كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

وقرأ ابن مُحَيْصِن هنا وفي جميع القُرْآن « يَا قَوْمُ » مضموم الميم .
وتروى قراءة عن ابن كثيرٍ [ ووَجْهُهَا أنَّها ] لُغَةٌ في المُنَادى المضاف إلى يَاءِ المُتَكَلِّم كَقِرَاءة { [ قَالَ ] رَبِّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] ، وقد تقدَّمَت هذه [ المسألة ] .
وقرأ ابن السمَيْفع : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا } بفتح الياء ، ورُوِيَ أنَّ إبراهيم - عليه السلام - لما صعد [ جَبَل لبنان ] ، فقال اللَّهُ تعالى له : « انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس ، وهو ميراث لذريتك » .
والأرضُ المقدَّسَةُ هي الأرْضُ المطهَّرَةُ من الآفات؛ لأنَّ التَّقْدِيس هُو التَّطْهِيرُ ، وقال المُفَسِّرُون طهِّرَت من الشِّرك ، وجُعِلَت مَسْكَناً وقَرَاراً للأنْبِيَاء ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ تلك الأرْض لما أمَرهُمْ مُوسى بِدُخُولها ما كانَتْ مقدَّسة عن الشِّرْك ، وما كَانَتْ مَقرًّا للأنْبيَاء ، وقد يُجَابُ عَنْهُ بأنَّها كَانَتْ كذلك فيما قَبْل .
واختلفُوا في تلك الأرْض ، فقال عِكْرِمَةُ ، والسديُّ ، وابنُ زَيْد : هي أريحا .
وقال الكَلْبِيُّ : هي دمشق وفلسْطِين وبعض الأرْدُن ، وقال الضَّحَّاك : هي إيليَا وبَيْتُ المَقْدِسِ ، وقال مُجَاهِد : هي الطُّور وما حَوْلَه . وقال قتادةُ : هي الشَّامُ كُلُّها . وقال كَعْبٌ : وجَدْتُ في كتاب اللَّه المُنَزَّل [ أنَّ الشَّام ] كَنْزُ الله من أرْضِه ، وبِها كَثْرَةٌ من عِبَادِه .
وقوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني : في اللَّوْح المَحْفُوظِ أنَّها لكم مَسَاكِن .
وقال ابن إسحاق : وهب اللَّهُ لكم ، وقيل : جعلها لكم [ قال السديّ : أمَرَكُم الله بِدُخُولها ] .
فإن قيل : لم قال { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } ، ثم قال { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } [ المائدة : 26 ] .
فالجوابُ : قال ابنُ عبَّاس : كانت هِبَةً ثُمَّ حرَّمها عليهم بشُؤم تَمَرُّدِهِم وعِصْيَانِهم ، وقيل : اللَّفْظ وإن كان عامًّا لكنَّ المرادُ به الخُصُوصُ ، فكَأَنَّها كُتِبَتْ لِبَعْضِهِم ، وَحُرِّمَتْ على بَعْضِهِم .
وقيل : إنَّ الوَعْد بقوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } مشروطٌ بقَيْد الطَّاعة ، فلما لم يُوجَد الشَّرْط لم يُوجَد المَشْرُوط .
وقيل : إنَّها مُحَرَّمةٌ عليهم أرْبَعِين سَنَة ، فلما مَضَى الأرْبَعُون حصل ما كتَبَ .
وفي قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فَائِدَة ، وهي أنَّ القوم وإن كانُوا جبَّارِين ، إلاَّ أنَّ الله تعالى لمَّا وعد هؤلاءِ الضُّعَفَاء بأنَّ تلك الأرْضَ لهم ، فإن كانوا مُؤمنين مُقَرَّبين بصدْق الأنْبِيَاء ، عَلِمُوا قَطْعاً أنَّ اللَّه يَنْصُرهم عليهم ، فلا بُدَّ وأن يَعْزِمُوا على قتالهم من غير خَوْفٍ ولا جُبْن .
قوله : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ } فالجار والمجرور [ حال من فاعل « تَرتَدوا » أي : لا ترتدوا مُنقلبين ، ويجُوزُ أن ] يتعلَّق بِنَفْسِ الفَعْل قَبْلَهُ .
وقوله : « فَتَنْقَلِبُوا » فيه وجهان :
أظهرُهُمَا : أنَّهُ مَجْزُومٌ عَطْفاً على فِعْل النَّهْي .
والثاني : أنَّهُ منصُوبٌ بإضْمَار « أنْ » بعد الفَاءِ في جواب النَّهي .
و « خَاسِرِين » حالٌ .
وفي المَعْنَى وجهان :
أحدهما : لا يَرْجِعُوا عن الدِّين الصَّحيح في نُبُوَّة مُوسَى؛ لأنَّهُ - عليه السلام - لما أخْبَرَ اللَّه تعالى جعل تِلْكَ الأرْضَ لَهُم ، [ أو ] كان هذا وعْداً بأنَّ الله يَنْصُرهم عليهم ، فلو لَمْ يقْطعُوا بِهَذِه النُّصْرَة ، صارُوا شاكِّين في صِدْق مُوسى - عليه الصلاة والسلام - فيصيروا كافرين بالنُّبُوَّة والإلهِيَّة .

والثاني : لا ترجِعُوا عن الأرْضِ التي أمرتُم بِدُخُولِها إلى الأرْض الَّتِي خَرَجْتُم عنها ، يُرْوَى أنَّهُم عَزَمُوا على الرُّجُوعِ إلى مِصْر .
وقوله : « فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين » أي : في الآخِرَة يَفوتُكُم الثَّواب ويَلْحَقُكُم العِقَابُ .
وقيل : تَرْجِعُون إلى الذِّلَّة ، وقيل : تُمَزَّقُون في التِّيه ، ولا تَصِلُون إلى شَيْءٍ من مَطَالبِ الدُّنْيَا ومَنَافِع الآخِرَة .
قوله : { قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } والجبَّارُ : فعَّالٌ من جَبرهُ على الأمْرِ ، بمعنى : أجْبَرهُ عليه ، وهو الذي يُجْبِرُ النَّاس على ما يُرِيدُ ، وهذا اخْتِيَارُ الفَرَّاء والزَّجَّاج .
قال الفرَّاء : لا أسْمَع فعَّالاً من أفعل إلاَّ في حَرْفَيْن وهما : جَبَّارٌ من أجْبَر ، ودَرّاك من أدْرَكَ .
وقيل : مأخوذٌ من قَولِهِم : نَخْلةٌ جَبَّارَةٌ ، إذا كانت طَويلَةً مُرْتَفِعَةً لا تَصِلُ الأيْدِي إلَيْها ، ويُقَال : رَجُلٌ جَبَّارٌ ، إذا كان طَوِيلاً عَظِيماً قويّاً تَشْبِيهاً بالجبَّار مِن النَّخْلِ ، والقَوْمُ كانوا في غَايَةِ القُوَّة وعِظَمِ الإجْسَامِ ، بِحَيْثُ ما كَانَتْ أيْدِي قوم مُوسَى تَصِلُ إليهم ، فَسَموهم جَبَّارِين لِهذَا المَعْنى .
فصل
قال المُفَسِّرُون : لما خَرَجَ مُوسَى من مِصْر ، وعدَهُم الله - تعالى - إسكان أرْضِ الشَّام ، وكان بَنُوا إسرائِيل يُسَمُّون أرْضَ الشَّام أرْضَ المَوَاعِيد ، ثم بَعَثَ مُوسى - عليه السلام - اثْنَي عَشَر نَقِيباً من الأنبياء ، يَتَجسَّسُون لَهُمْ أحْوَال تلك الأرَاضي .
فلمَّا دَخَلُوا تلك الأمَاكِن رَأوْا أجْساماً عَظِيمَة ، قال المُفَسِّرُون : فأخذَهُم أحَدُ أولئك الجبَّارِين ، وجَعَلَهُم في كُمّهِ مع فَاكِهَةٍ كان قد حَمَلَها من بُسْتَانِه ، وأتى بهم المَلِك فَنَثَرَهُم بين يديه ، وقال مُتَعجباً للملك : هؤلاء يُرِيدُون قِتالَنا ، فقال المَلِكُ : ارْجِعُوا إلى صاحِبِكُم ، وأخْبِرُوه بما شَاهَدْتُم .
قال ابْنُ كَثِير : وهذه هذياناتٌ من وضْعِ جُهَّالِ بني إسائيل ، ولو كان هذا صَحِيحاً لكَان بَنُوا إسرائيل معذُورين في امْتِنَاعِهِم عن القتال ، وقد ذَمَّهُمُ اللَّهُ تعالى على مُخَالَفَتِهِم وتَرْكِ جِهَادِهِم ، وعَاقَبَهُم بالتِّيهِ ، ثمَّ انْصَرَف أولَئِكَ النُّقَبَاءُ إلى مُوسَى وأخْبَرُوه بالوَاقِعَة ، وأمَرَهُم أنْ يَكْتُمُوا ما شَاهَدُوهُ ، فلم يَقْبَلُوا قوله إلا رَجُلان مِنْهُم ، وهم : يُوشَعُ ابن نُون ، وكَالِب بن يُوقنا فإنهما سَهَّلا الأمْر ، وقالا : هي بلادٌ طَيِّبَةٌ كثيرة النعم والأقوام ، وإن كانت أجْسَامُهُم عَظِيمَة ، إلاَّ أنَّ قلوبَهُم ضَعِيفَةٌ .
وأما العَشْرُة البَاقِية فإنَّهم أوْقَعُوا الجُبْن في قُلُوب النَّاسِ حتَّى أظْهَرُوا الامْتِنَاع من غَزْوِهِم ، وقالُوا لِمُوسَى : { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا ، فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ، فدَعا عَلَيْهم مُوسَى ، فعاقَبَهُم الله تعالى بأن أبْقَاهُم في التِّيهِ أرْبَعِين سنة .
وقالوا : وكَانَتْ مُدَّة غَيْبَة النُّقَبَاءِ المُتَجَسِّسِين أرْبعين يَوْماً ، فعُوقِبُوا بالتِّيهِ أرْبَعِين سنة .
قالوا : ومَاتَ أولَئِك العُصَاةُ بالتِّيهِ ، وأهْلِكَ النُّقَبَاءُ العَشْرَة في التِّيهِ بعُقُوبَةٍ غَلِيظَةٍ ، وقال بَعْضُهُم : إنَّ مُوسَى وهَارُون مَاتَا - أيضاً - في التِّيهِ .

وقال آخرون : إنَّ مُوسَى بَقِي ، وخرج مَعَهُ يُوشَعُ بن نُون وكَالِب ، وقاتَلَ الجبَّارِين وغَلَبَهُم ، ودَخَلُوا تلك البِلاَد .
ورُويَ أنَّهُ لم يَخْرُجْ من التِّيه [ أحدٌ ] ممن دَخَلهُ ، [ بل ] ماتوا كُلُّهُم في مُدَّةِ أربعين سنة ، ولَمْ يَبْقَ إلا ذَرَارِيهم يُوشعُ بن نُون وكالِب - عليهما الصلاة والسلام - .
قال المُفَسِّرُون : إنَّ بَني إسْرَائيل دَخَلُوا البريَّة عند سيناء في الشَّهْرِ الثالث من خُرُوجهم من « مِصْر » ، وكان خُرُوجُهُمْ في أوَّلِ السَّنَة التي شُرِعَت لَهُمْ ، وَهِيَ أوَّل فَصْلِ الرَّبيع ، فكأنَّهُم دَخَلُوا التِّيهَ في أوَّل فَصْلِ الصَّيْف .
قوله تعالى : { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } .
قالُوا هذا القول على سبيل الاسْتِبْعَاد ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط } [ الأعراف : 40 ] .
وقوله : « فإنَّا دَاخِلُون » أي : فإنَّا دَاخِلُون الأرْضَ ، فحذف المَفْعولَ لِلدلالَةِ عَلَيْه .
قوله : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ } هذا الجارُّ والمَجْرُور في محلِّ رَفْع صَفَةٍ ل « رَجُلاَن » ، ومَفْعُول « يَخَافُونَ » محذوفٌ تَقْدِيرُهُ : « يَخَافُون الله » ، أو يخافُون العَدُوّ [ ولكن ثَبَّتَهُمَا اللَّهُ تعالى ] بالإيمَان والثِّقَةِ به ، حتى قَالُوا هَذِه المَقَالة ، ويُؤيِّد التَّقْدير الأوَّل التَّصْرِيح بالمَفْعُول في قِرَاءة ابْن مَسْعُود « يَخَافُون اللَّه » ، وهذان [ التَّأوِيلاَن ] بِنَاء على ما هُوَ المَشْهُور عِنْد الجُمْهُور ، من كَوْنِ الرَّجُلَين القَائِلَيْن ذلك من قَوْمِ موسى ، وهما : يُوشَعُ بن نُون بن أفرائيم بن يُوسُف فتى مُوسَى ، والآخَر : كَالِب بن يوفنا خَتَنُ مُوسَى على أخْتِه مَرْيَم بِنْت عِمْران ، وكان من سِبْط يَهُوذَا .
وقيل : الرَّجُلان من الجَبَّارين ، ولكن أنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِما بالإيمَانِ حَتَّى قَالاَ هذه المقَالَة يُحَرِّضُونَهُم على قَوْمِهِم لِمُعَادَاتِهِم لهم في الدِّينِ وعلى هذا القَوْل فَيُحْتَمَل أن يكون المَفْعُولُ « يَخَافُون » كما تقدَّم ، أي : يَخَافُون اللَّه أو العَدو ، والمعنى كما تقدَّم ويُحْتَمَل أنَّ في المَفْعُول ضَمِيراً عَائِداً على المَوْصُولِ ، ويكون الضَّمِير المَرْفُوع في « يَخَافُون » ضَمِير بَنِي إسْرَائيل ، فالتَّقْدير : [ من ] الَّذِين يَخَافُهُمْ بُنُوا إسْرَائِيل .
وأيَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هذا التَّأوِيل بِقرَاءة مَنْ قرأ « يُخافون » مَبْنِيًّا للمَفْعُول [ وبِقَوْلِه أيْضاً ] { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } ، فإنَّه قال : « وقراءة مَنْ قَرأ » يُخَافُون « بالضَّمِّ شاهدة له ، ولذلك أنْعَم الله عَلَيْهِما ، كأنَّه قيل : من المُخَوفين » انتهى .
والقِرَاءةُ المَذْكُورة مَرْوِيَّة عن ابْن عبَّاسٍ ، وابن جُبَيْر ، ومُجاهد ، وأبدى الزَّمَخْشَرِي - أيضاً - في هذه القِرَاءة احْتِمَالاً آخَر ، وهو أن تكُون من الإضَافَةِ ومعناه : من الَّذين يَخُوَّفُون من اللَّه بالتَّذْكِرة والمَوْعِظَة ، أو يُخَوِّفهم وَعِيد الله بالعقَابِ .
وتَحْتَمِلُ القِرَاءةُ - أيضاً - وجْهاً آخَر ، وهو : أن يكُون المَعْنَى : يُخَافون ، أي : يُهَابُون [ ويُوَقَّرُون ، ويُرْجَعُ ] إليهم لِفَضْلِهِم وخَيْرِهِم .
ومع هَذَيْن الاحْتِمَالين الأخِيرَيْن ، فلا تَرْجِيحَ في هذه القراءة لِكَون الرَّجُلَيْن من الجبَّارين [ أما قوله كذلك : { أنعم الله عليهما } ، أي : في كونه مرجّحاً أيضاً لكونهما من الجبارين ] فَغَيْرُ ظاهر ، لكون هذه الصِّفَة مُشْتَرَكَة بَيْن يُوشَع وكالب ، وبين غيرهما مِمَّن أنْعَمَ اللَّهُ عليه .

قوله : { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } في هذه الجُمْلَة خَمْسَة أوجُه :
أظهرها : أنَّها صِفةٌ ثانية فمحَلُّها الرَّفْع ، وجيءَ هنا بِأفْصَحِ الاسْتِعْمَالَيْنِ من كونه قدَّمَ الوَصْفَ بالجَارِّ على الوَصْفِ بالجُمْلَةِ لِقُرْبِهِ من المُفْرَد .
والثاني : أنها مُعْتَرَضَةٌ وهو - أيضاً - ظَاهِر .
الثالث : أنَّهَا حالٌ من الضَّمِير في « يَخَافُون » قال مَكِّي .
الرابع : أنَّها حالٌ من « رَجُلانِ » ، وجاءت الحالُ من النَّكِرَة ، لأنَّها تخصّصت بالوَصْف .
الخامس : أنَّها حال من الضَّمِير المُسْتَتِر في الجَارِّ والمَجْرُور ، وهو « مِن الَّذِين » لوُقُوعِهِ صِفَةً لموصُوف ، وإذا جَعَلْتَها حَالاً فلا بُدَّ من إضمار « قَدْ » مع المَاضِي ، على خلافٍ سلف [ في المسألة ] .
فصل
قوله : { ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب } مُبَالغةٌ في الوَعْدِ بالنَّصْر والظفر؛ كأنَّه قيل : مَتَى دَخَلْتُم باب بَلَدِهِم انْهَزَمُوا ، ولَمْ يَبْق منهم أحَدٌ ، وإنَّما جَزَمَ هذان الرَّجُلان في قولهما : { فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } ؛ لأنَّهما كان عَارِفَيْن صِدْق مُوسى - عليه السلام - ، فلمَّا أخْبَرَهُم مُوسَى بأنَّ الله قال : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [ فقد تبيّن أنَّهُ أوْعَدَهُم ] بأنَّ النُّصْرَة والغَلَبَةَ لَهُمْ ، ولِذَلك خَتَمُوا كلامَهُم بقولهم : { وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، يعني : توكَّلُوا على اللَّه تعالى في حُصُول هذا النصر لكم إن كُنْتُم مُؤمنين بوجود الإله القَادِرِ ، ومُؤمِنِين بِنُبُوَّةِ مُوسَى - عليه السلام - .
قوله : { قَالُواْ : ياموسى ، إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا } [ « ما » ] مصْدَريَّة ظرفية و « دَامُوا » صِلَتُهَا ، وهي « دَامَ » النَّاقصة ، وخبرها الجارُّ بعدها ، وهذا الظَّرْفُ بَدَلٌ من « أبداً » وهُوَ بَدَلُ بَعْض من كُلّ؛ لأنَّ الأبَدَ يعمُّ الزَّمَن المُسْتَقْبَل كله ، ودوام [ الجَبَّارين ] فيها بَعْضه ، وظَاهِرُ عِبَارَة الزَّمَخْشَرِيِّ يُحْتَمَلُ أن يكُون بَدَلُ [ كُلٍّ ] من كُلٍّ أو عَطْف بَيَان ، والعَطْفُ قد يَقَعُ بَيْن النَّكِرَتَيْن على كلام فيه تقدَّم .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « وأبَداً » تعليق للنَّفْي المُؤكَّد بالدَّهْر المُتَطَاولِ ، { مَّا دَامُواْ فِيهَا } : [ بيانُ الأمْر ] ، فهذه العَبَارَةُ تَحْتَملُ أنَّهُ بَدَلُ بَعْضٍ من كُلٍّ ، لأنَّ بَدَل البَعْضِ من الكُلِّ مُبَيِّنٌ للمُرَاد ، نحو : « أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ » ، ويحتَملُ أن يكُون بَدَلَ كُلٍّ من كُلٍّ ، فإنَّه بيانٌ أيضاً للأوَّل ، وإيضَاحٌ له ، نحو : رَأيْتُ زَيْداً أخَاك ، ويحتمل أن يكُون عَطْفَ بَيَانٍ .
قوله : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ } [ في « وَرَبُّكَ » ] أرْبَعَةُ أوجه :
أحدها : أنَّه مرفوع عَطْفاً على الفاعِل المُسْتَتِر في « اذْهَبْ » ، وجازَ ذلِك للتَّأكِيد بالضَّمِير .
الثاني : أنَّه مَرفوع بِفَعْل مَحْذُوف ، أي : ولْيَذْهَبْ رَبُّكَ ، ويكون من عَطْفِ الجُمَل ، وقد تقدَّم [ لي نَقْلُ ] هذا القَوْل والرَّدُّ عليه ، ومُخَالَفَتُهُ لنَصِّ سِيبَويْه عند قَوْلِهِ تعالى :

{ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } [ البقرة : 35 ] .
الثالث : أنَّهُ مُبْتَدأ ، والخبَرُ محذُوفٌ ، و « الواوُ » لِلْحَال .
الرابع : أنَّ « الواوَ » لِلْعَطْفِ ، وما بَعْدَها مُبْتَدَأ محذوفٌ والخَبَرُ - أيضاً - ولا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة من الإعْرَاب لِكَوْنِها دُعَاءً ، والتَّقْدِير : وَرَبُّكَ يُعِينُكَ .
قوله : { هَاهُنَا قَاعِدُونَ } « هُنَا » وَحْدَه الظَّرْفُ المَكَانِي الَّذِي لا يَنْصَرِفُ إلا بِجَرِّه؛ ب « مِنْ » و « إلَى » ، و « هَا » قَبْلَهُ للتَّنْبِيه كسَائِرِ أسْمَاء [ الإشارة ] وعامله « قَاعِدُون » ، وقد أجيز أن يكُون خَبَر [ « إنَّ » ] و « قاعدُون » خَبر ثانٍ ، [ وهُو بَعِيدٌ ] .
وفي غير القُرْآن إذا اجْتَمَع ظَرْفٌ يَصِحُّ الإخْبَارُ بِهِ مع وَصْفٍ آخَر ، ويَجُوزُ أن يُجْعَل الظَّرْفُ خَبَراً ، والوَصْفُ حالاً ، وأن يَكُون الخَبَرُ الوَصْفَ ، والظَّرْف مَنْصُوبٌ به كَهَذِه الآية .
فصل
قولهم : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ } فيه وُجُوهٌ :
أحدُهَا : لعلَّ القَوْم كانُوا مُجَسِّمَةً ، يجوِّزُون الذَّهَاب والمَجِيءَ على الله تعالى .
وثانيها : يُحْتَمَلُ ألاَّ يَكُون المُرَادُ حَقِيقَة الذهَاب ، بَلْ كَما يُقَالُ : كَلَّمْته فذهَبَ يُجِيبُنِي ، أي : يُريدُ أن يُجِيبَنِي ، فكأنَّهُم قالوا : كُن أنْتَ وَربُّكَ مُريدين لقتَالِهِمْ .
ثالثها : التَّقْدِير اذْهَبْ أنْتَ وَربُّكَ مُعِينٌ لَكَ بِزَعْمِكَ فأضْمَر خَبَر الابْتِدَاء .
فإن قيل : إذَا أضْمَرنا الخَبَرَ فَكَيْفَ يَجْعَل قوله : « فَقَاتِلا » خبراً أيضاً .
فالجَوَابُ : لا يَمْتَنِعُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَر .
رابعها : أرَادَ بقوله : « وَرَبُّكَ » أخُوه هَارُون ، وسمُّوه [ ربًّا ] لأنَّهُ كان أكبر من مُوسَى .
قال المُفَسِّرُون : قولهم : { اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ } ، إن قَالُوهُ على وَجْهِ الذهَاب من مَكَانٍ إلى مَكَانٍ فهو كُفْرٌ ، وإن قَالُوهُ على وَجْهِ التَّمَرُّدِ عن الطَّاعَةِ فهو فِسْقٌ ، ولقَدْ فَسَقُوا بهذَا الكلامِ لقوله تعالى في هذه القصة : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } [ المائدة : 26 ] .
والمقْصُودُ من هذه القِصَّة : شَرْحُ حال هؤلاءِ اليَهُودِ ، وشِدَّة بُغْضِهِم [ وَغُلُّوهِمِ ] في المَنَازَعَةِ مع الأنْبِيَاءِ قَدِيماً ، ثُمَّ إنَّ مُوسى - عليه السلام - لمَّا سَمِع مِنْهُم هذا الكلام قال : { رَبِّ إِنِّي لاا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي } في إعْرَاب « أخي » سِتَّةُ أوْجُه :
أظهرها : أنَّهُ مَنْصُوبٌ عَطْفاً على « نَفْسِي » ، والمعنى : لا أمْلِكُ إلاَّ أخِي مع مِلْكِي لِنَفْسي دُونَ غَيْرنَا .
الثاني : أنَّّهُ مَنْصُوبٌ عَطْفاً على اسْمِ « إنَّ » ، وخَبَرُهَا محذوفٌ للدَّلالة اللَّفْظِيَّة عَلَيْه ، أي : وإنَّ أخِي لا يَمْلِكُ إلا نَفْسَه .
الثالث : أنَّهُ مرفوع عَطْفاً على مَحَلِّ اسم « إنَّ » ؛ لأنَّه يُعَدُّ استكمال الخَبر على خلافٍ في ذَلِك ، وإن كان بَعْضُهم قد ادَّعى الإجْمَاعَ على جَوَازه .
الرابع : أنَّهُ مَرْفُوع بالابْتِدَاء ، وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ للدَّلالة المتقدِّمَة ، ويكون قد عَطفَ جُمْلَة غَيْرَ مُؤكَّدَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ مُؤكَّدَة [ ب « إنَّ » ] .
الخامس : أنَّه مَرْفُوعٌ عَطْفاً على الضَّمير المُستكِنِّ في « أمْلك » ، والتَّقْدير : ولا يَملِكُ أخي إلا نَفْسَه ، [ وجاز ذلك لِلْفَصْل بقوله : « إلاَّ نَفْسِي » ] وقال بهذا الزَّمَخْشَرِيُّ ، ومَكِّي ، وابنُ عطيَّة ، وأبُو البقاء ورَدّ أبُو حَيَّان هذا الوَجْهَ ، بأنَّه يلزم منه أنَّ مُوسَى وهَارُون لا يَمْلِكَان إلاَّ نَفْسَ مُوسَى فَقَطْ [ وَلَيْس المَعْنَى على ذَلِك ] ، وهذا الرَّدُّ لَيْس بِشَيْءٍ؛ لأنَّ القائِل بهذا الوَجْهِ صَرَّح بِتَقْديرِ المفعول بَعْد الفاعِلِ المَعْطُوف .

وأيضاً اللَّبْسُ مأمُونٌ ، فإن كلَّ أحِدٍ يَتَبادَرُ إلى ذِهْنِهِ أنَّهُ يَمْلِكُ أمْرَ نَفْسِهِ .
السادس : أنَّه مَجْرُورٌ عطفاً على « اليَاء » في « نَفْسِي » ، أي : إلاَّ نَفْسِي ونَفْس أخِي ، وهو ضعيفٌ على قَوَاعِدِ البَصْريِّين لِلْعَطْفِ على الضَّمِير المَجْرُور من غَيْر إعادَةِ الجَارِّ ، وقد تقدَّم ما فيه .
والحَسَن البَصْرِيُّ يقرأ بِفَتْح [ ياء ] « نَفْسِي » ، و « أخِي » .
وقرأ يوسُف بن دَاوُد وعُبَيْد بن عُمَيْر « فَافْرِق » بِكَسْرِ الرَّاء ، وهي لُغَةٌ : فَرَقَ يَفْرِق ك « يضرب » قال الراجز : [ الرجز ]
1949- يا رَب فَافْرِقْ بَيْنَهُ وبَيْنِي ... أشَدَّ ما فَرَّقْت بَيْنَ اثْنَيْنِ
وقرأ ابن السَّمَيْفَع « فَفَرِّقْ » مُضَعَّفاً ، وهي مُخَالِفَةٌ للرَّسْم و « بَيْنَ » معمولة ل « افْرُق » ، وكان من حَقِّها ألا تكرَّرَ في العَطْفِ ، تقُولَ : المَالُ بَيْن زَيْدٍ وعَمْرو ، وإنَّما كرِّرَت للاحْتِيَاج إلى تكررِ الجارِّ في العَطْفِ على الضِّمِير المَجْرُور ، وهو يُؤيِّد مَذْهَب البَصْريِّين .
فإن قيل : لم قال : { لاا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي } وكان مَعَهُ الرَّجُلان المَذْكُورَان؟ .
فالجواب : كأنَّه لم يَثِقْ بِهِمَا كُلَّ الوُثُوق لِمَا رَأى [ من ] إطباقِ الأكْثَرِين على التَّمَرُّد ، ولَعَلَّهُ إنَّما قَالَ ذَلِكَ تَقْلِيلاً لمن وَافَقَهُ ، أو يكُون المُرَادُ بالأخِ مَنْ يُؤاخِيهِ في الدِّين ، وعلى هذا يَدْخل الرَّجُلان .
والمُرادُ بقوله : { فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين } أي : افْصِلْ بَيْنَنَا وبَيْنَهُم ، بأنْ تَحْكُم لَنَا بما تَسْتَحِقُّ وتحْكُم عَلَيْهِم بما يَسْتَحِقُّون ، وهُوَ في مَعْنَى الدُّعَاء عَلَيْهِم ، أو يكون المَعْنَى : خَلِّصْنَا من صُحْبَتِهِم ، وهو كقوله : { نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } [ القصص : 21 ] .

قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)

قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } أي الأرْضَ المقدسة مُحَرَّمة عَلَيْهم أبَداً ، لم يرد تَحْريم تَعَبُّد ، وقيل تَحْرِيم مَنْع . [ في ] قوله : « أرْبَعين سَنَةً » وجهان :
أظهرهما أنَّه منْصُوب ل « مُحَّرَمة » ، فإنَّه رُوِي في القِصَّة أنهم بعد الأرْبَعين دخلوها ، فيكون قد قَيّد تَحْريمها عَلَيْهم بهذه المُدَّة ، وأخْبَر أنَّهم « يَتيهُون » ، ولم يُبَيِّنْ كَميَّة التِّيه ، وعلى هذا فَفِي « يَتيهُون » احتمالان :
أحدهما : أنه مستَأنَفٌ .
الثاني : أنَّه حالٌ من الضَّمِير في « عَلَيْهِم » .
الوجه الثَّاني : أن « أرْبَعين » مَنْصُوب ب « يتيهُون » ، فيكون قَيّد التِّيه [ ب « الأرْبَعين » ] .
[ وأمَّا ] التَّحْريم فمطلق ، فيحتمل أن يكُون مُسْتَمِراً ، أو يكون مُنقْطِعاً وأنَّهَا أحلت لهم .
وقد قيل بِكُلٍّ من الاحتمالين ، رُوِي أنَّه لم يدخُلْها أحَدٌ ممَّن كان في التِّيهِ ، ولم يَدْخُلْها إلا أبْناؤُهُمَ [ وأمَّا الآبَاءُ فماتُوا ، وما أدْرِي ما الَّذي حَمَل أبَا مُحَمَّد بن عَطِيَّة على تَجويزه أن يكُون العَامِلُ في « أربعين » مُضْمَراً يفسره ] « يتيهُون » المتأخر ، ولا ما اضْطَرَّه إلى ذَلِك من مَانِعِ صِنَاعِي أو مَعْنَوِي ، وجَوَاز الوَقْف والابْتِدَاء بقوله : « عَلَيْهِمْ » ، و « يَتِيهُون » [ مفهوما ممَّا ] تقدم من الإعراب .
والتِّيه : الحَيْرة ، ومنه : أرْضٌ تَيْهَاء [ لِحَيرةٍ سَالكها ] قال : [ الطويل ]
1950- بتَيْهاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأنَّهَا ... قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُها
ويقال : « تَاهَ يتيه وهو أتْيَهُ منه ، وتَاهَ يَتُوه وهو أتْوَهُ مِنْه » [ فقول من قال : يتيه ، وتوهْتُهُ ] من التَّدَاخل ، ومثله : « طَاحَ » في كونه سُمِع في عَيْنيه الوجهان ، وأن فيه التَّدَاخُلَ - أيضاً - فإنَّ من قال : « يَطِيحُ » قال : « طَوَّحْتُه » ، وهو « أطْوَحُ منه » .
واختَلفُوا في التِّيه ، قال [ الرَّبيع : ] مقدار ستة فَرَاسِخ ، وقيل : تِسْعة فَرَاسِخ في ثلاثين فَرْسخاً ، وقيل : سِتَّة فَرَاسِخ في اثْنَيْ عشر فرسخاً .
وقيل : كانوا ستمائة ألْفِ فارس .
فإن قيل : كيف يعقل بَقَاءُ هذا الجَمْع العظيمِ في هذا القَدْر الصَّغِير من المفَازَة أرْبَعِين سنة بحيث لا يَتَّفِقُ لأحدٍ منهم أن يَجِد طَرِيقاً إلى الخُرُوج عنها؟ ولو أنهم وضعُوا أعينَهُم على حركة الشَّمس أو الكواكب لَخَرجوا منها ، ولو كانُوا في البَحْر العَظِيم فكيف في المفازة الصغيرة؟ .
فالجواب فيه وَجْهَان : الأوَّل : أن انخراق العَادَات في زمن الأنْبِياء غير مُستبعد ، إذ لو فَتَحْنَا باب الاسْتِبْعَاد لزم الطَّعن في جميع المُعْجِزات ، وهو باطِلٌ .
الثاني : إذا جعلْنَا ذلك التَّحْريم تحريم تعبد ، زال السَّؤال؛ لأن الله تعالى حرَّم عليهم الرُّجوع إلى أوْطَانِهِم ، وأمرهم بالمكْثِ في تلك المفَازةِ أرْبعين سنة مع المشقة والمحنة جَزَاءً لهم على سُوء صنِيعِهم .

قال القُرْطُبِي : [ قال ] أبو علي : قد يكونُ ذلك بأن يحول الله الأرْضَ التي هم عليها إذا نَامُوا فيردَّهم إلى المكان الذي ابْتَدؤوا منه ، وقد يَكُون بغير ذلك من الاشتباه والأسْبَاب [ المَانِعَة من ] الخُرُوج عنها على طَريق المُعْجِزة الخارجة عن العَادَة .
قال بعضهم : إنَّ هارون وموسى لم يكُونَا فيهم ، والصَّحِيح : أنَّهما كانا فيهم ، ولم يكن لهما عُقُوبة لكن كما كَانَت النَّار على إبْرَاهيم بَرْداً وسَلاَماً وإنما كانت العقوبة لأولَئِك الأقْوام ، ومات في التِّيه كل من دَخَلها ممن جاز عشرين سنة غير يُوشَع وكالب ، ولم يدخل أريحاء أحَدٌ ممَّن قالوا : { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ [ أَبَداً ] } [ المائدة : 24 ] فلما هَلَكُوا وانْقَضت الأربعون سنة ، وَنَشَأت [ النَّواشئ ] من ذراريهم ساروا إلا حرب الجبَّارِين ، واخْتَلَفُوا فيمن تولَّى الحرب وعلى يدي من كان الفتح فقيل : إنَّما فَتَح أريحاء موسى ، وكان يُوشع على مقدمته ، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل فدخلها يوشع ، فقالت الجَبَابِرَة ثم دَخَلَها موسى ، وأقام فيها ما شاء الله ، ثم قَبَضَهُ اللَّه إليه ، ولا يعلم قبره أحد ، وهذا أصَحُّ الأقوال . وقيل : إنما قاتل الجبَّارين يُوشع ، ولم يَسِر إليهم إلا بعد موت موسى - عليه السلام - ، وقالوا : مات مُوسى وهارون جميعاً في التِّيه .
قال القُرْطُبِيُّ : روى مُسْلِمٌ عن أبِي هُرَيْرَة قال : « أرْسَلَ اللَّهُ ملك المَوْتِ إلى مُوسَى - عليه الصلاة والسلام - ، فلما جاءَهُ ، صَكَّهُ وفَقَأ عَيْنَه ، فرجع إلى رَبِّه فقال : » أرْسَلْتَنِي إلى عَبْدٍ لا يُريد الموْتَ « ، قال : فَرَدَّ الله إلَيْه عَيْنَهُ ، وقال : ارجع إلَيْه وقل له : يضع يده على مَتْن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سَنَة . قال : » أي رب ثم مَهْ « ، قال : » ثم الموت « قال : » فالآن « ؛ فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثِيب الأحمر « فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه ، ورآه فيه قائماً يصلي كما في حديث الإسراء ، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهوراً عندهم؛ ولعل ذلك لئلا يُعبد ، والله أعلم . ويعني بالطريق طريق بيت المقدس . ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطُّور مكان الطريق . واختلف العلماء في تأويل لَطْم موسى عين مَلك الموت وفَقْئها على أقوال؛ منها : أنها كانت عيناً متخيلة لا حقيقة ، وهذا باطل ، لأنه يؤدّي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له .
ومنها : أنها كانت عيناً معنوية وإنما فقأها بالحجة ، وهذا مجاز لا حقيقة . ومنها : أنه عليه السلام لم يعرف ملك الموت ، وأنه رأى رجلاً دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها؛ وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن .

وهذا وجه حسن؛ لأنه حقيقة في العين والصّك؛ قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة ، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث؛ وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال : « يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت » فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت؛ وأيضاً قوله في الرواية الأخرى : « أجب ربك » يدلّ على تعريفه بنفسه . والله أعلم . ومنها : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب ، إذا غضب طلع الدّخان من قَلَنْسُوته ورفع شعرُ بدنه جبّته؛ وسرعة غضبه كانت سبباً لصَكِّه مَلَك الموت .
قال ابن العربي : وهذا كما ترى ، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب . ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال : أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت ، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أُمِر بقبض روحه من غير تخيير ، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من « أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيِّره » فلما جاءه على غير الوجه الذي أُعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه ، فلطمه ففقأ عينه امتحاناً لملك الموت؛ إذ لم يصرح له بالتخيير . ومما يدل على صحة هذا ، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم ، والله بغيبه أحكم وأعلم . هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام . وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصاً وأخباراً الله أعلم بصحتها؛ وفي الصحيح غُنْيَة عنها . انتهى .
فصل
وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة ، فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت؟ فقال : « كشاة تسلخ وهي حية » .
وقوله : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } أي لا تحزن .
[ والأسى : الحُزْن ، يقال : أسِي - بكسر العين - يَأسَى ، بفتحها ، ولامُ الكلمة تحتمل أن تكونَ من واوٍ ، وهو الظاهرُ لقولهم : « رجل أسْوان » بزنة سكران ، أي : كثير الحزن ، وقالوا في تثنية الأسى : أسوان ، وإنما قُلبت الواوُ في « أسِيَ » يَاءً لانكسار ما قبلَها ، ويُحْتمل أن تكون ياءً فقد حُكي « رجل أسْيان » أي كثيرُ الحزن ، فتثنيتُه على هذا « أسَيان » . والله أعلم بغيبه ] .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)

واتل عليهم نبأ ابني آدم الآية .
في تعَلُّقِ هذه الآية بما قبلها وُجُوهٌ :
أحدها : أنه تعالى قال فيما تَقدَّمَ :
{ يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } [ المائدة : 11 ] فذكر أنَّ الأعْدَاءَ يُرِيدُونَ إيْقَاعَ الْبَلاَء بِهِمْ ، لَكِنَّهُ تعالى يَحْفَظُهُمْ [ بِفَضْلِهِ ] ويمنع أعداءهم من إيصالِ الشَّرِّ إلَيْهِمْ ، ثم ذكر قِصَصاً تَدُلُّ في أنَّ كُلَّ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ به - تعالى - من النِّعَمِ العظيمة في الدِّينِ والدُّنْيَا فإنَّ الناس يتنازعونه حسداً ، فَذَكَرَ قِصةَ النُّقَبَاءِ الاثْنَيْ عَشَرَ ، وأخذ الميثاق منهم ، ثم إنَّ اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللَّعْنِ والقساوة ، وذكر بعد شِدَّة إصْرَارِ النصارى على الكفر ، وقولهم ب « التَّثْلِيث » بعد ظهور الدَّلاَئِل الواضحة القاطعة على فساد اعْتِقَادِهِمْ ، وما ذلك إلا حسداً لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما آتاه الله من الدِّينِ الْحَقِّ ثم ذكر قصَّة ابْنَيْ آدم ، وأنَّ أحدهما قتل الآخر حسداً على قَبُولِ قُرْبَانِهِ ، وكل هذه الْقَصَصِ دالَّةٌ على أنَّ كل ذي نِعْمَة محسود ، فلما كانت نِعَمُ الله على محمَّد صلى الله عليه وسلم أعْظَمَ النعم لم يبعد اتِّفَاق الأعداء على كَيْدِهِ ، فكان ذكر هذه القصص تسلية له فيما هدّده به اليَهُود من المكر والكَيد .
ثانيها : أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بقوله : { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ المائدة : 15 ] .
وهذه القصص مَذْكورة في التَّوْراة .
وثالثها : أنَّها متعلِّقَة بقصة [ محاربة ] الجبَّارين ، أي : ذكِّروا اليَهُود بحديث ابْنَيْ آدم؛ ليعلموا أن سَبِيل أسْلاَفهم في النَّدامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعاصي ، مثل سَبِيل ابْنَيْ آدم في نَدَامة أحَدهما على قَتْلِ الآخَر .
رابعها : أنه مُتَّصِل بحكاية قول اليَهُود والنَّصَارَى : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] أي : لا ينفعهم كَوْنُهُم أولاد الأنْبِيَاء مع كُفْرِهِم ، كما لم يَنْتَفِع ولد آدم بقَتْلِ أخيه بكون أبيه نَبِيّاً معظماً عند الله - تعالى - .
وخامسها : لما كَفَرَ أهل الكِتَاب بمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - حَسَداً أخْبَرَهُم الله - تعالى - بخبر ابْنَيْ آدم ، وأنَّ الحسد أوْقَعَهُ في سُوءِ الخَاتِمة ، والمقصود منه التَّحْذِير عن الحَسَدِ .
الضَّمِير في « عَلَيْهِم » فيه قولان :
أحدهما : واتل على النَّاس .
والثاني : واتْلُ على أهل الكِتَاب .
وفي « ابْنَيْ آدَمَ » قولان :
أحدهما : أنها ابْنَا آدم لِصُلْبِهِ ، وهما : قَابِيل ، وهَابِيل ، وفي سبب [ وقوع ] المُنَازَعة بينهما قولان :
أحدهما : أنَّ هَابِيلَ كان صاحب غَنَمٍ ، وقابيلَ صاحب زَرْع فقرَّب كل واحد منهما قُرْبَاناً ، فطلب هابيل أحْسَنَ شاة كانت في غنمه وجعلها قرباناً ، وطلب قابيل شَرَّ حِنْطة كانت عنده وجعلها قُرْبَاناً ، فنزلت نارٌ مِنَ السَّمَاءٍ فَاحْتَمَلَتْ قُرْبَانَ هَابيلَ ولم تَحْتَمِل قُرْبان قابيل ، فعلم قابيل أنَّ الله تعالى قبل قُرْبَان أخِيهِ ولم يقبل قُرْبَانه ، فحَسَده وقصد قَتْلَهُ .

قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : ولم يُحْتَمَلْ قربان قَابيل ، فَعَلِمَ قَابِيلُ أنَّ الله قَبِلَ قربان أخيه ولم يقبل قربانه؛ لأنَّه كان كافراً فقال قابيل لأخيه هابيل - وكان مُؤمِناً - : أتَمْشِي على الأرض يراك النَّاس أفْضَلَ مِنِّي به ، فَحَسَدَه وَقَصَدَ قَتْلَهُ .
وثانيهما : رُوِيَ أنَّ آدم - عليه السلام - كان يُولَدُ له [ في كل بطن ] غلام وجارية وكان يزوِّج [ تلك ] البِنْت من البَطْن بالغلام من بَطْن آخر ، فولد له قَابِيل [ وتوأمته ، ] قال الْكَلْبيُّ : وكان اسْمُهَا « إقْلِيمِياء » - ، وبعدهما هَابِيل وتَوْأمَته وكانت تَوْأمَةُ قابيل أحْسَنَ النَّاسِ وجهاً ، فأراد آدَم - عليه السلام - أن يُزَوِّجَهَا من هَابِيل ، فأبى قَابِيل وقال : أنا أحَقُّ بِهَا وهو أحق بأخته وليس هذا من اللَّه وَإنَّمَا هو رَأيُكَ ، فقال آدمُ - عليه السلام - لهما : قَرِّبَا قرباناً فأيُّكُمَا قبل قُرْبانه زَوَّجْتُها منه ، فَقَرَّبَا قُرْبَانَيْن ، فَقَبِلَ اللَّهُ قُرْبَانَ هَابِيلَ بأن أنْزل على قُرْبَانه ناراً فازداد قابيل حَسَداً له .
قال القُرْطُبِيُّ : وَرُوِيَ عن جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضي الله عَنْهُ - « أنَّ آدم - عليه السلام - لم يكن يُزَوِّجُ ابنته من ابنه ، ولو فعل ذلك ما رَغِبَ عنه النَّبي صلى الله عليه وسلم ، ولا كان دين آدم عليه السلام إلاَّ دين النبي صلى الله عليه وسلم . . . » ، وذكر قَصَّته . قال القُرْطُبِيُّ : وهذه القِصَّة عن جَعْفَرٍ ما أظُنُّهَا تَصِحُّ ، وأنه يزوِّجُ غلام هذا البَطْنِ إلى البَطْن الآخر ، بدليل قوله تعالى : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [ النساء : 1 ] ، وهذا كالنصِّ ثم نسخ ذلك على ما تقدم بيانه في « سورة البقرة » وكان جميع ما ولدته حَوَّاءُ أربعين ولداً ذكراً ، وأنثى : عِشْرين بطناً أوَّلُهُم قابيل ، وتوأمته إقليمياء وآخرهم عَبْدُ المُغِيثِ ، ثم بارك الله في نسل آدم - عليه الصلاة والسلام - .
وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : لم يمت آدم - عليه السَّلام - حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألْفاً .
والقول الثاني : وهو قول الْحَسَنِ والضَّحَّاك : أنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللذين قَرَّبا القربان ما كانا ابْنَيْ آدم لِصُلْبِهِ ، وإنما كانا رَجُلَيْن من بني إسرائيل [ كانت بينهما خُصُومة ، ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل ] ؛ لقوله تعالى في آخر القصَّة : { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] .
وصدور الذنب من ابني آدم ، لا يصلح أن يكون سَبَباً لإيجاب القِصَاص عليهم زَجْراً لهم عن المُعَاودَة إلى مثل هذا الذَّنب ، ويَدُلُّ عليه أيضاً أنَّ المقصود من هذه القِصَّة : بيان أنَّ اليَهُود من قديم الدَّهر مُصِرُّونَ على التَّمَرُّدِ والحسد حتى بلغ بهم هذا الحَسَد إلى أن أحدهما لما قَبِلَ اللَّهُ قربانه حَسَدَه الآخر وقتله ، ولا شكَّ أن هذا ذَنْبٌ عَظِيمٌ .

فإنَّ قَبُولَ الْقُرْبَانِ ممَّا يدل [ عليه أن صَاحِبَه ] حسن الاعتقاد [ وأنه ] مقبول عند اللَّه - تعالى - فَتَجِبُ المُبَالَغَةُ في تَعْظِيمه ، فلما أقدم على قَتْلِهِ [ وَقَتَلَهُ ] مع هذه الحالة دَلَّ ذلك على أنَّهُ قد بَلَغَ في الحَسَد أقصى الغايات ، وإذا كان المرادُ أنَّ الحسَد داءٌ قديمٌ في بَنِي إسْرَائِيلَ ، وجب أن يقال : [ هذان الرَّجلان ] كانا من بَنِي إسْرَائيلَ ، والصَّحيح الأول؛ لأنَّ القاتل جهل ما يَصْنَع بالمقَتُول ، حتى تعلَّم ذلك من عَمَل الغراب ولو كان من بَنِي إسرائيلَ لما خَفِي عليه هذا الأمْر - والله سبحانه أعلم - .
فصل
قوله تعالى : « بالحقِّ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُها : أنه حَالٌ من فاعل « اتْلُ » أي : اتلُ ذلك حال كونك مُلْتَبساً بالحقِّ أي : بالصِّدق ، وموافقاً لما في التَّوْراة والإنْجِيل .
والثاني : أنه حال من مَفْعُوله وهي « نَبَأ » ، أي : اتلُ نبأهُمَا مُلْتَبساً بالصِّدْقِ مُوافِقاً لما في كُتُب الأوَّلين لتثبت عليهم الحُجَّةُ برسالتك .
الثالث : أنه صِفَةٌ لمصدر « اتْلُ » ، أي : اتْلُ ذلك تلاوةً مُلْتَبِسة بالحقِّ والصِّدٌ كافَّة .
وَالزَّمَخْشَرِيُّ به بدأ ، وعلى الأوْجُهِ الثلاثة ف « البَاءُ » للمُصَاحبة وهي متعلِّقَة بمحذُوف .
وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بتسكين الميم من « آدَم » قبل بَاءِ « بالْحَقِّ » ، وكذا كل مِيمٍ قبلها مُتَحرك ، وبعدها بَاء ، ومعنى الكلام : واتْلُ عليهم نبأ ابْنَيْ آدم بالغَرض [ الصحيح ] ، وهو تَقْبِيح الحسد ، والبَغْي وقيل : لِيَعْتَبِرُو به لا لِيَحمِلُوهُ على اللَّعِبِ ، كالأقاصيص التي لا فائدة فيها ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المقصود من ذكر القصص العبرةُ لا مجرَّد الحكاية ، لقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } [ يوسف : 111 ] .
قوله تعالى : { إِذْ قَرَّبَا [ قُرْبَاناً ] } فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : وبه بدأ الزَّمخشريُّ ، وأبو البقاء : أن يكون متعلِّقاً بنفس النَّبأ ، أي : قصّتُهما ، وحديثهما في ذلك الوَقْت ، وهذا وَاضِح .
والثاني : أنه بَدلٌ من « نبأ » على حَذْف مضافٍ ، تقديره : « واتْلُ » عَلَيْهِم النَّبأ ذلك الوقت ، كذا قدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ .
قال أبُو حَيَّان : « ولا يجُوز ما ذكر؛ لأن » إذْ « لا يُضَاف إليها إلا الزَّمانُ و » نبأ « ليس بزمان .
الثالث : ذكره أبُو البَقَاءِ [ أنه حال من » نبأ « [ وعلى هذا فيتعلق بِمَحذُوف ، لكنَّ هذا الوجه غَيْر وَاضِح .
قال أبو البَقَاء : ] ولا يجوز أن يكون ظرفاً ل » اتْلُ « ؛ قلت : لأنَّ الفعل مستقبل ، و » إذ « وقت ماضٍ ، فكيف يَتلاقَيَان؟ و » الْقُرْبَانُ « فيه احْتِمَالان :
أحدهما : وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ : » أنه اسم لما يُتَقَرَّبُ به ، كما أنَّ الْحُلْوَانَ اسم ما يُحَلَّى أو يُعْطى « .

يقال : « قَرَّبَ صَدَقةً وتقرَّب بها » ؛ لأن « تقرَّب » مطواع « قرَّب » .
قال الأصْمَعِيُّ : [ تقربوا ] « قِرْفَ القَمع » فيعدَّى بالباء حتى يكون بمعنى : قَرَّبَ ، أي : فيكون قوله : { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً } يَطْلُبُ مُطَاوِعاً له ، والتَّقْدِير إذْ قَرَّبَاهُ ، فتقرَّبا بِهِ وفيه بُعْدٌ .
قال أبُو حَيَّان : « وليس تقرَّب بصدقة مطاوع » قَرَّب صدقة « لاتحاد فاعل الفعلين ، والمُطاوَعَةُ يَخْتَلِفُ فيها الفاعل يكونُ من أحدهما فعل ، ومن الآخَرِ انفعال ، نحو : كَسَرْتُه فانكسر ، وفَلَقْتُه فانْفَلَق ، فليس قَرَّبَ صَدَقَةً ، وتقرَّبَ بها ، من هذا البَابِ ، فهو غلط فَاحِشٌ » .
قال شهاب الدِّين : وفيما قاله الشَّيْخ نظر؛ لأنَّا نُسَلِّم هذه القاعدة .
والاحتمال الثاني : أن يكون في الأصْل مَصْدراً ، ثم أطلق على الشيء المُتقرّب به ، كقولهم « نَسْج اليَمَن » ، و « ضَرْب الأمير » .
ويُؤيِّد ذلك أنه لم يُثَنِّ ، والموضعُ موضعُ تَثْنِية؛ لأنَّ كلاً من قَابيل وهَابيل له قُرْبان يَخُصُّه ، فالأصل : إذ قَرَّبا قُرْبَانين ولأنه لم يُثَنِّ [ لأنه مصدر في الأصل ، وللقائل بأنه اسم ما يتقرّب به لا مصدر أن يقول : إنما لم يُثَنِّ ] ؛ لأن المعنى - كما قاله أبو عَلِيّ الفَارسيّ - : إذ قَرَّبَ كلُّ واحدٍ منهما قُرْبَاناً ، كقوله تعالى : { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] أي : كل واحد منهم .
قال ابن الخطيب : جَمَعَها في الفِعْل ، وأفرد الاسْم ليستدل بِفِعْلهما على أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما قُرْباناً .
وقيل : إنَّ القُرْبَان اسم جنس فهو يَصْلُح للوَاحِد والعَدَد .
وقوله تعالى : { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } .
قال أكثر المُفَسِّرِين : كان علامَةُ القبول أن تأكله النَّار ، وقال مُجَاهد : علامة الردِّ أن تأكله النَّار .
وقيل : لم يكن في ذلك الوَقْتِ فقير يُدفَع إليه ما يتقرَّب به إلى الله - تعالى - ، فكانت تَنْزِلُ من السَّمَاء نار تأكلُهُ .
وإنما صار أحد القُرْبَانَيْن مقبولاً والآخر مردوداً؛ لأنَّ [ حصول ] التَّقوى شرط في قُبُول الأعْمَال لقوله تعالى هاهنا حِكَاية عن المُحِقِّ { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } ، وقوله تعالى فيما أمَرنا به من القُرْبان بالبدن : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] فأخبر أنَّ الذي يصل إليه لَيْس إلاَّ التَّقوى ، والتَّقْوى من صفات القُلُوبِ؛ لقوله - عليه السلام - : « التَّقْوى هَاهُنَا » وأشار إلى القَلْب .
وحقيقة التَّقْوى : أن يكون على خَوْف ووَجَل من تقصير نَفْسه في تلك الطَّاعَة .
وأن يكون في غَايَةِ الاحْتِرَاز من أن يَأتِي بتلك الطَّاعَة لغرض سوى مَرْضَاة الله تعالى .
وألاَّ يكون فيه شركة لِغَيْر الله تعالى .
قيل : إن قابيل جعل قُرْبَانه أرْدَأ ما كان عِنْده ، وأضْمَر في نفسه ألاَّ يُبَالي قُبِلَ أو لم يُقْبَلْ ، وأنه لا يزوِّج أخْتَه من أخِيه أبَداً .

وقيل : كان قابيل لَيْس من أهل التَّقْوى والطَّاعة فلذلك لم يَقْبَل اللَّهُ قُرْبانه .
قوله تعالى : « قال لأقْتُلَنَّك » ، أي : قال الذي لم يتقبل منه للمَقْبُول منه .
وقرأ الجمهور « لأقْتُلَنَّك » ، أي : قال الذي لم يتقبل منه للمَقْبُول منه .
وقرأ الجمهور « لأقتلنَّك » بالنون الشديدة ، وهذا جوابُ قسم مَحْذُوف وقرأه زيدٌ بالخفيفة .
قال أبُو حَيَّان : [ إنما يتقبل الله مَفْعُوله مَحْذُوف ] ، لدلالة المعنى عليه ، أي : قرابينهم وأعمالهم ويجُوزُ ألاَّ يراد له مَفْعُول ، كقوله تعالى { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى } [ الليل : 5 ] ، هذه الجُمْلَة قال ابن عطيَّة : « قبلها كلام محذوف ، تقديرُه : لِمَ تَقْتُلني وأنا لم أجْنِ شيئاً ، ولا ذَنْبَ لي في تَقَبُّلِ الله قرباني بدون قربانك » ؛ وذكر كلاماً كثيراً .
وقال غيرُه : « فيه حذفٌ يَطُول » وذكر نحوه : ولا حَاجَة إلى تقدير ذلك كلّه؛ إذ المعاني مفهومَةٌ من فَحْوَى الكلام إذا قُدِّرَتْ قَصِيرةً كان أحْسَن ، والمعنى هنا : لأقْتُلَنَّك حَسَداً على تَقَبُّل قُرْبَانك ، فَعَرَّضَ له بأن سَبَبَ التَّقَبُّل التَّقْوى .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : « فإن قلت : كيف [ كان ] قوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } جوباً لقوله : » لأقْتُلَنَّكَ « ؟ .
قلت : لمَّا كان الحَسَدُ لأخيه على تَقَبُّل قربانه هو الذي حَمَلَهُ على توعُّده بالقَتْل ، قال : إنَّما أتَيْت من قبل نفسك لانْسِلاَخها من لِبَاسِ التَّقْوَى » انتهى .
وهذا ونَحْوه من تَفسِير المَعْنَى لا الإعْرَاب .
وقيل : إن هذه الجملة اعْتِرَاض بَيْن كلام القَاتِل وكلام المَقْتُول والضَّمِير [ في « قال » ] إنَّما يعود إلى الله تعالى ، أي : قال الله ذلك لِرَسُوله ، فَيَكُون قد اعْتَرض بقوله { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله } بين كلام قابيل وهو : « قال لأقْتُلَنَّكَ » ، وبين كلام هَابِيل وهو : « لَئِنْ بَسَطْتَ » إلى آخره ، وهو في غاية البُعْد لِتَنافُر النَّظْم .
و « اللاَّم » في قوله : « لَئِنْ بَسَطْتَ » هي المُوَطِّئة .
وقوله : { مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ } جوابُ القسم المَحْذُوف ، وهذا على القاعِدَة المُقَرَّرةِ من أنَّه إذا اجْتَمَع شَرْطٌ وقسمٌ أجِيبَ سابقُهما إلا في صُورة تَقدّم التَّنْبِيه عليها .
وقال الزَّمَخْشَرِي : « فإن قلت : لِم جاء الشَّرْط بلفظ الفِعْل ، والجزاء بلفظ اسم الفاعل ، وو قوله » لَئِنْ بَسَطْتَ « ، { مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ } ؛ قلت : ليفيد أنه لا يفعلُ هذا الوَصْفَ الشَّنِيع ، ولذلك أكَّدَهُ ب » الباء « المفيدة لِتَأكِيد النَّفْي » .
وناقَشَهُ أبُو حيَّان في قوله : [ إنَّ ] { مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ } جزاء للشَّرْط .
قال : لأنَّ هذا الجواب لِلقَسَم لا للشَّرط قال : « لأنه لو كان جواباً للشَّرط للزمته الفاء لِكَوْنه منفيًّا ب » ما « والأداة جَازِمة ، وللزِمَهُ أيضاً تلك القَاعِدة ، وهو كَوْنه لم يجب الأسْبَق منهما » وهذا ليس بشيء؛ لأن الزَّمَخْشَرِيَّ سماه جزاء للشَّرط لما كان دالاًّ على جزاء الشَّرْط ، ولا نَكِيرَ في ذلك [ ولكنه مُغْرى بأن يقال : قد اعترض على الزَّمَخْشَرِي ] .

وقال أيضاً : وقد خالف الزمخشريّ كلامه هنا بما ذكره في « البَقَرة » في قوله تعالى { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين } [ البقرة : 145 ] ، من كونه جعله جواباً للقسم سادًّا مسدّ جوابِ الشَّرْط ، وقد تقدَّم بحثه مَعَهُ هناك .
فصل في معنى الآية
ومعنى قوله « بَسَطْتَ » أي : مَددْتَ إليَّ يدكَ لِتَقْتُلَنِي ما أنَا بباسطٍ يدي إليْكَ لأقْتُلَكَ إنِّي أخافُ الله ربَّ العالمِين « قال عبدُ الله بن عمرو - رضي الله عنهما - : وايمُ الله إن كان المَقْتُول أشدَّ الرَّجُلَين ، ولكن مَنَعَهُ التَّحَرُّج أن يَبْسُطَ إلى أخيه يده ، وهذا في الشَّرْعِ جَائِز لمن أُريد قَتْلُهُ أن يَنْقَاد ويَسْتَسْلِم طلباً للأجْر ، كما فعل عُثْمان - رضي الله تعالى عنه - وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمحمَّد بن مسلمة - رضي الله عنه - » ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المَقْتُول ولا تكن عبد الله القاتِل « .
وقال مجاهد : » كتب عليهم في ذلك الوَقْتِ إذا أراد رَجُلٌ قَتْلَ رجل أنَّه لا يَمْتَنِع ويصْبر « .
قوله تعالى : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي } ، فيه ثلاثة تأوِيلات :
أحدها : على حَذْفِ همزة الاستفهام تقديره : أإنِّي أريد؛ وهو استفهام إنكَار؛ لأن إرادة المَعْصِيَة قبيحَةٌ ، ومن الأنْبِيَاء أقبح؛ فهم معْصُومُون عن ذلك ، ويؤيِّد هذا التَّأويل قراءة من قرأ » أنَّى أريد « بفتح النون ، وهي » أنَّى « التي بمعنى » كَيْفَ « ، أي : كيف أريد ذلك .
والثاني : أنَّ » لا « محذوفةٌ تقديره : إني أريدُ أن لا تَبُوء ، كقوله تعالى : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ، وقوله تعالى : { رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] ، أي ألاّ تضلّوا وألا تميد وهو مستَفِيضٌ وهذا أيضاً فرار من إثْبَات الإرَادَة له ، وضعَّفَ بعضهم هذا التَّأويل بقوله - عليه الصلاة والسلام - : » لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كانَ على ابْنِ آدمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِها؛ لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ « .
فثبت بهذا أن الإثْمَ حاصلٌ ، وهذا الَّذي ضعَّفه به غير لاَزِم؛ لأن قائِل هذه المقالة يقول : لا يلزم من عَدَمِ إرادَته الإثْم لأخيه عَدَم الإثم ، بل قد يريد عدمه ويَقَع .
الثالث : أن الإرادة على حَالها ، وهي : إمَّا إرادة مَجَازية ، أو حقيقيَّة على حَسَبِ اختلاف المُفسِّرين في ذلك ، وجَاءَت إرادة ذلك به لمعانٍ ذكرُها ، من جملتها :
أنَّه ظهرت له قَرائِن تدلُّ على قرب أجلهِ ، وأنَّ أخاه كافر ، وإرادة العُقُوبَة بالكافر حَسَنة .
وقوله : » بِإثْمِي « في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من فاعل » تبُوء « أي : ترجعُ حاملاً له ومُلْتبساً به ، وقد تقدم نَظِيرُه في قوله { فَبَآءُو بِغَضَبٍ } [ البقرة : 90 ] وقالوا : لا بُدَّ من مُضافٍ ، فقدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ » بمثلَ إثمي « قال : » على الاتِّسَاع في الكلام ، كما تقول : قرأت قراءة فلان ، وكتبت كِتَابَته « .

وقدَّره بعضهم « بإثْمِ قَتْلِي ، وإثم معصِيَتك التي لم يُقبل لأجلها قُرْبَانك ، وإثْم حسدك » .
وقيل : معناه إنِّي أريد أن تَبُوءَ بعقاب قَتْلي فتكون إرادة صَحِيحَة؛ لأنَّها موافقة لِحُكم الله - عزَّ وجلَّ- ، ولا يكون هذا إرادة للقَتْل ، بل لموجِبِ القتل من الإثْم والعِقَاب رُوِي أن الظَّالم إذا لم يَجِد يوم القِيَامة ما يرضي خَصْمَه ، أُخِذَ من سيِّئَات المَظْلُوم وحمل على الظَّالم ، فعلى هذا يَجُوز أن يُقَال : إنِّي أُريد أن تَبُوء بإثْمي في قَتْلِك ، وهذا يَصْلُح جواباً .
قوله « فَطَوَّعَتْ » الجمهورُ على « طَوَّعَتْ » بتشديد الواو من غير ألف بمعنى « سَهلت وبعثت » أي : جَعَلْته سهلاً ، تقديره : بعثت له نفسه أنَّ قتل أخيه طَوْعاً سهل عليه .
قال الزَّمَخْشَرِي : « وسَّعَتْه ويسَّرَتْه من طاعَ له المرْتَعُ إذ اتَّسع » انتهى .
وقال مجاهد : شجّعْتُه .
وقال قتادة : زيَّنْتُ له نفسه ، والتَّضْعيف فيه للتَّعْدِية؛ لأنَّ الأصل : طَاعَ له قَتْلُ أخيه ، أي : انْقَادَ من الطَّواعِية ، فعُدّي بالتَّضعيف ، فصار الفاعلُ مَفْعُولاً كحاله مع الهَمْزَة .
وقرأ الحسن ، وزَيْد بن علي وجماعة كثيرة « فَطَاوعتْ » ، وأبدى الزَّمَخْشَرِيُّ فيها احتِمَالَيْن :
أحدهما : أن يكُون ممَّا جاء فيه « فَاعَلَ » لغير مُشاركة بين شَيْئيْن ، بل بمعنى « فَعَّل » نحو : ضَاعَفْتُه وضَعَّفْته ، وناعَمْتُهُ ونَعَّمْتُه ، وهذان المثالان من أمثلة سِيبويه .
قال : « فجاءوا به على مثال عاقَبْتُه » .
قال : وقد تجيء : « فاعَلْتُ » لا تريدُ بها عمل اثْنَيْن ، ولكنَّهم بَنَوْا عليه الفِعْل كما بَنَوْه على « أفْعَلْتُ » ، وذكر أمْثِلَة منها : « عَافَاهُ اللَّه » ، وقَلَّ مَنْ ذكر أن « فَاعَل » يجيءُ بمعنى « فعّلْتُ » .
والاحتمال الثاني : أن تكون على بَابِهَا من المُشَاركة ، وهو أنَّ قَتْل أخيه كأنه دَعَا نَفْسَه إلى الإقْدَام عليه فَطَاوعته انتهى .
وإيضاحُ العبارة في ذلك أنْ يُقَال : جعَل القَتْل يدعو إلى نفسه لأجل الحسد الذي لَحِقَ قَابِيل ، وجعلت النَّفسُ تَأبى ذلك وتَشْمَئِزُّ منه ، فكُلٌّ منهما - أعني القَتْلَ والنَّفْسَ - كأنه يريد من صاحِبِه أن يُطِيعَه إلى أن غَلَبَ القَتْلُ النَّفسَ فطاوعته ، و « له » مُتعلِّق ب « طوَّعت » على القِرَاءتَيْن .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : و « له » لزيادة الرَّبْط ، كقولك : حَفِظْتُ لزيْد ماله . يعني أنَّ الكلام تامٌّ بِنَفْسه .
ولو قيل : فَطَوَّعَتْ نفسُه قَتْل أخيه ، كما كان كَذَلك في قولك « حَفِظْتُ مالَ زَيْد » فأتى بهذه « اللاَّم » لقوة رَبْط الكلام .
قال أبو البقاء : وقال قوم : طاوَعَتْ تتعدَّى بغير « لاَم » ، وهذا خَطَأٌ؛ لأنَّ التي تتعدى بغير اللاَّم تتعدى لِمَفْعُول واحد ، وقد عَدَّاهُ إلى قَتْلِ أخِيه .

وقيل : التَّقْدِير : طاوَعَتْه نفسه قَتْل أخيه ، فزاد « اللاَّم » وحذف « عَلَى » ، أي : زاد اللاَّم في المفعول به وهو « الهَاء » ، وحذف [ « على » الجارَّة ل « قَتْل أخِيه » ] .
قالت المُعْتَزِلَةُ : لو كان خالق الكلِّ هو الله لكان ذلك التَّزيين والتَّطْويع مُضافاً إلى الله - تعالى - لا إلى النَّفْس .
والجواب : أنَّ الأفعال لما استَنَدَت إلى الدَّوَاعي ، وكان فاعل تِلْك الدواعي هو الله فكان فاعل الأفْعَال كلها هو الله - تعالى - ثم قال تعالى « فَقَتَلَهُ » ، قيل : لم يَدْر قابيل كيف يَقْتُل هَابِيل .
قال ابن جُرَيْج : فتمثَّل له إبليس ، فأخذ طَائِراً ووضَع رأسَه على حَجَرٍ ، ثم شَدَخَ له حجرًا آخر ، وقَابيل يَنْظُر إلَيْه فعلَّمه القتل ، فرضَخَ قابيل رَأسَ هَابِيل بين حَجَرَيْن ، قيل : قتله وهو مُسْتَسْلِمٌ ، وقيل : اغْتَالَه وهو نَائِمٌ .
وكان لهابيل يوم قُتل عشرون سنة ، واخْتَلَفُوا في موضع قَتْله
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - على جبل ثَوْر ، وقيل : عند عقبة حراء ، وقيل : بالبَصْرَة عند موضع المَسْجد الأعْظَم ، فلمَّا قتله تركه بالعَرَاء ولم يدر ما يصنع به؛ لأنَّه كان أول ميِّت على وَجْهِ الأرْض من بَنِي آدم ، وقصده السِّباع فَحَمَلَه في جراب على ظَهْرِه أرْبَعِين يَوْماً .
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : سَنَة حتى أروح ، وعَكَفَت عليه الطَّيْر والسِّبَاع تَنْظُر متى يرمي به فَتَأكله ثم قال : { فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } : الحائرين .
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - خسر دُنْيَاه وآخِرته أما الدُّنْيَا : فإنه أسْخَطَ والديه ، وَبقِي مذمُوماً إلى يوم القِيَامة ، وأما الآخِرة : فهي العِقَابُ الدَّائِم العَظِيم .
قيل : إنَّ قابيل لما قتل أخاه [ هابيل ] ، هرب إلى عدن من أرْضِ اليمن ، فأتاه إبْليس فقال له : إنَّما أكلت النَّارُ قُرْبَان هَابِيل؛ لأنَّه كان يَخْدُم النَّار ويعبُدُها ، فإن عَبدت أنت أيضاً النَّار حصل مَقْصُودك ، فبنى بيت نَارٍ وهو أوَّل من عبد النَّار ، ورُوِي أنَّه لما قَتَلَهُ اسْوَدَّ جَسَدُهُ وكان أبْيَض ، فَسَألَهُ آدم عن أخِيه ، فقال : ما كُنْت عليه وَكِيلاً ، فقال : بل قَتَلْته ، ولذلك اسوَدَّ جَسَدُك ، ومكث آدَمُ بَعْدَه مائة سنة لم يضَحْكَ قطّ .
قال الزمخشري : روي أنَّه رَثَاهُ بِشِعْر ، وهو كَذِب بحت والأنبياء معْصُومون عن الشِّعر روى أنس - رضي الله عنه - قال : « سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال : » يوم الدَّم فيه حاضَت حَوَّاء ، وفيه قتل ابنُ آدم أخَاه « .

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

قوله تعالى { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي [ سَوْءَةَ أَخِيهِ ] } .
هذه « اللامُ » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها متعلِّقة ب « يبحث » ، أي : يَنْبُشُ ويُثِيرُ التُّراب للإراءة .
الثاني : أنها متعلِّقة ب « بَعَثَ » ، والمعنى : لِيُريَه الله ، أو ليريه الغراب ، و « كَيْفَ » معمُولة ل « يُوارِي » ، وجملة الاستفهام معلقة للرُّؤْية البَصَرية ، فهي في محلِّ المَفْعُول الثَّانِي سادةٌ مسدَّه؛ لأن « رأى » البصرية قبل تعدِّيها بالهَمْزة مُتَعَدِّية لواحد ، فاكتسبت بالهمزة آخر ، وتقدَّم نَظِيرُها في قوله تعالى : { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ البقرة : 260 ] ومعنى : « يَبْحَثُ » أي : يُفَتِّش في التُّرَاب بمنقارِه ويثيره ، ومنه سُمِّيت سورة « بَراءَة » البحوث؛ لأنها فَتَّشَت على المُنَافقين ، والسَّوْءَةُ المراد بها : ما لا يجُوز أن يَنْكَشِفَ من جَسَده ، وهي الفضيحة أيضاً ، قال : [ الخفيف ]
1951- . . ... يَا لَقَوْمِي لِلسَّوْءَة السَّوآءِ
ويجوز تخفيفها بإلقاء حَرَكَة الهَمْزة على الواو ، وهي قراءة الزُّهري ، وحينئذٍ لا يجوزُ قَلْبُ هذه الواو ألِفاً ، وإن صدق عليها أنَّها حرْف علّةٍ متحرك مُنْفَتِحٌ ما قبله؛ لأنَّ حركتها عَارِضة ، ومثلُها « جَيَل » و « توم » مُخَفَّفَيْ « جَيْألَ » و « تَوْءَم » ، ويجوزُ أيضاً قلبُ هذه الهمزة واواً ، وإدغامُ ما قبلها فيها تَشبيهاً للأصلي بالزَّائِد [ وهي لُغة ] يَقُولون في « شَيْء » و « ضَوْء » : شَيّ وضوّ ، قال الشَّاعر : [ البسيط ]
1952- وإنْ يَرَوْا سَيَّةً طَارُوا بِهَا فَرَحاً ... مِنِّي ومَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
وبهذا قرأ أبُو جعفر .
قوله تعالى : « يَا ويْلَتَا » قلب يَاء المُتَكلم ألِفاً ، وهي لغة فاشيةٌ في المُنَادى المضاف إليها ، وهي إحدى اللُّغات السِّت ، وقد تقدم ذكرُها .
وقُرِئ كذلك على الأصْلِ وهي قِرَاءة الحسن البَصْرِيِّ .
والنِّدَاء وإن كان أصلُه لِمَنْ يتأتَّى منه الإقْبَالُ وهم العقلاءُ ، إلا أنَّ العرب تتجوَّز فتُنَادِي ما لا يَعْقِلُ . وهذه كلمة تُسْتَعمل عند وُقُوعِ الدَّاهِيَة العظيمة ولفظُهَا لفظ النِّداء ، كأن الوَيْل غير حَاضِر عِنْده ، والمعنى يا وَيْلَتَى احضُري ، فهذا أوانُ حُضُورك ، ومثله : { ياحسرة عَلَى العباد } [ يس : 30 ] ، { ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ } [ الزمر : 56 ] ، وأمال حمزة ، والكسائي ، وأبُو عمرو في رواية الدَّوْري ألف « حَسْرَتَا » ، والجمهور قرأ « أعَجَزْتَ » بفتح الجيم ، وهي اللُّغة الفَصِيحَة ، يقال : « عََجَزْت » بالفتح في الماضي ، « أعْجِزُ » بِكَسْرها في المُضَارع .
وقرأ الحسن ، وابن عبَّاس ، وابنُ مسعُود ، وطلحة بكسرها وهي لغة شاذَّة ، وإنَّما المشهور أن يُقَال : « عَجِزت المرأة » بالكَسْر أي كَبُرت عَجِيزتُهَا ، و « أن أكون » على إسْقَاط الخَافِض ، أي : عَنْ أنْ أكونَ ، فلما حُذِف جَرَى فيها الخلاف المَشْهُور .

قوله تعالى : « فَأوَارِيَ » .
قرأ الجمهورُ بنصب الياء ، وفيها تَخْرِيجان :
أصحهما : أنه عطف على « أكون » المنصوبة ب « أنْ » منتظماً في سِلْكِهِ ، أي : أعجَزْت عن كوني مُشْبِهاً للغُرَاب فَمُوَارياً .
والثاني : قاله الزمخْشَريُّ ، ولم يذكر غيره أنَّه منْصوب على جواب الاستفهام في قوله : « أعجَزْتُ » ، يعني : فَيَكونُ من باب قوله : { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } [ الأعراف : 53 ] .
ورده أبو البقاء بعد أن حَكَاهُ عن قَوْمٍ ، قال : وذكر بعضهم : أنه يجُوزُ أن يَنتصب على جواب الاستفهام؛ وليس بِشَيء ، إذ ليس المَعْنى : أيكون منِّي عجز فَمُواراة ، ألا ترى أن قولك : « أين بَيْتُكَ فأزُوركَ » معناه : لو عَرَفْتُ لزرتُ ليس المَعْنَى هنا « لو عَجَزت لوَاريت » .
قال شهاب الدين : وهذا الرَّدُ على ظاهره صَحِيحٌ .
وبَسْطُ عبارة أبي البَقَاء : أنَّ النُّحاة يَشْتَرِطون في جواز نَصْب الفعْلِ بإضمار « أنْ » بعد الأشياء الثمانية - غير النَّفْي - أن يَنحلَّ الكلامُ إلى شرطٍ وجَزَاء فإن انعقد منه شَرْط وجزاء صَحَّ النَّصْبُ ، وإلاَّ امتنعَ ، ومنه « أيْن بيتُك فأزُورَك [ أي ] إن عَرّفتني بَيْتَك أزُورَك » .
وفي هذا المقام لو حَلَّ منه شرط وجَزَاء لفسد المعنى؛ إذ يصير التَّقْدِيرُ : إنْ عَجَزْت وارَيْت ، وهذا ليس بِصَحِيح؛ لأنه إذاعَجز كيف يُوَارِي .
وردَّ أبو حيَّان على الزَّمخشريِّ بما تقدَّم ، وجعله غَلَطاً فاحِشاً وهو مَسْبُوقٌ إليه كما رأيت ، فأساءَ عليه الأدبَ بشيء نَقَلَهُ عن غيره الله أعلمُ بصحَّتِهِ .
وقد قرأ الفَيَّاض بن غَزْوَان ، وطلحة بن مصرف « بسكون الياء » ، وخرَّجها الزمخشري على أحد وجهين :
إمَّا القَطْع ، أي : فأنا أوَاري ، وإمَّا على التَّسْكِين في موضع النصب تخفيفاً .
وقال ابنُ عطيَّة : « هي لغة لتوالي الحركات » .
قال أبو حيَّان : « ولا يصلح أن تعلَّلَ القِرَاءة بهذا ما وُجِد عنه مندُوحَةٌ؛ إذ التَّسْكينُ في الفَتْحَة لا يجُوز إلاَّ ضرورة ، وأيضاً فلم تتوالَ حركات » .
وقوله « فَأَصْبَحَ » بمعنى « صَارَ » .
قال ابن عطيَّة : قوله : « أصْبَح » عبارة عن جميع أوْقَاتِه قيم بَعْض الزَّمان مكان كله ، وخُصَّ الصَّباحُ بذلك [ لأنه ] بَدْءُ النهار ، والانبعاث إلى الأمُور ، ومَظَنَّةُ النَّشَاط ، ومنه قولُ الرَّبِيع : [ المنسرح ]
1953- أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا .. . . .
وقول سعد بن أبي وقَّاص : ثم أصَبْحَت بنو [ أسد تعزرني على ] الإسلام إلى غير ذلك .
قال أبو حيَّان : وهذا التَّعْليل الذي ذكره؛ لكون « أصْبَح » عبارة عن جميع أوْقاته ، وإنما خصَّ الصَّبَاح لكونه بَدْءُ النَّهَار ليس بِجَيّد؛ لأن العرب اسْتَعْمَلَت « أضْحَى » و « بَاتَ » و « أمْسَى » بمعنى « صَار » ، وليس شيء منها بَدْء النَّهَار .
قال شهاب الدين : وكيف يُحْسِن أن يردَّ على أبي محمد بِمِثْل هذا ، وهُوَ لم يَقُل : إنها لمَّا أُقِيمَت مقام أوْقَاته للعلَّةِ الَّتي ذكرها تكونُ بمعنى « صَار » ، حتَّى يلزمَ بأخواتها نَاقِصة عليه ، وسيأتي الكلام على ذلك في « الحُجُرَات » عند قوله تعالى

{ فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ الآية : 6 ] - إن شاء الله تعالى - .
فصل
فإن قيل : فِعْل الغُرَابِ صار سنَّة في دفن الخَلْقِ فَرْضاً على جميع النَّاس على الكِفَاية .
فالجواب : قال بعض المُفَسِّرين : لمَّا قتله ولم يدر ما يَصْنَع به بَعَثَ اللَّه غرابين فاقْتَتَلا ، فقتل أحدُهما الآخر فحفَر له بِمِنْقَاره ورجليه ، ثمَّ ألقاه في الحُفْرَة فتعلَّم قابيل ذلك ، وعَلِمَ أن الغُرَاب أكثر عِلْماً منه ، وعلم أنَّه إنما أقدم على قَتْل أخيه [ بسبب ] جهله وقلَّة معرفته فَنَدِم وتلهف . وقال الأصمُّ : لما قتله وتركه فَبَعَث اللَّه غُرَاباً يحثو التَّراب على المقْتُول ، فلما رأى القَاتِل أنَّ المقتول كيف يُكرمُهُ اللَّه بعد موته نَدِم وقال : يا وَيْلَتا ، وقال أبو مُسْلم : عادة الغُرَاب دفن الأشْيَاء فجاء غرابٌ ودفن شيئاً؛ فتعلَّم ذلك منه .
وقيل : إنَّه كان عالماً بكيْفِيَّة الدَّفن ، وأنه يبعد في الإنْسَان العَاقِل ألاَّ يُهْدَى إلى هذا القدر من العمل ، إلاَّ أنه لما قَتَلَهُ تركه بالعَرَاء ، فلما رَأى الغُرابَ يدفن الغُرابَ رقَّ قلبه ، وقال : إن هذا الغُراب لما قتل ذلك الآخر فبعد أن قَتَلَهُ أخْفَاه تحت الأرْض ، أفأكون أقلَّ شَفَقَة من هذا الغُراب؟! فجاء وحَثَى التُّراب على المَقْتُول ، فلما رأى أنَّ الله تعالى أكرمه حال حياته بقبول قُرْبَانه ، وأكرمه بعد مماته بأن بعث الغُراب ليدفنه تَحْتَ الأرْض ، علم أنَّه عظيم الدَّرجة عند الله تعالى؛ فتلهَّف على فِعْله ، وعَلِمَ أن لا قدرة له على التَّقَرُّب إلى أخيه إلاَّ بأن يَدْفِنَه في الأرض فلا جرم قال : { يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب } . فإن قيل : لفظ النَّدَم وضع للزُوم ، ومنه سُمِّي النَّدِيم نَدِيماً لأنه يُلازِمُ المَجْلس .
فالجواب أنَّه - عليه الصلاة والسلام - قال : { النَّدم تَوْبَة } وأجابوا عنه بوجوه :
أحدها : أنه لما تعلَّم الدَّفن من الغُرَاب صار من [ النَّادِمين على كونه حَمَلَهُ على ظهره سنة .
وثانيها : أنه صار من النَّادمين ] ؛ لأنَّه لم ينتفع بقتله ، وسخطَ عليه بسببه أبواه وإخوته ، وكان نَدمُه لهذه الأسْباب لا لِكَونِهِ مَعْصِية .
وثالثها : أنَّ ندمه كان لأجْل تركه بالعَرَاء استِخْفافاً به بعد قَتْله ، لأنَّ الغُرَاب لما قتل الغُرَاب ودفنه ، نَدِم على قساوة قَلْبه ، وقال : هذا أخِي وشقيقي ومَنْ لحمه مختلط بِدَمي ، فإذا ظهرت الشَّفَقَة من الغُرَاب ولم تظهر منِّي على أخِي ، كنت دون الغراب في الرَّحْمَة والشَّفَقة والأخْلاق الحميدة ، فكان نَدَمُه لهذه الأسْبَاب ، لا للخوف من الله - تعالى - ، فلذلك لَمْ يَنْفَعه النَّدم .
قال المُطَّلِب بن عَبْد اللَّه بن حِنْطَب : لمَّا قتل ابن آدَم أخَاهُ ، وجفَّت الأرض سَبْعَة أيَّام بما عليها ، ثمَّ شَرِبت الأرْضُ دَمَهُ كما تشرب الماء ، فنادَاه [ آدم ] : أين أخُوكَ هَابِيلُ؟ قال : ما أدري ما كنت عليه رَقِيباً .

فقال آدم : إن دم أخيك ليُنَادِيني من الأرْضِ . فلم قَتَلْتَ أخاكَ؟ قال : فأيْنَ دَمُه إن كنت قتلته؟ فحرّم اللَّه - عزَّ وجل - على الأرْض أن تَشْرَب بعده [ دماً ] أبداً ، وقيل لقابيل : اذْهَب طَرِيداً شريداً فزعاً مَرْعُوباً لا تأمَن من تراه ، فأخَذَ بيد أخته « إقْلِيما » وهَرَب بها إلى اليَمَن ، فأتاه إبليس فقال له : إنَّما أكَلَت النَّار قربان أخيك هَابيل؛ لأنَّه كان يعبُد النَّار فانْصِبْ أنت أيضاً ناراً ، وهو أوَّل من عَبَد النَّار قال مُجَاهد : فعلقت إحدى رِجْلَيْ قَابِيل إلى فخذهَا وسَاقِهَا ، وعلقت من يَوْمئذٍ إلى يومِ القِيَامة ، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه ، في الصَّيْف حَظِيرةٌ من نار ، وفي الشِّتَاء حظيرةٌ من ثَلْج ، واتَّخَذَ أولاد قَابِيل آلات اللَّهْو ، وانهمكوا في اللَّهْو وشُرْبِ الخَمْر وعِبَادة النار والزِّنا والفَواحِش ، حتَّى غرقهم اللَّه بالطُّوفان أيَّام نوح - عليه السلام - وبقي نَسْلُ شِيث .

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

قوله : [ { مِنْ أَجْلِ ذلك } ] فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلِّق ب « كَتَبْنَا » وذلك إشارةٌ إلى القَتْل ، و « الأجْل » في الأصْل هو : الجناية ، يقال : « أجَل الأمْر يأجل [ إجْلاً ] وأجْلاً وإجْلاَء ، وأجْلاَء » بفتح الهمزة وكسْرِها إذا جَنَاهُ وحْدَه ، مثل : أخَذَ يَأخُذُ أخْذاً .
ومنه قول زُهَيْرٍ : [ الطويل ]
1954- وَأهْلِ خِبَاءٍ صالحٍ ذَاتُ بَيْنهمْ ... قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أنَا آجِلُهْ
أي : جَانِيه .
ومعنى قول النَّاس « فَعَلْتُه من أجْلِك ولأجلك » أي : بِسببك ، يعني : مِنْ أنْ جَنَيْتَ فِعْلَه وَأوْجَبْته ، وكذلك قولهم : « فَعَلْتُه مِنْ جَرَّائك » ، أصْلُهُ من أن جَرَرْتَهُ ، ثم صار يستعمل بمعنى السَّبَب .
ومنه الحديث « مِن جَرَّاي » أي : من أجْلِي .
و « من » لابتداء الغاية ، أي : نَشَأ الكَتْبُ ، وابتدى من جناية القَتْلِ .
ويجُوزُ حَذْفُ « مِنْ » واللاَّم وانتصاب « أجْل » على المَفْعُول له إذا استكمل الشُّروط له . قال : [ الرمل ]
1955- أجْلَ أنَّ اللَّهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ .. . . .
والثاني : أجَازَ بعض النَّاس أن يكون مُتعلِّقاً بقوله : « من النَّادمين » أي : ندم من أجْلِ ذلك ، أي : قَتْلِهِ أخاه قال أبو البقاء : ولا تتعلَّقُ ب « النَّادمين » ؛ لأنَّه لا يحسن الابتداء ب « كَتَبْنَا » هنا ، وهذا الردُّ غير وَاضِح ، وأين عَدَمُ الحُسْنِ [ بالابتداء ] بِذَلك؛ ابتدأ الله - تعالى - إخْبَاراً بأنَّه كتب ذلك ، والإخْبَار مُتعلِّق بقصة ابْنَيْ آدم إلا أنَّ الظَّاهر خلافه كما تقدَّم .
[ والجمهور على فتح همزة « أجل » ، وقرأ أبو جعفر بكسرها ، وهي لغة كما تقدم ] ورُوي عنه حذفُ الهمزة ، وإلقاءُ حركتها وهي الكسرة على نون « مِنْ » ، كما يَنْقِل وَرْش فتحتها إليها ، والهاء في « أنَّه » ضمير الأمْر والشَّأن ، و « منْ » شرطيَّة مبتدأة ، وهِيَ وخَبَرُها في مَحَلِّ رفعٍ خبراً ل « أن » ، فإن قيل : قوله { مِنْ أَجْلِ ذلك } أي : من أجْل ما مَرَّ من قصَّة قَابِيل وهَابِيل كَتَبْنَا على بَنِي إسْرَائيل القصاص وذلك مُشْكِلٌ ، لأنه لا مُنَاسَبَة بين واقِعَة قَابِيل وهَابِيل ، وبين وُجُوب القِصَاص على بَنِي إسْرائيل .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : ما تقدَّم نَقْلُهُ عن الحسن ، والضَّحَّاك : أنَّ هذا القَتْل إنما وقع في بَنِي إسْرَائيل ، لا بَيْنَ ولديْ آدم لصُلْبِه .
الثاني : أن « مِنْ » في قوله { مِنْ أَجْلِ ذلك } ليس إشارة إلى قصَّة قَابِيل وهَابِيل بَلْ هُو إشَارَةٌ إلى ما ذكر في القِصَّة من أنْوَاع المَفَاسِدِ الحاصلة بِسَبَب القتل المحرَّم ، كقوله « فأصْبَح من الخَاسِرين » ، و « أصْبَح من النَّادِمين » ، فقوله « أصبح من الخَاسِرِين » إشارةٌ إلى أنه حَصَل في قلبه أنْوَاع النَّدم والحسرة والحُزْن ، مع أنَّه لا دَافِع لذلك ألْبَتَّة .

فإن قيل : حُكْم القِصَاص ثَابتٌ في جميع الأمَم فما فَائِدَة تخْصِيصِه بِبني إسْرائيل؟ .
فالجواب : أنَّ وجوب القِصَاص وإن كان عاماً في جميع الأمَمِ ، إلا أنَّ التَّشْديد المَذْكور في حقِّ بَنِي إسْرائيل غير ثَابتٍ في جميع الأدْيَان؛ لأنَّه - تعالى - حكم هاهُنَا بأن قَتْل النفس جار مُجْرى قَتْل جَمِيع النَّاس ، فالمقصود منه : المُبَالَغَة [ في عقاب القتل العَمْد العدوان ، والمقصود من هذه المُبَالَغَة : أنَّ اليهُود مع عِلْمهم بهذه المُبَالغة العَظِيمة ] أقدَموا على قتل الأنبياء والرُّسل ، وذلك يدُلُّ على غاية قَسَاوَة قُلُوبهم ونِهَاية بُعْدهم عن طَاعَة الله ، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص ، تَسْلية الرَّسول في الواقعة التي ذكرْنا ، من أنَّهُم عزموا على الفتك برسُول اللَّه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وبأكابر الصَّحابة ، [ فكان تَخْصِيص ] بَنِي إسرائيل في هذه القِصَّة بهذه المُبَالغَة مُنَاسِباً للكَلاَم .
فصل
استدلَّ القَائِلُون بالقياس بهذه الآية على أنَّ أحْكَام الله تعالى قد تكون مُعَلَّلة؛ لأنَّه قال : { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا } وهذا تَصْرِيح بأن كتبه تلك الأحْكَام معلَّلٌ بتلك المَعَانِي المُشَار إليها بقوله { مِنْ أَجْلِ ذلك } .
وقالت المُعتزلةُ :
دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ أحْكَام اللَّه معلّلة بمصالح العِبَاد ، وإذا ثَبَتَ ذلك امْتَنَع كونه خَالِقاً للكُفْر والقَبَائح ، مُريداً وقوعها مِنْهم؛ لأنَّ خلق القَبَائح وإراداتها يمنع من كونه تعالى مُرَاعياً للمصالح ، وذلك يُبْطِل التَّعْلِيل المَذْكُور في هذه الآية .
وأجاب القَائِلُون بأنَّ تعلِيلَ أحْكَام اللَّه مُحَالٌ بوجوه :
أحدها : أن العِلَّة إذا كانت قَدِيمة لزم قدم المَعْلُول ، وإن كانت مُحْدَثة وجب تَعْلِيلُها بعلَّة أخرى ولزم التَّسَلْسُل .
وثانيها : لو كان مُعَلَّلاً بِعِلَّة ، فوجود تلك [ العِلَّة ] وعدمها بالنِّسْبَة إلى اللَّه تعالى إن كان على السَّوِيَّة امتنع كونه عِلَّة ، وإن لم يَكُن فأحدهما به أوْلى ، وذلك يَقْتَضِي كونه مُسْتَفِيداً تلك الأوْلويَّة من ذلك الفِعْلِ [ فيكون ناقِصاً لذاته مُسْتَكْملاً بغيره وهو مُحَال .
وثالثها : ثبت توقف الفعل ] على الدَّوَاعي ، ويمتنع وقوع التَّسَلْسُل في الدَّواعي ، بل يجب انْتِهَاؤُها إلى الدَّاعية الأولَى التي حَدَثَت في العَبْد ، لا مِن العَبْد بل من الله تعالى ، وثبت أنَّ عند حُدُوث الدَّاعِية يجب الفعل . وعلى هذا التقدير : فالكُلّ من الله تعالى ، وهذا يَمْتَنِع من تَعْلِيل أفْعَال اللَّه وأحكامه برعاية المصالح ، وإذا ثبت امْتِنَاع تَعْليل أفعال اللَّه وأحكامه ثَبَتَ خلوّ ظاهر هذه الآية من المُتَشَابِهَات ، ويؤكِّده قوله تعالى : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } [ المائدة : 17 ] ، وذلك نصٌّ صَرِيحٌ في أنَّه يحسن من اللَّه كُلُّ شيء ، ولا يَتَوَقَّف خلقه وحُكْمُه على رعاية المَصْلَحة ألبتة .
قوله تعالى « بِغَيْر نَفْسٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتَعَلِّقٌ بالقتل قَبْلها .
والثاني : أنَّه في مَحَلِّ حالٍ من ضمير الفاعل في « قتل » ، أي : قَتلها ظالماً ، ذكره أبو البقاء .

وقوله تعالى « أوْ فسادٍ » الجمهور على جَرِّهِ عَطْفاً على « نَفْس » المجرور بإضافة [ « غَيْر » إليها ] ، وقرأ الحسن بنصبه ، وفيه وجهان :
أظهرهُمَا : أنَّه منصوبٌ على المَفْعُول بعامل مضمر يَلِيقُ بالمَحَلِّ ، أي : أو أتى أو عَمِل فََسَاداً .
والثاني : أنه مصدرٌ ، والتقدير : أو أفْسَد فَسَاداً بمعنى إفساد فهو اسْمُ مَصْدَر ، كقوله : [ الوافر ]
1956- وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرِّتَاعَا ... ذكره أبو البَقَاء .
و « في الأرض » متعلِّق بنفس « فَسَاد » ؛ لأنَّك تقول : « أفْسَد في الأرْض » إلاَّ في قراءة الحسن بنَصْبِه ، وخرَّجناه على النَّصْب على المَصْدرية ، كما ذكره أبُو البقاء ، فإنه لا يتعلَّق به؛ لأنه مصدر مُؤكِّد ، وقد نَصُّوا على أنَّ المؤكد لا يعمل ، فيكُون « في الأرضِ » متعلِّقاً بمحذُوف على أنه صِفَة ل « فساداً » والفاءُ في « فَكَأنَّمَا » في الموضعين جواب الشَّرْط واجِبَة الدُّخول ، و « ما » كافة لحرف التَّشْبيه ، والأحْسَن أن تسمى هُنَا مهيِّئة لوقوع الفِعْل بَعْدَهَا ، و « جَمِيعاً » : إمَّا حال أو تَوْكِيدٌ .
فصل
قال الزَّجَّاج : التقدير : من قتل نَفَساً بغير نَفْس أو فَسَاد في الأرْض ، وإنَّما قال تعالى ذلك؛ [ لأنَّ ] القَتْل يحل لأسْبَاب كالقصاص ، والكفر ، والزِّنا بعد الإحْصَان ، وقطع الطَّرِيق ونحوه ، فجمع تعالى هذه الوُجُوه كُلَّها في قوله تعالى { أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض } ثم قال : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } .
فإن قيل : كيف يكُون قتل النَّفْس الوَاحِدة مساوِياً للكُلِّ؟ فذكر المُفَسِّرُون له وُجُوهاً ، وهي مَبْنِيَّة على مُقَدِّمة ، وهي أنَّ تَشْبيه أحَد الشَّيْئَيْن بالآخَر ، لا يَقْتَضِي الحُكْم بمُشَابَهَتِهما من كلِّ الوُجُوه ، وإذا صحَّت المُقدِّمة ، فنقُول : الجواب من وجوه :
أحدها : [ المقصُود من تَشْبيه ] قَتْل النَّفْس الواحِدَة بقَتْل النُّفُوس : المُبَالغَة في تَعْظيم أمر القَتْل العَمْدِ العُدوان وتَفْخِيم شَأنه ، يعني : كما أنَّ قَتْل كلِّ الخَلْق أمر مستَعْظمٌ عند كلِّ أحَدِ ، فكَذَلِك يجب أن يكون قتل الإنْسَان الواحِد مستَعْظَماً منهياً ، فالمَقْصُود بيان مُشاركتهمَا في الاستِعْظَام ، لا بيان مُشاركتِهمَا في مقدار الاسْتِعْظام ، وكيف لا يكُون مُسْتعْظَماً وقد قال - تعالى - : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [ النساء : 93 ] .
وثانيها : أنَّ جميع النَّاس لو عَلِمُوا من إنْسَان واحد أنَّه يقصد قَتْلَهم بأجْمَعِهِم ، فلا شكَّ أنهم يَدْفَعُونه دفعاً لا يُمْكِن تَحْصِيل مَقْصُوده ، فكذلِكَ إذا عَلِموا منه أنَّه يقصد قَتْلَ إنْسَان واحد [ مُعيَّن يجب أن ] يَجِدُّوا في دَفْعِه ، ويَجْتَهِدوا كاجْتِهَادهم في الصُّورة الأولى .
وثالثها : أنه لمَّا أقدم على القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان فقد رجَّح داعِية الشَّهْوة والغضب على دَاعِيَة الطَّاعة ، ومتى كان الأمر [ كَذَلِكَ ] كانَ التَّرْجِيح حَاصِلاً بالنِّسبة إلى كلِّ واحد ، فكان في قلبه أنَّ كلَّ أحد نازعه في شيءٍ من مَطَالبه؛ فإنَّه لو قدر عليه لقتَلَهُ ، ونيَّة المؤمن في الخَيْرَات خَيْر من عَمَلِهِ ، فكذلك [ نِيَّة المؤمن في الشُّرور شرٌّ من عمله ، فيصير المَعْنَى : من يَقْتُل إنساناً قَتْلاً عمداً عُدْوَاناً فكأنَّمَا قَتَل جَمِيع النَّاس ] .

ورابعها : قال ابْنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - في رواية عِكْرِمة « مَنْ قتل نَبيّاً أو إمامَ عَدْلٍ ، فكأنَّما قتل النَّاسَ جَمِيعاً ومن أحْيَاها : من سَلِمَ من قتلها ، فكان كمن سَلِمَ من قَتْلِ النَّاس جَمِيعاً » .
وخامسها : قال مُجَاهِد : من قتل نَفْساً محرَّمة يَصْلَى النَّار بقتلها ، كما يصلاها لو قتل النَّاس جميعاً ، ومَنْ أحْيَاها : من سلم من قتلها ، فكان كمن سلم من قتْلِ النَّاس جَمِيعاً .
وسادسها : قال قتادة : أعْظَم اللَّه أجرَهَا وعظَّم وزرَها ، معناه : من استَحَلَّ قتل مُسْلِم بغير حَقِّه ، فكأنَّما قتل النَّاس جميعاً في الإثْم لا يَسْلَمُون منه ، ومن أحْيَاها وتورَّع عن قَتْلِها ، فكأنَّما أحْيَا النَّاس جَمِيعاً في الثَّواب لسلامتِهم منه .
وسابعها : قال الحسن : فكأنَّما قتل النَّاس جَمِيعاً ، يعني : أنَّه يَجِبُ عليه من القِصَاص بِقَتْلِها ، مثل الذي يجب عليه لو قتل النَّاسَ جَمِيعاً ، ومن أحْيَاها ، أي : عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ عليه القِصَاص له ، فَلَمْ يَقْتُلْه فكأنَّما أحيا النَّاس جَمِيعاً ، قال سُليمان بن عَلِي : قلت للحَسَن : يا أبَا سَعِيد : أهِيَ لَنَا كما كانت لِبَني إسْرائيل؟ قال : والذي لا إله غيره ما كان دَمُ بَنِي إسرائيل أكرم على الله من دَمائِنا .
وإحْيَاء النَّفْس : هو تَخْلِيصُها من المُهْلِكَات كالحَرق ، والغَرَقِ ، والجُوعِ المُفْرط ، والبرد والحرِّ المُفْرطيْن .
ثم قال : { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك } ، أي : بعد مَجِيء الرُّسل وبعدما كَتَبْنَا عليهم تَحْريم القَتْل ، « لمُسْرِفُون » الذي هو خَبَر « إن » ولا تَمْنَعُ من ذلك لام الابتداء فاصِلَة بين العامل ومعمُوله المتقدِّم عليه؛ لأنَّ دخولها على الخَبَر على خِلاف الأصْل؛ إذ الأصْل دُخولُها على المُبْتَدأ ، [ وإنَّما منع منه دخول « إنَّ » و « ذلِكَ » إشارة إلى مجيء الرُّسُل بالبيِّنات ] .

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

لما ذكر تَغْلِيظ الإثْم في قَتْل النَّفس بغير حقٍّ ولا فساد في الأرض أتبعه بِبَيَان الفَسَاد في الأرْض .
وقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين } : مُبْتَدأ وخبره « أنْ يُقَتَّلُوا » وما عطف عليه ، أي : إنَّما جَزاؤُهُمُ التَّقْتِيلُ ، أو التَّصلِيب ، أو النَّفْي .
وقوله : « يُحارِبُون اللَّه » ، أي : يُحَارِبون أولِيَاءه كذا قدَّرَه الجُمْهُور .
وقال الزَّمَخْشَريُّ : « يُحَارِبُون رسُول الله ، ومحاربة المُسْلِمِين في حكم مُحَارَبَتِه » .
يعني : أنَّ المقصود أنَّهم يُحَارِبون رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وإنما ذكر اسْم الله - تبارك وتعالى - تَعْظِيماً وتَفْخِيماً لمن يُحَارَبُ ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك عند قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا } [ البقرة : 9 ] .
فإن قيل : المُحَارَبة مع اللَّه - عزَّ وجل - غيْر مُمْكنة ، فيجب حَمْلُه على المحاربة مع أولياء اللَّه ، والمحاربةُ مع رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ممكِنَةٌ فلفظ { يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } يَلْزَم أن يكون مَحْمُولاً على المجاز والحقيقة معاً فلفظ المحاربة بما نُسِبَت إلى الرَّسُول فلفظ المحاربة إذا نُسِبَت إلى اللَّه تعالى كان مَجَازاً ، لأن المُراد منه مُحَاربة أوْلِيَاء اللَّه ، وإذا نُسِبَتْ إلى الرَّسُول كانت حَقِيقَة ، وذلك مُمْتَنِعٌ .
فالجواب : إنَّما تحمل المُحاربة على مُخالفةِ الأمْرِ والتَّكْلِيفِ .
والتقدير : إنَّما جزاء الذين يُخالِفُون أحْكامَ اللَّه تعالى وأحكام رسُولِه ، ويَسْعَوْن في الأرْض فَسَاداً كذا وكذا ، ومن يجز ذلك لم يَحْتَجْ إلى شيء من هذه التَّأوِيلات بل يقول تُحْمَلُ محاربتهم للَّه - تعالى - على مَعْنًى يَلِيق بها ، وهي المُخالفةُ مَجازاً ، ومحاربَتُهم لِرسُوله على المُقاتلةِ حَقِيقة . قوله : « فساداً » في نصبه ثلاثة أوجُه :
أحدها : أنه مَفْعُول من أجله ، أي يُحَاربُون ويسْعَون لأجل الفساد ، وشروط النَّصْبِ موجُودة .
الثاني : أنَّه مصدر وَاقع موقع الحَالِ : ويسْعَوْن في الأرْض مفسدين ، أو ذوي فساد ، أو جُعِلُوا نفس الفساد مُبالغةً ، ثلاثة مذاهب [ مشهورة ] تقدَّم تَحْرِيرها .
الثالث : أنه منْصُوب على المصدر ، أي : إنَّه نَوْع من العامل قبله ، فإنَّ معنى « يَسْعَوْن » هنا : يُفْسدُون وفي الحَقِيقة ، ف « فسادٌ » قائم مقام الإفساد [ والتقدير : ] ، ويفسدون في الأرْض بسعيهم إفْساداً .
و « فِي الأرْضِ » الظّاهر : أنه متعلِّق بالفِعْل قَبْلَه ، كقوله : { سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ } [ البقرة : 205 ] .
وقد أجيز أن يكون في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ؛ لأنَّه يجُوز أن لو تأخَّر عنه أن يكون صِفَةً له . وأجيز أن يتعلَّق أيضاً بنَفْس « فساداً » ، وهذا إنَّما يَتمشّى إذا جعلْنَا « فَسَاداً » حالاً .
أمَّا إذا جَعَلْنَاهُ مصدراً امتنع ذلك لِتَقَدُّمِهِ عليه ، ولأنَّ المؤكد لا يَعْمَل .
وقرأ الجمهور « أنْ يُقَتَّلُوا » وما بعده من الفِعْلَين بالتثقيل ، ومعناه : التَّكْثير بالنِّسْبَة إلى من تقعُ به هذه الأفْعَال .

وقرأ الحسن وابنُ مُحَيْصِن بِتَخْفِيفِهَا .
قوله تعالى « مِن خِلافٍ » في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من « أيْدِيهِمْ » و « أرْجُلِهِمْ » أي : [ تقطع مختلف ] بمعنى : أن يقْطَع يَدَهُ اليُمْنَى ، ورجله اليُسرى .
والنَّفي : الطَّرْد .
و « الأرض » المراد بها هاهُنَا « ما يُريدُون الإقامَة بها ، أو يُراد من أرْضِهِمْ .
و » ألْ « عوض من المضاف إليه عِنْد من يَرَاهُ .
فصل
قال الضَّحَّاك : نزلت في قوم مِنْ أهْل الكتاب ، كان بَيْنهم وبين رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ ، فَنَقَضُوا العَهْد وقطعُوا السَّبِيل وأفْسَدوا .
وقال الكَلْبِي : نزلت في قَوْم هِلال بن عُوَيْمر ، وذلك أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم واعد هلال بن عُوَيْمِر وهو أبو بُرْدَة الأسْلَمي ، على ألا يُعِينَهُ ولا يُعِين عليه ، ومن مرَّ بهلال بن عويمر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فهو آمِنٌ لا يُهَاجُ ، فمرَّ قوم من بَنِي كِنَانَة يريدون الإسلام ، بِنَاس من أسْلَم من قَوْم هلال بن عويمر ، ولم يكن هلال شَاهِداً ، فَشَدُّوا عليهم فَقَتَلُوهم وأخَذُوا أمْوالهم ، فنزل جبريل بالقِصَّة .
وقال سعيد بن جبير : نزلت في نَاسٍ من عُرَيْنَة وعكل أتَوا النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وبايعوه على الإسلام وهم كَذَبة ، فَبَعَثَهُم النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - إلى إبل الصَّدقةِ فارْتَدُّوا ، وقتلوا الرَّاعِي واسْتَاقُوا الإبِل ، فبعث النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - من رَدَّهم وأمر بِقَطْع أيديهم وأرجُلهم ، وسَمْل أعْيُنِهم بمَسَامِير وكحلهم بها ، وطَرحهم في الحَرِّ يَسْتَسْقُون فلا يُسْقَون حتى ماتُوا .
قال أبو قِلابَة : هؤلاء قَتَلُوا وسَرَقُوا ، وحاربُوا الله ورسُولَهُ وَسَعَوْا في الأرْضِ فساداً ، فنزلت هذه نَسْخاً لِفْعِل النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فصارت السُّنَّة مَنْسُوخة بهذا القُرْآن العظيم ، ومن قال إنَّ السُّنَّة لا تُنْسَخُ بالقُرْآن قال : إنما كان النَّاسِخ لتلك السُّنَّة سُنَّة أخْرى : ونزل هذا القُرْآن العَظِيم مُطَابِقاً للسُّنَّة النَّاسخة .
وقال بعضهم : حُكُمُهم ثَابِت إلا السَّمل والمُثْلَة ، وروى قتادةُ عن ابن سيرين أنَّ ذلك قَبْل أن تَنْزِل الحُدُود .
قال أبو الزَّنَاد : ولما فعل رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك بهم أنْزل اللَّه الحُدُود ، ونَهَاهُ عن المُثْلة فلم يَعُد ، وعن قتادةُ قال : بَلَغَنَا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم [ بعد ذلك كان يحثّ على الصَّدَقة ويَنْهَى عن المُثْلة ، وقال سليمان التَّيْمِي عن أنس : إنَّما سَمَل النبي - صلَّى الله ] عليه وعلى آله وسلَّم - أعْيُن هؤلاء؛ لأنَّهم سَمَلُوا أعْيُنَ الرُّعَاة .
وقال الليث بن سَعْد : نزلَت هذه الآيَةُ مُعَاتِبَةً لِرسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وتَعْلِيماً له عُقُوبَتهم وقال : إنَّما جَزَاؤهم لا المُثْلَة ، ولذلك ما قَامَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - خَطِيباً إلا نَهَى عن المُثْلَة .

وقيل : نزلت هذه الآية في الَّذِين حُكي عنهم من بَنِي إسرائيل - أنَّهُم بعد أنْ غلظ عليهم عِقَابُ القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان ، فهم مُسْرِفون في القَتْلِ ويُفْسِدون في الأرْض ، فمن أتى منهم بالقَتْلِ والفَسَادِ في الأرْضِ فَجَزَاؤهُم كذا وكذا .
وقيل : نزلت هذه الآية في قطَّاعِ الطَّرِيق من المُسْلِمين [ وهذا قول ] أكثر الفقهاء قالوا : والذي يدل على أنَّهُ لا يَجُوز حَمْلُ الآية على المُرْتَدِّين من وجوه :
أحدها : أنَّ قطع المرتدِّ لا يقف على المُحَاربة ، ولا على إظهار الفَسَاد في دار الإسلام ، والآية تَقْتَضِي ذلك .
وثانيها : لا يجوز الاقتصَار في المرتدِّ على قَطْعِ اليَدِ ، ولا على النَّفْي ، والآية تقتضي ذلك .
وثالثها : أن الآية تَقْتَضِي سقوط الحد بالتَّوْبة قبل القُدْرة؛ لقوله تعالى { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ } .
والمرتَدُّ يسقط حَدُّه بالتَّوبة قبل القُدْرة وبعدها ، فدلَّ على أن الآية لا تعلُّقَ لها بالمُرْتَدِّين .
ورابعها : أن الصَّلْب غير مشْرُوع في حق المُرْتَدِّ ، وهو مشروع هاهنا فوجَب ألا تكون الآية مُخْتَصَّة بالمرتدِّين .
وخامسها : أنَّ قوله تعالى : { الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً } يتناول كل من يُوصَف بهذه سواءً كان مُسْلِماً أو كافراً ، ولا يُقالَ : الآية نزلت في الكُفَّار؛ لأن العبرة بعُمُوم اللَّفْظ لا خُصوص السَّبَب ، فإن قيل : المُحَارِبُون هم الذين يَجْتَمِعُون ولهم مَنَعَةٌ ، ويَقْصدون المُسْلِمين في أرواحهم ودِمَائهم ، واتَّفَقُوا على أنَّ هذه الصِّفَة إذا حصلت في الصَّحَراء كانوا قُطَّاع الطَّريق ، وأما إن حصلت في الأمْصار ، فقال الأوْزَاعيُّ ومالِكٌ واللَّيْث بن سَعْد والشَّافِعِيّ : هم أيضاً قُطَّاع الطَّريق ، هذا الحدُّ عليهم ، قالوا : وإنَّهم في المُدُن يكونون أعْظَم ذَنْباً فلا أقَلَّ من المُسَاوَاة ، واحتَجُّوا بالآية وعُمُومها ، ولأنَّ هذا حدّ فلا يَخْتَلِفُ كَسَائِر الحدود [ وقال أبو حنيفة ومُحَمَّد : إذا حصل ذلك في المِصر لا يُقام عَلَيْه الحُدُود ] لأنه لا يلحقه الغَوْثُ في الغالِبِ فلا يتمكَّن من المغالبة ، فصار في حكم السَّارِق .
فصل
قوله تعالى في الآية { أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } . اختلف العلماء في لفظة « أوْ » : فقال ابن عبَّاس في رواية الحسن ، وسعيد بن المسيب ، ومُجاهد ، والنَّخْعِي : إنَّها للتَّخْيير ، والمعنى : أنَّ الإمام مخيَّر في المُحَاربين ، إن شاء قَتَلَ ، وإن شَاء صَلَب ، وإن شاء قَطَعَ الأيْدِي والأرجل ، وإن شاء نَفَى ، وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في رواية عطاء : « أوْ » هاهنا [ لَيْسَت ] للتَّخيير ، بل لبيانِ الأحْكَام وتَرْتِيبهَا .
قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - في قُطَّاع الطريق إذا قتلوا وأخَذُوا المال : قُتِلُوا وصُلِبُوا ، وإذا قَتَلُوا ولم يأخُذُوا المال ، قُتِلُوا ولم يُصْلَبُوا ، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا؛ قُطِعَتْ أيْدِيهم وأرْجُلُهم ، وإذَا قَتَلُوا ولم يَأخذُوا المالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا ، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا؛ قُطِعَتْ أيديهم وأرْجُلُهم من خلافٍ ، وإذا أخافُوا السَّبيل ، ولم يأخُذُوا مالاً؛ نُفُوا من الأرض ، وهذا قول قتادة [ والشَّافعي ، والأوْزَاعِيِّ ] ، وأصحاب الرَّأي .

واختَلَفُوا في كَيْفِيَّة القَتْلِ والصَّلْب ، فظاهر مَذْهَبِ الشَّافعيّ : أنه يُقْتَل ثم يُصْلَب ، وقيل : يُصْلب حيّاً ثم يُطْعَن حتى يموت مصْلُوباً ، وهو قول اللَّيْث بن سَعْد ، وقيل : يُصْلَب ثلاثة أيَّام ، ثم ينزل ثم يُقْتَل ، وإذا قَتَلَ يُقْتَلُ حتماً ، لا يسقط بعَفْو وَلِيّ الدَّم .
واختُلِفَ في النَّفْي : فقال سعيد بن جُبَيْر ، وعُمَرُ بن عَبْد العزِيز : أنَّ الإمام يطلبه ففي كُلِّ بلد يُوجَد ينفى عنه ، وقيل : يُطْلَبُون ليُقَام عليهم الحُدُود ، وهو قول ابن عبَّاس ، واللَّيث بن سَعْد ، وبه قال الشَّافعي ، وإسْحَاق .
وقال أبو حنيفة : النَّفْي هو : الحبس ، وهو اخْتِيَار أهْل اللُّغَة .
قالوا : لأن قوله { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } : إمَّا أن يكُون المُرَادُ به النَّفي من جميع الأرْضِ ، وذلك غير مُمْكِن مع بَقَاءِ الحياة ، [ وإمَّا ] أن يكون المُرَاد إخراجه من تلك البلدة إلى بَلْدَةٍ أخرى وهو غَيْر جَائِزٍ ، لأنَّه إمَّا أن يُنْفَى من بِلاد الإسْلام فَيُؤذيهم ، أو إلى بِلاد الكُفْر فيكون تَعْرِيضاً له بالرِّدَّة ، وذلك غَيْرُ جَائِزٍ ، فلم يَبْقَ إلاَّ أنْ يكُون المُراد من النَّفْي نَفْيهُ عن جميعِ الأرْض إلى مكانِ الحَبْس قالوا : والمَحْبُوس : قد يُسَمَّى منفياً من الأرض لأنه لا يَنْتَفِع بشيء من طَيِّبَات الدُّنيا ولذَّاتها ، ولا يرى أحَداً من أحبابه ، فصار منفياً عن اللَّذات والشَّهَوات والطَّيِّبات فكان كالمَنْفِي في الحقيقةِ ، ولما حَبَسُوا صالح بن عبد القُدُّوس على تُهْمَة الزَّندقة في حبس ضيقٍ وطال لَبْثه هُنَاك ذكر شِعْر منه : [ الطويل ]
1957- خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِهَا ... فَلَسْنَا مِنَ الأمْوَاتِ فِيهَا ولا الأحْيَا
وقال - سامَحه اللَّه وعفا عنه وعنَّا - قوله : [ الطويل ]
1958- إذا [ جَاءنَا ] السَّجَّانُ يَوْماً لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا : جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا
قوله تعالى : { ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا } .
« ذلك » إشارةٌ إلى الجزاء المُتقدِّم ، وهو مُبْتَدأ .
وقوله : « لَهُمْ خِزْيٌ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكُون « لهم » خبراً مُتقدِّماً ، و « خِزْي » مُبْتَدأ مُؤخَّر ، و « فِي الدُّنْيا » صِفَةٌ له ، فيتعلق بمحذُوف ، أو يتعلَّق بنفس « خِزْي » على أنَّه ظَرْفيَّة ، والجُمْلَة في محلِّ رفع خبر ل « ذَلِكَ » .
الثاني : أن يكون « خِزْي » خبراً ل « ذلك » ، و « لهم » مُتعلِّق بمحذُوف على أنَّه حال من « خِزْي » ؛ لأنَّه في الأصْل صِفَةٌ له ، فلمَّا قُدِّم انْتَصَب حالاً .
وأمَّا « في الدُّنْيَا » فيَجُوز فيه الوجهان المتقدِّمان من كونهِ صِفَةً ل « خزي » أو مُتعلِّقاً به ، ويجُوزُ فيه أن يكون مُتعلِّقاً بالاسْتِقْرَار الذي تعلَّق به « لَهُم » .

الثالث : أن يكون [ « لَهُمْ » ] خبراً ل « ذلك » و « خِزْي » فاعل ، ورفع الجار هنا الفاعل لمَّا اعْتَمَد على المُبْتدأ ، و « فِي الدُّنْيَا » على هذا فيه الأوْجُه الثلاثة .
فصل في شبهة للمعتزلة وردها
المراد بالخِزْي في الدُّنْيَا : الفَضِيحة والهَوَان والعَذَاب ، ولَهُمْ في الآخرة عَذَابٌ عَظِيم .
قالت المُعْتَزِلَةُ : دلَّت الآية [ على القَطْعِ بوَعِيد ] الفُسَّاق من أهْل الصَّلاة وعلى أنَّ عِقَابَهم قد أحْبَطَ ثوابهم؛ لأنَّه تعالى حَكَم بأنَّ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيا وذلك يدل على أن اسْتِحْقَاقهم للذمِّ في الحَالِ ، وإذا اسْتَحَقُّوا الذَّم في الحالِ امْتَنَع اسْتِحْقَاقهم للمَدْح والتَّعْظيم؛ لأنَّ ذلك جَمْعٌ بين الضِّدِّيْن ، وإذا كان كذلِك ثَبَتَ القَطْع بوعيد الفُسَّاق ، وثَبَتَ القول بالإحْبَاط .
والجوابُ : لا نِزَاع بيننا وبَيْنَكم أنَّ هذا إنَّما يكون وَاقِعاً على جِهَة الخِزْي والاسْتِحْقَاقِ ، إذَا لَمْ يَتقدَّمه تَوْبة ، وإذا جازَ لكم [ أن تَشْتَرِطُوا هذا الحُكْم بِعَدَم التَّوْبة ] لِدَليل دَلَّ على اعْتِبَار هذا الشَّرْط ، فنحن أيضاً نشترط لهذا الحُكْم عدم العَفْو ، وحينئذٍ لا يَبْقَى الكلام إلاّ في أنَّهُ هل دَلَّ [ على أنَّه - تعالى - ] يَعْفُو عن الفُسَّاق أم لا؟ وقد تقدَّمت هذه المسْألة في سُورة البقرة عند قوله تعالى { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته } [ البقرة : 81 ] .
قوله تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه مَنْصُوب على الاسْتِثْنَاء من المحاربين ، وللعُلَماء خلافٌ في التَّائِب من قُطَّاع الطَّريق ، هل تَسْقط عنه العُقُوبات كُلُّها ، أو عقوبة قَطْع الطَّريق فقط؟ .
وأما ما يتعَلَّق بالأمْوَال وقتل الأنْفُس ، فلا تسقط ، بل حُكْمُه إلى صاحِبِ المال ، وَوَلِيّ الدَّم ، والظَّاهر الأوّل .
الثاني : أنَّه مرفوع بالابْتِدَاء ، والخبر قوله : « فإنَّ الله غَفُورٌ رحيم » والعَائِد مَحْذُوف ، أي : غفور له؛ ذكر هذا الثَّاني أبُو البقاء . وحينئذٍ يكون استثناءً مُنْقَطِعاً بمعنى : لكن التَّائِب يُغْفَر لَهُ .
فصل
من ذَهَب إلى أنَّ الآية نَزَلَت في الكُفار قال : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } : من شركهم : وأسْلَموا قبل أن تَقْدِروا عليهم فَلاَ سَبِيل عليهم بِشَيْءٍ من الحدُود ولا تَبِعَة عليهم فيما أصَابُوا في حال الكُفْر من دَمٍ أوْ مَال .
أما المُسْلِمُون المحاربون : فمن تاب منهم قبل القُدْرَة عَلَيْه ، وهو قبل أنْ يَظْفَر بِهِمُ الإمَام تَسْقُط عَنْهُ كل عُقُوبة وجبت حقاً لله تعالى ، ولا يَسْقُط ما كان من حُقُوق العِبَاد ، فإذا كان قد قَتَل في قَطْعِ الطَّريق يسقُطُ عنه بالتَّوْبة [ قبل القُدْرَة عليه ] تحتُّم القَتْل ، ويبقى عليه القِصَاصُ لولي القَتِيل إن شَاءَ عفا عنه ، وإن شَاءَ اسْتَوْفَاه ، وإن كان قد أخَذَ المال يَسْقُط عنه القَطْع ، وإن كان جمع بَيْنَهُما يسقط عنه تحتُّم القَتْل والصَّلْب ، ويجب ضَمَان المال .
وقال بعضهُم : إذا جاء تَائباً قبل القُدْرَة [ عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلاّ أن يوجد معه مال بعينه فيردّه إلى صاحبه .
روي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن زيد كان خرج محارباً فسفك الدماء ، وأخذ الأموال ثم جاء تائباً قبل أن يقدر عليه فلم يجعل له عليه تبعة . أما من تاب بعد القدرة ] فلا يَسْقُط عنه شيء منها .
وقيل : كُلُّ عقُوبة تجب حقاً لِلَّه - تعالى - من عُقُوبَات قَطْع الطَّريق ، وقطع السَّرقة ، وحدِّ الزنا ، والشُّرب تَسْقُط بالتَّوْبة بكل حال كما تقدَّم والأكْثَرُون على أنَّها لا تَسْقُط .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)

في كيفيَّة النَّظْمِ وجهان :
أحدهما : أنَّه لما أخبر رسُولَه صلى الله عليه وسلم أن قوماً من اليَهُود هَمُّوا أن يَبْسُطُوا أيديهم إلى الرَّسُول وإلى أصحابه بالغدر والمكر ، ومَنَعَهُم الله تعالى من مُرَادهم ، وشرح للرَّسُول شدَّة تَعَصُّبِهم على الأنْبِيَاء وإصْرَارهم على إيذَائهم ، وامتدَّ الكلامُ إلى هذا الموضع ، فعند هذا رَجَع إلى المَقْصُود الأوَّل وقال { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة [ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ ] } ، كأنه قيل : قد عَرَفْتُمْ كمال جَسَارَةِ اليَهُودِ على المَعَاصِي والذُّنُوب ، وبُعْدهم عن الطَّاعَات الَّتِي هي الوَسَائِلُ للعبد إلى الرَّبِّ ، فكُونُوا يا أيُّها المُؤمِنُون بالضَّدِّ من ذلك فاتَّقوا معَاصِي اللَّه ، وتوسَّلُوا إليه بالطَّاعات .
والثاني : أنهم لما قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] .
أي : أبْنَاء أنبياء الله فكان افتخارهم بأعْمَال آبَائِهِم كأنَّه تعالى قال : « يا أيها الذين آمنوا [ اتّقوا الله ] ولتكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم ، فاتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة » .
في قوله تعالى : « إليه » ثلاثةُ أوجُه :
أحدها : أنه مُتعلِّق بالفِعْل قبله .
الثاني : أنه متعلِّق بنفس « الوَسيلَة » .
قال أبو البقاء : لأنَّها بمعنى المتوسَّل به ، فلذلك عَمِلَت فيما قبلها .
يعني : أنَّها ليست بِمَصْدَر ، حتى يمتَنِع أن يتقدَّم مَعْمُولها عليها .
الثالث : أنه مُتعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حال من « الوَسِيلَة » ، وليس بالقَوِي .
و « الوسيلة » أي : القُرْبة ، فَعِيلَة مِنْ توسَّل إليه فلانٍ بكذا إذا تقرَّب إليه ، وجمعها : وَسَائِل .
قال لبيد : [ الطويل ]
1959- أرى النَّاسَ لا يَدْرُونَ ما قَدْرُ أمْرِهِمْ ... ألاَ كُلُّ ذِي لُبٍّ إلى الله وَاسلُ
أي : متوسّل ، فالوسِيلة هي التي يتوسَّلُ بها إلى المَقْصُودِ .
فصل
قال ابن الخطيب : التَّكْلِيفُ نوعان : ترك المَنْهِيَّات : وهو قوله تعالى « اتَّقُوا الله » ، وفعل الطَّاعات : وهو قوله { وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } ، والتَّرك مُقَدَّم على الفِعْل بالذَّات؛ لأنه بَقَاء على العَدَم [ الأصلي ] ، والفعل إيجاد وتَحْصِيل ، والعَدَمُ سابق ، ولذلك قُدِّمَت التَّقْوى فإن قيل : لِمَ اختصّت الوسِيلَة بالفعل ، مع أنَّ ترك المَعَاصي قد يكون وَسِيلة؟
فالجوابُ : أن التَّرك بقاء على العدم ، وذلك لا يُمْكِن التَّوَسُّل به ، بل من دَعَتْهُ الشهْوة [ إلى فعل القَبِيح ] ، فتركه مرضاة اللَّه حصل التَّوسُّل إلى اللَّه بذلك الامْتِنَاع ، لكنَّه من باب الأفْعَال ، ولذلك قال المُحَقِّقُون : تَرْك [ الشَّيء ] عبارة عن فعل ضِدِّه .
ثم قال - تعالى - : { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، لمّا أمر بِتَرْك ما لا يَنْبَغِي بقوله : « اتَّقُوا اللَّه » وفعل ما يَنْبَغِي بقوله { وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } وكل واحد منهما شاقٌّ ثَقِيل على النَّفْس فإن النَّفْس تَدْعُو إلى اللَّذَّات المَحْسُوسَة ، والعَقْل يدعو إلى خِدْمَة اللَّه وطاعتهِ والإعْرَاض عن المَحسُوسَات؛ فكان بَيْن الحَالَتيْن تضَادٌّ وتناف ، وإذا كان الأمْر كذلك فالانْقِيَادُ لقوله تعالى { وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } من أشقِّ الأشْيَاء على النَّفْس وأشدها ثقلا على الطَّبع ، فلهذا أرْدَف ذلك التَّكْليف بقوله { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، ولمّا أرشد المُؤمِنِين في هذه الآية إلى معاقدِ الخَيْرَات ومَفَاتِح السَّعاداتِ ، أتْبَعَهُ بشرح حَالِ الكُفَّار .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)

قد تقدم الكلام على « أنَّ » الواقعة بعد « لو » على أنَّ فيها مَذْهَبيْن .
و « لَهُمْ » خبر ل « أنَّ » ، و { مَّا فِي الأرض } اسمها ، و « جميعاً » توكيد لهُ ، أو حال منه و « مِثلَه » في نَصْبِه وجهان :
أحدهما : عطف على اسم « أن » وهو « مَا » الموصولة .
والثاني : أنه منصُوب على المَعِيَّة ، وهو رأي الزَّمخْشَرِي ، وسيأتي ما يرد على ذلك والجوابُ عنه .
و « معهُ » ظرف واقع موقع الحال .
[ « واللام » ] متعلِّقة بالاستِقْرَار الذي تعلَّق به الخبر ، وهو « لَهُمْ » .
و « به » و « مِنْ عذاب » متعلِّقان بالافْتِدَاء ، والضَّمير في « بِهِ » عائدٌ على « مَا » الموصولة ، وجيء بالضَّمِير مُفْرَداً وإن تقدَّمه شَيْئَان وهما { مَّا فِي الأرض } و « مِثْلَهُ » ، إما لتلازُمهمَا فهما في حُكْم شيء واحد؛ وإما لأنَّه حذف من الثَّانِي لدلالة ما في الأوَّل عليه ، كقوله رحمة الله عليه : [ الطويل ]
1960- . . ... فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
أي : لو أنَّ لهم ما في الأرض لِيَفْتَدُوا به ، ومثله معه ليفْتَدُوا به وإما لإجراء الضمير مُجْرَى اسم الإشارة ، كقوله : [ الرجز ]
1961- .. كَأنَّهُ فِي الجِلْدِ . . .
وقال بعضهم : ليفْتَدُوا بذلك المَال .
وقد تقدم في « البقرة » .
و « عذاب » بمعنى : تَعْذِيب بإضافته إلى « يَوْم » خرج « يَوْم » عن الظرفية ، و « مَا » نَافِية وهي جواب « لَوْ » ، وجاء على الأكْثَر من كونِ الجواب النَّفي بغير « لام » ، والجملة الامْتِنَاعية في محل رفع خبراً ل « إن » ، وجعل الزَّمَخْشَرِيُّ توحيد الضَّمير في « بِهِ » لمَدْرك آخر ، وهو أنَّ « الوَاو » في « ومِثْلَهُ » [ واو « مع » قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين : ويجُوزُ أن تكُونَ الواوُ في « ومِثله » ] بمعنى « مَعَ » فيتوحد المَرْجُوع إليه .
فإن قُلْتَ : فبم يُنْصب المَفْعُول معه؟ .
قلت : بما تسْتَدْعِيه « لَوْ » من الفعل؛ لأن التَّقدير : لو ثبت أنَّ لَهُمْ ما في الأرض ، يعني : أنَّ حكم ما قبل المفعُول معه في الخَبَرِ والحَالِ ، وعود الضَّمِير حكمه لو لم يكن بعده مفعول معه ، تقول : « كُنْتُ وَزَيْدَاً كالأخِ » قال الشاعر : [ الطويل ]
1962- فَكَانَ وَإيَّاهَا كَحَرَّانَ لَمْ يُفِقْ ... عَنِ المَاءِ إذْ لاقَاهُ حَتَّى تَقَدَّدَا
فقال : « كَحَرَّان » بالإفْرَاد ولم يقُلْ : « كحرَّانَيْن » ، وتقول : « جَاءَ زَيْدٌ وهنْداً ضاحِكاً في داره » .
وقد اختار الأخْفَشُ أن يُعطى حُكْم المُتَعَاطفين ، يعني : فَيطَابق الخبر ، والحَال ، والضمير له ولما بَعْده ، فتقول : « كُنْتُ وَزيْداً كالأخوين » .

قال بعضهم : والصَّحِيح جوازه على قِلِّة .
وقد رد أبُو حيَّان على الزمخشري ، وطوَّل معه .
قال شهاب الدِّين : ولا بد من نَقْل نصِّه؛ قال : وقول الزمَخْشَرِي ويجُوزُ أن تكون « الواو » بمعنى « مع » ليس بِشَيْء؛ لأنَّه يصير التقدير : مع مثله معه ، أي : مع مِثْل ما في الأرْضِ [ مع ما في الأرض ] إن جعلت الضَّمِير في « مَعَه » عائِداً على « مَا » يكون معه حَالاً من « مِثْله » .
وإذا كان مَا في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة ، فلا فائدة في ذكر « معه » لملازمة معيّة كل منهما للآخر .
وإن جعلت الضمير عائداً على « مثله » ، أي : مع مثله مع ذلك المثل ، فيكون المعنى مع مِثْلَيْنِ ، فالتَّعْبِير عن هذا المَعْنَى بتلك العِبَارة عَيِيٌّ؛ إذ الكلام المُنْتَظِم أن يكون التَّركيب إذا أُريد ذلك المعنى مع مِثْلَيْهِ .
وقول الزَّمَخْشَرِي : « فإن قُلْت » إلى آخِر الجواب [ هذا السؤال ] لا يرد؛ لأنَّا قد بَيَّنَّا فسادَ أن يكون « الوّاو » واو « مَعَ » ، وعلى تقدِير وُرودِه فهذا بناء منه على أنَّ [ « أن » ] إذا جاءت بعد « لَوْ » كانت في مَحَلِّ رفع بالفاعليّة ، فيكون التقدير على هذا لو ثَبَتَ كينونة ما في الأرْضِ مع مثله لهم لِيَفْتَدُوا به ، فيكون الضَّمِير عائِداً على « مَا » فقط .
وهذا الذي ذكره هو تَفْريعٌ منه على مذهَب المُبَرِّد في أنَّ « أن » بعد « لَوْ » في محل رفع على الفاعليَّة ، وهو مذهب مرجُوحٌ ، ومذهب سيبويه : أن « أنَّ » بعد « لَوْ » في محلِّ رفع مُبْتَدأ .
والذي يظهر من كلام الزَّمخْشَرِي هنا وفي تصانيفه أنَّهُ ما وَقَفَ على مذهب سيبويْه في هذه المسألة .
وعلى المفرع على مذهَب المُبَرِّد لا يجوز أن تكون « الوَاوُ » بمعنى « مَعْ » والعامِلَ فيها « ثَبَتَ » المقدَّرة لما تقدم من وجود لفظة « مَعَهُ » ، وعلى تقديره سُقُوطها لا يصحُّ؛ لأن « ثَبَتَ » ليس رَافِعاً ل « مَا » العائد عليها الضمير وإنما هو رَافِعٌ مصدراً مُنْسَبكاً من « أن » وما بعدها ، وهُو كونُ؛ إذ التقدير لو ثَبَتَ كون ما في الأرض جَمِيعاً لهم ومِثْله معه لِيَفْتدُوا به ، والضمير عَائِد على [ ما ] دُون الكوْنِ ، فالرَّافِع الفاعِل غير النَّاصب للمفعُول معه ، إذ لو كان إيَّاه للزم من ذلك وجود الثُّبُوت مُصَاحباً للمثل [ والمعنى على كينونة ما في الأرض مُصاحباً للمثل ، لا على ثُبُوت ذلك مُصَاحِباً للمثل ، ] وهذا فيه غُمُوض .
وبيانُهُ : أنَّك إذا قلت : « يُعْجِبُني قيام زَيْد وعَمْراً » ، جعلت « عمراً » مفعُولاً معه ، والعامِلُ فيه « يُعْجُبني » [ لزم ] من ذلك أن « عَمْراً » لم يَقُمْ ، وأعجبك القِيَامُ وعمرو .

وإن جَعَلْتَ العامل فيه القِيَام : كان عمرو قَائِماً ، وكان الإعْجَاب قد تعلَّق بالقيام مصاحباً لقيام عَمْرو .
فإن قلت : هلاّ كان « ومِثْلَهُ مَعَهُ » مفعولاً معه ، والعامِلُ فيه هو العَامِلُ في « لَهُمْ » ؛ إذ المَعْنَى عليه؟ .
قلت : لا يَصِحُّ ذلك لِمَا ذكرْنَاه من وجود « مَعَهُ » في الجُمْلَة ، وعلى تقديرِ سُقُوطِهَا لا يصحُّ؛ لأنَّهُم نَصُّوا على أنَّ قولك : « هَذَا لَكَ وأبَاك » ممنوع في الاختيار .
قال سيبويْه : وأما « هَذَا لَكَ وأبَاك » فَقَبيحٌ؛ لأنَّه لم يذكر فِعْلاً ولا حَرْفاً فيه معنى فعل حتى يَصِير كأنَّه قد تكلَّم بالفعل ، فأفْصَح سيبويه بأن اسْم الإشَارَة وحرف الجر المتضمن [ المعنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه وقد أجاز بعض النحويين في حرف الجر والظرف أن يعملا ] نحو « هذا لك وأباك » .
فقوله : « وأبَاكَ » يكون مفعُولاً مَعَهُ ، والعَامِلُ الاستِقْرَار في « لَكَ » . انتهى . ومع هذا الاعتراض الذي ذكره ، فقد يَظْهر عنه جوابٌ ، وهو أنَّا نقول : نختار أن يكون الضَّمِير في قوله : « مَعَهُ » عائداً على « مِثْله » ويَصِيرُ المعنى : مع مِثْلَين ، وهو أبْلَغُ من أن يكون مع مِثْل واحد .
وقوله : « تَرْكِيبٌ عَيِيٌّ » فَهْم قَاصِرُ ، ولا بُدَّ من جُمْلَةٍ محذُوفَة قَبْل قوله : { مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ } تقديره : وَبذَلُوه ، أو وافْتَدُوا به ، ليصِحَّ التَّرْتيب المذكُور؛ إذ لا يترتَّب على اسْتِقْرَار ما فِي الأرْض جَمِيعاً ومثله معه لهم عدم التَّقبُّل ، إنما يترتَّب عدم التَّقَبُّل على البَذلِ والافْتِدَاء والعامَّة على « تُقُبِّل » مبنياً [ للمفعول حذف فاعله لعظمته وللعلم به .
وقرأ يزيد بن قطيب : « ما تقبَّل » مبنياً للفاعل ] وهو ضميرُ البَارِي تبارك وتعالى .
قوله [ تعالى ] « ولَهُمْ عَذابٌ » مبتدأ وخبرُهُ مُقَدَّمٌ عليه ، و « ألِيمٌ » صفته بمعنى : مُؤلِمٌ ، وهذه الجُمْلَة أجَازُوا فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون حالاً ، وفيه ضَعْفٌ من حيث المعنى .
المعنى الثاني : أن تكون في مَحَلِّ رفع عَطْفاً على خَبَرِ « أن » أخبر عن الذين كفروا بخبرين لو استقرَّ لَهُمْ جَمِيعُ ما في الأرضِ مع مثله فَبَذلُوه ، لم يُتَقَبَّلْ مِنْهُم وأنَّ لهم عَذَاباً أليماً .
الثالث : أن تكون مَعْطُوفة على الجُمْلَة من قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } ، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لها؛ لِعَطْفها على ما لا مَحَلَّ له .
وقوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ } كقوله تعالى : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } [ النساء : 28 ] وقد تقدَّم .
والجُمْهُور على « أن يَخرُجُوا » مَبْنيّاً للفاعل وقرأ يحيى بن وثَّاب ، وإبْرَاهيم النَّخْعي « يُخْرجُوا » مبنياً للمفعُول وهما واضحتان ، والمقصُود من هذا الكلام لُزُوم العذابِ لَهُمْ ، وأنَّهُ لا سَبيلَ لهُمْ إلى الخلاصِ مِنْهُ وإرادتهم إلى الخُرُوجِ تحْتَمِلُ وجهيْن :
الأوَّل : أنهم قصدوا وطلبُوا المخرج مِنْها ، كقوله تعالى

{ كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [ السجدة : 20 ] .
قيل : إذا [ لَفَحَتْهُم ] النَّار إلى فوق فهُنَاك يتمنُّون الخُرُوج .
وقيل : يَكادُون أن يخْرُجُوا من النَّار؛ لِقُوَّة النَّارِ ورفعها للمُعَذَّبين .
والثاني : أنهم يتمَنُّون ذلك ويريدُوه بِقُلُوبهم .
فصل
احتجَّ أهْلُ السُّنَّة بهذه الآية على أن الله تعالى يُخْرِج من النار من قال : لا إله إلا الله مُخْلِصاً؛ لأنَّه تعالى جعل هذا المعنى من تَهْديدات [ الكُفَّار ، وأنواع ما خَوَّفهم به ، ولولا أنَّ هذا المعنى يختصُّ بالكفار وإلا لم يكن لِتخصيص ] الكُفَّار به معنى ، ويؤكده قوله { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ، وهذا يفيد الحصر ، فكان المعنى : ولهم عذابٌ مقيمٌ لا لِغَيْرهم كما أن قوله { لَكُمْ دِينُكُمْ } [ الكافرون : 6 ] لا لغيركم ، فها هُنَا كذلك .

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)

« و » في اتِّصالها وجهان :
الأوَّل : أنه لما أوْجَبَ في الآية المتقدِّمة قَطْع الأيْدي والأرْجُل عند أخذ المالِ على سبيل [ المحاربة ، بيَّن في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل ] السَّرِقَة يُوجبُ قطع الأيدي ، والأرجُل أيضاً .
الثاني : أنَّهُ لما ذكر تَعْظِيم أمْر القَتْلِ حيث قال : { قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ [ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض ] فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] ذكره بعد الجنايات التي تُبيحُ القَتْلَ والإيلام فذكر :
أولاً : قطع الطريق .
وثانياً : من السَّرقة .
قوله تعالى : « والسَّارقُ والسَّارقَةُ » قرأ الجمهور بالرفع .
وعيسى بن عُمَر وابن أبي عبلة بالنَّصْبِ .
ونقل عن أبيّ : « والسُّرَّق والسُّرَّقة » بضم السِّين وفتح الرَّاء مُشَدَّدَتَيْن؛ قال الخَفَّاف : « وجدته في مُصْحَفِ أبَيّ كذلك » .
وممن ضبطهما بما ذكرت أبو عمرو ، إلاَّ أن ابن عطيَّة جعل هذه القِراءة تَصْحيفاً [ فإنَّه قال : « ويُشبهُ أنْ يكُون هذا تَصْحِيفاً ] من الضابط » . لأن قراءة الجماعة إذا كتبت : « والسّرق » : بغير ألف وافقت في الخط هذه ، قلت : ويمكن توجيه هذا القِرَاءة بأنَّ « السرق » جمع « سَارِق » ، فإنَّ فُعَّلا يَطّرد جَمْعاً لفاعِل صِفَةً ، نحو ضارِب وضُرَّب .
والدَّليل على أنَّ المراد الجمع قراءة عبد الله « والسَّارقون والسَّارقَات » بصيغتي جمع السلامة ، فدلَّ على أنَّ المُرَاد الجَمْع ، إلا أنه يَشْكُل في أنّ « فُعَّلا » يكُون من جمع : فاعِل وفاعلة تقول : نِسَاءٌ ضُرَّب ، كما تقول : رِجَالٌ ضُرَّب ، ولا يُدْخِلُون عليه تاء التَّأنِيث حيث يُرادُ به الإنَاثُ ، والسُّرَّقة هنا - كما رأيت - في هذه القراءة بِتَاءِ التَّأنيث ، حيث أُرِيد ب « فُعَّل » جمع فاعلة ، فهو مُشْكِلٌ من هذه الجِهَة لا يقال : إن هذه التَّاء يجوز أن تكُون لِتَأكِيد الجمع؛ لأنَّ ذلك محفُوظٌ لا يُقَاس عليه نحو : « حِجَارة » وأمَّا قِرَاءَةُ الجُمْهُور فَفِيهَا وجهان :
أحدهما : هو مذهَبُ سيَبوَيْه ، والمشهُور من أقوال البَصريِّين أن « السَّارِق » مبتدأ مَحْذُوف الخَبَر تقديرُهُ : « فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم » أو فيما فَرَضَ - « السَّارِق » و « السَّارِقَة » أي : حُكم السَّارِق ، وكذا قوله : { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] .
ويكون قوله : « فَاقْطَعُوا » بياناً لذلك الحُكم المقدَّر ، فما بعد الفاء مُرْتَبِطٌ بما قَبْلَها ، ولذلك أتى بها فيه؛ لأنَّهُ هُوَ المَقْصُود .
ولو لم يَأتِ بالفَاءِ لَتوهّم أنه أجْنَبِيّ والكلامُ على هذا جُملتان : الأولى : خَبَريَّة ، والثَّانية : أمْرِيَّة .
والثاني : وهو مذهب الأخْفَش ، ونُقِلَ عن المُبَرِّد وجماعة كثيرة أنَّهُ مُبْتَدأ أيضاً ، والخبر الجُمْلَةُ الأمْرِية من قوله : « فاقْطَعُوا » ، وإنَّما دخلت الفاء في الخَبَر؛ لأنه يُشْبِهُ الشَّرْط؛ إذ الألِفُ واللاَّم فيه موصُولة ، بمعنى « الَّذِي » و « الَّتِي » والصفَةُ صلتُهَا ، فهي في قُوَّةِ قولك : « والذي سرق والتي سَرَقَت فاقْطَعُوا » ، وهو اختيار الزَّجَّاج .

وما يدلُّ على أنَّ المراد من الآيَة الشَّرْط والجزاء وُجُوه :
الأوَّل : أنه تعالى صَرَّح بذلك في قوله تعالى { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } . وهذا يدلُّ على أنَّ القَطْع جزاءٌ على فِعْل السَّرِقة ، فوجَبَ أن يَعُمَّ الجَزَاء لعُموم الشَّرط .
والثاني : أن السَّرِقة جناية ، والقطع عُقُوبة ، فربط العُقُوبة بالجناية مناسب ، وذكر الحُكم عَقِيب الوَصْف المُنَاسب يدلُّ على أنَّ الوصْفَ عِلَّة لذلك الحُكم .
الثالث : أنّا إذا حملنا الآيَة على هذا الوجه كانت [ الآية ] مُفِيدة ، ولوْ حملْنَاها على سَارِقٍ مُعَيَّن صَارَت مُجْمَلة غير مفيدة ، فالأوَّل أوْلى .
وأجاز الزمَخْشَري الوجهَيْن ، ونسب الأوَّل لسيبَويه ، ولم يَنْسِبِ الثَّانِي ، بل قال : وَوَجْهٌ آخر ، وهو أن يَرْتفعَا بالابْتداء ، والخبر : « فَاقْطَعُوا » .
وإنما اخْتَارَ سيبوَيْه أنَّ خبره مَحْذوف كما تقدَّم تقديرُه دون الجُمْلَة الطَّلَبِيَّة بعده لوجْهَيْن :
أحدهما : النَّصْب في مثله هو الوجه في كلام العرب ، نحو : « زَيْداً فاضْرِبْهُ » لأجل الأمْرِ بعده .
قال سيبويه في هذه الآية : الوجْهُ في كلام العرب النَّصب ، كما تقول « زَيْداً فاضْرِبْه » ، ولكن أبتِ العَامَّةُ إلاَّ الرَّفع .
والثاني : دخول الفَاءِ في خَبَره ، وعنده أنَّ « الفَاء » لا تدخل إلا في خبر الموصُول الصَّرِيح ك « الذي » ، و « من » ، بشُرُوط أخر مذكورة في كُتُبِ النَّحْو ، وذلك لأنَّ الفَاء إنَّما دَخَلَتْ لِشَبَهِ المُبْتَدأ بالشَّرْط ، واشْتَرَطُوا أن تَصْلُح لأداة الشَّرْط من كَوْنِهَا جُمْلَة فعلية مستقبلة المَعْنَى ، أو ما يقوم مقامَها من ظَرْفٍ وشِبْهِهِ ، ولذلك إذا لم تَصْلُح لأداة الشَّرْط ، لم يَجُزْ دخول الفَاء في [ الخبر ، وصِلَةُ « أل » لا تَصْلُح لِمُبَاشرة أدَاةِ الشَّرْط فلذلك لا تدخل الفاء في ] خبرها ، وأيضاً ف « ألْ » وصلَتُها في حكم اسْمٍ واحدٍ ، ولذلك تَخَطَّاهَا الإعْرَاب .
وأما قِرَاءة عِيسى بن عمر ، وإبراهيم : فالنَّصْب بفعل مُضْمَرٍ يُفَسِّره العَامِل في سببيهما نحو : « زَيْداً فأكْرِمْ أخاهُ » ، والتقدير : « فعاقِبُوا السَّارِق والسَّارِقَة » تقدِّره فِعْلاً من معناه ، نحو « زَيْداً ضَرْبتُ غُلامه » ، أي : « أهَنْتُ زَيْداً » .
ويجُوز أن يقدَّر العامِل موافقاً لَفْظاً؛ لأنَّه يُسَاغ أن يُقَال : قطعت السَّارِق وهذه قراءة واضِحَة لمكان الأمر بعد الاسم المُشْتَغِل عَنْهُ .
قال الزَّمَخْشَرّيُّ : وفَضَّلها سيبوَيْه على قِرَاءَة العامَّة؛ لأجل الأمْر؛ لأن « زَيْداً فاضْرِبْه » أحْسَن من « زيدٌ فاضْرِبه » .
وفي نقله تَفْضيل النَّصْب على قراءة العامَّة نظر ، ويظهر ذلك بنصِّ سيبويه .
قال سيبويه : الوجْهُ في كلام العرب النَّصْب ، [ كما تقُول : « زيداً اضْرِبْه » ؛ ولكن أبت العامَّة إلا الرَّفع ، وليس في هذا ما يَقْتَضِي تَفْضِيل النَّصْب بل مَعْنى ] كلامه أن هذه الآية لَيْسَتْ من الاشتِغَال في شَيْء؛ إذ لو كان من باب الاشْتِغَال لكانَ الوَجْهُ النَّصب ، ولكن لم يقْرَأها الجُمْهُور إلا بالرَّفْع ، فَدَلَّ على أنَّ الآيَة محمولة على كلامين كما تقدَّم ، لا على كلامٍ واحد ، وهذا ظَاهِرٌ .

وقد رد ابن الخَطِيب على سيبويه بِخَمْسَةِ أوْجُه ، وذلك أنه فهم كما فهم الزَّمَخْشَرِيُّ من تفضيل النًّصْب ، فقال : الذي ذهب إليه سيبويه ليس بِشَيْء ، ويدل على فَسَادِه وُجُوه :
الأول : أنه طعنٌ في القِرَاءة المُتَوَاتِرَة المَنْقُولة عن الرَّسُول وعن أعْلام الأمَّة ، وذلك بَاطِلٌ قَطْعاً ، فإن قال سيبويه : لا أقُول : إنَّ القراءة بالرَّفْع غير جَائِزة ، ولكنِّي أقُول : قِرَاءة النَّصْب أوْلَى ، فنقول : رَدِيءٌ أيْضاً؛ لأن تَرْجِيح قِرَاءة لم يَقْرَأ بِها إلاَّ عيسَى بن عمر على قِرَاءَة الرَّسُول وجميع الأمَّة في عَهْد الصَّحابة والتَّابعين أمر مُنْكَر ، وكلام مَرْدُودٌ .
الثاني : لو كانت القراءة بالنَّصْب أوْلَى ، لَوَجَبَ أنْ يكون في القُرَّاء من يَقْرأ : { واللّذين يَأتيَانها مِنكُمْ فآذُوهُمَا } [ النساء : 16 ] ، بالنَّصْب ، ولمَّا لم يوجد في القُرَّاء من يقرأ كذلك ، عَلِمْنا سقوط هذا القَوْل .
الثالث : أنَّا إذا جَعَلْنَا « السَّارِق والسَّارِقة » مُبْتَدأ ، وخبره مُضمَر وهو الذي يقدِّره « فيما يُتلَى عليْكُم » بقي شيءٌ آخر يتعلَّق به الفاء في قوله : « فَاقْطَعُوا » .
فإن قال : الفاء تتعلَّق بالفعل الذي دلَّ عليه قوله : « والسَّارِق والسَّارِقَةُ » ، يعني : أنَّه إذا أتى بالسَّرِقة فاقْطَعُوا يَدَهُ .
فنقول : إذا احْتجت في آخِر الأمْر أنْ تَقُول : السَّارِق والسَّارِقة تقديره : « مَنْ سَرَقَ » ، فاذكر هذا أوَّلاً ، حتى لا تَحْتَاج إلى الإضْمَار الذي ذكرته .
الرابع : أنا إذا اخْتَرْنَا القراءة [ بالنصب لم يَدُلَّ ذلك على أنَّ السَّرِقة علةٌ لوجُوب القَطْع ، وإذا اخْتَرْنَا القِرَاءة بالرَّفْع ] أفادتِ الآيةُ هذا المَعْنَى ثم إنَّ هذا المعنى مُتأكد بقوله تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } ، فثَبَت أنَّ القراءة بالرَّفْعِ أوْلَى .
الخامس : أنَّ سيبويه قال : « وَهُم يُقَدِّمُون الأهَمَّ ، والذي هم بِبَيَانه أعْنَى » فالقِرَاءة بالرَّفْع تَقْتَضِي تقْديم ذكر كَوْنه سَارِقاً على ذِكْرِ وُجُوبِ القَطْع ، وهذا يَقْتَضِي أن يكُون أكبر العِنَايَةِ مَصْرُوفاً إلى شَرْح ما يتعلَّق بِحَال السَّارِق مِنْ حَيْثُ إنَّه سَارِقُ .
وأمَّا قراءة النَّصْبِ ، فإنها تَقْتَضِي أنْ تكُون العِنَايَةُ بِبَيانِ القَطْع أتم من العِنايَة بكونه سَارِقاً ، ومَعْلُوم أنَّه لَيْسَ كذلك ، فإنَّ المَقصُود في هذه الآية تَقْبِيحُ السَّرِقَة ، والمُبَالَغة في الزَّجْر عنها ، فثبت أنَّ القراءة بالرَّفْع هي المُتعينَة . انتهى ما زعَم أنه رَدّ على إمَام الصِّنَاعة ، والجواب عن الوجْهِ الأوَّل ما تقدَّم جواباً عمَّا قالهُ الزَّمَخْشَرِي [ وقد تقدَّم ] ، ويُؤيِّدُه نصُّ سيبويه ، فإنَّه قال : وقد يَحْسُن ويستَقِيمُ : « عَبْدُ الله فاضْرِبْه » ، إذا كان مَبْنِيّاً على مُبْتدأ مُظْهر أو مُضْمَر .

فأمَّا في المُظْهَر ، فقوله : « هَذَا زَيْدٌ فاضْرِبْه » وإن شِئْتَ لم تُظْهِر هذا ، ويعمل كعملِهِ إذا كان مُظْهراً ، [ وذلك ] قولُك : « الهِلال والله فانْظُرْ إليه » ، فَكَأنَّك قُلْت : « هذا الهِلالُ » ، ثُمَّ جِئْت بالأمْر .
ومن ذلك قول الشَّاعِر : [ الطويل ]
1963- وقَائِلَةٍ : خَوْلانُ فَانِكحْ فَتَاتَهُمْ ... وَأكْرُومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا
هكذا سُمِعَ من العربِ تُنْشِدُهُ ، يعني بِرَفْعِ « خَوْلان » ، فمع قوله : « يَحْسُن ويستقيم » كيف [ يكون ] طاعِناً في الرَّفْع؟ .
وقوله : « وإن قَالَ سيبويه . . . » الخ فسِيبَويْه لا يقول ذَلِكَ ، وكَيْفَ يَقُولُهُ ، وقد رَجح الرَّفع بما أوْضَحْتُهُ .
وقوله : « لَمْ يَقْرأ بها إلاَّ عيسى » لَيْس كما زَعَمَ بل قَرَأ بها جماعةٌ كإبْراهيم بن أبي عَبْلَة .
وأيضاً فهؤلاء لم يَقْرءُوهَا من تِلْقَاءِ أنْفُسِهِم ، بل نَقَلُوهَا إلى أنْ تَتّصل بالرَّسُول صلى الله عليه وسلم ، غاية ما في البَابِ أنَّها لَيْسَت في شُهْرَةِ الأولى .
وعن الثاني : أنَّ سيبويه لم يَدَّعِ تَرْجيحَ النَّصْب حتى يُلْزَم بما قَاله ، بل خَرَّج قراءة العامَّة على جُملتَيْن ، لما ذكرت لَكَ فيما تقدَّم من دُخُول الفاءِ ، ولذلك لمَّا مثَّل سيبويه جُمْلَة الأمْرِ والنَّهْي بعد الاسْمِ مثلهما عاريَتَيْن من الفَاء ، قال : وذلِكَ قولك : « زَيْداً اضْربْه » و « عَمْراً امرُر به » .
[ وعن ] الثالث : ما تقدَّم من الحِكْمَة المُقْتَضِيَة للْمَجِيء بالفاء ، وكونها رَابِطَةٌ للحكم بما قَبْلَه .
وعن الرابع : بالمنع أن يكون بَيْن الرَّفْع والنَّصب فَرْق ، بأنَّ الرَّفع يَقْتَضِي العِلَّة ، والنَّصْب لا يَقْتَضِيه ، وذلك أنَّ الآيَة من باب التَّعْلِيل بالوَصْفِ المرتَّب عليه الحُكْم ، ألا ترى أن قولك : « اقطع السَّارق » يفيد العِلَّة ، [ أي : إنَّه ] جعل عِلَّة القَطْع اتِّصافه بالسَّرِقة ، فهذا يُشْعِر بالعِلَّة مع التصريح بالنصب .
الخامس : أنهم يُقَدِّمون الأهَمَّ ، حيث اخْتَلَفَتِ النِّسْبَةُ الإِسْنَادية كالفاعل مع المفعول ، ولنسرد نصّ سيبويه ليتبين ما ذكرْنَاه .
قال سيبَوَيْه : فإن قدَّمْت المَفْعُول ، وأخَّرْت الفاعل جرى اللَّفظ كما جَرَى في « الأوَّل » ، يعني في « ضَرَب عَبْدُ الله زَيْداً » قال : « وذلك : ضَرَبَ زيداً عبد الله لأنَّك إنَّما أردت به مُؤخَّراً ما أرَدْت به مُقَدَّماً ، ولم تُرِدْ أن يَشْتَغِل الفِعْل بأوَّل منه ، وإن كان مُؤخَّراً في اللَّفْظ ، فمن ثَمَّ كان حَدُّ اللَّفْظِ أن يكون فيه مُقَدَّماً ، وهو عربي جيد كثير ، لأنهم يُقَدِّمُون الذي بَيَانُه أهَمُّ لهم ، وهم ببيانهِ أعْنَى ، وإن كانا جَمِيعاً يُهِمَّانِهم ويعنيانهم » . والآيَةُ الكَريمَةُ لَيْسَت من ذلك .
قوله : « أيْدِيهمَا » جمع واقعٌ موقِع التَّثْنِية : لأمْن اللَّبْس ، لأنَّهُ معلُوم أنَّه يقطع من كل سَارِق يَمِينه ، فهو من باب { صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] ، ويدلُّ على ذلك قراءة عبد الله : « فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمَا » واشْتَرَط النَّحْوِيُّون في وُقُوع الجَمْعِ موقع التَّثْنِية شُرُوطاً ، من جملتها : أنْ يكون ذلك الجُزْء المُضَاف مُفْرَداً من صاحِبِه نحو : « قُلُوبكما » و « رُوس الكَبْشَيْنِ » لأمْنِ الإلْبَاس ، بخلافِ العَيْنَيْنِ واليَدين والرِّجليْن ، لو قلت : « فَقَأت أعينهما » ، وأنت تعني عينيهما ، و « كتَّفْت أيديهمَا » ، وأنت تعني « يديهما » لم يَجْزْ للَّبْسِ ، فلوْلاَ أنَّ الدَّلِيل دَلَّ على أنّ المُرَاد اليَدَان اليُمْنَيَان لما ساغَ ذلك ، وهذا مُسْتَفِيض في لِسانِهم - أعني وُقُوع الجَمْع مَوْقِع التَّثْنِيَة بِشُرُوطه - قال تعالى :

{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] ، ولنذكر المسْألة ، فنقول : كُلُّ جزْأين أضيفا إلى كِليْهِما لفظاً أو تقديراً ، وكانا مُفْرَدَيْن من صَاحبيْهِمَا جاز فيهما ثلاثة أوجُه :
الأحسن : الجمع ، ويليه الإفْرَاد عند بَعْضِهم ، ويليه التَّثْنِية ، وقال بعضهم : الأحْسَنُ الجَمْع ، ثم التَّثْنِية ، ثم الإفْرَاد ، نحو : « قَطَعْتُ رُءُوس الكَبْشَيْن ، ورَأس الكَبْشَيْن ورَأسَي الكَبْشَين » .
وقال سامَحَهُ اللَّهُ وعَفَا عَنْهُ : [ السريع أو الرجز ]
1964- ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْن ... ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ
فقولنا : « جزآن » تَحَرُّز من الشَّيئين المُنْفَصِلَيْن ، لو قلت : « قَبَضت دَرَاهِمكُمَا » تعني : دِرْهَمَيْكُما لم يَجُزْ لِلَّبْسِ ، فلو أمِنَ جَازَ ، كقوله : « اضْرِبَاه بِأسْيَافِكُمَا » « إلى مَضَاجِعِكُمَا » ، وقولنا : « أُضِيفَا » تحرُّز من تفرُّقِهِمَا ، كقوله : { على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى } [ المائدة : 78 ] ، وقولنا : « لَفْظاً » ، تقدَّم مِثَاله ، فإنَّ الإضافَة فيه لَفْظِيَّة .
وقولُنا : « أو تَقْدِيراً » نحو قوله : [ الطويل ]
1965- رَأيْتُ بَنِي البَكْرِيِّ فِي حَوْمَةِ الوَغَى ... كَفَاغِرَي الأفْوَاهِ عِنْدَ عَرينِ
فإن تقديره : كَفَاغِرين أفَواهَهُمَا .
وقولنا : « مُفَرَدَيْن » تحرُّز من العَيْنَين ونحوهما ، وإنما اخْتِير الجَمْعُ على التَّثْنِية ، وإن كان الأصْل لاسْتِثْقَال تَوَالي تَثْنِيَتَيْنِ ، وكان الجَمْع أوْلَى من المُفْرَد لِمُشَارَكَة التَّثْنِية ، وإن كان الأصْل لاسْتِثْقَال تَوَالي تَثْنِيَتَيْنِ ، وكان الجَمْع أوْلَى من المُفْرَد لِمُشَارَكَة التَّثْنِيَةِ في الضَّمِّ ، وبعده المُفْرد لعدم الثِّقَلِ ، هذا عِنْد بَعْضِهِم قال : لأنَّ التَّثْنِيَة لم ترد إلا ضرورةً ، كقوله - رحمةُ الله عليه - [ الطويل ]
1966- هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَويْهمَا ... عَلَى النَّابحِ العَاوِي أشَدَّ رِجَامِ
بخلاف الإفْرَاد فإنَّه ورد في فَصِيح الكلام ، ومنه : « مَسَحَ أذنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وبَاطِنَهُمَا » .
وقال بعضهم : الأحسنُ الجَمْعُ ، ثم التَّثْنِيَة ، ثُمَّ الإفراد كقوله : [ الطويل ]
1967- حَمَامَةَ بَطْنِ الوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي ... سَقاكِ مِنَ الغُرِّ الغَوَادِي مَطِيرُهَا
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : أيْدِيَهُمَا : يَدَيْهُمَا ، ونحوُهُ : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] اكْتَفَى بتثنيةِ المضافِ إليه عَنْ تَثنيةِ المضافِ ، وأُريد باليدين اليُمْنَيَان بدليلِ قراءةِ عبد الله : « والسَّارِقُونَ والسَّارِقَاتُ فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمْ » وردَّ عليه أبو حيَّان بأنهما لَيْسا بِشَيْئَيْنِ ، فإن النوعَ الأوَّلَ مُطّرد فيه وضْعُ الجمعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ ، بخلافِ الثاني فإنه لا يَنْقَاسُ ، لأن المتبادر إلى الذِّهْنِ من قولك : « قَطَعْتُ آذانَ الزَّيْدَيْن » : « أربعة الآذان » وهذا الردّ ليس بشيء؛ لأنَّ الدليل دَلَّ على أنَّ المرادَ اليمنيان .
فصل من أول من قطع في حد السرقة؟
قال القُرْطُبي : أولُ مَنْ حُكم بقطع [ اليد ] في الجاهليةِ ابنُ المُغِيرةِ ، فأمر الله بقطعِهِ في الإسلام ، فكان أول سارقٍ قطعه رسولُ الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في الإسلامِ ، مِنَ الرِّجَالِ الخِيَارَ بْنش عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف ومن النساء مُرَّة بنت سُفْيَانَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، وقطع أبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - يَدَ الْفَتَى الذي سَرَقَ العِقْد ، وقطع عُمَرُ - رضي الله عنه - يدَ ابن سَمُرَة أخِي عَبْد الرَّحْمن بن سَمُرَة .

فصل لماذا بدأ الله بالسارق في الآية؟
قال القرطبيّ : بَدَأ الله بالسارقِ في هذه الآيةِ قَبْلَ السَّارقةِ ، وفي الزِّنَا بدأ بالزانيةِ ، والحكمةُ في ذلك أنْ يُقالَ : لما كان حُبُّ المالِ على الرجالِ أغلبُ ، وشهوةُ الاستمتاعِ على النساءِ أغْلَبُ بدأ بهما في الموضعين .
قوله تعالى : « جَزَاءً » فيه أرْبعةُ أوجُهٍ :
أحدُها : أنه منصوب على المصدر بفعلٍ مُقدَّرٍ ، أيْ : جازُوهما جزاء .
الثاني : أنَّهُ مصدرٌ [ أيضاً ] لكنه منصوبٌ على معنى نوعِ المصدرِ؛ لأنَّ قوله : « فاقْطَعُوا » في قُوَّةِ : جَازُوهما بقطع الأيْدِي جَزَاءً .
الثالث : أنَّه منصوبٌ على الحالِ ، وهذه الحال يحتملُ أن تكونَ من الفاعل ، أي : مجازين لهما بالقطع بسبب كسبهما ، وأنْ تكون من المضافِ إليه في « أيْدِيَهُمَا » ، أي : في حال كونهما مُجَازَيْن ، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه ، لأنَّ المضاف جُزْؤهُ ، كقوله : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [ الحجر : 47 ] .
الرابع : أنَّهُ [ مفعولٌ ] مِنْ أجْلِهِ ، أيْ : لأجْلِ الجزاءِ ، وشروطُ النصب موجودة .
و « نَكَالاً » منصوبٌ كما نُصِب « جَزَاءً » ولم يذكر الزمخْشريُّ فيهما غيرَ المفعولِ مِنْ أجْلِهِ .
قال أبُو حيان : « تبع في ذلك الزَّجَّاج » ، ثم قال : « وليس بجيِّدٍ إلاَّ إذا كان الجزاءُ هو النَّكالَ ، فيكون ذلك على طريقِ البدلِ ، وأمّا إذا كانا مُتَبَاينين ، فلا يجوزُ ذلك إلا بوَسَاطَةِ حَرْفِ العطفِ » .
قال شهابُ الدِّين : النَّّكالُ : نَوْعٌ من الجزاء فهو بدلٌ منه ، على أنّ الذي يَنْبغي أن يُقَال هنا إنَّ « جَزَاءٌ » مفعول من أجله ، العامل فيه « فاقْطَعُوا » ، فالجزاءُ عِلةٌ للأمر بالقطع ، و « نَكَالاً » مفعولٌ مِن أجْله أيضاً العامل فيه « جَزَاءً » ، والنَّكَالُ عِلّةٌ للجزاءِ ، فتكون العلةُ مُعَلَّلةً بِشَيْءٍ آخرٍ ، فتكون كالحال المتداخِلَةِ ، كما تقول : « ضربتُه تَأدِيباً له إحْسَاناً إلَيْه » ، فالتأدِيبُ علَّة للضرب ، والإحسانُ علة للتأديب ، وكلامُ الزمخشريِّ والزَّجاج لا يُنَافِي ما ذكرنا فإنَّه لا منافاة بين هذا وبين قولهما : « جزاءً » مفعولٌ مِنْ أجلْه ، وكذلك « نَكَالاً » فتأمّله ، فإنه وجه حسنٌ ، فطاح الاعتراض على الزمخشري والزَّجَّاج ، والتفصيلُ المذكورُ في قوله : « إلا إذا كان الجزاءُ هو النَّكَالَ » ، ثم ظفرتُ بعد ذلك بأنه يجوز في المفعول له

{ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله بَغْياً } [ البقرة : 90 ] أن يكون « بَغْياً » مفعولاً له ، ثم ذكروا في قوله : { أَن يُنَزِّلُ الله } [ البقرة : 90 ] أنه مفعولٌ له ناصبُه « بَغْياً » ، فهو علةٌ له ، صَرَّحُوا بذلك فَظَهَرَ ما قلت ولله الحمد .
و « بما » متعلق ب « جَزَاءً » ، و « ما » يجوزُ أنْ تكونَ مصدرية ، أي : بكسبهما ، وأنْ تكونَ بمعنى « الذي » ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ أي : بالذي كسباه ، والباءُ سَبَبِيَّةٌ .
فصل
قال بعضُ الأصُوليِّين : هذه الآيةُ مُجْمَلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ :
أحدها : أنَّ الحكمَ مُعلّق على السرقةِ ، ومطلقُ السرقَةِ غيرُ مُوجِب القطع ، بَلْ لا بد أنْ تكونَ هذه السرقةُ سرقَةً لمقدارٍ مَخْصُوصٍ من المالِ ، وذلك القَدْرُ مذكورٌ في الآية ، فكانت الآيةُ مُجْملةً .
وثانيها : أنَّهُ تعالى أوْجب قطع الأيمانِ والشمائِلِ وبالإجماع لا يجبُ قطعُهما معاً فكانت الآيةُ مجملةً .
وثالثها : أن اليدَ اسمٌ يتناولُ الأصابعَ وحدها ، ويقعُ على الأصابع مع الكفِّ ، والسَّاعِدِ إلى المِرْفَقَيْنِ ، ويقعُ على كل ذلك إلى المنْكِبينِ ، وإذا كانَ لَفْظُ اليدِ مُحْتَمِلاً لِكُلِّ هذه الأقسامِ والتعيينُ غَيْر مذكورٍ في هذهِ الآيةِ فكانتْ مُجْمَلةً .
ورابعها : أن قوله : « فاقْطَعُوا » خطابٌ مع قومٍ ، فيحتملُ أنْ يكونَ هذا التكليفُ واقِعاً على مَجْموعِ الأمَّةِ ، وأنْ يكونَ واقعاً على طائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ منهم ، وأنْ يكونَ على شَخْص مُعَين منهم ، وهو إمامُ الزمانِ كما ذهب إلَيْه الأكثرُون ، ولمّا لم يكن التعيينُ مَذْكوراً في الآية كانتْ مُجْملةً ، فثبتَ بهذه الوجُوهِ أنَّ هذه الآية مُجملةٌ على الإطلاقِ .
وقال قومٌ من المُحَقِّقِين : إنَّ الآية ليستْ مُجْمَلةً ألْبَتَة ، وذلك لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ الألفَ واللامَ في قوله تعالى « والسارقُ والسارقةُ » قائمانِ مقام « الذي » والفاءُ في قوله « فاقْطَعُوا » للجزاءِ ، وكما أنَّ التقدير : الذي سَرَقَ فاقْطَعُوا يَدَهُ ، ثُمَّ تأكّدَ هذا بقوله تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } وذلك أنَّ الكَسْبَ لا بُدَّ وأنْ يكونَ المرادُ به ما تقدم ذِكرُهُ ، وهو السَّرِقَةُ ، فصار هذا الدليلُ على مَنَاطِ الحُكم [ ومتعلقه ] هو ماهية السرقة ، ومقتضاهُ أنْ يَعُمَّ الجزاءُ أينما حصل الشرطُ . اللهَّم إلاّ إذا قام دليلٌ مُنْفصِلٌ يَقْتَضِي تخصيصَ هذا العامِّ ، وأمّا قوله : « الأيْدِي » عامَّة ، فنقول : مُقْتضاه قطعُ الأيدي ، لكنَّه لما انعقَدَ الإجماعُ على أنه لا يجبُ قطعهُما معاً ، ولا الابتداءُ [ باليد ] اليُسْرى ، أخرجناه مِنَ الْعُمُومِ .
وأمَّا قوله : « لفظُ اليَدِ دَائرٌ بَيْنَ أشياء » .
فنقولُ : لا نُسَلِّمُ ، بل اليَدُ اسمٌ لهذا العُضْو إلى المنْكِبِ ولهذا السَّبَبِ قال تعالى : { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } [ المائدة : 6 ] ولولا دخولُ العَضُديْنِ في هذا الاسم ، وإلاَّ لما احتيج إلى التَّقييدِ بقوله « إلى المرَافِقِ » . فظاهرُ الآيةِ : يُوجِبُ قَطْعَ اليديْنِ من المنكِبَيْنِ كما هو قولُ الخوارج : إلاَّ أنَّا تركنا ذلكِ لدليلٍ مُنْفصل وأما قوله « رَابِعاً » يَحْتَمِلُ أن يكُونَ الخطابُ مع واحدٍ مُعَيَّنٍ .

قُلْنا : ظاهِرُه أنَّهُ خطابٌ مع [ كُل أحدٍ ] ، تُرِكَ العملُ بِهِ ، فلما صار مَخْصُوصاً بدليلٍ مُنْفَصِل فَيَبْقَى مَعمولاً به في الْبَاقِي فالحاصلُ أنَّا نقُولُ : الآيةُ عامةٌ صارت مَخْصُوصَةً بدلائِلَ مُنْفَصِلَة في بعضِ الصُّوَرِ ، فيبقى حُجَّة فيما عداهَا ، وهذا القولُ أوْلَى من القول بأنها مُجْملة لا تُفِيدُ فائدَةً أصْلاً .
فصل لماذا لم يحد الزاني بقطع ذكره؟
قال القُرطبي : جعل الله حدَّ السرقة قطعَ اليدِ لتناوُلها المالَ ، ولم يجعلْ حدَّ الزِّنَا قطعَ الذَّكرِ مع مُوافقَةِ الفاحشة به لأمورٍ :
أحدها : أن للسارقِ مثلَ يدِهِ التي قُطِعت ، فإن انْزَجَرَ بِها اعتاضَ بالباقية ، وليس للزَّانِي مثلُ ذكره ، إذا قُطِعَ ولم يعتض بغيره لو انْزَجَرَ بقطعِهِ .
الثاني : أنَّ الحدَّ زجرٌ للمحدودِ ولغيره ، وقطعُ يدِ السَّارقِ ظاهرٌ ، وقطعُ الذكرِ في الزنا باطنٌ .
الثالث : أنَّ قطع الذكرِ إبطال للنَّسْلِ وليس في قطع اليد إبطالٌ للنسلِ .
فصل
قال جمهورُ الفقهاءِ : لا يجبُ القطعُ إلا بشرطيْن : قدرُ النصابِ ، وأنْ تكونَ السرقةُ من حِرْزٍ .
قال ابن عباسٍ وابنُ الزُّبيْرِ والحسنُ البصريُّ - رضي الله عنهم - القدرُ غيرُ مُعْتبرٍ ، والقطعُ واجبٌ في القليلِ والكثيرِ ، والحرزُ أيضاً غَيْرُ مُعْتبرٍ ، وهذا قولُ داود الأصْفهاني وقولُ الخوارجِ ، وتمسكوا بعمومِ الآيةِ ، فإنَّه لم يُذْكَرْ فيها النصابُ ولا الحرزُ ، وتَخْصِيصُ عُمُومِ القرآنِ بخبرِ الواحدِ ، وبالقياسِ غيرُ جائزٍ ، واحتج الجمهورُ بأنه لا حاجة إلى القول بالتخصيصِ ، بل نقولُ إنَّ لفظ السرقةِ لفظٌ عربيٌّ ، ونحنُ بالضرورة ، نعلمُ أنَّ أهْلَ اللغَةِ لا يقُولُونَ لِمَنْ أخذَ حَبَّةً مِنْ حِنْطَة الغَيْرِ أو تبنةً واحدةً أو كِسْرةً صغيرةً أنَّهُ سرق مالهُ ، علمنا أنَّ أخذ مالِ الغيْرِ كيفما كان لا يُسَمَّى سرقَةً ، وأيْضاً فالسرقةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مُسارقَةِ عيْنِ المالِكِ [ وإنَّما يُحْتَاجُ إلى مُسارقةِ عيْنِ المالِكِ ] لَوْ كان المسروقُ أمْراً يتعلقُ به الرغبةُ في مَحَلّ الشُّحِّ والضِّنَّةِ حتَّى يَرْغَب السارقُ في أخذِهِ ويتضَايَقُ المسروقُ مِنْه فِي دَفْعِهِ إلى الغَيْرِ ، ولهذا الطريق اعتبرنا في وُجوبِ القطعِ أخْذ المالِ مِنْ حِرْزِ المثل ، لأنَّ مَا لا يكُونُ موضُوعاً في الْحِرْزِ لا يُحْتَاجُ في أخْذِه إلى مُسَارقَة الأعْيُنِ ، فلا يُسَمَّى أخْذُه سَرِقَةً .
قال داودُ : نحن لا نُوجِبُ القطعَ في سرقة الجبَّةِ الواحدةِ ، بل في أقَلِّ شَيْءٍ يُسَمَّى مالاً ، وفي أقَلِّ شَيْءٍ يجري فيه الشُّحُّ والضِّنَّةُ ، وذلك لأن مقاديرَ القِلَّةِ والكثْرة غيرُ مَضْبُوطَةٍ ، فربَّما اسْتَحْقَر الملكُ الكبيرُ آلافاً مُؤلَّفَةً ، وربما اسْتَعْظَمَ الفقيرُ طسُّوجاً ، ولهذا قال الشافِعِيُّ - رضي الله عنه - : لو قال : لِفُلانٍ عليَّ مالٌ عَظِيمٌ ، ثم فسره بالحبةِ ، يقبل قوله فيه لاحتمالِ أنَّه كان عظيماً في نظره ، أو كان عظيماً عنده لغاية فَقرِهِ وشدةِ احتياجِهِ إليه ، ولما كانت مقاديرُ القِلَّةِ والكَثْرةِ غيْرَ مَضْبُوطةٍ ، وَجَبَ بِنَاءُ الحكمِ على أقل ما يُسَمَّى مالاً .

وليس لقائلٍ أنْ يَسْتَبْعِدَ ويقُولَ : كيف يجوزُ [ القطعُ في سرقةِ ] الطسوجة الواحدةِ ، فإنَّ الملحد قد جعلَ هذا طَعْناً في الشريعةِ فقال : اليدُ لما كانت قيمَتُها خَمسمائَةِ دينارٍ من الذَّهَبِ ، فكيف تُقْطَعُ لأجل القليلِ من المالِ؟ ثُم إنْ أجَبْنَا عن هذا الطعنِ ، بأنَّ الشرعَ إنما قطعَ يدهُ بسبب أنه تَحمَّل الدناءَةَ والخساسَةَ في سرقَةِ ذلك القدرِ القليلِ ، فلا يَبْعُدُ أنْ يعاقبه الشرعُ بسبب تلك الدناءَةِ بهذه العُقُوبةِ العظيمةِ ، وإذاً كَانَ هذا الجوابُ مَقْبُولاً مِنَّا في إيجابِ القطْعِ في القليلِ والكثيرِ ، قال : ومِمَّا يدلُ على أنَّهُ لا يجوزُ تخصيصُ عمومِ القرآنِ هَاهُنَا بخبرِ الواحدِ ، وذلك لأن القائلينَ بتخصيصِ هذا العمومِ اختلفُوا على وجوهٍ :
قال الشافعيُّ : يجبُ القطعُ في رُبْعِ دينارٍ ، وروى فيه قوله عليه الصلاة والسلام « لا قَطْعَ إلاَّ في رُبْعِ دينارٍ » وقال أبُو حنيفَةَ : لا يجبُ إلاَّ في عشرةِ دراهم مضرُوبة ، وروى قوله عليه الصلاة والسلام « لا قطع إلا في ثَمنِ المجَنِّ » قال : والظاهر أنَّ ثمن المجَنّ لا يكون أقلَّ من عشرة دراهم .
وقال مالكٌ وأحْمدُ وإسحاقُ : يُقدر بثلاثةِ دراهم أو رُبْعِ دينار وقال ابنُ أبِي لَيْلَى : مُقَدَّرٌ بخمسةِ دراهمَ ، وكلُّ واحدٍ من هؤلاءِ المجتهدين يطعنُ في الخبرِ الذي يرويه الآخرُ ، فعلى هذا التقدير : فهذهِ المُخَصصَاتُ صارتْ متعارِضةً ، فوجب ألاَّ يُلْتَفَتَ إلى شَيْءٍ مِنْها : ويُرْجع في معرفةِ حُكْمِ الله تعالى إلى ظاهرِ القرآنِ .
قال : وليس لأحدٍ أنْ يقول : إن الصحابة أجْمَعُوا على أنَّه لا يجبُ القطعُ إلاّ في مقدار مُعَيَّنٍ ، قال : لأنَّ الحسنَ البصريَّ كان يُوجِبُ القطعَ بمجردِ السَّرِقَةِ ، وكان يقولُ : احذر من قطع درهم ، ولو كان الإجماعُ مُنْعَقِداً لما خالف الحسنُ البصري فيه مع قربه من زمنِ الصحابةِ - رضي الله عنهم - ، وشدةِ احتياطِهِ فيما يتعلقُ بالدينِ ، فهذا تقريرُ مذهَبِ الحسنِ البصْرِيِّ ومذهبِ داوُدَ الأصْفَهانِي ، وأمَّا الفقهاءُ فقالوا : لا بُدَّ فِي وجوبِ القطعِ مِنَ الْقَدْرِ .
فقال الشافعيُّ : القطعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً وهو نِصابُ السرقةِ ، وسائِرُ الأشياءِ تُقَوَّمُ بِهِ ، وقال أبُو حَنِيفَةَ والثَّوْرِيُّ لاَ يَجِبُ القطعُ في أقَل مِنْ عَشَرةِ دراهم مَضْرُوبة . ويُقَوَّم غيرُها به ، وقال مالكٌ وأحمدُ : رُبْعُ دينارٍ [ أو ] ثلاثةُ دَرَاهِمَ ، وقال ابنُ أبِي لَيْلَى : خَمْسةُ دراهِم ، وحجةُ الشافعي - رضي الله عنه - ما رُوِي عن عائشةَ - رضي الله عنها - أن رسولَ الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم قال : « القَطْعُ فِي رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً » .
وحُجَّةُ مالكٍ - رضي الله عنه - ما رُوِيَ عَنْ نافعٍ عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَطَعَ سارِقاً في مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثلاثةُ دَرَاهِمَ .

ورُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - أنَّهُ قطعَ السارقَ في أتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بثلاثةِ دراهِمَ من صرف اثني عشر دينار ، واحْتَجّ أبو حَنيفَةَ - رضي الله عنه - بأنَّه قول ابن مسعُودٍ - رضي الله عنه - ، وبأن المجَنّ قيمتُهُ عَشَرةُ دراهِمَ ، واحتج ابنُ أبِي لَيْلَى - رحمه الله - بِما روى أبُو هُرَيْرَة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : « لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقُ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، ويَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدهُ » .
قال الأعْمَشُ : كانوا يَرَوْنَ أنَّهُ بيضُ الحديد والحبلُ ، يرون أنه منها تُساوِي ثلاثةَ دراهم ، ويحتج بهذا مَنْ يرى القطع في الشيء القليلِ ، وعند الأكثرينَ محمولٌ على ما قاله الأعْمَشُ لحديثِ عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - .
فإنْ قيل : إذا سرَقَ المالَ مِنَ السَّارِقِ ، فقال الشافِعيُّ : لا يُقْطَعُ لأنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ مالكٍ ومِنْ غَيْرِ حِرْزٍ .
وقال أصحابُ مالكٍ : حُرْمةُ المالِكِ عليه لم تَنْقَطِعْ عنه ، وَيَدُ السارقِ كلا يد كالغاصب إذا سُرِقَ منه المالُ المغصُوب قُطع ، فإنْ قيل : حِرْزُهُ كَلاَ حِرْزٍ . فالجوابُ : الحرْزُ قائمٌ والمالِكُ قائمٌ ، ولم يَبْطُلِ الملك فيه .
فصل المذاهب فيما إذا كرر السارق السرقة
قال الشافعي : الرجل إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى ، وفي الثانية رجله اليسرى وإذا سرق في الثالثة تقطع يده اليسرى ، وفي الرابعة : رِجْلُهُ اليُمْنَى؛ لأنَّ السرقةَ عِلّةُ القطعِ وقد وُجدت وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - وأحْمَدُ والثَّوْرِيُّ - رضي الله عنهم - : لا يُقْطَع في الثالثةِ والرابعةِ ، بلْ يُحْبَسُ .
فصل
قال أبُو حَنِيفَة والثَّوْرِيُّ : لا يُجْمَعُ بَيْنَ القَطْعِ والغُرْمِ ، فإن غُرّم فلا قَطْعَ ، وإن قُطِعَ سَقَطَ الغُرْمُ ، وقال الشافعي وأحمد - رضي الله عنهما - يُغرّم إنْ تلف المسروقُ ، وإنْ كان بَاقِياً رَدَّهُ .
وقال مَالِكٌ : يُقْطَع ] بِكُلِّ حالٍ ، ويُغرّم إنْ كان غَنِياً ، ولا يَلْزَمُه إن كان فقيراً ، واستدل الشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام « على الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤدِّيَهُ » ، ولأنَّ المسروقَ لَوْ كان بَاقِياً وَجَبَ رَدُّهُ بالإجْماعِ ، ولأنَّ حق الله لا يَمْنَعُ حَقَّ العبادِ ، بِدليلِ اجتماع الجزاءِ والقِيمةِ في الصَّيْدِ المَمْلُوكِ ، ولأنَّه بَاقٍ على مُلْكِ مالِكِه إلى وقْتِ القطع .
فإنْ قيل : الحِرْزُ عادة ما نُصِبَ لِحفْظِ الأموالِ ، وهو يَخْتَلِفُ في كُلِّ شَيْءٍ بحسبِ عَادَتِهِ .
قال ابنُ المُنْذرِ : لَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ ثَابتٌ .
فالجوابُ : وإنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لا قَطْعَ لقولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ : « لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلاَ فِي حريسة جَبَلٍ ، وإذَا آواها المراحُ والحرزُ فالقطعُ فيما بلغ ثمنَ المجَنّ » وقال عليه الصلاةُ والسلامُ : « ليسَ على خائنٍ ولا مُنْتَهبٍ ولا مُخْتلِس قطعٌ » .

وإذا سَرَقَ من مالٍ فيه شُبْهَةٌ ، كالعبدِ المسروقِ في مالِ سَيِّده ، والولدِ من مال والدِهِ ، والوالدِ من مالِ ولدِهِ ، وأحدِ الشريكيْنِ من مالِ المشتركِ لا قَطْعَ عليه .
فصل فيما إذا اشترك جماعة في سرقة
إذا اشترك جماعةٌ في سرقَة نصابٍ مِنْ حِرْزٍ ، فلا يَخْلُو : إمَّا أنَّ بعضهم يَقْدِرُ على إخراجه أوْ لا يَقْدِرُ إلا بمعاونِتِهم ، فإنْ كان الأول فَقِيل : يُقْطَعُ ، وقيل : لا يُقطعُ ، وهو قولُ أبِي حَنيفَةَ والشافعي ، فإذا نَقَبَ واحدٌ الحِرْزَ وأخَذَ الآخرُ ، فإنْ كانَ انفردَ كل واحدٍ بِفعلِهِ دُونَ اتفاقٍ منهما ، فلا قطْع على واحدٍ منهما ، وإنْ تفاوتَا في النَّقْبِ وانفردَ أحدهما بالإخراجِ خاصةً ، فإنْ دخل أحدُهما وأخرجَ المتاعَ إلى باب الحرْزِ فأدخل الآخرُ يدَهُ فأخذه ، فعليه القطعُ ويُعاقبُ الأولُ ، وقيل : يُقْطعانِ وإنْ وضعه خارج الحِرْز فعليه القطعُ لا على الآخذِ .
فصل في حكم النبّاش
والقبرُ والمسجدُ حِرْزٌ فَيُقْطَعُ النَّباشُ عند الجمهور ، وقال أبُو حنيفةَ : لا يقطعُ؛ لأنَّه سرق مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مالاً مُعَرَّضاً لِلتَّلفِ لا مالِكَ لَهُ؛ لأنَّ الميِّتَ لا يملِكُ .
فصل
قال الشافعي : - رضي الله عنه - لِلْمَوْلى إقَامةُ الحدِّ على ممَالِيكِه ، وقال أبُو حنيفة - رضي الله عنه - : لا يَمْلِكُ ذلكَ .
فصل في وجوب نصب إمام
احْتَجُّوا بهذه الآيةِ على أنَّهُ يجبُ على الأمَّة أن يُنَصِّبوا لأنفسهم إماماً مُعَيَّناً ، لأنَّهُ تعالى أوْجبَ بهذه الآيَة إقامَةَ الحدِّ على السُّرَّاق والزُّنَاةِ فلا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يكُونُ مُخَاطَباً بهذا الخطابِ ، وأجْمعتِ الأمةُ على أنَّه ليسَ لآحادِ الرعيَّةِ إقامةُ الحدودِ على الأحْرارِ الجُنَاةِ إلاَّ الإمامَ ، فلمَّا كان هذا تَكْلِيفاً جازِماً ، ولا يمكنُ الخروجُ مِنْ عُهْدَتِه ، إلا بِوُجودِ وجبَ نَصْبُهُ؛ لأنَّ ما لا يَأتي الواجبُ إلا به ، وكانَ مقدوراً للمُكلَّفِ فهو واجبٌ .
فصل
قالتِ المعتزلةُ : قوله تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } يَدُلُّ على تَعْلِيلِ أحْكامِ الله تعالى؛ لأنَّه صَريحٌ في أنَّ القطعَ إنَّما وجبَ مُعَلّلاً بالسرقَةِ .
وجوابُهُ ما تقدمَ في قوله { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا } [ المائدة : 32 ] .
قوله تعالى { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } والمعنى : عَزيزٌ في انْتِقامِهِ ، حكِيمٌ في شرائِعِهِ وتكالِيفِه ، قال الأصْمَعِيُّ : كنتُ أقرأُ سورةَ المائدة ومعي أعرابيٌّ . فقرأتُ هذه الآيَةَ فقلْتُ : واللَّه غفورٌ رحيمٌ ، سَهْواً فقال الأعرابيُّ : كلامُ من هذا ، فقلتُ : كلامُ الله ، فقال : أعِدْ ، فأعَدْتُ : والله غفور رحيمٌ ثُمَّ تَنَبَّهْتُ فقلتُ : « والله عزيزٌ حكيمٌ » فقال : الآنَ أصَبْتَ .
قُلْتُ : كيف عرفتَ؟ فقال : يا هذا ، عَزَّ فحكم فأمر بالقطْعِ ، فلَوْ غَفر ورحِمَ لما أمر بالقَطْعِ .
قوله تعالى : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } الجارُّ [ والمجرور في قوله : { مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } ] متعلِّقُ ب « تاب » و « ظُلْم » مصدرٌ مضافٌ إلى فاعله ، أيْ : مِنْ بعد أنْ ظلمَ غَيْرَهُ بأخْذِ ماله .
وأجاز بعضُهم أنْ يكونَ مُضافاً للمفعولِ ، أيْ : مِنْ بعد أنْ ظلم نَفْسَهُ ، وفي جوازِ هذا نَظَرٌ؛ إذْ يصيرُ التقديرُ : مِنْ بَعْد أنْ ظلمه ، ولو صرَّحَ بهذا الأصل لم يجز؛ لأنَّهُ يؤدِّي إلى تَعَدِّي فعل المضمرِ إلى ضَمِيره المتصلِ ، وذلك لا يجوزُ إلا في بابِ : « ظَنّ وفَقَدَ وعدِمَ » ، كذلك قاله أبُو حيان .

وفي نظرِه نَظَرٌ؛ لأنَّا إذا حللنا المصدر لحرفٍ مَصْدرِيٍّ وفِعْلٍ ، فإنَّما يأتِي بعد الفعلِ بما يَصِحُّ تقديرُه ، وهو لفظُ النَّفْسِ ، أيْ : مِنْ بَعْد أنْ ظَلَمَ نَفْسه . انتهى .
فصل في معنى الآية
المعنى : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ } سرقته « وَأصْلَحَ » العملَ ، « فإنَّ اللَّهَ » تعالى { يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هذا فيما بينَهُ وبَيْنَ الله تعالى ، فأمَّا القطعُ فلا يَسْقُطُ بالتَّوْبةِ عند الأكْثرينَ .
قال مُجاهِدٌ : السارقُ لا توبة له ، فإذا قُطِعَ حصلتِ التوبةُ ، والصحيحُ : أن القطعَ جزاءٌ على الجِنايةِ لقوله تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } فلا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدُ ، وتوبَتُه الندمُ على ما مضَى والعزمُ على تركِهِ في المستقبلِ ، وهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ مَنْ تاب من بعد ظلمه وأصْلح ، فإنَّ الله تعالى يقبلُ توبَتَهُ .
فإن قيل : قوله « وأصْلَحَ » يدلُّ على أنَّ مجردَ التوبةِ غيرُ مقبولٍ . فالجوابُ : المرادُ وأصلح التوبة بنيةٍ صادقةٍ وعزيمةً صحيحةً خاليةٍ عن سائرِ الأغْرَاضِ .
فصل في أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى
دَلَّتِ الآيةُ على أنَّ قبولَ التوبة غيرُ واجبٍ على الله تعالى ، لأنَّهُ يُمْدحُ بقبول التوبةِ ، والتمدُّحُ إنما يكونُ بفعل التَّفَضُّلِ والإحْسَانِ لا بأدَاءِ الوَاجِبَاتِ .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } الآية .
لما ذكر عقابَ السَّارِقِ ، ثُمَّ ذَكرَ أنَّهُ يقبلُ توبتَهُ إنْ تاب أرْدَفَهُ ببيان أنه يفعلُ ما يشاء ويَحْكُم ما يريدُ فيُعَذبُ من يشاءُ ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ وإنَّما قدم التعذيبَ على المغفرةِ ، لأنَّهُ في مقابلةِ السرقةِ ، والسرقةُ مقدمةٌ على التوبةِ .
قال السديُّ والكَلْبِيُّ : يعذبُ مَنْ يشاءُ ممَّنْ ماتَ على كُفْرِهِ ، وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - : يعذبُ مَنْ يشاءُ على الصَّغيرةِ ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ الكبيرةَ والله غفورٌ رحيمٌ .
قال القُرْطُبِيُّ : هذه الآيةُ خطابٌ للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أيْ : لا قرابة لأحدٍ بينه وبين الله تُوجِبُ المحاباةَ حتى يقول قائلٌ : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، والحدودُ تقامُ على كُلِّ مَنْ قارف حدًّا .

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)

قد تقدم أنَّ « يَحْزُن » يُقْرأ بفتح الياءِ وضمِّها وأنهما لُغتانِ ، وهل هما بمعنًى ، أو بينهما فَرْقٌ .
والنَّهْيُ للنبيّ في الظاهرِ ، وهو مِنْ بابِ قوله : « لا أرَيَنَّك هاهُنَا » ، أي : لا تَتَعَاطَ أسباباً يحصلُ لك بها حُزْنٌ من جهتِهم ، وتقدم لك تحقيقُ ذلك مِرَاراً .
وقولُ أبي البقاءِ في « يَحْزُنْكَ » : « والجيدُ فتحُ الياءِ وضمُّ الزَّاي ، ويُقْرأ بِضَمِّ الياءِ ، وكسر الزَّاي مِنْ : أحْزَنَنِي وهي لغةٌ » - لَيْسَ بجيِّدٍ؛ لأنها قراءةٌ متواترةٌ ، وقد تقدَّم دليلُها في آل عمران [ الآية 76 ] . و « يسارعون » من المسارعة ، و « فِي الكفر » متعلقٌ بالفعل قبلهُ ، وقد تقدم نظيرُها في آل عمران . واعلمْ أنه تعالى خاطب النبيَّ عليه الصلاةُ والسلام بقوله تعالى : { ياا أَيُّهَا النبي } في مواضِعَ كثيرةٍ ، ولم يخاطِبْهُ بقوله : { ياأيها الرسول } إلاّ في موضِعَيْنِ في هذه السورة .
أحدهما : هاهُنا ، والثانية : { ياأيها الرسول بَلِّغْ } [ المائدة : 67 ] وهذا خطابُ تشريفٍ وتعظيمٍ .
واعلمْ أنه تعالى لما بيَّن بعضَ التكاليف والشرائعِ ، وكان قد علم من بعضِ النَّاسِ المسارعةَ إلى الكفرِ لا جَرَمَ صبَّر رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على تَحَمُّلِ ذلك ، وأمرهُ بأنْ لا يَحْزنَ لأجلِ ذلك أيْ : لا تَهْتَمَّ ولا تُبَالِ بمسارعةِ المنافقينَ في الكفرانِ في موالاةِ الكُفارِ ، فإنهم لَنْ يُعْجِزُوا اللَّه شيئاً .
قوله تعالى : { مِنَ الذين قالوا } يجوزُ أنْ يكُون [ حالاً من ] الفاعل في « يسارِعُون » أيْ : يُسارعون حال كونهم بعضَ الذينَ قالُوا ، ويجوزُ أنْ يكون حالاً من نفسِ الموصُول ، وهو قريبٌ من مَعْنى الأولِ ، ويجُوزُ أن يكُونَ « منْ » بياناً لجنسِ الموصُولِ الأولِ ، وكذلك « من » الثانية ، فتكون تَبْييناً وتَقْسِيماً للذين يُسارعون في الكُفْرِ ، ويكون « سمَّاعُون » على هذا خَبَر مُبْتَدأ محذُوفٍ و « آمنَّا » منصوبٌ ب « قالوا » [ و « أفْواهِهمْ » متعلقٌ ب « قالوا » لا ب « آمَنَّا » ] بمعنى أنه لم يُجاوزْ قولهم أفْواهَهُمْ ، إنَّما نَطَقُوا بِهِ غير مُعْتقدِين له بقلوبهم . وقوله : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } جملةٌ حاليَّةٌ .
قال بعضُ المفسِّرين : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، والتقديرُ : مِنَ الذينَ قالُوا : آمَّنا بأفْواهِهمْ ولَمْ تُؤمِن قُلُوبُهُم ، وهؤلاءِ هُم المنافِقُونَ .
قوله تعالى : { وَمِنَ الذين هِادُواْ } فيه وجهانِ :
أحدهما : ما تقدَّم ، وهو أنْ يكونَ مَعْطُوفاً على { مِنَ الذين قالوا } بَيَاناً وتَقْسِيماً .
والثاني : أن يكونَ خبراً مُقَدماً ، و « سمَّاعُونَ » مُبْتدأ ، والتقديرُ : { ومِنَ الذين هادُوا قومٌ سمَّاعُون } ، فتكونُ جملةً مستأنفة ، إلاَّ أن الوجه الأول مُرجَّح بقراءةِ الضَّحَّاكِ : « سمَّاعِينَ » على الذَّمِّ بِفِعْل محذوفٍ ، فهذا يدلُّ على أن الكلام لَيْسَ جُملةً مُسْتقلةً ، بل قوله : { مِنَ الذين قالوا } عطفٌ على { مِنَ الذين قالوا } .

وقوله « سماعُون » مِثالُ مُبالغَةٍ ، و « للْكَذِب » فيهِ وجهانِ :
أحدهما : أنَّ « اللامَ » زائدةٌ ، و « الكَذِبِ » هو المفعولُ ، أي : سمَّاعون الكذبَ ، وزيادةُ اللام هُنا مُطَّردة لكوْنِ العامل فَرْعاً ، فقوي باللام ، ومثلُه { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ] .
والثاني : أنَّها على بابها مِنَ التعليلِ ، ويكونُ مفعولُ « سمَّاعُونَ » مَحْذُوفاً ، أيْ : سَمَّاعُون أخْبَارَكُم وأحَادِيثَكُمْ لِيَكْذِبُوا فيها بالزيادَةِ والنَّقْصِ والتَّبْديلِ ، بأنْ يُرْجفُوا بِقَتْلِ المؤمنينِ في السَّرَايَا كما نقل من مخازيهم .
وقوله تعالى : { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ } يجوزُ أنْ تكون هذه تكْرِيراً للأولى ، فعلى هذا يجوزُ أنْ يتعلَّق قوله : « لِقَومٍ » بنَفْس الكذبِ ، أيْ : يَسْمَعُونَ ليَكْذبُوا لأجْل قوْم [ ويجوزُ أن تتعلق اللامُ بنفس « سمَّاعون » أي : سمَّاعُونَ لأجل قومٍ لم يأتوك؛ ] لأنهم لبُغضِهِمْ لا يقربُونَ مَجْلِسكَ ، وهم اليهودُ ، و « لم يأتُوك » في محَلِّ جرٍّ؛ لأنَّها صفةٌ ل « قوم » .
فصل
ذكر الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ هاهُنَا وَجْهَيْنِ .
الأول : أنَّ الكلامَ إنَّما يتمُّ عند قوله « ومِنَ الَّذِينَ » ثُم يُبْتَدأ الكلامُ من قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } [ وتقديرُ الكلامِ : لا يحْزُنْكَ الذين يُسارعُونَ في الكفر من المنافِقِينَ ومن اليهُود ، ثم بعد ذلك وصفَ الكل بكونهم سمَّاعين لقوم آخرين ] .
الوجهُ الثاني : أن الكلام تَمَّ عند قوله : { لَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ثم ابْتَدَأ فقال : { وَمِنَ الذين هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } وعلى هذا التقدير : فقوله : « سمَّاعُون » صفةُ محذوفٍ والتقديرُ : ومن الذين هادُوا قومٌ سماعُون ، وقيل : خبرُ مُبتدأ محذوفٍ ، تقديرُه : هُم سمَّاعُونَ .
وحَكَى الزَّجَّاجُ في قوله تعالى « سمَّاعُون لِلْكذبِ » وجهين :
الأوَّلُ : معناه : قَائِلُون لِلْكَذبِ ، فالسمعُ يُستعملُ ، والمراد منه القبولُ كما تقول : لا تَسْمعْ من فلانٍ ، أيْ : لا تقبَلْ مِنْه ، ومِنه : « سَمِعَ الله لِمَن حمدَهُ » ، وذلك الكذبُ الذي يُقْبَلُونَهُ هو ما يقوله رؤساؤهُمْ من الأكاذِيبِ في دينِ الله تعالى ، وفي تحريفِ التوراةِ ، وفي الطعنِ في سيدنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
والوجه الثَّانِي : أنَّ المرادَ مِنْ قوله « سَمَّاعُون » نَفْسُ السَّمَاعِ ، واللامُ في قوله « لِلْكَذِبِ » لامُ كَيْ أي : يَسْمعُون مِنْك لِكَيْ يَكذِبُوا علَيْكَ ، وذلك أنَّهُم كانوا يَسْمَعُون مِنَ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ثُم يَخْرُجون ويقُولونَ : سمعْنَا منه كذا وكذا ، ولم يَسْتَمِعُوا ذلك منه ، وأمَّا { لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } والمعنى أنهم أعْيُنٌ وجواسِيسُ لِقَوْم آخرينَ لَمْ يأتُوك ، ولم يحضرُوا عندَك لِيُبَلِّغُوا إليهم أخبارَك ، وهم بَنُوا قُرَيْظَةَ والنَّضِير .
قوله تعالى : « يُحَرِّفُونَ » يجوزُ أن يكونَ صِفَة لِ « سمَّاعُون » ، أيْ : سمَّاعون مُحَرِّفُونَ ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضميرِ في « سماعون » ويجوزُ أن يكون مُسْتأنَفاً لا مَحَلَّ لَهُ .

ويجوزُ أنْ يكونَ خَبَرَ مُبْتَدأ مَحْذُوفٍ أيْ : هُمْ مُحَرِّفُونَ .
ويجُوز أن يكُونَ في مَحَلِّ جَرِّ صِفَةً ل « قَوْمٍ » ، أيْ : لقوْمٍ مُحَرِّفِينَ .
و { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } تقدم في النِّساءِ [ الآية 46 ] .
و « يَقُولُون » ك « يُحَرِّفُونَ » ويجوزُ أنْ يكُونَ حالاً من ضمير « يُحرِّفُونَ » ، والجملةُ شَرْطِيَّةٌ مِنْ قوله : « إنْ أوتيتُمْ » [ مفعولة بالقول ، و « هذا » مفعول ثان ل « أوتيتم » ] فالأول قائمُ مقامَ الفاعل ، و « الفاء » جوابُ الشرطِ ، وهي واجِبة لعدمِ صلاحيَّةِ الجزاءِ لأنْ يكونَ شَرْطاً ، وكذلك الجملة من قوله : { وإن لم تؤتوه } .
فصل في معنى الآية
ومعنى { يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي : من بعد أن وضعه اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - في مواضعه ، أي فرض دينهُ ، وأحلَّ حلالهُ وحرَّم حرامهُ . قال المفسرون : « إِنَّ رجُلاً وامرأةً من أشراف خيبرٍ زنيا ، وكان حدُّ الزِّنا في التوراة الرَّجم ، فكرهت اليهودُ رجمهما لشرفهما ، فأرسلوا قوماً إلى رسول اللَّهِ - صلى اللَّهُ عليه وعلى آله وسلم - عن حُكمه في الزَّانيين إذا أُحصنا وقالوا : إن أمركم بالجلد فاقبلوا ، وإن أمركُم بالرَّجم فلا تقبلوا . فلمّا سألوا الرسول - عليه الصلاةُ والسلامُ - عن ذلك فنزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخُذُوا به ، فقال جبريلُ : اجعل بينك وبينهم ابن صوريَّا ووصفه له . فقال لهم رسولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وآله وسلم - : [ هل ] تعرفون شاباً أمردَ أبيض أَعوَرَ يسكن فدك يقال له : ابنُ صوريَّا؟ .
قالُوا : نَعَمْ ، قال : فأيُّ رَجُلٍ هو فيكُم قالوا : هو أعْلَمُ يَهُودِيٍّ بَقِيَ على وجه الأرضِ بما أنْزَل الله على موسى بن عمران في التَّوْرَاةِ قال : فأرْسلوا إليه . ففعلُوا فأتاهُمْ ، فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم : أنْتَ ابنُ صُوريَّا قال : نَعَمْ ، فقال له عليه الصلاة والسلامُ : » أنْشُدُك الله الذي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الذي أنْزَل التوراةَ على مُوسَى ، وأخرجكم من مِصْرَ ، وفلق لكم البحرَ ، وأنجاكُمْ ، وأغْرقَ آل فِرْعوْنَ ، وظلل عليكم الغمامَ ، وأنزلَ عليكُمُ المَنَّ والسَّلْوَى ، ورفعَ فوْقَكُم الطُّور ، وأنْزَلَ عَلَيْكُم كتابَهُ فيه حلالُه وحرامُه هل تجدُون في كتابِكُم الرَّجْمَ على مَنْ أحْصِن .
قال ابن صُوريّا : نَعَمْ ، والذي ذَكَّرْتَنِي به لَوْلاَ خشيةُ أنْ تحرقنِي التوراةُ إنْ كذبتُ أو غيَّرت [ أو بدلتُ ] ما اعترفتُ لك ، ولكن كيفَ هي في كتابكم يا مُحمدُ؟ قال : إذا شَهدَ أربعة رَهْطٍ عُدُول ، أنَّهُ قد أدْخَلَ فيها ذكرهُ كما يدخُلُ المِيلُ في المُكْحُلَةِ وجب عليه الرَّجْمُ ، فقال ابنُ صوريَّا : والَّذِي أنزلَ التوراةَ على مُوسى هكذا أنزلَ الله التوراة على موسى فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم : [ فماذا كان ] أوَّل ما تَرَخّصْتُم به أمر الله عزَّ وجلَّ قال : كُنَّا إذا أخذنَا الشريفَ تركْنَاهُ ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدَّ : فكثُرَ الزِّنَا في أشْرَافِنَا حتى زَنَى ابنُ عَمِّ [ مَلِكٍ ] لنا فلم نَرْجُمْهُ ، ثُم زَنَا رجلٌ آخرُ في أسوةٍ من النَّاس ، فأراد ذلك الملكُ رَجْمَه ، فقام دُونَه قَوْمُه ، فقالوا : واللَّه لا نرجُمُه حتى نرجُم فُلاناً ابن عَمِّ الملكِ . فقُلْنا : تعالَوْا نَجْتَمِعُ فنضعَ شَيئاً دون الرجمِ يكونُ على الشَّريفِ والوضيعِ ، فوضعْنَا الجلْدَ والتَّحْميمَ؛ وهو أنْ يُجْلَدَا أربعينَ جلْدةً بِحَبلٍ مَطْلِيٍّ بالقارِ ، ثم يُسَوَّد وُجُوهُهُمَا ، ثُمَّ يُحملا على حِمَاريْنِ وجوهُهُما من قبلِ دُبر الحمار ، ويطافُ بِهَما ، فجعلوا هذا مكان الرجم . فقال اليهودُ [ لابن صوريا ] : ما أسرع ما أخبرتَهُ به ، وما [ كُنتَ لما أثْنَيْنَا ] عليك بأهل ، ولكِنَّكَ كُنْتَ غائباً ، فكرهنا أن نَغْتَابَك ، فقال لهم ابن صوريا : إنَّه قد أنْشَدَني بالتوراةِ ، ولولا خشيةُ التوراةِ أنْ تُهلكني لما أخبرته ، فأمر بهما النبيُّ - صلى الله عليه وعلى وآله وسلم - فَرُجِمَا عند بابِ المسجدِ ، وقال : اللهم ، إنَّي أوَّلُ مَنْ أحْيَا أمرَكَ إذْ أمَاتُوهُ «

، فأنزل الله عزَّ وجل : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } . فقولُه تعالى : { يُحَرِّفُونَ الكلم } جمع كَلِمَةٍ ، وذكر الكِنايةَ رَدّاً على لَفظها الكلم { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أيْ : وضعُوا الجلدَ مكان الرجمِ .
وقيل : سببُ نزول هذه الآيةِ : أنَّ بَنِي النضير كان لهم فضلٌ على بَنِي قريظةَ ، فقال بَنُوا قريظةَ : يا محمدُ إخْوَانُنا بنو النضير وأبُونا واحدٌ وديننا واحدٌ ونبينا واحدٌ ، وإذا قتلُوا مِنَّا قتيلاً لم يقيدونَا ، وأعطونا ديتَهُ سَبْعينَ وَسْقاً من تَمْرٍ . وإذا قتلنا منهم قتلُوا القاتلَ ، وأخذوا مِنّا الضِّعْفَ مائةً وأربعين وسْقاً مِنْ تَمْرٍ . وإنْ كان القتيلُ امرأةً قتلُوا بها الرجُلَ مِنَّا ، وبالرجل منهم الرجليْن مِنّا ، وبالعبد حُراً مِنَّا ، وجراحاتُهم على الضَّعْفِ مِنْ جراحاتِنَا فاقْضِ بَيْننا وبينهم ، فأنزل الله هذه الآية ، والأولُ أصحُ لأنَّ الآية في الرَّجْمِ .
فصل
قال القرطبي : الجمهورُ على ردِّ شهادةِ الذِّمِّيِّ؛ لأنَّهُ ليس مِنْ أهلِهَا فلا تقبلُ على مسلم ، ولا على كافرٍ وقبِلَ شهادتهُم جماعة مِنَ الناسِ إذا لم يُوجدْ مسلمٌ ، على ما يأتي في آخر السورة .
فإنْ قِيل : قد حَكَمَ بشهادَتِهمْ ورجمَ الزَّانِيَيْنِ .
فالجوابُ : أنَّهُ إنَّما تقدم عليهم بما علم أنَّهُ حكمُ التَّوْراةِ ، وألزمهُم العملَ بِهِ على نحو ما عملت به بَنُو إسرائيلَ؛ إلْزَاماً للحجةِ عليهم ، وإظْهَاراً لتحريفهم وتغييرهم ، فكان منفذاً لا حَاكِماً .
قوله تعالى : { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } أيْ : إنْ أمرَكُم بحدِّ الجلدِ فاقبلوا ، وإنْ أمركُم بالرجم فلا تقبلُوا .
قوله تعالى : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ } « مَنْ » مفعولٌ مقدمٌ ، وهي شرطيةٌ .
وقوله : « فَلَنْ تَمْلِكَ » جوابُه ، و « الفاء » أيضاً واجبةٌ لما تقدم .
و « شيئاً » مفعولٌ به ، أو مصدرٌ ، و « مِنَ اللَّهِ » متعلقٌ ب « تَمْلكَ » .

وقيل : هو حالٌ من « شَيْئاً » ؛ لأنَّهُ صفتُه في الأصْلِ .
فصل
قوله تعالى : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ } أي : كفْرَهُ وضلالَهُ ، وقال الضحاكُ : هلاكَهُ .
وقال قتادةُ : عذابَهُ .
ولمّا كان لفظُ الفتنةِ مُحتملٌ لجميعِ أنواعِ المفاسدِ ، وكان هذا اللفظُ مذكُوراً عُقَيْبَ أنْواع كفرِهم التي شرحَها الله تعالى وجب أن يكُون المرادُ من هذه الفتنةِ تلك الكُفْرياتِ المذكُورة ، ويكونُ المعنى : ومَنْ يُرد الله كفره وضلالتهُ ، فلَنْ يقدِرَ أحدٌ على دفع ذلك عنه ، ثُمَّ أكَّدَ ذلك بقوله : { أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } .
قال أهلُ السُّنَّةِ : دلّت هذه الآيةُ على أن الله تعالى غيرَ مُريدِ إسلامِ الكافرِ ، وأنَّه لم يُطهرْ قلبَهُ مِنَ الشِّرْكِ ، ولوْ فعل ذلك لآمن .
وذكر المعتزلةُ في تعبير هذه الفِتْنَة وجوهاً :
أحدها : أنَّ الفتنة هي العذابُ . قال تعالى : { عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] أيْ : يُعَذَّبُونَ ، فالمرادُ هنا : يُريد عذابَهُ لِكُفْره .
وثانيها : ومَنْ يُردِ الله فضيحتَهُ .
وثالثها : المرادُ الحكمُ بضلالهِ ، وتَسْمِيتِهِ ضَالاًّ .
ورابعها : الفتنَةُ : الاختبارُ؛ والمعنى : مَنْ يُرِدِ الله اختبارهُ [ فِيمَا يَبْتَليه ] من التكاليف فيتركُهَا ولا يقومُ بأدائِها ، فلَنْ تملِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ ثواباً ولا نفعاً .
وأمَّا قوله تعالى : { أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } فذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : لم يردِ الله أنْ يهدي قلوبَهُم بالألطافِ؛ [ لأنه تعالى عَلِم أنه لا فائدةَ في تلكَ الألطافِ لأنَّها لا تنجحُ في قُلُوبِهم ] .
ثانيها : لم يُرد الله أن يطهرَ قلوبَهُم مِنَ الحَرَجِ والغَمِّ والوحشةِ الدَّالةِ على كُفْرِهم .
وثالثها : أنَّ هذه الاستعارةَ [ عبارةٌ ] عَنْ سُقوطِ وقْعَهِ عند الله ، وأنَّه غيرُ مُلتفتٍ إلَيْهِ بسببِ قُبْحِ أفعالِهِ ، وقد تقدم [ الكلامُ ] على هذه الوجوه .
قوله تعالى : « أولَئِكَ » : مبتدأ ، و { لَمْ يُرِدِ الله } جملةٌ فعليةٌ خبرُهُ .
ثُم قال تعالى : { لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ } وخزيُ المُنافقينَ الفَضيحةُ ، وهَتْكُ السَّتْرِ بإظْهَارِ نفاقِهمْ ، وخَوفِهم مِن القتْلِ ، وخزيُ اليهودِ : الجزْيَةُ ، وفَضِيحتُهم ، وظهورُ كذبِهِمْ ، في كِتْمانِ نَصِّ الله تعالى في إيجابِ الرَّجْمِ .
قوله تعالى { وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو الخلودُ في النَّارِ .

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)

قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } : يجُوزُ أن يكُونَ مُكَرَّراً للتَّوْكيدِ إنْ كان مِنْ وصف المنافقينَ ، وغَيْرَ مُكرَّرٍ إنْ كانَ مِنْ وصف بَنِي إسْرائيلِ .
وإعْرَابُ مفرداتِهِ تقدَّم ، ورفْعُه على خبرِ ابْتَداءٍ مُضْمَرٍ ، أيْ : هُمْ سمَّاعون .
وكذلك « أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ » في « اللاَّمِ » الوجهانِ المذكورانِ في قوله : « لِلْكَذِبِ » .
و « السُّحْتُ » الحَرَامُ ، سُمِّي بذلك؛ لأنَّه يُذْهِبُ البَرَكَةَ ويَمْحَقُها ، يُقالُ : سَحَتَهُ اللَّهُ ، وأسْحَتَهُ : أيْ : أهْلكهُ وأذهَبَهُ .
قال الزَّجَّاجُ : أصلُهُ مِنْ : سَحَتُّهُ إذ اسْتَأصَلته ، قال تعالى : { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 62 ] أيْ : يَسْتأصلهمْ ، أوْ لأنَّه مَسْحوتُ البَرَكَةِ .
قال الله تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } [ البقرة : 276 ] .
وقال اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ : إنَّهُ حرامٌ يحصلُ مِنْه العار .
وعن الفرَّاءِ : « السُّحْتُ » : شدَّةُ الجُوعِ ، يُقال : رجلٌ مَسْحُوتُ المعدة إذا كان أكُولاً ، لا يُلْفَى إلاَّ جائعاً أبداً وهو راجعٌ إلى الهلكة .
وقد قُرِئ قوله تعالى : « فَيُسْحِتَكُمْ » بالوجهين : مهن سَحَتُّهُ ، وأسْحَتُّهُ .
وقال الفرزدقُ : [ الطويل ]
1968- وعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ المَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ
وقرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ ، وعاصمٌ ، وحمزةُ : « السُّحْت » بضَمِّ السِّينِ وسكون الحاء ، والباقون بضمهما ، وزيد بن علي ، وخارجة بن مصعب عن نافع بالفتح وسكون الحاء ، وعبيد بن عمير بالكسر والسكون وقُرئ بفَتْحتيْنِ ، فالضمتانِ : اسمٌ للشيء المسحُوتِ ، والضمةُ والسكونُ تخفيفُ هذا الأصْلِ ، والفتحتانِ والكَسْرِ والسُّكُونِ اسمٌ له أيضاً .
وأمَّا المفتوحُ السينِ السَّاكن الحاءِ ، فمصدرٌ أُريدَ بِهِ اسمُ المفعولِ ، كالصَّيْد بمعنى المصيدِ ، ويجوزُ أنْ يكُونَ تَخْفِيفاً مِنَ المَفتُوحِ ، وهُوَ ضعيفٌ .
والمرادُ بالسُّحْتِ : الرَّشْوَةُ في الحُكْمِ ، ومَهْرُ البَغِيّ ، وعَسِيبُ الفَحْلِ ، وكَسْبُ الحجامِ ، وثَمنُ الكَلْبِ ، وثمنُ الخمرِ ، وثمنُ المَيْتَةِ ، وحُلوانُ الكَاهِنِ ، والاستعجالُ في المعصية ، رُوِيَ ذلك عَنْ عُمَرَ وعَليٍّ وابن عباسٍ وأبِي هُريرةَ ومجاهدٍ ، وزاد بعضهُم ، ونقص بعضهم .
وقال الأخْفَش : السُّحْتُ كُلُّ كَسْبٍ لا يَحقُّ .
فصل
قال الحسنُ : كان الحاكِمُ منهم إذا أتاهُ أحَدٌ برشْوَةٍ جعلها في كُمِّهِ ، فَيُريها إيَّاهُ ، وكان يَتَكلَّمُ بحاجتِهِ ، فَيُسْمعُ مِنْه ، ولا ينظرُ إلى خَصْمهِ ، فَيَسْمَعُ الكذبَ ، ويأكُلُ الرشْوَةَ .
وقال أيضاً : إنَّما ذلك في الحُكْم إذا رشوتَهُ ليحقَّ لك باطلاً ، أو يُبْطل عنك حقاً ، فأمَّا أنْ يُعْطِيَ الرجلُ الوالِيَ يَخافُ ظُلْمَهُ لِيَدْرَأ به عَن نفسه فلا بأسَ ، والسُّحْتُ هو الرَّشْوَةُ فِي الحكمِ على قول الحسن وسُفيانِ وقتادةَ والضَّحَّاكِ .
وقال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - هو الرشوةُ في كُلِّ شيْءٍ ، مَنْ يشفعُ شفاعَةً ليَرُدَّ بِهَا حَقًّا أو يدفَعَ بها ظُلْماً ، فأهدي له فَقَبِلَ ، فهو سُحْتٌ .
فقيل له : يا أبَا عَبْد الرَّحْمنِ ، ما كُنَّا نَرَى ذلك إلاَّ الأخْذَ على الحُكْمِ ، فقال : الأخذُ على الحُكْمِ كُفْرٌ؛ قال الله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون }

[ المائدة : 44 ] .
وقال بَعْضُهُم : كان فقراؤهُم يأخُذُونَ مِنْ أغْنِيائِهم مالاً ليقيمُوا على ما هُمْ عليه من اليَهُوديَّة ، فالفقراءُ كانُوا يسمعُونَ أكاذيبَ الأغنياءِ ، ويأكُلُونَ السُّحْتَ الذي يأخذوه مِنْهُم .
وقيل : سمَّاعُون للأكاذِيبِ التي كانوا يَنْسِبُونَها إلى التوراةِ ، أكَّالُونَ لِلرِّبَا لقوله تعالى : { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } [ النساء : 161 ] .
وقال عمرُ بن الخطَّابِ - رضي الله عنه - رَشْوَةُ الحاكم من السُّحْتِ . وعن رسُولِ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال : « كُلُّ لَحْمٍ نبتَ بالسُّحْتِ فالنَّارُ أوْلَى به » قالُوا : يا رسولَ الله ، ومَا السُّحْتُ؟ قال : « الرشوةُ في الحُكْمِ » .
وعن ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أيْضَاً أنَّهُ قال : السحتُ أنْ يَقْضِيَ الرجلُ لأخيه حَاجَةً ، فيُهْدِي إلَيْهِ هديَّةً فَيَقْبَلهَا .
وقال بعضُ العلماءِ : من السحتِ أنْ يأكلَ الرجلُ بجاهِهِ ، بأنْ يكون للرجل حاجةٌ عند السلطانِ ، فيسألَهُ أنْ يَقْضِيَها له ، فلا يَقْضِيَها له إلاَّ بِرشْوَةٍ يأخُذُها . انتهى .
وقال أبُو حَنيفَةَ [ - رضي الله عنه - ] : إذا ارْتَشَى الحاكمُ انعزَلَ في الوقْتِ ، وإنْ لم يُعزلْ بطلَ كُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ به بَعْدَ ذلك .
قال القرطُبي : وهذا لا يجوزُ أن يُخْتلفَ فيه إنْ شاء الله؛ لأنَّ أخْذَ الرشوة فِسْقٌ والفاسِقُ لا يَنْفُذُ حُكْمُهُ .
قوله تعالى : { فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
خيَّره تعالى بَيْنَ الحُكْمِ وبَيْنَ الإعراضِ عنهم ، واختلفُوا فيه على قولَيْنِ :
الأولُ : أنَّهُ في أمرٍ خاصٍّ ، ثُم اختلف هؤلاءِ .
فقال ابنُ عباسٍ ، والحسنُ ، والزهريُّ - رضي الله عنهم - : إنَّهُ في أمر زنا المُحْصَنِ ، وقيل : في قَتيلٍ قُتل من اليهودِ في بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِير كما تقدم ، فتحاكمُوا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فجعل الدِّيَّةَ سَواءً .
وقيل : هذا التخييرُ مُخْتص بالمعاهدينَ الذين لا ذمَّةَ لهم ، فإن شاء حكم بينهم ، وإنْ شاء أعْرض عنْهُم .
والقول الثاني : أنَّ الآيةَ عامةٌ في كل مَنْ جاء من الكُفار ، ثم اختلفُوا : فمنهم من قال : إنَّ الحُكمَ ثابتٌ في سَائِرِ الأحكامَ غيرُ منسُوخٍ وهو قولُ النَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ وقتادة ، وعطاء ، وأبِي بَكْرٍ الأصَمِّ ، وأبِي مُسْلِمٍ .
وحكامُ المسلمينِ بالخيارِ في الحُكم بين أهْل الكتابِ ، ومنهم مَنْ قال : إنه منسوخٌ بقوله تعالى : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } [ المائدة : 49 ] وهو قولُ ابن عباسٍ ، والحسنِ ، ومجاهد ، وعكرِمَة [ رضي الله عنهم ] ، ومذهبُ الشافعيِّ - رضي الله عنه - أنَّه يجبُ على حاكمِ المسلمينَ أنْ يحكمَ بينَ أهْل الذِّمَةِ إنْ تَحاكمُوا إليه ، لأنَّ في إمضاء حُكْمِ الإسلام علَيْهم صَغَاراً لَهُم .
فأمَّا المعاهدُ إلى مُدَّةٍ ، فلا يجبُ على الحاكمِ أنْ يحكمَ بينهم ، بل يتخيَّرُ في ذلك .
قال ابنُ عباس - رضي الله عنهما - : لم يُنْسَخْ مِنَ المائِدَةِ إلاَّ آيتَانِ : قوله تعالى : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } [ المائدة : 2 ] نسخَهَا قوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] .
وقوله تعالى : { فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } نسخها قوله تعالى : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } [ المائدة : 49 ] فأمَّا إذا تحاكَمَ مسلمٌ وذميٌّ يجبُ علينا الحكمُ بَيْنَهُمَا بلا خلافٍ ، لأنَّهُ لا يجُوزُ للمسلم الانقيادُ لحكم أهْلِ الذِّمَّةِ .
ثُمَّ قال : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } والمعنى أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم ، فإذا لم يحكم بينهم وأعرض عنهم شق عليهم ، وصاروا أعداءً لَهُ ، فبين تعالى أنَّهُ لا تَضره عداوتُهُمْ له .
ثُمَّ قال تعالى : { وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط } أيْ بالعَدْلِ : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } أيْ : العادِلينَ .

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

قوله تعالى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } كقوله : { كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ البقرة : 260 ] وقد تقدم .
[ قولُه : ] « وعنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ » « الواوُ » للحالِ ، و « التوراة » يجوزُ أن تكون مُبْتدأ والظرفُ خَبَرُه ، ويجوزُ أنْ يكونَ الظرفُ حالاً ، و « التوراةُ » فاعلٌ بِهِ لاعتمادِهِ على ذِي الحالِ .
والجملةُ الاسميَّةُ أو الفعليَّةُ في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ .
وقوله : { فِيهَا حُكْمُ الله } ، « فيها » خَبَرٌ مقدمٌ ، و « حُكْمُ » مبتدأ ، أو فاعِلٌ كما تقدم في « التوراةِ » ، والجملةُ حالٌ من « التوراةِ » ، أو الجار وحدَهُ ، و « حُكْمُ » مصدرٌ مضافٌ لفاعلِهِ .
وأجاز الزمخشريُّ : ألاَّ يكون لها مَحَل من الإعراب ، بل هي مُبَيِّنةٌ؛ لأنَّ عندَهُم ما يُغنيهم عن التحكيمِ ، كما تقولُ : « عندك زيدٌ يَنْصَحُك ، ويُشيرُ عليك بالصَّوابِ ، فما تصنعُ بِغَيْره؟ » .
وقولُه تعالى : « ثُمَّ يَتولّونَ » معطوفٌ على « يُحَكِّمونَكَ » ، فهو في سياقِ التعجُّب المفهُومِ مِن « كَيْفَ » وذلك إشارةٌ إلى حُكْمِ الله الذي في التوراة ، ويجوزُ أن يَعُودَ إلى التحكيم والله أعلم .
فصل
هذا تعجُّبٌ من اللَّهِ لنبيه [ عليه الصلاةُ والسلامُ ] مِنْ تحكيمِ اليهُودِ إياهُ بعد علمهم بما في التوراةِ مِنْ حدِّ الزَّانِي ، ثُم تركِهِمْ قبولَ ذلك الحُكْم فيتعدلُونَ عما يعتَقدُونَه حُكْماً [ حقاً ] إلى ما يعتقدُونه باطِلاً طلباً للرخْصةِ فظهر جهلهم وعنادهُم من وُجُوه :
أحدُها : عُدُولُهُمْ عن حُكْمِ كتابِهِم .
والثاني : رجوعُهم إلى حكمِ مَنْ كانوا يعتقدون أنه مُبطلٌ .
والثالث : إعراضُهم عن حكمه بعد أن حكَّموه ، فبينَ الله تعالى حال جهلهم وعنادهم؛ لَئِلا يَغْتَرَّ مُغْترٌّ أنهم أهلُ كتابِ الله ومن المحافظِينَ على أمْر الله .
ثُمَّ قال تعالى : { وَمَآ أولئك بالمؤمنين } أيْ بالتوراةِ وإنْ كانوا يُظْهِرُون الإيمانَ بها ، وقِيلَ : هذا إخبارٌ بأنهم لا يُؤمنونَ أبَداً ، وهو خَبَرٌ عن المستأنفِ لا عَنِ الماضِي .
وقِيلَ : إنَّهمَ وَإنْ طلبُوا الحكمَ مِنْك فما هُم بمؤمِنينَ بِكَ ، ولا بالمعتقدينَ في صِحّةِ حُكْمكَ .

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)

قوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } الآية .
قوله سبحانه : { فِيهَا هُدًى } يحتملُ الوجهَيْن المذكورَيْنِ في قوله : « وعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ » ، ف « هُدًى » مبتدأ أو فاعلٌ ، والجملةُ حالٌ من « التَّوْرَاةِ » .
وقوله : « يَحْكُمُ بِهَا » يجَوزُ أنْ تكونَ جُمْلةً مستأنفةً ، ويجوزُ أنْ تكونَ منصوبة المحلِّ على الحالِ ، إمَّا مِنَ الضَّمير في « فِيهَا » ، وإمَّا مِن « التَّوْرَاةِ » .
وقوله : « الَّذِينَ أسْلَمُوا » صِفَةٌ ل « النَّبِيُّونَ » ، وصفَهُم بذلك على سبيلِ المَدْح ، والثَّنَاء ، لا عَلى سبيلِ التَّفْصِيل؛ فإنَّ الإنبياءَ كُلَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، وإنَّما أثْنَى عليهم بذلك ، كما تَجري الأوْصَافُ على أسماء الله تعالى .
قال الزَّمخشريُّ : أجْرِيَتْ على النَّبِيِّينَ على سبيلِ المدْحِ كالصفات الجارية على القديم - سبحانه - لا للتفصلة والتوضِيحِ ، وأُريدَ بإجرائها التَّعْرِيضُ باليهُودِ ، وأنَّهم بُعداءُ من مِلَّةِ الإسلامِ الذي هو دينُ الأنبياءِ كُلِّهم في القديم والحديثِ ، فإن اليهود بمعْزَلٍ عنها .
وقوله تعالى : { الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } منارٌ على ذلك ، أيْ : دليلٌ على ما ادَّعَاهُ .
فإن قُلْتَ : « هُدًى ونُورٌ » العطفُ يقتضِي المغايَرَة ، فالهُدَى مَحْمُولٌ على بيانِ الأحْكامِ والشرائع والتكالِيف ، والنُّورُ بيانُ التَّوْحيدِ ، والنُّبُوَّةِ ، والمَعَادِ .
وقال الزَّجَّاج : الهُدَى بيانُ الحُكْمِ الذي يستفتُونَ فيه النبيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، والنورُ بيانُ أنَّ أمرَ النبيِّ [ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ] حَقٌّ .
وقوله : { يَحْكُمُ بِهَا النبيون } يُريدُ الذين كانوا بعد مُوسى [ عليه السلام ] .
وقوله « الَّذِين أسْلَمُوا » أيْ : سلَّموا وانْقَادُوا لأمر الله كما أخبرَ عَنْ إبْرَاهِيم [ عليه السلامُ ] : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } [ البقرة : 131 ] ، وكقوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } [ آل عمران : 83 ] .
وأراد بالنبيِّينَ الذين بُعِثُوا بعد مُوسى [ عليه وعليهم السلام ] لِيحكُمُوا بما في التوراةِ [ وقد أسلمُوا لحُكْمِ التوراةِ وحكمُوا بها ، فإنَّ من النبيين مَنْ لمْ يحكم بحكم التوراةِ منهم ] عيسى [ عليه الصلاة والسلام ] قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] .
وقال الحسنُ والزهري وعكرمةُ ، وقتادةُ والسديُّ : يحتملُ أنْ يكونُ المرادُ بالنبيين هُمْ مُحَمَّدٌ [ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ] حَكَمَ على اليهُودِ بالرجْمِ ، وكان هَذَا حُكْمَ التَّوْرَاةِ ، وذكره بلفْظِ الجمعِ تَعْظِيماً له كقوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ } [ النحل : 120 ] وقوله تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } [ النساء : 54 ] لأنه كان قد اجتمعَ فِيه من خِصالِ الخيْرِ ما كان حَاصِلاً لأكثرِ الأنْبياء .
قال ابنُ الأنْبَارِي : هذا ردٌّ على اليهُود والنَّصارى [ لأنَّ بعضُهم كانوا يقولون : الأنبياءُ كلُهم يهودٌ أو نصارى ، فقال تعالى : ] { يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ } يَعْنِي : أنَّ الأنبياء ما كانوا مَوصُوفينَ باليهوديةِ والنصرانيَّةِ بَلْ كانوا مُسْلِمين لِلَّهِ مُنْقَادينَ لتكالِيفهِ .

وقولُه تعالى : { لِلَّذِينَ هَادُواْ } فيه وجهانِ :
أحدهما : أن النبيين إنما يحكُمون بالتورَاةِ لأجْلِهِمْ ، وفِيمَا بَيْنَهُم ، والمَعْنَى : يحكمُ بها النبيونَ الذين أسْلموا على الذين هَادُوا؛ كقوله تعالى : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] أيْ : فعليْهَا : وكقوله : { أولئك لَهُمُ اللعنة } [ الرعد : 25 ] أيْ : عليهم .
وقيل : فيه حَذْفٌ كأنه قال : للذين هادُوا وعلى الذين هَادُوا فحذَفَ أحدهما اخْتِصَاراً .
والثاني : أنَّ المعنى على التقديم والتأخِيرِ ، أيْ : إنَّا أنزلنَا التوراةَ فيها هُدًى ونُورٌ للذين هَادُوا يحكُمُ بها النبيونَ الذين أسْلَمُوا .
وتقدم تفسيرُ الربانيِّينَ ، وأمَّا الأحبارُ فقال ابنُ عباس وابن مسعود [ رضي الله عنهما ] : هُمُ الفُقَهاءُ .
واختلفَ أهْلُ اللُّغَةِ في واحِدِهِ قال الفرَّاءُ : إنَّه « حِبْرٌ » بكسر الحاءِ وسُمِّيَ بذلك لمكان الحِبر الذي يُكْتَبُ به؛ لأنَّه يكونُ صاحبَ كُتُبٍ ، وقال أبُو عُبَيْد : « حَبْر » بفتحِ الحاءِ ، وقال اللَّيْثُ : هو « حَبْرٌ » ، و « حِبْر » بفتح الحاء وكسرِهَا .
ونقل البَغوِيُّ : أنَّ الكسرَ أفْصَحُ ، وهو العالِمُ المُحكِمُ للشَّيْء .
وقال الأصمعِيُّ : لا أدْرِي أهُوَ الحِبْرُ أو الحَبْرُ ، وأنكرَ أبُو الهَيْثَمِ الكَسْرَ ، والفراءُ « الفَتْحَ » ، وأجاز أبُو عُبَيْد الوجْهَيْنِ ، واختار الفَتْحَ .
قال قُطْربٌ : هو مِنَ الحبر الذي هو بمَعْنَى الجمالِ بفتح الحَاءِ وكسْرِهَا وفي الحديث « يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ ذَهَبَ حَبَرهُ وسَبَرهُ » أي حُسْنُهُ وهَيْئَتُهُ ، ومنه التَّحْبِيرُ أي : التحسينُ قال تعالى : { وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } [ الزخرف : 70 ] أي : يَفْرَحُون ويزينونَ ، وسُمِّيَ ما يكتبُ حبراً لتحْسِينهِ الخطَّ ، وقيل : لتأثيره وقال الكِسَائِيُّ ، والفرَّاءُ ، وأبُو عُبَيْدَةَ : اشتقاقُهُ من الحِبْرِ الذي يُكْتَبُ به .
وقيل : الرَّبَّانِيُّونَ هاهُنَا مِنَ النَّصَارَى ، والأحبارُ مِن اليهُودِ وقِيل : كلاهُمَا من اليُهودِ ، وهذا يقتضي كون الربانيِّينَ أعْلَى حالاً مِنَ الأحبار ، فيُشْبهُ أنْ يكونَ الربانِيُّون كالمجتهدينَ والأحبارُ كآحادِ العُلَماءِ .
قوله : « لِلَّذين هَادُوا » في هذه « اللاَّم » ثلاثةُ أقوالٍ :
أظهرُهَا : أنَّها متعلِّقةٌ ب « يَحْكُمُ » ، فعلى هذا مَعْنَاها الاخْتِصَاصُ ، وتشمل مَنْ يحكمُ لَهُ ، ومن يحكمُ عليْه ، ولهذا ادَّعَى بعضُهم أنَّ في الكلامِ حَذْفاً تقديرُه : « يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ للَّذينَ هَادُوا وعليْهِمْ » ذكره ابنُ عطيَّة وغيرُه .
والثاني : أنها متعلقة ب « أنْزَلْنَا » ، أيْ : أنزلْنَا التوراةُ للَّذين هادُوا يحكم بها النَّبِيُّونَ .
والثالثُ : أنها متعلقةٌ بِنَفْس « هُدًى » أيْ : هُدى ونُورٌ للذين هادُوا ، وهذا فيه الفَصْلُ بين المصَدْرِ ومعمُولِهِ ، وعلى هذا الوجْهِ يجوزُ أنْ يكونَ « للذين هَادُوا » صفة لِ « هُدًى ونُورٌ » ، أيْ : هُدًى ونُورٌ كائِنٌ للذين هادُوا وأوَّلُ هذه الأقوالِ هو المقصودُ .
قوله تعالى : « والرَّبَّانِيُّون » عطفٌ على « النبيُّونَ » أيْ : [ إنَّ الرَّبَّانِيِّين وقد تقدم تفسيرهم في آل عمران ] يحكمُونَ أيْضاً بمقْتضَى مَا فِي التَّوْرَاةِ .
قال أبُو البقاءِ : « وقِيل : الرَّبَّانيون » مَرْفُوعٌ « بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ ، أي : ويحكُمُ الربانيونَ والأحبار بِمَا اسْتُحْفِظُوا » انتهى .

يَعْنِي أنَّه لما اختلفَ متعلِّقُ الحكمِ غاير بَيْنَ الفعلينِ أيضاً ، فإن النبيينَ يحكُمُونَ بالتوراةِ ، والأحبارُ والربانيونَ يحكُمونَ بما استحفَظَهُمُ الله تعالى ، وهذا بعيد عن الصَّوَابِ؛ لأنَّ الذي استحَفَظَهُمْ هو مُقْتَضَى ما في التَّوْرَاةِ ، فالنبيُّونَ والربانِيُّون حاكِمُونَ بشيء واحدٍ ، على أنَّه سيأتي أنَّ الضَّمير في « اسْتُحْفِظُوا » عَائِدٌ على النَّبِيين فَمَنْ بعدهم .
قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه : الربانيون يُرْشِدُونَ الناسَ بالعلمِ ، ويربونهم للصغارِ قَبْل كبار .
وقال أبُو رَزِين : الرَّبَّانِيُّونَ العلماءُ ، والحكماءُ ، وأمَّا الأحبار : فقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : هُمُ الفقهاء والحَبرُ والحِبرُ بالفتح والكسر : الرجلُ العالِمُ ، مأخُوذٌ من التَّحِبِيرِ ، والتَّحبر؛ فَهُمْ يُحبِّرون العِلْمَ ويُزَيِّنُونَهُ ، فهو مُحَبَّرٌ في صُدُورهم .
قال الجوهَرِيُّ : والحِبَر والحَبر واحد أحبار اليهود ، وهو بالكسْرِ أفْصحُ؛ لأنَّهُ يُجَمعُ على أفْعَالٍ دُونَ الفُعُولِ .
قال الفرَّاءُ : هُو حِبْرٌ بالكسْرِ ، يُقالُ ذلك للعَالِمِ .
وقال الثَّوْرِيُّ : سألْتُ الفرَّاءَ : لِمَ سُمِّيَ الحبْرُ حِبْراً؟ فقال : يُقال للعالم حِبرٌ وحَبرٌ ، فالمعنى مدادُ حبرهم ، ثم حذف كما قال : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] [ أيْ أهْلَ القَريةِ ] .
قال : فسألتُ الأصمعيَّ ، فقال : لَيْسَ هذا بشْيءٍ ، إنما سُمِّي حبْراً لِتَأثيرِه ، يُقالُ : على أسْنَانِهِ حِبْرٌ ، أيْ : صُفْرَةٌ أو سوادٌ .
وقال المبرِّدُ : وسُمِّيَ الحِبرُ الذي يُكْتَبُ به حِبْراً؛ لأنه يُحَبَّرُ به ، أيْ : يُحقَّقُ بِهِ .
وقال أبُو عُبَيْد : والذي عندي في واحدِ الأحبارِ أنَّه للحَبر بالفتح ، ومعْنَاه العالمُ بِتَحبِير الكلامِ ، والعلم تحسينه ، والحِبرُ بالكسر : الذي يُكْتَبُ به .
قوله تعالى : { بِمَا استحفظوا } أجازَ أبُو البقاءِ فيه ثلاثةُ أوْجهٍ :
أحدها : أنَّ « بِمَا » بدلٌ من قوله : « بِهَا » بإعادة العامل لِطُول الفَصْل ، قال : « وهو جائزٌ وإنْ لَمْ يَطُل » أيْ : يجوزُ إعادةُ العامِلِ في البَدَلِ ، وإن لم يَطُل .
قلتُ : وإنْ لم يُفْصَلْ أيضاً .
الثاني : أنْ يكُونَ مُتعلّقاً بفعْلٍ محذوفٍ : أيْ : وَيَحْكُم الربانيونَ بما اسْتُحفِظُوا ، كما قدمتُه عنه .
والثالث : أنَّه مفعولٌ به ، أيْ : يحكُمُونَ بالتوراة بسببِ اسْتِحْفَاظِهِمْ ذلك ، وهذا الوجهُ الأخيرُ هو الذي نَحَا إليه الزمخشريُّ؛ فإنه قال : « بِمَا اسْتُحْفِظُوا بِمَا سألَهُمْ أنبياؤهم حِفْظَهُ من التوراةِ ، أيْ : بسبب سُؤالِ أنبيائِهِمْ إيَّاهم أن يحفظُوه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ » ، وهذا على أنَّ الضميرَ يعُودُ على الربانِيين ، والأحبارِ ، دُونَ النَّبِيِّين ، فإنَّهُ قدَّرَ الفاعِلَ المحذُوفَ « النبيين » ، وأجاز أن يعودَ الضميرُ في « استحفِظُوا » على النبيينَ والربانيينَ والأحْبار ، وقدَّر الفاعل المنوبَ عنه : البَارِيَ تعالى ، أيْ : بِمَا اسْتَحْفَظَهُم اللَّه تعالى ، يعني : بما كَلَّفَهُمْ حِفْظَهُ .
وقوله تعالى : { مِن كِتَابِ الله } ؛ قال الزمخشريُّ : و « مِنْ » فِي { مِن كِتَابِ الله } للتَّبْيينِ ، يَعْنِي أنَّها لِبَيانِ جِنْس المُبْهَمِ في « بِمَا » فإنَّ « مَا » يجوزُ أنْ تكونَ موصُولَةً اسمِيَّةً بمعْنَى « الَّذِي » ، والعائِدُ محذوفٌ ، أيْ : بِمَا اسْتحْفظُوه ، وأنْ تكونَ مَصدريَّةً ، أيْ : باسْتِحْفَاظِهِمْ .

وجوَّزَ أبُو البقاءِ : أنْ تكونَ حالاً مِنْ أحَدِ شَيْئَيْنِ : إمَّا مِنْ « مَا » الموصُولَةِ ، أو مِنْ عَائِدها المحذُوفِ ، وفيه نظرٌ من حيثُ المعنى .
وقولُه : « وكانُوا » داخِلٌ في حَيِّز الصِّلةِ أيْ : وبكونِهِم شُهداءَ عليه ، أيْ : رُقَبَاءَ لئلاَّ يُبدل ، ف « عَلَيْهِ » متعلقٌ ب « شُهداءَ » ، والضميرُ في « عَلَيْه » يعودُ على « كِتابِ الله » وقيل : على الرسول عليه الصلاةُ والسلامُ ، أيْ : شُهداء على نُبُوَّتِهِ ورسالته .
وقيل : على الحُكْمِ ، والأوَّلُ هو الظاهِرُ .
قوله تعالى : { بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله } أي : استُودعوا . وحفظ كتاب الله على وجهين :
أحدهما : أن يُحفَظ فلا ينسى .
والثاني : أن يحفظ فلا يُضيع ، فإن كان استحفظوا من صلة الأحبار ، فالمعنى : العلماء بما استحفظوا .
وقال الزجاج : يحكمون بما استحفظوا .
قوله تعالى { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } أي : هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق من عند الله تعالى فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ، ويحفظونها عن التحريف والتغيير .
ثم قال تعالى : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } لمَّا قرر أن النبيين والربانيين والأحبار ، كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة ، خاطب اليهود الذي كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، ومنعهم من التحريف والتغيير .
واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بد وأن يكون لخوف أو رهبة أو لطمع ورغبة ، ولما كان الخوف أقوى تأثيراً من الطمع قدم تعالى ذكره فقال : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } والمعنى لا تحرفوا كتابي للخوف من الناس ، ومن الملوك والأشراف ، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم ، وتستخرجوا الحيل في إسقاط تكاليف الله عنهم ، ولما ذكر أمر الرهبة أتبعه بالرغبة فقال تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } أي : كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في الجاه والمال والرشوة ، فإن متاع الدنيا قليل . ولما منعهم من الأمرين أتبعه بالوعيد الشديد ، فقال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وهذا تهديد لليهود في افترائهم على تحريف حكم الله في حد الزاني المحصن ، يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة ، قالوا : إنه غير واجب فهم كافرون على الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد والقرآن وبعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
فصل
قالت الخوارج : من عصى الله فهو كافر ، واحتجوا بهذه الآية ، وقالوا : إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله ، فوجب أن يكون كافراً ، وقال الجمهور : ليس الأمر كذلك ، وذكروا عن هذه الشبهة أجوبة منها أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم .

قال قتادة والضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة .
وروى البراء بن عازب : أن هذه الثلاثة آيات في الكافرين ، وهذا ضعيف؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقال آخرون : المراد { من لم يحكم بما أنزل الله } كلام أدخل كلمة « من » في معرض الشرط فيكون للعموم ، وقولهم : من الذين سبق ذكرهم ، زيادة في النص ، وذلك غير جائز . وقال عطاء : هو كفر دون كفر .
وقال طاووس : ليس بكفر ينقل عن الملة ، ولا بكفر بالله واليوم الآخر . فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين ، وهو أيضاً ضعيف ، لأن إطلاق لفظ الكافر إنما ينصرف إلى الكفر في الدين وقال ابن الأنباري : يجوز أن يكون المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار ، وهذا أيضاً ضعيف لأنه عدول عن الظاهر .
وقال عبد العزيز : قوله « بما أنزل » صيغة عموم ، ومعنى « أنزل الله » أي : نص الله ، حكم الله في كل ما أنزله ، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل من العمل ، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق ، وهذا أيضاً ضعيف ، لأنه لو كانت هذه الآية [ وعيداً مخصوصاً ] لمن خالف حكم الله تعالى ، في كل ما أنزله الله لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم ، وأجمع المفسرون أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم ، فدلَّ على سقوط هذا الجواب .
وقال عكرمة : قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله } إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده ، فهو حاكم بما أنزل الله ، ولكنه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية .

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

قوله تعالى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ } .
أي كتبنا عليهم في التوراة حكم أنواع القصاص وهو أن حكم الزاني المحصن « الرجم » فغيَّروه وبدَّلوه ، وبيَّن أيضاً في التوراة : أن النفس بالنفس فغيَّروا هذا الحكم ففضلوا بني النضير على بني قريظة ، وخصصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير فهذا أوجه النظم ، ومعنى « كتبنا » أي : فرضنا ، وكان شر القصاص أو العفو ، وما كان فيهم الدية والضمير في « عليهم » ل « الذين هادوا » . قوله تعالى : { أَنَّ النفس بالنفس } : « أن » واسمها وخبرها في محل نصب على المفعولية ب « كتبنا » ، والتقدير : وكتبنا عليهم أخْذَ النفس بالنفس .
وقرأ الكسائي « والعَيْنُ » وما عُطِفَ عليها بالرفع ، وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب الجميع .
وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وابن عامر بالنصب فيما عد « الجُرُوح » فإنهم يرفعونها .
فأما قراءة الكسائي فوجَّهَهَا أبو علي الفارسي بثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون « الواو » عاطفة جملة اسمية على جملة فعلية ، فتعطف الجمل كما تعطف المفردات ، يعني أن قوله : « والعين » مبتدأ ، و « بالعين » خبره ، وكذا ما بعدها ، والجملة الاسمية عطف على الفعلية من قوله : « وَكَتَبْنَا » وعلى هذا فيكون ذلك ابتداء تشريع ، وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة .
قالوا : وليست مشركة للجملة مع ما قبلها لا في اللفظ ولا في المعنى .
وعَبَّرَ الزمخشري عن هذا الوجه بالاستئناف قال : « أو » للاستئناف ، والمعنى : فرضنا عليهم أن النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها ، إذا قتلها بغير حقٍّ ، وكذلك العين مَفْقُودة بالعين ، والأنف مَجْدُوع بالأنف ، والأذن مَصْلُومة أو مقطوعة بالأذن والسِّنّ مقلوعة بالسن ، والجُرُوح قصاص وهو المُقَاصَّة ، وتقديره : أن النفس مأخوذة بالنفس ، سبقه إليه الفارسي ، إلا أنه قدر ذلك في جميع المجرورات ، أي : والعين مأخوذة بالعين إلى آخره ، والذي قدَّرَه الزمخشري مناسب جداً ، فإنه قدر متعلَّق كل مجرور بما يناسبه ، فالقَقْء للعين ، والقَلْع للسن ، والصَّلْمُ للأذن ، والجَدْع للأنف ، إلا أن أبا حيّان [ كأنه ] غضَّ منه حيث قدَّر الخبر الذي تعلَّق به المجرور كوناً مقيداً ، والقاعدة في ذلك إنما يقدَّر كوناً مُطْلَقاً .
قال : « وقال الحوفي : » بالنفس « يتعلّق بفعل محذوف تقديره : يجب أو يستقر ، وكذا العين بالعين وما بعدها ، فقدَّر الكون المطلق ، والمعنى : يستقر قتلها بقتل النفس » ، إلا أنه قال قبل ذلك : « وينبغي أن يُحْمَلَ قول الزمخشري على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب » ثم قال : فقدَّر - يعني : الزمخشري - ما يقرب من الكون المطلق ، وهو : « مأخوذ » ، فإذا قلت : « بعت الشياه شاةً بدرهم » ، فالمعنى : مأخوذة بدرهم ، وكذلك الحر بالحر أي : مأخوذ .

والوجه الثاني من توجيه الفارسيّ : أن تكون « الواو » عاطفة جملة اسمية على الجملة من قوله : { أن النفس بالنفس } . [ لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، فإن معنى { كتبنا عليهم أن النفس بالنفس } قلنا لهم : إن النفس بالنفس ] فالجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ .
وقال ابن عطية : « ويحتمل أن تكون » الواو « عاطفة على المعنى » وذكر ما تقدم ، ثم قال : ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } [ الصافات : 45 ] يُمْنَحُون عطف « وحوراً عيناً » عليه ، فنظَّر هذه الآية بتلك لاشتراكهما في النظر إلى المعنى ، دون اللفظ وهو حَسَنٌ .
قال أبو حيان : وهذا من العطف على التوهم؛ إذ توهم في قوله : { أنَّ النفس بالنفس } : النفسُ بالنفسِ ، وضعَّفه بأن العطف على التوهم لا ينقاس .
والزمخشري نحا إلى هذا المعنى ، ولكنه عبَّر بعبارة أخرى فقال : [ الرفع للعطف ] على محلِّ « أن النفس » ؛ لأن المعنى : « وكتبنا عليهم النفسُ بالنفسِ » ، إما لإجراء « كتبنا » « مجرى » قلنا ، وإما أن معنى الجملة التي هي « النفس بالنفس » مما يقع عليه الكَتْبُ ، كما تقع عليه القراءة تقول : كتبتُ : الحمدُ لله وقرأت : سُورةٌ أنزلناها ، ولذلك قال الزَّجَّاج : « لو قرئ إن النفس بالنفس بالكسر لكان صحيحاً » .
قال أبو حيان : هذا الوجْهُ الثاني من توجيه أبي عليٍّ ، إلا أنه خرج عن المصطلح ، حيث جعله من العطف على المحل وليس منه ، لأن العطف على المحلِّ هو العطف على الموضعِ ، وهو محصور ليس هذا منه ، ألا ترى أنا لا نقول : { أن النفس بالنفس } في محل رفع؛ لأن طالبه مفقود ، بل « أن » وما في حيِّزهَا بتأويل مصدر لفظه وموضعه نَصبٌ؛ إذ التقدير : « كتبنا عليهم أخذ النفس » ، قال شهاب الدين : والزمخشري لم يَعْنِ أن « أن » وما في حيِّزهَا في محل رفع ، فعطف عليها المرفوع حتى يلزمه أبو حيان بأن لفظها ومحلَّها نصب ، إنما عَنى أن اسمها محلُّه الرفع قبل دخولها ، فراعَى العطف عليه كما راعاه في اسم « إن » المكسورة وهذا الرد ليس لأبي حيّان ، بل سبقه إليه أبو البقاء ، فأخذه منه .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون معطوفاً على » أنّ « وما عملت فيه في موضع نصب » انتهى .
وليس بشيء لما تقدم .
قال أبو شامة : فمعنى الحديث : قلنا لهم : النَّفْسُ بالنفسُ ، فحمل « العين بالعين » على هذا ، لأنَّ « أنَّ » لو حذفت لاستقام المعنى بحذفها كما استقام بثبوتها ، وتكون « النفس » مرفوعة ، فصارت « أن » هنا ك « إن » المكسورة في أن حذفها لا يُخلُّ بالجملة ، فجاز العَطْفُ على محل اسمها ، كما يجوز على محلِّ اسم المكسورة ، وقد حُمِلَ على ذلك :

{ أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 3 ] .
قال ابن الحاجب : « ورسوله » بالرفع معطوف على اسم « أنَّ » وإن كانت مفتوحة لأنها في حكم المكسورة ، وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون .
قال شهاب الدين : بلى قد نَبَّه النحويون على ذلك ، واختلفوا فيه ، فجوَّزه بعضهم ، وهو الصحيحُ ، وأكثر ما يكون ذلك بعد « علم » أو ما في معناه كقوله : [ الوافر ]
1969- وإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ ... بُغَاةٌ ما بَقِينَا فِي شِقَاقِ
وقوله تعالى : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله } [ التوبة : 3 ] الآية؛ لأن « الأذان » بمعنى الإعلام .
الوجه الثالث : أن « العين » عطف على الضمير المرفوع المستتر في الجار الواقع خبراً؛ إذ التقدير أنَّ النفس بالنفس هي والعينُ ، وكذا ما بعدها ، والجار والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبنيةً للمعنى؛ إذ المرفوع هنا مرفوع بالفاعلية لعطفه على الفاعل المستتر وضَعِّفَ هذا بأن هذه أحوال لازمة ، والأصل أن تكون منتقلةً ، وبأنه يلزم العَطْفُ على الضمير المرفوع المُتصل من غير فَصْلٍ بين المتعاطفين ، ولا تأكيدٍ ولا فَصْلٍ ب « لا » بعد حرف العطف كقوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] وهذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورةً .
قال أبو البقاء : وجاز العطفُ من غير توكيد كقوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] قال شهاب الدين : قام الفصْل ب « لا » بين حرف العطف ، والمعطوف مقام التوكيد ، فليس نظيره .
وللفارسي بحث في قوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] مع سيبويه ، فإن سيبويه يجعل طول الكلام ب « لا » عوضاً عن التوكيد بالمنفصل ، كما طال الكلام في قولهم : « حضر القاضِيَ اليومَ امرأةٌ » .
قال الفارسي : « هذا يستقيم إذا كان قبل حرف العطفِ ، أما إذا وقع بعده فلا يَسُدُّ مسدَّ الضمير ، ألا ترى أنك لو قلت : » حضر امرأة القاضي اليوم « لم يُغْنِ طُولُ الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه » .
قال ابن عطية : « وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي ، وإن كان الطول قبل حرف العطف أتَمَّ ، فإنه بعد حرف العطف مؤثر ، لا سيما في هذه الآية ، لأن » لا « ربطت المعنى؛ إذ قد تقدمها نفي ، ونفت هي أيضاً عن » الآباء « فيمكن العطف .
واختار أبو عبيد قراءة رفع الجميع ، وهي رواية الكسائي؛ لأن أنَساً - رضي الله عنه - رواها قراءة للنبي صلى الله عليه وسلم .
وروى أنس عنه - عليه الصلاة والسلام - أيضاً » أن النَّفسُ بالنَّفسِ « بتخفيف » أنْ « ورفع » النفس « ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أن تكون » أنْ « مخفّفة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف ، و » النفس بالنفس « مبتدأ وخبر ، في محل رفع خبراً ل » أن « المخففة ، كقوله :

{ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] فيكون المعنى كمعنى المشدّدة .
والثاني : أنها « أنْ » المفسرة؛ لأنها بعد مَا هو بمعنى القول لا حروفه وهو « كتبنا » ، والتقدير : أي النفسُ بالنفس ، ورُجِّح هذا على الأول بأنه يلزم من الأول وقوع المخففة بعد غير العلم ، وهو قليل أو ممنوع ، وقد يقال : إن « كتبنا » لمّا كان بمعنى « قضينا » قَرُبَ من أفعال اليَقينِ .
وأما قراءة نافع ومن معه فالنَّصْبُ على اسم « أنَّ » لفظاً ، وهي النفس ، والجار بعده خبرُه .
و « قصاصٌ » خبر « الجروح » ، أي : وأن الجروح قصاص ، وهذا من عطف الجُمَلِ ، عطفت الاسم على الاسم ، والخبر على الخبر ، كقولك « إنَّ زيداً قائمٌ وعمراً منطلق » عطفت « عمراً » على « زيداً » ، و « منطلق » على « قائم » ، ويكون الكَتْبُ شاملاً للجميع ، إلاَّ أنَّ في كلام ابن عطية ما يقتضي أن يكون « قصاص » خبراً على المنصوبات أجمع ، فإنه قال : وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كلِّه ، و « قصاص » خبرُ « أنَّ » ، وهذا وإن كان يصدقُ أن أخْذَ النفس بالنفسِ والعين بالعينِ قصاص ، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصاً بالجروح ، وهو محل نظر .
وأما قراءة أبي عمرو ومن معه ، فالمنصوب كما تقدم في قراءة نافع ، لكنهم لم ينصبوا « الجروح » قطعاً له عما قبله ، وفيه أربعة أوجه : الثلاثة المذكورة في توجيه قراءة الكسائي ، وقد تقدم إيضاحه .
والرابع : أنه مبتدأ وخبره « قصاص » ، يعني : أنه ابتداء تشريعٍ ، وتعريف حكم جديد .
قال أبو علي : « فأمّا » والجروح قصاص « [ فمن رفعه يقْطَعُهُ عما قبله ، فإنه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في قراءة من رفع » والعين بالعين « ، ويجوز أن يستأنف » والجروح قصاص « ] ليس على أنه مما كُتب عليهم في التوراة ، ولكنه على الاستئناف ، وابتداء تشريع » انتهى .
إلا أن أبا شامة قال - قبل أن يحكي عن الفارسي هذا الكلام - : « ولا يستقيم في رفع الجروح الوجه الثالث ، وهو أنه عطف على الضمير الذي في خبر » النفس « وإن جاز فيما قبلها ، وسَبَبُهُ استقامة المعنى في قولك : مأخوذة هي بالنفس ، والعين هي مأخوذة بالعين ، ولا يستقيم ، والجروحُ مأخوذة قصاص ، وهذا معنى قولي : لما خلا قوله : » الجروح قصاص « عن » الباء « في الخبر خالفَ الأسماءَ التي قبلها ، فخولف بينهما في الإعراب » .

قال شهاب الدين : وهذا الذي قاله واضح ، ولم يتنبه له كثير من المُعرِبين .
وقال بعضهم : « إنما رُفِعَ » الجروح « ولم يُنْصَبْ تَبَعاً لما قبله فَرْقاً بين المجمل والمفسر » . يعني أن قوله : « النَّفْسَ بالنفسِ ، والعينَ بالعينِ » مفسّر غير مجمل ، بخلاف « الجروح » ، فإنها مجملة؛ إذ ليس كل جرح يجري فيه قصاصٌ؛ بل ما كان يعرف فيه المساواة ، وأمكن ذلك فيه ، على تفصيل معروف في كتب الفقه .
وقال بعضهم : خُولِفَ في الإعراب لاختلاف الجراحات وتفاوتها ، فإذن الاختلاف في ذلك كالخِلافِ المُشَارِ إليه ، وهذان الوجهان لا معنى لهما ، ولا ملازمة بين مُخَالَفَةِ الإعراب ، ومخالفةِ الأحكام المُشَارِ إليها بوجهٍ من الوُجُوهِ ، وإنما ذكرتها تنبيهاً على ضعفها .
وقرأ نافع : « والأذْن بالأذْن » سواء كان مفرداً أم مثنى ، كقوله : { كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً } [ لقمان : 7 ] بسكون الذال ، وهو تخفيف للمضموم ك « عُنْق » في « عُنُق » والباقون بضمهما ، وهو الأصل ، ولا بد من حذف مضاف في قوله : « والجروحُ قصاص » : إمَّا من الأول ، وإمَّا من الثاني ، وسواء قُرئ برفعه أو بنصبه ، تقديره : وحكم الجروح قصاص ، أو : والجروح ذات قصاص .
والقِصَاصُ : المقُاصَّةُ ، وقد تقدم الكلام عليه في « البقرة » [ الآية 178 ] .
وقرأ أبيّ بنصب « النفس » ، والأربعة بعدها و « أن الجُرُوحُ » بزيادة « أن » الخفيفة ، ورفع « الجُرُوح » ، وعلى هذه القراءة يَتعيَّنُ أن تكون المخففة ، ولا يجوز أن تكون المفسرة ، بخلاف ما تقدَّم من قراءة أنس عنه عليه السلام بتخفيف « أن » ورفع « النفس » حيث جوزنا فيها الوجهين ، وذلك لأنه لو قدرتها التفسيرية [ وجعلتها معطوفة على ما قبلها فسد من حيث إن « كتبنا » يقتضي أن يكون عاملاً لأجل أنّ « أن » المشدّدة غير عامل لأجل « أنْ » التفسيرية ] . فإذا انتفى تسلّطه عليها انتفى تشريكها مع ما قبلها؛ لأنه إذا لم يكن عمل فلا تشريك ، فإذا جعلتها المُخَفَّفَةَ تسلَّطَ عمله عليها ، فاقتضى العمل التشريك في انصباب معنى الكَتْبِ عليهما .
فصل
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة ، وهو أن النفس بالنفس . الخ ، فما بالهم يقتلون بالنفس النفسين ، ويفقأون بالعين العينين ، والمعنى أن من قتل نفساً بغير قود قتله ، ولم يجعل الله لهم دية في نفس ولا جرح ، إنما هو العفو أو القصاص ، وأما الأطراف فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في جميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة ، وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضاً في الأطراف ، ولما ذكر حكم بعض الأعضاء ذكر الحكم في كلها فعمَّ بعض التخصيص فقال : « والجروح قصاص » ، وهو كل ما يمكن أن يختص فيه مثل الشفتين والذكر والأنثيين والألْيتيْنِ والقدمَيْنِ واليدين وغيرهما ، فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رضّ لحم أو كسر عظم أو جرح يخاف منه التلف ، ففيه أرش؛ لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته .

وقرأ أبيّ : « فهو كفارته له » ، أي : التصدق كفارة ، يعني الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها وهو تعظيم لما فعل كقوله : { فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] .
قوله تعالى : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ } أي : بالقصاص المتعلق بالنفس ، أو بالعين أو بما بعدها ، فهو أي : فذلك التصدقُ ، عاد الضمير على المصدر لدلالة فعله عليه ، وهو كقوله تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] .
والضمير في « له » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وهو الظاهر : أنه يعود على الجاني ، والمراد به وَلِيّ القصاص أي : فالتصدق كَفَّارة لذلك المتصدق بحقه ، وإلى هذا ذهب كثير من الصحابة فمن بعدهم [ ويؤيده قوله تعالى في آية القصاص في البقرة وأن تعفوا أقرب للتقوى ] .
والثاني : أن الضمير [ يراد به ] الجاني ، [ والمراد بالمتصدق كما تقدم مستحق القصاص ، والمعنى أنه إذا تصدق المستحق على الجاني ] ، كان ذلك التصدق كفارة للجاني حيث لم يُؤاخذ به .
قال الزمخشري : « وقيل : فهو كفارة له أي : للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه في الدنيا والآخرة » فأمّا أجر العافي فعلى الله قال الله تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] وقال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ تَصدَّقَ مِنْ جسدِهِ بِشَيءٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقدرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ » وإلى هذا ذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - في آخرين .
الثالث : أن الضمير يعود على المتصدق أيضاً ، لكن المراد الجاني نفسه ، ومعنى كونه متصدقاً ، أنه إذا جنى جناية ، ولم يعرف به أحد ، فعرف هو بنفسه ، كان ذلك الاعتراف بمنزلة التصدق الماحي لذنبه وجنايته قال مجاهد .
وَيُحْكَى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنساناً في طوافه ، فلم يعرف الرجل من أصابه ، فقال له عروة : « أنا أصبتك ، وأنا عروة بن الزُّبَيْرِ ، فإن كان يعنيك شيء فَهَا أنَا ذَا » وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون « تصدَّق » من الصدقة ، وأن يكون من الصِّدْق .
قال شهاب الدين : فالأول واضح ، والثاني معناه أن يتكلف الصدق؛ لأن ذلك مما يشق .
وقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم } يجوز في « مَنْ » أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وأن تكون موصولةً ، والفاء في الخبر زائدة لشبهه بالشرط .
و « هم » في قوله : « هم الكافرون » ونظائره فصل أو مبتدأ ، وكله ظاهر مما تقدَّم في نظائره .
فإن قيل : إنه ذكر أولاً قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } [ المائدة : 44 ] وثانياً : « هم الظالمون » والكفر أعظم من الظلم . فلماذا ذكر أعظم التهديدات ، ثم ذكر بعده الأخف فأيُّ فائدة في ذلك؟ فالجواب : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها ، فهو كفر ، ومن حيث إنه يقتضي إلقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم للنفس في الآية الأولى ذكر ما يتعلق بتقصيره في حق نفسه والله أعلم .

وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)

قوله تعالى : { وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم } الآية ، قد تقدم معنى « قفينا » وأنه من قَفَا يَقْفُو أي : تبع قفاه في البقرة [ الآية 87 ] وقوله تعالى : { على آثَارِهِم بِعَيسَى } كِلاَ الجارَّيْنِ متعلق به على تضمينه معنى « جئنا به على آثارهم قافياً لهم » .
وقد تقدم أيضاً أن التضعيف فيه ليس للتعدية لعلّة ذُكِرَتْ هناك ، وإيضاحها أنَّ « قَفَا » متعدٍّ لواحد قبل التضعيف ، قال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] ف « ما » موصولة بمعنى « الذي » هي مفعول ، وتقول العرب : « قفا فلان أثر فلان » أي : تبعه ، فلو كان التضعيف للتعدّي لتعدى إلى اثنين ، فكان التركيب يكون : « ثم قفيناهم عيسى ابن مريم » ف « هم » مفعول ثانٍ ، و « عيسى » أول ، ولكنه ضُمِّن كما تقدم ، فلذلك تعدى بالباء ، و « على » قال الزمخشري « » قَفَّيْتُهُ « مثل : عَقَّبْتُهُ إذا أتبعته ، ثم يقال : » قَفَّيتُهُ بفلان « مثل : عَقَّبْتُه به : فتعديه إلى الثاني بزيادة » الباء « .
فإن قلت : فأين المفعول الأول؟
قلت : هو محذوف ، والظرف الذي هو » على آثارهم « كالسَّادِّ مسدَّه؛ لأنه إذا قَفَّى به على أثره ، فقد قَفَّى به إياه ، فكلامه هنا ينحو إلى أنَّ » قفَّيته « مضعفاً ك » قفوته « ثلاثياً ثم عدَّاهُ بالباء ، وهذا وإن كان صحيحاً من حيث إنَّ » فعَّل « قد جاء بمعنى » فعل « المجرد ك » قدَّرَ وقَدَرَ « ، إلا أنّ بعضهم زعم أن تعدية المتعدي لواحد لا يتعدَّى إلى ثانٍ بالباء ، لا تقول في » طعم زيد اللحم « : » أطعمت زيداً باللحم « ولكن الصواب أنه قليل غير ممتنع ، جاءت منه ألفاظ قالوا : » صَكَّ الحَجَرُ الحَجَرَ « ثم يقولون : صككت الحَجَر بالحجر ، و » دَفَعَ زيدٌ عَمْراً « ثم : دَفَعْتُ زيداً بعمرو : أي : جعلته دافعاً له ، فكلامه إما ممتنع ، أو محمول على القليل ، وقد تقدم في البقرة الإشارة إلى منع ادِّعاء حذف المفعول من نحو » قَفَّيْنَا « في البقرة [ الآية 87 ] .
وناقشه أبو حيان في قوله : » فقد قَفَّى به إياه « من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل مع قدرته على المتصل ، فيقول : » قفيته به « .
قال : » ولو قلت : « زيدٌ ضربْتُ بسوط إياه » لم يَجُزْ إلا في ضرورة شعر ، بل ضربته بسوط « ، وهذا ليس بشيء ، لأن ذلك من باب قوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممحنة : 1 ] { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] وقد تقدَّم تحقيقه .

والضمير في « آثارهم » : إمَّا للنبيين؛ لقوله : { يَحْكُمُ بِهَا النبيون } [ المائدة : 44 ] وإمَّا لِمَنْ كُتِبَتْ عليهم تلك الأحْكَامُ ، والأول أظهر؛ لقوله في موضع آخر : { برسلنا وقفَّينا بعيسى ابن مريم } .
و « مصدقاً » حال من « عيسى » .
قال ابن عطية : وهي حال مؤكّدة ، وكذلك قال في « مصدقاً » الثانية ، وهو ظاهرٌ فإن مَنْ لازم الرَّسول والإنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا مصدِّقَيْن .
و « لما » متعلّق به .
وقوله : « من التوراة » حال : إما من الموصول ، وهو « ما » المجرورة باللام ، وإما من الضمير المستكنّ في الظرف لوقوعه صِلَةً ، ويجوز أن تكُون لبيان جِنْسِ الموصول .
قوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ الإنجيل } يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون عطفاً على قوله : « وَقَفَّيْنَا » فلا يكون لها مَحَلٌّ ، كما أن المعطوف عليه لا مَحَلَّ له ، ويجوز أن تكون في مَحَلِّ نصب على الحال عَطْفاً على « مصدقاً » الأوَّل إذا جعل « مصدقاً » الثاني حالاً من « عيسى » أيضاً كما سيأتي ، [ ويجوز أن تكون الجملة حالاً ] وإن لم يكن « مصدقاً » الثاني حالاً من « عيسى » .
قوله تعالى : « فيه هدى » يجوز أن يكون « فيه » وحده حالاً من الإنجيل ، و « هدى » فاعل به؛ لأنه لما اعتمد على ذِي الحَالِ رفع الفاعل ويجوز أن يكون « فيه » خبراً مقدّماً ، « وهدى » مبتدأ مؤخر ، والجملة حال ، و « مصدقاً » حال عَطْفاً على محل « فيه هدى » بالاعتبارين أعني اعتبار أن يكون « فيه » وَحْدَهُ هو الحال ، فعطفت هذه الحال عليه ، وأن يكون « فيه هدى » جملة اسمية محلُّها النصب ، و « مصدقاً » عطف على محلِّهَا ، وإلى هذا ذَهَبَ ابن عطية ، إلاّ أن هذا مرجوحٌ من وجهين :
أحدهما : أن أصل الحال أن تكون مفردة ، والجار أقرب إلى المفرد من الجمل .
الثاني : أن الجملة الاسمية الواقعة حالاً ، الأكثر أن تأتي فيها بالواو ، وإن كان فيها ضميرٌ - حتى زعم الفراء - وتبعه الزمخشري أن ذلك لا يجوز إلا شاذّاً ، وكونُ « مصدقاً » حالاً من « الإنجيل » هو الظاهر .
وأجاز مكي بن أبي طالب - وتبعه أبو البقاء - أن يكون « مصدقاً » ، الثاني حالاً أيضاً من عيسى « كُرِّرَ توكيداً .
قال ابن عطية : » وهذا فيه قَلَقٌ من جهة اتساق المعاني « .
قال شهاب الدين : إذا جعلنا » وآتيناه « حالاً منه ، وعطفنا عليها هذه الحال الأخرى ، فلا أدْرِي وجْه القلقِ من الحيثية المذكورة؟
وقوله : » وهدى « الجمهور على النَّصْبِ ، وهو على الحال : إمَّا من » الإنجيل « ، عطفت هذه الحال على ما قبلها ، وإمَّا من » عيسى « أي : ذا هُدًى وموعظة ، أو هادياً ، أو جعل نفس الهدى مبالغة .

وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعُولِ من أجْلِهِ ، وجعل العامل فيه قوله تعالى : « آتيناه » ، قال : وأنْ ينتصبا مفعولاً لهما لقوله : « وليحكم » كأنه قيل وللهدى وللموعظة آتيناه الإنجيل وللحكم .
وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون العامل فيه « قَفَّيْنَا » أي : قفينا للهدى والموعظة ، وينبغي إذا جعلا مفعولاً من أجله أن يُقدَّر إسنادهما إلى الله - تعالى - لا إلى الإنجيل ليصح النصب ، فإن شرطه اتحاد المفعول له مع عامله فاعلاً وزماناً ، ولذلك لما اختلف الفاعل في قوله : { وليحكم أهل الإنجيل } عُدِّي إليه باللام ، ولأنه خالفه أيضاً في الزمان ، فإن زمن الحكم مستقبل وزمن الأنبياء ماضٍ ، بخلاف الهداية والموعظة ، فإنهما مقارنان في الزمان للإيتاء .
و « للمقيمين » يجوز أن يكون صفة ل « موعظة » ، ويجوز أن تكون « اللام » زائدة مقوية ، و « المتقين » مفعول ب « موعظة » ، ولم تمنع تاءُ التأنيث من عمله؛ لأنه مبنيٌّ عليها؛ كقوله : [ الطويل ]
1970- . . وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ . . .
وقد تقدم الكلام على « الإنجيل » واشتقاقه وقراءةُ الحسن فيه بما أغنى عن إعادته .
وقرأ الضَّحَّاك بن مزاحم : « وهُدًى وموعِظَةٌ » بالرفع ، ووَجْهُهَا أنها خبر ابتداء مضمر ، أي : وهو هدى وموعظة .
فصل
قال ابن الخَطيبِ : هنا سؤالات :
الأول : أنه - تعالى - وَصَفَ عيسى ابن مريم بكونه مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، وإنما يكون كذلك ، إذا كان [ عمله على شريعة التوراة ، ومعلوم أنه لم يكن ] كذلك فإن شريعة عيسى كانت مغايرة لشريعة موسى عليهما السلام ، ولذلك قال تعالى في آخر هذه الآية : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ } [ المائدة : 47 ] فكيف الجمع بينهما؟
والجواب : كون عيسى عليه الصلاة والسلام مصدقاً للتوراة ، أقر بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى ، وأنه كان حقًّا واجب العمل به قبل وُرُودِ النَّسْخِ .
الثاني : لم كرر كونه مصدقاً لما بين يديه؟
والجواب : ليس فيه تكْرَارٌ ، إلا أنَّ في الأول أنَّ المسيح يصدق التوراة ، وفي الثاني : الإنجيل يصدق التوراة .
الثالث : ما معنى وصفه الإنجيل بهذه الصفات الخمسة فقال « [ فيه ] هدى ونور ، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين » ؟
والجواب : [ أن قوله ] « هدى » بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدَّالة على التوحيد والتنزيه ، وبراءة الله عن الصاحبة والولد ، والمثل والضد ، وعلى النبوة والمعاد فهذا هو المراد بكونه هدى .
وأما كونه نوراً [ فالمراد به كونه بياناً للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف ] .
وأما كونه هدى مرة أخرى ، فلأن اشتماله على البشارة بمحمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - سبب لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولمّا كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله مرة أخرى تنبيهاً على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فكان هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجاً إلى البيان والتقرير .
وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة ، وإنما خصها بالمتقين ، لأنهم هم الذين ينتفعون بها كقوله { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .

وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)

قوله تعالى : { وَلْيَحْكُمْ } قرأ الجمهور بسكون « اللام » وجزم الفعل بعدها على أنها لام الأمر سُكِّنَتْ تشبيهاً ب « كَتْف » وإن كان أصلها الكسر ، وقد قرأ بعضهم بهذا الأصل .
وقرأ حمزة والأعمش ، بكسرها ونصب الفعل بعدها ، جعلها لام « كي » ، فنصب الفعل بعدها بإضمار « أن » على ما تقرر غير مَرّة ، فعلى قراءة الجمهور والشاذ تكون جملة مستأنفة .
وعلى قراءة حمزة يجوز أن تتعلق « اللام » ب « آتينا » ، أو ب « قفَّيْنَا » إن جعلنا « هدى وموعظة » مفعولاً لهما ، أي : قَفَّينا للهدى والموعظة وللحكم ، أو آتيناه الهدى والموعظة والحكم ، وإن جَعَلْنَاهما حالين معطوفين على « مصدقاً » تعلَّق « وليحكم » في قراءته بمحذوف دلَّ عليه اللفظ ، كأنه قيل : « وللحكم آتيناه ذلك » .
قال الزمخشري : فإن قلت : فإن نظمت « هدى وموعظة » في سِلْكِ « مصدقاً » فما تصنع بقوله : « وليحكم » ؟
قال شهاب الدين : أصنعُ به ما صنعت ب « هدى وموعظة » حيث جعلتهما مفعولاً لهما فأقدِّر : « وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه » .
وقال ابن عطية قريباً من الوجه الأول ، أعني كون « وليحكم » مفعولاً له عطفاً على « هدى » والعامل « آتيناه » الملفوظ به ، فإنه قال : وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ، وليحكم أهل الإنجيل .
قال أبو حيان : فعطف « وليحكم » على توهّم علةٍ ، ولذلك قال : « ليتضمن » وذكر أبو حيان قول الزمخشري السَّابق ، وجعله أقرب إلى الصواب من قول ابن عطية .
قال : لأنَّ الهدى الأول ، والنور والتصديق لم يؤت بها على أنها علّة ، إنما جيء بقوله : { فيه هدى ونور } على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً ، وهذا معنى الحَالِ ، والحالُ لا تكون علةً ، فقوله : « ليتضمَّن كَيْتَ وكَيْتَ وليحكم » بعيد .
واختلف المفسرون في هذه الخواتم الثلاثة أعني : الكافرون الظالمون الفاسقون .
فقال القفال : صفات لموصوف واحد ، وليس في إفراد كل واحد من هذه الثلاثة باللفظ ما يوجب القدح في المعنى ، بل كما يقال : مَنْ أطاعَ اللَّهَ فَهُوَ البَرُّ ، ومن أطاعَ الله فهو المؤمنُ ، ومن أطاعَ الله فهو المُتَّقِي؛ لأنَّ كُلَّ ذلك صفاتٌ مُخْتَلِفَةٌ حاصِلةٌ لموْصُوفٍ واحدٍ وقال آخرون : الأوَّلُ في الْجَاحِدِ ، والثاني والثالث : في المُقِرِّ التاركِ ، وقال الأصم : الأوَّلُ والثاني في اليهُودِ ، والثالثُ في النَّصارى .
وقال الشَّعْبِيُّ : الأولى في المسلمين والثانيةُ في اليهودِ ، والثالثةُ : في النصارى ، لأنَّ قبلَ الأولى « فإنْ جَاءُوك فاحْكُم » ، و « كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ » ، و « يَحْكُمُ بها النَّبِيُّونَ » وَقَبْلَ الثانيةِ « وَكَتَبْنَا عَلَيْهِم » وهم اليهودُ ، وقَبل الثَّالِثَةِ « وَلْيَحكُمْ أهْلُ الإنجِيلِ » وهمُ النَّصارى ، فكأنَّه خَصَّ كُلَّ واحدةٍ بما يليه وهذا أحْسَنُهَا .

وقرأ أبَيٌّ : « وَأن ليحكُم » بزيادة « أنْ » وليْسَ موضِعَ زيادَتِهَا .
فصل
مَنْ قَرَا بِكَسْرِ اللامِ وفتحِ الميمِ جعل اللاَّم مُتعلقةً بقوله : « وآتيْنَاهُ الإنجيلَ » فيكونُ المعْنَى : آتيناهُ الإنجيلَ ليحكُم ، ومن قرأ بِجَزْمِ اللام والميمِ على سبيلِ الأمْرِ ففيه وجهان :
أحدهما : أن يكون التقديرُ : وقُلْنا : لِيَحْكُمْ أهْلُ الإنجيلِ ، فيكونُ هذا إخباراً عمَّا فرض الله عليهم في ذلك الوقْتِ ، وحذفُ القولِ كثيرٌ كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 - 24 ] أيْ : يَقُولُونَ سلامٌ عليْكُم .
والثاني : أن يكونَ قوله : « وَلَيَحْكُمْ » ابتَدأ الأمْرَ للنَّصارى بالحُكْمِ بما في الإنجيلِ .
فإنْ قِيل : كيف يجُوزُ أن يُؤمَرُوا بالحُكْمِ بِمَا فِي الإنجيلِ بعد نزولِ القرآنِ؟
فالجوابُ من وُجُوه :
[ الأول : ليحكم أهلُ الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم .
الثاني : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه مما لم يصر منسوخاً بالقرآن .
الثالث : المرادُ وليحكمْ أهلُ الإنجيلِ بما أنزل الله فيه ] زجرهم عَنْ تحريفِ ما فِي الإنجيل وتَغْييرهِ كما فعله اليهودُ مِنْ إخفاءِ أحكامِ التَّوراةِ ، والمعنى : وَلْيُقِرّ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجْهِ الذي أنزلَهُ من غَيْرِ تحريفٍ ولا تبديلٍ ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن أمر الله عز وجل .

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

وهذا خطابٌ مع النَّبِي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والمرادُ بالكتابِ القرآن العظيم .
والباءُ [ في « بالحَقِّ » ] يجوزُ أن تكونَ لِلْحَالِ مِنَ « الكتابِ » أيْ : مُلْتَبِساً بالحقِّ والصِّدْقِ ، وهي حالٌ مؤكدة ، ويجوزُ أن تكون حالاً من الفاعلِ أيْ : مُصَاحبينَ للحقِّ ، أو حالاً من « الكافِ » في « إليْكَ » أيْ : وأنت مُلْتَبِسٌ بالحَقِّ .
و « مِنَ الكتابِ » تقدم نظيرُه ، و « ألْ » في الكتابِ الأولِ للعَهْدِ ، وهو القرآنُ بلا خلافٍ ، وفي الثاني : يحتملُ أن تكونَ للجنْسِ ، إذ المُرادُ الكُتُبُ السماويَّة [ كما تقدم ] .
وجوَّز أبُو حيان : أنْ تكُون لِلْعَهد؛ إذ المرادُ نوعٌ معلُومٌ من الكتابِ ، لا كُل ما يقعُ عليه هذا الاسمُ ، والفرقُ بَيْنَ الوجهيْنِ أنَّ الأولَ يحتاجُ إلى حَذْفِ [ صفة ] أيْ : مِنَ الكتابِ الإلهِي ، وفي الثاني لا يحتاجُ إلى ذلِكَ؛ لأن العَهْدَ فِي الاسْمِ يتضمنُه بجميعِ صِفَاتِهِ .
قوله تعالى : « وَمُهَيْمِناً » الجمهورُ على كَسْرِ الميمِ الثانيةِ ، اسمُ فاعلٍ ، وهو حالٌ من « الكتاب » الأول لعطفِهِ على الحالِ منه وهو « مُصدِّقاً » ، ويجوزُ في « مُصَدِّقاً » و « مُهَيْمِناً » أنْ يَكُونَا حاليْنِ مِنْ كافِ « إلَيْكَ » ، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قراءةِ مجاهد رحمه الله .
« وعليْهِ » متعلقٌ ب « مُهَيْمِن » .
و « المهيمنُ » : الرَّقيبُ قال حسَّان : [ الكامل ]
1971- إنَّ الكتابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا ... والحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الألْبَابِ
والحافِظُ أيْضاً قال : [ الطويل ]
1972- مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمنٌ ... لِعزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - « شاهِداً » وهو قولُ مُجاهدٍ وقتادَةَ والسديِّ والكِسَائِي ، وقال عِكْرِمَةُ : دالاً ، وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ ، وأبُو عُبيدَةَ : مُؤتَمناً عليه . وقاله الكسائيُّ والحسنُ .
واختلفوا : هل هو أصل بِنَفْسِهِ ، أيْ : أنه ليس مُبْدَلاً مِنْ شيءٍ ، يقالُ : « هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُو مُهَيْمِن » ك « بَيْطَرَ يُبَيْطِرُ فهو مُبَيْطر » .
وقال أبُو عُبَيْدة : لم تَجِئْ في كلامِ العرب على هذا البِنَاءِ إلا أربعةُ ألفاظٍ : « مُبَيْطِر ، ومُسَيْطِر ، ومُهَيْمن ، ومُحَيْمِر » .
وزاد أبُو القاسِمِ الزَّجَّاجيُّ في شرحه لخُطْبَةِ « أدَبِ الكاتبِ » لفظاً خامساً ، وهو مُبَيْقِر ، اسم فاعل من : بيقَر يُبَيْقِر أيْ : خرج من أفُقٍ إلى أفُقٍ ، أو لعب البُقَّيْرى وهي لعبةٌ مَعْرُوفةٌ للصِّبْيَان .
وقيل : إنَّ هاءَهُ مُبْدلةٌ من همزة ، وأنه اسمُ فاعلٍ من آمن غيرهُ مِنَ الخوفِ ، والأصْلُ « مُأَأْمِن » بهمَزْتَيْنِ أبدلَتِ الثانيةُ ياءً كراهِيةَ اجتماعِ همزتين ، ثُمَّ أبْدِلَتِ الأولَى هاءً ك « هراق وهراح ، وهَبرتُ الثوب » في : « أراق وأراح وأبرتُ الثوبَ » و « أيهاتَ وهَيْهَات » ونحوها ، وهذا ضعيفٌ فيه تكلُّفٌ لا حاجة إليه ، مع أنَّ له أبْنِيَةً يُمْكِن إلحاقهُ بها ك « مُبَيْطِر » وإخوانه ، وأيضاً فإنَّ هَمْزَةَ « مُأَأْمِن » اسمُ فاعلٍ من « آمَنَ » قاعدتُها الحذفُ فلا يُدَّعى فيها أنها أثبتت ، ثم أبدلت هاءً ، هذا ما لا نظيرَ له .

وقد سقط ابنُ قَُتَيْبَة سقطةً فاحِشَةً حيث زعم أن « مُهَيْمِناً » مُصَغَّرٌ ، وأنَّ أصلهُ « مُؤيْمِنٌ » تصغيرُ « مُؤمِن » اسمُ فاعلٍ ، ثُم قُلبتْ همزتهُ هاءً ك « هَرَاق » ، ويُعْزَى ذلك لأبِي العبّاس المُبَرّدِ أيضاً ، إلاَّ أنَّ الزَّجَّاج قال : « وهذا حسنٌ على طريق العربية [ وهُو مُوافقٌ لِمَا جَاءَ فِي التفسيرِ مِن أنَّ معنى » مُهَيْمِن « : مُؤمِنٌ » . وهذا الذي قالَهُ الزَّجَّاجُ واسْتَحْسَنَهُ ] أنكره الناسُ عليه ، وعلى المبرِدِ ، وعلى مَنْ تَبِعَهُما .
ولما بلغ أبَا العباسِ ثَعْلَباً هذا القولُ أنكرَهُ أشدَّ إنْكَارٍ ، وأنحى على ابن قُتَيْبَة ، وكتب إليه : أن اتَّقِ الله فإن هذا كُفرٌ أوْ ما أشبههُ ، لأنَّ أسماءَ الله - تعالى - لا تُصَغَّر ، وكذلك كل اسمٍ مُعَظَّم شَرْعاً .
وقال ابنُ عطيَّة : « إنَّ النقَّاش حَكَى أنَّ ذلك لمَّا بلغ ثعلباً فقال : إنَّ ما قال ابنُ قُتَيْبَة رَدِيءٌ باطِلٌ ، والوُثُوب على القرآنِ شديدٌ ، وهو ما سَمِعَ الحديثَ مِنْ قويٍّ ولا ضعيفٍ ، وإنَّما جمع الكتُبَ من هَوَسٍ غلبه » .
وقرأ ابنُ مُحيصن ومُجاهد : « وَمُهَيْمَناً » بفتح الميمِ الثانيةِ على أنَّه اسمُ مفعولٍ .
وقال أبُو البقاءِ : وأصلُ « مُهَيْمن » : مُؤيمنٌ؛ لأنه مُشْتَقٌّ من « الأمانة » ؛ لأنَّ المهيمنَ الشاهدُ ، وليس في الكلام « هَيْمَنَ » حتى تكُون « الهاء » أصْلاً ، وهذا الذي قالهُ ليس بِشَيءٍ لما تقدَّمَ مِنْ حِكايةِ أهْلِ اللُّغَةِ « هَيْمَنَ » ، وغايةُ مَا في البابِ أنهم لم يستعمِلُوه إلاَّ مَزِيداً فيه الياءُ ك « بَيْطَر » وبابِهِ ، بمعنى أنَّه حُوفِظَ عليه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ ، والفاعلُ هو الله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] أو الحافظُ لهُ في كُلِّ بلدٍ ، حتَّى إنَّه إذا غيَّرْتَ مِنْه الحَرَكَةَ تَنَبَّهَ لها الناسُ ، ورَدُّوا على قارئها بالصوابِ .
والضميرُ في « عَلَيْه » على هذه القراءةِ عائدٌ على الكتابِ الأولِ ، وعلى القراءة المشهورةِ عائدٌ على الكتاب الثاني .
وروى ابنُ أبِي نَجيح عَنْ مُجاهدٍ قراءتَهُ بالفتحِ ، وقال : « معناه : مُحَمدٌ مؤتمنٌ على القرآنِ » .
قال الطَّبرِيُّ : فعلى هذا يكون « مُهَيْمِناً » حالاً من « الكَافِ » في « إليْك » ، وطعنَ على هذا القولِ لوجود « الواو » [ في ] « ومهيمناً » ؛ لأنها عطفٌ على « مُصدِّقاً » ، و « مُصدِّقاً » حالٌ مِنَ « الكِتاب » لا حَالٌ مِنَ « الكَافِ » ؛ إذْ لَوْ كان حالاً مِنْها لكان التركيبُ : « لِمَا بَيْنَ يَدَيْكَ » بالكَافِ .

قال أبُو حيّان : وتأويلُه على أنَّه من الالتفات من الخطاب إلى الغَيْبَةِ بعيدٌ عَنْ نظم القرآن ، وتقديرُ : « وَجَعلْنَاكَ يا مُحمَّدُ مُهَيْمِناً » أبعدُ يعني : أنَّ هذيْنِ التَّأويلَيْنِ يَصْلُحَانِ أنْ يكُونَا جَوَابَيْنِ عن قول مجاهد ، لكنَّ الأولَ بعيد ، والثَّانِي أبعدُ مِنْه .
وقال ابن عطيَّة هنا بَعْدَ أن حَكَى قراءةَ مُجاهِدٍ وتفسيرَهُ محمداً - عليه السلام - أنَّه أمينٌ على القرآنِ : قال الطبريُ وقوله : « ومُهَيْمناً » على هذا حالٌ مِنَ « الكَافِ » في قوله : « إلَيْكَ » قال : « وهذا تأويلٌ بعيدُ المفهومِ » قال : « وغلط الطبرِيُّ في هذه اللَّفْظَةِ على مُجاهدٍ ، فإنه فَسَّرَ تأويلَهُ على قراءةِ النَّاسِ » مُهَيْمناً « بِفَتْحِ الميمِ الثانيةِ ، فَبَعُدَ التأويلُ ، ومجاهدٌ رحمه الله إنَّما يَقْرأ هو وابنُ مُحَيْصِن : » مُهَيْمَناً « بِفَتْحِ الميمِ الثَّانِيَةِ فهُوَ بناءُ اسم المفعولِ ، وهو حالٌ من » الكِتَابِ « معطوفٌ على قوله : » مُصَدِّقاً « ، وعلى هذا يتجه أنَّ المؤتَمَنَ عليه هو محمد - عليه السلام - » .
قال : « وكذلك مشى مَكيّ - رحمه الله- » .
قال شهابُ الدِّين : وما قاله أبُو محمدٍ ليس فيه ما يَرُدُّ على الطَّبريِّ ، [ فإنَّ الطبري ] اسْتَشْكَلَ كَوْنَ « مُهَيْمِناً » حالاً من « الكافِ » على قراءة مجاهدٍ ، وأيضاً فقد قال ابنُ عطية بعد ذلك : ويُحْتَملُ أنْ يكونَ « مُصدِّقاً ومُهَيْمِناً » حاليْنِ مِنَ « الكافِ » في « إلَيْكَ » ، ولا يخص ذلك قراءةَ مُجاهدٍ وحده كما زعم مَكّي ، فالناسُ إنما اسْتَشْكَلُوا كَوْنَهُمَا حالين من كافِ « إليك » لِقَلَقِ التركيبِ ، وقد تقدم ما فيه وما نقله أبُو حيَّان مِنَ التَّأويلينِ .
وقوله : « ولا يخص ذلك » كلامٌ صَحِيحٌ ، وإنْ كان مكِّيٌّ التَزَمَهُ ، وهو الظَّاهِرُ .
و « عَلَيْهِ » في مَوْضِعِ رَفْعٍ على قراءةِ ابنِ مُحَيْصن ، ومجاهدٍ لقيامِهِ مُقَامَ الفاعلِ ، كذا قاله ابنُ عَطِيَّةً .
قال شهاب الدين : هذا إذا جعلنا « مُهَيْمناً » حالاً من « الكتاب » ، أمَّا إذا جعلناه حالاً من كاف « إلَيْكَ » ، فيكون القائمُ مقام الفاعلِ ضَمِيراً مُسْتَتِراً يعُود على النبي - عليه السلام - ، فيكون « عليه » أيضاً في مَحَلِّ نَصْب ، كما لو قُرِئ به اسمُ الفاعل انتهى .
فصل معنى أمانة القرآن
ومعنى أمانةِ القرآنِ ما قال ابنُ جُرَيج : القرآنُ أمين على ما قبله من الكُتُبِ ، فما أخبر أهْلُ الكتابِ عن كِتَابِهِمْ ، فإنْ كان في القرآن فصدِّقوه ، وإلاَّ فَكَذِّبُوه .
قال سعيدٌ بن المُسيَّب والضَّحاك : قَاضِياً ، وقيل : إنَّما كان القُرْآن مُهَيْمِناً على الكُتُب؛ لأنه الكِتَاب الذي لا يَصِير مَنْسُوخاً ألْبَتَّةَ ، ولا يَتَطَرَّقُ إلَيْه التَّبْديل والتَّحْريف؛ لقوله تعالى :

{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
وإذا كان كذلك كان شهادَة القُرْآن على التَّوْرَاة والإنْجيل والزَّبُور حقٌّ وصدقٌ باقيةٌ أبداً ، [ وكانت حقيقة هذه الكُتُب مَعْلُومة أبداً ] .
ومن قَرَأ بفتح الميمِ الثَّانِية ، فالمعنى أنه مشهودٌ عليه من عِنْد الله تعالى بأنَّه يَصُونُه عن التَّحْرِيف والتَّبْدِيلِ لقوله تعالى : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] ، والآيات المتقدِّمة .
قوله تعالى { فاحكم بَيْنَهُم } : يا محمد { بِمَآ أَنزَلَ الله } بين أهْلِ الكتاب إذا ترافعُوا إليك بالقُرآن ، والوَحْي ينزل عليك ، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } ، أي : ولا تتحَرِفْ ، ولذلك عدَّاه ب « عَنْ » كأنَّه قيل : ولا تنحرف عمَّا جاءك من الحقِّ مُتَّبِعاً أهواءَهم .
روي أنَّ جماعة من اليهُود قالوا : تعالوا [ نذهب ] إلى محمد لعلَّنا نَفْتِنهُ عن دينه ، ثمَّ دَخَلُوا عليه وقالوا : يا مُحَمَّد قد عَرَفْتَ أنّا أحبار اليَهُود وأشْرَافُهم ، وأنّا إن اتَّبَعْنَاك اتَّبَعَك كلُّ اليَهُود ، وإنَّ بَيْنَنَا وبين خصُومِنا حُكُومة فَنُحَاكِمهم إلَيْكَ ، فاقْضِ لنا ونحْنُ نُؤمِنُ بك فأنزل الله تعالى هذه الآية - والله أعلم - .
فصل
تمسَّك من طعن في عِصْمَة الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآيةِ ، وقال : لولا جواز المَعْصِيَة عليهم لما قال الله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق } .
والجوابُ : أنَّ ذلِكَ مَقْدورٌ له ، ولكِنَّهُ لا يَفْعَله لمكان النَّهْي ، وقيل : الخِطَابُ له والمُرَاد غيره .
قوله تعالى : « عَمَّا جاءَك » فيه وجهانِ :
أحدهما - وبه قال أبو البقاء - أنَّهُ حال ، أي : عَادِلاً عمَّا جَاءَك ، وهذا فيه نَظرٌ من حيث إنَّ « عَنْ » حرف جرٍّ ناقِص لا يقع خَبَراً عن الجُثَّةِ ، فكذا لا يَقَعُ حالاً عنها ، وحرف الجر النَّاقِص إنَّما يتعلَّق بكَوْنٍ مُطْلق لا بكَون مُقَيَّد ، لكن المقيَّد لا يجوز حَذْفُهُ .
الثاني : أن « عَنْ » على بابِها من المُجَاوَزَةِ ، لكن بتضمين [ « تَتَّبعْ » ] معنى « تَتَزَحْزَحْ وتَنْحَرِفْ » ، أي : لا تَنْحَرِفْ مُتَّبِعاً كما تقدم .
قوله تعالى : « مِن الحقِّ » فيه أيْضاً وجهان :
أحدهما : أنَّه حالٌ من الضَّمِير المرفُوع في « جاءَك » .
والثاني : أنَّهُ حالٌ من نفس « مَا » الموصُولة ، فيتعلّق بمحذوفٍ ، ويجُوزُ أن تكون للبيان .
قوله [ تعالى ] : « لِكُلّ » : « كُلّ » مضافة لشيء محذوفٍ ، وذلك المَحذُوف يُحتمل أن يكون لَفْظَة « أُمّة » ، أي : لكل أمة ، ويراد بِهِم : جميعُ النَّاسِ من المُسْلِمِين واليَهُود والنَّصارى .
ويحتمل أن يكُون ذلك المَحْذُوف « الأنْبِيَاء » أي : لكلِّ الأنْبِياءِ المقدَّم ذِكْرُهم .
و « جَعَلْنَا » يُحْتَمل أن تكون مُتعدِّية لاثْنَين بمعنى صَيَّرْنَا ، فيكون « لكلِّ » مفعولاً مقدَّماً ، و « شِرْعَةً » مفعول ثانٍ .
وقوله : « مِنْكم » متعلِّق بمحذُوفٍ ، أي : أعْني مِنْكم ، ولا يجُوز أن يتعلَّق بمَحْذُوف على أنَّهُ صِفَة ل « كُلٍّ » لوجهين :
أحدهما : أنَّهُ يلزم منه الفَصْلُ بين الصِّفَة والموصُوف بقوله : « جعلنا » ، وهي جُمْلة أجْنَبيَّة ليس فيها تَأكِيد ولا تَسْدِيدٌ ، وما شأنه كذلِكَ لا يجُوزُ الفَصْلُ به .

والثاني : أنه يَلْزَمُ منه الفَصْلُ بين « جَعَلْنَا » ، وبين مَعْمُولها وهو « شرعة » قاله أبو البقاء ، وفيه نظر ، فإنَّ العامِلَ في « لِكُلٍّ » غير أجْنَبِيّ ، ويدلُّ [ على ذلك ] قوله : { أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ } [ الأنعام : 14 ] ، ففصل بين الجلالة وصِفَتِها بالعامِل في المَفْعُول الأوّل ، وهذا نَظِيرُهُ .
وقرأ إبراهيم النَّخعي ، ويَحْيى بن وثَّاب : « شَرْعَةً » بفتح الشِّين ، كأن المكسور للهيئَة ، والمفْتُوح مَصْدر .
والشِّرْعَةُ في الأصْل « السُّنَّة » ، ومنه : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين } [ الشورى : 13 ] ، أي : سن [ لكم وبيَّنَ ووَضَّحَ ] .
والشَّارع : الطريق ، وهو من الشَّريعة التي هي في الأصْلِ : الطَّريق المُوصِّلُ إلى الماء ، وقال ابن السِّكِّيت : الشَّرْع مصدر شَرَعْت الإهَاب ، أي : شَقَقْتُهُ وسَلَخْتُه ، وقيل : مأخوذٌ من الشُّروع في الشَّيء : وهو الدُّخُول فيه .
ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
1973- وفِي الشَّرَائِعِ مِنْ جلاَّنَ مُقْتنِصٌ ... بَالِي الثِّيَابِ خَفِيُّ الصَّوْتِ مُنْزَرِبُ
والشَّريعة : فَعِيلة بمعنى المَفْعُولة : وهي الأشيَاءُ التي أوْجب اللَّه تعالى على المكلَّفِين أن يشرعوا فيها ، والمِنْهاجُ مشتقٌّ من الطَّريق النَّهْج وهو الوَاضِح .
ومنه قوله : [ الرجز ]
1974- مِنْ يَكُ ذَا شَكٍّ فَهَذَا فَلْجُ ... مَاءٌ رَوَاءٌ وطريقٌ نَهْجُ
أي : وَاضِح ، يقال : طَرِيق مَنْهَج ونَهْج . وقال ابن عطية : منهاج مثال مُبالغة ، يعني قولهم : « إنَُّه لَمِنْحَارٌ بَوَائكَهَا » وهو حسنٌ ، [ وهل الشِّرْعَة ] والمنهاج بمعنى كقوله : [ الطويل ]
1975- . . ... وَهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ
[ الوافر ]
1976- . . ... وَألْفَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنا
أو مُخْتَلفَان؟
فالشِّرْعَةُ : ابتداءُ الطَّريق ، والمِنْهَاج الطَّريق المستمِرُّ ، قاله المبرِّد ، أو الشِّرْعةُ : الطَّرِيق وَاضِحاً كان أو غَيْر وَاضِح ، والمنْهَاجُ : الطريق الوَاضِحُ فقط ، فالأوَّل أعمُّ . قاله ابن الأنباري ، أو الدِّين والدَّلِيل؟ خلافٌ مشهور .
فصل في معنى الآية
قال ابنُ عبَّاس ، ومُجَاهِد ، والحسن - رضي الله عنهم - معنى قوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } أي : سَبِيلاً وسُنَّة ، وأراد بهذا أن الشَّرَائع مختلِفَةٌ ولكلِّ أمَّة شرِيعة .
قال قتادة : الخِطَاب للأمُمِ الثَّلاث : أمَّة مُوسَى ، وأمَّة عيسى ، وأمَّة محمد - صلوات الله وسلامُهُ عليهم - لتقدُّم ذِكرهم .
فإن قيل : قد وردتْ آياتٌ تدلُّ على عدم التَّبَايُن في طريقة الأنبياء - عليهم السلام - كقوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } [ الشورى : 13 ] إلى قوله تعالى : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [ الشورى : 13 ] وقال تعالى { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] ، وآياتٌ دلَّت على التَّبَايُن في هذه الآية فكيف الجَمْع؟
فالجواب : أنَّ الأوَّل يَنْصَرِفُ إلى أصُول الدِّيَانَاتِ .
والثاني ينصرف إلى الفُرُوع .
واحتجَّ أكثر العُلَمَاء بهذه الآية على أنَّ شرع من قبلنا لا يلزمنا؛ لأنَّها تدلُّ على أنَّ لكلِّ رَسُولٍ شريعَةٌ خاصَّةٌ .

قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } ، أي : جماعة مُتَّفِقَة على شريعة واحِدة ، أو ذَوِي أمة واحدة ، أو دِين واحد لا اخْتِلاَف فيه .
قال أهل السُّنَّة : وهذا يدلُّ على أن الكُلَّ بِمَشِيئَةِ الله - تعالى - ، والمعتزِلَة : حَمَلُوهُ على مَشِيئَة الإلْجَاء .
قوله تعالى : « ولَكِنْ لِيَبْلُوكُمْ » متعلِّق بِمَحْذُوف ، فقدَّرَهُ أبو البقاء : « ولكن فرَّقكم لِيَبْلُوَكُم » .
وقدَّره غيره « ولكن لم يَشْأ جَعْلكم أمَّة واحِدة » .
قال شهاب الدين : وهذا أحْسَن؛ لدلالة اللَّفْظ والمعنى عليه .
ومعنى « لِيَبْلُوكُمْ » : ليختبركم ، « فِيمَا آتَاكُم » : من الكُتُب وبيَّن لكم من الشَّرائع ، فبيّن المُطِيع من العَاصِي ، والمُوَافِق من المُخَالِف ، « فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ » فبادروا إلى الأعْمَال الصَّالحة قوله تعالى : { إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } استئناف في معنى التَّعْليل لاستِبَاقِ الخَيْرَاتِ .
وهذه الجُملة تحتمل أن تكُون من بَابِ الجملة الفعليَّة أو الجملة الاسميَّة ، كما تقدَّم في نظائره .
و « جَمِيعاً » حال من « كُمْ » في « مَرْجِعُكُمْ » ، والعامل في هذه الحال ، إمَّا المصْدر المضاف إلى « كُمْ » ، فإنَّ « كُمْ » يحتمل أن تكون فاعِلاً ، والمصدر يَنْحَلُّ لحرف مصدريٍّ ، وفعلٍ مبنيٍّ للفاعل ، والأصْلُ : « تُرْجَعُون جَمِيعاً » ، ويحتمل أن تكون مفعُولاً لم يُسَمَّ فاعِلُه ، على أنَّ المصدر يَنْحَلُّ لفعل مَبْني للمفعول ، أي : « يُرْجِعُكُم الله » ، وقد صرَّح بالمعْنَييْن في مواضع .
وإما أن يعمل فيها الاسْتِقْرارُ المقدَّر في الجارِّ وهو « إلَيْه » [ و « إليه مَرْجِعُكُمْ » يحتمل أن يكون من باب الجُمَل الفعليَّة ، أو الجُمل الاسميَّة ، وهذا واضح بما تقدَّم في نَظَائِره ] و « فَيَنَبِّئُكم » هنا من « نَبَّأ » غير مُتَضَمِّنَة معنى « أعْلَم » ، فلذلك تعدَّتْ لواحد بِنَفْسِها ، وللآخر بحرف الجرَّ .
والمعنى : فَيُخْبِركم بما لا تَشُكُّونَ معه من الجَزَاءِ الفاصِلِ بين محقكم ومُبْطِلِكُم ، والمُراد : أنَّ الأمر سيؤول إلى ما يُزِيل الشُّكُوك .

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

قوله تعالى : { وَأَنِ احكم } : فيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنَّ محلَّها النَّصب عَطْفاً على « الكِتَاب » ، أي : « وأنزلنا إليكم الحكم » .
والثاني : أنَّها في محلِّ جرٍّ عَطْفاً على « بالحقِّ » ، أي : « أنزلناه بالحق وبالحكم » وعلى هذا الوجْهِ فيَجُوزُ في محلِّ « أنْ » النَّصْب والجرّ على الخلافِ المَشْهُور .
والثالث : أنَّها في محلِّ رفع على الابتداء ، وفي تقدير خَبَرهِ احتمالان :
أحدهما : أن تقدِّره مُتَأخِّراً ، أي : حكمك بما أنْزَل اللَّه أمْرُنا أو قولنا .
والآخر : أن تقدِّره متقدِّماً أي : ومِن الواجِبِ أن احكُم أي : حُكْمُك .
والرابع : أنَّهَا تَفْسِيريَّة .
قال أبُو البقاء : « وهو بعيدٌ؛ لأنَّ » الواو « تَمْنَع من ذلك ، والمعنى يفسد ذلِك؛ لأنَّ » أن « التَّفْسِيريَّة يَنْبَغِي أن يَسْبِقَها قولٌ يُفسَّر بِهَا » ، أما ما ذَكَرَهُ من مَنْع « الواو » أن تكُون « أنْ » تَفسيريَّة فَوَاضِحٌ .
وأمَّا قوله : « يَسْبِقُها قوْل » إصلاحُهُ أن يقول : « مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه » ، ثم قال : ويمكن تَصْحِيحُ هذا القول بأن يكون التَّقدير : وأمَرْنَاك ، ثم فسَّر هذا الأمْر ب « احْكُمْ » ، ومنع الشَّيْخ من تصحيح هذا القَوْل بما ذكرهُ أبو البقاء ، قال : لأنَّه لم يُحْفَظ من لِسَانهم حذف الجُمْلَة المُفسَّرَة ب « أن » وما بعدها ، وهو كما قال . وقراءتَا ضمِّ نُونِ « أن » وكَسْرِهَا واضحتَان ممَّا تقدَّم في البَقَرَة : الضمَّة للإتبَاع ، والكَسْر على أصْل التِقَاء السَّاكِنَيْن .
والضَّمِير في « بَيْنَهُم » : إمَّا لليهُود خَاصَّة ، وإمَّا لِجَمِيع المُتَحَاكِمين .
فإن قيل : قالوا : هذه الآية نَاسِخَةٌ للتَّخْيِير في قوله : { فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ } [ المائدة : 42 ] ، وأعَادَ ذِكْر الأمْر بالحُكْمِ بعد ذِكْرِه أوَّلاً : إما للتَّأكيد ، وإمَّا لأنَّهما حُكْمَان أمَر بهما جَمِيعاً؛ لأنَّهمُ احْتَكموا إليه في زِنَا المُحْصَن ، ثُمَّ احْتَكَمُوا إليه في قتلٍ كائنٍ فيهِم .
قوله تعالى : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - : يردُّوكَ إلى أهْوائِهِم .
وقد ذكرنا أنَّ اليهُود اجْتَمَعُوا وأرادُوا إيقاعَهُ في تَحْرِيفِ دينهِ فعصمَهُ اللَّه عن ذلك ، فإن كلَّ من صُرِفَ من الحقِّ إلى الباطِلِ فقد فُتِن ، ومنه قولُهُ تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } [ الإسراء : 73 ] والفِتْنَةُ هاهنا : المَيْلُ عن الحقِّ والإلْقَاء في الباطِل ، وكان - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يقول : « أعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا » ، قال : هو أن يَعْدِلَ عن الطَّرِيق .
قال العُلَمَاءُ - رضي الله عنهم - : هذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الخَطَأ والنِّسْيَان جائِزٌ على الرُّسُل؛ لأن الله قال : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } ، والتَّعَمُّد في مثل هذا غير جائز على الرُّسل فلم يَبْقَ إلا الخَطَأ والنسيان .

قوله تعالى : « أن يفْتِنُوكَ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ مفعول من أجلِهِ ، أي : احْذَرْهُمْ مخافةَ أن يَفْتِنُوك .
والثاني : أنَّها بدل من المفعُول على جهة الاشْتِمَال ، كأنَّه [ قال ] : واحذرهُم فِتْنَتَهُمْ ، كقولك : « أعجَبني زَيْدٌ عِلْمُه » .
وقوله تعالى : « فإن تَوَلَّوْا » .
قال ابنُ عطيَّة : قبله محذُوفٌ يَدُلُّ عليه الظَّاهِر ، تقديره : « لا تَتَّبعْ واحْذَر ، فإن حكَّمُوك مع ذَلِك ، واسْتقامُوا لك فَنِعمَّا ذلك وإن تولَّوا فاعْلَمْ » .
ويحسُنُ أن يقدَّر هذا المحذُوف المعادل بعد قوله : « لَفَاسِقُون » ، والذي يَنْبَغِي ألاَّ يُقَال : في هذا النَّوْع ثَمَّ حذف؛ لأنَّ ذلك من بَابِ فَحْوَى الخِطَابِ ، والأمْر فيه واضِحٌ .
فصل
المعنى : « فإن تَولَّوْا » : أعرضوا عن الإيمَان ولَمْ يَقْبَلُوا حُكْمَكَ ، { فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم } أي : فاعْلَم أن إعْراضهم من أجْلِ أن يُرِيد الله أن يعجِّل لهم العُقُوبَة في الدُّنْيَا ، بأن يُسَلِّط عَلَيْهِم ويُعذِّبَهُم في الدُّنْيَا [ بالقَتْلِ والجَلاَء ] ، وخصَّ تعالى بَعْضَ الذُّنُوب؛ لأنَّ القَتْل جُوزُوا به في الدُّنْيَا بِبَعْضِ ذُنُوبهم ، وكانت مُجَازَاتهم بالبعض كَافِياً في إهلاكهم ، { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس } ، يعني : اليَهُود . « لفاسقون » لمتمردّون في الكُفْرِ ومُعْتَدُون فيه .
قوله تعالى : « أفَحُكْمَ » : الجمهور على ضمِّ الحاء ، وسُكُون الكَافِ ونَصْبِ الميم ، وهي قِرَاءَة واضِحَةٌ .
و « حُكْمَ » مَفْعُول مقدَّم ، و « يَبْغُون » فعل وفاعل ، وهو المْستفْهَم عَنْه في المَعْنَى .
و « الفاء » فيها القَوْلان المشهوران : هل هي مُؤخَّرة عن الهَمْزة وأصلُهَا التَّقدِيم ، أو قَبْلَها جملة عَطَفَتْ ما بعدها عليها تقديره : أيعدِلُون عن حُكْمِكَ فَيَبْغُونَ حُكْمَ الجاهليَّة؟
وقرأ ابن وثَّاب ، والأعْرج ، وأبو رجَاء ، وأبو عبد الرَّحمن برفع الميمِ ، وفيها وجهان :
أظهرهما - وهو المَشْهُور عند المُعربين - : أنه مُبْتَدأ ، و « يَبْغُون » خبره ، وعائِدُ المبتدأ محذُوفٌ تقديرُه : « يَبْغُونَهُ » حَمْلاً للخبر على الصِّلَة ، إلا أنَّ بعضهُم جَعَلَ هذه القِرَاءة خَطَأ ، حتى قال أبُو بكر بن مُجَاهِد : « هذه القراءةُ خَطَأ » ، وغيره يَجْعَلُهَا ضَعِيفَة ، ولا تَبْلُغ دَرَجَةَ الخَطَأ .
قال ابن جنِّي في قول ابن مُجاهد : لَيْس كذلك ، ولكنَّه وَجْهٌ غَيْرُه أقْوى منه ، وقد جَاءَ في الشِّعْر ، قال أبو النَّجْم : [ الرجز ]
1977- قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ
أي : لم أصْنَعْهُ .
قال ابن عطيَّة : وهكذا الرِّواية ، وبها يَتِمُّ المَعْنى الصَّحِيح؛ لأنَّه أراد التبَرُّؤ من جَمِيع الذُّنُوبِ ، ولو نَصب « كُل » لكان ظَاهِر قوله أنَّه صنع بَعْضَه ، وهذا الذي ذكره ابن عطيَّة معنى صَحيح نصَّ عليه أهل علم المعاني والبيان ، واستَشْهَدُوا على ذلك بقوله - عليه السلام - « حين سأله ذُو اليَديْن ، فقال : » أقصرت الصَّلاةُ أمْ نَسِيتَ؟ فقال : « كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ »

أراد - عليه السلام - انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ ، وأفَادَ هذا المَعْنَى تقديم « كُلّ » ، قالوا : ولو قال : « لَمْ يَكُن كُلُّ ذَلِك » لاحتمل الكلام أنَّ البعض غير مَنْفِي ، وهذه المَسْألَةُ تُسَمَّى عموم السَّلْب ، وعكسها نحو : « لَمْ أصْنَع كلَّ ذلك » يُسمَّى سَلْبَ العُمُوم ، وهذه مسألة مُفِيدَةٌ ، وإن كان بَعْضُ النَّاسِ قد فَهِم عن سيبويه غير ما [ ذكرت لك ] .
ثُمَّ قال ابن عطيَّة : وهو قَبِيحٌ - يعني : حذف العَائِد من الخَبَرِ - وإنَّما يُحْذَف الضَّمِير كثيراً من الصِّلَةِ ، ويحذف أقَلّ مِنْ ذلك من الصِّفَة ، وحذْفُه من الخبر قَبِيحٌ .
ولكنَّه رجَّح البَيْتَ على هذه القِرَاءةِ بِوَجْهَيْنِ .
أحدهما : أنَّه ليس في صَدْرِ قوله [ ألِف ] استفهام تَطْلُب الفعل ، كما هي في « أفَحُكْمَ » .
والثاني : أن في البيت عِوَضاً من « الهَاء » المحذُوفَة ، وهو حَرْف الإطلاَق أعني « اليَاء » في « اصنَعِي » ، فتضعف قِرَاءة من قَرَأ « أفحكمُ الجاهلِيَّة يَبْغُونَ » ، وهذا الَّذي ذكره ابن عطيَّة في الوجهِ الثَّانِي كلام لا يُعْبَأ به .
وأمَّا الأوَّل فَقَرِيبٌ من الصَّواب ، لكنه لم يَنْهَضْ في المنع ولا في التَّقْبِيح ، وإنَّمَا يَنْهَضُ دليلاً على الأحْسَنِيّةِ ، أو على أنّ غَيْرَه [ أوْلى ] .
وهذه المسألَةُ ذكر بعضُهُم الخِلاف فيها بالنِّسْبَة إلى نَوْع ، ونفي الخِلاف عنها ، بل حكي الإجْمَاع على الجوازِ بالنِّسْبَة إلى نوع آخر ، فحكي الإجْمَاع فيما إذا كان المُبْتَدأ لفظ « كل » ، أو ما أشبَهَهَا في العُمُوم والافْتِقَار ، فأمَّا « كُل » فنحو : « كلُّ رَجُلٍ ضَرَبْت » ، ويقوِّيه قراءة ابن عَامِر : « وكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى » [ النساء : 95 ] ويريد بما أشْبَه « كُلاًّ » نحو : « رَجُلٌ يَقُولُ الحَقَّ انْصُرْ » ، أي : انْصُرْهُ ، فإنه عامٌّ يفتَقِرُ إلى صِفَة ، كما أنَّ « كلاً » عامة ، وتَفْتَقِرُ إلى مُضَافٍ إلَيْه .
قال : « وإذا لم يكن المُبْتَدأ كذلك ، فالكُوفِيُّون يَمْنَعُون حذْفَ العَائِد ، بل يَنْصُبُون المتقدِّم مَفْعُولاً به ، والبصريُّون يُجِيزُون : » زَيْدٌ ضَرَبْتُ « أي : ضربْتُهُ » ، وذكر القراءة .
وتعالى بعضهم فقال : « لا يجُوزُ ذلك » ، وأطلق ، إلا في ضرورةِ شِعْر كقوله : [ السَّريع ]
1978- وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا ... بِالحَقِّ ، لا يُحْمَدُ بِالبَاطِلِ
قال : « لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تَهْيِئَةِ العامل لِلْعَمَل ، وقطعه عَنْهُ » .
والوجه الثاني من التوجيهين المتقدِّمَيْن : أن يكون « يَبْغُون » ليس خبراً لِلْمُبْتَدأ ، بل هو صِفَةُ لموصُوفٍ محذُوفٍ ، وذلك المحذوفُ هو الخَبَرُ ، والتَّقْدير : « أفحكم الجاهلية حُكمٌ يَبْغُون » ، وحذفُ العَائِد هنا أكثر ، لأنه كما تقدَّم يكثر حذفُه من الصِّلة ، ودونَهُ من الصِّفَةِ ، ودونَهُ من الخَبَرِ ، وهذا ما اخْتَارَهُ ابن عطيَّة ، وهو تَخْرِيجٌ مُمْكن ، ونظَّرَهُ بقوله تعالى :

{ مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ } [ النساء : 46 ] ، أي : « قومٌ يُحَرِّفُون » يعني : في حذف موصوف ، وإقامة صِفَته مُقَامه وإلا فالمَحْذُوف في الآية المُنَظَّرِ بها مُبْتَدأ ، ونظَّرها أيْضاً بقوله : [ الطويل ]
1979- وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارتَانِ : فَمِنْهُمَا ... أمُوتُ وأخْرى أبْتَغِي العَيشَ أكْدَحُ
أي : تارةً أمُوت فيها .
وقال الزَّمَخْشَرِي : وإسقاطُ الرَّاجع عنه كإسْقاطِهِ في الصِّلة ، كقوله : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] ، وعن الصِّفَةِ « في النَّاس رجلان : [ رجُلٌ ] أهنْتُ ، ورجُلٌ أكرمت » أي : رجل أهَنْتُهُ ورجل أكرمْتُه .
وعن الحال في نحو : « مررتُ بِهِنْد يَضْرِبُ زَيْدٌ » .
قال أبو حيَّان : « إنْ عنى التَّشْبيه في الحَذْفِ والحُسْن ، فليس كذلك لما تقدَّم [ ذكره ] ، وإن عنى في مُطْلَقِ الحَذف فَمُسَلَّم » .
وقرأ الأعمش وقتادة : « أفَحَكَمَ » بفتح الحَاء والكاف ، ونصب الميم ، وهو مفردٌ يُرَادُ به الجِنْس؛ لأنَّ المعنى : أحُكَّامَ الجاهليَّة ، ولا بدَّ من حذفِ مُضافٍ في هذه القراءة ، هو المصرَّح به في المُتواتِرة تقديره : أفَحْكْمَ حُكَّامِ الجاهليَّة .
والقُرَّاءُ غير ابن عَامِرٍ على « يَبْغُونَ » بياء الغَيْبَةِ نَسَقاً على ما تقدَّم من الأسْمَاء الغَائِبَة ، وقرأ هو بِتَاءِ الخِطَاب على الالتِفَاتِ؛ ليَكُون أبلغ في زَجْرِهِمْ وردْعِهِمْ ومُبَاكتتهِ لهم ، حيث واجهَهُم بهذا الاستفهام الذي يأنَفُ منه ذَوُو البَصَائِر .
والمعنى أنَّ هذا الحُكْم الذي يَبْغُونَه إنَّما يحكم به حُكَّام الجاهليَّة .
فصل
وفي الآية وجهان :
الأول : قال مُقَاتِل : « كان بَيْنَ قُرَيْظَة والنَّضِير دَمٌ في الجاهليَّة ، فلما بُعِثَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - واحتكَمُوا إليه ، فقال بَنُوا قُرَيْظَة [ يا رسُول الله إن ] بني النَّضِير إخْوَانُنَا ، أبُونا واحِدٌ وكِتَابُنَا واحِدٌ ونبيُّنا واحد ، فإن قتل بنُو النَّضِير منَّا قَتِيلاً ، أعطونا سَبْعِين وَسقاً من تَمْرٍ ، وإنَّا إن قتلْنَا وَاحِداً أخَذُوا منَّا مائة وأربعين وسقاً ، وأرُوش جِرَاحَاتِنَا على النِّصْف من أرُوش جراحاتِهِم ، فاقضِ بَيْنَنا وبَيْنَهُم ، فقال - عليه السلام - : » وإنِّي أحْكُم [ أنَّ دِمَاء القرظي ] وفاءٌ من دم النَّضَري ، والنَّضَري وفاءٌ من دمِ القُرظِي ، ليْسَ لأحدهمَا فَضْل على الآخر في دم ولا عَقْلٍ ولا جراحةٍ « فَغَضِبَ بنُو النَّضِير وقالُوا : لا نرضى بِحُكْمِكَ فإنَّك عَدُوٌّ لَنَا ، فَأنْزَل اللَّه تعالى هذه الآية .
وقيل : إنَّهُمْ كانوا إذا وَجَبَ الحكمُ على ضُعَفَائِهِم ألْزَمُوهُم إيَّاه ، وإذَا وجبَ على أقْوِيَائِهِم لم يَأخُذُوهُم به فَمَنعهم اللَّه من ذلِكَ بهذه الآية .
والثاني : أنَّهُم يَبْغُون حُكْمَ الجاهليَّة ، الَّتِي هي محضُ الجهل وصريح الهوى .
ثم قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ، فقوله - سبحانه وتعالى - : » حُكْماً « نصب على التَّمْييزِ ، و » اللاَّم « في قوله تعالى : » لِقَوْم « فيها ثلاثةُ أوجُه :
أحدها : أن يتعلّق بنفس » حُكْماً « ؛ إذ المعنى : أنَّ حكم الله للمؤمن على الكَافِر .

والثاني : أنَّها للبيان فتتعلَّق بمحْذُوف ، كَهِي في « سقياً لَكَ » و « هَيْتَ لَكَ » ، وهو رأي الزَّمَخْشَرِي ، وابنُ عطيَّة قال شيئاً قَرِيباً منه ، وهو أنَّ المعنى : « يُبَيِّنُ ذلِكَ ويُظْهِره لِقَوْم » .
الثالث : أنَّها بمعنى « عِنْد » ، أي : عند [ قَوْمٍ ] ، وهذا لَيْسَ بِشَيْء . ومتعلَّقُ « يُوقِنُون » يجُوزُ أن يُرادَ ، وتقديرُه : يُوقِنُونَ باللَّهِ وبحُكْمهِ ، أو بالقُرْآن ، ويجُوزُ ألاَّ يُرَاد على مَعْنَى [ وقُوع الإيقان ] ، وإليه مَيْلُ الزَّجَّاج ، فإنَّهُ قال : « يُوقِنُون » : « يَتَبَيَّنُون عدل اللَّهِ في حُكْمِهِ » فإنَّهم [ هم الذين ] يَعْرِفُون أنَّه لا أحَد أعْدَل من اللَّهِ حُكْماً ، ولا أحْسَن مِنْهُ بَيَاناً .
فصل
قال القرطُبِيّ : روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة ، عن ابن أبِي نُجَيْح ، عن طَاوُوس قال : كان إذا سألُوه عن الرَّجُل يُفَضِّل بعض ولده على بَعْضِ يَقْرأ هذه الآية { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } ، فكان طاووس يقول : لَيْس لأحدٍ أنْ يُفَضِّل بَعْضَ ولدِه على بعضٍ ، فإن فعل لا ينفذُ ويفسخ ، وبه قال أهْلُ الظَّاهِرِ ، وهو مَرْوِيٌّ عن أحْمد بن حَنْبَل - رضي الله عنه - ، وكرهه الثَّوْري ، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي ، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي واللَّيْث والشَّافِعِي وأصحاب الرَّأي ، واستَدَلُّوا بِفِعْلِ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في نَخْلَةِ عائِشَةٍ دون سائر ولدِه ، واستدَلَّ الأوَّلُون بقوله - عليه الصلاة والسلام - لبَشِير : [ « ألَكَ ولد سِوَى هذا » ؟ قال : نعم ، فقال « أكُلّهم وهَبْتَ لهُ مِثْلَ هذا » ، فقال : لا ، قال ] « فلا تُشهدْني إذَنْ فإنِّي لا أشْهَدُ على جَوْرٍ » ، وفي رِوَاية « إنِّي لا أشْهَدُ إلاَّ على حَقٍّ » .
قالُوا : ومَا كان جَوْراً وغير حقٍّ فهو بَاطِل لا يجُوز ، وقوله : « أشْهِدْ على هذا غَيْرِي » ليس إذْناً في الشَّهَادَة ، وإنَّما هُوَ زَجْرٌ عَنْهَا؛ لأنَّه - عليه السلام - قد سمَّاها [ جَوْراً ] وامتنع من الشَّهَادَة فيه ، فلا يُمْكِن أن يَشْهَد أحَدٌ من المُسْلِمين ، وأمَّا فعل أبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - فلا يُعَارضُ به قول النَّبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ولعلَّه كان [ قد ] نحل أولادهُ كُلَّهم مثل ذلك .
فإن قيل : الأصْلُ تصرُّف الإنْسَان في مَالِهِ مُطْلَقاً ، قيل له : الأصل الكُلِّي والواقِعَة المُعَيَّنَةُ المُخَالِفَة لذلك الأصل لا تعارض بَيْنَهُمَا كالعُمُوم والخُصُوصِ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)

اختلفوا في نُزُول هذه الآية ، وإن كان حُكمُهَا عامًّا لجميع المؤمنين ، فقال قومٌ : نزلت في عبادة بن الصَّامتِ - رضي الله عنه - ، وعبد الله بن أبي ابن سلُول - لعنهُ الله - ، وذلك أنَّهما اخْتَصَما ، « فقال عُبَادة : إن لي أوْلِيَاء من اليَهُود كثير عَدَدَهُم شديدةٌ شوْكَتُهُم ، وإنِّي أبرأ إلى الله - تعالى - وإلى رسُوله من ولايتهِم وولايَة اليَهُود ، ولا مولى لي إلا الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله . فقال عبدُ الله - لعنه الله - : لكنِّي لا أبرأ مِنْ ولايَة اليَهُود لأنِّي أخاف الدَّوَائر ولا بُدَّ لِي مِنْهُم فقال النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : يا أبا الحُبَاب ما نفذت من ولاية اليَهُود على عُبَادة بن الصَّامِت فهو لك دُونه قال : إذْن أقْبَل » فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية .
وقال السُّدِّيُّ : لمَّا كانت وقعة [ أُحُد ] اشتدَّتْ على طائِفَةٍ من النَّاس ، وتَخوَّفُوا أن يُدَال عليهم الكُفَّار ، فقال [ رَجُلٌ ] من المُسْلِمين : أنَا ألْحَقُ بِفلانٍ اليهُودِيّ ، وآخذ منه أماناً إنِّي أخافُ أن يُدالَ علينا اليَهُود .
وقال رجُل آخَر : أما أنا فألْحَقُ بفُلانٍ النَّصْرَانِيِّ من أهْلِ الشَّام ، وآخُذ منه أمَاناً ، فأنْزَل الله هذه الآية نَهْياً لَهُمَا .
وقال عكرمة : نزلت في أبِي لُبَابة بن عبد المُنْذِر بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - إلى بني قُرَيْظَة حين حَاصَرَهُم ، فاسْتَشَارُوه في النُّزول ، وقالوا : ماذا يَصْنَعُ بنا إذا نَزَلْنَا فجعل إصْبَعَهُ على حَلْقِه أنَّه الذَّبح ، أي : يَقْتُلكُمْ ، فنَزَلَتْ هذه الآية؛ ومعنى لا تتَّخِذُوهُمْ أي : لا تَعْتَمِدُوا على اسْتِنْصَارِهِم ، ولا تتودَّدُوا إلَيْهِم .
قوله : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } مُبْتَدأ وَخَبَر ، وهذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها؛ لأنها مُسْتَأنفة ، سيقَتْ تعليلاً للنَّهْي المتقدِّم .
وزعم الحوفيّ أنها في محلِّ نصب نعتاً ل « أَولياء » ، والأوَّل هو الظّاهر ، والضَّمير في « بَعْضِهِم » يعود على اليهُود والنَّصارى على سَبِيل الإجْمَالِ ، والقرينة تبين أن بعض اليهود أولياء بعض ، وأن بعض النصارى أولياء بعض [ وبهذا التقرير لا يحتاج كما زعم بعضهم إلى تقدير محذوف يصح به المعنى ، وهو : بعض اليهود أولياء بعض ، وبعض النصارى أولياء بعض ] .
قال : لأن اليهود لا يتَوَلَّوْنَ النصارى ، والنصارى لا يتولَّوْن اليهود ، وقد تقدم جوابه .
قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ } فيوافقُهُم ويُعينُهم ، « فإنَّهُ مِنْهُم » قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - : يعني كانوا مِثْلَهُم فهذا تَغْلِيظٌ من الله وتشديدٌ في [ وجوب ] مجانبة المُخالِفِ في الدِّين ، ونَظِيره قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } [ البقرة : 249 ] ، وهذه الآية تدلُّ على مَنْع إثْبَات المِيرَاث للمُسْلِم من المرتَدِّ .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } رُوِي عن أبي مُوسى الأشْعَري - رضي الله عنه - أنَّه قال : قُلْتُ لعمر بن الخَطّاب - رضي الله عنه - إن [ لي كاتباً ] نَصْرانياً .

قال : مَا لَكَ قاتلَك اللَّه؟ ألا اتَّخْذَت حَنِيفاً ، أما سَمِعْت قول الله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } .
قلت : لَهُ دينُهُ ولي كِتَابتُه قال : لا أكرمُهم إذ أهَانَهُم الله ، ولا أعزُّهُم إذ أذَلَّهُم ، ولا أدْنِيهِمْ إذ أبْعدَهَمُ الله .
قلت : لا يَتِمُّ النُّصْرة إلاَّ به ، فقال : مَاتَ النَّصْرَانِيُّ والسَّلام ، يعني : هَبْ أنَّهُ مات فَمَا تَصْنَعَ بَعْدَهُ ، فما تعمله بعد موْتِهِ فاعْمَلْهُ الآنَ ، واستعن عنهُ بِغيْرِه .

فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)

قوله تعالى : { فَتَرَى الذين } : الجمهورُ على « تَرَى » بتاء الخطاب ، و « الذين » مفعُول ، فإن كانت الرُّؤيَة بَصَرِيَّةً أو عرفانية - فيما نقله أبُو البقاء وفيه نظر - فتكون الجُمْلَة من « يُسَارِعُون » في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصُول ، وإن كانت قَلْبِيَّةً ، فيكون « يُسَارِعُون » مفعولاً ثانياً .
وقرأ النَّخْعِي ، وابن وثَّاب « فَيَرَى » باليَاء وفيها تَأويلان :
أظهرهما : أنَّ الفاعِل ضمير يَعُود على الله تعالى ، وقيل : على الرَّأي من حيث هُو : و « يُسَارِعون » بحالتها .
والثاني : أن الفاعل نفس الموصُول ، والمفعول هو الجملة من قوله : « يسارعون » ، وذلك على تأويل حذْفِ « أنْ » المصدريَّة ، والتقدير : ويرى القوم الذين في قُلُوبهم مَرَضٌ أن يُسَارِعُوا ، فلما حُذِفَتْ : « أنْ » رُفِعَ الفِعْلُ؛ كقوله : [ الطويل ]
1980- ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى .. . .
فصل
أجاز ابْنُ عطيَّة حذف « أن » المصدريّة ، إلا أنَّ هذا غير مَقِيسٍ؛ إذ لا تُحْذَفُ « أن » عند البصريين إلا في مواضع مُحفُوظة .
وقرأ قتادةُ والأعْمش : « يُسْرِعُونَ » من أسْرَعَ . و « يَقُولُون » في محل نَصْب [ على الحالِ من فاعل « يُسَارِعُون » ، و « نَخْشَى » في محل نَصْبٍ بالقَوْل ، و « أنْ تُصِيبنَا » في محلِّ نَصْبٍ ] بالمفعُول أي : « نَخْشَى إصابَتَنَا » ، والدَّائرة صفة غَالِبة لا يذكر موصُوفها ، والأصل : دَاوِرَة؛ لأنَّها من دار يَدُور .
قال الواحدي : الدَّائرة من دَوَائِر الزَّمن ، كالدَّولة والدَّوَائِل تَدُولُ قال الشاعر : [ الرجز ]
1981- يَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا ... أوْ دَائِرَاتِ الدَّهْرِ أنْ تَدُورَا
يعني بدور الدَّهر : هو الدَّائِرة من قَوْم إلى قَوْم .
فصل
المُرَاد بقوله تعالى { الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هم المُنَافِقُون يعني : عبد الله بن أبَيّ وأصحابه - لعنهم الله - « يُسَارِعُون [ فيهم » أي : في ] مودَّة اليَهُود ونَصَارى نَجْران؛ لأنَّهم كانوا أهل ثرْوَة ، وكانوا يُعِينُونَهُم على مُهِمَّاتِهِم ، ويُقْرِضُونَهُم .
ويقول المَنَافِقُون : إنَّما نُخَالِطُهم لأنّا نَخْشَى أن تُصِيبنَا دَائِرَةٌ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - والزَّجَّاج : أي : نَخْشَى ألا يَتِمَّ الأمْرُ - لمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - ، فيدُور الأمْر كما كان قبل ذلك . وقيل : نَخْشَى أن يدُور الدَّهْر علينا بِمَكْرُوه من جَدْب أو قَحْط ، فلا يُعْطُون المِيَرة والقَرْض .
قوله : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح } ، « أن يَأتِي » في محلِّ نَصْبٍ إمَّا [ على ] الخبر ل « عسى » ، وهو رأي الأخْفَش ، وإمَّا على أنَّهُ مَفْعُول به ، وهو رأيُ سيبوَيْه لئلاَّ يلزم الإخْبَار عن الجُثَّةِ بالحدَثِ في قولك : « عَسَى زَيْدٌ أن يَقُوم » .
وأجاز أبو البقاء أن يكون « أنْ يأتِي » في محلِّ رفعٍ على البَدَلِ من اسْمِ « عسى » ، وفيه نظر .

فصل
قال المُفَسِّرُون - رحمهم الله - : عسى من اللَّه واجِب؛ لأنَّ الكَرِيم إذا طَمِعَ في خَيْر فعله ، وهو بِمَنْزِلَةِ الوَعْدِ؛ لتعلُّق النَّفْسِ به ورَجَائِها له ، قال قتادةُ ومُقَاتِل : فَعَسَى اللَّه أن يَأتِي بالقَضَاء الفَصْل من نَصْر مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على من خَالَفَهُ .
وقال الكَلْبِي والسُّدِّيُّ : فتح « مَكَّةَ » ، وقال الضَّحَّاك : فتح قُرَى اليَهُود مثل خَيْبَر وفدك .
{ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } .
قال السُّدِّي : هي الجِزْيَة ، وقال الحَسَن : إظْهَار أمر المُنَافِقِين والأحبار بأسْمَائهم والأمر بِقَتْلِهِم ، وقيل : الخَصْبُ والسَّعَة للمُسْلِمِين ، وقيل : إتْمَام أمْر محمَّد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وقيل : { هذا عذابٌ أليم } .
وقيل : إجْلاء بَنِي النَّضِير ، « فَيُصْبِحُوا » أي : هؤلاء المُنَافِقِين { على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ } مِنْ مُوالاة اليَهُود ودسِّ الأخْبَار إليْهم « نَادِمِين » وذلك لأنهم كانوا يشكُّون في أمْرِ رسُول اللَّه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، ويقولون : الظَّاهِر أنَّهم لا يتمُّ لهم أمْر ، وأن الدولة والغلبَة تصير لأعْدَائه .
قوله تعالى : « فَيُصْبِحُوا » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه منصوب عَطْفاً على « يأتي » المَنْصُوب ب « أنْ » ، والذي يُسَوِّغُ ذلك وُجُود « الفَاء » السَّبَبِيَّة ، ولولاَهَا لم يَجُزْ ذلك؛ لأن المعطُوف على الخبر خبر ، و « أنْ يَأتِي » خبر « عَسَى » ، وفيه راجعٌ عائِدٌ على اسْمِهَا .
وقوله : « فَيُصْبِحُوا » ليس فيه ضَمِيرٌ يَعُود على اسْمِهَا ، فكان من حَقِّ المسألة الامْتِنَاع ، لكن « الفَاء » للسسببِيَّة ، فجعلت الجُمْلَتَيْن كالجملة الواحِدة ، وذلك جَارٍ في الصِّلة نحو : « الذي يطير فيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبابُ » .
والصِّفة نحو : « مررت بِرَجُلٍ يَبْكِي فَيَضْحَكُ عَمْرو » ، والخبر نحو : « زيدٌ يبكي فيضحَكُ خالد » ، ولو كان العَاطِفُ غير « الفَاء » لم يجُزْ ذلك .
والثاني : أنه منْصُوب بإضْمَار « أنْ » بعد الفَاءِ في جواب التَّمَنِّي قالوا : « لأن » عَسَى « تَمَنٍّ وتَرَجٍّ في حَقّ البَشَر » .
{ على مَآ أَسَرُّواْ } متعلِّق ب « نَادِمِين » ، و « نَادِمِين » خَبر « أصْبَح » .
قوله تعالى : « ويَقُولُ » : قرأ أبُو عمرو ، والكُوفِيُّون بالواو قَبْلَ « يَقُول » والباقُون بإسْقَاطِها ، إلا أنَّ أبا عمرو نَصَب الفِعْلَ بعد « الوَاوِ » ، وروى عنه عَلِيُّ بن نَصْر : الرَّفع كالكُوفِيِّين ، فتحصَّلَ فيه ثلاث قراءات : « يَقُولُ » من غير واو [ « ويقول » بالواوِ والنَّصْب ، ] « ويقول ] بالواو والرَّفع ، فأمَّا قِرَاءة من قرأ » يَقُول « من غير واوٍ فهي جُمْلَة مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّر ، كأنه لمَّا تقدَّم قوله تعالى : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح } إلى قوله » نَادِمِين « ، سأل سَائِلٌ فقال : ماذا قال المُؤمِنُون حِينَئِذْ؟ فأجيب بِقَوْله تعالى : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ } إلى آخره ، وهو واضح ، و » الواو « سَاقِطَةٌ في مصاحِفِ » مَكَّةَ « و » المدينَةِ « و » الشَّام « ، والقارئُ بذلك هو صاحِبُ هذه المصاحِف ، فإن القَارِئين بذلك ابن كَثِير المَكِّي ، وابنُ عَامِر الشَّاميُّ ، ونافع المدنِي ، فقراءتُهُمْ موافقة لَمصَاحِفِهم [ وليس في هذا أنهم إنما قرأوا كذلك لأجل المصحف فقط ، بل وافقت روايتهم مصاحفهم ] على ما تَبيَّن غير مَرَّة ، وأما قِرَاءة » الواو « والرَّفع فواضحةٌ أيْضاً؛ لأنَّها جملة ابْتُدِئَ بالإخْبَارِ بِهَا ، فالواو اسْتِئنَافِيَّة لمجرَّدِ عَطْفِ جُمْلة على جُمْلة ، و » الواو « ثابِتَةٌ في مصاحِفَ » الكُوفَة « و » المشرق « ، والقارئُ بذلك هو صَاحِبُ ذلك المُصْحف ، والكلام كما تقدَّم أيضاً .

قال الواحدي - رحمه الله - : وحَذْف « الواو » هاهنا كإثباتها ، وذلك أنَّ في الجُمْلَة المعطُوفَة ذكراً من المَعْطُوف عليْهَا ، فإن الموصُوفيه بِقَوْله تعالى « يُسَارِعُونَ فِيهِمْ » ، هم الَّذِين قال فيهم المُؤمِنُون : { أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله } ، فلما حَصَل في كل وَاحِدَة من الجُمْلَتَيْن ذكر من الأخْرَى حسن العَطْفُ بالواوِ وبِغَيْرِ الواو ، ونَظِيرُه قوله تعالى : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] لما كان في كلِّ واحدةٍ من الجُمْلَتيْن ذِكْر ما تقدَّم ، عنى ذلك أن حَذْفَ الواوِ وذكرهَا جائِزٌ .
وأمَّا قِرَاءة أبي عَمْرو فهي الَّتِي تَحْتَاج إلى فَضْل نظر .
واخْتَلَفُوا في ذلك على ثلاثةِ أوجُه :
أحدُهَا : أنه منصُوب عَطْفاً على « فَيُصْبِحُوا » على أحد الوَجْهَيْن المذكُوريْن في نَصْب « فَيُصْبِحُوا » ، وهو الوجهُ الثَّاني ، أعْني : كَوْنَهُ مَنْصُوباً بإضْمَار في جواب التَّرَجِّي بعد « الفَاء » ، إجراءً للتَّرَجِّي مُجْرَى التَّمَنِّي ، وفيه خلافٌ بين البَصْرِيِّين والكوفيِّين ، فالبَصريُّون يَمْنَعُونَهُ ، والكوفِيُّون يجيزُونَهُ مستدِلِّين على ذلك بقراءة نَافِع { لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى } [ عبس : 3 : 4 ] بِنَصبِ « تَنْفَعَهُ » وبقراءة عَاصِم في رواية حَفْصٍ : { لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ } [ غافر : 36 ، 37 ] بنصب « فأطَّلِع » ، وسيأتي الجوابُ عن الآيتين في مَوْضِعِه .
وهذا الوجه - أعني : عَطْفَ « ويقُول » على « فَيُصْبِحوا » - قاله الفَارِسيُّ وجماعة ، ونقله ابن عطيَّة ، وذكره أبو عَمْرو بن الحَاجِب .
قال شهاب الدِّين أبُو شَامة بعد ذِكْرِه الوجهَ المُتقدِّم : « وهذا وجه جَيِّد أفادنيهِ الشَّيْخ أبو عَمْرو بن الحَاجِب ، ولم أره لِغَيْره ، وذكروا وُجُوهاً كلها بعيدة مُتعسِّفة » انتهى .
قال شهاب الدِّين : وهذا - كما رأيت - مَنْقُول مَشْهُود عن أبي عَلِيّ الفارسيِّ ، وأمَّا ما استجاد به هذا الوجْهَ فإنما يتَمشَّى على قَوْل الكُوفيِّين ، وهو مرْجوحٌ كا تقرَّر في علم النَّحْو .

الثاني : أنه منصُوب عَطْفاً على المصدر قبْله ، وهو الفَتْح كأنَّه قيل : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح } ، وبأن يقول ، أي : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ } ، وهذا الوجْه ذكره أبُو جعفر النَّحَّاس ، ونَظَّرُوه بقوْل الشاعر : [ الوافر ]
1982- للبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي ... أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
1983- لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ ... تَقَضِّي لُبانَاتٍ وَيَسْأمَ سَائِمُ
وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوْجُه :
أحدها : أنه يُؤدِّي ذلك إلى الفَصْل بين أبْعَاض الصِّلةِ بأجْنَبِيٍّ ، وذلك لأنَّ الفَتْحَ على قول مَؤوَّل ب « أن » والفعل تقديره : أن يَأتِي بأن يفتح ، وبأنْ يقول ، فيقعُ الفصلُ بقوله « فَيُصبِحُوا » وهو أجنبي؛ لأنَّه مَعْطُوف على « يأتي » .
الثاني : أن هذا المصْدر - وهو الفَتْح - ليس يُرادُ به انحلاله لحرفٍ مصدري وفعل ، بل المراد به مَصْدَر غير مُرادٍ به ذلك ، نحو : يُعْجِبُنِي ذكاؤك وعِلْمُك .
الثالث : أنه وإن سُلِّمَ انحِلاله لحرف مَصْدري وفعل ، فلا يكون المعنى على : « فعسى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ الذين آمنوا » ، فإنه نابٍ عنه نُبُوّاً ظاهراً .
الثالث - من أوجُه نَصْب « ويقول » - : أنه منصوبٌ عَطْفاً على قوله : « يَأتي » أي : فَعَسَى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ ، وإلى هذا ذهب الزَّمَخْشَرِي ، ولم يَعْتَرِض عليْه بِشَيْء .
وقد رُدَّ ذلك بأنَّهُ يلزَمُ عَطفُ ما لا يجُوزُ أن يكُون خبراً على ما هُوَ خَبَر ، وذلك أن قوله : « أن يأتي » خبر « عَسَى » وهو صحيحٌ؛ لأن فيه رابطاً عائِداً على اسم « عَسَى » [ وهو ضمير الباري تعالى ، وقوله : « ويقول » ليس فيه ضمير يعود على اسم « عسى » ] فكيف يَصِحُّ جعلُهُ خبراً؟ وقد اعتذر من أجاز ذَلِك عنه بثلاَثَةِ أوْجُه :
أحدها : أنه من بَابِ العَطْف على المَعْنَى ، والمعنى : فَعَسى أنْ يأتي الله بالفَتْح ، وبقولِ الذين آمَنُوا ، فتكون « عَسَى » تامَّة؛ لإسنادها إلى « أنْ » وما في حَيِّزهَا ، فلا تحتاجُ حينئذٍ إلى رابطٍ ، وهذا قرِيبٌ من قولهم : « العطْفُ على التَّوهُّم » نحو : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين } [ المنافقون : 10 ] .
الثاني : أنَّ « أنْ يَأتِيَ » بَدَلٌ من اسْمِ الله - تعالى - لا خبر ، وتكون « عَسَى » حينئذٍ تامَّة ، وكأنه قِيل : فعسَى أن يَقُول الذين آمَنُوا ، وهذان الوَجْهَان مَنقُولان عن أبِي عَلِيٍّ الفارسيّ ، إلا أنَّ الثَّاني لا يَصحُّ؛ لأنهم نَصُّوا على أن « عَسَى » و « اخْلَوْلَق » و « أوْشَكَ » من بين سَائِر أخَوَاتِهَا يجُوزُ أن تَكُون تامّةً ، بشرط أن يكُون مَرْفُوعُها : « أنْ يَفعل » ، قالوا : ليُوجَدَ في الصُّورة مُسْندٌ ومُسْنَدٌ إليه ، كما قالوا ذَلِكَ في « ظَنّ » وأخواتها : إنَّ « أنْ » و « أنَّ » تسدُّ مَسدَّ مَفْعُوليها .

والثالث : أن ثَمَّ ضميراً مَحْذُوفاً هو مُصَحِّحٌ لوُقُوع « وَيَقُول » خبراً عن « عَسَى » ، والتقدير : ويقول الذين آمَنُوا به ، أي : بِاللَّه ، ثم حذف للعلْم به ، ذكر ذلك أبو البقاء .
وقال ابن عطيَّة بعد حكايته نَصْبَ « ويقُولَ » عَطْفاً على « يَأتيَ » : « وعندي في مَنْع » عسى الله أنْ يقُول المُؤمِنُون « نظرٌ؛ إذ اللَّه - تعالى - يُصَيِّرهم يقولون ذلك بِنَصْرهِ وإظْهَارِ دينه » .
قال شهاب الدِّين : قول ابن عطيَّة في ذلك ، قول أبِي البَقَاء في كونه قدَّره ضَمِيراً عائداً على اسم « عَسَى » يَصِحُّ به الرَّبط ، ويعضُ النَّاس يكثرُ هذه الأوْجُه ، ويُوصِلُهَا إلى سَبْعَة وأكثر ، وذلك باعْتِبَار تَصْحيح كُلِّ وَجْه من الأوَّجُه الثلاثة التي تقدَّمت ، ولكن لا يَخْرج حاصلها عن ثلاثة ، وهو النَّصْب : إما عطفاً على « أنْ يَأتِي » ، وإما على « فَيُصْبِحُوا » ، وإمَّا على « بالفَتْح » وقد تقدم تَحقِيقُهَا .
قوله - تعالى - : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } في انتصَابِه وجهان :
أظهرهما : أنَّه مصدر مؤكدٌ ناصبُهُ « أقْسَمُوا » فهو مِنْ مَعْناه ، والمعنى : أقْسَمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليَمِين .
والثاني : - أجازه أبو البقاء وغيره - أنه منصُوب على الحَالِ كَقَوْلهم : « افعل ذلك جَهْدَك » أي : مُجْتَهِداً ، ولا يُبَالي بِتَعْرِيفه لَفْظاً ، فإنه مُؤوَّل بِنَكِرة على ما تقدَّم ذكره ، والمعنى هُنَا : « وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم » .
قوله تعالى : « إنَّهُم لمَعَكُمْ » هذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعراب ، فإنها تَفْسِيرٌ وحكاية لِمَعْنَى القَسَم لا لألْفَاظِهِم؛ إذ لو كانَت حِكَاية لألْفَاظِهِم لَقِيلَ : إنَّا مَعَكُم ، وفيه نَظَرٌ؛ إذ يجُوز لك أن تقول : « حَلَفَ زيد لأفْعَلَن » أو « ليفْعَلَنَّ » ، فكما جَازَ أنْ تقول : ليفعلن جاز أن يقال : « إنَّهُمْ لَمَعكُم » على الحِكَاية .
فإن قيل : الفائدة في أنَّ المؤمنين يقولون هذا القول : هو أنَّهم يتعجَّبُون من حال المُنَافِقِين ، عندما أظهروا المَيْل إلى مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى ، وقالوا : إنَّهم كانوا يُقسِمُون باللَّه جَهْدَ أيْمانهم أنَّهُم مَعَنَا ومن أنْصَارنا ، والآن كيف صاروا مُوالِين لأعْدَائِنَا مُحِبِّين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم؟
قوله تعالى : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } فيها أوجه :
حدها : أنَّها جملة مُسْتَأنَفَة ، والمقصُود بِهَا الإخْبَار من البَارِي - تعالى - بذلك .
الثاني : أنها دُعَاءٌ عليهم بذلك ، وهو قولُ الله - تعالى - نحو : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] .
الثالث : أنها في محلِّ نَصْبٍ؛ لأنَّها من جملة قوْلِ المُؤمنين ، ويحتمل معنييْن كالمَعْنَيَيْن في الاسْتِئْنَاف ، أعني : كونَهُ إخْبَاراً أو دُعَاءً .
الرابع : أنَّها في محلِّ رفع على أنَّها خبر المُبْتدأ ، وهو « هؤلاء » ، وعلى هذا فيحتمل قوله « الَّذين أقْسَمُوا » وَجْهَيْن :
أحدهما : أنَّه صفة لاسْم الإشارة ، والخبر : « حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ » .

والثاني : أن « الَّذِين » خَبَر أوَّل ، و « حَبِطَتْ » خبر ثانٍ عند من يُجِيزُ ذلك ، وجعل الزمخْشَرِيّ « حَبِطَت أعمَالهم » مفهمة للتَّعجُّب .
قال : وفيه معنى التَّعجُّب كأنَّه قيل : « ما أحَبَطَ أعْمَالَهُم ما أخْسَرَهُمْ » ، وأجاز مع كونه تعجُّباً أن يكون من قولِ المؤمنين ، فيكون في محلِّ نَصْب ، وان يكون من قَوْلِ الباري - تعالى - لكنَّه أوَّل التَّعَجُّبَ في حقِّ الله - تعالى - بأنه تَعْجِيبٌ ، قال : « أوْ مِنْ قول الله - عز وجلَّ - شهادة لهم بِحُبُوطِ الأعْمَال ، وتعْجِيباً من سُوءِ حالِهِمْ » والمعنى : ذهب ما أظْهَرُوه من الإيمان ، وبطل كُلُّ خَيْرٍ عَمِلُوه؛ لأجل أنَّهم الآن أظْهرَوا مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى فأصْبَحوا خَاسِرِين في الدُّنْيَا والآخرة ، [ أمَّا في الدُّنْيا فلذهَاب ما عَمِلُوا ولم يَحْصُل لهم شيء من ثَمَرتِهِ ، وأمَّا في الآخرة ] فلاسْتِحْقَاقِهم اللَّعْن والعذاب الدائم ، وقرأ أبُو واقد والجرَّاح « حَبَطت » بفتح « الباء » ، وهما لُغَتَان ، وقد تقدَّم ذلك .
وقوله تعالى : « فأصْبَحُوا » وجه التسبب في هذه الفاء ظاهر .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)

قوله : « مَنْ يَرْتَدَّ » « مَنْ » شرطيَّة فقط لِظُهُور أثَرِها .
وقوله تعالى : « فَسَوْفَ » جوابها وهي مُبْتَدأة ، وفي خَبَرِها الخِلافُ المَشْهُور وبظاهره يتمسَّكُ مَنْ لا يَشْتَرِطُ عَوْدَ الضَّمِير على اسْمِ الشَّرْط من جُمْلَة الجواب ، ومن الْتَزَم ذلك قدَّر ضَمِيراً مَحْذُوفاً تقديره : « فسوْفَ يأتي الله بِقَوْم غَيْرهم » ، ف « هُمْ » في « غَيْرهم » يعُود على « مَنْ » على مَعْناها .
وقرأ ابنُ عامرٍ ، ونافع : « يَرْتَدِد » بداليْن .
قال الزَّمَخْشَري : « وهي في الإمَام - يعني رسم المُصْحَفِ - كذلك » ، ولم يتبين ذلك ، ونَقَل غَيْرُهُ أنَّ كل قَارِئ وافَق مُصْحَفَه ، فإنَّها في مَصَاحِف « الشَّام » و « المدينة » : « يَرْتَدِدْ » بدالين ، وفي البَاقِية : « يَرْتَدَّ » ، وقد تقدَّم أنَّ الإدغام لغة « تمِيم » ، والإظهَار لغة « الحِجاز » ، وأن وجه الإظْهَار سكون الثَّانِي جَزْماً أو وَقْفاً ، ولا يُدْغَمُ إلا في مُتَحَرِّك ، وأنَّ وجه الإدْغَام تحْرِيك هذا السَّاكن في بَعْضِ الأحْوَال نحو : رُدَّا ، ورُدُّوا ، ورُدِّي ، ولم يَرُدَّا ، ولم يَرُدُّوا ، واردُدِ القوم ، ثم حُمِل « لم يَرُدَّ » ، و « رُدَّ » على ذلك ، فَكَأنَّ التَميميّين اعتبروا هذه الحركة العارضة ، والحِجازيِّين لم يَعْتَبِرُوها .
و « مِنْكُم » في محلِّ نصب على الحال من فاعل « يَرْتَدّ » ، و « عَنْ دينهِ » متعلِّق ب « يَرْتدَّ » .
قوله : « يحبُّهم » في محلِّ جر؛ لأنها صفةٌ ل « قَوْم » ، و « يُحِبُّونه » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه معطوف على ما قَبْلَهُ ، فيكُون في محلِّ جرِّ أيضاً ، فوصفهم بِصفتين : وصفهم بكونه تعالى يُحِبُّهم ، وبكوْنِهِم يُحِبُّونَه .
والثاني : أجازه أبُو البقاءِ أن يكُون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضَّمِير المنصُوب في « يُحِبُّهم » ، قال : تقديره : « وهُمْ يُحِبُّونَهُ » .
قال شهاب الدِّين : وإنما قدَّر أبُو البقاءِ لفظة « هُمْ » ليخرج بذلك من إشْكال ، وهو أنَّ المُضارع المُثْبَت متى وَقَعَ حالاً ، وجبَ تجرُّدُه من « الواو » نحو : « قُمْتُ أضْحَكُ » ولا يجوز : « وأضْحَكُ » وإن وَرَدَ شيءٌ أوِّلَ بما ذَكَرَهُ أبُو البقاء ، كقولهم : « قُمْتُ وأصُكُّ عَيْنَه » .
وقوله : [ المتقارب ]
1984- . . ... نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكَا
أي : وأنَا أصُكُّ ، وأنا أرهَنُهم ، فتؤوَّل الجملة إلى جُمْلة اسميَّة ، فيصحُّ اقترانها بالواو ، ولكن لا ضَرُورةَ في الآيَة الكريمَة تدعو إلى ذلك حتَّى يُرْتَكَب ، فهو قولٌ مَرْجُوحٌ .
وقدمت محبَّة الله - تعالى - على مَحبتهم لشرفِها وسَبْقِهَا؛ إذ مَحَبَّتُهُ - تعالى - لهم عِبَارة عن إلْهامهم فِعْلَ الطَّاعةِ ، وإثابته إيَّاهُم عليها .

فصل
روى الزَّمخشري : أنَّه كان أهْلُ الرِّدَّة إحدى عشرة فرقة في عهد رَسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم - بنو مدُلج [ ورئِيسُهم ] وهو « عَيْهَلة بن كعب » لقبه « ذُو الخِمَار » وهو الأسْوَد العَنْسي وكان كاهِناً - ادّعى النُّبُوّة باليمن ، واستولى [ على بلادِها ] وأخرج عُمَّال رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - مثل مُعَاذِ بن جَبَل وساداتِ اليمن ، فأهلكه الله على يد « فَيْرُوز الدَّيْلَمِي » ، فقتله وأخبر رسُول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم- ] من الغد ، وأتَى خَبَرُه في آخِر رَبِيع الأوَّل ، وبنو حنيفَة : قوم « مُسَيْلِمَة الكَذَّاب » ادَّعى النُّبُوَّة ، وكتب إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : « من مسيلمة رسُول الله إلى محمَّد رسول الله ، أما بعد : فإن الأرْض نصفُهَا لك ونِصْفُها لِي » ، فأجاب - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - من محمَّد إلى مُسَيْلمة الكذَّاب أما بعد : { إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] فحارَبَهُ أبو بكر - رضي الله عنه - بجُنُود المُسْلِمين رضي الله عنهم - وقُتل على يَدِ وَحْشِيٍّ قاتل حَمْزة وقال : قَتَلْتُ خير النَّاسِ في الجاهليَّة ، وشرَّ النَّاسِ في الإسلام أراد في جاهليَّته وفي إسلامه .
وبنو أسَد : قوم طُلَيْحة بن خُوَيْلِد ادّعى النُّبوة ، فبعَثَ رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - خالداً فانْهَزَم بعد القِتَال إلى الشَّام ، ثمَّ أسْلَم ، وحَسُن إسلامه في عَهْد أبِي بكر - رضي الله عنه- ، وفِزَارة : قوم عُيَيْنَة بن حِصْن ، وغَطَفَان : قوم قُرَّة بن سلمة القُشَيْري ، وبنو سَلِيم : قوم فُجاءَة بن عبد يَالِيل ، وبنو يَرْبُوع : قوم مَالِك بن نُوَيْرة ، وبعض بني تَمِيم : قوم سجاح بِنْت المُنْذِر التي ادَّعت النُّبُوَّة ، وزوجت نفسها من مُسَيْلمة الكَذَّاب ، وكِنْدة : قوم الأشعَث بن قَيْس ، وبنو بكر بن وَائِل ب « البحرين » ، وقوم الحَطْم ابن زَيْد ، وكُفِيَ أمْرُهم على يد أبِي بكر - رضي الله عنه - وفرقةَ واحدةُ على عهد عُمَر - رضي الله عنه - غسان قوم جبلة بن الأيْهَمِ ، وذلِك أنَّ جبلة أسلم على يد عُمَر رضي الله عنه كان يَطُوفُ ذاتَ يومٍ جارًّا رداءَهُ ، فوطئ رَجُلٌ طرَفَ رِدائِه فغَضِبَ فَلَطَمُه ، فتظلَّم إلى عمر - رضي الله عنه - ، فقضى بالقِصَاص عليه ، فقال : أنّا أشْتَرِيها بألْفٍ ، فأبي الرَّجُل ، فلم يَزَل يزيد في الفِدَاءِ حتى بلغ عَشْرَة آلاَف فأبى الرجل إلا القِصَاص ، فاسْتَنْظَره [ عُمر ] فأنْظَرَهُ فَهَرَب إلى الرُّوم وارتد .
ومعنى الآية : يا أيُّها الذين آمنُوا من يتول منكم الكُفَّار ، فَيَرْتَدَّ عن دينه ، فليعلم : أنَّ الله تعالى يأتي بِقَوْم آخَرِين يتدينوا بهذا الدِّين على أبْلَغ الوُجُوه .

وقال الحسن : عَلِمَ اللَّهُ أنَّ قوماً يَرْجِعُون عن الإسْلام بعدَ مَوْت نَبِيِّهِم ، فأخْبَرَهُم بأنه سَيَأتِي الله بِقَوْم يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَهُ . وعلى هذا التقدير : تكون هذه الآيَةُ إخْباراً عن الغَيْبِ ، وقد وقع المخبر على وِفْقِه ، فيكون مُعْجِزاً .
واخْتَلَفُوا في القَوْم مَنْ هُم؟
فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضَّحَّاك وابن جُرَيْج : أبو بكر وأصحابه - رضي الله عنهم - الَّذين قاتلوا أهْلَ الرِّدَّة ، قالت عائشة - رضي الله عنها - مات رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وارتدَّ من العرب قوم [ واشْتَهَر ] النِّفَاق ، ونزل بِأبي ما لوْ نزل بالجبال الرَّاسِيَات لهاضها ، وذلك بأن النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لما قبض ارتدَّ عامَّة العرب إلا أهْل مَكَّة والمدِينَة . والبَحْرين من عَبْد القَيْس ، ومنع بعضهم الزَّكاة ، وهمَّ أبُو بَكْر بقتالهم ، فكره ذلك أصْحَاب رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - .
وقال عمر - رضي الله عنه - : كيف نُقَاتِلُ النَّاس ، وقد قال رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : « أمرت أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولوا : لا إله إلا الله محمُّد رسولُ الله ، فمن قَالَهَا فقدْ عَصَم مِنَّي ماله ونَفْسَهُ ، إلا بحقِّه ، وحِسَابُهُ على اللَّه » فقال أبُو بكر - رضي الله تعالى عنه - : « واللَّهِ لأقَاتِلنَّ من فرق بين الصَّلاة والزَّكاة ، فإن الزَّكاة حقُّ المَال ، واللَّه لَوْ مَنَعُونِي عنَاقاً كانُوا يُؤدُّونَها إلى رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لقاتَلْتُهُم على مَنْعِها » .
قال أنس - رضي الله عنه - : كَرِهَت الصَّحابة - رضي الله عنهم - قتال مانِعِي الزَّكاة ، وقالوا أهْل القِبْلة ، فتقلَّد أبُو بكر سَيْفَهُ ، وخرج وحده ، فلم يَجِدُوا بُدًّا من الخروج على أثره .
قال ابن مسعود : كَرِهْنَا ذلك في الابتدَاء ، ثم حَمِدْناهُ عليه في الانتهاء ، قال أبو بكر ابن عيَّاش : سمعت أبا حُصَيْن يقول : ما وُلِدَ بَعْد النَّبِيِّين مَوْلُود أفْضَل من أبِي بَكْر - رضي الله عنه - ، لقد قام مَقَامَ نَبَيٍّ من الأنْبِيَاء في قتال أهْلِ الرِّدَّة .
وقال السُّديُّ : نزلت الآية في الأنْصَار؛ لأنَّهُم الذين نَصَرُوا الرَّسُول وأعانُوه على إظْهَار الدِّين .
وقال مُجَاهِد : نزلتْ في أهل « اليَمَن » .
وقال الكلبي : هُمْ أحْيَاء من اليمن ، ألْفان من النَّخْع ، وخمسة آلافٍ من كِنْدة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أفناء النَّاس ، فجَاهَدُوا في سَبِيل الله يوم القَادِسيَّة في أيَّام عُمر - رضي الله عنه - ، وروي مَرْفوعاً أن النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - « لما نزلَتْ هذه الآية ، أشار إلى أبِي مُوسَى الأشْعَرِيّ وقال : » هُمْ قَوْمُ هَذَا « ، وقال آخَرُون : هم الفُرْسُ؛ لأنه رُوِي أنَّ النَّبِيَّ - صلًّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لمّا سُئِلَ عن هذه الآية ضَرَبَ يَدَهُ على عَاتِق سَلْمَان الفارسيِّ وقال : هذا وَذَوُوُه ، ثمَّ قال : لو كان الدِّين معلَّقاً بالثُّرَيَّا لنالَهُ رِجَالٌ من أبْنَاء فَارِس » .

وقال قوم :
إنَّهَا نزلت في عَلِيٍّ - رضي الله عنه -؛ لأنَّه - عليه الصلاة والسلام - « لما دفع الراية إلى عَلِيّ قال : لأدْفَعَنَّ الرَّاية إلى رَجُلٍ يحبُّ الله ورسُوله » .
قوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } .
هاتان أيضاً صِفَتَان ل « قَوْم » ، واستدلَّ بعضُهم على جواز تَقْدِيم الصِّفَة غير الصَّريحة على الصِّفَة الصَّريحة بهذه الآية ، فإن قوله تعالى : « يُحِبُّهم » صِفةٌ وهي غير صَرِيحةٌ؛ لأنَّها جملة مؤوَّلة بمفْرَد ، وقوله : « أذلّة - أعزّة » صِفتَان صريحَتَان؛ لأنَّهُمَا مفردتان ، وأما غيره من النَّحْوِيِّين فيقول : متى اجْتَمَعَت صِفَةٌ صَرِيحة ، وأخرى مؤوَّلة وَجَبَ تقدِيم الصَّريحة ، إلاَّ في ضرورة شِعْرٍ ، كقول امْرِئ القيس : [ الطويل ]
1985- وَفَرْعٍ يُغَشِّي الْمَتْنَ أسْوَدَ فَاحِم ... أثيثٍ كقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ
فقدَّم قوله : « يُغَشِّي » - وهو جملة - على « أسْوَد » وما بعده ، وهُنَّ مفردات ، وعِند هذا القَائِل أنه يُبْدَأ بالمُفْرَد ، ثم بالظَّرْف أو عديله ، ثم بالجُمْلة ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } [ غافر : 28 ] { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 155 ] .
قال أبو حيَّان : وفيها دليل على بطلان من يَعْتَقِد وجوب تَقْديم الوصْفِ بالاسْمِ على الوَصْف بالفِعْل إلا في ضَرُورَة ، ثُمَّ ذكر الآية الآخرى .
قال شهاب الدين : وليْسَ في هاتين الآيتين الكَرِيمتين ما يَرُدُّ قول هذا القَائِل ، أمَّا هذه الآية فيحتمل أن يكون قوله تعالى : « يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه » جملة اعتراض ، لأنَّ فيها تأكيداً وتَشدِيداً للكلام .
وجملة الاعْتِرَاض تقع بين الصِّفة ومَوْصُوفها ، كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] ف « عَظِيم » صفة ل « قَسَم » ، وقد فصل بينهما بقوله : « لَوْ تَعْلَمُون » ، فكذلك فصل هنا بين « بِقَوْم » ، وبين صفتهم وهي « أذِلَّة - أعِزَّة » بقوله : « يُحِبُّهم ويُحِبُّونه » ، فعلى هذا لا يكون لها مَحَلٌّ من الإعراب .
وأمَّا { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 155 ] فلا نسلّم أن « مباركٌ » صفة ، ويجوز أن يكون [ خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو مُبارك ] ولو استدلَّ على ذلك بآيتين غير هاتَيْن لكان أقْوى ، وهما قوله تعالى : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } [ الأنبياء : 2 ] ، { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ } [ الشعراء : 5 ] فقدَّم الوصف بالجار على الوَصْفِ بالصَّرِيح ، وكذا يحتمل أن يُقَال : لا نسلِّم أن « مِنْ رَبِّهم » و « مِنَ الرَّحْمن » صفتان لجواز أن يكونا حاليْنِ مُقدَّمين من الضَّمِير المسْتَتِر في « مُحْدَث » أي : مُحَدث إنزالهُ حال كَوْنه من رَبِّهِم .

و « أذلَّة » جمع ذَلِيل بمعنى متعطّف؛ ولا يُرَادُ به الذليل الذي هو ضعيف خَاضِعٌ مُهَان : ولا يجوز أن يكُون جمع « ذَلُول » ؛ لأن ذَلُولاً يجمع على « ذُلُل » لا على أذِلَّة ، وإن كان كلام بَعْضِهِم يوهِمُ ذلك .
قال الزَّمَخْشَرِي : ومن زَعَم أنَّه من « الذُّل » الذي هو نَقِيضُ الصُّعُوبة ، فقد غَبِيَ عن أن « ذَلُولاً » لا يُجْمَع على « أذِلَّة » .
و « أذلَّة » و « أعِزَّة » جمعان ل « ذلل » و « عَزِيز » وهما مِثَالا مُبَالَغَة ، وعدَّى « أذلّة » ب « على » وإن كان أصْلُه أن يتعدّى باللاَّم لما ضُمِّن من معنى الحُنُوِّ والعطف ، والمعنى : عَاطِفين [ على المؤمنين ] على وجه التَّذَلُّل والتَّواضُع ، ويجُوزُ أن يكون المعنى أنَّهُم مع شَرَفِهم وعلو طَبَقَتِهِم وفَضْلِهِم على المُؤمنين خافِضُون لهم أجنحتهم؛ كقوله تعالى : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ذكر هَذَيْن الوَجْهَيْن الزَّمخْشَري .
قال أبو حيَّان : قيل : « أو لأنَّه على حَذْفِ مضافٍ ، التَّقدير : على فَضْلِهِم على المُؤمِنِين ، والمعنى : أنَّهُمْ يَذِلُّون ، ويَخْضَعُون لمن فُضِّل عَلَيْه مع شَرَفِهِم وعلو مَكَانتهم » .
وذكر آيَة الفَتْح ، وهذا هو قَوْلُ الزَّمَخْشَرِي بعينه ، إلا أن قوله : « عَلى حَذْفِ مُضَافٍ » يوهم حَذْفه ، وإقامَةِ المُضَاف إليه مَقَامَه ، وهنا حَذفَ « عَلَى » الأولى ، وحذف المُضَاف إليه ، والمُضَاف معاً .
قال شهابُ الدِّين : ولا أدْرِي ما حَمَلَهُ على ذلك؟ ووقع الوصف في جانب المَحبَّة بالجُمْلَة الفِعْلِيَّة ، لأنَّ الفِعْل يَدُلُّ على التَّجَدد والحُدُوثِ وهو مُنَاسِب ، فإن مَحَبَّتَهُمْ لله - تعالى - تَجَدُّدُ طاعَاتِه وعبادَتِه كُلَّ وقت ، ومحبَّةُ اللَّه إياهم تجد ثوابه وإنْعامه عليهم كُلَّ وَقْت ، ووقع الوَصْفُ في جَانِبِ التَّواضُع للمُؤمنين والغِلْظَةِ على الكَافِرين بالاسْمِ الدَّال على المُبَالَغة ، دلالة على ثُبُوتِ ذَلِك واسْتِقْرَاره ، وأنه عَزِيزٌ فِيهِم ، والاسْم يدلُّ على الثُّبُوت والاسْتِقْرار ، وقدم الوصْفَ بالمحبَّة مِنْهم المتعلّق بالمؤمنين على وَصْفِهم المتعلِّق بالكَافرين؛ لأنه آكَدُ وألْزَمُ منه ، ولِشَرفِ المُؤمِن أيْضاً ، والجُمْهُور على جَرِّ « أذلَّةٍ » - « أعِزَّةٍ » على الوصف كما تقدَّم .
قال الزَّمَخْشري : « وقُرِئ » أذِلَّةً وأعِزَّةً « بالنَّصْب على الحَالِ » .
قلت : الذي قرأ « أذلَّةً » ، هو عبد الله بن مَسْعُود - رضي الله عنه - ، إلا أنَّه قرأ بَدَل « أعِزَّة » : « غُلظَاءَ على الكَافِرِين » وهو تفسيرٌ ، وهي حال من « قَوْم » ، وجازَ ذلك ، وإنْ كان « قَوْم » نَكِرة لقُرْبِهِ من المَعْرِفة؛ إذ قد تُخَصَّصُ بالوَصْف .
فصل
معنى « أذِلَّة » أي : أرقَّاء رحماء ، كقوله تعالى : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } [ الإسراء : 24 ] من قولهم دابَّه ذَلُولٌ ، أي : تَنْقَادُ سَهْلةً ، وليْسَ من الذُّل في شَيْءٍ { أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } يُعَادُنهم ويُغَالِبُونهم ، من قولهم : عَزَّه إذا غَلَبَه .

قال عطاء : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين } كالولد لِوَالده والعَبْد لسَيِّدِه : أعزَّة على الكَافِرِين كالسَّبُع على فَرِيسَتِه .
قوله تعالى : « يُجَاهِدُون » يحتمل ثلاثة أوْجُه :
أحدها : أن يكُون صِفَةً أخرى ل « قوم » ، ولذلك جاء بِغَيْر واو ، كما جاءت الصِّفَتان قَبْلَهُ بِغَيْرها .
الثاني : أنه في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في « أعِزَّة » ، أي : يَعُزُّون مُجَاهِدِين .
قال أبُو البقاء : وعلى هذا فيجُوز أن تكون مِنَ الضَّمير في « أذلَّة » ، أي : يَتَواضَعُون للمُؤمنين حال كَوْنِهِم مُجاهدين ، أي : لا يَمْنَعُهم الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّه من التَّواضُع للمُؤمِنِين ، وحاليَّتُهَا من ضمير « أعِزَّة » أظْهَرُ من حاليَّتها ممَّا ذكرت ، وذلك لَمْ يَسُغْ أن يَجْعَل المسْألة من التَّنازُع .
الثالث : أن يكون مُسْتَأنفاً ، سِيقَ للإخْبار بأنّهم يُجَاهِدُون في نُصْرَةِ دينِ اللَّه تعالى .
قوله تعالى : « ولا يَخَافُون » فيه أوجه :
أحدها : أن يكُون مَعْطُوفاً على « يُجَاهِدُون » فتجري فيه الأوْجُه السَّابقة فيما قَبْله .
الثاني : أن تكُون « الواوُ » للحَالِ ، وصاحب الحال فاعل « يُجَاهِدُون » ، قال الزَّمَخْشَرِي : « أي : يُجَاهِدُون » وحالهم في المُجَاهَدَةِ غَيْرُ حَالِ المُنافِقِين « .
وتَبِعَهُ أبو حيَّان ولم يُنْكِر عليه ، وفيه نَظَر؛ لأنهم نَصُّوا عَلَى أن المُضَارع المَنْفِي ب » لاَ « أو » مَا « كالمُثْبَتِ في أنَّه [ لا يجوزُ أن ] تباشِرَه واو الحَال ، وهذا كما تَرَى مضارع مَنْفِيٌّ ب » لاَ « ، إلاَّ أن يُقَال : إن ذلك الشَّرْط غير مُجْمَعٍ عليه ، ولكن العِلَّةَ التي مَنَعُوا لها مُبَاشَرة » الواو « للمُضَارع المُثْبت موجودة في المُضَارع المَنْفِي ب » لاَ « و » مَا « ، وهي أنَّ المُضَارع المُثْبَتَ بِمَنْزِلة الاسْمِ الصَّرِيح ، فإنَّك إذا قُلْتَ : » جاء زَيْد يَضْحَكُ « كان في قُوة » ضَاحِكاً « و » ضَاحِكاً « لا يجوز دخول » الوَاو « عليه ، فكذلكَ ما أشْبَهَه وهُوَ في قُوَّتِهِ ، وهذه مَوْجُودة في المَنْفِي ، فإن قولك : » جَاءَ زَيْدٌ يَضْحَكُ « في قوَّة » غَيْر ضَاحِكٍ « و » غيْر ضاحك « لا تَدْخل عليه الواو [ إلاَّ أنَّ هذا يُشْكِلُ بأنَّهم نَصُّوا على أنَّ المنفي ب » لَمْ « و » لَمَّا « يجُوز فيه دخول الواو ، مع أنَّه في قولك : » قَامَ زيدٌ لَمْ يَضْحَكْ « بمنزلة » غَيْرِ ضَاحِك « ] ومن دخول الواو ، وقوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم } [ البقرة : 214 ] ونحوه .
الثالث : أن تكون » الواوُ « للاستِئْنَاف ، فيكون ما بَعْدَها جُمْلةً مُسْتَأنَفَةً مُسْتَقِلَّة بالإخْبار ، وبهذا يَحْصُلُ الفَرْق بين هَذَا الوَجْهِ ، وبين الوَجْهِ الذي جُوِّزَت فيه أن تكون » الوَاو « عَاطِفَةً ، مع اعْتِقَادِنا أن » يُجَاهِدُون « مستَأنفٌ ، وهو وَاضِح .

و « اللَّوْمَةُ » : المرَّة من اللَّوْمِ .
قال الزمخشري : « وفيها وفي التَّنْكِير مبالغتان ، كأنَّه قيل : » لا يخافُون شيئاً قط من لَوْم أحَد من اللُّوَّام « ، و » لومة « مصدر مُضاف لِفاعِلِه في المعنى .
فإن قِيلَ : هل يجُوزُ أن يكُونَ فاعِلُهُ مَحْذُوفاً ، أي : لا يَخَافُون لَوْمَة لائِمٍ إيَّاهم؟
فالجوابُ أنَّ ذلك لا يجُوز عند الجُمْهُور؛ لأنَّ المصدر المحدُودَ بتاء التَّأنيثِ لا يَعْمَل ، فلو كان مَبْنيّاً على التَّاء عمل ، كقوله : [ الطويل ]
1986- فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا بِالْموَارِدِ
فأعمل » رَهْبَة « ؛ لأنه مَبْنِيٌّ على » التَّاء « ، ولا يجُوز أن يعمل المَحْدُود بالتَّاءِ إلا في قَليلٍ في كلامهم؛ كقوله : [ الطويل ]
1987- يُحَايِي بِه الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ ... بِضَرْبَةِ كَفَّيْهِ المَلاَ وَهْوَ رَاكِبُ
يصف رَجُلاً سقى رَجُلاً مَاءً فأحْيَاهُ به ، وتيمّم بالتُّراب .
والمَلاَ : التُّراب ، فنصب » المَلاَ « ب » ضَرْبة « ، وهو مصدر محدُود بالتَّاء وأصل » لاَئِم « : لاَوِم؛ لأنه من اللَّوْم ، فَأعِلَّ ك » قََائِم « .
فصل في معنى الآية
المعنى لا يخافُون في نُصْرة دِين اللَّه لَوْمة النَّاس ، وذلك [ أنَّ ] المُنافِقِين يُرَاقِبُون الكفَّار ويَخَافُون لَوْمَهُم .
وروى عُبَادة بن الصَّامِت ، قال : بايَعنا رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على السَّمْع والطَّاعة ، وأن نَقُوم للَّه وأن نقُول الحَقَّ حيث ما كُنَّا لا نخاف في اللَّهِ لَوْمَة لائِم .
قوله تعالى : » وذلك « في المُشَار إليه ثلاثةُ أوجه :
أظهرُها : أنه جَمِيع ما تقدَّم من الأوْصَاف التي وُصِفَ بها القَوْم ، من المحبّةِ ، والذِّلَّة ، والعِزَّة ، والمُجَاهدة في سبيل الله ، وانتِفَاء خوف اللاَّئِمَة من كل أحَدٍ ، واسْمُ الإشارَة يَسُوغُ فيه ذلك ، أعْنِي : أنه يقع بِلَفْظِ الإفْرَاد مُشَاراً به لأكثر مِنْ وَاحدٍ ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُهُ في قوله تعالى : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] .
والثاني : أنَّه مشار به إلى حُبِّ اللَّه لهم ، وحُبِّهم لَهُ .
والثالث : أنَّه مشارٌ به إلى قوله : » أذِلَّةٍ « ، أي : لِينُ الجَانِب ، وترك التَّرَفُّع ، وفي هذين تَخْصِيصٌ غير وَاضِح ، وكأنَّ الحَامِل على ذلك من مَجِيء اسمِ الإشَارَةِ مُفْرَداً .
و » ذَلِك « مبتدأ ، و » فَضْلُ الله « خبرُه .
و » يُؤتِيهِ « يحتمل ثلاثة أوجُه :
أظهرُهَا : أنه خَبَرٌ ثانٍ .
والثاني : أنه مُسْتَأنف .
والثالث : أنَّه في مَحَلِّ نصب على الحَالِ ، كقوله تعالى : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] .
فصل
ومعنى الكلام : أنَّ الوصف بالمحبَّة ، والذلَّة ، والعِزَّة ، والمُجاهَدَةِ ، وانتِفَاء خَوْفِ اللاَّئمة حصل بِفَضْل اللَّه - تعالى - ، وهذا يدلُّ على أنَّ طاعَات العِبَاد مَخْلُوقة للَّه تعالى ، والمعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونه على فِعْل الألْطَاف وهو بعيد؛ لأنَّ فعل الألْطَاف عامٌّ في حقِّ الكُلِّ ، فلا بدَّ في التَّخْصِيصِ من مَزِيدِ فَائِدة .
ثم قال - عزَّ وجلَّ - : { والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ، قالوا : فالوَاسِع إشَارَة إلى كمال المُقْدرة . والعَلِيم إشارةٌ إلى كمال العِلْم ، ومن هذا صِفَتُه - سُبْحَانه وتعالى - ، فلا يُعْجِزُه أنَّه سيجيء بأقْوَام هذا شأنْهُم .

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)

لمَّا نَهَى عن مُوالاةِ الكُفَّار في الآيَات المُتقدِّمة بيَّن هاهُنَا من يجب مُوالاته .
قوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله } مُبْتَدأ وخبر .
و « رَسُولُه » و « الَّذين » عَطْف على الخبر .
قال الزَّمَخْشَرِي : قد ذُكِرَتْ جماعةُ فهلاَّ قيل : « إنَّما أوْلِياؤُكم » ؟
وأجاب أنَّ الولاية بِطَرِيق الأصَالَة للَّه - تعالى - ثم نظم في سلك إثْباتها لِرَسُوله وللمُؤمِنين ، ولَوْ جِيءَ به جَمْعاً ، فقيل : « إنَّما أوْلِيَاؤُكم » لم يكن في الكلام أصْل وتبع .
قال شهاب الدِّين : ويحتمل وَجْهاً آخر ، وهو أن « وَلي » بِزِنَةِ « فَعِيل » ، و « فَعِيل » قد نصَّ عليه أهْلُ اللِّسَان أنَّهُ يقع لِلْواحد والاثْنَين والجماعة تَذْكيراً وتأنِيثاً بلفظ واحدٍ ، يُقَال : « الزَّيْدُون صَدِيق » و « هِنْد صَدِيق » ، وهذا مِثْله غاية ما فِيهِ أنَّهُ مقدَّم في التَّرْكِيب ، وقد أجَابَ الزَّمَخْشَرِي وغَيْره في قوله تعالى : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } [ هود : 89 ] وذكر وَجْهَ ذلك ، وهو شَبَهُهُ بالمصادر ، وسَيَأتِي تحقِيقُه - إن شَاء اللَّه تعالى - .
وقرأ ابُن مسعُود : « إنَّما مولاكم الله » ، وهي تَفْسِير لا قِرَاءة .
فصل في سبب نزول الآية
روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّها نَزَلت في عُبَادَة بن الصَّامِت - رضي الله عنه - وعبد الله بن أبيِّ ابن سلُول - لَعَنَهُ اللَّه - ، حين تَبَرأ عُبَادة من اليَهُود وقال : أتوَلَّى الله ورسوله والذين آمَنُوا ، فنزل فِيهِم من قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 51 ] ، إلى قوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ } يَعْني : عُبَادة بن الصَّامِت وأصْحَاب رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وقال جَابِر بن عبد الله - رضي الله عنهما - : جاء عَبْدُ الله بن سلام - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال : يا رسول الله : « إن قَوْمنا قُرْيَظَة والنَّضِير قد هَجَرُونا وفَارَقُونا وأقْسَمُوا ألاَّ يُجَالِسُونا » فنزلت هذه الآية الكريمة ، فَقَرأهَا عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال : يا رسول الله رَضِينا باللَّه وبرسُوله وبالمُؤمنين أوْلياء ، وعلى هذا التَّأويل أراد بقوله - تعالى - : « وَهُمْ رَاكِعُون » صلاة التَّطَوُّع باللَّيْل والنَّهَار .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - والسُّديُّ - رحمه الله - : قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ } ، أراد به على بن أبي طالب - رضي الله عنه - مرَّ به سَائِلٌ وهو رَاكِعٌ في المَسْجِد فأعطاه خاتمه ، وقال جُوَيْبِر عن الضَّحَّاك في قوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ } [ قال : هم المُؤمِنُون بعضهم أوْلِيَاء بعض ، وقال أبو جعفر محمد بن علي البَاقِر : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } نزلت ] في المُؤمنين ، فقيل له : إن ناساً يقولون : إنَّها نزلت في عَلِيٍّ - رضي الله تعالى عنه - قال : هو من المُؤمنين .

قوله تعالى : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة } فيه خَمْسَة أوْجُه :
أحدها : أنَّهُ مَرْفُوع على الوَصْف ، لقوله تعالى : « الَّذِين آمَنُوا » .
وصف المؤمنين بإقام الصلاة ، وإيتاء الزَّكاة ، وذكر هَاتَيْن العبادَتيْن دون سَائِر فُروع الإيمان؛ لأنَّهما أفْضَلُهُمَا .
الثاني : أنَّه مرفوع على البَدَل من « الَّذِين آمَنُوا » .
الثالث : أنه خَبَرُ مُبْتَد مَحْذُوف ، أي : هُمُ الذين .
الرابع : أنه عَطْف بَيَان لما قبله؛ فإنَّ كل ما جاز أنْ يَكُون بدلاً جاز أن يكون بَيَاناً ، إلا فيما اسْتُثْنِيَ كما تقدَّم .
الخامس : أنه مَنْصُوب بإضمار فِعْل ، وهذا الوجه والَّذِي قَبْله من باب القَطْعِ عن التَّبِعيَّة .
قال أبو حيَّان - بعد أن نَقَل عن الزَّمَخْشَرِي وَجْهَي البدل ، وإضمار المُبْتَدأ فقط - : « ولا أدْرِي ما الَّذِي مَنَعَهُ من الصِّفة ، إذ هو المُتَبَادَرُ إلى الذِّهن ، ولأنَّ المُبْدَلَ منه على نِيَّةِ الطَّرْح؛ وهو لا يصحُّ هنا؛ لأنَّه هو الوَصْف المترتِّبُ عليه صحّة ما بعده من الأوْصَاف » .
قال شهاب الدِّين : لا نسلِّم أنَّ المتَبَادر إلى الذِّهْنِ الوَصْف ، بل البَدَل هو المُتبَادر ، وأيضاً فإن الوَصْف بالموصول على خِلاف الأصْل؛ لأنَّه مؤوَّل بالمُشْتَقِّ وليس بمُشْتَقٍّ ، ولا نُسلِّم أن المُبْدَل مِنْه على نِيَّة الطَّرْح ، وهو المَنْقُول عن سِيبوَيْه .
قوله : « وَهُمْ رَاكِعُون » في هذه الجُمْلَة وجهان :
أظهرهما : أنَّها معطوفة على ما قَبْلَها من الجُمَلِ ، فتكون صِلَةً للمْوصُول ، وجاء بهذه الجملة اسميَّةً دون ما قَبْلَها ، فلم يَقُلْ : « يَرْكَعُون » اهتماماً بهذا الوَصْف ، لأنَّه أظهر أرْكَان الصلاة .
والثاني : أنَّها « واو » الحال ، وصاحبُها هو واو « يُؤتُون » .
والمراد بالرُّكُوع الخُضُوع أي : يُؤتُون الصَّدَقة ، وهم مُتُواضِعُون للفُقَراء الَّذين يتصَدَّقُون عليهم .
ويجُوز أن يُراد به الرُّكُوع حَقِيقةً؛ كما تقدَّم عن عَلِيّ - رضي الله عنه - .
وقال أبو مُسلمِ : المراد من الرُّكوع : الخُضُوع ، أي : يُصَلُّون ويَركَعُون وهم مُنْقَادُون خَاضِعُون لجميع أوَامِرِ اللَّه ونواهيه .

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)

« ومن يَتَولَّ » « مَن » شَرْط في محلِّ رفع بالابْتداء .
وقوله تعالى : { فَإِنَّ حِزْبَ الله } جُمْلَة واقعة خبر المُبْتَدأ ، والعائد غير مَذْكُور لكوْنِهِ مَعْلُوماً ، والتَّقْدِير : فهو غَالِبٌ لكونه من جُنْدِ الله ، فيحتملُ أن يكُون جواباً للشَّرْط ، وبه يحتجُّ من لا يَشْتَرِط عَوْد ضَمِير على اسْمِ الشَّرْط إذا كان مُبْتَدأ .
ولقائل أن يقول : إنَّما جاز ذَلِك؛ لأنَّ المُرَاد بحزب الله هو نَفْسُ المُبْتَدأ ، فيكون من بَابِ تكْرَار المُبْتَدأ بمعناه ، وفيه خِلاف ، فالأخْفَش يُجِيزُهُ ، فإن التقدير : ومن يَتَولَّ اللَّه ورسُولَهُ والذين آمنوا فإنه غالب ، فوضع الظَّاهر موضع المُضْمَر لفائدة ، وهي التَّشْرِيف بإضافة الحِزْب إلى اللَّه - تعالى - ، ويحتملُ أن يكُون الجوابُ مَحْذُوفاً ، لدلالة الكلام عَلَيْه ، أي : ومن يتولَّ اللَّه ورسوله والَّذِين آمنُوا يَكُنْ من حِزْب الله الغَالِب ، أو يُنْصَر ونحوه ويكون قوله : { فَإِنَّ حِزْبَ الله } دالاًّ عليه ، وعلى هَذَيْن الاحتمَالَيْن ، فلا دِلَة في الآية على عدم اشْتِرَاط عَوْدِ ضمير على اسْم الشرط .
وقوله : { فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } في محلِّ جَزْم إنْ جَعَلْناه جواباً للشَّرْط ، ولا محلَّ له إن جعلْنَاهُ دالاًّ على الجواب .
وقوله « هُمْ » يحتمل أنْ يكُون فَصلاً ، وأن يكُون مُبْتَدأ .
و « الغَالِبُون » خبره والجُمْلَةُ خبر « إن » ، وقد تقدَّم الكلام على ضَمِير الفَصْل .
و « الحِزْب » : الجماعة فيها غِلْظَةٌ وشدَّة ، فهو جماعة خَاصَّة ، وهو في اللّغَة : أصْحَاب الرَّجُل الَّذين يكُونُون معه على رَأيه ، وهم القَوْم الَّذِين يَجْتَمِعُون لأمر حَزَبَهُمْ ، وللمُفسرين فيه عِبَارات ، فقال الحَسَن : جُنْدُ الله وقال أبو رَوْق : أوْلِيَاء الله ، وقال أبو العَالِية : شِيعَتُه ، وقال بعضهم : أنْصَار الله ، وقال الأخْفَش : حِزْب الله الذين يَدِينُون بدينِهِ ويُطيعُونَه ويَنْصُرُونه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)

لما نهى في الآية الأولى عن اتَّخَاذِ اليَهُود والنَّصَارى أوْلِيَاء ، نهى هُنَا عن جَمِيع مُوالاَةِ الكُفَّار على العُمُوم ، ف « الَّذِين » وصلتُهُ هو المَفْعُولُ الأوّلِ لقوله « لا تتَّخِذُوا » ، والمفعُول الثاني : هو قوله « أولِيَاء » ، و « دِينُكُم » مَفْعُول ل « اتَّخذُوا » ، و « هُزُواً » مفعول ثان ، وتقدَّم ما في « هُزْءاً » من القِراءَات والاشْتِقَاق .
قوله تعالى : { مِّنَ الذين أُوتُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ ، وصاحِبُها فيه وجهان :
أحدها : أنَّهُ الموصول الأوَّل .
والثاني : أنَّه فاعل « اتَّخَذُوا » والثاني من الوَجْهَيْن الأوَّلين : أنه بيانٌ للموصُول الأوَّل ، فتكون « مِن » لِبَيَان الجِنْس .
وقوله تعالى : « مِنْ قَبْلكم » متعلِّق ب « أوتُوا » ؛ لأنَّهم أوتُوا الكِتَاب قَبْلَ المُؤمِنين ، والمُرَاد بالكِتَاب : الجِنْس .
وقوله تعالى : « مِنْ قَبْلكم » متعلِّق ب « أوتُوا » ؛ لأنَّهم أوتُوا الكِتَاب قَبْلَ المُؤمِنين ، والمُرَاد بالكِتَاب : الجِنْس .
فصل
قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - كان رِفاعة بن زَيْد بن التَّابُوت ، وسُوَيْد بن الحَارِث قد أظهرا الإسْلام ثم نافَقَا ، وكان رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمين يوادُّونَهُما ، فأنْزل اللَّه - تعالى - هذه الآية ، ومعنى تَلاَعُبِهم واستهْزَائِهِم ، إظْهَار ذلك باللِّسَان مع الإصْرَارِ على الكُفْر في القَلْبِ ، ونَظِيرُه قوله في ذَلِك في سُورة « البقرة » : { وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا } [ آية : 14 ] إلى قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ آية : 14 ] ، والمعنى : أنَّ القَوْم لمَّا اتَّخَذُوا دينكُمْ هُزُواً ولَعِباً وسُخْرِية ، فلا تتَّخِذُوهم أوْلِيَاء وأنْصَاراً وأحْبَاباً ، فإن ذلك الأمْرَ خَارجٌ عن العَقْلِ والمرُوءَة .
قوله تعالى : « والكُفَّار » قرأ أبُو عَمْرو والكِسَائي : « والكُفَّارِ » بالخَفْض ، والباقُون بالنَّصْب ، وهما واضِحَتَانِ ، فَقِرَاءة الخَفْضِ عَطْفٌ على المَوْصُول المَجْرُور ب « مِنْ » ، ومعناها : أنَّه نَهَاهم أن يتَّخِذُوا المُسْتَهْزِئين أوْلِيَاء ، وبَيَّنَ أن المُسْتَهْزِئين صِنفان : أهلُ كتاب متقدِّم ، وهم اليَهُود والنَّصارى ، وكفارٌ عَبَدة أوْثَان ، وإن كان اسم الكُفْر ينطلقُ على الفَرِيقين ، إلا أنَّه غَلَبَ على عَبَدَةِ الأوْثان : الكُفَّار ، وعلى اليهُود والنَّصارى : أهْل الكِتَاب .
وقال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } [ البينة : 1 ] ، وقال تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين } [ البقرة : 105 ] ، اتَّفقوا على جر « المُشْركين » عَطْفاً على أهْل الكِتَاب ، ولم يَعْطف على العَامِل الرَّافع قاله الواحدي .
يعني [ بذلك ] : أنَّه أطلق الكُفَّار على أهْلِ الكِتَاب ، وعلى عبدةِ الأوْثَانِ المُشْرِكِين ، ويدلُّ على أنَّ المُرَاد بالكُفَّار في آية المَائِدة « المُشْرِكُون » ، قراءة عبد الله « ومِنَ الَّذِين أشْرَكُوا » ورُجِّحت قراءة أبِي عَمْرو أيضاً بالقُرْب ، فإن المَعْطُوف عليه قرِيب ، ورُجِّحَتْ أيضاً بقراءة أبَيّ « وَمِنَ الكُفَّار » بالإتْيَان ب « مِنْ » .

وأما قراءة البَاقِين ، فوَجْهُهَا أنَّه عطف على المَوْصُول الأوَّل ، أي : لا تَتَّخذُوا المُسْتَهْزِئين ، ولا الكُفَّار أوْلِيَاء ، فهو كقوله تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } [ آل عمران : 28 ] ، إلاَّ أنه ليس في هذه القراءة تَعَرُّضٌ للإخْبَار باسْتِهْزَاء المُشْرِكين ، وهم مُسْتَهْزِئُون أيْضاً ، قال تعالى : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين } [ الحجر : 95 ] فالمراد به : مُشْرِكوا العرَب ، ولوضوح قِرَاءة الجرِّ قال مَكي بن أبِي طالب : « ولولا اتِّفَاقُ الجماعةِ على النَّصْب ، لاخترتُ الخَفْض لقوَّته في المَعْنى ، ولِقُرْب المَعْطُوف من المَعْطُوف عليه » .
ثم قال تعالى : { اتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، والمعنى ظاهِر .

وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)

[ الضَّمير في « اتَّخَذُوها » يجُوزُ ] أن يعودُ على الصَّلاة وهو الظَّاهِر ، ويجُوز أن يَعُود على المَصْدَرِ المفهُوم من الفِعْل ، أي : اتَّخَذُوا المُنَاداة ، ذكره الزَّمَخْشَرِي ، وفيه بُعْدٌ؛ إذ لا حاجة مع التَّصْريح بما يَصْلُح أن يَعُود عليه الضَّمِير ، بخلافِ قوله تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
فصل
قال الكلبي : كان مُنَادِي رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، إذا نَادَى إلى الصَّلاة وقام المُسْلِمُون إليها ، قالت اليَهُود : قاموا لا قَامُوا ، وصلُّوا لا صلُّوا على طريق الاسْتهْزَاء وضَحِكوا ، فأنْزَل اللَّه هذه الآية الشَّرِيفة ، وقال السُّدِّي : نزلت في رَجُلٍ من النَّصَارى بالمدِينة ، كان إذا سَمِعَ المُؤذِّن يقول : أشْهَدُ أن محمَّداً رسُول الله - قال : حُرق الكَاذِبُ ، فدخل [ خادمه ] ذاتَ لَيْلَة بنارٍ وهو وأهْله نِيَام فتطايَرَتْ منها شَرارة ، فاحْتَرَق البَيْتُ وأهْلُه .
وقال آخَرُون : إن الكُفَّار لما سَمِعُوا الأذَان حَسَدُوا المُسْلِمين ، فَدَخلُوا على رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وقالُوا : يا محمَّد : لقد ابتدَعْتَ شَيْئاً لم يُسْمَع به فيما مَضَى من الأمَمِ ، فإن كنت تَدَّعي النُّبُوة فقد خَالَفْت فيما أحْدَثَت الأنبياء قَبْلَك ، ولو كان فيه خَيْراً لكان أولى النَّاس به الأنبياء ، فمن أين لك صياحٌ كصياحِ العير ، فما أقبح من صوت ، وما أسْمَج من أمْر ، فأنْزَل الله هذه الآية ، ونزل : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } [ فصلت : 33 ] قالوا : دلَّت هذه الآيةُ على ثُبُوت الأذَان بِنَصِّ الكِتَاب لا بالْمَنام وحْدَه .
قال القُرْطُبِي : قال العُلَمُاء - رضي الله عنهم - ولم يكن الأذَانُ بمكَّة قَبْل الهِجْرة ، وإنما كانوا يُنَادُون « الصَّلاة جَامِعَة » ، فلما هَاجَر النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وصُرفت القِبْلَة إلى الكَعْبَة أمِرَ بالأذَان ، وبقي « الصَّلاة جَامِعَة » للأمر ، وكانَ النبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - قَدْ أهمَّه أمر الأذانِ حتى أُرِيَهُ عبد الله بن زَيْد ، وعُمر بن الخطاب وأبُو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنهم - وقد كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - سمع الأذَان ليلة الإسْرَاء إلى السَّمَاء ، وأما رُؤيا عبد اللَّه بن زَيْد وعمر - رضي الله عنهما - فمشهورة ، وأمر النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - بلالاً فأذَّن بالصَّلاة أذانَ اليَوْم ، وزَادَ بلالٌ في الصُّبْح « الصَّلاة خَيْرٌ من النَّوْمِ » ، فأقرَّها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وليست فيما رَآه الأنْصَاري ، ذكره ابن سعْد عن بن عمر - رضي الله عنهما - ، ثمَّ ذكر الدَّارَقُطْنِيُّ؛ أن الصِّدِّيق - رضي الله عنه - أري الأذان ، وأنَّه أخبر النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وأنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أمر بِلالاً بالأذَانِ قَبْل أن يُخْبِرَه عَبد الله بن زَيْد ، ذكره الدَّارقُطْنِي في كتاب « المدبج » لَهُ في حَدِيث النَّبِي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - عن أبِي بَكْر الصِّدِّيق - رضي الله عنه .
قوله تعالى : « ذَلِكَ بأنَّهُم » مُبْتَدأ وخبر ، أي : ذَلِك الاسْتِهْزَاء مُسْتِقِرٌّ؛ بسبب عدم عَقْلِهِم .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75