جعلنا ) ، ولا يريد تفسير الإعراب . وفي « مكان البيت » وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول به .
والثاني : قال أبو البقاء : أن يكون ظرفاً . وهو ممتنع من حيث إنه ظرف مختص فحقه أن يتعدى إليه ب ( في ) .
فصل
روي أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات :
أحدها : بناء الملائكة قبل آدم ، وكانت من ياقوتة حمراء ، ثم رفعت إلى السماء أيام الطوفان .
والثانية : بناء إبراهيم - عليه السلام - .
والثالثة : بناء قريش في الجاهلية ، وقد حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا البناء .
والرابعة : بناء ابن الزبير .
والخامسة : بناء الحجاج وهو البناء الموجود اليوم .
« وروى أبو ذر قال : قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال : » المسجد الحرام « .
قال : ثم قلت : أي؟ قال : » المسجد الأقصى « . قلت : كم بينهما؟ قال : » أربعون سنة « والمسجد الأقصى أسسه يعقوب - عليه السلام - وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » بعثَ اللَّهُ جبريلَ عليه السلام إلى آدم وحواء فقال لهما : ابنيا ليَ بيتاً ، فخطّ لهما جبريل فجعل آدمُ يحفر وحواء تنقل حتى أجابه الماء نودي من تحته : حسبك يا آدم . فلما بنياه أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به ، وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت ، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح ، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه « روي عن عليّ - رضي الله عنه - أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم - عليه السلام - أن ابنِ لي بيتاً في الأرض ، فضاق به زرعاً ، فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج لها رأس ، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ، ثم تطوقت في موضع البيت تطوُّق الحية ، فبنى إبراهيم حتى إذا بلغ مكان الحجر ، قال لابنه : ابغني حجراً ، فالتمس حجراً حتى أتاه به ، فوجد الحجر الأسود قد ركب ، فقال لأبيه : من أين لك هذا؟ قال : جاء به من لا يتكل على بنائك ، جاء به جبريل من السماء فأتمه ، قال : فمرّ عليه الدهر فانهدم ، فبنته العمالقة ، ثم انهدم فبنته جرهم ، ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ رجل شاب فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا : نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول من خرج ، فقضى بينهم أن يجعلوه في مربط ثم ترفعه جميع القبائل كلهم ، فرفعوه ، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن ، فوضعه ، وكانوا يدعونه الأمين .

قال موسى بن عقبة : كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة . قال ابن إسحاق : كانت الكعبة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة ذراعاً ، وكانت تكسى القباطي ثم كسيت البرود ، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف .
وأما المسجد الحرام فأول من أخر بنيان البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب اشتراها من أهلها وهدمها ، فلما كان عثمان اشترى دوراً وزادها فيه ، فلما وُلّي ابن الزبير أحكم بنيانه وأكثر أبوابه وحسن جدرانه ، ولم يوسعه شيئاً آخر ، فلما استوى الأمر إلى عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه وأمر بالكعبة فكسيت الديباج ، وتولى ذلك بأمره الحجاج .
وروي أن الله تعالى لما أمر إبراهيم - عليه السلام - ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله تعالى ريحاً خجوجاً فكشفت ما حول البيت عن الأساس . وقال الكلبي : بعث الله سحابة بقدر البيت ، فقامت بحيال البيت فيها رأس يتكلم وله لسان وعينان يا إبراهيم ابن على قدري وحيالي ، فبنى عليه .
قوله : { أَن لاَّ تُشْرِكْ } في « أَنْ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها هي المفسرة . قال الزمخشري بعد أن ذكر هذا الوجه : فإن قلت : كيف يكون النهي عن الشرك ، والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئِة . قلت : كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة ، وكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا لا تشرك . يعني الزمخشري أن « أن » المفسرة لابد أن يتقدمها ما هو بمعنى القول لا حروفه ولم يتقدم إلا لتبوئة وليست بمعنى القول فضمنها معنى القول ، ولا يريد بقوله : قلنا : لا تشرك . تفسير الإعراب بل تفسير المعنى ، لأن المفسرة لا تفسر القول الصريح .
الثاني : أنها المخففة من الثقيلة . قاله ابن عطية . وفيه نظر من حيث إن ( أن ) المخففة لا بد أن يتقدمها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة .
الثالث : أنها المصدرية التي تنصب المضارع ، وهي توصل بالماضي والمضارع والأمر ، والنهي كالأمر ، وعلى هذا ف « أن » مجرورة بلام العلة مقدرة أي : بوأناه لئلا تشرك ، وكان من حق اللفظ على هذا الوجه أن يكون « أن لا يشرك » بياء الغيبة ، وقد قرئ بذلك ، قاله أبو البقاء : وقوى ذلك قراءة من قرأة بالياء .

يعني من تحت . ووجه قراءة العامة على هذا التخريج أن يكون من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب .
الرابع : أنها الناصبة ومجرورة بلام أيضاً ، إلا أن اللام متعلقة بمحذوف ، أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك ، فجعل النهي صلة لها ، وقَوَّى ذلك قراءة الياء قاله أبو البقاء . والأصل عدم التقدير مع عدم الاحتياج إليه . وقرأ عكرمة وأبو نهيك { أن لا يشرك } بالياء .
قال أبو حيان : على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له . وقال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى : لئلا يُشْرِكَ . قال شهاب الدين : كأنه لم يظهر له صلة ( أَنْ ) المصدرية بجملة النهي؛ فجعل ( لاَ ) نافية ، وسلّط ( أَنْ ) على المضارع بعدها حتى صار علة للفعل قبله ، وهذا غير لازم لما تقدم من وضوح المعنى مع جعلها ناهية .
فصل
وههنا سؤالات :
الأول : إذا قلنا : أنّ ( أَنْ ) هي المفسرة : فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة؟
والجواب : أنه سبحانه لما قال : جعلنا البيت مرجعاً لإبراهيم ، فكأنه قيل : ما معنى كون البيت مرجعاً له ، فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه موحداً لرب البيت عن الشريك والنظير مشتغلاً بتنظيف البيت عن الأوثان والأصنام .
السؤال الثاني : أن إبراهيم - عليه السلام - لما لم يشرك بالله فيكف قيل : { لاَّ تُشْرِكْ بِي } ؟
والجواب : المعنى : لا تجعل في العبادة لي شريكاً ، ولا تشرك بي غرضاً آخر في بناء البيت .
السؤال الثالث : أنَّ البيت ما كان معموراً قبل ذلك فكيف قال : « وَطَهِّرْ بَيتِي » .
والجواب : لعل ذلك المكان كان صحراء فكانوا يرمون إليها الأقذار ، فأمر إبراهيم ببناء ذلك البيت في ذلك المكان وتطهيره عن الأقذار ، أو كانت معمورة وكانوا وضعوا فيها أصناماً ، فأمره الله تعالى بتخريب ذلك البناء ووضع بناء جديد ، فذلك هو التطهير عن الأوثان ، أو يكون المراد أنك بعد أن تبنيه فطهره عما لا ينبغي من الشرك .
وقوله : « لِلطَّائِفينَ » قال ابن عباس : للطائفين بالبيت من غير أهل مكة « والقائمين » أي : المقيمين فيها ، « والرُّكَّع السُّجُود » أي : المصلين من الكل ، وقيل : القائمون هم المصلون .
قوله : { وَأَذِّن فِي الناس بالحج } . قرأ العامة بتشديد الذال بمعنى ( ناد ) .
وقرأ الحسن وابن محيصن « آذن » بالمد والتخفيف بمعنى أعلم . ويبعده قوله : « فِي النّاس » إذ كان ينبغي أن يتعدى بنفسه . ونقل أبو الفتح عنهما أنهما قرءا بالقصر وتخفيف الذال ، وخرجها أبو الفتح وصاحب اللوامح على أنها عطف على « بَوَّأْنَا » أي : واذكر إذ بوأنا وإذ أُذن في الناس ، وهي تخريج وضاح .

وزاد صاحب اللوامح فقال : فيصير في الكلام تقديم وتأخير ويصير « يأتوك » جزماً على جواب الأمر في « وَطهِّر » . وابن محصين « وآذن » بالمد : وتصحف هذا على ابن جنيّ فإنه حكى عنهما « وأَذِنَ » على أنه فعل ماض وأعرب على ذلك بأن جعله عطفاً على « بَوَّأْنَا » . قال شهاب الدين : ولم يتصحف عليه بل حكى هذه القراءة أبو الفضل الرازي في اللوامح له عنهما ، وذكرها أيضاً ابن خالويه ، ولكنه لم يطلع عليها ، فنسب من اطّلع عليها للتصحيف ، ولو تأنّى أصاب أو كاد .
وقرأ ابن ابي إسحاق « بالحجِّ » بكسر الحاء حيث وقع كما تقدم .
فصل
قال أكثر المفسرين : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال الله له : { أذن في الناس بالحج } ، قال : يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال : عليك الأذان وعليَّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا ، وفي رواية أبا قبيس ، وفي رواية على المقام . فارتفع المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه ، وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتاً ، وقد كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم ، فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك اللهم لبيك . قال ابن عباس : فأول من أجابه أهلُ اليَمَن فهم أكثر الناس حجاً . وقال مجاهد : من أجاب مرّة حجّ مرّة ومن أجاب مرتين أو أكثر فيحج مرتين أو أكثر بذلك المقدار . قال ابن عباس : لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى . وقال الحسن وأكثر المعتزلة : إنّ المأمور بالأذان هو محمد - عليه السلام - واحتجوا بأن ما جاء في القرآن وأمكن حَمْله على أن محمداً هو المخاطب فهو أولى وقد بينا أن قوله : « وَإِذْ بَوَّأنَا » ، أي : واذكر يا محمد إذ بوأنا ، فهو في حكم المذكور ، فلما قال : « وَأَذِّنْ » فإليه يرجع الخطاب . قال الجبائي : أمر محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل ذلك في حجة الوداع . قالوا : إنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول ، وفي قوله : « يَأْتُوكَ » دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدى به .
وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُم الحجَّ فحُجُّوا » .
قوله : « رِجَالاً » نصب على الحال ، وهو جمع راجل نحو : صاحب وصِحَاب ، وتاجر وتجار ، وقائم وقيام . وقرأ عكرمة والحسن وأبو مجلز « رُجَّالاً » بضم الراء وتشديد الجيم .

وروي عنهم تخفيفها ، وافقهم ابن أبي إسحاق على التخفيف ، وجعفر بن محمد ومجاهد على التشديد ، ورويت عن ابن عباس أيضاً . فالمخفف اسم جمع كظؤار ، والمشدد جمع تكسير كصائم وصوام . وروي عن عكرمة أيضاً « رُجَالَى » كنُعَامى بألف التأنيث . وكذلك عن ابن عباس وعطاء إلا أنهما شددا الجيم . قوله : { وعلى كُلِّ ضَامِرٍ } نسق على « رجالاً » ، فيكون حالاً أي : مشاة وركباناً . والضمور : الهزال ، ضَمَر يضْمُر ضُمُوراً ، والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها .
قوله : « يأتين » . النون ضمير « كُلِّ ضَامِر » حملاً على المعنى ، إذ المعنى : على ضوامر ، ف « يَأْتِينَ » صفة ل « ضامر » ، وأتى بضمير الجمع حَملاً على المعنى ، أي جماعة الإبل ، وقد تقدم في أول الكتاب أن « كل إذا أضيفت إلى نكرة لم يراع معناها إلا في قليل ، كقوله :
3759- جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْتُ كُلَّ حَديقَة كَالدِّرْهَمِ
وهذه الآية ترده ، فإن » كلّ « فيها مضافة لنكرة وقد روعي معناها ، وكان بعضهم أجاب عن بيت زهير بأنه إنما جاز ذلك؛ لأنه في جملتين ، قيل له : فهذه الآية جملة واحدة ، لأن » يأتين « صفة ل » ضَامِر « . وجوَّز أبو حيان أن يكون الضمير يشمل » رجالاً « و » كل ضامر « قال : على معنى الجماعات والرفاق . قال شهاب الدين : فعلى هذا يجوز أن يقال عنده : الرجال يأتين ، ولا ينفعه كونه اجتمع مع الرجال هنا » كل ضامر « ، فيقال جاز ذلك لما اجتمع معه ما يجوز فيه ذلك إذ يلزم منه تغليب غير العاقل على العاقل وهو ممنوع . وقال البغوي : وإنما جمع » يَأْتِين « لمكان » كُلّ « وأراد النوق . وقرأ ابن مسعود والضحاك وابن أبي عبلة » يَأْتون « تغليباً للعقلاء الذكور . وعلى هذا فيحتمل أن يكون قوله : { على كل ضامر } حالاً أيضاً ، ويكون » يأتون « مستأنفاً متعلق به من كل فج أي يأتونك رجالاً وركباناً ثم قال : { يأتون من كل فج } وأن يتعلق بقوله » يأتون « أي يأتون على كل ضامر من كل فجّ ، و » يأتون « مستأنف أيضاً ، فلا يجوز أن يكون صفة ل » رجالاً « ول » ضامر « لاختلاف الموصوف في الإعراب؛ لأن أحدهما منصوب والآخر مجرور ، ولو قلت : رأيت زيداً ومررت بعمرو العاقلين . على النعت لم يجز بل على القطع . وقد جوَّز ذلك الزمخشري فقال : وقرئ » يَأْتُون « صفة للرجال والركبان وهو مردود بما ذكرنا . والفج : الطريق بين الجبلين ، ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعاً . والعميق : البعيد سفلاً ، يقال : بئر عميقة معيقة ، فيجوز أن يكون مقلوباً إلا أنه أقل من الأول ، قال :

3760- إِذَا الخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ ... يَمُدُّ بِهَا فِي السَّيْرِ أَشْعَثُ شَاحِبُ
وقرأ ابن مسعود : « مَعِيقٌ » ويقال : عمق وعمق بكسر العين وضمها عمقاً بفتح الفاء قال الليث : عميق ( ومعيق ، والعميق في الطريق أكثر . وقال الفراء : عميق لغة الحجاز ) ومعيق لغة تميم وأعمقت البئر وأمعقتها وعَمُقَت ومَعُقَت عماقة ومعاقة وإعماقاً وإمعاقاً قال رؤبة :
3761- وَقَاتِمِ الأَعْمَاقِ خَاوِي المُخْتَرقْ ... الأعماق هنا بفتح الهمزة جمع عُمْق وعلى هذا فلا قلب في معيق ، لأنها لغة مستقلة ، وهو ظاهر قول الليث أيضاً ، ويؤيده قراءة ابن مسعود بتقديم الميم ، ويقال : غميق بالغين المعجمة أيضاً .
فصل
بدأ الله بذكر المشاة تشريفاً لهم ، وروى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم ، قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال : الحسنة بمائة ألف حسنة » .
وإنما قال تعالى : « يَأْتُوكَ رِجَالاً » ؛ لأنه هو المنادي فمن أتى مكة حاجّاً فكأنه أتى إبراهيم - عليه السلام - ، لأنه يجيب نداءه .
قوله : « لِيَشْهَدُوا » يجوز في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أن تتعلق ب « أَذِّنْ » ، أي : أذن ليشهدوا .
والثاني : أنها متعلقة ب « يَأْتُوكَ » . وهو الأظهر .
قال الزمخشري : ونكر « مَنَافِعَ » لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات . قل سعيد بن المسيب ومحمد بن علي الباقر :
المنافع : هي العفو والمغفرة وقال سعيد بن جبير : التجارة ، وهي رواية ابن زيد .
وعن ابن عباس قال : الأسواق . وقال مجاهد : التجارة وما يرضى الله به من أمر الدنيا والآخرة . { وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } قال الأكثرون : هي عشر ذي الحجة قيل لها « مَعْلُومَات » للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها .
والمعدودات : أيام التشريق . وروي عن علي : أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، وهو اختيار الزجاج . لأن الذكر على « بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ » يدل على التسمية على نحرها . والنحر للهدايا إنما يكون في هذه الأيام . وروى عطاء عن ابن عباس : أنها يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق . وقيل : عبر عن الذبح والنحر بذكر اسم الله؛ لأن المسلمين لا ينفكون عن ذكر اسم الله إذا نحروا . ثم قال : { على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام } يعني الهدايا والضحايا تكون من النعم ، وهي الإبل والبقرة والغنم . قال الزمخشري : البهيمة المبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر ، فبينت بالأنعام وهي : الإبل والبقر والغنم .
قوله : « فَكُلُوا مِنْهَا » . قيل : هذا أمر وجوب ، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً تَرَفُّقاً على الفقراء .

وقيل : هذا أمر إباحة . واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعاً كان للمُهْدِي أن يأكل منه ، وكذلك أضحية التطوع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يؤخذ من كل جزور بضعه ، فطبخت ، وأكل لحمها ، وحسي من مرقها ، وكان هذا تطوعاً . واختلفوا في الهدي الواجب في النذور والكفارات والجبرانات للنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودم التقليم والحلق ، والواجب بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد . فقال الشافعي وأحمد : لا يأكل منه . وقال ابن عمر : لا يأكل من جزاء الصيد والنذور ، ويأكل مما سواهما . وقال مالك : يأكل من هدي التمتع ، ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور . وعند أصحاب الرأي : يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما .
قوله : { وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير } . يعني الزمن الفقير الذي لا شيء له .
قال ابن عباس : البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه ، والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني . والبؤس شدة الفقر .
قوله : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } . العامة على كسر اللام ، وهي لام الأمر . وقرأ نافع والكوفيون والبزي بسكونها ، إجراء للمنفصل مجرى المتصل نحو كتف ، وهو نظير تسكين هاء ( هو ) بعد ( ثُمَّ ) في قراءة الكسائي وقالون حيث أجريت ( ثُمَّ ) مجرى الواو والفاء والتَّفَث : قيل أصله من التف . وهو وسخ الأظفار قلبت الفاء ثاء كمعثور في معفور . وقيل : هو الوسخ والقذر يقال : ما تفثك . وحكى قطرب : تفث الرجل ، أي : كثر وسخه في سفره . قال الزجاج : إن أهل اللغة لا يعرفون التّفَث إلا من التفسير . وقال المبرد : أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها . وقال القفال : قال نفطويه : سألت أعرابياً فصيحاً ما معنى قوله : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } ، فقال : ما أفسر القرآن ، ولكنا نقول للرجل : ما أتفثك ، أي : أوسخك وما أدرنك . ثم قال القفال : وهذا أولى من قول الزجاج لأن القول قول المثبت لا قول النافي . والمراد بالتفث هنا : الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار والشعث والحاج أشعث أغبر ، والمراد قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة . والمراد بالقضاء إزالة ذلك ، والمراد به الخروج من الإحرام بالحلق وقص الشارب والتنظيف ولبس الثياب . وقال ابن عمر وابن عباس : قضاء التفث مناسك الحج كلها . وقال مجاهد : هو مناسك الحج وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار . وقيل : التفث هنا رمي الجمار . وقيل : معنى « لِيَقْضُوا تَفَثَهُم » ليصنعوا ما يصنعه المحرم من إزالة شعر وشعث ونحوهما عند حله ، وفي ضمن هذا قضاء جميع المناسك إذ لا يفعل هذا إلا بعد فعل المناسك كلها .
قوله : « وَليُوفُوا » . قرأ أبو بكر « وَليُوفُّوا » بالتشديد ، والباقون بالتخفيف .

وتقدّم في البقرة أن فيه ثلاث لغات وَفّى ، وَوفَى ، وأَوْفَى . وقرأ ابن ذكوان : « ولِيوفوا » بكسر اللام ، والباقون بسكونها . وهذا الخلاف جار في قوله « وَلِيَطَّوَّفُوا » . والمراد بالوفاء ما أوجبه بالنذر ، وقيل : ما أوجبه الدخول في الحج من المناسك . قال مجاهد : أراد نذر الحج والهدي ، وما ينذره الإنسان من شيء يكون في الحج . وقيل : المراد الوفاء بالنذر مطلقاً وقوله : « وَلِيَطَّوَّفُوا » المراد الطواف الواجب ، وهو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق وسمي البيت العتيق قال الحسن : القديم لأنه أول بيت وضع للناس . وقال ابن عباس وابن الزبير : لأنه أُعْتِقَ من الجبابرة ، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله ، ولما قصده أبرهة فُعِل به ما فعل . فإن قيل : قد تسلَّط الحجاج عليه؟
فالجواب : أنه ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصّن به عبد الله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه وقال ابن عيينة : لم يُمْلك قط . وقال مجاهد : أعتق من الغرق .
وقيل : لأنه بيت كريمٌ من قولهم : عِتاق الخيل والطير .
فصل
والطواف ثلاثة أطواف :
الأول : طواف القدوم وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعاً ، يرمل ثلاثاً من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه ، ويمشي أربعاً وهذا الطواف سنة لا شيء على تاركه .
والثاني : طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق ، ويسمى أيضاً طواف الزيارة وطواف الصدر ، وهو واجب لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به .
والثالث : طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعاً ، فمن تركه فعليه دم إلا الحائض والنفساء ، فلا وداع عليهما لما روى ابن عباس قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه أرخص للمرأة الحائض . والرمل يختص بطواف القدوم ، ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع .

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)

قوله تعالى : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله } الآية . « ذَلِكَ » خبر مبتدأ مضمر ، أي : الأمر والشأن ذلك ، قال الزمخشري : كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني ، فإذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا ، وقد كان كذا . وقدره ابن عطية : فرضكم ذلك أو الواجب ذلك . وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف ، أي ذلك الأمر الذي ذكرته . وقيل : في محل نصب أي : امتثلوا ذلك . ونظير هذه الإشارة قول زهير بعد تقدم جمل في وصف هرم بن سنان :
3762- هذَا وَلَيْسَ كَمنْ يَعْيَا بَخُطَّتِهِ ... وَسْطَ النَّدِيّ إِذَا نَاطِقٌ نَطَقَا
والحرمة ما لا يحلّ هَتْكُه ، وجمييع ما كلفه الله بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها ، فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه ، ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج .
وعن زيد بن أسلم : الحرمات خمس : الكعبة الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمشعر الحرام . وقال ابن زيد : الحرمات ههنا : البيت الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمسجد الحرام ، ( والإحرام ) .
وقال الليث : حرمات الله ما لا يحل انتهاكها .
وقال الزجاج : الحرمة ما وجب القيام به ، وحرم التفريط فيه .
قوله : « فهو » « هُو » ضمير المصدر المفهوم من قوله : « وَمَنْ يُعَظّم » ، أي؛ فتعظيم حرمات الله خير له ، كقوله تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] و « خير » هنا ظاهرها التفضيل بالتأويل المعروف ومعنى التعظيم : العلم بوجوب القيام بها وحفظها .
وقوله : « عِنْدَ رَبِّهِ » أي : عند الله في الآخرة . وقال الأصم : فهو خير له من التهاون .
قوله : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } ووجه النظم أنه كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضاً تَحْرُم ، فبيَّن تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها ، ثم استثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم في سورة المائدة في قوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] ، وقوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] .
قوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } يجوز أن يكون استثناء متصلاً ، ويصرف إلى ما يحرم من بهيمة الأنعام لسبب عارض كالموت ونحوه . وأن يكون استثناءً منقطعاً؛ إذ ليس فيها محرم وقد تقدم تقرير هذا أول المائدة .
قوله : « مِنَ الأَوْثَانِ » . في « مِنْ » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها لبيان الجنس ، وهو مشهور قول المعربين ، ويقدر بقولك الرجس الذي هو الأوثان . وقد تقدم أن شرط كونها بيانية ذلك ويجيء مواضع كثيرة لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضه .
والثاني : أنها لابتداء الغاية .
قال شهاب الدين : وقد خلط أبو البقاء القولين فجعلهما قولاً واحداً . فقال : و « مِنْ » لبيان الجنس ، أي : اجتنبوا الرجس من هذا القبيل وهو معنى ابتداء الغاية ههنا يعني أنه في المعنى يؤول إلى ذلك ولا يؤول إليه البتة .

الثالث : أنها للتبعيض . وقد غلّط ابن عطية القائل بكونها للتبعيض فقال : ومن قال إن « من » للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده . وقد يمكن التبعيض فيها بأن معنى الرجس عبادة الأوثان ، وبه قال ابن عباس وابن جريج فكأنه قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة ، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغيره مما لم يحرم الشرع استعماله ، فللوثن جهات منها عبادتها وهي بعض جهاتها . قاله أبو حيان . والأوثان جمع وثن ، والوثن يطلق على ما صُوِّر من نحاس وحديد وخشب ويطلق أيضاً على الصليب ، قال عليه السلام لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً : « أَلْقِ هذَا الوَثَنَ عَنْكَ » وقال الأعشى :
3763- يَطُوفُ العُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ ... كَطَوْفِ النَّصَارَى ببَيْتِ الوَثَنْ
واشتقاقه من وَثن الشيء ، أي أقام بمكانه وثبت فهو واثن ، وأنشد لرؤبة :
3764- عَلَى أَخِلاَّءِ الصَّفَاءِ الوُثَّنِ ... أي : المقيمين على العهد ، وقد تقدم الفرق بين الوثن والصَّنم .
فصل
قال المفسرون : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } أي؛ عبادتها ، أي كونوا على جانب منها فإنها رجس ، أي سبب رجس وهو العذاب ، والرجس بمعنى الرجز .
وقال الزجاج : « مِن » ههنا للتجنيس ، أي اجتنبوا الأوثان التي هي الرجس { واجتنبوا قَوْلَ الزور } . واعلم أنه تعالى لما حَثّ على تعظيم حرماته أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور ، لأن توحيد الله وصدق القول أعظم الحرمات ، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد ، لأن الشرك من باب الزور ، لأن المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة فكأنه قال : فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله ، ولا تقربوا شيئاً منه ، وما ظنك بشيء من قبيلة عبادة الأوثان . وسمى الأوثان رجساً لا للنجاسة لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس ، ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات . قال الأصَمّ : إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في القربان أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها . وهذا بعيد ، وإنما وصفها بذلك استحقاراً واستخفافاً .
والزور من الازورار وهو الانحراف كما أن الإفك ( من أَفِكه إذا صرفه ) وذكر المفسرون في قول الزور وجوهاً :
الأول : قولهم : هذا حلال وهذا حرام ، وما أشبه ذلك .
والثاني : شهادة الزور؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح فلما سلم قام قائماً ، واستقبل الناس بوجهه ، وقال : « عدلت شهادة الزور الإشراك بالله » وتلا هذه الآية .
الثالث : الكذب والبهتان .
الرابع : قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك .
قوله : « حُنَفَاءَ لِلَّهِ » حال من فاعل « اجْتَنِبوا » ، وكذلك « غَيْرَ مُشْرِكِين » وهي حال مؤكدة إذ يلزم من كونهم « حنفاء » عدم الإشراك أي مخلصين له ، أي تمسكوا بالأوامر والنواهي على وجه العبادة لله وحده لا على وجه إشراك غير الله به ، فلذلك قال { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } .

ثم قال : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء } أي : سقط من السماء إلى الأرض .
قوله : « فَتَخْطَفُهُ » . قرأ نافع بفتح الخاء والطاء مشددة ، وأصلها تختطفه فأدغم . وباقي السبعة « فتَخْطَفُه » بسكون الخاء وتخفيف الطاء . وقرأ الحسن والأعمش وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد . وروي عن الحسن أيضاً بفتح الطاء مشددة مع كسر التاء والخاء . وروي عن الأعمش كقراءة العامة إلا أنه بغير فاء « تخطفه » وتوجيه هذه القراءات قد تقدم في أوائل البقرة عند قوله : { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ } [ البقرة : 20 ] . وقرأ أبو جعفر « الرياح » جمعاً .
وقوله : « خَرّ » في معنى ( تخر ) ، ولذلك عطف عليه المستقبل وهو « فتَخْطَفُه » .
ويجوز أن يكون على بابه ولا يكون « فَتَخْطَفُهُ » عطفاً عليه بل هو خبر مبتدأ مضمر أي : فهو تخطفه . قال الزمخشري : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيهاً مركباً ، فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس وراءه إهلاك بأن صور حاله بصورة حال مَنْ خَرّ من السماء فاختطفته الطير فتفرق مُزَعاً في حواصلها ، أو عصفت به الرياح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة .
وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوّه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة . والسحيق البعيد ، ومنه : سَحَقَهُ الله ، أي : أبعده ، ومنه قول عليه السلام : « سُحْقاً سُحْقاً » أي بُعْداً بُعْداً . والنخلة السحوق الممتدة في السماء من ذلك .
قوله تعالى : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله } الآية . إعراب « ذَلِك » كإعراب « ذَلِكَ » المتقدم وتقدم تفسير الشعيرة واشتقاقها في المائدة . والمعنى : ذلك الذي ذكرت من اجتناب الرجس ، وقول الزور ، وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب .
قال ابن عباس : شعائر الله البُدْن والهدايا . وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هَدْي ، وتعظيمها استحسانها واستسمانها . وقيل : شعائر الله أعلام دينه .
وقيل : مناسك الحج .
قوله : { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } . أي : فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات ، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها ، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى ( من ) ليرتبط به ، وإنما ذكرت القلوب ، لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه وقلبه خال عنها ، فلهذا لا يكون مجدّاً في الطاعات ، وأما المخلص الذي تمكنت التقوى من قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص .

واعلم أن الضمير في قوله : { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } فيه وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الشعائر على حذف مضافه ، أي : فإن تعظيمها من تقوى القلوب .
والثاني : أنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل قبله ، أي : فإن التعظيم من تقوى القلوب والعائد على اسم الشرط من هذه الجملة الجزائية مقدر تقديره : فإنها من تقوى القلوب منهم . ومن جوَّز إقامة ( أل ) مقام الضمير - وهم الكوفيون - ، أجاز ذلك هنا ، والتقدير : من تقوى قلوبهم كقوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] . والعامة على خفض « القلوب » ، وقرئ برفعها ، فاعلة للمصدر قبلها وهو « تقوى » .

لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي : في الشعائر بمعنى الشرائع ، أي : لكم في التمسك بها . وقيل : في بهيمة الأنعام ، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك . ورواه مقسمٌ عن ابن عباس . وعلى هذا فالمنافع درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهرها إلى أجل مسمى ، وهو أن يسميها ويوجبها هدياً؛ فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها .
وروي عن ابن عباس أن في البدن منافع مع تسميتها هدياً بأن تركبوها إن احتجتم إليها ، وتشربوا لبنها إن احتجتم إليه ، إلى أجل مسمّى إلى أن تنحروها . وهذا اختيار الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق ، وهو أَوْلى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - « مَرَّ برجلٍ يَسُوقُ بَدَنَةً وهو في جهد ، فقال عليه السلام : » ارْكَبْهَا « . فقال يا رسول الله إنها هدي . فقال : » ارْكَبْهَا ويلك « قال عليه السلام : » اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهراً « واحتج أبو حنيفة على أنه لا يملك من منافعها بأنه لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكاً لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات . وأجيب بأن هذا قياس في معارضة النص فلا عبرة به ، وأيضاً فإن أم الولد لا يملك بيعها ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا . ومن حمل المنافع على سائر الواجبات يقول : » لَكُمْ فِيهَا « أي : في التمسك بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده .
والأول قول جمهور المفسرين لقوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } أي : لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافعِ محلها إلى البيت العتيق ، أي : وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } [ المائدة : 95 ] .
وقوله : » مَحِلُّهَا « يعني حيث يحل نحرها ، وأما » البيت العتيق « فالمراد به الحرم كله لقوله : { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } [ التوبة : 28 ] أي : الحرم كله ، فالمنحر على هذا القول مكة ، ولكنها نزهت عن الدماء إلى منى ، ومنى من مكة قال عليه السلام : » كل فجاج مكة منحر ، ( وكل فجاج منى منحر ) « قال القفال : هذا إنما يختص بالهدايا التي تبلغ منى ، فأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محلها موضعه .
ومن قال : الشعائر المناسك فإن معنى قوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } أي : محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أن يطوفوا به طواف الزيارة ( يوم النحر ) .
قوله تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } الآية . قرأ الأخوان هذا وما بعده » منسِكاً « بالكسر . والباقون بالفتح .
فقيل : هما بمعنى واحد ، والمراد بالمنسك مكان النسك أو المصدر . وقيل : المكسور مكان ، والمفتوح مصدر .
قال ابن عطية : والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس ، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب .

قال شهاب الدين : وهذا الكلام منه غير مرضي ، كيف يقول : ويشبه أن يكون الكسائي سمعه . والكسائي يقول : قرأت به . فكيف يحتاج إلى سماع مع تمسكه بأقوى السماعات ، وهو روايته لذلك قرأنا متواتراً . وقوله : من الشاذ : يعني قياساً لا استعمالاً فإنه فصيح في الاستعمال ، وذلك أن فعل يفعُل بضم العين في المضارع قياس الفعل منه أن يفتح عينه مطلقاً ، أي : سواء أريد به الزمان أم المكان أم المصدر ، وقد شذت ألفاظ ضبطها النحاة في كتبهم مذكورة في هذا الكتاب .
فصل
« وَلِكُلِّ أُمَّةٍ » ( أي : جماعة مؤمنة سلفت قبلكم من عهد إبراهيم عليه السلام « جَعَلْنَا مَنْسَكاً » ) أي ضرباً من القربان ، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه عند ذبحها ونحرها فقال : { لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام } أي : عند الذبح والنحر لأنها لا تتكلم . وقال : « بَهِيمة الأَنْعَام » قيد بالنعم ، لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير لا يجوز ذبحها في القرابين ، وكانت العرب تسمي ما تذبحه للصَّنَم العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة .
قوله : { فإلهكم إله وَاحِدٌ } في كيفية النظم وجهان :
الأول : أن الإله واحد ، وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح .
والثاني : { فإلهكم إله وَاحِدٌ } لا تذكروا على ذبائحكم غير اسمه . « فَلَهُ أَسْلِمُوا » انقادوا وأطيعوا ، فمن انقاد لله كان مخبتاً فلذلك قال بعده « وَبَشِّر المُخْبِتِينَ » .
قال ابن عباس وقتادة : المخبت المتواضع الخاشع وقال مُجاهد : المطمئن إلى الله . والخبت المكان المطمئن من الأرض . قال أبو مسلم : حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض تقول : أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال : أنجد وأَتْهَمَ وأشَأم .
وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم . وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظُلِموا لم ينتصروا .
قوله : { الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } . يجوز أن يكون هذا الموصول في موضع جر أو نصب أو رفع ، فالجر من ثلاثة أوجه : النعت للمخبتين ، أو البدل منهم ، أو البيان لهم . والنصب على المدح . والرفع على إضمارهم وهو مدح أيضاً ، ويسميه النحويون قطعاً .
والمعنى : إذا ذكر الله ظهر عليهم الخوف من عقاب الله والخشوع والتواضع لله ، والصابرين على ما أصابهم من البلايا والمصائب من قبل الله ، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن ، فأما ما يصيبهم من قبل الظَّلَمة فالصبر عليه غير واجب بل لو أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة .
قوله : « والمُقِيْمي الصَّلاَةِ » في أوقاتها . والعامة على خفض « الصَّلاَة » بإضافة المقيمين إليها .
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية بنصبها على حذف النون تخفيفاً كما تحذف النون لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن مسعود والأعمش بهذا الأصل « والمُقِيْمِينَ الصَّلاة » بإثبات النون ونصب الصلاة . وقرأ الضحاك : « والمُقِيْم الصَّلاَة » بميم ليس بعدها شيء . وهذه لا تخالف قراءة العامة لفظاً وإنما يظهر مخالفتها لها وقفاً وخطاً . ثم قال : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي : يتصدقون فهم خائفون خاشعون متواضعون لله مشتغلون بخدمة ربهم بالبدن والنفس والمال .

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

قوله تعالى : { والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله } الآية . العامة على نصب « البُدْنَ » على الاشتغال ، ورجح النصب وإن كان محوجاً للإضمار على الرفع الذي لم يحوج إليه ، لتقدم جملة فعلية على جملة الاشتغال وقرئ برفعها على الابتداء والجملة بعدها الخبر والعامة أيضاً على تسكين الدال . وقرأ الحسن ويروى عن نافع وشيخه أبي جعفر بضمها ، وهما جمعان لبدنة نحو ثَمَرة وثُمُر وثُمْر ، فالتسكين يحتمل أن يكون تخفيفاً من المضموم وأن يكون أصلاً وقيل : البُدُن والبُدْنِ جمع بَدَن ، والبَدَن جمع بَدَنَة نحو خشبة وخشب ثم يجمع خشباً على خُشْب وخُشُب . وقيل : البُدْن اسم مفرد لا جمع يعنون اسم الجنس . وقرأ ابن أبي إسحاق : « البُدُنّ » بضم الباء والدال وتشديد النون وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أنه قرأ كالحسن فوقف على الكلمة وضعف لامها ، كقولهم : هذا فرج ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك ويحتمل أن يكون اسماً على فُعُلّ كعُتُلّ .
وسميت البدنة بدنة ، لأنها تبدن أي تسمن . وهل تختص بالإبل؟ الجمهور على ذلك ، قال الزمخشري : والبدن جمع بدنة سميت لعظم بدنها وهي الإبل خاصة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألحق البقر بالإبل حين قال : « البَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ ، والبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ » فجعل البقر في حكم الإبل ، فصارت البدنة متناولة في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابه ، وإلا فالبدن هي الإبل ، وعليه تدل الآية .
وقيل : لا تختص بالإبل ، فقال الليث : البدنة بالهاء تقع على الناقة والبقرة والبعير ، وما يجوز في الهدي والأضاحي ، ولا تقع على الشاة . وقال عطاء وغيره : ما أشعر من ناقة أو بقرة ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن البقر فقال : « وهَلْ هِيَ إِلاَ مِنَ البُدْن » ( وقيل : البدن يراد به العظيم السن من الإبل والبقر ) .
ونقل النووي في تحرير ألفاظ التنبيه عن الأزهري أنه قال : البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم . ويقال للسمين من الرجال ، وهو اسم جنس مفرد .
قوله : { مِّن شَعَائِرِ الله } هو المفعول الثاني للجعل بمعنى التصيير .
وقوله : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } الجملة حال من هاء « جَعَلْنَاهَا » ، وإما من « شَعَائِرِ اللَّهِ » وهذان مبنيان على أن الضمير في « فِيْهَا » هل هو عائد على « البُدْن » أو على « شعائر الله » ، والأول قول الجمهور .
قوله : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ } . نصب « صَوَافَّ » على الحال ، أي مصطفة جنب بعضها إلى بعض . وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم « صَوَافِي » جمع صافية ، أي : خالصة لوجه الله تعالى . وقرأ عمرو بن عبيد كذلك إلا أنه نون الياء فقرأ « صَوَافِياً » .

واستشكلت من حيث إنه جمع متناه ، وخرجت على وجهين :
أحدهما : ذكره الزمخشري : وهو أن يكون التنوين عوضاً من حرف الإطلاق عند الوقف ، يعني أنه وقف على « صَوافِي » بإشباع فتحة الياء فتولد منها ألف ، يسمى حرف الإطلاق ، ثم عوض عنه هذا التنوين ، وهو الذي يسميه النحويون تنوين الترنم .
والثاني : أنه جاء على لغة من يصرف ما لا ينصرف . وقرأ الحسن « صَوَافٍ » بالكسر والتنوين ، وجهها أنه نصبها بفتحة مقدرة فصار حكم هذه الكلمة كحكمها حالة الرفع والجر في حذف الياء وتعويض التنوين نحو هؤلاء جوار ، ومررت بجوار وتقدير الفتحة في الياء كثير كقولهم :
3765- أَعْطِ القَوْسَ بَارِيْهَا ... وقوله :
3766- كَأَنَّ أَيْدِيْهِنَّ بِالقَاعِ القَرِقْ ... أَيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الوَرِقْ
وقول الآخر :
3767- وَكَسَوْتُ عَارٍ لَحْمَه ... ويدل على هذه قراءة بعضهم « صَوَافِيْ » بياء ساكنة من غير تنوين نحو رأيت القاضي يا فتى . بسكون الياء . ويجوز أن يكون سكن الياء في هذه القراءة للوقف ثم أجرى الوصل مجراه .
وقرأ العبادلة ومجاهد والأعمش « صَوَافِنَ » بالنون جمع صافنة ، وهي التي تقوم على ثلاثة وطرف الرابعة أي : على طرف سنبكه ، لأن البدنة تعلق إحدى يديها ، فتقوم على ثلاثة إلا أن الصوافن إنما يستعمل في الخيل كقوله : « الصَّافِنَاتُ الجِيَاد » كما سيأتي ، فيكون استعماله في الإبل استعارة .
فصل
سميت البدنة بدنة لعظمها يريد الإبل العظام الصحاح الأجسام ، يقال : بَدَنَ الرجل بُدْناً وبَدَانَةً : إذا ضَخُم ، فأما إذا أسن واسترخى يقال : بَدَّنَ تَبْدِيْناً .
{ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله } أي : من أعلام دينه ، سميت شعائر ، لأنها تشعر ، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هَدْي . { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } النفع في الدنيا والأجر في العقبى . { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا } عند نحرها « صَوَافَّ » أي قياماً على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك لما روى زياد بن جبير قال : رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال : ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال مجاهد : الصواف إذا علقت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث . قال المفسرون : قوله : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا } فيه حذف أي اذكروا اسم الله على نحرها ، وهو أن يقال عند النحر : باسم الله والله أكبر ولا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك . والحكمة في اصطفافها ظهور كثرتها للناظر فتقوى نفوس المحتاجين ، ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم أجراً ، وإعلاء اسم الله وشعائر دينه .
فصل
إذا قال : لله عليَّ بدنة ، هل يجوز نحرها في غير مكة؟ قال أبو حنيفة ومحمد يجوز وقال أبو يوسف : لا يجوز إلا بمكة . واتفقوا في من نذر هدياً أن عليه ذبحه بمكة .

ومن قال : لله عليَّ جزور أنه يذبحه حيث شاء . وقال أبو حنيفة : البدنة بمنزلة الجزور ، فوحب أن يجوز له نحرها حيث يشاء ، بخلاف الهدي فإنه قال : { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } [ المائدة : 95 ] فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي . واحتج أبو يوسف بقوله : { والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله } فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدي .
وأجاب أبو حنيفة بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم ، فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن .
قوله : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أي سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض . وأصل الوجوب السقوط ، يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب ، ووجب الجدار : أي سقط ، ومنه الواجب الشرعي كأنه وقع علينا ولزمنا . قال أوس بن حجر :
3768- أَلَمْ تُكْسَفِ الشَّمْسِ شَمْسُ النَّهَا ... ر والبَدْرُ لِلْجَبَلِ الوَاجِبِ
قوله : { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر } أمر إباحة { وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر } اختلفوا في معناهما ، فقال عكرمة وإبراهيم وقتادة : القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل . والمعتر الذي يسأل . قال الأزهري : قال ابن الأعرابي : يقال : عَرَوْتُ فلاناً وأعْتَرَيْتُه وعَرَرْتَه واعْتَرَرْته : إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه .
قال أبو عبيدة : روى العوفي عن ابن عباس : القانع الذي لا يتعرض ولا يسأل ، والمعتر الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل . فعلى هذين التأويلين يكون القانع من القناعة ، يقال : قَنِعَ قَنَاعَةً : إذا رضي بما قسم له . وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي : القانع الذي يسأل ، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل . وقيل : القانع الراضي بالشيء اليسير من قَنِعَ يَقْنَعُ قَنَاعَةً فهو قانع . والقنع بغير ألف هو السائل . ذكره أبو البقاء . وقال الزمخشري القانع السائل من قَنَعْتُ وكَنَعْتُ إذا خضعت له وسألته قنوعاً ، والمُعتَرّ : المتعرض بغير سؤال أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال من قَنِعْتُ قَنَعاً وقَنَاعَةً ، والمعتر المتعرض للسؤال . انتهى .
وفرق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال : « قَنَعَ يَقْنَع قُنُوعاً » أي : سأل ، وقناعةً أي : تعفف ببلغته واستغنى به ، وأنشد للشماخ :
3769- لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحه فيُغْنِي ... مَفَاقِرهُ أَعَفُّ مِنَ القُنُوْعِ
وقال ابن قتيبة : المعتر المتعرض من غير سؤال ، يقال : عَرّهُ واعْتَرّهُ وَعَرَاهُ واعْتَرَاهُ أي : أتاه طالباً معروفه ، قال :
3770- لَعَمْرُكَ مَا المُعْتَرُّ يَغْشَى بِلاَدَنَا ... لِنَمْنَعَهِ بِالضَّائِعِ المُتَهَضِّمِ
وقول الآخر .
3771- سَلِي الطَّارِقَ المُعْتَرَّ يا أُمَّ مَالِكٍ ... إِذَا ما اعْتَرَانِي بَيْنَ قِدْرِي وَمَجزَرِي
وقرأ أبو رجاء : « القَنِعَ » دون ألف ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن أصلها القانع فحذف الألف كما قالوا : مِقْوَل ، ومِخْيَط وجَنَدِل وعُلَبِط في مِقْوَال ، ومِخْيَاط ، وجَنَادِل ، وعُلاَبِط .
والثاني : أن القانع هو الراضي باليسير ، والقَنِع السائل كما تقدم تقريره . قال الزمخشري : والقنع الراضي لا غير . وقرأ الحسن : « والمُعْتَرِي » اسم فاعل من اعْتَرَى يَعْتَرِي وقرأ إسماعيل ويروى عن أبي رجاء والحسن أيضاً « والمُعْتَرِ » بكسر الراء اجتزاء بالكسر عن لام الكلمة .

وقرئ « المُعْتَرِي » بفتح التاء ، قال أبو البقاء : وهو في معناه أي : في معنى « المُعْتَر » في قراءة العامة . قال بعضهم : والأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح ، والمعتر : هو الذي يعترض ويطالب ويعتريهم حالاً بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا يقنع بما يدفع إليه أبداً .
وقال ابن زيد : القانع المسكين ، والمعتر الذي ليس بمسكين ، ولا يكون له ذبيحة ، ويجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم .
قوله : « كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا » . الكاف نعت مصدر أو حال من ذلك المصدر ، أي مثل وصفنا ما وصفنا من نحرها قياماً سخرناها لكم نعمة منا لتتمكنوا من نحرها . « لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون » لكي تشكروا إنعام الله عليكم .
قوله : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا } العامة على القراءة بياء الغيبة في الفعلين ، لأن التأنيث مجازي ، وقد وجد الفصل بينهما . وقرأ يعقوب بالتاء فيهما اعتباراً باللفظ .
وقرأ زيد بن عليّ { لُحُومَهَا وَلاَ دِمَاءَها } بالنصب والجلالة بالرفع ، « وَلكِنْ يُنَالُهُ » بضم الياء على أن القائم مقام الفاعل « التَّقْوَى » . و « مِنْكُم » حال من التقوى ، ويجوز أن يتعلق بنفس « يناله » .
فصل
لما كانت عادة الجاهلية إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله عزَّ وجلَّ فأنزل الله هذه الآية { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا } . قال مقاتل : لن يرفع إلى الله لحومها ولا دماؤها . { ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } أي ولكن يرفع إليه منكم الأعمال الصالحة ، وهي التقوى والإخلاص وما أريد به وجه الله .
فصل
قالت المعتزلة : دلَّت هذه الآية على أمور :
أحدها : أن الذي ينتفع به فعله دون الجسم الذي ينحره .
وثانيها : أنه سبحانه غني عن كل ذلك وإنما المراد أن يجتهد العبد في امتثال أمره .
وثالثها : أنه لما لم ينتفع بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه ، وجب أن يكون تقواه فعلاً له ، وإلا كان تقواه بمنزلة اللحوم .
ورابعها : أنه لما شرط القبول بالتقوى ، وصاحب الكبيرة غير مُتَّقٍ ، فوجب أن لا يكون عمله مقبولاً وأنه لا ثواب له .
والجواب : أما الأولان فحقان ، وأما الثالث فمعارض بالداعي والعلم .
وأما الرابع : فصاحب الكبيرة وإن لم يكن متقياً مطلقاً ، ولكنه مُتَّقٍ فيما أتى به من الطاعة على سبيل الإخلاص ، فوجب أن تكون طاعته مقبولة ، وعند هذا تنقلب الآية حجة عليهم .
قوله : « كَذَلِكَ سَخَّرهَا » الكاف نعت مصدر أو حال من ذلك المصدر « وَلِتُكَبِّرُوا » متعلق به أي إنما سخرها كذلك لتكبروا الله ، وهو التعظيم بما يفعله عند النحر وقبله وبعده . و { على مَا هَدَاكُمْ } متعلق بالتكبير ، عُدِّي بعلى لتضمنه معنى الشكر على ما هداكم أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه ، وهو أن يقول : الله أكبر ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا ، ثم قال بعده على سبيل الوعد لمن امتثل أمره « وَبَشِّر المُحْسِنِيْن » كما قال من قبل « وَبَشِّر المُخْبِتِيْن » قال ابن عباس : المحسنين الموحدين . والمحسن الذي يفعل الحسن من الأعمال فيصير محسناً إلى نفسه بتوفير الثواب عليه .

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

قوله تعالى : { إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا } قرأ ابن كثير وأبو عمرو « يَدْفَعُ » ، والباقون « يُدَافِع » . وفيه وجهان :
أحدهما : أن ( فَاعِل ) بمعنى ( فَعَل ) المجرد نحو جاوزته وجزته وسافرت وطارقت .
والثاني : أنه أُخرج على زنة المفاعلة مبالغة فيه لأن فعل المبالغة أبلغ من غيره .
وقال ابن عطية : يحسن « يُدَافِع » لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته ودفعه عنهم مدافعة . يعني فتختلط فيها المفاعلة .
فصل
لما بيَّن الحج ومناسكه ، وما فيه من منافع الدنيا والآخرة ، وذكر قبل ذلك صد الكفار عن المسجد الحرام ، أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد ويؤمن معه التمكن من الحج فقال : { إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا } قال مقاتل : إن الله يدفع كفار مكة عن الذين آمنوا بمكة ، وهذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم ، فاستأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتلهم سراً فنهاهم .
والمعنى : أن الله يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم من المؤمنين ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم ، وإن كان في الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين ، فلذلك قال بعده { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار ، وهو كقوله { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } [ آل عمران : 111 ] وقوله { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ } [ غافر : 51 ] وقوله : { إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 72 ] .
{ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ } في أمانة الله « كَفُوْرٍ » لنعمته . قال ابن عباس : خافوا الله فجعلوا معه شركاء وكفروا نعمه . قال الزجاج : من تقرب إلى الأصنام بِذَبِيحَتِهِ وذكر عليها اسم غير الله فهو خوان كفور . قال مقاتل : أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذه .
قوله : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ } . قرأ « أُذِنَ » مبنياً للمفعول نافع وأبو عمرو وعاصم ، والباقون قرأوه مبنياً للفاعل . قال الفراء والزجاج : يعني أذن الله للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل . وأما « يقاتلون » فقرأه مبنياً للمفعول نافع وابن عامر وحفص ، والباقون مبنياً للفاعل . وحصل من مجموع الفعلين أن نافعاً وحفصاً بنياهما للمفعول . وأن ابن كثير وحمزة والكسائي بنوهما للفاعل ، ( وأن أبا عمرو ) وأبا بكر بنيا الأول للمفعول والثاني للفاعل ، وأن ابن عامر عكس هذا . فهذه أربع رتب والمأذون فيه محذوف للعلم به أي للذين يقاتلون في القتال . و « بأَنَّهُم ظُلِمُوا » متعلق ب « أُذِنَ » ، والباء سببية ، أي بسبب أنهم مظلومون .
فصل
قال المفسرون : « كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يزالون يجيئون بين مضروب ومشجوج يشكون ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول لهم : » اصْبِرُوا فَإِنِّي لَمْ أُوْمَرْ بِالقِتَال «

حتى هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال ، ونزلت هذه الآية بالمدينة . وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، فكانوا يمنعون ، فأذن الله لهم في قتال الكفار الذي يمنعونهم من الهجرة « بأنَّهُم ظُلِمُوا » أي بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء . { وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } وهذا وعد منه تعالى بنصرهم ، كما يقول المرء لغيره : إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك ، لا يعني بذلك القدرة بل يريد أنه سيفعل ذلك .
قوله : { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ } يجوز أن يكون « الذين » في محل جر نعتاً للموصول الأول ، أو بياناً له ، أو بدلاً منه وأن يكون في محل نصب على المدح ، وأن يكون في محل رفع على إضمار مبتدأ .
فصل
لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظُلموا ، فسر ذلك الظلم بقوله { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله } ، فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين :
الأول : أنهم أُخرجوا من ديارهم .
والثاني : أخرجوهم بسبب قولهم : « رَبُّنَا اللَّه » . وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم .
قوله : { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ } . فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الاستثناء المنقطع ، وهذا مما يُجمع العرب على نصبه ، لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل إليه ، وما كان كذا أجمعوا على نصبه نحو : ما زاد إلا ما نقص ، وما نفع إلا ما ضر . فلو توجه العامل جاز فيه لغتان : النصب وهو لغة الحجاز ، وأن يكون كالمتصل في النصب والبدل نحو ما فيها أحد إلا حمار . وإنما كانت الآية الكريمة من الذي لا يتوجه عليه العامل ، لأنك لو قلت : الذين أخرجوا من ديارهم إلا أن يقولوا ربنا الله لم يصح .
الثاني : أنه في محل جر بدلاً من « حَقّ » .
قال الزمخشري : أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير ، ومثله { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله } [ المائدة : 59 ] انتهى .
وممن جعله في موضع جر بدلاً مما قبله الزجاج . إلا أن أبا حيان رد ذلك فقال : ما أجازاه من البدل لا يجوز ، لأن البدل لا يجوز إلا حيث سبقه نفي أو نهي أو استفهام في معنى النفي ( نحو : ما قام أحد إلا زيد ، ولا يضرب أحد إلا زيد ، وهل يضرب أحد إلا زيد ) وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل ( لا يقال : قام القوم إلا زيد ، على البدل ، ولا يضرب القوم إلا زيد ، على البدل ) لأن البدل لا يكون إلا حيث يكون العامل يتسلط عليه ، ولو قلت : قام إلا زيد ، وليضرب إلا عمرو لم يجز .

ولو قلت في غير القرآن : أخرجِ الناس من ديارهم إلا أن يقولوا لا إله إلا الله لم يكن كلاماً ، هذا إذا تخيل أن يكون { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ } في موضع جر بدلاً من « غَيْر » المضاف إلى « حَقّ » ، وأما إذا كان بدلاً من « حق » كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد ، لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي غيراً فيصير التركيب : بغير إلا أن يقولوا؛ وهذا لا يصح ، ولو قدرنا ( إلا ) بغير كما نقدر في النفي ما مررت بأحد إلا زيد ، فنجعله بدلاً لم يصح ، لأنه يصير التركيب : بغير قولهم ربنا الله ، فيكون قد أضيف غير إلى غير ، وهي هي ، فيصير بغير غير ، ويصح في ما مررت بأحد إلا زيد ، أن تقول : ما مررت بغير زيد ، ثم إن الزمخشري حين مثل البدل وقدره بغير موجب سوى التوحيد ، وهذا تمثيل للصفة جعل ( إلا ) بمعنى سوى ، ويصح على الصفة ، فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل ، ويجوز أن تقول : ما مررت بالقوم إلا زيد على الصفة لا على البدل .
قوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله } تقدم الخلاف فيه في البقرة وتوجيه القراءتين .
وقرأ نافع وابن كثير « لَهُدِمَتْ » بالتخفيف ، والباقون بتثقيل الدال على التكثير ، لأن المواضع كثيرة متعددة ، والقراءة الأولى صالحة لهذا المعنى أيضاً .
قوله : { صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ } العامة على « صَلَوات » بفتح الصاد واللام جمع صلاة وقرأ جعفر بن محمد « وصُلُوَات » بضمّهما . وروي عنه أيضاً بكسر الصاد وسكون اللام . وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام . وأبو العالية بفتح الصاد وسكون اللام ، والجحدري أيضاً « وصُلُوت » بضمهما وسكون الواو بعدهما تاء مثناة من فوق مثل صَلْب وصُلُوب والكلبي والضحاك كذلك إلا أنهما أعجما التاء بثلاث من فوقها . والجحدري أيضاً وأبو العالية وأبو رجاء ومجاهد كذلك إلا أنهم جعلوا بعد الثاء المثلثة ألفاً فقرءوا « صُلُوثا » ، وروي عن مجاهد في هذه التاء المثناة من فوق أيضاً ، وروي عن الجحدري أيضاً « صُلْوَاث » بضم الصاد وسكون اللام وألف بعد الواو والثاء مثلثة . وقرأ عكرمة « صِلْوِيثا » بكسر الصاد وسكون اللام وبعدها واو مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف وحكى ابن مجاهد أنه قرئ « صِلْوَاث » بكسر الصاد وسكون اللام بعدها واو بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة . وقرأ الجحدري « وصُلُوْب » مثل كعوب بالباء الموحدة وجمع صليب وفُعُول جمع فَعِيل شاذ نحو ظَرِيف وظُرُوف وأَسينَة وأُسُون .

وروي عن أبي عمرو « صَلَوَاتُ » كالعامة إلا أنه لم ينون ، منعه الصرف للعلمية والعجمة ، كأنه جعله اسم موضع فهذه أربع عشرة قراءة المشهور منها واحدة وهي هذه الصلوات المعهودة . ولا بد من حذف مضاف ليصح تسلط الهدم أي مواضع صلوات ، أو تضمن « هُدِّمَتْ » معنى عطلت ، فيكون قدراً مشتركاً بين المواضع والأفعال فإن تعطيل كل شيء بحسبه ، وأخر المساجد لحدوثها في الوجود أو الانتقال إلى الأشرف . والصلوات في الأمم الملتين صلاة كل ملة بحسبها . وظاهر كلام الزمخشري أنها بنفسها اسم مكان فإنه قال : وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها ، وقيل : هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتا انتهى .
وأما غيرها من القراءات ، فقيل : هي سريانية أو عبرانية دخلت في لسان العرب ولذلك كثر فيها اللغات والصوامع : جمع صومعة ، وهي البناء المرتفع الحديد الأعلى من قولهم رجل أصمع ، وهو الحديد القول ، ووزنها فَوْعَلة كدَوْخَلة ، وهي متعبد الرهبان لأنهم ينفردون . وقال قتادة : للصابئين . والبيع جمع بيعة وهي متعبد النصارى قاله قتادة والزجاج .
وقال أبو العالية هي كنائس اليهود . وقال الزجاج : الصوامع للنصارى ، وهي التي بنوها في الصحارى ، والبيع لهم أيضاً وهي التي بنوها في البلد ، والصلوات لليهود .
وقال الزجاج : وهي بالعبرانية صَلُوْثا . والمساجد للمسلمين . وهذا هو الأشهر .
وقال أبو العالية : الصلوات للصابئين . وقال الحسن : إنها بأسرها أسماء المساجد ، أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع ، وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل التشبيه ، وأما الصلوات فالمعنى أنه لولا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد .
فصل
معنى { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي بالجهاد وإقامة الحدود كأنه قال : ولولا دفع الله أهل الشرك بالمؤمنين من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الإيمان وعطلوا ما يبنونه من مواضع العبادة .
وقال الكلبي : يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين عن الجهاد .
وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس : يدفع الله بالمحسن عن المسيء ، وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي ، وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق ، وبالذي يحج عن الذي لا يحج .
وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِالمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بيْتِهِ وَمِنْ جِيْرَانِهِ » ثم تلا هذه الآية . وقال الضحاك : يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة . وقال مجاهد : يدفع عن الحقوق بالشهود ، وعن النفوس بالقصاص . فإن قيل : لماذا جمع الله بين مواضع عبادات اليهود والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين؟ فالجواب أما على قول الحسن : فالمراد بهذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين وإن اختلفت العبارات عنها . وأما على قول غيره فقال الزجاج : المعنى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي يتعبد فيه ، فلولا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن نبينا المساجد .

فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ . فإن قيل : كيف تهدم الصلوات على تأويل من تأوله على صلاة المسلمين؟ فالجواب من وجوه :
الأول : المراد من هدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان ، إذا قابله بالكفر دون الشكر .
الثاني : ما تقدم من باب حذف المضاف كقوله : « واسْأَلِ القَرْيَة » أي أهلها ، فالمراد مكان الصلاة .
الثالث : لما كان الأغلب فيما ذكر ما يصح أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه كقولهم : متقلداً سيفاً ورمحاً . وإن كان الرمح لا يتقلد . فإن قيل : لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد؟
فالجواب لأنها أقدم في الوجود . وقيل أخر المساجد في الذكر كما في قوله : { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } [ فاطر : 32 ] . قال عليه السلام : « نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُون » .
قوله : { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله } يجوز أن يكون صفة للمواضع المتقدمة كلها إن أعدنا الضمير من « فِيهَا » عليها . قال الكلبي ومقاتل : يعود إلى الكل لأن الله تعالى يذكر في هذه المواضع كلها . ويجوز أن يكون صفة للمساجد فقط إن خصصنا الضمير في « فِيهَا » بها تشريفاً لها . ثم قال { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } أي : ينصر دينه ونبيه .
وقيل : يتلقى الجهاد بالقبول نصرة لدين الله . { إِنَّ الله لَقَوِيٌّ } أي : على هذه النصرة التي وعدها المؤمنين . « عَزِيْزٌ » وهو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده .
قوله : { الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ } يجوز في هذا الموصول ما جاز في الموصول قبله ويزيد هذا عليه بأنه يجوز أن يكون بدلاً من « مَنْ يَنْصُرُه » ذكره الزجاج أي : ولينصرن الله الذين إن مكناهم ، و « إنْ مَكَّنَّاهم » شرط و « أقاموا » جوابه ، والجملة الشرطية بأسرها صلة الموصول .
فصل
لما ذكر الذين أذن لهم في القتال وصفهم في هذه الآية فقال : { الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض } والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق أي : نصرناهم على عدوهم حتى تمكنوا من البلاد . قال قتادة : هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - المهاجرون لأن الأنصار لم يخرجوا من ديارهم فوصفهم بأنهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ثم قال { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور } أي : آخر أمور الخلق ومصيرهم أي : يبطل كل ملك سوى ملكه ، فتصير الأمور له بلا منازع .

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)

قوله تعالى : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } الآية . لما بيَّن إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق ، وأذن في مقاتلتهم ، وضمن للرسول النصرة ، وبين أن لله عاقبة الأمور ، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول بالصبر على أذيته بالتكذيب وغيره ، فقال : وإن يكذبوك قومك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم ، وذكر الله تعالى سبعة منهم . فإن قيل : فلم قال : وكذب موسى . ولم يقل : وقوم موسى؟ فالجواب من وجهين :
الأول : أن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط .
الثاني : كأنه قيل بعدما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم ، وكُذِّب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره . « فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِيْنَ » أي : أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي « ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ » عاقبتهم { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب ، وهذا استفهام تقرير ، أي؛ أليس كان واقعاً قطعاً ، أبدلتهم بالنعمة نقمة ، وبالكثرة قلة ، وبالحياة موتاً ، وبالعمارة خراباً؟ وأعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصر على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض ، فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم ، فإنه تعالى إنما يمهل لمصلحة ، فلا بد من الرضا والتسليم ، وإن شق ذلك على القلب .
والنكير : مصدر بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار . وأثبت يا نكيري حيث وقعت ورش في الوصل وحذفها في الوقف ، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً .
قوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } يجوز أن تكون « كأين » منصوبة المحل على الاشتغال بفعل مقدر يفسره ( أَهْلَكْتُهَا ) وأن تكون في محل رفع بالابتداء ، والخبر ( أَهْلَكْتُهَا ) . وتقدم تحقيق القول فيها . قال بعضهم : المراد من قوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } وكم ، على وجه التكثير .
وقيل : معناه : ورب قرية . والأول أولى ، لأنه أوكد في الزجر .
وقوله : « أَهْلَكْتُهَا » قرأ أبو عمرو ويعقوب « أَهْلَكْتُها » بالتاء ، وهو اختيار أبي عبيد لقوله : { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة « أَهْلَكْنَاهَا » .
قوله : { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } جملة حالية من هاء « أَهْلَكْنَاهَا » .
وقوله : { فَهِيَ خَاوِيَةٌ } عطف على « أَهْلَكْتُها » ، فيجوز أن تكون في محل رفع لعطفها على الخبر على القول الثاني ، وأن لا تكون لها محل لعطفها على الجملة المفسرة على القول الأول . وهذا عنى الزمخشري بقوله : والثانية - يعني قوله : « فَهِيَ خَاوِيَةٌ » - لا محل لها ، لأنها معطوفة على « أَهْلَكْنَاهَا » وهذا الفعل ليس له محل . تفريعاً على القول بالاشتغال ، وإلا إذا قلنا إنه خبر لكان له محل ضرورة .
فصل
المعنى : وكم من قرية أهلكتها ( أي أهلها ) لقوله : « وَهِيَ ظَالِمَةٌ » ، أي : وأهلها ظالمون ، « فَهِيَ خَاوِيَةٌ » ساقطة « عَلَى عُرُوشِهَا » على سقوفها .

قال الزمخشري : كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش ، والخاوي : الساقط من خوى النجم : إذا سقط ، أو من خوى المنزل : إذا خلا من أهله . فإذا فسرنا الخاوي بالساقط كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها ، أي : خرت سقوفها على الأرض ، ثم تهدمت حيطانها ، فسقطت فوق السقوف . وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خلت من الناس مع بقاء عروشها وسلامتها ويمكن أن يكون خبراً بعد خبر ، أي : هي خالية وهي على عروشها ، يعني أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان قائمة ، فهي مشرفة على السقوف الساقطة . قوله : « وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ » عطف على « قَرْيَةٍ » ، وكذلك « قَصْرٍ » أي : وكأيٍّ من بئر وقصر أهلكناهما . وقيل : يحتمل أن تكون معطوفة وما بعدها على « عُرُوشِها » أي : خاوية على بئر وقصر أيضاً ، وليس بشيء . والبئر : من بأرت الأرض ، أي : حفرتها ومنه التأبير ، وهو شق كيزان الطلع ، والبئر : فعل بمعنى مفعول كالذِّبح بمعنى المَذْبُوح ، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب . وقوله :
3772- وَبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وَذُو طَوَيْتُ ... يحتمل التذكير والتأنيث . والمُعَطَّلَةُ : المهملة ، والتعطيل : الإهمال .
وقرأ الحسن : « مُعْطَلَةٍ » بالتخفيف ، يقال : أَعْطَلَتِ البئرُ وعَطَلْتُهَا فعَطَلَتْ بفتح الطاء ، وأما عَطِلَتِ المرأة من الحُلِيّ فبكسر الطاء . والمعنى : وكم من بئر معطلة متروكة مخلاة عن أهلها . والمَشيدُ : المرتفع ، قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل . وقال سعيد بن جُبير وعطاء ومجاهد : المُجصص من الشِّيد وهو الجص . وإنما بني هنا من شاده ، وفي النساء من شَيَّدَهُ ، لأنه هناك بعد جمع فناسب التكثير ، وهنا بعد مفرد فناسب التخفيف ، ولأنه رأس آية وفاصلة .
فصل
المعنى أنه تعالى بيَّن أن القرية مع تكليف بنيانهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف وكذلك البئر التي تكلفوها وصارت شربهم صارت معطلةً بلا شارب ، ولا وارد ، والقصر الذي أحكموه بالجصِّ وطولوه صار خالياً بلا ساكن ، وجعل ذلك عبرة لمن اعتبر ، وهذا يدل على أن تفسير « على » ب « مع » أولى ، لأن التقدير : وهي خاوية مع عروشها . قيل : إنَّ البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن ، أما القصر على قُلَّة جبل والبئر في سفحه ، ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فأهلكهم الله ، وبقي البئر والقصر خاليين . وروى أبو روق عن الضحاك : أن هذه البئر بحضرموت في بلدة يقال لها حاضوراء وذلك أن صالحاً مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به أتوا حضرموت ، فلما نزلوها مات صالح فسميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات ، فبنوا قوم صالح حاضوراء ، وقعدوا على هذه البئر ، وأمروا عليهم جلهس بن جلاس ، وجعلوا وزيره سنحاريب ، فأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً ، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان ، وكان حمّالاً فيهم ، فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله وعطّل بئرهم وخرب قصورهم .

قال الإمام أبو القاسم الأنصاري : وهذا عجيب ، لأني زرت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها : عكا ، فكيف يقال : إنه بحضرموت .
قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } الآية . يعني كفار مكة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ، فذكر ما يتكامل به الاعتبار ، لأن الرؤية لها حظّ عظيم في الاعتبار ، وكذلك سماع الأخبار ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبير القلب ، لأن من عاين وسمع ولم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ، فلهذا قال : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } .
قوله : « فَتَكُونَ » منصوب على جواب الاستفهام ، وعبارة الحوفي على جواب التقرير . وقيل : على جواب النفي وقرأ مبشر بن عبيد : « فَيَكُونَ » بالياء من تحت لأن التأنيث مجازي . ومتعلق العقل محذوف أي : ما حل بالأمم السالفة . ثم قال : { قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ } أي : يعلمون بها ، وهذا يدل على أن العقل العلم ، وعلى أن محل العلم هو القلب ، لأنه جعل القلب آلة لهذا العقل ، فيكون القلب محلاً للعقل ، ولهذا سمي الجهل بالعمى ، لأن الجاهل لكونه متحيراً يشبه الأعمى . ثم قال : { أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي : ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية يعتبرون بها .
قوله : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى } الضمير للقصة ، و { لاَ تَعْمَى الأبصار } مفسرة له ، وحسن التأنيث في الضمير كونه وليه فعل بعلامة تأنيث ، ولو ذكر في الكلام فقيل : « فإنه » لجاز ، وهي قراءة مروية عن عبد الله بن مسعود ، والتذكير باعتبار الأمر والشأن . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره « الأبصار » وفي « تعمى » ضمير راجع إليه .
قال أبو حيان : وما ذكره لا يجوز ، لأن الذي يفسره ما بعده محصور وليس هذا واحداً منه وهو في باب ( رُبَّ ) ، وفي باب نعم وبئس ، وفي باب الإعمال ، ( وفي باب البدل ) ، وفي باب المبتدأ والخبر على خلاف في بعضها ، وفي باب ضمير الشأن ، والخمسة الأُول تفسر بمفرد إلا ضمير الشأن فإنه يفسر بجملة ، وهذا ليس واحداً من الستة .
قال شهاب الدين : بل هذا من المواضع المذكورة ، وهو باب المبتدأ غاية ما في ذلك أنه دخل عليه ناسخ وهو « إنَّ » فهو نظير قولهم : هي العرب تقول ما شاءت ، و :
3773- هِيَ النَّفْسَ تَحْمِلُ مَا حُمِّلَت ... وقوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } [ الأنعام : 29 ] وقد جعل الزمخشري جميع ذلك مما يفسر بما بعده ، ولا فرق بين الآية الكريمة وبين هذه الأمثلة إلا دخول الناسخ ، ولا أثر له ، وعجيب من غفلة الشيخ عن ذلك .
قوله : { التي فِي الصدور } صفة أو بدل أو بيان ، وهل هو توكيد كقوله : « يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ » لأن القلوب لا تكون في غير الصدور ، أو لها معنى زائد كما قال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتقد أنَّ العمى في الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، واستعماله في القلب استعارة وَمَثلٌ ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك .

( فقولك : الذي بين فكيك ) تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير ، وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة مني ولا سهواً ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً . وقد رد أبو حيان على الزمخشري قوله : تعمدت به إياه ، وجعل هذه العبارة عجمة من حيث إنه فصل الضمير ، وليس من مواضع فصله ، وكان صوابه أن يقول تعمدته به . كما تقول : السيف ضربتك به ، لا ضربت به إياك .
وقد تقدم نظير هذا الرد والجواب عنه بما أجيب عن قوله تعالى : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] وهو أنه مع قصد تقديم غير الضمير عليه لغرض يمنع اتصاله . قال شهاب الدين : وأي خطأ في مثل هذا حتى يدعي العجمة على فصيح شهد له بذلك أعداؤه وإن كان مخطئاً في بعض الاعتقادات مما لا تعلق له بما نحن بصدده .
وقال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] ، وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ ، فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر . وفي محل العقل خلاف مشهور ، وإلى الأول مال ابن عطية قال : هو مبالغة كما تقول : نظرت إليه بعيني ، وكقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] . وقد تقدم أن في قوله : « بِأَفْوَاهِهِمْ » فائدة زيادة على التأكيد .

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)

قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } الآية . نزلت في النضر بن الحارث حيث قال : « إنْ كَان هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاء » .
وهذا يدل على أنه - عليه السلام - كان يخوفهم بالعذاب إن استمروا على كفرهم ، ولهذا قال : { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } ، فأنجز ذلك يوم بدر . ثم بين أن العاقل لا ينبغي له أن يستعجل عذاب الآخرة فقال : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ } أي فيما ينالهم من العذاب وشدته { كَأَلْفِ سَنَةٍ } ، فبين تعالى أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه . قاله أبو مسلم وقيل : المراد طول أيام الآخرة في المحاسبة . وقيل : إن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء ، لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء ، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا إمهال ألف سنة « مِمَّا تَعُدُّون » قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي « يَعُدُّون » بياء الغيبة ، لقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ } وقرأ الباقون بالتاء ، لأنه أعمّ ، ولأنه خطاب للمسلمين . واتفقوا في « تنزيل » السجدة بالتاء . قال ابن عباس : يعني يوماً من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض وقال مجاهد وعكرمة : يوماً من أيام الآخرة ، لما روى أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ المُهاجِرِينَ بالفَوْزِ التَّام يَوْمَ القِيَامَة تَدْخلونَ الجَنَّة قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْم ، وذَلِكَ قَدر خَمْسمائةِ سَنَة » .
قوله : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ } أي : أمهلتها مع استمرارهم على ظلمهم ، فاغتروا بذلك التأخير ، « ثُمَّ أَخَذْتُهُم » بأن أنزلت العذاب بهم ومع ذلك فعذابهم مدخر ، وهو معنى قوله « وَإليَّ المَصِير » . فإن قيل : ما الفائدة في قوله أولاً « فكأين » بالفاء ، وهاهنا قال « وكأين » بالواو؟
فالجواب : أن الأولى وقعت بدلاً من قوله { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ الحج : 44 ] ، وأما هذه فحكمها ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو ، أعني قوله : { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ } .
قوله : { قُلْ ياأيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أمر رسوله بأن يديم لهم التخويف والإنذار ، وأن لا يصده استعجالهم للعذاب على سبيل الهزء عن إدامة التخويف والإنذار ، وأن يقول لهم : إنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه .
قوله : { فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } . لما أمر الرسول بأن يقول لهم : إني نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم ، لأن هذه صفة المنذر ، فقال : { فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } فجمع بين الوصفين ، وهذا يدل على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان ، وبه يبطل قول المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان ، ويدخل في العمل الصالح كل واجب وترك المحظور ، ثم بين تعالى أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم ، فالمغفرة عبارة عن غفران الصغائر ، أو عن غفران الكبائر بعد التوبة ، أو عن غفرانها قبل التوبة ، والأولان واجبان عند الخصم ، وأداء الواجب لا يسمى غفراناً فبقي الثالث وهو العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة .

وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب ، والكريم : هو الذي لا ينقطع أبداً وقيل : هو الجنة .
قوله : { والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي : اجتهدوا في ردها والتكذيب بها وسموها سحراً وشعراً وأساطير الأولين ، يقال لمن بذل جهده في أمر : إنه سعى فيه توسعاً ، كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال : إنه سعى ، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازاً ، قال الزمخشري : يقال : سعيت في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه .
قوله : « مُعَجِّزِينَ » قرأ أبو عمرو وابن كثير بتشديد الجيم هنا وفي حرفي سبأ .
والباقون : « مُعَاجِزِين » في الأماكن الثلاثة . والجحدري كقراءة ابن كثير وأبي عمرو في جميع القرآن . وابن الزبير « مُعْجِزِين » بسكون العين فأما الأولى ففيها وجهان :
أحدهما : قال الفارسي : معناه ناسبين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى العجز نحو : فسقته ، أي : نسبته إلى الفسق .
والثاني : أنها للتكثير ومعناها مثبطين الناس عن الإيمان .
وأما الثانية فمعناها ظانين أنهم يعجزوننا ، وقيل : معاندين .
وقال الزمخشري : عاجَزَه : سَابَقَه ، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل : أَعْجَزَه وعَجَّزَه . فالمعنى : سَابِقِين أو مُسَابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم والمعنى : سعوا في معناها بالفساد . وقال أبو البقاء : إن « مُعَاجِزِين » في معنى المُشَدَّد مثل : عَاهَد : عَهَّد ، وقيل : عاجَزَ سَابَق ، وعَجَّز : سَبَق .
فصل
اختلفوا في المراد هل معاجزين لله أو الرسول والمؤمنين ، والأقرب هو الثاني لأنهم إن أنكروا الله استحال منهم أن يطمعوا في إعجازه ، وإن أثبتوه فيبعد أن يعتقدوا أنهم يُعْجِزُونه ويغلبونه ، ويصح منهم أن يظنوا ذلك في الرسول بالحيل والمكايد .
فأما القائلون بالأول فقال قتادة : ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم وأن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ، أو يعجزوننا : يفوتوننا فلا نقدر عليهم كقوله تعالى { أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا } [ العنكبوت : 4 ] ، أو يعجزون الله بإدخال الشُّبَهِ في قلوب الناس .
وأما معاجزين فالمغالبة في الحقيقة ترجع إلى الرسول والأمة لا إلى الله تعالى .
ثم قال : { أولئك أَصْحَابُ الجحيم } أي : أنهم يدومون فيها .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)

قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } الآية . قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ، وغيرهما من المفسرين : لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم ، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش ، وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء يُنَفِّر عنه ، وتمنى ذلك فأنزل الله سورة { والنجم إِذَا هوى } [ النجم : 1 ] ، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } [ النجم : 19 - 20 ] ، ألقى الشيطان على لسانه لما كانت تحدثه به نفسه ويتمنّاه : تلك الغَرَانِيق العُلَى منها الشفاعة ترتجى . فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قراءته ، وقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة ، فسجد المسلمون لسجوده ، وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبا أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حِفْنَةً من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما لأنهما كانا شيخين كبيرين ، فلم يستطعا السجود ، وتفرقت قريش ، وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذِّكر ، وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإن جعل لها محمد نصيباً فنحن معه فلما أمسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل ، فقال : يا محمد مَاذَا صَنَعْتَ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ ما لم أنزل به عن الله عز وجل ، وقُلْتَ مَا لَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزناً شديداً ، وخاف من الله خوفاً عظيمً فأنزل الله هذه الآية يعزيه ، وكان به رحيماً .
قال ابن الخطيب : وأما أهل التحقيق فقالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة لوجوه من القرآن والسنة والمعقول : أما القرآن فقوله تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 44 - 46 ] ، وقوله : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } [ يونس : 15 ] ، وقوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النجم : 3 - 4 ] . فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية قوله : تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله في الحال ، وذلك لا يقوله مسلم . وقوله : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } [ الإسراء : 73 ] وكلمة « كاد » عند بعضهم قريب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل ، وقوله :

{ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } [ الإسراء : 74 ] وكلمة « لَوْلاَ » لانتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فذلك دل على أن الركون القليل لم يحصل ، وقوله : { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [ الفرقان : 32 ] ، وقوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] وأما السنة : فروي عن محمد بن إسحاق أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتاباً .
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم قال : رواة هذه القصة مطعونون . وروى البخاري في صحيحه أنه - عليه السلام - قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس وليس فيه ذكر الغرانيق .
وروي هذا الحديث من طرق كثيرة ، وليس فيها البتة ذكر الغرانيق . وأما المعقول فمن وجوه :
أحدها : أن من جوَّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر ، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان .
وثانيها : أنه - عليه السلام - ما كان عليه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة أمناً لأذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه ، وإنما كان يصلي ، إذا لم يحضروا ليلاً أو في أوقات خلوة ، وذلك يبطل قولهم .
وثالثها : أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من غير أن يقفوا على حقيقة الأمر ، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سُجَّداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم .
ورابعها : قوله : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ } وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس القرآن بغيره ، فبأن يُمْنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى .
وخامسها : أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه ، وجوزنا في كل الشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه .
فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة ، أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر ، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة . وأما من جهة التفصيل فالتمني جاء في اللغة لأمرين :
أحدهما : تمني القلب .
والثاني : القراءة ، قال الله تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] أي : إلا قراءة ، لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف ، وإنما يعلمه من القراءة .
وقال حسان :
3774- تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... وآخِرَها لاقَى حَمَام المَقَادِرِ
وقيل : إنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يُبْتلى بها .

وقال أبو مسلم : التَّمَنِّي هو التقدير ، وتَمَنَّى هو تَفَعَّل من مَنَيْتُ ، والمَنِيَّة وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله ، ومَنَّى الله لك أي : قدَّر لك ، وإذا تقرر ذلك فإن التالي مقدر للحروف يذكرها شيئاً فشيئاً . فالحاصل أن الأمنية إما القراءة وإما الخاطر ، فإن فسرناها بالقراءة ففيه قولان :
الأول : أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول فيه ويشتبه على القارئ ما رووه من قوله : تلك الغرانيق العُلَى .
والثاني : المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ، ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه :
الأول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم بقوله : تلك الغرانيق العلى ، ولا الشيطان تكلم به ، ولا أحد تكلم به لكنه - عليه السلام - لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه من قولهم : تلك الغَرَانِيقُ العُلَى . وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال ، قاله جماعة وهو ضعيف لوجوه :
أحدها : أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما جرت العادة بسماعه ، فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه .
وثانيها : أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم في بعض هذا لتوهم بعض السامعين دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجمع العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات .
وثالثها : لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان .
الوجه الثاني : قالوا : إن ذلك الكلام كلام الشيطان وذلك بأن يلفظ بكلام من تلقاء نفسه يوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول ، قالوا : ويؤيد ذلك أنه لا خلاف أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول ، فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول ، وعند سكوته ، فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول ، وما رأوا شخصاً آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ثم هذا لا يكون قادحاً في النبوة لما لم يكن فعلاً له . وهذا أيضاً ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاماً للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع . فإن قيل : هذا الاحتمال قائم في الكل ، ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله أن يبين الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس .
فالجواب لا يجب على الله تعالى إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات ، وإذا لم يجب على الله ذلك أمكن الاحتمال في الكل .
الوجه الثالث : أن يقال : المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس ، وهم الكفرة فإنه عليه السلام لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع ذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها ، فقال بعضهم : تلك الغرانيق العُلاَ ، فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط القوم وكثرة مباحثهم ، وطلبهم تغليطه ، وإخفاء قراءته ، ولعل ذلك في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ، ويسمعون قراءته ، ويَلْغَوْنَ فيها .

وقيل : إنه عليه السلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات ، فألقى بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الوقفات ، فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول ، ثم أضاف الله ذلك إلى الشيطان ، لأنه بوسوسته يحصل أولاً ، أو لأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم نفسه شيطاناً .
وهذا أيضاً ضعيف لوجهين :
أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول إزالة الشبهة وتصريح الحق ، وتبكيت ذلك القائل ، وإظهار أن هذه الكلمة صدرت منه ، ولو فعل ذلك لنقل ، فإن قيل : إنما لم يفعل الرسول ذلك ، لأنه كان قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة دون هذه الزيادة ، فلم يكن ذلك مؤدياً إلى اللبس كما لم يؤد سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس .
قلنا : لأن القرآن لم يكن مستقراً على حالة واحدة في زمان حياته ، لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور ، فلم تكن تأدية تلك السورة بدون الزيادة سبباً لزوال اللبس .
وثانيهما : لو كان كذلك لاستحق العتاب على فعل الغير ، وذلك لا يليق بالحكيم .
الوجه الرابع : أن المتكلم بهذا هو الرسول - عليه السلام - ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه :
إما أن يكون قال هذه الكلمة سهواً أو قسراً أو اختياراً . فإن قالها سهواً كما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا : إنه عليه السلام كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان ، فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد ، وفرح المشركون بما سمعوا ، وأتاه جبريل واستقرأه فلما انتهى إلى الغرانيق قال : لم آتِكَ بهذا ، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن أنزلت هذه الآية . وهذا ضعيف لوجوه :
أحدها : أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع ، وحينئذ تزول الثقة عن الشرع .
وثانيها : أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة ، وطريقتها ومعناها ، فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها .
وثالثها : هب أنه تكلم بذلك سهواً فكيف لا يتنبه لذلك حين قرأها على جبريل وذلك ظاهر . وأما إن تكلم بذلك قَسْراً ، كما قال قوم إن الشيطان أجبر النبي على التكلم به وهذا أيضاً فاسد لوجوه :
أحدها : أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي لكان اقتداره علينا أكثر ، فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين ، ولجاز في أكثر ما يتكلم به أحدنا أن يكون ذلك بإجبار الشيطان .

وثانيها : أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال .
وثالثها : أنه باطل لقوله تعالى حاكياً عن الشيطان { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } [ إبراهيم : 22 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ } [ النحل : 99 ] وقال : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ الحجر : 40 ] ولا شك أنه - عليه السلام - كان سيد المرسلين .
وأما إن كان تكلمه بذلك اختياراً وهاهنا وجهان :
أحدهما : أن يقول إن هذه الكلمة باطلة .
والثاني : أن يقول إنها ليست كلمة باطلة .
أما على الأول فذكروا فيه طريقتين :
الأول : قال ابن عباس في رواية عطاء : إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم ، فجاءه جبريل فاستعرضه ، فقرأ السورة ، فلما بلغ إلى تلك الكلمة . قال جبريل : أنا ما جئتك بهذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « أَتَانِي آتٍ عَلَى صُورَتِكَ فَأَلْقَاهُ عَلَى لِسَانِي »
. الطريق الثاني : قال بعض الجهال : إنه - عليه السلام - لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ، ثم رجع عنها . وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم ألبتة ، لأن الأول يقتضي أنه - عليه السلام - ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث . والثاني يقتضي أنه كان خائناً في الوحي ، وكل واحد منهما خروج عن الدين .
وأما الوجه الثاني وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فهاهنا أيضاً طرق :
الأول : أن يقال : الغرانيق هم الملائكة ، وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة ، فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله ذلك .
الثاني : أن يقال : المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار ، فكأنه قال : أشفاعتهن ترتجى؟
الثالث : أن يقال : ذكر تعالى الإثبات وأراد النفي كقوله { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] أي : لا تضلوا ، كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [ الأنعام : 151 ] والمعنى أن تشركوا . وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن ، أو في الصلاة بناء على هذا التأويل ، ولكن الأصل في الدين أن لا يجوز عليهم شيئاً من ذلك ، لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر ، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى على تركها نحو الفظاظة وقول الشعر ، فقد ظهر القطع بكذب هذه الوجوه المذكورة في قوله : الغرانيق العلا هذا إذا فسرنا التمني بالتلاوة .

فأما إن فسرنا التمني بالخاطر وتمني القلب ، فالمعنى أنه - عليه السلام - إذا تمنى بعض ما يتمناه من الأمور وسوس إليه الشيطان بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته . ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه :
أحدها : أنه تمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا : إنه - عليه السلام - كان يحب أن يتألفهم ، فكان يتردد ذلك في نفسه ، فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه ، وهذا أيضاً خروج عن الدين لما تقدم .
وثانيها : قال مجاهد إنه - عليه السلام - كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير ، فنسخ الله ذلك بأن عرفه أن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها .
وثالثها : يحتمل أنه - عليه السلام - عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إذا كان مجملاً ، فيلقي الشيطان في جملته ما لم ينزل ، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده بأدلته وآياته .
ورابعها : معنى « إذَا تَمَنَّى » إذا أراد فعلاً مقرباً إلى الله ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه ، فرجع إلى الله في ذلك ، وهو كقوله : { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] ، وكقوله : { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله } [ الأعراف : 200 ] . ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب ، لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتنة للكفار ، وذلك يبطله قوله : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ } .
والجواب : لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار .
فصل
يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم عن جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر ، فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم ، وذلك هو المحكم . وقال أبو مسلم : معنى الآية أنه لم يرسل نبياً إلا إذا تمنى كأنه قيل : وما أرسلنا إلى البشر ملكاً ( وما أرسلنا إليهم نبياً إلا منهم ) ، وما أرسلنا من نبي خلا عند تلاوته من وسوسة الشيطان ، وأن يلقي في خاطره ما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك ، وبطلان ما يكون من الشيطان ، قال : وفيما تقدم من قوله : { قُلْ ياأيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ الحج : 49 ] تقوية لهذا التأويل ، كأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين : أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة ، ولم يرسل الله قبلي ملكاً ، وإنما أرسل رجالاً فقد يوسوس الشيطان إليهم .

فإن قيل : هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة . قلنا : إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلائهم بالوسوسة على الملائكة . واعلم أنه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين :
الأول : كيفية إزالتها ، وهو قوله : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ } والمراد إزالته وإزالة تأثيره ، وهو النسخ اللغوي ، لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام .
وأما قوله : { ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ } فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن ، وإلا فيُحمل على أحكام الأدلة التي لا تجوز فيها الغلط .
البحث الثاني : أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة شرح أثرها في حق الكفار أولاً ثم في حق المؤمنين ثانياً ، أما في حق الكفار فهو قوله : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً } ، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك ، والمراد به تشديد التبعد ، لأن ما يظهر من الرسول - عليه السلام - من الاشتباه في القراءة سهواً يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد ، وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صواباً .
ثم قال : { لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شك ونفاق ، وخصهم بذلك ، لأنهم مع كفرهم محتاجون إلى التدبر . ( وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر ) وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم باطناً وظاهراً . ثم قال : { وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين . والمعنى : وإنهم . فوضع الظاهر موضع المضمر ، قضى عليهم بالظلم وأبرزهم ظاهرين للشهادة عليهم بهذه الصفة الذميمة . والشقاق الخلاف الشديد والمعاداة والمباعدة سواء . وأما في حق المؤمنين فهو قوله : { وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ } ولنرجع إلى الإعراب فنقول :
قوله : { إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان } في هذه الجملة بعد « إلاّ » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في محل نصب على الحال من « رَسُول » والمعنى : وما أرسلنا من رسول إلا حاله هذه ، والحال محصورة .
والثاني : أنها في محل الصفة لرسول ، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجر باعتبار لفظ الموصوف ، وبالنصب باعتبار محله ، فإن « مِنْ » مزيدة فيه .
الثالث : أنها في موضع استثناء من غير الجنس . قاله أبو البقاء ، يعني : أنه استثناء منقطع و « إذا » هذه يجوز أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وإليه ذهب الحوفي ، وأن تكون لمجرد الظرفية . قال أبو حيان : ونصوا على أنه يليها - يعني « إلا » - في النفي المضارع بلا شرط نحو ما زيد إلا يفعل ، وما رأيت زيداً إلا يفعل ، والماضي بشرط تقدم فعل نحو

{ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ } [ الحجر : 11 ] ، أو مصاحبة ( قد ) نحو : ما زيد إلا قد فعل ، وما جاء بعد ( إلا ) في الآية جملة شرطية ولم يلها ماض مصحوب ب ( قد ) ، ولا عار منها ، فإن صح ما نصوا عليه يؤول على أن « إذا » جردت للظرفية ، ولا شرط فيها ، وفصل بها بين ( إلا ) والفعل الذي هو « أَلْقَى » ، وهو فصل جائز ، فتكون « إلا » قد وليها ماض في التقدير ، ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل ( إلا ) وهو « وَمَا أَرْسَلْنَا » . قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى هذا التكليف المخرج للآية عن معناها بل هي جملة شرطية إما حال أو صفة أو استثناء كقوله : { إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ فَيْعَذِّبُهُ } [ الغاشية : 23 - 24 ] وكيف يدعي الفصل بها وبالفعل بعدها بين « إلا » وبين « ألقى » من غير ضرورة تدعو إليه ، ومع عدم صحة المعنى .
وقوله تعالى : { إِذَا تمنى } إنما أفرد الضمير ، وإن تقدمه سببان معطوف أحدهما على الآخر بالواو ، لأن في الكلام حذفاً تقديره : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا إذا تمنى ، ولا نبي إلا إذا تمنى كقوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، والحذف إما من الأول أو الثاني . والضمير في « أُمْنِيَّتِه » فيه قولان : أظهرهما أنه ضمير الشيطان والثاني : أنه ضمير الرسول .
قوله : « لِيَجْعَلَ » في متعلق هذه اللام ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها متعلقة ب « يُحْكِمُ » ، أي : ثم يُحْكِمُ الله آياته ليجعل ، وقوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } جملة اعتراض ، وإليه نحا الحوفي .
والثاني : أنها متعلقة ب « يَنْسَخُ » وإليه نحا ابن عطية ، وهو ظاهر أيضاً .
الثالث : أنها متعلقة ب « أَلْقَى » ، وليس بظاهر . وفي اللام قولان :
أحدهما : أنها للعلة . والثاني : أنها للعاقبة . و « ما » في قوله : « ما يُلْقِي » الظاهر أنها بمعنى الذي ، ويجوز أن تكون مصدرية .
قوله : « والقاسِيَة » أل في « القَاسِيَة » موصولة ، والصفة صلتها ، و « قُلُوبُهم » فاعل بها ، والضمير المضاف إليه هو عائد الموصول ، وأُنِّثت الصلة لأن مرفوعها مؤنث مجازي ، ولو وضع فعل موضعها لجاز تأنيثه . و « القَاسِيَة » عطف على « الذين » ، أي : فتنة للذين في قلوبهم مرض وفتنة للقاسية قلوبهم .
قوله : « وَليَعْلَمَ الَّذِينَ » عطف على « لِيَجْعَلَ » عطف علة على مثلها والضمير في « أنَّه » قال الزمخشري : إنه يعود على تمكين الشيطان ، أي : ليعلم المؤمنون أن تمكين الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق . أما على قول أهل السنة فلأنه تعالى يتصرف كيف شاء في مُلكه ومِلكه فكان حقاً وأما على قول المعتزلة فلأنه تعالى حكيم فتكون كل أفعاله صواباً فيؤمنوا به وقال ابن عطية : إنه يعود على القرآن ، وهو وإن لم يجر له ذكر فهو في قوة المنطوق ، وهو قول مقاتل .

وقال الكلبي : إنه يعود إلى نسخ الله ما ألقاه الشيطان .
قوله : « فَيُؤْمِنُوا » عطف على « وَليَعْلَمَ » ، و « فَتُخْبِتَ » عطف عليه وما أحسن ما وقعت هذه الفاءان . ومعنى « فَتُخْبِتَ » أي تخضع وتسكن له قلوبهم لعلمهم بأن المقضي كائن وكلٌّ مُيَسَّر لِمَا خُلِقَ لَه .
فصل
ومعنى « أُوتُوا العِلْمَ » أي : التوحيد والقرآن . وقال السُّدِّي : التصديق . « فَيُؤْمِنُوا به » أي : يعتقدوا أنه من الله .
قوله : { وَإِنَّ الله لَهَادِ } قرأ العامة « لهَادِ الَّذِينَ » بالإضافة تخفيفاً . وابن أبي عبلة وأبو حيوة بتنوين الصفة وإعمالها في الموصول . والمعنى : أن الله يهدي الذين آمنوا إلى طريق قويم وهو الإسلام .
قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ } الآية . لما بين حال الكافرين أولاً ثم حال المؤمنين ثانياً عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى ، فقال : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ } شك ونفاق « مِنْه » أي : من القرآن ، أو من الرسول ، أو مم ألقاه الشيطان .
والمِرية والمُرية بالكسر والضم لغتان مشهورتان ، وظاهر كلام أبي البقاء أنهما قراءتان .
قوله : { حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة } وهذا يدل على أن الأعْصَار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا وصفه . « بغْتَة » أي : فجأة من دون أن يشعروا ، ثم جعل الساعة لكفرهمِ ، وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء . وقيل : أراد بالساعة الموت . { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } . قال الأكثرون : هو يوم بدر . وقال عكرمة والضحاك : هو يوم القيامة . والعقيم من العُقْم ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه السد ، يقال : امرأة مَعْقُومة الرَّحم أو مسدودته عن الولادة . وهو قول أبي عبيد .
والثاني : أن أصله القطع ، ومنه ( المُلْك عَقِيم ) أي : لأنه يقطع صلة الرحم بالتراحم عليه ، ومنه العقيم لانقطاع ولادتها . والعقم انقطاع الخبر ، ومنه يوم عقيم ، قيل : لأنه لا ليلة بعده ، ولا يوم فشبه بمن انقطع نسله ، وقيل : لأنهم لا يرون فيه خيراً . وقيل : لأن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم ، فكيف يحصل الحمل فيه . هذا إن أريد به يوم القيامة .
وإن أريد به يوم بدر فقيل : لأن أبناء الحرب تقتل فيه ، فكأن النساء لم يلدنهم فيكنّ عُقماً ، يقال : رجل عَقِيم وامرأة عَقيم ، أي : لا يولد لهما . والجمع عقم .
وقيل : لأنه الذي لا خير فيه ، يقال : ريح عقيم إذا لم تنشئ مطراً ، ولم تلقح شجراً .
وقيل : إنه لا مثل له في عظم أمره ، وذلك لقتال الملائكة فيه .
والقول الأول أولى لأنه لا يجوز أن يقال : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ } ويكون المراد إلى يوم بدر ، لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر .

فإن قيل : لمّا ذكر الساعة ، فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار . قلنا : ليس كذلك لأن الساعة مقدمات القيامة ، واليوم العقيم كما مر نفس ذلك اليوم على أن الأمر لو كان كما قال لم يكن تكراراً ، لأن في الأول ذكر الساعة ، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم .
وإن أريد بالساعة وقت الموت ، وبعذاب يوم عقيم القيامة فالسؤال زائل .
قوله : { الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ } ، وهذا من أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو هذا اليوم ، وأراد أنه لا مالك في ذلك اليوم سواه . و « يَوْمَئِذٍ » منصوب بما تضمنه « لِلَّهِ » من الاستقرار ، لوقوعه خبراً . و « يَحْكُم » يجوز أن يكون حالاً من اسم الله ، وأن يكون مستأنفاً ، والتنوين في « يَوْمَئِذٍ » عوض من جملة ، فقدرها الزمخشري : يوم يؤمنون . وهو لازم لزوال المِرْيَة ، وقدره أيضاً : يوم نزول مِرْيَتِهِم .
ثم بيَّن تعالى كيف يحكم بينهم وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم والكافرين إلى عذاب مهين .
قوله : « والَّذِيْنَ كَفَرُوا » مبتدأ ، وقوله : « فأولَئِكَ » وما بعده خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط بالشرط المذكور ، و « لَهُم » يحتمل أن يكون خبراً عن « أولَئِكَ » و « عَذَاب » فاعل به لاعتماده على المخبر عنه . وأن يكون خبراً مقدماً وما بعده مبتدأ ، والجملة خبر « أولئك » .

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)

قوله : « والَّذِينَ هَاجَرُوا » مبتدأ ، وقوله : « لَيَرْزُقَنَّهُم » جواب قسم مقدر ، والجملة القسمية وجوابها خبر قوله : « والَّذِينَ هَاجَرُوا » . وفيه دليل على وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ . ومن يمنع يضمر قولاً هو الخبر يحكي به هذه الجملة القسمية . وهو قول مرجوح .
قوله : « رِزْقاً » يجوز أن تكون مفعولاً ثانياً على أنه من باب الرعي والذبح أي : مرزوقاً حسناً . وأن يكون مصدراً مؤكداً .
وقوله : « ثُمَّ قُتِلُوا » وقوله : « مُدْخَلاً » تقدم الخلاف في القراءة بهما في آل عمران وفي النساء .
فصل
لما ذكر أن المُلْكَ له يوم القيامة ، وأنه يَحكم بينهم ، ويُدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر الوعد الكريم للمهاجرين ، وأفردهم بالذكر تفخيماً لشأنهم فقال : « وَالَّذِينَ هَاجَرُوا » فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله ، وطلب رضاه { ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ } وهم كذلك قال مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم وظاهر الآية العموم . ثم قال : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً } والرزق الحسن هو الذي لا ينقطع أبداً وهو نعيم الجنة . وقال الأصم : إنه العلم والفهم لقول شعيب - عليه السلام - { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } [ هود : 88 ] . ( وقال الكلبي : « رِزْقاً حَسَناً » ) أي حلالاً وهو الغنيمة .
وهذان الوجهان ضعيفان لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت ، وبعدهما لا يكون إلا نعيم الآخرة . ثم قال : { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين } معلوم بأن كل الرزق من عنده . فقيل : إن التفاوت إنما كان بسبب أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا يقدر عليه غيره . وقيل : المراد أنه الأصل في الرزق ، وغيره إنما يرزق بما تقدم من الرزق من جهة الله . وقيل : إن غيره ينقل من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل نفس الرزق .
وقيل : إن غيره إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه به ، إما لأجل خروجه عن الواجب أو لأجل أن يستحق به حمداً أو ثناء ، أو لأجل الرقّة الجنسية ، أما الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء كمالاً زائداً ، فالرزق الصادر منه لمحض الإحسان . وقيل : إن غيره إنما يرزق إذا حصل في قلبه إرادة ذلك الفعل ، وتلك الإرادة من الله ، فالرازق في الحقيقة هو الله .
فصل
قالت المعتزلة : الآية تدل على أمور ثلاثة :
الأول : أن غير الله قادر .
الثاني : أن غير الله يصح أن يرزق ويملك ، ولولا كونه قادراً فاعلاً لما صح ذلك .
الثالث : أن الرزق لا يكون إلا حلالاً ، لأن قوله : « خَيْرُ الرَّازِقِيْن » يدل على كونهم ممدوحين .
والجواب : لا نزاع في كون العبد قادراً ، فإن القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام .

والثالث بحث لفظي تقدم الكلام فيه .
فصل
دل قوله : { ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ } على أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء ، لأنه تعالى جمع بينهما في الوعد ، ويؤيده ما روى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « المَقْتُولُ فِي سَبِيْلِ اللَّهِ والمُتَوَفَّى فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ قَتْلٍ هُمَا فِي الأَجْرِ شَريكَان » ولفظ الشركة مشعر بالتسوية وإلا فلا يبقى لتخصيصها بالذكر فائدة .
قوله : « لَيُدْخِلَنَّهُمْ » هذه الجملة يجوز أن تكون بدلاً من « لَيَرْزُقَنَّهُم » وأن تكون مستأنفة . وقوله : « مُدْخَلاً يَرْضَوْنَه » قال ابن عباس : إنما قال : « يَرْضَوْنَه » لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . ف « يَرْضَوْنَ » وقوله : { فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] وقوله : { ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [ الفجر : 28 ] { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
ثم قال : { وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم ، أو عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة ، وأما الحليم فلا يعجل بالعقوبة على من يقدم على المعصية ، بل يمهل لتقع منه التوبة فيستحق الجنة .
قوله تعالى : { ذلك وَمَنْ عَاقَبَ } « ذَلِكَ » خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر ذلك وما بعده مستأنف . والباء في قوله : { بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } للسببية في الموضعين قاله أبو البقاء والذي يظهر أن الأولى يشبه أن تكون للآلة . « وَمَنْ عَاقَبَ » مبتدأ خبره « لَيَنْصُرَنَّه اللَّهُ » .
فصل
المعنى : الأمر ذلك الذي قصصناه عليك { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } أي قاتل من كان يقاتله ، ثم كان المقاتل مبغياً عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتُدِئ بالقتال .
قال مقاتل : نزلت في قوم من قريش أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم ، وكره المسلمون قتالهم ، وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام ، فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون لهم فنُصِروا ، فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام . فأنزل الله هذه الآية ، وعفا عنهم وغفر لهم .
والعقاب الأول بمعنى الجزاء ، وأطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] .
وهذه النُّصْرة تقوي تأويل من تأول الآية على مجاهدة الكفار لا على القصاص لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك . وقال الضحاك : هذه الآية في القصاص والجراحات لأنها مدنية .
قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه : من حَرَّق حَرَّقْنَاه ، ومن غَرَّق غَرَّقْنَاه لهذا الآية ، فإن الله تعالى جوَّز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر . وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى : بل يقتل بالسيف .

فإن قيل : كيف تعلق الآية بما قبلها؟
فالجواب : كأنه تعالى قال : مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم .
ثم قال : { إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي إن الله ندب المعاقبين إلى العفو عن الجاني بقوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة فكأنه تعالى قال : إني عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها . وقيل : إنه تعالى وإن ضمن له النصر على الباغي لكنه عرض مع ذلك بما هو أولى وهو العفو والمغفرة ، فلوَّح بذكر هاتين الصفتين .
وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده .
قوله : { ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار } وفيه وجهان :
الأول : أي : ذلك النصر بسبب أنه قادر ، ومن قدرته كونه خالقاً لليل والنهار ومتصرفاً فيهما ، فوجب أن يكون قادراً عالماً بما يجري فيهما ، وإذا كان كذلك كان قادراً على النصر .
الثاني : المراد أنه مع ذلك النصر ينعم في الدنيا بما يفعله من تعاقب الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر . ومعنى إيلاج أحدهما في الآخر أنه يحصل ظلمة هذا في ضياء ذلك بغيبوبة الشمس وضياء ذلك في ظلمة هذا بطلوعها كما يضيء البيت بالسراج ويظلم بفقده .
وقيل هو أن يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات . و « ذَلَكَ » مبتدأ و « بأَنَّ اللَّهَ » خبره ، ثم قال : { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي : أنه كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره ، فكذلك يدرك المسموع والمبصر ، ولا يجوز المنع عليه ، وذلك كالتحذير من الإقدام على ما لا يجوز في المسموع والمبصر .
قوله : { ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق } الآية . قرأ العامة « وأن ما » عطفاً على الأول . والحسن بكسرها استئنافاً . وقوله : « هُوَ الحَقّ » يجوز أن يكون فصلاً ومبتدأ .
وجوَّز أبو البقاء أن يكون توكيداً . وهو غلط لأن المضمر لا يؤكد المظهر ، ولكان صيغة النصب أولى به من الرفع فيقال : إياه ، لأن المتبوع منصوب . وقرأ الأخوان وحفص وأبو عمرو هنا وفي لقمان « يَدْعُونَ » بالياء من تحت . والباقون بالتاء من فوق ، والفعل مبني للفاعل وقرأ مجاهد واليماني بالياء من تحت مبنياً للمفعول . والواو التي هي ضمير تعود على معنى « ما » والمراد بها الأصنام أو الشياطين ، ومعنى الآية : أن ذلك الوصف الذي تقدم من القدرة على هذه الأمور لأجل أن الله هو الحق ، أي : هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغيير والزوال وأن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كقوله : { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة } [ غافر : 43 ] .
{ وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير } العلي القاهر المقتدر نبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر من يعبد مرغباً بذلك في عبادته زاجراً عن عبادة غيره ، وأما الكبير فهو العظيم في قدرته وسلطانه ، وذلك يفيد كمال القدرة .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } الآية لما دل على قدرته بما تقدم أتبعه بأنواع أُخَر من الدلائل على قدرته ونعمته فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المراد الرؤية الحقيقية ، لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين ، واخضرار النبات على الأرض مرئي ، فحمل الكلام على حقيقته أولى .
والثاني : المراد ألم تخبر على سبيل الاستفهام .
الثالث : المراد ألم تعلم .
قال ابن الخطيب : والأول ضعيف ، لأن الماء وإن كان مرئياً إلا أن كون الله منزلاً له من السماء غير مرئي ، وإذا ثبت هذا وجب حمله على العلم ، لأن المقصود من تلك الرؤية هو العلم ، لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل .
قوله : « فتصبح » فيه قولان :
أحدهما : أنه مضارع لفظاً ماض معنى تقديره : فأصبحت ، قاله أبو البقاء ، ثم قال بعد أن عطفه على « أَنْزَل » : فلا موضع له إذاً . وهو كلام ضعيف ، لأن عطفه على « أنزل » يقتضي أن يكون له محل من الإعراب وهو الرفع خبراً ل « أن » . لكنه لا يجوز لعدم الربط .
الثاني : أنه على بابه ، ورفعه على الاستئناف . قال أبو البقاء : فهي ، أي : القصة ، و « تُصْبِح » الخبر . قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى تقدير مبتدأ ، بل هذه جملة فعلية مستأنفة لا سيما وقَدَّر المبتدأ ضمير القصة ثم حذفه ، وهو لا يجوز ، لأنه لا يؤتى بضمير القصة إلا للتأكيد والتعظيم والحذف ينافيه . قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : فأصبحت ، ولم صرف إلى لفظ المضارع . قلت : لنكتة فيه ، وهي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان كما تقول : أنعَمَ عليَّ فلان عام كذا ، فأروح وأغدو شاكراً له ، ولو قلت : فَرِحْتُ وغَدَوْتُ لم يقع ذلك الموقع . فإن قلت : فما له رفع ولم ينصب جواباً بالاستفهام . قلت : لو نصب لأعطى عكس الغرض ، لأن معناه إثبات الاخضرار ، فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار ، مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر . إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر ، وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله . وقال ابن عطية : قوله : « فَتُصْبِِحُ » بمنزلة قوله : فتضحى أو تصير ، عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ، ووقع قوله : « فتُصْبحُ » من حيث الآية خبر ، والفاء عاطفة وليست بجواب ، لأن كونها جواباً لقوله : « أَلَمْ تَر » فاسد المعنى . قال أبو حيان : ولم يبين هو ولا الزمخشري قبله كيف يكون النصب نافياً للاخضرار ، ولا كون المعنى فاسداً .

قال سيبويه : وسألته - يعني الخليل - عن { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } فقال : هذا واجب وتنبيه ، كأنك قلت : أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا .
قال ابن خروف : وقوله : هذا واجب . وقوله : فكان كذا . يريد أنهما ماضيان وفسر الكلام ب « أتسمع » . ( ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام ) لضعف حكم الاستفهام فيه .
وقال بعض شراح الكتاب : « فتُصْبِحُ » لا يمكن نصبه ، لأن الكلام واجب ، ألا ترى أن المعنى أن الله أنزل فالأرض هذه حالها . وقال الفراء : « ألَمْ تَر » خبر ، كما تقول في الكلام : اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا . ويقول : إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا ، لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام ، وإن كان يقتضي تقريراً في بعض الكلام ، هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] وكذلك الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب . فإذا قلت : ما تأتينا فتحدثنا . بالنصب ، فالمعنى ما تأتينا محدثاً ، وإنما تأتينا ولا تُحَدَِّث ، ويجوز أن يكون المعنى أنك لا تأتي فكيف تحدث ، فالحديث منتف في الحالتين ، والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة وينفي الجواب ، فيلزم من هذا التقدير إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار ، وهو خلاف المقصود .
وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء كقوله :
3775- أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِركَ الرُّسُومُ ... يتقدر : إن تسأل تخبرك الرسوم ، وهنا لا يتقدر : إن تر إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة ، لأن اخضرارِها ليس مترتباً على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال .
وإنما عبر بالمضارع ، لأن فيه تصوير الهيئة التي الأرض عليها والحالة التي لابست الأرض ، والماضي يفيد انقطاع الشيء ، وهذا كقول جحدر بن معاوية يصف حاله مع أسد نازله في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف الثقفي ، وهي أبيات فمنها :
3776- يَسْمُو بِنَاظِرَتَيْنِ تَحْسَبُ فِيْهمَا ... لَما أَجَالَهُمَا شُعَاعَ سِرَاجِ
لَما نَزَلْتَ بِحصْنٍ أَزْبَرَ مِهْصَرٍ ... لِلْقِرْنِ أَرْوَاح العِدَا مَحَّاجِ
فَأَكِرُّ أَحْمِلُ وَهو يُقْعِي باسْتِه ... فَإِذَا يَعُوْدُ فَرَاجِعٌ أَدْرَاجِ
وَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ أَبَيْتُ نِزَالَهُ ... أَنِّيْ مِنَ الحَجَّاجِ لَسْتُ بَنَاجِ
فقوله : فأَكِرُّ تصوير للحالة التي لابسها . قال شهاب الدين : أما قوله : وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد مع الاستفهام . إلى قوله : إنما هو مترتب على الإنزال . منتزع من كلام أبي البقاء . قال أبو البقاء : إنما رفع الفعل هنا وإن كان قبله استفهام لأمرين :
أحدهما : أنه استفهام بمعنى الخبر ، أي قدر رأيت فلا يكون له جواب .
والثاني : أن ما بعد الفاء ينصب إذا كان المستفهم عنه سبباً له ، ورؤيته لإنزال الماء لا يوجب اخضرار الأرض ، وإنما يجب على الماء .

وأما قوله : وإنما عبر بالمضارع . فهو معنى كلام الزمخشري بعينه ، وإنما غير عبارته وأوسعها .
وقوله : « فَتُصْبح » استدل به بعضهم على أن الفاء لا تقتضي التعقيب ، قال : لأن اخضرارها متراخ عن إنزال الماء ، هذا بالمشاهدة .
وأجيب عن ذلك بما نقله عكرمة من أن أرض مكة وتهامة على ما ذكروا أنها تمطر الليلة فتصبح الأرض غدوة خضرة ، فالفاء على بابها . قال ابن عطية : شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر ليلاً بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف . وقيل : تراها كل شيء بحسبه ، وقيل : ثم جُمَلٌ محذوفة قبل الفاء تقديره : فتهتز وتربو وتنبت ، بيّن ذلك قوله تعالى : { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ } [ الحج : 5 ] وهذا من الحذف الذي يدل عليه فحوى الكلام كقوله تعالى : { فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا } [ يوسف : 45 - 46 ] إلى آخر القصة . و « تُصْبِحُ » يجوز أن تكون الناقصة وأن تكون التامة « مُخَضَرَّة » حال قاله أبو البقاء . وفيه بعد عن المعنى إذ يصير التقدير فتدخل الأرض في وقت الصباح على هذه الحال . ويجوز فيها أيضاً أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بهذا الزمن الخاص ، وإنما خص هذا الوقت لأن الخضرة والبساتين أبهج ما ترى فيه ويجوز أن تكون بمعنى تصير . وقرأ العامة « مُخضَرَّة » بضم الميم وتشديد الراء اسم فاعل من اخْضَرَّت فهي مُخْضَرَّة ، والأصل مُخْضَررَة بكسر الراء الأولى فأدغمت في مثلها . وقرأ بعضهم « مَخْضَرَة » بفتح الميم وتخفيف الراء بزنة مَبْقَلة ومَسْبعة .
والمعنى : ذات خضروات وذات سِبَاع وذات بَقْل .
ثم قال : { إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي : أنه رحيم بعباده ولرحمته فعل ذلك حتى عظم انتفاعهم به ، لأن الأرض إذا أصبحت مخضرة ، والسماء إذا أمطرت كان ذلك سبباً لعيش الحيوان أجمع . ومعنى « خَبِير » أي؛ عالم بمقادير مصالحهم فيفعل على قدر ذلك من غير زيادة ولا نقصان . وقال ابن عباس : « لطيفٌ » بأرزاق عباده « خبير » بما في قلوبهم من القنوط . وقال الكلبي : « لطيف » في أفعاله « خبير » بأعمال خلقه .
وقال مقاتل : « لطيف » باستخراج النبت « خبير » بكيفية خلقه .
{ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } عبيداً وملكاً ، وهو غني عن كل شيء لأنه كامل لذاته ، ولكنه لما خلق الحيوان فلا بد في الحكمة من مطر ونبات فخلق هذه الأشياء رحمة للحيوانات وإنعاماً عليهم لا لحاجة به إلى ذلك ، وإذا كان كذلك كان إنعامه خالياً عن غرض عائد إليه ، فكان مستحقاً للحمد ، فكأنه قال : إنه لكونه غنياً لم يفعل ما فعله إلا للإحسان ، ومن كان كذلك كان مستحقاً للحمد فوجب أن يكون حميداً ، فلهذا قال : { وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد } .

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض } أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر ، ولا أشد من الحديد ، ولا أكثر هيبة من النار ، وقد سخرها لكم ، وسخر الحيوانات أيضاً حتى ينتفع بها للأكل والركوب والحمل .
قوله : « والفُلْكَ » العامة على نصب « الفُلْكَ » وفيه وجهان :
أحدهما : أنها عطف على { مَّا فِي الأرض } أي سخر لكم ما في الأرض وسخر لكم الفلك ، وأفردها بالذكر وإن اندرجت بطريق العموم تحت « ما » في قوله { مَّا فِي الأرض } لظهور الامتنان بها ، ولعجيب تسخيرها دون سائر المسخرات ، و « تَجْرِي » على هذا حال .
والثاني : أنها عطف على الجلالة ، وتقديره : أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفُلْكَ تَجْرِي فِي البَحْر ، ف « تجري » خبر على هذا . وضم لام « الفُلْك » هنا الكسائي فيما رواه عن الحسن ، وهي قراءة ابن مقسم ، وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة والأعرج وأبو حيوة والزعفراني برفع « والفُلْك » على الابتداء ، و « تَجْرِي » بعده الخبر . ويجوز أن يكون ارتفاعه عطفاً على محل اسم « إن » عند من يجيز ذلك نحو إن زيداً وعمرو قائمان ، وعلى هذا ف « تجري » حال أيضاً والباء في « بأمره » للسببية .
فصل
وكيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياحُ تجريها ، فلولا صفتها على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص أو تقف فنبه تعالى على نعمته بذلك ، وبأن خلق ما تُعْمَل منه السفن ، وبأن بين كيف تعمل ، وقال : « بأَمْرِه » لما كان تعالى هو المجري لها بالرياح نسب ذلك إلى أمره توسعاً ، لأن ذلك يفيد ( تعظيمه بأكثر مما يفيد ) لو أضافه إلى فعله على عادة الملوك في مثل هذه اللفظة .
قوله : { وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ } ( في « أَنْ تَقَعَ » ) ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في محل نصب أو جر لأنها على حذف حرف الجر تقديره من أن تقع .
الثاني : أنها في محل نصب فقط لأنها بدل من « السماء » بدل اشتمال أي ويمسك وقوعها بمنعه .
الثالث : أنها في محل نصب على المفعول من أجله ، فالبصريون يقدرون كراهة أن تقع ، والكوفيون لئلا تقع .
قوله : « إِلاَّ بإِذْنِه » في هذا الجار وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب « تَقَع » أي : إلا بإذنه فتقع .
والثاني : أنه متعلق ب « يمسك » .
قال ابن عطية : ويحتمل أن يعود قوله : « إلا بإذنه » على الإمساك ، لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه ، كأنه أراد إلا بإذنه فيه نمسكها . قال أبو حيان : ولو كان على ما قال لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء ويكون التقدير : ويمسك السماء بإذنه .

قال شهاب الدين : فهذا الاستثناء مفرغ ، ولا يقع في موجب ، لكنه لما كان الكلام قبله في قوة النفي ساغ ذلك إذ التقدير : لا يتركها تقع إلا بإذنه ، والذي يظهر أن هذه الباء حالية ، أي : إلا ملتبسة بأمره . ثم قال : { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أي أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد بلغ الغاية في الإحسان والإنعام ، فهو إذاً رؤوف رحيم قوله : { وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ } أنشأكم ولم تكونوا شيئاً « ثُمَّ يُميتُكُمْ » عند انقضاء آجالكم « ثُمَّ يُحْييْكُمْ » يوم القيامة للثواب والعقاب { إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ } لنعم الله عزَّ وجلَّ ، وهذا كما يعدد المرء نعمه على ولده ثم يقول : إن الولد لكفور لنعم الوالد زجراً له عن الكفران ، وبعثاً له على الشكر ، فلذلك أورد تعالى ذلك في الكفار ، فبين أنهم دفعوا هذه النعم وكفروا بها وجهلوا خالقها مع وضوح أمرها ونظيره قوله : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] .
قال ابن عباس : الإنسان هنا هو الكافر ، وقال في رواية : هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف . والأولى أنه في كل المنكرين .

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)

قوله تعالى : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ } لما عدد نعمه وأنه لرؤوف رحيم بعباده ، وإن كان منهم من يكفر ولا يشكر ، أتبعه بذكر نعمه بما كلَّف ، فقال : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } . وحذف الواو من قوله : « لِكُلِّ أُمَّةٍ » لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فحذف العاطف .
قال الزمخشري : لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها ، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفاً .
قوله : « هم ناسكوه » هذه الجملة صفة ل « مَنْسَكاً » . وقد تقدم أنه يقرأ بالفتح والكسر ، وتقدم الخلاف فيه هل هو مصدر أو مكان . وقال ابن عطية : « نَاسِكُوه » يعطي أن المنسك المصدر ، ولو كان مكاناً لقال : ناسكون فيه . يعني أن الفعل لا يتعدى إلى ضمير الظرف إلا بواسطة ( في ) . وما قاله غير لازم ، لأنه قد يتسع في الظرف فيجري مجرى المفعول فيصل الفعل إلى ضميره بنفسه ، وكذا ما عمل عمل الفعل .
ومن الاتساع في ظرف الزمان قوله :
3777- وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِراً ... قَلِيْلٍ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نَوَافِلُه
ومن الاتساع في ظرف المكان قوله :
3778- وَمَشْرَبٍ َشْرَبُه وشيلٍ ... لاَ آجِنُ المَاءِ وَلاَ وَبِيْلُ
يريد أشرب فيْه .
فصل
روي عن ابن عباس : المَنْسَك شريعة عاملون بها ، ويؤيده قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] . وروي عنه أنه قال : عيداً يذبحون فيه . وقال مجاهد وقتادة : قربان يذبحون . وقيل : موضع عبادة . وقيل : مألفاً يألفونه والأول أولى لأن المنسك مأخوذ من النسك وهو العبادة ، وإذا وقع الاسم على عبادة فلا وجه للتخصيص .
فإن قيل : هلا حملتموه على الذبح ، لأن المنسك في العرف لا يفهم منه إلا الذبح وهلا حملتموه على موضع العبادة وعلى وقتها؟
فالجواب عن الأول : لا نسلم أن المنسك في العرف مخصوص بالذبح ، لأن سائر أفعال الحج تسمى مناسك قال عليه السلام : « خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم » .
وعن الثاني : أن قوله : « هُمْ نَاسِكُوه » أليق بالعبادة منه بالوقت والمكان . « فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ » قرأ الجمهور بتشديد النون ، وقرئ بالنون الخفيفة وقرأ أبو مجلز « فَلاَ يَنْزِعُنَّكَ » من نَزَعتهُ من كذا أي قلعته منه . وقال الزجاج : هو من نَازعتُه فَنَزَعْتُه أَنْزِعُه أي : غلبته في المنازعة . ومجيء هذه الآية كقوله تعالى : { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } [ طه : 16 ] وقولهم : لا أَرَيَّنَكَ ههنا .
فصل
معنى الكلام على قراءة أبي مجلز : أي اثبت في دينك ثباتاً لا يطمعون أن يخدعوك ليزيلوك عنه وعلى قراءة : « يُنَازِعُنَّكَ » فيه قولان :
الأول : قال الزجاج : إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول : لا يضاربك فلان أي : لا تضاربه .

قال بعض المفسرين : { فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر } في أمر الذبائح ، نزلت في بُدَيْل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن حُبَيش قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : مَا لَكُمْ تَأْكُلُونَ مَا تَقْتُلون بأَيْدِيْكُمْ وَلاَ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّه .
والثاني : أن المراد أن عليهم اتباعك وترك مخالفتك ، وقد استقر الآن الأمر على شرعك ، وعلى أنه ناسخ لكل ما عداه ، فكأنه قال : كل أمة بقيت منها بقية يلزمها أن تتحول إلى اتباع الرسول - عليه السلام - فلذلك قال : { وادع إلى رَبِّكَ } أي : لا تخص بالدعاء أمة دون أمة ، فكلهم أمتك فادعهم إلى شريعتك ، فإنك على هدى مستقيم والهدى يحتمل أن يكون نفس الدين ، وأن يكون أدلة الدين ، وهو أولى . كأنه قال : ادعهم إلى هذا الدين فإنك من حيث الدلالة على طريقة واضحة ، ولهذا قال : « وَإِنْ جَادَلُوْك » أي فإن عدلوا عن هذه الأدلة إلى المراء والتمسك بعادتهم { فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي أنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا الجنس الذي يجري مجرى الوعيد والتحذير من يوم القيامة الذي يتردد بين جنة وثواب لمن قَبِل وبين نار وعقاب لمن رَدّ وأنكر . فقال : { الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فتعرفون حينئذ الحق من الباطل .

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض } الآية . لما قال : { الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } [ الحج : 69 ] أتبعه بما به يعلم أنه تعالى عالم بما يستحقه كل أحد ، ويقع الحكم بينهم بالعدل لا بالجور فقال لرسوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض } ، وهذا استفهام معناه تقوية قلب الرسول - عليه السلام - والوعد له وإيعاد الكافرين بأن أفعالهم كلها محفوظة عند الله لا يضل عنه ولا ينسى . والخطاب مع الرسول والمراد سائر العباد لأن الرسالة لا تثبت إلا بعد العلم بكونه تعالى عالماً بكل المعلومات ، إذ لو لم يثبت ذلك لجاز أن يشتبه عليه الكاذب بالصادق ، فحينئذ لا يكون إظهار المعجزة دليلاً على الصدق ، وإذا كان كذلك استحال أن لا يكون الرسول عالماً بذلك ، فثبت أن المراد أن يكون خطاباً مع الغير ثم قال : { إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ } أي : كله في كتاب يعني اللوح المحفوظ .
وقال أبو مسلم : معنى الكتاب الحِفْظ والضَّبْط والشَّد ، يقال : كَتَبْتُ المزادة أكْتُبُها إذا خَرزْتها ، فحفظت بذلك ما فيها ، ومعنى الكتاب بين الناس حفظ ما يتعاملون به ، فالمراد بالآية أنه محفوظ عنده . وأيضاً فالقول الأول يوهم أن علمه مستفاد من الكتاب .
وأجيب بأن هذا القول وإن كان صحيحاً نظراً إلى الاشتقاق لكن حمل اللفظ على المتعارف أولى ، ومعلوم أن الكتاب هو ما كتب فيه الأمور .
فإن قيل : أي فائدة في ذلك الكتاب إذا كان محفوظاً؟
فالجواب أن كتبه تلك الأشياء في ذلك الكتاب مع كونها مطابقة للموجودات دليل على أنه تعالى غني في علمه عن ذلك الكتاب . وفائدة أن الملائكة ينظرون فيه ، ثم يرون الحوادث داخلة في الوجود على وفقه فيصير ذلك دليلاً لهم زائداً على كونه تعالى عالماً بكل المعلومات وقوله : { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } أي العلم بجميع ذلك على الله يسير . والمعنى : إن ذلك مما يتعذر على الخلق لكنه متى أراده الله تعالى كان ، فعبر عن ذلك بأنه يسير ، وإن كان هذا الوصف لا يستعمل إلا فينا من حيث تسهل وتصعب علينا الأمور ، وتعالى الله عن ذلك . ثم إنه تعالى بين ما يقدم الكفار عليه مع عظم نعمه ووضوح دلائله فقال :
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } حجة { وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي : عن جهل ، وليس لهم به دليل عقلي فهو تقليد وجهل ، والقول الذي هذا شأنه يكون باطلاً .
{ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } أي وما للمشركين من نصير مانع يمنعهم من عذاب الله .
قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } يعني القرآن « بَيِّنَاتٍ » لأنه متضمن للدلائل العقلية وبيان الأحكام .

وقوله : « تَعْرِفُ » العامة على « تعرف » خطاباً مبنياً للفاعل ، « المُنْكَر » مفعول به . وعيسى بن عمر « يُعْرَف » بالياء من تحت مبنياً للمفعول ، « المنكر » مرفوع قائم مقامل الفاعل ، والمنكر اسم مصدر بمعنى الإنكار .
وقوله : « الَّذِينَ كَفَرُوا » من إقامة الظاهر مقام المضمر للشهادة عليهم بذلك ، قال الكلبي : تَعْرِف في وجوههم الكراهية للقرآن . وقال ابن عباس : التجبر والترفع . وقال مقاتل : أنكروا أن يكون من الله .
قوله : « يَكَادُونَ يَسْطُونَ » هذه حال إما من الموصول ، وإن كان مضافاً إليه لأن المضاف جزؤه وإما من الوجوه لأنها يُعَبَّرُ بها عن أصحابها كقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } [ عبس : 40 ] ثم قال : « أُولَئِكَ هُم » . و « يَسْطُونَ » ضُمن معنى يبطشون فتعدى تعديته ، وإلا فهو متعدّ ب ( على ) . يقال : سطا عليه ، وأصله القهر والغلبة ، وقيل : إظهار ما يهول للإخافة ، ولفلان سطوة أي تسلط وقهر . وقال الخليل والفراء والزجاج : السطو شدة البطش والمعنى يهمون بالبطش والوثوب تعظيماً لإنكار ما خوطبوا به . أي : يكادون يبطشون { بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } أي بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من شدة الغيظ ، يقال : سطا عليه وسطا به إذا تناوله بالبطش والعنف ثم أمر رسوله بأن يقابلهم بالوعيد فقال : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم } أي بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون . أو من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم . قوله : « النار » تقرأ بالحركات الثلاث ، فالرفع من وجهين :
أحدهما : الرفع على الابتداء والخبر الجملة من « وعَدَهَا اللَّهُ » ، والجملة لا محل لها فإنها مفسرة للشر المتقدم كأنه قيل : ما شر من ذلك؟ ( فقيل : النار وعدها الله .
والثاني : أنها خبر مبتدأ مضمر كأنه قيل : ما شر من ذلك ) فقيل : النار أي : هو النار وحينئذ يجوز في « وَعَدَهَا اللَّهُ » الرفع على كونها خبراً بعد خبر ، وأجيز أن يكون بدلاً من النار . وفيه نظر من حيث إن المبدل منه مفرد ، وقد يجاب عنه بأن الجملة في تأويل مفرد ، ويكون بدل اشتمال ، كأنه قيل : النار وعدها الله الكفار .
وأجيز أن تكون مستأنفة لا محل لها . ولا يجوز أن تكون حالاً ، قال أبو البقاء لأنه ليس في الجملة ما يصلح أن يعمل في الحال .
وظاهر نقل أبي حيان عن الزمخشري أنه يجيز كونها حالاً فقال : وأجاز الزمخشري أن تكون « النَّارُ » مبتدأ و « وَعَدَها » خبر ، وأن تكون حالاً على الإعراب الأول انتهى .
والإعراب الأول هو كون « النار » خبر مبتدأ مضمر . والزمخشري لم يجعلها حالاً إلا إذا نصبت « النار » أو جررتها بإضمار قد .

هذا نصه وإنما منع ذلك لما تقدم من قول أبي البقاء ، وهو عدم العامل . وأما النصب فهو قراءة زيد بن علي وابن أبي عبلة . وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الفعل الظاهر ، والمسألة من الاشتغال .
الثاني : قال الزمخشري : إنها منصوبة على الاختصاص .
الثالث : أن ينتصب بإضمار أعني ، وهو قريب مما قبله أو هو هو . وأما الجر فهو قراءة ابن إبي إسحاق وإبراهيم بن نوح ، على البدل من « شَرّ » والضمير في « وَعَدَهَا » قال أبو حيان : الظاهر أنه هو المفعول الأول ، على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] ، ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني و « الَّذِينَ كَفَرُوا » هو المفعول الأول ، كما قال : { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ } [ التوبة : 68 ] . قال شهاب الدين : وينبغي أن يتعين هذا الثاني ، لأنه متى اجتمع بعد ما يتعدى إلى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارة عن الأول ، فالفاعل المعنوي رتبته التقديم وهو المفعول الأول ، ونعني بالفاعل المعنوي من يتأتى منه فعل ، فإذا قلت : وعدت زيداً ديناراً . فالدينار هو المفعول ، لأنه لا يتأتى منه فعل ، وهو نظير أعطيت زيداً درهماً . فزيد هو الفاعل ، لأنه آخذ للدرهم .
وقوله : « وَبِئْسَ المَصِير » المخصوص بالذم محذوف تقديره : وبئس المصير هي النار .
فصل
والمعنى : أن الذي ينالكم من النار أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات من الغضب والغم ، وهي النار وعدها الله الذين كفروا إذا ماتوا على كفرهم وبئس المصير هي .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)

قوله تعالى : { ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ } الآية لما بين أنهم يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم به ولا علم ذكر هاهنا ما يدل على إبطال قولهم .
قوله : « ضُرِبَ مَثَلٌ » قال الأخفش : ليس هذا مثل وإنما المعنى جعل الكفارُ لله مثلاً . قال الزمخشري : فإن قلت : الذي جاء به ليس مثلاً ، فكيف سماه مثلاً؟ قلت قد سميت الصفة والقصة الرائعة المتلقاة بالامتحان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستغربة مستحسنة . وقيل : معنى « ضَرَبَ » جعل ، كقولهم : ضَرَبَ السلطان البَعْثَ ، وضرب الجِزْيَة على أهل الذمة . ومعنى الآية : فجعل لي شَبَهٌ وشُبِّه بي الأوثان ، أي : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها . وقيل : هو مثل من حيث المعنى ، لأنه ضرب مثل من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذباباً . « فَاسْتَمِعُوا لَه » أي : فتدبروه حق تدبره لأن نفس السماع لا ينفع ، وإنما ينفع بالتدبر .
قوله : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ } قرأ العامة « تَدْعُونَ » بتاء الخطاب والحسن ويعقوب وهارون ومحبوب عن أبي عمرو بالياء من تحت وهو في كلتيهما مبني للفاعل .
وموسى الأسواري واليماني « يُدْعَوْنَ » بالياء من أسفل مبنياً للمفعول . والمراد الأصنام . فإن قيل : قول « ضُرِبَ » يفيد فيما مضى ، والله تعالى هو المتكلم بهذا الكلام ابتداء فالجواب : إذا كان ما يورد من الوصف معلوماً من قبل جاز ذلك فيه ، ويكون ذكره بمنزلة إعادة أمر تقدم .
قوله : « لَنْ يَخْلُقُوا » . جعل الزمخشري نفي « لَنْ » للتأبيد وتقدم البحث معه في ذلك . والذباب معروف ، وهو واحد ، وجمعه القليل : أذِبَّة ، وفيه الكسرة ، ويجمع على ذِبَّان وذُبَّان بكسر الذال وضمها وعلى ذُبّ . والمِذَبَّة ما يطرد بها الذباب . وهو اسم جنس واحدته ذبابة تقع للمذكر والمؤنث فتفرد بالوصف .
قوله : { وَلَوِ اجتمعوا لَهُ } قال الزمخشري : نصب على الحال كأنه قال يستحيل خلقهم الذباب حال اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه فكيف حال انفرادهم . وقد تقدم أن هذه الواو عاطفة هذه الجملة الحالية على حال محذوفة ، أي : انتفى خلقهم الذباب على كل حال ولو في هذه الحالة المقتضية لخلقهم ، فكأنه تعالى قال : إن هذه الأصنام لو اجتمعت لا تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبوداً .
قوله : { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً } السلب اختطاف الشيء بسرعة ، يقال : سلبه نعمته .
والسلب : ما على القتيل ، وفي الحديث : « مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبه » .
وقوله : { لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } الاستنقاذ : استفعال بمعنى الإفعال ، يقال : أنقذه من كربته ، أي : أنجاه منه وخلصه ، ومثله : أَبَلَّ المريض واسْتَبَلّ .
فصل
كأنه تعالى قال : أترُكُ أمر الخلق والإيجاد وأتكلمُ فيما هو أسهل منه ، فإن الذباب إذا سَلَبَ منها شيئاً فهي لا تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب .

واعلم أن الدلالة الأولى صالحة لأن يتمسك بها في نفي كون المسيح والملائكة آلهة ، وأما الثانية فلا .
فإن قيل : هذا الاستدلال إما أن يكون لنفي كون الأوثان خالقة عالمة حية مدبرة ، وإما لنفي كونها مستحقة للتعظيم ، والأول فاسد ، لأن نفي كونها كذلك معلوم بالضرورة ، فلا فائدة في إقامة الدلالة عليه . وأما الثاني فهذه الدلالة لا تفيده ، لأنه لا يلزم من نفي كونها حيّة أن لا تكون معظمة ، فإن جهات التعظيم مختلفة ، فالقوم كانوا يعتقدون فيها أنها طلسمات موضوعة على صور الكواكب ، أو أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين .
فالجواب : أما كونها طلسمات موضوعة على الكواكب بحيث يحصل منها الضر والنفع ، فهو يبطل بهذه الدلالة ، فإنها لم تنفع نفسها في هذا القدر وهو تخليص النفس عن الذبابة فلأن لا تنفع غيرها أولى . وأما أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين ، فقد تقرر في العقل أنَّ تعظيمَ غير الله ينبغي أن يكون أقل من تعظيم الله ، والقوم كانوا يعظمونها نهاية التعظيم ، وحينئذ كان يلزم التسوية بينها وبين الخالق سبحانه في التعظيم ، فمن هاهنا استوجبوا الذم .
فصل
قال ابن عباس : كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ، فإذا جفَّ جاءت الذباب فاستلبته وقال السدي : كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام فيقع الذباب عليه فيأكلن منه .
وقال ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر ، ويطيبونها بأنواع الطيب ، فربما يسقط منها واحدة فأخذها طائر وذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } قيل : هو إخبار . وقيل : تعجب . والأول أظهر .
قال ابن عباس : الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب عن الصنم ، والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب . وقيل : العكس الطالب الصنم والمطلوب الذباب ، فالصنم كالطالب لأنه لو طلب أن يخلقه ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه ، والذباب بمنزلة المطلوب . وقال الضحاك : الطالب العابد والمطلوب المعبود ، لأن كون الصنم طالباً ليس حقيقة بل على سبيل التقدير . وقيل : المعنى ضعف أي ظهر قبح هذا المذهب كما يقال عند المناظرة : ما أضعف هذا المذهب ، وما أضعف هذا الوجه .
قوله : { ما قدروا الله حق قدره } أي : ما عظموه حق تعظيمه ، حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شركاء له في المعبودية . { إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } : « قويّ » لا يتعذر عليه فعل شيء « عزيز » لا يقدر أحد على مغالبته ، فأي حاجة إلى القول بالشريك .
قال الكلبي : في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الأنعام : أنها نزلت في مالك ابن الصيف وكعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وغيرهم من اليهود ، حيث قالوا : إن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض أعيا من خلقها ، فاستلقى واستراح ، ووضع إحدى رجليه على الأخرى ، فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم ، ونزل قوله : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ ق : 38 ] .

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)

قوله تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلاً } الآية لما ذكر ما يتعلق بالإلهيات ذكر هاهنا ما يتعلق بالنبوات . قال بعضهم : [ تقدير الكلام : ومن الناس رسلاً . ولا حاجة لذلك ، بل قوله « ومن الناس » مقدَّر التقديم ، أي : يصطفي من الملائكة ومن الناس رسلاً ] . قال مقاتل : قال الوليد بن المغيرة { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } ؟ [ ص : 8 ] فأنزل الله هذه الآية فإن قيل : كلمة « من » للتبعيض ، فقوله « من الملائكة » يقتضي أن يكون الرسل بعضهم لا كلهم ، وقوله : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } [ فاطر : 1 ] يقتضي كون كلهم رسلاً ، فكيف الجمع؟
فالجواب : يجوز أن يكون المذكور ههنا من كان رسلاً إلى بني آدم ، وهم أكابر الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، والحفظة صلوات الله عليهم ، وأما كل الملائكة فبعضهم رسل إلى البعض . فإن قيل : قوله في سورة الزمر { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [ الزمر : 4 ] فدل على أن ولده يجب أن يكون مصطفى ، وهذه الآية تدل على أن بعض الملائكة وبعض الناس من المصطفين ، فلزم بمجموع الآيتين إثبات الولد .
فالجواب : أن قوله : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى } [ الزمر : 4 ] يدل على أن كل ولد مصطفى ولا يدل على أن كل مصطفى ولد ، فلا يلزم من دلالة هذه الآية على وجود مصطفى كونه ولداً . وأيضاً فالمراد من هذه الآية تبكيت من عبد غير الله من الملائكة ، كأنه سبحانه أبطل في الآية الأولى قول عبدة الأوثان ، وفي هذه الآية أبطل قول عبدة الملائكة ، فبين أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة لأن الله اصطفاهم لمكان عبادتهم ، فكأنه تعالى بيَّن أنهم { مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } [ الحج : 74 ] إذ جعلوا الملائكة معبودة مع الله .
ثم بين تعالى : بقوله : { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أنه يسمع ما يقولون ، ويرى ما يفعلون ولذلك أتبعه بقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } . قال ابن عباس : ما قدموا وما خلفوا وقال الحسن : { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ما عملوا ، « وَمَا خَلْفَهُم » ما هم عاملون من بعد . ثم قال : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } إشارة إلى القدرة التامة ، والتفرد بالإلهية والحكم ، ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)

قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا } إلى آخر السورة . لما ذكر الإلهيات ثم النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع ، وهو من أربعة أوجه :
الأول : تعيين المأمور .
والثاني : أقسام المأمور به .
والثالث : ذكر ما يوجب تلك الأوامر .
والرابع : تأكيد ذلك التكليف .
فأما تعيين المأمور به فهو قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ } وهذ خطاب للمؤمنين؛ لأنه صرح بهم ، ولقوله : « هُوَ اجْتَبَاكُمْ » ، ولقوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين } ، وقوله { وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } . وقيل : خطاب لكل المكلفين مؤمناً كان أو كافراً؛ لأن التكليف بهذه الإشارة عامّ في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمن بذلك . وأما فائدة التخصيص ، فلأنه لما لم يقبله إلا المؤمنون خصهم بالذكر ليحرضهم على المواظبة على ما قبلوه ، وكالتشريف لهم في ذلك الإفراد . وأما المأمور فأربعة أمور :
الأول : الصلاة وهو المراد بقوله : « ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا » وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود ، والصلاة هي المختصة بهذين الركنين ، فجرى ذكرهما مجرى ذكر الصلاة ، وذكر ابن عباس : أن الناس كانوا في أول إسلامهم يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية .
والثاني : قوله : « وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ » قيل : وحدوه . وقيل : اعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات . وقيل : افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات بنية العبادة .
الثالث : قوله : « وَافْعَلُوا الخَيْرَ » قال ابن عباس : هو صلة الرحم ومكارم الأخلاق « لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » لكي تفوزوا بالجنة . وقيل : كلمة « لَعَلَّ » للترجي ، فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير ، فليس هو على يقين من أن الذي أتى به هل هو مقبول عند الله والعواقب مستورة « وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له »
فصل
اختلفوا في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية ، فذهب عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس : إلى أنه يسجد ، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لما روى عقبة بن عامر قال : « قلت : يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين قال : » نعم ، من لم يسجدهما فلا يقرأهما « وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : لا يسجد هاهنا . وعدد سجود القرآن أربع عشرة سجدة عند أكثر أهل العلم منها ثلاث في المفصل ، وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس : ليس في المفصل سجود ، وبه قال مالك .
وقد صح عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في » اقْرَأ « و { إِذَا السمآء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] . وأبو هريرة متأخر الإسلام . واختلفوا في سجدة ص فروي عن ابن عباس أنها سجدة شكر وهو مذهب الشافعي وعن عمر أنه يسجد فيها ، وهو قول الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق .

الرابع : قوله : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ } يجوز أن يكون « حَقَّ جِهَادِهِ » منصوباً على المصدر ، وهو واضح . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي جهاداً حق جهاده . وفيه نظر من حيث إن هذا معرفة فكيف يجعل صفة لنكرة .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه هذه الإضافة ، وكان القياس : حقّ الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال { وَجَاهِدُوا فِي الله } . قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول من أجله ولوجهه صحت إضافته إليه ، ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله :
3779- وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِرا ... يعني بالظرف الجار والمجرور كأنه كان الأصل : حق جهاد فيه . فحذف حرف الجر وأضيف المصدر للضمير ، وهو من باب هو حقّ عالم وجد ، أي : عالم حقاً وعالم جداً .
فصل
المعنى : جاهدوا في سبيل الله « أعداء اللَّه حَقَّ جِهَادِهِ » هو استفراغ الطاقة فيه . قاله ابن عباس ، وعنه قال : لا تخافون لومة لائم . وقال الضحاك ومقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته . وقال مقاتل بن سليمان : نسخها قوله : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] وهذا بعيد لأن التكليف شرطه القدرة لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ البقرة : 78 ] و { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } [ البقرة : 185 ] . فكيف يقول : { وَجَاهِدُوا فِي الله } على وجه لا يقدرون عليه؟ وقال أكثر المفسرين : حق الجهاد أن يكون بنية صادقة . وقيل : يفعله عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم والغنيمة . وقيل : يجاهدوا آخراً كما جاهدوا أولاً ، فقد كان جهادهم في الأول أقوى ، وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر ، روي عن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أما علمت أنا كنا نقرأ « وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله » ؟ قال عبد الرحمن : ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء ، وبنو المغيرة الوزراء . واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن ، وإلا لنقل كنقل نظائره ، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية .
وروي عن ابن عباس أنه قرأ : « وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جَهَادِهِ كما جاهدتم أول مرة » فقال عمر - رضي الله عنه - : من الذي أمرنا بجهاده؟ فقال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس ، فقال : صدقت . وقيل : معنى الآية : استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله ، وإقامة حقوقه بالحرب واليد واللسان ، وجميع ما يمكن ، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل وقال ابن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر [ وهو حق الجهاد وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من غزوة تبوك قال :

« رجعنا من الجهاد والأصغر إلى الجهاد الأكبر » ] وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار ، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس . وأما بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر ، فهو ثلاثة :
الأول : قوله : « هُوَ اجْتَبَاكُمْ » اختاركم لدينه ، وهذه من أعظم التشريفات ، فأي رتبة أعلى من هذه ، وأي سعادة فوق هذا . ثم قال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وهو كالجواب عن سؤال ، وهو أن التكليف وإن كان تشريفاً لكنه شاق على النفس؟ أجاب بعضهم بقوله : { مَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ، [ روي أن أبا هريرة - رضي الله عنه قال : كيف قال الله { ما جعل عليكم في الدين من حرج } ] مع أنه منعنا عن الزنا؟ فقال ابن عباس : بلى ، ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنّا .
وهذا قول الكلبي ، قال المفسرون : معناه لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منها مخرجاً بعضها بالتوبة ، وبعضها برد المظالم والقصاص ، وبعضها بالكفارات وليس في دين الله ذنب إلا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العذاب منه . وقال ابن عباس ومقاتل : هو الإتيان بالرخص ، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً ، ومن لم يستطع ذلك فَلْيُوم ، وإباحة الفطر في السفر للصائم ، والقصر فيه والتيمم وأكل الميتة عند الضرورة .
فصل
استدلت المعتزلة بهذه الآية على المنع من تكليف ما لا يطاق ، وقالوا : لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي ، ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج ، وذلك منفي بصريح هذا النص .
والجواب أنه لما أمره بترك الكفر ، وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلاً ، فقد أمر المكلف بقلب علم الله جهلاً ، وذلك من أعظم الحرج ، ولما استوعى العدمان زال السؤال .
الموجب الثاني : قوله : « مِلَّةَ أَبِيكُمْ » فيه أوجه :
أحدها : أنها منصوبة باتبعوا مضمراً . قاله الحوفي وتبعه أبو البقاء .
الثاني : أنها منصوبة على الاختصاص ، أي : أعني بالدين ملة أبيكم .
الثالث : أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها ، كأنه قال : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . قاله الزمخشري . وهذا أظهرها .
الرابع : أنها منصوبة بجعلها مقدراً . قاله ابن عطية .
الخامس : أنها منصوبة على حذف كاف الجر ، أي : كملة أبيكم . قاله الفراء ، وقال أبو البقاء قريباً منه ، فإنه قال : وقيل تقديره : مثل ملة ، لأن المعنى سهل عليكم الدين مثل ملة أبيكم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .
وقوله : « إبراهيم » بدل أو بيان أو منصوب بأعني .
فصل
والمقصود من ذكر « إِبْرَاهِيم » التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم والعرب كانوا محبين لإبراهيم - عليه السلام - لأنهم من أولاده ، فكان ذكره كالسبب لانقيادهم لقبول هذا الدين .

فإن قيل : ليس كل المسلمين يرجع نسبه إلى إبراهيم . فالجواب : أن هذا خطاب مع العرب ، وهم كانوا من نسل إبراهيم . وقيل : خاطب به جميع المسلمين ، وإبراهيم أب لهم على معنى وجوب إكرامه وحفظ حقه كما يجب احترام الأب ، فهو كقوله تعالى : « وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ » ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - « إنما أنا لكم مثل الوالد » فإن قيل : هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم سواء ، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص ، ويؤكده قوله : { اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ النحل : 123 ] .
فالجواب : إنما وقع هذا الكلام مع عبدة الأوثان ، فكأنه قال : عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم ، وأما تفاصيل الشرائع فلا تعلّق لها بهذا الموضع .
قوله : « هُو سَمَّاكُمْ » في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود على « إبْرَاهِيمَ » ، لأنه أقرب مذكور إلا أن ابن عطية قال : وفي هذه اللفظة يعني قوله : « وَفِي هَذَا » ضعف قول من قال : الضمير ل « إبراهيم » ولا يتوجه إلا بتقدير محذوف من الكلام مستأنف . انتهى .
ومعنى ضعف من قال بذلك أن قوله : « وَفِي هَذَا » عطف على « مِنْ قَبْلُ » و « هَذَا » إشارة إلى القرآن ، فيلزم أن « إبْرَاهِيمَ » سمّاهم المسلمين في القرآن ، وهو غير واضح؛ لأن القرآن المشار إليه إنما أنزل بعد إبراهيم بمدد طوال ، فلذلك ضعف قوله .
قوله : إلا بتقدير محذوف الذي ينبغي أن يقدر : وسميتهم في هذا القرآن المسلمين وقال أبو البقاء : قيل : الضمير ل « إبْرَاهِيمَ » فعلى هذا الوجه يكون قوله « وَفِي هَذَا » أي : وفي هذا القرآن سبب تسميتهم وهو قول إبراهيم : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 128 ] ، فاستجاب الله له ، وجعلها أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
والثاني : أن الضمير يعود على الله تعالى ، ويدلّ له قراءة أُبيّ « اللَّهُ سَمَّاكُمْ » بصريح الجلالة ، أي سماكم في الكتب السالفة وفي هذا القرآن الكريم أيضاً . وهو مرويّ عن ابن عباس ويؤيده قوله : { لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } . فبيّن أنه سمّاهم بذلك لهذا الغرض ، وهذا لا يليق إلا بالله .
فقوله : « لِيَكُونَ الرَّسُولُ » متعلق ب « سَمَّاكُمْ » فبيّن فضلكم على سائر الأمم ، وسماكم بهذا الاسم لأجل الشهادة المذكورة ، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه . وهذا هو الموجب الثالث لقبول التكليف ، وتقدم الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيداً علينا وكيف تكون أمته شهداء على الناس في سورة البقرة . وأما ما يجري مجرى المؤكد لما مضى فهو قوله : { فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } فهي المفروضات ، لأنها المعهودة . واعتصموا بحبل الله أي بدلائله العقلية والسمعية .

قال ابن عباس : سلو الله العِصمة عن كل المحرمات . وقيل : ثقوا بالله وتوكلوا عليه . وقال الحسن : تمسكوا بدين الله « هُوَ مَوْلاَكُمْ » سيدكم والمتصرف فيكم وناصركم وحافظكم . { فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } فكأنه تعالى قال : أنا مولاكم بل أنا ناصركم . وحسن حذف المخصوص بالمدح وقوع الثاني رأس آية وفاصلة .
فصل
احتجت المعتزلة بهذه الآية من وجوه :
أحدها : أن قوله : « لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ » يدلّ على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل؛ لأنه تعالى لا يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلاً مرضياً ، فإذا أراد أن يكونوا شهداء على الناس فقد أراد أن يكونوا جميعاً صالحين عدولاً ، وقد علمنا أن منهم فسّاقاً ، فدل ذلك على أن الله - تعالى - أراد من الفاسق كونه عدلاً .
وثانيها : قوله : « وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ » وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه .
وثالثها : قوله : « فَنِعْمَ المَوْلَى » فإنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى ، بل كان لا يوجد من شر المولى أحد إلا وهو شرٌّ منه ، فكان يجب أن يوصف بأنه بئْس المولى . وذلك باطل فدل على أنه - سبحانه - ما أراد من جميعهم إلا الصلاح . فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة؟ قلنا : إنه - تعالى - مولى الكافرين والمؤمنين جميعاً ، فيجب أن يقال : نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى للكافرين ، فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القرآن والإجماع وصرحوا بشتم الله - تعالى - تعالى الله عند ذلك .
ورابعها : أن قوله : { سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ } يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل الله - تعالى - لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى الله تعالى على وجه الخصوص .
والجواب عن الأول : وهو قولهم إن كونه - تعالى - مريداً لكونه شاهداً يستلزم كونه مريداً لكون عدلاً . فنقول : إن كانت إرادة الشيء مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكافر يوجب أن تكون مستلزمة لإرادة جهل الله ، ويلزم كونه - تعالى - مريداً لجهل نفسه ، وإن لم يكن ذلك واجباً فقد سقط الكلام .
وأما قوله : « واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ » فيقال : هذا أيضاً وارد عليكم ، فإنه - سبحانه - خلق الشهوة في قلب الفاسق وأكدها وخلق المشتهى وقربه منه ورفع المانع ثم سلط عليه شياطين الإنس والجن ، وعلم لا محالة أنه يقع في الفجور والضلال ، وفي الشاهد كل من فعل ذلك فإنه يكون بئس المولى . فإن صح قياس الغائب على الشاهد فهذا لازمٌ عليكم وإن بطل سقط كلامكم بالكلية والله أعلم .
روى الثعلبي بإسناده عن أُبيّ بن كعب : قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي » .

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)

قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } الآيات العشر ، روى ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : « كان إذا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي يسمع عند وجهه كَدَوِيّ النحل فَمَكَثْنَا ساعة ، وفي رواية : فنزل عليه يوماً فمكثنا ساعة ، فَاسْتَقْبَلَ القبلة فرفع يديه ، وقال : » اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلاَ تَنْقِصْنَا ، وأكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا ، وأعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا ، وآثِرْنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَارْضَ عَنَّا « ثم قال : » لَقَدْ أُنْزِلَ علينا عشر آيات مَنْ أَقَامَهُنَّ دخل الجنة « ثم قرأ : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } عشر آيات » ورواه الإمام أحمد ، وعلي بن المديني ، وجماعة عن عبد الرزاق وقالوا : « وَأعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا وارْضَ عَنَّا » .
قوله : « قَدْ » هنا للتوقع ، قال الزمخشري : « قد » نقيضة « لَمَّا » قد تثبت المتوقع ولما تنفيه ، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لهذه البشارة ، وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دلّ على ثبات ما توقعوه . وقال البغوي : قد حرف تأكيد . وقال المحققون : قد يقرب الماضي من الحال يدل على أن الفلاح قد حصل لهم وأنهم عليه في الحال . وهو أبلغ من تجريد ذلك الفعل .
والعامة على « أَفْلَحَ » مفتوح الهمزة والحاء فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل ، وورش على قاعدته من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها وحذفها . وعن حمزة في الوقف خلاف ، فروي عنه كورش وكالجماعة . وقال أبو البقاء : من أَلْقَى حركة الهمزة على الدال وحذفها فعلّته أنَّ الهمزة بعد حذف حركتها صُيِّرت ألفاً ، ثم حذفت لسكونها ( وسكون الدال قبلها في الأصل ولا يُعْتَدُّ بحركة الدال لأنها عارضة . وفي كلامه نظر من وجهين :
أحدهما : أنَّ اللغة الفصيحة في النقل حذف الهمزة من الأصل فيقولون : المَرَة والكَمَة في المَرْأة والكَمْأَة ، واللغة الضعيفة فيه إبقاؤها وتدبيرها بحركة ما قبلها ، فيقولون : المَرَاة والكَمَاة بمدة بدل الهمزة ك ( رَاس وفَاس ) فيمن خففها ، فقوله : صُيّرت ألفاً . ارتكاب لأضعف اللغتين .
الثاني : أنه وإن سُلم أنها صُيّرت ألفاً فلا نُسلّم أنَّ حذفها ) لسكونها وسكون الدال في الأصل بعد حذفها لساكن محقق في اللفظ ، وهو الفاء من « أَفْلَحَ » ، ومتى وجد سبب ظاهر أُحيل الحكم عليه دون السبب المقدر . وقرأ طلحة بن مُصرّف وعمرو بن عبيد « أُفلح » مبنياً للمفعول ، أي : دخلوا في الفلاح فيحتمل أن يكون من أَفْلَح متعدياً ، يقال : أفلحه ، أي : أصاره إلى الفلاح ، فيكون « أَفْلَحَ » مستعملاً لازماً ومتعدياً .
وقرأ طلحة أيضاً : « أَفْلَحُ » بفتح الهمزة واللام وضم الحاء ، وتخريجها على أنّ الأصل أفلحوا المؤمنون ، بإلحاق علامة جمع قبل الفاعل كلغة : أكلوني البراغيثُ ، فيجيء فيها ما تقدم في قوله :

{ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] .
قال عيسى : سمعتُ طلحة يقرؤها فقلتُ له : أتلحن؟ قال : نعم كما لحن أصحابي ، يعني أني اتّبعتهم فيما قَرَأْتُ به ، فإن لَحِنُوا على سبيل فَرْض المحالِ ، فأنا لاَحِنٌ تبعاً لهم . وهذا يدل على شدة اعتناء القدماء بالنقل وضبطه خلافاً لمن يُغلّط الرواة .
وقال ابن عطية : وهي قراءة مردودة . قال شهاب الدين : ولا أدري كيف يُردُّونها مع ثبوت مثلها في القرآن بإجماع ، وهما الآيتان المتقدمتان . وقال الزمخشري : وعنه أي : عن طلحة - « أَفْلَحُ » بضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله :
3780- فَلَوْ أَنَّ الأَطِّبَّا كَانُ حَوْلِي ... وفيه نظر من حيث إن الواو لا تثبت في مثل هذا درجاً ، لئلا يلتقي ساكنان فالحذف هنا لا بدّ منه ، فكيف يقول اجتزأ بها عنها . وأما تنظيره بالبيت فليس بمطابق ، لأنّ حذفها من الآية ضروري ومن البيت ضرورة ، وهذه الواو لا يظهر لفظها في الدرج بل يظهر في الوقف وفي الخط .
وقد اختلف النقلة لقراءة طلحة هل يثبت للواو صورة؟ ففي كتاب ابن خالويه مكتوباً بواو بعد الحاء ، وفي اللوامح : وحذفت الواو بعد الحاء لالتقائهما في الدرج ، وكانت الكتابة عليها محمولة على الوصل { وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] . قال شهاب الدين : ومثله « سَندْعُ الزَّبَانِيَةَ » « لَصَالُ الجَحِيم » . قال المفسرون : والفلاح : النجاة والبقاء . قال ابن عباس : قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة . وتقدم الكلام في الإيمان في البقرة . قوله : { الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } الجار متعلق بما بعده ، وقُدّم للاهتمام به ، وحسنه كون متعلقه فاصلة ، وكذا فيما بعده من أخواته ، وأضيف الصلاة إليهم ، لأنهم هم المنتفعون بها ، والمُصلى له غَنِيٌّ عنها ، فلذلك أضيفت إليهم دونه .
فصل
اختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات ومنهم من جمع بين الأمرين ، وهو الأولى .
قال ابن عباس : مخبتون أذلاء . وقال الحسن وقتادة : خائفون . وقال مقاتل : متواضعون . وقال مجاهد : هو غض البصر وخفض الصوت ، والخشوع قريب من الخضوع إلا أنّ الخضوع في البدن ، والخشوع في القلب والبصر والصوت قال تعالى : { وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن } [ طه : 108 ] . وعن عليّ : هو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً . وقال سعيد بن جبير : هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره . وقال عطاء : هو أن تعبث بشيء من جسدك ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال : « لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه » وقال ابن الخطيب : وهو عندنا واجب ، ويدل عليه أمور :

أحدها : قوله تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] . والتدبير لا يتصور بدون الوقوف على المعنى ، وقوله تعالى : { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } [ المزمل : 4 ] أي : قفوا على عجائبه ومعانيه .
وثانيها : قوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لذكريا } [ طه : 14 ] وظاهر الأمر للوجوب ، والغفلة تضاد الذكر ، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيماً للصلاة لذكره .
وثالثها : قوله تعالى : { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين } [ الأعراف : 205 ] وظاهره للتحريم ، وقوله : { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] تعليل لنهي السكران ، وهو مطرد في الغافل المستغرق في الدنيا .
ورابعها : قوله - عليه الصلاة - « من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً » وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء ، قال عليه السلام : « كم من قائم حظّه من قيامه التعب والنصب » وما أراد به ألا الغافل ، وقال أيضاً : « ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل » ، وقالت عائشة - رضي الله عنها - سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة ، فقال : « هو اختلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ من صلاة العبد » وعن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يزال الله - عزَّ وجلَّ - مُقْبِلاً على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه » وذهب بعضهم إلى أنه ليس بواجب لأنّ اشتراط الخضوع والخشوع خلاف لإجماع الفقهاء فلا يلتفت إليه .
وأُجيب بأن هذا الإجماع ممنوع ، لأن المتكلمين اتفقوا على أنه لا بُدّ من الخضوع والخشوع ، واحتجوا بأن السجود لله تعالى طاعة ، وللصنم كفر ، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه ، فلا بُدّ من أمر لأجله يصير السجود في إحدى الصورتين طاعة ، وفي الأخرى معصية ، قالوا : وما ذاك إلا القصد والإرادة ، والمراد من القصد : إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال ، وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور .
قوله : { والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ } قال عطاء عن ابن عباس : عن الشرك .
وقال الحسن : عن المعاصي . وقال الزجاج : كل باطل ، ولهو وما لا يجمل من القول والفعل . وقيل : هو معارضة الكفار بالشتم والسب ، قال الله تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] أي : إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه .
واعلم أن اللغو قد يكون كفراً كقوله تعالى : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] ، وقد يكون كذباً لقوله تعالى : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية : 11 ] ، وقوله : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } [ الواقعة : 25 ] . ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه بوصفهم بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك .
قوله : { والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } اللام في قوله : « لِلزَّكَاةِ » مزيدة في المفعول لتقدمه على عامله ، ولكونه فرعاً . والزكاة في الأصل مصدر ، ويطلق على القدر المُخْرَج من الأعيان ، وقال الزمخشري : اسم مشترك بين عين ومعنًى ، فالعين القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب ، والمعنى فعل المزكي ، وهو الذي أراده الله فجعل المزكين فاعلين له ، ولا يسوغ فيه غيره ، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عنه بالفعل ، ويقال لمحدثه فاعل ، تقول للضارب : فاعل الضرب ، وللقاتل : فاعل القتل ، وللمزكي : فاعل التزكية ، وعلى هذا الكلام كله ، والتحقيق في هذا أنك تقول في جميع الحوادث : ( من فعل هذا ) فيقال لك : فاعله الله أو بعض الخلق ، ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها ( فاعلون ) لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل ، ولكن لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها ، وقد أنشدوا لأمية بن أبي الصلت :

3781- المطعمُون الطَّعام في السنة ال ... أَزْمة والفاعلون للزكوات
ويجوز أن يراد بالزكاة العين ، ويقدر مضاف محذوف ، وهو الأداء ، وحمل البيت على هذا أصح ، لأنها فيه مجموعة . قال شهاب الدين : إنما أحوج أبا القاسم إلى هذا أن بعضهم زعم أنه يتعين أنْ يكون الزكاة هنا المصدر؛ لأنه لو أراد العين لقال : مؤدون ولم يقل : فاعلون ، فقال الزمخشري : لم يمتنع ذلك لعدم صحة تناول فاعلون لها بل لأنّ الخلق ليسوا بفاعليها ، وإنما جعل الزكوات في بيت أمية أعياناً لجمعها ، لأنّ المصدر لا يجمع ، وناقشه أبو حيان وقال : يجوز أن يكون مصدراً وإنما جمع لاختلاف أنواعه . وقال أبو مسلم : إنّ فعل الزكاة يقع على كل فعل محمود مرضي ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } [ الأعلى : 14 ] ، وقوله : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ } [ النجم : 32 ] ومن جملتهم ما يخرج من حق المال ، وإنما سمي بذلك؛ لأنها تطهر من الذنوب ، لقوله تعالى : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] . وقال الأكثرون : المراد بها هنا : الحق الواجب في الأموال خاصة؛ لأنّ هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى . فإنْ قيل : إن الله تعالى لم يفصل بين الصلاة والزكاة فَلِمَ فصل هنا بينهما بقوله : { والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ } ؟ فالجواب : لأنّ ترك اللغو من متمات الصلاة . قوله : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } الفرج اسم يجمع سوأة الرجل والمرأة ، وحفظ الفرج التعفف عن الحرام . قوله : { إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ } فيه أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب « حَافِظُونَ » على التضمين معنى ممسكين أو قاصرين وكلاهما يتعدى بعلى قال تعالى : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزاب : 37 ] .
الثاني : أنّ « عَلَى » بمعنى « مِنْ » أي : إلا من أزواجهم كما جاءت « مِنْ » بمعنى « عَلَى » في قوله : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] وإليه ذهب الفراء .
الثالث : أنْ يكون في موضع نصب على الحال ، قال الزمخشري : إلاَّ وَالِينَ على أزواجهم أو قوّامين عليهنّ من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان ، ونظيره : كان زياد على البصرة أي : والياً عليها ، ومنه قولهم : فلانة تحت فلان ، ومن ثمّ سميت المرأة فراشاً .

الرابع : أنْ يتعلق بمحذوف يدل عليه « غَيْرُ مَلُومِينَ » قال الزمخشري : كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم ، أي : يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه . قال شهاب الدين : وإنما لم يجعله متعلقاً ب « مَلُومِينَ » لوجهين :
أحدهما : أن ما بعد « إِنَّ » لا يعمل فيما قبلها .
الثاني : أن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف .
الخامس : أن يجعل صلة لحافظين ، قال الزمخشري : من قولك : احفظ عليّ عنان فرسي ، على تضمينه معنى النفي كما ضمن قولهم : نشدتك بالله إلا فعلت معنى : ما طلبت منك إلا فعلك يعني أنّ صورته إثبات ومعناه نفي . قال أبو حيان بعدما ذكر ذلك عن الزمخشري : وهذه وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة . قال شهاب الدين : وأي عجمةٍ في ذلك على أنّ الشيخ جعلها متعلقة ب « حَافِظُونَ » على ما ذكره من التضمين ، وهذا لا يصح له إلا بأن يرتكب وجهاً منها وهو التأويل بالنفي كنشدتك الله ، لأنه استثناء مفرغ ولا يكون إلا بعد نفي أو ما في معناه .
السادس : قال أبو البقاء : في موضع نصب ب « حَافِظُونَ » على المعنى؛ لأنّ المعنى صانوها عن كل فرج إلا عن فروج أزواجهم . قال شهاب الدين : وفيه سببان :
أحدهما تضمين « حَافِظُونَ » معنى صانوا ، وتضمين « على » معنى « عَنْ » .
قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ } « مَا » بمعنى : اللاتي ، و « مَا » في محل الخفض يعني : أو على ما ملكت أيمانهم . وفي وقوعها على العقلاء وجهان :
أحدهما : أنها واقعة على الأنواع كقوله : { فانكحوا مَا طَابَ } [ النساء : 3 ] أي : أنواع .
والثاني : قال الزمخشري : أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث .
قال أبو حيان : وقوله : وهم . ليس بجيد ، لأنّ لفظ هُمْ مختص بالذكور فكان ينبغي أن يقول : « وَهُوَ » على لفظ « مَا » أو « هُنَّ » على معنى ( ما ) .
وأجيب بأن الضمير عائد على العقلاء فقوله : « وَهُمْ » أي : العقلاء الإناث . وقال ابن الخطيب هلا قيل : مَنْ ملكت؟ فالجواب : لأنه اجتمع في السُّرِّيَّةِ وصفان :
أحدهما : الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل .
والآخر : كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع .
فلهذين الوصفين فيها جعلت كأنها ليست من العقلاء .
فصل
هذه الآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها .
فإن قيل : أليست الزوجة والمملوكة لا تحل له الاستمتاع بها في أحوال كحال الحيض ، وحال العدة ، والصيام ، والإحرام ، وفي الأمة حال تزويجها من الغير وحال عدتها ، وكذا الغلام داخل في ظاهر قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ؟ فالجواب من وجهين :
الأول : أنّ مذهب أبي حنيفة أنّ الاستثناء من النفي لا يكون إثباتاً ، لقوله عليه السلام :

« لا صلاة إلا بطهور ، ولا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَليّ » فإن ذلك لا يقتضي حصول الصلاة بمجرد حصول الطهور ، وحصول النكاح بمجرد حصول الولي . وفائدة الاستثناء صرف الحكم لا صرف المحكوم به فقوله : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ } معناه أنه يجب حفظ الفرج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات .
الثاني : ( أَنَّا إنْ ) سلمنا أنّ الاستثناء من النفي إثبات فغايته أنه عام دخله التخصيص بالدليل فيبقى حجة فيما عداه .
وقوله : { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } يعني : يحفظ فرجه إلا من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك إذا كان على وجه أذن الشرع فيه دون الإتيان في غير المأتى ، وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور ويلام على فعله .
قوله : { فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك } أي : التمس وطلب سوى الأزواج والمملوكات { فأولئك هُمُ العادون } الظالمون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام ، وفيه دليل أنَّ الاستمناء باليد حرام قال ابن جريج : سألت عطاء عنه فقال : مكروه ، سمعت أنّ قوماً يحشرون وأيديهم حُبالى فأظن أنهم هؤلاء . وعن سعيد بن جبير قال : عَذَّب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم . قوله : { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ } قرأ ابن كثير هنا وفي سأل « لأَمَانَتِهِم » بالتوحيد ، والباقون بالجمع . وهما في المعنى واحد إذ المراد العموم والجمع أوفق .
والأمانة في الأصل مصدر ، ويطلق على الشيء المؤتمن عليه لقوله : { أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] .
« وتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ » ، وإنما يُؤدَّى ويُخان الأعيان لا المعاني ، كذا قال الزمخشري .
أما ما ذكره من الآيتين فمسلم ، وأما هذه الآية فيحتمل المصدر ويحتمل العين ، والعهد ما عقده على نفسه فيما يقربه إلى الله ، ويقع أيضاً على ما أمر الله به كقوله : { الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا } [ آل عمران : 183 ] ، والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها . فالأمانات تكون بين الله وبين العبد كالصلاة ، والصيام ، والعبادات الواجبة وتكون بين العبيد كالودائع والبضائع ، فعلى العبد الوفاء بجميعها .
وقوله : « رَاعُونَ » الراعي القائم على الشيء يحفظه ويصلحه كراعي الغنم ، ومنه يقال : مَنْ راعي هذا الشيء؟ أي متوليه .
وقوله : { والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } قرأ الأخوان « عَلَى صَلاَتِهِمْ » بالتوحيد ، والباقون « صَلَوَاتِهِمْ » بالجمع ، وليس في المعارج خلاف . والإفراد والجمع كما تقدم في « أَمَانَتِهم ) و ( أَمَانَاتِهِمْ ) . قال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ : كيف كرر ذكر الصلاة أولاً وآخراً؟ قلت : هما ذكران مختلفان وليس بتكرير ، وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم ، وآخراً بالمحافظة عليها . ثم قال : وأيضاً فقد وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة ، أي صلاة كانت ، وجمعت آخراً لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن الراتبة ، وهذا إنما يتجه في قراءة غير الأخوين وأما الأخوان فإنهما أفردا أولاً وآخراً على أنَّ الزمخشري قد حكى الخلاف في جمع الصلاة الثانية وإفرادها بالنسبة إلى القراءة .

وقيل : كرر ذكر الصلاة ليبين أنّ المحافظة عليها واجبة كما أن الخشوع فيها واجب .
ثم قال : { أولئك هُمُ الوارثون } « أُولَئِكَ » أي : أهل هذه الصفة « هُمُ الوارِثُونَ » فإن قيل : كيف سمى ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث؟ مع أنه سبحانه حكم بأنَّ الجنة حقهم في قوله : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } [ التوبة : 111 ] . فالجواب من وجوه :
الأول : روى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « ما منكم من أحد إلاَّ وله منزلان منزل في الجنّة ومنزلٌ في النار ، فإنْ مات ودخل النار وَرِثَ أهلُ الجنة مَنْزله » ، وذلك قوله : { أولئك هُمُ الوارثون } . وأيضاً : فقد قال الفقهاء إنه لا فرق بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر فيه الملك في أنه يورث عنه ، كذلك قالوا في الدية التي إنما تجب بالقتل إنها تورث مع أنه مالكها على التحقيق وهذا يؤيد ما ذكر فإن قيل : إنه تعالى وصف كل الذي يستحقونه إرثاً ، وعلى ما قلتم فإنه يدخل في الإرث ما كان يستحقه غيرهم لو أطاع .
فالجواب : لا يمتنع أنه تعالى جعل ما هو ( منزلة ) لهذا المؤمن بعينه منزلة لذلك الكافر لو أطاع لأنه عند ذلك كان يزيد في المنازل فإذا أمن هذا عدل بذلك إليه .
الثاني : أنَّ انتقال الجنة إليهم من دون محاسبة ومعرفة بمقاديره يشبه انتقال المال إلى الوارث .
الثالث : أنَّ الجنة كانت مسكن أبينا آدم - عليه السلام - فإذا انتقلت إلى أولاده كان ذلك شبيهاً بالميراث . فإن قيل : كيف حكم على الموصوفين بالصفات السبعة بالفلاح مع أنه تعالى ما تمم ذكر العبادات الواجبة كالصوم والحج؟
فالجواب : أنَّ قوله : { لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } يأتي على جميع الواجبات من الأفعال والتروك كما تقدم والطهارات دخلت في جملة المحافظة على الصلوات لكونها من شرائطها . واعلم أنَّ قوله : « هُمُ الوَارِثُونَ » يفيد الحصر لكنه يجب ترك العمل به ، لأنه ثبت أنَّ الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور ، ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو لقوله تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، وتقدم الكلام في الفردوس في سورة الكهف . قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً مقدرة إما من الفاعل ب « يَرِثُونَ » وإما من مفعوله إذ فيها ذكر كل منهما ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون ، وقد جاء في الحديث : « أن الله خلق ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الفردوس بيده ، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث » .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } الآيات لما أمر بالعبادات في الآيات المتقدمة بطريق الحث عليها والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله ، لا جرم عقّبها بذكر ما يدل على وجوده ، واتصافه بصفات الجلال والوحدانية ، فذكر أنواعاً من الدلائل : منها تقلب الإنسان في أدوار خلقته وهي تسعة :
أولها : قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل : المراد بالإنسان آدم - عليه السلام - سُلَّ مِنْ كُلِّ تُرْبَةٍ ، وخُلقتْ ذريته من ماء مهين .
وقيل : الإنسان اسم جنس يقع على الواحد والجميع ، والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المني صارت منياً ، وهذا مطابق لقوله تعالى : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ السجدة : 7 - 8 ] .
قال ابن الخطيب : وفيه وجه آخر : وهو أنّ الإنسان إنما يتولد من النطفة ، وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع وذلك إنما يتولد من الأغذية ، وهي إما حيوانية أو نباتية ، والحيوانية تنتهي إلى النباتية ، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء ، فالإنسان في الحقيقة يكون متولداً من سلالة من طين ، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت عليها أطوار الخلقة وأدوار الفطرة صارت منياً .
( قوله ) : « مِنْ سُلاَلَةٍ » فيه وجهان :
أظهرهما : أن يتعلق ب « خَلَقْنَا » ، و « مِنْ » لابتداء الغاية .
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « الإنسان » .
والسُّلالة ( فُعَالَة ) ، وهو بناء يدل على القلة كالقُلاَمة ، وهي من سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استخرجْتهُ منه ، ومنه قولهم : هو سُلاَلَةُ أَبيهِ كأنه انسلّ من ظهره ، وأنشد :
3782- فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الأَدِيمِ غَضَنْفَراً ... سُلاَلَةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينٍ
وقال أمية بن أبي الصلت :
-3783 خلق البرية من سلالة منتن ... وإلى السلالة كلها ستعود
وقال عكرمة : هو الماء يسيل من الظهر . والعرب يسمون النطفة سُلاَلَة ، والولد سَلِيلاً وسُلاَلة ، لأنهما مَسْلُولاَنِ منه . وقال الزمخشري : السلالة الخُلاصة ، لأنها تسل من بين الكَدَر . وهذه الجملة جواب قسم محذوف ، أي : والله لقد خلقنا ، وعطفت على الجملة قبلها لما بينهما من المناسبة ، وهو أنه لما ذكر أنّ المتصفين بتلك الأوصاف يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على المعاد ، فإنّ الابتداء في العادة أصعب من الإعادة ، لقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] .
وهذا أحسن من قول ابن عطية : هذا ابتداء كلام ، والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، وإن تباينتا في المعنى . وقد تقدم بيان وجه المناسبة .
قوله : « مِنْ طِين » في « مِنْ » وجهان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية .

والثاني : أنها لبيان الجنس .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما الفرق بين « مِنْ » و « مِنْ » ؟ قلت : الأولى للابتداء ، والثانية للبيان كقوله : « مِنَ الأَوْثَانِ » . قال أبو حيان : ولا تكون للبيان إلا إذا قلنا : إن السلالة هي الطين أما إذا قلنا : إنه من انسل من الطين ف « مِنْ » لابتداء الغاية وفيما تتعلق به « مِنْ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها تتعلق بمحذوف إذ هي صفة ل « سُلاَلَة » .
الثاني : أنها تتعلق بنفس « سُلاَلَة » لأنها بمعنى مسلولة .
الثالث : أنها تتعلق ب « خَلَقْنَا » ، لأنها بدل من الأولى إذا قلنا : إنّ السلالة هي نفس الطين . قوله : { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً } في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود للإنسان ، فإن أريد غير آدم فواضح ، ويكون خلقه من سلالة الطين خلق أصله ، وهو آدم ( فيكون على حذف مضاف وإن كان المراد به آدم ، فيكون الضمير عائداً على نسله ، أي : جعلنا نسله ) ، فهو على حذف مضاف أيضاً ، ويؤيده قوله : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ السجدة : 7 - 8 ] .
أو عاد الضمير على الإنسان اللائق به ذلك ، وهو نسل آدم ، فلفظ الإنسان من حيث هو صالح للأصل والفرع ، ويعود كل شيء لما يليق به وإليه نحا الزمخشري .
قوله : « فِي قَرَارٍ » يجوز أنْ يتعلق بالجعل ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل « نُطْفَة » .
والقرار : المستقر ، وهو موضع الاستقرار ، والمراد بها الرحم ، وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها لأحد معنيين : إمَّا على المجاز كطريق سائر ، وإنما السائر من فيه ، وإِمّا لمكانتها في نفسها لأنها تمكنت بحيث هي وأحرزت . ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً ، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة ، فصار الرحم قراراً مكيناً لهذه النطفة تتخلق فيه إلى أن تصير إنساناً . قوله : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } وما بعدها ضمن « خَلَق » معنى « جَعَل » التصييرية فتعدت لاثنين كما يضمن « جَعَل » معنى « خَلَق » فيتعدى لواحد نحو { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] . والمعنى : حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة ، وهي الدم الجامد { فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } أي : جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة ، أي : قطعة لحم ، كأنها مقدار ما يمضع كالغرفة ، وهو ما يغترف .
وسمى التحويل خلقاً ، لأنه تعالى يفني بعض أعراضها ، ويخلق أعراضاً غيرها ، فسمى خلق الأعراض خلقاً لها ، كأنه سبحانه يخلق فيها أجزاء زائدة .
قوله : { فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً } أي : صيرناها كذلك . وقرأ العامة : « عِظاماً » و « العِظَام » بالجمع فيهما ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : « عَظْماً » و « العَظمَ » بالإفراد فيهما ، والسلمي والأعرج ، والأعمش بإفراد الأول وجمع الثاني ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وإبراهيم بن أبي بكر بجمع الأول وإفراد الثاني عكس ما قبله .

فالجمع على الأصل ، لأنه مطابق لما يراد به ، والإفراد للجنس كقوله : « وَالمَلَكُ صَفًّا » ، وكقوله : { وَهَنَ العظم مِنِّي } [ مريم : 4 ] .
وقال الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس ، لأنَّ الإنسان ذو عظام كثيرة . قال أبو حيان : وهذا عند سيبويه وأصحابه لا يجوز إلا ( لضرورة ) وأنشدوا :
3784- كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُم تَعِفُّوا ... وإن كان معلوماً أن كل واحد له بطن . قال شهاب الدين : ومثله :
3785- لا تُنْكِرُوا القَتْلَ وقَدْ سَبَيْنَا ... فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجَيْنَا
يريد في حلوقكم ومثله قوله الآخر :
3786- بِهَا جِيَفُ الحسْرَى فأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وأَمّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
يريد جلودها ، ومنه « وعَلَى سَمْعِهِمْ » .
قوله : { فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } أي : ألبسنا ، لأنّ اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة ( لها ) قيل : بين كل خلقين أربعون يوماً . { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } أي : خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً ، وكان جماداً ، وناطقاً وكان أبكم وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه ، وأودع باطنه وظاهره بل كل جزء من أجزائه عجائب فطرة ، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين . قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك وأبو العالية : المراد بالخلق الآخر هو نفخ الروح فيه . وقال قتادة : نبات الأسنان والشعر ، وروى ابن جريج عن مجاهد : أنه استواء الشباب . وعن الحسن قال : ذكر أو أنثى .
وروى العوفي عن ابن عباس : أنّ ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتفاع إلى القعود إلى القيام إلى المشي إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم ، وخلق الفهم والعقل ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها إلى أنْ يموت .
قالوا : وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول النظام أن الإنسان هو الروح لا البدن ، فإنه سبحانه بَيَّن أنَّ الإنسان هو المركب من هذه الأشياء . وفيها دلالة أيضاً على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون : الإنسان شيء لا ينقسم وإنه ليس بجسم .
وقال : « فَتَبَارَك اللَّهُ » أي : فتعالى الله ، لأنَّ البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة وكل ما زاد على الشيء فقد علاه . ويجوز أن يكون المعنى البركات والخيرات كلها من الله .
وقيل : أصله من البروك وهو الثبات ، فكأنه قال : البقاء والدوام والبركات كلها منه ، فهو المستحق للتعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال « أَحسَنُ الخَالِقِينَ » المصورين والمقدرين . والخلق في اللغة : التقدير ، قال زهير :
3787- ولأَنْتَ تَفْري مَا خَلقْتَ وَبَعْ ... ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي
قوله : « أَحْسَنُ الخَالِقِينَ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من الجلالة .
الثاني : أنه نعت للجلالة ، وهو أولى مما قبله ، لأنّ البدل بالمشتق يقل .

الثالث : أنْ يكون خبر مبتدأ مضمر أي : هو أحسن ، والأصل عدم الإضمار .
وقد منع أبو البقاء أن يكون وصفاً ، قال : لأنه نكرة وإن أضيف لمعرفة لأنّ المضاف إليه عوض عن « من » ، وهكذا جميع أفعل منك .
قال شهاب الدين : وهذا بناء منه على أحد القولين في أفعل التفضيل إذا أضيف هل إضافته محضة أم لا ، والصحيح الأول . والمميز لأفعل محذوف لدلالة المضاف إليه عليه ، أي : أحسن الخالقين خلقاً المقدرين تقديراً كقوله : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ } [ الحج : 39 ] أي : في القتال حذف المأذون فيه لدلالة الصلة عليه .
فصل
قالت المعتزلة : لولا أن يكون غير الله قد يكون خالقاً لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين ، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه : « أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ » و « أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ » . والخلق في اللغة : هو كل فعل وُجد من فاعله مقدّراً لا على سهو وغفلة ، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه . قال الكعبي : هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد ، كما أنه يجوز أن يقال : رَبُّ الدار ، ولا يجوز أن يقول : رب ، ولا يقول العبد لسيده : هذا ربّي ، ولا يقال : إنما قال الله سبحانه ذلك لأنه وَصفَ عيسى - عليه السلام - بأنه يَخْلُق مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ . لأنا نجيب من وجهين :
أحدهما : أن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه « أَحسَنُ الخَالِقِينَ » الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح .
الثاني : أنه إذا صحّ وصف عيسى بأنه يخلق صحّ أنّ غيره سبحانه يخلق وصحّ أيضاً وصف غيره من المصورين بأنه يخلق .
وأجيب بأن هذه الآية معارضة بقوله : { الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] فوجب حمل هذه الآية على أنه « أَحسَنُ الخَالِقينَ » في اعتقادكم وظنكم كقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] .
وجواب ثان ، وهو أنّ الخالق هو المقدر ، لأن الخلق هو التقدير ، فالآية تدل على أنه تعالى أحسن المقدرين ، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان ، وذلك في حق الله تعالى محال ، فتكون الآية من المتشابه .
وجواب ثالث : أنّ الآية تقتضي كون العبد خالقاً بمعنى كونه مقدراً لكن لم قلت إنه خالق بمعنى كونه موحداً .
فصل
قالت المعتزلة : الآية تدل على أنّ كل ما خلقه الله حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقاً للكفر والمعصية ، فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما .
وأجيب بأنّ من الناس من حمل الحسن على الأحكام والإتقان في التركيب والتأليف ، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله كل الأشياء ، لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعاً له عن فعل شيء .

فصل
روى الكلبي عن ابن عباس أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى قوله : « خَلْقاً آخَرَ » عجب من ذلك فقال : فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحَسَنُ الخَالِقِينَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اكتبْ فَهكَذَا نزلت » فشك عبد الله وقال : إن كان محمد صادقاً فيما يقول ، فإنه يُوحَى إليّ كما يُوحَى إليه ، وإن كان كاذباً فلا خير في دينه ، فهرب إلى مكة ، فقيل : إنه مات على الكفر ، وقيل : إنه أسلم يوم الفتح وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب : فتبارك اللَّهُ أحسن الخالقين . فقال رسول الله : « هكذا أُنزلَ يا عمر » .
وكان عمر يقول : وافقني ربي في أربع : الصلاة خلف المقام ، وضرب الحجاب على النسوة ، وقولي لهنّ : أو ليُبْدِلَهُ اللَّهُ خيراً مِنْكُنّ ، فنزل قوله : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } [ التحريم : 5 ] ، والرابع قوله : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } قال العارفون : هذه الواقعة كانت من أسباب السعادة لعمر ، وسبب الشقاوة لعبد الله ، كما قال تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] .
فإن قيل : فعلى كل الروايات فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن ، وذلك يقدح في كونه معجزاً كما ظنّه عبد الله .
فالجواب : هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز ، فسقطت شبهة عبد الله .
قوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ } أي : بعدما ذكر ، ولذلك أفرد اسم الإشارة ، وقرأ العامة « لَمَيِّتُونَ » ، وزيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن « لَمَائِتُونَ » والفرق بينهما : أن الميّت يدل على الثبوت والاستقرار ، والمائت على الحدوث كضيق وضائق وفرح وفارح ، فيقال لمن سيموت : ميّت ومائت ، ولمن مات : ميّت فقط دون مائت ، لاستقرار الصفة وثبوتها ، وسيأتي مثله في الزمر إن شاء الله تعالى . فإن قيل : الموت لم يختلف فيه اثنان وكم من مخالف في البعث ، فَلِم أَكّد المجمع عليه أبلغ تأكيد وترك المختلف فيه من تلك المبالغة في التأكيد؟ فالجواب : أنّ البعث لما تظاهرت أدلته وتظافرت ، أبرز في صورة المجمع عليه المستغني عن ذلك ، وأنّهم لَمَّا لم يعملُوا للموت ، ولم يهتموا بأموره ، نُزِّلوا منزلة من يُنكره ، فأبرز لهم في صورة المنكر الذي استبعدوه كل استبعاد . وكان أبو حيان سئل عن ذلك ، فأجاب أنّ اللام غالباً تخلص المضارع للحال ، ولا يمكن دخولها في « تُبْعَثُونَ » ، لأنه مخلص للاستقبال لعمله في الظرف المستقبل ، واعترضَ على نفسه بقوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } [ النحل : 124 ] فإن اللام دخلت على المضارع العامل في ظرف مستقبل وهو « يَوْمِ القِيَامَة » فأجاب بأنه خرج هذا بقوله : غالباً ، وبأن العامل في « يوم القيامة » مقدر ، وفيه نظر إذ فيه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه .

و « بَعْدَ ذَلِك » متعلق ب « مَيِّتُونَ » ، ولا تمنع لام الابتداء من ذلك .
قوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع .
فإن قيل : ما الحكمة في الموت ، وهلا وَصَل نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الإنعام أبلغ؟
فالجواب هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله بدليل أنه لو قيل لمن يصوم : إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال فإنه لا يأتي بذلك الفعل إلا لطلب الجنة ، فلا جرم أخره وبعده بالإماتة ، وهو الإعادة ، ليكون العبد عابداً لطاعته لا لطلب الانتفاع .
فإن قيل : هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر ، لأنه قال : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنه ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة .
والثاني : أنّ الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإحياء والإماتة والإعادة والذي تُرك ذكره فهو من جنس الإعادة .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ } الآية ، أي : سبع سموات سُميت طرائق لتطارقها ، وهو أن بعضها فوق بعض ، يقال : طارقتُ النعلَ : إذا أطبق نعلاً على نعل ، وطارق بين الثوبين : إذا لَبس ثوباً على ثوب قاله الخليل والزجاج والفراء قال الزجاج : هو كقوله : { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } [ الملك : 3 ] وقال عليّ بن عيسى : سميت بذلك ، لأنها طرائق الملائكة في العروج والهبوط ، وقيل : لأنها طرائق الكواكب في مسيرها .
والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه جعلها موضعاً لأرزاقِنَا بإنزال الماء منها ، وجعلها مقراً للملائكة ، ولأنها موضع الثواب ، ومكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي .
قوله : { وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ } أي : بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم ، وهذا قول سفيان بن عيينة ، وهو كقوله تعالى : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] ، وقوله : { وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض } [ الحج : 65 ] ، وقال الحسن : إنا خلقناهم فوقهم ليدل عليهم بالأَرزاق والبركات منها .
وقيل : خلقنا هذه الأشياء دلالة على كمال قدرتنا ، ثم بَيَّن كمال العلم بقوله : { وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ } يعني : عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر .
وقيل : وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظين لئلا تخرج عن التقدير الذي أردناها عليه كقوله تعالى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ } [ الملك : 3 ] .
واعلم أن هذه الآيات دالة على مسائل :
منها : أنها تدل على وجود الصانع ، فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على الصفة الأولى يدل على أنه لا بد من مغير .
ومنها : أنها تدل على فساد القول بالطبيعة ، فإن شيئاً من تلك الصفات لو حصلت بالطبيعة لوجب بقاؤها ، وعدم تغيرها ، ولو قيل : إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجد .
ومنها : أنها تدل على أنّ المدبر قادر عالم ، لأنَّ الجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة .
ومنها : أنها تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات .
ومنها : أنها تدل على جواز الحشر والنشر بصريح الآية ، ولأنّ الفاعل لما كان قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت .
ومنها : أنّ معرفة الله يجب أنْ تكون استدلالية لا تقليدية ، وإلاَّ لكان ذكر هذه الدلائل عبثاً .

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)

قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ } الآية ، لما استدل أولاً على كمال القدرة بخلق الإنسان ، ثم استدل ثانياً بخلق السموات ، استدّل ثالثاً بنزول الأمطار ، وكيفية تأثيرها في النبات . واعلم أنّ الماء في نفسه نعمة ، وهو مع ذلك سبب لحصول النعم ، فلا جَرم ذكره الله أولاً ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانياً .
قال أكثر المفسرين : إنه تعالى يُنزل الماء في الحقيقة من السماء لظاهر الآية ، ولقوله : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] . وقال بعضهم : المراد بالسماء السحاب ، وسماه سماء لعلوه ، والمعنى : أنّ الله صعد الأجزاء المائية من قعر الأرض ، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد ، ثم إن تلك الذرّات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله على قدر الحاجة إليه ، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض ، ولا بماء البحر لملوحته ، ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض ، لأنّ البحار هي الغاية في العمق ، وهذه الوجوه التي يتحملها من ينكر الفاعل المختار ، فأمّا من أَقرَّ به فلا حاجة به إلى شيء منها .
وقوله : « بِقَدَرٍ » قال مقاتل : بقدر ما يكفيهم للمعيشة من الزرع والغرس والشرب ، ويَسْلَمُون معه من المضرة .
وقوله : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض } قيل : جعلناه ثابتاً في الأرض ، قال ابن عباس : أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سَيْحُونَ وجَيْحُونَ ودجلة والفرات والنيل أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل - عليه السلام - ، ثم استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس ، فذلك قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض } ، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج ، ويرفع أيضاً القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله : { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فَقَدَ أَهْلُها خير الدنيا والدين . وقيل : معنى : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض } : ما تبقّى في الغدران والمستنقعات ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر .
وقيل : فأسكناهُ في الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع ، فماء الأرض كله من السماء .
قوله : { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } « عَلَى ذَهَابٍ » متعلق ب « لقَادِرُونَ » واللام كما تقدم غير مانعة من ذلك ، و « بِهِ » متعلق ب « ذَهَابٍ » ، وهي مرادفة للهمزة كهي في « لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ » أي : على إذهابه والمعنى : كما قَدَرْنا على إنزاله كذلك نَقْدِر على رفعه وإزالته فتهلكوا عطشاً ، وتهلك مواشيكم وتخرب أرضكم .
قال الزمخشري : قوله : { على ذَهَابٍ بِهِ } من أوقع النكرات وأحزها للمفصل ، والمعنى : على وجه من وجوه الذهاب به ، وطريق من طرقه ، وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء ، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله :

{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ] واعلم أنه تعالى لمّا نبّه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ } ، أي : بالماء { جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ، وإنما ذكر النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفاكهة رطباً ويابساً ، وقوله : { لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ } أي : في الجنات فكما أن فيها النخيل والأعناب فيها الفواكه الكثيرة ، « وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ » شتاءً وصيفاً .
قال الزمخشري : يجوز أن يكون هذا من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن صنعة يعملها ، يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه ، كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم .
قوله : « وشَجَرَةً » عطف على « جَنَّات » ، أي : ومما أنشأنا لكم شجرة ، وقرئت مرفوعة على الابتداء . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « سِينَاء » بكسر السين ، والباقون بفتحها والأعمش كذلك إلا أنه قصرها . فأمّا القراءة الأولى فالهمزة فيها ليست للتأنيث إذ ليس في الكلام ( فِعْلاَء ) بكسر الأول وهمزته للتأنيث بل للإلحاق بِسرْدَاح وقرطاس ، فهي كعِلْبَاء ، فتكون الهمزة منقلبة عن ياء أو واو ، لأن الإلحاق يكون بهما فلما وقع حرف العلة متطرفاً بعد ألف زائدة قُلب همزة كَرِدَاء وكِسَاء قال الفارسي : وهي الياء التي ظهرت في درْحَاية ، والدرحاية الرجل القصير السمين . وجعل أبو البقاء هذه الهمزة على هذا أصلاً مثل : حِمْلاَق ، إذ ليس في الكلام مثل : سيناء . يعني : مادة ( سين ونون وهمزة ) . وهذا مخالف لما تقدم من كونها بدلاً من زائد ملحق بالأصل على أن كلامه محتمل للتأويل إلى ما تقدم ، وعلى هذا فمنع الصرف للتعريف والتأنيث ، لأنها اسم بقعة بعينها ، وقيل : للتعريف والعجمة . قال بعضهم : والصحيح أن سيناء اسم أعجمي نطقت به العرب فاختلفت فيه لغاتها ، فقالوا : ( سَيْنَاء ) كحمراء وصفراء ، و ( سِينَاء ) كعِلْبَاء وحِرْبَاء وسينين كخِنْذِيدِ ، وزحْلِيل ، والخِنْذِيد الفحل والخصي أيضاً ، فهو من الأضداد ، وهو أيضاً رأس الجبل المرتفع . والزحْلِيل : المتنحي من زحل إذ انتحى وقال الزمخشري : « طُورِ سَيْنَاء » وطُورِ سِينِينٍ لا يخلو إمّا أَنْ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإمّا أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرئ القيس وكبعلبك ، فيمن أضاف ، فَمَن كَسَر سِين « سيْنَاء » فقد منع الصرف للتعريف والعُجمة أو التأنيث ، لأنها بقعة ، وفِعْلاء لا يكون ألفه للتأنيث كَعِلْبَاء وحِرْبَاء .
قال شهاب الدين : وكون ألف ( فِعْلاء ) بالكسر ليست للتأنيث هو قول أهل البصرة ، وأَمَّا الكوفيون فعندهم أَنّ ألفها يكون للتأنيث ، فهي عندهم ممنوعة للتأنيث اللازم كحَمْراء وبابها .

وكسر السين من ( سَيْنَاء ) لغة كنانة وأمَّا القراءة الثانية : فألفها للتأنيث ، فمنع الصرف واضح . قال أبو البقاء : وهمزته للتأنيث ، إذ ليس في الكلام ( فَعْلاَل ) بالفتح ، وما حكى الفراء من قولهم ناقة فيها خَزْعَالٌ لا يثبت ، وإن ثبت فهو شاذ لا يحمل عليه . وقد وهم بعضهم فجعل ( سَيْنَاء ) مشتقة من ( السنا ) وهو الضوْء ، ولا يصح ذلك لوجهين :
أحدهما : أنه ليس عربيّ الوضع نصوا على ذلك كما تقدم .
الثاني : أَنّا وإنْ سلمنا أنه عربي الوضع لكن المادتان مختلفتان فإن عين ( السنَا ) نون وعين ( سَيْناء ) ياء . كذا قال بعضهم . وفيه نظر؛ إذْ لقائل أن يقول : لا نُسلّم أن عين ( سيناء ) ( ياء ) بل عينها ( نون ) ، وياؤها مزيدة ، وهمزتها منقلبة عن واو ، كما قلبت ( السنا ) ، ووزنها حينئذ ( فِيعَال ) و ( فِيعَال ) موجود في كلامهم ، كِميلاَع وقيتَال مصدر قاتل .
قوله : « تَنْبُتُ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو « تُنْبِت » بضم التاء وكسر الباء والباقون بفتح التاء وضم الباء . فأمّا الأولى ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن أنبت بمعنى ( نَبَت ) فهو مما اتفق فيه ( فَعَل ) و ( أَفْعَل ) وأنشدوا لزهير :
3788- رَأَيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ عِنْدَ بُيُوتِهِم ... قَطِيناً بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ البَقْلُ
وأنكره الأصمعي ، أي : نَبَت .
الثاني : أنّ الهمزة للتعدية ، والمفعول محذوف لفهم المعنى أي : تنبت ثمرها ، أو جناها ، و « بالدُّهْنِ » حال ، أي : ملتبساً بالدهن .
الثالث : أن الباء مزيدة في المفعول به كهي في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] ، وقول الآخر :
3789- سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ ... وقول الآخر :
3790- نَضْرِبُ بالسَّيْفِ ونَرْجُوا بِالفَرَج ... وأمّا القراءة الأخرى فواضحة ، والباء للحال من الفاعل ، أي ملتبسة بالدهْنِ يعني وفيها الدهن ، كما يقال : ركب الأمير بجنده . وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز « تنبت » مبنيًّا للمفعول من أنبتها الله و « بالدُّهْنِ » حال من المفعول القائم مقام الفاعل أي : ملتبسة بالدُّهن . وقرأ زِرّ بن حبيش « تُنْبِتُ الدُّهْنَ » من أنبت ، وسقوط الباء هنا يدل على زيادتها في قراءة من أثبتها . والأشهب وسليمان بن عبد الملك « بالدِّهَان » وهو جمع دُهْن كرُمْح ورماح وأمّا قراءة أُبّي : « تُتْمِر » ، وعبد الله : « تُخْرِج » فتفسير لا قراءة لمخالفة السواد ، والدّهن : عصارة ما فيه دسم ، والدَّهن - بالفتح - المسح بالدُّهن مصدر دَهَن يَدْهُنُ ، والمُدَاهَنَة من ذلك كأنه يمسح على صاحبه ليقر خاطره .
فصل
اختلفوا في « طُورِ سَيْنَاء » وفي « طُورِ سِينِينَ » . فقال مجاهد : معناه البركة أي : من جبل مبارك . وقال قتادة : معناه الحسن أي : الجبل الحسن . وقال الضحاك : معناه بالنبطية : الحسن .
وقال عكرمة : بالحبشية . وقال الكلبي : معناه : المشجر أي : جبل وشجر . وقيل : هو بالسريانية : الملتف بالأشجار . وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة ، فهو سَيْناء ، وسِينِين بلغة النبط .

وقال ابن زيد : هو الجبل الذي نودي منه موسى بين مصر وأيلة .
وقال مجاهد : سَيْناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده . والمراد بالشجرة التي تُنْبَتُ بالدُّهْنِ أي : تثمر الدهن وهو الزيتون . قال المفسرون : وإنما أضافه الله إلى هذا الجبل ، لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت ، ولأن معظمها هناك . قوله : « وَصِبْغٍ » العامة على الجر عطفاً على الدُّهنِ .
والأعمش : « وَصِبْغاً » بالنصب نسقاً على موضع « بالدُّهنِ » ، كقراءة « وأَرْجُلَكُمْ » في أحد محتملاته . وعامر بن عبد الله : « وصِباغ » بالألف ، وكانت هذه القراءة مناسبة لقراءة من قرأ « بالدِّهَان » . والصِبْغ والصِبَاغ كالدِبْغ والدِبَاغ ، وهو اسم ما يفعل به . قال الزمخشري : هو ما يصطبغ به أي : ما يصبغ به الخبز .
و « للآكِلِينَ » صفة ، والمعنى : إدام للآكلين . فنبّه تعالى على إحسانه بهذه الشجرة ، لأنها تخرج الثمرة التي يكثر الانتفاع بها ، وهي طرية ومدخرة ، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ، ويعظم وجوه الانتفاع به .

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)

قوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً } الآية ، لما ذكر النعم الحاصلة من الماء والنبات ، ذكر بعده النعم الحاصلة من الحيوان ، فذكر أنَّ فيها عبرة مجملاً ثم فصله من أربعة أوجه :
أحدها : قوله : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا } المراد منه جميع وجوه الانتفاع ، ووجه الاعتبار فيه أنها تجتمع في الضروع ، وتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله - تعالى - فتستحيل إلى طهارة ولون وطعم موافق للشهوة ، وتصير غذاء ، فَمَن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته ، فهو من النعم الدينية ، ومن انتفع به فهو من النعم الدنيوية . وأيضاً : فهذه الألبان التي تخرج من بطونها إذا ذبحت لم تجد لها أثراً ، وذلك دليل على عظم قدرة الله . وتقدم الكلام في « نُسْقِيكُمْ » في النحل وقُرئ « تَسْقيكُم » بالتاء من فوق مفتوحة ، أي : تَسقِيكُم الأنعام .
وثانيها : قوله : { وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ } أي : بالبيع ، والانتفاع بأثمانها .
وثالثها : قوله - تعالى - : « ومِنْهَا تَأْكُلُونَ » أي : كما تنتفعون بها وهي حيّة تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل .
ورابعها : قوله : { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } أي : على الإبل في البر وعلى الفلك في البحر ، ولمّا بيَّن دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } . قيل : كان نوح اسمه يشكر ثم سمي نوحاً لكثرة ما نَاحَ على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك فأهلكهم الله بالطوفان فَندم على ذلك .
وقيل : لمراجعة ربه في شأن ابنه . وقيل : لأنه مر بكلب مجذوم ، فقال له : اخسأ يا قبيح ، فعوتب على ذلك ، وقال الله تعالى : أعِبْتني إذ خلقته ، أم عِبْتَ الكلب ، وهذه وجوه متكلفة ، لأن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى .
قوله : { ياقوم اعبدوا الله } : وَحِّدُوه { مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } أي : أنَّ عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه . وقُرئ « غَيْرُهُ » بالرفع على المحل ، وبالجر على اللفظ .
ثم إنه لمّا لَمْ ينفع فيهم الدعاء واستمروا على عبادة غير الله حذرهم بقوله : « أَفَلاَ تَتَّقُونَ » زجرهم وتوعدهم باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه ثم إنه تعالى حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح - عليه السلام - : وهي قولهم : { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } وهذه الشبهة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يقال : إنه لمّا كان سائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض سواء امتنع كونه رسولاً لله ، لأنّ الرسول لا بُدّ وأن يكون معظماً عند الله وحبيباً له ، والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والعزة ، فلما انْتَفَتْ هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة .
والثاني : أن يقال : إن هذه الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور ، ولكنه أحب الرياسة والمتبوعية فلم يجد إليهما سبيلاً إلا بادعاء النبوة ، فصار ذلك شُبهة لهم في القدح في نبوته ، ويؤكد هذا الاحتمال قولهم : { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أي : يطلب الفضل عليكم ويرأسكم .

الشبهة الثانية : قولهم : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } أي : ولو شاء الله أن لا يتعبد سواه لأنزل ملائكة بإبلاغ الوحي ، لأنّ بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى المقصود من بعثة البشر ، لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم ، وكثرة علومهم ينقاد الخلق إليهم ، ولا يشكون في رسالتهم فلمّا لم يفعل ذلك عَلِمنا أنه ما أرسل رسولاً .
الشبهة الثالثة : قولهم : { مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين } فقولهم : « بِهَذا » إشارة إلى نوح - عليه السلام - أي : بإرسال بشر رسولاً ، أو بهذا الذي يدعو إليه نوح وهو عبادة الله وحده ، لأنّ آباءهم كانوا يعبدون الأوثان ، وذلك أنهم كانوا لا يُعوّلون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء ، فلمّا لم يجدوا في نبوة نوح - عليه السلام - هذه الطريقة حكموا بفسادها .
الشبهة الرابعة : قولهم : { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } أي : جنون ، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام ، لأنه - عليه السلام - كان يفعل أفعالاً على خلاف عاداتهم ، فكان الرؤساء يقولون للعوام إنه مجنون ، فكيف يجوز أن يكون رسولاً؟
الشبهة الخامسة : قولهم : { فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ } ، وهذا يحتمل أن يكون متعلقاً بما قبله ، أي : أنه مجنون فاصبروا إلى زمان يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا فاقتلوه .
ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً ، وهو أن يقولوا لقومهم : اصبروا فإنه إنه كان نبياً حقاً فالله ينصره ويقوي أمره فنتبعه حينئذ ، وإن كان كاذباً فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه . واعلم أنه تعالى لم يذكر الجواب على هذه الشبه لركاكتها ووضح فسادها لأنَّ كل عاقل يعلم أنَّ الرسول لا يصير رسولاً لكونه من جنس الملك وإنما يصير رسولاً بتميزه عن غيره بالمعجزات ، فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولاً ، بل جعل الرسول من البشر أولى لما تقدم من أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة . وأما قولهم : { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } فإن ارادوا إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب في الرسول ، وإن أرادوا أنه يترفع عليهم على سبيل التكبر فالأنبياء منزهون عن ذلك . وأما قولهم : { مَّا سَمِعْنَا بهذا } فهو استدلال بعدم التقليد ( على عدم وجود الشيء ، وهو في غاية السقوط ، لأنّ وجود التقليد ) لا يدل على وجود الشيء ، فعدمه من أين يدل على عدمه . وأما قولهم : « بِهِ جِنَّة » فكذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله . وأما قولهم : « فَتَرَبَّصُوا » فضعيف ، لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته ، وهي المعجزة ، وجب عليهم قبول قوله في الحال ، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته ، لأنَّ الدولة لا تدل على الحقيقة ، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر .

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ } أي : أعِنّي على هلاكهم بتكذيبهم إياي ( كأنه قال : أهلكهم بسبب تكذيبهم ) . وقيل : انصرني بدل ما كذبون كما تقول : هذا بذاك ، أي بدل ذاك ومكانه . وقيل : انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 59 ] .
ولمَّا أجاب الله دعاءه قال : { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا } أي : بحفظنا وكلائنا ، كان معه من الله حُفّاظاً يكلأونه بعيونهم لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه عمله .
قيل : كان نوح نجاراً ، وكان عالماً بكيفية اتخاذ الفلك .
وقيل : إن جبريل - عليه السلام - علّمه السفينة . وهذا هو الأقرب لقوله : « بأَعْيُنِنَا وَوَحْينَا » . { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } . واعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء ، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم ، لأن قولك : هذا أمر تردد الذهن بين المفهومين فدل ذلك على كونه حقيقة فيهما . وقيل : إنما سماه أمراً تعظيماً وتفخيماً كقوله : { قَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } [ فصلت : 11 ] .
قوله : « وَفَارَ التَّنُّور » تقدم الكلام في التنور في سورة هود . « فَاسْلُكْ فِيهَا » أي : ادخل فيها . يقال : سَلَك فيه دَخَلَهُ ، وسَلَكَ غيره وأَسْلَكَهُ { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين } أي : من كل زوجين من الحيوان ( الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكيلا ينقطع نسل ذلك الحيوان ) وكل واحد منهما زَوْج ، لا كما تقوله العامة : إنَّ الزوجَ هو الاثنان . روي أنه لم يحمل إلاّ ما يَلِدُ ويَبيضُ . وقرئ : « مِنْ كُلٍّ » بالتنوين و « اثْنَيْن » تأكيد وزيادة بيان « وَأهْلَكَ » أي : وأدْخل أَهْلَك { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } ولفظ ( على ) إنما يستعمل في المضارّ قال تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } [ البقرة : 286 ] . وهذه الآية تدل على أمرين :
أحدهما : أنه تعالى أمره بإدخال سائر مَنْ آمَنَ به ، وإن لم يكن من أهله . وقيل : المراد بأهله من آمَنَ دون من يتعمل به نسباً أو حسباً . وهذا ضعيف ، وإلاّ لما جاز الاستثناء بقوله : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } .
والثاني : قال : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا } يعني : كنعان ، فإنه - سبحانه - لَمَّا أخبر بإهلاكهم ، وجب أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم . لأنه إن أجابه إليه ، فقد صيّر خبره الصادق كذباً ، وإن لم يجبه إليه ، كان ذلك تحقيراً لشأن نوح - عليه السلام - ، فلذلك قال : « إِنَّهُم مُغْرَقُونَ » أي : الغرق نازل بهم لا محالة . قوله : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك } اعتدلت أنت ومن معك على الفلك ، قال ابن عباس : كان في السفينة ثمانون إنساناً ، نوح وامرأته سِوَى التي غرقت ، وثلاثة بنين ، سام ، وحام ، ويافث ، وثلاثة نسوة لهم ، واثنان وسبعون إنساناً ، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة .

روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « وُلِد لنوح ثلاثة أولاد سَام ، وحَام ، ويَافِث ، فأمّا سام فأبو العرب وفارس والروم ، وأما يافث فأبو يأجوج ومأجوج والبربر ، وأما حام فأبو هذه الجلدة السوداء ويأجوج ومأجوج بنو عم الترك » .
قال ابن الجوزي : وُلِد لحام كوش ، ونبرش ، وموغع ، وبوان ، ووُلِد لكوش نمرود ، وهو أول النماردة ، مَلِك بعد الطوفان ثلاثمائة سنة ، وعلى عهده قسّمت الأرض ، وتفرَّق الناس واختلفت الألسن ، ونمرود إبراهيم الخليل ، ومن وَلد نبرش الحرير ، ومن وَلد مُوغع يأجوج ومأجوج ، ومن وَلد بوان الصقالبة ، والنوبة ، والحبشة ، والهند ، والسند .
ولما اقتسم أولاد نوح الأرض ، نزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور ، فجعل الله فيهم الأدمة ، وبياضاً قليلاً ، ولهم أكثر الأرض ، وروي أن فالغ أبو غابر قسم الأرض بين أولاد نوح بعد موت نوح ، فنزل سام سرة الأرض فكانت فيهم الأدمة والبياض ، ونزل بنو يافث مجرى الشمال والصبا فكانت فيهم الحمرة والشقرة ، ونزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور فتغيرت ألوانهم .
روى ابن شهاب قال : قيل لعيسى ابن مريم - عليه السلام - أَحْيِ حام بن نوح - فقال : أروني قبره . فأروه ، فقام ، فقال : يا حام بن نوح احْيَ بإذن الله - عزّ وجلّ - فَلَمْ يَخْرُج ، ثم قالها الثانية ، فخرج ، وإذا شِقّ رأسه ولحيته أبيض ، فقال : ما هذا ، قال : سمعتُ الدعاء الأول فظننتُ أنه من الله - تعالى - فشاب له شقي ، ثم سمعت الدعاء الثاني فعلمت أنه من الدنيا فخرجتُ ، قال : مذ كم مِتَّ؟ قال : منذ أربعة آلاف سنة ، ما ذهبت عنّي سكرة الموت حتى الآن . وروي أن الذي أحياه عيسى ابن مريم سام بن نوح ، والله أعلم . وروي عن النمر بن هلال قال : الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ فاثنا عشر ألف للسودان ، وثمانية للروم ، وثلاثة للفرس وألف للعرب قال مجاهد : ربع من لا يلبس الثياب من السودان مثل جميع الناس .
قوله : { فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين } الكافرين ، وإنما قال : « فَقُل » ولم يقل : فقولوا ، لأنّ نوحاً كان نبياً لهم وإمامهم ، فكان قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية ، وأن رتبة ذلك المخاطب لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي .
قال قتادة : علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة : { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [ هود : 41 ] ، وعند ركوب الدابة : { سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا } [ الزخرف : 13 ] ، وعند النزول : { وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } . قال الأنصاري : وقال لنبينا : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ }

[ الإسراء : 80 ] ، وقال : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] فكأنه - تعالى - أمرهم أن لا يغفلوا عن ذكره في جميع أحوالهم .
قوله : { وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } قرأ أبو بكر بفتح ميم ( مَنْزِلاً ) وكسر الزاي ، والباقون بضم الميم وفتح الزاي و ( المَنْزل ) و ( المُنْزَل ) كل منهما يحتمل أن يكون اسم مصدر ، وهو الإنزال أو النزول ، وأن يكون اسم مكان النزول أو الإنزال ، إلا أنّ القياس « مُنْزَلاً » بالضم والفتح لقوله : « أَنْزِلْنِي » . وأما الفتح والكسر فعلى نيابة مصدر الثلاثي مناب مصدر الرباعي كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، وتقدم نظيره في « مُدْخَل » و « مَدْخَل » في سورة النساء واختلفوا في المنزل ، فقيل : نفس السفينة ، وقيل : بعد خروجه من السفينة منزلاً من الأرض مباركاً . والأول أقرب ، لأنه أُمِرَ بهذا الدعاء حال استقراره ، فيكون هو المنزل دون غيره .
ثم قال : { وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين } ، وذلك أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع من الله ، لأنه يحفظ من أنزله في سائر أحواله . ثم بين تعالى أنّ فيما ذُكِر من قصة نوح وقومه « آيات » دلالات وعبر في الدعاء إلى الإيمان ، والزجر عن الكفر ، فإنّ إظهار تلك المياه العظيمة ، ثم إذهابها لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات ، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح - عليه السلام - يدل على المعجز العظيم ، وإفناء الكفار ، وبقاء الأرض لأهل الطاعة من أعظم أنواع العبر . قوله : { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } « إِنْ » مخففة ، و « اللام » فارقة . وقيل : « إِنْ » نافية و « اللام » بمعنى « إِلاَّ » وتقدم ذلك مراراً فعلى الأول معناه : وقد كنا ، وعلى الثاني : ما كنا إلا مبتلين ، فيجب على كل مكلَّف أن يعتبر بهذا الذي ذكرناه . وقيل : المراد لمعاقبين من كذب الأنبياء ، وسلك مثل طريقة قوم نوح . وقيل : المراد كما عاقب بالغرق من كذب فقد نمتحن من لم يكذب على وجه المصلحة لا على وجه التعذيب ، لكيلا يقدر أن كل الغرق يجري على وجه واحد .

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)

قوله تعالى : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } الآيات . قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هذه قصة هود لقوله تعالى حكاية عن هود { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } [ الأعراف : 69 ] ، ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف ، وهود ، والشعراء .
وقال بعضهم : هي قصة صالح لأنَّ قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة وتقدم كيفية الدعوى في قصة نوح .
قوله : « فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ » قال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ : حق « أَرْسَلَ » أن يتعدى ب « إلى » كأخواته التي هي : وَجَّهَ ، وأَنْفَذَ وبَعَثَ ، فما له عدي في القرآن ب ( إلى ) تارة وب ( في ) أخرى كقوله : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ } [ الرعد : 30 ] { ( وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ) } [ سبأ : 34 ] . قُلْتُ : لم يعد ب ( في ) كما عُدّي ب ( إلى ) ، ولم يجعل صلة مثله ، ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعاً للإرسال ، كقول رؤبة :
3891- أرسلت فيها مصعباً ذا أقحام ... وقد جاء ( بَعَثَ ) على ذلك ، كقوله تعالى { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } [ الفرقان : 51 ] .
قوله : { أَنِ اعبدوا الله } يجوز أن تكون المصدرية أي : أرسلناه بأن اعبدوا الله . أي : بقوله اعبدوا ، وأن تكون مفسرة . « أَفَلاَ تَتَّقُونَ » قال بعضهم : هذا الكلام غير موصول بالأول ، وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه ، وردّوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك خوفهم بقوله : « أَفَلاَ تَتَّقُون » هذه الطريقة مخالفة العذاب الذي أنذركم به . ويجوز أن يكون موصولاً بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان ، فدعاهم إلى عبادة الله ، وحذّرهم من العقاب بسبب إقبالهم على عبادة الأوثان .
قوله : « وقَالَ الملأُ » قال الزمخشري : فإنْ قُلْتَ : ذكر مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف ، وسورة هود بغير واو ، { قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } [ الأعراف : 66 ] { قَالُواْ ( ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) } [ هود : 53 ] . وههنا مع الواو ، فأيّ فرق بينهما؟ قُلْتُ : الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال : فماذا قيل له؟ فقيل له : قالوا : كيت وكيت ، وأمّا الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله ، ومعناه أنه اجتمع في الحصول ، ( أي في هذه الواقعة في ) هذا الكلام الحق وهذا ( الكلام ) الباطل وشتان ما بينهما قال شهاب الدين : ولقائل أن يقول : هذا جواب بنفس الواقع ، والسؤال باق ، إذ يحسن أن يقال : لِمَ لا جعل هنا قولهم أيضاً جواباً لسؤال سائل كما في نظيرتها أو عكس الأمر .
قوله { وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة } أي : بالمصير إلى الآخرة « وأَتْرَفْنَاهُم » نعمناهم ووسعنا عليهم { فِي الحياة الدنيا مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ } وقد تقدم شرح هذه الشبهة في القصة الأولى { وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } أي : منه ، فحذف العائد لاستكمال شروطه ، وهو اتحاد الحرف ، والمتعلق ، وعدم قيامه مقام مرفوع ، وعدم ضمير آخر ، هذا إذا جعلناها بمعنى الّذي ، فإن جعلتها مصدراً لم يحتج إلى عائد ، فيكون المصدر واقعاً موقع المفعول .

أي : من مشروبكم .
وقال في التحرير : وزعم الفراء أن معنى « مِمَّا تَشْرَبُونَ » على حذف أي : تشربون منه . وهذا لا يجوز عند البصريين ، ولا يحتاج إلى حذف ألبتة ، لأن ( ما ) إذا كانت مصدراً لم تحتج إلى عائد ، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت العائد ، ولم تحتج إلى إضمار ( من ) يعني : أنه يقدر تشربونه من غير حرف جر ، وحينئذ تكون شروط الحذف أيضاً موجودة ولكن تفوت المقابلة إذ قوله : « تَأْكُلُونَ مِنْهُ » فيه تبعيض ، فلو قدرت هنا تشربونه من غير ( من ) فاتت المقابلة . ثم إن قوله : وهو لا يجوز عند البصريين ممنوع ، بل هو جائز لوجود شرط الحذف .
قوله : { لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } لمغبونون ، جعلوا اتباع الرسول خسراناً ولم يجعلوا عبادة الصنم خسراناً ، قال الزمخشري و « إذا » وقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قولهم قال أبو حيان : وليس واقعاً في جزاء الشرط ، بل واقعاً بين « إنكم » و ( الخبر ) ، و « إنكم » و ( الخبر ) ليس جزاء للشرط بل ذلك جواب للقسم المحذوف قبل « إن » الشرطية ( ولو كانت « إنكم » والخبر جواباً للشرط ) لزمت ( الفاء ) في ( إنكم ) بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلا عند الفراء ، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ قال شهاب الدين : يعني أنه إذ توالى شرط وقسم أجيب سابقهما ، والقسم هنا متقدم فينبغي أن يجاب ولا يجاب الشرط ، ولو أجيب الشرط لاختلت القاعدة إلا عند بعض الكوفيين ، فإنه يجيب الشرط وإن تأخر ، وهو موجود في الشعر .
قوله : أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ « الآية . في إعرابها ستة أوجه :
أحدها : أنّ اسم أنّ الأولى مضاف لضمير الخطاب ، حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، والخبر قوله : » إِذَا متُّم « ، و » أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ « تكرير ، لأنَّ الأولى للتأكيد ، والدلالة على المحذوف والمعنى : أنَّ إخراجكم إذا متم وكنتم .
الثاني : أنَّ خبر ( أنَّ ) الأولى هو » مُخْرَجُونَ « ، وهو العامل في » إِذَا « وكررت الثانية توكيداً لمَّا طال الفصل وإليه ذهب الجرمي والمبرد والفراء ، ويدل على كون الثانية توكيداً قراءة عبد الله : { أَيَعِدُكُمْ إِذَا متُّمْ وكُنْتُمْ تُراباً وعِظَاماً أَنَّكُم مُخْرَجُونَ } .
الثالث : أنّ » أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ « مؤول بمصدر مرفوع بفعل محذوف ذلك الفعل المحذوف جواب ( إذا ) الشرطية ، و ( إذا ) الشرطية وجوابها المقدر خبر ل ( أنَّكُم ) الأولى تقديره : يحدث أنكم مخرجون .
الرابع : كالثالث في كونه مرفوعاً بفعل مقدر إلا أنَّ هذا الفعل المقدر خبر ل ( أَنَّ ) الأولى وهو العامل في ( إذا ) .

الخامس : أنّ خبر الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه ، فتقديره : أنكم تبعثون ، وهو العامل في الظرف ، و ( أنَّ ) الثانية وما في حيزها بدل من الأولى ، وهذا مذهب سيبويه .
السادس : أن يكون « أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ » مبتدأ وخبره الظرف مقدماً عليه ، والجملة خبر عن ( أَنَّكُمْ ) الأولى ، والتقدير : أيعدكم أنكم إخراجكم كائن أو مستقر وقت موتكم . ولا يجوز أن يكون العامل في « إذَا » « مُخْرَجُونَ » على كل قول لأن ما في حيز ( أنَّ ) لا يعمل فيما قبلها ولا يعمل فيها « متم » ، لأنه مضاف إليه ، و « أَنَّكُمْ » وما في حيزه في محل نصب أو جر بعد حذف الحرف إذ الأصل : أيعدكم بأنكم ويجوز أن لا يقدر حرف جر ، فيكون في محل نصب فقط نحو : وعدت زيداً خيراً .
قوله : « هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ » . « هَيْهَاتَ » اسم فعل معناه : بَعُدَ ، وكُرر للتوكيد وليست المسألة من التنازع ، قال جرير :
3792- فَهَيْهَات هَيْهَاتَ العقيقُ وأهلهُ ... وهَيْهَاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُوَاصِلُه
وفسره الزجاج في عبارته بالمصدر ، فقال : البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ ، أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُون فظاهرها أنه مصدر بدليل عطف الفعل عليه ، ويمكن أن يكون فسّر المعنى فقط .
و « هَيْهَات » اسم لفعل قاصر برفع الفاعل ، وهنا قد جاء ما ظاهره الفاعل مجروراً باللام فمنهم من جعله على ظاهره وقال « مَا تُوعدُون » فاعل به ، وزيدت فيه اللام التقدير : بَعُدَ بَعُدَ ما تُوعدُون ، ، وهو ضعيف : إذ لم يعهد زيادتها في الفاعل . ومنهم من جعل الفاعل مضمراً لدلالة الكلام عليه ، فقدره أبو البقاء : هيهات التصديق ، أو : الصحة لما توعدون . وقدّره غيره : بَعُدَ إخْرَاجُكُم . و ( لِمَا تُوعَدُونَ ) للبيان ، قال الزمخشري : لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في « هَيْتَ لَكَ » لبيان المهيت به . وقال الزجاج : « البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ » فجعله مبتدأ والجار بعد الخبر . قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : ( مَا تُوعَدُونَ ) هو المستبعد ، فمن حقه أن يرتفع ب « هَيْهَاتَ » كما ارتفع بقوله :
3793- هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ العَقِيقُ وأَهْلُه ... فما هذه اللام؟ قُلتُ : قال الزجاج في تفسيره : البعْدُ لِمَا تُوعدُونَ أو بُعْدٌ لِمَا تُوعَدُونَ فيمن نَوّن ، فنزّله منزلة المصدر . قال أبو حيان : وقول الزمخشري ( فمن نَوّنه نزّله منزلة المصدر ) ليس بواضح ، لأنهم قد نَوّنُوا أسماء الأفعال ولا نقول : إنها إذا نُوّنت تنزلت منزلة المصادر . قال شهاب الدين : الزمخشري لم يقل كذا ، إنما قال : فيمن نَوَّن نزله منزلة المصدر لأجل قوله : أو بُعْد ، فالتنوين علة لتقديره إياه نكرة لا لكونه منزلاً منزلة المصدر ، فإنّ أسماء الأفعال ما نُوّن منها نكرة ، وما لم يُنوّن معرفة نحو : صَهْ وصَهٍ يقدر الأول بالسكوت ، والثاني بسكوت ما .

وقال ابن عطية : طوراً تلي الفاعل دون لام ، تقول : هيهات مجيء زيد أي : بَعُدَ ، وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً عند اللام ، كهذه الآية ، والتقدير : بَعُدَ الوجودُ لمَا تُوعَدُونَ . ولم يستجيده أبو حيان من حيث قوله : حذف الفاعل ، والفاعل لا يحذف ، ومن حيث إنّ فيه حذف المصدر ، وهو الموجود ، وإبقاء معموله وهو « لِمَا تُوعَدُون » و « هَيْهَاتَ » الثاني تأكيد للأول تأكيداً لفظياً ، وقد جاء غير مؤكد كقوله :
3794- هَيْهَاتَ مَنْزِلُنَا بِنَعْفِ سُوَيْقَةٍ ... كانت مُبَارَكَةً على الأَيَّامِ
وقال آخر :
3795- هَيْهَاتَ نَاسٌ مِنْ أُنَاس دِيَارُهُمْ ... دُقَاق ودَارُ الآخِرِينَ الأَوَائِنُ
وقال رؤبة :
3796- هَيْهَاتَ مِن مُنْخَرِقٍ هَيْهَاؤُه ... قال القيسي شارح أبيات الإيضاح : وهذا مثل قولك : « بَعُدَ بُعْدَهُ » وذلك أَنَّه بَنَى من هذه اللفظة ( فَعْلاَلاً ) فجاء به مجيء القَلْقَال والزلزَال . والألف في « هَيْهَاتَ » غير الألف في ( هَيْهَاؤُه ) ، وهي في « هَيْهَاتَ » لام الفعل الثانية كقاف الحَقْحَقَة الثانية ، وهي في ( هَيْهَاؤُه ) ألف الفعلال الزائدة . وفي هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين ، ذكر منها الصَّاغَانِي ستة وثلاثين لغة ، وهي : ( هَيْهَاتَ ) ، وأَيْهَاتَ ، وهَيْهَانَ ، وأَيْهَانَ وهَيْهَاه ، وأَيْهَاه كل واحد من هذه الستة مضمومة الآخرة ومفتوحته ، ومكسورته ، وكل واحدةٍ منها منوّنة وغير منوّنة ، فتكون ستًّا وثلاثين . وحكى غيره : هَيْهَاك ، وأَيْهَاكَ - بكاف الخطاب - ، وأَيْهاء ، وأَيْهَا ، وهَيْهَاء ، فأمّا المشهور ما قرئ به . فالمشهور « هَيْهَات » بفتح التاء من غير تنوين بُني لوقوعه موقع المبني ، أو لشبهه بالحرف ، وتقدم تحقيق ذلك وبها قرأ العامة وهي لغة أهل الحجاز . و « هَيْهَاتاً » بالفتح والتنوين ، وبها قرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس .
و « هَيْهَاتٌ » بالضم والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة . وبالضم من غير تنوين ، ويروى عن أبي حيوة أيضاً ، فعنه فيها وجهان وافقه أبو السمال في الأولى دون الثانية .
و « هَيْهَاتٍ » بالكسر والتنوين ، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس . وبالكسر من غير تنوين ، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة ، وتُروى عن عيسى أيضاً وهي لغة تميم وأسد .
و « هَيْهَاتْ » بإسكان التاء ، وبها قرأ عيسى بن عمر الهمداني أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج و « هَيْهَاه » بالهاء آخراً وصلاً ووقفاً . و « أيْهَاتَ » بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء ، وبهاتين قرأ بعض القراء فيما نقل أبو البقاء . فهذه تسع لغات قد قرئ بهنّ لم يتواتر منها غير الأولى . ويجوز إبدال الهمزة من الهاء الأولى في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة . و « أَيْهَان » بالنون آخراً . و « أَيْهَا » بألف آخراً .
فمن فتح التاء قالوا : فهي عنده اسم مفرد ، ومن كسرها فهي عنده جمع تأنيث كزَيْنَبَات وهِنْدَات .

ويُعْزَى هذا لسيبويه ، لأنه قال : هي مثل بَيْضَات ، فنسب إليه أنه جمع من ذلك ، حتى قال بعض النحويين : مفردها ( هَيْهَة ) مثل بَيْضَة .
وليس بشيء بل مفردها ( هَيْهَاتَ ) .
قالوا : وكان يبغي على أصله أن يقال فيها : ( هَيْهَيَات ) بقلب ألف ( هَيْهَاتَ ) ياء ، لزيادتها على الأربعة نحو : مَلْهَيَات ، ومَغْزَيات ، ومَرْمَيات ، لأنها من بنات الأربعة المضعّفة من الياء من باب حَاحَيْتَ وصِيْصِية ، وأصلها بوزن القَلْقلة والحَقْحَقَة فانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت : هَيْهَاة كالسلْقَاة والجَعْبَاة . وإن كانت الياء التي انقلبت عنها ألف سلْقَاة وجَعْبَاة زائدة ، وياء هَيْهية أصلاً ، فلما جمعت كان قياسها على قولهم : أَرْطَيَاتٍ وعَلْقَيَاتٍ أن يقولوا فيها : ( هَيْهَياتٍ ) ، إلاّ أنهم حذفوا الألف لالتقاء الساكنين لمّا كانت في آخر اسم مبني كما حذفُوها في ( ذان ) ، و ( اللَّتان ) و ( تان ) : ليفصلوا بين الألفات في أواخر المبنية ، والألفات في أواخر المتمكنة ، وعلى هذا حذفوها في أولات وذَوَات ، لتخالف ياء حَصَيات ونَوَيات . وقالوا : من فتح تاء ( هَيْهَاتَ ) فحقه أن يكتبها هاء ، لأنها في مفرد كتَمْرة ونَواة ، ومن كسرها فحقه أن يكتبها تاء ، لأنها في جمع كهِنْدَات ، وكذلك حكم الوقف سواء ، ولا التفات إلى لغة : كيف الإخوهْ والأخواهْ ، ولا هذه ثمرت ، لقلتها ، وقد رسمت في المصحف بالهاء .
واختلف القراء في الوقف عليها ، فمنهم من اتبع الرسم فوقف بالهاء وهما الكسائي والبزيّ عن ابن كثير . ومنهم من وقف بالتاء وهم الباقون . وكان ينبغي أن يكون الأكثر على الوقف بالهاء لوجهين :
أحدهما : موافقة الرسم .
والثاني : أنهم قالوا : المفتوح اسم مفرد أصله هَيْهَيَة كَوَلولة وقَلْقَلة في مضاعف الرباعي ، وقد تقدم أن المفرد يوقف على تاء تأنيثه بالهاء . وأمّا التنوين فهو على قاعدة تنوين أسماء الأفعال دخوله دال على التنكير ، وخروجه دال على التعريف .
قال القيسي : من نَوّن اعتقد تنكيرها ، وتصوَّرَ معنى المصدر النكرة ، كأنه قال : بُعْداً بُعْداً . ومن لم يُنوّن اعتقد تعريفها ، وتصوَّر معنى المصدر المعرفة ، كأنه قال : البُعْدُ البُعْدُ فجعل التنوين دليل التنكير وعدمه دليل التعريف انتهى .
ولا يوجد تنوين التنكير إلا في نوعين : أسماء الأفعال وأسماء الأصوات ( نحو صَهْ وصَهٍ ، وبَخْ وبَخٍ ، والعلم المختوم ب ( ويه ) ) نحو سيبويهِ وسيبويهٍ ، وليس بقياس بمعنى : أنه ليس لك أن تنوّن منها ما شئت بل ما سمع تنوينه اعتقد تنكيره . والذي يقال في القراءات المتقدمة : إنّ من نوّن جعله للتنكير كما تقدم . ومن لم ينوّن جعل عدم التنوين للتعريف . ومن فتح فللخفةِ وللاتباع . ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ، ومن ضم فتشبيهاً بقَبْل وبَعْد . ومن سَكّن فلأنّ أصل البناء السكون . ومن وقف بالهاء فاتباعاً للرسم ، ومن وقف بالتاء فعلى الأصل سواء كُسرت التاء أو فتحت ، لأنّ الظاهر أنهما سواء ، وإنما ذلك من تغيير اللغات وإن كان المنقول عن مذهب سيبويه ما تقدم .

هكذا ينبغي أن تعلل القراءات المتقدمة . وقال ابن عطية فيمن ضم ونوّن : إنه اسم معرب مستقل مرفوع بالابتداء ، وخبره « لِمَا تُوعدُونَ » أي : البُعْد لوعدكم ، كما تقول : النجح لسعيك .
وقال الرازي في اللوامح : فأمَّا مَنْ رَفَعَ وَنَوَّنَ احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرفوعين ، خبرهما من حروف الجر بمعنى : البُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ ، والتكرار للتأكيد ، ويجوز أن يكونا اسماً للفعل ، والضم للبناء مثل : حُوبُ في زجر الإبل لكنه نَوّنه ( لكونه ) نكرة .
قال شهاب الدين : وكان ينبغي لابن عطية وأبي الفضل أن يجعلاه اسماً أيضاً في حالة النصب مع التنوين على أنه مصدر واقع موقع الفعل وقرأ ابن أبي عبلة : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا تُوعَدُونَ } من غير لام جر . وهي واضحة ، مؤيدة لمدعي زيادتها في قراءة العامة . و « ما » في « لِمَا تُوعَدُونَ » تحتمل المصدرية ، أي : لوعدكم ، وأن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : توعدونه .
قوله : « إنْ هِيَ » « هي » ضمير يفسره سياق الكلام ، أي : إن الحياة إلا حياتنا .
وقال الزمخشري : هذا ضمير لا يعلم ما يُراد به إلاَّ بما يتلوه من بيانه ، وأصله : إن الحياة { إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } ، فوضع « هي » موضع « الحياة » لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها ، ومنه : هي النَّفْس تتحمل مَا حُمِّلَتْ ، وهي العَرَبُ تقول ما شَاءَتْ . وقد جعل بعضهم هذا القسم مما يفسر بما بعده لفظاً ورتبةً ، ونسبه إلى الزمخشري متعلقاً بما نقلناه عنه . قال شهاب الدين : ولا تعلق له في ذلك .
قوله : « نَمُوتُ ونَحْيَا » جملة مفسرة لما ادّعوه من أنَّ حياتهم ما هي إلا كذا . وزعم بعضهم أنَّ فيها دليلاً على عدم الترتيب في الواو ، إذ المعنى : نحيا ونموت إذ هو الواقع .
ولا دليل فيها لأنّ الظاهر من معناها يموت البعض منا ويحيا آخرون وهلم جرًّا يسير إلى انقراض العصر ويخلف غيره مكانه . وقل : نموت نحن ويحيا أبناؤنا .
وقيل : القوم كانوا يعتقدون الرجعة أي : نموت ثم نحيا بعد ذلك الموت .
فصل
اعلم أنَّ القوم طعنوا في نبوّته بكونه بشراً يأكل ويشرب ، ثم جعلوا طاعته خسراناً : أي : إنكم إن أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها نفع ، فذلك هو الخسران ، ثم طعنوا في صحة الحشر والنشر ، فقالوا : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } معادون أحياء للمجازاة ، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى قرنوا به الاستبعاد العظيم ، فقالوا : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } ثم أكدوا ذلك بقولهم : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا } ولم يريدوا بقولهم : « نَمُوتُ ونَحْيَا » الشخص الواحد ، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا ، وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا : { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } ثم بنوا على هذا فطعنوا في نبوّته وقالوا لما أتى في دينه بهذا الباطل فقد { افترى على الله كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } .

واعلم أنَّ الله - تعالى - ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أمّا الأولى : فتقدم الجواب عنها . وأمّا إنكارهم الحشر والنشر فجوابه ، أنّه لمّا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على الحشر والنشر ، وأيضاً : فلولا الإعادة لكان تسليط القويِّ على الضعيف في الدنيا ظلماً ، وهو غير لائق بالحكيم على ما تقرر في قوله تعالى : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } [ طه : 15 ] .
واعلم أنَّ الرسول لمّا يئس من قبول دعوته فزع إلى ربّه وقال : { رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ } وقد تقدّم تفسيره . فأجاب الله سؤاله وقال : { عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } .
قوله : « عَمَّا قَلِيلٍ » في ( ما ) هذه وجهان :
أحدهما : أنّها مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد كما زيدت الباء نحو : « فَبِمَا رَحْمَةٍ » ، وفي من نحو « مِمَّا خَطَايَاهُمْ » .
و « قَلِيلٍ » صفة لزمن محذوف ، أي : عن زمن قليل .
والثاني : أنّها غير زائدة ، بل هي نكرة بمعنى شيء أو زمن ، و « قَلِيلٍ » صفتها ، أو بدل منها ، وهذا الجار فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّه متعلق بقوله : « لَيُصْبِحُنَّ » ، أي : ليصبحن عن زمن قليل نادمين .
الثاني : أنه متعلق ب « نَادِمِين » ، وهذا على أحد الأقوال في لام القسم ، وذلك أنّ فيها ثلاثة أقوال :
جواز تقديم معمول ما بعدها عليها مطلقاً ، وهو قول الفراء وأبي عبيدة .
والثاني : المنع مطلقاً ، وهو قول جمهور البصريين .
والثالث : التفصيل بين الظرف وعديله وبين غيرهما ، فيجوز للاتساع ويمتنع في غيرهما فلا يجوز في : والله لأضربن زيداً ، زيداً لأضربن لأنه غير ظرف ولا عديله .
والثالث من الأوجه المتقدمة : أنّه متعلق بمحذوف تقديره : عَمّا قَلِيلٍ تنصر حذف لدلالة ما قبله عليه ، وهو قوله : « رَبّ انْصُرْنِي » . وقرئ : « لَتُصْبِحُنَّ » بتاء الخطاب على الالتفات ، أو على أنَّ القول صدر من الرسول لقومه بذلك .
قوله : « عَمَّا قَلِيلٍ » الآية معناه أنه يظهر لهم علامات الهلال فعند ذلك يحصل لهم الحسرة والندامة على ترك القبول . ثم بيّن تعالى الهلاك الذي أنزل عليهم بقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق } قيل : إن جبريل - عليه السلام - صاح بهم صيحةً عظيمةً فهلكوا . وقال ابن عباس : الصيحة الرجفة . وعن الحسن : الصيحة نفس العذاب والموت . كما يقال فيمن يموت : دعي فأجاب .
وقيل : هي العذاب المصطلم ، قال الشاعر :
3797- صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خروا لشدتها على الأذقان
والأول أولى لأنه الحقيقة .
قوله : « بالحقِّ » أي : دمرناهم بالعدل ، من قولك : فلانٌ يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضائه .

وقال المُفضل : « بالحقِّ » بما لا مدفع له كقوله : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } [ ق : 19 ] .
قوله : « فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً » الجعل بمعنى : التصيير ، و « غُثَاءً » مفعول ثان ، والغُثَاء : قيل : هو الجفاء ، وتقدم في الرعد ، قاله الأخفش وقال الزجاج : هو البالي من ورق الشجر والعيدان إذا جرى السيل خالط زبده واسود ، ومنه قوله : « غُثَاءً أَحْوَى » وقيل : كل ما يلقيه السيل والقدر مما لا ينتفع به ، وبه يُضْربُ المثل في ذلك ولامه واو ، لأنه من غَثَا الوادي يَغْثُوا غَثْواً ، وكذلك غَثَتِ القِدر ، وأمّا غَثِيَتْ نَفْسُهُ تَغْثِي غَثَيَاناً ، أي : خَبُثَتْ . فهو قريب من معناه ، ولكنه من مادة الياء .
وتشدد ( ثاء ) الغُثَاء ، وتُخفَّف ، وقد جمع على أَغْثَاء ، وهو شاذ ، بل كان قياسه أن يجمع على أغْثِية ، كَأغْرِيَة ، وعلى غِيثَان ، كغِرْبَان ، وغِلْمَان وأنشدوا لامرئ القيس :
3798- مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءُ فَلْكَةُ مِغْزَلِ ... بتشديد الثاء ، وتخفيفها ، والجمع ، أي : والأَغْثَاء .
قوله : { فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين } « بُعْداً » مصدر يذكر بدلاً من اللفظ بفعله فناصبه واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم ، والأصل : بَعُدَ بُعْداً وبَعَداً نحو رَشُدَ رُشْداً ورَشَداً وفي هذه اللام قولان :
أظهرهما : أنها متعلقة بمحذوف للبيان ، كهي في سَقْياً له ، وجَدْعاً له . قاله الزمخشري .
والثاني : أنَّها متعلقة ب « بُعْداً » قاله الحوفي . وهذا مردود ، لأنه لا يُحفظ حذف هذه اللام ، ووصول المصدر إلى مجرورها ألبتة ، ولذلك منعوا الاشتغال في قوله : { والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } [ محمد : 8 ] لأن اللام لا تتعلق ب « تَعْساً » بل بمحذوف ، وإن كان الزمخشري جَوَّز ذلك ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
فصل
« فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً » صيرناهم هلكى فَيَبِسُوا يَبْسَ الغثاء من نبات الأرض ، « فَبُعْداً » بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير « لِلقَوْمِ الظَالِمِينَ » الكافرين ، ذكر هذا على وجه الاستخفاف والإهانة لهم .

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)

قوله تعالى : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ } أي : أقواماً آخرين . قيل : المراد قصة لُوط ، وشعيب ، وأيوب ، ويوسف - صلوات الله عليهم أجمعين - ، والمعنى : أنه ما أخلى الديار من المكلفين . { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } ( مِنْ ) صلة كأيّ : ما تَسْبِقُ أمة أجلها وقت هلاكها . وقيل : آجال حياتها وتكليفها . قال أهل السنة : هذه الآية تدل على أن المقتول ميّت بأجله ، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدّم الأجل أو تأخر ، وذلك ينافيه هذا النص .
قوله : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } في « تَتْرَى » وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب على الحال من « رُسُلنَا » ، يعني : متواترين أي : واحداً بعد واحد ، أو متتابعين على حسب الخلاف في معناه . وحقيقته : أنه مصدر واقع موقع الحال .
والثاني : أنه نعت مصدر محذوف ، تقديره : إرسالاً تَتْرَى ، أي : متتابعاً أو إرسالاً إثر إرسال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ، وهي قراءة الشافعي « تَتْرًى » بالتنوين ، ويقفون بالألف ، وباقي السبعة « تَتْرَى » بألف صريحة دون تنوين ، والوقف عندهم يكون بالياء ، ويميله حمزة والكسائي ، وهو مثل غَضْبَى وسَكْرَى ، ولا يميله أبو عمرو في الوقف ، وهذه هي اللغة المشهورة . فمن نَوّن فله وجهان :
أحدهما : أنَّ وزن الكلمة فَعْلٌ كفَلْس فقوله : « تَتْرًى » كقولك : نصرته نَصْراً؛ ووزنه في قراءتهم « فَعْلاً » . وقد رُدَّ هذا الوجه ، بأنه لم يحفظ جريان حركات الإعراب على رائه ، فيقال : هذا تَتْرٌ ، ورأيتُ تَتْراً ، ومررت بتترٍ ، نحو : هذا نصرٌ ، ورأيت نصراً ، ومررت بنصرٍ ، فلمّا لم يحفظ ذلك بَطَلَ أن يكون وزنه ( فَعْلاً ) .
الثاني : أنّ ألفه للإلحاق بِجَعْفَر ، كهي في أَرْطَى وَعَلْقَى ، فلما نُوّن ذهبت لالتقاء الساكنين وهذا أقرب مما قبله ، ولكنه يلزم منه وجود ألف الإلحاق في المصادر ، وهو نادر ( ومن لم يُنوّن ، فله فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الألف بدل من التنوين في حالة الوقف .
والثاني : أنها للإلحاق كأَرْطَى وعَلْقَى ) .
الثالث : أنها للتأنيث كدَعْوَى ، وهي واضحة .
فتحصّل في ألفه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بدل من التنوين في الوقف .
الثاني : أنها للإلحاق .
الثالث : أنها للتأنيث .
واختلفوا فيها هل هي مصدر كَدَعْوَى و « ذِكْرَى » ، أو اسم جمع ك « أَسْرَى » و « شَتَّى » ؟ كذا قاله أبو حيان . وفيه نظر : إذ المشهور أن « أَسْرَى » و « شَتَّى » جمعا تكسير لا اسما جمع . وتاؤها في الأصل واو لأنها من المواترة ، والوتر ، فقلبت تاء كما قلبت تاء في « تَوْرِيَة » ، وتَوْلَج ، وتَيْقُور ، وتخمة وتراث ، وتجاه فإنه من الوَرْي والولُوج ، والوَقَار ، والوَخَامَة ، والورَاثة ، والوَجه . واختلفوا في مدلولها ، فعن الأصمعي : واحداً بعد واحد وبينهما هُنَيْهَة وقال غيره : هو من المُوَاتَرَة ، وهي التتابع بغير مُهْلَة .

وقال الراغب : والتوَاتُر تَتَابُع الشيء وِتْراً وفُرَادَى ، قال تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } . والوَتِيرة : السَّجية والطريقة ، يقال : هم على وَتِيرةٍ واحدةٍ . والتِّرَةُ : الذَّحْلَ والوَتِيرة : الحاجز بن المنخرين .
قوله : { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } أي : أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدّم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة ، ولذلك قال : { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } بالإهلاك .
قوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } قيل : هو جمع حديث ، ولكنه شاذ . والمعنى : سَمَراً وقصصاً يحدث من بعدهم بأمرهم ، ولم يبق منهم عين ولا أثر إلا الحديث الذي يعتبر به .
وقيل : بل هو جمع أُحْدُوثة ، كأُضْحُوكة وأُعْجُوبَة ، وهو ما يحدث به الناس تَلهياً وتَعَجُّباً .
وقال الأخفش : لا يقال ذلك إلا في الشر ولا يقال في الخير وقد شذت العرب في ألفاظ ، فجمعوها على صيغة ( أفَاعيل ) كأباطيل وأقاطيع . وقال الزمخشري : الأحاديث يكون اسم جمع للحديث ، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو حيان : و ( أفاعيل ) ليس من أبنية اسم الجمع ، فإنما ذكره النحاة فيما شذ من الجموع كقَطِيع وأقَاطِيع ، وإذا كان عَبَادِيد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير مع أنهم لم يلفظوا له بواحد ، فأحرى أحاديث وقد لفظ له بواحد وهو حديث فاتضح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرنا . ثم قال تعالى : { فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } وهذا دعاء ، وذم ، وتوبيخ ، وذلك وعيد شديد .

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)

قوله تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ } الآية . يجوز أن يكون « هَارُونَ » بدلاً ، وأن يكون بياناً ، وأن يكون منصوباً بإضمار أعني . واختلفوا في الآيات ، فقال ابن عباس : هي الآيات التسع وهي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والبحر ، والسنين ، ونقص الثمرات . وقال الحسن : « بآيَاتِنَا » أي : بديننا . واحتج بأن المراد لو كان الآيات وهي المعجزات ، والسلطان المبين : هو أيضاً المعجز ، لزم منه عطف الشيء على نفسه .
والأول أقرب ، لأنّ لفظ الآيات إذا ذكر مع الرسول فالمراد به المعجزات .
وأما احتجاجه فالجواب عنه من وجوه :
الأول : أنّ المراد بالسلطان المبين : يجوز أن يكون أشرف معجزاته ، وهي العصا ، لأن فيها معجزات شتّى من انقلابها حيّة وتلقّفها ما صنع السحرة ، وانفلاق البحر ، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها ، وكونها حارساً ، وشمعةً ، وشجرة مثمرة ، ودَلْواً ، ورشَاءً ، فلاجتماع هذه الفضائل فيها أفردت بالذكر كقوله : « وجِبْرِيلَ ومِيكَالَ » .
والثاني : يجوز أن يكون المراد بالآيات نفس تلك المعجزات ، وبالسلطان المبين كيفيّة دلالتها على الصدق ، فلأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات فقد فارقتها في قوة دلالتها على قبول قول موسى - عليه السلام - .
الثالث : أن يكون المراد بالسلطان المبين استيلاء موسى - عليه السلام - عليهم في الاستدلال على وجود الصانع ، وإثبات النبوّة ، وأنه ما كان يقيم لهم قدراً ولا وزناً .
واعلم أنَّ الآية تدل على أنّ معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضاً وأنّ النبوة مشتركة بينهما ، فكذلك المعجزات . ثم قال : { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فاستكبروا } وتعظموا عن الإيمان { وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ } متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم .
قوله : « لِبَشَرَيْنِ » شر يقع على الواحد والمثنى والمجموع ، والمذكر والمؤنث قال تعالى : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ } [ يس : 15 ] ، وقد يطابق ، ومنه هذه الآية وأما إفراد « مِثْلِنَا » ، فلأنه يجري مجرى المصادر في الإفراد والتذكير ، ولا يؤنث أصلاً ، وقد يطابق ما هو له تثنية لقوله : { مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } [ آل عمران : 13 ] وجمعاً كقوله : { ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] .
وقيل : أريد المماثلة في البشريّة لا الكمية . وقيل : اكتفى بالواحد عن الاثنين . { وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } جملة حالية .
فصل
« فَقَالُوا » يعني لفرعون وقومه { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } يعنون موسى وهارون { وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } مطيعون متذللون . قال أبو عبيدة : والعرب تسمي كل من دان لِملك عابداً له ويحتمل أن يقال : إنه كان يدعي الإلهية ، وإن طاعة الناس له عبادة ، ولمّا خطر ببالهم هذه الشبهة صرحوا بالتكذيب ، ولمّا كان التكذيب كالعلّة لهلاكهم لا جَرَم رتّبه عليه بفاء التعقيب ، فقال : { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين } أي : بالغرق ( أي : فيمن حكم عليهم بالغرق ) فإن الغرق لم يحصل عقيب التكذيب ، ( إنما حصل عقيب التكذيب ) حكم الله - تعالى - عليهم بالغرق في الوقت اللائق به .

قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب } قيل : أراد قوم موسى ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ولذلك أعاد الضمير من قوله : « لَعَلَّهُم » عليهم .
وفيه نَظَر ، إذ يجوز عود الضمير على القوم من غير تقدير إضافتهم إلى موسى ، ويكون هدايتهم مترتبة على إيتاء التوراة لموسى . قال الزمخشري : لا يجوز أن يرجع الضمير في « لَعَلَّهُم » إلى فرعون وملئه لأن التوراة إنما أوتيت بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون ، بدليل قوله تعالى { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى } [ القصص : 43 ] .
بل المعنى الصحيح ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يعملون بشرائعها ، ومواعظها ، فذكر موسى والمراد آل موسى كما يقال : هاشم وثقيف . والمراد قومهم .

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)

قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } والمراد عيسى - عليه السلام - وأمه « آيَةً » دلالة على قدرتنا . ولم يقل آيتين قيل : معناه جعلنا شأنهما آية . وقيل المعنى كل واحدٍ آية كقوله : { كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا } [ الكهف : 33 ] . قال المفسرون : معنى كون عيسى وأمه آية أنه خُلِقَ من غير ذكر ، وأنطقه في المهد في الصغر ، وأجرى على يده إبراء الأَكْمَه والأبرص ، وإحياء الموتَى وأمّا مريم فلأنها حملت من غير ذَكَر . وقال الحسن : تكلّمت مريم في صغرها كما تكلّم عيسى وهو قولها : { هُوَ مِنْ عِندِ الله إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] ، ولم تلقم ثدياً قط . قال ابن الخطيب : والأقرب أن جعلهما آيةً هو نفس الولادة ، لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعاً في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة ، ويدل على هذا وجهان :
الأول : قوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } لأن نفس المعجز ظهر منهما ، لا أنَّه ظهر على يديهما ، لأنَّ الولادة فيه وفيها بخلاف الآيات التي ظهرت على يده .
الثاني : قوله : { آيَةً } ولم يقل آيتين ، وحمل هذا اللفظ على الأمر الذي لا يتمّ إلا بمجموعهما أولى ، وذلك هو الولادة لا المعجزات التي كانت لعيسى .
قوله : { وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ } « الرُّبْوَة » و « الرُّبَاوة » في رَائهما الحركات الثلاثة ، وهي الأرض المرتفعة .
قال عطاء عن ابن عباس : هي بيت المقدس ، وهو قول قتادة وأبي العالية وكعب قال كعب : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً .
وقال أبو هريرة : إنها الرَّمْلَة . وقال السدي : أرض فلسطين . وقال عبد الله بن سلام : هي دمشق ، وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل والضحاك . وقال الكلبي وابن زيد : هي مصر . والقَرار : المستقر من أرض مستوية منبسطة . وقال قتادة : ذات ثمارٍ وماء ، أي : لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها . قوله : « وَمَعِينٍ » صفة لموصوف محذوف ، أي : وماء معين . وفيه قولان :
أحدهما : أن ميمه زائدة ، وأصله مَعْيُون . أي : مبصر بالعين فَأُعلّ إعلال مَبِيع وبابه وهو مثل قولهم : كَبْدتُه ، أي ضربت كَبده ، ورأسته أي : أصبت رأسه ، وعنْتُه أي : أدركته بعيني ولذلك أدخله الخليل في مادة ع ي ن .
والثاني : أن الميم أصلية ، ووزنه ( فَعِيل ) مشتق من المَعْن .
واختلف في المعين ، فقيل : هو الشيء القليل ، ومنه : المَاعُون . وقيل : هو من مَعنَ الشيء معانة أي : كثر ، قال جرير :
3799- إنَّ الَّذِينَ غَدَوْا بِلُبِّكَ غَادَرُوا ... وَشَلاً بِعَيْنِكَ لا يزالُ مَعِينَا
وقال الراغب : هو من مَعَن الماء جرى ، وسُمي مَجَارِي الماء مُعْنان ، وأمْعَن الفرس تباعد في عَدْوه ، وأمْعَن بِحَقِّي : ذهب به ، وفلانٌ معن في حاجته يعني : سريعاً فكلّه راجع إلى معنى الجري والسرعة .
وفي المعين قولان :
أحدهما : أنّه مفعول ، لأنه لظهوره مدرك بالعين من عانه : إذا أدركه بعينه .
وقال الفراء والزجاج : إن شِئْتَ جعلته ( فَعِيلاً ) من المَاعون ، ويكون أصله من المَعْن والمَاعون فاعُول منه . قال أبو علي : والمعين : السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى ، والماعون ما سهل على معطيه . قالوا : وسبب الإيواء أنها فرّت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة ، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف ، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم .

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)

قوله تعالى : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات } الآية .
اعلم أنَّ هذا خطاب مع كل الرسل ، وذلك غير ممكن ، لأنّ الرّسل إنّما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة ، فلهذا تأوّلوه على وجوه :
فقيل : معناه الإعلام بأن كلّ رسول نُودي في زمانه بهذا المعنى ، ووصي به ، ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ، ووصوا به ، حقيق أن يؤخذ ويعمل عليه .
وقال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي وجماعة : أراد به محمداً - عليه السلام - وحّده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة كقولك للواحد : أيُّها القوم كُفُّوا عنّا أذاكم ولأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل . وقال ابن جرير : المراد عيسى - عليه السلام - لأنه إنما ذكر بعد ذكره مكانه الجامع للطعام والشراب ، ولأنه روي « أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام كان يأكل من غزل أمه » .
والأول أقرب ، لأنه أوفق للفظ ، ولأنه « روي عن أم عبد الله أخت شدّاد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم فردّه الرسول إليها وقال : » من أين لَكِ هذا؟ « ، فقالت : من شاةٍ لي ، فقال : » من أين هذه الشاة؟ « ، فقالت : اشتريتُها بِمَالي ، فأخذه ، ثم إنها جاءته فقالت : يا رسول الله لِمَ رَدَدته؟ فقال - عليه السلام - : » بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلاّ طيباً ولا تعمل إلاّ صالحاً « .
واختلفوا في الطيّب ، فقيل : هو الحلال . وقيل : هو المستطاب المستلذ من المأكل .
قوله : { واعملوا صَالِحاً } يجوز أن يكون » صالحاً « نعتاً لمصدر محذوف أي : واعملوا عملاً صالحاً من غير نظر إلى ما يعملونه ، كقولهم : يُعطي ويمنع . ويجوز أن يكون مفعولاً به ، وهو واقع على نفس المعمول . { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } وهذا تحذير من مخالفة ما أمرهم به ، وإذا كان تحذيراً للرسل مع علو شأنهم ، فبأن يكون تحذيراً لغيرهم أولى .
قوله : { وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } قرأ ابن عامر وحده » وأن هذه « بفتح الهمزة وتخفيف النون . والكوفيون بكسرها والتثقيل . والباقون بفتحها والتثقيل . فأمّا قراءة ابن عامر فهي المخففة من الثقيلة ، وسيأتي توجيه الفتح في الثقيلة ، فيتضح معنى قراءته .
وأمّا قراءة الكوفيين فعلى الاستئناف .
وأمّا قراءة الباقين ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّها على حذف اللام أي : ولأنّ هذه ، فلمّا حذف حرف الجَرّ جَرَى الخلاف المشهور ، وهذه اللام تتعلق ب » اتّقون « . والكلام في الفاء كالكلام في قوله : » وَإِيَّايَ فَارْهَبُون « .
الثاني : أنها منسوقة على » بِمَا تَعْمَلُون « أي : إنِّي عليم بما تعملون وبأنّ هذه ، فهذه داخلة في حيز المعلوم .

الثالث : أنّ في الكلام حذفاً تقديره : واعلموا أن هذه أمتكم .
وتقدّم { فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً } وما قيل فيها .
فصل
المعنى : وأن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أمةً واحدةً ، أي : ملة واحدة وهي الإسلام . فإن قيل : لمّا كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحداً؟
فالجواب : أنّ المراد من الدين ما لا يختلفون من أصول الدين من معرفة ذات الله وصفاته ، وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يُسمّى اختلافاً في الدين ، فكما يقال في الحائض والطاهر من النساء : إن دينهن واحد وإن افترق تكليفهما فكذا هنا .
وقيل : المعنى : أمرتكم بما أمرت به المرسلين من قبلكم ، وأمركم واحد .
{ وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون } فاحذرون ، { فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أي : تفرقوا فصاروا فرقاً يهوداً ، ونصارى ، ومجوساً . « زُبُراً » أي : فرقاً وقطعاً مختلفة ، واحدها ( زَبُور ) ، وهو الفرقة والطائفة ، ومثلها « الزُّبْرَة » وجمعها « زُبَر » ومنه « زُبَرَ الحَدِيدِ » .
وقرأ بعض أهل الشام : « زُبَراً » بفتح الباء . وقال مجاهد وقتادة « زُبراً » أي : كتباً ، أي : دان كلّ فريق بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر .
وقيل : جعلوا كتبهم قطعاً آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض وحرّفوا البعض { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } بما عندهم من الدين معجبون مسرورون .
ولما ذكر تفرقهم في دينهم أتبعه بالوعيد وقال : { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ } وهذا خطاب لنبينا - عليه السلام - ، أي : دع هؤلاء الكفار في جهلهم .
قوله : « في غَمْرتِهِمْ » مفعول ثان ل « ذَرْهُمْ » أي : اتركهم مستقرين « في غَمْرَتِهِمْ » ويجوز أن يكون ظرفاً للترك ، والمفعول الثاني محذوف . والغمرة في الأصل الماء الذي يغمر القامة ، والمغمر الماء الذي يَغْمُر الأرض ثم استعير ذلك للجهالة ، فقيل : فلانٌ في غمرة والمادة تدل على الغطاء والاستتار ومنه الغُمر - بالضم - لمن لم يجرب الأمور ، وغُمَار الناس وخمارهم زحامهم ، والغِمْر - بالكسر - الحقد ، لأنه يغطي القلب ، فالغمرات الشدائد ، والغامر : الذي يلقي نفسه في المهالك . وقال الزمخشري : الغمرة الماء الذي يغمر القامة ، فضربت لهم مثلاً لما هم فيه من جهلهم وعَمَايَتِهم ، او شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لِمَا هُمْ عليه من الباطل كقوله :
3800- كَأَنَّنِي ضَارِبٌ في غَمْرَةٍ لَعِب ... وقرأ أمير المؤمنين وأبو حيوة وأبو عبد الرحمن « غمراتهم بالجمع ، لأنَّ لكل منهم غمرة تخصه . وقراءة العامة لا تأبى هذا المعنى ، فإنه اسم جنس مضاف .
قوله : » حَتَّى حِين « أي إلى أن يموتوا . وقيل : إلى حين المعاينة . وقيل : إلى حين العذاب . ولمّا كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أنّ تلك النعم كالثواب المعجل لهم إلى أديانهم ، فبيّن سبحانه أنّ الأمر بخلاف ذلك فقال : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } أي : أن ما نعطيهم ونجعله مدداً لهم من المال والبنين في الدنيا ل { نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات } أي : نعجل لهم في الخيرات ، ونقدّمها ثواباً بأعمالهم لمرضاتنا عنهم { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } أنّ ذلك استدراج لهم .

قوله : « أَنَّما نُمِدُّهُمْ » في « مَا » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بمعنى الذي ، وهي اسم ( أنَّ ) و ( نُمِدُّهُمْ بِهِ ) صلتها وعائدها محذوف ، و ( مِنْ مَالٍ ) حال من الموصول أو بيان له ، فيتعلق بمحذوف ، و ( نُسَارعُ ) خبر ( أنَّ ) والعائد من هذه الجملة إلى اسم ( أنَّ ) محذوف تقديره : نسارع لهم به أو فيه إلا أنّ حذف مثله قليل . وقيل : الرابط بين هذه الجملة باسم « أنَّ » هو الظاهر الذي قام مقام المضمر من قوله : « في الخَيْرَاتِ » ، إذ الأصل نُسَارع لهم فيه ، فأوقع الخيرات موقعه تعظيماً وتنبيهاً على كونه من الخيرات ، وهذا يتمشّى على مذهب الأخفش ، إذ يرى الربط بالأسماء الظاهرة وإن لم يكن بلفظ الأوَّل ، فيجيز زيد الذي قام أبو عبد الله ، إذا كان أبو عبد الله كنية زيد ، وتقدّمت منه أمثلة . قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون الخبر ( مِنْ مَالٍ ) ، لأنه ( إذا ) كان من مال فلا ( يعاب عليهم ذلك ، وإنّما ) يُعاب عليهم اعتقادهم أن تلك الأموال خيرٌ لهم .
الثاني : أن تكون ( ما ) مصدرية فَيَنْسَبِك منها ومما بعدها مصدر ، هو اسم ( أنّ ) ، و « نُسَارع » هو الخبر ، وعلى هذا فلا بدّ من حذف ( أنْ ) المصدرية قبل « نُسَارعُ » ، ليصح الإخبار ، تقديره : أن نُسَارعَ . فلمّا حذفت ( أنْ ) ارتفع المضارع بعدها ، والتقدير : أيحسبون أن إمدادنا لهم من كذا مسارعةً مِنَّا لهم في الخيرات .
الثالث : أنها مهيئة كافة ، وبه قال الكسائي في هذه الآية ، وحينئذ يوقف على ( وَبَنِينَ ) ، لأنّه قد حصل بعد فعل الحسبان نسبة من مسند ومسند إليه نحو : حسبتُ إنّما ينطلق عمرو وإنّما تقوم أنت . وقرأ يحيى بن وثاب : « إِنَّمَا » بكسر الهمزة على الاستئناف ، ويكون حذف مفعول الحسبان اقتصاراً واختصاراً . وابن كثير في رواية « يَمدُّهُمْ » بالياء ، وهو الله تعالى ، وقياسه أن يقرأ « يُسَارع » أيضاً . وقرأ السلمي وابن أبي بكرة « يُسَارع » بالياء وكسر الراء ، وفي فاعله وجهان :
أحدهما : الباري تعالى .
والثاني : ضمير ( ما ) الموصولة إن جعلناها بمعنى ( الذي ) ، أو على المصدر إن جعلناها مصدرية ، وحينئذ يكون « يُسَارعُ لَهُمْ » الخبر . فعلى الأوّل يحتاج إلى تقدير عائد أي : يُسَارعُ الله لهم به أو فيه وعلى الثاني لا يحتاج إذ الفاعل ضمير ( ما ) الموصولة .
وعن ( ابن ) أبي بكرة المتقدم أيضاً « يُسَارع » بالياء مبنياً للمفعول و « في الخَيْرَاتِ » هو القائم مقام الفاعل ، والجملة خبر ( أنّ ) والعائد محذوف على ما تقدّم .
وقرأ الحسن : « نُسْرِعُ » بالنون من أسْرَعَ ، وهي ك « نُسَارع » فيما تقدم . و { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } إضراب عن الحسبان المستفهم عنه استفهام تقريع ، وهو إضراب انتقال ، والمعنى : أنهم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتفكروا في ذلك الإمداد ، أهو استدراج أم مسارعة في الخير روى يزيد بن ميسرة قال : أوحى الله - تعالى - إلى نبيّ من الأنبياء : « أيفرح عبدي أن أبسط له في الدنيا وهو أبعد له منّي ، ويجزع أن أقبض عنه الدنيا وهي أقرب له منّي » ثم تلا { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ } .

إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)

قوله : { إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } الآيات لمَّا ذمَّ من تقدّم بقوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ } [ المؤمنون : 55 ] ثم قال : { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 56 ] ، بيّن بعده صفات من يُسارع في الخيرات ، فقال : { إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } ، والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف . وقيل : جمع بينهما للتأكيد . ومنهم من حمل الخشية على العذاب ، والمعنى : إن الذي هم من عذاب ربهم مشفقون أي : خائفون من عقابه .
قوله : « مِنْ خَشْيَةِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنها لبيان الجنس . قال ابن عطية : هي لبيان جنس الإشفاق .
قال شهاب الدين : وهي عبارة قَلِقَة .
والثاني : أنها متعلقة ب « مُشْفِقُونَ » . قاله الحوفي ، وهو واضح .
قوله : { والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ } يصدّقون ، وآيات الله هي المخلوقات الدالة على وجوده . { والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ } وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله - تعالى - ، لأن ذلك داخل في قوله : { والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ } بل المراد منه نفي الشرك الخفيّ ، وهو أن يكون مخلصاً في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه .
قوله : { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ } العامة على أنه من الإيتاء ، أي : يعطون ما أعطوا .
وقرأت عائشة وابن عباس والحسن والأعمش : « يَأَتُونَ مَا أَتَوْا » من الإتيان ، أي : يفعلون ما فعلوا من الطاعات . واقتصر أبو البقاء في ذكر الخلاف على « أَتَوْا » فقط ، وليس بجيّد ، لأنّه يوهم أن من قرأ « أَتَوْا » بالقصر قرأ « يُؤْتُونَ » من الرباعي وليس كذلك .
قوله : { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } هذه الجملة حال من فاعل « يُؤْتُونَ » ، فالواو للحال ، والمعنى : يعطون ما أعطوه ، ويدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان من حقوق الله كالزكوات ، والكفارات وغيرها . أو من حقوق الآدميين ، كالودائع ، والديون وأصناف الإنصاف والعدل . وبيّن أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه « وقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ » ، أي : إنهم يقدمون على العبادة على وجل من تقصير وإخلال بنقصان .
« روي أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أهو الذي يزني ، ويشرب الخمر ، ويسرق وهو على ذلك يخاف الله؟ فقال عليه السلام : » لا يا بنت الصديق ، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ، وهو على ذلك يخاف الله « قوله : » أنَّهُمْ « يجوز أن يكون التقدير : وجلة مِنْ أنَّهُمْ أي : خائفة من رجوعهم إلى ربّهم . ويجوز أن يكون : لأنهم أي : سبب الوجل الرجوع إلى ربهم .
قوله : { أولئك يُسَارِعُونَ } هذه الجملة خبر » إنَّ الَّذِينَ « ، وقرأ الأعمش : » إنَّهُمْ « بالكسر ، على الاستئناف ، فالوقف على » وَجِلَةٌ « تام أو كاف .

وقرأ الحسن : « يُسْرعُونَ » من أسْرَعَ . قال الزجاج : يُسَارِعُونَ أبلغ . يعني : من حيث إن المفاعلة تدل على قوة الفعل لأجل المبالغة .
قوله : { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } في الضمير في « لَهَا » أوجه :
أظهرها : أنه يعود على الخيرات لتقدمها في اللفظ .
وقيل : يعود على الجنة . وقال ابن عباس : إلى السعادة . وقال الكلبي : سبقوا الأمم إلى الخيرات . والظاهر أن « سَابِقُونَ » هو الخبر ، و « لَهَا » متعلق به قُدّم للفاصلة وللاختصاص . واللام ، قيل : بمعنى ( إلى ) ، يقال : سبقت له ، وإليه ، بمعنى ومفعول « سَابِقُون » محذوف ، تقديره : سابقون الناس إليها . وقيل : اللام للتعليل ، أي : سابقون الناس لأجلها . وتكون هذه الجملة مؤكدة للجملة قبلها ، وهي { يُسَارِعُونَ فِي الخيرات } ، ولأنها تفيد معنى آخر وهو الثبوت والاستقرار بعدما دلَّت الأولى على التجدد .
وقال الزمخشري : أي : فاعلون السَّبق لأجلها ، أو سابقون الناس لأجلها قال أبو حيان وهذان القولان عندي واحد . قال شهاب الدين : ليسا بواحد إذ مراده بالتقدير الأول : أن لا يقدر السبق مفعول ألبتة ، وإنّما الغرض الإعلام بوقوع السبق منهم من غير نظرٍ إلى مَنْ سبقوه كقوله : « يُحْيِي وَيُمِيتُ » ، و « كُلُوا واشْرَبُوا » ، و « يعطي ويمنع » وغرضه في الثاني تقدير مفعول حذف لدلالة ، واللام للعلة في التقديرين وقال الزمخشري أيضاً : أو : إيّاها سابقون . أي : ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا . قال شهاب الدين : يعني أن « لَهَا » هو المفعول ب « سَابِقُونَ » ، وتكون اللام قد زيدت في المفعول ، وحسن زيادتها شيئان كل منهما لو انفرد لاقتضى الجواز ، كَوْن العامل فرعاً ، وكونه مقدّماً عليه معموله . قال أبو حيان : ولا يدل لفظ « لَهَا سَابِقُون » على هذا التفسير ، لأنّ سبق الشيء الشيء يدل على تقديم السابق على المسبوق ، فكيف يقول : وهم يسبقون الخيرات ، هذا لا يصح . قال شهاب الدين : ولا أدري عدم الصحة من أي جهةٍ ، وكأنّه تخيّل أنّ السابق يتقدم على المسبوق فكيف يتلاقيان؟ لكنّه كان ينبغي أن يقول : فكيف يقول : وهم ينالون الخيرات ، وهم لا يجامعونها ، لتقدمهم عليها إلاّ أن يكون قد سبقه القلم فكتب بدل ( وهم ينالون ) ( وهم يسبقون ) وعلى كل تقدير فأين عدم الصحة؟ وقال الزمخشري أيضاً : ويجوز أن يكون { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } خبراً بعد خبرٍ ومعنى « وَهُمْ لَهَا » كمعنى قوله :
3801- أَنْتَ لَهَا أَحْمَد مِنَ بَيْنِ البَشَر ... يعني : أن هذا الوصف الذي وصف به الصالحين غير خارج من حد الوسع والطاقة .
فتحصل في اللام ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها بمعنى ( إلى ) .
الثاني : أنها للتعليل على بابها .
والثالث : أنها مزيدة . وفي خبر المبتدأ قولان :
أحدهما : أنه « سَابِقُونَ » وهو الظاهر .
والثاني : أنه الجار كقوله .
3802- أَنْتَ لَهَا أَحْمَد مِنْ بَيْنِ البَشَر ... وهذا قد رجّحه الطبري ، وهو مروي عن ابن عباس .

وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)

قوله : { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } الآية ، لمّا ذكر كيفيّة أعمال المؤمنين المخلصين ذكر حكمين من أحكام أعمال العبادة :
الأوّل : قوله : { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } قال المفضّل : الوسع الطاقة .
وقال مقاتل ، والضحّاك ، والكلبي ، والمعتزلة : هو دون الطاقة ، لأن الوسع إنما سُمي وُسعاً ، لأنه يتسع عليه فعله ، ولا يصعب ولا يضيق ، فبيّن أن أولئك المخلصين لم يكلفوا أكثر مما عملوا . قال مقاتل : من لم يستطع القيام فليصلّ قاعداً ، ومن لم يستطع الجلوس فَلْيومئ إيماء ، ومن لم يستطع الصوم فليفطر .
قوله : { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق } « يَنْطِقُ » صفة ل « كِتَابٌ » و « بِالحَقِّ » يجوز أن يتعلق ب « يَنْطِق » ، وأن يتعلق بمحذوف حالاً من فاعله . أي : ينطق ملتبساً بالحق ، ونطيره { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } [ الجاثية : 29 ] . فشبّه الكتاب بمن يصدر عنه البيان ، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرب بما فيه كما يعرب وينطق الناطق إذا كان مُحِقًّا . فإن قيل : هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب ، إما ان يكونوا محيلين الكذب على الله ، أو مجوزين ذلك عليه ، فإن أحالوه عليه ، فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد ، وإن جوزوه عليه لم يحصل لهم بذلك الكتاب يقين ، لتجويزهم أنه - سبحانه - كتب فيه خلاف ما حصل ، وعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب . فالجواب : يفعل الله ما يشاء ، وعلى أنه لا يَبْعُد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة .
قوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا ينقص من حسناتهم ، ولا يُزاد على سيئاتهم ونظيره : { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] .
قالت المعتزلة : الظلم إمّا أن يكون بالزيادة في العقاب أو بالنقصان من الثواب ، أو بأن يعذب على ما لم يعمل أو بأن يكلفهم ( ما لاَ يَطِيقُونَ ) فتكون الآية دالة على كون العبد مُوجداً لفعله ، وإلا لكان تعذيبه عليه ظلماً ، ويدلُّ على أنه - سبحانه - لا يكلف ما لا يطاق .
وأجيب بأنه لمّا كلف أبا لهب أن يؤمن ( والإيمان يقتضي تصديق الله في كل ما أخبر به ، ومما أخبر أنّ أبا لهب لا يؤمن ) فقد كلّفه ( بأن يؤمن ) بأن لا يؤمن فيلزمكم ( كل ما ذكرتموه ) .
قوله : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ } أي : في غفلة وجهالةٍ ، يعني الكفار في غفلة . « مِنْ هَذَا » أي : القرآن ، أي من هذا الذي بيّناه في القرآن ، أو من الكتاب الذي ينطق بالحق أو من هذا الذي هو وصف المشفقين . « وَلَهُمْ » أي : ولهؤلاء الكفار { أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك } أي : أعمال خبيثة من المعاصي « دُون ذَلِك » أي : سوى جهلهم وكفرهم .

وقيل : « دُون ذَلِك » يعني : من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله - عز وجل - قال بعضهم : أراد أعمالهم في الحال . وقيل : بل أراد المستقبل لقوله : { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } .
وإنما قال : { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } ، لأنها مثبتة في علم الله - تعالى - وفي اللوح المحفوظ ، فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة . وقال أبو مسلم : هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه قال بعد وصفهم : { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون « وَلَدَيْنَا كِتَابٌ » يحفظ أعمالهم « يَنْطِقُ بالحَقِّ » « فَلاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ في غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا » هو أيضاً وصفٌ لهم بالحيرة كأنه قال : وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أن أعمالهم مقبولة أو مردودة { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك } أي : لهم أيضاً من النوافل ووجوه البرِّ سِوَى ما هم عليه إمَّا أعمالاً قد عملوها في الماضي ، أو سيعملوها في المستقبل ، ثم إنه تعالى رجع بقوله : { حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ } إلى وصف الكفار وهذا قول قتادة .
قال ابن الخطيب : وقول أبي مسلم أولى ، لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به كان أولى من ردّه إلى ما بعد خصوصاً ، وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أنّ أعمالهم محفوظة ، كما يحذر بذلك من الشر ، وقد يُوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ، ويراد أنّه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو ردِّه ، وفي أنه هل أدَّى عمله كما يجب أو قصّر؟
فإن قيل : فما المراد بقوله : « مِنْ هَذَا » وهو إشارة إلى ماذا؟
قلنا : إشارة إلى إشفاقهم ووجهلم بيَّن أنهما مستوليان على قلوبهم .
قوله : { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } كقوله : { هُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [ المؤمنون : 61 ] .
قوله : { حتى إِذَآ } « حَتَّى » هذه إمّا حرف ابتداء والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها ، وإذا الثانية فجائية ، وهي جواب الشرط ، وإمّا حرف جر عند بعضهم ، وتقدّم تحقيقه . وقال الحوفي : « حَتَّى » غاية ، وهي عاطفة ، و « إذَا » ظرف مضاف لما بعده فيه معنى الشرط ، و « إذَا » الثانية في موضع جواب الأولى ، ومعنى الكلام عامل في « إذَا » ، والمعنى : جأروا ، والعامل في الثانية « أَخَذْنَا » . وهو كلام لا يظهر .
وقال ابن عطية : و « حَتَّى » حرف ابتداء لا غير ، و « إذا » الثانية - ( التي هي جواب ) - تمنعان من أن تكون « حَتَّى » غاية ل « عَامِلُونَ » . قال شهاب الدين : يعني أنّ الجملة الشرطية وجوابها لا يظهر ان تكون غاية ل « عَامِلُونَ » .
وظاهر كلام مكّي أنها غاية ل « عَامِلُونَ » ، فإنه قال : أي : لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البرّ { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم إذا هم يضجون والجُؤار : الصراخ مطلقاً ، وأنشد الجوهري :

3803- يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِي ... ك طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤَارَا
وتقدّم مستوفى في النحل .
فصل
قال المزمخشري : « حَتَّى » هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام الجملة الشرطية .
واعلم أن الضمير في « مُتْرفِيهِم » راجع إلى من تقدّم ذكره من الكفار ، لأنّ العذاب لا يليق إلا بهم . والمراد بالمُترفين : رؤساؤهم . قال ابن عباس : هو السيف يوم بدر .
وقال الضحاك : يعني الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « اللهُّم اشْدُدْ وَطْأَتَك على مُضَر واجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِني يُوسُف » فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجِيفَ . وقيل : أراد عذاب الآخرة . ثم بيّن تعالى أنّهم إذا نزل بهم هذا « يَجْأَرُونَ » أي : ترتفع أصواتهم بالاستغاثة والضجيج لشدة مَا نَالَهُم .
ويقال لهم على وجه التبكيت : { لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } .
لا تُمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم .

قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)

قوله تعالى : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ } يعني القرآن { فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ } وهذا مثل يُضرب لمن يتباعد عن الحق كل التباعد فهو قوله : { فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ } أي : ترجعون قهقرى وتتأخرون عن الإيمان ، وينفرون عن تلك الآيات ، وعن من يتلوها كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إلى ورائه .
قوله : « عَلَى أَعْقَابِكُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب « تَنْكِصُونَ » كقولك نكص على عقبيه .
والثاني : أنه متعلق بمحذوف ، لأنه حال من فاعل ( تنْكِصُونَ ) قاله أبو البقاء وقرأ أمير المؤمنين « تَنْكُصُونَ » بضم العين ، وهي لغة .
قوله : « مُسْتَكْبِرِينَ » حال من فاعل « تَنْكِصُونَ » ، و « بِهِ » فيه قولان :
أحدهما : أنه متعلق ب « مُسْتَكْبِرِينَ » .
والثاني : أنه متعلق ب « سَامِراً » .
وعلى الأوَّل فالضمير للقرآن ، لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت باللّيل يسمرون ، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن ، وتسميته سحراً وشعراً . أو للبيت شرّفه الله - تعالى - كانوا يقولون : لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم ، كانوا يفتخرون به ، لأنهم ولاته ، والقائمون به . قاله ابن عباس ومجاهد . وقيل الضمير في « بِهِ » للرسول - عليه السلام - . أو للنكوص المدلول عليه ب « تَنْكِصُونَ » كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] . والباء في هذا كله للسببية ، لأنهم استكبروا بسبب القرآن لما تلي عليهم وبسبب البيت لأنهم كانوا يقولون نحن ولاته ، وبالرسول لأنهم كانوا يقولون هو منا دون غيرنا وبالنكوص لأنه سبب الاستكبار . وقيل : ضُمّن الاستكبار معنى التكذيب فلذلك عدي بالباء ، وهذا يتأتى على أن يكون الضمير للقرآن وللرسول .
وأمّا على الثاني وهو تعلقه ب « سَامِراً » فيجوز أن يكون الضمير عائداً على ما عاد عليه فيما تقدّم إلا النكوص ، لأنهم كانوا يسمرون بالقرآن وبالرسول يجعلونهما حديثاً لهم يخوضون في ذلك كما يسمر بالأحاديث وكانوا يسمرون في البيت فالباء ظرفية على هذا و « سَامِراً » نصب على الحال إمّا من فاعل « تَنْكِصُونَ » وإمّا من الضمير في ( مُسْتَكْبِرِينَ ) .
وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة ويروى عن أبي عمرو : « سُمّراً » كذلك إلا أنه بزيادة ألف بين الميم والراء ، وكِلاَهُمَا جمع لِسَامِر ، وهما جمعان مقيسان لفاعل الصفة نحو ضُرَّب وضُرَّاب في ضَارِب ، والأفصح الإفراد ، لأنه يقع على ما فوق الواحد بلفظ الإفراد يقال : قَوْمٌ سَامِر ونظيره : « نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً » .
والسامِر مأخوذ من السَّمر ، وهو سَهَر الليل أو مأخوذ من السَّمَر : وهو ما يقع على الشجر من ضوء القمر ، فيجلسون إليه يتحدثون مستأنسين به قال :
3804- كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ ولَمْ يَسْمُرْ بِمَكةَ سَامِرُ

وقال الراغب : السَّامِر : الليل المظلم يقال : وَلاَ آتِيكَ ما سَمَرَ ابْنَا سَمِيرٍ يعنون الليل والنهار . وقال الراغب : ويقال : سَامِرٌ ، وسُمَّارٌ ، وسَمَرَةٌ ، وسَامِرُونَ . وسَمَرْتُ الشيءَ ، وإبل مُسْمَرَةٌ ، أي : مُهْمَلَةٌ ، والسَّامِريُ : منسوب إلى رجل انتهى .
والسُّمْرَةُ أحج الألوان ، والسَّمْرَاء يكنى بها عن الحِنْطَة .
قوله : « تَهْجُرُونَ » قرأ العامة بفتح التاء وضم الجيم ، وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أنها من الهَجْر بسكون الجيم ، وهو القطع والصدّ . أي تهجرون آيات الله ورسوله ، وتزهدون فيهما فلا تصلونهما .
والثاني : أنها من الهَجَر - بفتحها - وهو الهذيان ، يقال : هَجَر المريض هَجَراً أي : هذى فلا مفعول له . ونافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم من أَهْجَر إهْجاراً ، أي : أفحش في منطقه قال ابن عباس : يعني كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقرأ زيد بن علي ، وابن محيصن ، وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشددة مضارع هَجّر بالتشديد ، وهو محتمل لأن يكون تضعيفاً للهَجَر أو للهَجْر ( أو للهُجْر ) وقرأ ابن أبي عاصم كالعامة إلا أنه بالياء من تحت ، وهو التفات .
قوله : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول } أي : يتدبروا القول ، يعني ما جاءهم من القول وهو القرآن من حيث إنه كان مبايناً لكلام العرب في الفصاحة ، ومبرأ من التناقض مع طوله ، فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة الصانع ، والوحدانية ، فيتركوا الباطل ، ويرجعوا إلى الحق { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين } واعلم أنّ إقدامهم على كفرهم وجهلهم لا بُدّ وأن يكون لأحد أمور أربعة :
الأول : أن لا يتأملوا دليل ثبوته ، وهو المراد من قوله : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول } وهو القرآن يعني : أنه كان معروفاً لهم .
والثاني : أن يعتقدوا أن مجيء الرسول على خلاف العادة ، وهو المراد من قوله : { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ } وذلك أنهم عرفوا بالتواتر مجيء الرسول إلى الأمم السالفة ، وكانت الأمم بين مُصدّقٍ ناجٍ وبين مكذّبٍ هالك ، أفَمَا دعاهم ذلك إلى تصديق الرسل .
وقال بعضهم : « أَمْ » هاهنا بمعنى « بَلْ » والمعنى بل جاءهم ما لم يأت آباءهم .
والثالث : أن لا يكونوا عالمين بديانته ، وحسن خصاله قبله ادعائه النبوة ، وهو المراد من قوله : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } والمعنى : أنهم كانوا يعرفونه قبل أن يدعي الرسالة ، وكونه في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار عن الكذب والأخلاق الذميمة ، وكانوا يسمونه الأمين ، فكيف كذبوه بعد أن اتفقتْ كلمتهم على تسميته بالأمين .
والرابع : أن يعتقدوا فيه الجنون ، فيقولوا إنّما حمله على ادعاء الرسالة جنونه ، وهو المراد بقوله { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } . وهذا أيضاً ظاهر الفساد ، لأنّهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه أعقل الناس ، فالمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به من الدلائل القاطعة ، والشرائع الكاملة .

وفي كونهم سمّوه بذلك وجهان :
أحدهما : أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له ، وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم ، فنسبوه إلى الجنون لذلك .
والثاني : أنهم قالوا ذلك إيهاماً لعوامهم لئلاّ ينقادوا له ، فذكروا ذلك استحقاراً له .
ثم إنه - تعالى - بعد أن عدّ هذه الوجوه ، ونبّه على فسادها قال : { بَلْ جَآءَهُمْ بالحق } أي : بالصدق والقول الذي لا يخفى صحته على عاقل { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } لأنهم تمسكوا بالتقليد ، وعلموا أنّهم لو أقرُّوا بمحمدٍ لزالت رياستهم ومناصبهم ، فلذلك كرهوه .
فإن قيل قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } يدلُّ على أنّ أقلّهم لا يكرهون الحق .
فالجواب : أنه كان منهم من ترك الإيمان أنفَةً من توبيخ قومه ، وأن يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق .
قوله : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ } الجمهور على كسر الواو لالتقاء الساكنين وابن وثّاب بضمها تشبيهاً بواو الضمير كما كُسرتْ واو الضمير تشبيهاً بها .
فصل
قال ابن جريج ومقاتل والسّدّيّ وجماعة : الحق هو الله . أي : لو اتبع الله مرادهم فيما يفعل وقيل : لو اتبع مرادهم ، فيسمّي لنفسه شريكاً وولداً كما يقولون { لَفَسَدَتِ السماوات والأرض } .
وقال الفراء والزجاج : المراد بالحق : القرآن . أي : نزل القرآن بما يحبون من جعل الشريك والولد على ما يعتقدون { لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ } وهو كقوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] .
قوله : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } العامة على إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه ، والمراد أتتهم رسلنا . وقرأ أبو عمرو في رواية « آتَيْنَاهُمْ » بالمد أي أعطيناهم ، فيحتمل أن يكون المفعول الثاني غير مذكور ، ويحتمل أن يكون « بِذِكْرِهِمْ » والباء مزيدة فيه وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو عمرو أيضاً « أَتَيْتهمْ » بتاء المتكلم وحده . وأبو البرهثم وأبو حيوة والجحدري وأبو رجاء « أَتَيْتَهُمْ » بتاء الخطاب ، وهو الرسول - عليه السلام - .
وعيسى : « بِذِكْرَاهُم » بألف التأنيث . وقتادة « نُذَكِّرهُمْ » بنون المتكلم المعظم نفسه مكان باء الجر مضارع ( ذَكَّر ) المشدد ، ويكون ( نُذكرُهُمْ ) جملة حالية .
وتقدم الكلام في « خَرْجاً » و « خَرَاجاً » في : الكهف .
فصل
قال ابن عباس : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } بما فيه فخرهم وشرفهم . يعني : القرآن ، فهو كقوله : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] أي : شرفكم ، { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] أي : شرف لك ولقومك { فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ } شرفهم « معرِضون » .
وقيل : الذكر هو الوعظ والتذكير التحذير . « أَمْ تَسْأَلُهُمْ » على ما جئتم به « خَرْجاً » أجراً وجعلاً { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير { وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } وتقدم الكلام على نظيره .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75