كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

والمراد بما آتاهم ما أوحاه إلى موسى وهو الكلمات العشر التي هي قواعد شريعة التوراة.
وجملة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} علة للأمر بقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} ولذلك فصلت بدون عطف.
والرجاء الذي يقتضيه حرف"لعل" مستعمل في معنى تقريب سبب التقوى بحضهم على الأخذ بقوة، وتعهد التذكر لما فيه، فذلك التقريب والتبيين شبيه برجاء الراجي. ويجوز أن يكون لعل قرينة استعارة تمثيل شأن الله حين هيأ لهم أسباب الهداية بحال الراجي تقواهم وعلى هذا محمل موارد كلمة "لعل" في الكلام المسند إلى الله تعالى. وتقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] الآية.
وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} إشارة إلى عبادتهم العجل في مدة مناجاة موسى وأن الله تاب عليهم بفضله ولولا ذلك لكانوا من الخاسرين الهالكين في الدنيا أو فيها وفي الآخرة.
ولا حاجة بنا إلى الخوض في مسألة التكليف الإلجائي ومنافاة الإلجاء للتكليف وهي مسألة تكليف الملجأ المذكورة في الأصول لأنها بنيت هنا على أطلال الأخبار المروية في قلع الطور ورفعه فوقهم وقول موسى لهم إما أن تؤمنوا أو يقع عليكم الطور، على أنه لو صحت تلك الأخبار لما كان من الإلجاء في شيء إذ ليس نصب الآيات والمعجزات والتخويف من الإلجاء وإنما هو دلالة وبرهان على صدق الرسول وصحة ما جاء به والممتنع في التكليف هو التكليف في حالة الإلجاء لا التخويف لإتمام التكليف فلا تغفلوا.
[66,65] {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِين * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}
هذه من جملة الأخبار التي ذكرها الله تعالى تذكيرا لليهود بما أتاه سلفهم من الاستخفاف بأوامر الله تعالى وبما عرض في خلال ذلك من الزواجر والرحمة والتوبة وإنما خالف في حكاية هاته القصة أسلوب حكاية ما تقدمها وما تلاها من ذكر {إذ} المؤذنة بزمن القصة والمشعرة بتحقق وقوعها إلى قوله هنا: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} لمعنى بديع هو من وجوه إعجاز القرآن وذلك أن هذه القصة المشار إليها بهذه الآية ليست

من القصص التي تضمنتها كتب التوراة مثل القصص الأخرى المأتي في حكايتها بكلمة إذ لأنها متواترة عندهم بل هذه القصة وقعت في زمن داود عليه السلام، فكانت غير مسطورة في الأسفار القديمة وكانت معروفة لعلمائهم وأحبارهم فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عليها وتلك معجزة غيبية وأوحى إليه في لفظها ما يؤذن بأن العلم بها أخفى من العلم بالقصص الأخرى فأسند الأمر فيها لعلمهم إذ قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ}.
والاعتداء وزنه افتعال من العدو وهو تجاوز حد السير والحد والغاية. وغلب إطلاق الاعتداء على مخالفة الحق وظلم الناس والمراد هنا اعتداء الأمر الشرعي لأن الأمر الشرعي يشبه بالحد في أنه يؤخذ بما شمله ولا يؤخذ بما وراءه والاعتداء الواقع منهم هو اعتداء أمر الله تعالى إياهم من عهد موسى بأن يحافظوا على حكم السبت وعدم الاكتساب فيه ليتفرغوا فيه للعبادة بقلب خالص من الشغل بالدنيا، فكانت طائفة من سكان أيلة1 على البحر رأوا تكاثر الحيتان يوم السبت بالشاطئ لأنها إذا لم تر سفن الصيادين وشباكهم أمنت فتقدمت إلى الشاطئ تفتح أفواهها في الماء لابتلاع ما يكون على الشواطئ من آثار الطعام ومن صغير الحيتان وغيرها فقالوا لو حفرنا لها حياضا وشرعنا إليها جداول يوم الجمعة فتمسك الحياض الحوت إلى يوم الأحد فنصطادها وفعلوا ذلك فغضب الله تعالى عليهم لهذا الحرص على الرزق أو لأنهم يشغلون بالهم يوم السبت بالفكر فيما تحصل لهم أو لأنهم تحيلوا على اعتياض العمل في السبت، وهذا الذي أحسبه لما اقترن به من الاستخفاف واعتقادهم أنهم علموا ما لم تهتد إليه شريعتهم فعاقبهم الله تعالى بما ذكره هنا.
فقوله {فِي السَّبْتِ} يجوز أن تكون "في" للظرفية. والسبت مصدر سبت اليهودي من باب ضرب ونصر بمعنى احترم السبت وعظمه. والمعنى اعتدوا في حال تعظيم السبت أو في زمن تعظيم السبت. ويجوز أن تكون "في" للعلة أي اعتدوا اعتداء لأجل ما أوجبه احترام السبت من قطع العمل. ولعل تحريم الصيد فيه ليكون أمنا للدواب.
ويجوز أن تكون "في" ظرفية والسبت بمعنى اليوم وإنما جعل الاعتداء فيه مع أن
ـــــــ
1 أيلة: بفتح الهمزة وبتاء تأنيث في آخره بلدة على خليج صغير من البحر الأحمر في أطراف مشارف الشام وتعرف اليوم بالعقبة وهي غير إيلياء بكسرالهمزة وبياءين ممدودتين الذي هو اسم بيت المقدس.

الحفر في يوم الجمعة لأن أثره الذي ترتب عليه العصيان وهو دخول الحيتان للحياض يقع في يوم السبت.
وقوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] كونوا أمر تكوين والقردة بكسر القاف وفتح الراء جمع قرد وتكوينهم قردة يحتمل أن يكون بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك الإنساني وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين، ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الإنساني وهذا قول مجاهد والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين والأول أظهر في العبرة لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني والثاني أقرب للتاريخ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين والقدرة صالحة للأمرين والكل معجزة للشريعة أو لداود ولذلك قال الفخر ليس قول مجاهد ببعيد جدا لكنه خلاف الظاهر من الآية وليس الآية صريحة في المسخ.
ومعنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات.
ثم إن القائلين بوقوع المسخ في الأجسام اتفقوا أو كادوا على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وأنه لا يتناسل وروى ذلك ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال: "لم يهلك الله قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا" وهو صريح في الباب ومن العلماء من جوز تناسل الممسوخ وزعموا أن الفيل والقرد والضب والخنزير من الأمم الممسوخة وقد كانت العرب تعتقد ذلك في الضب قال أحد بني سليم وقد جاء لزوجه بضب فأبت أن تأكله:
قالت وكنت رجلا فطينا ... هذا لعمر الله إسرائينا
حتى قال بعض الفقهاء بحرمة أكل الفيل ونحوه بناء على احتمال أن أصله نسل آدمي قال ابن الحاجب وأما ما يذكر أنه ممسوخ كالفيل والقرد والضب ففي المذهب الجواز لعموم الآية والتحريم لما يذكر أي لعموم آية المأكولات، وصحح صاحب التوضيح عن مالك الجواز وقد روى مسلم في أحاديث متفرقة من آخر صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدري ما فعلت ولا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته" اه. وقد تأوله

ابن عطية وابن رشد في البيان وغير واحد من العلماء بأن هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد قبل أن يوقفه الله على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولا يتناسل كما هو صريح حديث ابن مسعود، قلت يؤيد هذا أنه قاله عن اجتهاد قوله ولا أراها. ولا شك أن هاته الأنواع من الحيوان موجودة قبل المسخ وأن المسخ إليها دليل على وجودها ومعرفة الناس بها.
وهذا الأمر التكويني كان لأجل العقوبة على ما اجترأوا من الاستخفاف بالأمر الإلهي حتى تحيلوا عليه وفي ذلك دليل على أن الله تعالى لا يرضى بالحيل على تجاوز أوامره ونواهيه فإن شرائع الله تعالى مشروعة لمصالح وحكم فالتحيل على خرق تلك الحكم بإجراء الأفعال على صور مشروعة مع تحقق تعطيل الحكمة منها جراءة على الله تعالى، ولا حجة لمن ينتحل جواز الحيل بقوله تعالى في قصة أيوب {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [صّ: من الآية44] لأن تلك فتوى من الله تعالى لنبي لتجنب الحنث الذي قد يتفادى عنه بالكفارة ولكن الله لم يرض أصل الحنث لنبيه لأنه خلاف الأولى فأفتاه بما قاله، وذلك مما يعين على حكمة اجتناب الحنث لأن فيه محافظة على تعظيم اسم الله تعالى فلا فوات للحكمة في ذلك، ومسألة الحيل الشرعية لعلنا نتعرض لها في سورة ص وفيها تمحيص.
وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً} عاد فيه الضمير على العقوبة المستفادة من قوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً} والنكال بفتح النون العقاب الشديد الذي يردع المعاقب عن العود للجناية ويردع غيره عن ارتكاب مثلها، وهو مشتق من نكل إذا امتنع ويقال نكل به تنكيلا ونكالا بمعنى عاقبه بما يمنعه من العود. والمراد بما بين يديها وما خلفها ما قارنها من معاصيهم وما سبق يعني أن تلك الفعلة كانت آخر ما فعلوه فنزلت العقوبة عندها ولما بين يديها من الأمم القريبة منها ولما خلفها من الأمم البعيدة. والموعظة ما به الوعظ وهو الترهيب من الشر.
[67] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
تعرضت هذه الآية لقصة من قصص بني إسرائيل ظهر فيها من قلة التوقير لنبيهم ومن الإعنات في المسألة والإلحاح فيها إما للتفصي من الإمتثال وإما لبعد أفهامهم عن مقصد

الشارع ورومهم التوقيف على ما لا قصد إليه. قيل إن أول هذه القصة هو المذكور بقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [ْالبقرة: 72] الآيات وإن قول موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ناشيء عن قتل النفس المذكورة، وإن قول موسى قدم هنا لأن خطاب موسى عليه السلام لهم قد نشأ عنه ضرب من مذامهم في تلقي التشريع وهو الاستخفاف بالأمر حين ظنوه هزؤا والإعنات في المسألة فأريد من تقديم جزء القصة تعدد تقريعهم هكذا ذكر صاحب الكشاف والموجهون لكلامه، ولا يخفي أن ما وجهوا به تقديم جزء القصة لا يقتضي إلا تفكيك القصة إلى قصتين تعنون كل واحدة منهما بقوله وإذ مع بقاء الترتيب، على أن المذام قد تعرف بحكايتها والتنبيه عليها بنحو قوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} -وقوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71].
فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى وهي المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة وهذه هي القصة التي أشارت إليها التوراة في السفر الرابع وهو سفر التشريع الثاني تثنية في الإصحاح 21 أنه إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله فإن أقرب القرى إلى موقع القتيل يخرج شيوخها ويخرجون عجلة من البقر لم يحرث عليها ولم تنجر بالنير فيأتون بها إلى واد دائم السيلان لم يحرث ولم يزرع ويقطعون عنقها هنالك ويتقدم الكهنة من بني لاوي فيغسل شيوخ تلك القرية أيديهم على العجلة في الوادي ويقولون لم تسفك أيدينا هذا الدم ولم تبصر أعيننا سافكه فيغفر لهم الدم ا هـ. هكذا ذكرت القصة بإجمال أضاع المقصود وأبهم الغرض من هذا الذبح أهو إضاعة ذلك الدم باطلا أم هو عند تعذر معرفة المتهم بالقتل وكيفما كان فهذه بقرة مشروعة عند كل قتل نفس جهل قاتلها وهي المشار إليها هنا، ثم كان ما حدث من قتل القتيل الذي قتله أبناء عمه وجاءوا مظهرين المطالبة بدمه وكانت تلك النازلة نزلت في يوم ذبح البقرة فأمرهم الله بأن يضربوا القتيل ببعض تلك البقرة التي شأنها أن تذبح عند جهل قاتل نفس. وبذلك يظهر وجه ذكرهما قصتين وقد أجمل القرآن ذكر القصتين لأن موضع التذكير والعبرة منهما هو ما حدث في خلالهما لا تفصيل الوقائع فكانت القصة الأولى تشريعا سبق ذكره لما قارنه من تلقيهم الأمر بكثرة السؤال الدال على ضعف الفهم للشريعة وعلى تطلب أشياء لا ينبغي أن يظن اهتمام التشريع بها، وكانت القصة الثانية منة عليهم بآية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسولهم بينها الله لهم ليزدادوا إيمانا ولذلك ختمت بقوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: من الآية73] وأتبعت بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74].

والتأكيد في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} حكاية لما عبر به موسى من الاهتمام بهذا الخبر الذي لو وقع في العربية لوقع مؤكدا بإن.
وقولهم: {َتَتَّخِذُنَا هُزُواً} استفهام حقيقي لظنهم أن الأمر بذبح بقرة للاستبراء من دم قتيل كاللعب و {تتخذنا} بمعنى تجعلنا وسيأتي بيان أصل فعل اتخذ عند قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام: 74]
والهزؤ بضم الهمزة والزاي وبسكون الزاي مصدر اهزأ به هزءا وهو هنا مصدر بمعنى المفعول كالصيد والخلق.
وقرأ الجمهور "هزؤا" بضمتين وهمز بعد الزاي وصلا ووقفا وقرأ حمزة بسكون الزاي وبالهمز وصلا، ووقف عليه بتخفيف الهمز واوا وقد رسمت في المصحف واوا، وقرأ حفص بضم الزاي وتخفيف الهمز واوا في الوصل والوقف.
وقول موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} تبرؤ وتنزه عن الهزء لأنه لا يليق بالعقلاء الأفاضل فإنه أخص من المزح لأن في الهزؤ مزحا مع استخفاف واحتقار للممزوح معه على أن المزح لا يليق في المجامع العامة والخطابة، على أنه لا يليق بمقام الرسول ولذا تبرأ منه موسى بأن نفى أن يكون من الجاهلين كناية عن نفي المزح بنفي ملزومه، وبالغ في التنزه بقوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ} أي منه لأن العياذ بالله أبلغ كلمات النفي فإن المرء لا يعوذ بالله إلا إذا أراد التغلب على أمر عظيم لا يغلبه إلا الله تعالى. وصيغة: {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أبلغ في انتفاء الجهالة من أن لو قال أعوذ بالله أن أجهل كما سيأتي في سورة الأنعام عند قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}
والجهل ضد العلم وضد الحلم وقد ورد لهما في كلام العرب، فمن الأول قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
...
ومن الثاني قول الحماسي:
فليس سواء عالم وجهول
وقول النابغة
وليس جاهل شيء مثل من علما

[68] {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}
جيء في مراجعتهم لنبيهم بالطريقة المألوفة في حكاية المحاورات وهي طريقة حذف العاطف بين أفعال القول وقد بيناها لكم في قصة خلق آدم.
ومعنى {ادْعُ لَنَا} يحتمل أن يراد منه الدعاء الذي هو طلب بخضوع وحرص على إجابة المطلوب فيكون في الكلام رغبتهم في حصول البيان لتحصيل المنفعة المرجوة من ذبح بقرة مستوفية للصفات المطلوبة في القرابين المختلفة المقاصد، بنوه على ما ألفوه من الأمم عبدة الأوثان من اشتراط صفات وشروط في القرابين المقربة تختلف باختلاف المقصود من الذبيحة ويحتمل أنهم أرادوا مطلق السؤال فعبروا عنه بالدعاء لأنه طلب من الأدنى إلى الأعلى. ويحتمل أنهم أرادوا من الدعاء النداء الجهير بناء على وهمهم أن الله بعيد المكان، فسائله يجهر بصوته.وقد نهى المسلمون عن الجهر بالدعاء في صدر الإسلام،
واللام في قوله {لَنَا} لام الأجل أي ادع عنا، وجزم {يبين} في جواب {ادْعُ} لتنزيل المسبب منزلة السبب أي إن تدعه يسمع فيبين وقد تقدم.
وقوله {مَا هِيَ} حكى سؤالهم بما يدل عليه بالسؤال بما في كلام العرب وهو السؤال عن الصفة لأن "ما" يسأل بها عن الصفة كما يقول من يسمع الناس يذكرون حاتما أو الأحنف وقد علم أنهما رجلان ولم يعلم صفتيهما ما حاتم? أو ما الأحنف? فيقال كريم أو حليم.
وليس "ما" موضوعة للسؤال عن الجنس كما توهمه بعض الواقفين على كلام الكشاف فتكلفوا لتوجيهه حيث إن جنس البقرة معلوم بأنهم نزلوا هاته البقرة المأمور بذبحها منزلة فرد من جنس غير معلوم لغرابة حكمة الأمر بذبحها وظنوا أن الموقع هنا للسؤال ب "أي" أو "كيف" وهو وهم نبه عليه التفتزاني في شرح الكشاف واعتضد له بكلام المفتاح إذ جعل الجنس والصفة قسمين للسؤال بما.
والحق أن المقام هنا للسؤال بما لأن أيا إنما يسأل بها عن مميز الشيء عن أفراد من نوعه التبست به وعلامة ذلك ذكر المضاف إليه مع أي نحو أي الفريقين خير وأي البقرتين أعجبتك وليس لنا هنا بقرات معينات يراد تمييز إحداها.

وقوله: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} أكد مقول موسى ومقول الله تعالى بإن لمحاكاة ما اشتمل عليه كلام موسى من الاهتمام بحكاية قول الله تعالى فأكده بإن، وما اشتمل عليه مدلول كلام الله تعالى لموسى من تحقيق إرادته ذلك تنزيلا لهم منزلة المنكرين لما بدا من تعنتهم وتنصلهم، ويجوز أن يكون التأكيد الذي في كلام موسى لتنزيلهم منزلة أن يكون الله قال لموسى ذلك جريا على اتهامهم السابق في قولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} جوابا عن قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ}
ووقع قوله: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} موقع الصفة لبقرة وأفحم فيه حرف"لا" لكون الصفة بنفي وصف ثم بنفي آخر على معنى إثبات وصف واسطة بين الوصفين المنفيين فلما جيء بحرف لا أجرى الإعراب على ما بعده لأن لا غير عاملة شيئا فيعتبر ما قبل لا على عمله فيما بعدها سواء كان وصفا كما هنا وقوله تعالى: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور: من الآية35] وقول جويرية أو حويرثة بن بدر الرامي:
وقد أدركتني والحوادث جمة ... أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
أو حالا كقول الشاعر وهو من شواهد النحو:
قهرت العدا لا مستعينا بعصبة ... ولكن بأنواع الخدائع والمكر
أو مضافا كقول النابغة:
وشيمة لا وان ولا واهن القوى ... وجد إذا خاب المفيدون صاعد
أو خبر مبتدأ كما وقع في حديث أم زرع قول الأولى "لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل" على رواية الرفع أي هو أي الزوج لا سهل ولا سمين. وجمهور النحاة أن لا هذه يجب تكريرها في الخبر والنعت والحال أي بأن يكون الخبر ونحوه شيئين فأكثر فإن لم يكن كذلك لم يجز إدخال "لا" في الخبر ونحوه وجعلوا بيت جويرية أو حويرثة ضرورة وخالف فيه المبرد. وليست "لا" في مثل هذا بعامله عمل ليس ولا عمل إن، وذكر النحاة لهذا الاستعمال في أحد هذين البابين لمجرد المناسبة. واعلم أن نفي وصفين بحرف "لا" قد يستعمل في إفادة إثبات وصف ثالث هو وسط بين حالي ذينك الوصفين مثل ما في هذه الآية بدليل قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} ومثل قوله

تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143] وقد يستعمل في إرادة مجرد نفي ذينك الوصفين لأنهما مما يطلب في الغرض الواردين فيه ولا يقصد إثبات وصف آخر وسط بينهما وهو الغالب كقوله تعالى: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة: 44-42]
والفارض المسنة لأنها فرضت سنها أي قطعتها. والفرض القطع ويقال للقديم فارض. والبكر الفتية مشتقة من البكرة بالضم وهي أول النهار لأن البكر في أول السنوات عمرها والعوان هي المتوسطة السن.
وإنما اختيرت لهم العوان لأنها أنفس وأقوى ولذلك جعلت العوان مثلا للشدة في قول النابغة:
ومن يتربص الحدثان تنزل ... بمولاه عوان غير بكر
أي مصيبة عوان أي عظيمة. ووصفوا الحرب الشديدة فقالوا حرب عوان.
وقوله {بين ذلك} أي هذين السنين، فالإشارة للمذكور المتعدد.
ولهذا صحت إضافة بين لاسم الإشارة كما تضاف للضمير الدال على متعدد وإن كان كلمة واحدة في نحو بينها. وإفراد اسم الإشارة على التأويل بالمذكور كما تقدم قريبا عند قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} [البقرة:61]
وجاء في جوابهم بهذا الإطناب دون أن يقول من أول الجواب إنها عنوان تعريضا بغباوتهم واحتياجهم إلى تكثير التوصيف حتى لا يترك لهم مجالا لإعادة السؤال.
فإن قلت هم سألوا عن صفة غير معينة فمن أين علم موسى أنهم سألوا عن السن ومن أين علم من سؤالهم الآتي بـ {ما هي} أيضا أنهم سألوا عن تدربها على الخدمة؟.
قلت يحتمل أن يكون {مَا هِيَ} اختصارا لسؤالهم المشتمل على البيان وهذا الاختصار من إبداع القرآن اكتفاء بما يدل عليه الجواب، ويحتمل أن يكون ما حكى في القرآن مرادف سؤالهم فيكون جواب موسى عليه السلام بذلك لعلمه بأن أول ما تتعلق به أغراض الناس في معرفة أحوال الدواب هو السن فهو أهم صفات الدابة ولما سألوه عن اللون ثم سألوا السؤال الثاني المبهم علم أنه لم يبق من الصفات التي تختلف فيها مقاصد الناس من الدواب غير حالة الكرامة أي عدم الخدمة لأن ذلك أمر ضعيف إذ قد تخدم الدابة النفيسة ثم يكرمها من يكتسبها بعد ذلك فتزول آثار الخدمة وشعثها.

وقوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} الفاء للفصيحة وموقعها هنا موقع قطع العذر مع الحث على الامتثال كما هي في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
أي فقد حصل ما تعللتم به من طول السفر. والمعنى فبادروا إلى ما أمرتم به وهو ذبح البقرة، وما موصولة والعائد محذوف بعد حذف جاره على طريقة التوسع لأنهم يقولون أمرتك الخير، فتوسلوا بحذف الجار إلى حذف الضمير.
وفي حث موسى إياهم على المبادرة بذبح البقرة بعد ما كلفوا به من اختيارها عوانا دليل على أنهم مأمورون بذبح بقرة ما غير مراد منها صفة مقيدة لأنه لما أمرهم بالمبادرة بالذبح حينئذ علمنا وعلموا أن ما كلفوا به بعد ذلك من طلب ان تكون صفراء وأن تكون سالمة من آثار الخدمة مما أراده الله تعالى عند تكليفهم أول الأمر وهو الحق إذ كيف تكون تلك الأوصاف مزادة مع أنها أوصاف طردية لا أثر لها في حكمة الأمر بالذبح لأنه سواء كان أمرا بذبحها للصدقة أو للقربان أو للرش على النجس أو للقسامة فليس لشيء من هاته الصفات مناسبة للحكم وبذلك يعلم أن أمرهم بهاته الصفات كلها هو تشريع طارئ قصد منه تأديبهم على سؤالهم فإن كان سؤالهم للمطل والتنصل فطلب تلك الصفات المشقة عليهم تأديب على سوء الخلق والتذرع للعصيان، وإن كان سؤالا ناشئا عن ظنهم أن الاهتمام بهاته البقرة يقتضي أن يراد منها صفات نادرة كما هو ظاهر قولهم بعد: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: من الآية70] فتكليفهم بهاته الصفات العسير وجودها مجتمعة تأديب علمي على سوء فهمهم في التشريع كما يؤدب طالب العلم إذا سأل سؤالا لا يليق برتبته في العلم. وقد قال عمر لأبي عبيدة في واقعة الفرار من الطاعون لو غيرك قالها يا أبا عبيدة. ومن ضروب التأديب الحمل على عمل شاق، وقد أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه عباسا رضي الله عنه على الخرص حين حمل من خمس مال المغنم أكثر من حاجته فلم يستطع أن يقله فقال له مر أحدا رفعه لي فقال لا آمر أحدا فقال له أرفعه أنت لي فقال لا، حتى جعل العباس يحثو من المال ويرجعه لصبرته إلى أن استطاع أن يحمل ما بقي فذهب والنبي صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره تعجبا من حرصه كما في صحيح البخاري.
ومما يدل على أنه تكليف لقصد التأديب أن الآية سيقت مساق الذم لهم وعدت القصة في عداد قصص مساويهم وسوء تلقيهم للشريعة بأصناف من التقصير عملا وشكرا وفهما بدليل قوله تعالى آخر الآيات: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] مع ما روى عن ابن

عباس أنه قال لو ذبحوا أي بقرة أجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.
وبهذا تعلمون أن ليس في الآية دليل على تأخير البيان عن وقت الخطاب ولا على وقوع النسخ قبل التمكن لأن ما طرأ تكليف خاص للإعنات على أن الزيادة على النص ليست بنسخ عند المحققين وتسميتها بالنسخ اصطلاح القدماء.
[69] {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}
سألوا بـ "ما" عن ماهية اللون وجنسه لأنه ثاني شيء تتعلق به أغراض الراغبين في الحيوان. والقول في جزم {يُبَيِّنْ} وفي تأكيد {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} كالقول في الذي تقدم.
وقوله: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} احتيج إلى تأكيد الصفرة بالفقوع وهو شدة الصفرة لأن صفرة البقر تقرب من الحمرة غالبا فأكده بفاقع والفقوع خاص بالصفرة، كما اختص الأحمر بقان والأسود بحالك، والأبيض بيقق، والأخضر بمدهام، والأورق بخطباني نسبة إلى الخطبان بضم الخاء وهو نبت كالهليون، والأرمك وهو الذي لونه لون الرماد برداني براء في أوله والردان الزعفران كذا في الطيبي ووقع في الكشاف والطيبي بألف بعد الدال ووقع في القاموس أنه بوزن صاحب وضبط الراء في نسخة من الكشاف ونسخة من حاشية القطب عليه ونسخة من حاشية الهمداني عليه بشكل ضمة على الراء وهو مخالف لما في القاموس.
والنصوع يعم جميع الألوان وهو خلوص اللون من أن يخالطه لون آخر.
ولونها إما فاعل بفاقع أو مبتدأ مؤخر وإضافته لضمير البقرة دلت على أنه اللون الأصفر فكان وصفه بفاقع وصفا حقيقيا ولكن عدل عن أن يقال صفراء فاقعة إلى {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} ليحصل وصفها بالفقوع مرتين إذ وصف اللون بالفقوع، ثم لما كان اللون مضافا لضمير الصفراء كان ما يجري عليه من الأوصاف جاريا على سببيه على نحو ما قاله صاحب المفتاح في كون المسند فعلا من أن الفعل يستند إلى الضمير ابتداء ثم بواسطة عود ذلك الضمير إلى المبتدأ يستند إلى المبتدأ في الدرجة الثانية وقد ظن الطيبي في شرح الكشاف أن كلام صاحب الكشاف مشير إلى أن إسناد فاقع للونها مجاز عقلي وهو وهم إذ ليس من المجاز العقلي في شيء. وأما تمثيل صاحب الكشاف بقوله جد

جده فهو تنظير في مجرد إفادة التأكيد.
وقوله: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي تدخل رؤيتها عليهم مسرة في نفوسهم. والمسرة لذة نفسية تنشأ عن الإحساس بالملائم أو عن اعتقاد حصوله ومما يوجبها التعجب من الشيء والإعجاب به. وهذا اللون من أحسن ألوان البقر فلذلك أسند فعل {تسر} إلى ضمير البقرة لا إلى ضمير اللون فلا يقتضي أن لون الأصفر مما يسر الناظرين مطلقا. والتعبير بالناظرين دون الناس ونحوه للإشارة إلى أن المسرة تدخل عليهم عند النظر إليها من باب استفادة التعليل من التعليق بالمشتق.
[71,70] {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}
القول في {ما هي} كالقول في نظيره فإن كان الله تعالى حكى مرادف كلامهم بلغة العرب فالجواب لهم بـ {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} لما علم من أنه لم يبق من الصفات التي تتعلق الأغراض بها إلا الكرامة والنفاسة، وإن كان المحكي في القرآن اختصارا لكلامهم فالأمر ظاهر.
على أن الله قد علم مرادهم فأنبأهم به.
وجملة {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} مستأنفة استئنافا بيانيا لأنهم علموا أن إعادتهم السؤال توقع في نفس موسى تساؤلا عن سبب هذا التكرير في السؤال وقولهم: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} اعتذار عن إعادة السؤال، وإنما لم يعتذروا في المرتين الأوليين واعتذروا الآن لأن للثالثة في التكرير وقعا من النفس في التأكيد والسآمة وغير ذلك ولذلك كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة.
وقد جيء بحرف التأكيد في خبر لا يشك موسى في صدقه فتعين أن يكون الإتيان بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام ثم يتوسل بالاهتمام إلى إفادة معنى التفريع والتعليل فتفيد إن مفاد فاء التفريع والتسبب وهو ما اعتنى الشيخ عبد القاهر بالتنبيه عليه في دلائل الإعجاز ومثله بقول بشار:

بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] في هذه السورة وذكر فيه قصة.
وقولهم {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} تنشيط لموسى ووعد له بالامتثال لينشط إلى دعاء ربه بالبيان ولتندفعى عنه سآمة مراجعتهم التي ظهرت بوارقها في قوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة: 68] ولإظهار حسن المقصد من كثرة السؤال وأن ليس قصدهم الإعنات. تفاديا من غضب موسى عليهم. والتعليق بـ {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} للتأدب مع الله في رد الأمر إليه في طلب حصول الخير.
والقول في وجه التأكيد في {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} كالقول في نظيره الأول.
والذلول بفتح الذال فعول من ذل ذلا بكسر الذال في المصدر بمعنى لان وسهل. وأما الذل بضم الذال فهو ضد العز وهما مصدران لفعل واحد خص الاستعمال أحد المصدرين بأحد المعنيين. والمعنى أنها لم تبلغ سن أن يحرث عليها وأن يسقى بجرها أي هي عجلة قاربت هذا السن وهو الموافق لما حدد به سنها في التوراة.
{ولا ذلول} صفة لبقرة. وجملة {تُثِيرُ الْأَرْضَ} حال من {ذلول} .
وإثارة الأرض حرثها وقلب داخل ترابها ظاهرا وظاهره باطنا أطلق على الحرث فعل الإثارة تشبيها لانقلاب أجزاء الأرض بثورة الشيء من مكانه إلى مكان آخر كما قال تعالى: {فَتُثِيرُ سَحَاباً} أي تبعثه وتنقله ونظير هذا الاستعمال قوله في سورة الروم {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} في محل نصب على الحال.
وإقحام لا بعد حرف العطف في قوله: {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} مع أن حرف العطف على المنفي بها يغني عن إعادتها إنما هو لمراعاة الاستعمال الفصيح في كل وصف أو ما في معناه أدخل فيه حرف لا كما تقدم في قوله تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة: 68] فإنه لما قيدت صفة ذلول بجملة تسقي الحرث صار تقدير الكلام أنها بقرة لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث فجرت الآية على الاستعمال الفصيح من إعادة لا وبذلك لم تكن في هذه الآية حجة للمبرد كما يظهر بالتأمل.
واختير الفعل المضارع في "تثير" و"تسقي" لأنه الأنسب بذلول إذ الوصف شبيه بالمضارع ولأن المضارع دال على الحال.

و"مسلمة" أي سليمة من عيوب نوعها فهو اسم مفعول من سلمت المبني للمفعول وكثيرا ما تذكر الصفات التي تعرض في أصل الخلقة بصيغة البناء للمجهول في الفعل والوصف إذ لا يخطر على بال المتكلم تعيين فاعل ذلك ومن هذا معظم الأفعال التي التزم فيها البناء للمجهول.
وقوله: {لا شِيَةَ فِيهَا} صفة أخرى تميز هذه البقرة عن غيرها. والشية العلامة وهي بزنة فعلة من وشي الثوب إذا نسجه ألوانا وأصل شية وشية ويقول العرب ثوب موشي وثوب وشي، ويقولون ثور موشي الأكارع لأن في أكارع ثور الوحش سواد يخالط صفرته فهو ثور أشيه ونظائره قولهم فرس أبلق. وكبش أدرع. وتيس أزرق وغراب أبقع. بمعنى مختلط لونين.
وقوله: {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أرادوا بالحق الأمر الثابت الذي لا احتمال فيه كما تقول جاء بالأمر على وجهه، ولم يريدوا من الحق ضد الباطل لأنهم ما كانوا يكذبون نبيهم.
فإن قلت لماذا ذكر هنا بلفظ الحق وهلا قيل قالوا الآن جئت بالبيان أو بالثبت؟.
قلت لعل الآية حكت معنى ما عبر عنه اليهود لموسى بلفظ هو في لغتهم محتمل للوجهين فحكى بما يرادفه من العربية تنبيها على قلة اهتمامهم بانتقاء الألفاظ النزيهة في مخاطبة أنبيائهم وكبرائهم كما كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم {راعنا} ، فنهينا نحن عن أن نقوله بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: من الآية104] وهم لقلة جدارتهم بفهم الشرائع قد توهموا أن في الأمر بذبح بقرة دون بيان صفاتها تقصيرا كأنهم ظنوا الأمر بالذبح كالأمر بالشراء فجعلوا يستوصفونها بجميع الصفات واستكملوا موسى لما بين لهم الصفات التي تختلف بها أغراض الناس في الكسب للبقر ظنا منهم أن في علم النبي بهذه الأغراض الدنيوية كمالا فيه، فلذا مدحوه بعد البيان بقولهم {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} كما يقول الممتحن للتلميذ بعد جمع صور السؤال الآن أصبت الجواب، ولعلهم كانوا لا يفرقون بين الوصف الطردي وغيره في التشريع. فليحذر المسلمون أن يقعوا في فهم الدين على شيء مما وقع فيه أولئك وذموا لأجله.
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}
عطفت الفاء جملة {فذبحوها} على مقدر معلوم وهو فوجدوها أو فظفروا بها أو

نحو ذلك وهذا من إيجاز الحذف الاقتصاري ولما ناب المعطوف في الموقع عن المعطوف عليه صح أن نقول الفاء فيه للفصيحة لأنها وقعت موقع جملة محذوفة فيها فاء للفصيحة ولك أن تقول إن فاء الفصيحة ما أفصحت عن مقدر مطلقا كما تقدم وقوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} تعريض بهم بذكر حال من سوء تلقيهم الشريعة تارة بالإعراض والتفريط، وتارة بكثرة التوقف والإفراط وفيه تعليم للمسلمين بأصول التفقه في الشريعة، والأخذ بالأوصاف المؤثرة في معنى التشريع دون الأوصاف الطردية، ولذلك قال ابن عباس لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم. وروي ابن مردويه والبزار وابن أبي حاتم بسندهم إلى الحسن البصري عن رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم" وفي سنده عبادة بن منصور وهو ضعيف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهي أصحابه عن كثرة السؤال وقال: "فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" وبين للذي سأله عن اللقطة ما يفعله في شأنها فقال السائل: فضالة الغنم- قال- "هي لك أو لأخيك أو للذئب"، قال السائل فضالة الإبل فغضب رسول الله وقال: "مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيها ربها " .
وجملة {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} تحتمل الحال والاستئناف والأول أظهر لأنه أشد ربطا للجملة وذلك أصل الجمل أي ذبحوها في حال تقرب من حال من لا يفعل، والمعنى أنهم ذبحوها مكرهين أو كالمكرهين لما أظهروا من المماطلة وبذلك يكون وقت الذبح ووقت الاتصاف بمقاربة انتفائه وقتا متحدا اتحادا عرفيا بحسب المقامات الخطابية للإشارة إلى أن مماطلتهم قارنت أول أزمنة الذبح. وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين أي فذبحوها عند ذلك أي عند إتمام الصفات وكان شأنهم قبل ذلك شأن من لم يقارب أن يفعل
ثم إن {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} يقتضي بحسب الوضع نفي مدلول كاد فإن مدلولها المقاربة ونفي مقاربة الفعل يقتضي عدم وقوعه بالأولى فيقال أنى يجتمع ذلك مع وقوع ذبحها بقوله {فذبحوها} فأما على وجه الاستئناف فيمكن الجواب بأن نفي مقاربة الفعل كان قبل الذبح حين كرروا السؤال وأظهروا المطال ثم وقع الذبح بعد ذلك وقد أجاب بمثل هذا جماعة يعنون كأن الفعل وقع فجأة بعد أن كانوا بمعزل عنه على أنه مبني على جعل الواو استئنافا وقد علمتم بعده.

فالوجه القالع للإشكال هو أن أئمة العربية قد اختلفوا في مفاد كاد المنفية في نحو ما كاد يفعل فذهب قوم منهم الزجاجي إلى أن نفيها يدل على نفي مقاربة الفعل وهو دليل على انتفاء وقوع الفعل بالأولى فيكون إثبات كاد نفيا لوقوع الخبر الذي في قولك كاد يقوم أي قارب فإنه لا يقال إلا إذا قارب ولم يفعل ونفيها نفيا للفعل بطريق فحوى الخطاب فهو كالمنطوق وأن ما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول بأنه باعتبار وقتين فيكون بمنزلة كلامين ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} في هذه الآية أي فذبحوها الآن وما كادوا يفعلون قبل ذلك ولعلهم يجعلون الجمع بين خبرين متنافيين في الصورة قرينة على قصد زمانين وإلى هذا ذهب ابن مالك في الكافية إذ قال:
وبثبوت كاد ينفي الخبر ... وحين ينفى كاد ذاك أجدر
وغير ذا على كلامين يرد ... كولدت هند ولم تكد تلد
وهذا المذهب وقوف مع قياس الوضع.
وذهب قوم إلى أن إثبات كاد يستلزم نفي الخبر على الوجه الذي قررناه في تقرير المذهب الأول وأن نفيها يصير إثباتا على خلاف القياس وقد اشتهر هذا بين أهل الأعراب حتى ألغز فيه أبو العلاء المعري بقوله:
أنحوي هذا العصر ما هي لفظة ... أتت في لساني جرهم وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود
وقد احتجوا لذلك بقوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وهذا من غرائب الاستعمال الجاري على خلاف الوضع اللغوي.
وقد جرت في هذا نادرة أدبية ذكرها الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز وهي أن عنبسة العنسي الشاعر قال: قدم ذو الرمة الكوفة فوقف على ناقته بالكناسة1 ينشد قصيدته الحائية التي أولها:
أمنزلتي مي سلام عليكما ... على النأي والنائي يود وينصح
حتى بلغ قوله فيها:
إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
ـــــــ
1 الكناسة: بضم الكاف أصله اسم لما يكنس, وسمي بها ساحة بالكوفة مثل المربد بالبصرة.

وكان في الحاضرين ابن شبرمة فناداه ابن شبرمة يا غيلان أراه قد برح قال فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويتفكر ثم قال لم أجد عوض لم يكد قال عنبسة فلما انصرفت حدثت أبي فقال لي أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غير شعره لقول ابن شبرمة إنما هذا كقول الله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] وإنما هو لم يرها ولم يكد.
وذهب قوم منهم أبو الفتح بن جني وعبد القاهر وابن مالك في التسهيل إلى أن أصل كاد أن يكون نفيها لنفي الفعل بالأولى كما قال الجمهور إلا أنها قد يستعمل نفيها للدلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد وبعد أن كان بعيدا في الظن أن يقع وأشار عبد القاهر إلى أن ذلك استعمال جرى في العرف وهو يريد بذلك أنها مجاز تمثيلي بأن تشبه حالة من فعل الأمر بعد عناء بحالة من بعد عن الفعل فاستعمل المركب الدال على حالة المشبه به في حالة المشبه، ولعلهم يجعلون نحو قوله فذبحوها قرينة على هذا القصد. قال في التسهيل وتنفي كاد إعلاما بوقوع الفعل عسيرا أو بعدمه وعدم مقاربته واعتذر في شرحه للتسهيل عن ذي الرمة في تغييره بيته بأنه غيره لدفع احتمال هذا الاستعمال.
وذهب قوم إلى أن كاد إن نفيت بصيغة المضارع فهي لنفي المقاربة وإن نفيت بصيغة الماضي فهي للإثبات وشبهته أن جاءت كذلك في الآيتين: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40] {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وأن نفي الفعل الماضي لا يستلزم الاستمرار إلى زمن الحال بخلاف نفي المضارع. وزعم بعضهم أن قولهم ما كاد يفعل وهم يريدون أنه كاد ما يفعل إن ذلك من قبيل القلب الشائع.
وعندي أن الحق هو المذهب الثاني وهو أن نفيها في معنى الإثبات وذلك لأنهم لما وجدوها في حالة الإثبات مفيدة معنى النفي جعلوا نفيها بالعكس كما فعلوا في لو ولولا ويشهد لذلك مواضع استعمال نفيها فإنك تجد جميعها بمعنى مقاربة النفي لا نفي المقاربة ولعل ذلك من قبيل القلب المطرد فيكون قولهم ما كاد يفعل ولم يكد يفعل بمعنى كاد ما يفعل، ولا يبعد أن يكون هذا الاستعمال من بقايا لغة قديمة من العربية تجعل حرف النفي الذي حقه التأخير مقدما ولعل هذا الذي أشار إليه المعري بقوله جرت في لساني جرهم وثمود ويشهد لكون ذلك هو المراد تغيير ذي الرمة بيته وهو من أهل اللسان وأصحاب الذوق فإنه وإن كان من عصر المولدين إلا أنه لانقطاعه إلى سكنى باديته كان في مرتبة شعراء العرب حتى عد فيمن يحتج بشعره وما كان مثله ليغير شعره بعد التفكر لو كان

لصحته وجه فما اعتذر به عنه ابن مالك في شرح التسهيل ضعيف. وأما دعوى المجاز فيه فيضعفها اطراد هذا الاستعمال حتى في آية {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فإن الواقف في الظلام إذا مد يده يراها بعناء وقال تأبط شرا فأبت إلى فهم وما كدت آيبا وقال تعالى {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52].
وإنما قال {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} ولم يقل يذبحون كراهية إعادة اللفظ تفننا في البيان.
[73,72] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
تصديره بإذ على طريقة حكاية ما سبق من تعداد النعم والألطاف ومقابلتهم إياها بالكفران والاستخفاف يومئ إلى أن هذه قصة غير قصة الذبح ولكنها حدثت عقب الأمر بالذبح لإظهار شيء من حكمة ذلك الأمر الذي أظهروا استنكاره عند سماعه إذ قالوا {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] وفي ذلك إظهار معجزة لموسى. وقد قيل إن ما حكي في هذه الآية هو أول القصة وإن ما تقدم هو آخرها وذكروا للتقديم نكتة تقدم القول في بيانها وتوهينها.
وليس فيما رأيت من كتب اليهود ما يشير إلى هذه القصة فلعلها مما أدمج في قصة البقرة المتقدمة لم تتعرض السورة لذكرها لأنها كانت معجزة لموسى عليه السلام ولم تكن تشريعا بعده.
وأشار قوله {قتلتم} إلى وقوع قتل فيهم وهي طريقة القرآن في إسناد أفعال البعض إلى الجميع جريا على طريقة العرب في قولهم قتلت بنو فلان فلانا قال النابغة يذكر بني حن1.
وهم قتلوا الطائي بالجو عنوة ... أبا جابر واستنكحوا أم جابر
وذلك أن نفرا من اليهود قتلوا ابن عمهم الوحيد ليرثوا عمهم وطرحوه في محلة قوم وجاءوا موسى يطالبون بدم ابن عمهم بهتانا وأنكر المتهمون فأمره الله بأن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فينطق ويخبر بقاتله، والنفس الواحد من الناس لأنه صاحب نفس أي روح وتنفس وهي مأخوذة من التنفس وفي الحديث ما من نفس منفوسة ولإشعارها بمعنى
ـــــــ
1 بحاء مهملة مضمومة ونون مشددة حي من عذرة.

التنفس اختلف في جواز إطلاق النفس على الله وإضافتها إلى الله فقيل يجوز لقوله تعالى حكاية عن كلام عيسى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] ولقوله في الحديث القدسي "وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" وقيل لا يجوز إلا للمشاكلة كما في الآية والحديث القدسي والظاهر الجواز ولا عبرة بأصل مأخذ الكلمة من التنفس فالنفس الذات قال تعالى {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111]. وتطلق النفس على روح الإنسان وإدراكه ومنه قوله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} وقول العرب قلت في نفسي أي في تفكري دون قول لفظي، ومنه إطلاق العلماء الكلام النفسي على المعاني التي في عقل المتكلم التي يعبر عنها باللفظ.
و"ادارأتم" افتعال، وادارأتم أصله تدارأتم تفاعل من الدرء وهو الدفع لأن كل فريق يدفع الجناية عن نفسه فلما أريد إدغام التاء في الدال على قاعدة تاء الافتعال مع الدال والذال جلبت همزة الوصل لتيسير التسكين للإدغام.
وقوله {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} جملة حالية من {ادارأتم} أي تدارأتم في حال أن الله سيخرج ما كتمتموه فاسم الفاعل فيه للمستقبل باعتبار عامله وهو {ادارأتم} .
والخطاب هنا على نحو الخطاب في الآيات السابقة المبني على تنزيل المخاطبين منزلة أسلافهم لحمل تبعتهم عليهم بناء على ما تقرر من أن خلق السلف يسري إلى الخلف كما بيناه فيما مضى وسنبينه إن شاء الله تعالى عند قوله {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75]
وإنما تعلقت إرادة الله تعالى بكشف حال قاتلي هذا القتيل مع أن دمه ليس بأول دم طل في الأمم إكراما لموسى عليه السلام أن يضيع دم في قومه وهو بين أظهرهم وبمرآى منه ومسمع لا سيما وقد قصد القاتلون استغفال موسى ودبروا المكيدة في إظهارهم المطالبة بدمه فلو لم يظهر الله تعالى هذا الدم في أمة لضعف يقينها برسولها ولكان ذلك مما يزيدهم شكا في صدقه فينقلبوا كافرين فكان إظهار هذا الدم كرامة لموسى ورحمة بالأمة لئلا تضل فلا يشكل عليكم أنه قد ضاع دم في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث حويصة ومحيصة الآتي لظهور الفرق بين الحالين بانتفاء تدبير المكيدة وانتفاء شك الأمة في رسولها وهي خير أمة أخرجت للناس.
وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} الإشارة إلى محذوف للإيجاز أي فضربوه فحيى فأخبر بمن قتله أي كذلك الإحياء يحيي الله الموتى فالتشبيه في التحقق وإن كانت كيفية

المشبه أقوى وأعظم لأنها حياة عن عدم بخلاف هاته فالمقصد من التشبيه بيان إمكان المشبه كقول المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} من بقية المقول لبني إسرائيل فيتعين أن يقدر وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى لأن الإشارة لشيء مشاهد لهم وليس هو اعتراضا أريد به مخاطبة الأمة الإسلامية لأنهم لم يشاهدوا ذلك الإحياء حتى يشبه به إحياء الله الموتى.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} رجاء لأن يعقلوا فلم يبلغ الظن بهم مبلغ القطع مع هذه الدلائل كلها.
وقد جرت عادة فقهائنا أن يحتجوا بهذه الآية على مشروعية اعتبار قول المقتول دمي عند فلان موجبا للقسامة ويجعلون الاحتجاج بها لذلك متفرعا على الاحتجاج بشرع من قبلنا وفي ذلك تنبيه على أن محل الاستدلال بهذه الآية على مشروعية ذلك هو أن إحياء الميت لم يقصد منه إلا سماع قوله فدل على أن قول المقتول كان معتبرا في أمر الدماء. والتوراة قد أجملت أمر الدماء إجمالا شديدا في قصة ذبح البقرة التي قدمناها، نعم إن الآية لا تدل على وقوع القسامة مع قول المقتول ولكنها تدل على اعتبار قول المقتول سببا من أسباب القصاص ولما كان الظن بتلك الشريعة أن لا يقتل أحد بمجرد الدعوى من المطعون تعين أن هنالك شيئا تقوى به الدعوى وهو القسامة.
وقد أورد على احتجاج المالكية بها أن هذا من خوارق العادات وهي لا تفيد أحكاما وأجاب ابن العربي بأن المعجزة في إحياء الميت فلما حيى صار كلامه ككلام سائر الأحياء وهو جواب لطيف لكنه غير قاطع.
والخلاف في القضاء بالقسامة إثباتا ونفيا وفي مقدار القضاء بها مبسوط في كتب الفقه وقد تقصاه القرطبي وليس من أغراض الآية.
[74] {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
"ثم" هنا للترتيب الرتبي الذي تتهيأ له "ثم" إذا عطفت الجمل أي ومع ذلك كله لم

تلن قلوبكم ولم تنفعكم الآيات فـ {قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} وكان من البعيد قسوتها. وقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك على حد قول الفطامي:
أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
أي كيف أكفر نعمتك أي لا أكفرها مع إنجائك لي من الموت ألخ. ووجه استعمال بعد في هذا المعنى أنها مجاز في معنى مع لأن شأن المسبب أن يتأخر عن السبب ولما لم يكن المقصد التنبيه على تأخره للعلم بذلك وأريد التنبيه على أنه معه إثباتا أو نفيا عبر ببعد عن معنى مع مع الإشارة إلى التأخر الرتبي.
والقسوة والقساوة توصف بها الأجسام وتوصف بها النفوس المعبر عنها بالقلوب فالمعنى الجامع للوصفين هو عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها. وسواء كانت القساوة موضوعة للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي وهو احتمال ضعيف، أم كانت موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازا وهو الصحيح، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع وقد دل على ذلك العطف في قوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} كما سيأتي.
وقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} تشبيه فرع بالفاء لإرادة ظهور التشبيه بعد حكاية الحالة المعبر عنها بقست لأن القسوة هي وجه الشبه ولأن أشهر الأشياء في هذا الوصف هو الحجز فإذا ذكرت القسوة فقد تهيأ التشبيه بالحجر ولذا عطف بالفاء أي إذا علمت أنها قاسية فشبهها بالحجارة كقول النابغة يصف الحجيج:
عليهن شعث عامدون لربهم ... فهن كأطراف الحني خواشع
وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها. وهذا الأسلوب يسمى عندي تهيئة التشبيه وهو من محاسنه، وإذا تتبعت أساليب التشبيه في كلامهم تجدها على ضربين ضرب لا يهيأ فيه التشبيه وهو الغالب وضرب يهيأ فيه كما هنا والعطف بالفاء في مثله حسن جدا وأما أن يأتي المتكلم بما لا يناسب التشبيه فذلك عندي يعد مذموما وقد رأيت بيتا جمع تهيئة التشبيه والبعد عنه وهو قول ابن نباتة:
في الريق سكر وفي الأصداغ تجعيد ... هذا المدام وهاتيك العناقيد

فإنه لما ذكر السكر تهيأ التشبيه بالخمر ولكن قوله تجعيد لا يناسب العناقيد فإن قلت لم عددته مذموما وما هو إلا كتجريد الاستعارة؟.
قلت لا لأن التجريد يجيء بعد تكرر الاستعارة وعلم بها فيكون تفننا لطيفا بخلاف ما يجيء قبل العلم بالتشبيه.
وقوله {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} مرفوع على أنه خبر مبتدأ دل عليه قوله {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} وأو بمعنى بل الانتقالية لتوفر شرطها وهو كون معطوفها جملة. وهذا المعنى متولد من معنى التخيير الموضوعة له أو لأن الانتقال ينشأ عن التخيير فإن القلوب بعد أن شبهت بالحجارة وكان الشأن أن يكون المشبه أضعف في الوصف من المشبه به يبنى على ذلك ابتداء التشبيه بما هو أشهر ثم عقب التشبيه بالترقي إلى التفضيل في وجه الشبه على حد قول ذي الرمة1:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح
فليست أو للتخيير في التشبيه أي ليست عاطفة على قوله الحجارة المجرورة بالكاف لأن تلك لها موقع ما إذا كرر المشبه به كما قدمناه عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: من الآية19] ويجوز أن تكون للتخيير في الأخبار عطفا على الخبر الذي هو {كَالْحِجَارَةِ} أي فهي مثل الحجارة أو هي أقوى من الحجارة والمقصود من التخيير أن المتكلم يشير إلى أنه لا يرمي بكلامه جزافا ولا يذمهم تحاملا بل هو متثبت متحر في شأنهم فلا يثبت لهم إلا ما تبين له بالاستقراء والتقصي فإنه ساواهم بالحجارة في وصف ثم تقصى فرأى أنهم فيه أقوى فكأنه يقول للمخاطب إن شئت فسوههم بالحجارة في القسوة ولك أن تقول هم أشد منها وذلك يفيد مفاد الانتقال الذي تدل عليه بل وهو إنما يحسن في مقام الذم لأن فيه تلطفا وأما في مقام المدح فالأحسن هو التعبير ببل كقول الفرزدق:
فقالت لنا أهلا وسهلا وزودت ... جني النحل بل ما زودت منه أطيب
ووجه تفضيل تلك القلوب على الحجارة في القساوة أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعا مغايرا لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول التحول كما تقدم فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة
ـــــــ
1 نسبه إليه ابن جني وقال البغدادي لم أجده في "ديوان ذي الرمة".

الحجارة لأن الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق وهذه القلوب لم تجد فيها محاولة.
وقوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ} إلخ تعليل لوجه التفضيل إذ من شأنه أن يستغرب، وموقع هذه الواو الأولى في قوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} عسير فقيل هي للحال من الحجارة المقدرة بعد أشد أي أشد من الحجارة قسوة، أي تفضيل القلوب على الحجارة في القسوة يظهر في هذه الأحوال التي وصفت بها الحجارة ومعنى التقييد أن التفضيل أظهر في هذه الأحوال، وقيل هي الواو للعطف على قوله {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} قاله التفتزاني، وكأنه يجعل مضمون هذه المعطوفات غير راجع إلى معنى تشبيه القلوب بالحجارة في القساوة بل يجعلها إخبارا عن مزايا فضلت بها الحجارة على قلوب هؤلاء بما يحصل عن هذه الحجارة من منافع في حين تعطل قلوب هؤلاء من صدور النفع بها، وقيل الواو استئنافية وهو تذييل للجملة السابقة وفيه بعد كما صرح به ابن عرفة، والظاهر أنها الواو الاعتراضية وأن جملة {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} وما عطف عليها معترضات بين قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} وبين جملة الحال منها وهي قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
والتوكيد بإن للاهتمام بالخبر وهذا الاهتمام يؤذن بالتعليل ووجود حرف العطف قبلها لا يناكد ذلك كما تقدم عند قوله تعالى: {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61]
ومن بديع التخلص تأخر قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} والتعبير عن التسخر لأمر التكوين بالخشية ليتم ظهور تفضيل الحجارة على قلوبهم في أحوالها التي نهايتها الامتثال للأمر التكويني مع تعاصي قلوبهم عن الامتثال للأمر التكليفي ليتأتى الانتقال إلى قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75]
وقد أشارت الآية إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جريا على قاعدة الجاذبية فإذا اضغط عليه بثقل نفسه من تكاثره أو بضاغط آخر من أهوية الأرض تطلب الخروج حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماء إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية وكان الماء قد حمل في جريته

أجزاء من معدن الحامض الفحمي فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقبا في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعا كالعيون. وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر، وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة. وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعده منفذا إلى أرض ترابية فيخرج طافيا من سطح الصخور التي جرى فوقها. وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تطلب الخروج بطريق من الطرق المتقدمة ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل.
والخشية في الحقيقة الخوف الباعث على تقوى الخائف غيره. وهي حقيقة شرعية في امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الامتثال. وجعلت هنا مجازا عن قبول الأمر التكويني إما مرسلا بالإطلاق والتقييد، وإما تمثيلا للهيئة عند التكوين بهيئة المكلف إذ ليست للحجارة خشية إذ لا عقل لها. وقد قيل إن إسناد يهبط للحجر مجاز عقلي والمراد هبوط القلوب أي قلوب الناظرين إلى الصخور والجبال أي خضوعها فأسند الهبوط إليها لأنها سببه كما قالوا ناقة تاجرة أي تبعث من يراها على المساومة فيها1.
وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تذييل في محل الحال أي فعلتم ما فعلتم وما الله بغافل عن كل صنعكم وقد قرأه الجمهور بالتاء الفوقية تكملة خطاب بني إسرائيل، وقرأ ابن كثير ويعقوب وخلف "يعملون" بالياء التحتية وهو انتقال من خطابهم إلى خطاب المسلمين فلذلك غير أسلوبه إلى الغيبة وليس ذلك من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75] عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين. وهو خبر مراد به التهديد والوعيد لهم مباشرة أو تعريضا.
[75] {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ
ـــــــ
1 قال النابغة يصف نخلا:
بزاخية الموت بليف كأنه ... عفاء قلاص طار عنها تواجر

يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
هذا اعتراض استطرادي بين القصة الماضية والقصة التي أولها {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة: 83] فجميع الجمل من قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} إلى قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا} داخلة في هذا الاستطراد.
والفاء لتفريع الاستفهام الإنكاري أو التعجيبي عل جملة {ثُمَّ قَسَتْ} أو على مجموع الجمل السابقة لأن جميعها مما يقتضي اليأس من إيمانهم بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل فلا تطمعوا أن يؤمنوا لكم أو فاعجبوا من طمعكم وسيأتي تحقيق موقع الاستفهام مع حرف العطف في مثله عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} [البقرة: 87]. والطمع ترقب حصول شيء محبوب وهو يرادف الرجاء وهو ضد اليأس، والطمع يتعدى بفي حذفت هنا قبل "أن".
فإن قلت كيف ينهي عن الطمع في إيمانهم أو يعجببه والنبي والمسلمون مأمورون بدعوة أولئك إلى الإيمان دائما وهل لمعنى هذه الآية ارتباط بمسألة التكليف بالمحال الذي استحالته لتعلق علم الله بعدم وقوعه.
قلت: إنما نهينا عن الطمع في إيمانهم لا عن دعائهم للإيمان لأننا ندعوهم للإيمان وإن كنا آيسين منه لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم وفي الآخرة أيضا ولأن الدعوة إلى الحق قد تصادف نفسا نيرة فتنفعها فإن استبعاد إيمانهم حكم على غالبهم وجمهرتهم أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم والمسألة أخص من تلك المسألة لأن مسألة التكليف بالمحال لتعلق العلم بعدم وقوعه مفروضة فيما علم الله عدم وقوعه وتلك قد كنا أجبنا لكم فيها جوابا واضحا1 وهو أن الله تعالى وإن علم عدم إيمان مثل أبي جهل إلا أنه لم يطلعنا على ما علمه فيه والأوامر الشرعية لم تجيء بتخصيص أحد بدعوة حتى يقال كيف أمر مع علم الله بأنه لا يؤمن، وأما هذه الآية فقد أظهرت نفي الطماعية في إيمان من كان دأبهم هذه الأحوال فالجواب عنها يرجع إلى الجواب الأعم وهو أن الدعاء لأجل إقامة الحجة وهو الجواب الأعم لأصحابنا في مسألة
ـــــــ
1 عند شرح قوله تعلى: {لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] وانظر أيضا آخر شرح [البقرة: 6] فإن فيها ذكر مسألة التكليف الإلجائي "مصححة"

التكليف بما علم الله عدم وقوعه على أن بعض أحوالهم قد تتغير فيكون للطماعية بعد ذلك حظ.
واللام في قوله {لكم} لتضمين {يؤمنوا} معنى يقروا وكأن فيه تلميحا إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل ولكنهم يكابرون ويجحدون على نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] الآية فما أبدع نسج القرآن. ويجوز حمل اللام على التعليل وجعل {يؤمنوا} منزلا منزلة اللازم تعريضا بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي جاءهم على ألسنة أنبيائهم وهم أخص الناس بهم أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم.
وقوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} جملة حالية هي قيد إنكار الطمع في إيمانهم فيكون قد علل هذا الإنكار بعلتين إحداهما بالتفريع على ما علمناه، والثانية بالتقييد بما علمناه.
وقوله: {فَرِيقٌ مِنْهُمْ} يحتمل أن يريد من قومهم الأقدمين أو من الحاضرين في زمن نزول الآية.
وسماعهم كلام الله على التقديرين هو سماع الوحي بواسطة الرسول إن كان الفريق من الذين كانوا زمن موسى أو بواسطة النقل إن كان من الذين جاءوا من بعده. أما سماع كلام الله مباشرة فلم يقع إلا لموسى عليه السلام وأيا ما كان فالمقصود بهذا الفريق جمع من علمائهم دون عامتهم.
والتحريف أصله مصدر حرف الشيء إذا مال به إلى الحرف وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق. ولما شاع تشبيه الحق والصواب والرشد والمكارم بالجادة وبالصراط المستقيم شاع في عكسه تشبيه ما خالف ذلك بالانحراف وببنيات الطريق. قال الأشتر:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
ومن فروع هذا التشبيه قولهم: زاغ، وحاد، ومرق، وألحد. وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11]. فالمراد بالتحريف إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به إما بتبديل وهو قليل وإما بكتمان بعض وتناسيه وإما بالتأويل البعيد وهو أكثر أنواع التحريف.
وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال من {فريق} وهو قيد في القيد يعني يسمعونه ثم يعقلونه ثم يحرفونه وهم يعلمون أنهم يحرفون، وأن قوما توارثوا هذه الصفة لا يطمع في

إيمانهم لأن الذين فعلوا هذا إما أن يكونوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو بني عمهم فالغالب أن يكون خلقهم واحدا وطباعهم متقاربة كما قال نوح عليه السلام: {وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} وللعرب والحكماء في هذا المعنى أقوال كثيرة مرجعها إلى أن الطباع تورث، ولذلك كانوا يصفون القبيلة بصفات جمهورها أو أراد بالفريق علماءهم وأحبارهم، فالمراد لا طمع لكم في إيمان قوم هذه صفات خاصتهم وعلمائهم فكيف ظنكم بصفات دهمائهم لأن الخاصة في كل أمة هم مظهر محامدها وكمالاتها فإذا بلغت الخاصة في الانحطاط مبلغا شنيعا فاعلم أن العامة أفظع وأشنع وأراد بالعامة الموجودين منهم زمن القرآن لأنهم وإن كان فيهم علماء إلا أنهم كالعامة في سوء النظر ووهن الوازع.
[76,77] {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}
الأظهر أن الضمير في {لَقُوا} عائد على بني إسرائيل على نسق الضمائر السابقة في قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا} [البقرة: 75] وما بعده، وأن الضمير المرفوع بقالوا عائد عليهم باعتبار فريق منهم وهم الذين أظهروا الإيمان نفاقا أو تفاديا من مر المقارعة والمحاجة بقرينة قوله: { آمنا } وذلك كثير في ضمائر الأمم والقبائل ونحوها نحو قوله تعالى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232]لأن ضمير {طلقتم} للمطلقين وضمير تعضلوا للأولياء لأن الجميع راجع إلى جهة واحدة وهي جهة المخاطبين من المسلمين لاشتمالهم على الصنفين، ومنه أن تقول لئن نزلت ببني فلان ليكرمنك وإنما يكرمك سادتهم وكرماؤهم ويكون الضمير في قوله {بعضهم} عائد إلى الجميع أي بعض الجميع إلى بعض آخر ومعلوم أن القائل من لم ينافق لمن نافق، ثم تلتئم الضمائر بعد ذلك في {يعلمون} و {يسرون} و {يعلنون} بلا كلفة وإلى هذه الطريقة ذهب صاحب الكشاف ويرجحها عندي أن فيها الاقتصار على تأويل ما به الحاجة والتأويل عند وجود دليله بجنبه وهو {آمنا} .
وجملة {إذا لقوا} معطوفة على جملة {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 75] على أنها حال مثلها من أحوال اليهود وقد قصد منها تقييد النهي أو التعجيب من الطمع في إيمانهم فهو معطوف على الحال بتأويل وقد كان فريق منهم آخر إذا لقوا.
وقوله: {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ} معطوف على {وَإِذَا لَقُوا} وهو المقصود من الحالية أي

والحال أنهم يحصل منهم مجموع هذا لأن مجرد قولهم: {آمنا} لا يكون سببا للتعجب من الطمع في إيمانهم فضمير {بعضهم} راجع إلى ما رجع إليه {لقوا} وهم عموم اليهود. ونكتة التعبير بـ {قالوا آمنا} مثلها في نظيره السابق في أوائل السورة.[البقرة:14]
وقوله: {أتحدثونهم} استفهام للإنكار أو التقرير أو التوبيخ بقرينة أن المقام دل على أنهم جرى بينهم حديث في ما ينزل من القرآن فاضحا لأحوال أسلافهم ومثالب سيرتهم مع أنبيائهم وشريعتهم. والظاهر عندي أن معناه أنهم لما سمعوا من القرآن ما فيه فضيحة أحوالهم وذكر ما لا يعلمه إلا خاصتهم ظنوا أن ذلك خلص للنبي من بعض الذين أظهروا الإيمان من أتباعهم وأن نفاقهم كان قد بلغ بهم إلى أن أخبروا المسلمين ببعض قصص قومهم سترا لكفرهم الباطن فوبخوهم على ذلك توبيخ إنكار أي كيف يبلغ بكم النفاق إلى هذا وأن في بعض إظهار المودة للمسلمين كفاية على حد قول المثل الذي حكاه بشار بقوله:
واسعد بما قال في الحلم ابن ذي يزن ... يلهو الكرام ولا ينسون أحسابا
فحكى الله ذلك عنهم حكاية لحيرتهم واضطراب أمرهم لأنهم كانوا يرسلون نفرا من قومهم جواسيس على النبي والمسلمين يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ثم اتهموهم بخرق الرأي وسوء التدبير وأنهم ذهبوا يتجسسون فكشفوا أحوال قومهم ويدل لهذا عندي قوله تعالى بعد: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77]
وأخبار مروية عن بعض التابعين بأسانيد لبيان المتحدث به، فعن السدى كان بعض اليهود يحدث المسلمين بما عذب به أسلافهم وعن أبي العالية قال بعض المنافقين إن النبي مذكور في التوراة وعن ابن زيد كانوا يخبرون عن بعض قصص التوراة.
والمراد {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ} إما ما قضى الله به من الأحوال والمصائب فإن الفتح بمعنى القضاء وعليه قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا} [لأعراف: 89] والفتاح القاضي بلغة اليمن، وإما بمعنى البيان والتعليم، ومنه الفتح على الإمام في الصلاة بإظهار الآية له وهو كناية مشهورة لأن القضاء يستلزم بيان الحق، ومنه قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] أي يسألونهم العلم بالأمور التشريعية على أحد وجهين فالمعنى بما علمكم الله من الدين.
وقوله: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} صيغة المفاعلة غير مقصود بها حصول الفعل من جانبين بل هي لتأكيد الاحتجاج أي ليحتجوا عليكم به أي بما فتح الله عليكم.

واللام في قوله تعالى: {ليحاجوكم} لام التعليل لكنها مستعملة في التعقيب مجازا أو ترشيحا لاستعمال الاستفهام في الإنكار أو التقرير مجازا فإنه لما كان الاستفهام الموضوع لطلب العلم استعمل هنا في الإنكار أو التقرير مجازا لأن طلب العلم يستلزم الإقرار والمقرر عليه يقتضي الإنكار لأن المقر به مما ينكر بداهة وكانت المحاجة به عند الله فرعا عن التحديث بما فتح الله عليهم جعل فرع وقوع التحديث المنكر كأنه علة مسؤول عنها أي لكان فعلكم هذا معللا بأن يحاجوكم وهو غاية في الإنكار إذ كيف يسعى أحد في إيجاد شيء تقوم به عليه الحجة فالقرينة هي كون المقام للإنكار لا للاستفهام ولذلك كانت اللام ترشيحا متميزا به أيضا.
والأظهر أن قوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} ظرف على بابه مراد منه عندية التحاكم المناسب لقوله {يحاجوكم} وذلك يوم القيامة لا محالة أي يجعلون ذلك حجة عليكم أمام الله على صدق رسولهم وعلى تبعتكم في عدم الإيمان به وذلك جار حكاية حال عقيدة اليهود من تشبيههم الرب سبحانه وتعالى بحكام البشر في تمشي الحيل عليه وفي أنه إنما يأخذ المسببات من أسبابها الظاهرية فلذلك كانوا يرتكبون التحيل في شرعهم وتجد كتبهم ملآى بما يدل على أن الله ظهر له كذا وعلم أن الأمر الفلاني كان على خلاف المظنون وكقولهم في سفر التكوين وقال الرب هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر وقال فيه ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر فخزن الرب انه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه فقال أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته وجاء في التكوين أيضا لما شاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر دعا ابنه الأكبر عيسو وقال له إني شخت ولست أعرف يوم وفاتي فالآن خذ عدتك واخرج إلى البرية فتصيد لي صيدا واصنع لي أطعمة حتى أباركك قبل أن أموت فسمعت رفقة أمهما1 ذلك فكلمت ابنها يعقوب وقالت اذهب إلى الغنم وخذ جديين جيدين من المعزى فاصنعهما أطعمة لأبيك حتى يباركك قبل وفاته فقال يعقوب لأمه إن عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس ربما يجسني أبي فأكون في عينيه كمتهاون واجلب على نفسي لعنة فقالت اسمع لقولي فذهب وصنعت له أمه الطعام وأخذت ثياب ابنها الأكبر عيسو وألبستها يعقوب وألبست يديه وملاسة عنقه جلود الجديين فدخل يعقوب إلى أبيه وقال يا أبي أنا ابنك الأكبر قد فعلت
ـــــــ
1 رافقة هي أم عيسو ويعقوب ولكنها تميل إلى يعقوب لأن عيسو كان قد تزوج امرأتين من بني حيث فكانت رفقة ساخطة على عيسو.

كما كلمتني فجسه إسحاق وقال الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو فباركه أي جعله نبيا وجاء عيسو وكلم أباه الحيلة ثم قال لأبيه باركني أنا فقال قد جاء أخوك بكرة وأخذ بركتك إلخ فما ظنك بقوم هذه مبالغ عقائدهم أن لا يقولوا لا تعلموهم لئلا يحاجوكم عند الله يوم القيامة وبهذا يندفع استبعاد البيضاوي وغيره أن يكون المراد بعند ربكم يوم القيامة بأن إخفاء الحقائق يوم القيامة لا يفيد من يحاوله حتى سلكوا في تأويل معنى قوله: {عند ربكم} مسالك في غاية التكلف قياسا منهم لحال اليهود على حال عقائد الإسلام ففسروا {عند} بمعنى الكتاب أو على حذف مضاف أو حذف موصول ثم سلك متعقبوهم في إعرابه غاية الأغراب.
وقوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} من بقية مقولهم لقومهم ولا يصح جعله خطابا من الله للمسلمين تذييلا لقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: من الآية75] لأن المسلمين وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا جديرين بمثل هذا التوبيخ وحسبهم ما تضمنه الاستفهام من الاستغراب أو النهي.
فإن قلت لم يذكر في الآية جواب المخاطبين بالتبرؤ من أن يكونوا حدثوا المؤمنين بما فتح الله عليهم كما ذكر في قوله المتقدم: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ?
قلت ليس القرآن بصدد حكاية مجادلاتهم وأحوالهم فإنها أقل من ذلك وإنما يحكى منها ما فيه شناعة حالهم وسوء سلوكهم ودوام إصرارهم وانحطاطا أخلاقهم فتبريهم مما نسب إليه كبراؤهم من التهمة معلوم، للقطع بأنهم لم يحدثوا المسلمين بشيء ولما دل عليه قوله الآتي: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} إلخ. وأما ما في الآية المتقدمة من تنصلهم بقولهم: {إنا معكم} فلأن فيه التسجيل عليهم في قوله فيه. {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}
وقوله: {أَوَلا يَعْلَمُونَ} الآية، الاستفهام فيه على غير حقيقته فهو إما مجاز في التقرير أي ليسوا يعلمون ذلك والمراد التقرير بلازمه وهو أنه إن كان الله يعلمه فقد علمه رسوله وهذا لزوم عرفي ادعائي في المقام الخطابي أو مجاز في التوبيخ والمعنى هو. أو مجاز في التحضيض أي هل كان وجود أسرار دينهم في القرآن موجبا لعلمهم أن الله يعلم ما يسرون والمراد لازم ذلك أي يعلمون أنه منزل عن الله أي هلا كان ذلك دليلا على صدق الرسول عوض عن أن يكون موجبا لتهمة قومهم الذين تحققوا صدقهم في اليهودية وهذا الوجه هو الظاهر لي ويرجحه التعبير بيعلمون بالمضارع دون علموا.

وموقع الاستفهام مع حرف العطف في قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} وقوله: {أَوَلا يَعْلَمُونَ} سيأتي الكلام على نظائره وخلاف علماء العربية فيه عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ} [البقرة: 87]
[78] {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}
معطوف على قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ} [البقرة: 75] عطف الحال على الحال ومنهم خبر مقدم وتقديمه للتشويق إلى المسند إليه كما تقدم في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} [البقرة: 8] والمعنى كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم محرفين وفريق جهلة وإذا انتفى إيمان أهل العلم منهم المظنون بهم تطلب الحق المنجى والاهتداء إلى التفرقة بينه وبين الباطل فكانوا يحرفون الدين ويكابرون فيما يسمعون من معجزة القرآن في الإخبار عن أسرار دينهم فكيف تطمعون أيضا في إيمان الفريق الأميين الذين هم أبعد عن معرفة الحق وألهى عن تطلبه وأضل في التفرقة بين الحق والباطل وأجدر بالاقتداء بأئمتهم وعلمائهم فالفريق الأول هم الماضون.
وعلى هذا فجملة: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} معطوفة على جملة {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} إلخ باعتبار كونها معادلا لها من جهة ما تضمنته من كونها حالة فريق منهم وهذه حالة فريق آخر. وأما قوله: {وإذا لقوا} وقوله: {وإذا خلا} فتلك معطوفات على جملة: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ} عطف الحال على الحال أيضا لكن باعتبار ما تضمنته الجملة الأولى من قوله {يسمعون} الذي هو حال من أحوال اليهود وبهذا لا يجيء في جملة: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} التخيير المبني على الخلاف في عطف الأشياء المتعددة بعضها على بعض هل يجعل الأخير معطوفا على ما قبله من المعطوفات أو معطوفا على المعمول الأول لأن ذلك إذا كان مرجع العطف جهة واحدة وهنا قد اختلفت الجهة.
والأمي من لا يعرف القراءة والكتابة والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي، وقيل منسوب إلى الأم وهي الوالدة أي أنه بقي على الحال التي كان عليها مدة حضانة أمه إياه فلم يكتسب علما جديدا ولا يعكر عليه أنه لو كان كذلك لكان الوجه في النسب أن يقولوا أمهى بناء على أن النسب يرد الكلمات إلى أصولها وقد قالوا في جمع الأم أمهات فردوا المفرد إلى أصله فدلوا على أن أصل أم أمهة لأن الأسماء إذا نقلت من حالة الاشتقاق إلى جعلها أعلاما قد يقع فيها تغيير لأصلها.

وقد اشتهر اليهود عند العرب بوصف أهل الكتاب فلذلك قيل هنا: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي ليس جميعهم أهل كتاب. ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ} وقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم أشهد أنك رسول الأميين وذلك لما تقتضيه الأمية من قلة المعرفة ومن أجل ذلك كانت الأمية معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أعلم الناس مع كونه نشأ أميا قبل النبوءة وقد قال أبو الوليد الباجي: إن الله علم نبيه القراءة والكتابة بعد تحقق معجزة الأمية بأن يطلعه على ما يعرف به ذلك عند الحاجة استنادا لحديث البخاري في صلح الحديبية وأيده جماعة من العلماء في هذا وأنكر عليه أكثرهم مما هو مبسوط في ترجمته من كتاب المدارك لعياض وما أراد إلا إظهار رأيه.
والكتاب إما بمعنى التوراة اسم للمكتوب وإما مصدر كتب أي لا يعلمون الكتابة ويبعده قوله بعده: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} فعلى الوجه الأول يكون قوله: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} أثرا من آثار الأمية أي لا يعلمون التوراة إلا علما مختلطا حاصلا مما يسمعونه ولا يتقنونه، وعلى الوجه الثاني تكون الجملة وصفا كاشفا لمعنى الأميين كقول أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
والأماني بالتشديد جمع أمنية على وزن أفاعيل وقد جاء بالتخفيف فهو جمع على وزن أفاعل عند الأخفش كما جمع مفتاح على مفاتح ومفاتيح، والأمنية كأثفية وأضحية أفعولة كالأعجوبة والأضحوكة والأكذوبة والأغلوطة، والأماني كالأعاجيب والأضاحيك والأكاذيب والأغاليط، مشتقة من منى كرمى بمعنى قدر الأمر ولذلك قيل تمنى بمعنى تكلف تقدير حصول شيء متعذر أو متعسر، ومناه أي جعله مانيا أي مقدرا كناية عن الوعد الكاذب لأنه ينقل الموعود من تقدير حصول الشيء اليوم إلى تقدير حصوله غدا، وهكذا كما قال كعب بن زهير:
فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل
ولأن الكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقا لخبره فمن أجل ذلك حدثت العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة، فالأماني هي التقادير النفسية أي الاعتقادات التي يحسبها صاحبها حقا وليست بحق أو هي الفعال التي يحسبها العامة من الدين وليست منه بل ينسون الدين ويحفظونها، وهذا دأب الأمم الضالة عن شرعها أن تعتقد مالها من العوائد والرسوم والمواسم شرعا، أو هي التقادير التي.

وضعها الأحبار موضع الوحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وإما تضليلا وهذا أظهر الوجوه،
وقيل الأماني هنا الأكاذيب أي ما وضعه لهم الذين حرفوا الدين، وقد قيل الأماني القراءة أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظونها ويدرسونها لا يفقهون منها معنى كما هو عادة الأمم الضالة إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم وأنشدوا على ذلك قول حسان في رثاء عثمان رضي الله عنه.
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حمام المقادر
أي قرأ القرآن في أول الليل الذي قتل في آخره،
وعندي أن الأماني هنا التمنيات وذلك نهاية في وصفهم بالجهل المركب أي هم يزعمون أنهم يعلمون الكتاب وهم أميون لا يعلمونه ولكنهم يدعون ذلك لأنهم تمنوا أن يكونوا علماء فلما لم ينالوا العلم ادعوه باطلا فإن غير العالم إذا اتهم بميسم العلماء دل ذلك على أنه يتمنى لو كان عالما، وكيفما كان المراد فالاستثناء منقطع لأن واحدا من هاته المعاني ليس من علم الكتاب.
[79] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}
الفاء للترتيب والتسبب فيكون ما بعدها مترتبا على ما قبلها والظاهر أن ما بعدها مترتب على قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] الدال على وقوع تحريف منهم عن عمد فرتب عليه الإخبار باستحقاقهم سوء الحالة. أو رتب عليه إنشاء استفظاع حالهم، وأعيد في خلال ذلك ما أجمل في الكلام المعطوف عليه إعادة تفصيل.
ومعنى: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} أنهم يكتبون شيئا لم يأتيهم من رسلهم بل يضعونه ويبتكرونه كما دل عليه قوله: {ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} المشعر بأن ذلك قولهم بأفواههم ليس مطابقا لما في نفس الأمر.
وثم للترتيب الرتبي لأن هذا القول أدخل في استحقاقهم الويل من كتابة الكتاب بأيديهم إذ هو المقصود. وليس هذا القول متراخيا عن كتابتهم ما كتبوه في الزمان بل هما متقارنان.

والويل لفظ دال على الشر أو الهلاك ولم يسمع له فعل من لفظه فلذلك قيل هو اسم مصدر، وقال ابن جني هو مصدر امتنع العرب من استعمال فعله لأنه لو صرف لوجب اعتلال فائه وعينه بأن يجتمع فيه إعلالان أي فيكون ثقيلا، والويل: البلية. وهي مؤنث الويل قال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} [الكهف: 49] وقال امرؤ القيس:
فقالت لك الويلات إنك مرجلى
ويستعمل الويل بدون حرف نداء كما في الآية ويستعمل بحرف النداء كقوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الانبياء:14] كما يقال يا حسرتا.
فأما موقعه من الإعراب فإنه إذا لم يضف أعرب إعراب الأسماء المبتدإ بها وأخبر عنه بلام الجر كما في هذه الآية وقوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1]
قال الجوهري وينصبوا فيقال ويلا لزيد وجعل سيبويه ذلك قبيحا وأوجب إذا ابتدئ به أن يكون مرفوعا، وأما إذا أضيف فإنه يضاف إلى الضمير غالبا كقوله تعالى: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص:80]وقوله: {وَيْلَكَ آمِنْ} [الاحقاف: 17] فيكون منصوبا وقد يضاف إلى الاسم الظاهر فيعرب إعراب غير المضاف كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: "ويل أمه مسعر حرب" .
ولما أشبه في إعرابه المصادر الآتية بدلا من أفعالها نصبا ورفعا مثل: حمدا لله وصبر جميل كما تقدم عند قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: من الآية2] قال أكثر أئمة العربية إنه مصدر أميت فعله، ومنهم من زعم أنه اسم وجعل نصبه في حالة الإضافة نصبا على النداء بحذف حرف النداء لكثرة الاستعمال فأصل ويله يا ويله بدليل ظهور حرف النداء معه في كلامهم. وربما جعلوه كالمندوب فقالوا ويلاه وقد أعربه الزجاج كذلك في سورة طه. ومنهم من زعم أنهم إذا نصب فعلى تقدير فعل، قال الزجاج في قوله تعالى: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [طه: 61] في طه يجوز أن يكون التقدير ألزمكم الله ويلا. وقال الفراء إن ويل كلمة مركبة من وى بمعنى الحزن ومن مجرور باللام المكسورة فلما كثر استعمال اللام مع وى صيروهما حرفا واحدا فاختاروا فتح اللام كما قالوا يال ضبة ففتحوا اللام وهي في الأصل مكسورة. وهو يستعمل دعاء وتعجبا وزجرا مثل قولهم: لا أبلك، وثكلتك أمك. ومعنى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} دعاء مستعمل في إنشاء الغضب والزجر، قال سيبويه: لا ينبغي أن يقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} دعاء لأنه قبيح في اللفظ ولكن العباد كلموا بكلامهم وجاء القرآن على لغتهم على مقدار فهمهم أي هؤلاء

ممن وجب هذا القول لهم. وقد جاء على مثال ويل ألفاظ وهي ويح وويس وويب وويه وويك.
وذكر: {بأيديهم} تأكيد مثل نظرته بعيني ومثل: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 167] وقوله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]. والقصد منه تحقيق وقوع الكتابة ورفع المجاز عنها وأنهم في ذلك عامدون قاصدون.
وقوله: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} هو كقوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] والثمن المقصود هنا هو إرضاء العامة بأن غيروا لهم أحكام الدين على ما يوافق أهواءهم أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون فوضعوا كتابا تافهة من القصص المعلومات البسيطة ليتفيقهوا بها في المجامع لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة لفقوا نتفا سطحية وجمعوا موضوعات وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح ثم أشاعوها ونسبوها إلى الله ودينه وهذه شنشنة الجهلة المتطلعين إلى الرئاسة من غير أهلية ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة ومن لا يميز بين الشحم والورم.
وقوله: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} تفصيل لجنس الويل إلى ويلين وهما ما يحصل لهم من الشر لأجل ما وضعوه وما يحصل لهم لأجل ما اكتسبوه من جراء ذلك فهو جزاء بالشر على الوسيلة وعلى المقصد وليس في الآية ثلاث ويلات كما قد توهم ذلك.
وكأن هذه الآية تشير إلى ما كان في بني إسرائيل من تلاشي التوراة بعد تخريب بيت المقدس في زمن بختنصر ثم في زمن طيطس القائد الروماني وذلك أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد أمر بوضعها في تابوت العهد حسبما ذلك مذكور في سفر التثنية وكان هذا التابوت قد وضعه موسى في خيمة الاجتماع ثم وضعه سليمان في الهيكل فلما غزاهم بختنصر سنة 588 قبل المسيح أحرق الهيكل والمدينة كلها بالنار وأخذ معظم اليهود فباعهم عبيدا في بلده وترك فئة قليلة بأورشليم قصرهم على الغراسة والزراعة ثم ثاروا على بختنصر وقتلوا نائبه وهربوا إلى مصر ومعهم أرميا فخربت مملكة اليهود. ومن المعلوم أنهم لم يكونوا يومئذ يستطيعون إنقاذ التوراة وهم لم يكونوا من حفظتها لأن شريعتهم جعلت التوراة أمانة بأيدي اللاويين كما تضمنه سفر التثنية وأمر موسى القوم بنشر التوراة لهم بعد كل سبع سنين تمضي وقال موسى ضعوا هذا الكتاب عند تابوت العهد

ليكون هناك شاهدا عليكم لأني أعرف تمردكم وقد صرتم تقاومون ربكم وأنا حي فأحرى أن تفعلوا ذلك بعد موتي ولا يخفى أن اليهود قد نبذوا الديانة غير مرة وعبدوا الأصنام في عهد رحبعام بن سليمان ملك يهوذا وفي عهد يوربعام غلام سليمان ملك إسرائيل قبل تخريب بيت المقدس وذلك مؤذن بتناسي الدين ثم طرأ عليه التخريب المشهور ثم أعقبه التخريب الروماني في زمن طيطس سنة 40 للمسيح ثم في زمن أدريان الذي تم على يده تخريب بلد أورشليم بحيث صيرها مزرعة وتفرق من أبقاه السيف من اليهود في جهات العالم. ولهذا اتفق المحققون من العلماء الباحثين عن تاريخ الدين على أن التوراة قد دخلها التحريف والزيادة والتلاشي وأنهم لما جمعوا أمرهم عقب بعض مصائبهم الكبرى افتقدوا التوراة فأرادوا أن يجمعوها من متفرق أوراقهم وبقايا مكاتبهم. وقد قال لنجرك أحد اللاهوتيين من علماء الإفرنج إن سفر التثنية كتبه يهودي كان مقيما بمصر في عهد الملك يوشيا ملك اليهود وقال غيره إن الكتب الخمسة التي هي مجموع التوراة قد دخل فيها تحريف كثير من علم صموئيل أو عزير عزرا. ويذكر علماؤنا أن اليهود إنما قالوا عزير ابن الله لأنه ادعى أنه ظفر بالتوراة. وكل ذلك يدل على أن التوراة قد تلاشت وتمزقت والموجود في سفر الملوك الثاني من كتبهم في الإصحاح الحادي والعشرين أنهم بينما كانوا بصدد ترميم بيت المقدس في زمن يوشيا ملك يهوذا ادعى حلقيا الكاهن أنه وجد سفر الشريعة في بيت الرب وسلمه الكاهن لكاتب الملك فلما قرأه الكاتب على الملك مزق ثيابه وتاب من ارتداده عن الشريعة وأمر الكهنة بإقامة كلام الشريعة المكتوب في السفر الذي وجده حلقيا الكاهن في بيت الرب اه. فهذا دليل قوي على أن التوراة كانت مجهولة عندهم منذ زمان.
[80-82] {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
قيل الواو لعطف الجملة على جملة {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: من الآية75] فتكون حالا مثلها أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهو يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ويقولون لن تمسنا النار. والأظهر عندي أن الواو عطف على قوله {يكتبون} إلخ أي فعلوا ذلك وقالوا {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} ووجه المناسبة أن قولهم {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} دل على

اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدموا على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياما معدودة تعادل أيام عبادة العجل أو أياما عن كل ألف سنة من العالم يوم وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم. ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام.
وقوله: {وقالوا} أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد لأن الأصل الصدق في القول حتى تقوم القرينة على أنه قول على خلاف الاعتقاد كما في قوله: {قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] ولأجل أن أصل القول أن يكون على وفق الاعتقاد ساغ استعمال القول في معنى الظن والاعتقاد في نحو قولهم :قال مالك، وفي نحو قول عمرو بن معد يكرب
علام تقول الرمح يثقل عاتقي
والمس حقيقته اتصال اليد بجرم من الأجرام وكذلك اللمس قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا1 بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} [الأنعام: 49].
وعبر عن نفيهم بحرف لن الدال على تأييد النفي تأكيدا لانتفاء العذاب عنهم بعد تأكيد، ولدلالة لن على استغراق الأزمان تأتى الاستثناء من عموم الأزمنة بقوله: {إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} على وجه التفريع فهو منصوب على الظرفية.
والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعا للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصودا هنا. وتأنيث "معدودة" وهو صفة "أياما" مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الأفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات، وسيأتي ذلك في قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]
ـــــــ
1 في المطبوعة {كفروا } وهو غلط.

وقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} جواب لكلامهم ولذلك فصل على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده: {بلى} فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين وليس إنكاري لوجود المعادل وهو أم تقولون لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له.
والمراد بالعهد الوعد المؤكد فهو استعارة، لأن أصل العهد هو الوعد المؤكد بقسم والتزام، ووعد الذي لا يخلف الوعد كالعهد ويجوز أن يكون العهد هنا حقيقة لأنه في مقام التقرير دال على انتفاء ذلك. وذكر الاتخاذ دون أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد و {عند} لزيادة التأكيد يقولون اتخذ يدا عند فلان.
وقوله: {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} الفاء فصيحة دالة على شرط مقدر وجزائه وما بعد الفاء هو علة الجزاء والتقدير فإن كان ذلك فلكم العذر في قولكم لأن الله لا يخلف عهده وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة:60] ولكون ما بعد فاء الفصيحة دليل شرط وجزائه لم يلزم أن يكون ما بعدها مسببا عما قبلها ولا مترتبا عنه حتى يشكل عليه عدم صحة ترتب الجزاء في الآية على الشرط المقدر لأن لن للاستقبال.
و"أم" في قوله: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} معادلة همزة الاستفهام فهي متصلة وتقع بعدها الجملة كما صرح به ابن الحاجب في الإيضاح وهو التحقيق كما قال عبد الحكيم فما قاله صاحب المفتاح من أن علامة أم المنقطعة كون ما بعدها جملة أمر أغلبي ولا معنى للانقطاع هنا لأنه يفسد ما أفاده الاستفهام من الإلجاء والتقرير.
وقوله: {بلى} إبطال لقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، وكلمات الجواب تدخل على الكلام السابق لا على ما بعدها فمعنى بلى بل أنتم تمسكم النار مدة طويلة.
وقوله: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} سند لما تضمنته بلى من إبطال قولهم أي ما أنتم إلا ممن كسب سيئة إلخ ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فأولئك أصحاب النار فأنتم منهم لا محالة على حد قول لبيد:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
أي فلا أخلد كما لم يخلد بنو ربيعة ومضر، فمن في قوله: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها وهي في الشرط من صيغ العموم فلذلك كانت مؤذنة بجملة محذوفة دل عليها تعقيب بلى بهذا العموم لأنه لو لم يرد به أن المخاطبين من زمر هذا العموم لكان ذكر العموم بعدها كلاما متناثرا ففي الكلام إيجاز الحذف ليكون المذكور كالقضية الكبرى لبرهان قوله بلى. والمراد بالسيئة هنا السيئة العظيمة وهي الكفر بدليل العطف عليها بقوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}
وقوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم وهي فعيلة بمعنى مفعولة من خطى إذا أساء، والإحاطة مستعارة لعدم الخلو عن الشيء لأن ما يحيط بالمرء لا يترك له منفذا للإقبال على غير ذلك قال تعالى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} وإحاطة الخطيئات هي حالة الكفر لأنها تجرئ على جميع الخطايا ولا يعتبر مع الكفر عمل صالح كما دل عليه قوله {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]. فلذلك لم تكن في هذه الآية حجة للزاعمين خلود أصحاب الكبائر من المسلمين في النار إذ لا يكون المسلم محيطة به الخطيئات بل هو لا يخلو من عمل صالح وحسبك من ذلك سلامة اعتقاده من الكفر وسلامة لسانه من النطق بكلمة الكفر الخبيثة.
والقصر المستفاد من التعريف في قوله: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] قصر إضافي لقلب اعتقادهم.
وقوله : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82]
تذييل لتعقيب النذارة بالبشارة على عادة القرآن.
والمراد بالخلود هنا حقيقته.
[83] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}
أعيد ذكر أحوال بني إسرائيل بعد ذلك الاستطراد المتفنن فيه فأعيد الأسلوب

القديم وهو العطف بإعادة لفظ إذ في أول القصص. وأظهر هنا لفظ – {بَنِي إِسْرائيلَ} وعدل عن الأسلوب السابق الواقع فيه التعبير بضمير الخطاب المراد به سلف المخاطبين وخلفهم لوجهين أحدهما أن هذا رجوع إلى مجادلة بني إسرائيل وتوفيقهم على مساويهم فهو افتتاح ثان جرى على أسلوب الافتتاح الواقع في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] الآية. ثانيهما أن ما سيذكر هنا لما كان من الأحوال التي اتصف بها السلف والخلف وكان المقصود الأول منه إثبات سوء صنيع الموجودين في زمن القرآن تعين أن يعبر عن سلفهم باللفظ الصريح ليتأتى توجيه الخطاب من بعد ذلك إلى المخاطبين حتى لا يظن أنه من الخطاب الذي أريد به أسلافهم على وزان {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] أو على وزان {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} وقوله {مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} أريد به أسلافهم لأنهم الذين أعطوا الميثاق لموسى على امتثال ما أنزل الله من التوراة كما قدمناه أو المراد بلفظ بني إسرائيل المتقدمون والمتأخرون والمراد بالخطاب في {توليتم} خصوص من بعدهم لأنهم الذين تولوا فليس في الكلام التفات ما وهو أولى من جعل ما صدق {بَنِي إِسْرائيلَ} هو ما صدق ضمير {توليتم} وأن الكلام التفات.
وقوله {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} خبر في معنى الأمر ومجيء الخبر للأمر أبلغ من صيغة الأمر لأن الخبر مستعمل في غير معناه لعلاقة مشابهة الأمر الموثوق بامتثاله بالشيء الحاصل حتى إنه يخبر عنه. وجملة {لا تَعْبُدُونَ} مبدأ بيان للميثاق فلذلك فصلت وعطف ما بعدها عليها ليكون مشاركا لها في معنى البيانية سواء قدرت أن أو لم تقدرها أو قدرت قولا محذوفا.
وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} هو مما أخذ عليهم الميثاق به وهو أمر مؤكد لما دل عليه تقديم المتعلق على متعلقه وهما {بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وأصله وإحسانا بالوالدين، والمصدر يدل من فعله والتقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا. ولا يريبكم أنه معمول مصدر وهو لا يتقدم على عامله على مذهب البصريين لأن تلك دعوى واهية دعاهم إليها أن المصدر في معنى أن والفعل فهو في قوة الصلة ومعمول الصلة لا يتقدم عليها مع أن أن والفعل هي التي تكون في معنى المصدر لا العكس والعجب من ابن جنى كيف تابعهم في شرحه للحماسة على هذا عند قول الحماسي:

وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان
وعلى طريقتهم تعلق قوله {وبالوالدين} بفعل محذوف تقديره وأحسنوا وقوله {إحسانا} مصدر ويرد عليهم أن حذف عامل المصدر المؤكد ممتنع لأنه تبطل به فائدة التأكيد الحاصلة من التكرير فلا حاجة إلى جميع ذلك. وتجزم بأن المجرور مقدم على المصدر، على أن التوسع في المجرورات أمر شائع وأصل مفروغ منه، واليتامى جمع يتيم كالندامى للنديم وهو قليل في جمع فعيل.
وجعل الإحسان لسائر الناس بالقول لأنه القدر الذي يمكن معاملة جميع الناس به وذلك أن أصل القول أن يكون عن اعتقاد، فهم إذا قالوا للناس حسنا فقد أضمروا لهم خيرا وذلك أصل حسن المعاملة مع الخلق قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" . وقد علمنا الله تعالى ذلك بقوله: { وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: من الآية10] على أنه إذا عرض ما يوجب تكدر الخاطر فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر ويرى للمقول له الصفاء فلا يعامله إلا بالصفاء قال المعري:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
على أن الله أمر بالإحسان الفعلي حيث يتعين ويدخل تحت قدرة المأمور وذلك الإحسان للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وإيتاء الزكاة، وأمر بالإحسان القولي إذا تعذر الفعلي على حد قول أبي الطيب :
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أطلقت الزكاة على الصدقة مطلقا أو على الصدقة الواجبة على الأموال وليس المراد الكناية عن شريعة الإسلام لما علمت من أن هاته المعاطيف تابعة لبيان الميثاق وهو عهد موسى عليه السلام.
وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ} خطاب للحاضرين وليس بالتفات كما علمت آنفا. والمعنى أخذنا ميثاق الأمة الإسرائيلية على التوحيد وأصول الإحسان فكنتم ممن تولى عن ذلك وعصيتم شرعا اتبعتموه. والتولي الإعراض وإبطال ما التزموه وحذف متعلقه لدلالة ما تقدم عليه، أي توليتم عن جميع ما أخذ عليكم الميثاق به أي أشركتم بالله وعبدتم الأصنام وعققتم الوالدين وأسأتم لذوي القربى واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش القول وتركتم الصلاة ومنعتم الزكاة.

ويجوز أن يكون المراد بالخطاب في توليتم المخاطبين زمن نزول الآية، وبعض من تقدمهم من متوسط عصور الإسرائيلين فيكون ضمير الخطاب تغليبا، نكتته إطهار براءة الذين أخذ عليهم العهد أولا من نكثه وهو من الإخبار بالجمع والمراد التوزيع أي توليتم فمنكم من لم يحسن للوالدين وذي القربى إلخ وهذا من صفات اليهود في عصر نزول الآية كما سيأتي في تفسير الآية التي بعدها. ومنكم من أشرك بالله وهذا لم ينقل عن يهود زمن النزول وإنما هو من صفات من تقدمهم من بعد سليمان فقد كانت من ملوك إسرائيل عبدة أصنام وتكرر ذلك فيهم مرارا كما هو مسطور في سفرى الملوك الأول والثاني من التوراة.
وثم للترتيبين الترتبي والخارجي.
وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ} إنصاف لهم في توبيخهم ومذمتهم وإعلان بفضل من حافظ على العهد.
وقوله: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} جملة حالية ولكونها اسمية أفادت أن الأعراض وصف ثابت لهم وعادة معروفة منهم كما أشار إليه في الكشاف وهو مبني على اعتبار اسم الفاعل مشتقا من فعل منزل اللازم ولا يقدر له متعلق ويجوز أن يقدر مشتقا من فعل حذف متعلقه تعويلا على القرينة أي {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} عن الوصايا التي تضمنت ذلك الميثاق أي توليتم عن تعمد وجرأة وقلة اكتراث بالوصايا وتركا للتدبر فيها والعمل بها.
[86-84] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}

تفنن الخطاب هنا فجاء على نسق ما قبل الآية السابقة إذ عبر عنها عن جميع بني إسرائيل بضمير الخطاب على طريق التغليب لأن المخاطبين حين نزول القرآن1 هم المقصودون من هذه الموعظة أو على طريق تنزيل الخلف منزلة السلف، كما تقدم لأن الداعي للإظهار عند الانتقال من الاستطراد إلى بقية المقصود في الآية السابقة قد أخذ ما يقتضيه فعاد أسلوب الخطاب إلى ما كان عليه.
والقول في {لا تسفكون} كالقول في {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} [البقرة: 83] والسفك الصب وإضافة الدماء إلى ضمير فاعل {تسفكون} اقتضت أن مفعول {تسفكون} هو دماء السافكين وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه أو يخرج نفسه من داره لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبيعي فليس من شأن الشريعة الاهتمام بالنهي عنه. وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره على حد قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61] أي فليسلم بعضكم على بعض.
فوجه إضافة الدماء إلى ضمير السافكين أن هذه الأحكام المتعلقة بالأمة أو القبيلة يكون مدلول الضمائر فيها مجموع الناس، فإذا تعلقت أحكام بتلك الضمائر من إسناد أو مفعولية أو إضافة أرجع كل إلى ما يناسبه على طريقة التوزيع وهذا كثير في استعمال القرآن ونكتته الإشارة إلى أن المغايرة في حقوق أفراد الأمة مغايرة صورية وأنها راجعة إلى شيء واحد وهو المصلحة الجامعة أو المفسدة الجامعة، ومثله قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ومن هذا القبيل قول الحماسي الحارث بن وعلة الذهلي:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت بصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي
يريد أن سهمه إذا أصاب قومه فقد أضر بنفسه وإلى هذا الوجه أشار ابن عطية وسماء اللف في القول. أي الإجمال المراد به التوزيع، وذهب صاحب الكشاف إلى أنه من تشبيه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين فإذا قتل المتصل به نسبا أو دينا فكأنما قتل نفسه وهو قريب من الأول ومبناه على المجاز في الضمير المضاف إليه في قوله: {دماءكم} و {أنفسكم}.
ـــــــ
1 في المطبوعات "القراءات".

وقيل إن المعنى لا تسفكون دماءكم بالتسبب في قتل الغير فيقتص منكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم بالجناية على الغير فتنفوا من دياركم، وهذا مبني على المجاز التبعي في {تسفكون} و {تخرجون} بعلاقة التسبب.
وأشارت هذه الآية إلى وصيتين من الوصايا الإلهية الواقعة في العهد المعروف بالكلمات العشر المنزلة على موسى عليه السلام من قوله لا تقتل، لا تشته بيت قريبك فإن النهي عن شهوة بيت القريب لقصد سد ذريعة السعي في اغتصابه منه بفحوى الخطاب وعليه فإضافة ميثاق إلى ضمير المخاطبين مراعى فيها أنهم لما كانوا متدينين بشريعة التوراة فقد التزموا بجميع ما تحتوي عليه.
وقوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} مرتب ترتيبا رتبيا أي أخذ عليكم العهد وأقررتموه أي عملتم به وشهدتم عليه فالضميران في {أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} راجعان لما رجع له ضمير ميثاقكم وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم وجملة {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} حالية أي لا تنكرون إقراركم بذلك إذ قد تقلدتموه والتزمتم التدين به.
والعطف بثم في قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله وأنتم هؤلاء تقتلون، والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله {هؤلاء} لأن الإشارة لا تكون إلى غائب وذلك نحو قولهم ها أنا ذا وها أنتم أولاء، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال عربي يختص غالبا بمقام التعجب من حال المخاطب وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج وهو المعروف عند المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق. ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه بالجمود والاشتقاق غالبا أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل.
ثم إن العرب قد تقصد من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيء عين شيء يبحث عنه في نفسه نحو أنت أبا جهل قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخنا بالجراح صريعا ومصادفة المخاطب ذلك في اعتقاد المتكلم نحو قال أنا يوسف وهذا أخي فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال أنا ذلك إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن ندبة:

تأمل خفافا إنني أنا ذلكا1
وقول طريف العنبري:
فتوسموني إنني أنا ذالكم2
وأوسع منه عندهم نحو قول أبي النجم:
أنا أبو النجم وشعري شعري
ثم إذا أرادوا العناية بتحقيق هذا الاتحاد جاءوا بها التنبيه فقالوا ها أنا ذا يقوله المتكلم لمن قد يشك أنه هو نحو قول الشاعر:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا 3
فإذا كان السبب صحح الأخبار معلوما اقتصر المتكلم على ذلك وإلا أتبع مثل ذلك التركيب بجملة تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب :الأولى {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ} الثانية {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران:119] ومنه ها أنا ذا لديكما قاله أمية بن أبي الصلت. الثالثة {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: من الآية109]. ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضرا وكنت لا تترقب حضوره ها أنت ذا، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيبا كما رأيت في الأمثلة.
والأظهر أن يكون الضمير واسم الإشارة مبتدأ وخبرا والجملة بعدهما حالا وقيل هي مستأنفة لبيان منشأ التعجب وقيل الجملة هي الخبر واسم الإشارة منادى معترض ومنعه سيبويه وقيل اسم الإشارة منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف.
وعلى الخلاف في موقع الجملة اختلف فيما لو أتى بعدها أنت ذا ونحوه بمفرد فقيل يكون منصوبا على الحال وقيل مرفوعا على الخبر ولم يسمع من العرب إلا مثال أنشده النحاة وهو قوله:
ـــــــ
1 قبله "أقول له والرمح يأطر متنه"
2 تمامه "شاكي سلاحي في الحوادث معلم"
3 تمامه "ليس الفتى من يقول كان أبي".

أبا حكم ها أنت نجم مجالد
ولأجل ذلك جاء ابن مالك في خطبة التسهيل بقوله وها أنا ساع فيما انتدبت إليه وجاء ابن هشام في خطبة المغنى بقوله وها أنا مبيح بما أسررته
واختلف النحاة أيضا في أن وقوع الضمير بعد ها التنبيه هل يتعين أن يعقبه اسم الإشارة فقال في التسهيل هو غالب لا لازم وقال ابن هشام هو لازم صرح به في حواشي التسهيل بنقل الدماميني في الحواشي المصرية في الخطبة وفي الهاء المفردة. وقال الرضى إن دخول ها التنبيه في الحقيقة إنما هو على اسم الإشارة على ما هو المعروف في قولهم هذا وإنما يفصل بينها وبين اسم الإشارة بفاصل فمنه الضمير المرفوع المنفصل كما رأيت ومنه القسم نحو قول الشاعر من شواهد الرضى:
تعلمن ها لعمر الله ذا قسما ... فاقدر بذرعك فانظر أين تنسلك
وشذ بغير ذلك نحو قول النابغة:
ها إن تاعذرة إن لا تكن نفعت ... فإن صاحبها قد تاه في البلد
وقوله: {تقتلون} حال أو خبر وعبر بالمضارع لقصد الدلالة على التجدد وأن ذلك من شأنكم وكذلك قوله: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ}
وجعل في الكشاف المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مرادا به أسلاف الحاضرين وجعل قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ} مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب مرادا منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها وقد علمت أنه غير لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف.
وقد أشارت هذه الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ما أمرتهم به شريعتهم1 والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقينقاع. وأراد من ذلك بخاصة ما
ـــــــ
1 ابتدأ التخاذل بين اليهود بعد وفات سليمان وبيعة ابنه رحبعام ملكا على إسرائيل إذ شق عليه عصا الطاعة غلام أبيه المسمى يربعام وتحزب الأسباط عدا سبطي يهوذا وبنيامين مع يربعام وقد هم رحبعام أن يقاتل من خرج عنه فنهاه النبيء شمعيا وبذلك كف رحبعام عن القتال ورضي بمن بقي معه"إصحاح 12 ملوك أول" ولما مات رحبعام وولى ابنه "أبيا" جمع جيشا لقتال يربعام عبد جده وصارت بينهم مقاتلات كثيرة في جبل "إفرايم قيل أن القتلى من الفريقين بلغت خمسمائة ألف "إصحاح 13 الأيام الثاني" ثم نشأت بينهم حروب سنة "40" للمسيح.

حدث بينهم في حروب بعاث القائمة بين الأوس والخزرج وذلك أنه لما تقاتل الأوس والخزرج اعتزل اليهود الفريقين زمنا طويلا والأوس مغلوبون في سائر أيام القتال فدبر الأوس أن يخرجوا يسعون لمحالفة قريظة والنضير فلما علم الخزرج توعدوا اليهود إن فعلوا ذلك فقالوا لهم إنا لا نحالف الأوس ولا نحالفكم فطلب الخزرج على اليهود رهائن أربعين غلاما من غلمان قريظة والنضير فسلموهم لهم. ثم إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي أطمع قومه أن يتحولوا لقريظة والنضير لحسن أرضهم ونخلهم وأرسل إلى قريظة والنضير يقول لهم إما أن تخلوا لنا دياركم وإما أن نقتل الرهائن فخشى القوم على رهائنهم واستشاروا كعب ابن أسيد القرظي فقال لهم يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان فما هي إلا ليلة يصيب أحدكم فيها امرأته حتى يولد له مثل أحدكم فلما أجابت قريظة والنضير عمرا بأنهم يمنعون ديارهم عدا عمرو على الغلمان فقتلهم فلذلك تحالفت قريظة والنضير مع الأوس فسعى الخزرج في محالفة بني قينقاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين فرق اليهود وكان بينهم يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين فكانت اليهود تتقاتل وتجلى المغلوبين من ديارهم وتأسرهم، ثم لما ارتفعت الحرب جمعوا مالا وفدوا به أسرى اليهود الواقعين في أسر أحلاف أحد الفريقين من الأوس أو الخزرج فعيرت العرب اليهود بذلك وقالت كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم فقالوا قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أمرنا أن نفدي الأسرى فذلك قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}
{ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
الواو في قوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى} يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ} فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو وإن لم يتقدم في ذكر ما أخذ عليهم العهد ما يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس

من ديارهم كان في جملة المنهيات. ولك أن تجعل الواو للحال من قوله {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً} أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم. وكيفما قدرت فقوله {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} جملة حالية من قوله {يأتوكم} إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فمحل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرما وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم، فجملة {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} حالية من ضمير {تفادوهم} وصدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ} وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ}
وفي قوله {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} تشنيع وتبليد لهم توهموا القربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء?
وعندي أن في الآية دلالة على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتيا بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية.
والأسارى بضم الهمزة جمع أسير حملا له على كسلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا كسلى هذا مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أسرى كقتلى. وقيل هو جمع نادر وليس مبنيا على حمل، كما قالوا قدامى جمع قديم. وقيل هو جمع جمع فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى على أسارى وهو أظهر. والأسير فعيل بمعنى مفعول من أسره إذا أوثقه وهو فعل مشتق من الاسم الجامد فإن الإسار هو السير من الجلد الذي يوثق به المسجون والموثوق وكانوا يوثقون المغلوبين في الحرب بسيور من الجلد، قال النابغة:
لم يبق غير طريد غير منفلت ... أو موثق في حباله القد مسلوب
وقرأ الجمهور "أسارى"، وقرأه حمزة "أسرى".
وقرأ نافع والكسائي وعاصم ويعقوب {تفادوهم} بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة في الفداء أي تفدوهم فداء حريصا، فاستعمال فادي هنا مسلوب المفاضلة مثل

عافاه الله وقول امرئ القيس:
فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكا فلم ينضح بماء فيغسل
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف {تفدوهم} بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء،
والمحرم الممنوع ومادة حرم في كلام العرب للمنع، والحرام الممنوع منعا شديدا أو الممنوع منعا من قبل الدين، ولذلك قالوا الأشهر الحرم وشهر المحرم.
وقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم، وسمي الإتباع والإعراض إيمانا وكفرا على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به، وإنما وقع {تؤمنون} في حيز الإنكار تنبيها على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين.
والفاء عاطفة على {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} ، وما عطف عليه، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدرا دل عليه الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريبا عند قوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [البقرة: 87]
والفاء في قوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ. وقال عبد الحكيم إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظا، أما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيدا لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكما جديدا وأما الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم.
والخزي بالكسر ذل في النفس طارئ عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهو اسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع بفتح الخاء، والمراد بالخزي ما لحق اليهود بعد تلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيب وما قدر لهم من الذل بين الأمم.
وقرأ الجمهور "يردون" و "يعملون" بياء الغيبة، وقرأ عاصم في رواية عنه تردون بتاء

الخطاب نظرا إلى معنى "من" وإلى قوله "منكم"، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب "يعملون" بياء الغيبة وقرأه الجمهور بتاء الخطاب.
وقد دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة. وقد وقع اسم الإشارة وهو قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا} موقع نظيره في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]
والقول في {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} كالقول في {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16]. والقول في {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} قريب من القول في {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
وموقع الفاء في قوله: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} هو الترتيب لأن المجرم بمثل هذا الجرم العظيم يناسبه العذاب العظيم ولا يجد نصيرا يدفع عنه أو يخفف.
[87] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}
انتقال من الإنحاء على بني إسرائيل في فعالهم مع الرسول موسى عليه السلام بما قابلوه به من العصيان والتبرم والتعلل في قبول الشريعة وبما خالفوا من أحكام التوراة بعد موته إلى قرب مجيء الإسلام إلى الإنحاء عليهم بسوء مقابلتهم للرسل الذين أتوا بعد موسى مثل يوشع وإلياس وأرمياء وداوود مؤيدين لشريعته ومفسرين وباعثين للأمة على تجديد العمل بالشريعة مع تعدد هؤلاء الرسل واختلاف مشاربهم في الدعوة لذلك المقصد من لين وشدة، ومن رغبة ورهبة، ثم جاء عيسى مؤيدا وناسخا ومبشرا فكانت مقابلتهم لأولئك كلهم بالإعراض والاستكبار وسوء الصنيع وتلك أمارة على أنهم إنما يعرضون عن الحق لأجل مخالفة الحق أهواءهم وإلا فكيف لم يجدوا في خلال هاته العصور ومن بين تلك المشارب ما يوافق الحق ويتمحض للنصح. وإن قوما هذا دأبهم يرثه الخلف عن السلف لجديرون بزيادة التوبيخ ليكون هذا حجة عليهم في أن تكذيبهم للدعوة المحمدية مكابرة وحسد حتى تنقطع حجتهم إذ لو كانت معاندتهم للإسلام هي أولى فعلاتهم لأوهموا الناس أنهم ما أعرضوا إلا لما تبين لهم من بطلان فكان هذا مرتبطا بقوله

{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً} [البقرة: من الآية41] ومقدمة للإنحاء عليهم في مقابلتهم للدعوة المحمدية الآتي ذكرها في قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: من الآية88].
فقوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} تمهيد للمعطوف وهو قوله: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} الذي هو المبني عليه التعجب في قوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} فقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} تمهيد التمهيد وإلا فهو قد علم من الآيات السابقة فلا مقتضى للإعلام به استقلالا هنا ولكنه ذكر ليبني عليه ما بعده فكأنه تحصيل لما تقدم أي ولقد كان ما كان مما تقدم وهو إيتاء موسى الكتاب وقفينا أيضا بعده بالرسل فهو كالعلاوة أو كقول القائل هذا وقد كان كذا.
وقفي مضاعف قفا تقول قفوت فلانا إذا جئت في إثره لأنك حينئذ كأنك تقصد جهة قفاه فهو من الأفعال المشتقة من الجوامد مثل جبهه. فصار المضاعف قفاه بفلان تقفية وذلك أنك جعلته مأمورا بأن يقفو بجعل منك لا من تلقاء نفسه أي جعلته يقفوه غيره ولكون المفعول واحدا جعلوا المفعول الثاني عند التضعيف متعلقا بالفعل بباء التعدية لئلا يلتبس التابع بالمتبوع فقالوا قفى زيدا بعمرو عوض أن يقولوا قفى زيدا عمرا.
فمعنى {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} أرسلنا رسلا وقد حذف مفعول {قفينا} للعلم به وهو ضمير موسى. وقوله: {مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد ذهابه أي موته، وفيه إيماء إلى التسجيل على اليهود بأن مجيء الرسل بعد موسى ليس ببدع.
والجمع في الرسل للعدد والتعريف للجنس وهو مراد به تكثير قاله صاحب الكشاف أي لأن شأن لفظ الجنس المعرف إذا لم يكن عهد أن يدل على الاستغراق فلما كان الاستغراق هنا متعذرا دل على التكثير مجازا لمشابهة الكثير بجميع أفراد الجنس كقولك لم يبق أحد في البلد لم يشهد الهلال إذا شهده جماعات كثيرة وهو قريب من معنى الاستغراق العرفي.1
وسمي أنبياء بني إسرائيل الذين من بعد موسى رسلا مع أنهم لم يأتوا بشرع جديد اعتبارا بأن الله أمرهم بإقامة التوراة وتفسيرها والتفريع منها فقد جعل لهم تصرفا شرعيا
ـــــــ
1 لأن الاستغراق العرفي منظور فيه إلى استغراق جميع الأفراد في مكان أو زمان تنزيلا لهم منزلة الكل. وهذا جعل بمعنى الكثرة لا غير.

وبذلك كانوا زائدين على مطلق النبوة التي لا تعلق لها بالتشريع لا تأصيلا ولا تفريعا. وقال الباقلاني فيما نقله عنه الفخر: لا بد أن يكون هؤلاء الرسل جاءوا بشرع جديد ولو مع المحافظة على الشرع الأول أو تجديد ما اندرس منه وهو قريب مما قلناه قال تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:123] وقال: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:139] وما كان عيسى عليه السلام إلا مثلهم في أنه ما أتى بأحكام جديدة إلا شيئا قليلا وخص عيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى زيادة في التنكيل على اليهود لأنهم يكفرون به ويكذبونه ولذلك أيضا خصه بقوله {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ولأن من جاء بعد موسى من الرسل لم يخبروا أن جبريل جاءهم بوحي وعيسى كان أوسع منهم في الرسالة.
وعيسى اسم معرب من يشوع أو يسوع وهو اسم عيسى ابن مريم قلبوه في تعريبه قلبا مكانيا ليجري على وزن خفيف كراهية اجتماع ثقل العجمة وثقل ترتيب حروف الكلمة فإن حرفي علة في الكلمة وشينا والختم بحرف حلق لا يجري هذا التنظيم على طبيعة ترتيب الحروف مع التنفس عند النطق بها فقدموا العين لأنها حلقية فهي مبدأ النطق ثم حركوا حروفه بحركات متناسبة وجعلوا شينه المعجمة الثقيلة سينا مهملة فلله فصاحة العربية. ومعنى يشوع بالعبرانية السيد أو المبارك.
ومريم هي أم عيسى وهذا اسمها بالعبرانية نقل للعربية على حاله لخفته ولا معنى لمريم في العربية غير العلمية إلا أن العرب المتنصرة عاملوه معاملة الصفة في معنى المرأة المتباعدة عن مشاهدة النساء لأن هاته الصفة اشتهرت بها مريم إذ هي أول امرأة عبرانية خدمت بيت المقدس فلذلك يقولون امرأة مريم أي معرضة عن صفات النساء كما يقولون رجل حاتم بمعنى جواد وذلك معلوم منهم في الأعلام المشتهرة بالأوصاف ولذلك قال رؤية:
قلت لزير لم تزره مريمه1
فليس هو مشتقا من رام يريم كما قد يتوهم. وينبغي أن يكون وزنها فعيل بفتح الفاء
ـــــــ
1 قال في "الكشاف" وزن مريم عند النحويين مفعل لأن فعيل بفتح الفاء لم يثبت أي وثبت فعيل بكسر الفاء نحو عثير للغبار لكن الحق أن وزن فعيل ثبت قليلا منه صهين اسم مكان أعني فيختص بالأسماء الجوامد.

وإن كان نادرا.1
وعيسى عليه السلام هو ابن مريم كونه الله في بطنها بدون مس رجل، وأمه مريم ابنة عمران من سبط يهوذا.
ولد عيسى في مدة سلطنة أغسطس ملك رومية وفي مدة حكم هيردوس على القدس من جهة سلطان الرومان وذلك في سنة 430 عشرين وستمائة قبل الهجرة المحمدية، وكانت ولادته بقرية تعرف ببيت لحم اليهودية، ولما بلغ ثلاثين سنة بعث رسولا إلى بني إسرائيل وبقي في الدنيا إلى أن بلغ سنه ثلاثة وثلاثين سنة.
وأما مريم أمه فهي مريم ابنة عمران بن ماثان من سبط يهوذا ولدت عيسى وهي ابنة ثلاث عشرة سنة فتكون ولادتها في سنة ثلاث عشرة قبل ميلاد عيسى وتوفيت بعد أن شاخت ولا تعرف سنة وفاتها، وكان أبوها مات قبل ولادتها فكفلها زكرياء من بني أبيا وهو زوج اليصابات خالة مريم وكان كاهنا من أحبار اليهود كما سيأتي في سورة آل عمران.
والبينات صفة لمحذوف أي الآيات والمعجزات الواضحات، {وأيدناه} قويناه وشددنا عضده ونصرناه وهو مشتق من اسم جامد وهو اليد فأيد بمعنى جعله ذا يد واليد مجاز في القوة والقدرة فوزن أيد أفعل، ولك أن تجعله مشتقا من الأيد وهو القوة فوزنه فعل.
والتأييد التقوية والإقدار على العمل النفسي وهو مشتق من الأيد وهو القوة قال تعالى {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [صّ: 17] والأيد مشتق من اليد لأنها آلة القدرة والأحسن أن يكون مشتقا من اليد أي جعله ذا يد أي قوة، والمراد هنا قوة معنوية وهي قوة الرسالة وقوة الصبر على أذى قومه وسيأتي في الأنفال قوله {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ}
والروح جوهر نوراني لطيف أي غير مدرك بالحواس فيطلق على النفس الإنساني
ـــــــ
1 الزير بكسر الزاي هو الرجل الذي يميل لمحادثة النساء ومجالستهن وياؤه منقلبة عن الواو ووزنه فعل بكسر الفاء من زار يزور. وقوله مريمه: أي المرأة التي ترغب في محادثته وهذا البيت من قصيدة مدح بها أبا جعفر المنصور.

الذي به حياة الإنس، ولا يطلق على ما به حياة العجماوات إلا لفظ نفس، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الاسراء: 85] ويطلق على قوة من لدن الله تعالى يكون بها عمل عجيب ومنه قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الانبياء: 91] ويطلق على جبريل كما في قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء:194] وهو المراد في قوله تعالى {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} وقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ} [النبأ: 38]
والقدس بضمتين وبضم فسكون مصدر أو اسم مصدر بمعنى النزاهة والطهارة. والمقدس المطهر وتقدم في قوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]
وروح القدس روح مضاف إلى النزاهة فيجوز أن يكون المراد به الروح الذي نفخ الله في بطن مريم فتكون منه عيسى وإنما كان ذلك تأييدا له لأن تكوينه في ذلك الروح اللدني المطهر هو الذي هيأه لأن يأتي بالمعجزات العظيمة، ويجوز أ ن يكون المراد به جبريل والتأييد به ظاهر لأنه الذي يأتيه بالوحي وينطق على لسانه في المهد وحين الدعوة إلى الدين وهذا الإطلاق أظهر هنا، وفي الحديث الصحيح "أن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفى أجلها". وعلى كلا الوجهين فإضافة روح إلى القدس إما من إضافة ما حقه أن يكون موصوفا إلى ما حقه أن تشتق منه الصفة ولكن اعتبر طريق الإضافة إلى ما منه اشتقاق الصفة لأن الإضافة أدل على الاختصاص بالجنس المضاف إليه لاقتضاء الإضافة ملابسة المضاف بالمضاف إليه وتلك الملابسة هنا تؤول إلى التوصيف وإلى هذا قال التفتزاني في شرح الكشاف وأنكر أن يكون المضاف إليه في مثله صفة حقيقة حتى يكون من الوصف بالمصدر.
وقوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} هو المقصود من الكلام السابق، وما قبله من قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا} تمهيد له كما تقدم، فالفاء للسببية والاستفهام للتعجيب من طغيانهم ومقابلتهم جميع الرسل في جميع الأزمان بمقابلة واحدة ساوى فيها الخلف السلف مما دل على أن ذلك سجية في الجميع.
وتقديم همزة الاستفهام على حرف العطف المفيد للتشريك في الحكم استعمال متبع في كلام العرب وظاهره غريب لأنه يقتضي أن يكون الاستفهام متسلطا على العاطف والمعطوف وتسلط الاستفهام على حرف العطف غريب فلذلك صرفه علماء النحو عن ظاهره ولهم في ذلك طريقتان: إحداهما طريقة الجمهور قالوا همزة الاستفهام مقدمة من

تأخير وقد كان موقعها بعد حرف العطف فقدمت عليه لاستحقاق الاستفهام التصدير في جملته، وإنما خصوا التقديم بالهمزة دون غيرها من كلمات الاستفهام لأن الهمزة متأصلة في الاستفهام إذ هي الحرف الموضوع للاستفهام الأكثر استعمالا فيه، وأما غيرها فكلمات أشربت معنى الاستفهام منها ما هو اسم مثل أين ، ومنها حرف تحقيق وهو هل فإنه بمعنى قد فلما كثر دخول همزة الاستفهام عليه حذفوا الهمزة لكثرة الاستعمال فأصل هل فعلت أهل فعلت فالتقدير فأكلما جاءكم رسول فقلب، وقيل أفكلما جاءكم رسول فعلى هذه الطريقة يكون الاستفهام معطوفا وتكون الجملة معطوفة على التي قبلها أو معطوفة على محذوف بحسب ما يسمح به المقام.
الطريقة الثانية طريقة صاحب الكشاف وفي مغنى اللبيب أن الزمخشري أول القائلين بها وادعى الدماميني أن الزمخشري مسبوق في هذا ولم يعين من سبقه فإنه قد جوز طريقة الجمهور وجوز أن تكون همزة الاستفهام هي مبدأ الجملة وأن المستفهم عنه محذوف دل عليه ما عطف عليه بحرف العطف والتقدير في مثله أتكذبونهم فكلما جاءكم رسول إلخ. وعلى هذه الطريقة تكون الجملة استفهامية مستأنفة محذوفا بقيتها ثم عطف عليها ما عطف، ولا أثر لهذا إلا في اختلاف الاعتبار والتقدير فأما معنى الكلام فلا يتغير على كلا الاعتبارين لأن العطف والاستفهام كليهما متوجهان إلى الجملة الواقعة بعدهما. والظاهر من كلام صاحب الكشاف في هذه الآية وفي قوله تعالى في سورة آل عمران {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} أن الطريقتين جائزتان في جميع مواقع الاستفهام مع حرف العطف وهو الحق وأما عدم تعرضه لذلك عند آيات {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75] {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} [البقرة: من الآية85] فيما مضى من هذه السورة فذلك ذهول منه وقد تداركه هنا.
وعندي جواز طريقة ثالثة وهي أن يكون الاستفهام عن العطف والمعنى أتزيدون على مخالفاتكم استكباركم كلما جاءكم رسول إلخ وهذا متأت في حروف التشريك الثلاثة كما تقدم من أمثلة الواو والفاء وكقوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} في سورة يونس وقول النابغة:
أثم تعذران إلى منها ... فإني قد سمعت وقد رأيت
وقد استقريت هذا الاستعمال فوجدت مواقعه خاصة بالاستفهام غير الحقيقي كما رأيت من الأمثلة.

ومعنى الفاء هنا تسبب الاستفهام التعجيبي الإنكاري على ما تقرر عندهم من تقفية موسى بالرسل أي قفينا موسى بالرسل فمن عجيب أمركم أن كل رسول جاءكم استكبرتم وجوز صاحب الكشاف كون العطف على مقدر أي آتينا موسى الكتاب إلخ ففعلتم ثم وبخهم بقوله: {أفكلما} ، فالهمزة للتوبيخ والفاء حينئذ عاطفة مقدرا معطوفا على المقدر المؤهل للتوبيخ، وهو وجه بعيد، ومرمى الوجهين إلى أن جملة {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} إلخ غير مراد منها الإخبار بمدلولها. وانتصب كلما بالنيابة عن الظرف لأنه أضيف إلى ما الظرفية المصدرية والعامل فيه قوله {استكبرتم}، وقدم الظرف ليكون مواليا للاستفهام المراد منه التعجيب ليظهر أن محل العجب هو استمرار ذلك منهم الدال على أنه سجية لهم وليس ذلك لعارض عرض في بعض الرسل وفي بعض الأزمنة، والتقدير أفاستكبرتم كلما جاءكم رسول فقدم الظرف للاهتمام لأنه محل العجب، وقد دل العموم الذي في كلما على شمول التكذيب أو القتل لجميع الرسل المرسلين إليهم لأن عموم الأزمان يستلزم عموم الأفراد المظروفة فيها.
و {تهوى} مضارع هوى بكسر الواو إذا أحب والمراد به ما تميل إليه أنفسهم من الانخلاع عن القيود الشرعية والانغماس في أنواع الملذات والتصميم على العقائد الضالة.
والاستكبار الاتصاف بالكبر وهو هنا الترفع عن اتباع الرسل وإعجاب المتكبرين بأنفسهم واعتقاد أنهم أعلى من أن يطيعوا الرسل ويكونوا أتباعا لهم، فالسين والتاء في: {استكبرتم } للمبالغة كما تقدم في قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34] وقوله: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} مسبب عن الاستكبار فالفاء للسببية فإنهم لما استكبروا بلغ بهم العصيان إلى حد أن كذبوا فريقا أي صرحوا بتكذيبهم أو عاملوهم معاملة الكاذب وقتلوا فريقا وهذا كقوله تعالى عن أهل مدين: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91]
وتقديم المفعول هنا لما فيه من الدلالة على التفصيل فناسب أن يقدم ليدل على ذلك كما في قوله تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [لأعراف: 30] وهذا استعمال عربي كثير في لفظ فريق وما في معناه نحو طائفة إذا وقع معمولا لفعل في مقام التقسيم نحو {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]
والتفصيل راجع إلى ما في قوله {رسول} من الإجمال لأن "كلما جاءكم رسول"

أفاد عموم الرسول وشمل هذا موسى عليه السلام فإنهم وإن لم يكذبوه بصريح اللفظ لكنهم عاملوه معاملة المكذبين به إذ شكوا غير مرة فيما يخبرهم عن الله تعالى وأساءوا الظن به مرارا في أوامره الاجتهادية وحملوه على قصد التغرير بهم والسعي لإهلاكهم كما قالوا حين بلغوا البحر الأحمر. وحين أمرهم بالحضور لسماع كلام الله تعال، وحين أمرهم بدخول أريحا، وغير ذلك وأما بقية الرسل فكذبوهم بصريح القول مثل عيسى وقتلوا بعض الرسل مثل أشعياء وزكرياء ويحيى ابنه. وأرمياء.
وجاء في {تقتلون} بالمضارع عوضا عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة قتلهم رسلهم كقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 9] مع ما في صيغة تقتلون من مراعاة الفواصل فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم.
[88] {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ}
إما عطف على قوله: {استكبرتم} أو على {كذبتم} فيكون على الوجه الثاني تفسيرا للاستكبار أي يكون على تقدير عطفه على {كذبتم} من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع تكذيب وتقتيل وإعراض. وعلى الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم عن مقام الحضور فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجرى على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراض البال عنه فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو كناية1.
وقد حسن الالتفات أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية وهو غرض جديد فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شؤونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم. ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم صار الخطاب جاريا مع المؤمنين وأجرى على اليهود ضمير الغيبة. على أنه يحتمل أن قولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} لم يصرحوا به علنا ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى
ـــــــ
1 قلت نظير هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعد إجراء صفات نقص قول الشاعر يذم من بخل في قضاء مهم:
أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها وإن همت بشر أطاعها

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:92] والقلوب مستعملة في معنى الأذهان على طريقة كلام العرب في إطلاق القلب على العقل.
والغلف بضم فسكون جمع أغلف وهو الشديد الغلاف مشتق من غلفه إذا جعل له غلافا وهو الوعاء الحافظ للشيء والساتر له من وصول ما يكره له.
وهذا كلام كانوا يقولونه للنبي صلى الله عليه وسلم حين يدعوهم للإسلام قصدوا به التهكم وقطع طمعه في إسلامهم وهو كقول المشركين: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]. وفي الكلام توجيه لأن أصل الأغلف أن يكون محجوبا عمالا يلائمه فإن ذلك معنى الغلاف فهم يخيلون أن قلوبهم مستورة عن الفهم ويريدون أنها محفوظة من فهم الضلالات ولذلك قال المفسرون إنه مؤذن بمعنى أنها لا تعي ما تقول ولو كان لوعته وهذان المعنيان اللذان تضمنهما لتوجيه يلاقيهما الرد بقوله تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي ليس عدم إيمانهم لقصور في أفهامهم ولا لربوها عن قبول مثل ما دعوا إليه ولكن لأنهم كفروا فلعنهم الله بكفرهم وأبعدهم عن الخير وأسبابه. وبهذا حصل المعنيان المرادان لهم من غير حاجة إلى فرض احتمال أن يكون غلف جمع غلاف لما فيه من التكلف في حذف المضاف إليه حتى يقدر أنها أوعية للعلم والحق فلا يتسرب إليها الباطل.
وقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر والتمسك بدينهم من غير التفات لحجة النبي صلى الله عليه وسلم فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول، فاللعنة حصلت لهم عقابا على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك الكابرة وهذا معتقد أهل الحق من المؤمنين عدا الجبرية.
وقوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} تفريع على {لعنهم} و {قليلا} صفة لمحذوف دل عليه الفعل والتقدير فإيمانا قليلا وما زائدة للمبالغة في التقليل والضمير لمجموع بني إسرائيل ويجوز أن يكون قليلا صفة للزمان الذي يستلزمه الفعل أي فحينا قليلا يؤمنون. وقليل يجوز أن يكون باقيا على حقيقته مشارا به إلى إيمانهم ببعض الكتاب أو إلى إيمانهم ببعض ما يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم مما يوافق دينهم القديم كالتوحيد ونبوة موسى أو إلى إيمان أفراد

منهم في بعض الأيام فإن إيمان أفراد قليلة منهم يستلزم صدور إيمان من مجموع بني إسرائيل في أزمنة قليلة أو حصول إيمانات قليلة. ويجوز أن يكون قليلا هنا مستعملا في معنى العدم فإن القلة تستعمل في العدم في كلام العرب قال أبو كبير الهذلي:
قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
أراد أنه لا يتشكى، وقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في أرض نصيبين كثيرة العقارب قليلة الأقارب أراد عديمة الأقارب ويقولون فلان قليل الحياء وذلك كله إما مجاز لأن القليل شبه بالعدم وإما كناية وهو أظهر لأن الشيء إذا قل آل إلى الاضمحلال فكان الانعدام لازما عرفيا للقلة ادعائيا فتكون ما مصدرية والوجهان أشار إليهما في الكشاف باختصار واقتصر على الوجه الثاني منهما في تفسيره قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] في سورة النمل فقال والمعنى نفي التذكير والقلة تستعمل في معنى النفي وكأن وجه ذلك أن التذكر من شأنه تحصيل العلم فلو تذكر المشركون المخاطبون بالآية لحصل لهم العلم بأن الله واحد لا شريك له كيف وخطابهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} المقصود منه الإنكار بناء على أنهم غير معتقدين ذلك.
[89] {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}
معطوف على قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: من الآية88] لقصد الزيادة في الإنحاء عليهم بالتوبيخ فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية إعراضا مجردا عن الأدلة لكان في إعراضهم معذرة ما ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين. فقوله: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} متعلق بجاءهم وليس صفة لأنه ليس أمرا مشاهدا معلوما حتى يوصف به. وقوله: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} وصف شأن لقصد زيادة التسجيل عليهم بالمذمة في هذا الكفر والقول في تفسيره قد مضى عند قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} [البقرة: 41].
والاستفتاح ظاهره طلب الفتح أي النصر قال تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [لأنفال: من الآية19] وقد فسروه بأن اليهود كانوا إذا قاتلوا المشركين أي من أهل المدينة استنصروا عليهم بسؤال الله أن يبعث إليهم الرسول الموعود به في التوراة. وجوز أن يكون {يستفتحون} بمعنى يفتحون أي يعلمون ويخبرون كما يقال فتح على القارئ أي علمه

الآية التي ينساها فالسين والتاء لمجرد التأكيد مثل زيادتهما في استعصم واستصرخ واستعجب والمراد كانوا يخبرون المشركين بأن رسولا سيبعث فيؤيد المؤمنين ويعاقب المشركين. وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} أي ما كانوا يستفتحون به أي لما جاء الكتاب الذي عرفوه كفروا به وقد عدل عن أن يقال فلما جاءهم الكتاب ليكون اللفظ أشمل فيشمل الكتاب والرسول الذي جاء به فإنه لا يجيء كتاب إلا مع رسول. ووقع التعبير بما الموصولة دون من لأجل هذا الشمول ولأن الإبهام يناسبه الموصول الذي هو أعم فإن الحق أن ما تجيء لما هو أعم من العاقل.
والمراد بما عرفوا القرآن أي أنهم عرفوه بالصفة المتحققة في الخارج وإن جهلوا انطباقها على القرآن لضلالهم لأن الظاهر أن بني إسرائيل لم يكن أكثرهم يعتقد صدق القرآن وصدق الرسول وبعضهم كان يعتقد ذلك ولكنه يتناسى ويتغافل حسدا قال تعالى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] ويصير معنى الآية "وما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم" وعرفوا أنه الذي كانوا يستفتحون به على المشركين.
وجملة: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} في موضع الحال وفائدتها هنا استحضار حالتهم العجيبة وهي أنهم كذبوا بالكتاب والرسول في حال ترقبهم لمجيئه وانتظار النصر به وهذا منتهى الخذلان والبهتان.
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} بالفاء عطف على جملة "كانوا يستفتحون". ولما الثانية تتنازع مع لما الأولى الجواب وهو قوله: {كفروا به} فكان موقع جملة وكانوا إلخ بالنسبة إلى كون الكتاب مصدقا موقع الحال لأن الاستنصار به أو التبشير به يناسب اعتقاد كونه "مصدقا لما معهم" وموقعها بالنسبة إلى كون الكتاب والرسول معروفين لهم بالأمارات والدلائل موقع المنشإ من المتفرع عنه مع أن مفاد جملة {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إلخ وجملة {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} إلخ واحد وإعادة لما في الجملة الثانية دون أن يقول وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فجاءهم ما عرفوا إلخ قصد إظهار اتحاد مفاد الجملتين المفتتحتين بلما وزيادة الربط بين المعنيين حيث انفصل بالجملة الحالية فحصل بذلك نظم عجيب وإيجاز بديع وطريقة تكرير العامل مع كون المعمول واحدا طريقة عربية فصحى، قال تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188]
وقال: {أَيَعِدُكُمْ

أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون:35] فإعاد أنكم قبل خبر الأولى وقد عدلنا في هذا البيان عن طريقة الزجاج وطريقة المبرد وطريقة الفراء المذكورات في حاشية الخفاجي وعبد الحكيم وصغناه من محاسن تلك الطرائق كلها لما في كل طريقة منها من مخالفة للظاهر.
وقوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} جملة دعاء عليهم وعلى أمثالهم والدعاء من الله تعالى تقدير وقضاء لأنه تعالى لا يعجزه شيء وليس غيره مطلوبا بالأدعية وهذا كقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64] وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] وسيأتي بيانه عند قوله تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] في سورة براءة.
والفاء للسببية والمراد التسبب الذكرى بمعنى أن ما قبلها وهو المعطوف عليه يسبب أن ينطق المتكلم بما بعدها كقول قيس بن الخطيم:
وكنت امرءا لا أسمع الدهر سبة ... أسب بها إلا كشفت غطاءها
فإني في الحرب الضروس موكل ... بإقدام نفس ما أريد بقاءها
فعطف قوله فإني على قوله كشفت غطاءها لأن هذا الحكم يوجب بيان أنه في الحرب مقدام.
واللام في "الكافرين" للاستغراق بقرينة مقام الدعاء يشمل المتحدث عنهم لأنهم من جملة أفراد هذا العموم بل هم أول أفراده سبقا للذهن لأن سبب ورود العام قطعي الدخول ابتداء في العموم. وهذه طريقة عربية فصيحة في إسناد الحكم إلى العموم والمراد ابتداء بعض أفراده لأن دخول المراد حينئذ يكون بطريقة برهانية كما تدخل النتيجة في القياس قال بشامة بن حزن النهشلي:
إنا محيوك يا سلمى فحيينا ... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
أراد الكناية عن كرمهم بأنهم يسقون حين يسقى كرام الناس.
[90] {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}
استئناف لذمهم وتسفيه رأيهم إذ رضوا لأنفسهم الكفر بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأعرضوا

عن النظر فيما اشتملت عليه كتبهم من الوعد بمجيء رسول بعد موسى، إرضاء لداعية الحسد وهم يحسبون أنهم مع ذلك قد استبقوا أنفسهم على الحق إذ كفروا بالقرآن فهذا إيقاظ لهم نحو معرفة داعيهم إلى الكفر وإشهار لما ينطوي عليه عند المسلمين.
و {بئسما} مركب من {بئس} و "ما" الزائدة. وفي بئس وضدها نعم خلاف في كونهما فعلين أو اسمين والأصح أنهما فعلان وفي "ما" المتصلة بهما مذاهب أحدها أنها معرفة تامة أي تفسر باسم معرف بلام التعريف وغير محتاجة إلى صلة احترازا عن ما الموصولة فقوله: {بئسما} يفسر ببئس الشيء قاله سيبويه والكسائي. والآخر أنها موصولة قاله الفراء والفارسي وهذان هما أوضح الوجوه فإذا وقعت بعدها ما وحدها كانت ما معرفة تامة نحو قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: من الآية271] أي نعم الشيء هي وإن وقعت بعد ما جملة تصلح لأن تكون صلة كانت ما معرفة ناقصة أي موصولة نحو قوله هنا {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} و"ما" فاعل "بئس".
وقد يذكر بعد بئس ونعم اسم يفيد تعيين المقصود بالذم أو المدح ويسمى في علم العربية المخصوص وقد لا يذكر لظهوره من المقام أو لتقدم ما يدل عليه فقول:ه {أَنْ يَكْفُرُوا} هو المخصوص بالذم والتقدير كفرهم بآيات الله ولك أن تجعله مبتدأ محذوف الخبر أو خبرا محذوف المبتدأ أو بدلا أو بيانا من ما وعليه فقوله تعالى: {اشْتَرَوْا} إما صفة للمعرفة أو صلة للموصولة و {أَنْ يَكْفُرُوا} هو المخصوص بالذم خبر مبتدأ محذوف وذلك على وزان قولك نعم الرجل فلان.
والاشتراء الابتياع وقد تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: من الآية16] فقوله تعالى هنا: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه تشبيها لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأبقوا عليها بأن كفروا بالقرآن حسدا. فإن كانوا يعتقدون أنهم محقون في إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لتمسكهم بالتوراة وأن قوله فيما تقدم : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة: 89] بمعنى جاءهم ما عرفوا صفته وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف، فمعنى اشتراء أنفسهم جار على اعتقادهم لأنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم فقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي بئسما هو في الواقع وأما كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم وقوله: {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} هو أيضا بحسب الواقع وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم وهي أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت. وإن كانوا معتقدين

صدق الرسول وكان إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} على أحد الاحتمالين المتقدمين، فالاشتراء بمعنى الاستبقاء الدنيوي أي بئس العوض بذلهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق فالآية على نحو قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [البقرة: 86]
وقيل إن {اشتروا} بمعنى باعوا أي بذلوا أنفسهم والمراد بذلها للعذاب في مقابلة إرضاء مكابرتهم وحسدهم وهذا الوجه منظور فيه إلى قوله قبله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] وهو بعيد من اللفظ لأن استعمال الاشتراء بمعنى البيع مجاز بعيد إذ هو يفضي إلى إدخال الغلط على السامع وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة وإنما دعا إليه قصد قائله إلى بيان حاصل المعنى. على أنك قد علمت إمكان الجمع بين مقتضى قوله: {ما عرفوا} وقوله هنا: {اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} فأنت في غنى عن التكلف. وعلى كلا التفسيرين يكون اشتروا مع ما تفرع عنه من قوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} تمثيلا لحالهم بحال من حاول تجارة ليربح فأصابه خسران وهو تمثيل يقبل بعض أجزائه أن يكون استعارة وذلك من محاسن التمثيلية.
وجيء بصيغة المضارع في قوله: {أَنْ يَكْفُرُوا} ولم يؤت به على ما يناسب المبين وهو {ما اشتروا} المقتضي أن الاشتراء قد مضى للدلالة على أنهم صرحوا بالكفر بالقرآن من قبل نزول الآية فقد تبين أن اشتراء أنفسهم بالكفر عمل استقر ومضى، ثم لما أريد بيان ما اشتروا به أنفسهم نبه على أنهم لم يزالوا يكفرون ويعلم أنهم كفروا فيما مضى أيضا إذ كان المبين بأن يكفروا معبرا عنه بالماضي بقوله: {ما اشتروا} .
وقوله: {بغيا} مفعول لأجله علة لقوله: {أَنْ يَكْفُرُوا} لأنه الأقرب إليه، ويجوز كونه علة لاشتروا لأن الاشتراء هنا صادق على الكفر فإنه المخصوص بحكم الذم وهو عين المذموم، والبغي هنا مصدر بغي يبغي إذا ظلم وأراد به هنا ظلما خاصا وهو الحسد وإنما جعل الحسد ظلما لأن الظلم هو المعاملة بغير حق والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود ولا حق للحاسد في ذلك لأنه لا يناله من زوالها نفع، ولا من بقائها ضر، ولقد أجاد أبو الطيب إذ أخذ هذا المعنى في قوله:
وأظلم خلق الله من بات حاسدا
لمن بات في نعمائه يتقلب
وقوله: {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ} متعلق بقوله: {بغيا} بحذف حرف الجر وهو حرف الاستعلاء لتأويل {بغيا} بمعنى حسدا.

فاليهود كفروا حسدا على خروج النبوءة منهم إلى العرب وهو المشار إليه بقوله تعالى: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أي فرجعوا من تلك الصفقة وهي اشتراء أنفسهم بالخسران المبين وهو تمثيل لحالهم بحال الخارج بسلعته لتجارة فأصابته خسارة فرجع إلى منزله خاسرا. شبه مصيرهم إلى الخسران برجوع التاجر الخاسر بعد ضميمة قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} والظاهر أن المراد بغضب على غضب الغضب الشديد على حد قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] أي نور عظيم وقوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} وقول أبي الطيب:
أرق على أرق ومثلي يأرق
وهذا من استعمال التكرير باختلاف صيغة في معنى القوة والشدة كقول الحطيئة:
أنت آل شماس بن لأي وإنما ... أتاهم بها الإحكام والحسب العد
أي الكثير العدد أي العظيم وقال المعري:
بني الحسب الوضاح والمفخر الجم
أي العظيم قال القرطبي قال بعضهم المراد به شدة الحال لا أنه أراد غضبين وهما غضب الله عليهم للكفر وللحسد أو للكفر بمحمد وعيسى عليهما السلام.
وقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} هو كقوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] أي ولهم عذاب مهين لأنهم من الكافرين، والمهين المذل أي فيه كيفية احتقارهم.
[91] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
معطوف على قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 89] المعطوف على قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] وبهذا الاعتبار يصح اعتباره معطوفا على {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} على المعروف في اعتبار العطف على ما هو معطوف وهذا كله من عطف حكايات أحوالهم في معاذيرهم عن الإعراض عن الدعوة الإسلامية فإذا دعوا قالوا قلوبنا غلف، وإذا سمعوا الكتاب أعرضوا عنه بعد أن كانوا منتظريه حسدا أن نزل على رجل من

غيرهم، وإذا وعظوا وأنذروا ودعوا إلى الإيمان بالقرآن وبأنه أنزله الله وأن ينظروا في دلائل كونه منزلا من عند الله أعرضوا وقالوا نؤمن بما أنزل علينا أي بما أنزله الله على رسولنا موسى، وهذا هو مجمع ضلالاتهم ومنبع عنادهم فلذلك تصدى القرآن لتطويل المحاجة فيه بما هنا وما بعده تمهيدا لقوله الآتي: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الآيات.
وقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أرادوا به الاعتذار وتعلة أنفسهم لأنهم لما قيل لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} علموا أنهم إن امتنعوا امتناعا مجردا عدت عليهم شناعة الامتناع من الإيمان بما يدعي أنه أنزله الله فقالوا في معذرتهم ولإرضاء أنفسهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أي أن فضيلة الانتساب للإيمان بما أنزل الله قد حصلت لهم أي فنحن نكتفي بما أنزل علينا وزادوا إذ تمسكوا بذلك ولم يرفضوه. وهذا وجه التعبير في الحكاية عنهم بلفظ المضارع {نؤمن} أي ندوم على الإيمان بما أنزل علينا وقد عرضوا بأنهم لا يؤمنون بغيره لأن التعبير بنؤمن بما أنزل علينا في جواب من قال لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقد علم أن مراد القائل الإيمان بالقرآن مشعر بأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم فقط لأنهم يرون الإيمان بغيره مقتضيا الكفر به فهاهنا مستفاد من مجموع جملتي: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وجوابها بقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} .
وقوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} جيء بالمضارع محاكاة لقولهم نؤمن بما أنزل علينا وتصريح بما لوحوا إليه ورد عليهم أي يدومون على الإيمان بما أنزل عليهم ويكفرون كذلك بما وراءه فهم يرون أن الإيمان به مقتض للكفر بغيره على أن للمضارع تأثيرا في معنى التعجب والغرابة. وفي قرنه بواو الحال إشعار بالرد عليهم وزاد ذلك بقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}
والوراء في الأصل اسم مكان للجهة التي خلف الشيء وهو عريق في الظرفية وليس أصله مصدرا. جعل الوراء مجازا أو كناية عن الغائب لأنه لا يبصره الشخص واستعمل أيضا مجازا عن المجاوز لأن الشيء إذا كان أمام السائر فهو صائر إليه فإذا صار وراءه فقد تجاوزه وتباعد عنه قال النابغة:
وليس وراء الله للمرء مطلب
واستعمل أيضا بمعنى الطلب والتعقب تقول ورائي فلان بمعنى يتعقبني ويطلبني ومنه قول الله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] وقول لبيد:

أليس ورائي أن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
فمن ثم زعم بعضهم أن الوراء يطلق على الخلف والأمام إطلاق اسم الضدين واحتج ببيت لبيد وبقرآن وكان أمامهم ملك وقد علمت أنه لا حجة فيه ولذلك أنكر الآمدي في الموازنة كونه ضدا.
فالمراد بما وراءه في الآية بما عداه وتجاوزه أي بغيره والمقصود بهذا الغير هنا خصوص القرآن بقرينة السياق لتقدم قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ولتعقيبه بقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً}
وجملة {وَهُوَ الْحَقُّ} حالية واللام في الحق للجنس والمقصود اشتهار المسند إليه بهذا الجنس أي وهو المشتهر بالحقية المسلم ذلك له على حد قول حسان:
وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
لم يرد حسان انحصار العبودية في الوالد وإنما أراد أنه المعروف بذلك المشتهر به فليست اللام هنا مفيدة للحصر لأن تعريف المسند باللام لا تطرد إفادته الحصر على ما في دلائل الإعجاز. وقيل يفيد الحصر باعتبار القيد أعني قوله: {مصدقا} أي هو المنحصر في كونه حقا مع كونه مصدقا فإن غيره من الكتب السماوية حق لكنه ليس مصدقا لما معهم ولعل صاحب هذا التفسير يعتبر الإنجيل غير متعرض لتصديق التوراة بل مقتصرا على تحليل بعض المحرمات وذلك يشبه عدم التصديق. ففي الآية صد لبني إسرائيل عن مقابلة القرآن بمثل ما قابلوا به الإنجيل وزيادة في توبيخهم.
وقوله {مصدقا} حال مؤكدة لقوله {وَهُوَ الْحَقُّ} وهذه الآية علم في التمثيل للحال المؤكدة وعندي أنها حال مؤسسة لأن قوله {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} مشعر بوصف زائد على مضمون {وَهُوَ الْحَقُّ} إذ قد يكون الكتاب حقا ولا يصدق كتابا آخر ولا يكذبه وفي مجيء الخال من الحال زيادة في استحضار شؤونهم وهيئاتهم.
وقوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فصله عما قبله لأنه اعتراض في أثناء ذكر أحوالهم قصد به الرد عليهم في معذرتهم هذه لإظهار أن معاداة الأنبياء دأب لهم وأن قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} كذب إذ لو كان حقا لما قتل أسلافهم الأنبياء الذين هم من قومهم ودعوهم إلى تأييد التوراة والأمر بالعمل بها ولكنهم يعرضون عن كل ما لا يوافق أهواءهم. وهذا إلزام للحاضرين بما فعله أسلافهم لأنهم

يرونهم على حق فيما فعلوا من قتل الأنبياء.
والإتيان بالمضارع في قوله: {تقتلون} مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة وقرينة ذلك قوله: {من قبل} فذلك كما جاء الحطيئة بالماضي مرادا به الاستقبال في قوله:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
بقرينة قوله يوم يلقى ربه.
والمراد بأنبياء الله الذين ذكرناهم عند قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61]
[93,92] {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
عطف على قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} [البقرة: 91] والقصد منه تعليم الانتقال في المجادلة معهم إلى ما يزيد إبطال دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم خاصة وذلك أنه بعد أن أكذبهم في ذلك بقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} كما بينا ترقى إلى ذكر أحوالهم في مقابلتهم دعوة موسى الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما جاءهم به فإنهم مع ذلك قد قابلوا دعوته بالعصيان قولا وفعلا فإذا كانوا أعرضوا عن الدعوة المحمدية بمعذرة أنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل عليهم فلماذا قابلوا دعوة أنبيائهم بعد موسى بالقتل ولماذا قابلوا دعوة موسى بما قابلوا. فهذا وجه ذكر هذه الآيات هنا وإن كان قد تقدم نظائرها فيما مضى فإن ذكرها هنا في محاجة أخرى وغرض جديد، وقد بينت أن القرآن ليس مثل تأليف في علم يحال فيه على ما تقدم بل هو جامع مواعظ وتذكيرات وقوارع ومجادلات نزلت في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة فلذلك تتكرر فيه الأغراض لاقتضاء المقام ذكرها حينئذ عند سبب نزول تلك الآيات. وفي الكشاف أن تكرير حديث رفع الطور هنا لما نيط به من الزيادة على ما في الآية السابقة معنى في قوله: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} الآية وهي نكتة في الدرجة الثانية.

وقال البيضاوي إن تكرير القصة للتنبيه على أن طريقتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم طريقة أسلافهم مع موسى وهي نكتة في الدرجة الأولى وهذا إلزام لهم بعمل أسلافهم بناء على أن الفرع يتبع أصله والولد نسخة من أبيه وهو احتجاج خطابي.
والقول في هاته الآيات كالقول في سابقتها وكذلك القول في البينات. إلا أن قوله {واسمعوا} مراد به الامتثال فهو كناية كما تقول فلان لا يسمع كلامي أي لا يمتثل أمري إذ ليس الأمر هنا بالسماع بمعنى الإصغاء إلى التوراة فإن قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} يتضمنه ابتداء لأن المراد من الأخذ بالقوة الاهتمام به وأول الاهتمام بالكلام هو سماعه والظاهر أن قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} لا يشتمل الامتثال فيكون قوله {واسمعوا} دالا على معنى جديد وليس تأكيدا، ولك أن تجعله تأكيدا لمدلول {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} بأن يكون الأخذ بقوة شاملا لنية الامتثال وتكون نكتة التأكيد حينئذ هي الإشعار بأنهم مظنة الإهمال والإخلال حتى أكد عليهم ذلك قبل تبين عدم امتثالهم فيما يأتي ففي هذه الآية زيادة بيان لقوله في الآية الأولى {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة: 63]
واعلم أن من دلائل النبوة والمعجزات العلمية إشارات القرآن إلى العبارات التي نطق بها موسى في بني إسرائيل وكتبت في التوراة فإن الأمر بالسماع تكرر في مواضع مخاطبات موسى لملأ بني إسرائيل بقوله اسمع يا إسرائيل فهذا من نكت اختيار هذا اللفظ للدلالة على الامتثال دون غيره مما هو أوضح منه وهذا مثل ما ذكرنا في التعبير بالعهد.
وقوله: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} يحتمل أنهم قالوه في وقت واحد جوابا لقوله {واسمعوا} وإنما أجابوه بأمرين لأن قوله اسمعوا تضمن معنيين معنى صريحا ومعنى كنائيا فأجابوا بامتثال الأمر الصريح وأما الأمر الكنائي فقد رفضوه وذلك يتضمن جواب قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أيضا لأنه يتضمن ما تضمنهوفي هذا الوجه بعد ظاهر إذ لم يعهد منهم أنهم شافهوا نبيهم بالعزم على المعصية وقيل إن قوله: {سمعنا} {واسمعوا} جواب لقوله {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ} أي سمعنا هذا الكلام. وقوله {وعصينا} جواب لقوله: {واسمعوا} لأنه بمعنى امتثلوا ليكون كل كلام قد أجيب عنه ويبعده أن الإتيان في جوابهم بكلمة سمعنا مشير إلى كونه جوابا لقوله: {اسمعوا} لأن شأن الجواب أن يشتمل على عبارة الكلام المجاب به وقوله ليكون كل كلام قد أجيب عنه قد علمت أن جعل سمعنا وعصينا جوابا لقوله: {واسمعوا} يغني عن تطلب جواب

لقوله {خذوا} ، ففيه إيجاز، فالوجه في معنى هذه الآية هو ما نقله الفخر عن أبي مسلم أن قولهم: {عصينا} كان بلسان الحال يعني فيكون {قالوا} مستعملا في حقيقته ومجازه أي قالوا سمعنا وعصوا فكأن لسانهم يقول عصينا. ويحتمل أن قولهم: {عصينا} وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم ادخلوا القرية: {لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً} [المائدة: 24] وهذان الوجهان أقرب من الوجه الأول. وفي هذا بيان لقوله في الآية الأولى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 64]
والإشراب هو جعل الشيء شاربا، واستعير لجعل الشيء متصلا بشيء وداخلا فيه ووجه الشبه هو شدة الاتصال والسريان لأن الماء أسرى الأجسام في غيره ولذا يقول الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن فلذلك استعاروا الإشراب لشدة التداخل استعارة تبعية قال بعض الشعراء:
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير1
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
ومنه قولهم أشرب الثوب الصبغ، قال الراغب من عادتهم إذا أرادوا مخامرة حب وبغض أن يستعيروا لذلك اسم الشراب اه. وقد اشتهر المعنى المجازي فهجر استعمال الإشراب بمعنى السقي وذكر القلوب قرينة على أن إشراب العجل على تقدير مضاف من شأن القلب مثل عبادة العجل أو تأليه العجل. وإنما جعل حبهم العجل إشرابا لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أولع بكذا وشغف.
والعجل مفعول {أشربوا} على حذف مضاف مشهور في أمثاله من تعليق الأحكام وإسنادها إلى الذوات مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أي أكل لحمها. وإنما شغفوا به استحسانا واعتقادا أنه إلههم وأن فيه نفعهم لأنهم لما رأوه من ذهب قدسوه من فرط حبهم الذهب. وقد قوى ذلك الإعجاب به بفرط اعتقادهم ألوهيته ولذلك قال تعالى
ـــــــ
1 ذكر هذه الأبيات القرطبي في "تفسيره" وقال إنها لأحد النابغتين أي النابغة الذبياني أو النابغة الجعدي في زوجته عثمة كأن عتب عليها في بعض الأمر فطلقها ,كان محبا لها. وبعدها:
أكاد إذا ذكرت العهد منها ... أطير لو أن إنسانا يطير

{بكفرهم} فإن الاعتقاد يزيد المعتقد توغلا في حب معتقده. وإسناد الإشراب إلى ضمير ذواتهم ثم توضيحه بقوله: {في قلوبهم} مبالغة وذلك مثل ما يقع في بدل البعض والاشتمال وما يقع في تمييز النسبة. وقريب منه قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: من الآية10] وليس هو مثل ما هنا لأن الأكل متمحض لكونه منحصرا في البطن بخلاف الإشراب فلا اختصاص له بالقلوب.
وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تذييل واعتراض ناشئ عن قولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} و وهو خلاصة لإبطال قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} بعد أن أبطل ذلك بشواهد التاريخ وهي قوله {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} وقوله: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ولذلك فصله عن قوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} لأنه يجري من الأول مجرى التقرير والبيان لحاصله، والمعنى قل لهم إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم كما زعمتم يعني التوراة فبئسما أمركم به هذا الإيمان إذ فعلتم ما فعلتم من الشنائع من قتل الأنبياء ومن الإشراك بالله في حين قيام التوراة فيكم فكيف وأنتم اليوم لا تعرفون من الشريعة إلا قليلا، وخاصة إذا كان هذا الإيمان بزعمهم يصدهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فالجملة الشرطية كلها مقول {قل} والأمر هنا مستعمل مجازا في التسبب.
وإنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذلك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل إليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده فلا شك أن لسان حالهم ينادى بأنهم لا يفعلون فعلا إلا وهو مأذون فيه من كتابهم هذا وجه الملازمة وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع وهذا ظاهر الكلام والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمى بهم في مهواة الاستسلام للحجة فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]
ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم أي الذي دخله التحريف والاضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل إنما هو لصلاح الناس والخروج بهم من الظلمات إلى النور فلا جرم أن يكون مرتكبوا هاته الشنائع ليسوا من الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء فبطل بذلك

كونهم {مؤمنين} وهو المقصود فقوله: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} جواب الشرط مقدم عليه أو {قل} دليل الجواب ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بإن التي من شأن شرطها أن يكون مشكوك الحصول وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضا كما يفرض الحال وهو المراد هنا؛ لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط ولأن المخاطبين يعتقدون وقوع الشرط فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط المتضمن لكونهم {مؤمنين} إلا منفيا ومقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع إذا ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالا لطائرهم. وفي الإتيان بإن إشعار بهذا الفرض حتى يقعوا في الشك في حالهم وينتقلوا من الشك إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} وإلى هذا أشار صاحب الكشاف كما قاله التفتزاني وهو لا ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض فمن الفرض يتولد التشكيك ومن التشكيك يظهر التبكيت.
ولا معنى لجعل {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ابتداء كلام وجوابه محذوفا تقديره فإيمانكم ل يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل إلخ لأنه قطع لأواصر الكلام وتقدير بلا داع مع أن قوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} إلخ يتطلبه مزيد تطلب ونظائره في آيات القرآن كثيرة. على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام المتقدم المثبت أن إيمانهم أمرهم بهذه المذام فكيف ينفي بعد ذلك أن يكون إيمانهم يأمرهم.
و {بئسما} هنا نظير بئسما المتقدم في قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: من الآية90] سوى أن هذا لم يؤت له باسم مخصوص بالذم لدلالة قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادة العجل.
[95,94] {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}
إبطال لدعوى قارة في نفوسهم اقتضاها قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] الذي أرادوا به الاعتذار عن إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بعذر أنهم متصلبون في التمسك بالتوراة لا يعدونها وأنهم بذلك استحقوا محبة الله إياهم وتكون الآخرة لهم فلما أبطلت دعوى إيمانهم بما أنزل عليهم بإلزامهم الكذب في دعواهم بسند ما أتاه سلفهم وهم

جدودهم من الفظائع مع أنبيائهم والخروج عن أوامر التوراة بالإشراك بالله تعالى بعبادة العجل عقب ذلك بإبطال ما في عقائدهم من أنهم أهل الانفراد برحمة الله ما داموا متمسكين بالتوراة وأن من خالقها لا يكون له حظ في الآخرة، وارتكب في إبطال اعتقادهم هذا طريقة الإحالة على ما عقدوا عليه اعتقادهم من الثقة بحسن المصير أو على شكهم في ذلك فإذا ثبت لديهم شكهم في ذلك علموا أن إيمانهم بالتوراة غير ثابت على حقه وذلك أشد ما يفت في أعضادهم ويسقط في أيديهم لأن ترقب الحظ الأخروي أهم ما يتعلق به المعتقد المتدين فإن تلك هي الحياة الدائمة والنعيم المقيم.
وقد قيل إن هذه الآية رد لدعوى أخرى صدرت من اليهود تدل على أنهم يجعلون الجنة خاصة بهم مثل قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً} [البقرة: 111] وإلى هذا مال القرطبي والبيضاوي وعليه فيكون ذكر الرد عليهم بينا لمجرد المناسبة في رد معتقد لهم باطل أيضا لا في خصوص الغرض المسوق فيه الآيات المتقدمة بناء على أن الآيات لا يلزم أن تكون متناسبة تمام المناسبة ونحن لا نساعد على ذلك فعلى هذا الوجه تكون هاته الآية هنا نزلت مع سوابقها للرد على أقوالهم المتفرقة المحكية في آيات أخرى وإنما اتصلت مع الآيات الراجعة إلى رد دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم للمناسبة بجمع رد جميع دعاويهم ولكن فيما ذكرناه غنية. وأياما كان فهذه الآية تحدت اليهود كما تحدى القرآن مشركي العرب بقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: من الآية23] وإنما فصلت هاته الجملة عما قبلها لاختلاف السياق لأن هذه الآية إلقاء حجة عليهم والآيات السابقة تفظيع لأحوالهم وإن كان في كل من ذلك احتجاج لكن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب كان محسنا للفصل دون العطف لا سيما مع افتتاح الاحتجاج بقل.
والكلام في {لكم} مشعر بأن المراد من الدار الآخرة نعيمها و {لكم} خبر {كانت} قدم للحصر بناء على اعتقادهم كتقديمه في قول الكميت يمدح هشاما بن عبد الملك حين عفا عنه من قصيدة:
لكم مسجدا الله المزوران والحصى
لكم قبضة من بين أثري وأقترا
و {عند الله} ظرف متعلق بكانت والعندية عندية تشريف وادخار أي مدخرة لكم عند الله وفي ذلك إيذان بأن الدار الآخرة مراد بها الجنة. وانتصب {خالصة} على الحال من اسم كان ولا وجه لتوقف بعض النحاة في مجيء الحال من اسم "كان". ومعنى

الخالصة السالمة من مشاركة غيركم لكم فيها فهو يؤول إلى معنى خاصة بكم.
وقوله: {مِنْ دُونِ النَّاسِ} دون في الأصل ظرف للمكان الأقرب من مكان آخر غير متصرف وهو مجاز في المفارقة فلذلك تدل على تخالف الأوصاف أو الأحوال، تقول هذا لك دون زيد أي لا حق لزيد فيه فقوله: {مِنْ دُونِ النَّاسِ} توكيد لمعنى الاختصاص المستفاد من تقديم الخبر ومن قوله: {خالصة} لدفع احتمال أن يكون المراد من الخلوص الصفاء من المشارك في درجاتهم مع كونه له حظ من النعيم. والمراد من الناس جميع الناس فاللام فيه للاستغراق لأنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً} [البقرة: 111].
وقوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} جواب الشرط ووجه الملازمة بين الشرط -وهو أن الدار الآخرة لهم وجزائه وهو تمني الموت أن الدار الآخرة لا يخلص أحد إليها إلا بالروح حين تفارق جسده ومفارقة الروح الجسد هو الموت فإذا كان الموت هو سبب مصيرهم إلى الخيرات كان الشأن أن يتمنوا حلوله كما كان شأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما قال عمير بن الحمام رضي الله عنه:
جريا إلى الله بغير زاد ... إلا التقي وعمل المعاد
وارتجز جعفر بن أبي طالب يوم غزوة مؤتة حين اقتحم على المشركين بقوله:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها
وقال عبد الله بن رواحة عند خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين:
لكنني أسأل الرحمان مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة من يدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا
وجملة {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} إلى آخره معترضة بين جملة {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} وبين جملة {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إعلاما لهم ليزدادوا يقينا وليحصل منه تحد لليهود إذ يسمعونه ويودون أن يخالفوه لئلا ينهض حجة على صدق المخبر به فيلزمهم أن الدار الآخرة ليست لهم.
وقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} يشير إلى أنهم قد صاروا في عقيدة مختلطة متناقضة

كشأن عقائد الجهلة المغرورين فهم يعتقدون أن الدار الآخرة لهم بما دل عليه قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ثم يعترفون بأنهم اجترأوا على الله واكتسبوا السيئات حسبما سطر ذلك عليهم في التوراة وفي كتب أنبيائهم فيعتذرون بأن النار تمسهم أياما معدودة ولذلك يخافون الموت فرارا من العذاب.
والمراد بما قدمت أيديهم ما أتوه من المعاصي سواء كان باليد أم بغيرها بقرينة المقام، فقيل عبر باليد هنا عن الذات مجازا كما في قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: من الآية195] وكما عبر عن الذات بالعين في باب التوكيد لأن اليد أهم آلات العمل. وقيل أريد بها الأيدي حقيقة لأن غالب جنايات الناس بها وهو كناية عن جميع الأعمال قاله الواحدي ولعل التكني بها دون غيرها لأن أجمع معاصيها وأفظعها كان باليد فالأجمع هو تحريف التوراة والأفظع هو قتل الأنبياء لأنهم بذلك حرموا الناس من هدى عظيم.
وإسناد التقديم للأيدي على الوجه الأول حقيقة وعلى الوجه الثاني مجاز عقلي. وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم يتأخر عن معاقبته فهذا كقول زهير:
فمهما يكتم الله يعلم
وقد عدت هذه الآية في دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب هذه الآية ولا يقال لعلهم تمنوا الموت بقلوبهم لأن التمني بالقلب لو وقع لنطقوا به بألسنتهم لقصد الإعلان بإبطال هذه الوصمة فسكوتهم يدل على عدم وقوعه وإن كان التمني موضعه القلب لأنه طلب قلبي إذ هو محبة حصول الشيء وتقدم في قوله {إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: من الآية78] أن الأمنية ما يقدر في القلب. وهذا بالنسبة إلى اليهود المخاطبين زمن النزول ظاهر إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت كما أخبرت الآية وهي أيضا من أعظم الدلائل عند أولئك اليهود على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم قد أيقن كل واحد منهم أنه لا يتمنى الموت وأيقن أن بقية قومه لا يتمنونه لأنه لو تمناه أحد لأعلن بذلك لعلمهم بحرص كل واحد منهم على إبطال حكم هذه الآية. ويفيد بذلك إعجازا عاما على تعاقب الأجيال كما أفاد عجز العرب عن المعارضة علم جميع الباحثين بأن القرآن معجز وأنه من عند الله. على أن الظاهر أن الآية تشمل اليهود الذين يأتون بعد

يهود عصر النزول إذ لا يعرف أن يهوديا تمنى الموت إلى اليوم فهذا ارتقاء في دلائل النبوة وجملة {والله عليم بالظالمين} في موضع الحال من ضمير الرفع في {يتمنوه} أي علم الله ما في نفوسهم فأخبر رسوله بأن يتحداهم وهذا زيادة في تسجيل امتناعهم من تمني الموت، والمراد بالظالمين اليهود من وضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالظلم.
[96] {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
معطوف على قوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة: 95] للإشارة إلى أن عدم تمنيهم الموت ليس على الوجه المعتاد عند البشر من كراهة الموت ما دام المرء بعافية بل هم تجاوزوا ذلك إلى كونهم أحرص من سائر البشر على الحياة حتى المشركين الذين لا يرجون بعثا ولا نشورا ولا نعيما فنعيمهم عندهم هو نعيم الدنيا وإلى أن تمنوا أن يعمروا أقصى أمد التعمير مع ما يعتري صاحب هذا العمر من سوء الحالة ورذالة العيش. فلما في هذه الجمل المعطوفة من التأكيد لمضمون الجملة المعطوف عليها أخرت عنها ولما فيها من الزيادة في وصفهم بالأحرصية المتجاوزة الحد عطف عليه ولم يفصل لأنه لو كان لمجرد التأكيد لفصل كما يفصل التأكيد عن المؤكد.
وقوله {ولتجدنهم} من الوجدان القلبي المتعدى إلى مفعولين. والمراد من الناس في الظاهر جميع الناس أي جميع البشر فهم أحرصهم على الحياة فإن الحرص على الحياة غريزة في الناس إلا أن الناس فيه متفاوتون قوة وكيفية وأسبابا قال أبو الطيب:
أرى كلنا يهوى الحياة بسعيه ... حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ونكر "الحياة" قصدا للتنويع أي كيفما كانت تلك الحياة وتقول يهود تونس ما معناه الحياة وكفى.
وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} عطف على {الناس} لأن المضاف إليه أفعل التفضيل تقدر معه من التفضيلية لا محالة فإذا عطف عليه جاز إظهارها ويتعين الإظهار إذا كان المفضل من غير نوع المفضل عليه لأن الإضافة حينئذ تمتنع كما هنا فإن اليهود من الناس وليسوا من الذين أشركوا. وعند سيبويه أن إضافته على تقدير اللام فيكون قوله: {وَمِنَ

الَّذِينَ أَشْرَكُوا} على قوله- عطفا بالحمل على المعنى أو بتقدير معطوف محذوف تقديره أحرص هو متعلق من {الَّذِينَ أَشْرَكُوا} وإليه مال في الكشاف.
وقوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} بيان لأحرصيتهم على الحياة وتحقيق لعموم النوعية في الحياة المنكرة لدفع توهم أن الحرص لا يبلغ بهم مبلغ الطمع في الحياة البالغة لمدة ألف سنة فإنها مع تعذرها لو تمت لهم كانت حياة خسف وأرذل عيش يظن بهم أن لا يبلغ حبهم الحياة إلى تمنيها، وقد قال الحريري:
والموت خير للفتى ... من عيشه عيش البهيمة
فجيء بهاته الجملة لتحقيق أن ذلك الحرص يشمل حتى هاته الحياة الذميمة ولما في هاته الجملة من البيان لمضمون الجملة قبلها فصلت عنها.
والود المحبة و"لو" للتمني وهو حكاية للفظ الذي يودون به والمجيء فيه بلفظ الغائب مراعاة للمعنى ويجوز أن تكون "لو" مصدرية والتقدير يود أحدهم تعمير ألف سنة.
وقوله: {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} بيان ليود أي يود ودا بيانه لو يعمر ألف سنة، وأصل لو أنه حرف شرط للماضي أو للمستقبل فكان أصل موقعه مع فعل يود ونحوه أنه جملة مبينة لجملة {يَوَدُّ} على طريقة الإيجاز والتقدير في مثل هذا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة لما سئم أو لما كره فلما كان مضمون شرط لو ومضمون مفعول {يَوَدُّ} واحدا استغنوا بفعل الشرط عن مفعول الفعل فحذفوا المفعول ونزل حرف الشرط مع فعله منزلة المفعول فلذلك صار الحرف مع جملة الشرط في قوة المفعول فأكتسب الاسمية في المعنى فصار فعل الشرط مؤولا بالمصدر المأخوذ منه ولذلك صار حرف لو بمنزلة أن المصدرية نظرا لكون الفعل الذي بعدها صار مؤولا بمصدر فصارت جملة الشرط مستعملة في معنى المصدر استعمالا غلب على لو الواقعة بعد فعل {يَوَدُّ} وقد يلحق به ما كان في معناه من الأفعال الدالة على المحبة والرغبة.
هذا تحقيق استعمال لو في مثل هذا الجاري على قول المحققين من النحاة ولغلبة هذا الاستعمال وشيوع هذا الحذف ذهب بعض النحاة إلى أن لو تستعمل حرفا مصدريا وأثبتوا لها من الواقع ذلك موقعها بعد {يَوَدُّ} ونحوه وهو قول القراء وأبي علي الفارسي والتبريزي والعكبري وابن مالك فيقولون لا حذف ويجعلون لو حرفا لمجرد السبك بمنزلة أن المصدرية والفعل مسبوكا بمصدر والتقدير يود أحدهم التعمير وهذا القول

أضعف تحقيقا وأسهل تقديرا. وقوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} يجوز أن يكون الضمير لأحدهم ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره المصدر بعده على حد قول زهير:
وما الحرب ألا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
ولم يجعل ضمير شأن لدخول النفي عليه كالذي في البيت لكنه قريب من ضمير الشأن لأن المقصود منه الاهتمام بالخبر ولأن ما بعده في صورة الجملة وقيل هو عائد على التعمير المستفاد من {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} . وقوله: {أَنْ يُعَمَّرَ} بدل منه وهو بعيد. والمزحزح المبعد.
وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} البصير هنا بمعنى العليم كما في قول علقمة الفحل:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب
وهو خبر مستعمل في التهديد والتوبيخ لأن القدير إذا علم بما يجترحه الذي يعصيه وأعلمه بأنه علم منه ذلك علم أن العقاب نازل به لا محالة ومنه قول زهير:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفي فمهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينتقم
فجعل قوله يعلم بمعنى العلم الراجع للتهديد بدليل إبداله منه قوله يؤخر البيت وقريب من هذا قول النابغة في النعمان:
علمتك ترعاني بعين بصيرة ... وتبعث حراسا علي وناظرا
[97، 98] {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}
موقع هاته الجملة موقع الجمل قبلها من قوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: من الآية93] وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} [البقرة:94] فإن الجميع للرد على ما تضمنه قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] لأنهم أظهروا به عذرا عن الإعراض عن الدعوة المحمدية وهو عذر كاذب ستروا به السبب في

الواقع وهو الحسد على نزول القرآن على رجل من غيرهم فجاءت هاته المجادلات المصدرة بقل لإبطال معذرتهم وفضح مقصدهم. فأبطل أولا ما تضمنه قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} من أنهم إنما يقبلون ما أنزل على رسلهم بأنهم قد قابلوا رسلهم أيضا بالتكذيب والأذى والمعصية وذلك بقوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ} وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا} الخ. وأبطل ثانيا ما تضمنه من أنهم شديدو التمسك بما أنزل عليهم حريصون على العمل به متباعدون عن البعد عنه لقصد النجاة في الآخرة بقوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} وأبطل ثالثا أن يكون ذلك العذر هو الصارف لهم عن الإيمان مع إثبات أن الصارف لهم هو الحسد بقوله هنا: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} الخ. ويؤيد هذا الارتباط وقوع الضمير في قوله نزله عائدا على: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} في الآية المجابة بهاته الإبطالات، ولذلك فصلت هذه كما فصلت أخواتها ولأنها لا علاقة لها بالجمل القريبة منها فتعطف عليها فجاءت لذلك مستأنفة.
والعدو المبغض وهو مشتق من عدا عليه يعدو بمعنى وثب، لأن المبغض يثب على المبغوض لينتقم منه ووزنه فعول.
وجبريل اسم عبراني للملك المرسل من الله تعالى بالوحي لرسله مركب من كلمتين. وفيه لغات أشهرها جبريل كقطمير وهي لغة أهل الحجاز وبها قرأ الجمهور. وجبريل بفتح الجيم وكسر الراء وقع في قراءة ابن كثير وهذا وزن فعليل لا يوجد له مثال في كلام العرب قاله الفراء والنحاس. وجبرئيل بفتح الجيم أيضا وفتح الراء وبين الراء والياء همزة مكسورة وهي لغة تميم وقيس وبعض أهل نجد وقرأ بها حمزة والكسائي. وجبرائيل بفتح الجيم والراء بينها وبين اللام همزة مكسورة قرأ بها أبو بكر عن عاصم وفيه لغات أخرى قرئ بها في الشواذ.
وهو اسم مركب من كلمتين كلمة جبر وكلمة إيل. فأما كلمة جبر فمعناها عند الجمهور نقلا عن العبرانية أنها بمعنى عبد والتحقيق أنها في العبرانية بمعنى القوة. وأما كلمة إيل فهي عند الجمهور اسم من أسماء الله تعالى. وذهب أبو علي الفارسي إلى عكس قول الجمهور فزعم أن جبر اسم الله تعالى وإيل العبد وهو مخالف لما في اللغة العبرانية عند العارفين بها. وقد قفا أبو العلاء المعري رأي أبي علي الفارسي في صدر رسالته التي خاطب بها علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح وهي المعروفة برسالة الغفران فقال قد علم الجبر الذي نسب إليه جبريل وهو في كل الخيرات سبيل أن في مسكني

حماطة الخ. أي قد علم الله الذي نسب جبريل إلى اسمه أي اسمه جبر يريد بذلك القسم وهذا إغراب منه وتنبيه على تباصره باللغة.
وعداوة اليهود لجبريل نشأت من وقت نزوله بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل لأنه ينزل على الأمم التي كذبت رسلها بالعذاب والوعيد، نقله القرطبي عن حديث خرجه الترمذي.
وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} شرط عام مراد به خاص وهم اليهود. قصد الإتيان بالشمول ليعلموا أن الله لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادي جبريل إن كان له معاد آخر.
وقد عرف اليهود في المدينة بأنهم أعداء جبريل ففي البخاري عن أنس بن مالك قال سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله وهو في أرض يخترف فأتى النبي فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي فما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه? قال رسول الله أخبرني بهن جبريل آنفا قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة فإنهم أبغضوه لأنه يجيء بما فيه شدة وبالأمر بالقتال الحديث وفي سفر دانيال من كتبهم في الإصحاحين الثامن والتاسع ذكروا أن جبريل عبر لدانيال رؤيا رآها وأنذره بخراب أورشليم. وذكر المفسرون أسبابا أخرى لبغضهم جبريل. ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من الله ويبغضونه وهذا من أحط دركات الأنحطاط في العقل والعقيدة ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تظافر آرائهم على الخطأ والأوهام.
وقوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الضمير المنصوب بـ"نزله" عائد للقرآن إما لأنه تقدم في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: من الآية91} وإما لأن الفعل لا يصلح إلا له هنا على حد {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ: 32] {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] وهذه الجملة قائمة مقام جواب الشرط. لظهور أن المراد أن لا موجب لعداوته لأنه واسطة أذنه الله بالنزول بالقرآن فهم بمعاداته إنما يعادون الله تعالى فالتقدير من كان عدوا لجبريل فلا يعاده وليعاد الله تعالى. وهذا الوجه أحسن مما ذكروه وأسعد بقوله تعالى {بِإِذْنِ اللَّهِ} وأظهر ارتباطا بقوله بعد من كان عدوا لله وملائكته كما ستعرفونه ويجوز أن يكون التقدير فإنه قد نزله عليك سواء أحبوه أم عادوه فيكون في معنى الإغاظة من باب {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]، كقول الربيع بن زياد:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت ساحتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسرا يندبنه ... بالليل قبل تبلج الإسفار
أي فلا يسر بمقتله فإنا قد قتلنا قاتله قبل طلوع الصباح فإن قاتله من أولياء من كان مسرورا بمقتله. ويجوز أن يكون المراد فإنه نزل به من عند الله مصدقا لكتابهم وفيه هدى وبشرى، وهذه حالة تقتضي محبة من جاء به فمن حمقهم ومكابرتهم عداوتهم لمن جاء به فالتقدير فقد خلع ربقة العقل أو حلية الإنصاف. والإتيان بحرف التوكيد في قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} لأنهم منكرون ذلك.
والقلب هنا بمعنى النفس وما به الحفظ والفهم، والعرب تطلق القلب على هذا الأمر المعنوي نحو {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [قّ: 37] كما يطلقونه أيضا على العضو الباطني النوبري كما قال:
كان قلوب الطير رطبا ويابسا
و {مصدقا} حال من الضمير المنصوب في {أنزله} أي القرآن الذي هو سبب عداوة اليهود لجبريل أي أنزله مقارنا لحالة لا توجب عداوتهم إياه لأنه أنزله مصدقا لما بين يديه من الكتب وذلك التوراة والإنجيل. والمصدق المخبر بصدق أحد. وأدخلت لام التقوية على مفعول {مصدقا} للدلالة على تقوية ذلك التصديق أي هو تصديق ثابت محقق لا يشوبه شيء من التكذيب ولا التخطئة فإن القرآن نوه بالتوراة والإنجيل ووصف كلا بأنه هدى ونور كما في سورة المائدة.
وتصديق الرسل السالفين من أول دلائل صدق المصدق لأن الدجاجلة المدعين النبوات يأتون بتكذيب من قبلهم لأن ما جاءوا به من الهدى يخالف ضلالات الدجالين فلا يسعهم تصديقهم ولذا حذر الأنبياء السابقون من المتنبئين الكذبة كما جاء في مواضع من التوراة والأناجيل.
والمراد بما بين يديه ما سبقته وهو كناية عن السبق لأن السابق يجيء قبل المسبوق ولما كان كناية عن السبق لم يناف طول المدة بين الكتب السابقة والقرآن ولأن اتصال العمل بها بين أممها إلى مجيء القرآن فجعل سبقهما مستمرا إلى وقت مجيء القرآن فكان سبقهما متصلا.
والهدى وصف للقرآن بالمصدر لقصد المبالغة في حصول الهدى به. والبشرى الإخبار بحصول أمر سار أو بترقب حصوله فالقرآن بشر المؤمنين بأنهم على هدى وكمال

ورضى من الله تعالى وبشرهم بأن الله سيؤتيهم خير الدنيا وخير الآخرة.
فقد حصل من الأوصاف الخمسة للقرآن وهي أنه منزل من عند الله بإذن الله. وأنه منزل على قلب الرسول. وأنه مصدق لما سبقه من الكتب. وأنه هاد أبلغ هدى. وأنه بشرى للمؤمنين، الثناء على القرآن بكرم الأصل. وكرم المقر. وكرم الفئة. ومفيض الخير على أتباعه الأخيار خيرا عاجلا. وواعد لهم بعاقبة الخير.
وهذه خصال الرجل الكريم محتده. وبيته. وقومه. السخي بالبذل الواعد به وهي خصال نظر إليها بيت زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج
وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ} الخ قد ظهر حسن موقعه بما علمتموه من وجه معنى {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي لما كانت عداوتهم جبريل لأجل عداوتهم الرسول ورجعت بالآخرة إلى إلزامهم بعداوتهم الله المرسل، لأن سبب العداوة هو مجيئه بالرسالة تسنى أن سجل عليهم أنهم أعداء الله لأنه المرسل، وأعداء رسله لأنهم عادوا الرسول، وأعداء الملائكة لذلك، فقد صارت عداوتهم جبريل كالحد الوسط في القياس لا يلتفت إليه وإنما يلتفت للمقدمتين الصغرى والكبرى فعداوتهم الله بمنزلة المقدمة الكبرى لأنها العلة في المعنى عند التأمل. وعداوتهم الرسول بمنزلة المقدمة الصغرى لأنها السبب الجزئي المثبت له فلا يرد أنه لا وجه لذكر عداوة الله تعالى هنا حتى يجاب بأن عداوة الملائكة والرسل عداوة لله على حد {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: من الآية80] فإن ذلك بعيد.
وقد أثبت عداوة الملائكة والرسل مع أنهم إنما عادوا جبريل ومحمدا لأنهم لما عادوهما عادوا جبريل لأجل قيامه بما هو من خصائص جنسه الملكي وهو تبليغ أمر الله التكليفي فإن ذلك خصيصتهم قال تعالى: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الانبياء: من الآية27] كانت عداوتهم إياه لأجل ذلك آيلة إلى عداوة جنس الملائكة إذ تلك طريق ليس جبريل فيها بأوحد وكذلك لما عادوا محمدا لأجل مجيئه بالرسالة لسبب خاص بذاته، كانت عداوتهم إياه آيلة إلى عداوة الوصف الذي هو قوام جنس الرسول فمن عادى واحدا كان حقيقا بأن يعاديهم كلهم وإلا كان فعله تحكما لا عذر له فيه. وخص جبريل بالذكر هنا لزيادة الاهتمام بعقاب معاديه وليذكر معه ميكائيل ولعلهم عاودهما معا أو لأنهم زعموا أن جبريل رسول الخسف والعذاب وأن ميكائيل رسول الخصب والسلام وقالوا نحن نحب ميكائيل

فلما أريد إنذارهم بأن عداوتهم الملائكة تجر إليهم عداوة الله وأعيد ذكر جبريل للتنويه به وعطف عليه ميكائيل لئلا يتوهموا أن محبتهم ميكائيل تكسب المؤمنين عداوته.
وفي ميكائيل لغات إحداها ميكائيل بهمزة بعد الألف وياء بعد الهمزة وبها قرأ الجمهور. الثانية ميكائل بهمزة بعد الألف وبلا ياء بعد الهمزة وبها قرأ نافع. الثالثة ميكال بدون همز ولا ياء وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة أهل الحجاز.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} جواب الشرط. والعدو مستعمل في معناه المجازي وهو ما يستلزمه من الانتقام والهلاك وأنه لا يفلته كما قال النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
البيت
وقوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] وما ظنك بمن عاداه الله. ولهذا ذكر اسم الجلالة بلفظه الظاهر ولم يقل فإني عدو أو فإنه عدو لما يشعر به الظاهر هنا من القدرة العظيمة على حد قول الخليفة أمير المؤمنين يأمر بكذا حثا على الامتثال. والمراد بالكافرين جميع الكافرين وجيء بالعام ليكون دخولهم فيه كإثبات الحكم بالدليل. وليدل على أن الله عاداهم لكفرهم، وأن تلك العداوة كفر. ولتكون الجملة تذييلا لما قبلها.
[99-101] {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
عطف على قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] عطف القصة على القصة لذكر كفرهم بالقرآن فهو من أحوالهم. وهاته الجملة جواب لقسم محذوف فعطفها على {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً} من عطف الإنشاء على الإنشاء وفيه زيادة إبطال لقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91]
وفي الانتقال إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إقبال عليه وتسلية له عما لقي منهم وأن ما أنزل

إليه لا يكذب به إلا من لا يؤبه بتكذيبه لكون هذا المنزل دلائل واضحة لا تقصر عن إقناعهم بأحقيتها ولكنهم يظهرون أنفسهم أنهم لم يوقنوا بحقيتها.
واللام موطئة لقسم محذوف فهنا جملة قسم وجوابه حذف القسم لدلالة اللام عليه.
وقوله: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} عطف على: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا} فهو جواب للقسم أيضا.
والفاسق هو الخارج عن شيء من فسقت التمرة كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة: من الآية26] وقد شاع إطلاقه على الخارج عن طريق الخير لأن ذلك الوصف في التمرة وصف مذموم وقد شاع في القرآن وصف اليهود به والمعنى ما يكفر بهاته الآيات إلا من كان الفسق شأنه ودأبه لأن ذلك يهيئه للكفر بمثل هذه الآيات فالمراد بالفاسقين المتجاوزون الحد في الكفر المتمردون فيه. والإخبار وقع بالمضارع الدال على التجدد. والتوصيف وقع باسم الفاعل المعرف باللام
وقوله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} استفهام مستعمل في التوبيخ معطوف على جملة القسم لا على خصوص الجواب وقدمت الهمزة محافظة على صدارتها كما هو شأنها مع حروف العطف. والقول بأن الهمزة للاستفهام عن مقدر محذوف والواو عاطفة ما بعدها على المحذوف علمتم إبطاله عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} وتقديم كلما تبع لتقديم حرف الاستفهام وقد تقدم توجيهه عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} [البقرة: 87]
والنبذ إلقاء الشيء من اليد وهو هنا استعارة لنقض العهد شبه إبطال العهد وعدم الوفاء به بطرح شيء كان ممسوكا باليد كما سموا المحافظة على العهد والوفاء به تمسكا قال كعب:
ولا تمسك بالوعد الذي وعدت
والمراد بالعهد عهد التوراة أي ما اشتملت عليه من أخذ العهد على بني إسرائيل بالعمل بما أمروا به أخذا مكررا حتى سميت التوراة بالعهد، وقد تكرر منهم نقض العهد مع أنبيائهم ومن جملة العهد الذي أخذ عليهم، أن يؤمنوا بالرسول المصدق للتوراة. وأسند النبذ إلى فريق إما باعتبار العصور التي نقضوا فيها العهود كما تؤذن به كلما أو احتراسا من شمول الذم للذين آمنوا منهم. وليس المراد أن ذلك الفريق قليل منهم فنبه على أنه

أكثرهم بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وهذا من أفانين البلاغة وهو أن يظهر المتكلم أنه يوفي حق خصمه في الجدال فلا ينسب له المذمة إلا بتدرج وتدبر قبل الإبطال. ولك أن تجعلها للانتقال من شيء إلى ما هو أقوى منه في ذلك الغرض لأن النبذ قد يكون بمعنى عدم العمل دون الكفر والأول أظهر.
وقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} إلخ معطوف على قوله: {أو كلما} عطف القصة على القصة لغرابة هاته الشئون. والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم لقوله: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} والنبذ طرح الشيء من اليد فهو يقتضي سبق الأخذ. وكتاب الله ظاهر في أنه المراد به القرآن لأنه الأتم في نسبته إلى الله. فالنبذ على هذا مراد به تركه بعد سماعه فنزل السماع منزلة الأخذ ونزل الكفر به بعد سماعه منزلة النبذ. وقيل المراد بكتاب الله التوراة وأشار في الكشاف إلى ترجيحه بالتقديم لأن النبذ يقتضي سابقة أخذ المنبوذ وهم لم يتمسكوا بالقرآن، والأصل في إطلاق اللفظ المفرد أنه حقيقة لفظا ومعنى وقيل المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى وفيه نظر لأن ذلك في إعادة الاسم المعرف باللام. أو تجعل النبذ تمثيلا لحال قلة اكتراث المعرض بالشيء فليس مرادا به معناه.
وقوله: {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} تمثيل للإعراض لأن من أعرض عن شيء تجاوزه فخلفه وراء ظهره وإضافة الوراء إلى الظهر لتأكيد بعد المتروك بحيث لا يلقاه بعد ذلك فجعل للظهر وراء وإن كان هو هنا بمعنى الوراء. فالإضافة كالبيانية وبهذا يجاب عما نقله ابن عرفة عن الفقيه أبي العباس أحمد بن عبلون أنه كان يقول مقتضى هذا أنهم طرحوا كتاب الله أمامهم لأن الذي وراء الظهر هو الوجه وكما أن الظهر خلف للوجه كذلك الوجه وراء للظهر قال ابن عرفة وأجيب بأن المراد أي بذكر الظهر تأكيد لمعنى وراء كقولهم من وراء وراء.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} تسجيل عليهم بأنهم عالمون بأن القرآن كتاب الله أو كأنهم لا يعلمون التوراة وما فيها من البشارة ببعثة الرسول من ولد إسماعيل.
[102] {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا

يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}
قوله: {واتبعوا} عطف على جملة الشرط وجوابه في قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 101] الآية بذكر خصلة لهم عجيبة وهي أخذهم بالأباطيل بعد ذكر خصلة أخرى وهي نبذهم للكتاب الحق فذلك هو مناسبة عطف هذا الخبر على الذي قبله. فإن كان المراد بكتاب الله في قوله: {كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة: 101] القرآن فالمعنى أنهم لما جاءهم رسول الله مصدقا لما معهم نبذوا كتابه بعلة أنهم متمسكون بالتوراة فلا يتبعون ما خالف أحكامها وقد اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وهو مخالف للتوراة لأنها تنهي عن السحر والشرك فكما قيل لهم فيما مضى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} [البقرة: 85] يقال لهم أفتؤمنون بالكتاب تارة وتكفرون به تارة أخرى. وإن كان المراد بكتاب الله التوراة فالمعنى لما جاءهم رسول الله نبذوا ما في التوراة من دلائل صدق هذا الرسول وهم مع ذلك قد نبذوها من قبل حين: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} مع أن ذلك مخالف لأحكام التوراة.
قال القرطبي قال ابن إسحاق لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سليمان في الأنبياء قالت اليهود إن محمدا يزعم أن سليمان نبي وما هو بنبي ولكنه ساحر فنزلت هذه الآية
و {الشياطين} يحتمل أن يكونوا شياطين من الجن وهو الإطلاق المشهور. ويحتمل أن يراد به ناس تمردوا وكفروا وأتوا بالفظائع الخفية فأطلق عليهم الشياطين على وجه التشبيه كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] وقرينة ذلك قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فإنه ظاهر في أنهم يدرسونه للناس وكذلك قوله بعده: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} إذ هذا الاستدراك في الإخبار يدل على أنهم من الإنس لأن كفر الشياطين من الجن أمر مقرر لا يحتاج للإخبار عنه.
وعن ابن إسحاق أيضا أنه لما مات سليمان عليه السلام عمدت الشياطين فكتبوا أصنافا من السحر وقالوا من أحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا لأصناف من السحر وختموه بخاتم يشبه نقش خاتم سليمان ونسبوه إليه ودفنوه وزعموا أن سليمان دفنه وأنهم

يعلمون مدفنه ودلوا الناس على ذلك الموضع فأخرجوه فقالت اليهود ما كان سليمان إلا ساحرا وما تم له الملك إلا بهذا.
وقيل كان آصف ابن برخيا1 كاتب سليمان يكتب الحكمة بأمر سليمان ويدفن كتبه تحت كرسي سليمان لتجدها الأجيال فلما مات سليمان أغرت الشياطين الناس على إخراج تلك الكتب وزادوا في خلال سطورها سحرا وكفرا ونسبوا الجميع لسليمان فقالت اليهود كفر سليمان.
والمراد من الآية مع سبب نزولها إن نزلت عن سبب أن سليمان عليه السلام لما مات انقسمت مملكة إسرائيل بعده بقليل إلى مملكتين إحداهما مملكة يهوذا وملكها رحبعام ابن سليمان جعلوه ملكا بعد أبيه وكانت بنو إسرائيل قد سئمت ملك سليمان لحمله إياهم على ما يخالف هواهم فجاءت أعيانهم وفي مقدمتهم يربعام بن نباط مولى سليمان ليكلموا رحبعام قائلين إن أباك قاس علينا وأما أنت فخفف عنا من عبودية أبيك لنطيعك فأجابهم إذهبوا ثم ارجعوا إلى بعد ثلاثة أيام واستشار رحبعام أصحاب أبيه ووزراءه فأشاروا عليه بملاينة الأمة لتطيعه. واستشار أصحابه من الفتيان فأشاروا عليه أن يقول للأمة ان خنصرى أغلظ من متن أبي فإذا كان أبي قد أدبكم بالسياط فأنا أؤدبكم بالعقارب فلما رجع إليه شيوخ بني إسرائيل في اليوم الثالث وأجابهم بما أشار به الأحداث خلعت بنو إسرائيل طاعته وملكوا عليهم يربعام ولم يبق على طاعة رحبعام إلا سبطا يهوذ وبنيا من واعتصم رحبعام بأورشليم وكل أمته لا تزيد على مائة وثمانين ألف محارب يعني رجالا قادرين على حمل السلاح وانقسمت المملكة من يؤمئذ إلى مملكتين مملكة يهوذا وقاعدتها أورشليم. ومملكة إسرائيل ومقرها السامرة. وذلك سنة 975 قبل المسيح كما قدمناه عند الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} [البقرة: من الآية62] الآية ولا يخفي ما تكون عليه حالة أمة في هذا الانتقال فإن خصوم رحبعام لما سلبوا منه القوة المادية لم يغفلوا عما يعتضد به من القوة الأدبية وهي كونه ابن سليمان بن داود من
ـــــــ
1 آصف بن برخيا يعده مؤرخو المسلمين وزيرا لسليمان حكيما كبيرا ولذلك ضربوا به الأمثال للسياسيين الناصحين ولكن هذا ليس بمعروف في كتب الإسرائيليين والمعروف عندهم آسف بن برخيا أحد أئمة المغنين عند داود الملك وينسب إليه وضع بعض المزامير والأغاني المقدسة.
فلعله قد عاش إلى زمن سليمان فاتخذه وزيرا لأنه من خواص أبيه وإٍن لم يكن هذا "لاروس" ولا "البستاني".

بيت الملك والنبوءة والسمعة الحسنة فلم يأل أعداؤه جهدهم من إسقاط هاته القوة الأدبية وذلك بأن اجتمع مدبرو الأمر على أن يضعوا أكاذيب عن سليمان يبثونها في العامة ليقضوا بها وطرين أحدهما نسبة سليمان إلى السحر والكفر لتنقيص سمعة ابنه رحبعام كما صنع دعاة الدولة العباسية فيما وضعوه من الأخبار عن بني أمية والثاني تشجيع العامة الذين كانوا يستعظمون ملك سليمان وابنه على الخروج عن طاعة ابنه بأن سليمان ما تم له الملك إلا بتلك الأسحار والطلاسم وأنهم لما ظفروا بها فإنهم يستطيعون أن يؤسسوا ملكا يماثل ملك سليمان كما صنع دعاة انقلاب الدول في تاريخ الإسلام من وضع أحاديث انتظار المهدي وكما يفعلونه من بث أخبار عن الصالحين تؤذن بقرب زوال الدولة. ولا يخفي ما تثيره هذه الأوهام في نفوس العامة من الجزم بنجاح السعي وجعلهم في مأمن من خيبة أعمالهم ولحاق التنكيل بهم فإذا قضي الوطر بذلك الخبر التصق أثره في الناس فيبقى ضر ضلاله بعد اجتناء ثماره.
والاتباع في الأصل هو المشي وراء الغير ويكون مجازا في العمل بقول الغير وبرأيه وفي الاعتقاد باعتقاد الغير تقول اتبع مذهب مالك واتبع عقيدة الأشعري، والاتباع هنا مجاز لا محالة لوقوع مفعوله مما لا يصح اتباعه حقيقة.
والتلاوة قراءة المكتوب والكتاب وعرض المحفوظ عن ظهر قلب وفعلها يتعدى بنفسه {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ1} [الزمر: من الآية71] فتعديته بحرف الاستعلاء يدل على تضمنه معنى تكذب أي تتلو تلاوة كذب على ملك سليمان كما يقال تقول على فلان أي قال عليه ما لم يقله، وإنما فهم ذلك من حرف "على".
والمراد بالملك هنا مدة الملك أو سبب الملك بقرينة أن التلاوة لا تتعلق بنفس الملك وحذف المضاف مع ما يدل على تعيين الوقت شائع في كلام العرب كقولهم وقع هذا في حياة رسول الله أو في خلافة عمر بن الخطاب وقول حميد ابن ثور:
وما هي إلا في إزار وعلقة ... مغار ابن همام على حي خثعما2
يريد أزمان مغار ابن همام. وكذلك حذف المضاف إذا أريد به الحوادث أو الأسباب كما تقول تكلم فلان على خلافة عمر أو هذا كتاب في ملك العباسيين وذلك أن
ـــــــ
1 في المطبوعة {آياتي} وهو خطأ. "مصححه".
2 العلقة بكسر العين قميص بلا كمين وهو أول ثوب يتخذ للصبيان.

الاسم إذا اشتهر بصفة أو قصة صح إطلاقه وإرادة تلك الصفة أو القصة بحيث لو ظهرت لكانت مضافة إلى الاسم، قال النابغة:
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
أراد متاعب ليل لأن الليل قد اشتهر عند أهل الغرام بأنه وقت الشوق والأرق.
والشياطين قيل أريد بها شياطين الإنس أي المضللون وهو الظاهر. وقيل أريدت شياطين الجن وأل للجنس على الوجهين. وعندي أن المراد بالشياطين أهل الحيل والسحرة كما يقولون فلان من شياطين العرب وقد عد من أولئك ناشب الأعور أحد رجال يوم الوقيط.
وقوله {تتلوا} جاء بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية على ما قاله الجماعة. أو هو مضارع على بابه على ما اخترناه من أن الشياطين هم أحبارهم فإنهم لم يزالوا يتلون ذلك فيكون المعنى أنهم اتبعوا أي اعتقدوا ما تلته الشياطين ولم تزل تتلوه.
وسليمان هو النبي سليمان بن داود بن يسي من سبط يهوذا ولد سنة 1032 اثنتين وثلاثين وألف قبل المسيح وتوفي في أورشليم سنة 975 خمس وسبعين وتسعمائة قبل المسيح وولى ملك إسرائيل سنة 1014 أربع عشرة وألف قبل المسيح بعد وفاة أبيه داود النبي ملك إسرائيل، وعظم ملك بني إسرائيل في مدته وهو الذي أمر ببناء مسجد بيت المقدس وكان نبيا حكيما شاعرا وجعل لمملكته أسطولا بحريا عظيما كانت تمخر سفنه البحار إلى جهات قاصية مثل شرق إفريقيا.
وقوله {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} جملة معترضة أثار اعتراضها ما أشعر به قوله {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} من معنى أنهم كذبوا على سليمان ونسبوه إلى الكفر فهي معترضة بين جملة {واتبعوا} وبين قوله {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} إن كان {وَمَا أُنْزِلَ} معطوفا على {ما قتلوا} وبين {اتبعو} وبين {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} الخ إن كان {وَمَا أُنْزِلَ} معطوفا على السحر، ولك أن تجعله معطوفا على واتبعوا إذا كان المراد من الشياطين أحبار اليهود لأن هذا الحكم حينئذ من جملة أحوال اليهود لأن مآله واتبعوا وكفروا وما كفر سليمان ولكنه قدم نفي كفر سليمان لأنه الأهم تعجيلا بإثبات نزاهته وعصمته ولأن اعتقاد كفره كان سبب ضلال للذين اتبعوا ما كتبته الشياطين فلا شك أن حكم الأتباع وحكم المتبوعين واحد فكان خبرا عن اليهود كذلك.

وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان في كتبهم فقد جاء في سفر الملوك الأول أن سليمان في زمن شيخوخته أمالت نساؤه المصريات والصيدونيات والعمونيات قلبه إلى آلهتهن مثل "عشتروت" إله الصيدونيين "ومولوك" إله العمونيين "الفينيقيين" وبني لهاته الآلهة هياكل فغضب الله عليه لأن قلبه مال عن إله إسرائيل الذي أوصاه أن لا يتبع آلهة أخرى.
وقوله {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} حال من ضمير {كفروا} والمقصد منه تشنيع حال كفرهم إذ كان مصحوبا بتعليم السحر على حد قوله كفر دون كفر فهي حال مؤسسة.
والسحر الشعوذة وهي تمويه الحيل بإخفائها تحت حركات وأحوال يظن الرائي أنها هي المؤثرة مع أن المؤثر خفي قال تعالى {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15]
ولذلك أطلق السحر على الخديعة تقول سحرت الصبي إذا عللته بشيء. قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
ثم أطلق على ما علم ظاهره وخفي سببه وهو التمويه والتلبيس وتخييل غير الواقع واقعا وترويج المحال تقول العرب عنز مسحورة إذا عظم ضرعها وقل لبنها وأرض مسحورة لا تنبت قال أبو عطاء:
فو الله ما أدري وإني لصادق ... أداء عراني من حبابك أم سحر
أي شيء لا يعرف سببه. والعرب تزعم أن الغيلان سحرة الجن لما تتشكل به من الأشكال وتعرضها للإنسان.
والسحر من المعارف القديمة التي ظهرت في منبع المدينة الأولى أعني ببلاد المشرق فإنه ظهر في بلاد الكلدان والبابلين وفي مصر في عصر واحد وذلك في القرن الأربعين قبل المسيح مما يدل على أنها كانت في تينك الأمتين من تعاليم قوم نشأوا قبلهما فقد وجدت آثار مصرية سحرية في عصر العائلة الخامسة من الفراعنة والعائلة السادسة 3951- 3703 ق.م.
وللعرب في السحر خيال واسع وهو أنهم يزعمون أن السحر يقلب الأعيان ويقلب القلوب ويطوع المسحور للساحر ولذلك كانوا يقولون إن الغول ساحرة الجن ولذلك تتشكل للرائي بأشكال مختلفة. وقالت قريش لما رأوا معجزات رسول الله: إنه ساحر، قال الله تعالى {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2] وقال الله تعالى:

{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15] وفي حديث البخاري عن عمران ابن حصين أن القوم عطشوا في سفر مع رسول الله فطلبوا الماء فوجدوا امرأة على بعير لها مزاداتان من ماء فأتيا بها رسول الله فسقي رسول الله جميع الجيش ثم رد إليها مزادتيها كاملتين فقالت لقومها: فو الله إنه لأسحر من بين هذه وهذه، تعني السماء والأرض وفي الحديث "إن من البيان لسحرا" . ولم أر ما يدل على أن العرب كانوا يتعاطون السحر فإن السحر مستمد من خصائص الأمور الطبيعية والتركيب ولم يكن للعرب ضلاعة في الأمور اليدوية بل كانت ضلاعتهم فكرية محضة، وكان العرب يزعمون أن أعلم الناس بالسحر اليهود والصابئة وهم أهل بابل، ومساق الآية يدل على شهرة هؤلاء بالسحر عند العرب. وقد اعتقد المسلمون أن اليهود في يثرب سحروهم فلا يولد لهم فلذلك استبشروا لما ولد عبد الله بن الزبير وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة كما في صحيح البخاري. ولذلك لم يكثر ذكر السحر بين العرب المسلمين إلا بعد أن هاجروا إلى المدينة إذ قد كان فيها اليهود وكانوا يوهمون بأنهم يسحرون الناس.
ويداوي من السحر العراف ودواء السحر السلوة وهي خرزات معروفة تحك في الماء ويشرب ماؤها. وورد في التوراة النهي عن السحر فهو معدود من خصال الشرك وقد وصفت التوراة به أهل الأصنام فقد جاء في سفر التثنية في الإصحاح 18 إذا دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يزج ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقى رقية ولا من يسأل جانا أو تابعة ولا من يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب.
وفي سفر اللاويين الإصحاح 20 6 والنفس التي تلتفت إلى الجان وإلى التوابع لتزني وراءهم أجعل وجهي ضد تلك النفس وأقطعها من شعبها 27 وإذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة فإنه يقتل بالحجارة يرجمونه دمه عليه.
وكانوا يجعلونه أصلا دينيا لمخاطبة أرواح الموتى وتسخير الشياطين وشفاء الأمراض وقد استفحل أمره في بلد الكلدان وخلطوه بعلوم النجوم وعلم الطب.
وأرجع المصريون المعارف السحرية إلى جملة العلوم الرياضية التي أفاضها عليهم طوط الذي يزعمون أنه إدريس وهو هرمس عند اليونان. وقد استخدم الكلدان

والمصريون فيه أسرارا من العلوم الطبيعية والفلسفية والروحية قصدا لإخراج الأشياء في أبهر مظاهرها حتى تكون فاتنة أو خادعة وظاهرة، كخوارق عادات، إلا أنه شاع عند عامتهم وبعد ضلالهم عن المقصد العلمي منه فصار عبارة عن التمويه والتضليل وإخراج الباطل في صورة الحق، أو القبيح في صورة حسنة أو المضر في صورة النافع.
وقد صار عند الكلدان والمصريين خاصية في يد الكهنة وهم يومئذ أهل العلم من القوم الذين يجمعون في ذواتهم الرئاسة الدينية والعلمية فاتخذوا قواعد العلوم الرياضية والفلسفية والأخلاقية لتسخير العامة إليهم وإخضاعهم بما يظهرونه من المقدرة على علاج الأمراض والاطلاع على الضمائر بواسطة الفراسة والتأثير بالعين وبالمكائد.
وقد نقلته الأمم عن هاتين الأمتين وأكثر ما نقلوه عن الكلدانيين فاقتبسه منهم السريان الأشوريون واليهود والعرب وسائر الأمم المتدينة والفرس واليونان والرومان.
وأصول السحر ثلاثة:
الأول : زجر النفوس بمقدمات توهيمية وإرهابية بما يعتاده الساحر من التأثير النفساني في نفسه ومن الضعف في نفس المسحور ومن سوابق شاهدها المسحور واعتقدها فإذا توجه إليه الساحر سخر له وإلى هذا الأصل الإشارة بقوله تعالى في ذكر سحرة فرعون: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف: 116]
الثاني : استخدام مؤثرات من خصائص الأجسام من الحيوان والمعدن وهذا يرجع إلى خصائص طبيعية كخاصية الزئبق ومن ذلك العقاقير المؤثرة في العقول صلاحا أو فسادا والمفترة للعزائم والمخدرات والمرقدات على تفاوت تأثيرها وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى في سحرة فرعون: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69]
الثالث : الشعوذة واستخدام خفايا الحركة والسرعة والتموج حتى يخيل الجماد متحركا وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]
هذه أصول السحر بالاستقراء وقد قسمها الفخر في التفسير إلى ثمانية أقسام لا تعدو هذه الأصول الثلاثة وفي بعضها تداخل. ولعلماء الإفرنج تقسيم آخر ليس فيه كبير جدوى.
وهذه الأصول الثلاثة كلها أعمال مباشرة للمسحور ومتصلة به ولها تأثير عليه بمقدار قابلية نفسه الضعيفة وهو لا يتفطن لها، ومجموعها هو الذي أشارت إليه الآية، وهو الذي

لا خلاف في إثباته على الجملة دون تفصيل، وما عداها من الأوهام والمزاعم هو شيء لا أثر له وذلك كل عمل لا مباشرة له بذات من يراد سحره ويكون غائبا عنه فيدعى أنه يؤثر فيه، وهذا مثل رسم أشكال يعبر عنها بالطلاسم، أو عقد خيوط والنفث عليها برقيات معينة تتضمن الاستنجاد بالكواكب أو بأسماء الشياطين والجن وآلهة الأقدميين، وكذا كتابة اسم المسحور في أشكال. أو وضع صورته أو بعض ثيابه وعلائقه وتوجيه كلام إليها بزعم أنه يؤثر ذلك في حقيقة ذات المسحور، أو يستعملون إشارات خاصة نحو جهته أو نحو بلده وهو ما يسمونه بالأرصاد وذكر أبو بكر ابن العربي في القبس أن قريشا لما أشار النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه في التشهد قالوا هذا محمد يسحر الناس، أو جمع أجزاء معينة وضم بعضها إلى بعض مع نية أن ذلك الرسم أو الجمع لتأثير شخص معين بضر أو خير أو محبة أو بغضة أو مرض أو سلامة، ولا سيما إذا قرن باسم المسحور وصورته أو بطالع ميلاده، فذلك كله من التوهمات وليس على تأثيرها دليل من العقل ولا من الطبع ولا ما يثبته من الشرع، وقد انحصرت أدلة إثبات الحقائق في هذه الأدلة، ومن العجائب أن الفخر في التفسير حاول إثباته بما ليس بمقنع.
وقد تمسك جماعة لإثبات تأثير هذا النوع من السحر بما روى في الصحيحين عن قول عائشة أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أن ملكين أخبراه بذلك السحر، وفي النسائي عن زيد بن أرقم مثله مختصرا، وينبغي التثبت في عباراته ثم في تأويله، ولا شك أن لبيدا حاول أن يسحر النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان اليهود سحرة في المدينة وأن الله أطلع رسوله على ما فعله لبيد لتكون معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في أبطال سحر لبيد وليعلم اليهود أنه نبي لا تلحقه أضرارهم وكما لم يؤثر سحر السحرة على موسى كذلك لم يؤثر سحر لبيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عرض للنبي صلى الله عليه وسلم عارض جسدي شفاه الله منه فصادف أن كان مقارنا لما عمله لبيد بن الأعصم من محاولة سحره وكانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم إنباء من الله له بما صنع لبيد، والعبارة عن صورة تلك الرؤيا كانت مجملة فإن الرأي رموز ولم يرد في الخبر تعبير ما اشتملت عليه فلا تكون أصلا لتفصيل القصة.
ثم إن لتأثير هاته الأسباب أو الأصول الثلاثة شروطا وأحوالا بعضها في ذات الساحر وبعضها في ذات المسحور، فيلزم في الساحر أن يكون مفرط الذكاء منقطعا لتجديد المحاولات السحرية جسورا قوي الإرادة كتوما للسر قليل الاضطراب للحوادث سالم البنية مرتاض الفكر خفي الكيد والحيلة، ولذلك كان غالب السحرة رجالا ولكن كان

الحبشة يجعلون السواحر نساء وكذلك كان الغالب في الفرس والعرب قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]
فجاء بجمع الإناث وكانت الجاهلية تقول إن الغيلان عجائز من الجن ساحرات فلذلك تستطيع التشكل بأشكال مختلفة، وكان معلمو السحر يمتحنون صلاحية تلامذتهم لهذا العلم بتعريضهم للمخاوف وأمرهم بارتكاب المشاق تجربة لمقدار عزائمهم وطاعتهم.
وأما ما يلزم في المسحور فخور العقل، وضعف العزيمة، ولطافة البنية، وجهالة العقل، ولذلك كان أكثر الناس قابلية له النساء والصبيان والعامة ومن يتعجب في كل شيء. ولذلك كان من أصول السحر إلقاء أقوال كاذبة على المسحور لاختبار مقدار عقله في التصديق بالأشياء الواهية والثقة بالساحر، قال تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7] فجعلوا ذلك القول الغريب سحرا.
ثم تحف بالسحر أعمال القصد منها وهذه الأعمال أنواع.
نوع: الغرض منه تقوية اعتقاد الساحر في نجاح عمله لتقوى عزيمته فيشتد تأثيره على النفوس وهذا مثل تلقين معلمي هذا الفن تلامذتهم عبادة كواكب ومناجاتها لاستخدام أرواحها والاستنجاد بتلك الأرواح على استخدام الجن والقوى المتعاصية ليعتقد المتعلم أن ذلك سبب نجاح عمله فيقدم عليه بعزم، وفي ذلك تأثير نفساني عجيب ولذلك يسمون تلك الأقوال والمناجاة عزائم جمع عزيمة ويقولون فلان يعزم إذا كان يسحر، ثم هو إذا استكمل المعرفة قد يتفطن لقلة جدوى تلك العزائم وقد لا يتفطن وعلى كلتا الحالتين فمعلموه لا يتعرضون له في نهاية التعليم بالتنبيه على فساد ذلك لئلا يدخلوا عليه الشكوك في مقدرته، فلذلك بقيت تلك الأوهام يتلقاها الأخلاف عن أسلافهم، ومن هذا النوع ضروب هي في الأصل تجارب لمقدار طاعة المتعلم لمعلمه بقيت متلقاة عندهم عن غير بصيرة مثل ارتكاب الخبائث وإهانة الصالحات والأمور المقدسة إيهاما بأنها تبلغ إلى مرضاة الشياطين وتسخيرها، وذلك في الواقع اختبار لمقدار خضوع المتعلم، لأن أكبر شيء على النفس نبذ أعز الأشياء وهو الدين، ولأن السحرة ليسوا من المليين فهم يبلغون بمريديهم إلى مبالغهم السافلة، وقد سمعنا أن كثيرا ممن يتعاطون السحر في المسلمين يزعمون أنهم لا يتأتى لهم نجاح إلا بعد أن يلطخوا أيديهم بالنجاسات أو نحو من هذا الضلال.

ونوع: الغرض منه إخفاء الأسباب الحقيقية لتمويهاتهم حتى لا يطلع الناس على كنهها، فيستندون في تعليل أعمالهم إلى أسباب كاذبة كندائهم بأسماء سموها لا مسميات لها ووضعهم أشكالا على الورق أو في الجدران يزعمون أن لها خصائص التأثير، واستنادهم لطوالع كواكب في أوقات معينة لا سيما القمر، ومن هذا تظاهرهم للناس بمظهر الزهد والهمة.
ونوع: يستعان به على نفوذ السحر وهو التجسس والتطلع على خفايا الأشياء وأسرار الناس بواسطة السعي بالنميمة وإلقاء العداوات بين الأقارب والأصحاب والأزواج حتى يفشي كل منهم سر الآخر فيتخذ الساحر تلك الأسرار وسيلة يلقي بها الرعب في قلوب أصحابها بإظهار أنه يعلم الغيب والضمائر، ثم هو يأمر أولئك الذين أرهبهم ويستخدمهم بما يشاء فيطيعونه فيأمر المرأة بمغاضبة زوجها وطلب فراقه ويأمر الزوج بطلاق زوجته وهكذا، وفي هذا القسم تظهر مقدرة الساحر الفكرية وبه تكثر أضراره وأخطاره على الناس وجرأته على ارتكاب المرعبات والمطوعات باستئصال الأموال بالسرقة يسرقها من لا يتهمه المسروق، ومنه أنه يفعل ذلك من خاصته وأبنائه وزوجه الذين يستهويهم السحرة ويسخرونهم للإخلاص لهم، وينتهي فعل السحرة في هذا إلى حد إزهاق النفوس التي يشعرون بأنها تفطنت لخديعتهم أو التي تعاصت عن امتثال أوامرهم يغرون بها من هي آمن الناس منه، ثم استطلاع ضمائر الناس بتقريرات خفية وأسئلة تدريجية يوهمه بها أنه يسأله عنها ليعلمه بمستقبله.
ونوع: يجعل اختبار لمقدار مراتب أذهان الناس في قابلية سحره وذلك بوضع أشياء في الأطعمة خيفة الظهور ليرى هل يتفطن لها من وضعها، وبإبراز خيالات أو أشباح يوهم بها الناظر أنها جن أو شياطين أو أرواح، وما هي إلا أشكال مموهة أو أعوان من أعوانه متنكرة، لينظر هل يقتنع رائيها بما أخبره الساحر عنها أم يتطلب كشف حقيقتها أو استقصاء أثرها.
فكان السحر قرين خباثة نفس، وفساد دين، وشر عمل، وإرعاب وتهويل على الناس، من أجل ذلك ما فتئت الأديان الحقة تحذر الناس منه وتعد الاشتغال به مروقا عن طاعة الله تعالى لأنه مبني على اعتقاد تأثير الآلهة والجن المنسوبين إلى الآلهة في عقائد الأقدمين، وقد حذر موسى قومه من السحر وأهله ففي سفر التثنية الإصحاح 18 أن مما خاطب به موسى عليه السلام قومه متى دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تتعلم

أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يجيز1 ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقى رقية ولا من يسأل جانا أو تابعة ولا من يستثير الموتى. وجعلت التوراة جزاء السحرة القتل ففي سفر اللاويين الإصحاحين 20 - 27 "وإذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة فإنه يقتل" وذكروا عن مالك أنه قال الأسماء التي يكتبها السحرة في التمائم أسماء أصنام.
وقد حذر الإسلام من عمل السحر وذمه في مواضع وليس ذلك بمقتضى إثبات حقيقة وجودية للسحر على الإطلاق ولكنه تحذير من فساد العقائد وخلع قيود الديانة ومن سخيف الأخلاق.
وقد اختلف علماء الإسلام في إثبات حقيقة السحر وإنكارها وهو اختلاف في الأحوال فيما أراه فكل فريق نظر إلى صنف من أصناف ما يدعى بالسحر. وحكى عياض في إكمال العلم أن جمهور أهل السنة ذهبوا إلى إثبات حقيقته. قلت وليس في كلامهم وصف كيفية السحر الذي أثبتوا حقيقته فإنما أثبتوه على الجملة. وذهب عامة المعتزلة إلى أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تمويه وتخييل وأنه ضرب من الخفة والشعوذة ووافقهم على ذلك بعض أهل السنة كما اقتضته حكاية عياض في الإكمال، قلت وممن سمي منهم أبو إسحاق الاستر ابادي من الشافعية. والمسألة بحذافرها من مسائل الفروع الفقهية تدخل في عقاب المرتدين والقاتلين والمتحيلين على الأموال، ولا تدخل في أصول الدين. وهو وإن أنكره الملاحدة لا يقتضي أن يكون إنكاره إلحادا. وهذه الآية غير صريحة. وأما الحديث فقد علمته آنفا.
وشدد الفقهاء العقوبة في تعاطيه. قال مالك: يقتل الساحر ولا يستتاب إن كان مسلما وإن كان ذميا لا يقتل بل يؤدب إلا إذا أدخل بسحره أضرارا على مسلم فإنه يقتل لأنه يكون ناقضا للعهد لأن من جملة العهد أن لا يتعرضوا للمسلمين بالأذى قال الباجي في المنتقى2 رأى مالك أن السحر كفر وشرك ودليل عليه وإنه لما كان يستتر صاحبه بفعله فهو كالزندقة لأجل إظهار الإسلام وإبطان الكفر ولذلك قال ابن عبد الحكم وابن المواز وأصبغ هو كالزنديق إن أسر السحر لا يستتاب وإن أظهره استتيب وهو تفسير لقول
ـــــــ
1 "المنتقى" للباجي 7/117. جامع العقل. قتل الغيلة "مصححه".
2 كذا ولعل المراد من يرج أو يجوز به.

مالك لا خلاف له قال الباجي فلا يقتل حتى يثبت أن ما يفعله من السحر هو الذي وصفه الله بأنه كفر قال أصبغ يكشف ذلك من يعرف حقيقته ويثبت ذلك عند الإمام.
وفي الكافي لابن عبد البر إذا عمل السحر لأجل القتل وقتل به قتل وان لم يكن كفرا، وقد أدخل مالك في الموطأ السحر في باب الغيلة، فقال ابن العربي في القبس وجه ذلك أن المسحور لا يعلم بعمل السحر حتى يقع فيه، قلت لا شك أن السحر الذي جعل جزاؤه القتل هو ما كان كفرا صريحا مع الاستتار به أو حصل به إهلاك النفوس وذلك أن الساحر كان يعد من يأتيه للسحر بأن فلانا يموت الليلة أو غدا أو يصيبه جنون ثم يتحيل في إيصال سموم خفية من العقاقير إلى المسحور تلقى له في الطعام بواسطة أناس من أهل المسحور فيصبح المسحور ميتا أو مختل العقل فهذا هو مراد مالك بأن جزاءه القتل أي إن قتل ولذلك قال لا تقبل توبته وبدون هذا التأويل لا يصح فقه هذه المسألة، فقول مالك في السحر ليس استنادا لدليل معين في خصوص السحر ولكنه من باب تحقيق المناط بتطبيق قواعد التعزير والإضرار، ولبعض فقهاء المذهب في حكاية هذه المسألة إطلاقات عجيب صدورها من أمثالهم، على أن السحر أكثر ما يتطلب لأجل تسخير المحبين محبوبيهم فهو وسيلة في الغالب للزنا أو للانتقام من المحبوب أو الزوج. سئل مالك عمن يعقد الرجال عن النساء وعن الجارية تطعم رجلا شيئا فيذهب عقله فقال لا يقتلان فأما الذي يعقد فيؤدب وأما الجارية فقد أتت أمرا عظيما قيل أفتقتل فقال لا قال ابن رشد في البيان رأى أن فعلها ليس من السحر اه.
وقال أبو حنيفة يقتل الرجل الساحر ولا يستتاب وأما المرأة فتحبس حتى تتركه فجعل حكمه حكم المرتد ووجه أبو يوسف بأنه جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد. وعن الشيخ أبي منصور أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا، وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب ومن قال لا تقبل فقد خلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم ا ه. وهذا استدلال بشرع من قبلنا.
وقال الشافعي يسأل الساحر عن سحره فإن ظهر منه ما هو كفر فهو كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل وإن ظهر منه تجويز تغيير الأشكال لأسباب قراءة تلك الأساطير أو تدخين الأدوية وعلم أنه يفعل محرما فحكمه حكم الجناية فإن اعترف بسحر إنسان وأن سحره

يقتل غالبا قتل قودا يعني إذا ثبت أنه مات بسببه وإن قال إن سحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه عمد، وإن كان سحره لغير القتل فمات منه فهو قتل خطأ تجب الدية فيه مخففة في ماله.
ويجب أن يستخلص من اختلافهم ومن مفترق أقوالهم ما يكون فيه بصيرة لإجراء أعمال ما يسمى بالسحر وصاحبه بالساحر مجرى جنايات أمثاله ومقدار ما أثره من الاعتداء دون مبالغة ولا أوهام، وقد يطلق اسم الساحر اليوم على اللاعب بالشعوذة في الأسمار وذلك من أصناف اللهو فلا ينبغي عد ذلك جناية.
{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}
يتعين أن "ما" موصولة وهو معطوف على قوله: {مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي وما تتلوا الشياطين على ما أنزل على الملكين، والمراد بما أنزل ضرب من السحر لكنه سحر يشتمل على كفر عظيم وتعليم الخضوع لغير الله مع الاستخفاف بالدين ومع الإضرار بالناس كما بيناه آنفا فيكون عطفا على {مَا تَتْلُوا} الذي هو صادق على السحر فعطف ما أنزل عليه لأنه نوع منه أشد مما تتلوه الشياطين الذين كانوا يعلمونه الناس مع السحر الموضوع منهم، فالعطف لتغاير الاعتبار أو للتنبيه على أن أصل السحر مقتبس مما ظهر ببابل في زمن هذين المعلمين وعطف شيء على نفسه باعتبار تغاير المفهوم والاعتبار وارد في كلامهم كقول الشاعر وهو من شواهد النحو:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
وقيل أريد من السحر أخف مما وضعته الشياطين على عهد سليمان لأن غاية ما وصف به هذا الذي ظهر ببابل في زمن هذين المعلمين أنه يفرق بين المرء وزوجه وذلك ليس بكفر وفيه ضعف.
والقراءة المتواترة الملكين بفتح لام الملكين وقرأه ابن عباس والضحاك والحسن وابن أبزي بكسر اللام.
وكل هاته الوجوه تقتضي ثبوت نزول شيء على الملكين ببابل وذلك هو الذي يعنيه سياق الآية إذا فصلت كيفية تعليم هذين المعلمين علم السحر.

فالوجه أن قوله: {وَمَا أُنْزِلَ} عطف على {مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فهو معمول لتتلوا الذي هو بمعنى تكذب فيكون المراد عدم صحة هذا الخبر أي ما تكذبه الشياطين على ما أنزل على الملكين ببابل، أي ينسبون بعض السحر إلى ما أنزل ببابل. قال الفخر وهو اختيار أبي مسلم وأنكر أبو مسلم أن يكون السحر نازلا على الملكين إذ لا يجوز أمر الله به وكيف يتولى الملائكة تعليمه مع أنه كفر أو فسق،
وقيل "ما" نافية معطوفة على "ما كفر سليمان" أي وما كفر سليمان بوضع السحر كما يزعم الذين وضعوه، ولا أنزل السحر على الملكين ببابل. وتعريف الملكين تعريف الجنس أو هو تعريف العهد بأن يكون الملكان معهودين لدى العارفين بقصة ظهور السحر، وقد قيل إن "هاروت وماروت" بدل من "الشياطين" وأن المراد بالشياطين شيطانا وضعا السحر للناس هما هاروت وماروت على أنه من إطلاق الجمع على المثنى كقوله: {قلوبكما} وهذا تأويل خطأ إذ يصير قوله: {عَلَى الْمَلَكَيْنِ} كلاما حشوا.
وعلى ظاهر هذه الآية إشكال من أربعة وجوه: أحدها كون السحر منزلا إن حمل الإنزال على المعروف منه وهو الإنزال من الله، الثاني كون المباشر لذلك ملكين من الملائكة على القراءة المتواترة، الثالث كيف يجمع الملكان بين قولهما {نَحْنُ فِتْنَةٌ} وقولهما: {فَلا تَكْفُرْ} فكيف يجتمع قصد الفتنة مع التحذير من الوقوع فيها. الرابع كيف حصرا حالهما في الاتصاف بأنهما فتنة فما هي الحكمة في تصديهما لذلك لأنهما إن كانا ملكين فالإشكال ظاهر وإن كانا ملكين بكسر اللام فهما قد علما مضرة الكفر بدليل نهيهما عنه وعلما معنى الفتنة بدليل قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} فلماذا تورطا في هذه الحالة.
ودفع هذا الإشكال برمته أن الإنزال هو الإيصال وهو إذا تعدى بعلى دل على إيصال من علو واشتهر ذلك في إيصال العلم من وحي أو إلهام أو نحوهما، فالإنزال هنا بمعنى الإلهام وبمعنى الإيداع في العقل أو في الخلقة بأن يكون الملكان قد برعا في هذا السحر وابتكرا منه أساليب لم يسبق لهما تلقيها من معلم شأن العلامة المتصرف في علمه المبتكر لوجوه المسائل وعللها وتصاريفها وفروعها،
والظاهر عندي أن ليس المراد بالإنزال إنزال السحر إذ السحر أمر موجود من قبل ولكنه إنزال الأمر للملكين أو إنزال الوحي أو الإلهام للملكين بأن يتصديا لبث خفايا السحر بين المتعلمين ليبطل انفراد شرمذة بعلمه فيندفع الوجهان الأول والثاني.
ثم إن الحكمة من تعميم تعليمه أن السحرة في بابل كانوا اتخذوا السحر وسيلة

لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ثم تطلعوا منه إلى تأسيس عبادة الأصنام والكواكب وزعموا أنهم أي السحرة مترجمون عنهم وناطقون بإرادة الآلهة فحدث فساد عظيم وعمت الضلالة فأراد الله على معتاد حكمته إنقاذ الخلق من ذلك فأرسل أو أوحى أو ألهم هاروت وماروت أن يكشفا دقائق هذا الفن للناس حتى يشترك الناس كلهم في ذلك فيعلموا أن السحرة ليسوا على ذلك ويرجع الناس إلى صلاح الحال فاندفع الوجه الثالث. وأما الوجه الرابع فستعرف دفعه عند تفسير قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} الآية.
وفي قراءة ابن عباس والحسن: {الملكين} بكسر اللام وهي قراءة صحيحة المعنى فمعنى ذلك أن ملكين كانا يملكان ببابل قد علما علم السحر. وعلى قراءة فتح اللام فالأظهر في تأويله أنه استعارة وأنهما رجلان صالحان كان حكما مدينة بابل وكانا قد اطلعا على أسرار السحر التي كانت تأتيها السحرة ببابل أو هما وضعا أصله ولم يكن فيه كفر فأدخل عليه الناس الكفر بعد ذلك. وقيل هما ملكان أنزلهما الله تعالى تشكلا للناس يعلمانهم السحر لكشف أسرار السحرة لأن السحرة كانوا يزعمون أنهم آلهة أو رسل فكانوا يسخرون العامة لهم فأراد الله تكذيبهم ذبا عن مقام النبوءة فأنزل ملكين لذلك. وقد أجيب بأن تعلم السحر في زمن هاروت وماروت جائز على جهة الابتلاء من الله لخلقه فالطائع لا يتعلمه والعاصي يبادر إليه وهو فاسد لمنافاته عموم قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ} قالوا كما امتحن الله قوم طالوت بالنهر إلخ ولا يخفى فساد التنظير.
وبابل بلد قديم من مدن العالم وأصل الاسم باللغة الكلدانية باب إيلو أي باب الله ويرادفه بالعبرانية باب إيل وهو بلد كائن على ضفتي الفرات بحيث يخترقه الفرات يقرب موضعه من موقع بلد الحلة الآن على بعد أميال من ملتقى الفرات والدجلة. كانت من أعظم مدن العالم القديم بناها أولا أبناء نوح بعد الطوفان فيما يقال ثم توالى عليها اعتناء أصحاب الحضارة بمواطن العراق في زمن الملك النمروذ في الجيل الثالث من أبناء نوح ولكن ابتداء عظمة بابل كان في حدود سنة 3755 ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وخمسين قبل المسيح فكانت إحدى عواصم أربعة لمملكة الكلدانيين وهي أعظمها وأشهرها ولم تزل همم ملوك الدولتين الكلدانية والأشورية منصرفة إلى تعمير هذا البلد وتنميقه فكان بلد العجائب من الأبنية والبساتين ومنبع المعارف الأسيوية والعجائب السحرية وقد نسبوا إليها قديما الخمر المعتقة والسحر قال أبو الطيب:

سقى الله أيام الصبا ما يسرها ... ويفعل فعل البابلي المعتق1
ولاشتهار بابل عند الأمم القديمة بمعارف السحر كما قدمنا في تعريف السحر صح جعل صلة الموصول قوله {أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} إشارة إلى قصة يعلمونها.
و"هاروت وماروت" بدل من "الملكين" وهما اسمان كلدانيان دخلهما تغيير التعريف لإجرائهما على خفة الأوزان العربية، والظاهر أن هاروت معرب "هاروكا" وهو اسم القمر عند الكلدانيين وأن ماروت معرب "ما روداخ" وهو اسم المشتري عندهم وكانوا يعدون الكواكب السيارة من المعبودات المقدسة التي هي دون الآلهة لا سيما القمر فإنه أشد الكواكب تأثيرا عندهم في هذا العالم وهو رمز الأنثى، وكذلك المشتري فهو أشرف الكواكب السبعة عندهم ولعله كان رمز الذكر عندهم كما كان بعل عند الكنعانيين الفنيقيين. ومن المعلوم أن إسناد هذا التقديس للكواكب ناشئ عن اعتقادهم أنهم كانو من الصالحين المقدسين وأنهم بعد موتهم رفعوا للسماء في صورة الكواكب فيكون هاروكا و ماروداخ قد كانا من قدماء علمائهم وصالحيهم والحاكمين في البلاد وهما اللذان وضعا السحر ولعل هذا وجه التعبير عنهما في القصة بالملكين بفتح اللام
ولأهل القصص هنا قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها منهم ابن عطية والبيضاوي وأشار المحققون مثل البيضاوي والفخر وابن كثير والقرطبي وابن عرفة إلى كذبها وأنها من مرويات كعب الأحبار وقد وهم فيها بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية والعجب للإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى كيف أخرجها مسندة للنبي صلى الله عليه وسلم ولعلها مدسوسة على الإمام أحمد أو أنه غره فيها ظاهر حال رواتها مع أن فيهم موسى بن جبير وهو متكلم فيه واعتذر عبد الحكيم بأن الرواية صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود فهو باطل في نفسه ورواته صادقون فيما رووا وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عرفة في تفسيره وقد كان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره القصة ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكا رحمه الله أنكر ذلك في
ـــــــ
1 الذي ذكره الواحدي والمعري في تفسير البيت أنه أراد بالبابلي الخمر وكنت رأيت في بعض كتب الأدب أن بعض من ناظر المتنبي انتقد هذا الإطناب مع أنه كان يستطيع أن يقول سقاها خمرا لا سيما وقد قال ما يسرها قلت: وقرينة كونه المراد وصفه بالمعتق وهو من أوصاف الخمر والعذر للمتنبي أنه أراد سقاها الله خمرا كخمر بابل فلا ضير في ذلك.

حق هاروت وماروت.
وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} جملة حالية من {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وما نافية والتعبير بالمضارع لحكاية الحال إشارة إلى أن قولهما لمتعلمي السحر: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} قول مقارن لوقت التعليم لا متأخر عنه. وقد علم من هذا أنهما كانا معلمين وطوى ذلك للاستغناء عنه بمضمون هاته الجملة فهو من إيجاز الحذف أو هو من لحن الخطاب مفهوم للغاية.
وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} الفتنة لفظ يجمع معنى مرج واضطراب أحوال أحد وتشتت باله بالخوف والخطر على الأنفس والأموال على غير عدل ولا نظام وقد تخصص وتعمم بحسب ما تضاف إليه أو بحسب المقام يقال فتنة المال وفتنة الدين.
ولما كانت هذه الحالة يختلف ثبات الناس فيها بحسب اختلاف رجاحة عقولهم وصبرهم ومقدرتهم على حسن المخارج منها كان من لوازمها الابتلاء والاختبار فكان ذلك من المعاني التي يكنى بالفتنة عنها كثيرا ولذلك تسامح بعض علماء اللغة ففسر الفتنة بالابتلاء وجرأه على ذلك قول الناس فتنت الذهب أو الفضة إذا أذابهما بالنار لتمييز الرديء من الجيد وهذا الإطلاق إن لم يكن مولدا فإن معنى الاختبار غير منظور إليه في لفظ الفتنة وإنما المنظور إليه ما في الإذابة من الاضطراب والمرج وقد سمي القرآن هاروت وماروت فتنة وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: من الآية10] وقال: {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: من الآية27] والإخبار عن أنفسهم بأنهم فتنة إخبار بالمصدر للمبالغة وقد أكدت المبالغة بالحصر الإضافي والمقصد من ذلك أنهما كانا يصرحان أن ليس في علمهما شيء من الخير الإلهي وأنه فتنة محضة ابتلاء من الله لعباده في مقدار تمسكهم بدينهم وإنما كانا فتنة لأن كل من تعلم منهما عمل به. فلا تكفر كما كفر السحرة حين نسبوا التأثيرات للآلهة وقد علمت سرها. وفي هذا ما يضعف أن يكون المقصد من تعليمهما الناس السحر إظهار كذب السحرة الذين نسبوا أنفسهم للألوهية أو النبوة.
والذي يظهر في تفسير هذه الجملة أن قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} قصر ادعائي للمبالغة فجعلا كثرة افتتان الناس بالسحر الذي تصديا لتعليمه بمنزلة انحصار أوصافهما في الفتنة ووجه ابتدائهما لمن يعلمانه بهذه الجملة أن يبينا له أن هذا العلم في مبادئه يظهر كأنه فتنة وشر فيوشك أن يكفر متعلمه عند مفاجأة تلك التعاليم إياه إذا كانت نفسه قد توطنت على اعتقاد أن ظهور خوارق العادات علامة على ألوهية من يظهرها، وقولهما

{فَلا تَكْفُرْ} أي لا تعجل باعتقاد ذلك فينا فإنك إذا توغلت في معارف السحر علمت أنها معلولة لعلل من خصائص النفوس أو خصائص الأشياء فالفتنة تحصل لمن يتعلم السحر حين يرى ظواهره وعجائبه على أيدي السحرة ولمن كان في مبدأ التعليم فإذا تحقق في علمه اندفعت الفتنة فذلك معنى قولهما: {فَلا تَكْفُرْ} فالكفر هو الفتنة وقولهما: {فَلا تَكْفُرْ} بمنزلة فلا تفتتن وقد اندفع الإشكال الرابع المتقدم.
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} تفريع عما دل عليه قوله {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا} المقتضى أن التعليم حاصل فيتعلمون، والضمير في {فَيَتَعَلَّمُونَ} راجع لأحد الواقع في حيز النفي مدخولا لمن الاستغراقية في قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} فإنه بمعنى كل أحد فصار مدلوله جمعا.
قوله: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} إشارة إلى جزئي من جزئيات السحر وهو أقصى تأثيراته إذ فيه التفرقة بين طرفي آصرة متينة إذ هي آصرة مودة ورحمة قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]0 فإن المودة وحدها آصرة عظيمة وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما: والرحمة وحدها آصرة منها الأبوة والبنوة، فما ظنكم بآصرة جمعت الأمرين وكانت بجعل الله تعالى وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان وقد كان يشير إلى هذا المعنى شيخنا الجليل سالم أبو حاجب في قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} وهذا التفريق يكون إما باستعمال مفسدات لعقل أحد الزوجين حتى يبغض زوجه وإما بإلقاء الحيل والتمويهات والنميمة حتى يفرق بينهما.
وقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} جملة معترضة. وضمير {هم} عائد إلى أحد من قوله {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} لوقوعه في سياق النفي فيعم كل أحد من المتعلمين أي وما المتعلمون بضارين بالسحر أحدا. وهذا تنبيه على أن السحر لا تأثير له بذاته وإنما يختلف تأثير حيله باختلاف قابلية المسحور، وتلك القابلية متفاوتة ولها أحوال كثيرة أجملتها الآية بالاستثناء من قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي يجعل الله أسباب القابلية لأثر السحر في بعض النفوس فهذا إجمال حسن مناسب لحال المسلمين الموجه إليهم

الكلام لأنهم تخلقوا بتعظيم الله تعالى وقدرته وليس المقام مقام تفصيل الأسباب والمؤثرات ولكن المقصود إبطال أن تكون للسحر حالة ذاتية وقواعد غير مموهة فالباء في قوله {بِإِذْنِ اللَّهِ} للملابسة.
وأصل الإذن في اللغة هو إباحة الفعل، واستأذن طلب الإذن في الفعل أو في الدخول للبيت وقد استعمله القرآن مجازا في معنى التمكين إما بخلق أسباب الفعل الخارقة للعادة نحو قوله {بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة: 110] وإما باستمرار الأسباب المودعة في الأشياء والقوى كقوله تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 166] فقوله {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي إلا بما أعد الله في قابل السحر من استعداد لأن يضر به فإن هذا الاستعداد وإمكان التأثر مخلوق في صاحبه فهو بإذن الله ومشيئته كذا قرره الراغب وهو يرجع إلى استعمال مما تستعمل فيه كلمة إذن ومن هذا القبيل ونظيره لفظة الأمر في قوله تعالى {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] أي مما خلق الله من الأشياء التي تلحق أضرارها للناس وقد اشتهر هذا الاستعمال في لسان الشرع حتى صار حقيقة عرفية في معنى المشيئة والإرادة فينبغي أن يلحق بالألفاظ التي فرق المتكلمون بين مدلولاتها وهي الرضا والمحبة والأمر والمشيئة والإرادة. فليس المعنى أن السحر قد يضر وقد لا يضر بل المعنى أنه لا يضر منه إلا ما كان إيصال أشياء ضار بطبعها وقوله {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} يعني ما يضر الناس ضرا آخر غير التفرقة بين المرء وزوجه فضمير يضرهم عائد على غير ما عاد عليه ضمير يتعلمون والمعنى أن أمور السحر لا يأتي منها إلا الضر أي في الدنيا فالساحر لا يستطيع سحر أحد ليصير ذكيا بعد أن كان بليدا أو ليصير غنيا بعد الفقر وهذا زيادة تنبيه على سخافة عقول المشتغلين به وهو مقصد الآية وبهذا التفسير يكون عطف قوله {وَلا يَنْفَعُهُمْ} تأسيسا لا تأكيدا والملاحظ في هذا الضر والنفع هو ما يحصل في الدنيا وأما حالهم في الآخرة فسيفيده قوله {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} وقد أفادت الآية بجمعها بين إثبات الضر ونفي النفع الذي هو ضده مفاد الحصر كأنه قيل ويتعلمون ما ليس إلا ضرا كقول السموأل وعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليس على غير الظبات تسيل
وعدل عن صيغة القصر لتلك النكتة المتقدمة وهي التنبيه على أنه ضر. وإعادة فعل

يتعلمون مع حرف العطف لأجل ما وقع من الفصل بالجملة المعترضة.
{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} عطف على قوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} أي اتبعوا ذلك كله وهم قد علموا إلخ والضمير لليهود تبعا لضمير {واتبعوا}، أو الواو للحال أي في حال أنهم تحقق علمهم. واللام في {لَقَدْ عَلِمُوا} يجوز أن تكون لام القسم وهي اللام التي من شأنها أن تدخل على جواب القسم لربطه بالقسم ثم يحذفون القسم كثيرا استغناء لدلالة الجواب عليه دلالة التزامية لأنه لا ينتظم جواب بدون مجاب. ويجوز أن تكون لام الابتداء، وهي لام تفيد تأكيد القسم ويكثر دخولها في صدر الكلام فلذلك قيل لها لام الابتداء والاحتمالان حاصلان في كل كلام صالح للقسم وليس فيه قسم فإن حذف لفظ القسم مشعر في المقام الخطابي بأن المتكلم غير حريص على مزيد التأكيد كما كان ذكر إن وحدها في تأكيد الجملة الاسمية أضعف تأكيدا من الجمع بينها وبين لام الابتداء لأنهما أداتا تأكيد. قال الرضي إن مواقع لام القسم في نظر الجمهور هي كلها لامات الابتداء. والكوفيون لا يثبتون لام الابتداء ويحملون مواقعها على معنى القسم المحذوف والخلاف في هذا متقارب.
واللام في قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} يجوز كونها لام قسم أيضا تأكيدا للمعلوم أي علموا تحقيق أنه لا خلاق لمشتري السحر ويجوز كونها لام ابتداء والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره فالمعنى أنهم اكتسبوه ببذل إيمانهم المعبر عنه فيما يأتي بقوله أنفسهم.
والخلاق الحظ من الخير خاصة. ففي الحديث إنما يلبس هذا من لا خلاق له وقال البعيث بن حريث:
ولست وإن قربت يوما ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب
ونفي الخلاق وهو نكرة مع تأكيد النفي بمن الاستغراقية دليل على أن تعاطي هذا السحر جرم كفر أو دونه فلذلك لم يكن لمتعاطيه حظ من الخير في الآخرة وإذا انتفى كل حظ من الخير ثبت الشر كله لأن الراحة من الشر خير وهي حالة الكفاف وقد تمناها الفضلاء أو دونه خشية من الله تعالى.
قوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} عطف على {ولَقَدْ عَلِمُوا} عطف الإنشاء على

الخبر و {شروا} بمعنى باعوا بمعنى بذلوا وهو مقابل قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} ومعنى بذل النفس هو التسبب لها في الخسار والبوار.
وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} مقتض لنفي العلم بطريق لو الامتناعية والعلم المنفي عنهم هنا هو غير العلم المثبت لهم في قوله: {ولَقَدْ عَلِمُوا} إلا أن الذي علموه هو أن مكتسب السحر ما له خلاق في الآخرة والذي جهلوه هنا هو أن السحر شيء مذموم وفيه تجهيل لهم حيث علموا أن صاحبه لا خلاق له ولم يهتدوا إلى أن نفي الخلاق يستلزم الخسران إذ ما بعد الحق إلا الضلال وهذا هو الوجه لأن {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ذيل به قوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} فدل على أنه دليل مفعوله وبذلك يندفع الإشكال عن إثبات العلم ونفيه في معلوم واحد بناء على أن العلم بأنه لا خلاق لصاحب السحر عين معنى كون السحر مذموما فكيف يعدون غير عالمين بذمه وقد علمت وجهه وهذا هو الذي تحمل عليه الآية.
ولهم في الجواب عن دفع الإشكال وجوه أخرى أحدها ما ذهب إليه صاحب الكشاف وتبعه صاحب المفتاح من أن المراد من نفي العلم هو أنهم لما كانوا في علمهم كمن لا يعلم بعدم عملهم به نفي العلم عنهم لعدم الاعتداد به أي فيكون ذلك على سبيل التهكم بهم. الثاني أن المراد بالعلم المنفي هو علم كون ما يتعاطونه من جملة السحر المنهي عنه فكأنهم علموا مذمة السحر علما كليا ولم يتفطنوا لكون صنيعهم منه كما قالوا إن الفقيه يعلم كبرى القياس والقاضي والمفتي يعلمان صغراه وأن الفقيه كالصيدلاني والقاضي والمفتي كالطبيب وهذا الوجه الذي اخترناه. الثالث أن المراد لو كانوا يعلمون ما يتبعه من العذاب في الآخرة أي فهم ظنوا أن عدم الخلاف لا يستلزم العذاب وهذا قريب من الذي ذكرناه. الرابع أن المراد من العلم المنفي التفكر ومن المثبت العلم الغريزي وهذا وجه بعيد جدا إذ لا يمكن أن يكون علمهم بأن من اكتسب السحر لا خلاق له علما غريزيا فلو قيل العلم التصوري والعلم التصديقي. وفي الجمع بين {ولَقَدْ عَلِمُوا} و {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} طباق عجيب.
وهنالك جواب آخر مبني على اختلاف معاد ضمير {علموا} وضميري {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فضمير {ولَقَدْ عَلِمُوا} راجع إلى الجن الذين يعلمون السحر وضميرا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} راجعان إلى الإنس الذين تعلموا السحر وشروا به أنفسهم، قاله قطرب والأخفش وبذلك صار الذين أثبت لهم العلم غير المنفي عنهم.

[103] {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
أي لو آمنوا بمحمد واتقوا الله فلم يقدموا على إنكار ما بشرت به كتبهم لكانت لهم مثوبة من عند الله ومثوبة الله خير من كل نفع حملهم على المكابرة.
ولو شرطية امتناعية اقترن شرطها بأن مع التزام الفعل الماضي في جملته على حد قول امرئ القيس:
ولو أن ما أسعى لأدني معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
وأن مع صلتها في محل مبتدأ عند جمهور البصريين وما في جملة الصلة من المسند والمسند إليه أكمل الفائدة فأغنى عن الخبر. وقيل خبرها محذوف تقديره ثابت أي ولو إيمانهم ثابت.
وقوله: {لمثوبة} يترجح أن يكون جواب لو فانه مقترن باللام التي يكثر اقتران جواب لو المثبت بها والجواب هنا جملة اسمية وهي لا تقع جوابا للو في الغالب وكان هذا الجواب غير ظاهر الترتيب والتعليق على جملة الشرط لأن مثوبة الله خير سواء آمن اليهود واتقوا أم لم يفعلوا. قال بعض النحاة الجواب محذوف أي لا ثيبوا ومثوبة من عند الله خير. وعدل عنه صاحب الكشاف فقال أوثرت الجملة الاسمية في جواب لو على الفعلية لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها كما عدل عن النصب إلى الرفع في {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: من الآية54] لذلك اه. ومراده أن تقدير الجواب لا ثيبوا مثوبة من الله خيرا لهم مما شروا به أنفسهم، أو لمثوبة بالنصب على أنه مصدر بدل من فعله، وكيفما كان فالفعل أو بدله يدلان على الحدوث فلا دلالة له على الدوام والثبات. ولما كان المقام يقتضي حصول المثوبة وثباتها وثبات الخيرية لها ليحصل مجموع معان عدل عن النصب المؤذن بالفعل إلى الرفع لأن الجملة الاسمية لا تفيد الحدوث بل الثبوت وينتقل من إفادتها الثبوت إلى إفادة الدوام والثبات فدلالة الآية على ثبات المثوبة بالعدول عن نصب المصدر إلى رفعه كما في {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} و {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] ودلالتها على ثبات نسبة الخيرية للمثوبة من كون النسبة مستفادة من جملة اسمية فصارت الجملة بمنزلة جملتين لأن أصل المصدر الآتي بدلا من فعله أن يدل على نسبة لفاعله فلو قيل لمثوبة بالنصب لكان تقديره لا ثيبوا مثوبة فإذا حولت إلى المصدر المرفوع لزم أن تعتبر ما

كان فيه من النسبة قبل الرفع، ولما كان المصدر المرفوع لا نسبة فيه علم السامع أن التقدير لمثوبة لهم كما أنك إذا قلت سلاما وحمدا علم السامع أنك تريد سلمت سلاما وحمدت حمدا، فإذا قلت سلام وحمد كان التقدير سلام مني وحمد مني، وهذا وجه تنظير الكشاف وقرينة كون هذا المصدر في الأصل منصوبا وقوعه جوابا للو المتأصل في الفعلية، ثم إذا سمع قوله خير علم السامع أنه خبر عن المثوبة بعد تحويلها فاستفاد ثبات الخيرية ولهذا لم يتعرض صاحب الكشاف لبيان إفادة الجملة ثبات الخيرية للمثوبة لأنه لصراحته لا يحتاج للبيان فإن كل جملة اسمية تدل على ثبات خبرها لمبتدئها. وبهذا ظهر الترتيب لأن المقصود من الإخبار عن المثوبة بأنها خير أنها تثبت لهم لو آمنوا.
وعندي وجه آخر وهو أن يقال إن قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} دليل الجواب بطريقة التعريض فإنه لما جعل معلقا على قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} علم أن في هذا الخبر شيئا يهمهم ولما كانت لو امتناعية ووقع في موضع جوابها جملة خبرية تامة علم السامع أن هذا الخبر ممتنع ثبوته لمن امتنع منه شرط لو فيكون تنكيلا عليهم وتمليحا بهم.
وقد قيل إن "لو" للتمني على حد {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة: من الآية167]. والتحقيق أن لو التي للتمني هي لو الشرطية أشربت معنى التمني لأن الممتنع يتمنى إن كان محبوبا
وأحب شيء إلى الإنسان ما منعا واستدل على هذا بأنها إذا جاءت للتمني أجيبت جوابين جوابا منصوبا كجواب ليت وجوابا مقترنا باللام كجواب الامتناعية كقول المهلهل:
فلو نبش المقابر عن كليب ... فيخبر بالذنائب أي زير
ويوم الشعثمين لقر عينا ... وكيف لقاء من تحت القبور
فأجيب بقوله فيخبر وقوله لقر عينا. والتمني على تقديره مجاز من الله تعالى عن الدعاء للإيمان والطاعة أو تمثيل لحال الداعي لذلك بحال المتمني فاستعمل له المركب الموضوع للتمني أو هو ما لو نطق به العربي في هذا المقام لنطق بالتمني على نحو ما قيل في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] ونحوه. وعلى هذا الوجه يكون قوله: {لمثوبة} مستأنفا واللام للقسم.
والمثوبة اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب والثواب الجزاء الذي يعطى لخير المعطي ويقال ثوب وأثوب بمعنى أثاب فالمثوبة على وزن المفعولة كالمصدوقة والمشورة

والمكروهة.
وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} شرط ثان محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه وحذف مفعول {يَعْلَمُونَ} لدلالة لمثوبة من الله خير، أي لو كانوا يعلمون مثوبة الله لما اشتروا السحر.
وليس تكرير اللفظة أو الجملة في فواصل القرآن بإيطاء لأن الإيطاء إنما يعاب في الشعر دون النثر لأن النثر إنما يعتد فيه بمطابقة مقتضى الحال وفائدة هذا التكرير التسجيل عليهم بأنهم لا يعلمون ما هو النفع الحق.
[104] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
يتعين في مثل هذه الآية1 تطلب سبب نزولها ليظهر موقعها ووجه معناها فإن النهي عن أن يقول المؤمنون كلمة لا ذم فيها ولا سخف لابد أن يكون لسبب وقد ذكروا في سبب نزولها أن المسلمين كانوا إذا ألقى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الشريعة والقرآن يتطلبون منه الإعادة والتأني في إلقائه حتى يفهموه ويعوه فكانوا يقولون له راعنا يا رسول الله أي لا تتحرج منا وارفق وكان المنافقون من اليهود يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم في خلواتهم سرا وكانت لهم كلمة بالعبرانية تشبه كلمة راعنا بالعربية ومعناها في العبرانية سب وقيل معناها لا سمعت دعاء فقال بعضهم لبعض كنا نشب محمدا سرا فأعلنوا به الآن أو قالوا هذا وأرادوا به اسم فاعل من رعن إذا اتصف بالرعونة وسيأتي فكانوا يقولون هاته الكلمة مع المسلمين ناوين بها السب فكشفهم الله وأبطل عملهم بنهي المسلمين عن قول هاته الكلمة حتى ينتهي المنافقون عنها ويعلموا أن الله أطلع نبيه على سرهم.
ومناسبة نزول هاته الآية عقب الآيات المتقدمة في السحر وما نشأ عن ذمه أن السحر كما قدمنا راجع إلى التمويه وأن من ضروب السحر ما هو تمويه ألفاظ وما مبناه
ـــــــ
1 أي مثلها من الآيات التي نزلت في أحوال معينة ولم يشرح في أثنائها ما يفصح عن سبب نزولها في أحوال معينة ولم يشرح في أثنائها ما يفصح عن سبب نزولها إيجازا واستغناء بعلم المخاطبين بها يوم نزولها بالسبب الذي أوجب نزولها فإذا لم ينقل السبب لمن لم يحضره لم يعلم المراد منها.

على اعتقاد تأثير الألفاظ في المسحور بحسب نية الساحر وتوجيهه النفسي إلى المسحور، وقد تأصل هذا عند اليهود واقتنعوا به في مقاومة أعدائهم. ولما كان أذى الشخص بقول أو فعل لا يعلم مغزاهما كخطابه بلفظ يفيد معنى ومقصود المتكلم منه أذى، أو كإهانة صورته أو الوطء على ظله كل ذلك راجعا إلى الاكتفاء بالنية والتوجه في حصول الأذى كان هذا شبيها ببعض ضروب السحر ولذلك كان من شعار من استهواهم السحر واشتروه ناسب ذكر هاته الحالة من أحوالهم عقب الكلام على افتتانهم بالسحر وحبه دون بقية ما تقدم من أحوالهم وهاته المناسبة هي موجب التعقيب في الذكر.
وإنما فصلت هذه الآية عما قبلها لاختلاف الغرضين لأن هذه في تأديب المؤمنين ثم يحصل منه التعريض باليهود في نفاقهم وأذاهم والإشعار لهم بأن كيدهم قد أطلع الله عليه نبيه وقد كانوا يعدون تفطن المسحور للسحر يبطل أثره فأشبهه التفطن للنوايا الخبيثة وصريح الآيات قبلها في أحوالهم الدينية المنافية لأصول دينهم ولأن الكلام المفتتح بالنداء والتنبيه ونحوه نحو {يَا أَيُّهَا النَّاسُ } ويا زيد وألا ونحوها لا يناسب عطفه على ما قبله وينبغي أن يعتبر افتتاح كلام بحيث لا يعطف إلا بالفاء إذا كان مترتبا عما قبله لأن العطف بالفاء بعيد عن العطف بالواو وأوسع من جهة التناسب.
و {راعنا} أمر من راعاه يراعيه وهو مبالغة في رعاه يرعاه إذا حرسه بنظره من الهلاك والتلف وراعي مثل رعي قال طرفة:
خذول تراعي ربربا بخميلة
وأطلق مجازا على حفظ مصلحة الشخص والرفق به ومراقبة نفعه وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية ومنه رعاك الله ورعي ذمامه، فقول المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا هو فعل طلب من الرعي بالمعنى المجازي أي الرفق والمراقبة أي لا تتحرج من طلبنا وارفق بنا.
وقوله: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} أبد لهم بقولهم: {راعنا} كلمة تساويها في الحقيقة والمجاز وعدد الحروف والمقصود من غير أن يتذرع بها الكفار لأذى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من أبدع البلاغة فإن نظر في الحقيقة بمعنى حرس وصار مجازا على تدبير المصالح، ومنه قول الفقهاء هذا من النظر، والمقصود منه الرفق والمراقبة في التيسير فيتعين أن قوله: {انظرنا} بضم همزة الوصل وضم الظاء وأنه من النظر لا من الانتظار.

وقد دلت هذه الآية على مشروعية أصل من أصول الفقه وهو من أصول المذهب المالكي يلقب بسد الذرائع وهي الوسائل التي يتوسل بها إلى أمر محظور.
وقوله تعالى {واسمعوا} أريد به سماع خاص وهو الوعي ومزيد التلقي حتى لا يحتاجوا إلى طلب المراعاة أو النظر وقيل أراد من اسمعوا امتثلوا لأوامر الرسول قاله ابن عطية وهو أظهر.
وقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} التعريف للعهد والمراد بالكافرين اليهود خاصة أي تأدبوا أنتم مع الرسول ولا تتأسوا باليهود في أقوالهم فلهم عذاب أليم والتعبير بالكافرين دون اليهود زيادة في ذمهم وليس هنا من التذييل لأن الكلام السابق مع المؤمنين فلا يصلح ما بعده من تعميم حكم الكافرين لتذييل ما قبله.
[105] {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
فصله عما قبله لاختلاف الغرضين لأن الآية قبله في تأديب المؤمنين مع التعريض باليهود وهذه الآية لبيان حسد اليهود وغيرهم للمسلمين ووجه المناسبة بين الآيتين ظاهر لاتحاد المآل ولأن الداعي للسب والأذى هو الحسد.
وهذه الآية رجوع إلى كشف السبب الذي دعا لامتناع اليهود من الإيمان بالقرآن لما قيل لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فقالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: من الآية91] أي ليس الصارف لهم تمسكهم بما أنزل إليهم بل هو الحسد على ما أنزل على النبي والمسلمين من خير، فبين أدلة نفي كون الصارف لهم هو التصلب والتمسك بدينهم بقوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} [البقرة: من الآية91] وما تخلل ذلك ونشأ عنه من المجادلات وبيان إعراضهم عن أوامر دينهم واتباعهم السحر وبين الآن حقيقة الصارف عن الإيمان بالقرآن والموجب للشتم وقول البهتان ليتخلص من ذلك إلى بيان النسخ.
والود بضم الواو المحبة ومن أحب شيئا تمناه فليس الود هو خصوص التمني ولا المحبة المفرطة كما حققه الراغب.
وذكر "الذين كفروا" هنا دون اليهود لقصد شمول هذا الحكم اليهود والنصارى معا تمهيدا لما يأتي من ذكر حكمة النسخ ومن قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ

هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] الآيات. ونبه بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} دون ما يود أهل الكتاب على أنهم لم يتبعوا كتابهم لأن كتبهم تأمرهم باتباع الحق حيثما وجدوه وبالإيمان بالنبي المقفى على آثارهم وفي التوراة والإنجيل مواضع كثيرة فيها أخذ الميثاق على ذلك فلما حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم على النبوءة وحسدوا المسلمين فقد كفروا بما أمرت به كتبهم وبهذا تخلص الكلام إلى الجمع بين موعظة النصارى مع موعظة اليهود.
ولما كان ما اقتضاه الحال من التعبير بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قد يوهم كون البيان قيدا وأن الكافرين من غير أهل الكتاب لا يحسدون المسلمين عطف عليه قوله: {وَلا الْمُشْرِكِينَ} كالاحتراس وليكون جمعا للحكم بين الجميع فيكون له حظ في التمهيد لقوله فيما يأتي: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] وقرأ الجمهور "أن ينزل" بتشديد الزاي مفتوحة والتعبير بالتنزيل دون الإنزال لحكاية الواقع إذ القرآن نزل منجما لتسهيل حفظه وفهمه وكتابته وللتيسير على المكلفين في شرع الأحكام تدريجا. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الزاي مفتوحة أيضا وذلك على أن نفي ودادتهم متعلق بمطلق إنزال القرآن سواء كان دفعة أو منجما.
والخير النعمة والفضل، قال النابغة:
فلست على خير أتاك بحاسد
وأراد به هنا النبوءة وما أيدها من الوحي والقرآن والنصر وهو المعبر عنه بالرحمة في قوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ}
وقوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} عطف على {مَا يَوَدُّ} لتضمنه أن الله أراد ذلك وإن كانوا هم لا يريدونه.
والرحمة هنا مثل الخير المنزل عليهم وذلك إدماج للامتنان عليهم بأن ما نزل عليهم هو رحمة بهم ومعنى الاختصاص جعلها لأحد دون غيره لأن أصل الاختصاص والتخصيص راجع إلى هذا المعنى أعني جعل الحكم خاصا غير عام سواء خص واحدا أو أكثر ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه أي من يشاء اختصاصه بالرحمة.
والمشيئة هي الإرادة ولما كانت إرادة الله تتعلق بالمراد على وفق علمه تعالى كانت مشيئته أي إرادته جارية على وفق حكمته التي هي من كيفيات علم الله تعالى فهي من

تعلقات العلم الإلهي بإبراز الحوادث على ما ينبغي وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] فالله يختص برحمته من علم أنه حقيق بها لا سيما الرحمة المراد منها النبوءة فإن الله يختص بها من خلقه قابلا لها فهو يخلقه على صفاء سريرة وسلامة فطرة صالحة لتلقي الوحي شيئا فشيئا قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [القصص: 14] وقال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ولذلك لم تكن النبوءة حاصلة بالاكتساب لأن الله يخلق للنبوءة من أراده لها لخطر أمرها بخلاف غيرها من الفضائل فهو ممكن الاكتساب كالصلاح والعلم وغيرهما فرب فاسق صلحت حاله ورب جاهل مطبق صار عالما بالسعي والاكتساب ومع هذا فلا بد لصاحبها من استعداد في الجملة ثم وراء ذلك التوفيق وعناية الله تعالى بعبده. ولما كانت الاستعدادات لمراتب الرحمة من النبوة فما دونها غير بادية للناس طوى بساط تفصيلها لتعذره ووكل إلى مشيئة الله التي لا تتعلق إلا بما علمه واقتضته حكمته سبحانه رفقا بأفهام المخاطبين.
وقوله: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} تذييل لأن الفضل يشمل إعطاء الخير والمعاملة بالرحمة، وتنبيه على أن واجب مريد الخير التعرض لفضل الله تعالى والرغبة إليه في أن يتجلى عليه بصفة الفضل والرحمة فيتخلى عن المعاصي والخبائث ويتحلى بالفضائل والطاعات عسى أن يحبه ربه وفي الحديث الصحيح "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106]
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
مناسبة هذه الآية للآيات قبلها أن اليهود اعتذروا عن إعراضهم عن الإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم بقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة:91] وأرادوا به أنهم يكفرون بغيره وهم في عذرهم ذلك يدعون أن شريعتهم لا تنسخ إن محمدا وصف التوراة بأنها حق وأنه جاء مصدقا لها فكيف يكون شرعه مبطلا للتوراة ويموهون على الناس بما سموه البداء وهو لزوم أن يكون الله تعالى غير عالم بما يحسن تشريعه وأنه يبدو له الأمر ثم يعرض عنه ويبدل شريعة بشريعة.

وقد قدمنا أن الله تعالى رد عليهم عذرهم وفضحهم بأنهم ليسوا متمسكين بشرعهم حتى يتصلبوا فيه وذلك من قوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91] وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} [البقرة: 94] إلخ وبأنهم لا داعي لهم غير الحسد بقوله {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى قوله: {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105] المنبئ أن العلة هي الحسد. فلما بين الرد عليهم في ذلك كله أراد نقض تلك السفسطة أو الشبهة التي راموا ترويجها على الناس بمنع النسخ. والمقصد الأصلي من هذا هو تعليم المسلمين أصلا من أصول الشرائع وهو أصل النسخ الذي يطرأ على شريعة بشريعة بعدها ويطرأ على بعض أحكام شريعة بأحكام تبطلها من تلك الشريعة. ولكون هذا هو المقصد الأصلي عدل عن مخاطبة اليهود بالرد عليهم ووجه الخطاب إلى المسلمين كما دل عليه قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ} وعطفه عليه بقوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ} [البقرة: 108] ولقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ولم يقل من شريعة. وفي هذا إعراض عن مخاطبة اليهود لأن تعليم المسلمين أهم وذلك يستتبع الرد على اليهود بطريق المساواة لأنه إذا ظهرت حكمة تغيير بعض الأحكام لمصلحة تظهر حكمة تغيير بعض الشرائع.
وقد ذكر بعض المفسرين لهاته الآية سبب نزول، ففي الكشاف والمعالم نزلت لما قال اليهود ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه، وفي تفسير القرطبي أن اليهود طعنوا في تغيير القبلة وقالوا إن محمدا يأمر أصحابه بشيء وينهاهم عنه فما كان هذا القرآن إلا من جهته ولذلك يخالف بعضه بعضا.
وقرأ الجمهور "ننسخ" بفتح النون الأولى وفتح السين وهو أصل مضارع نسخ، وقرأه ابن عامر بضم النون الأولى وكسر السين على أنه مضارع أنسخ مهموزا بهمزة التعدية أي نأمر بنسخ آية.
وما شرطية وأصلها الموصولة أشربت معنى الشرط فلذلك كانت اسما للشرط يستحق إعراب المفاعيل وتبين بما يفسر إبهامها وهي أيضا توجب إبهاما في أزمان الربط لأن الربط وهو التعليق لما نيط بمبهم صار مبهما فلا تدل على زمن معين من أزمان تعليق الجواب على الشرط وربطه به.
و"من آية" بيان لما. والآية في الأصل الدليل والشاهد على أمر.
قال الحرث بن حلزة:
من لنا عنده من الخير آيات ... ثلاث في كلهن القضاء

ووزنها فعلة بتحريك العين عند الخليل وعينها ياء أو واو قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها والنسبة إليها آيي أو آوى. ثم أطلقت الآية على المعجزة لأنها دليل صدق الرسول قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الاسراء: 59]. وتطلق الآية على القطعة من القرآن المشتملة على حكم شرعي أو موعظة أو نحو ذلك وهو إطلاق قرآني قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:101]
ويؤيد هذا أن من معاني الآية في كلام العرب الأمارة التي يعطيها المرسل للرسول ليصدقه المرسل إليه وكانوا إذا أرسلوا وصاية أو خبرا مع رسول أرفقوه بأمارة يسمونها آية لا سيما الأسير إذا أرسل إلى قومه برسالة كما فعل ناشب الأعور حين كان أسيرا في بني سعد بن مالك وأرسل إلى قومه بلعنبر رسالة وأراد تحذيرهم بما يبيته لهم أعداؤهم الذين أسروه فقال للرسول قل لهم كذا بآية ما أكلت معكم حيسا. وقال سحيم العبد:
ألكني إليها عمرك الله يا فتى ... بآية ما جاءت إلينا تهاديا
ولذا أيضا سموا الرسالة آية تسمية للشيء باسم مجاوره عرفا.
والمراد بالآية هنا حكم الآية سواء أزيل لفظها أم أبقى لفظها لأن المقصود بيان حكمة إبطال الأحكام لا إزالة ألفاظ القرآن.
والنسخ إزالة الشيء بشيء آخر قاله الراغب، فهو عبارة عن إزالة صورة أو ذات وإثبات غيرها عوضها تقول نسخت الشمس الظل لأن شعاعها أزال الظل وخلفه في موضعه ونسخ الظل الشمس كذلك لأن خيال الجسم الذي حال بين الجسم المستنير وبين شعاع الشمس الذي أناره قد خلف الشعاع في موضعه ويقال نسخت ما في الخلية من النحل والعسل إلى خلية أخرى، وقد يطلق على الإزالة فقط دون تعويض كقولهم نسخت الريح الأثر وعلى الإثبات لكن على إثبات خاص وهو إثبات المزيل، وأما أن يطلق على مجرد الإثبات فلا أحسبه صحيحا في اللغة وإن أوهمه ظاهر كلام الراغب وجعل منه قولهم نسخت الكتاب إذا خططت أمثال حروفه في صحيفتك إذ وجدوه إثباتا محضا لكن هذا توهم لأن إطلاق النسخ على محاكاة حروف الكتاب إطلاق مجازي بالصورة أو تمثيلية الحالة بحالة من يزيل الحروف من الكتاب الأصلي إلى الكتاب المنتسخ ثم جاءت من ذلك النسخة قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] وقال: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأعراف:154] وأما قولهم الولد نسخة من أبيه فمجاز على مجاز.

ولا يطلق النسخ على الزوال بدون إزالة فلا تقول نسخ الليل النهار لأن الليل ليس بأمر وجودي بل هو الظلمة الأصلية الحاصلة من انعدام الجرم المنير.
والمراد من النسخ هنا الإزالة وإثبات العوض بدليل قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وهو المعروف عند الأصوليين بأنه رفع الحكم الشرعي بخطاب فخرج التشريع المستأنف إذ ليس برفع وخرج بقولنا الحكم الشرعي رفع البراءة الأصلية بالشرع المستأنف. إذ البراءة الأصلية ليست حكما شرعيا بل هي البقاء على عدم التكليف الذي كان الناس عليه قبل مجيء الشرع بحيث إن الشريعة لا تتعرض للتنصيص على إباحة المباحات إلا في مظنة اعتقاد تحريمها أو في موضع حصر المحرمات أو الواجبات،
فالأول: نحو قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في التجارة في الحج حيث ظن المسلمون تحريم التجارة في عشر ذي الحجة كما كانت عليه الجاهلية بعد الانصراف من ذي المجاز1 كما سيأتي،
ومثال الثاني قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: من الآية24] بعد ذكر النساء المحرمات وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] لحصر وجوب الإمساك في خصوص زمن النهار.
وفهم من قولهم في التعريف رفع الحكم أن ذلك الحكم كان ثابتا لولا رفعه وقد صرح به بعضهم ولذلك اخترنا زيادة قيد في التعريف وهو رفع الحكم الشرعي المعلوم دوامه بخطاب يرفعه ليخرج عن تعريف النسخ رفع الحكم الشرعي المغيي بغاية عند انتهاء غايته ورفع الحكم المستفاد من أمر لا دليل فيه على التكرار.
وحيث تبينت حكمة فسخ الآيات علم منه حكمة نسخ الشرائع بعضها ببعض وهو الذي أنكروه وأنكروا كون الإسلام قد نسخ التوراة وزعموا أن دوام التوراة مانع من
ـــــــ
1 ذلك أن العرب كانوا إذا انصرفوا من سوق ذي المجاز ليلة التروية يحرمون البيع إلى انقضاء الحج قال النابغة يذكر ناقته:
كادت تساقطني رحلي وميثرتي ... بذي المجاز ولم تحسس به نغما
من صوت حرمية قالت وقد ظعنوا ... هل في مخيمكم من يشتري أدما
قالت لها وهي تسعى تحت لبتها ... لا تحطمنك إن البيع قد زرما

الإيمان بالإسلام كما قالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] وهو أحوال: الأول مجيء شريعة لقوم مجيئا مؤقتا لمدة حياة الرسول المرسل بها فإذا توفى ارتفعت الشريعة كشريعة نوح وإبراهيم وشريعة يوسف وشريعة شعيب قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ} إلى قوله: {إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} [غافر: 34] وبقي الناس في فترة وكان لكل أحد يريد الاهتداء أن يتبع تلك الشريعة أو بعضها كما كانوا يتبعون شريعة إبراهيم فإذا جاءت شريعة بعدها فليست الثانية بناسخة للأولى في الحقيقة ولكنها نسخ يخير الناس في متابعتها الذي كان لهم في زمن الفترة كما كانت عبس مثلا يجوز لها اتباع شريعة إبراهيم فلما جاءهم خالد بن سنان بشريعتة تعين عليهم اتباعه.
الثاني: أن تجيء شريعة لقوم مأمورين بالدوام عليها كشرع موسى ثم تجيء بعدها شريعة ليست رافعة لتلك الشريعة بأسرها ولكنها ترفع بعض أحكامها وتثبت بعضا كشريعة عيسى فهذه شريعة ناسخة في الجملة لأنها تنسخ بعضا وتفسر بعضا، فالمسيح رسول نسخ بعض التوراة وهو ما نص على نسخه وأما غيره فباق على أحكام التوراة فهو في معظمها مبين ومذكر ومفسر كمن سبقه من أنبياء بني إسرائيل مثل أشعياء وأرمياء وزكرياء الأول ودانيال وأضرابهم ولا يخالف هذا النوع نسخ أحكام شريعة واحدة إلا بكونه بواسطة رسول ثان.
الثالث: مجيء شريعة بعد أخرى بحيث تبطل الثانية الأولى إبطالا عاما بحيث تعد تلك الشريعة باطلة سواء في ذلك الأحكام التي نصت الشريعة الثانية فيها بشيء يخالف ما في الأولى أم فيما سكتت الشريعة الثانية عنه وهذا هو الإسلام بالنسبة لما تقدمه من الشرائع فإنه رفع الشرائع كلها بحيث لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتلقى شيئا من الشرائع السالفة فيما لم يتكلم الإسلام فيه بشيء بل يأخذ أحكام ذلك بالاستنباط والقياس وغير ذلك من طرق أصول الإسلام وقد اختلف في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ لكن ذلك الخلاف ناظر إلى دليل آخر وهو وهو قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]
وقوله: {أَوْ نُنْسِهَا} قرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وأبو جعفر وخلف "ننسها" بنون مضمومة في أوله وبسين مكسورة ثم هاء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو "ننسأها" بنون مفتوحة في أوله وبسين مفتوحة وبعدها همزة ساكنة ثم هاء فعلى قراءة ترك الهمز فهو من النسيان والهمزة للتعدية ومفعوله محذوف للعموم أي ننس الناس إياها

وذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك قراءتها حتى ينساها المسلمون، وعلى قراءة الهمز فالمعنى أو نؤخرها أي نؤخر تلاوتها أو نؤخر العمل بها والمراد إبطال العمل بقراءتها أو بحكمها فكني عنه بالنسئ وهو قسم آخر مقابل للنسخ وهو أن لا يذكر الرسول الناس بالعمل بحكم مشروع ولا يأمر من يتركه بقضائه حتى ينسى الناس العمل به فيكون ذلك إبطالا للحكم لأنه لو كان قائما لما سكت الرسول عن إعادة الأمر به ولما أقر تاركه عند موجب العمل به ولم أجد لهذا مثالا في القرآن ونظيره في السنة قول رسول الله: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة في جداره" عند من يقول إن النهي فيه للتحريم وهو قول أبي هريرة ولذلك كان يذكر هذا الحديث ويقول مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أظهركم. بمعنى النسء مشعر بتأخير يعقبه إبرام وحينئذ فالمعنى بقاء الحكم مدة غير منسوخ أو بقاء الآية من القرآن مدة غير منسوخة. أو يكون المراد إنساء الآية بمعنى تأخير مجيئها مع إرادة الله تعالى وقوع ذلك بعد حين والاحتمالات المفروضة في نسخ حكم من الشريعة تتأتى في نسخ شريعة بشريعة وإنسائها أو نسئها.
وقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} جواب الشرط وجعله جوابامشعر بأن هذين الحالين وهما النسخ والإنساء أو النسء لا يفارقان حالين وهما الإتيان في وقت النسخ ووقت الإنساء بشيء هو خير من النسوخ أو مثله أو خير من المنسي أو المنسوء أو مثله فالمأتي به مع النسخ هو الناسخ من شريعة أو حكم والمأتي به مع الإنساء من النسيان هو الناسخ أيضا من شريعة أو حكم أو هو ما يجيء من الأحكام غير ناسخ ولكنه حكم مخالف ينزل بعد الآخر والمأتي بع مع النسء أي التأخير هو ما يقارن الحكم الباقي من الأحكام النازلة في مدة عدم النسخ.
وقد أجملت جهة الخيرية والمثلية لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن فتجده مرادا إذ الخيرية تكون من حيث الاشتمال على ما يناسب مصلحة الناس، أو ما يدفع عنهم مضرة، أو ما فيه جلب عواقب حميدة، أو ما فيه ثواب جزيل، أو ما فيه رفق بالمكلفين ورحمة بهم في مواضع الشدة وإن كان حملهم على الشدة قد يكون أكثر مصلحة. وليس المراد أن كل صورة من الصور المفروضة في حالات النسخ والإنساء أو النسء هي مشتملة على الخير والمثل معا وإنما المراد أن كل صورة منهما لا تخلو من الاشتمال على الخير منها أو المثل لها فلذلك جيء بأو في قوله: {بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فهي مفيدة لأحد الشيئين مع جواز الجمع.

وتحقيق هاته الصور بأيديكم، ولنضرب لذلك أمثالا ترشد إلى المقصود وتغني عن البقية مع عدم التزام الدرج على القول الأصح فنقول:
1- نسخ شريعة مع الإتيان بخير منها كنسخ التوراة والإنجيل بالإسلام.
2- نسخ شريعة مع الإتيان بمثلها كنسخ شريعة هود بشريعة صالح فإن لكل فائدة مماثلة للأخرى في تحديد أحوال أمتين متقاربتي العوائد والأخلاق فهود نهاهم أن يبنوا بكل ريع آية يعبثون وصالح لم ينه عن ذلك ونهى عن التعرض للناقة بسوء.
3- نسخ حكم في شريعة بخير منه مثل نسخ كراهة الخمر الثابتة بقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ} [البقرة: 219] بتحريمها بتاتا فهذه الناسخة خير من جهة المصلحة دون الرفق وقد يكون الناسخ خيرا في الرفق كنسخ تحريم الأكل والشرب وقربان النساء في ليل رمضان بعد وقت الإفطار عند الغروب إذا نام الصائم قبل أن يتعشى بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: من الآية187] قال في الحديث في صحيح البخاري ففرح المسلمون بنزولها.
4- نسخ حكم في الشريعة بحكم مثله كنسخ الوصية للوالدين والأقربين بتعيين الفرائض والكل نافع للكل في إعطائه مالا وكنسخ فرض خمسين صلاة بخمس صلوات مع جعل ثواب الخمسين للخمس فقد تماثلنا من جهة الثواب، وكنسخ آية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: من الآية184] بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] إلى قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: من الآية184] فإثبات كون الصوم خيرا من الفدية.
5 إنساء بمعنى التأخير لشريعة مع مجيء خير منها، تأخير ظهور دين الإسلام في حين الإتيان بشرائع سبقته كل واحدة منها هي خير بالنسبة للأمة التي شرعت لها والعصر الذي شرعت فيه فإن الشرائع تأتي للناس بما يناسب أحوالهم حتى يتهيأ البشر كلهم لقبول الشريعة الخاتمة التي هي الدين عند الله فالخيرية هنا ببعض معانيها وهي نسبية.
6 إنساء شريعة بمعنى تأخير مجيئها مع إرادة الله تعالى وقوعه بعد حين ومع الإتيان بمثلها كتأخير شريعة عيسى في وقت الإتيان بشريعة موسى وهي خير منها من حيث الاشتمال على معظم المصالح وما تحتاج إليه الأمة.
7 إنساء بمعنى تأخير الحكم المراد مع الإتيان بخير منه كتأخير تحريم الخمر وهو

مراد مع الإتيان بكراهته أو تحريمه في أوقات الصلوات فقط فإن المأتي به خير من التحريم من حيث الرفق بالناس في حملهم على مفارقة شيء افتتنوا بمحبته.
8 إنساء شريعة بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها أي أوسع وأعم مصلحة وأكثر ثوابا لكن في أمة أخرى أو بمثلها كذلك.
9 إنساء آية من القرآن بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها في باب آخر أي أعم مصلحة أو بمثلها في باب آخر أي مثلها مصلحة أو ثوابا مثل تحريم الخمر في وقت الصلوات وينزل في تلك المدة تحريم البيع في وقت صلاة الجمعة.
10 نسيان شريعة بمعنى اضمحلالها كشريعة آدم ونوح مع مجيء شريعة موسى وهي أفضل وأوسع وشريعة إدريس مثلا وهي مثل شريعة نوح.
11 نسيان حكم شريعة مع مجيء خير منه أو مثله، كان فيما نزل عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات ثم نسيا معا وجاءت آية: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] على الإطلاق والكل متماثل في إثبات الرضاعة ولا مشقة على المكلفين في رضعة أو عشر لقرب المقدار.
وقيل المراد من النسيان الترك وهو حينئذ يرجع معناه وصوره إلى معنى وصور الإنساء بمعنى التأخير.
والمقصد من قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} إظهار منتهى الحكمة والرد عليهم بأنهم لا يهمهم أن تنسخ شريعة بشريعة أو حكم في شريعة بحكم آخر ولا يقدح ذلك في علم الله تعالى ولا في حكمته ولا ربوبيته لأنه ما نسخ شرعا أو حكما ولا تركه إلا وهو قد عوض الناس ما هو أنفع لهم منه حينئذ أو ما هو مثله من حيث الوقت والحال، وما أخر حكما في زمن ثم أظهره بعد ذلك إلا وقد عوض الناس في إبان تأخيره ما يسد مسده بحسب أحوالهم، وذلك مظهر الربوبية فإنه يرب الخلق ويحملهم على مصالحهم مع الرفق بهم والرحمة، ومراد الله تعالى في تلك الأزمنة والأحوال كلها واحد وهو حفظ نظام العالم وضبط تصرف الناس فيه على وجه يعصم أحوالهم من الاختلال بحسب العصور والأمم والأحوال إلى أن جاء بالشريعة الخاتمة وهي مراد الله تعالى من الناس ولذلك قال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [آل عمران: 19] وقال أيضا: {شَرَعَ لَكُمْ

مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] الآية.
والظاهر أن الإتيان بخير أو بمثل راجع إلى كل من النسخ والإنساء فيكون الإتيان بخير من المنسوخة أو المنساة أو بمثلها وليس الكلام من اللف والنشر. فقوله تعالى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} هو إما إتيان تعويض أو إتيان تعزيز. وتوزيع هذا الضابط على الصور المتقدمة غير عزيز. والمعنى إنا لم نترك الخلق في وقت سدى. وأن ليس في النسخ ما يتوهم منه البدا.
وفي الآية إيجاز بديع في التقسيم قد جمع هاته الصور التي سمعتموها وصورا تنشق منها لا أسألكموها لأنه ما فرضت منها صورة بعد هذا إلا عرفتموها.
ومما يقف منه الشعر ولا ينبغي أن يوجه إليه النظر ما قاله بعض المفسرين في قوله تعالى {نُنسِهَا} أنه إنساء الله تعالى المسلمين للآية أو للسورة، أي إذهابها عن قلوبهم أو إنساؤه النبي صلى الله عليه وسلم إياها فيكون نسيان الناس كلهم لها في وقت واحد دليلا على النسخ واستدلوا لذلك بحديث أخرجه الطبراني بسنده إلى ابن عمر: قال قرأ رجلان سورة أقرأهما إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فغديا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال لهما إنها مما نسخ وأنسى فالهوا عنها. قال ابن كثير هذا الحديث في سنده سليمان بن أرقم وهو ضعيف وقال ابن عطية هذا حديث منكر أغرب به الطبراني وكيف خفي مثله على أئمة الحديث. والصحيح أن نسيان النبي ما أراد الله نسخه ولم يرد أن يثبته قرآنا جائز، أي لكنه لم يقع فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي معصوم عنه قبل التبليغ، وأما بعد التبليغ وحفظ المسلمين له فجائز وقد روى أنه أسقط آية من سورة في الصلاة فلما فرغ قال لأبى لم لم تذكرني قال حسبت أنها رفعت قال لا ولكني نسيتها اه.
والحق عندي أن النسيان العارض الذي يتذكر بعده جائز ولا تحمل عليه الآية لمنافاته لظاهر قوله {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وأما النسيان المستمر للقرآن فأحسب أنه لا يجوز. وقوله تعالى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى:6] دليل عليه وقوله {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128] هو من باب التوسعة في الوعد وسيأتي بيان ذلك في سورة الأعلى. وأما ما ورد في صحيح مسلم عن أنس قال كنا نقرأ سورة نشبه هل في الطول ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب اه. فهو غريب وتأويله أن هنالك سورة

نسخت قراءتها وأحكامها، ونسيان المسلمين لما نسخ لفظه من القرآن غير عجيب على أنه حديث غريب اهـ.
وقد دلت هذه الآية على أن النسخ واقع وقد اتفق علماء الإسلام على جواز النسخ ووقوعه ولم يخالف في ذلك إلا أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بحر فقيل إن خلافه لفظي وتفصيل الأدلة في كتب أصول الفقه.
وقد قسموا نسخ أدلة الأحكام ومدلولاتها إلى أقسام: نسخ التلاوة والحكم معا وهو الأصل ومثلوه بما روى عن أبي بكر كان فيما أنزل لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ونسخ الحكم وبقاء التلاوة وهذا واقع لأن إبقاء التلاوة يقصد منه بفاء الإعجاز ببلاغة الآية ومثاله آية: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [لأنفال: 65] إلى آخر الآيات. ونسخ التلاوة وبقاء الحكم ومثلوه بما روى عن عمر كان فيما يتلى الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما وعندي أنه لا فائدة في نسخ التلاوة وبقاء الحكم وقد تأولوا قول عمر كان فيما يتلى أنه كان يتلى بين الناس تشهيرا بحكمه. وقد كان كثير من الصحابة يرى أن الآية إذا نسخ حكمها لا تبقى كتابتها في المصحف ففي البخاري في التفسير قال ابن الزبير قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها قال يابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.
[107,106] {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
مسوق لبيان حكمة الشيخ والإتيان بالخير والمثل بيانا غير مفصل على طريقة الأسلوب الحكيم وذلك أنه بعد أن فرغ من التنبيه على أن النسخ الذي استبعدوه وتذرعوا به لتكذيب الرسول هو غير مفارق لتعويض المنسوخ بخير منه أو مثله أو تعزيز المبقى بمثله أريد أن ينتقل من ذلك إلى كشف ما بقي من الشبهة وهي أن يقول المنكر وما هي الفائدة في النسخ حتى يحتاج للتعويض وكان مقتضى الظاهر أن يتصدى لبيان اختلاف المصالح ومناسبتها للأحوال والأعصار ولبيان تفاصيل الخيرية والمثلية في كل ناسخ ومنسوخ ولما

كان التصدي لذلك أمرا لم تتهيأ له عقول السامعين لعسر إدراكهم مراتب المصالح وتفاوتها لأن ذلك مما يحتاج إلى تأصيل قواعد من أصول شرعية وسياسية، عدل بهم عن بيان ذلك وأجملت لهم بالمصلحة بالحوالة على قدرة الله تعالى التي لا يشذ عنها ممكن مراد، وعلى سعة ملكه المشعر بعظيم علمه. وعلى حاجة المخلوقات إليه إذ ليس لهم رب سواه ولا ولي دونه وكفى بذلك دليلا على أنه يحملهم على مصالحهم في سائر الأحوال. ومما يزيد هذا العدول توجيها أن التصدي للبيان بفتح باب الجدال في إثبات المصلحة وتفاوت ذلك بحسب اختلاف القرائح والفهوم.
ولأن أسباب التشريع والنسخ أقسام منه ما ظهر وجهه بالنص فيمكن إفهامهم إياه نحو قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] الآية بعد قوله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الآية ونحو {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال: 66] الآية. ومنها ما يعسر إفهامهم إياه لأنه يحتاج إلى علم وتفصيل من شأن المشرعين وعلماء الأصول كالأشياء التي عرفت بالقياس وأصول التشريع. ومنها ما لم يطلع على حكمته في ذلك الزمان أو فيما يليه ولما كان معظم هاته التفاصيل يعسر أو يعتذر إفهامهم إياه وقع العدول المذكور. ولكون هاته الجملة تتنزل منزلة البيان للأولى فصلت عنها.
والخطاب في {تعلم} ليس مرادا منه ظاهرة الواحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم بل هو إما خطاب لغير معين خارج على طريقة المجاز بتشبيه من ليس حاضرا للخطاب وهو الغائب منزلة المخاطب في كونه بحيث يصير مخاطبا لشهرة هذا الأمر والمقصد من ذلك ليعم كل مخاطب صالح له وهو كل من يظن به أو يتوهم منه أنه لا يعلم أن الله على كل شيء قدير ولو بعدم جريانه على موجب علمه، وإلى هذه الطريقة مال القطب والطيبي من شراح الكشاف وعليها يشمل هذا الخطاب ابتداء اليهود والمشركين ومن عسى أن يشتبه عليه الأمر وتروج عليه الشبهة من ضعفاء المسلمين، أما غيرهم فغني عن التقرير في الظاهر وإنما أدخل فيه ليسمع غيره.
وإما مراد به ظاهره وهو الواحد فيكون المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم لكن المقصود منه المسلمون فينتقل من خطاب النبي إلى مخاطبة أمته انتقالا كنائيا لأن علم الأمة من لوازم علم الرسول من حيث إنه رسول لزوما عرفيا فكل حكم تعلق به بعنوان الرسالة فالمراد منه أمته لأن ما يثبت له من المعلومات في باب العقائد والتشريع فهو حاصل لهم فتارة يراد

من الخطاب توجه مضمون الخطاب إليه ولأمته وتارة يقصد منه توجه المضمون لأمته فقط على قاعدة الكتابة في جواز إرادة المعنى الإصلي مع الكنائي، وهاهنا لا يصلح توجه المضمون للرسول لأنه لا يقرر على الاعتراف بأن الله على كل شيء قدير فضلا عن أن ينكر عنه وإنما التقرير للأمة، والمقصد من تلك الكناية التعريض باليهود. وإنما سلك هذا الطريق دون أن يؤتى بضمير الجماعة المخاطبين لما في سلوك طريق الكناية من البلاغة والمبالغة مع الإيجاز في لفظ الضمير.
والاستفهام تقريري على الوجهين وهو شأن الاستفهام الداخل على النفي كما تقدم عند قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 33] أي أنكم تعلمون أن الله قدير وتعلمون أنه مالك السماوات والأرض بما يجري فيهما من الأحوال، فهو ملكه أيضا فهو يصرف الخلق كيف يشاء. وقد أشار في الكشاف إلى أنه تقريري وصرح به القطب في شرحه ولم يسمع في كلام العرب استفهام دخل على النفي إلا وهو مراد به التقرير.
وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} قال البيضاوي: هو متنزل من الجملة التي قبله منزلة الدليل لأن الذي يكون له ملك السماوات والأرض لا جرم أن يكون قديرا على كل شيء ولذا فصلت هذه الجملة عن التي قبلها. وعندي أن موجب الفصل هو أن هاته الجملة بمنزلة التكرير للأولى لأن مقام التقرير ومقام التوبيخ كلاهما مقام تكرير لما به التقرير والإنكار تعديدا على المخاطب.
[108] {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}
أم حرف عطف مختص بالاستفهام وما في معناه وهو التسوية1 فإذا عطفت أحد مفردين مستفهما عن تعيين أحدهما استفهاما حقيقيا أو مسوى بينهما في احتمال الحصول فهي بمعنى أو العاطفة ويسميها النحاة متصلة، وإذا وقعت عاطفة جملة دلت على انتقال من الكلام السابق إلى استفهام فتكون بمعنى بل الانتقالية ويسميها النحاة منقطعة
ـــــــ
1 لأن التحقيق أن همزة التسوية همزة استفهام تدل على استواء أمرين بمعنى استواء الجواب لو سأل سائل عن أحد أمرين.

والاستفهام ملازم لما بعدها في الحالين. وهي هنا منقطعة لا محالة لأن الاستفهامين اللذين قبلها في معنى الخبر لأنهما للتقرير كما تقدم إلا أن وقوعهما في صورة الاستفهام ولو للتقرير يحسن موقع أم بعدها كما هو الغالب والاستفهام الذي بعدهما هنا إنكار وتحذير، والمناسبة في هذا الانتقال تامة فإن التقرير الذي قبلها مراد منه التحذير من الغلط وأن يكونوا كمن لا يعلم والاستفهام الذي بعدها مراد منه التحذير كذلك والمحذر منه في الجميع مشترك في كونه من أحوال اليهود المذمومة ولا يصح كون أم هنا متصلة لأن الاستفهامين اللذين قبلها ليسا على حقيقتهما لا محالة كما تقدم.
وقد جوز القزويني في الكشف على الكشاف كون أم هنا متصلة بوجه مرجوح وتبعه البيضاوي وتكلفا لذلك مما لا يساعد استعمال الكلام العربي، وأفرط عبد الحكيم في حاشية البيضاوي فزعم أن حملها على المتصلة أرجح لأنه الأصل لا سيما مع اتحاد فاعل الفعلين المتعاطفين بأم ولدلالته على أنهم إذا سألوا سؤال قوم موسى فقد علموا أن الله على كل شيء قدير وإنما قصدوا التعنت وكان الجميع في غفلة عن عدم صلوحية الاستفهامين السابقين للحمل على حقيقة الاستفهام.
وقوله {تريدون} خطاب للمسلمين لا محالة بقرينة قوله: {رسولكم} وليس كونه كذلك بمرجح كون الخطابين اللذين قبله متوجهين إلى المسلمين لأن انتقال الكلام بعد أم المنقطعة يسمح بانتقال الخطاب. وقوله: {تريدون} يؤذن بأن السؤال لم يقع ولكنه ربما جاش في نفوس بعضهم أو ربما أثارته في نفوسهم شبه اليهود في إنكارهم النسخ وإلقائهم شبهة البداء ونحو ذلك مما قد يبعث بعض المسلمين على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {كَمَا سُئِلَ مُوسَى} تشبيه وجهه أن في أسئلة بني إسرائيل موسى كثيرا من الأسئلة التي تفضي بهم إلى الكفر كقولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: من الآية138] أو من العجرفة كقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: من الآية55] فيكون التحذير من تسلسل الأسئلة المفضي إلى مثل ذلك. ويجوز كونه راجعا إلى أسئلة بني إسرائيل عما لا يعنيهم وعما يجر لهم المشقة كقولهم: {مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69] و {مَا هِيَ} [البقرة: 70]،
قال الفخر: إن المسلمين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى ا هـ. وقد ذكر غيره أسبابا أخرى للنزول، منها: أن المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر لما مروا بذات الأنواط التي كانت للمشركين أن

يجعل لهم مثلها ونحو هذا مما هو مبني على أخبار ضعيفة، وكل ذلك تكلف لما لا حاجة إليه فإن الآية مسوقة مساق الإنكار التحذيري بدليل قوله {تريدون} قصدا للوصاية بالثقة بالله ورسوله والوصاية والتحذير لا يقتضيان وقوع الفعل بل يقتضيان عدمه. والمقصود التحذير من تطرق الشك في صلاحية الأحكام المنسوخة قبل نسخها لا في صلاحية الأحكام الناسخة عند وقوعها.
وقوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} تذييل للتحذير الماضي للدلالة على أن المحذر منه كفر أو يفضي إلى الكفر لأنه ينافي حرمة الرسول والثقة به وبحكم الله تعالى، ويحتمل أن المراد بالكفر أحوال أهل الكفر أي لا تتبدلوا بآدابكم تقلد عوائد أهل الكفر في سؤالهم كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين: "فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" وإطلاق الكفر على أحوال أهله وإن لم تكن كفرا شائع في ألفاظ الشريعة وألفاظ السلف كما قالت جميلة بنت عبد الله بن أبي زوجة ثابت بن قيس: إني أكره الكفر تريد الزنا، فإن ذكر جملة بعد جملة يؤذن بمناسبة بين الجملتين فإذا لم يكن مدلول الجملتين واضح التناسب علم المخاطب أن هنالك مناسبة يرمز إليها البليغ فهنا تعلم أن الارتداد عن الإيمان إلى الكفر معنى كلي عام يندرج تحته سؤالهم الرسول كما سأل بنو إسرائيل موسى فتكون تلك القضية كفرا وهو المقصود من التذييل المعرف في باب الإطناب بأنه تعقيب الجملة بجملة مشتملة على معناها تتنزل منزلة الحجة على مضمون الجملة وبذلك يحصل تأكيد معنى الجملة الأولى وزيادة فالتذييل ضرب من ضروب الإطناب من حيث يشتمل على تقرير معنى الجملة الأولى ويزيد عليه بفائدة جديدة لها تعلق بفائدة الجملة الأولى. وأبدعه ما أخرج مخرج الأمثال لما فيه من عموم الحكم ووجيز اللفظ مثل هاته الآية، وقول النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
والمؤكد بجملة: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ} هو مفهوم جملة {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ} مفهوم الجملة التي قبلها لا منطوقها فهي كالتذييل الذي في بيت النابغة. والقول في تعدية فعل {يتبدل} مضي عند قوله تعالى {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61]
وقد جعل قوله {فَقَدْ ضَلَّ} جوابا لمن الشرطية لأن المراد من الضلال أعظمه وهو الحاصل عقب تبدل الكفر بالإيمان ولا شبهة في كون الجواب مترتبا على الشرط ولا

يريبك في ذلك وقوع جواب الشرط فعلا ماضيا مع أن الشرط إنما هو تعليق على المستقبل ولا اقتران الماضي بقد الدالة على تحقق المضي لأن هذا استعمال عربي جيد يأتون بالجزاء ماضيا لقصد الدلالة على شدة ترتب الجزاء على الشرط وتحقق وقوعه معه حتى أنه عند ما يحصل مضمون الشرط يكون الجزاء قد حصل فكأنه حاصل من قبل الشرط نحو {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81] وعلى مثل هذا يحمل كل جزاء جاء ماضيا فإن القرينة عليه أن مضمون الجواب لا يحصل إلا بعد حصول الشرط وهم يجعلون قد علامة على هذا القصد ولهذا قلما خلا جواب ماض لشرط مضارع إلا والجواب مقترن بقد حتى قيل إن غير ذلك ضرورة ولم يقع في القرآن كما نص عليه الرضى بخلافه مع قد فكثير في القرآن.
وقد يجعلون الجزاء ماضيا مريدين أن حصول مضمون الشرط كاشف عن كون مضمون الجزاء قد حصل أو قد تذكره الناس نحو {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: من الآية77] وعليه فيكون تحقيق الجزاء في مثله هو ما يتضمنه الجواب من معنى الانكشاف أو السبق أو غيرهما بحسب المقامات قبل أن يقدر فلا تعجب إذ قد سرق أخ له1 ويمكن تخريج هذه الآية على ذلك بأن يقدر ومن يتبدل الكفر بالإيمان فالسبب فيه أنه قد كان ضل سواء السبيل حتى وقع في الارتداد كما تقول من وقع في المهواة فقد خبط خبط عشواء إن أريد بالماضي أنه حصل وأريد بالضلال ما حف بالمرتد من الشبهات والخذلان الذي أوصله إلى الارتداد وهو بعيد من غرض الآية.
والسواء الوسط من كل شيء قال بلعاء بن قيس:
غشيته وهو في جأواء باسلة ... عضبا أصاب سواء الرأس فانفلقا
ووسط الطريق هو الطريق الجادة الواضحة لأنه يكون بين بنيات الطريق التي لا تنتهي إلى الغاية.
ـــــــ
1 ومثل هذا أن يكون الشرط والجزاء ما ضيين فإن ذلم يدل أن المعنى إن تحقق هذا تحقق هذا نحو {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: من الآية116] ويقرب منه مجيء الجزاء جملة اسمية لدلالتها على ثبوت مضمونها دون زمان أصلا نحو قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: من الآية97] أي من يتحقق عداوته لجبريل فلتدم عداوته لأنه نزله ونحو قول الشاعر:
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح
أي فيصد فأنا المعروف بالشجاعة.

[110,109] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
مناسبته لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم، وآخرتها شبهة النسخ. فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر. وقد استطرد بينه وبين الآية السابقة بقوله {مَا نَنْسَخْ} [البقرة: 106] الآيات للوجوه المتقدمة. فلأجل ذلك فصلت هاته الجملة لكونها من الجملة التي قبلها بمنزلة البيان إذ هي بيان لمنطوقها ولمفهومها، وفي تفسير ابن عطية والكشاف وأسباب النزول للواحدي أن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدراس1 وفيه فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس وغيرهما من اليهود فقالوا لحذيفة وعمار ألم تروا ما أصابكم يوم أحد ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير ونحن أهدى منكم فردا عليهم وثبتا على الإسلام.
والود تقدم في الآية السالفة.
وإنما أسند هذا الحكم أي الكثير منهم وقد أسند قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] إلى جميعهم لأن تمنيهم أن لا ينزل دين إلى المسلمين يستلزم تمنيهم أن يتبع المشركون دين اليهود أو النصارى حتى يعم ذلك الدين جميع بلاد العرب فلما جاء الإسلام شرقت لذلك صدورهم جميعا فأما علماؤهم وأحبارهم فخابوا وعلموا أن ما صار إليه المسلمون خير مما كانوا عليه من الإشراك لأنهم صاروا إلى توحيد الله والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه وفي ذلك إيمان بموسى وعيسى وإن لم يتبعوا ديننا، فهم لا يودون رجوع المسلمين إلى الشرك القديم لأن في مودة ذلك تمنى الكفر وهو رضي به. وأما عامة اليهود وجهلتهم فقد بلغ بهم الحسد والغيظ إلى مودة أن يرجع المسلمون إلى
ـــــــ
1 المدارس بكسر الميم بيت تعليم التورات لتلامذة اليهود.

الشرك ولا يبقوا على هذه الحالة الحسنة الموافقة لدين موسى في معظمه نكاية بالمسلمين وبالنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:50]
وفي هذا المعنى المكتنز ما يدلكم على وجه التعبير {بيردونكم} دون لو كفرتم ليشار إلى أن وداتهم أن يرجع المسلمون إلى الشرك لأن الرد إنما يكون إلى أمر سابق ولو قيل لو كفرتم لكان فيه بعض العذر لأهل الكتاب لاحتماله أنهم يودون مصير المسلمين إلى اليهودية. وبه يظهر وجه مجيء {كفارا} معمولا لمعمول {وَدَّ كَثِيرٌ} ليشار إلى أنهم ودوا أن يرجع المسلمون كفارا بالله أي كفارا كفرا متفقا عليه حتى عند أهل الكتاب وهو الإشراك فليس ذلك من التعبير عن ما صدق ما ودوه بل هو من التعبير عن مفهوم ما ودوه. وبه يظهر أيضا وجه قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} فإنه تبين أن ما عليه المسلمون حق من جهة التوحيد والإيمان بالرسل بخلاف الشرك، أو من بعد ما تبين لهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم إذا كان المراد بالكثير منهم خاصة علمائهم والله مطلع عليهم.
و {لو} هنا بمعنى أن المصدرية ولذلك يؤول ما بعدها بمصدر.
و {حسدا} حال من ضمير {ود} أي أن هذا الود لا سبب له إلا الحسد لا الرغبة في الكفر.
وقوله {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} جيء فيه بمن الابتدائية للإشارة إلى تأصل هذا الحسد فيهم وصدوره عن نفوسهم. وأكد ذلك بكلمة عند الدالة على الاستقرار ليزداد بيان تمكنه وهو متعلق بحسدا لا بقوله {ود} .
وإنما أمر المسلمون بالعفو والصفح عنهم في هذا الموضع خاصة لأن ما حكي عن أهل الكتاب هنا مما يثير غضب المسلمين لشدة كراهيتهم للكفر قال تعالى {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} [الحجرات: من الآية7] فلا جرم أن كان من يود لهم ذلك يعدونه أكبر أعدائهم فلما كان هذا الخبر مثيرا للغضب خيف أن يفتكوا باليهود وذلك ما لا يريده الله منهم لأن الله أراد منهم أن يكونوا مستودع عفو وحلم حتى يكونوا قدوة في الفضائل.
والعفو ترك عقوبة المذنب. والصفح بفتح الصاد مصدر صفحا إذا أعرض لأن الإنسان إذا أعرض عن شيء ولاه من صفحة وجهه، وصفح وجهه أي جانبه وعرضه وهو مجاز في عدم مواجهته بذكر ذلك الذنب أي عدم لومه وتثريبه عليه وهو أبلغ من العفو كما نقل عن الراغب ولذلك عطف الأمر به على الأمر بالعفو لأن الأمر بالعفو لا

يستلزمه ولم يستغن باصفحوا لقصد التدريج في أمرهم بما قد يخالف ما تميل إليه أنفسهم من الانتقام تلطفا من الله مع المسلمين في حملهم على مكارم الأخلاق.
وقوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي حتى يجيء ما فيه شفاء غليلكم قيل هو إجلاء بني النضير وقتل قريظة، وقيل الأمر بقتال الكتابيين أو ضرب الجزية.
والظاهر أنه غاية مبهمة للعفو والصفح تطمينا لخواطر المأمورين حتى لا ييأسوا من ذهاب أذى المجرمين لهم بطلا وهذا أسلوب مسلوك في حمل الشخص على شيء لا يلائمه كقول الناس حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا فإذا جاء أمر الله بترك العفو انتهت الغاية ومن ذلك إجلاء بني النضير.
ولعل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليما للمسلمين فضيلة العفو أي فإن الله قدير على كل شيء وهو يعفو ويصفح وفي الحديث الصحيح لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل يدعون له ندا وهو يرزقهم، أو أراد أنه على كل شيء قدير فلو شاء لأهلكهم الآن ولكنه لحكمته أمركم بالعفو عنهم وكل ذلك يرجع إلى الائتساء بصنع الله تعالى وقد قيل إن الحكمة كلها هي التشبه بالخالق بقدر الطاقة البشرية. فجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل مسوق مساق التعليل. وجملة {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109] إلى قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ} [البقرة: من الآية111] تفريع مع اعتراض فإن الجملة المعترضة هي الواقعة بين جملتين شديدتي الاتصال من حيث الغرض المسوق له الكلام والاعتراض هو مجيء ما لم يسق غرض الكلام له ولكن للكلام والغرض به علاقة وتكميلا وقد جاء التفريع بالفاء هنا في معنى تفريع الكلام على الكلام لا تفريع معنى المدلول على المدلول لأن معنى العفو لا يتفرع عن ود أهل الكتاب ولكن الأمر به تفرع عن ذكر هذا الود الذي هو أذى وتجيء الجملة المعترضة بالواو وبالفاء بأن يكون المعطوف اعتراضا. وقد جوزه صاحب الكشاف عند قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: من الآية43] في سورة النحل، وجوزه ابن هشام في مغنى اللبيب واحتج له بقوله تعالى: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] على قول ونقل بعض تلامذة الزمخشري أنه سئل عن قوله تعالى في سورة عبس: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} أنه قال لا يصح أن تكون جملة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} اعتراضا لأن الاعتراض لا يكون مع الفاء ورده صاحب الكشاف بأنه لا يصح عنه لمنافاته كلامه في آية سورة النحل
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أريد به الأمر بالثبات على الإسلام فإن

الصلاة والزكاة ركناه فالأمر بهما يستلزم الأمر بالدوام على ما أنتم عليه على طريق الكناية.
وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} مناسب للأمر بالثبات على الإسلام وللأمر بالعفو والصفح وفيه تعريض باليهود بأنهم لا يقدرون قدر عفوكم وصفحكم ولكنه لا يضيع عند الله ولذلك اقتصر على قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} قال الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تذييل لما قبله والبصير العليم كما تقدم وهو كناية عن عدم إضافة جزاء المحسن والمسيء لأن العليم القدير إذا علم شيئا فهو يرتب عليه ما يناسبه إذ لا يذهله جهل ولا يعوزه عجز وفي هذا وعد لهم يتضمن وعيدا لغيرهم لأنه إذا كان بصيرا بما يعمل المسلمون كان بصيرا بما يعمل غيرهم.
[112,111] {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
عطف على {وَدَّ كَثِيرٌ} [البقرة: 109] وما بينهما من قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: من الآية109] الآية اعتراض كما تقدم.
والضمير لأهل الكتاب كلهم من اليهود والنصارى بقرينة قوله بعده: {إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} . ومقول القول مختلف باختلاف القائل فاليهود قالت لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، والنصارى قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فجمع القرآن بين قوليهما على طريقة الإيجاز بجمع ما اشتركا فيه وهو نفي دخول الجنة عن المستثنى منه المحذوف لأجل تفريع الاستثناء. ثم جاء بعده تفريق ما اختص به كل فريق وهو قوله: {هُوداً أَوْ نَصَارَى} . فكلمة "أو" من كلام الحاكي في حكايته وليست من الكلام المحكي فأوهنا لتقسيم القولين ليرجع السامع كل قول إلى قائله والقرينة على أن أو ليست من مقولهم المحكي أنه لو كان من مقولهم لاقتضى أن كلا الفريقين لا ثقة له بالنجاة وأنه يعتقد إمكان نجاة مخالفه والمعلوم من حال أهل كل دين خلاف ذلك فإن كلا من اليهود والنصارى لا يشك في نجاة نفسه ولا يشك في ضلال مخالفه وهي أيضا قرينة على تعيين كل من خبري {كَانَ} لبقية الجملة المشتركة التي قالها كل فريق بإرجاع هودا إلى مقول

اليهود وإرجاع نصارى إلى مقول النصارى. فأوها هنا للتوزيع وهو ضرب من التقسيم الذي هو من فروع كونها لأحد الشيئين وذلك أنه إيجاز مركب من إيجاز الحذف لحذف المستثنى منه ولجمع القولين في فعل واحد وهو {قالوا} ومن إيجاز القصر لأن هذا الحذف لما لم يعتمد فيه على مجرد القرينة المحوجة لتقدير وإنما دل على المحذوف من القولين بجلب حرف أو كانت أو تعبيرا عن المحذوف بأقل عبارة فينبغي أن يعد قسما ثالثا من أقسام الإيجاز وهو إيجاز حذف وقصر معا.
وقد جعل القزويني في تلخيص المفتاح هاته الآية من قبيل اللف والنشر الإجمالي أخذا من كلام الكشاف لقول صاحب الكشاف فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين فقوله فلف بين القولين أراد به اللف الذي هو لقب للمحسن البديعي المسمى اللف والنشر ولذلك تطلبوا لهذا اللف نشرا وتصويرا للف في الآية من قوله قالوا مع ما بينه وهو لف إجمالي يبينه نشره الآتي بعده ولذلك لقبوه اللف الإجمالي. ثم وقع نشر هذا اللف بقوله: {إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} فعلم من حرف أو توزيع النشر إلى ما يليق بكل فريق من الفريقين. وقال التفتزاني في شرح المفتاح جرى الاستعمال في النفي الإجمالي أن يذكر نشره بكلمة أو.
والهود جمع هائد أي متبع اليهودية وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البقرة: من الآية62] الآية وجمع فاعل على فعل غير كثير وهو سماعي منه قولهم عوذ جمع عائذ وهي الحديثة النتاج من الظباء والخيل والإبل ومنه أيضا عائط وعوط للمرأة التي بقيت سنين لم تلد. وحائل وحول، وبازل وبزل، وفاره وفره، وإنما جاء هودا جمعا مع أنه خبر عن ضميره "كان" وهو مفرد لأن "من" مفردا لفظا ومراد به الجماعة فجرى ضميره على مراعاة لفظه وجرى خبرا وضميرا على مراعاة المعنى. والإشارة بـ {تلك} إلى القولة الصادرة منهم {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} كما هو الظاهر فالإخبار عنها بصيغة الجمع إما لأنها لما كانت أمنية كل واحد منهم صارت إلى أماني كثيرة وإما إرادة أن كل أمانيهم كهذه ومعتادهم فيها فيكون من التشبيه البليغ.
والأماني تقدمت في قوله: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] وجملة {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} معترضة.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68