كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

بتوسيعه وغفلوا عن موقع العبرة وملاك الفضيلة وهو إيجاد هاته القوة العظيمة التي كان أولها تعليم تلك الأسماء، ولذلك كان إظهار عجز الملائكة عن لحاق هذا الشأو بعدم تعليمهم لشيء من الأسماء، ولو كانت المزية والتفاضل في تعليم آدم جميع ما سيكون من الأسماء في اللغات لكفى في إظهار عجز الملائكة عدم تعليمهم لجمهرة الأسماء وإنما علم آدم أسماء الموجودات يومئذ كلها ليكون إنباؤه الملائكة بها أبهر لهم في فضيلته.
وليس في هذه الآية دليل على أن اللغات توقيفية أي لقنها الله تعالى البشر على لسان آدم ولا على عدمه لأن طريقة التعليم في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} مجملة محتملة لكيفيات كما قدمناه. والناس متفقون على أن القدرة عليها إلهام من الله وذلك تعليم منه سواء لقن آدم لغة واحدة أو جميع لغات البشر. وأسماء كل شيء أو ألهمه ذلك أو خلق له القوة الناطقة، والمسألة مفروضة في علم الله وفي أصول الفقه وفيها أقوال ولا أثر لهذا الاختلاف لا في الفقه ولا في غيره قال المازري إلا في جواز قلب اللغة والحق أن قلب الألفاظ الشرعية حرام وغيره جائز ولقد أصاب المازري وأخطأ كل من رام أن يجعل لهذا الخلاف ثمرة غير ما ذكر، وفي استقراء ذلك ورده طول، وأمره لا يخفى عن سالمي العقول.
{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
قيل عطفه بثم لأن بين ابتداء التعليم وبين العرض مهلة وهي مدة تلقين الأسماء لآدم أو مدة إلهامه وضع الأسماء للمسميات. والأظهر أن ثم هنا للتراخي الرتبي كشأنها في عطفها الجمل لأن رتبة هذا العرض وظهور عدم علم الملائكة وظهور علم آدم وظهور أثر علم الله وحكمته كل ذلك أرفع رتبة في إظهار مزية آدم واستحقاقه الخلافة، من رتبة مجرد تعلمه الأسماء لو بقى غير متصل به ما حدث من الحادثة كلها. ولما كان مفهوم لفظ اسم من المفهومات الإضافية التي يتوقف تعقلها على تعقل غيرها اذ الاسم لا يكون إلا المسمى كان ذكر الأسماء مشعرا لا محالة بالمسميات فجاز للبليغ أن يعتمد على ذلك ويحذف لفظ المسميات إيجازا.
وضمير {عَرَضَهُمْ} للمسميات لأنها التي تعرض بقرينة قوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} وبقرينة قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} فإن الاسم يقتضي مسمى وهذا من إيجاز الحذف وأما الأسماء فلا تعرض لأن العرض إظهار الذات بعد خفائها ومنه عرض الشيء للبيع ويوم العرض والألفاظ لا تظهر فتعين أن المعروض مدلولات الأسماء إما بأن

نعرض صور من الذوات فقط ويسأل عن معرفة أسمائها أي معرفة الألفاظ الدالة عليها، أو عن بيان مواهيها وخصائصها وإما بأن تعرض الذوات والمعاني بخلق أشكال دالة على المعاني كعرض الشجاعة في صورة فعل صاحبها والعلم في صورة إفاضة العالم في درسه أو تحريره كما نرى في الصور المنحوتة أو المدهونة للمعاني المعقولة عند اليونان والرومان والفرس والصور الذهنية عند الإفرنج، بحيث يجد الملائكة عند مشاهدة تلك الهيئة أن المعروض معنى شجاعة أو معنى علم ويقرب ذلك ما يحصل في المرائي الحلمية. والحاصل أن الحال المذكورة في الآية حالة عالم أوسع من عالم المحسوسات والمادة.
وإعادة ضمير المذكر العاقل على المسميات في قوله: {عَرَضَهُمْ} للتغليب لأن أشرف المعروضات ذوات العقلاء وصفاتهم على أن ورود مثله بالألفاظ التي أصلها للعقلاء طريقة عربية نحو قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الاسراء: 36]، والداعي إلى هذا أن يعلم ابتداء أن المعروض غير الأسماء حتى لا يضل فهم السامع قبل سماع قرينة: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ}
وقوله تعالى: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} تفريع على العرض وقرن بالفاء لذلك. والأمر في قوله: {أَنْبِئُونِي} أمر تعجيز بقرينة كون المأمور يعلم أن الآمر عالم بذلك فليس هذا من التكليف بالمحال كما ظنه بعض المفسرين. واستعمال صيغة الأمر في التعجيز مجاز، ثم إن ذلك المعنى المجازي يستلزم علم الآمر بعجز المأمور وذلك يستلزم علم الآمر بالمأمور به.
والإنباء الإخبار بالنبأ وهو الخبر ذو الفائدة العظيمة والأهمية بحيث يحرص السامعون على اكتسابه، ولذلك تضمن الإنباء معنى الإعلام لأن المخبر به يعد مما يعلم ويعتقد بوجه أخص من اعتقاد مطلق الخبر فهو أخص من الخبر.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إما أراد به إن كنتم صادقين في أنكم أفضل من هذا المخلوق إن كان قولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} الخ تعريضا بأنهم أحقاء بذلك. أو أراد إن كنتم صادقين في عدم جدارة آدم بالخلافة كما دل عليه قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] كان قولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] لمجرد التفويض أو الإعلان للسامعين من أهل الملأ الأعلى بالبراءة من شائبة الاعتراض على ما اخترناه.
ووجه الملازمة بين الإنباء بالأسماء وبين صدقهم فيما ادعوه التي اقتضاها ربط

الجزاء بالشرط أن العلم بالأسماء عبارة عن القوة الناطقة الصالحة لاستفادة المعارف وإفادتها، أو عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وخصائصها، أو عبارة عن معرفة أسماء الذوات والمعاني، وكل ذلك يستلزم ثبوت العالمية بالفعل أو بالقوة، وصاحب هذا الوصف هو الجدير بالاستخلاف في العالم لأن وظيفة هذا الاستخلاف تدبير وإرشاد وهدى ووضع الأشياء مواضعها دون احتياج إلى التوقيف في غالب التصرفات، وكل ذلك محتاج إلى القوة الناطقة أو فروعها، والقوى الملكية على شرفها إنما تصلح لأعمال معينة قد سخرت لها لا تعدوها ولا تتصرف فيها بالتحليل والتركيب، وما يذكر من تنوع تصرفها وصواب أعمالها إنما هو من توجيه الله تعالى إياها وتلقينه المعبر عنه بالتسخير. وبذلك ظهر وجه ارتباط الأمر بالإنباء بهذا الشرط وقد تحير فيه كثير.
وإذا انتفى الأنباء انتفى كونهم صادقين في إنكارهم خلافة آدم، فإن كان محل الصدق هو دعواهم أنهم أجدر فقد ثبت عدمها، وإن كان محل التصديق هو دعواهم أن البشر غير صالح للاستخلاف فانتفاء الإنباء لا يدل على انتفاء دعواهم ولكنه تمهيد له لأن بعده إنباء آدم بالأسماء لأن المقام مؤذن بأنهم لما أمروا أمر تعجيز وجعل المأمور به دلالة على الصدق كان وراء ذلك إنباء آخر مترقبا من الذي طعنوا في جدارته ويدل لذلك أيضا قوله تعالى لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]
[32] {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]
جرد: {قَالُوا} من الفاء لأنه محاورة كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] وافتتاح كلامهم بالتسبيح وقوف في مقام الأدب والتعظيم لذي العظمة المطلقة، وسبحان اسم التسبيح وقد تقدم عند قوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] وهو اسم مصدر سبح المضاعف وليس مصدرا لأنه لم يجيء على أبنية مصادر الرباعي وقيل هو مصدر سبح مخففا بمعنى نزه فيكون كالغفران والشكران، والكفران من غفر وشكر وكفر وقد كثر استعماله منصوبا على المفعولية المطلقة بإضمار فعله كـ {مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف: 23] وقد يخرج عن ذلك نادرا قال "سبحانك اللهم ذا السبحان" وكأنهم لما خصصوه في الاستعمال بجعله كالعلم على التنزيه عدلوا عن قياس اشتقاقه فصار سبحان كالعلم الجنسي مثل برة وفجار بكسر الراء في قول النابغة.
فحملت برة واحتملت فجار

ومنعوه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون قال سيبويه وأما ترك تنوين سبحان فلأنه صار عندهم معرفة وقول الملائكة {لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} خبر مراد منه الاعتراف بالعجز لا الإخبار عن حالهم لأنهم يوقنون أن الله يعلم ما تضمنه كلامهم. ولا أنهم قصدوا لازم الفائدة وهي أن المخبر عالم بالخبر فتعين أن الخبر مستعمل في الاعتراف.
ثم إن كلامهم هذا يدل على أن علومهم محدودة غير قابلة للزيادة فهي مقصورة على ما ألهمهم الله تعالى وما يأمرهم فللملائكة علم قبول المعاني لا علم استنباطها.
وفي تصدير كلامهم بسبحانك إيماء إلى الاعتذار عن مراجعتهم بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} فهو افتتاح من قبيل براعة الاستهلال عن الاعتذار. والاعتذار وإن كان يحصل بقولهم: {لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} لكن حصول ذلك منه بطريق الكناية دون التصريح ويحصل آخر الابتداء فكان افتتاح كلامهم بالتنزيه تعجيلا بما يدل على ملازمة جانب الأدب العظيم: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ساقوه مساق التعليل لقولهم: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} لأن المحيط علمه بكل شيء المحكم لكل خلق إذا لم يجعل لبعض مخلوقاته سبيلا إلى علم شيء لم يكن لهم قبل بعلمه إذ الحصول بقدر القبول والاستعداد أي فلا مطمع لنا في تجاوز العلم إلى ما لم تهيء لنا علمه بحسب فطرتنا. والذي دل على أن هذا القول مسوق للتعليل وليس مجرد ثناء هو تصديره بإن في غير رد إنكار ولا تردد.
قال الشيخ في دلائل الإعجاز1 ومن شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه أي أن تقع إثر كلام وتكون لمجرد الاهتمام أن تغني غناء الفاء العاطفة "مثلا" وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا فأنت ترى الكلام بها مقطوعا موصولا وأنشد قول بشار:
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
وقول بعض العرب:
فغنها وهي لك الفداء ... إن غناء الإبل الحداء
فإنهما استغنيا بذكر إن عن الفاء. وإن خلفا الأحمر لما سأل بشارا لماذا لم يقل
ـــــــ
1 صفحة 197 طبع المنار.

بكرا فالنجاح في التكبير أجابه بشار بأنه أتى بها عربية بدوية ولو قال فالنجاح لصارت من كلام المولدين أي أجابه جوابا إحالة فيه على الذوق وقد بين الشيخ عبد القاهر سببه وقال الشيخ في موضع آخر1 ألا ترى أن الغرض من قوله إن ذاك النجاح في التبكير أن يبين المعنى في قوله لصاحبيه بكرا وأن يحتج لنفسه في الأمر بالتبكير ويبين وجه الفائدة منه اه.
"والعليم" الكثير العلم وهو من أمثلة المبالغة على الصحيح ويجوز كونه صفة مشبهة على تقدير تحويل علم المكسور اللام إلى علم بضم اللام ليصير من أفعال السجايا نحو ما قررناه في الرحيم ونحن في غنية عن هذا التكلف إذ لا ينبغي أن يبقي اختلاف في أن وزن فعيل يجيء لمعنى المبالغة وإنما أنشأ هذه التمحلات من زعموا أن فعيلا لا يجيء للمبالغة.
"الحكيم" فعيل من أحكم إذا أتقن الصنع بأن حاطه من الخلل. وأصل مادة حكم في كلام العرب للمنع من الفساد والخلل ومنه حكمة الدابة بالتحريك للحديدة التي توضع في فم الفرس لتمنعه من اختلال السير وأحكم فلان فلانا منعه قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا
والحكمة بكسر الحاء ضبط العلم وكماله، فالحكيم إما بمعنى المتقن للأمور كلها أو بمعنى ذي الحكمة وأي ما كان فقد جرى بوزن فعيل على غير فعل ثلاثي وذلك مسموع قال عمرو ابن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
ومن شواهد النحو ما أنشده أبو علي ولم يعزه
فمن يك لم ينجب أبوه وأمه ... فإن لنا الأم النجيبة والأب
أراد الأم المنجبة بدليل قوله لم ينجب أبوه في القرآن: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117] ووصف الحكيم والعرب تجري أوزان بعض المشتقات على بعض فلا حاجة إلى التكلف بتأول: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ببديع سماواته وأرضه أي على أن "أل" عوض عن المضاف إليه فتكون الموصوف بحكيم هو السماوات والأرض وهي محكمة
ـــــــ
1 صفحة 232.

الخلق فإن مساق الآية تمجيد الخالق لا عجائب مخلوقاته حتى يكون بمعنى معقول. ولا إلى تأويل الحكيم بمعنى ذي الحكمة لأن ذلك لا يجدي في دفع بحث مجيئه من غير ثلاثي.
وتعقيب العليم بالحكيم من إتباع الوصف بأخص منه قإن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم لأن الحكمة كمال في العلم فهو كقولهم خطيب مصقع وشاعر مفلق.
وفي معارج النور للشيخ لطف الله الأرضرومي وفي الحكيم ذو الحكمة وهي العلم بالشيء وإتقان عمله وهو الإيجاد بالنسبة إليه والتدبير بأكمل ما تستعد له ذات المدبر بفتح الباء والاطلاع على حقائق الأمور اه.
وقال أبو حامد الغزالي في المقصد الأسني: الحكيم ذو الحكمة والحكمة عبارة عن المعرفة بأفضل الأشياء، فأفضل العلوم العلم بالله وأجل الأشياء هو الله وقد سبق أنه لا يعرفه كنه معرفته غيره وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم إذ أجل العلوم هو العلم الأزلي القديم الذي لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء، ولا شبهة ولا يتصور ذلك إلا في علم الله اه.
وسيجيء الكلام على الحكمة عند قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269].
{وَأَنْتَ} في أنك أنت العليم الحكيم ضمير فصل، وتوسيطه من صيغ القصر فالمعنى قصر العلم والحكمة على الله قصر قلب لردهم اعتقادهم أنفسهم أنهم على جانب من علم وحكمة حين راجعوا بقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها أو تنزيلهم منزلة من يعتقد ذلك على الاحتمالين المتقدمين، أو هو قصر حقيقي ادعائي مراد منه قصر كمال العلم والحكمة عليه تعالى.
[33] {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33]
{قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}
لما دخل هذا القول في جملة المحاورة جردت الجملة من الفاء أيضا كما تقدم في نظائره لأنه وإن كان إقبالا بالخطاب على غير المخاطبين بالأقوال التي قبله فهو بمثابة

خطاب لهم لأن المقصود من خطاب آدم بذلك أن يظهر عقبه فضله عليهم في العلم من هاته الناحية فكان الخطاب بمنزلة أن يكون مسوقا إليهم لقوله عقب ذلك: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
وابتداء خطاب آدم بندائه مع أنه غير بعيد عن سماع الأمر الإلهي للتنويه بشأن آدم وإظهار اسمه في الملأ الأعلى حتى ينال حسن السمعة مع ما فيه من التكريم عند الآمر لأن شأن الآمر والمخاطب بالكسر إذا تلطف مع المخاطب بالفتح أن يذكر اسمه ولا يقتصر على ضمير الخطاب حتى لا يساوي بخطابه كل خطاب ومنه ما جاء في حديث الشفاعة بعد ذكر سجود النبي وحمده الله بمحامد يلهمه إياها فيقول: "يامحمد ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع" وهذه نكتة ذكر الاسم حتى في أثناء المخاطبة كما قال امرؤ القيس:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
وربما جعلوا النداء طريقا إلى إحضار اسمه الظاهر لأنه لا طريق لإحضاره عند المخاطبة إلا بواسطة النداء فالنداء على كل تقدير مستعمل في معناه المجازي.
{فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} الإنباء إخبارهم بالأسماء وفيه إيماء بأن المخبر به شيء مهم. والضمير المجرور بالإضافة ضمير المسميات مثل ضمير {عَرَضَهُمْ} وفي إجرائه على صيغة ضمائر العقلاء ما قرر في قوله {عَرَضَهُمْ} [البقرة:31]
وقوله: {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} الضمير في أنبأ لآدم وفي قال ضمير اسم الجلالة وإنما لم يؤت بفاعله اسما ظاهرا مع أنه جرى على غير من هوله أي جاء عقب ضمائر آدم في قوله: {أَنْبَئهُمْ} و {أَنْبَأَهُمْ} لأن السياق قرينة على أن هذا القول لا يصدر من مثل آدم.
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
جواب لما والقائل هو الله تعالى وهو المذكور في قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} [البقرة: 30] وعادت إليه ضمائر {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ} [البقرة: 30] {وَعَلَّمَ} [البقرة: 31] وعرضهم وما قبله من الضمائر وهو تذكير لهم بقوله لهم في أول المحاورة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وذلك القول وإن لم يكن فيه: {أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} صراحة إلا أنه يتضمنه

لأن عموم {مَا لا تَعْلَمُونَ} يشمل جميع ذلك فيكون قوله هنا {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بيانا لما أجمل في القول الأول لأنه يساويه ما صدقا لأن {مَا لا تَعْلَمُونَ} هو غيب السماوات والأرض وقد زاد البيان هنا على المبين بقوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}
وإنما جيء بالإجمال قبل ظهور البرهان وجئ بالتفصيل بعد ظهوره على طريقة الحجاج وهو إجمال الدعوى وتفصيل النتيجة لأن الدعوى قبل البرهان قد يتطرقها شك السامع بأن يحملها على المبالغة ونحوها وبعد البرهان يصح للمدعي أن يوقف المحجوج على غلطه ونحوه وأن يتبجح عليه بسلطان برهانه فإن للحق صولة، ونظيره قول صاحب موسى {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ} [الكهف:78,79] إلى قوله {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] ثم قال {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82] فجاء باسم إشارة البعيد تعظيما للتأويل بعد ظهوره. وهذه طريقة مسلوكة للكتاب والخطباء وهي ترجع إلى قاعدة إخذ النتائج من المقدمات في صناعة الإنشاء كما بينته في كتاب أصول الإنشاء والخطابة وأكثر الخطباء يفضى إلى الغرض من خطبته بعد المقدمات والتمهيدات وقد جاءت الآية على طريقة الخطباء والبلغاء فيما ذكرنا تعليما للخلق وجريا على مقتضى الحال المتعارف من غير مراعاة لجانب الألوهية فإن الملائكة لا يمترون في أن قوله تعالى الحق ووعده الصدق فليسوا بحاجة إلى نصب البراهين.
و {كُنْتُمْ} في قوله {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} الأظهر أنها زائدة لتأكيد تحقق الكتمان فإن الذي يعلم ما اشتد كتمانه يعلم ما لم يحرص على كتمانه ويعلم ظواهر الأحوال بالأولى. وصيغة المضارع في {تُبْدُونَ} و {تَكْتُمُونَ} للدلالة على تجدد ذلك منهم فيقتضي تجدد علم الله بذلك كلما تجدد منهم.
ولبعضهم هنا تكلفات في جعل {كُنْتُمْ} للدلالة على الزمان الماضي وجعل { تُبْدُونَ } للاستقبال وتقدير اكتفاء في الجانبين أعني وما كنتم تبدون وما تكتمون واكتفاء في غيب السماوات والأرض يعني وشهادتهما وكل ذلك لا داعي إليه.
وقد جعل الله تعالى علم آدم بالأسماء وعجز الملائكة عن ذلك علامة على أهلية النوع البشرى لخلافته في الأرض دون الملائكة لأن الخلافة في الأرض هي خلافة الله

تعالى في القيام بما أراده من العمران بجميع أحواله وشعبه بمعنى أن الله تعالى ناط بالنوع البشري إتمام مراده من العالم فكان تصرف هذا النوع في الأرض قائما مقام مباشرة قدرة الله تعالى بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر، ولا شك أن هذه الخلافة لا تتقوم إلا بالعلم أعني اكتساب المجهول من المعلوم وتحقيق المناسبة بين الأشياء ومواقعها ومقارناتها وهو العلم الاكتسابي الذي يدرك به الإنسان الخير والشر ويستطيع به فعل الخير وفعل الشر كل في موضعه ولا يصلح لهذا العلم إلا القوة الناطقة وهي قوة التفكير التي أجلى مظاهرها معرفة أسماء الأشياء وأسماء خصائصها والتي تستطيع أن تصدر الأضداد من الأفعال لأن تلك القوة هي التي لا تنحصر متعلقاتها ولا تقف معلوماتها كما شوهد من أحوال النوع الإنساني منذ النشأة إلى الآن وإلى ما شاء الله تعالى. والملائكة لما لم يخلقوا متهيئين لذلك حتى أعجزهم وضع الأسماء للمسميات وكانوا مجبولين على سجية واحدة وهي سجية الخير التي لا تختلف ولا تتخلف لم يكونوا مؤهلين لاستفادة المجهولات من المعلومات حتى لا تقف معارفهم. ولم يكونوا مصادر للشرور التي يتعين صدورها لإصلاح العالم فخيريتهم وإن كانت صالحة لاستقامة عالمهم الطاهر لم تكن صالحة لنظام عالم مخلوط وحكمة خلطه ظهور منتهى العلم الإلهي كما قال أبو الطيب:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
والآية تقتضي مزية عظمى لهذا النوع في هذا الباب وفي فضل العلم ولكنها لا تدل على أفضلية النوع البشرى على الملائكة إذ المزية لا تقتضي الأفضلية كما بينه الشهاب القرافي في الفرق الحادي والتسعين فهذه فضيلة من ناحية واحدة وإنما يعتمد التفضيل المطلق مجموع الفضائل كما دل عليه حديث موسى والخضر.
والاستفهام في قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} إلخ تقريري لأن ذلك القول واقع لا محالة والملائكة يعلمون وقوعه ولا ينكرونه. وإنما أوقع الاستفهام على نفي القول لأن غالب الاستفهام التقريري يقحم ما يفيد النفي لقصد التوسيع على المقرر حتى يخيل إليه أنه يسأل عن نفي وقوع الشيء فإن أراد أن يزعم نفيه فقد وسع المقرر عليه ذلك ولكنه يتحقق أنه لا يستطيع إنكاره فلذلك يقرره على نفيه، فإذا أقر كان إقراره لازما له لا مناص له منه. فهذا قانون الاستفهام التقريري الغالب عليه وهو الذي تكرر في القرآن وبنى عليه صاحب الكشاف معاني آياته التي منها قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] وتوقف فيه ابن هشام في مغنى اللبيب ورده عليه شارحه. وقد يقع

التقرير بالإثبات على الأصل نحو {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة:116] وهو تقرير مراد به إبطال دعوى النصارى وقوله {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الانبياء:62]
[34] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]
عطف على جملة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] عطف القصة على القصة وإعادة إذ بعد حرف العطف المغنى عن إعادة ظرفه تنبيه على أن الجملة مقصودة بذاتها لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام، ولأجل هذه المراعاة لم يؤت بهذه القصة معطوفة بفاء التفريع فيقول: {فقُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} وإن كان مضمونها في الواقع متفرعا على مضمون التي قبلها فإن أمرهم بالسجود لآدم ما كان إلا لأجل ظهور مزيته عليهم إذ علم ما لم يعلموه وذلك ما اقتضاه ترتيب ذكر هذه القصص بعضها بعد بعض ابتداء من خلق السماوات والأرض وما طرأ بعده من أطوار أصول العامرين الأرض وما بينها وبين السماء فإن الأصل في الكلام أن يكون ترتيب نظمه جاريا على ترتيب حصول مدلولاته في الخارج ما لم تنصب قرينة على مخالفة ذلك.
ولا يريبك قوله تعالى في سورة الحجر [,29,28] {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} لأن تلك حكت القصة بإجمال فطوت أنباءها طيا جاء تبيينه في ما تكرر منها في آيات أخرى وأوضحها أية البقرة لاقتضاء الآية السابقة أن فضيلة آدم لم تظهر للملائكة إلا بعد تعليمه الأسماء وعرضها عليهم وعجزهم عن الإنباء بها وأنهم كانوا فبل ذلك مترقبين بيان ما يكشف ظنهم بآدم أن يكون مفسدا في الأرض بعد أن لازموا جانب التوقف لما قال الله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، فكان إنباء آدم بالأسماء عند عجزهم عن الإنباء بها بيانا لكشف شبهتهم فاستحقوا أن يأتوا بما فيه معذرة عن عدم علمهم بحقه.
وقد أريد من هذه القصة إظهار مزية نوع الإنسان وأن الله يخص أجناس مخلوقاته وأنواعها بما اقتضته حكمته من الخصائص والمزايا لئلا يخلو شيء منها عن فائدة من وجوده في هذا العالم؛ وإظهار فضيلة المعرفة، وبيان أن العالم حقيق بتعظيم من حوله إياه وإظهار ما للنفوس الشريرة الشيطانية من الخبث والفساد، وبيان أن الاعتراف بالحق من

خصال الفضائل الملائكية، وأن الفساد والحسد والكبر من مذام ذوي العقول.
والقول في إعراب "إذ" كالقول الذي تقدم في تفسير قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]
وإظهار لفظ الملائكة ولفظ آدم هنا دون الإتيان بضميريهما كما في قوله: {قَالُوا سُبْحَانَكَ} وقوله: {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ} [البقرة: 33] لتكون القصة المعطوفة معنونة بمثل عنوان القصة المعطوف عليها إشارة إلى جدارة المعطوفة بأن تكون قصة مقصودة غير مندمجة في القصة التي قبلها.
وغير أسلوب إسناد القول إلى الله فأتى به مسندا إلى ضمير العظمة {وَإِذْ قُلْنَا} وأتى به في الآية السابقة مسندا إلى رب النبي {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} للتفنن ولأن القول هنا تضمن أمرا بفعل فيه غضاضة على المأمورين فناسبه إظهار عظمة الآمر، وأما القول السابق فمجرد إعلام من الله بمراده ليظهر رأيهم، ولقصد اقتران الاستشارة بمبدأ تكوين الذات الأولى من نوع الإنسان المحتاج إلى التشاور فناسبه الإسناد إلى الموصوف بالربوبية المؤذنة بتدبير شأن المربوبين. وأضيف إلى ضمير أشرف المربوبين وهو النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}
وحقيقة السجود طأطأة الجسد أو إيقاعه على الأرض بقصد التعظيم لمشاهد بالعيان كالسجود للملك والسيد والسجود للكواكب، قال تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} [يوسف: 100] وقال: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} [فصلت: 37] وقال الأعشى:
فلما أتانا بعيد الكرى ... سجدنا له وخلعنا العمارا
وقال أيضا:
يراوح من صلوات المليك ... طورا سجودا وطورا جؤارا
أو لمشاهد بالتخيل والاستحضار وهو السجود لله، قال تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [لنجم:62]
والسجود ركن من أركان الصلاة في الإسلام. وأما سجود الملائكة فهو تمثيل لحالة فيهم تدل على تعظيم، وقد جمع معانيه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل:49] فكان السجود أول تحية تلقاها البشر عند خلق العالم.

وقد عرف السجود منذ أقدم عصور التاريخ فقد وجد على الآثار الكلدانية منذ القرن التاسع عشر قبل المسيح صورة حمورابي ملك كلدية راكعا أمام الشمس. ووجدت على الآثار المصرية صور أسرى الحرب سجدا لفرعون وهيآت السجود تختلف باختلاف العوائد. وهيئة سجود الصلاة مختلفة باختلاف الأديان. والسجود في صلاة الإسلام الخرور على الأرض بالجبهة واليدين والرجلين.
وتعدية {اسْجُدُوا} لاسم آدم باللام دال على أنهم كلفوا بالسجود لذاته وهو أصل دلالة لام التعليل إذا علق بمادة السجود مثل قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [لنجم:62]
وقوله: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} [فصلت: 37] ولا يعكر عليه أن السجود في الإسلام لغير الله محرم لأن هذا شرع جديد نسخ ما كان في الشرائع الأخرى ولأن سجود الملائكة من عمل العالم الأعلى وليس ذلك بداخل تحت تكاليف أهل الأرض فلا طائل تحت إطالة البحث في أن آدم مسجود له أو هو قبلة للساجدين كالكعبة للمسلمين، ولا حاجة إلى التكلف بجعل اللام بمعنى إلى مثلها في قول حسان:
أليس أول من صلى لقبلتكم
فإن للضرورة أحكاما. لا يناسب أن يقاس بها أحسن الكلام نظاما.
وفي هذه الآية منزع بديع لتعظيم شأن العلم وجدارة العلماء بالتعظيم والتبجيل لأن الله لما علم آدم علما لم يؤهل له الملائكة كان قد جعل آدم أنموذجا1 للمبدعات والمخترعات والعلوم التي ظهرت في البشر من بعد والتي ستظهر إلى فناء هذا العالم.
وقرأ أبو جعفر في أشهر الرواية عنه: {لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} بضمة على التاء في حال الوصل على إتباع حركة التاء لضمة الجيم في {اسْجُدُوا}لعدم الاعتداد بالساكن الفاصل بين الحرفين لأنه حاجز غير حصين، وقراءته هذه رواية وهي جرت على لغة ضعيفة في مثل هذا فلذلك قال الزجاج والفارسي: هذا خطأ من أبي جعفر، وقال الزمخشري: لا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الإتباع إلا في لغة ضعيفة كقراءة الحسن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] بكسر الدال قال ابن جني: وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه
ـــــــ
1 بضم الهمزة هو الشائع وفي"القاموس" إن صوابه نموذج بدون همز وبفتح النون, وإن الأنموذج لحن قلت وقد سمى الزمخشري مختصرا له في النحو "الأنموذج" والزمخشري لايرتاب في سعة اطلاعه. وهي كلمة معربة عن الفارسية وهي بالفارسية "نمونة".

أبو جعفر إذا كان ما قبل الهمزة ساكنا صحيحا نحو {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} [يوسف: من الآية31] اه. وإنما حملوا عليه هذه الحملة لأن قراءته معدودة في القراءات المتواترة فما كان يحسن فيها مثل هذا الشذوذ وإن كان شذوذا في وجوه الأداء لا يخالف رسم المصحف.
وعطف {فَسَجَدُوا} بفاء التعقيب يشير إلى مبادرة الملائكة بالامتثال ولم يصدهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق مظهر فساد وسفك دماء لأنهم منزهون عن المعاصي.
واستثناء إبليس من ضمير الملائكة في {فَسَجَدُوا} استثناء منقطع لأن إبليس لم يكن من جنس الملائكة قال تعالى في سورة الكهف {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} ولكن الله جعل أحواله كأحوال النفوس الملكية بتوفيق غلب على جبلته لتتأتى معاشرته بهم وسيره على سيرتهم فساغ استثناء حاله من أحوالهم في مظنة أن يكون مماثلا لمن هو فيهم.
وقد دلت الآية على أن إبليس كان مقصودا في الخبر الذي أخبر به الملائكة إذ قال للملائكة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وفي الأمر الذي أمر به الملائكة إذ قال لهم {اسْجُدُوا لآدَمَ} ذلك أن جنس المجردات كان في ذلك العالم مغمورا بنوع الملك إذ خلق الله من نوعهم أفرادا كثيرة كما دل عليه صيغة الجمع في قوله {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [البقرة: 30] ولم يخلق الله من نوع الجن إلا أصلهم وهو إبليس. وخلق من نوع الإنسان أصلهم وهو آدم. وقد أقام الله إبليس بين الملائكة إقامة ارتياض وتخلق وسخره لاتباع سنتهم فجرى على ذلك السنن أمدا طويلا لا يعلمه إلا الله ثم ظهر ما في نوعه من الخبث كما أشار إليه قوله تعالى {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] في سورة الكهف فعصى ربه حين أمره بالسجود لآدم.
وإبليس اسم الشيطان الأول الذي هو مولد الشياطين، فكان إبليس لنوع الشياطين والجن بمنزلة آدم لنوع الإنسان. وإبليس اسم معرب من لغة غير عربية لم يعينها أهل اللغة، ولكن يدل لكونه معربا أن العرب منعوه من الصرف ولا سبب فيه سوى العلمية والعجمة ولهذا جعل الزجاج همزته أصلية، وقال وزنه على فعليل. وقال أبو عبيدة هو اسم عربي مشتق من الإبلاس وهو البعد من الخير واليأس من الرحمة وهذا اشتقاق حسن لولا أنه يناكد منعه من الصرف وجعلوا وزنه إفعيل لأن همزته مزيدة وقد اعتذر عن منعه

من الصرف بأنه لما لم يكن له نظير في الأسماء العربية عد بمنزلة الأعجمي وهو اعتذار ركيك.
وأكثر الذين أحصوا الكلمات المعربة في القرآن لم يعدوا منها اسم إبليس لأنهم لم يتبينوا ذلك ولصلاحية الاسم لمادة عربية ومناسبته لها.
وجمل: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} استئناف بياني مشير إلى أن مخالفة حاله لحال الملائكة في السجود لآدم، شأنه أن يثير سؤالا في نفس السامع كيف لم يفعل إبليس ما أمر به وكيف خالف حال جماعته وما سبب ذلك لأن مخالفته لحالة معشره مخالفة عجيبة إذ الشأن الموافقة بين الجماعات كما قال دريد بن الصمة.
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فبين السبب بأنه أبى واستكبر وكفر بالله.
والإباء الامتناع من فعل أو تلقيه. والاستكبار شدة الكبر والسين والتاء فيه للعد أي عد نفسه كبيرا مثل استعظم واستعذب الشراب أو يكون السين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستقر فمعنى استكبر اتصف بالكبر. والمعنى أنه استكبر على الله بإنكار أن يكون آدم مستحقا لأن يسجد هو له إنكارا عن تصميم لا عن مراجعة أو استشارة كما دلت عليه آيات أخرى مثل قوله: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] وبهذا الاعتبار خالف فعل إبليس قول الملائكة حين قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] لأن ذلك كان على وجه التوقف في الحكمة ولذلك قالوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] فإبليس بإبائه انتقضت الجبلة التي جبل عليها أول مرة، فاستحالت إلى جبلة أخرى على نحو ما يعرض من تطور للعاقل حين يختل عقله. وللقادر حين تشل بعض أعضائه. ومن العلل علل جسمانية ومنها علل روحانية كما قال:
فكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت
والاستكبار التزايد في الكبر لأن السين والتاء فيه للمبالغة لا للطلب كما علمت، ومن لطائف اللغة العربية أن مادة الاتصاف بالكبر لم تجيء منها إلا بصيغة الاستفعال أو التفعل إشارة إلى أن صاحب صفة الكبر لا يكون إلا متطلبا الكبر أو متكلفا له وما هو بكبير حقا ويحسن هنا أن نذكر قول أبي العلاء: علوتم فتواضعتم على ثقة
لما تواضع أقوام على غرر

وحقيقة الكبر قال فيها حجة الإسلام في كتاب الإحياء: الكبر خلق في النفس وهو الاسترواح والركون إلى اعتقاد المرء نفسه فوق التكبر عليه، فإن الكبر يستدعي متكبرا عليه ومتكبرا به وبذلك ينفصل الكبر عن العجب فإن العجب لا يستدعي غير المعجب ولا يكفي أن يستعظم المرء نفسه ليكون متكبرا فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مماثلا لها فلا يتكبر عليه، ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر بل أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره، فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل خلق الكبر وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في نفسه اعتداد وعزة وفرح وركون إلى ما اعتقد، وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى تلك العقيدة هو خلق الكبر.
وقد كانت هذه الآية ونظائرها مثار اختلاف بين علماء أصول الفقه فيما تقتضيه دلالة الاستثناء من حكم يثبت للمستثنى فقال الجمهور الاستثناء يقتضي اتصاف المستثنى بنقيض ما حكم به المستثنى منه فلذلك كثر الاكتفاء بالاستثناء دون أن يتبع بذكر حكم معين للمستثنى سواء كان الكلام مثبتا أو منفيا.ويظهر ذلك جليا في كلمة الشهادة لا إله إلا الله فإنه لولا إفادة الاستثناء أن المستثنى يثبت له نقيض ما حكم به للمستثنى منه لكانت كلمة الشهادة غير مفيدة سوى نفي الإلهية عما عدا الله فتكون إفادتها الوحدانية لله بالالتزام.
وقال أبو حنيفة الاستثناء من كلام منفي يثبت للمستثنى نقيض ما حكم به للمستثنى منه، والاستثناء من كلام مثبت لا يفيد إلا أن المستثنى يثبت له نقيض الحكم لا نقيض المحكوم به، فالمستثنى بمنزلة المسكوت عن وصفه، فعند الجمهور المستثنى مخرج من الوصف المحكوم به للمستثنى منه وعند أبي حنيفة المستثنى مخرج من الحكم عليه فهو كالمسكوت عنه.
وسوى المتأخرون من الحنفية بين الاستثناء من كلام منفي والاستثناء من كلام مثبت في أن كليهما لا يفيد المستثنى الاتصاف بنقيض المحكوم به للمستثنى منه وهذا رأي ضعيف لا تساعده اللغة ولا موارد استعماله في الشريعة.
فعلى رأي الجمهور تكون جملة {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} استئنافا بيانيا، وعلى رأي الحنفية تكون بيانا للإجمال الذي اقتضاه الاستثناء ولا تنهض منها حجة تقطع الجدال بين الفريقين.

وجملة {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} معطوفة على الجمل المستأنفة، وكان لا تفيد إلا أنه اتصف بالكفر في زمن مضى قبل زمن نزول الآية، وليس المعنى أنه اتصف به قبل امتناعه من السجود لآدم، وقد تحير أكثر المفسرين في بيان معنى الآية من جهة حملهم فعل "كان" على الدلالة على الاتصاف بالكفر فيما مضى عن وقت الامتناع من السجود، ومن البديهي أنه لم يكن يومئذ فريق يوصف بالكافرين فاحتاجوا أن يتمحلوا بأن إبليس كان من الكافرين أي في علم الله، وتمحل بعضهم بأن إبليس كان مظهرا الطاعة مبطنا الكفر نفاقا، والله مطلع على باطنه ولكنه لم يخبر به الملائكة وجعلوا هذا الاطلاع عليه مما أشار إليه قوله تعالى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] وكل ذلك تمحل لا داعي إليه لما علمت من أن فعل المضي يفيد مضى الفعل قبل وقت التكلم، وأمثلهم طريقة الذين جعلوا كان بمعنى صار فإنه استعمال من استعمال فعل كان قال تعالى {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43] وقال {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} [ الواقعة:5,6]
وقول ابن أحمر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها ... قطى الحزن قد كانت فراخا بيوضها
أي صار كافرا بعدم السجود لأن امتناعه نشأ عن استكباره على الله واعتقاد أن ما أمر به غير جار على حق الحكمة وقد علمت أن الانقلاب الذي عرض لإبليس في جبلته كان انقلاب استخفاف بحكمة الله تعالى فلذلك صار به كافرا صراحا.
والذي أراه أحسن الوجوه في معنى {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أن مقتضى الظاهر أن يقول وكفر كما قال {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} فعدل عن مقتضى الظاهر إلى {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} لدلالة كان في مثل هذا الاستعمال على رسوخ معنى الخبر في اسمها والمعنى أبى واستكبر وكفر كفرا عميقا في نفسه وهذا كقوله تعالى {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [لأعراف:83] وكقوله تعالى {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} [النمل: 41] دون أن يقول أن لا تهتدي لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد كانت راسخة في الاتصاف بعدم الاهتداء، وأما الإتيان بخبر {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} دون أن يقول وكان كافرا فلأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان كون الموصوف واحدا من جماعة تثبت لهم ذلك الوصف أدل على شدة تمكن الوصف منه مما لو أثبت له الوصف وحده بناء على أن الواحد يزداد تمسكا بفعله إذا كان قد شاركه فيه جماعة لأنه بمقدار ما يرى من كثرة المتلبسين بمثل فعله تبعد نفسه عن التردد في سداد عملها وعليه جاء قوله تعالى

{أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: من الآية27] وقوله الذي ذكرناه آنفا {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} وهو دليل كنائي واستعمال بلاغي جرى عليه نظم الآية وإن لم يكن يومئذ جمع من الكافرين بل كان إبليس وحيدا في الكفر. وهذا منزع انتزعته من تتبع موارد مثل هذا التركيب في هاتين الخصوصيتين خصوصية زيادة "كان" وخصوصية إثبات الوصف لموصوف بعنوان أنه واحد من جماعة موصوفين به وسيجيء ذلك قريبا عند قوله تعالى {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]
وإذ لم يكن في زمن امتناع إبليس من السجود جمع من الكافرين كان قوله {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} جاريا على المتعارف في أمثال هذا الإخبار الكنائي.
وفي هذا العدول عن مقتضى الظاهر مراعاة لما تقتضيه حروف الفاصلة أيضا، وقد رتبت الأخبار الثلاثة في الذكر على حسب ترتيب مفهوماتها في الوجود وذلك هو الأصل في الإنشاء أن يكون ترتيب الكلام مطابقا لترتيب مدلولات جمله كقوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77] وقد أشرت إلى ذلك في كتابي أصول الإنشاء والخطابة.
[35] {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}
عطف على {قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} [البقرة: 34] أي بعد أن انقضى ذلك قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وهذه تكرمة أكرم الله بها آدم بعد أن أكرمه بكرامة الإجلال من تلقاء الملائكة.
ونداء آدم قبل تخويله سكنى الجنة نداء تنويه بذكر اسمه بين الملأ الأعلى لأن نداءه يسترعي إسماع أهل الملأ الأعلى فيتطلعون لما سيخاطب به، وينتزع من هذه الآية أن العالم جدير بالإكرام بالعيش الهنيء، كما أخذ من التي قبلها أنه جدير بالتعظيم، والأمر بقوله {اسْكُنْ} مستعمل في الامتنان بالتمكين والتخويل وليس أمرا له بأن يسعى بنفسه لسكنى الجنة إذ ر قدرة له على ذلك السعي فلا يكلف به.
وضمير "أنت" واقع لأجل عطف {وَزَوْجُكَ} على الضمير المستتر في {اسْكُنْ} وهو استعمال العربية عند عطف اسم على ضمير متصل مرفوع المحل لا يكادون يتركونه، يقصدون بذلك زيادة إيضاح المعطوف فتحصل فائدة تقرير مدلول المعطوف لئلا يكون تابعة

المعطوف عليه أبرز منه في الكلام، فليس الفصل بمثل هذا الضمير مقيدا تأكيدا للنسبة لأن الإتيان بالضمير لازم لا خيرة للمتكلم فيه فلا يكون مقتضى حال ولا يعرف السامع أن المتكلم مريد به تأكيدا ولكنه لا يخلو من حصول تقرير معنى المضمر وهو ما أشار إليه في الكشاف بمجموع قوله، وأنت تأكيد للضمير المستكن ليصح العطف عليه.
والزوج كل شيء ثان مع شيء آخر بينهما تقارن، في حال ما. ويظهر أنه اسم جامد لأن جميع تصاريفه في الكلام ملاحظ فيها معنى كونه ثاني اثنين أو مماثل غيره. فكل واحد من اثنين مقترنين في حال ما يسمى زوجا للآخر قال تعالى {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} [الشورى: من الآية50] أي يجعل لأحد الطفلين زوجا له أي سواه من غير صنفه، وقريب من هذا الاستعمال استعمال لفظ شفع.
وسميت الأنثى القرينة للرجل بنكاح زوجا لأنها اقترنت به وصيرته ثانيا، ويسمى الرجل زوجا لها لذلك بلا فرق، فمن ثم لا يقال للمرأة زوجة بهاء تأنيث لأنه اسم وليس بوصف. وقد لحنوا الفرزدق في قوله:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وتسامح الفقهاء في إلحاق علامة التأنيث للزوج إذا أرادوا به امرأة الرجل لقصد نفي الالتباس في تقرير الأحكام في كتبهم في مثل قولهم القول قول الزوج، أو القول قول الزوجة وهو صنيع حسن.
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه "يا فلان" فجاء فقال له "هذه زوجتي فلانة" الحديث، فقوله زوجتي بالتاء فتعين كونه من عبارة راوي الحديث في السند إلى أنس وليست بعبارة النبي صلى الله عليه وسلم.
وطوى في هذه الآية خلق زوج آدم وقد ذكر في آيات أخرى كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: من الآية1] وسيأتي ذلك في سورة النساء وسورة الأعراف.
ولم يرد اسم زوج آدم في القرآن واسمها عند العرب حواء وورد ذكر اسمها في حديث رواه ابن سعد في طبقاته عن خالد بن خداش عن ابن وهب يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الناس لآدم وحواء كطف لصاع لن يملأوه" الحديث طف المكيال بفتح الطاء وكسرها ما قرب من ملئه أي هم لا يبغون الكمال فإن كل كمال من البشر قابل للزيادة.

وخالد بن خداش بصري وثقه ابن معين وأبو حاتم وسليمان بن حرب وضعفه ابن المديني. فاسم زوج آدم عند العرب حواء واسمها في العبرانية مضطرب فيه، ففي سفر التكوين في الإصحاح الثاني أن اسمها امرأة سماها كذلك آدم قال: لأنها من امرئ أخذت. وفي الإصحاح الثالث أن آدم دعا اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي. وقال ابن سعد نام آدم فخلقت حواء من ضلعه فاستيقظ ووجدها عنده فقال أثا أي امرأة بالنبطية، أي اسمها بالنبطية المرأة كما سماها آدم. وقد تقدم عند قوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة: 31] أن آدم دعا نفسه، إيش، فلعل أثا محرفة عن إشا. واسمها بالعبرية خمواء بالخاء المعجمة وبهاء بعد الألف ويقال أيضا حيوا بحاء مهملة وألف في آخره فصارت بالعربية حواء وصارت في الطليانية إيبا. وفي الفرنسية ايب. وفي التوراة ان حواء خلقت في الجنة بعد أن أسكن آدم في الجنة وأن الله خلقها لتؤنسه قال تعالى {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [لأعراف: 189] أي يأنس. والأمر في أسكن أمر إعطاء أي جعل الله آدم هو وزوجه في الجنة. والسكنى اتخاذ المكان مقرا لغالب أحوال الإنسان.
والجنة قطعة من الأرض فيها الأشجار المثمرة والمياه وهي أحسن مقر للإنسان إذا لفحه حر الشمس ويأكل من ثمره إذا جاع ويشرب من المياه التي يشرب منها الشجر ويروقه منظر ذلك كله. فالجنة تجمع ما تطمح إليه طبيعة الإنسان من اللذات.
وتعريف الجنة تعريف العهد وهي جنة معهودة لآدم يشاهدها إذا كان التعريف في الجنة حكاية لما يرادفه فيما خوطب به آدم، أو أريد بها المعهود لنا إذا كانت حكاية قول الله لنا بالمعنى وذلك جائز في حكاية القول.
وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين هذه الجنة فالذي ذهب إليه جمهور السلف أنها جنة الخلد التي وعد الله المؤمنين والمصدقين رسله وجزموا بأنها موجودة في العالم العلوي عالم الغيب أي في السماء وأنها أعدها الله لأهل الخير بعد القيامة وهذا الذي تقلده أهل السنة من علماء الكلام وأبو علي الجبائي وهو الذي تشهد به ظواهر الآيات والأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا تعدو أنها ظواهر كثيرة لكنها تفيد غلبة الظن وليس لهذه القضية تأثير في العقيدة.
وذهب أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بحر وأبو القاسم البلخي والمعتزلة عدا الجبائي إلى أنها جنة في الأرض خلقها الله لإسكان آدم وزوجه، ونقل البيضاوي عنهم

أنها بستان في فلسطين أو هو بين فارس وكرمان، وأحسب أن هذا ناشئ عن تطلبهم تعيين المكان الذي ذكر ما يسمى في التوراة باسم عدن.
ففي التوراة في الإصحاح الثاني من سفر التكوين وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها ثم قالت فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها وهذا يقتضي أن جنة عدن ليست في الأرض لكن الذي عليه شراح التوراة أن جنة عدن في الأرض وهو ظاهر وصف نهر هذه الجنة الذي يسقيها بأنه نهر يخرج من عدن فيسقي الجنة ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس اسم الواحد "قيشون" وهو المحيط بجميع أرض الحويلة وهم من بني كوش كما في الإصحاح من التكوين واسم النهر الثاني "جيحون" وهو المحيط بجميع أرض كوش. واسم النهر الثالث حدا قل وهو الجاري شرق أشور "دجلة". والنهر الرابع الفرات.
ولم أقف على ضبط عدن هذه. ورأيت في كتاب عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهوديا وأسلم وألف كتابا في الرد على اليهود سماه الحسام المحدود في الرد على اليهود كتبه بغيدن وضبطه بالعلامات بكسر الغين المعجمة وكسر الدال المهملة ولعل النقطة على حرف العين سهو من الناسخ فذلك هو منشأ قول القائلين أنها بعدن أو بفلسطين أو بين فارس وكرمان، والذي ألجأهم إلى ذلك أن جنة الثواب دار كمال لا يناسب أن يحصل فيها العصيان وأنها دار خلد لا يخرج ساكنها وهو التجاء بلا ملجئ لأن ذلك من أحوال سكان الجنة لا لتأثير المكان وكله جعل الله تعالى عندما أراده.
واحتج أهل السنة بأن أل في "الجنة" للعهد الخارجي ولا معهود غيرها، وإنما تعين كونها للعهد الخارجي لعدم صحة الحمل على الجنس بأنواعه الثلاثة، إذ لا معنى للحمل على أنها لام الحقيقة لأنها قد نيط بها فعل السكنى ولا معنى لتعلقه بالحقيقة بخلاف نحو الرجل خير من المرأة، ولا معنى للحمل على العهد الذهني إذ الفرد من الحقيقة هنا مقصود معين لأن الأمر بالإسكان جزاء وإكرام فلا بد أن يكون متعلقا بجنة معروفة، ولا معنى للحمل على الاستغراق لظهور ذلك. ولما كان المقصود هو الجزاء تعين أن يكون متعلقا بأمر معين معهود ولا معهود إلا الجنة المعروفة لا سيما وهو اصطلاح الشرع.
وقد يقال أن اللام للعهد ولعل المعهود لآدم هو جنة في الأرض معينة أشير إليها بتعريف العهد ولذلك أختار أنا أن قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} لما كان المقصود منه القصص لنا حكى بالألفاظ المتعارفة لدينا ترجمة لألفاظ اللغة التي

خوطب بها آدم أو عن الإلهام الذي ألقى إلى آدم فيكون تعريف الجنة منظورا فيه إلى متعارفنا فيكون آدم قد عرف المراد من مسكنه بطريق آخر غير التعريف ويكون قد حكى لنا ذلك بطريقة التعريف لأن لفظ الجنة المقترن في كلامنا بلام التعريف يدل على عين ما دل عليه الطريق الآخر الذي عرف به آدم مراد الله تعالى أي قلنا له اسكن البقعة التي تسمونها أنتم اليوم بالجنة، والحاصل أن الأظهر أن الجنة التي أسكنها آدم هي الجنة المعدودة دارا لجزاء المحسنين.
ومعنى الأكل من الجنة من ثمرها لأن الجنة تستلزم ثمارا وهي مما يقصد بالأكل ولذلك تجعل من تبعيضية بتنزيل بعض ما يحويه المكان منزلة بعض لذلك المكان. ويجوز أن تكون من ابتدائية إشارة إلى أن الأكل المأذون فيه أكل ما تثمره تلك الجنة كقولك هذا الثمر من خيبر.
والرغد وصف لموصوف دل عليه السياق أي أكلا رغدا، والرغد الهنيء الذي لا عناء فيه ولا تقتير وقوله: {حَيْثُ شِئْتُمَا} ظرف مكان أي من أي مواضع أردتما الأكل منها، ولما كانت مشيئتهما لا تنحصر بمواضع استفيد العموم في الإذن بطريق اللزوم، وفي جعل الأكل من الثمر من أحوال آدم وزوجه حين إنشائها تنبيه على أن الله جعل الاقتيات جبلة للإنسان لا تدوم حياته إلا به.
وقوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} يعنى به ولا تأكلا من الشجرة لأن قربانها إنما هو لقصد الأكل منها فالنهي عن القربان أبلغ من النهي عن الأكل لأن القرب من الشيء ينشئ داعية وميلا إليه ففي الحديث: "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه" وقال ابن العربي سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول إذا قيل لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا قيل بضم الراء كان معناه لا تدن منه اه. وهو غريب فإن قرب وقرب نحو كرم وسمع بمعنى دنا، فسواء ضممت الراء أو فتحتها في المضارع فالمراد النهي عن الدنو إلا أن الدنو بعضه مجازي وهو التلبس وبعضه حقيقي ولا يكون للمجازي وزن خاص في الأفعال وإلا لصار من المشترك لا من الحقيقة والمجاز، اللهم إلا أن يكون الاستعمال خص المجازي ببعض التصاريف فتكون تلك الزنة قرينة لفظية للمجاز وذلك حسن وهو من محاسن فروق استعمال الألفاظ المترادفة في اللغة العربية مثل تخصيص بعد مكسور العين بالانقطاع التام وبعد مضموم العين بالتنحي عن

المكان ولذلك خص الدعاء بالمكسور في قولهم للمسافر لا تبعد، قالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية:
إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا
وفي تعليق النهي بقربان الشجرة إشارة إلى منزع سد الذرائع وهو أصل من أصول مذهب مالك رحمه الله وفيه تفصيل مقرر في أصول الفقه.
والإشارة بهذه إلى شجرة مرئية لآدم وزوجه والمراد شجرة من نوعها أو كانت شجرة وحيدة في الجنة. وقد اختلف أهل القصص في تعيين نوع هذه الشجرة فعن علي وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي أنها الكرمة، وعن ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين أنها الحنطة، وعن قتادة وابن جريج ونسبه ابن جريج إلى جمع من الصحابة أنها شجرة التين. ووقع في سفر التكوين من التوراة إبهامها وعبر عنها بشجرة معرفة الخير والشر.
وقوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} أي من المعتدين وأشهر معاني الظلم في استعمال العرب هو الاعتداء، والاعتداء إما اعتداء على نهي الناهي إن كان المقصود من النهي الجزم بالترك وإما اعتداء على النفس والفضيلة إن كان المقصود من النهي عن الأكل من الشجرة بقاء فضيلة التنعم لآدم في الجنة، فعلى الأول الظلم لأنفسهما بارتكاب غضب الله وعقابه وعلى الثاني الظلم لأنفسهما بحرمانها من دوام الكرامة.
[36] {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36]
الفاء عاطفة على قوله: {وَلا تَقْرَبَا} وحقها إفادة التعقيب فيكون التعقيب عرفيا لأن وقوع الإزلال كان بعد مضي مدة هي بالنسبة للمدة المرادة من سكنى الجنة كالأمد القليل. والأحسن جعل الفاء للتفريع مجردة عن التعقيب.
والإزلال جعل الغير زالا أي قائما به الزلل وهو كالزلق أن تسير الرجلان على الأرض بدون اختيار لارتخاء الأرض بطين ونحوه، أي ذاهبة رجلاه بدون إرادة وهو مجاز مشهور في صدور الخطيئة والغلط المضر ومنه سمي العصيان ونحوه الزلل.
والضمير في قوله: {عَنْهَا} يجوز أن يعود إلى الشجرة لأنها أقرب وليتبين سبب

الزلة وسبب الخروج من الجنة إذ لو لم يجعل الضمير عائدا إلى الشجرة لخلت القصة عن ذكر سبب الخروج. و "عن" في أصل معناها أي أزلهما إزلالا ناشئا عن الشجرة أي عن الأكل منها، وتقدير المضاف دل عليه قوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} وليست "عن" للسببية ومن ذكر السببية أراد حاصل المعنى كما قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [لنجم:3] أن معناه وما ينطق بالهوى فقال الرضي: الأولى أن "عن" بمعناها وأن الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أي نطقا صادرا عن الهوى. ويجوز كون الضمير للجنة وتكون "عن" على ظاهرها والإزلال مجازا في الإخراج بكره والمراد منه الهبوط من الجنة مكرهين كمن يزل عن موقفه فيسقط كقوله: "وكم منزل لولاي طحت".
وقوله {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} تفريع عن الإزلال بناء على أن الضمير للشجرة، والمراد من الموصول وصلته التعظيم، كقولهم قد كان ما كان، فإن جعلت الضمير في قوله: {عَنْهَا} عائدا إلى الجنة كان هذا التفريع تفريع المفصل عن المجمل وكانت الفاء للترتيب الذكري المجرد كما في قوله تعالى {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [لأعراف:4]وقوله {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] أما دلالة الموصول عن التعظيم فهي هي.
وقرأ حمزة "فإزالهما" بألف بعد الزاي وهو من الإزالة بمعنى الإبعاد، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون ضمير {عَنْهَا} عائدا إلى الجنة لا إلى الشجرة. وقد نبه عليه بخصوصه مع العلم بأن من خرج من الجنة فقد خرج مما كان فيه إحضارا لهذه الخسارة العظيمة في ذهن السامعين حتى لا تكون استفادتها بدلالة الالتزام خاصة فإنها دلالة قد تخفي فكانت إعادته في هذه الصلة بمرادفه كإعادته بلفظه في قوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]
وتفيد الآية إثارة الحسرة في نفوس بني آدم على ما أصاب آدم من جراء عدم امتثاله لوصاية الله تعالى وموعظة تنبه بوجوب الوقوف عند الأمر والنهي والترغيب في السعي إلى ما يعيدهم إلى هذه الجنة التي كانت لأبيهم وتربية العداوة بينهم وبين الشيطان وجنده إذ كان سببا في جر هذه المصيبة لأبيهم حتى يكونوا أبدا ثأرا لأبيهم معادين للشيطان ووسوسته مسيئين الظنون بإغرائه كما أشار إليه قوله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [لأعراف: 27] وقوله هنا: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} وهذا أصل عظيم في تربية العامة ولأجله كان قادة الأمم يذكرون لهم سوابق عداوات منافسيهم ومن

غلبهم في الحروب ليكون ذلك باعثا على أخذ الثأر.
وعطف {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} بالواو دون الفاء لأنه ليس بمتفرع عن الإخراج بل هو متقدم عليه ولكن ذكر الإخراج قبل هذا لمناسبة سياق ما فعله الشيطان وغروره بآدم فلذلك قدم قوله :{فَأَخْرَجَهُمَا} إثر قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} ووجه جمع الضمير في {اهْبِطُوا} قيل لأن هبوط آدم وحواء اقتضى أن لا يوجد نسلهما في الجنة فكان إهباطهما إهباطا لنسلهما، وقيل الخطاب لهما ولإبليس وهو وإن أهبط عند إبايته السجود كما أفاده قوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [لأعراف:13,12] إلى قوله: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً} [لأعراف: 18] إلى قوله: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [لأعراف: 19] فهذا إهباط ثان فيه تحجير دخول الجنة عليه والإهباط الأول كان إهباط منع من الكرامة مع تمكينه من الدخول للوسوسة وكلا الوجهين بعيد، فالذي أراه أن جمع الضمير مراد به التثنية لكراهية توالي المثنيات بالإظهار والإضمار من قوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَداً} [البقرة: 35] والعرب يستثقلون ذلك قال امرؤ القيس:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وإنما له صاحبان لقوله قفا نبك إلخ وقال تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وسيأتي في سورة التحريم.[4]
وقوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} يحتمل أن يراد بالبعض بعض الأنواع وهو عداوة الإنس والجن إن كان الضمير في {اهْبِطُوا} لآدم وزوجه وإبليس، ويحتمل أن يراد عداوة بعض أفراد نوع البشر، إن كان ضمير: {اهْبِطُوا} لآدام وحواء فيكون ذلك إعلاما لهما بأثر من آثار عملهما يورث في بنيهما، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلال في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في أنفسهما وأنفس ذريتهما داعية التغرير والحيلة على حد قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} فإن الأخلاق تورث وكيف لا وهي مما يعدى بكثرة الملابسة والمصاحبة وقد قال أبو تمام:
لأعديتني بالحلم إن العلا تعدى
ووجه المناسبة بين هذا الأثر وبين منشئه الذي هو الأكل من الشجرة أن الأكل من

الشجرة كان مخالفة لأمر الله تعالى ورفضا له وسوء الظن بالفائدة منه دعا لمخالفته الطمع والحرص على جلب نفع لأنفسهما، وهو الخلود في الجنة والاستئثار بخيراتها مع سوء الظن بالذي نهاهما عن الأكل منها وإعلامه لهما بأنهما إن أكلا منها ظلما أنفسهما لقول إبليس لهما {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [لأعراف: 20] فكذلك كانت عداوة أفراد البشر مع ما جبلوا عليه من الألفة والأنس والاتحاد منشؤها رفض تلك الألفة والاتحاد لأجل جلب النفع للنفس وإهمال منفعة الغير، فلا جرم كان بين ذلك الخاطر الذي بعثهما على الأكل من الشجرة وبين أثره الذي بقي في نفوسهما والذي سيورثونه نسلهما فيخلق النسل مركبة عقولهم على التخلق بذلك الخلق الذي طرأ على عقل أبويهما، ولا شك أن ذلك الخلق الراجع لإيثار النفس بالخير وسوء الظن بالغير هو منبع العداوات كلها لأن الواحد لا يعادي الآخر إلا لاعتقاد مزاحمة في منفعة أو لسوء ظن به في مضرة. وفي إشارة إلى مسألة أخلاقية وهي أن أصل الأخلاق حسنها وقبيحها هو الخواطر الخيرة والشريرة ثم ينقلب الخاطر إذا ترتب عليه فعل فيصير خلقا وإذا قاومه صاحبه ولم يفعل صارت تلك المقاومة سببا في اضمحلال ذلك الخاطر، ولذلك حذرت الشريعة من الهم بالمعاصي وكان جزاء ترك فعل ما يهم به منها حسنة وأمرت بخواطر الخير فكان جزاء مجرد الهم بالحسنة حسنة ولو لم يعملها وكان العمل بذلك الهم عشر حسنات كما ورد في الحديث الصحيح "من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة" ثم قال: "ومن هم بسيئة فعملها كتبت له سيئة واحدة" وجعل العفو عن حديث النفس منة من الله تعالى ومغفرة في حديث "إن الله تجاوز عن أمتي فيما حدثت به نفوسها".
إن الله تعالى خلق الإنسان خيرا أى سالما من الشرور والخواطر الشريرة على صفة ملكية وهو معنى {لَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] ثم جعله أطوارا فأولها طور تعليمه النطق ووضع الأسماء للمسميات لأن ذلك مبدأ المعرفة وبه يكون التعليم أي يعلم أفراده بعضا ما علمه وجهله الآخر فكان إلهامه اللغة مبدأ حركة الفكر الإنساني وهو مبدأ صالح للخير ومعين عليه لأن به علم الناس بعضهم بعضا ولذلك ترى الصبي يرى الشيء فيسرع إلى قرنائه يناديهم ليروه معه حرصا على إفادتهم فكان الإنسان معلما بالطبع وكان ذلك معينا على خيريته إلا أنه صالح أيضا لاستعمال النطق في التمويه والكذب؛ ثم إن الله تعالى لما نهاه عن أمر كلفه بما في استطاعته أن يمتثله وأن يخالفه فتلك الاستطاعة مبدأ حركة نفسه في الحرص والاستئثار فكان خلق الله تعالى إياه على

تلك الاستطاعة مبدأ طور جديد هو المشار إليه بقوله {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5]
ثم هداه بواسطة الشرائع فصار باتباعها يبلغ إلى مراتب الملائكة ويرجع إلى تقويمه الأول وذلك معنى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 6] وقد أشير إلى هذا الطور الأخير بقوله فيما يأتي {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] الآية.
وجملة {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} إما مستأنفة استئنافا ابتدائيا وإما جملة حال من ضمير {اهْبِطُوا} وهي اسمية خلت من الواو، وفي اعتبار الجملة الاسمية الخالية من الواو حالا خلاف بين أئمة العربية منع ذلك الفراء والزمخشري وأجازه ابن مالك وجماعة. والحق عندي أن الجملة الحالية تستغني بالضمير عن الواو وبالواو عن الضمير فإذا كانت في معنى الصفة لصاحبها اشتملت على ضميره أو ضمير سببيه فاستغنت عن الواو نحو الآية ونحو جاء زيد يده على رأسه أو أبوه يرافقه، وإلا وجبت الواو إذ لا رابط حينئذ غيرها نحو جاء زيد والشمس طالعة وقول تأبط شرا:
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا ... به كدحة والموت خزيان ينظر
وقوله: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} ضميره راجع إلى ما رجع إليه ضمير {اهْبِطُوا} على التقادير كلها. والحين الوقت والمراد به وقت انقراض النوع الإنساني والشيطاني بانقراض العالم، ويحتمل أن يكون المراد من ضمير {لَكُمْ} التوزيع أي ولكل واحد منكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. وإنما كان ذلك متاعا لأن الحياة أمر مرغوب لسائر البشر على أن الحياة لا تخلو من لذات وتمتع بما وهبنا الله من الملائمات. هذا إن أريد بالخبر المجموع أي لجميعكم وإن أريد به التوزيع فالحين هو وقت موت كل فرد على حد قولك للجيش هذه الأفراس لكم أي لكل واحد منكم فرس.
[37] {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
جاء بالفاء إيذانا بمبادرة آدم بطلب العفو. والتلقي استقبال إكرام ومسرة قال تعالى {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الانبياء: 103] ووجه دلالته على ذلك أنه صيغة تفعل من لقيه وهي دالة على التكلف لحصوله وتطلبه وإنما يتكلف ويتطلب لقاء الأمر المحبوب بخلاف لاقي فلا يدل على كون الملاقي محبوبا بل تقول لاقي العدو واللقاء الحضور نحو الغير بقصد أو بغير قصد وفي خير أو شر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً} [لأنفال: 15] الآية فالتعبير بتلقي هنا مؤذن بأن الكلمات التي أخذها آدم كلمات نافعة له

فعلم أنها ليست كلمات زجر وتوبيخ بل كلمات عفو ومغفرة ورضى وهي إما كلمات لقنها آدم من قبل الله تعالى ليقولها طالبا المغفرة وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه بعد أن أهبطه من الجنة اكتفاء بذلك في العقوبة، ومما يدل على أنها كلمات عفو عطف {فَتَابَ عَلَيْهِ} بالفاء إذ لو كانت كلمات توبيخ لما صح التسبب،
وتلقي آدم للكلمات إما بطريق الوحي أو الإلهام ولهم في تعيين هذه الكلمات روايات أعرضنا عنها لقلة جدوى الاشتغال بذلك، فقد قال آدم الكلمات فتيب عليه فلنهتم نحن بما ينفعنا من الكلام الصالح والفعل الصالح.
ولم تذكر توبة حواء هنا مع أنها مذكورة في مواضع أخرى نحو قوله {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [لأعراف: 23] لظهور أنها تتبعه في سائر أحواله وأنه أرشدها إلى ما أرشد إليه وإنما لم يذكر في هذه الآية لأن الكلام جرى على الابتداء بتكريم آدم وجعله في الأرض خليفة فكان الاعتناء بذكر تقلباته هو الغرض المقصود، وأصل معنى تاب رجع ونظيره ثاب بالمثلثة، ولما كانت التوبة رجوعا من التائب إلى الطاعة ونبذا للعصيان وكان قبولها رجوعا من المتوب إليه إلى الرضى وحسن المعاملة وصف بذلك رجوع العاصي عن العصيان ورجوع المعصي عن العقاب فقالوا تاب فلان لفلان فتاب عليه لأنهم ضمنوا الثاني معنى عطف ورضي فاختلاف مفادي هذا الفعل باختلاف الحرف الذي يتعدى به وكان أصله مبنيا على المشاكلة.
والتوبة تتركب من علم وحال وعمل فالعلم هو معرفة الذنب والحال هو تألم النفس من ذلك الضرر ويسمى ندما والعمل هو الترك للإثم وتدارك ما يمكن تداركه وهو المقصود من التوبة وأما الندم فهو الباعث على العمل ولذلك ورد في الحديث "الندم توبة" قاله الغزالي. قلت أي لأنه سببها ضرورة أنه لم يقصر لأن أحد الجزءين غير معرفة.
ثم التعبير بتاب عليه هنا مشعر بأن أكل آدم من الشجرة خطيئة إثم غير أن الخطيئة يومئذ لم يكن مرتبا عليها جزاء عقاب أخروي ولا نقص في الدين ولكنها أوجبت تأديبا عاجلا لأن الإنسان يومئذ في طور كطور الصبا فلذلك لم يكن ارتكابها بقادح في نبوءة آدم على أنها لا يظهر أن تعد من الكبائر بل قصارها أن تكون من الصغائر إذ ليس فيها معنى يؤذن بقلة اكتراث بالأمر ولا يترتب عليه فساد وفي عصمة الأنبياء من الصغائر خلاف بين أصحاب الأشعري وبين الماتريدي وهي في كتب الكلام، على أن نبوءة آدم فيما يظهر

كانت بعد النزول إلى الأرض فلم تكن له عصمة قبل ذلك إذ العصمة عند النبوءة.
وعندي وبعضه مأخوذ من كلامهم أن ذلك العالم لم يكن عالم تكليف بالمعنى المتعارف عند أهل الشرائع بل عالم تربية فقط فتكون خطيئة آدم ومعصيته مخالفة تأديبية ولذلك كان الجزاء عليها جاريا على طريقة العقوبات التأديبية بالحرمان مما جره إلى المعصية، فإطلاق المعصية والتوبة وظلم النفس على جميع ذلك هو بغير المعنى الشرعي المعروف بل هي معصية كبيرة وتوبة بمعنى الندم والرجوع إلى التزام حسن السلوك، وتوبة الله عليه بمعنى الرضى لا بمعنى غفران الذنوب، وظلم النفس بمعنى التسبب في حرمانها من لذات كثيرة بسبب لذة قليلة فهو قد خالف ما كان ينبغي أن لا يخالفه ويدل لذلك قوله بعد ذلك: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} إلى قوله: {خَالِدُونَ} [البقرة:39,38]فإنه هو الذي بين به لهم أن المعصية بعد ذلك اليوم جزاؤها جهنم فأورد علي بعض الحذاق من طلبة الدرس أنه إذا لم يكن العالم عالم تكليف فكيف كفر إبليس باعتراضه وامتناعه من السجود? فأجبته بأن دلالة ألوهية الله تعالى في ذلك العالم حاصلة بالمشاهدة حصولا أقوى من كل دلالة زيادة على دلالة العقل لأن إبليس شاهد بالحس الدلائل على تفرده تعالى بالألوهية والخلق والتصرف المطلق وبعلمه وحكمته واتصافه بصفات الكمال كما حصل العلم بمثله للملائكة فكان اعتراضه على فعله والتغليط إنكارا لمقتضى تلك الصفات فكان مخالفة لدلائل الإيمان فكفر به. وأما الأمر والنهي والطاعة والمعصية وجزاء ذلك فلا يتلقى إلا بالإخبارات الشرعية وهي لم تحصل يومئذ وإنما حصلت بقوله تعالى لهم: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} الآية فظهر الفرق. وقرأ الجمهور: {آدَمَ} بالرفع و {كَلِمَاتٍ} بالنصب، وقرأه ابن كثير بنصب {آدَمَ} ورفع {كَلِمَاتٍ} على تأويل تلقي بمعنى بلغته كلمات فيكون التلقي مجازا عن البلوغ بعلاقة السببية.
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تذييل وتعليل للجملة السابقة وهي {فَتَابَ عَلَيْهِ} لأنه يفيد مفادها مع زيادة التعميم والتذييل من الإطناب كما تقرر في علم المعاني. ومعنى المبالغة في التواب أنه الكثير القبول للتوبة أي لكثرة التأئبين فهو مثال مبالغة من تاب المتعدي بعلى الذي هو بمعنى قبول التوبة إيذان بأن ذلك لا يخص تائبا دون آخر وهو تذييل لقوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ} المؤذن بتقدير تاب آدم فتاب الله عليه على جعل التواب بمعنى الملهم لعباده الكثيرين أن يتوبوا فإن أمثلة المبالغة قد تجيء من غير التكاثر فالتواب

هنا معناه الملهم التوبة وهو كناية عن قبول توبة التائب.
وتعقيبه بالرحيم لأن الرحيم جار مجرى العلة للتواب إذ قبوله التوبة عن عباده ضرب من الرحمة بهم وإلا لكانت التوبة لا تقتضي إلا نفع التائب نفسه بعدم العود للذنب حتى تترتب عليه الآثام. وأما الإثم المترتب فكان من العدل أن يتحقق عقابه لكن الرحمة سبقت العدل هنا بوعد من الله.
[39,38] {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39]
كررت جملة {قُلْنَا اهْبِطُوا} فاحتمل تكريرها أن يكون لأجل ربط النظم في الآية القرآنية من غير أن تكون دالة على تكرير معناها في الكلام الذي خوطب به آدم فيكون هذا التكرير لمجرد اتصال ما تعلق بمدلول: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} [البقرة: من الآية36] وذلك قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: من الآية36] وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} إذ قد فصل بين هذين المتعلقين ما اعترض بينهما من قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فإنه لو عقب ذلك بقوله: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} لم يرتبط كمال الارتباط ولتوهم السامع أنه خطاب للمؤمنين على عادة القرآن في التفنن فلدفع ذلك أعيد قوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا} فهو قول واحد كرر مرتين لربط الكلام ولذلك لم يعطف {قُلْنَا} لأن بينهما شبه كمال الاتصال لتنزل قوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً} من قوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} منزلة التوكيد اللفظي ثم بني عليه قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} الآية وهو مغاير لما بني على قوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ليحصل شيء من تجدد فائدة في الكلام لكي لا يكون إعادة{اهْبِطُوا}مجرد توكيد ويسمى هذا الأسلوب في علم البديع بالترديد نحو قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران:188]وإفادته التأكيد حاصلة بمجرد إعادة اللفظ.1
ـــــــ
1 أردت بهذا أن أنبه على أن ما وقع في الكشاف أن اهبطوا الثاني تأكيد أراد به ما يقارب التأكيد وهو أنه يحصل من مجرد إعادة اللفظ تقرير لمدلوله في الذهن وإن لم بكن المقصود من ذكرهالتأكيد وعليه فالفصلليس لكمال الاتصال كما توهمه الشيخ عبد الحكيم عند قول البيضاوي كرر التأكيد.

وقيل هو أمر ثان بالهبوط بأن أهبط آدم من الجنة إلى السماء الدنيا بالأمر الأول ثم أهبط من السماء الدنيا إلى الأرض فتكون إعادة {قُلْنَا اهْبِطُوا} للتنبيه على اختلاف زمن القولين والهبوط وهو تأويل يفيد أن المراحل والمسافات لا عبرة بها عند المسافر ولأن ضمير {مِنْهَا} المتعين للعود إلى الجنة لتنسيق الضمائر في قوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَداً} وقوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة:36] مانع من أن يكون المراد اهبطوا من السماء جميعا إذ لم يسبق معاد للسماء فالوجه عندي على تقدير أن تكون إعادة {اهْبِطُوا} الثاني لغير ربط نظم الكلام أن تكون لحكاية أمر ثان لآدم بالهبوط كيلا يظن أن توبة الله عليه ورضاه عنه عند مبادرته بالتوبة عقب الأمر بالهبوط قد أوجبت العفو عنه من الهبوط من الجنة فأعاد له الأمر بالهبوط بعد قبول توبته ليعلم أن ذلك كائن لا محالة لأنه مراد الله تعالى وطور من الأطوار التي أرادها الله تعالى من جعله خليفة في الأرض وهو ما أخبر به الملائكة.
وفيه إشارة أخرى وهي أن العفو يكون من التائب في الزواجر والعقوبات. وأما تحقيق آثار المخالفة وهو العقوبة التأديبية فإن العفو عنها فساد في العالم لأن الفاعل للمخالفة إذا لم ير أثر فعله لم يتأدب في المستقبل فالتسامح معه في ذلك تفويت لمقتضى الحكمة، فإن الصبي إذا لوث موضعا وغضب عليه مربيه ثم تاب فعفا عنه فالعفو يتعلق بالعقاب وأما تكليفه بأن يزيل بيده التلويث الذي لوث به الموضع فذلك لا يحسن التسامح فيه ولذا لما تاب الله على آدم رضي عنه ولم يؤاخذه بعقوبة ولا بزاجر في الدنيا ولكنه لم يصفح عنه في تحقق أثر مخالفته وهو الهبوط من الجنة ليرى أثر حرصه وسوء ظنه، هكذا ينبغي أن يكون التوجيه إذا كان المراد من {اهْبِطُوا} الثاني حكاية أمر ثان بالهبوط خوطب به آدم.
و {جَمِيعاً} حال. وجميع اسم للمجتمعين مثل لفظ "جمع" فلذلك التزموا فيه حالة واحدة وليس هو في الأصل وصفا وإلا لقالوا جاءوا جميعين لأن فعيلا بمعنى فاعل يطابق موصوفه وقد تأولوا قول امرئ القيس:
فلو أنها نفس تموت جميعة

بأن التاء فيه للمبالغة والمعنى اهبطوا مجتمعين في الهبوط متقارنين فيه لأنهما استويا في اقتراف سبب الهبوط
وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} شرط على شرط لأن "إما" شرط مركب من إن الشرطية، وما الزائدة دالة على تأكيد التعليق لأن إن بمجردها دالة على الشرط فلم يكن دخول ما الزائدة عليها كدخولها على "متى" و "أي" و "أين" و "أيان" و "ما" و "من" و "مهما" على القول بأن أصلها ماما لأن تلك كانت زيادتها لجعلها مفيدة معنى الشرط فإن هذه الكلمات لم توضع له بخلاف"ن"وقد التزمت العرب تأكيد فعل الشرط مع إما بنون التوكيد لزيادة توكيد التعليق بدخول علامته على أداته وعلى فعله فهو تأكيد لا يفيد تحقيق حصول الجواب لأنه مناف للتعليق، ولذلك لم يؤكد جواب الشرط بالنون بل يفيد تحقيق الربط أي إن كون حصول الجواب متوقفا على حصول الشرط أمر محقق لا محالة فإن التعليق ما هو إلا خبر من الأخبار، إذ حاصله الإخبار بتوقف حصول الجزاء على حصول الشرط فلا جرم كان كغيره من الأخبار قابلا للتوكيد وقلما خلا فعل الشرط مع إما عن نون التوكيد كقول الأعشى:
إما ترينا حفاة لا نعال لنا ... إنا كذلك ما نحفى وننتعل
وهو غير حسن عند سيبوية والفارسي، وقال المبرد والزجاج هو ممنوع فجعلا خلو الفعل عنه ضرورة.
وقوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} من شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} لأن الفاء وإن دخلت في خبر الموصول كثيرا فذلك على معاملته معاملة الشرط فلتحمل هنا على الشرطية اختصارا للمسافة.
وأظهر لفظ الهدى في قوله: {هُدَايَ} وهو عين الهدى في قوله: {مِنِّي هُدىً} فكان المقام للضمير الرابط للشرطية الثانية بالأولى لكنه أظهر اهتماما بالهدى ليزيد رسوخا في أذهان المخاطبين على حد {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:16,15]ولتكون هاته الجملة مستقلة بنفسها لا تشتمل على عائد يحتاج إلى ذكر معاد حتى يتأتى تسييرها مسير المثل أو النصيحة فتلحظ فتحفظ وتتذكرها النفوس لتهذب وترتاض كما أظهر في قوله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الاسراء:81]لتسير هذه الجملة الأخيرة مسير المثل ومنه قول بشار

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... مكان الخوافي قوة للقوادم
وأدن إلى الشورى المسدد رأيه ... ولا تشهد الشورى امرأ غير كاتم
فكرر الشورى ثلاث مرات في البيتين الثاني والثالث ليكون كل نصف سائرا مسير المثل وبهذا يظهر وجه تعريف الهدى الثاني بالإضافة لضمير الجلالة دون أل مع أنها الأصل في وضع الظاهر موضع الضمير الواقع معاد لئلا يفوت هاته الجملة المستقلة شيء تضمنته الجملة الأولى إذ الجملة الأولى تضمنت وصف الهدى بأنه آت من الله والإضافة في الجملة الثانية تفيد هذا المفاد.
والإتيان 1في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} بحرف الشرط الدال على عدم الجزم بوقوع الشرط إيذان ببقية من عتاب على عدم امتثال الهدى الأول وتعريض بأن محاولة هديكم في المستقبل لا جدوى لها كما يقول السيد لعبده إذا لم يعمل بما أوصاه به فغضب عليه ثم اعتذر له فرضى عنه: إن أوصيتك يوما آخر بشيء فلا تعد لمثل فعلتك، يعرض له بأن تعلق الغرض بوصيته في المستقبل أمر مشكوك فيه إذ لعله قليل الجدوى، وهذا وجه بليغ فات صاحب الكشاف حجبه عنه توجيه تكلفه لإرغام الآية على أن تكون دليلا لقول المعتزلة بعدم وجوب بعثة الرسل للاستغناء عنها بهدى العقل في الإيمان بالله مع كون هدى الله تعالى الناس واجبا عندهم وذلك التكلف كثير في كتابه وهو لا يليق برسوخ
ـــــــ
1اعلم أن تكرير الكلمة أو الجملة في الكلام أن يكون مكروها لما يورثه التكرير من سماحة السامع,لأن المقصود من الكلام تجدد المعاني غير أن الكراهة متفاوتة,فتكرير المفردات لا مندوحة عنه,فكان اختلاف الأخبار عنها والأوصاف دافعا لكراهة تكريرها.ولذلك لا يعد نكريرها عيبا إلا إذا كثر في كلام غير طويل نحو:
لا أرى الموت يسبق الموت شيئ ... نغص الموت ذا الغني والفقيرا
ولذلك عدت كثرت التكرير منافية للفصاحة.وأما تكريرالجمل في الكلام القريب فأصله السماجة إلا إذا حصل من التكريرنكتة بلاغية فحينئذيغالب النشاط الحاصل من التكريرأو التأثر والانزعاج تلك السماجة فيدحضها. وذلك كترير التهويل في" قربا مربط النعامة مني"وتكرير التطريب في إعادة اسم المحبوب فيقصد المتكلم تجديد ذلك التأثر في السامع حبا فيه أو نكاية وذلك تابع لحالة السامعين في ذلك المقام بحيث لا يسأمون من التكرير لأنهم يتطلبونه ويحمدونه لما يتجدد لهم من الانفعال الحسن.

قدمه في العلم، فكان تقريره هذا كالاعتذار عن القول بعدم وجوب بعثة الرسل على أن الهدى لا يختص بالإيمان الذي يغنى فيه العقل عن الرسالة عندهم بل معظمه هدى التكاليف وكثير منها لا قبل للعقل بإدراكه، وهو على أصولهم أيضا واجب على الله إبلاغه للناس فيبقى الإشكال على الإتيان بحرف الشك هنا بحاله فلذلك كانت الآية أسعد بمذهبنا أيها الأشاعرة من عدم وجوب الهدى كله على الله تعالى لو شئنا ان نستدل بها على ذلك كما فعل البيضاوي ولكنا لا نراها واردة لأجله.
وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} الآية هو في معنى العهد أخذه الله على آدم فلزم ذريته أن يتبعوا كل هدى يأتيهم من الله وأن من أعرض عن هدى يأتي من الله فقد استوجب العذاب فشمل جميع الشرائع الإلهية المخاطب بها طوائف الناس لوقوع "هدى" نكرة في سياق الشرط وهو من صيغ العموم، وأولى الهدى وأجدره بوجوب اتباعه الهدى الذي أتى من الله لسائر البشر وهو دين الإسلام الذي خوطب به جميع بني آدم وبذلك تهيأ الموقع لقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ فالله أخذ العهد من لدن آدم على اتباع الهدى العام كقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران:81]الآية.
وهذه الآية تدل على أن الله لا يؤاخذ البشر بما يقترفونه من الضلال إلا بعد أن يرسل إليهم من يهديهم فأما في تفاصيل الشرائع فلا شك في ذلك ولا اختلاف وأما في توحيد الله تعالى وما يقتضيه من صفات الكمال فيجرى على الخلاف بين علمائنا في مؤاخذة أهل الفترة على الإشراك، ولعل الآية تدل على أن الهدى الآتي من عند الله في ذلك قد حصل من عهد آدم ونوح وعرفه البشر كلهم فيكون خطابا ثابتا لا يسع البشر ادعاء جهله وهو أحد قولين عن الأشعري، وقيل لا، وعند المعتزلة والماتريدية أنه دليل عقلي.
وقوله: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} نفى لجنس الخوف.و {خَوْفٌ} مرفوع في قراءة الجمهور وقرأه يعقوب مبنيا على الفتح وهما وجهان في اسم "لا" النافية للجنس وقد روى بالوجهين قول المرأة الرابعة من نساء حديث أم زرع"زوجي كليل تهامه لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمه". وبناء الاسم على الفتح نص في نفي الجنس ورفعه محتمل لنفي الجنس ولنفي فرد واحد، ولذلك فإذا انتفى اللبس استوى الوجهان كما هنا إذ القرينة ظاهرة في نفي الجنس.
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} يحتمل أنه من جملة ما قيل لآدم فإكمال ذكره هنا استيعاب لأقسام ذرية آدم وفيه تعريض بالمشركين من ذرية آدم وهو يعم من كذب

بالمعجزات كلها ومن جملتها القرآن، عطف على "من" الشرطية في قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} إلخ فهو من عطف جملة اسمية على جملة اسمية، وأتى بالجملة المعطوفة غير شرطية مع ما في الشرطية من قوة الربط والتنصيص على ترتب الجزاء على الشرط وعدم الانفكاك عنه لأن معنى الترتب والتسبب وعدم الانفكاك قد حصل بطرق أخرى فحصل معنى الشرط من مفهوم قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فإنه بشارة يؤذن مفهومها بنذارة من لم يتبعه فهو خائف حزين فيترقب السامع ما يبين هذا الخوف والحزن فيحصل ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا} الآية. وأما معنى التسبب فقد حصل من تعليق الخبر على الموصول وصلته المومئ إلى وجه بناء الخبر وعلته على أحد التفسيرين في الإيماء إلى وجه بناء الخبر، وأما عدم الانفكاك فقد اقتضاه الإخبار عنهم بأصحاب النار المقتضى للملازمة ثم التصريح بقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
ويحتمل أنه تذييل ذيلت به قصة آدم لمناسبة ذكر المهتدين وليس من المقول له، والمقصود من هذا التذييل تهديد المشركين والعود إلى عرض قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة:28]فتكون الواو في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} اعتراضية والمراد بالذين كفروا الذين أنكروا الخالق وأنكروا أنبياءه وجحدوا عهده كما هو اصطلاح القرآن والمعنى والذين كفروا بي وبهداي كما دلت عليه المقابلة.
والآيات جمع آية وهي الشيء الدال على أمر من شأنه أن يخفي، ولذلك قيل لأعلام الطريق آيات لأنهم وضعوها للإرشاد إلى الطرق الخفية في الرمال، وتسمى الحجة آية لأنها تظهر الحق الخفي.
كما قال الحارث بن حلزة:
من لنا عنده من الخير آيا ... ت ثلاث في كلهن القضاء
يعني ثلاث حجج على نصحهم وحسن بلائهم في الحرب وعلى اتصالهم بالملك عمرو بن هند. وسمي الله الدلائل على وجوده وعلى وحدانيته وعلى إبطال عقيدة الشرك آيات، فقال: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام:4}وقال {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام:97]إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:99]وقال: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام:109] وسمي القرآن آية فقال: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله: {أَوَلَمْ

يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ الكتاب يتلى عليهم} في سورة العنكبوت[51,50] وسمي أجزاءه آيات فقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج:72] وقال: {آلمر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد:1] لأن كل سورة من القرآن يعجز البشر عن الإتيان بمثلها كما قال تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} فكان دالا على صدق الرسول فيما جاء به وكانت جمله آيات لأن بها بعض المقدار المعجز، ولم تسم أجزاء الكتب السماوية الأخرى آيات، وأما ما ورد في حديث الرجم أن ابن صوريا حين نشر التوراة وضع يده على آية الرجم فذلك على تشبيه الجزء من التوراة بالجزء من القرآن وهو من تعبير راوي الحديث.
وأصل الآية عند سيبويه فعلة بالتحريك أييه أو أويه على الخلاف في أنها واوية أو يائية مشتقة من أي الاستفهامية أو من أوى1 فلما تحرك حرفا العلة فيها قلب أحدهما وقلب الأول تخفيفا على غير قياس لأن قياس اجتماع حرفي علة صالحين للإعلال أن يعل ثانيهما إلا ما قل من نحو آية وقاية وطاية وثاية وراية.2
فالمراد بآياتنا هنا آيات القرآن أي وكذبوا بالقرآن أي وحي من عند الله. والباء في قوله: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} باء يكثر دخولها على متعلق مادة التكذيب مع أن التكذيب متعد بنفسه ولم أقف في كلام أئمة اللغة على خصائص لحاقها بهذه المادة والصيغة فيحتمل أنها لتأكيد اللصوق للمبالغة في التكذيب فتكون كالباء في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: من الآية6] وقول النابغة:
ـــــــ
1 وزن آية يقتضي أن يكون ألفها منقلبة عن أصل أو أن يكون هنالك أصل محذوف وألفها زائدة لأن حالتها الظاهرة لا تساعد على وزن صرفي,ثم قيل إن أصلها مشتقة من أي الاستفهامية كما اشتق الكم من كم الخبرية واللو من كلمة لو التي للتمني,وقيل مشتقة من أوى.والحق أن المشتق منه آية غير معروف الألأصل وإنما ذكروا هذه الاحتمالات على وجه التردد ثم قال سيبويه:"وزنها فعلة أيية,أو أوية. وقال الفراء وزنها فعلة بسكون العين أيية أو أويةوكان القياس حينئذ إدغام الياء في الياء أو قلب الواو ياء وإدغامها,لكنهم لما رأوا الحذف أخف عدلوا عن الادغام لأن إدغام حرفي علة لا يخلو من ثقل ولئلا يشتبه بأية مؤنث أي نحو بأية سنة.وقال الكسائيأصلهآيية بوزن فاعلة فقلبت الياء الأولى همزة لوقوعها إثر ألف فاعل ثم حذفت الهمزة.وفيها مذاهب أخر.
2 الطاية: السطح الذي يقام عليه. والطاية من الإبل: القطيع جمعه طايات وهو واوي. والثانية حجارة ترفع يجعلها الرعاة علامة على مواقعهم في الليل إذا رجعوا.

لك الخير أن وارت بك الأرض واحدا
ويحتمل أن أصلها للسببية وأن الأصل أن يقال كذب فلانا بخبره ثم كثر ذلك فصار كذب به وكذب بمعنى واحد والأكثر أن يقال كذب فلانا، وكذب بالخبر الفلاني، فقوله: {بِآيَاتِنَا} يتنازعه فعلا كفروا وكذبوا. وقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} بيان لمضمون قوله: {أَصْحَابُ النَّارِ} فإن الصاحب هنا بمعنى الملازم ولذلك فصلت جملة فيها خالدون لتنزلها من الأولى منزلة البيان فبينهما كمال الاتصال.
[40] {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]
انتقال من موعظة المشركين إلى موعظة الكافرين من أهل الكتاب وبذلك تتم موعظة الفرق المتقدم ذكرها، لأن فريق المنافقين لا يعدوا أن يكونوا من المشركين أو من أهل الكتاب اليهود، ووجه الخطاب هنا إلى بني إسرائيل وهم أشهر الأمم المتدنية ذات الكتاب الشهير والشريعة الواسعة، وذلك لأن هذا القرآن جاء يهدي للتي هي أقوم فكانت هاته السورة التي هي فسطاطه مشتملة على الغرض الذي جاء لأجله وقد جاء الوفاء بهذا الغرض على أبدع الأساليب وأكمل وجوه البلاغة فكانت فاتحتها في التنويه بشأن هذا الكتاب وآثار هديه وما يكتسب متبعوه من الفلاح دنيا وأخرى، وبالتحذير من سوء مغبة من يعرض عن هديه ويتنكب طريقه، ووصف في خلال ذلك أحوال الناس تجاه تلقي هذا الكتاب من مؤمن وكافر ومنافق، بعد ذلك أقبل على أصناف أولئك بالدعوة إلى المقصود، وقد انحصر الأصناف الثلاثة من الناس المتلقين لهذا الكتاب بالنسبة لحالهم تجاه الدعوة الإسلامية في صنفين لأنهم إما مشرك أو متدين أي كتابي، إذ قد اندرج صنف المنافقين في الصنف المتدين لأنهم من اليهود كما قدمناه. فدعا المشركين إلى عبادته تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] فالناس إن كان المراد به المشركين كما هو اصطلاح القرآن غالبا كما تقدم فظاهر. وإن كان المراد به كل الناس فقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} يختص بهم لا محالة إذ ليس المؤمنون بداخلين في ذلك، وذكرهم بدلائل الصنعة وهي خلق أصولهم وبأصول نعم الحياة وهي خلق الأرض والسماء وإنزال الماء من السماء لإخراج الثمرات، وعجب من كفرهم مع ظهور دلائل إثبات الخالق من الحياة والموت، وذكرهم بنعمة عظيمة وهي نعمة تكريم أصلهم وتوبته على أبيهم، كل ذلك اقتصار على القدر الثابت في فطرتهم إذ لم يكن لديهم من الأصول الدينية ما يمكن أن يجعل مرجعا

في المحاورة والمجادلة يقتنعون به، وخاطبهم في شأن إثبات صدق الرسول خلال ذلك بالدليل الذي تدركه أذواقهم البلاغية فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] الآيات. ولما قضي ذلك كله حقه أقبل بالخطاب هنا على الصنف الثاني وهم أهل الشرائع والكتاب وخص من بينهم بني إسرائيل لأنهم أمثل أمة ذات كتاب مشهور في العالم كله وهم الأوحداء بهذا الوصف من المتكلمين باللغة العربية الساكنين المدينة وما حولها، وهم أيضا الذين ظهر منهم العناد والنواء لهذا الدين، ومن أجل ذلك لم يدع اليهود إلى توحيد ولا اعتراف بالخالق لأنهم موحدون ولكنه دعاهم إلى تذكر نعم الله عليهم وإلى ما كانت تلاقيه أنبياؤهم من مكذبيهم، ليذكروا أن تلك سنة الله وليرجعوا على أنفسهم بمثل ما كانوا يؤنبون به من كذب أنبياءهم وذكرهم ببشارات رسلهم وأنبيائهم بنبي يأتي بعدهم.
ولتوجيه الخطاب إليهم طريقة أخرى وهي أنه جادلهم بالأدلة الدينية العلمية وإثبات صدق الرسالة بما تعارفوه من أحوال الرسل، ولم يعرج لهم على إثبات الصدق بدلالة معجزة القرآن إذ لم يكونوا من فرسان هذا الميدان كما قدمناه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} [البقرة: من الآية26] فكان خطابهم هنا بالدلائل الدينية وبحجج الشريعة الموسوية ليكون دليل صدق الرسول في الاعتبار بحاله وأنه جاء على وفاق أحوال إخوانه المرسلين السابقين.
وقد أفاض القرآن في ذلك وتدرج فيه من درجة إلى أختها بأسلوب بديع في مجادلة المخاطبين وأفاد فيه تعليم المسلمين حتى لا يفوتهم علماء بني إسرائيل قال تعالى {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:197] فقد كان العلم يومئذ معرفة التشريع ومعرفة أخبار الأنبياء والأمم الماضية وأحوال العالمين العلوي والسفلي مع الوصايات الأدبية والمواعظ الأخلاقية، فبذلك كان اليهود يفوقون العرب ومن أجله كانت العرب تسترشدهم في الشؤون وبه امتاز اليهود على العرب في بلادهم بالفكرة المدنية. وكان علم عامة اليهود في هذا الشأن ضعيفا وإنما انفردت بعلمه علماؤهم وأحبارهم فجاء القرآن في هاته المجادلات معلما أيضا للمسلمين وملحقا لهم بعلماء بني إسرائيل حتى تكون الدرجة العليا لهم لأنهم يضمون هذا العلم إلى علومهم اللسانية ونباهتهم الفكرية فتصبح عامة المسلمين مساوية في العلم لخاصة الإسرائيليين وهذا معنى عظيم من معاني تعميم التعليم والإلحاق في مسابقة التمدين.
وبه ننكشف لكم حكمة من حكم تعرض

القرآن لقصص الأمم وأحوالهم فإن في ذلك مع العبرة تعليما اصطلاحيا. ولقد نعد هذا من معجزات القرآن وهو أنه شرح من أحوال بني إسرائيل ما لا يعلمه إلا أحبارهم وخاصتهم مع حرصهم على كتمانه والاستئثار به خشية المزاحمة في الجاه والمنافع فجاء القرآن على لسان أبعد الناس عنهم وعن علمهم صادعا بما لا يعلمه غير خاصتهم فكانت هذه المعجزة للكتابيين قائمة مقام المعجزة البلاغية للأميين. وقد تقدم الإلمام بهذا في المقدمة السابعة. وقد روعيت في هذا الانتقال مسايرة ترتيب كتب التوراة إذا عقبت كتاب التكوين بكتاب الخروج أي وصف أحوال بني إسرائيل في مدة فرعون ثم بعثة موسى وقد اقتصر مما في سفر التكوين على ذكر خلق آدم وإسكانه الأرض لأنه موضع العبرة وانتقل من ذلك إلى أحوال بني إسرائيل لأن فيها عبرا جمة لهم وللأمة.
فقوله: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} خطاب لذرية يعقوب وفي ذريته انحصر سائر الأمة اليهودية، وقد خاطبهم بهذا الوصف دون أن يقول يا أيها اليهود لكونه هو اسم القبيلة أما اليهود فهو اسم النحلة والديانة ولأن من كان متبعا دين اليهودية من غير بني إسرائيل كحمير لم يعتد بهم لأنهم تبع لبني إسرائيل فلو آمن بنو إسرائيل بالنبي صلى الله عليه وسلم لآمن أتباعهم لأن المقلد تبع لمقلده. ولأن هذا الخطاب للتذكير بنعم أنعم الله بها على أسلافهم وكرامات أكرمهم بها فكان لندائهم بعنوان كونهم أبناء يعقوب وأعقابه مزيد مناسبة لذلك ألا ترى أنه لما ذكروا بعنوان التدين بدين موسى ذكروا بوصف الذين هادوا في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البقرة: 62] الآية كما سيأتي قريبا.
وتوجيه الخطاب إلى جميع بني إسرائيل يشمل علماءهم وعامتهم لأن ما خوطبوا به هو من التذكير بنعمة الله على أسلافهم وبعهد الله لهم. وكذلك نجد خطابهم في الأغراض التي يراد منها التسجيل على جميعهم يكون بنحو: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] أو بوصف اليهود الذين هادوا أو بوصف النصارى، فأما إذا كان الغرض التسجيل على علمائهم نجد القرآن يعنونهم بوصف {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أو {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121]. وقد يستغني عن ذلك بكون الخبر المسوق مما يناسب علماءهم خاصة مثل قوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] ونحو {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] ونحو {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] الآية {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا

مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: من الآية89] مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 159] {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] الآية. فإذا جاء الخطاب بأسلوب شامل لعلمائهم وعامتهم صرف إلى كل طائفة من الطائفتين ما هو لائق بها.
وبنون مما ألحق بجمع المذكر السالم وليس منه لأنه دخله التكسير بحذف لامه وزيادة همزة الوصل في أوله فحقه أن يجمع على أبناء.
وقد اختلف في أصل ابن فقيل هو مشتق من بني أي فهو مصدر بمعنى المفعول كالخلق فأصله بني أي مبني لأن أباه بناه وكونه فحذفت لامه للتخفيف وعوض عنها همزة الوصل ففيه مناسبة في معنى الاشتقاق إلا أن الحذف حينئذ على غير قياس لأن الياء لا موجب لحذفها إلا أن يتكلف له بأن الياء تحركت مع سكون ما قبلها فنقلت حركتها للساكن إجراء له مجرى عين الكلمة ثم لما انقلب ألفا على تلك القاعدة خيف التباسه بفعل بني فحذفت اللام وعوض عنها همزة الوصل. وقيل أصله وأو على وزن بنو أو بنو بسكون النون أو بالتحريك فحذفت الواو كما حذفت من نظائره نحو أخ وأب وفي هذا الوجه بعد عن الاشتقاق وبعد عن نظائره لأن نظائره لما حذفت لاماتها لم تعوض عنها همزة الوصل.
وإسرائيل لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال ابن عباس معناه عبد الله، لأن إسرا بمعنى عبد وإيل اسم الله أي مركب من كلمتين إسرا-و-إيل اسم الله تعالى كما يقولون بيت إيل اسم لقرية تسمى، لوز، من أرض كنعان نزلها يعقوب عليه السلام في مهاجره فرارا من أخيه عيسو وبني فيها مذبحا ودعا اسمه بيت إيل. والذي في كتب اليهود أن سبب تسمية يعقوب إسرائيل أنه لما كان خائفا في مهاجره من أن يلحقه أخوه عيسو لينتقم منه1 عرض له في إحدى الليالي شخص فعلم يعقوب أنه ربه
ـــــــ
1 إن تاريخ اليهود يقول إن إسحاق لما كبر وضعف بصره أراد أن يبارك ابنه عيسو ليكون خليفته في النبوة بعد موته فأمره أن يصد له صيدا ويجعل له طعاما ليأكل ويباركه فاشعرت أمهما رفقة ابنها يعقوب بذلك وكانت تحبه فتحيل وأوهم أباه أنه هو عيسو وذبح له جديين أوهمه أنهما صيده فباركه, فلما رجع عيسو وعلم حيلة أخيه وكانت البركة تمت ليعقوب عزم عيسو على قتل أخيه يعقوب. "تكوين إصحاح27"

أي ملك من ملائكة الله فأمسكه وصارعه يعقوب كامل الليل إلى طلوع الفجر فقال له أطلقني فقد طلع الفجر فقال له يعقوب لا أطلقك حتى تباركني فقال له ما اسمك قال يعقوب قال له لا يدعى اسمك يعقوب بعد اليوم بل أنت إسرائيل لأنك جاهدت الله والناس وقدرت. وباركه هناك1. فهذا يدل على أن إسرا في هذا الاسم راجع إلى معنى الأسر في الحرب كما هو في العربية فإذا كان هذا من أصل التوراة فهو على تأويل رؤيا رآها يعقوب جعل الله بها له شرفا أو عرض له ملك كذلك. ثم إن يعقوب له اثنا عشر أبناؤهم المشهورون بالأسباط لأنهم أسباط إسحاق بن إبراهيم وإلى هؤلاء الأسباط يرجع نسب جميع بني إسرائيل وسيأتي ذكر الأسباط في هذه السورة.
و {اذْكُرُوا} أمر من الذكر وهو أي الذكر بكسر الذال وضمها يطلق على خطور شيء ببال من نسيه ولذلك قيل، وكيف يذكره من ليس ينساه، ويطلق على النطق باسم الشيء الخاطر ببال الناس، ثم أطلق على التصريح بالدال مطلقا لأن الشأن أن أحدا لا ينطق باسم الشيء إلا إذا خطر بباله، وقد فرق بعض اللغويين بين مكسور الذال ومضمومه فجعل المكسور للساني والمضموم للعقلي ولعلها تفرقة استعمالية مولدة إذ لا يحجر على المستعمل تخصيصه أحد مصدري الفعل الواحد لأحد معاني الفعل عند التعبير فيصير ذلك اصطلاحيا استعماليا لا وضعا حتى يكون من المترادف إذ اتحاد الفعل مانع من دعوى ترادف المصدرين فقد قال عمر رضي الله عنه أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه فسمي النوعين ذكرا. والمقصود هنا الذكر العقلي إذ ليس المراد ذكر النعمة باللسان.
والمراد بالنعمة هنا جميع ما أنعم الله به على المخاطبين مباشرة أو بواسطة الإنعام على أسلافهم فإن النعمة على الأسلاف نعمة على الأبناء لأنها سمعة لهم، وقدوة يقتدون بها، وبركة تعود عليهم منها، وصلاح حالهم الحاضر كان بسببها، وبعض النعم يكون فيما فطر الله عليه الإنسان من فطنة وسلامة ضمير وتلك قد تورث في الأبناء. ولولا تلك النعم لهلك سلفهم أو لساءت حالهم فجاء أبناؤهم في شر حال. فيشمل هذا جميع النعم التي أنعم الله بها عليهم فهو بمنزلة اذكروا نعمي عليكم. وهذا العموم مستفاد من إضافة نعمة إلى ضمير الله تعالى إذ الإضافة تأتي لما تأتي له اللام ولا يستقيم من معاني اللام العهد إذ
ـــــــ
1 انظر سفر التكوين إصحاح 32.

ليس في الكلام نعمة معينة معهودة، ولا يستقيم معنى اللام الجنسية، فتعين أن تكون الإضافة على معنى لام الاستغراق فالعموم حصل من إضافة نعمة إلى المعرفة وقليل من علماء أصول الفقه من يذكرون المفرد المعرف بالإضافة في صيغ العموم، وقد ذكره الإمام الرازي في المحصول في أثناء الاستدلال. وقال ولي الدين الإضافة عند الإمام أدل على العموم من اللام وقال ابن السبكي في شرح مختصر ابن الحاجب: دلالة المفرد المضاف على العموم ما لم يتحقق عهد هو الصحيح نحو قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أي كل أمره وقد تأيد قصد عموم النعمة بأن المقام للامتنان والدعوة إلى الإسلام فيناسبه تكثير النعم. والمراد النعم التي أنعم الله بها على أسلافهم وعلى الحاضرين منهم زمن نزول القرآن فإن النعمة على أسلافهم نعمة عليهم وقد تتابعت النعم عليهم إذ بوأهم قرى في بلاد العرب بعد أن سلبت بلادهم فلسطين وجعلهم في بحبوحة من العيش مع الأمن والثروة ومسالمة العرب لهم.
والأمر بذكر النعمة هنا مراد منه لازمه وهو شكرها ومن أول مراتب الشكر ترك المكابرة في تلقي ما ينسب إلى الله من الرسالة بالنظر في أدلتها ومتابعة ما يأتي به المرسلون. فقوله: {الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} وصف أشير به إلى وجوب شكر النعم لما يؤذن الموصول وصلته من التعليل فهو من تاب قوله تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] ويفيد مع ذلك أمرهم بتفكر النعم التي أنعم بها عليهم لينصرفوا بذلك عن حسد غيرهم فإن تذكير الحسود بما عنده من النعم عظة له وصرف له عن الحسد الناشئ عن الاشتغال بنعم الغير وهذا تعريض بهم أنهم حاسدون للعرب فيما أوتوا من الكتاب والحكمة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وانتقال النبوة من بني إسرائيل إلى العرب وإنما ذكروا بذلك لأن للنفس غفلة عما هو قائم بها وإنما تشتغل بأحوال غيرها لأن الحس هو أصل المعلومات فإذا رأى الحاسد نعم الغير نسى أنه أيضا في نعمة فإذا أريد صرفه عن الحسد ذكر بنعمه حتى يخف حسده فإن حسدهم هو الذي حال دون تصديقهم به فيكون وزانه وزان قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] وتقديمه على قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} من باب تقديم التخلية بالمعجمة على التخلية بالمهملة ويكون افتتاح خطابهم بهذا التذكير تهيئة لنفوسهم إلى تلقي الخطاب بسلامة طوية وإنصاف.
وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} هو فعل مهموز من وفى المجرد وأصل معنى وفى

أتم الأمر تقول وفيته حقه، ولما كان المجرد متعديا للمفعول ولم يكن في المهموز زيادة تعدية للتساوي بين قولك وفيته حقه وأوفيته حقه تعينت الزيادة لمجرد المبالغة في التوفية مثل بان وأبات وشغل وأشغل، وأما وفى بالتضعيف فهو أبلغ من أوفى لأن فعل وإن شارك أفعل في معانيه إلا أنه لما كان دالا على التقضي شيئا بعد شيء كان أدل على المبالغة لأن شأن الأمر الذي يفعل مدرجا أن يكون أتقن. وقد أطلق الوفاء على تحقيق الوعد والعهد إطلاقا شائعا صيره حقيقة.
والعهد تقدم معناه عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27] في هذه السورة.
والعهد هنا هو الالتزام للغير بعاملة التزاما لا يفرط فيه المعاهد حتى يفسخاه بينهما واستعير العهد المضاف إلى ضمير الجلالة لقبول ما يكلفهم به من الدين واستعمل مجازا لقبول التكاليف والدخول في الدين واستعير المضاف إلى ضمير المخاطبين للوعد على ذلك بالثواب في الآخرة والنصر في الدنيا فلك أن تجعل كل عهد مجازا مفردا استعمل العهد الأول في التكاليف واستعمل العهد الثاني في الوعد بالثواب والنصر واستعمل الإيفاء مع كليهما في تحقيق ما التزم به كلا الجانبين مستعارا من ملائم المشبه به إلى ملائم المشبه ترشيحا لاستعارته ولك أن تجعل المجموع استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من قولهم لما أمرهم الله به وأن لا يقصروا في العمل ومن وعد الله إياهم على ذلك بالثواب بهيئة المتعاهدين على التزام كل منهما بعمل للآخر ووفائه بعهده في عدم الإخلال به فاستعير لهذه الهيئة الكلام المشتمل على قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} وهذا أحسن وبه يتبين وجه استعمال لفظ العهد الثاني في قوله تعالى: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} وتقربه المشاكلة.
وعلى الوجهين فالعهد في الموضعين مضاف للمفعول وهو ما ذهب إليه صاحب الكشاف لأن إضافته إلى المفعول متعينة إذا تعلق به الإيفاء إذ لا يوفى أحد إلا بعهد نفسه فإذا أضيف العهد الذي هو مفعول: {أَوْفُوا} إلى غير فاعل الإيفاء تعين أن تكون إضافته للمفعول وبذلك يتم ترشيح المجاز إن كان مفردا كما أشار له المحقق التفتزاني فإن كان مركبا فأخلق به لأن اللفظ الموضوع للهيئة المشبه بها يضاف بقيد الإيفاء إلى مفعوله لا محالة.
ومن لطائف القرآن في اختيار لفظ العهد للاستعارة هنا لتكليف الله تعالى إياهم أن

ذلك خطاب لهم باللفظ المعروف عندهم في كتبهم فإن التوراة المنزلة على موسى عليه السلام تلقب عندهم بالعهد لأنها وصايات الله تعالى لهم ولذا عبر عنه في مواضع من القرآن بالميثاق وهذا من طرق الإعجاز العلمي الذي لا يعرفه إلا علماؤهم وهم أشح به منهم في كل شيء بحيث لا يعرف ذلك إلا خاصة أهل الدين فمجيئه على لسان النبي العربي الأمي دليل على أنه وحي من العلام بالغيوب. والعهد قد أخذ على أسلافهم بواسطة رسلهم وأنبيائهم قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] الآية وإذ قد كان المخاطبون بالآية قد تلقوا الشريعة من أسلافهم بما فيها من عهد فقد كان العهد لازما لهم وكان الوفاء متعينا عليهم لأنهم الذين جاء فيهم الرسول الموعود به.
وقوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} عطفت الواو جملة {وَإِيَّايَ} على الجمل المتقدمة من قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} إلى آخرها على طريقة الانتقال من معنى إلى المعنى المتولد عنه وهي أصل طريقة المنشئين أن يراعوا الترتيب الخارجي في الخبر والإنشاء لأنه الأصل ما لم يطرأ مقتض لتغيير الترتيب الطبيعي ومنه في القرآن قوله: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود: 78] إلخ، فإنه لما افتتح خطابهم بالتذكير بالنعمة الباعث على شكر المنعم ومراقبة حقه والمطهر لهم من الحسد فإنه صارف عن الاعتراف بالنعمة كما قدمنا. ثم عطف عليه قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} وهو مبدأ المقصود من الأمر بتصديق الرسول الموعود به على ألسنة أنبيائهم. ثم عقب ذلك بقوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} فهو تتميم لذلك الأمر السابق بالنهي عما يحول بينهم وبين الإيفاء بالعهد على وجهه وذلك هو صد كبرائهم وأحبارهم إياهم عن الانتقال عما هم عليه من التمسك بالتوراة فإنهم هم القوم الذين كانوا يقولون لملك بلادهم فرعون مصر يوم بعثة موسى: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه: 72] فكانوا أحرياء بأن يخاطبوا ساداتهم وأحبارهم بمثل ذلك الخطاب عند البعثة المحمدية.
فتقديم المفعول هنا متعين للاختصاص ليحصل من الجملة إثبات ونفي واختير من طرق القصر طريق التقديم دون ما وإلا ليكون الحاصل بالمنطوق هو الأمر برهبة الله تعالى ويكون النهي عن رهبة غيره حاصلا بالمفهوم فإنهم إذا رهبوا الله تعالى حرصوا على الإيفاء بالعهد ولما كانت رهبتهم أحبارهم تمنعهم من الإيفاء بالعبد أدمج النهي عن رهبة غير الله مع الأمر برهبة الله تعالى في صيغة واحدة.

وتقديم المفعول مع اشتغال فعله بضميره آكد في إفادة التقديم الحصر من تقديم المفعول على الفعل غير المشتغل بضميره، فإياي ارهبون آكد من نحو إياي ارهبوا كما أشار إليه صاحب الكشاف إذ قال وهو من قولك زيدا رهبته وهو أوكد في إفادة الاختصاص من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ا ه. ووجهه عندي أن تقديم المفعول يحتمل الاختصاص، إلا أن الأصل فيه أن يدل على الاختصاص إلا إذا أقامت القرينة على التقوى فإذا كان مع التقديم اشتغال الفعل بضمير المقدم نحو زيدا ضربته كان الاختصاص أوكد أي كان احتمال التقوى أضعف وذلك لأن إسناد الفعل إلى الضمير بعد إسناده إلى الظاهر المتقدم يفيد التقوى فتعين أن تقديم المفعول للاختصاص دون التقوى إذ التقوى قد حصل بإسناد الفعل أولا إلى الاسم أو الظاهر المتقدم وثانيا إلى ضمير المتقدم ولهذا لم يقل صاحب الكشاف وهو أكثر اختصاصا ولا أقوى اختصاصا إذ الاختصاص لا يقبل التقوية بل قال وهو أوكد في إفادة الاختصاص أي أن إفادته الاختصاص أقوى لأن احتمال كون التقديم للتقوى قد صار مع الاشتغال ضعيفا جدا. ولسنا ندعي أن الاشتغال متعين للتخصيص فإنه قد يأتي بلا تخصيص في نحو قوله تعالى {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقوله {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} [القمر: ] وقول زهير:
فكلا أراهم أصبحوا يعقلونه ... صحيحات مال طالعات بمخرم
لظهور أن لا معنى للتخصيص في شيء مما ذكرنا غير أن الغالب أن يكون التقديم مع صيغة الاشتغال للتخصيص إذ العرب لا تقدم المفعول غالبا إلا لذلك ولا التفات إلى ما وجه به صاحب المفتاح أن احتمال المفعول في الاشتغال التخصيص والتقوى باق على حاله ولكنك إن قدرت الفعل المحذوف متقدما على المفعول كان التقديم للتقوى وإن قدرته بعد المفعول كان التقديم للتخصيص فإنه بناه على حالة موقع الفعل المقدر مع أن تقدير الفعل اعتبار لا يلاحظه البلغاء ولأنهم ينصبون على موقعه قرينه فتعين أن السامع إنما يعتد بالتقديم المحسوس وبتكرير التعلق وأما الاعتداد بموقع الفعل المقدر فحوالة على غير مشاهد لأن التقدير إن كان بنية المتكلم فلا قبل للسامع بمعرفة نيته ولا يصح أن يكون الخيار في التقدير للسامع.
هذا والتقديم إذا اقترن بالفاء كان فيه مبالغة، لأن الفاء كما في هذه الآية مؤذنة بشرط مقدر ولما كان هذا الشرط لا دليل عليه إلا الفاء تعين تقديره عاما نحو إن يكن شيء أو مهما يكن شيء كما أشار له صاحب الكشاف في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}

[المدثر:3] حيث قال ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل مهما كان فلا تدع تكبيره. فالمعنى هنا وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ومهما يكن شيء فإياي ارهبوني، فلما حذفت جملة الشرط بعد واو العطف بقيت فاء الجواب موالية لواو العطف فزحلقت إلى أثناء الجواب كراهية توالي حرفين فقيل: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} بدلا عن أن يقال فارهبون. والتعليق على الشرط العام يستلزم تحقق وقوع الجواب لأن التعليق الشرطي بمنزلة ربط المسبب بالسبب فإذا كان المعلق عليه أمرا محقق الوقوع لعدم خلو الحدثان عنه تعين تحقق وقوع المعلق، وهذا مبني على مذهب سيبويه في باب الأمر والنهي يختار فيهما النصب في الاسم الذي يبني عليه الفعل وذلك مثل قولك زيدا اضربه ومثل ذلك أما زيدا فاقتله فإذا قلت زيد فاضربه لم يستقم أن تحمله على الابتداء ألا ترى أنك لو قلت زيد فمنطلق لم يستقم، ثم أشار إلى أن الفاء هنا في معنى فاء الجزاء فمن ثم جزم الزمخشري بأن هاته الفاء مهما وجدت في الاشتغال دلت على شرط عام محذوف وإن الفاء كانت داخلة على الاسم فزحلقت على حكم فاء جواب أما الشرطية1 وأحسب أن مثل هذا التركيب من مبتكر أساليب القرآن ولم أذكر أني عثرت على مثله في كلام العرب.
ومما يؤيد ما ذهب إليه صاحب الكشاف المبني على كلام سيبويه من اعتبار الفاء مشعرة بشرط مقدر، أن غالب مواقع هاته الفاء المتقدم معها المفعول على مدخلها أن تقع بعد نهي أو أمر يناقض الأمر والنهي الذي دخلت عليه تلك الفاء نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ} إلى قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزمر: 66,56] وقول الأعشى: "ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا" فكان ما يتقدم هاته الفاء يتولد منه شرط في المعنى وكانت الفاء مؤذنة بذلك الشرط وعلامة عليه فلأجل كونه مدلولا عليه بدليلين
ـــــــ
1 وقيل إن الفاء في مثل هذا عاطفة على محذوف, فقال السيرافي في "شرح الكتاب" إن الفاء تدل على فعل من شأنه أن يكون سببا فيما دخلت عليه الفاء, ففي نحو زيدا فاضرب تأهب فاضرب زيدا أو نحوه فلما حذف المعطوف عليه قدم معمول الفعل ليكون عوضا عن المعطوف عليه المحذوف ولأجل كون تقديمه لعلةصح إعماله ما بعد الفاء فيه كما أعمل ما بعد الفاء الواقعة في جواب أما فيما قبلها لأنه قدم ليحل محل فعل الشرط. وعلى هذا القول فالتقديم ليس لقصد تخصيص ولا تقو. وقال صاحب "المفتاح" الفاء عطفت الفعل على فعل مثله للتقوى والمفعول المذكور مفعول الفعل المحذوف, والتقدير اضرب زيدا فاضرب, ويرد هذين أن الفاء لو كانت عاطفة لما اجتمعت مع حرف عطف في مواضع كثيرة نحو {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4,3]

أصله وفرعه كان كالمذكور كأنه قيل لئن أشركت ليحبطن عملك، وفإن كنت عابدا شيئا فالله فاعبد، وكذا في البيت وهذه فائدة لم يفصح عنها السلف فخذها ولا تخف.
قال التفتزاني ونقل عن صاحب الكشاف أنه قال إن في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وجوها من التأكيد: تقديم الضمير المنفصل. وتأخير المتصل. والفاء الموجبة معطوفا عليه ومعطوفا تقديره إياي ارهبوا فارهبون أحدهما مقدر والثاني مظهر. وما في ذلك من تكرار الرهبة. وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء كأنه قيل إن كنتم راهبين شيئا فارهبون ا ه. يريد أن في تقديم الضمير إفادة الاختصاص والاختصاص تأكيد، قال صاحب المفتاح ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيدا على تأكيد وأما تأخير الضمير المتصل فلما في إعادة الإسناد من التقوى، ومراد الزمخشري بقوله معطوفا عليه ومعطوفا العطف اللغوي أي معقبا ومعقبا به لا العطف النحوي إذ لا يستقيم هنا. فتحصل أن في التعبير عن مثل هذا الاختصاص في كلام البلغاء مراتب أربع: مجرد التقديم للمفعول نحو إياك نعبد. وتقديمه على فعله العامل في ضميره نحو زيدا رهبته. وتقديمه على فعله مع اقتران الفعل بالفاء نحو: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3]. وتقديمه على فعله العامل في ضميره مع اقتران الفعل بالفاء نحو {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . فالثانية والثالثة والرابعة أوكد منهما.
وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية في قوله: {فَارْهَبُونِ} للجمهور من العشرة في الوصل والوقف وأثبتها يعقوب في الوصل والوقف. وجمهور العرب يحذفونها في الوقف دون الوصل وهذيل يحذفونها في الوقف والوصل وأهل الحجاز يثبتونها في الحالين وإنما اتفق الجمهور هنا على حذفها في الوصل مثل الوقف لأن كلمة {فَارْهَبُونِ} كتبت في المصحف الإمام بدون ياء وقرئت كذلك في سنة القراءة. ووجه ذلك أنها وقعت فاصلة فاعتبروها كالموقوف عليها قال سيبويه في باب ما يحذف من أواخر الأسماء في الوقف وجميع ما لا يحذف في الكلام وما يختار فيه أن لا يحذف يحذف في الفواصل والقوافي. ولأن لغة هذيل تحذفها مطلقا، وقراءة يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف جرى على لغة أهل الحجاز ولأنه رواها بالإثبات وهو وجه في العربية ويكون قد تأول كتابتها بدون ياء في المصحف أنه اعتماد على أن القارئ يجريها على روايته ولذلك لو لم تكن ياء المتكلم في كلمة هي فاصلة من الآي لما اتفق الجمهور على حذفها كما في قوله تعالى {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] كما سيأتي.
[41] {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي

ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]
{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ}
شروع في دعوة بني إسرائيل إلى الإسلام وهدى القرآن وهذا هو المقصود من خطابهم ولكن قدم بين يديه ما يهيئ نفوسهم إلى قبوله كما تتقدم المقدمة على الغرض، والتخلية على التحلية.
والإيمان بالكتاب المنزل من عند الله أو يكتب الله وإن كان من جملة ما شمله العهد المشار إليه بقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة: من الآية40] إلا أنه لم يلتفت إليه هنا من تلك الجهة لأنهم عاهدوا الله على أشياء كثيرة كما تقدم ومن جملتها الإيمان بالرسل والكتب التي تأتي بعد موسى عليه السلام إلا إن ذلك مجمل في العهد فلا يتعين أن يكون ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو مما عاهدوا الله عليه بل حتى يصدقوا بأنه من عند الله وأن الجائي به رسول من الله فهم مدعوون إلى ذلك التصديق هنا. فعطف قوله: {وَآمِنُوا} على قوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . كعطف المقصد على المقدمة، وعطفه على قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} من قبيل عطف الخاص على العام في المعنى ولكن هذا من عطف الجمل فلا يقال فيه عطف خاص على عام لأنه إنما يكون في عطف الجزئي عاى الكلي من المفردات لا في عطف الجمل وإنما أردنا تقريب موقع الجملة وتوجيه إيرادها موصولة غير مفصولة.
وفي تعليق الأمر باسم الموصول وهو ما أنزلت دون غيره من الأسماء نحو الكتاب أو القرآن أو هذا الكتاب إيماء إلى تعليل الأمر بالإيمان به وهو أنه منزل من الله وهم قد أوصوا بالإيمان بكل كتاب يثبت أنه منزل من الله. ولهذا أتى بالحال التي هي علة الصلة إذ جعل كونه مصدقا لما في التوراة علامة على أنه من عند الله. وهي العلامة الدينية المناسبة لأهل العلم من أهل الكتاب فكما جعل الإعجاز اللفظي علامة على كون القرآن من عند الله لآهل الفصاحة والبلاغة من العرب كما أشير إليه بقوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] إلى قوله {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: من الآية23]؛ كذلك جعل الإعجاز المعنوي وهو اشتماله على الهدى الذي هو شأن الكتب الإلهية علامة على أنه من عنده لأهل الدين والعلم بالشرائع. ثم الإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان بالذي جاء به وبالذي أنزله.
والمراد بما معهم كتب التوراة الأربعة وما ألحق بها من كتب الأنبياء من بني

إسرائيل كالزبور، وكتاب أشعياء، وأرمياء، وحزقيال، ودانيال، وغيرها ولذا اختير التعبير بما معكم دون التوراة مع أنها عبر بها في مواضع غير هذا لأن في كتب الأنبياء من بعد موسى عليه السلام بشارات ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم أصرح مما في التوراة فكان التنبيه إليها أوقع.
والمراد من كون القرآن مصدقا لما معهم أنه يشتمل على الهدى الذي دعت إليه أنبياؤهم من التوحيد والأمر بالفضائل واجتناب الرذائل وإقامة العدل ومن الوعد والوعيد والمواعظ والقصص فما تماثل منه بها فأمره ظاهر وما اختلف فإنما هو لاختلاف المصالح والعصور مع دخول الجميع تحت أصل واحد. ولذلك سمي ذلك الاختلاف نسخا لأن النسخ إزالة حكم ثابت ولم يسم إبطالا أو تكذيبا فظهر أنه مصدق لما معهم حتى فيما جاء مخالفا فيه لما معهم لأنه ينادي على أن المخالفة تغيير أحكام تبعا لتغير أحوال المصالح والمفاسد بسبب تفاوت الإعصار بحيث يكون المغير والمغير حقا بحسب زمانه وليس ذلك إبطالا ولا تكذيبا قال تعالى {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} [النساء: 160] الآية. فالإيمان بالقرآن لا ينافي تمسكهم القديم بدينهم ولا ما سبق من أخذ رسلهم عليهم العهد باتباعه. ومما يشمله تصديق القرآن لما معهم أن الصفات التي اشتمل عليها القرآن ودين الإسلام والجائي به موافقة لما بشرت به كتبهم فيكون وروده معجزة لأنبيائهم وتصديقا آخر لدينهم وهو أحد وجهين ذكرهما الفخر والبيضاوي فيلزم تأويل التصديق بالتحقيق لأن التصديق في إعلام المخبر بفتح الباء بأن خبر المخبر مطابق للواقع إما بقوله صدقت أو صدق فلان كما ورد في حديث جبريل في صحيح البخاري لما سأله عن الإيمان والإسلام والإحسان أنه لما أخبره قال السائل صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه، وإما بأن يخبر الرجل بخبر مثل ما أخبر به غيره فيكون إخباره الثاني تصديقا لإخبار الأول. وأما إطلاق التصديق على دلالة شيء على صدق خبر ما فهو إطلاق مجازي والمقصود وصف القرآن بكونه مصدقا لما معهم بأخباره وأحكامه لا وصف الدين والنبوة كما لا يخفى.
{وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} جمع الضمير في {تَكُونُوا} مع إفراد لفظ {كَافِرٍ} يدل على أن المراد من الكافر فريق ثبت له الكفر لا فرد واحد فإضافة {أَوَّلَ} إلى {كَافِرٍ} بيانية تفيد معنى فريق هو أول فرق الكافرين. والضمير المجرور في {بِهِ} ظاهره أنه عائد إلى {مَا أُنْزِلَتْ} لأنه المقصود. وهو عطف على جملة {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} وهو ارتقاء في الدعوة واستجلاب

القلوب فإنه لما أمرهم بالإيمان بالقرآن وكانت صيغة الأمر محتملة لطلب الامتثال بالفور أو بالتأخير وكانوا معروفين بشدة العداوة لدين الإسلام، عطف على أمرهم بالإيمان بالقرآن نهيهم عن أن يكونوا أول كافر بالقرآن وذلك يصدق بمعان بعضها يستفاد من حق التركيب وبعضها من لوازمه وبعضها من مستتبعاته وكلها تحتملها الآية، فالمعنى الأول أن يحمل قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ} على حقيقة معنى الأول وهو السابق غيره فيحصل من الجملة المعطوفة تأكيد الجملة المعطوف عليها بدلالة المطابقة فالنهي عن الكفر بالقرآن يؤكد قوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} ثم إن وصف أول يشعر بتقييد النهي بالوصف ولكن قرينة السياق دالة على أنه لا يراد تقييد النهي عن الكفر بحالة أوليتهم في الكفر، إذ ليس المقصود منه مجرد النهي عن أن يكونوا مبادرين بالكفر ولا سابقين به غيرهم لقلة جدوى ذلك ولكن المقصود الأهم منه أن يكونوا أول المؤمنين فأفيد ذلك بطريق الكناية التلويحية فإن وصف أول أصله السابق غيره في عمل يعمل أو شيء يذكر فالسبق والمبادرة من لوازم معنى الأولى لأنها بعض مدلول اللفظ ولما كان الإيمان والكفر نقيضين إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر كان النهي عن أن يكونوا أول الكافرين يستلزم أن يكونوا أول المؤمنين.
والمقصود من النهي توبيخهم على تأخرهم في اتباع دعوة الإسلام فيكون هذا المركب قد كني به عن معنيين من ملزوماته، هما معنى المبادرة إلى الإسلام ومعنى التوبيخ المكنى عنه بالنهي، فيكون معنى النهي مرادا ولازمه وهو الأمر بالمبادرة بالإيمان مرادا وهو المقصود فيكون الكلام كناية اجتمع فيها الملزوم واللازم معا، فباعتبار اللازم يكون النهي في معنى الأمر فيتأكد به الأمر الذي قبله كأنه قيل: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} وكونوا أول المؤمنين، وباعتبار الملزوم يكون نهيا عن الكفر بعد بالإيمان فيحصل بذلك غرضان. وهذه الكناية تعريضية لأن غرض المعنى الكنائي غير غرض المعنى الصريح وهذا هو الذي استخلصته في تحقيق معنى التعريض وهو أن يكون غرض الحكم المشار إليه به غير غرض الحكم المصرح به، أو أن يكون المحكوم له به غير المحكوم له بالصريح. وهذا الوجه مستند إلى الظاهر والتحقيق بين متناثر كلامهم في التعريض المعروف من الكناية1
ـــــــ
1 والتكني عن الاتصاف بالنقيض بلفظ النهي عن أن يكون أول في نقيضه طريقة عربية ورد عليها قول ابي العاص الثقفي لقومه ثقيف حين هموا بالا رتداد مع من ارتد من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر ثقيف كنتم آخر العرب إسلاما فلا تكونوا أولهم ارتدادا" أي دوموا على الإيمان وهو عكس الآية وليس المراد كونوا آخر الناس ارتدادا.

ويندفع بهذا سؤالان مستقلان أحدهما ناشئ عما قبله: الأول كيف يصح النهي عن أن يكونوا أول الكافرين ومفهومه يقتضي أنهم لو كفروا به ثانيا لما كان كفرهم منهيا عنه. الثاني أنه قد سبقهم أهل مكة للكفر لأن آية البقرة في خطاب اليهود نزلت في المدينة فقد تحقق أن اليهود لم يكونوا أول الكافرين فالنهي عن أن يكونوا أول الكافرين تحصيل حاصل. ووجه الاندفاع أن المقصود الأهم هو المعنى التعريضي وهو يقوم قرينة على أن القصد من النهي أن لا يكونوا من المبادرين بالكفر أي لا يكونوا متأخرين في الإيمان وهذا أول الوجوه في تفسير الآية عند صاحب الكشاف واختاره البيضاوي فاقتصر عليه.
واعلم أن التعريض في خصوص وصف "أول" وأما أصل النهي عن أن يكونوا كافرين به فذلك مدلول اللفظ حقيقة وصريحا. والتعريض من قبيل الكناية التلويحية لما فيه من خفاء الانتقال من المعنى إلى لوازمه. وبعض التعريض يحصل من قرائن الأحوال عند النطق بالكلام ولعل هذا لا يوصف بحقيقة ولا مجاز ولا كناية وهو من مستتبعات التراكيب ودلالتها العقلية وسيجيء لهذا زيادة بيان عند قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] في هذه السورة.
المعنى الثاني: أن يكون المقصود التعريض بالمشركين وأنهم أشد من اليهود كفرا أي لا تكونوا في عدادهم ولعل هذا هو مراد صاحب الكشاف من قوله ويجوز أن يراد ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من أهل مكة ولا يريد أنه تشبيه بليغ وإن كان كلامه يوهمه وسكت عنه شراحه.
المعنى الثالث: أن يراد من أول المبادر والمستعجل لأنه من لوازم الأولية كما قال تعالى: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: من الآية81] وقال سعيد بن مقروم الضبي:
فدعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل
فقوله أول نازل لا يريد تحقيق أنه لم ينزل أحد قبله وإنما أراد أنه بادر مع الناس فإن الشأن أنه إذا دعا القوم نزال أن ينزل السامعون كلهم ولكنه أراد أنه ممن لم يتربص. ويكون المعنى ولا تعجلوا بالتصريح بالكفر قبل التأمل، فالمراد من الكفر هنا التصميم عليه لا البقاء على ما كانوا عليه فتكون الكناية بالمفرد وهو كلمة "أول".
المعنى الرابع: أن يكون "أول" كناية عن القدوة في الأمر لأن الرئيس وصاحب اللواء ونحوهما يتقدمون القوم، قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 98] وقال

خالد بن زهير وهو ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي:
فلا تجز عن من سنة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها
أي الأجدر والناصر لسنة. والمعنى ولا تكونوا مقرين للكافرين بكفركم فإنهم إن شاهدوا كفركم كفروا اقتداء بكم وهذا أيضا كناية بالمفرد.
المعنى الخامس: أن يكون المراد الأول بالنسبة إلى الدعوة الثانية وهي الدعوة في المدينة لأن ما بعد الهجرة هو حال ثانية للإسلام، فيها ظهر الإسلام متميزا مستقلا.
هذا كله مبني على جعل الضمير المجرور بالباء في قوله: {كَافِرٍ بِهِ} عائدا على {مَا أُنْزِلَتْ} أي القرآن وهو الظاهر لأنه ذكر في مقابل الإيمان به. وقيل إن الضمير عائد على ما معكم وهو التوراة قال ابن عطية: وعلى هذا القول يجيء {أَوَّلَ كَافِرٍ} مستقيما على ظاهره في الأولية ولا يخفى أن هذا الوجه تكلف لأنه مؤول بأن كفرهم بالقرآن وهو الذي جاء على نحو ما وصفت التوراة وكتب أنبيائهم في بشاراتهم بنبئ وكتاب يكونان من بعد موسى فإذا كذبوا بذلك فقد كفروا بصحة ما في التوراة فيفضي إلى الكفر بما معهم.
قال التفتزاني: وهذا كله إنما يتم لو كان كفرهم به بمعنى ادعائهم أنه كله كذب وأما إذا كفروا بكونه كلام الله واعتقدوا أن فيه صدقا وكذبا فلا يتم، ولهذا كان هذا الوجه مرجوحا، ورده عبد الحكيم بما لا يليق به.
وبهذا كله يتضح أن قوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} لا يتوهم منه أن يكون النفي منصبا على القيد بحيث يفيد عدم النهي عن أن يكونوا ثاني كافر أو ثالث كافر بسبب القرينة الظاهرة وأن أول كافر ليس من قبيل الوصف الملازم حتى يستوي في نفي موصوفه أن يذكر الوصف وأن لا يذكر كقول امرئ القيس:
على لا حب لا يهتدي بمناره
وقول ابن أحمر:
ولا ترى الضب بها ينجحر
كما سيأتي في قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} عقب هذا.
{وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}
عطف على النهي الذي قبله وهذا النهي موجه إلى علماء بني إسرائيل وهم القدوة

لقومهم والمناسبة أن الذي صدهم عن قبول دعوة الإسلام هو خشيتهم أن تزول رئاستهم في قومهم فكانوا يتظاهرون بإنكار القرآن ليلتف حولهم عامة قومهم فتبقى رئاستهم عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم" .
والاشتراء تقدم عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ} [البقرة: 16] وهو اعتياض أعيان بغيرها مثلها أو ثمنها من النقدين ونحوهما كأوراق المال والسفاتج وقد استعير الاشتراء هنا لاستبدال شيء بآخر دون تبايع.
والآيات جمع آية وأصلها في اللغة العلامة على المنزل أو على الطريق قال النابغة:
توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
ثم أطلقت الآية على الحجة لأن الحجة علامة على الحق قال الحارث ابن حلزة:
من لنا عنده من الخير آيا ... تٌ ثلاث في كلهن القضاء
ولذلك سميت معجزة الرسول آية كما في قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: من الآية12] {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} [لأعراف: من الآية203]، وأطلقت أيضا على الجملة التامة من القرآن قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: من الآية7] وفي الحديث الصحيح قال رسول الله :"أما تكفيك آية الصيف" {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: من الآية176] لأن جمل القرآن حجة على صدق الرسول لأن بلاغتها معجزة. وأما إطلاق آية على الجملة من التوراة في حديث الرجم في قول الراوي فوضع المدارس يده على آية الرجم فذلك مجاز على مجاز لعلاقة المشابهة. ووجه المشابهة بين إعراضهم وبين الاشتراء، أن إعراضهم عن آيات القرآن لأجل استبقاء السيادة، والنفع في الدنيا يشبه استبدال المشتري في أنه يعطي ما لا حاجة له به ويأخذ ما إليه احتياجه وله فيه منفعته، ففي {تَشْتَرُوا} استعارة تحقيقية في الفعل، ويجوز كون {تَشْتَرُوا} مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم أو بعلاقة الاستعمال المقيد في المطلق كما تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: من الآية16]، لكن هنا الاستعارة متأتية فهي أظهر لظهور علاقة المشابهة واستغناء علاقة المشابهة عن تطلب وجه العدول عن الحقيقة إلى المجاز لأن مقصد التشبيه وحده كاف في العدول إلى الاستعارة، إذ التشبيه من مقاصد البلغاء.
وإذ قد كان فعل الاشتراء يقتضي شيئين أبدل أحدهما بالآخر جعل العوض المرغوب فيه هو المشتري وهو المأخوذ ويعدى إلى الفعل بنفسه، وجعل العوض الآخر هو المدفوع

ويسمى الثمن ويتعدى الفعل إليه بالباء الدالة على معنى العوض.
وقد عدى الاشتراء هنا إلى الآيات بالباء فكانت الآيات هي الواقعة موقع الثمن لأن الثمن هو مدخل الباء فدل دخول الباء على أن الآيات شبهت بالثمن في كونها أهون العوضين عند المستبدل، وذكر الباء قرينة المكنية لأنها تدخل على الثمن ولا يصح كونها تبعية إذ ليس ثم معنى حقه أن يؤدي بالحرف شبه بمعنى الباء، فها هنا يتعين سلوك طريقة السكاكي في رد التبعية للمكنية. ولا يصح أيضا جعل الباء تخييلا إذ ليست دالة على معنى مستقل يمكن تخيله.
ثم عبر عن مفعول الاشتراء بلفظ الثمن وكان الظاهر أن يعطي لفظ الثمن لمدخول الباء أو أن يعبر عن كل بلفظ آخر كأن يقال لا تشتروا بآياتي متاعا قليلا فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر وعبر عن المتاع ونحوه بالثمن على طريق الاستعارة التحقيقية لتشبيه هذا العوض من الرئاسة أو المال بالثمن أو لأنه يشبه الثمن في كونه أعيانا وحطاما جعلت بدلا عن أمر نافع وفي ذلك تعريض بهم في أنهم مغبونو الصفقة إذ قد بذلوا أنفس شيء وأخذوا حظا ما قليلا فكان كلا البدلين في الآية مشبها بالثمن إلا أن الآيات شبهت به في كونها أهون على المعتاض، والمتاع الذي يأخذونه شبه بالثمن في كونه شيئا ماديا يناله كل أحد أو للإشارة إلى أن كلا من الآيات والثمن أمر هين على فريق فالآيات هانت على الأحبار والأموال هانت على العامة وخص الهين حقيقة بإعطائه اللفظ الحقيقي الدال على أنه هين وأما الهين صورة فقد أعطى الباء المجازية وكل من الاستعارتين قرينة على الأخرى ولأنه لما غلب في الاستعمال إطلاق الثمن على النقدين اختير إطلاق ذلك على ما يأخذونه تلميحا إلى أنهم يأخذون المال عن تغيير الأحكام الشرعية كقوله {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} [لأعراف: 169].
وقد قيل إن قوله: {ثَمَناً} قرينة الاستعارة في قوله: {وَلا تَشْتَرُوا} ووجهه أنه لما أدخلت الباء على الآيات تعين أن الآيات هي ثمن الاشتراء فلما عبر بعده بلفظ: {ثَمَناً} مفعولا لفعل تشتروا علم السامع أن الأول ليس بثمن حقيقي فعلم أن الاشتراء مجاز ثم هو يعلم أن المعبر عنه بالثمن بعد ذلك أيضا ليس بثمن حقيقي تبعا للعلم بالمجاز في الفعل الناصب له. وقد قيل إن قوله: {ثَمَناً} تجريد وتقريره مثل تقرير كونه قرينة إذا جعلنا القرينة قوله: {بِآيَاتِي} . وقيل هو ترشيح لأن لفظ الثمن من ملائم الشراء وهو قريب مما قدمناه في كونه استعارة لأن الترشيح في نفسه قد يكون استعارة من ملائم المشبه به لملائم

المشبه على الاحتمالات كلها هي تدل على تجهيلهم وتقريعهم. والآيات لا تستبدل ذواتها فتعين تقدير مضاف أي لا تشتروا بقبول آياتي ثمنا.
وإضافة آيات إلى ضمير الجلالة للتشريف قال الشيخ محمد بن عرفة عظم الآيات بشيئين الجمع والإضافة إلى ضمير الجلالة وحقر العوض بتحقيرين التنكير والوصف بالقلة اه أ ي وفي ذلك تعريض بغبن صفقتهم إذ استبدلوا نفيسا بخسيس وأقول وصف {قَلِيلاً} صفة كاشفة لأن الثمن الذي تباع به إضاعة الآيات هو قليل ولو كان أعظم متمول بالنسبة إلى ما أضاعه آخذ ذلك الثمن وعلى هذا المراد ينبغي حمل كلام ابن عرفة.
وقد أجمل العوض الذي استبدلوا به الآيات فلم يبين أهو الرئاسة أو الرشى التي يأخذونها ليشمل ذلك اختلاف أحوالهم فإنهم متفاوتون في المقاصد التي تصدهم عن اتباع الإسلام على حسب اختلاف هممهم.
ووصف {ثَمَناً} بقوله: {قَلِيلاً} ليس المراد به التقييد بحيث يفيد النهي عن أخذ عوض قليل دون أخذ عوض له بال وإنما هو وصف ملازم للثمن المأخوذ عوضا عن استبدال الآيات فإن كل ثمن في جانب ذلك هو قليل فذكر هذا القيد مقصود به تحقير كل ثمن في ذلك فهذا النفي شبيه بنفي القيود الملازمة للمقيد ليفيد نفي القيد والمقيد معا كما في البيت المشهور لامرئ القيس:
على لاحب لا يهتدي بمناره ... إذا سافه العود الديافي جرجرا
أي لا منار له فيهتدي به لأن الاهتداء لازم للمنار، وكذلك قول ابن أحمر:
لا يفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر
أي لا أرنب بها حتى يفزع من أهوالها ولا ضب بها حتى ينجحر، وقول النابغة:
مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
أي عينا لم ترمد حتى تكحل؛ لأن التكحيل لازم للعين الرمداء ومثله كثير في الكلام البليغ.
وقد وقع {ثَمَناً} نكرة في سياق النهي وهو كالنفي فشمل كل عوض، كما وقعت الآيات جمعا مضافا فشملت كل آية، كما وقع الفعل في سياق النفي فشمل كل اشتراء إذ الفعل كالنكرة.

والخطاب وإن كان لبني إسرائيل غير أن خطابات القرآن وقصصه المتعلقة بالأمم الأخرى إنما يقصد منها الاعتبار والاتعاظ فنحن محذورون من مثل ما وقعوا فيه بطريق الأولى لأننا أولى بالكمالات النفسية كما قال بشار:
الحر يلحى والعصا للعبد
وكالبيت السائر:
العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الإشارة
فعلماؤنا منهيون على أن يأتوا بما نهى عنه بنو إسرائيل من الصدف عن الحق لأغراض الدنيا وكذلك كانت سيرة السلف رضي الله عنهم.
ومن هنا فرضت مسألة جعلها المفسرون متعلقة بهاته الآية وإن كان تعلقها بها ضعيفا وهي مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن والدين ويتفرع عنها أخذ الأجرة على تعليم العلم وعلى بعض ما فيه عبادة كالأذان والإمامة. وحاصل القول فيها أن الجمهور من العلماء أجازوا أخذ الأجر على تعليم القرآن فضلا عن الفقه والعلم فقال بجواز ذلك الحسن وعطاء والشعبي وابن سيرين ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والجمهور، وحجتهم في ذلك الحديث الصحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" وعليه فلا محل لهاته الآية على هذا المعنى عندهم بحال؛ لأن المراد بالاشتراء فيها معناه المجازي وليس في التعليم استبدال ولا عدول ولا إضاعة. وقد نقل ابن رشد إجماع أهل المدينة على الجواز ولعله يريد إجماع جمهور فقهائهم. وفي المدونة: لا بأس بالإجازة على تعليم القرآن. ومنع ذلك ابن شهاب من التابعين من فقهاء المدينة وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه وتمسكوا بالآية وبأن التعليم لذلك طاعة وعبادة كالصلاة والصوم فلا يؤخذ عليها كذلك وبما روى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "دراهم المعلمين حرام" وعن عبادة بن الصامت أنه قال: علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إلى رجل منهم قوسا فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها" وأجاب عن ذلك القرطبي بأن الآية محملها فيمن تعين عليه التعليم فأبى إلا بالأجر، ولا دليل على ما أجاب به القرطبي. فالوجه أن ذلك كان في صدر الإسلام وبث الدعوة فلو رخص في الأجر فيه لتعطل تعليم كثير لقلة من ينفق في ذلك لأن أكثرهم لا يستطيعه ومحمل حديث ابن عباس على ما بعد ذلك حين شاع الإسلام وكثر حفاظ القرآن. وأقول لا حاجة إلى هذا كله لأن الآية بعيدة عن هذا الغرض

كما علمت وأجاب القرطبي عن القياس بأن الصلاة والصوم عبادتان قاصرتان وأما التعليم فعبادة متعدية فيجوز أخذ الأجر على ذلك الفعل وهذا فارق مؤثر. وأما حديث أبي هريرة وحديث عبادة ففيهما ضعف من جهة إسناديهما كما بينه القرطبي، قلت ولا أحسب الزهري يستند لمثلهما ولا للآية ولا لذلك القياس ولكنه رآه واجبا فلا تؤخذ عليه أجرة وقد أفتى متأخرو الحنفية بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والفقه قال في الدرر وشرحه ويفتي اليوم بصحتها أي الإجارة لتعليم القرآن والفقه، والأصل أن الإجارة لا تجوز عندنا على الطاعات والمعاصي لكن لما وقع الفتور في الأمور الدينية جوزها المتأخرون اهـ.
ومن فروع هاته المسألة جواز أخذ الأجرة على الأذان والإمامة، قال ابن عبد البر هي مأخوذة من مسألة الأجر على تعليم القرآن وحكمهما واحد، وفي المدونة تجوز الإجارة على الأذان وعلى الأذان والصلاة معا وأما على الصلاة وحدها فكرهه مالك، قال ابن شاس جازت على الأذان لأن المؤذن لا يلزمه الإتيان به أما جمعه مع الصلاة فالأجرة على الأذان فقط، وأجاز ابن عبد الحكم الإجارة على الإمامة ووجهه أنه تكلف الصلاة في ذلك الموضع في ذلك الوقت، وروى أشهب عن مالك لا بأس بالأجر على تراويح رمضان وكرهه في الفريضة قال القرطبي وكرهها أبو حنيفة وأصحابه وفي الدرر ويفتي اليوم بصحتها لتعليم القرآن والفقه والإمامة والأذان ويجبر المستأجر على دفع الأجرة ويحبس، وقال القرافي في الفرق الخامس عشر والمائة ولا يجوز في إمامة الصلاة الإجارة على المشهور من مذهب مالك لأنها عقد مكايسة من المعاوضات فلا يجوز أن يحصل العوضان فيها لشخص واحد لأن أجر الصلاة له فإذا أخذ عنها عوضا اجتمع له العوضان ا ه. وهو تعليل مبني على أصل واه قدمه في الفرق الرابع عشر والمائة على أن في كونه من فروع ذلك الأصل نظرا لا نطيل فيه فانظره فقد نبهتك إليه، فالحق أن الكراهة المنقولة عن مالك كراهة تنزيه. وهذه المسألة كانت قد حدثت بين ابن عرفة والدكالي وهي أنه ورد على تونس في حدود سنة سبعين وسبعمائة رجل زاهد من المغرب اسمه محمد الدكالي فكان لا يصلي مع الجماعة ولا يشهد الجمعة معتلا بأن أئمة تونس يأخذون الأجور على الإمامة وذلك جرحة في فاعله فأنكر عليه الشيخ ابن عرفة وشاع أمره عند العامة وحدث خلاف بين الناس فخرج إلى المشرق فارا بنفسه وبلغ أنه ذهب لمصر فكتب ابن عرفة إلى أهل مصر أبياتا هي:

يا أهل مصر ومن في الدين شاركهم ... تنبهوا لسؤال معضل نزلا
لزوم فسقكم أو فسق من زعمت ... أقواله أنه بالحق قد عملا
في تركه الجمع والجمعات خلفكم ... وشرط إيجاب حكم الكل قد حصلا
إن كان شأنكم التقوى فغيركم ... قد باء بالفسق حتى عنه ما عدلا
وإن يكن عكسه فالأمر منعكس ... قولوا بحق فإن الحق ما اعتزلا
فيقال إن أهل مصر أجابوه بأبيات منها:
ما كان من شيم الأبرار أن يسموا ... بالفسق شيخا على الخيرات قد جبلا
لا لا ولكن إذا ما أبصروا خللا ... كسوه من حسن تأويلاتهم حللا
أليس قد قال في المنهاج صاحبه ... يسوغ ذاك لمن قد يختشي زللا
ومنها:
وقد رويت عن ابن القاسم العتقي ... فيما اختصرت كلاما أوضح السبلا
ما إن ترد شهادة لتاركها ... إن كان بالعلم والتقوى قد احتفلا
نعم وقد كان في الأعلين منزلة ... من جانب الجمع والجمعات واعتزلا
كمالك غير مبد فيه معذرة ... إلى الممات ولم يسأل وما عذلا
هذا وإن الذي أبداه متجها ... أخذ الأئمة أجرا منعه نقلا
وهبك أنك راء حله نظرا ... فما اجتهادك أولى بالصواب ولا
هكذا نسبت هذه الأبيات في بعض كتب التراجم للمغاربة أنها وردت من أهل مصر وقد قيل إنها نظمها بعض أهل تونس انتصارا للدكالي ذكر ذلك الخفاجي في طراز المجالس، وقال إن المجيب هو أبو الحسن علي السلمي التونسي وذكر أن السراج البلقيني ذكر هاته الواقعة في فتاواه وذكر أن والده أجاب في المسألة بأبيات لامية انظرها هناك.
{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}
القول فيه كالقول في {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} إلا أن التعبير في الأول بارهبون وفي الثاني باتقون لأن الرهبة مقدمة التقوى إذ التقوى رهبة معتبر فيها العمل بالمأمورات واجتناب المنهيات بخلاف مطلق الرهبة فإنها اعتقاد وانفعال دون عمل، ولأن الآية المتقدمة تأمرهم بالوفاء بالعهد فناسبها أن يخوفوا من نكثه، وهذه الآية تأمرهم بالإيمان

بالقرآن الذي منعهم منه بقية دهمائهم فناسبها الأمر بأن لا يتقوا إلا الله. وللتقوى معنى شرعي تقدم في قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} وهي بذلك المعنى أخص لا محالة من الرهبة ولا أحسب أن ذلك هو المقصود هنا.
والقول في حذف ياء المتكلم من قوله: {فَاتَّقُونِ} نظير القول فيه من قوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]
معطوف على جميع ما تقدم من قوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: من الآية40] إلى هنا لأن هاته الجمل كلها لم يقصد أن الواحدة منها معطوفة على التي قبلها خاصة بل على جميع ما تقدمها لا سيما قوله: {وَلا تَلْبِسُوا} فإنه مبدأ انتقال من غرض التحذير من الضلال إلى غرض التحذير من الإضلال بعد أن وسط بينهما قوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي} [البقرة: 41] كما تقدم.
وإن شئت أن تجعل كلا معطوفا على الذي قبله فهو معطوف على الذي قبله بعد اعتبار كون ما قبله معطوفا على ما قبله كذلك، وهذا شأن الجمل المتعاطفة إلا إذا أريد عطف جملة على جملة معينة لكون الثانية أعلق بالتي والتها دون البقية وذلك كعطف {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} على {لا تَلْبِسُوا} فإنها متعينة للعطف على {تَلْبِسُوا} لا محالة إن كانت معطوفة وهو الظاهر فإن كلا الأمرين منهي عنه والتغليظ في النهي عن الجمع بينهما واضح بالأولى.
وجوزوا أن يكون وتكتموا الحق منصوبا بأن مضمرة بعد واو المعية ويكون مناط النهي الجمع بين الأمرين وهو بعيد لأن كليهما منهي عنه والتفريق في المنهي يفيد النهي عن الجمع بالأولى بخلاف العكس اللهم إلا أن يقال إنما نهوا عن الأمرين معا على وجه الجمع تعريضا بهم بأنهم لا يرجا منهم أكثر من هذا الترك للبس وهو ترك اللبس المقارن لكتم الحق فإن كونه جريمة في الدين أمر ظاهر. أما ترك اللبس الذي هو بمعنى التحريف في التأويل فلا يرجا منهم تركه إذ لا طماعية في صلاحهم العاجل
و "الحق" الأمر الثابت من حق إذا ثبت ووجب وهو ما تعترف به سائر النفوس بقطع النظر عن شهواتها. والباطل في كلامهم ضد الحق فإنه الأمر الزائل الضائع يقال بطل بطلا وبطولا وبطلانا إذا ذهب ضياعا وخسرا وذهب دمه بطلا أي هدرا. والمراد به هنا ما تتبرأ

منه النفوس وتزيله مادامت خلية عن غرض أو هوى وسمي باطلا لأنه فعل يذهب ضياعا وخسارا على صاحبه.
واللبس خلط بين متشابهات في الصفات يعسر معه التمييز أو يتعذر وهو يتعدى إلى الذي اختلط عليه بعدة حروف مثل على واللام والباء على اختلاف السياق الذي يقتضي معنى بعض تلك الحروف. وقد يعلق به ظرف عند. وقد يجرد عن التعليق بالحرف. ويطلق على اختلاط المعاني وهو الغالب وظاهر كلام الراغب في مفردات القرآن أنه هو المعنى الحقيقي، ويقال في الأمر لبسة بضم اللام أي اشتباه، وفي حديث شق الصدر فخفت أن يكون قد التبس بي أي حصل اختلاط في عقلي بحيث لا يميز بين الرؤية والخيال، وفعله من باب ضرب وأما فعل لبس الثياب فمن باب سمع.
فلبس الحق بالباطل ترويج الباطل في صورة الحق. وهذا اللبس هو مبدأ التضليل والإلحاد في الأمور المشهورة فإن المزاولين لذلك لا يروج عليهم قصد إبطالها فشأن من يريد إبطالها أن يعمد إلى خلط الحق بالباطل حتى يوهم أنه يريد الحق قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام: 137] لأنهم أوهموهم أن ذلك قربة إلى الأصنام. وأكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل، فقد قال الذين ارتدوا من العرب ومنعوا الزكاة أننا كنا نعطي الزكاة للرسول ونطيعه فليس علينا طاعة لأحد بعده وهذا نقض لجامعة الملة في صورة الأنفة من الطاعة لغير الله، وقد قال شاعرهم وهو الخطيل بن أوس:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا ... فيالعباد الله ما لأبي بكر
وقد فعل ذلك الناقمون على عثمان رضي الله عنه فلبسوا بأمور زينوها للعامة كقولهم رقي إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المنبر وذلك استخفاف لأن الخليفتين قبله نزل كل منهما عن الدرجة التي كان يجلس عليها سلفه. وسقط من يده خاتم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك رمز على سقوط خلافته. وقد قالت الخوارج لا حكم إلا لله فقال علي رضي الله عنه كلمة حق أريد بها باطل. وحرف أقوام آيات بالتأويل البعيد ثم سموا ذلك بالباطن وزعموا أن للقرآن ظاهرا وباطنا فكان من ذلك لبس كثير، ثم نشأت عن ذلك نحلة الباطنية. ثم تأويلات المتفلسفين في الشريعة كأصحاب الرسائل الملقبين بإخوان الصفاء. ثم نشأ تلبيس الواعظين والمرغبين والمرجئة فأخذوا بعض الآيات فأشاعوها وكتموا ما يقيدها

ويعارضها نحو قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] فأوهموا الناس أن المغفرة عامة لكل ذنب وكل مذنب ولو لم يتب وأغضوا عن آيات الوعيد وآيات التوبة.
وللتفادي من هذا الوصف الذي ذمه الله تعالى قال علماء أصول الفقه إن التأويل لا يصح إلا إذا دل عليه دليل قوي، أما إذا وقع التأويل لما يظن أنه دليل فهو تأويل باطل فإن وقع بلا دليل أصلا فهو لعب لا تأويل ولهذا نهي الفقهاء عن اقتباس القرآن في غير المعنى الذي جاء له كما قال ابن الرومي:
لئن أخطأت في مدحيك ... ما أخطأت في منعي
لقد أنزلت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حال وهو أبلغ في النهي لأن صدور ذلك من العالم أشد فمفعول {تَعْلَمُونَ} محذوف دل عليه ما تقدم، أي وأنتم تعلمون ذلك أي لبسكم الحق بالباطل. قال الطيبي عند قوله تعالى الآتي: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] إن قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} غير منزل منزلة اللازم لأنه إذا نزل منزلة اللازم دل على أنهم موصوفون بالعلم الذي هو وصف كمال وذلك ينافي قوله الآتي: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} إلى قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]إذ نفي عنهم وصف العقل فكيف يثبت لهم هنا وصف العلم على الإطلاق.
[43] {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}
أمر بالتلبس بشعار الإسلام عقب الأمر باعتقاد عقيدة الإسلام فقوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} [البقرة: 41] الآية راجع إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وما هو وسيلة ذلك وما هو غايته فالوسيلة: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} إلى {فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] والمقصد {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} والغاية {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وقد تخلل ذلك نهي عن مفاسد تصدهم عن المأمورات مناسبات للأوامر. فقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} الخ أمر بأعظم القواعد الإسلامية بعد الإيمان والنطق بكلمة الإسلام، وفيه تعريض بحسن الظن بإجابتهم وامتثالهم للأوامر السالفة وأنهم كملت لهم الأمور المطلوبة. وفي هذا الأمر تعريض بالمنافقين، ذلك أن الإيمان عقد قلبي لا يدل عليه إلا النطق، والنطق اللساني أمر سهل قد يقتحمه من لم يعتقد إذا لم يكن ذا غلو في دينه فلا يتحرج أن ينطق بكلام يخالف

الدين إذا كان غير معتقد مدلوله كما قال تعالى {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] الآية، فلذلك أمروا بالصلاة والزكاة لأن الأولى عمل يدل على تعظيم الخالق والسجود إليه وخلع الآلهة، ومثل هذا الفعل لا يفعله المشرك لأنه يغيظ آلهته بالفعل وبقول الله أكبر ولا يفعله الكتابي لأنه يخالف عبادته. ولأن الزكاة إنفاق المال وهو عزيز على النفس فلا يبذله المرء في غير ما ينفعه إلا عن اعتقاد نفع أخروي لا سيما إذا كان ذلك المال ينفق على العدو في الدين، فلذلك عقب الأمر بالإيمان بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنهما لا يتجشمهما إلا مؤمن صادق. ولذلك جاء في المنافقين {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] وقوله { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5,4] وفي الصحيح أن صلاة العشاء أثقل صلاة على المنافقين.
وفي هذه الآية دليل لمالك على قتل من يمتنع من أداء الصلاة مع تحقق أنه لم يؤدها من أول وقت صلاة من الصلوات إلى خروجه إذا كان وقتا متفقا بين علماء الإسلام، لأنه جعل ذلك الامتناع مع عدم العذر دليلا على انتفاء إيمانه، لكنه لما كان مصرحا بالإيمان، قال مالك إنه يقتل حدا جمعا بين الأدلة ومنعا لذريعة خرم الملة. ويوشك أن يكون هذا دليلا لمن قالوا بأن تارك الصلاة كافر لولا الأدلة المعارضة. وفيها دليل لما فعل أبو بكر رضي الله عنه من قتال مانعي الزكاة وإطلاق اسم المرتدين عليهم؛ لآن الله جعل الصلاة والزكاة أمارة صدق الإيمان إذ قال لبني إسرائيل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ولهذا قال أبو بكر لما راجعه عمر في عزمه على قتال أهل الردة حين منعوا إعطاء الزكاة وقال له :كيف تقاتلهم وقد قالوا لا إله إلا الله وقد قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحقها فقال أبو بكر لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، فحصل من عبارته على إيجازها جواب عن دليل عمر.
وقوله {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} تأكيد لمعنى الصلاة لأن لليهود صلاة لا ركوع فيها فلكي لا يقولوا إننا نقيم صلاتنا دفع هذا التوهم بقوله {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}
والركوع طأطأة وانحناء الظهر لقصد التعظيم أو التبجيل. وقد كانت العرب تفعله لبعض كبرائهم. قال الأعشي:
إذا ما أتانا أبو مالك ... ركعنا له وخلعنا العمامة

وروى سجدنا له وخلعنا العمارا، والعمار هو العمامة.
وقوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} إيماء إلى وجوب ممثالة المسلمين في أداء شعائر الإسلام المفروضة فالمراد بالراكعين المسلمون وفيه إشارة إلى الإتيان بالصلاة بأركانها وشرائطها.
[44] {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]
اعتراض بين قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] وقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] ووجه المناسبة في وقوعه هنا أنه لما أمرهم بفعل شعائر الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وذيل ذلك بقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} ليشير إلى صلاتهم التي يفعلونها، أصبحت لا تغني عنهم، ناسب أن يزاد لذلك أن ما يأمر به دينهم من البر ليسوا قائمين به على ما ينبغي، فجيء بهذا الاعتراض، وللتنبيه على كونه اعتراضا لم يقرن بالواو لئلا يتوهم أن المقصود الأصلي التحريض على الأمر بالبر وعلى ملازمته، والغرض من هذا هو النداء على كمال خسارهم ومبلغ سوء حالهم الذي صاروا إليه حتى صاروا يقومون بالوعظ والتعليم كما يقوم الصانع بصناعته والتاجر بتجارته لا يقصدون إلا إيفاء وظائفهم الدينية حقها ليستحقوا بذلك ما يعوضون عليه من مراتب ورواتب فهم لا ينظرون إلى حال أنفسهم تجاه تلك الأوامر التي يأمرون بها الناس.
والمخاطب بقوله: {أَتَأْمُرُونَ} جميع بني إسرائيل الذين خوطبوا من قبل فيقتضي أن هذه الحالة ثابتة لجميعهم أي أن كل واحد منهم تجده يصرح بأوامر دينهم ويشيعها بين الناس ولا يمتثلها هو في نفسه، ويجوز أن يكون المقصود بهذا الخطاب فريقا منهم فإن الخطاب الموجه للجماعات والقبائل يأخذ كل فريق ما هو حظه من ذلك الخطاب، فيكون المقصود أحبارهم وعلماءهم وهم أخص بالأمر بالبر، فعلى الوجه الأول يكون المراد بالناس إما المشركين من العرب فإن اليهود كانوا يذكرون لهم ما جاء به دينهم والعرب كانوا يحلفون بسماع أقوالهم كما قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] وإما أن يكون المراد من الناس من عد الآمر كما تقول أفعل كما يفعل الناس وكقوله {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] أي أيأمر الواحد غيره وينسى نفسه، وعلى الوجه الثاني يكون المراد بالناس العامة من أمة اليهود أي كيف تأمرون أتباعكم وعامتكم بالبر وتنسون أنفسكم? ففيه تنديد بحال أحبارهم أو تعريض بأنهم

يعلمون أن ما جاء به رسول الإسلام هو الحق فهم يأمرون أتباعهم بالمواعظ ولا يطلبون نجاة أنفسهم.
والاستفهام هنا للتوبيخ لعدم استقامة الحمل على الاستفهام الحقيقي فاستعمل في التوبيخ مجازا بقرينة المقام وهو مجاز مرسل لأن التوبيخ يلازم الاستفهام لأن من يأتي ما يستحق التوبيخ عليه من شأنه أن يتساءل الناس عن ثبوت الفعل له ويتوجهون إليه بالسؤال فينتقل من السؤال إلى التوبيخ ويتولد منه معنى التعجيب من حال الموبخ وذلك لأن الحالة التي وبخوا عليها حالة عجيبة لما فيها من إرادة الخير للغير وإهمال النفس منه فحقيق بكل سامع أن يعجب منها، وليس التعجب بلازم لمعنى التوبيخ في كل موضع بل في نحو هذا مما كان فيه الموبخ عليه غريبا غير مألوف من العقلاء فإذا استعمل الاستفهام في لازم واحد فكونه مجازا مرسلا ظاهر وإذا استعمل في لازمين يتولد أحدهما من الآخر أو متقاربين فهو أيضا مجاز مرسل واحد لأن تعدد اللوازم لا يوجب تعدد العلاقة ولا تكرر الاستعمال لأن المعاني المجازية مستفادة من العلاقة لا من الوضع فتعدد المجازات للفظ واحد أوسع من استعمال المشترك وأياما كان فهو مجاز مرسل على ما اختاره السيد في حاشية المطول في باب الإنشاء علاقته اللزوم وقد تردد في تعيين علاقته التفتزاني وقال إنه مما لم يحم أحد حوله.
والبر بكسر الباء الخير في الأعمال في أمور الدنيا وأمور الآخرة والمعاملة، وفعله في الغالب من باب علم إلا البر في اليمن فقد جاء من باب علم وباب ضرب، ومن الأقوال المأثورة البر ثلاثة :بر في عبادة الله وبر في مراعاة الأقارب وبر في معاملة الأجانب، وذلك تبع للوفاء بسعة الإحسان في حقوق هذه الجوانب الثلاثة.
والنسيان ذهاب الأمر المعلوم من حافظة الإنسان لضعف الذهن أو الغفلة ويرادفه السهو وقيل السهو الغفلة اليسيرة بحيث ينتبه بأقل تنبيه، والنسيان زواله بالكلية وبعض أهل اللغة فسر النسيان بمطلق الترك وجعله صاحب الأساس مجازا وهو التحقيق وهو كثير في القرآن.والنسيان هنا مستعار للترك عن عمد أو عن التهاون بما يذكر المرء في البر على نحو ما.
قيل في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] أي وتتركون أنفسكم من ذلك أي من أمرها بالبر أو وتنسون أن تأمروا أنفسكم بالبر وفي هذا التقدير يبقى النسيان على حقيقته لأنهم لما طال عليهم الأمد في التهاون بالتخلق بأمور الدين والاجتراء على تأويل الوحي بما يمليه عليهم الهوى بغير هدى صاروا ينسون أنهم متلبسون

بمثل ما ينهون عنه فإذا تصدوا إلى مواعظ قومهم أو الخطابة فيهم أو أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر كانوا ينهونهم عن مذام قد تلبسوا بأمثالها إلا أن التعود بها أنساهم إياها فأنساهم أمر أنفسهم بالبر لنسيان سببه وقد يرى الإنسان عيب غيره لأنه يشاهده ولا يرى عيب نفسه لأنه لا يشاهده ولأن العادة تنسيه حاله. ودواء هذا النسيان هو محاسبة النفس فيكون البر راجعا إلى جميع ما تضمنته الأوامر السابقة من التفاصيل فهم قد أمروا غيرهم بتفاصيلها ونسوا أنفسهم عند سماعها وذلك يشمل التصديق بدين الإسلام لأنه من جملة ما تضمنته التوراة التي كانوا يأمرون الناس بما فيها.
وجملة {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} يجوز أن تكون حالا من ضمير {تَأْمُرُونَ} ويكون محل التوبيخ والتعجب هو أمر الناس بالبر بقيد كونه في حال نسيان ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على {تَأْمُرُونَ} وتكون هي المقصودة من التوبيخ والتعجيب ويجعل قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ} تمهيدا لها على معنى أن محل الفظاعة الموجبة للنهي هي مجموع الأمرين.
وبهذا تعلم أنه لا يتوهم قصد النهي عن مضمون كلا الجملتين إذ القصد هو التوبيخ على اتصاف بحالة فظيعة ليست من شيم الناصحين لا قصد تحريم فلا تقع في حيرة من تحير في وجه النهي عن ذلك ولا في وهم فقال إن الآية دالة على أن العاصي لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر كما نقل عنهم الفخر في التفسير فإنه ليس المقصود نهي ولا تحريم وإنما المقصود تفظيع الحالة ويدل لذلك أنه قال في تذييلها {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] ولم يقل أفلا تتقون أو نحوه.
والأنفس جمع نفس، بسكون الفاء وهي مجموع ذات الإنسان من الهيكل والروح كما هنا وباعتبار هذا التركيب الذي في الذات اتسع إطلاق النفس في كلام العرب تارة على جميع الذات كما في التوكيد نحو جاء فلان نفسه وقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وقوله: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] وتارة على البعض كقول القائل أنكرت نفسي وقوله: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} وعلى الإحساس الباطني كقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] أي ضميري. وتطلق على الروح الذي به الإدراك {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] وسيأتي لهذا زيادة إيضاح عند قوله تعالى {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} في سورة النحل[111].
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} جملة حالية قيد بها التوبيخ والتعجيب. لأن نسيان أنفسهم يكون أغرب وأفظع إذا كان معهم أمران يقلعانه، وهما أمر الناس بالبر، فإن شأن الأمر بالبر أن يذكر الآمر حاجة نفسه إليه إذا قدر أنه في غفلة عن نفسه، وتلاوة الكتاب

أي التوراة يمرون فيها على الأوامر والنواهي من شأنه أن تذكرهم مخالفة حالهم لما يتلونه.
وقوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} استفهام عن انتفاء تعقلهم استفهاما مستعملا في الإنكار والتوبيخ نزلوا منزلة من انتفى تعقله فأنكر عليهم ذلك، ووجه المشابهة بين حالهم وحال من لا يعقلون أن من يستمر به التغفل عن نفسه وإهمال التفكر في صلاحها مع مصاحبة شيئين يذكرانه، قارب أن يكون منفيا عنه التعقل.
وفعل {تَعْقِلُونَ} منزل منزلة اللازم أو هو لازم وفي هذا نداء على كمال غفلتهم واضطراب حالهم. وكون هذا أمرا قبيحا فظيعا من أحوال البشر مما لا يشك فيه عاقل.
[45,46] {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46]
خطاب لبني إسرائيل بالإرشاد إلى ما يعينهم على التخلق بجميع ما عدد لهم من الأوامر والنواهي الراجعة إلى التحلي بالمحامد والتخلي عن المذمات، له أحسن وقع من البلاغة فإنهم لما خوطبوا بالترغيب والترهيب والتنزيه والتشويه ظن بهم أنهم لم يبق في نفوسهم مسلك للشيطان ولا مجال للخذلان وأنهم أنشأوا يتحفزون للامتثال والائتساء إلا أن ذلك الإلف القديم، يثقل أرجلهم في الخطو إلى هذا الطريق القويم، فوصف لهم الدواء الذي به الصلاح وريش بقادمتي الصبر والصلاة منهم الجناح.
فالأمر بالاستعانة بالصبر لأن الصبر ملاك الهدى فإن مما يصد الأمم عن اتباع دين قويم إلفهم بأحوالهم القديمة وضعف النفوس عن تحمل مفارقتها فإذا تدرعوا بالصبر سهل عليهم اتباع الحق. وأما الاستعانة بالصلاة فالمراد تأكيد الأمر بها الذي في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وهذا إظهار لحسن الظن بهم وهو طريق بديع من طرق الترغيب. ومن المفسرين من زعم أن الخطاب في قوله: {وَاسْتَعِينُوا} إلخ للمسلمين على وجه الانتقال من خطاب إلى خطاب آخر، وهذا وهم لأن وجود حرف العطف ينادي على خلاف ذلك ولأن قوله: {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} مراد به "إلا على المؤمنين" حسبما بينه قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} الآية اللهم إلا أن يكون من الإظهار في مقام الإضمار

وهو خلاف الظاهر مع عدم وجود الداعي. والذي غرهم بهذا التفسير توهم أنه لا يؤمر بأن يستعين بالصلاة من لم يكن قد آمن بعد وأي عجب في هذا? وقريب منه آنفا قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]
خطابا لبني إسرائيل لا محالة. والصبر عرفه الغزالي في إحياء علوم الدين بأنه ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة وهو تعريف خاص بالصبر الشرعي صالح لن يكون تفسيرا للآية لأنها في ذكر الصبر الشرعي، وأما الصبر من حيث هو الذي هو وصف كمال فهو عبارة عن احتمال النفس أمرا لا يلائمها إما لأن مآله ملائم، أو لأن عليه جزاء عظيما فأشبه ما مآله ملائم، أو لعدم القدرة على الانتقال عنه إلى غيره مع تجنب الجزع والضجر فالصبر احتمال وثبات على ما لا يلائم، وأقل أنواعه ما كان عن عدم المقدرة ولذا ورد في الصحيح: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" أي الصبر الكامل هو الذي يقع قبل العلم بأن التفصي عن ذلك الأمر غير ممكن وإلا فإن الصبر عند اعتقاد عدم إمكان التفصي إذا لم يصدر منه ضجر وجزع هو صبر حقيقة فصيغة الحصر في قوله إنما الصبر حصر ادعائي للكمال كما في قولهم أنت الرجل.
والصلاة أريد بها هنا معناها الشرعي في الإسلام وهي مجموع محامد لله تعالى قولا وعملا واعتقادا فلا جرم كانت الاستعانة المأمور بها هنا راجعة لأمرين الصبر والشكر وقد قيل إن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر كما في الإحياء وهو قول حسن، ومعظم الفضائل ملاكها الصبر إذ الفضائل تنبعث عن مكارم الخلال، والمكارم راجعة إلى قوة الإرادة وكبح زمام النفس عن الإسامة في شهواتها بإرجاع القوتين الشهوية والغضبية عما لا يفيد كمالا أو عما يورث نقصانا فكان الصبر ملاك الفضائل فما التحلم والتكرم والتعلم والتقوى والشجاعة والعدل والعمل في الأرض ونحوها إلا من ضروب الصبر. ومما يؤثر عن علي رضي الله عنه: الشجاعة صبر ساعة.
وقال زفر بن الحارث الكلابي يعتذر عن انهزام قومه:
سقيناهم كاسا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
وحسبك بمزية الصبر أن الله جعله مكمل سبب الفوز في قوله تعالى {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3,1]
وقال هنا {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} . قال الغزالي: ذكر الله

الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعا وأضاف أكثر الخيرات والدرجات إلى الصبر وجعلها ثمرة له، فقال عز من قائل {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24]. وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [لأعراف: 137] وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] اه.
وأنت إذا تأملت وجدت أصل التدين والإيمان من ضروب الصبر فإن فيه مخالفة النفس هواها ومألوفها في التصديق بما هو مغيب عن الحس الذي اعتادته، وبوجوب طاعتها واحدا من جنسها لا تراه يفوقها في الخلقة وفي مخالفة عادة آبائها وأقوامها من الديانات السابقة. فإذا صار الصبر خلقا لصاحبه هون عليه مخالفة ذلك كله لأجل الحق والبرهان فظهر وجه الأمر بالاستعانة على الإيمان وما يتفرع عنه بالصبر فإنه خلق يفتح أبواب النفوس لقبول ما أمروا به من ذلك.
وأما الاستعانة بالصلاة فلأن الصلاة شكر والشكر يذكر بالنعمة فيبعث على امتثال المنعم على أن في الصلاة صبرا من جهات في مخالفة حال المرء المعتادة ولزومه حالة في وقت معين لا يسوغ له التخلف عنها ولا الخروج منها على أن في الصلاة سرا إلهيا لعله ناشئ عن تجلي الرضوان الرباني على المصلي فلذلك نجد للصلاة سرا عظيما في تجلية الأحزان وكشف غم النفس وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه بزاي وباء موحدة أي نزل به أمر فزع إلى الصلاة وهذا أمر يجده من راقبه من المصلين وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] لأنها تجمع ضروبا من العبادات.
وأما كون الشكر من حيث هو معينا على الخير فهو من مقتضيات قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [ابراهيم: 7]. وقوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} اختلف المفسرون في معاد ضمير {إِنَّهَا} فقيل عائد إلى الصلاة والمعنى: إن الصلاة تصعب على النفوس لأنها سجن للنفس وقيل الضمير للاستعانة بالصبر والصلاة المأخوذة من: {اسْتَعِينُوا} على حد {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. وقيل راجع إلى المأمورات المتقدمة من قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} [البقرة: 40] إلى قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] وهذا الأخير مما جوزه صاحب الكشاف ولعله من مبتكراته وهذا أوضح الأقوال وأجمعها والمحامل مرادة.
والمراد بالكبيرة هنا الصعبة التي تشق على النفوس، وإطلاق الكبر على الأمر

الصعب والشاق مجاز مشهور في كلام العرب لأن المشقة من لوازم الأمر الكبير في حمله أو تحصيله قال تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] وقال: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35] الآية. وقال: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]
وقوله: {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] أي الذين اتصفوا بالخشوع، والخشوع لغة هو الانزواء والانخفاض قال النابغة:
ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
أي زال ارتفاع جوانبه. والتذلل خشوع، قال جعفر بن عبلة الحارثي:
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ... لشيء ولا أني من الموت أفرق
وهو مجاز في خشوع النفس وهو سكون وانقباض عن التوجه إلى الإباية أو العصيان.
والمراد بالخاشع هنا الذي ذلل نفسه وكسر سورتها وعودها أن تطمئن إلى أمر الله وتطلب حسن العواقب وأن لا تغتر بما تزينه الشهوة الحاضرة فهذا الذي كانت تلك صفته قد استعدت نفسه لقبول الخير. وكأن المراد بالخاشعين هنا الخائفون الناظرون في العواقب فتخف عليهم الاستعانة بالصبر والصلاة مع ما في الصبر من القمع للنفس وما في الصلاة من التزام أوقات معينة وطهارة في أوقات قد يكون للعبد فيها اشتغال بما يهوي أو بما يحصل منه مالا أو لذة. وقريب منه قول كثير:
فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
وأحسب أن مشروعية أحكام كثيرة قصد الشارع منها هذا المعنى وأعظمها الصوم.
ولا يصح حمل الخشوع هنا على خصوص الخشوع في الصلاة بسبب الحال الحاصل في النفس باستشعار العبد الوقوف بين يدي الله تعالى حسبما شرحه ابن رشد في أول مسألة من كتاب الصلاة الأول من البيان والتحصيل وهو المعنى المشار إليه بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2,1]
فإن ذلك كله من صفات الصلاة وكمال المصلي فلا يصح كونه هو المخفف لكلفة الصلاة على المستعين بالصلاة كما لا يخفي.
وقد وصف تعالى الخاشعين بأنهم الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون

وهي صلة لها مزيد اتصال بمعنى الخشوع ففيها معنى التفسير للخاشعين ومعنى بيان منشأ خشوعهم، فدل على أن المراد من الظن هنا الاعتقاد الجازم وإطلاق الظن في كلام العرب على معنى اليقين كثير جدا، قال أوس بن حجر يصف صيادا رمى حمار وحش بسهم1:
فأرسله مستقين الظن أنه ... مخالط ما بين الشرا سيف جائف
وقال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم بالفارسي المسرج
فهو مشترك بين الاعتقاد الجازم وبين الاعتقاد الراجح
والملاقاة والرجوع هنا مجازان عن الحساب والحشر أو عن الرؤية والثواب؛ لأن حقيقة اللقاء وهو تقارب الجسمين، وحقيقة الرجوع وهو الانتهاء إلى مكان خرج منه المنتهي مستحيلة هنا. والمقصود من قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} إلخ التعريض بالثناء على المسلمين، وتحريض بني إسرائيل على التهمم بالاقتداء بالمؤمنين وعلى جعل الخطاب في قوله {وَاسْتَعِينُوا} للمسلمين يكون قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} تعريضا بغيرهم من اليهود والمنافقين.
والملاقاة مفاعلة من لقي، واللقاء الحضور كما تقدم في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: من الآية37] والمراد هنا الحضور بين يدي الله للحساب أي الذين يؤمنون بالبعث، وسيأتي تفصيل لها عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة: من الآية223] في هذه السورة، وفي سورة الأنعام عند قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ}
ـــــــ
1 أوس بن حجر – بحاء مهملة وجيم مفتوحتين, ويغلط من يضم حاءه ويسكن جيمه – وهو من فحول شعراء بني تميم في الجاهلية وكان فحل مضر قبل النابغة وزهير, فلما نبغ زهير والنابغة أخملاه.وهذا البيت من قصيدة أولها:
تنكر بعدي من أميمة صائف ... فبرك فأعلى تولب فالمخالف
وصائف وبرك وتولب والمخالف أسماء بقاع, وقد ذكر في أثنائها وصف الصياد لحمار الوحش
فقال:
فأمهله حتى إذا أن كأنه ... معاطي يد من جمة الماء غارف
فسير سهاما راشه بمناكب ... لؤام ظهار فهو أعجف شائف

[47] {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]
أعيد خطاب بني إسرائيل بطريق النداء مماثلا لما وقع في خطابهم الأول لقصد التكرير للاهتمام بهذا الخطاب وما يترتب عليه، فإن الخطاب الأول قصد منه تذكيرهم بنعم الله تعالى ليكون ذلك التذكير داعية لامتثال ما يرد إليهم من الله من أمر ونهي على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، غير أنه لما كان الغرض المقصود من ذلك هو الامتثال كان حق البلاغة أن يفضي البليغ إلى المقصود ولا يطيل في المقدمة، وإنما يلم بها إلماما ويشير إليها إجمالا تنبيها بالمبادرة إلى المقصود على شدة الاهتمام به ولم يزل الخطباء والبلغاء يعدون مثل ذلك من نباهة الخطيب ويذكرونه في مناقب وزير الأندلس محمد بن الخطيب السلماني إذ قال عند سفارته عن ملك غرناطة إلى ملك المغرب ابن عنان أبياته المشهورة التي ارتجلها عند الدخول عليه طالعها:
خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدجا قمر
ثم قال:
والناس طرا بأرض أندلس ... لولاك ما وطنوا ولا عمروا
وقد أهمتهم نفوسهم ... فوجهوني إليك وانتظروا
فقال له أبو عنان: ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم وأذن له في الجلوس فسلم عليه. قال القاضي أبو القاسم الشريف1 وكان من جملة الوفد لم نسمع بسفير قضي سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا.
فكان الإجمال في المقدمة قضاء لحق صدارتها بالتقديم وكان الإفضاء إلى المقصود قضاء لحقه في العناية، والرجوع إلى تفصيل النعم قضاء لحقها من التعداد فإن ذكر النعم تمجيد للمنعم وتكريم للمنعم عليه وعظة له ولمن يبلغهم خبر ذلك تبعث على الشكر. فللتكرير هنا نكتة جمع الكلامين بعد تفريقهما ونكتة التعداد لما فيه إجمال معنى النعمة.
والنعمة هنا مراد بها جميع النعم لأنه حنس مضاف فله حكم الجمع كما في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}
ـــــــ
1 هو أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسيني السيتي ثم الغرناطي قاضي غرناطة المتوفى سنة 760هـ وله الشرح المشهور على مقصورة حازم القرطاجني.

وقوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} عطف على {نِعْمَتِيَ} أي واذكروا تفضيلي إياكم على العالمين وهذا التفضيل نعمة خاصة فعطفه على نعمتي عطف خاص على عام وهو مبدأ لتفصيل النعم وتعدادها وربما كان تعداد النعم مغنيا عن الأمر بالطاعة والامتثال لأن من طبع النفوس الكريمة امتثال أمر المنعم لأن النعمة تورث المحبة. وقال منصور الوراق:
تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وهذا التذكير مقصود به الحث على الاتسام بما يناسب تلك النعمة ويستبقي ذلك الفضل.
ومعنى العالمين تقدم عند قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] والمراد به هنا صنف من المخلوقات ولا شك أن المخلوقات تصنف أصنافا متنوعة على حسب تصنيف المتكلم أو السامع، فالعالمون في مقام ذكر الخلق هم أصناف المخلوقات كالإنس والدواب والطير والحوت. والعالمون في مقام ذكر فضائل الخلق أو الأمم أو القبائل يراد بها أصناف تلك المتحدث عنها فلا جرم أن يكون المراد من العالمين هنا هم الأمم الإنسانية فيعم جميع الأمم لأنه جمع معرف باللام ولكن عمومه هنا عرفي يختص بأمم زمانهم كما يختص نحو جمع الأمير الصاغة بصاغة مكانه أي بلده ويختص أيضا بالأمم المعروفة كما يختص جمع الأمير الصاغة بالصاغة المتخذين الصياغة صناعة دون كل من يعرف الصياغة وذلك كقولك هو أشهر العلماء وأنجب التلامذة، فالآية تشير إلى تفضيل بني إسرائيل المخاطبين أو سلفهم على أمم عصرهم لا على بعض الجماعات الذين كانوا على دين كامل مثل نصارى نجران، فلا علاقة له بمسألة تفضيل الأنبياء على الملائكة بحال ولا التفات إلى ما يشذ في كل أمة أو قبيلة من الأفراد فلا يلزم تفضيل كل فرد من بني إسرائيل على أفراد من الأمم بلغوا مرتبة صالحة أو نبوءة لأن التفضيل في مثل هذا يراد به تفضيل المجموع، كما تقول قريش أفضل من طيء وإن كانت في طيء حاتم الجواد. فكذلك تفضيل بني إسرائيل على جميع أمم عصرهم وفي تلك الأمم أمم عظيمة كالعرب والفرس والروم والهند والصين وفيهم العلماء والحكماء ودعاة الأصلاح والأنبياء لأنه تفضيل المجموع على المجموع في جميع العصور ومعنى هذا التفضيل أن الله قد

جمع لهم من المحامد التي تتصف بها القبائل والأمم ما لم يجمعه لغيرهم وهي :شرف النسب. وكمال الخلق. وسلامة العقيدة. وسعة الشريعة. والحرية. والشجاعة. وعناية الله تعالى بهم في سائر أحوالهم. وقد أشارت إلى هذا آية {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20]
وهذه الأوصاف ثبتت لأسلافهم في وقت اجتماعها وقد شاع أن الفضائل تعود على الخلف بحسن السمعة وإن كان المخاطبون يومئذ لم يكونوا بحال التفضيل على العالمين ولكنهم ذكروا بما كانوا عليه فأن فضائل الأمم لا يلاحظ فيها الأفراد ولا العصور. ووجه زيادة الوصف بقوله {التي أنعمت عليكم} مر في أختها الأولى.
[48] {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:48]
عطف التحذير على التذكير فإنه لما ذكرهم بالنعمة وخاصة تفضيلهم على العالمين في زمانهم وكان ذلك منشأ غرورهم بأنه تفضيل ذاتي فتوهموا أن التقصير في العمل الصالح لا يضرهم فعقب بالتحذير من ذلك.
والمراد بالتقوى هنا معناها المتعارف في اللغة لا المعنى الشرعي، وانتصاب {يوماً} على المفعولية به وليس على الظرفية ولذلك لم يقرأ بغير التنوين.
والمراد باتقائه اتقاؤه من حيث ما يحدث فيه من الأهوال والعذاب فهو من إطلاق اسم الزمان على ما يقع فيه كما تقول مكان مخوف.
و {تُجْزى} مضارع جزى بمعنى قضى حقا عن غيره وهو متعد بعن إلى أحد مفعوليه فيكون {شَيْئاً} مفعوله الأول، ويجوز أيضا أن يكون مفعولا مطلقا إذا أريد شيئا من الجزاء ويكون المفعول محذوفا.
وجملة {لا تَجْزِي نَفْسٌ} صفة ليوما وكان حق الجملة إذا كانت خبرا أو صفة أو حالا أو صلة أن تشتمل على ضمير ما أجريت عليه، ويكثر حذفه إذا كان منصوبا أو ضميرا مجرورا فيحذف مع جاره ولا سيما إذا كان الجار معلوما لكون متعلقه الذي في الجملة لا يتعدى إلا بجار معين كما هنا تقديره فيه وإنما جاز حذفه لأن المحذوف فيه متعين من الكلام وقد يحذف لقرينة كما في حذف ضمير الموصول إذا جر بما جربه الموصول. ونظير هذا الحذف قول العريان الجرمي من جرم طيء:

فقلت لها لا والذي حج حاتم ... أخونك عهدا إنني غير خوان
تقديره حج حاتم إليه.
وتنكير النفس في الموضعين وهو في حيز النفي يفيد عموم النفوس أي لا يعني أحد كائنا من كان فلا تغنى عن الكفار آلهتهم ولا صلحاؤهم على اختلاف عقائدهم في غناء أولئك عنهم. فالمقصود نفي غنائهم عنهم بأن يحولوا بينهم وبين عقاب الله تعالى، أي نفي أن يجزوا عنهم جزاء يمنع الله عن نوالهم بسوء رعيا لأوليائهم. فالمراد هنا الغناء بحرمة الشخص وتوقع غضبه وهو غناء كفء العدو الذي يخافه العدو على ما هو معروف عند الأمم يومئذ من اتقائهم بطش مولى أعدائهم وإحجامهم عما يوجب غضبه تقية من مكره أو ضره أو حرمان نفعه قال السمؤال:
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وقال العنبري:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو الشقيقة من ذهل بن شيبان
وبهذا يتبين أن مفاد قوله لا تجزى نفس عن نفس شيئا مغاير لمفاد ما ذكر بعده بقوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} الخ فقوله: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} هو بمعنى قوله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]
وقوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} الضميران عائدان للنفس الثانية المجرورة بعن أي لا يقبل من نفس شفاعة تأتي بها ولا عدل تعتاض به لأن المقصود الأصلي إبطال عقيدة تنصل المجرم من عقاب الله ما لم يشأ الله؛ ليكون الضمير في قوله: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} راجعا إلى مرجع الضميرين من قبله. وهذا التأييس يستتبع تحقير من توهمهم الكفرة شفعاء وإبطال ما زعموه مغنيا عنهم من غضب الله من قرابين قربوها ومجادلات أعدوها وقالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]. {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111]
ومن المفسرين من فسر قوله: {لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } بما يعم الإجزاء فجعل ما هو مذكور بعده من عطف الخاص على العام ولذلك قال الشيخ ابن عطية حصرت هذه الآية المعاني التي اعتاد بها بنو آدم في الدنيا فإن الواقع في شدة لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو يفتدى أو ينصر اه وألغى جمعها لحالة أن يتجنب الناس إيقاعه في

شدة اتقاء لمواليه، وما فسرنا به أرشق. وقد جمع كلام شيوخ بني أسد مع امرئ القيس حين كلموه في دم أبيه فقالوا :فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث :أما إن اخترت من بني أسد أشرفها بيتا فقدناه إليك بنسعه تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته. أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها فهي ألوف. وإما وادعتنا إلى أن تضع الحوامل فتسدل الأزر وتعقد الخمر فوق الرايات اه.
وقرأ الجمهور "ولا يقبل" بياء تحتية ياء المضارع المسند إلى مذكر لمناسبة قوله بعده: {ولا يؤخذ منه عدل} ، ويجوز في كل مؤنث اللفظ غير حقيقي التأنيث أن يعامل معاملة المذكر لأن صيغة التذكير هي الأصل في الكلام فلا تحتاج إلى سبب، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بمثناة فوقية رعيا لتأنيث لفظ شفاعة.
والشفاعة :السعي والوساطة في حصول نفع أو دفع ضر سواء كانت الوساطة بطلب من المنتفع بها أم كانت بمجرد سعي المتوسط ويقال لطالب الشفاعة مستشفع. وهي مشتقة من الشفع لأن الطالب أو التائب يأتي وحده فإذا لم يجد قبولا ذهب فأتى بمن يتوسل به فصار ذلك الثاني شافعا للأول أي مصيره شفعا.
والعدل بفتح العين العوض والفداء، سمي بالمصدر لأن الفادي يعدل المفدي بمثله في القيمة أو العين ويسويه به، يقال عدل كذا بكذا أي سواه به.
والنصر هو إعانة الخصم في الحرب وغيره بقوة الناصر وغلبته. وإنما قدم المسند إليه لزيادة التأكيد المفيد أن انتفاء نصرهم محقق زيادة على ما استفيد من نفي الفعل مع إسناده للمجهول كما أشرنا إليه آنفا.
وقد كانت اليهود تتوهم أو تعتقد أن نسبتهم إلى الأنبياء وكرامة أجدادهم عند الله تعالى مما يجعلهم في أمن من عقابه على العصيان والتمرد كما هو شأن الأمم في إبان جهالتها وانحطاطها وقد أشار قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: من الآية18].
وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية للاحتجاج لقولهم بنفي الشفاعة في أهل الكبائر يوم القيامة لعموم نفس في سياق النفي المقتضي أن كل نفس لا يقبل منها الشفاعة وهو عموم لم يرد ما يخصصه عندهم. والمسألة فيها خلاف بين المعتزلة وأصحاب الأشعري.
واتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة يوم القيامة للطائعين والتائبين لرفع الدرجات

ولم يختلف في ذلك الأشاعرة والمعتزلة فهذا اتفاق على تخصيص العموم ابتداء. والخلاف في الشفاعة لأهل الكبائر فعندنا تقع الشفاعة لهم في حظ السيئات وقت الحساب أو بعد دخول جهنم لما اشتهر من الأحاديث الصحيحة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "لكل نبي دعوة مستجابة وقد ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي" وغير ذلك. قال القاضي أبو بكر الباقلاني: إن الأحاديث في ذلك بلغت مبلغ التواتر المعنوي كما أشار إليه القرطبي في نقل كلامه.
وعند المعتزلة لا شفاعة لأهل الكبائر لوجوه منها الآيات الدالة على عدم نفع الشفاعة كهاته الآية. وقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254] {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ} [غافر: 18] قالوا والمعصية ظلم. ومنها قوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الانبياء: 28] وصاحب الكبيرة ليس بمرتضى. ومنها قوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر: 7].
والجواب عن الجميع أن محل ذلك كله في الكافرين جمعا بين الأدلة وأن قوله {لمن ارتضى} يدل على أن هنالك إذنا في الشفاعة كما قال: {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] وإلا لكان الإسلام مع ارتكاب بعض المعاصي مساويا للكفر وهذا لا ترضى به حكمة الله وأما قوله: {فاغفر للذين تابوا} فدعاء لاشفاعة.
والظاهر أن الذي دعا المعتزلة إلى إنكار الشفاعة منافاتها لخلود صاحب الكبيرة في العذاب الذي هو مذهب جمهورهم الذين فسروا قول وأصل بن عطاء بالمنزلة بين المنزلتين بمعنى إعطاء العاصي حكم المسلم في الدنيا وحكم الكافر في الآخرة ولا شك أن الشفاعة تنافي هذا الأصل فما تمسكوا به من الآيات إنما هو لقصد التأبيد ومقابلة أدلة أهل السنة بأمثالها. ولم نر جوابهم عن حديث الشفاعة وأحسب أنهم يجيبون عنه بأن أخبار الآحاد لا تنقض أصول الدين ولذلك احتاج الأقاضي أبو بكر إلى الاستدلال بالتواتر المعنوي.
والحق أن المسألة أعلق بالفروع منها بالأصول لأنها لا تتعلق بذات الله ولا بصفاته ولو جاريناهم في القول بوجوب إثابة المطيع وتعذيب العاصي، فإن الحكمة تظهر بدون الخلود وبحصول الشفاعة بعد المكث في العذاب، فلما لم نجد في إثبات الشفاعة ما ينقض أصولهم فنحن نقول لهم :إلا أن هذا حكم شرعي في تقدير صاحب الكبيرة غير التائب وهو يتلقى من قبل الشارع وعليه فيكون تحديد العذاب بمدة معينة أو إلى حصول عفو الله أو مع الشفاعة، ولعل الشفاعة تحصل عند إرادة الله تعالى إنهاء مدة

التعذيب. وبعد فمن حق الحكمة أن لا يستوي الكافرون والعصاة في مدة العذاب ولا في مقداره، فهذه قولة ضعيفة من أقوالهم حتى على مراعاة أصولهم، وقد حكى القاضي أبو بكر الباقلاني إجماع الأمة قبل حدوث البدع على ثبوت الشفاعة في الآخرة، وهو حق قال سواد بن قارب يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
وأما الشفاعة الكبرى العامة لجميع أهل موقف الحساب الوارد فيها الحديث الصحيح المشهور فأن أصول المعتزلة لا تأباها.
وقوله: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} والعدل بفتح العين يطلق على الشيء المساوي شيئا والمماثل له ولذلك جعل ما يفتدى به عن شيء عدلا وهو المراد هنا كما في قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة: 95] فالمعنى ولا يقبل منها ما تفتدى به عوضا عن جرمها.
والنصر هو إعانة العدو على عدوه ومحاربه إما بالدفاع معه أو الهجوم معه فهو في العرف مراد منه الدفاع بالقوة الذاتية وأما إطلاقه على الدفاع بالحجة نحو {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] وعلى التشيع والاتباع نحو {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] فهو استعارة.
[49] {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49]
عطف على قوله: {نعمتي} [البقرة:47] فيجعل "إذ" مفعولا به كما هو في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] فهو هنا اسم زمان غير ظرف لفعل والتقدير اذكروا وقت نجيناكم، ولما غلبت إضافة أسماء الزمان إلى الجمل وكان معنى الجملة بعدها في معنى المصدر وكان التقدير اذكروا وقت إنجائنا إياكم، وفائدة العدول عن الإتيان بالمصدر الصريح لأن في الإتيان بإذ المقتضية للجملة استحضارا للتكوين العجيب المستفاد من هيئة الفعل لأن الذهن إذا تصور المصدر لم يتصور إلا معنى الحدث وإذا سمع الجملة الدالة عليه تصور حدوث الفعل وفاعله ومفعوله ومتعلقاته دفعة واحدة فنشأت من ذلك صورة عجيبة، فوزان الإتيان بالمصدر وزان الاستعارة المفردة، ووزان الإتيان بالفعل وزان الاستعارة التمثيلية، وليس هو عطفا على جملة {اذكروا} [البقرة:47]

كما وقع في بعض التفاسير لأن ذلك يجعل إذ ظرفا فيطلب متعلقا وهو ليس بموجود، ولا يفيده حرف العطف لأن العاطف في عطف الجمل لا يفيد سوى التشريك في حكم الجملة المعطوف عليها، وليس نائبا مناب عامل، ولا يريبك الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه أعني {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} بجملة {واتقوا يوما} [البقرة:48] فتظنه ملجأ لاعتبار العطف على الجملة لما علمت فيما تقدم أن قوله: {واتقوا} ناشئ عن التذكير فهو من علائق الكلام وليس بأجنبي، على أنه ليس في كلام النحاة ما يقتضي امتناع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي فإن المتعاطفين ليسا بمرتبة الاتصال كالعامل والمعمول، وعدى فعل {أنجينا} إلى ضمير المخاطبين مع أن التنجية إنما كانت تنجية أسلافهم لأن تنجية أسلافهم تنجية للخلف فإنه لو بقي أسلافهم في عذاب فرعون لكان ذلك لاحقا لأخلافهم فلذلك كانت منة التنجية منتين :منة على السلف ومنة على الخلف فوجب شكرها على كل جيل منهم ولذلك أوجبت عليهم شريعتهم الاحتفال بما يقابل أيام النعمة عليهم من أيام كل سنة وهي أعيادهم وقد قال الله لموسى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [ابراهيم: من الآية5]
وآل الرجل أهله. وأصل آل أهل قلبت هاؤه همزة تخفيفا ليتوصل بذلك إلى تسهيل الهمزة مدا. والدليل على أن أصله أهل رجوع الهاء في التصغير إذ قالوا أهيل ولم يسمع أو بل خلافا للكسائي.
والأهل والآل يراد به الأقارب والعشيرة والموالي وخاصة الإنسان وأتباعه. والمراد من آل فرعون وزعته ووكلاؤه، ويختص الآل بالإضافة إلى ذي شأن وشرف دنيوي ممن يعقل فلا يقال آل الجاني ولا آل مكة، ولما كان فرعون في الدنيا عظيما وكان الخطاب متعلقا بنجاة دنيوية من عظيم في الدنيا أطلق على أتباعه آل فلا توقف في ذلك حتى يحتاج لتأويله بقصد التهكم كما أول قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] لأن ذلك حكاية لكلام يقال يوم القيامة وفرعون يومئذ محقر، هلك عنه سلطانه.
فإن قلت إن كلمة أهل تطلق أيضا على قرابة ذي الشرف لأنها الاسم المطلق فلماذا لم يؤت بها هنا حتى لا يطلق على آل فرعون ما فيه تنويه بهم? قلت خصوصية لفظ آل هنا أن المقام لتعظيم النعمة وتوفير حق الشكر والنعمة تعظم بما يخف بها فالنجاة من العذاب وإن كانت نعمة مطلقا إلا أن كون النجاة من عذاب ذي قدرة ومكانة أعظم

لأنه لا يكاد ينفلت منه أحد ... ولا قرار على زأر من الأسد1
وإنما جعلت النجاة من آل فرعون ولم تجعل من فرعون مع أنه الآمر بتعذيب بني إسرائيل تعليقا للفعل بمن هو من متعلقاته على طريقة الحقيقة العقلية وتنبيها على أن هؤلاء الوزعة والمكلفين ببني إسرائيل كانوا يتجاوزون الحد المأمور به في الإعنات على عادة المنفذين فإنهم أقل رحمة وأضيق نفوسا من ولاة الأمور كما قال الراعي يخاطب عبد الملك بن مروان:
إن الذين أمرتهم أن يعدلوا ... لم يفعلوا مما أمرت فتيلا2
جاء في التاريخ أن مبدأ استقرار بني إسرائيل بمصر كان سببه دخول يوسف عليه السلام في تربية العزيز طيفار كبير شرط فرعون، وكانت مصر منقسمة إلى قسمين مصر العليا الجنوبية المعروفة اليوم بالصعيد لحكم فراعنة من القبط وقاعدتها طيوة، ومصر السفلى وهي الشمالية وقاعدتها منفيس وهي القاعدة الكبرى التي هي مقر الفراعنة وهذه قد تغلب عليها العمالقة من الساميين أبناء عم ثمود وهم الذين يلقبون في التاريخ المصري بالرعاة الرحالين وبالهكصوص في سنة 3300 أو سنة 1900 قبل المسيح على خلاف ناشئ عن الاختلاف في مدة بقائهم بمصر الذي انتهى سنة 1700 ق م، عند ظهور العائلة الثامنة عشرة. فكان يوسف عند رئيس شرط فرعون العمليقي، واسم فرعون يومئذ أبو فيس أو أبيبي وأهل القصص ومن تلقف كلامهم من المفسرين سموه ريان بن الوليد وهذا من أوهامهم وكان ذلك في حدود سنة 1739 قبل ميلاد المسيح، ثم كانت سكنى بني إسرائيل مصر بسبب تنقل يعقوب وأبنائه إلى مصر حين ظهر أمر يوسف وصار بيده حكم المملكة
ـــــــ
1 نصف بيت للنابغة وأوله:
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني
2 الراعي هو عبيد بن حصين من بني عامر بن صعصعة, لقب الراعي لكثرة وصفه للإبل وهو من شعراء الدولة الأموية. وهذا البيت من قصيدة خاطب بها الخليفة يشتكي من سعاة الزكاة في ظلمهم لقومه وتجاوزهم ما أمروا به شرعا وأول الأبيات:
أولي أمر الله أنا معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
وبعد البت الذي ذكرناه:
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ... ظلما ويكتب للأمير أفيلا

المصرية السفلى. وكانت معاشرة الإسرائيليين للمصريين حسنة زمنا طويلا غير أن الإسرائيليين قد حافظوا على دينهم ولغتهم وعاداتهم فلم يعبدوا آلهة المصريين وسكنوا جميعا بجهة يقال لها أرض جاسان ومكث الإسرائيليين على ذلك نحوا من أربعمائة سنة تغلب في خلالها ملوك المصريين على ملوك العمالقة وطردوهم من مصر حتى ظهرت في مصر العائلة التاسعة عشرة وملك ملوكها جميع البلاد المصرية ونبغ فيهم رعمسيس الثاني الملقب بالأكبر في حدود سنة 1311 قبل المسيح وكان محاربا باسلا وثارت في وجهه الممالك التي أخضعها أبوه ومنهم الأمم الكائنة بأطراف جزيرة العرب، فحدثت أسباب أو سوء ظنون أوجبت تنكر القبط على الإسرائيليين وكلفوهم أشق الأعمال وسخروهم في خدمة المزارع والمباني وصنع الآجر. وتقول التوراة إنهم بنوا لفرعون مدينة مخازن فيثوم ومدينة رعمسيس ثم خشى فرعون أن يكون الإسرائيليون أعوانا لأعدائه عليه فأمر باستئصالهم وكأنه اطلع على مساعدة منهم لأبناء نسبهم من العمالقة والعرب فكان يأمر بقتل أبنائهم وسبي نسائهم وتسخير كبارهم ولا بد أن يكون ذلك لما رأى منهم من التنكر، أو لأن القبط لما أفرطوا في استخدام العبرانيين علم فرعون أنه إن اختلطت جيوشه في حرب لا يسلم من ثورة الإسرائيليين فأمر باستئصالهم. وأما ما يحكيه القصاصون أن فرعون أخبره كاهن أن ذهاب ملكه يكون على يد فتى من إسرائيل فلا أحسبه صحيحا إذ يبعد أن يروج مثل هذا على رئيس مملكة فيفني به فريقا من رعاياه، اللهم إلا أن يكون الكهنة قد أغروا فرعون باليهود قصدا لتخليص المملكة من الغرباء أو تفرسوا من بني إسرائيل سوء النوايا فابتكروا ذلك الإنباء الكهنوتي لإقناع فرعون، بوجوب الحذر من الإسرائيليين ولعل ذبح الأبناء كان من فعل المصريين استخفافا باليهود، فكانوا يقتلون اليهودي في الخصام القليل كما أنبأت بذلك آية {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: من الآية15] والحاصل أن التاريخ يفيد على الإجمال أن عداوة عظيمة نشأت بين القبط واليهود آلت إلى أن استأصل القبط الإسرائيليين. ولقد أبدع القرآن في إجمالها إذ كانت تفاصيل إجمالها كثيرة لا يتعلق غرض التذكير ببيانها.
وجملة: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} حال {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} يحصل بها بيان ما وقع الإنجاء منه وهو العذاب الشديد الذي كان الإسرائيليين يلاقونه من معاملة القبط لهم.
ومعنى {يسومونكم} يعاملونكم معاملة المحقوق بما عومل به يقال سامه خسفا إذا أذله واحتقره فاستعمل سام في معنى أنال وأعطى ولذلك يعدى الى مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر. وحقيقة سام عرض السوم أي الثمن.

وسوء العذاب أشده وأفظعه وهو عذاب التسخير والإرهاق وتسليط العقاب الشديد بتذبيح الأبناء وسبي النساء والمعنى يذبحون أبناء آبائكم ويستحيون نساء قومكم الأولين.
والمراد من الأبناء قيل أطفال اليهود وقيل أريد به الرجال بدليل مقابلته بالنساء وهذا الوجه أظهر وأوفق بأحوال الأمم إذ المظنون أن المحق والاستئصال إنما يقصد به الكبار، ولأنه على الوجه الأول تكون الآية سكتت عن الرجال إلا أن يقال إنهم كانوا يذبحون الصغار قطعا للنسل ويسبون الأمهات استعبادا لهن ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدريج. وإبقاء الرجال في مثل هاته الحالة أشد من قتلهم. أو لعل تقصيرا ظهر من نساء بني إسرائيل مرضعات الأطفال ومربيات الصغار وكان سببه شغلهن بشؤون أبنائهن فكان المستعبدون لهم إذا غضبوا من ذلك قتلوا الطفل.
والاستحياء استفعال يدل على الطلب للحياة أي يبقونهن أحياء أو يطلبون حياتهن. ووجه ذكره هنا في معرض التذكير بما نالهم من المصائب أن هذا الاستحياء للإناث كان المقصد منه خبيثا وهو أن يعتدوا على أعراضهن ولا يجدن بدا من الإجابة بحكم الأسر والاسترقاق فيكون قوله: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} كناية عن استحياء خاص ولذلك أدخل في الإشارة في قوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} ولو كان المراد من الاستحياء ظاهره لما كان وجه لعطفه على تلك المصيبة.
وقيل إن الاستحياء من الحياء وهو الفرج أي يفتشون النساء في أرحامهن ليعرفوا هل بهن حمل وهذا بعيد جدا وأحسن منه أن لو قال إنه كناية كما ذكرنا آنفا. وقد حكت التوراة أن فرعون أوصى القوابل بقتل كل مولود ذكر.
وجملة {يذبحون أبناءكم} الخ بيان لجملة {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} فيكون المراد من سوء العذاب هنا خصوص التذبيح وما عطف عليه وهو ويستحيون نساءكم لما عرفت فكلاهما بيان لسوء العذاب فكان غير ذلك من العذاب لا يعتد به تجاه هذا. ولك أن تجعل الجملة في موضع بدل البعض تخصيصا لأعظم أحوال سوء العذاب بالذكر وهذا هو الذي يطابق آية سورة إبراهيم [6] التي ذكر فيها {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} بالعطف على {سُوءَ الْعَذَابِ} وليس قوله {ويستحيون} مستأنفا لإتمام تفصيل صنيع فرعون بل هو من جملة البيان أو البدل للعذاب ويدل لذلك قوله تعالى في الآية الأخرى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] فعقب الفعلين بقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}

والبلاء الاختبار بالخير والشر قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ} [لأعراف: 168] وهو مجاز مشهور حقيقته بلاء التوب يفتح الباء مع المد وبكسرها مع القصر وهو تخلقه وترهله ولما كان الاختبار يوجب الضجر والتعب سمي بلاء كأنه يخلق النفس، ثم شاع في اختبار الشر لأنه أكثر إعناتا للنفس، وأشهر استعماله إذا أطلق أن يكون للشر فإذا أرادوا به الخير احتاجوا إلى قرينة أو تصريح كقول زهير:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فيطلق غالبا على المصيبة التي تحل بالعبد لأن بها يختبر مقدار الصبر والأناة والمراد هنا المصيبة بدليل قوله {عظيم}. وقيل أراد به الإنجاء والبلاء بمعنى اختبار الشكر وهو بعيد هنا.
وتعلق الإنجاء بالمخاطبين لأن إنجاء سلفهم إنجاء لهم فإنه لو أبقى سلفهم هنالك للحق المخاطبين سوء العذاب وتذبيح الأبناء. أو هو على حذف مضاف أي نجينا آباءكم، أو هو تعبير عن الغائب بضمير الخطاب إما لنكتة استحضار حاله وإما لكون المخاطبين مثالهم وصورتهم فإن ما يثبت من الفضائل لآباء القبيلة يثبت لأعقابهم فالإتيان بضمير المخاطب على خلاف مقتضى الظاهر على حد ما يقال في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] فالخطاب ليس بالتفات لأن اعتبار أحوال القبائل يعتبر للخلف ما ثبت منه للسلف.
[50] {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة:50]
هذا زيادة في التفصيل بذكر نعمة أخرى عظيمة خارقة للعادة بها كان تمام الإنجاء من آل فرعون وفيها بيان مقدار إكرام الله تعالى لهم ومعجزة لموسى عليه السلام وتعدية فعل {فرقنا} إلى ضمير المخاطبين بواسطة الحرف جار على نحو تعدية فعل {نجيناكم} [البقرة:49] إلى ضميرهم كما تقدم.
وفرق وفرق بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد إذ التشديد يفيده تعدية ومعناه الفصل بين أجزاء شيء متصل الأجزاء، غير أن فرق يدل على شدة التفرقة وذلك إذا كانت الأجزاء المفرقة أشد اتصالا وقد قيل إن فرق للأجسام وفرق للمعاني نقله القرافي عن بعض مشايخه1 وهو غير تام كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بدليل
ـــــــ
1 "الفروق" للقرافي 1/4 – عالم الكتب.

هذه الآية، فالوجه أن فرق بالتشديد لما فيه علاج ومحاولة وأن المخفف والمشدد كليهما حقيقة في فصل الأجسام وأما في فصل المعاني الملتبسة فمجاز.
وقد اتفقت القراءات المتواترة العشر على قراءة فرقنا بالتخفيف والتخفيف منظور فيه إلى عظيم قدرة الله تعالى فكان ذلك الفرق الشديد خفيفا.
وتصغر في عين العظيم العظائم
وأل في "البحر" وهو البحر الذي عهدوه أعني بحر القلزم المسمى اليوم بالبحر الأحمر وسمته التوراة بحر سوف.
والباء في "بكم" إما للملابسة كما في طارت به العنقاء وعدا به الفرس. أي كان فرق البحر ملابسا لكم والمراد من الملابسة أنه يفرق وهم يدخلونه فكان الفرق حاصلا بجانبهم. وجوز صاحب الكشاف كون الباء للسببية أي بسببكم يعني لأجلكم.
والخطاب هنا كالخطاب في قوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49]
وقوله: {فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} هو محل المنة وذكر النعمة وهو نجاتهم من الهلاك وهلاك عدوهم. قال الفرزدق:
كيف تراني قاليا مجني
قد قتل الله زيادا عني
فيكون قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} تمهيدا للمنة لأنه سبب الأمرين النجاة والهلاك وهو مع ذلك معجزة لموسى عليه السلام.
وقد أشارت الآية إلى ما حدث لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر من لحاق جند فرعون بهم لمنعهم من مغادرة البلاد المصرية وذلك أنهم لما خرجوا ليلا إما بإذن من فرعون كما تقول التوراة في بعض المواضع، وإما خفية كما عبرت عنه التوراة بالهروب، حصل لفرعون ندم على إطلاقهم أو أغراه بعض أعوانه بصدهم عن الخروج لما في خروجهم من إضاعة الأعمال التي كانوا يسخرون فيها أو لأنه لما رآهم سلكوا غير الطريق المألوف لاجتياز مصر إلى الشام ظنهم يرومون الانتشار في بعض جهات مملكته المصرية فخشى شرهم إن هم بعدوا عن مركز ملكه ومجتمع قوته وجنده.
إن بني إسرائيل لما خرجوا من جهات حاضرة مصر وهي يومئذ مدينة منفيس1 لم
ـــــــ
1 لأن مقر الإسرائيليين كان بمصر السفلى كما تقدم وكانت قاعدتها منفيس وهي يوم دخول بني إسرائيل لحكم العمالقة, وكان مقر الفراعنة أيام خروج مصر السفلى منهم بمدينة طيوة أو طيبة قاعدة مصر العليا, ثم رجعوا لمنفيس وكان خروج بني إسرائيل من مدية تسمى رعميس في جهات مصر السفلى.

يسلكوا الطريق المألوف لبلاد الشام إذ تركوا أن يسلكوا طريق شاطئ بحر الروم المتوسط فيدخلوا برية سينا من غير أن يخترقوا البحر ولا يقطعوا أكثر من اثنتي عشرة مرحلة أعني مائتين وخمسين ميلا وسلكوا طريقا جنوبية شرقية حول أعلى البحر الأحمر لئلا يسلكوا الطريق المألوفة الآهلة بقوافل المصريين وجيوش الفراعنة فيصدوهم عن الاسترسال في سيرهم أو يلحق بهم فرعون من يردهم لأن موسى علم بوحي كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52]
إن فرعون لا يلبث أن يصدهم عن المضي في سيرهم فلذلك سلك بهم بالأمر الإلهي طريقا غير مطروقة فكانوا مضطرين للوقوف أمام البحر في موضع يقال له فم الحيروث فهنالك ظهرت المعجزة إذ فلق الله لهم البحر بباهر قدرته فأمر موسى أن يضربه بعصاه فانفلق وصار فيه طريق يبس مرت عليه بنو إسرائيل وكان جند فرعون قد لحق بهم ورام اقتحام البحر وراءهم فانطبق البحر عليهم فغرقوا.
وقوله: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أي جنده وأنصاره. ولم يذكر في هاته الآية غرق فرعون لأن محل المنة هو إهلاك الذين كانوا المباشرين لتسخير بني إسرائيل وتعذيبهم والذين هم قوة فرعون وقد ذكر غرق فرعون في آيات أخرى نتكلم عليها في موضعها إن شاء الله وكان ذلك في زمن الملك منفتاح ويقال له منفطة أو مينيتاه من فراعنة العائلة التاسعة عشرة في ترتيب فراعنة مصر عند المؤرخين.
قوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملة حالية من الفاعل وهو ضمير الجلالة في {فرقنا} و {أنجينا} و {أغرقنا} مقيدة للعوامل الثلاثة على سبيل التنازع فيها، ولا يتصور في التنازع في الحال إضمار في الثاني على تقدير إعمال الأول لأن الجملة لا تضمر كما لا يضمر في التنازع في الظرف نحو سكن وقرأ عندك ولعل هذا مما يوجب إعمال الأول وهذا الحال زيادة في تقرير النعمة وتعظيمها فإن مشاهدة المنعم عليه للنعمة لذة عظيمة لا سيما ومشاهدة إغراق العدو أيضا نعمة زائدة كما أن مشاهدة فرق البحر نعمة عظيمة لما فيها من مشاهدة معجزة تزيدهم إيمانا وحادث لا تتأتى مشاهدته لأحد. ويجوز أن تكون الجملة حالا من المفعول وهو آل فرعون أي تنظرونهم، ومفعول {تنظرون} محذوف

ولا يستقيم جعله منزلا منزلة اللازم. وإسناد النظر إليهم باعتبار أن أسلافهم كانوا ناظرين ذلك لأن النعمة على السلف نعمة على الأبناء لا محالة فضمير الخطاب مجاز.
[52,51] {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
تذكير لهم بنعمة عفو الله عن جرمهم العظيم بعبادة غيره وذلك مما فعله سلفهم، فإسناد تلك الأفعال إلى ضمير المخاطبين باعتبار ما عطف عليه من قوله: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} فإن العفو عن الآباء منة عليهم وعلى أبنائهم يجب على الأبناء الشكر عليه كما تقدم عند قوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: من الآية47,40]
ووقع في الكشاف وتفسير البغوي وتفسير البيضاوي أن الله وعد موسى أن يؤتيه الشريعة بعد أن عاد بنو إسرائيل إلى مصر بعد مهلك فرعون وهذا وهم فإن بني إسرائيل لم يعودوا إلى مصر البتة بعد خروجهم كيف والآيات صريحة في أن نزول الشريعة كان بطور سينا وأن خروجهم كان ليعطيهم الله الأرض المقدسة التي كتب الله لهم وقد أشار في الكشاف في سورة الدخان إلى التردد فيه ولا ينبغي التردد في ذلك.
وقوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} هو المقصود وأما ما ذكر قبله فهو تمهيد وتأسيس لبنائه وتهويل لذلك الجرم إظهارا لسعة عفو الله تعالى وحلمه عنهم. وتوسيط التذكير بالعفو عن هذه السيئة بين ذكر النعم المذكورة مراعاة لترتيب حصولها في الوجود ليحصل غرضان غرض التذكير وغرض عرض تاريخ الشريعة.
والمراد من المواعدة هنا أمر الله موسى أن ينقطع أربعين ليلة لمناجاة الله تعالى وإطلاق الوعد على هذا الأمر من حيث إن ذلك تشريف لموسى ووعد له بكلام الله وبإعطاء الشريعة. وقراءة الجمهور {واعَدْنَا} بألف بعد الواو على صيغة المفاعلة المقتضية حصول الوعد من جانبين الواعد والموعود والمفاعلة على غير بابها لمجرد التأكيد على حد سافر وعافاه الله، وعالج المريض وقاتله الله، فتكون مجازا في التحقيق لأن المفاعلة تقتضي تكرر الفعل من فاعلين فإذا أخرجت عن بابها بقي التكرر فقط من غير نظر للفاعل ثم أريد من التكرر لازمه وهو المبالغة والتحقق فتكون بمنزلة التوكيد اللفظي. والأشهر أن المواعدة لما كان غالب أحوالها حصول الوعد من الجانبين شاع استعمال صيغتها في

مطلق الوعد وقد شاع استعمالها أيضا في خصوص التواعد بالملاقاة كما وقع في حديث الهجرة وواعداه غار ثور. وقول الشاعر:
فواعديه سرحتي مالك ... أو الربا بينهما أسهلا
واستعملت هنا لأن المناجاة والتكلم يقتضي القرب فهو بمنزلة اللقاء على سبيل الاستعارة ولذلك استغنى عن ذكر الموعود به لظهوره من صيغة المواعدة.
وقيل المفاعلة على بابها بتقدير أن الله وعد موسى أن يعطيه الشريعة وأمره بالحضور للمناجاة فوعد موسى ربه أن يمتثل لذلك، فكان الوعد حاصلا من الطرفين وذلك كاف في تصحيح المفاعلة بقطع النظر عن اختلاف الموعود به، وذلك لا ينافي المفاعلة لأن مبني صيغة المفاعلة حصول فعل متماثل من جانبين لا سيما إذا لم يذكر المتعلق في اللفظ كما هنا لقصد الإيجاز البديع لقصد إعظام المتعلق من الجانبين، ولك أن تقول سوغ حذفه علم المخاطبين به فإن هذا الكلام مسوق للتذكير لا للإخبار والتذكير يكتفي فيه بأقل إشارة فاستوى الحذف والذكر فرجح الإيجاز وإن كان الغالب اتحاده.
وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {وعدنا} بدون ألف عقب الواو على الحقيقة.
وموسى هو رسول الله إلى بني إسرائيل وصاحب شريعة التوراة وهو موسى بن عمران ولم يذكر اسم جده ولكن الذي جاء في التوراة أنه هو وأخوه هارون من سبط لاوى بن يعقوب. ولد بمصر في حدود سنة ألف وخمسمائة قبل ميلاد عيسى ولما ولدته أمه خافت عليه أن يأخذه القبط فيقتلوه لأنه في أيام ولادته كان القبط قد ساموا بني إسرائيل سوء العذاب لأسباب غير مشروعة كما تقدم عند قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة: من الآية49] فأمر ملك مصر بقتل كل ذكر يولد في بني إسرائيل.
وأمه تسمى "يوحانذ" وهي أيضا من سبط لاوى وكان زوجها قد توفي حين ولدت موسى فتحيلت لإخفائه عن القبط مدة ثلاثة أشهر ثم ألهما الله فأرضعته رضعة ووضعته في سفط منسوج من خوص البردي وطلته بالمغرة والقار لئلا يدخله الماء ووضعت فيه الولد وألقته في النيل بمقربة من مساكن فرعون على شاطئ النيل ووكلت أختا له اسمها مريم بأن ترقب الجهة التي يلقيه النيل فيها وماذا يصنع به وكان ملك مصر في ذلك الوقت تقريبا هو فرعون رعمسيس الثاني، ولما حمله النهر كانت ابنة فرعون المسماة ثرموت مع جوار لها يمشين على حافة النهر لقصد السباحة والتبرد في مائه قيل كانوا في

مدينة عين شمس فلما بصرت بالسفط أرسلت أمة لها لتنظر السفط فلما فتحنه وجدن الصبي فأخذته ابنة فرعون إلى أمها وأظهرت مريم أخت موسى نفسها لابنة فرعون فلما رأت رقة ابنة فرعون على الصبي قالت إن فينا مرضعا أفأذهب فادعوها لترضعه? فقالت نعم فذهبت وأتت بأم موسى. وأخذت امرأة فرعون الولد وتبنته وسمته موشى قيل إنه مركب من كلمة مو بمعنى الماء وكلمة شى بمعنى المنقذ وقد صارت في العربية موسى والأظهر أن هذا الاسم مركب من اللغة العبرية لا من القبطية فلعله كان له اسم آخر في قصر فرعون وأنه غير اسمه بعد ذلك.
ونشأ موسى في بيت فرعون كولد له ولما كبر علم أنه ليس بابن فرعون وأنه إسرائيلي ولعل أمه أعلمته بذلك وجعلت له أمارات يوقن بها وأنشأه الله على حب العدل ونصر الضعيف وكان موسى شديدا قوي البنية ولما بلغ أشده في حدود نيف وثلاثين من عمره حدث له حادث قتل فيه قبطيا انتصارا لإسرائيلي ولعل ذلك كان بعد مفارقته لقصر فرعون أي بعد موت مربيه فخاف موسى أن يقتص منه وهاجر من مصر ومر في مهاجرته بمدين وتزوج ابنة شعيب ثم خرج من مدين بعد عشر سنين وعمره يومئذ نيف وأربعون سنة. وأوحى الله إليه في طريقه أن يخرج بني إسرائيل من مصر وينقذهم من ظلم فرعون فدخل مصر ولقي أخاه هارون في جملة قومه في مصر وسعى في إخراج بني إسرائيل من مصر بما قصه الله في كتابه وكان خروجه ببني إسرائيل من مصر في حدود سنة 1460 ستين وأربعمائه وألف قبل المسيح في زمن منفطاح الثاني وتوفي موسى عليه السلام قرب أريحا على جبل نيبو سنة 1380 ثمانين وثلاثمائة وألف قبل ميلاد عيسى ودفن هنالك وقبره غير معروف لأحد كما هو نص التوراة.
وقوله: { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} انتصب على أنه ظرف لمتعلق {واعدنا} وهو اللقاء الموعود به ناب هذا الظرف عن المتعلق أي مناجاة وغيرها في أربعين ليلة إن جعل {واعدنا} مسلوب المفاعلة وإن أبقى على ظاهره قدرنا متعلقين وعلى كلا التقديرين فانتصاب أربعين على الظرفية لذلك المحذوف على أن إطلاق اسم الزمان على ما يقع فيه مجاز شائع في كلام البلغاء ومنه {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ} [البقرة: من الآية48] كما تقدم والأمور التي اشتملت عليها الأربعون ليلة معلومة للمخاطبين يتذكرونها بمجرد الإلماع إليها.
وبما حررناه في قوله {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} تستغني عن تطويلات واحتمالات جرت في كلام الكاتبين هنا من وجوه ذكرها التفتزاني وعبد الحكيم وقد جمع

الوجه الذي أبديناه محاسنها. وجعل الميقات ليالي لأن حسابهم كان بالأشهر القمرية.
وعطفت جملة {اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} بحرف {ثم} الذي هو في عطف الجمل للتراخي الترتيبي للإشارة إلى ترتيب في درجات عظم هذه الأحوال وعطف {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أيضا لتراخي مرتبة العفو العظيم عن عظم جرمهم فروعي في هذا التراخي أن ما تضمنته هذه الجمل عظائم أمور في الخير وضده تنبيها على عظم سعة رحمة الله بهم قبل المعصية وبعدها وحذف المفعول الثاني لاتخذتم لظهوره وعلمهم به ولشناعة ذكره وتقديره معبودا أو إلها وبه تظهر فائدة ذكر من بعده لزيادة التشنيع بأنهم كانوا جديرين بانتظارهم الشريعة التي تزيدهم كمالا لا بالنكوص على أعقابهم عما كانوا عليه من التوحيد والانغماس في نعم الله تعالى وبأنهم كانوا جديرين بالوفاء لموسى فلا يحدثوا ما أحدثوا في مغيبه بعد أن رأوا معجزته وبعد أن نهاهم عن هاته العبادة لما قالوا له: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [لأعراف: 138] الآية.
وفائدة ذكر من للإشارة إلى أن الاتخاذ ابتدأ من أول أزمان بعدية مغيب موسى عليه السلام وهذه أيضا حالة غريبة لأن شأن التغير عن العهد أن يكون بعد طول المغيب على أنه ضعف في العهد كما قال الحرث بن كلدة:
فما أدري أغيرهم تناء ... وطول العهد أم مال أصابوا
ففي قوله {من بعده} تعريض بقلة وفائهم في حفظ عهد موسى.
وقوله {من بعده} أي بعد مغيبه وتقدير المضاف مع بعد المضاف إلى اسم المتحدث عنه شائع في كلام العرب لظهوره بحسب المقام وإذا لم يكن ما يعنيه من المقام فالأكثر أنه يراد به بعد الموت كما في قوله تعالى: {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} [غافر: 34] وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [البقرة: 246]
وإنما اتخذوا العجل تشبها بالكنعانيين الذين دخلوا إلى أرضهم وهم الفنيقيون سكان سواحل بلاد الشام فإنهم كانوا عبدة أوثان وكان العجل مقدسا عندهم وكانوا يمثلون أعظم الآلهة عندهم بصورة إنسان من نحاس له رأس عجل جالس على كرسي مادا ذراعيه كمتناول شيء يحتضنه وكانوا يحمونه بالنار من حفرة تحت كرسيه لا يتفطن لها الناس فكانوا يقربون إليه القرابين وربما قربوا له أطفالهم صغارا فإذا وضع الطفل على ذراعيه اشتوى فظنوا ذلك أمارة قبول القربان فتبا لجهلهم وما يصنعون. وكان يسمى عندهم

بعلا وربما سموه مولوك وهم أمة سامية لغتها وعوائدها تشبه في الغالب لغة وعوائد العرب فلما مر بهم بنو إسرائيل قالوا لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فانتهرهم موسى وكانوا يخشونه فلما ذهب للمناجاة واستخلف عليهم هارون استضعفوه وظنوا أن موسى هلك فاتخذوا العجل الذي صنعوه من ذهب وفضة من حليهم وعبدوه.
وقوله: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} حال مقيدة لاتخذتم ليكون الاتخاذ مقترنا بالظلم من مبدئه إلى منتهاه وفائدة الحال الإشعار بانقطاع عذرهم فيما صنعوا وأن لا تأويل لهم في عبادة العجل أو لأنهم كانوا مدة إقامتهم بمصر ملازمين للتوحيد محافظين على وصية إبراهيم ويعقوب لذريتهما بملازمة التوحيد فكان انتقالهم إلى الإشراك بعد أن جاءهم رسول انتقالا عجيبا.
فلذلك كانوا ظالمين في هذا الصنع ظلما مضاعفا فالظاهر أن ليس المراد بالظلم في هاته الآية الشرك والكفر وإن كان من معاني الظلم في اصطلاح القرآن لظهور أن اتخاذ العجل ظلم فلا يكون للحال معه توقع. وقد اطلعت بعد هذا على تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي فوجدته قال: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أي لا شبهة لكم في اتخاذه.
وقوله {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} هو محل المنة وعطفه بثم لتراخي رتبة هذا العفو في أنه أعظم من جميع تلك النعم التي سبق عدها ففيه زيادة المنة فالمقصود من الكلام هو المعطوف بثم وأما ما سبق من قوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} إلخ فهو تمهيد له وتوصيف لما حف بهذا العفو من عظم الذنب. وقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} حال من ضمير عفونا مقيدة للعفو إعجابا به أي هو عفو حال حصوله بعد ذلك الذنب العظيم وليس ظرفا لغوا متعلقا بعفونا حتى يقال أن ثم دلت على معناه فيكون تأكيدا لمدلول ثم تأخير العفو فيه وإظهار شناعته بتأخير العفو عنه وإنما جاء قوله ذلك مقترنا بكاف خطاب الواحد في خطاب الجماعة لأن ذلك لكونه أكثر أسماء الإشارة استعمالا بالإفراد إذ خطاب المفرد أكثر غلب فاستعمل لخطاب الجمع تنبيها على أن الكاف قد خرجت عن قصد الخطاب إلى معنى لبعد ومثل هذا في كلام العرب كثير لأن التثنية والجمع شيئان خلاف الأصل لا يصار إليهما إلا عند تعيين معناهما فإذا لم يقصد تعيين معناهما فالمصير إليهما اختيار محض.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} رجاء لحصول شكركم، وعدل عن لام التعليل إيماء إلى أن شكرهم مع ذلك أمر يتطرقه احتمال التخلف فذكر حرف الرجاء دون حرف التعليل من بديع البلاغة فتفسير لعل بمعنى لكي يفيت هذه الخصوصية وقد تقدم كيفية دلالة لعل على

الرجاء في كلام الله تعالى عند قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: من الآية21] إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. ومعنى الشكر تقدم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] وللغزالي فيه باب حافل عدلنا عن ذكره لطوله فارجع إليه في كتاب الإحياء.
[53] {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
هذا تذكير بنعمة نزول الشريعة التي بها صلاح أمورهم وانتظام حياتهم وتأليف جماعتهم مع الإشارة إلى تمام النعمة وهم يعدونها شعار مجدهم وشرفهم لسعة الشريعة المنزلة لهم حتى كانت كتابا فكانوا به أهل كتاب أي أهل علم تشريع.
والمراد من الكتاب التوراة التي أوتيها موسى فالتعريف للعهد، ويعتبر معها ما ألحق بها على نحو ما قدمناه في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]
والفرقان مصدر بوزن فعلان مشتق من الفرق وهو الفصل استعير لتمييز الحق من الباطل فهو وصف لغوي للتفرقة فقد يطلق على كتاب الشريعة وعلى المعجزة وعلى نصر الحق على الباطل وعلى الحجة القائمة على الحق وعلى ذلك جاءت آيات {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الانبياء: 48] فلعله أراد المعجزات لأن هارون لم يؤت وحيا وقال {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [لأنفال: 41] يعني يوم النصر يوم بدر وقال {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 4] عطفا على {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} [آل عمران:3]
الآية. والظاهر أن المراد به هنا المعجزة أو الحجة لئلا يلزم عطف الصفة على موصوفها إن أريد بالفرقان الكتاب الفارق بين الحق والباطل والصفة لا يجوز أن تتبع موصوفها بالعطف ومن نظر ذلك بقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
فقدسها لأن ذلك من عطف بعض الصفات على بعض لا من عطف الصفة على الموصوف كما نبه عليه أبو حيان.
وقوله {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} هو محل المنة لأن إتيان الشريعة لو لم يكن لاهتدائهم وكان قاصرا على عمل موسى به لم يكن فيه نعمة عليهم. والقول في {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} كالقول في {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 52] السابق.

[54] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
هذه نعمة أخرى وهي نعمة نسخ تكليف شديد عليهم كان قد جعل جابرا لما اقترفوه من إثم عبادة الوثن فحصل العفو عنهم بدون ذلك التكليف فتمت المنة وبهذا صح جعل هذه منة مستقلة بعد المنة المتضمن لها قوله تعالى {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 52] لأن العفو عن المؤاخذة بالذنب في الآخرة قد يحصل مع العقوبة الدنيوية من حد ونحوه وهو حينئذ منة إذ لو شاء الله لجعل للذنب عقابين دنيوي وأخروي كما كان الذنب النفس والبدن ولكن الله برحمته جعل الحدود جوابر في الإسلام كما في الحديث الصحيح فلما عفا الله عن بني إسرائيل على أن يقتلوا أنفسهم فقد تفضل بإسقاط العقوبة الأخروية التي هي أثر الذنب ولما نسخ تكليفهم بقتل أنفسهم فقد تفضل بذلك فصارت منتان.
فقول موسى لقومه {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} تشريع حكم لا يكون مثله إلا عن وحي لا عن اجتهاد وإن جاز الاجتهاد للأنبياء فإن هذا حكم مخالف لقاعدة حفظ النفوس التي قيل قد اتفق عليها شرائع الله فهو يدل على أنه كلفهم بقتل أنفسهم قتلا حقيقة إما بأن يقتل كل من عبد العجل نفسه فيكون المراد بالأنفس الأرواح التي في الأجسام فالفاعل والمفعول واحد على هذا وإنما اختلفا بالاعتبار كقوله {ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} وقول ابن أذينة:
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
وإما بأن يقتل من لم يعبدوا العجل عابديه، وكلام التوراة في هذا الغرض في غاية الإبهام وظاهره أن موسى أمره الله أن يأمر اللاويين الذين هم من سبط لاوي الذي منه موسى وهارون أن يقتلوا من عبد العجل بالسيف وأنهم فعلوا وقتلوا ثلاثة آلاف نفس ثم استشفع لهم موسى فغفر الله لهم أي فيكون حكم قتل أنفسهم منسوخا بعد العمل به ويكون المعنى فليقتل بعضكم بعضا، فالأنفس مراد بها الأشخاص كما في قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] أي فليسلم بعضكم على بعض وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} [البقرة: 84] أي لا يسفك بعضكم دماء بعض وقوله

عقبه: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] فالفاعل والمفعول متغايران.
ومن الناس من حمل الأمر بقتل النفس هنا على معنى القتل المجازي وهو التذييل والقهر على نحو قول امرئ القيس في أعشار قلب مقتل وقوله خمر مقتلة أو مقتولة، أي مذللة سورتها بالماء. قال بجير بن زهير:
إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل1
وفيه بعد عن اللفظ بل مخالفة لغرض الامتنان لآت تذليل النفس وقهرها شريعة غير منسوخة.
والظلم هنا الجناية والمعصية على حد قوله {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. والفاء في قوله: {فتوبوا} فاء التسبب لأن الظلم سبب في الأمر بالتوبة فالفاء لتفريغ الأمر على الخبر وليست هنا عاطفته عند الزمخشري وابن الحاجب إذ ليس بين الخبر والإنشاء ترتب في الوجود، ومن النحاة من لا يرى الفاء تخرج عن العطف وهو الجاري على عبارات الجمهور مثل صاحب مغنى اللبيب فيجعل ذلك عطف إنشاء على خبر ولا ضير في ذلك. وذكر التوبة تقدم في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37].
والفاء في قوله: {فاقتلوا أنفسكم} ظاهرة في أن قتلهم أنفسهم بيان للتوبة المشروعة له فتكون الفاء للترتيب الذكري وهو عطف مفصل على مجمل كقوله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: من الآية153] كما في مغنى اللبيب وهو يقتضي أنها تفيد الترتيب لا التعقيب. وأما صاحب الكشاف فقد جوز فيه وجهين أحدهما تأويل الفعل المعطوف عليه بالعزم على الفعل فيكون ما بعده مرتبا عليه ومعقبا وهذا الوجه لم يذكره صاحب المغنى وهذا لا يتأتى في قوله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا} . وثانيهما جعل التوبة المطلوبة شاملة لأقوال وأعمال آخرها قتلهم أنفسهم فتكون
ـــــــ
1 ومن معنى القتل في التذليل جاء معنى مجازي آخر وهو إطلاق القتل على إتقان العمل لأن في الإتقان تذليلا للمصنوع من ذلك قولهم قتل اللسان علما, وفرى الدهر خبرة وقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} [النساء: 157] على وجه.

الفاء للترتيب والتعقيب أيضا.
وعندي أنه إذا كانت الجملة الثانية منزلة البيان من الجملة الأولى وكانت الأولى معطوفة بالفاء كان الأصل في الثانية أن تقطع عن العطف فإذا قرنت بالفاء كما في هذه الآية كانت الفاء الثانية مؤكدة للأولى، ولعل ذلك إنما يحسن في كل جملتين تكون أولاهما فعلا غير محسوس وتكون الثانية فعلا محسوسا مبين للفعل الأول فينزل منزلة حاصل عقبه فيقرن بالفاء لأنه لا يحصل تمامه إلا بعد تقرير الفعل الأول في النفس ولذلك قربه صاحب الكشاف بتأويل الفعل الأول بالعزم في بعض المواضع.
والبارئ هو الخالق الخلق على تناسب وتعديل فهو أخص من الخالق ولذلك أتبع به الخالق في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ} [الحشر: 24].
وتعبير موسى عليه السلام في كلامه بما يدل على معنى لفظ البارئ في العربية تحريض على التوبة لأنها رجوع عن المعصية ففيها معنى الشكر وكون الخلق على مثال متناسب يزيد تحريضا على شكر الخالق.
وقوله {فتاب عليكم} ظاهر في أنه من كلام الله تعالى عند تذكيرهم بالنعمة وهو محل التذكير من قوله: {وإذ قال موسى لقومه} إلخ فالماضي مستعمل في بابه من الإخبار وقد جاء على طريقة الالتفات لأن المقام للتكلم فعدل عنه إلى الغيبة ورجحه هنا سبق معاد ضمير الغيبة في حكاية كلام موسى. وعطفت الفاء على محذوف إيجازا، أي ففعلتم فتاب عليكم أو فعزمتم فتاب عليكم، على حد {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63] أي فضرب، وعطف بالفاء إشارة إلى تعقيب جرمهم بتوبته تعالى عليهم وعدم تأخيرها إلى ما بعد استئصال جميع الذين عبدوا العجل بل نسخ ذلك بقرب نزوله بعد العمل به قليلا أو دون العمل به وفي ذلك رحمة عظيمة بهم إذ حصل العفو عن ذنب عظيم بدون تكليفهم توبة شاقة بل اكتفاء بمجرد ندمهم وعزمهم على عدم العود لذلك.
ومن البعيد أن يكون {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} من كلام موسى لما فيه من لزوم حذف في الكلام غير واضح القرينة؛ لأنه يلزم تقدير شرط تقديره فإن فعلتم يتب عليكم فيكون مرادا منه الاستقبال والفاء فصيحة، ولأنه يعري هذه الآية عن محل النعمة المذكر به إلا تضمنا.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} خبر وثناء على الله، وتأكيده بحرف التوكيد لتنزيلهم منزلة من يشك في حصول التوبة عليهم لأن حالهم في عظم جرمهم حال من

يشك في قبول التوبة عليه وإنما جمع التواب مع الرحيم لأن توبته تعالى عليهم كانت بالعفو عن زلة اتخاذهم العجل وهي زلة عظيمة لا يغفرها إلا الغفار، وبالنسخ لحكم قتلهم وذلك رحمة فكان للرحيم موقع عظيم هنا وليس هو لمجرد الثناء.
[56,55] {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
تذكير بنعمة أخرى نشأت بعد عقاب على جفاء طبع فمحل المنة والنعمة هو قوله {ثم بعثناكم} وما قبله تمهيد له وتأسيس ابنائه كما تقدم في قوله {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51] الآية. والقائلون هم أسلاف المخاطبين وذلك أنهم قالوا لموسى {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} .
والظاهر أن هذا القول وقع منهم بعد العفو عن عبادتهم العجل كما هو ظاهر ترتيب الآيات روى ذلك البغوي عن السدي، وقيل إن ذلك سألوه عند مناجاته وأن السائلين هم السبعون الذين اختارهم موسى للميقات وهم المعبر عنهم في التوراة بالكهنة وبشيوخ بني إسرائيل وقيل سأل ذلك جمع من عامة بني إسرائيل نحو العشرة الآلاف وهذان القولان حكاهما في الكشاف وليس في التوراة ما هو صريح لترجيح أحد القولين ولا ما هو صريح في وقوع هذا السؤال ولكن ظاهر ما في سفر التثنية منها ما يشير إلى أن هذا الاقتراح قد صدر وأنه وقع بعد كلام الله تعالى الأول لموسى لأنها لما حكت تذكير موسى في مخاطبة بني إسرائيل ذكرت ما يغاير كيفية المناجاة الأولى إذ قال1 فلما سمعتم الصوت من وسط الظلام والجبل يشتعل بالنار تقدم إلى جميع رؤساء أسباطكم وشيوخكم وقلتم هو ذا الرب إلهنا قد أرانا مجده وعظمته وسمعنا صوته من وسط النار...... إن عندما نسمع صوت الرب إلهنا أيضا نموت....... تقدم أنت واسمع كل ما يقول لك الرب إلهنا وكلمنا بكل ما يكلمك به الرب الخ فهذا يؤذن أن هنالك ترقبا كان منهم لرؤية الله تعالى وأنهم أصابهم ما بلغ بهم مبلغ الموت، وبعد فالقرآن حجة على غيره مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه. والظاهر أن ذلك كان في الشهر الثالث بعد خروجهم من مصر.
ومعنى {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} يحتمل أنهم توقعوا الكفر إن لم يروا الله تعالى أي أنهم
ـــــــ
1 انظر سفر التثنية الإصحاح 5.

يرتدون في المستقبل عن إيمانهم الذي اتصفوا به من قبل، ويحتمل أنهم أرادوا الإيمان الكامل الذي دليله المشاهدة أي أن أحد هذين الإيمانين ينتفي إن لم يروا الله جهرة لأن لن لنفي المستقبل قال سيبويه لا لنفي يفعل ولن لنفي سيفعل وكما أن قولك سيقوم لا يقتضي أنه الآن غير قائم فليس في الآية ما يدل على أنهم كفروا حين قولهم هذا ولكنها دالة على عجرفتهم وقلة اكتراثهم بما أوتوا من النعم وما شاهدوا من المعجزات حتى راموا أن يروا الله جهرة وإن لم يروه دخلهم الشك في صدق موسى وهذا كقول القائل إن كان كذا فأنا كافر. وليس في القرآن ولا في غيره ما يدل على أنهم قالوا ذلك عن كفر.
وإنما عدى {نؤمن} باللام لتضمينه معنى الإقرار بالله ولن نقر لك بالصدق والذي دل على هذا الفعل المحذوف هو اللام وهي طريقة التضمين.
والجهرة مصدر بوزن فعلة من الجهر وهو الظهور الواضح فيستعمل في ظهور الذوات والأصوات حقيقة على قول الراغب إذ قال الجهر ظهور الشيء بإفراط إما بحاسة البصر نحو رأيته جهارا ومنه جهر البئر إذا أظهر ماءها، وإما بحاسة السمع نحو {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} [طه: 7] وكلام الكشاف مؤذن بأن الجهر مجاز في الرؤية بتشبيه الذي يرى بالعين بالجاهر بالصوت والذي يرى بالقلب بالمخافت، وكان الذي حداه على ذلك اشتهار استعمال الجهر في الصوت وفي هذا كله بعد إذ لا دليل على أن جهرة الصوت هي الحقيقة ولا سبيل إلى دعوى الاشتهار في جهرة الصوت حتى يقول قائل إن الاشتهار من علامات الحقيقة على أن الاشتهار إنما يعرف به المجاز القليل الاستعمال، وأما الأشهرية فليست من علامات الحقيقة. ولأنه لا نكتة في هذه الاستعارة ولا غرض يرجع إلى المشبه من هذا التشبيه فإن ظهور الذوات أوضح من ظهور الأصوات. وانتصب جهرة على المفعول المطلق لبيان نوع فعل ترى لأن من الرؤية ما يكون لمحة أو مع سائر شفاف فلا تكون واضحة.
ووجه العدول عن أن يقول عيانا إلى قوله "جهرة" لأن جهرة أفصح لفظا لخفته، فإنه غير مبدوء بحرف حلق والابتداء بحرف الحلق أتعب للحلق من وقوعه في وسط الكلام ولسلامته من حرف العلة وكذلك يجتبي البلغاء بعض الألفاظ على بعض لحسن وقعها في الكلام وخفتها على السمع وللقرآن السهم المعلى في ذلك وهو في غاية الفصاحة.
وقوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} أي عقوبة لهم عما بدا منهم من العجرفة وقلة الاكتراث بالمعجزات. وهذه عقوبة دنيوية لا تدل على أن المعاقب عليه حرام أو كفر لا

سيما وقد قدر أن موتهم بالصاعقة لا يدوم إلا قليلا فلم تكن مثل صاعقة عاد وثمود. وبه تعلم أن ليس في إصابة الصاعقة لهم دلالة على أن رؤية الله تعالى مستحيلة وأن سؤالها والإلحاح فيه كفر كما زعم المعتزلة وأن لا حاجة إلى الجواب عن ذلك بأن الصاعقة لاعتقادهم أنه تعالى يشبه الأجسام فكانوا بذلك كافرين إذ لا دليل في الآية ولا غيرها على أنهم كفروا، كيف وقد سأل الرؤية موسى عليه السلام.
والصاعقة نار كهربائية من السحاب تحرق من أصابته، وقد لا تظهر النار ولكن يصل هواؤها إلى الأحياء فيختنقون بسبب ما يخالط الهواء الذي يتنفسون فيه من الحوامض الناشئة عن شدة الكهربائية، وقد قيل: إن الذي أصابهم نار، وقيل سمعوا صعقة فماتوا.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} فائدة التقييد بهذا الحال عند صاحب الكشاف الدلالة على أن الصاعقة التي أصابتهم نار الصاعقة لا صوتها الشديد لأن الحال دلت على أن الذي أصابهم مما يرى، وقال القرطبي أي وأنتم ينظر بعضكم إلى بعض أي مجتمعون. وعندي أن مفعول {تنظرون} محذوف وأن تنظرون بمعنى تحدقون الأنظار عند رؤية السحاب على جبل الطور طمعا أن يظهر لهم الله من خلاله لأنهم اعتادوا أن الله يكلم موسى كلاما يسمعه من خلال السحاب كما تقوله التوراة في مواضع، ففائدة الحال إظهار أن العقوبة أصابتهم في حين الإساءة والعجرفة إذ طمعوا فيما لم يكن لينال لهم.
وقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56]إيجاز بديع، أي فمتم من الصاعقة {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} وهذا خارق عادة الله معجزة لموسى استجابة لدعائه وشفاعته أو كرامة لهم من بعد تأديبهم إن كان السائلون هم السبعين فإنهم من صالحي بني إسرائيل.
فإن قلت إذا كان السائلون هم الصالحين فكيف عوقبوا.
قلت قد علمت أن هذا عقاب دنيوي وهو ينال الصالحين ويسمى عند الصوفية بالعتاب وهو لا ينافي الكرامة، ونظيره أن موسى سأل رؤية ربه فتجلى الله للجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك.
فإن قلت إن الموت يقتضي انحلال التركيب المزاجي فكيف يكون البعث بعده في غير يوم إعادة الخلق قلت: الموت هو وقوف حركة القلب وتعطيل وظائف الدورة الدموية فإذا حصل عن فساد فيها لم تعقبه حياة إلا في يوم إعادة الخلق وهو المعنى بقوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ

فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] وإذا حصل عن حادث قاهر مانع وظائف القلب من عملها كان للجسد حكم الموت في تلك الحالة لكنه يقبل الرجوع إن عادت إليه أسباب الحياة بزوال الموانع العارضة، وقد صار الأطباء اليوم يعتبرون بعض الأحوال التي تعطل عمل القلب اعتبار الموت ويعالجون القلب بأعمال جراحية تعيد إليه حركته. والموت بالصاعقة إذا كان عن اختناق أو قوة ضغط الصوت على القلب قد تعقبه الحياة بوصول هواء صاف جديد وقد يطول زمن هذا الموت في العادة ساعات قليلة ولكن هذا الحادث كان خارق عادة فيمكن أن يكون موتهم قد طال يوما وليلة كما روى في بعض الأخبار ويمكن دون ذلك.
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57]
عطف {وظللنا} على {بعثناكم} [البقرة:56]. وتعقيب ذكر الوحشة بذكر جائزة شأن الرحيم في تربية عبده، والظاهر أن تظليل الغمام ونزول المن والسلوى كان قبل سؤالهم رؤية الله جهرة لأن التوراة ذكرت نزول المن والسلوى حين دخولهم في برية سين بين إيليم وسينا في اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني من خروجهم من مصر حين اشتاقوا أكل الخبز واللحم لأنهم في رحلتهم ما كانوا يطبخون بل الظاهر أنهم كانوا يقتاتون من ألبان مواشيهم التي أخرجوها معهم ومما تنبته الأرض. وأما تظليلهم بالغمام فالظاهر أنه وقع بعد أن سألوا رؤية الله لأن تظليل الغمام وقع بعد أن نصب لهم موسى خيمة الاجتماع محل القرابين ومحل مناجاة موسى وقبلة الداعين من بني إسرائيل في برية سينا فلما تمت الخيمة سنة اثنتين من خروجهم من مصر غطت سحابة خيمة الشهادة ومتى ارتفعت السحابة عن الخيمة فذلك إذن لبني إسرائيل بالرحيل فإذا حلت السحابة حلوا إلخ كذا تقول كتبهم1. فلما سأل بنو إسرائيل الخبز واللحم كان المن ينزل عليهم في الصباح والسلوى تسقط عليهم في المساء بمقدار ما يكفي جميعهم ليومه أو ليلته إلا يوم الجمعة فينزل عليهم منهما ضعف الكمية لأن في السبت انقطاع النزول.
والمن مادة صمغية جوية ينزل على شجر البادية شبه الدقيق المبلول، فيه حلاوة إلى الحموضة ولونه إلى الصفرة ويكثر بوادي تركستان وقد ينزل بقلة غيرها ولم يكن يعرف قبل
ـــــــ
1 سفر الخروج من الإصحاح 25-33 وسفر العدد الإصحاح 9.

في برية سينا. وقد وصفته التوراة1 بأنه، دقيق مثل القشور يسقط ندى كالجليد على الأرض وهو مثل بزر الكزبرة أبيض وطعمه كرقاق بعسل وسمته بنو إسرائيل منا، وقد أمروا أن لا يبقوا منه للصباح لأنه يتولد فيه دود وأن يلتقطوه قبل أن تحمي الشمس لأنها تذيبه فكانوا إذا التقطوه طحنوه بالرحا أو دقوه بالهاون وطبخوه في القدور وعملوه ملات وكان طعمه كطعم قطائف بزيت2 وأنهم أكلوه أربعين سنة حتى جاءوا إلى طرف أرض كنعان يريد إلى حبرون.
وأما السلوى فهي اسم جنس جمعى واحدته سلواة وقيل لا واحد له وقيل واحده وجمعه سواء وهو طائر بري لذيذ اللحم سهل الصيد كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء فيمسكونه قبضا ويسمى هذا الطائر أيضا السماني بضم السين وفتح الميم مخففة بعدها ألف فنون مقصور كحباري. وهو أيضا اسم يقع للواحد والجمع، وقيل هو الجمع وأما المفرد فهو سماناة.
وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} مقول قول محذوف لأن المخاطبين حين نزول القرآن لم يؤمروا بذلك فدل على أنه من بقية الخبر عن أسلافهم.
وقوله: {وما ظلمونا} قدره صاحب الكشاف معطوفا على مقدر أي فظلموا وقرره شارحوه بأن ما ظلمونا نفي لظلم متعلق بمفعول معين وهو ضمير الجلالة وهذا النفي يفيد في المقام الخطابي أن هنالك ظلما متعلقا بغير هذا المنصوب إذ لو لم يكن الظلم واقعا لنفي مطلقا بأن يقال وما ظلموا. وليس المعنى عليه وأنه إنما قدر في الكشاف الفعل المحذوف مقترنا بالفاء لأن الفاء في عطف الجمل تفيد مع الترتيب والتعقيب معنى السببية غالبا، فتكون الجملة المعطوفة متسببة عن الجملة المعطوف عليها فشبه وقوع ظلمهم حين كفروا النعمة عقب الإحسان بترتب المسبب على السبب في الحصول بلا ريث وبدون مراقبة ذلك الإحسان حتى كأنهم يأتون بالظلم جزاء للنعمة، ورمز إلى لفظ المشبه به برديفه وهو فاء السببية وقرينة ذلك ما يعلمه السامع من أن الظلم لا يصلح لأن يكون مسببا عن الإنعام على حد قولك أحسنت إلى فلان فأساء إلى وقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]
أي تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون فالفاء
ـــــــ
1 سفر الخروج الإصحاح 16.
2 سفر العدد الإصحاح 11.

مجاز لغير الترتب على أسلوب قولك: أنعمت عليه فكفر.
ولك أن تقول إن أصل معنى الفاء العاطفة الترتيب والتعقيب لا غير وهو المعنى الملازم لها في جميع مواقع استعمالها فإن الاطراد من علامات الحقيقة. وأما الترتب أي السببية فأمر عارض لها فهو من المجاز أو من مستتبعات التراكيب ألا ترى أنه يوجد تارة ويتخلف أخرى فإنه مفقود في عطف المفردات نحو جاء زيد فعمرو وفي كثير من عطف الجمل نحو قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [قّ: 22] فلذلك كان معنى السببية حيثما استفيد محتاجا إلى القرائن فإن لم تتطلب له علاقة قلت هو من مستتبعات تراكيب بقرينة المقام وإن تطلبت له علاقة-وهي لا تعوزك-قلت هو مجاز لأن أكثر الأمور الحاصلة عقب غيرها يكون موجب التعقيب فيها هو السببية ولو عرفا ولو ادعاء فليس خروج الفاء عن الترتب هو المجاز بل الأمر بالعكس.
ومما يدل على أن حقيقة الفاء العاطفة هو الترتيب والتعقيب فقط أن بعض البيانيين جعلوا قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} [القصص: 8] اللام فيه مستعارة لمعنى فاء التعقيب أي فكان لهم عدوا فجعلوا الفاء حقيقة في التعقيب ولو كانت للترتيب لساوت اللام فلم تستقم الاستعارة فيكون الوجه الحامل للزمخشري على تقدير المحذوف مقترنا بالفاء هو أنه رأى عطف الظلم على {وظللنا عليكم الغمام} وما بعده بالواو ولا يحسن لعدم الجهة الجامعة بين الامتنان والذم والمناسبة شرط في قبول الوصل بالواو بخلاف العطف بالفاء، فتعين إما تقدير ظلموا مستأنفا بدون عطف وظاهر أنه ليس هنالك معنى على الاستئناف وإما ربط ظلموا بعاطف سوى الواو وليس يصلح هنا غير الفاء لأن المعطوف حصل عقب المعطوف عليه فكان ذلك التعاقب في الخارج مغنيا عن الجهة الجامعة ولذلك كانت الفاء لا تستدعي قوة مناسبة كمناسبة الواو ولكن مناسبة في الخيال فقط وقد وجدت هنا لأن كون المعطوف حصل في الخارج عقب المعطوف عليه مما يجعله حاضرا في خيال الذي يتكلم عن المعطوف عليه، وأما قبح نحو قولك جاء زيد فصاح الديك فلقلة جدوى هذا الخبر ألا تراه يصير حسنا لو أردت بقولك فصاح الديك معنى التوقيت بالفجر فبهذا ظهر أنه لم يكن طريق لربط الظلم المقدر بالفعلين قبله إلا الفاء.
وفي ذلك الإخبار والربط والتصدي لبيانه مع غرابة هذا التعقيب تعريض بمذمتهم إذ قابلوا الإحسان بالكفران وفيه تعريض بغباوتهم إذ صدفوا عن الشكر كأنهم ينكون

بالمنعم وهم إنما يوقعون النكاية بأنفسهم، هذا تفصيل ما يقال على تقدير صاحب الكشاف.
والذي يظهر لي أن لا حاجة إلى التقدير وأن جملة {وَمَا ظَلَمُونَا} عطف على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل ومثار ذكر هذه الجملة هو ما تضمنته بعض الجمل التي سبقت من أن ظلما قد حصل منهم من قوله {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 51] وقوله {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54] وما تضمنه قولكم {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55] الدال على أن ذلك عذاب جروه إلى أنفسهم فأتى بهذه الجملة كالفذلكة لما تضمنته الجمل السابقة نظير قوله {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] عقب قوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] ونظير قولهم {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [سبأ: 19] بعد الكلام السابق وهو قوله {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً} [سبأ: 18] الآية.
وغير الأسلوب في هذه الجملة إذ انتقل من خطاب بني إسرائيل إلى الحديث عنهم بضمير الغيبة لقصد الاتعاظ بحالهم وتعريضا بأنهم متمادون على غيهم وليسوا مستفيقين من ضلالهم فهم بحيث لا يقرون بأنهم ظلموا أنفسهم. وهذا الظلم الذي قدر في نظم الآية هو ضجرهم من مداومة أكل المن والسلوى الذي سيأتي ذكره بقوله تعالى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] الآية فكان قوله {وَمَا ظَلَمُونَا} تمهيدا له وتعجيلا بتسجيل قلة شكرهم على نعم الله وعنايته بهم إذ كانت شكيمتهم لم تلينها الزواجر ولا المكارم.
وقوله {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] قدم فيه المفعول للقصر وقد حصل القصر أولا بمجرد الجمع بين النفي والإثبات ثم أكد بالتقديم لأن حالهم كحال من ينكى غيره كما قيل :يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه.
[58، 59] {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59]
هذا تذكير بنعمة أخرى مكنوا منها فما أحسنوا قبولها ولا رعوها حق رعايتها فحرموا منها إلى حين وعوقب الذين كانوا السبب في عدم قبولها. وفي التذكير بهذه النعمة امتنان

عليهم ببذل النعمة لهم لأن النعمة نعمة وإن لم يقبلها المنعم عليه، وإثارة لحسرتهم على ما فات أسلافهم وما لقوه من جراء إعجابهم بآرائهم، وموعظة لهم أن لا يقعوا فيما وقع فيه الأولون فقد علموا أنهم كلما صدقوا عن قدر حق النعم نالتهم المصائب. قال الشيخ ابن عطاء الله :من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها.
ولعلم المخاطبين بما عنته هذه الآية اختصر فيها الكلام اختصارا ترك كثيرا من المفسرين فيها حيارى. فسلكوا طرائق في انتزاع تفصيل المعنى من مجملها فما أتوا على شيء مقنع، وكنت تجد أقوالهم هنا إذا التأم بعضها بنظم الآية1 لا يلتئم بعضه الآخر، وربما خالف جميعها ما وقع في آيات أخر.
والذي عندي من القول في تفسير هاته الآية أنها أشارت إلى قصة معلومة تضمنها كتبهم وهي أن بني إسرائيل لما طوحت بهم الرحلة إلى برية فاران نزلوا بمدينة قادش فأصبحوا على حدود أرض كنعان التي هي الأرض المقدسة التي وعدها الله بني إسرائيل وذلك في أثناء السنة الثانية بعد خروجهم من مصر فأرسل موسى اثني عشر رجلا ليتجسسوا أرض كنعان من كل سبط رجل وفيهم يوشع بن نون وكالب بن بفنة فصعدوا وأتوا إلى مدينة حبرون فوجدوا الأرض ذات خيرات وقطعوا من عنبها ورمانها وتينها ورجعوا لقومهم بعد أربعين يوما وأخبروا موسى وهارون وجميع بني إسرائيل وأروهم ثمر الأرض وأخبروهم أنها حقا تفيض لبنا وعسلا غير ان أهلها ذوو عزة ومدنها حصينة جدا فأمر موسى كالبا فأنصت إسرائيل إلى موسى وقال إننا نصعد ونمتلكها وكذلك يوشع أما العشرة الآخرون فأشاعوا في بني إسرائيل مذمة الأرض وأنها تأكل سكانها وأن سكانها جبابرة فخافت بنو إسرائيل من سكان الأرض وجبنوا عن القتال فقام فيهم يوشع وكالب قائلين لا تخافوا من العدو فإنهم لقمة لنا والله معنا، فلم يصغ القوم لهم وأوحى الله لموسى أن بني إسرائيل أساءوا الظن بربهم وأنه مهلكهم فاستشفع لهم موسى فعفا الله عنهم ولكنه حرمهم من الدخول إلى الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون فلا يدخل لها أحد من
ـــــــ
1 ذلك أن الآية لم تعين اسم القرية ولا عامل حطة ولا مفعوله, وأجملت في الذين بدلوا وفي القول ما هو, وفي الذي قيل لهم , والقصد من ذلك تجنب ثقل غعادة الأمر المعلوم فإن بني إسرائيل المخاطبين كانوا يعلمون ذلك والمسلمين بالمدينة كانوا يتلقونه مفصلا من النبي صلى الله عليه وسلم ومن مسلمي أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام.

الحاضرين يومئذ إلا يوشعا وكالبا وأرسل الله على الجواسيس العشرة المثبطين وباء أهلكهم.
فهذه الآية تنطبق على هذه القصة تمام الانطباق لا سيما إذا ضمت لها آية سورة المائدة: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] إلى قوله {الفاسقين} فقوله: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} الظاهر أنه أراد بها حبرون التي كانت قريبة منهم والتي ذهب إليها جواسيسهم وأتوا بثمارها، وقيل أراد من القرية الجهة كلها قاله القرطبي عن عمرو بن شبة فإن القرية تطلق على المزرعة لكن هذا يبعده قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ} يطلق على المدخل بين الجبلين وكيفما كان ينتظم ذلك مع قوله {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} يشير إلى الثمار الكثيرة هناك. وقوله {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] يتعين أنه إشارة إلى ما أشاعه الجواسيس العشرة من مذمة الأرض وصعوبتها وأنهم لم يقولوا مثل ما قال موسى حيث استنصت الشعب بلسان كالب بن بفنة ويوشع ويدل لذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً} [لأعراف: 162] أي من الذين قيل لهم ادخلوا القرية وأن الرجز الذي أصاب الذين ظلموا هو الوباء الذي أصاب العشرة الجواسيس وينتظم ذلك أيضا مع قوله في آية المائدة: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] إلخ وقوله: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ} [المائدة: 23] فإن الباب يناسب القرية. وقوله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 26] فهذا هو التفسير الصحيح المنطبق على التاريخ الصريح.
فقوله: {وإذ قلنا} أي على لسان موسى فبلغه للقوم بواسطة استنصات كالب بن بفنة، وهذا هو الذي يوافق ما في سورة العقود في قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} الآيات. وعلى هذا الوجه فقوله {ادخلوا} إما أمر مفعول بدخول قرية قريبة منهم وهي حبرون لتكون مركزا أولا لهم، والأمر بالدخول أمر بما يتوقف الدخول عليه أعني القتال كما دلت عليه آية المائدة إذ قال: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} إلى قوله: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21} فإن الارتداد على الأدبار من الألفاظ المتعارفة في الحروب كما قال تعالى: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [لأنفال: 15] ولعل في الإشارة بكلمة {هذه} المفيدة للقرب ما يرجح أن القرية هي حبرون التي طلع إليها جواسيسهم.
والقرية بفتح القاف لا غير على الأصح البلدة المشتملة على المساكن المبنية من

حجارة وهي مشتقة من القرى بفتح فسكون وبالياء وهو الجمع يقال قرى الشيء يقربه إذا جمعه وهي تطلق على البلدة الصغيرة وعلى المدينة الكبيرة ذات الأسوار والأبواب كما أريد بها هنا بدليل قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة: من الآية58]. وجمع القرية قرى بضم القاف على غير قياس لأن قياس فعل أن يكون جمعا لفعلة بكسر الفاء مثل كسوة وكسى وقياس جمع قرية أن يكون على قراء بكسر القاف وبالمد كما قالوا ركوة وركاء وشكوة وشكاء.
وقوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} مراد به باب القرية لأن أل متعينة للعوضية عن المضاف إليه الدال عليه اللفظ المتقدم -ومعنى السجود عند الدخول الانحناء شكرا لله تعالى لا لأن بابها قصير كما قيل إذ لا جدوى له والظاهر أن المقصود من السجود مطلق الانخناء لإظهار العجز والضعف كيلا يفطن لهم أهل القرية وهذا من أحوال الجوسسة، ولم تتعرض لها التوراة ويبعد أن يكون السجود المأمور به سجود الشكر لأنهم داخلون متجسسين لا فاتحين وقد جاء في الحديث الصحيح أنهم بدلوا وصية موسى فدخلوا يزحفون على أستاههم كأنهم أرادوا إظهار الزمانة فأفرطوا في التصنع بحيث يكاد أن يفتضح أمرهم لأن بعض التصنع لا يستطاع استمراره.
وقوله {وَقُولُوا حِطَّةٌ} الحطة فعلة من الحط وهو الخفض وأصل الصيغة أن تدل على الهيئة ولكنها هنا مراد بها مطلق المصدر، والظاهر أن هذا القول كان معروفا في ذلك المكان للدلالة على العجز أو هو من أقوال السؤال والشحاذين كيلا يحسب لهم أهل القرية حسابا ولا يأخذوا حذرا منهم فيكون القول الذي أمروا به قولا يخاطبون به أهل القرية.
وقيل المراد من الحطة سؤال غفران الذنوب أي حط عنا ذنوبنا أي اسألوا الله غفران ذنوبكم إن دخلتم القرية. وقيل من الحط بمعنى حط الرحال أي إقامة أي ادخلوا قائلين إنكم ناوون الإقامة بها إذ الحرب ودخول ديار العدو يكون فتحا ويكون صلحا ويكون للغنيمة ثم الإياب. وهذان التأويلان بعيدان ولأن القراءة بالرفع وهي المشهورة تنافي القول بأنها طلب المغفرة لأن المصدر المراد به الدعاء لا يرتفع على معنى الإخبار نحو سقيا ورعيا وإنما يرتفع إذا قصد به المدح أو التعجب لقربهما من الخبر دون الدعاء ولا يستعمل الخبر في الدعاء إلا بصيغة الفعل نحو رحمه الله ويرحمه الله.
وحطة بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر نحو سمع وطاعة وصبر جميل.
والخطايا جمع خطيئة ولامها مهموزة فقياس جمعها خطائي بهمزتين بوزن فعائل

فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء لأن قبلها كسرة أو لأن في الهمزتين ثقلا فخففوا الأخيرة منهما ياء ثم قلبوها ألفا إما لاجتماع ثقل الياء مع ثقل صيغة الجمع وإما لأنه لما أشبه جائي استحق التخفيف ولكنهم لم يعاملوه معاملة جائي لأن همزة جائي زائدة وهمزة خطائي أصلية ففروا بتخفيفه إلى قلب الياء ألفا كما فعلوا في يتامى ووجدوا له في الأسماء الصحيحة نظيرا وهو طهارى جمع طاهرة. والخطيئة فعلية بمعنى مفعولة لأنها مخطوء بها أي مسلوك بها مسلك الخطأ أشاروا إلى أنها فعل يحق أن لا يقع فيه فاعله إلا خطأ فهي الذنب والمعصية.
وقوله: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} وعد بالزيادة من خيري الدنيا والآخرة ولذلك حذف مفعول نزيد. والواو عاطفة جملة {سنزيد} على جملة: {قُلْنَا ادْخُلُوا} أي وقلنا سنزيد المحسنين؛ لأن جملة {سنزيد} حكيت في سورة الأعراف مستأنفة فعلم أنها تعبر عن نظير لها في الكلام الذي خاطب الله به موسى على معنى الترقي في التفضل فلما حكيت هنا عطفت عطف القول على القول.
وقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} أي بدل العشرة القول الذي أمر موسى بإعلانه في القوم وهو الترغيب في دخول القرية وتهوين العدو عليهم فقالوا لهم لا تستطيعون قتالهم وثبطوهم ولذلك عوقبوا فأنزل عليهم رجز من السماء وهو الطاعون. وإنما جعل من السماء لأنه لم يكن له سبب أرضى من عدوى أو نحوها فعلم أنه رمتهم به الملائكة من السماء بأن ألقيت عناصره وجراثيمه عليهم فأصيبوا به دون غيرهم. ولأجل هذا خص التبديل بفريق معروف عندهم فعبر عنه بطريق الموصولية لعلم المخاطبين به وبتلك الصلة فدل على أن التبديل ليس من فعل جميع القوم أو معظمهم لأن الآية تذكير لليهود بما هو معلوم لهم من حوادثهم.
وإنما جاء بالظاهر في موضع المضمر في قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً} ولم يقل عليهم لئلا يتوهم أن الرجز عم جميع بني إسرائيل وبذلك تنطبق الآية على ما ذكرته التوراة تمام الانطباق.
وتبديل القول تبديل جميع ما قاله الله لهم وما حدثهم الناس عن حال القرية، وللإشارة إلى جميع هذا بني فعل {قيل} إلى المجهول إيجازا. فقولا مفعول أول لبدل، و { غَيْرَ الَّذِي قِيلَ} مفعول ثان لأن بدل يتعدى إلى مفعولين من باب كسى أي مما دل على عكس معنى كسى مثل سلبه ثوبه. قال أبو الشيص:

بدلت من برد الشباب ملاءة ... خلقا وبئس مثوبة المقتاض
وفائدة إظهار لفظ القول دون أن يقال فبدلوه لدفع توهم أنهم بدلوا لفظ حطة خاصة وامتثلوا ما عدا ذلك لأنه لو كان كذلك لكان الأمر هينا. وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن القول الذي بدلوا به أنهم قالوا حبة في شعرة أو في شعيرة، والظاهر أن المراد به أن العشرة استهزأوا بالكلام الذي أعلنه موسى عليه السلام في الترغيب في فتح الأرض وكنوا عن ذلك بأن محاولتهم فتح الأرض كمحاولة ربط حبة بشعرة أي في التعذر، أو هو كأكل حبة مع شعرة تخنق آكلها، أو حبة من بر مع شعيرة.
وقوله {فبدل الذين ظلموا} وقوله {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: من الآية59] اعتنى فيهما بالإظهار في موضع الإضمار ليعلم أن الرجز خص الذين بدلوا القول وهم العشرة الذين أشاعوا مذمة الأرض لأنهم كانوا السبب في شقاء أمة كاملة. وفي هذا موعظة وذكرى لكل من ينصب نفسه لإرشاد قوم ليكون على بصيرة بما يأتي ويذر وعلم بعواقب الأمور فمن البر ما يكون عقوقا، وفي المثل على أهلها تجني براقش وهي اسم كلبة قوم كانت تحرسهم بالليل فدل نبحها أعداءهم عليهم فاستأصلوهم فضربت مثلا.
[60] {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
تذكير بنعمة أخرى جمعت ثلاث نعم وهي الري من العطش، وتلك نعمة كبرى أشد من نعمة إعطاء الطعام ولذلك شاع التمثيل بري الظمآن في حصول المطلوب. وكون السقي في مظنة عدم تحصيله وتلك معجزة لموسى وكرامة لأمته لأن في ذلك فضلا لهم. وكون العيون اثنتى عشرة ليستقل كل سبط بمشرب فلا يتدافعوا.
وقوله {وإذ} متعلق بـ {اذكروا} وقد أشارت الآية إلى حادثة معروفة عند اليهود وذلك أنهم لما نزلوا في رفيديم قبل الوصول إلى برية سينا وبعد خروجهم من برية سين في حدود الشهر الثالث من الخروج عطشوا ولم يكن بالموضع ماء فتذمروا على موسى وقالوا أتصعدنا من مصر لنموت وأولادنا ومواشينا عطشا فدعا موسى ربه فأمره الله أن يضرب بعصاه صخرة هناك في حوريب فضرب فانفجر منها الماء. ولم تذكر التوراة أن العيون اثنتا عشرة عينا وذلك التقسيم من الرفق بهم لئلا يتزاحموا مع كثرتهم فيهلكوا فهذا

مما بينه الله في القرآن.
فقوله: {اسْتَسْقَى مُوسَى} صريح في أن طالب السقي هو موسى وحده، سأله من الله تعالى ولم يشاركه قومه في الدعاء لتظهر كرامته وحده، كذلك كان استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر لما قال له الأعرابي هلك الزرع والضرع فادع الله أن يسقينا والحديث في الصحيحين.
وقوله: {لقومه} مؤذن بأن موسى لم يصبه العطش وذلك لأنه خرج في تلك الرحلة موقنا أن الله حافظهم ومبلغهم إلى الأرض المقدسة فلذلك وقاه الله أن يصيبه جوع أو عطش وكلل وكذلك شأن الأنبياء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وصال الصوم: "إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"
قال ابن عرفة في تفسيره أخذ المازري من هذه الآية جواز استسقاء المخصب للمجدب لأن موسى عليه السلام لم ينله ما نالهم من العطش ورده ابن عرفة بأنه رسولهم وهو معهم اه. وهو رد متمكن إذ ليس المراد باستسقاء المخصب للمجدب الأشخاص وإنما المراد استسقاء أهل بلد لم ينلهم الجدب لأهل بلد مجدبين والمسألة التي أشار إليها المازري مختلف فيها عندنا واختار اللخمي جواز استسقاء المخصب للمجدب لأنه من التعاون على البر ولأن دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة وقال المازري فيه نظر لأن السلف لم يفعلوه.
وعصا موسى هي التي ألقاها في مجلس فرعون فتلقفت ثعابين السحرة وهي التي كانت في يد موسى حين كلمه الله في برية سينا قبل دخوله مصر وقد رويت في شأنها أخبار لا يصح منها شيء فقيل إنها كانت من شجر آس الجنة أهبطها آدم معه فورثها موسى ولو كان هذا صحيحا لعده موسى في أوصافها حين قال: {هِيَ عَصَايَ} [طه: 18] إلخ فإنه أكبر أوصافها.
والعصا بالقصر أبدا ومن قال عصاه بالهاء فقد لحن وعن الفراء أن أول لحن ظهر بالعراق قولهم عصاتي.
و "آل" في "الحجر" لتعريف الجنس أي أضرب أي حجر شئت، أو للعهد مشيرا إلى حجر عرفه موسى بوحي من الله وهو حجر صخر في جبل حوريب الذي كلم الله منه موسى كما ورد في سفر الخروج وقد وردت فيه أخبار ضعيفة.

والفاء في قوله: {فانفجرت} قالوا هي فاء الفصيحة ومعنى فاء الفصيحة أنها الفاء العاطفية إذ لم يصلح المذكور بعدها لأن يكون معطوفا على المذكور قبلها فيتعين تقدير معطوف آخر بينهما يكون ما بعد الفاء معطوفا عليه وهذه طريقة السكاكي فيها وهي المثلى. وقيل إنها تدل على محذوف قبلها فإن كان شرطا فالفاء فاء الجواب وإن كان مفردا فالفاء عاطفة ويشملها اسم فاء الفصيحة وهذه طريقة الجمهور على الوجهين فتسميتها بالفصيحة لأنها أفصحت عن محذوف، والتقدير في مثل هذا فضرب فانفجرت وفي مثل قول عباس ابن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقدجئنا خراسانا
أي إن كان القفول بعد الوصول إلى خراسان فقد جئنا خراسان أي فلنقفل فقد جئنا. وعندي أن الفاء لا تعد فاء فصيحة إلا إذا لم يستقم عطف ما بعدها على ما قبلها فإذا استقام فهي الفاء العاطفة والحذف إيجاز وتقدير المحذوف لبيان المعنى وذلك لأن الانفجار مترتب على قوله تعالى لموسى {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} لظهور أن موسى ليس ممن يشك في امتثاله بل ولظهور أن كل سائل أمرا إذا قيل له افعل كذا أن يعلم أن ما أمر به هو الذي فيه جوابه كما يقول لك التلميذ ما حكم كذا? فتقول افتح كتاب الرسالة في باب كذا، ومنه قوله تعالى الآتي: {اهْبِطُوا مِصْراً} [البقرة: من الآية61] وأما تقدير الشرط هنا أي فإن ضربت فقد انفجرت إلخ فغير بين ومن البحث ذكره في الكشاف.
وقوله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} قال العكبري وأبو حيان إنه استئناف، وهما يريدان الاستئناف البياني ولذلك فصل كأن سائلا سأل عن سبب انقسام الانفجار إلى اثنتي عشرة عينا فقيل قد علم كل سبط مشربهم والأظهر عندي أنه حال جردت عن الواو لأنه خطاب لمن يعقلون القصة فلا معنى لتقدير سؤال. والمراد بالأناس كل ناس سبط من الأسباط.
وقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} مقول قول محذوف وقد جمع بين الأكل والشرب وإن كان الحديث على السقي لأنه قد تقدمه إنزال المن والسلوى، وقيل هنالك: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] فلما شفع ذلك بالماء اجتمع المنتان.
وقوله: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} من جملة ما قيل لهم ووجه النهي عنه أن النعمة قد تنسي العبد حاجته إلى الخالق فيهجر الشريعة فيقع في الفساد قال تعالى: {كَلاَّ

إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6,7]
{ولا تعثوا} مضارع عثى كرضى، وهذه لغة أهل الحجاز وهي الفصحى فقوله: {ولا تعثوا} بوزن لا ترضوا ومصدره عند أهل اللغة يقتضي أن يكون بوزن رضى ولم أر من صرح به وذكر له في اللسان مصادر العثي والعثي بضم العين وكسرها مع كسر الثاء فيهما وتشديد الياء فيهما، والعثيان بفتحتين وفي لغة غير أهل الحجاز عثا يعثو مثل سما يسمو ولم يقرأ أحد من القراء {ولا تعثوا} بضم الثاء.
وهو أشد الفساد وقيل هو الفساد مطلقا وعلى الوجهين يكون {مفسدين} حالا مؤكدة لعاملها. وفي الكشاف جعل معنى لا تعثوا لا تتمادوا في فسادكم فجعل المنهي عنه هو الدوام على الفعل وكأنه يأبى صحة الحال المؤكدة للجملة الفعلية فحاول المغايرة بين {لا تعثوا} وبين {مفسدين} تجنبا للتأكيد وذلك هو مذهب الجمهور ولكن كثيرا من المحققين خالف ذلك، واختار ابن مالك التفصيل فإن كان معنى الحال هو معنى العامل جعلها شبيهة بالمؤكدة لصاحبها كما هنا وخص المؤكدة لمضمون الجملة الواقعة بعد الاسمية نحو زيد أبوك عطوفا وقول سالم بن دارة اليربوعي:
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للناس من عار
[61] {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}
هي معطوفة على الجمل قبلها بأسلوب واحد، وإسناد القول إلى ضمير المخاطبين جار على ما تقدم في نظائره وما تضمنته الجمل قبلها هو من تعداد النعم عليهم محضة أو مخلوطة بسوء شكرهم وبترتب النعمة على ذلك الصنيع بالعفو ونحوه كما تقدم، فالظاهر أن يكون مضمون هذه الجملة نعمة أيضا.

وللمفسرين حيرة في الإشارة إليها فيؤخذ من كلام الفخر أن قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} هو كالإجابة لما طلبوه يعني والإجابة إنعام ولو كان معلقا على دخول قرية من القرى ولا يخفى أنه بعيد جدا لأن إعطاءهم ما سألوه لم يثبت وقوعه. ويؤخذ من كلام المفسرين الذي صدر الفخر بنقله ووجهه عبد الحكيم أن سؤالهم تعويض المن والسلوى بالبقل ونحوه معصية لما فيه من كراهة النعمة التي أنعم الله بها عليهم إذ عبروا عن تناولها بالصبر والصبر هو حمل النفس على الأمر المكروه ويدل لذلك أنه أنكر عليهم بقوله {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} فيكون محل النعمة هو الصفح عن هذا الذنب والتنازع معهم إلى الإجابة بقوله {اهبطوا} ولا يخفى أن هذا بعيد إذ ليس في قوله {اهبطوا} إنعام عليهم ولا في سؤالهم ما يدل على أنهم عصوا لأن طلب الانتقال من نعمة لغيرها لغرض معروف لا يعد معصية كما بينه الفخر.
فالذي عندي في تفسير الآية أنها انتقال من تعداد النعم المعقبة بنعم أخرى إلى بيان سوء اختيارهم في شهواتهم والاختيار دليل عقل اللبيب، وإن كان يختار مباحا، مع ما في صيغة طلبهم من الجفاء وقلة الأدب مع الرسول ومع المنعم إذ قالوا: {لن نصبر} فعبروا عن تناول المن والسلوى بالصبر المستلزم الكراهية وأتوا بما دل عليه لن في حكاية كلامهم من أنهم لا يتناولون المن والسلوى من الآن فإن لن تدل على استغراق النفي لأزمنة فعل {نصبر} من أولها إلى آخرها وهو معنى التأييد وفي ذلك إلجاء لموسى أن يبادر بالسؤال يظنون أنهم أيأسوه من قبول المن والسلوى بعد ذلك الحين فكان جواب الله لهم في هذه الطلبة أن قطع عنايته بهم وأهملهم ووكلهم إلى نفوسهم ولم يرهم ما عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد فلق البحر وتظليل الغمام بل قال لهم {اهْبِطُوا مِصْراً} فأمرهم بالسعي لأنفسهم وكفى بذلك تأديبا وتوبيخا.
قال الشيخ ابن عطاء الله رحمه الله: من جهل المريد أن يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه فيقول لو كان في هذا إساءة لعوقبت فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر ولو لم يكن إلا منع المزيد، وقد يقام مقام البعد من حيث لا يدري، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد، والمقصد من هذا أن ينتقل من تعداد النعم إلى بيان تلقيهم لها بالاستخفاف لينتقل من ذلك إلى ذكر انقلاب أحوالهم وأسباب خذلانهم وليس شيء من ذلك بمقتضى كون السؤال معصية فإن العقوبات الدنيوية وحرمان الفضائل ليست من آثار خطاب التكليف ولكنها من أشباه خطاب الوضع ترجع إلى ترتب المسببات على أسبابها وذلك من نواميس

نظام العالم وإنما الذي يدل على كون المجزي عليه معصية هو العقاب الأخروي وبهذا زالت الحيرة واندفع كل إشكال وانتظم سلك الكلام.
وقد أشارت الآية إلى قصة ذكرتها التوراة مجملة منتثرة وهي أنهم لما ارتحلوا من برية سينا من حوريب ونزلوا في برية فاران في آخر الشهر الثاني من السنة الثانية من الخروج سائرين إلى جهات حبرون فقالوا تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا أي يصطادونه بأنفسهم والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم وقد يبست نفوسنا فلا نرى إلا هذا المن فبكوا فغضب الله عليهم وسأله موسى العفو فعفا عنهم وأرسل عليهم السلوى فادخروا منها طعام شهر كامل.
والتعبير بلن المفيدة لتأييد النفي في اللغة العربية لأداء معنى كلامهم المحكي هنا في شدة الضجر وبلوغ الكراهية منهم حدها الذي لا طاقة عنده. فإن التأييد يفيد استغراق النفي في جميع أجزاء الأبد أولها وآخرها فلن في نفي الأفعال مثل لا التبرئة1 في نفي النكرات.
ووصفوا الطعام بواحد وإن كان هو شيئين المن والسلوى لأن المراد أنه متكرر كل يوم.
وجملة {يخرج لنا} إلى آخرها هي مضمون ما طلبوا منه أن يدعو به فهي في معنى مقول قول محذوف كأنه قيل قل لربك يخرج لنا ومقتضى الظاهر أن يقال أن يخرج لنا فعدل عن ذلك إلى الإتيان بفعل مجزوم في صورة جواب طلبهم إيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن دعا ربه أجابه حتى كأن إخراج ما تنبت الأرض يحصل بمجرد دعاء موسى ربه، وهذا أسلوب تكرر في القرآن مثل قوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [ابراهيم: 31] {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الاسراء: 53] وهو كثير فهو بمنزلة شرط وجزاء كأنه قيل إن تدع ربك بأن يخرج لنا يخرج لنا، وهذا بتنزيل سبب السبب منزلة السبب فجزم الفعل المطلوب في جواب الأمر بطلبه لله للدلالة على تحقق وقوعه لثقتهم بإجابة الله تعالى دعوة موسى، وفيه تحريض على إيجاد ما علق عليه الجواب كأنه أمر في مكنته فإذا لم يفعل فقد شح عليهم بما فيه نفعهم.
والإخراج: الإبراز من الأرض، ومن الأولى تبعيضية والثانية بيانية أو الثانية أيضا
ـــــــ
1 هي النافية للجنس, المفيدة لاستغراق النفي جميع أفراد الجنس.

تبعيضية لأنهم لا يطلبون جميع البقل بل بعضه، وفيه تسهيل على المسؤول ويكون قوله {من بقلها} حالا من ما أو هو بدل من ما تنبت بإعادة حرف الجر، وعن الحسن كانوا قوما فلاحة فنزعوا إلى عكرهم1
وقد اختلف في الفوم فقيل هو الثوم بالمثلثة وإبدال الثاء فاء شائع في كلام العرب كما قالوا جدث وجدف وثلغ وفلغ، وهذا هو الأظهر والموافق لما عد معه ولما في التوراة. وقيل الفوم الحنطة وأنشد الزجاج لا حيحة بن الجلاح:
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ... ورد المدينة من مزارع فوم
يريد مزارع الحنطة وقيل الفوم الحمص بلغة أهل الشام.
وقوله: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} هو من كلام موسى وقيل من كلام الله وهو توبيخ شديد لأنه جرده عن المقنعات وعن الزجر، واقتصر على الاستفهام المقصود منه التعجب فالتوبيخ. وفي الاستبدال للخير بالأدنى النداء بنهاية حماقتهم وسوء اختيارهم.
وقوله: {أتستبدلون} السين والتاء فيه لتأكيد الحدث وليس للطلب فهو كقوله {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن: 6] وقولهم استجاب بمعنى أجاب، واستكبر بمعنى تكبر، ومنه قوله تعالى: {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الانسان: 7] في سورة الإنسان. وفعل استبدل مشتق من البدل بالتحريك مثل شبه، ويقال بكسر الباء وسكون الدال مثل شبه ويقال بديل مثل شبيه وقد سمع في مشتقاته استبدل وأبدل وبدل وتبدل وكلها أفعال مزيدة ولم يسمع منه فعل مجرد وكأنهم استغنوا بهذه المزيدة عن المجرد، وظاهر كلام صاحب الكشاف في سورة النساء عند قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} أن استبدل هو أصلها وأكثرها وأن تبدل محمول عليه لقوله والتفعل بمعنى الاستفعال غزير ومنه التعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار.
وجميع أفعال مادة البدل تدل على جعل شيء مكان شيء آخر من الذوات أو الصفات أو عن تعويض شيء بشيء آخر من الذوات أو الصفات.
ولما كان معنى الحدث المصوع منه الفعل اقتضت هذه الأفعال تعدية إلى
ـــــــ
1 العكر- بكسر العين وسكون الكاف- الأصل.

متعلقين إما على وجه المفعولية فيهما معا مثل تعلق فعل الجعل، وإما على وجه المفعولية في أحدهما والجر للآخر مثل متعلقي أفعال التعويض كاشترى وهذا هو الاستعمال الكثير، فإذا تعدى الفعل إلى مفعولين نحو: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [ابراهيم: 48] كان المفعول الأول هو المزال والثاني هو الذي يخلفه نحو قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} وقولهم أبدلت الحلقة خاتما، وإذ تعدت إلى مفعول واحد وتعدت إلى الآخر بالباء وهو الأكثر فالمنصوب هو الماخوذ والمجرور هو المبذول نحو قوله هنا {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} وقوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108] وقوله في سورة النساء: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2]، وقد يجر المعمول الثاني التي هي بمعنى باء البدلية كقول أبي الشيص:
بدلت من مرد الشباب ملاءة ... خلقا وبئس مثوبة المقتاض
وقد يعدل عن تعدية الفعل إلى الشيء المعوض ويعدى إلى آخذ العوض فيصير من باب أعطى فينصب مفعولين وينبه على المتروك بما يدل على ذلك من نحو من كذا، وبعد كذا، كقوله تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور: 55] التقدير ليبدلن خوفهم أمنا هذا تحرير طريق استعمال هذه الأفعال.
ووقع في الكشاف عند قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} ما يقتضي أن فعل بدل له استعمال غير استعمال فعل استبدل وتبدل بأنه إذا عدى إلى المعمول الثاني بالباء كان مدخول الباء هو المأخوذ وكان المنصوب هو المتروك والمعطي فقرره القطب في شرحه بما ظاهره أن بدل لا يكون في معنى تعديته إلا مخالفا لتبدل واستبدل، وقرره التفتزاني بأن فيه استعمالين إذا تعدى إلى المعمول الثاني بالباء أحدهما يوافق استعمال تبدل والآخر بعكسه، والأظهر عندي أن لا فرق بين بدل وتبدل واستبدل وأن كلام الكشاف مشكل وحسبك أنه لا يوجد في كلام أئمة اللغة ولا في كلامه نفسه في كتاب الأساس.
فالأمر في قوله: {اهبطوا} للإباحة المشوبة بالتوبيخ أي إن كان هذا همكم فاهبطوا بقرينة قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} فالمعنى اهبطوا مصرا من الأمصار يعنى وفيه إعراض عن طلبهم إذ ليس حولهم يومئذ بلد قريب يستطيعون وصوله.
وقيل أراد اهبطوا مصر أي بلد مصر بلد القبط أي ارجعوا إلى مصر التي خرجتم منها

والأمر لمجرد التوبيخ إذ لا يمكنهم الرجوع إلى مصر. واعلم أن مصر على هذا المعنى يجوز منعه من الصرف على تأويله بالبقعة فيكون فيه العلمية والتأنيث، ويجوز صرفه على تأويله بالمكان أو لأنه مؤنث ثلاثي ساكن الوسط مثل هند فهو في قراءة ابن مسعود بدون تنوين وأنه في مصحف أبي بن كعب بدون ألف وأنه ثبت بدون ألف في بعض مصاحف عثمان قاله ابن عطية، وذكر أن أشهب قال قال لي مالك هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون ا ه ويكون قول موسى لهم {اهْبِطُوا مِصْراً} أمرا قصد منه التهديد على تذكرهم أيام ذلهم وعنائهم وتمنيهم الرجوع لتلك المعيشة، كأنه يقول لهم ارجعوا إلى ما كنتم فيه إذ لم تقدروا قدر الفضائل النفسية ونعمة الحرية والاستقلال. وربما كان قوله: {هبطوا} دون لنهبط مؤذنا بذلك لأنه لا يريد إدخال نفسه في هذا الأمر وهذا يذكر بقول أبي الطيب:
فإن كان أعجبكم عامكم
فعودوا إلى حمص في القابل وقوله: {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} الظاهر أن الفاء للتعقيب عطفت جملة: {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} على جملة اهبطوا للدلالة على حصول سؤلهم بمجرد هبوطهم مصر أو ليست مفيدة للتعليل إذ ليس الأمر بالهبوط بمحتاج إلى التعليل بمثل مضمون هذه الجملة لظهور المقصود من قوله: {اهْبِطُوا مِصْراً} ولأنه ليس بمقام ترغيب في هذا الهبوط حتى يشجع المأمور بتعليل الأمر والظاهر أن عدم إرادة التعليل هو الداعي إلى ذكر فاء التعقيب لأنه لو أريد التعليل لكانت إن مغنية غناء الفاء على ما صرح به الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز في الفصل الخامس والفصل الحادي عشر من فصول شتى في النظم إذ يقول واعلم أن من شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه أي في قول بشار:
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
أن تغنى غناء الفاء العاطفة مثلا وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف مقطوعا موصولا معا وقال إنك ترى الجملة إذا دخلت إن ترتبط بما قبلها وتأتلف معه حتى كأن الكلامين أفرعا إفراغا واحدا حتى إذا أسقطت إن رأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول وتجافى معناه عن معناه حتى تجيء بالفاء فتقول مثلا:
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
ثم لا ترى الفاء تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة وهذا الضرب كثير في

التنزيل جدا من ذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]
وقوله {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} إلى قوله {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] وقال {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] إلخ. فظاهر كلام الشيخ أن وجود إن في الجملة المقصود منها التعليل والربط مغن عن الإتيان بالفاء، وأن الإتيان بالفاء حينئذ لا يناسب الكلام البليغ إذ هو كالجمع بين العوض والمعوض عنه فإذا وجدنا الفاء مع إن علمنا أن الفاء لمجرد العطف وإن لإرادة التعليل والربط بين الجملتين المتعاطفتين بأكثر من معنى التعقيب. ويستخلص من ذلك أن مواقع التعليل هي التي يكون فيها معناه بين مضمون الجملتين كالأمثلة التي ذكرها.
وجعل أبو حيان في البحر المحيط جملة {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} جوابا للأمر وزعم أن الأمر كما يجاب بالفعل يجاب بالجملة الاسمية ولا يخفى أن كلا المعنيين ضعيف هاهنا لعدم قصد الترغيب في هذا الهبوط حتى يعلل أو يعلق، وإنما هو كلام غضب كما تقدم. واقتران الجملة بإن المؤكدة لتنزيلهم منزلة من يشك لبعد عهدهم بما سألوه حتى يشكون هل يجدونه من شدة شوقهم، والمحب بسوء الظن مغري.
{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}
عطف على الجمل المتقدمة بالواو وبدون إعادة إذ، فأما عطفه فلأن هاته الجملة لها مزيد الارتباط بالجمل قبلها إذ كانت في معنى النتيجة والأثر لمدلول الجمل قبلها من قوله {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] فإن مضمون تلك الجمل ذكر ما من الله تعالى به عليهم من نعمة تحريرهم من استعباد القبط إياهم وسوقهم إلى الأرض التي وعدهم فتضمن ذلك نعمتي التحرير والتمكين في الأرض وهو جعل الشجاعة طوع يدهم لو فعلوا فلم يقدروا قدر ذلك وتمنوا العود إلى المعيشة في مصر إذ قالوا {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} كما فصلناه لكم هنا لك مما حكته التوراة وتقاعسوا عن دخول القرية وجبنوا عن لقاء العدو كما أشارت له الآية الماضية وفصلته آية المائدة فلا جرم إذ لم يشكروا النعمة ولم يقدروها أن تنتزع منهم ويسلبوها ويعوضوا عنها بضدها وهو الذلة المقابلة للشجاعة إذ لم يثقوا بنصر الله إياهم والمسكنة وهي العبودية فتكون الآية مسوقة مساق المجازاة للكلام السابق فهذا وجه العطف.
وأما كونه بالواو دون الفاء فليكون خبرا مقصودا بذاته وليس متفرعا على قول موسى لهم {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} لأنهم لم يشكروا النعمة فإن شكر النعمة

هو إظهار آثارها المقصودة منها كإظهار النصر للحق بنعمة الشجاعة وإغاثة الملهوفين بنعمة الكرم وتثقيف الأذهان بنعمة العلم فكل من لم يشكر النعمة فهو جدير بأن تسلب عنه ويعوض بضدها قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ} [سبأ: 16] الآية، ولو عطف بغير الواو لكان ذكره تبعا لذكر سببه فلم يكن له من الاستقلال ما ينبه البال.
فالضمير في قوله {وضربت عليهم....وباءوا} إلخ عائدة إلى جميع بني إسرائيل لا إلى خصوص الذين أبوا دخول القرية والذين قالوا لن نصبر على طعام واحد بدليل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} فإن الذين قتلوا النبيين هم أبناء الذين أبوا دخول القرية وقالوا: {لن نصبر} فالإتيان بضمير الغيبة هنا جار على مقتضى الظاهر لأنهم غير المخاطبين فليس هو من الالتفات إذ ليس قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} إلخ من بقية جواب موسى إياهم لما علمت من شموله للمتحدث عنهم الآبين دخول القرية ولغيرهم ممن أتى بعدهم فقد جاء ضمير الغيبة على أصله، أما شموله للمخاطبين فإنما هو بطريقة التعريض وهو لزوم توراث الأبناء أخلاق الآباء وشمائلهم كما قررناه في وجه الخطابات الماضية من قوله {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة: 50] الآيات ويؤيده التعليل الآتي بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} المشعر بأن كل من اتصف بذلك فهو جدير بأن يثبت له من الحكم مثل ما ثبت للآخر.
والضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة يقال ضرب بعصا وبيده وبالسيف وضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق. فمنه ضرب في الأرض. وسار طويلا، وضرب قبة وبيتا في موضع كذا بمعنى شدها ووثقها من الأرض. قال عبدة بن الطبيب:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة
وقال زياد الأعجم:
في قبة ضربت على ابن الحشرج
وضرب الطين على الحائط ألصقه وقد تقدم ما لجميع هذه المعاني عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26].
فقوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} استعارة مكنية إذ شبهت الذلة والمسكنة

في الإحاطة بهم واللزوم بالبيت أو القبة يضربها الساكن ليلزمها وذكر الضرب تخييل لأنه ليس له شبيه في علائق المشبه. ويجوز أن يكون ضربت استعارة تبعية وليس ثمة مكنية بأن شبه لزوم الذلة لهم ولصوقها بلصوق الطين بالحائط، ومعنى التبعية أن المنظور إليه في التشبيه هو الحدث والوصف لا الذات بمعنى أن جريان الاستعارة في الفعل ليس بعنوان كونه تابعا لفاعل كما في التخييلية بل بعنوان كونه حدثا وهو معنى قولهم أجريت في الفعل تبعا لجريانها في المصدر وبه يظهر الفرق بين جعل ضربت تخييلا وجعله تبعية وهي طريقة في الآية سلكها الطيبي في شرح الكشاف وخالفه التفتزاني وجعل الضرب استعارة تبعية بمعنى الإحاطة والشمول سواء كان المشبه به القبة أو الطين، وهما احتمالان مقصودان في هذا المقام يشعر بهما البلغاء.
ثم إن قوله تعالى {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} ليس هو من باب قول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج1
لأن القبة في الآية مشبه بها وليست بموجودة والقبة في البيت يمكن أن تكون حقيقة فالآية استعارة وتصريح والبيت حقيقة وكناية كما نبه عليه الطيبي وجعل التفتزاني الآية على الاحتمالين في الاستعارة كناية عن كون اليهود أذلاء متصاغرين وهي نكت لا تتزاحم. والذلة الصغار وهي بكسر الذال لا غير وهي ضد العزة ولذلك قابل بينهما السموأل أو الحارثي في قوله:
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
والمسكنة الفقر مشتقة من السكون لأن الفقر يقلل حركة صاحبه. وتطلق على الضعف ومنه المسكين للفقير. ومعنى لزوم الذلة والمسكنة لليهود أنهم فقدوا البأس والشجاعة وبدا عليهم سيما الفقر والحاجة مع وفرة ما أنعم الله عليهم فإنهم لما سئموها صارت لديهم كالعدم ولذلك صار الحرص لهم سجية باقية في أعقابهم.
والبوء الرجوع وهو هنا مستعار لانقلاب الحالة مما يرضي الله إلى غضبه.
ـــــــ
1 البيت لزياد الأعجم من قصيدة في عبد الله بن الحشرج القيسي أمير نيسابور لبني أمية وكان عبد الله جوادا سيدا وقول زياد في قبة كناية عن نسبة الكرم إلى عبد الله وإن لم تكن لعبد الله قبة لكن مع جواز أن تكون له قبة على قاعدة الكناية. أما الآية فمبنية على تشبيه الذلة بالقبة فالقبة ممتنعة الحصول لأن المشبه به لايكون واقعا.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} استئناف بياني أثاره ما شنع به حالهم من لزوم الذلة والمسكنة لهم والإشارة إلى ما تقدم من قوله {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ} . وأفرد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور وهو أولى بجواز الإفراد من إفراد الضمير في قول رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق
قال أبو عبيدة لرؤبة: إن أردت الخطوط فقل كأنها وإن أردت السواد والبياض فقل كأنهما فقال رؤبة أردت كأن ذلك ويلك وإنما كان ما في الآية أولى بالإفراد لأن الذلة والمسكنة والغضب مما لا يشاهد فلا يشار إلى ذاتها ولكن يشار إلى مضمون الكلام وهو شيء واحد أي مذكور ومقول ومن هذا قوله تعالى {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:58] أي ذلك القصص السابق. ومنه قوله تعالى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] وسيأتي
وقال صاحب الكشاف1 والذي حسن ذلك أن أسماء الإشارة ليست تثنيتها وجمعها وتأنيثها على الحقيقة وكذلك الموصولات ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع اه قيل أراد به أن جمع أسماء الإشارة وتثنيتها لم يكن بزيادة علامات بل كان بألفاظ خاصة بتلك الأحوال فلذلك كان استعمال بعضها في معنى بعض أسهل إذا كان على تأويل. وهو قليل الجدوى لأن المدار على التأويل والمجاز سواء كان في استعمال لفظ في معنى آخر أو في استعمال صيغة في معنى أخرى فلا حسن يخص هذه الألفاظ فيما يظهر فلعله أراد أن ذا موضوع لجنس ما يشار إليه. والذي موضوع لجنس ما عرف بصلة فهو صالح للإطلاق على الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث وإن ما يقع من أسماء الإشارة والموصولات للمثنى نحو ذان وللجمع نحو أولئك، إنما هو اسم بمعنى المثنى والمجموع لا أنه تثنية مفرد، وجمع مفرد، فذا يشار به للمثنى والمجموع ولا عكس فلذلك حسن استعمال المفرد منها للدلالة على المتعدد.
والباء في قوله {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} سببية أي أن كفرهم وما معه كان سببا لعقابهم في الدنيا بالذلة والمسكنة وفي الآخرة بغضب الله وفيه تحذير من الوقوع في مثل
ـــــــ
1 في تفسير قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68]

ما وقعوا فيه.
وقوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} خاص بأجيال اليهود الذين اجترموا هذه الجريمة العظيمة سواء في ذلك من باشر القتل وأمر به ومن سكت عنه ولم ينصر الأنبياء. وقد قتل اليهود من الأنبياء أشعياء بن أموص الذي كان حيا في منتصف القرن الثامن قبل المسيح قتله الملك منسي ملك اليهود سنة 700 قبل المسيح نشر نشرا على جذع شجرة. وأرمياء النبي الذي كان حيا في أواسط القرن السابع قبل المسيح وذلك لأنه أكثر التوبيخات والنصائح لليهود فرجموه بالحجارة حتى قتلوه وفي ذلك خلاف. وزكرياء الأخير أبا يحي قتله هيرودس العبراني ملك اليهود من قبل الرومان لأن زكرياء حاول تخليص ابنه يحيى من القتل وذلك في مدة نبوءة عيسى، ويحيى بن زكرياء قتله هيرودس لغضب ابنة أخت هيرودس على يحيى.
وقوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي بدون وجه معتبر في شريعتهم فإن فيها: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] فهذا القيد من الاحتجاج على اليهود بأصول دينهم لتخليد مذمتهم، وإلا فإن قتل الأنبياء لا يكون بحق في حال من الأحوال، وإنما قال الأنبياء لأن الرسل لا تسلط عليهم أعداؤهم لأنه مناف لحكمة الرسالة التي هي التبليغ قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] وقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ومن ثم كان ادعاء النصارى أن عيسى قتله اليهود ادعاء منافيا لحكمة الإرسال ولكن الله أنهى مدة رسالته بحصول المقصد مما أرسل إليه.
وقوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] يحتمل أن تكون الإشارة فيه إلى نفس المشار إليه بذلك الأولى فيكون تكريرا للإشارة لزيادة تمييز المشار إليه حرصا على معرفته، ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة ولغضب الله تعالى عليهم، والآية حينئذ من قبيل التكرير وهو مغن عن العطف مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [لأعراف: 179]
ويجوز أن يكون المشار إليه بذلك الثاني هو الكفر بآيات الله وقتلهم النبيين فيكون ذلك إشارة إلى سبب ضرب الذلة الخ فما بعد كلمة ذلك هو سبب السبب تنبيها على أن إدمان العاصي يفضي إلى التغلغل فيها والتنقل من أصغرها إلى أكبرها.
والباء على الوجهين سببية على أصل معناها. ولا حاجة إلى جعل إحدى الباءين بمعنى مع على تقدير جعل اسم الإشارة الثاني تكريرا للأول أخذا من كلام الكشاف

الذي أحتفل به الطيبي فأطال في تقريره وتفنين توجيهه فإن فيه من التكلف ما ينبو عنه نظم القرآن. وكان الذي دعا إلى فرض هذا الوجه هو خلو الكلام من عاطف يعطف {بما عصوا} على {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} إذا كانت الإشارة لمجرد التكرير. ولقد نبهناك آنفا إلى دفع هذا بأن التكرير يغنى غناء العطف.
[62] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
توسطت هاته الآية بين آيات ذكر بني إسرائيل بما أنعم الله عليهم وبما قابلوا به تلك النعم من الكفران وقلة الاكتراث فجاءت معترضة بينها لمناسبة يدركها كل بليغ وهي أن ما تقدم من حكاية سوء مقابلتهم لنعم الله تعالى قد جرت عليهم ضرب الذلة والمسكنة ورجوعهم بغضب من الله تعالى عليهم ولما كان الإنحاء عليهم بذلك من شأنه أن يفزعهم إلى طلب الخلاص من غضب الله تعالى لم يترك الله تعالى عادته مع خلقه من الرحمة بهم وإرادته صلاح حالهم فبين لهم في هاته الآية أن باب الله مفتوح لهم وأن اللجأ إليه أمر هين عليهم وذلك بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات ومن بديع البلاغة أن قرن معهم في ذلك ذكر بقية من الأمم ليكون ذلك تأنيسا لوحشة اليهود من القوارع السابقة في الآيات الماضية وإنصافا للصالحين منهم، واعترافا بفضلهم، وتبشيرا لصالحي الأمم من اليهود وغيرهم الذين مضوا مثل الذين كانوا قبل عيسى وامتثلوا لأنبيائهم، ومثل الحواريين، والموجودين في زمن نزول الآية مثل عبد الله بن سلام وصهيب، فقد وفت الآية حق الفريقين من الترغيب والبشارة، وراعت المناسبتين للآيات المتقدمة مناسبة اقتران الترغيب بالترهيب، ومناسبة ذكر الضد بعد الكلام على ضده.
فمجيء "إن" هنا لمجرد الاهتمام بالخبر وتحقيقه لدفع توهم أن ما سبق من المذمات شامل لجميع اليهود فإن كثيرا من الناس يتوهم أن سلف الأمم التي ضلت كانوا مثلهم في الضلال. ولقد عجب بعض الأصحاب لما ذكرت لهم أني حين حللت في رومة تبركت بزيارة قبر القديس بطرس توهما منهم بكون قبره في كنيسة رومة فبينت لهم أنه أحد الحواريين أصحاب المسيح عيسى عليه السلام.
وابتدئ بذكر المؤمنين للاهتمام بشأنهم ليكونوا في مقدمة ذكر الفاضلين فلا يذكر أهل الخير إلا ويذكرون معهم، ومن مراعاة هذا المقصد قوله تعالى في سورة النساء

[162] {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي الذين هادوا: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية، ولأنهم القدوة لغيرهم كما قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} فالمراد من الذين آمنوا في هذه الآية هم المسلمون الذين صدقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لقب للأمة الإسلامية في عرف القرآن.
{وَالَّذِينَ هَادُوا} هم بنو إسرائيل وقد مضى الكلام عليهم وإنما يذكر هنا وجه وصفهم بالذين هادوا، ومعنى هادوا كانوا يهودا أو دانوا بدين اليهود. وأصل اسم يهود منقول في العربية من العبرانية وهو في العبرانية بذال معجمة في آخره وهو علم أحد أسباط إسرائيل، وهذا الاسم أطلق على بني إسرائيل بعد موت سليمان سنة 975 قبل المسيح فإن مملكة إسرائيل انقسمت بعد موته إلى مملكتين مملكة رحبعام بن سليمان ولم يتبعه إلا سبط يهوذا وسبط بنيامين وتلقب بمملكة يهوذا لأن معظم أتباعه من سبط يهوذا وجعل مقر مملكته هو مقر أبيه أورشليم ، ومملكة ملكها يوربعام بن بناط غلام سليمان وكان شجاعا نجيبا فملكته بقية الأسباط العشرة عليهم وجعل مقر مملكته السامرة وتلقب بملك إسرائيل إلا أنه وقومه أفسدوا الديانة الموسوية وعبدوا الأوثان فلأجل ذلك انفصلوا عن الجامعة الإسرائيلية ولم يدم ملكهم في السامرة إلا مائتين ونيفا وخمسين سنة ثم انقرض على يد ملوك الآشوريين فاستأصلوا الإسرائيليين الذين بالسامرة وخربوها ونقلوا بني إسرائيل إلى بلاد آشور عبيدا لهم وأسكنوا بلاد السامرة فريقا من الآشوريين فمن يومئذ لم يبق لبني إسرائيل ملك إلا ملك يهوذا بأورشليم يتداوله أبناء سليمان عليه السلام فمنذ ذلك غلب على بني إسرائيل اسم يهود أي يهوذا ودام ملكهم هذا إلى حد سنة 120 قبل المسيح مسيحية في زمن الأمبراطور أدريان الروماني الذي أجلى اليهود الجلاء الأخير فتفرقوا في الأقطار باسم اليهود هم ومن التحق بهم من فلول بقية الأسباط.
ولعل هذا وجه اختيار لفظ {وَالَّذِينَ هَادُوا} في الآية دون اليهود للإشارة إلى أنهم الذين انتسبوا إلى اليهود ولو لم يكونوا من سبط يهوذا. ثم صار اسم اليهود مطلقا على المتدينين بدين التوراة قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} الآية ويقال تهود إذا اتبع شريعة التوراة وفي الحديث يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. ويقال هاد إذا دان باليهودية قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146]
وأما في سورة الأعراف من قول موسى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} فذلك بمعنى المتاب.

وأما النصارى فهو اسم جمع نصري بفتح فسكون أو ناصري نسبة إلى الناصرة وهي قرية نشأت منها مريم أم المسيح عليهما السلام وقد خرجت مريم من الناصرة قاصدة بيت المقدس فولدت المسيح في بيت لحم ولذلك كان بنو إسرائيل يدعونه يشوع الناصري أو النصري فهذا وجه تسمية أتباعه بالنصارى.
وأما قوله: {والصابين} فقرأه الجمهور بهمزة بعد الموحدة على صيغة جمع صابئ بهمزة في آخره، وقرأه نافع وحده بياء ساكنة بعد الموحدة المكسورة على أنه جمع صاب منقوصا فأما على قراءة الجمهور فالصابئون لعله جمع صابئ وصابئ لعله اسم فاعل صبأ مهموزا أي ظهر وطلع، يقال صبأ النجم أي طلع وليس هو من صبأ يصبو إذا مال لأن قراءة الهمز تدل على أن ترك تخفيف الهمز في غيرها تخفيف لأن الأصل توافق القراءات في المعنى. وزعم بعض علماء الإفرنج1 أنهم سموا صابئة لأن دينهم أتى به قوم من سبأ. وأما على قراءة نافع فجعلوها جمع صاب مثل رام على أنه اسم فاعل من صبا يصبو إذا مال قالوا لأن أهل هذا الدين مالوا عن كل دين إلى دين عبادة النجوم ولو قيل لأنهم مالوا عن أديان كثيرة إذ اتخذوا منها دينهم كما ستعرفه لكان أحسن. وقيل إنما خفف نافع همزة الصابين فجعلها ياء مثل قراءته {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج:1] ومثل هذا التخفيف سماعي لأنه لا موجب لتخفيف الهمز المتحرك بعد حرف متحرك.
والأظهر عندي أن أصل كلمة الصابي أو الصابئة أو ما تفرع منها هو لفظ قديم من لغة عربية أو سامية قديمة هي لغة عرب ما بين النهرين من العراق وفي دائرة المعارف الإسلامية2 أن اسم الصابئة مأخوذ من أصل عبري هو (ص~ب~ع~) أي غطس عرفت به طائفة المنديا وهي طائفة يهودية نصرانية في العراق يقومون بالتعميد كالنصارى،
ويقال الصابئون بصيغة جمع صابئ والصابئة على أنه وصف لمقدر أي الأمة الصابئة وهم المتدينون بدين الصابئة ولا يعرف لهذا الدين إلا اسم الصابئة على تقدير مضاف أي دين الصابئة إضافة إلى وصف أتباعه ويقال دين الصابئة. وهذا الدين دين قديم ظهر في بلاد الكلدان في العراق وانتشر معظم أتباعه فيما بين الخابور ودجلة وفيما بين الخابور والفرات فكانوا في البطائح وكسكر في سواد واسط وفي حران من بلاد الجزيرة.
ـــــــ
1 انظر جديد لاروس باللغة الفرنسية.
2 في فصل حرره المستشرق "كارارفو".

وكان أهل هذا الدين نبطا في بلاد العراق فلما ظهر الفرس على إقليم العراق أزالوا مملكة الصابئين ومنعوهم من عبادة الأصنام فلم يجسروا بعد على عبادة أوثانهم. وكذلك منع الروم أهل الشام والجزيرة من الصابئين فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على التنصر فبطلت عبادة الأوثان منهم من ذلك الوقت وتظاهروا بالنصرانية فلما ظهر الإسلام على بلادهم اعتبروا في جملة النصارى وقد كانت صابئة بلاد كسكر والبطائح معتبرين صنفا من النصارى ينتمون إلى النبى يحيى بن زكرياء ومع ذلك لهم كتب يزعمون أن الله أنزلها على شيث بن آدم ويسمونه "أغاثا ديمون" ، والنصارى يسمونهم يوحناسية نسبة إلى يوحنا وهو يحيى.
وجامع أصل هذا الدين هو عبادة الكواكب السيارة والقمر وبعض النجوم مثل نجم القطب الشمالي وهم يؤمنون بخالق العالم وأنه واحد حكيم مقدس عن سمات الحوادث غير أنهم قالوا إن البشر عاجزون عن الوصول إلى جلال الخالق فلزم التقرب إليه بواسطة مخلوقات مقربين لديه وهي الأرواح المجردات الطاهرة المقدسة وزعموا أن هذه الأرواح ساكنة في الكواكب وأنها تنزل إلى النفوس الإنسانية وتتصل بها بمقدار ما تقترب نفوس البشر من طبيعة الروحانيات فعبدوا الكواكب بقصد الاتجاه إلى روحانياتها ولأجل نزول تلك الروحانيات على النفوس البشرية يتعين تزكية النفس بتطهيرها من آثار القوى الشهوانية والغضبية بقدر الإمكان والإقبال على العبادة بالتضرع إلى الأرواح وبتطهير الجسم والصيام والصدقة والطيب وألزموا أنفسهم فضائل النفس الأربع الأصلية وهي العفة والعدالة والحكمة والشجاعة والأخذ بالفضائل الجزئية المتشعبة عن الفضائل الأربع وهي الأعمال الصالحة وتجنب الرذائل الجزئية وهي أضداد الفضائل وهي الأعمال السيئة.
ومن العلماء من يقول إنهم يقولون بعدم الحاجة إلى بعثة الرسل وأنهم يعللون ذلك بأن مدعي الرسالة من البشر فلا يمكن لهم أن يكونوا واسطة بين الناس والخالق. ومن العلماء من ينقل عنهم أنهم يدعون أنهم على دين نوح. وهم يقولون إن المعلمين الأولين لدين الصابئة هما أغاثا ديمون وهرمس وهما شيث بن آدم. وإدريس، وهم يأخذون من كلام الحكماء ما فيه عون على الكمال فلذلك يكثر في كلامهم المماثلة لأقوال حكماء اليونان وخاصة سولون وإفلاطون وإرسطاطاليس ولا يبعد عندي أن يكون أولئك الحكماء اقتبسوا بعض الآراء من قدماء الصابئة في العراق فإن ثمة تشابها بينهم في عبادة الكواكب وجعلها آلهة وفي إثبات إلاه الآلهة.

وقد بنوا هياكل للكواكب لتكون مهابط لأرواح الكواكب وحرصوا على تطهيرها وتطييبها لكي تألفها الروحانيات وقد يجعلون للكواكب تماثيل من الصور يتوخون فيها محاكاة صور الروحانيات بحسب ظنهم.
ومن دينهم صلوات ثلاث في كل يوم، وقبلتهم نحو مهب ريح الشمال ويتطهرون قبل الصلاة وقراآتهم ودعواتهم تسمى الزمزمة بزايين كما ورد في ترجمة أبي إسحاق الصابئ. ولهم صيام ثلاثين يوما في السنة، موزعة على ثلاثة مواقيت من العام. ويجب غسل الجنابة وغسل المرأة الحائض. وتحرم العزوبة، ويجوز للرجل تزوج ما شاء من النساء ولا يتزوج إلا امرأة صابئة على دينه فإذا تزوج غير صابئة أو تزوجت الصابئة غير صابئ خرجا من الدين ولا تقبل منهما توبة. ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويدفنونهم في الأرض. ولهم رئيس للدين يسمونه الكمر بكاف وميم وراء.
وقد اشتهر هذا الدين في حران من بلاد الجزيرة، ولذلك تعرف الصابئة في كتب العقائد الإسلامية بالحرنانية بنونين نسبة إلى حران على غير قياس كما في القاموس. قال ابن حزم في كتاب الفصل: كان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه الحوادث فبعث الله إبراهيم عليه السلام بالحنيفية اه.
ودين الصابئة كان معروفا للعرب في الجاهلية، بسبب جوار بلاد الصابئة في العراق والشام لمنازل بعض قبائل العرب مثل ديار بكر وبلاد الأنباط المجاورة لبلاد تغلب وقضاعة. ألا ترى أنه لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم وصفه المشركون بالصابئ وربما دعوه بابن أبي كبشة الذي هو أحد أجداد آمنة الزهرية أم النبي صلى الله عليه وسلم، كان أظهر عبادة الكواكب في قومه فزعموا أن النبي ورث ذلك منه وكذبوا. وفي حديث عمران ابن حصين أنهم كانوا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونفد ماؤهم فابتغوا الماء فلقوا امرأة بين مزادتين على بعير فقالوا لها انطلقي إلى رسول الله فقالت الذي يقال له الصابئ قالوا هو الذي تعنين. وساق حديث تكثير الماء.
وكانوا يسمون المسلمين الصباة كما ورد في خبر سعد بن معاذ، أنه كان صديقا لأمية بن خلف وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انطلق سعد ذات يوم معتمرا فنزل على أمية بمكة وقال لأمية انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت فخرج به فلقيهما أبو جهل فقال لأمية يا أبا صفوان من هذا معك قال

سعد فقال له أبو جهل ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد أويتم الصباة.
وفي حديث غزوة خالد بن الوليد إلى جذيمة أنه عرض عليهم الإسلام أو السيف فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبأنا الحديث.
وقد قيل إن قوما من تميم عبدوا نجم الدبران. وأن قوما من لخم وخزاعة عبدوا الشعري العبور، وهو من كواكب برج الجوزاء في دائرة السرطان. وأن قوما من كنانة عبدوا القمر فظن البعض أن هؤلاء كانوا صابئة وأحسب أنهم تلقفوا عبادة هذه الكواكب عن سوء تحقيق في حقائق دين الصابئة ولم يجزم الزمخشري بأن في العرب صابئة فإنه قال في الكشاف في تفسير سورة فصلت[37] في قوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} قال لعل ناسا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين فنهوا عن ذلك.
وقد اختلف علماء الإسلام في إجراء الأحكام على الصابئة، فعن مجاهد والحسن أنهم طائفة بين اليهود والمجوس، وقال البيضاوي: هم قوم بين النصارى والمجوس فمن العلماء من ألحقهم بأهل الكتاب، ومن العلماء من ألحقهم بالمجوس، وسبب هذا الاضطراب هو اشتباه أحوالهم وتكتمهم في دينهم، وما دخل عليه من التخليط بسبب قهر الأمم التي تغلبت على بلادهم. فالقسم الذي تغلب عليهم الفرس اختلط دينهم بالمجوسية، والذين غلب عليهم الروم اختلط دينهم بالنصرانية.
قال ابن شاس في كتاب الجواهر الثمينة: قال الشيخ أبو الطاهر يعني ابن بشير التنوخي القيرواني منعوا ذبائح الصابئة لأنهم بين النصرانية والمجوسية ولا شك أنه يعني صابئة العراق، الذين كانوا قبل ظهور الإسلام على بلادهم على دين المجوسية.
وفي التوضيح على مختصر ابن الحاجب الفرعي في باب الذبائح قال الطرطوشي: لا تؤكل ذبيحة الصابيء وليست بحرام كذبيحة المجوسي وفيه في باب الصيد قال مالك لا يؤكل صيد الصابئ ولا ذبيحته.
وفي شرح عبد الباقي علي خليل إن أخذ الصابئ بالنصرانية ليس بقوي كما ذكره أبو إسحاق التونسي، وعن مالك لا يتزوج المسلم المرأة الصائبة.
قال الجصاص في تفسير سورة العقود وسورة براءة، روي عن أبي حنيفة أن الصابئة أهل الكتاب، وقال أبو يوسف ومحمد ليسوا أهل كتاب. وكان أبو الحسن الكرخي يقول الصابئة الذين هم بناحية حران يعبدون الكواكب، فليسوا أهل كتاب عندهم جميعا. قال

الجصاص: الصابئة الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فيهم أهل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد أعني الذين هم بناحية حران، والذين هم بناحية البطائح وكسكر في سواد واسط. وإنما الخلاف بين الذين بناحية حران والذين بناحية البطائح في شيء من شرائعهم وليس فيهم أهل كتاب فالذي يغلب على ظني في قول أبي حنيفة أنه شاهد قوما منهم يظهرون أنهم نصارى تقية، وهم الذين كانوا بناحية البطائح وكسكر ويسميهم النصارى يوحنا سية وهم ينتمون إلى يحيى بن زكرياء، وينتحلون كتبا يزعمون أنها التي أنزلها الله على شيث ويحيى. ومن كان اعتقاده من الصابئين على ما وصفنا وهم الحرانيون الذين بناحية حران وهم عبدة أوثان لا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينتحلون شيئا من كتب الله فلا خلاف بين الفقهاء في أنهم ليسوا أهل كتاب، وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وأبو يوسف ومحمد قالا إن الصابئين ليسوا أهل كتاب ولم يفصلوا بين الفريقين وكذا قول الأوزاعي ومالك بن أنس ا ه. كلامه.
ووجه الاقتصار في الآية، على ذكر هذه الأديان الثلاثة مع الإسلام دون غيرها من نحو المجوسية والدهريين والزنادقة أن هذا مقام دعوتهم للدخول في الإسلام والمتاب عن أديانهم التي أبطلت لأنهم أرجي لقبول الإسلام من المجوس والدهريين لأنهم يثبتون الإله المتفرد بخلق العالم ويتبعون الفضائل على تفاوت بينهم في ذلك، فلذلك اقتصر عليهم تقريبا لهم من الدخول في الإسلام. ألا ترى أنه ذكر المجوس معهم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: من الآية17] لأن ذلك مقام تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقوله تعالى: {من آمن} يجوز أن تكون "من" شرطا في موضع المبتدأ ويكون {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} جواب الشرط، والشرط مع الجواب خبر {إن}، فيكون المعنى إن الذين آمنوا من يؤمن بالله منهم فله أجره وحذف الرابط بين الجملة وبين اسم "إن" لأن "من" الشرطية عامة فكان الرابط العموم الذي شمل المبتدأ أعني اسم إن ويكون معنى الكلام على الاستقبال لوقوع الفعل الماضي في حيز الشرط أي من يؤمن منهم بالله ويعمل صالحا فله أجره ويكون المقصود منه فتح باب الإنابة لهم بعد أن قرعوا بالقوارع السالفة وذكر معهم من الأمم من لم يذكر عنهم كفر لمناسبة ما اقتضته العلة في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} [البقرة: 61] وتذكيرا لليهود بأنهم لا مزية لهم على غيرهم من الأمم حتى لا يتكلوا على الأوهام أنهم أحباء الله وأن ذنوبهم مغفورة. وفي ذلك أيضا إشارة إلى أن المؤمنين

الخالصين من اليهود وغيرهم ممن سلف مثل النقباء الذين كانوا في المناجاة مع موسى ومثل يوشع بن نون وكالب بن يفنه لهم هذا الحكم وهو أن لهم أجرا عند ربهم لأن إناطة الجزاء بالشرط المشتق مؤذن بالتعليل بل السابقون بفعل ذلك قبل التقييد بهذا الشرط أولى بالحكم فقد قضت الآية حق الفريقين.
ويجوز أن تكون "من" موصولة، بدلا من اسم "إن" والفعل الماضي حينئذ باق على المضي لأنه ليس ثمة ما يخلصه للاستقبال ودخلت الفاء في {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} إما على أنها تدخل في الخبر نحو قول الشاعر وهو من شواهد كتاب سيبوية
وقائلة خولان فانكح فتاتهم
ونحو {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج: من الآية10] عند غير سيبوية. وإما على أن الموصول عومل معاملة الشرط للإيذان بالتعليل فإدخلت الفاء قرينة على ذلك. ويكون المفاد من الآية حينئذ استثناء صالحي بني إسرائيل من الحكم، بضرب الذلة والمسكنة والغضب من الله ويكون ذكر بقية صالحي الأمم معهم على هذا إشارة إلى أن هذه سنة الله في معاملته خلقه ومجازاته كلا على فعله.
وقد استشكل ذكر {الَّذِينَ آمَنُوا} في عداد هؤلاء، وإجراء قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} عليهم مع أنهم مؤمنون فذكرهم تحصيل الحاصل، فقيل أريد به خصوص المؤمنين بألسنتهم فقط وهم المنافقون. وقيل أراد به الجميع وأراد بمن آمن من دام بالنسبة للمخلصين ومن أخلص بالنسبة للمنافقين. وهما جوابان في غاية البعد. وقيل يرجع قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} لخصوص الدين الذين هادوا والنصارى والصابين دون المؤمنين بقرينة المقام لأنهم وصفوا بالذين آمنوا وهو حسن. وعندي أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك، لأن الشرط والصلة تركبت من شيئين الإيمان والعمل الصالح. والمخلصون وإن كان إيمانهم حاصلا فقد بقي عليهم العمل الصالح فلما تركب الشرط أو الصلة من أمرين فقد علم كل أناس مشربهم وترجع كل صفة لمن يفتقر إليها كلا أو بعضا.
ومعنى {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} ، الإيمان الكامل وهو الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بقرينة المقام وقرينة قوله: {وعمل صالحا} إذ شرط قبول الأعمال، الإيمان الشرعي لقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] وقد عد عدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة عدم الإيمان بالله لأن مكابرة المعجزات، القائمة مقام تصديق الله تعالى للرسول المتحدي بها يؤول إلى تكذيب الله تعالى في ذلك التصديق فذلك المكابر غير مؤمن بالله الإيمان الحق.

وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من يؤتي أجره مرتين: "ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم أمن بي فله أجران" .
وأما القائلون بأنها منسوخة، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم في أول تلقي دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن ينظروا فلما عاندوا نسخها بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} لئلا يفضي قولهم إلى دعوى نسخ الخبر.
وقوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أطلق الأجر على الثواب مجازا لأنه في مقابلة العمل الصالح والمراد به نعيم الآخرة، وليس أجرا دنيويا بقرينة المقام وقوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} عندية مجازية مستعملة في تحقيق الوعد كما تستعمل في تحقيق الإقرار في قولهم لك عندي كذا. ووجه دلالة عند في نحو هذا على التحقق أن عند دالة على المكان فإذا أطلقت في غير ما من شأنه أن يحل في مكان كانت مستعملة في لازم المكان، وهو وجود ما من شأنه أن يكون في مكان على أن إضافة عند لاسم الرب تعالى مما يزيد الأجر تحققا لأن المضاف إليه أكرم الكرماء فلا يفوت الأجر الكائن عنده1.
وإنما جمع الضمير في قوله: {أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مراعاة لما صدق من، وأفرد شرطها أو صلتها مراعاة للفظها، ومما حسن ذلك هنا وجعله في الموقع الأعلى من البلاغة أن هذين الوجهين الجائزين عربية في معاد الموصولات وأسماء الشروط قد جمع بينهما على وجه أنبأ على قصد العموم في الموصول أو الشرط فلذلك أتى بالضمير الذي في صلته أو فعله مناسبا للفظه لقصد العموم ثم لما جيء بالضمير مع الخبر أو الجواب جمع
ـــــــ
1 ذكرني هذا التقرير في حالة الدرس قصة وهي أن النعمان بن المنذر وفد عليه وفد من العرب فيهم رجل من عبس اسمه شقيق, فمرض فمات قبل أن يأخذ حباءه فلما بلغ ذلك النعمان أمر بوضع حبائه على قبره ثم أرسل إلى أهله فأخذوه فقال النابغة في ذلك:
أبقيت للعبسي فضلا ونعمة ... ومحمدة من باقيات المحامد
حباء شقيق فوق أحجار قبره ... وما كان يحبي قبله قبر وافد
أتى أهله منه حباء ونعمة ... ورب امرئ يسعى لآخر قاعد

ليكون عودا على بدء فيرتبط باسم "إن" الذي جيء بالموصول أو الشرط بدلا منه أو خبرا عنه حتى يعلم أن هذا الحكم العام مراد منه ذلك الخاص أولا، كأنه قيل إن الذين آمنوا إلخ كل من آمن بالله وعمل إلخ فلأولئك الذين آمنوا أجرهم فعلم أنهم مما شمله العموم على نحو ما يذكره المناطقة في طي بعض المقدمات للعلم به. فهو من العام الوارد على سبب خاص.
وقوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} قراءة الجمهور بالرفع لأن المنفي خوف مخصوص وهو خوف الآخرة. والتعبير في نفي الخوف بالخبر الاسمي وهو لا خوف عليهم لإفادة نفي جنس الخوف نفيا قارا، لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات، والتعبير في نفي خوف بالخبر الفعلي وهو يحزنون لإفاد تخصيصهم بنفي الحزن في الآخرة أي بخلاف غير المؤمنين. ولما كان الخوف والحزن متلازمين كانت خصوصية كل منهما سارية في الآخر.
واعلم أن قوله {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} مقابل لقوله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: من الآية61] ولذلك قرن بعند الدالة على العناية والرضى. وقوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} مقابل وضربت عليهم الذلة لأن الذلة ضد العزة فالذليل خائف لأنه يخشى العدوان والقتل والغزو، وأما العزيز فهو شجاع لأنه لا يحشى ضرا ويعلم أن ما قدره له فهو كائن قال تعالى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: من الآية8] وقوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} مقابل قوله: {والمسكنة} لأن المسكنة تقضي على صاحبها بالحزن وتمنى حسن العيش قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: من الآية97] فالخوف المنفي هو الخوف الناشئ عن الذلة والحزن المنفي هو الناشئ عن المسكنة.
[64,63] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
تذكير بقصة أخرى أرى الله تعالى أسلافهم فيها بطشه ورحمته فلم يرتدعوا ولم يشكروا وهي أن أخذ الميثاق عليهم بواسطة موسى عليه السلام أن يعملوا بالشريعة وذلك حينما تجلى الله لموسى عليه السلام في الطور تجليا خاصا للجبل فتزعزع الجبل وتزلزل وارتجف وأحاط به دخان وضباب ورعود وبرق كما ورد في صفة ذلك في الفصل التاسع

عشر من سفر الخروج وفي الفصل الخامس من سفر التثنية فلعل الجبل من شدة الزلازل مما ظهر حوله من الأسحبة والدخان والرعود صار يلوح كأنه سحابة، ولذلك وصف في آية الأعراف بقوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} "نتقه زعزعه ونقضه" حتى يخيل إليهم أنه يهتز وهذا نظير قولهم استطارة إذا أزعجه فاضطرب فأعطوا العهد وامتثلوا لجميع ما أمرهم الله تعالى وقالوا كل ما تكلم الله به نفعله فقال الله لموسى فليؤمنوا بك إلى الأبد وليس في كتب بني إسرائيل ولا في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن الله قلع الطور من موضعه ورفعه فوقهم وإنما ورد ذلك في أخبار ضعاف فلذلك لم نعتمده في التفسير.
وضمائر الخطاب لتحميل الخلف تبعات السلف كيلا يقعوا في مثلها وليستغفروا لأسلافهم عنها. والميثاق في هاته الآية كالعهد في الآيات المتقدمة مراد به الشريعة ووعدهم بالعمل بها وقد سمته كتبهم عهدا كما قدمنا وهو إلى الآن كذلك في كتبهم. وهذه معجزة علمية لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
والطور علم على جبل ببرية سينا، ويقال إن الطور اسم جنس للجبال في لغة الكنعانيين نقل إلى العربية وأنشدوا قول العجاج:
دانى جناحيه من الطور فمر ... تقضى البازي إذا البازي كسر
فإذا صح ذلك فإطلاقه على هذا الجبل علم بالغلبة في العبرية لأنهم وجدوا الكنعانيين يذكرونه فيقولون الطور يعنون الجبل كلمة لم يسبق لهم أن عرفوها فحسبوها علما له فسموه الطور.
وقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} مقول قول محذوف تقديره قائلين لهم خذوا، وذلك هو الذي أخذ الميثاق عليه. والأخذ مجاز عن التلقي والتفهم. والقوة مجاز في الإيعاء وإتقان التلقي والعزيمة على العمل به كقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12].
ويجوز أن يكون الذكر مجازا عن الامتثال أي اذكروه عند عزمكم على الأعمال حتى تكون أعمالكم جارية على وفق ما فيه، أو المراد بالذكر التفهم بدليل حرف في المؤذن بالظرفية المجازية أي استنباط الفروع من الأصول.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68