كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

والمعنى: أنهم مثل قريش في الازدهاء بالنعمة التي هم فيها، أي في بطر نعمة الله عليهم. فالتشبيه يقتضي أنهم مثل الأمم السالفة في سبب الازدهاء وهو ما هم فيه من نعمة حتى نسوا احتياجهم إلى الله تعالى، قال تعالى {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11]
وقد جاء في حكاية قول المشركين الحاضرين وصفهم أنفسهم بأنهم مهتدون بآثار آبائهم، وجاء في حكاية أقوال السابقين وصفهم أنفسهم بأنهم بآبائهم مقتدون، لأن أقوال السابقين كثيرة مختلفة يجمع مختلفها أنها اقتداء بآبائهم، فحكاية أقوالهم من قبيل حكاية القول بالمعنى، وحكاية القول بالمعنى طريقة في حكاية الأقوال كثر ورودها في القرآن وكلام العرب.
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}
قرأ الجمهور {قل} بصيغة فعل الأمر لمفرد فيكون أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله جوابا عن قول المشركين {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]
وقرأ ابن عامر وحفص {قال} بصيغة فعل المضي المسند إلى المفرد الغائب فيكون الضمير عائدا إلى نذير الذين قالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. فحصل من القراءتين أن جميع الرسل أجابوا أقوامهم بهذا الجواب، وعلى كلتا القراءتين جاء فعل {قل} أو {قال} مفصولا غير معطوف لأنه واقع في مجال المحاورة كما تقدم غير مرة، منها قوله تعالى {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة.[30]
وقرأ الجمهور {جئتكم} بضمير تاء المتكلم. وقرأ أبو جعفر {جئناكم} بنون ضمير المتكلم المشارك وأبو جعفر من الذين قرأوا {قل} بصيغة الأمر فيكون ضمير {جئناكم} عائدا للنبي صلى الله عليه وسلم المخاطب بفعل {قل} لتعظيمه صلى الله عليه وسلم من جانب ربه تعالى الذي خاطبه بقوله {قل} .
والواو في قوله {أو لو} عاطفة الكلام المأمور به على كلامهم، وهذا العطف مما

والمعنى: أنهم مثل قريش في الازدهاء بالنعمة التي هم فيها، أي في بطر نعمة الله عليهم. فالتشبيه يقتضي أنهم مثل الأمم السالفة في سبب الازدهاء وهو ما هم فيه من نعمة حتى نسوا احتياجهم إلى الله تعالى، قال تعالى {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11]
وقد جاء في حكاية قول المشركين الحاضرين وصفهم أنفسهم بأنهم مهتدون بآثار آبائهم، وجاء في حكاية أقوال السابقين وصفهم أنفسهم بأنهم بآبائهم مقتدون، لأن أقوال السابقين كثيرة مختلفة يجمع مختلفها أنها اقتداء بآبائهم، فحكاية أقوالهم من قبيل حكاية القول بالمعنى، وحكاية القول بالمعنى طريقة في حكاية الأقوال كثر ورودها في القرآن وكلام العرب.
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}
قرأ الجمهور {قل} بصيغة فعل الأمر لمفرد فيكون أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله جوابا عن قول المشركين {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]
وقرأ ابن عامر وحفص {قال} بصيغة فعل المضي المسند إلى المفرد الغائب فيكون الضمير عائدا إلى نذير الذين قالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. فحصل من القراءتين أن جميع الرسل أجابوا أقوامهم بهذا الجواب، وعلى كلتا القراءتين جاء فعل {قل} أو {قال} مفصولا غير معطوف لأنه واقع في مجال المحاورة كما تقدم غير مرة، منها قوله تعالى {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة.[30]
وقرأ الجمهور {جئتكم} بضمير تاء المتكلم. وقرأ أبو جعفر {جئناكم} بنون ضمير المتكلم المشارك وأبو جعفر من الذين قرأوا {قل} بصيغة الأمر فيكون ضمير {جئناكم} عائدا للنبي صلى الله عليه وسلم المخاطب بفعل {قل} لتعظيمه صلى الله عليه وسلم من جانب ربه تعالى الذي خاطبه بقوله {قل} .
والواو في قوله {أو لو} عاطفة الكلام المأمور به على كلامهم، وهذا العطف مما

يسمى عطف التلقين، ومنه قوله تعالى عن إبراهيم {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]. والهمزة للاستفهام التقريري المشوب بالإنكار. وقدمت على الواو لأجل التصدير.
و {لو} وصلية، و {لو} الوصلية تقتضي المبالغة بنهاية مدلول شرطها كما تقدم عند قوله تعالى {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91] أي لو جئتكم بأهدى من دين آبائكم تبقون على دين آبائكم وتتركون ما هو أهدى.
والمقصود من الاستفهام تقريرهم على ذلك لاستدعائهم إلى النظر فيما اتبعوا فيه آباءهم لعل ما دعاهم إليه الرسول أهدى منهم. وصوغ اسم التفضيل من الهدي إرخاء للعنان لهم ليتدبروا، نزل ما كان عليهم آباؤهم منزلة ما فيه شيء من الهدى استنزالا لطائر المخاطبين ليتصدوا للنظر كقوله {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
{قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}
بدل من جملة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] لأن ذلك يشتمل على معنى: لا نتبعكم ونترك ما وجدنا عليه آباءنا، وضمير {قالوا} راجع إلى {مترفوها} [الزخرف:23] لأن موقع جملة {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:25]
يعين أن هؤلاء القائلين وقع الانتقام منهم فلا يكون منهم المشركون الذين وقع تهديدهم بأولئك.
وقولهم "ما أرسلتم به" يجوز أن يكون حكاية لقولهم، فإطلاقهم اسم الإرسال على دعوة رسلهم تهكم مثل قوله {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7] ويجوز أن يكون حكاية بالمعنى وإنما قالوا إنا بما زعمتم أنكم مرسلون به، وما أرسلوا به توحيد الإله.
[25] {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
تفريع على جملة {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 24] أي انتقمنا منهم عقب تصريحهم بتكذيب الرسل. وهذا تهديد بالانتقام من الذين شابهوهم في مقالهم، وهم كفار قريش.
والانتقام افتعال من النقم وهو المكافأة بالسوء، وصيغة الافتعال لمجرد المبالغة، يقال: نقم كعلم وضرب، إذا كافأ على السوء بسوء، وفي مثل هو كالأرقم إن يترك

يلقم وإن يقتل ينقم. الأرقم: ضرب من الحيات يعتقد العرب أنه من الجن فإن تركه المرء يتسور عليه فيلسعه ويقتله وإن قتله المرء انتقم بتأثيره فأمات قاتله وهذا من أوهام العرب.
والمراد بالانتقام استئصالهم وانقراضهم. وتقدم في قوله تعالى {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} في سورة الأعراف.[136] ولذلك فالنظر في قوله {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} نظر التفكر والتأمل فيما قص الله على رسوله من أخبارهم كقوله تعالى {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] وليس نظر البصر إذ لم ير النبي حالة الانتقام فيهم ويجوز أن يكون الخطاب لغير معين، أي لكل من يتأتى منه التأمل.
و {كيف} استفهام عن الحالة وهو قد علق فعل النظر عن مفعوله.
[27,26] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}
لما ذكرهم الله بالأمم الماضية وشبه حالهم بحالهم ساق لهم أمثالا في ذلك من مواقف الرسل مع أممهم منها قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه.
وابتدأ بذكر إبراهيم وقومه إبطالا لقول المشركين {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] بأن أولى آبائهم بأن يقتدوا به هو أبوهم الذي يفتخرون بنسبته إبراهيم.
وجملة {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} عطف على عموم الكلام السابق من قوله {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} [الزخرف: 23] إلى قوله {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} وهو عطف الغرض على الغرض.
و {إذ} ظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر إذ قال إبراهيم، ونظائر هذا كثيرة في القرآن كما تقدم في قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة.[30]
والمعنى: واذكر زمان قول إبراهيم لأبيه وقومه قولا صريحا في التبرئ من عبادة الأصنام.
وخص أبو إبراهيم بالذكر قبل ذكر قومه وما هو إلا واحد منهم اهتماما بذكره لأن براءة إبراهيم مما يعبد أبوه أدل على تجنب عبادة الأصنام بحيث لا يتسامح فيها ولو كان الذي يعبدها أقرب الناس إلى موحد الله بالعبادة مثل الأب، ولتكون حكاية كلام

إبراهيم قدوة لإبطال قول المشركين {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] قال تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 4] أي فما كان لكم أن تقتدوا بآبائكم المشركين وهلا اقتديتم بأفضل آبائكم وهو إبراهيم.
والبراء بفتح الباء مصدر بوزن الفعال مثل الظماء والسماع يخبر به ويوصف به في لغة أهل العالية وهي ما فوق نجد إلى أرض تهامة مما وراء مكة وأما أهل نجد فيقولون بريء.
والاستثناء في قوله {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} استثناء من "ما تعبدون"، و"ما" موصولة أي من الذين تعبدونهم فإن قوم إبراهيم كانوا مشركين مثل مشركي العرب. وقد بسطنا ذلك فيما تقدم عند قوله {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام: 74].
وفرع على هذا قوله {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} لأن قوله {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} يتضمن معنى: إنني اهتديت إلى بطلان عبادتكم الأصنام بهدي من الله.
وسين الاستقبال مؤذنة بأنه أخبرهم بأن هداية الله إياه قد تمكنت وتستمر في المستقبل، ويفهم أنها حاصلة الآن بفحوى الخطاب.
وتوكيد الخبر ب"إن" منظور فيه إلى حال أبيه وقومه لأنهم ينكرون أنه الآن على هدى فهم ينكرون أنه سيكون على هدى في المستقبل.
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28]
عطف على {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} [البقرة: 258] أي أعلن تلك المقالة في قومه معاصريه وجعلها كلمة باقية في عقبه ينقلونها إلى معاصريهم من الأمم. إذ أوصى بها بنيه وأن يوصوا بنيهم بها، قال تعالى في سورة البقرة {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، فبتلك الوصية أبقى إبراهيم توحيد الله بالإلهية والعبادة في عقبه يبثونه في الناس. ولذلك قال يوسف لصاحبيه في السجن {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] وقال لهما {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} إلى قوله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 37-40]

فضمير الرفع في {جعلها} عائد إلى إبراهيم وهو الظاهر من السياق والمناسب لقوله {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ولأنه لم يتقدم اسم الجلالة ليعود عليه ضمير {جعلها} .
وحكى في الكشاف انه قيل: الضمير عائد إلى الله وجزم به القرطبي وهو ظاهر كلام أبي بكر بن العربي.
والضمير المنصوب في قوله {وجعلها} عائد إلى الكلام المتقدم. وأنث الضمير لتأويل الكلام بالكلمة نظرا لوقوع مفعوله الثاني لفظ {كلمة} لأن الكلام يطلق عليه {كلمة} كقوله تعالى في سورة المؤمنين {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} أي قول الكافر {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99,100] وقال تعالى {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] وهي قولهم {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} وقد قال تعالى {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة: 132]، أي بقوله {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] فأعاد عليها ضمير التأنيث على تأويل [الكلمة].
واعلم أنه إنما يقال للكلام كلمة إذا كان كلاما سائرا على الألسنة متمثلا به، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل ، أو كان الكلام مجعولا شعارا كقولهم لا إله إلا الله كلمة الإسلام وقال تعالى {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 74].
فالمعنى: جعل إبراهيم قوله {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} شعارا لعقبه، أي جعلها هي وما يرادفها قولا باقيا في عقبه على مر الزمان فلا يخلو عقب إبراهيم من موحدين لله نابذين للأصنام.
وأشعر حرف الظرفية بأن هاته الكلمة لم تنقطع بين عقب إبراهيم دون أن تعم العقب، فإن أريد بالعقب مجموع أعقابه فإن كلمة التوحيد لم تنقطع من اليهود وانقطعت من العرب بعد أن تقلدوا عبادة الأصنام إلا من تهود منهم أو تنصر، وإن أريد من كل عقب فإن العرب لم يخلوا من قائم بكلمة التوحيد مثل المتنصرين منهم كالقبائل المتنصرة وورقة بن نوفل، ومثل المتحنفين كزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت. وذلك أن {في} ترد للتبعيض كما ذكرناه في قوله تعالى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} في سورة النساء [5] وقال سبرة بن عمرو الفقعسي من الحماسة:
ونشرب في أثمانها ونقامر
والعقب: الذرية الذين لا ينفصلون من أصلهم بأنثى، أي جعل إبراهيم كلمة التوحيد باقية في عقبه بالوصاية عليها راجيا أنهم يرجعون، أي يتذكرون بها التوحيد إذا ران رين

على قلوبهم، أو استحسنوا عبادة الأصنام كما قال قوم موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [لأعراف: 138] فيهتدون بتلك الكلمة حين يضيق الزمان عن بسط الحجة. وهذا شأن الكلام الذي يجعل شعارا لشيء فإنه يكون أصلا موضوعا قد تبين صدقه وإصابته، فاستحضاره يغني عن إعادة بسط الحجة له.
وجملة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} بدل اشتمال من جملة {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} لأن جعله كلمة {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] باقية في عقبه، أراد منها مصالح لعقبه منها أنه رجا بذلك أن يرجعوا غلى نبذ عبادة الأصنام إن فتنوا بعبادتها أو يتذكروا بها الإقلاع عن عبادة الأصنام إن عبدوها، فمعنى الرجوع، العود إلى ما تدل عليه تلك الكلمة. ونظيره قوله تعالى {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 48]، أي لعلهم يرجعون عن كفرهم.
فحرف "لعل" لإنشاء الرجاء، والرجاء هنا رجاء إبراهيم لا محالة، فتعين أن يقدر معنى قول صادر من إبراهيم بإنشاء رجائه، بأن يقدر: قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، أو قائلا: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
والرجوع مستعار إلى تغيير اعتقاد طارئ باعتقاد سابق، شبه ترك الاعتقاد الطارئ والأخذ بالاعتقاد السابق برجوع المسافر إلى وطنه أو رجوع الساعي إلى بيته.
والمعنى: يرجع كل من حاد عنها إليها، وهذا رجاؤه قد تحقق في بعض عقبه ولم يتحقق في بعض كما قال تعالى {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] أي المشركين. ولعل ممن تحقق فيه رجاء إبراهيم عمود نسب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كانوا يكتمون دينهم تقية من قومهم، وقد بسطت القول في هذا المعنى وفي أحوال أهل الفترة في هذه الآية في رسالة طهارة النسب النبوي من النقائص1.
وفي قوله {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} إشعار بأن وحدانية الله كانت غير مجهولة للمشركين، فيتجه أن الدعوة إلى العلم بوجود الله ووحدانيته كانت بالغة لأكثر الأمم بما تناقلوه من أقوال الرسل السابقين، ومن تلك الأمم العرب، فيتجه مؤاخذة المشركين على الإشراك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم أهملوا النظر فيما هو شائع بينهم أو تغافلوا عنه أو أعرضوا. فيكون أهل الفترة مؤاخذين على نبذ التوحيد في الدنيا ومعاقبين عليه في الآخرة
ـــــــ
1 نشرة في مجلة ............ببغداد سنة.

وعليه يحمل ما ورد في صحاح الآثار من تعذيب عمرو بن لحي الذي سن عبادة الأصنام وما روي أن أمرأ القيس حامل لواء الشعراء إلى النار يوم القيامة وغير ذلك. وهذا الذي يناسب أن يكون نظر إليه أهل السنة الذين يقولون: إن معرفة الله واجبة بالشرع لا بالعقل وهو المشهور عن الأشعري، والذين يقولون منهم إن المشركين من أهل الفترة مخلدون في النار على الشرك. وأما الذين قالوا بأن معرفة الله واجبة عقلا وهو قول جميع الماتريدية وبعض الشافعية فلا إشكال على قولهم.
[29] {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:29]
إضراب عن قوله {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72]، وهو إضراب إبطال، أي لم يحصل ما رجاه إبراهيم من رجوع بعض عقبه إلى الكلمة التي أوصاهم برعيها. فإن أقدم أمة من عقبه لم يرجعوا إلى كلمته، وهؤلاء هم العرب الذين أشركوا وعبدوا الأصنام.
وبعد {بل} كلام محذوف دل عليه الإبطال وما بعد الإبطال، وتقدير المحذوف: بل لم يرجع هؤلاء وآباؤهم الأولون إلى التوحيد ولم يتبرأوا من عبادة الأصنام ولا أخذوا بوصاية إبراهيم.
وجملة {مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} مستأنفة استئنافا بيانيا لسائل يسأل عما عاملهم الله به جزاء على تفريطهم في وصاية إبراهيم وهلا استأصلهم. كما قال {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} إلى قوله {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 23,25]، فأجيب بأن الله متعهم بالبقاء إلى أن يجيئهم رسول بالحق وذلك لحكمة علمها الله يرتبط بها وجود العرب زمنا طويلا بدون رسول، وتأخر مجيء الرسول إلى الإبان الذي ظهر فيه.
وبهذا الاستئناف حصل التخلص إلى ما بدا من المشركين بعد مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم من فظيع توغلهم في الإعراض عن التوحيد الذي كان عليه أبوهم فكان موقع "بل" في هذه الآية أبلغ من موقعها في قول لبيد:
بل ما تذكر من نوار وقد نأت
... وتقطعت أسبابها ورمامها
إذ كان انتقاله اقتضابا وكان هنا تخلصا حسنا.
و {هؤلاء} إشارة إلى غير مذكور في الكلام، وقد استقريت أن مصطلح القرآن أن يريد بمثله مشركي العرب، ولم أر من اهتدى للتنبيه عليه، وقد قدمته عند قوله تعالى

{وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} في سورة النساء [41] وفي مواضع أخرى.
والمراد بآبائهم آباؤهم الذين سنوا عبادة الأصنام مثل عمرو بن لحي والذين عبدوها من بعده. وتمتيع آبائهم تمهيد لتمتيع هؤلاء، ولذلك كانت غاية التمتيع مجيء الرسول فإن مجيئه لهؤلاء والتمتيع هنا التمتيع بالإمهال وعدم الاستئصال كما تدل عليه الغاية في قوله {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ}
والمراد ب {الحق} القرآن كما يدل عليه قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ} وقوله {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] وهذه الآية ثناء راجع على القرآن متصل بالثناء عليه الذي افتتحت به السورة.
فإنه لما جاء القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم انتهى التمتيع وأخذوا بالعذاب تدريجا إلى أن كان عذاب يوم بدر ويوم حنين، وهدى الله للإسلام من بقي يوم فتح مكة وأيام الوفود. وهذا في معنى قوله تعالى {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} في سورة هود [48].
والحق الذي جاءهم هو: القرآن، والرسول المبين: محمد صلى الله عليه وسلم. ووصفه ب {مبين} لأنه أوضح الهدى ونصب الأدلة وجاء بأفصح كلام. فالإبانة راجعة إلى معاني دينه وألفاظ كتابه.
والحكمة في ذلك أن الله أراد أن يشرف هذا الفريق من عقب إبراهيم بالانتشال من أوحال الشرك والضلال إلى مناهج الإيمان والإسلام واتباع أفضل الرسل وأفضل الشرائع، فيجبر لأمة من عقب إبراهيم ما فرطوا فيه من الاقتداء بأبيهم حتى يكمل لدعوته شرف الاستجابة.
والمقصود من هذا زيادة الإمهال لهم لعلهم يتذكرون كما قال تعالى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام:155-157].
ويستروح من قوله تعالى {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} إلى قوله {وَآبَاءَهُمْ} أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم في عمود نسبه لم يكونوا مضمرين الشرك وأنهم بعض من عقب إبراهيم الذين بقيت كلمته فيهم ولم يجهروا بمخالفة قومهم اتقاء الفتنة. ولا

عجب في ذلك فإن تغيير المنكر إنما وجب بالشرع ولم يكن لديهم شرع.
{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}
تعجيب من حال تغافلهم، أي قد كان لهم بعض العذر قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن لأن للغفلات المتقادمة غشاوة تصير الغفلة جهالة، فكان الشأن أن يستقيظوا لما جاءهم الحق ورسول مبين فيتذكروا كلمة أبيهم إبراهيم، ولكنهم لما جاءهم الحق قالوا: هذا سحر، أي قالوا للرسول: هذا ساحر، فازدادوا رينا على رين.
فالخبر مستعمل في التعجيب لا في إفادة صدور هذا القول منهم لأن ذلك معلوم لهم وللمسلمين.
وفي تعقيب الغاية بهذا الكلام إيذان بأن تمتيعهم أصبح على وشك الانتهاء.
فجملة {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ} معطوفة على جملة {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف: 29] فإن {لما} توقيتية فهي في قوة {حتى} الغائية كأنه قيل: متعت هؤلاء وآباءهم، فلما جاءهم الحق عقب ذلك التمتيع لم يستفيقوا من غفلتهم وقالوا: هذا سحر، أي كانوا قبل مجيء الحق مشركين عن غفلة وتساهل، فلما جاءهم الحق صاروا مشركين عن عناد ومكابرة.
وجملة {وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} مقول ثان، أي قالوا: هذا سحر فلا نلتفت إليه وقالوا إنا به، أي بالقرآن، كافرون، أي سواء كان سحرا أم غيره، أي فرضوا أنه سحر ثم ارتقوا فقالوا إنا به كافرون، أي كافرون بأنه من عند الله سواء كان سحرا، أم شعرا، أم أساطير الأولين. ولهذا المعنى أكدوا الخبر بحرف التأكيد ليؤيسوا الرسول صلى الله عليه وسلم من إيمانهم به.
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} عطف على جملة {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ} [الزخرف: 30] فهو في حيز جواب {لما} التوقيتية واقع موقع التعجيب أيضا، أي بعد أن أخذوا يتعللون بالعلل لإنكار الحق إذ قالوا للقرآن: هذا سحر، وإذ كان قولهم ذلك يقتضي أن الذي جاء بالقرآن ساحر انتقل إلى ذكر طعن آخر منهم في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يكن من عظماء أهل القريتين.
و {لولا} أصله حرف تحضيض، استعمل هنا في معنى إبطال كونه رسولا على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الملازمة لأن التحضيض على تحصيل ما هو مقطوع بانتفاء

حصوله يستلزم الجزم بانتفائه.
والقريتان هما: مكة والطائف لأنهما أكبر قرى تهامة بلد القائلين وأما يثرب وتيماء ونحوهما فهي من بلد الحجاز. فالتعريف في {القريتين} للعهد، جعلوا عماد التأهل لسيادة الأقوام أمرين: عظمة المسود، وعظمة قريته، فهم لا يدينون إلا من هو من أشهر القبائل في أشهر القرى لأن القرى هي مأوى شؤون القبائل وتموينهم وتجارتهم، والعظيم: مستعار لصاحب السؤود في قومه، فكأنه عظيم الذات.
روي عن ابن عباس أنهم عنوا بعظيم مكة الوليد بن المغيرة المخزومي، وبعظيم الطائف حبيب بن عمرو الثقفي. وعن مجاهد أنهم عنوا بعظيم مكة عتبة بن ربيعة وبعظيم الطائف كنانة بن عبد ياليل. وعن قتادة عنوا الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي. ثم يحتمل أنهم قالوا هذا اللفظ المحكي عنهم في القرآن ولم يسمعوا شخصين معينين، ويحتمل أنهم سموا شخصين ووصفوهما بهذين الوصفين، فاقتصر القرآن على ذكر الوصفين إيجازا مع التنبيه على ما كانوا يؤهلون به الاختيار للرسالة تحميقا لرأيهم.
وكان الرجلان اللذان عنوهما ذوي مال لأن سعة المال كانت من مقومات وصف السؤود كما حكي عن بني إسرائيل قولهم {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247].
[32] {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32]
إنكار عليهم قولهم {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فإنهم لما نصبوا أنفسهم منصب من يتخير أصناف الناس للرسالة عن الله، فقد جعلوا لأنفسهم ذلك لا لله، فكان من مقتضى قولهم أن الاصطفاء للرسالة بيدهم، فلذلك قدم ضمير {هم} المجعول مسندا إليه، على مسند فعلي ليفيد معنى الاختصاص فسلط الإنكار. على هذا الحصر إبطالا لقولهم وتخطئة لهم في تحكمهم.
ولما كان الاصطفاء للرسالة رحمة لمن يصطفى لها ورحمة للناس المرسل إليهم، جعل تحكمهم في ذلك قسمة منهم لرحمة الله باختيارهم من يختار لها وتعيين المتأهل لإبلاغها إلى المرحومين.

ووجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأضيف لفظ "الرب" إلى ضميره إيماء إلى أن الله مؤيده تأنيسا له، لأن قولهم {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، قصدوا منه الاستخفاف به، فرفع الله شأنه بإبلاغ الإنكار عليهم بالإقبال عليه بالخطاب وبإظهار أن الله ربه، أي متولي أمره وتدبيره.
وجملة {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} تعليل للإنكار والنفي المستفاد منه، واستدلال عليه، أي لما قسمنا بين الناس معيشتهم فكانوا مسيرين في أمورهم على نحو ما هيأنا لهم من نظام الحياة وكان تدبير ذلك لله تعالى ببالغ حكمته، فجعل منهم أقوياء وضعفاء، وأغنياء ومحاويج، فسخر بعضهم لبعض في أشغالهم على حساب دواعي حاجة الحياة، ورفع بذلك بعضهم فوق بعض، وجعل بعضهم محتاجا إلى بعض ومسخرا له.
فإذا كانوا بهذه المثابة في تدبير المعيشة الدنيا، فكذلك الحال في إقامة بعضهم دون بعض للتبليغ فإن ذلك أعظم شؤون البشر. فهذا وجه الاستدلال.
والسخري بضم السين وبكسرها وهما لغتان ولم يقرأ في القراءات المشهورة إلا بضم السين. وقرأ ابن محيصن في الشاذ بكسر السين: اسم للشيء المسخر، أي المجبور على عمل بدون اختياره، واسم لمن يسخر به، أي يستهزأ به كما في مفردات الراغب والأساس والقاموس. وقد فسر هنا بالمعنيين كما قال القرطبي. وقال ابن عطية: هما لغتان في معنى التسخير ولا تدخل لمعنى الهزء في هذه الآية. ولم يقل ذلك غيره وكلام الراغب محتمل. واقتصر الطبري على معنى التسخير. فالوجه في ذلك أن المعنيين معتبران في هذه الآية. وإثار لفظ {سخريا} في الآية دون غيره لتحمله للمعنيين وهو اختيار من وجوه الإعجاز فيجوز أن يكون المعنى ليتعمل بعضهم بعضا في شؤون حياتهم فإن الإنسان مدني، أي محتاج إلى إعانة بعضه بعضا، وعليه فسر الزمخشري، وابن عطية وقاله السدي وقتادة والضحاك وابن زيد، فلام {ليتخذ} لام التعليل تعليلا لفعل {قسمنا} ، أي قسمنا بينهم معيشتهم، أي أسباب معيشتهم ليستعين بعضهم ببعض فيتعارفوا ويتجمعوا لأجل حاجة بعضهم إلى بعض فتتكون من ذلك القبائل والمدن.
وعلى هذا يكون قوله {بَعْضَهُمْ بَعْضاً} عاما في كل بعض من الناس إذ ما من أحد إلا وهو مستعمل لغيره وهو مستعمل لغير آخر.
ويجوز أن تكون اسما من السخرية وهي الاستهزاء. وحكاه القرطبي ولم يعين قائله وبذلك تكون اللام للعاقبة مثل {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]

وهو على هذا تعريض بالمشركين الذين استهزؤوا بالمؤمنين كقوله تعالى {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} في سورة قد أفلح المؤمنون [110]. وقد جاء لفظ السخري بمعنى الاستهزاء في آيات أخرى كقوله تعالى {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:110]
وقوله {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [صّ:63] ولعل الذي عدل ببعض المفسرين عن تفسير آية سورة الزخرف بهذا المعنى استنكارهم أن يكون اتخاذ بعضهم لبعض مسخرة علة لفعل الله تعالى في رفعه بعضهم فوق بعض درجات، ولكن تأويل اللفظ واسع في نظائره وأشباهه. وتأويل معنى اللام ظاهر.
وجملة {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} تذييل للرد عليهم، وفي هذا التذييل رد ثان عليهم بأن المال الذي جعلوه عماد الاصطفاء للرسالة هو أقل من رحمة الله فهي خير مما يجمعون من المال الذي جعلوه سبب التفضيل حين قالوا {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] فإن المال شيء جمعه صاحبه لنفسه فلا يكون مثل اصطفاء الله البعد ليرسله إلى الناس.
ورحمة الله: هي اصطفاؤه عبده للرسالة عنه إلى الناس، وهي التي في قوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} والمعنى: إذا كانوا غير قاسمين أقل أحوالهم فكيف يقسمون ما هو خير من أهم أمورهم.
[33-35] {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}
{لولا} حرف امتناع لوجود، أي حرف شرط دل امتناع وقوع جوابها لأجل وقوع شرطها، فيقتضي أن الله أراد امتناع وقوع أن يكون الناس أمة واحدة، أي أراد الاحتراز من مضمون شرطها.
لما تقرر أن من خلقهم تعظيم المال وأهل الثراء وحسبانهم ذلك أصل الفضائل ولم يهتموا بزكاء النفوس، وكان الله قد أبطل جعلهم المال سبب الفضل بإبطالين، بقوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} وقوله {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] أعقب ذلك بتعريفهم أن المال والغنى لاحظ لهما عند الله تعالى فإن الله أعطى كل شيء خلقه وجعل للأشياء حقائقها ومقاديرها فكثيرا ما يكون المال للكافرين

ومن لا خلاق لهم من الخير، فتعين أن المال قسمة من الله على الناس جعل له أسبابا نظمها في سلك النظم الاجتماعية وجعل لها آثارا مناسبة لها، وشتان بينها وبين مواهب النفوس الزكية والسرائر الطيبة، فالمال في الغالب مصدر لإرضاء الشهوات ومرصد للتفاخر والتطاول. وأما مواهب النفوس الطيبة فمصادر لنفع أصحابها ونفع الأمة، ففي أهل الشر أغنياء وفقراء وفي أهل الخير أمثال ذلك، فظهر التباين بين آثار كسب المال وأثار الفضائل النفسانية.
ويحصل من هذا التحقير للمال إبطال ثالث لما أسسوا عليه قولهم {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] فهذه الجملة عطف على جملة {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]
والناس يحتمل أن يراد به جميع الناس، فيكون التعريف للاستغراق، أي جميع البشر، والأمة: الجماعة من البشر المتميزة عن غيرها باتحاد في نسب أو دين أو حالة معرف بها فمعنى أن يكون الناس أمة واحدة يحتمل أن لولا أن يصير البشر على دين واحد وهو الغالب عليهم يومئذ، أي الكفر ونبذ الفكرة في الآخرة وعلى هذا تفسير ابن عباس والحسن وقتادة والسدي.1
فالمعنى عليه: لولا أن يصير الناس كلهم كفارا لخصصنا الكافرين بالمال والرفاهية وتركنا المسلمين لما ادخرنا لهم من خيرات الآخرة، فيحسب ضعفاء العقول أن للكفر أثرا في حصول المال جعله الله جزاء لمن سماهم بالكافرين فيتبعوا دين الكفر لتخيلهم الملازمة بين سعادة العيش وبين الكفر، وقد كان الناس في الأجيال الأولى أصحاب أوهام وأغلاط يجعلون للمقارنة حكم التسبب فيؤول المعنى إلى: لولا تجنب ما يفضي إلى عموم الكفر وانقراض الإيمان، لجعلنا المال لأهل الكفر خاصة، أي والله لا يحب انقراض الإيمان من الناس ولم يقدر اتحاد الناس على ملة واحدة بقوله {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118,119] أي أن الله لطف بالعباد فعطل ما يفضي بهم إلى اضمحلال الهدى من بينهم، أي أبقى بينهم بصيصا من نور الهدى.
ويحتمل وهو الأولى عندي: أن يكون التعريف في {الناس} للعهد مرادا به بعض طوائف البشر وهم أهل مكة وجمهورهم على طريقة الاستغراق العرفي وعلى وزان قوله
ـــــــ
1 جمعناهم في هذا التأويل لأن مآل أقوالهم متقاربة.

تعالى {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173] ويكون المراد بكونهم أمة واحدة اتحادهم في الثراء.
والمعنى: لولا أن تصير أمة من الأمم أهل ثروة كلهم أي وذلك مخالف لما قدره الله من اشتمال كل بلد وكل قبيلة وكل أمة على أغنياء ومحاويج لإقامة نظام العمران واحتياج بعضهم لبعض، هذا لماله، وهذا لصناعته، وآخر لمقدرة بدنه لجعلنا من يكفر بالرحمن وهم أهل مكة سواء في الثراء والرفاهية. وعلى كلا الاحتمالين يتلخص من المعنى أن الثراء والرفاهية لا يقيم المدبر الحكيم لهما وزنا فلا يمسكهما عن الناكبين عن طريق الحق والكمال، فصار الكلام يقتضي مقدرا محذوفا تقديره لكن لا يكون الناس سواء في الغنى لأنا لم نجعل ذلك لأنا قدرنا في نظام الكون البشري أن لا تكون أمة من الأمم أو قبيلة أو أهل بلدة أغنياء ليس فيهم محاويج لأنه يفضي إلى انحرام نظام الاجتماع وارتفاع احتياج بعضهم لبعض فيهلك مجتمعهم، والله أراد بقاءهم إلى أجل هم بالغوه.
ويرجح هذا جعل متعلق فعل {يكفر} خصوص وصف الرحمان فإن مشركي مكة أنكروا وصف الرحمان {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] وقد تكرر التورك عليهم بذلك في آي كثيرة.
ومعنى {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ} لقدرنا في نظام المجتمع البشري أسباب الثراء متصلة بالكفر بالله بحيث يكون الكفر سببا ومجلبة للغنى، ولو أراد الله ذلك لهيأ له أسبابه في عقول الناس وأساليب معاملاتهم المالية فدل هذا على أن الله منع أسباب تعميم الكفر في الأرض لطفا منه بالإيمان وأهله وإن كان لم يمنع وقوع كفر جزئي قليل أو كثير حفظا منه تعالى لناموس ترتيب المسببات على أسبابها.
وهذا من تفاريع التفرقة بين الرضى والإرادة فلا يرضى لعباده الكفر ولو شاء ربك ما فعلوه.
واللام في قوله {لبيوتهم} مثل اللام في قوله {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} أي لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن فيكون قوله {لبيوتهم} بدل اشتمال ممن يكفر بالرحمن. وإنما صرح بتكرير العامل للتوكيد كما فعلوا في البدل من المستفهم عنه في نحو: من ذا أسعيد أم علي? فقرنوا البدل بأداة استفهام ولم يقولوا: من ذا سعيد أم علي? وتقدم عند قوله تعالى {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} في سورة الأنعام.[99]
ونكتة هذا الإبدال تعليق المجرور ابتداء بفعل الجعل ثم الاهتمام بذكر من يكفر بالرحمن في هذا المقام المقصود منه قرنه مع مظاهر الغنى في قرن التحقير، ثم يذكر ما

يعز وجود أمثاله من الفضة والذهب، وإذ قد كان الخبر كله مستغربا كان حقيقا بأن ينظم في أسلوب الإجمال ثم التفصيل.
وقرأ الجمهور {سقفا} بضم السين وضم القاف جمع سقف بفتح السين وسكون القاف وهو: البناء الممتد على جدران البيت المغطي فضاء البيت، وتقدم عند قوله تعالى {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ } في سورة النحل. وهذا الجمع لا نظير له إلا رهن ورهن ولا ثالث لهما.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر {سقفا} بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد. والمراد من المفرد الجنس بقرينة قوله {لبيوتهم} كأنه قيل: لكل بيت سقف.
والزخرف الزينة قال تعالى {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} في سورة الأنعام، [112] فيكون هنا عطفا على {سقفا} جمعا لعديد المحاسن، ويطلق على الذهب لأن الذهب يتزين به، كقوله {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الاسراء: 93] فيكون {وزخرفا} عطفا على {سقفا} بتأويل: لجعلنا لهم ذهبا، أي لكانت سقفهم ومعارجهم وأبوابهم من فضة وذهب منوعة لأن ذلك أبهج في تلوينها.
وابتدئ بالفضة لأنها أكثر في التحليات وأجمل في اللون، وأخر الذهب، لأنه أندر في الحلي، ولأن لفظه أسعد بالوقف لكون آخره تنوينا ينقلب في الوقف ألفا فيناسب امتداد الصوت وهو أفصح في الوقف.
ويجوز أن يكون لفظ {زخرفا} مستعملا في معنييه استعمال المشترك، فلا يرد سؤال عن تخصيص السقف والمعارج بالفضة. و {معارج} اسم جمع معراج، وهو الدرج الذي يعرج به إلى العلالي.
ومعنى {يظهرون} : يعلون كما في قوله تعالى {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97]، أي أن يتسوروه.
وسرر بضمتين: جمع سرير، وتقدم عند قوله تعالى {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} في سورة الصافات،[44] وفائدة وصفها بجملة {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} الإشارة إلى أنهم يعطون هذه البهرجة مع استعمالها في دعة العيش والخلو عن التعب. والمراد أن المعارج والأبواب والسرر من فضة، فحذف الوصف من المعطوفات لدلالة ما وصف المعطوف عليه.
وذيل بقوله {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي كل ما ذكر من السقف والمعارج والأبواب والسرر من الفضة والذهب متاع الدنيا لا يعود على من أعطيه بالسعادة

الأبدية وأما السعادة الأبدية فقد ادخرها الله للمتقين وليست كمثل البهارج والزينة الزائدة التي تصادف مختلف النفوس وتكثر لأهل النفوس الضئيلة الخسيسة وهذا كقوله تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]
وقرأ الجمهور {لما} بتخفيف الميم فتكون {إن} التي قبلها مخففة من "إن" المشددة للتوكيد وتكون اللام الداخلة على {لما} اللام الفارقة بين "إن" النافية و"إن" المخففة و {ما} زائدة للتوكيد بين المضاف والمضاف إليه. وقرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر {لما} بتشديد الميم فهي {لما} أخت إلا المختصة بالوقوع في سياق النفي فتكون {إن} نافية، والتقدير: وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا.
[36] {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]
ابتدئت السورة بالتنويه بالقرآن ووصفه بأنه ذكر وبيان للناس، ووصف عناد المشركين في الصد عنه والإعراض، وأعلموا بأن الله لا يترك تذكيرهم ومحاجتهم لأن الله يدعو بالحق ويعد به.
وأطنب في وصف تناقض عقائدهم لعلهم يستيقظون من غشاوتهم، وفي تنبيههم إلى دلائل حقية ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن، وفضحت شبهاتهم بأنهم لا تعويل لهم إلا على ما كان عليه آباؤهم الأولون الضالون، وأنذروا باقتراب انتهاء تمتيعهم وإمهالهم، وتقضى ذلك بمزيد البيان، وأفضى الكلام إلى ما قالوه في القرآن ومن جاء به بقوله {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ} إلى قوله {عظيم} [الزخرف:31,30] ، وما ألحق به من التكملات، عاد الكلام هنا إلى عواقب صرفهم عقولهم عن التدبر في الدعوة القرآنية فكان انصرافهم سببا لأن يسخر الله شياطين لهم تلازمهم فلا تزال تصرفهم عن النظر في الحق وأدلة الرشد. وهو تسخير اقتضاه نظام تولد الفروع من أصولها، فلا يتعجب من عمى بصائرهم عن إدراك الحق البين، وهذا من سنة الوجود في تولد الأشياء من عناصرها فالضلال ينمي ويتولد في النفوس ويتمكن منها مرة بعد مرة حتى يصير طبعا على القلب وأكنة فيه وختما عليه ولا يضعف عمل الشيطان إلا بتكرر الدعوة إلى الحق وبالزجر والإنذار، فمن زناد التذكير تنقدح شرارات نور فربما أضاءت فصادفت قوة نور

الحق حالة وهن الشيطان فتتغلب القوة الملكية على القوة الشيطانية فيفيق صاحبها من نومة ضلاله.
وقد أشار إلى ذلك قوله {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5]
كما تقدم هنالك، ولولا ذلك لما ارعوى ضال عن ضلاله ولما نفع إرشاد المرشدين في نفوس المخاطبين.
فجملة {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} عطف على جملة {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ} [الزخرف: 30] الآية.
وقوله {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} تمثيل لحالهم في إظهارهم عدم فهم القرآن كقولهم {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] بحال من يعشو عن الشيء الظاهر للبصر.
و {يعش} : مضارع عشا كغزا عشوا بالواو، إذا نظر إلى الشيء نظرا غير ثابت يشبه نظر الأعشى، وإما العشا بفتح العين والشين فهو اسم ضعف العين عن رؤية الأشياء، يقال: عشي بالياء مثل عرج إذا كانت في بصره آفة العشا ومصدره عشى بفتح العين والقصر مثل العرج. والفعل واوي عشا يعشو، ويقال عشي يعشى إذا صار العشا له آفة لأن أفعال الأدواء تأتي كثيرا على فعل بكسر العين مثل مرض. وعشي ياؤه منقلبة عن واو لأجل كسرة صيغة الأدواء.
فمعنى {وَمَنْ يَعْشُ} من ينظر نظرا غير متمكن في القرآن، أي من لا حظ له إلا سماع كلمات القرآن دون تدبر وقصد للانتفاع بمعانيه، فشبه سماع القرآن مع عدم الانتفاع به بنظر الناظر دون تأمل.
وعدي {يعش} ب {عن} المفيدة للمجاوزة لأنه ضمن معنى الإعراض عن ذكر الرحمان وإلا فإن حق عشا أن يعدى ب {إلى} كما قال الحطيئة:
متى تأنه تعشه إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
ولا يقال: عشوت عن النار إلا بمثل التضمين الذي في هاته الآية. فتفسير من فسر {يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} بمعنى يعرض: أراد تحصيل المعنى باعتبار التعدية ب {عن} ، وإنكار من أنكر وجود "عشا" بمعنى أعرض أراد إنكار أن يكون معنى أصليا لفعل "عشا" وظن أن تفسيره بالإعراض تفسير لمعنى الفعل وليس تفسيرا للتعدية ب {عن} فالخلاف بين الفريقين لفظي.

و {ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} هو القرآن المعبر عنه بالذكر في قوله {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} [الزخرف: 5]. وإضافته إلى {الرحمن} إضافة تشريف وهذا ثناء خامس على القرآن.
والتقييض: الإتاحة وتهيئة شيء لملازمة شيء لعمل حتى يتمه، وهو مشتق من اسم جامد وهو قيض البيضة، أي القشر المحيط بما في داخل البيضة من المح لأن القيض يلازم البيضة فلا يفارقها حتى يخرج منها الفرخ فيتم ما أتيح له القيض.
فصيغة التفعيل للجعل مثل طين الجدار: ومثل أزره، أي ألبسه الإزار، ودرعوا الجارية، أي ألبسوها الدرع. وأصله هنا تشبيه أي نجعله كالقيض له، ثم شاع حتى صار معنى مستقلا، وقد تقدم في قوله تعالى {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} في سورة فصلت فضم إليه ما هنا.
وأتى الضمير في {له} مفردا لأن لكل واحد ممن تحقق فيهم الشرط شيطانا وليس لجميعهم شيطان واحد ولذلك سيجيء في قوله {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [الزخرف: 38] بالإفراد، أي قال كل من له قرين لقرينه.
ولم يذكر متعلق فعل {نقيض} اكتفاء بدلالة مفعوله وهو {شيطانا} فعلم منه أنه مقيض لإضلاله، أي هم أعرضوا عن القرآن لوسوسة الشيطان لهم.
وفرع عن {نقيض} قوله {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} لأن النقيض كان لأجل مقارنته.
ومن الفوائد التي جرت في تفسير هذه الآية ما ذكره صاحب نيل الابتهاج بتطريز الديباج في ترجمة الحفيد محمد بن أحمد بن محمد الشهير بابن مرزوق قال قال صاحب الترجمة: حضرت مجلس شيخنا ابن عرفة أول مجلس حضرته فقرأ {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} فقال: قرئ {يعشو} بالرفع و {نقيض} بالجزم1. ووجهها أبو حيان بكلام ما فهمته. وذكر أن في النسخة خللا وذكر بعض ذلك الكلام. فاهتديت إلى تمامه وقلت: يا سيدي معنى ما ذكر أن جزم {نقيض} ب {من} الموصولة لشبهها بالشرطية لما تضمنها من معنى الشرط وإذا كانوا يعاملون الموصول الذي لا يشبه لفظ الشرط بذلك فما يشبه لفظه لفظ الشرط أولى بتلك المعاملة. فوافق وفرح لما أن الإنصاف كان طبعه. وعند ذلك أنكر علي جماعة من أهل المجلس وطالبوني بإثبات معاملة الموصول معاملة الشرط فقلت: نصهم على دخول الفاء في خبر الموصول في نحو: الذي يأتيني فله درهم،
ـــــــ
1 هذه القراءة تنسب إلى زيد بن علي إمام الزيدية.

فنازعوني في ذلك وكنت حديث عهد بحفظ التسهيل فقلت: قال ابن مالك فيما يشبه المسألة وقد يجزمه مسبب عن صلة الذي تشبيها بجواب الشرط وأنشدت من شواهد المسألة قول الشاعر:
كذاك الذي يبغي على الناس ظالما ... تصبه على رغم عواقب ما صنع
فجاء الشاهد موافقا للحال. قال: وكنت في طرف الحلقة، فصاح ابن عرفة وقال: يا أخي ما بغينا، لعلك ابن مرزوق? فقلت: عبدكم انتهى من اغتنام الفرصة. اه.
وجيء بالجملة المفرعة جملة اسمية للدلالة على الدوام، أي فكان قرينا مقارنة ثابتة دائمة، ولذلك لم يقل: نقيض له شيطانا قرينا له. وقدم الجار والمجرور على متعلقه في قوله {لَهُ قَرِينٌ} للاهتمام بضمير {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} أي قرين له مقارنة تامة.
وقرأ الجمهور نقيض بنون العظمة. وقرأ يعقوب ياء الغائب عائدا ضميره على {الرحمن} .
[37] {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} في موضع الحال من الضمير في قوله {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] أي مقارنة صد عن السبيل.
وضميرا {إنهم} و {يصدون} عائدان إلى {شيطانا} [الزخرف: 36] لأنه لما وقع من متعلقات الفعل الواقع جواب شرط اكتسب العموم تبعا لعموم {من} في سياق الشرط فإنها من صيغ العموم مثل النكرة الواقعة في سياق الشرط على خلاف بين أئمة أصول الفقه في عموم النكرة الواقعة في سياق الشرط ولكنه لا يجري هنا لأن عموم {شيطانا} تابع لعموم {من} إذ أجزاء جواب الشرط تجري على حكم أجزاء جملة الشرط، فقرينة عموم النكرة هنا لا تترك مجالا للتردد فيه لأجل القرينة لا لمطلق وقوع النكرة في سياق الشرط.
وضمير النصب في "يصدونهم" عائد إلى {من} لأن {من} الشرطية عامة فكأنه قيل: كل من يعشو عن ذكر الرحمان نقيض لهم شياطين لكل واحد شيطان.
وضميرا {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} عائدان إلى ما عاد إليه ضمير النصب من {يصدونهم} ، أي ويحسب المصدودون عن السبيل أنفسهم مهتدين.
وقد تتشابه الضمائر فترد القرينة كل ضمير إلى معاده كما في قول عباس بن مرداس:

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
فضمير: أحرزوا، لجمع المشركين، وضمير: جمعوا، للمسلمين. وضمير الجمع في قوله تعالى {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} في سورة الروم.[9]
والتعريف في {السبيل} تعريف الجنس. والسبيل: الطريق السابلة الممتدة الموصلة إلى المطلوب.
وقد مثلت حالة الذين يعشون عن ذكر الرحمان وحال مقارنة الشياطين لهم بحال من استهدى قوما ليدلوه على طريق موصل لبغيته فضللوه وصرفوه عن السبيل وأسلكوه في فيافي التيه غشا وخديعة، وهو يحسب أنه سائر إلى حيث يبلغ طلبته.
فجملة {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} معطوفة على جملة {وإنهم} فهي في معنى الحال من الضمير في قوله {فهو} والرابط واو الحال، والتقدير: ويحسب المصدودون أنهم مهتدون بهم إلى السبيل.
والاهتداء: العلم بالطريق الموصل إلى المقصود.
[38] {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}
{حتى} ابتدائية، وهي تفيد التسبب الذي هو غاية مجازية. فاستعمال {حتى} فيه استعارة تبعية.
وليست في الآية دلالة على دوام الصد عن السبيل وحسبان الآخرين الاهتداء إلى فناء القرينين، إذ قد يؤمن الكافر فينقطع الصد والحسبان فلا تغتر بتوهم من يزعمون أن الغاية الحقيقية لا تفارق {حتى} في جميع استعمالاتها.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر {جاءانا} بألف ضمير المثنى عائدا على من يعش عن ذكر الرحمان وقرينه، أي شيطانه، وأفرد ضمير {قال} لرجوعه إلى من يعش عن ذكر الرحمان خاصة، أي قال الكافر متندما على ما فرط من اتباعه إياه وائتماره بأمره. وقرأ الجمهور {جاءنا} بصيغة المفرد والضمير المستتر في {قال} عائد إلى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} ، أي قال أحدهما وهو الذي يعشو. فالمعنى على القراءتين واحد لأن قراءة التثنية صريحة في مجيء الشيطان مع قرينه الكافر وأن المتندم هو الكافر، والقراءة بالإفراد متضمنة مجيء الشيطان من قوله {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} إذ علم أن شيطانه القرين حاضر من خطاب الآخر إياه بقوله {وبينك} . وحرف {يا} أصله للنداء، ويستعمل للتلهف كثيرا كما في قوله {يا حسرة} وهو هنا للتلهف والتندم.

والمشرقان: المشرق والمغرب، غلب اسم المشرق لأنه أكثر خطورا بالأذهان لتشوف النفوس إلى إشراق الشمس بعد الإظلام.
والمراد بالمشرق والمغرب: إما مكان شروق الشمس وغروبها في الأفق، وإما الجهة من الأرض التي تبدو الشمس منها عند شروقها وتغيب منها عند غروبها فيما يلوح لطائفة من سكان الأرض. وعلى الاحتمالين فهو مثل لشدة البعد.
وأضيف {بعد} إلى {المشرقين} بالتثنية بتقدير: بعد لهما، أي مختص بهما بتأويل البعد بالتباعد وهو إيجاز بديع حصل من صيغة التغليب ومن الإضافة. ومساواته أن يقال بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق فنابت كلمة {المشرقين} عن ست كلمات.
وقوله {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} بعد أن تمنى مفارقته فرع عليه ذما فالكافر يذم شيطانه الذي كان قرينا، ويعرض بذلك للتفصي من المؤاخذة، وإلقاء التبعة على الشيطان الذي أضله.
والمقصود من حكاية هذا تفظيع عواقب هذه المقارنة التي كانت شغف المتقارنين، وكذلك شأن كل مقارنة على عمل سيء العاقبة، وهذا من قبل قوله تعالى {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] والمقصود تحذير الناس من قرين السوء وذم الشياطين ليعافهم الناس كقوله {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر: 6].
[39] {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}
الظاهر أن هذه الجملة معطوفة على جملة {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: من الآية38] وأن قولا محذوفا دل عليه فعل {جاءانا} الدال على أن الفريقين حضرا للحساب وتلك الحضرة تؤذن بالمقاولة فإن الفريقين لما حضرا وتبرأ أحدهما من الآخر قصدا للتفصي من المؤاخذة كما تقدمت الإشارة إليه آنفا فيقول الله ولن ينفعكم اليوم أنكم في العذاب مشتركون.
والخطاب موجه للذين عشوا عن ذكر الرحمان ولشياطينهم.
وفي هذا الكلام إشارة إلى كلام مطوي، والتقدير: لا تلقوا التبعة على القرناء فأنتم مؤاخذون بطاعتهم وهم مؤاخذون بإضلالكم وأنتم مشتركون في العذاب ولن ينفعكم أنكم في العذاب مشتركون لأن عذاب فريق لا يخفف عن فريق كما قال تعالى {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [لأعراف: من الآية38].
ووقوع فعل {ينفعكم} في سياق النفي يدل على نفي أن يكون الاشتراك في العذاب

نافعا بحال لأنه لا يخفف عن الشريك من عذابه. وأما ما يتعارفه الناس من تسلي أحد برؤية مثله ممن مني بمصيبة فذلك من أوهام البشر في الحياة الدنيا، ولعل الله جعل لهم ذلك رحمة بهم في الدنيا، وأما الآخرة فعالم الحقائق دون الأوهام. وفي هذا التوهم جاء قول الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وقرأ الجمهور {أنكم} بفتح همزة "أن" على جعل المصدر فاعلا. وقرأ ابن عامر {إنكم} بكسر الهمزة على الاستئناف ويكون الوقف عند قوله {إذ ظلمتم} وفاعل {ينفعكم} ضمير عائد على التمني بقولهم {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف: 38] أي لن ينفعكم تمنيكم ولا تفصيكم.
و {إذ} أصله ظرف مبهم للزمن الماضي تفسره الجملة التي يضاف هو إليها ويخرج عن الظرفية إلى ما يقاربها بتوسع أو إلى ما يشابهها بالمجاز. وهو التعليل، وهي هنا مجاز في معنى التعليل، شبهت علة الشيء وسببه بالظرف في اللزوم له. وقد ذكر في مغني اللبيب معنى التعليل من معاني {إذ} ولم ينسبه لأحد من أئمة النحو واللغة.
وجوز الزمخشري أن تكون {إذ} بدلا من {اليوم} ، وتأول الكلام على جعل فعل {ظلمتم} بمعنى: تبين أنكم ظلمتم، أي واستعمل الإخبار بمعنى التبين، كقول زائد بن صعصعة الفقعسي:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... ولم تجدي من أن تقري به بدا
أي تبين أن لم تلدني لئيمة، وتبعه ابن الحاجب في أماليه وقال ابن جني: راجعت أبا علي مرارا في قوله تعالى {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} الآية مستشكلا إبدال {إذ} من {اليوم} فآخر ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة سواء في حكم الله وعلمه فكأن {اليوم} ماض أو كان {إذ} مستقبلة اه. وهو جواب وهن مدخول.
وأقول: اجتمع في هذه الآية دوال على ثلاثة أزمنة وهي {لن} لنفي المستقبل، و {اليوم} اسم لزمن الحال، و {إذ} اسم لزمن المضي، وثلاثتها منوطة بفعل {ينفعكم} ومقتضياتها ينافي بعضها بعضا، فالنفي في المستقبل ينافي التقييد ب {اليوم} الذي هو للحال، و {إذ} ينافي نفي النفع في المستقبل وينافي التقييد ب {اليوم} فتصدى الزمحشري وغيره لدفع التنافي بين مقتضى {إذ} ومقتضى {اليوم} بتأويل معنى {إذ} كما علمت، ولم يتصد هو ولا غيره لدفع التنافي بين مقتضى {اليوم} الدال على زمن الحال وبين

مقتضى {لن} وهو حصول النفي في الاستقبال. وأنا أرى لدفعه أن يكون {اليوم} ظرفا للحكم والإخبار، أي تقرر اليوم انتفاء انتفاعكم بالاشتراك في العذاب انتفاء مؤبدا من الآن، كقول مقدام الدبيري:
لن يخلص العام خليل عشرا ... ذاق الضماد أو يزور القبرا
وقد حصل من اجتماع هذه الدوال الثلاث في الآية طباق عزيز بين ثلاثة معان متضادة في الجملة.
[40] {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
تفريع على جملة { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} [الزخرف: من الآية36] لأن ذلك أفاد توغلهم في الضلالة وعسر انفكاكهم عنها، لأن مقارنة الشياطين لهم تقتضي ذلك، فانتقل منه إلى التهوين على النبي صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه من الكد والتحرق عليهم في تصميمهم على الكفر والغي وفيه إيماء إلى تأييس من اهتداء أكثرهم.
والاستفهام لإنكار أن يكون حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على هداهم ناجعا فيهم إذا كان الله قدر ضلالهم فأوجد أسبابه، قال تعالى {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] ولما كان حال الرسول صلى الله عليه وسلم في معاودة دعوتهم كحال من يظن أنه قادر على إيصال التذكير إلى قلوبهم نزل منزلة من يظن ذلك فخوطب باستفهام الإنكار وسلط الاستفهام على كلام فيه طريق قصر بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مع إيلاء الضمير حرف الإنكار وهو قصر مؤكد وقصر قلب، أي أنت لا تسمعهم ولا تهديهم بل الله يسمعهم ويهديهم إن شاء، وهو نظير {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: من الآية99].
ومن بديع معنى الآية أن الله وصف حال إعراضهم عن الذكر بالعشاء وهو النظر الذي لا يتبين شبح الشيء المنظور إليه ثم وصفهم هنا بالصم العمي إشارة إن التمحل للضلال ومحاولة تأييده ينقلب بصاحبه إلى أشد الضلال لا أن التخلق يأتي دونه الخلق والأحوال تنقلب ملكات. وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزال العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذابا" أي حتى يحق عليه أن الكذب ملكة له، وإذ قد كان إعراضهم انصرافا عن استماع القرآن وعن النظر في الآيات كان حالهم يشبه حال الصم العمي كما مهد لذلك بقوله {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: من الآية36] كما ذكرناه هنالك، فظهرت

المناسبة بين وصفهم بالعشا وبين ما في هذا الانتقال لوصفهم بالصم العمي.
وعطف {وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فيه معنى التذييل لأنه أعم من كل من الصم والعمي باعتبار انفرادهما، وباعتبار أن الصمم والعمى لما كانا مجازين قد يكون تعلقهما بالمسموع والمبصر جزئيا في حالة خاصة فكان الوصف بالكون في الضلال المبين تنبيها على عموم الأحوال وهو مع ذلك ترشيح للاستعارة لأن اجتماع الصمم والعمى أبين ضلالا.
[42,41] {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} تفريع على جملة {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} [الزخرف: من الآية40] إلى آخرها المتضمنة إيماء إلى التأسيس من اهتدائهم، والصريحة في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم من شدة الحرص في دعوتهم، فجاء هنا تحقيق وعد بالانتقام منهم، ومعناه: الوعد بإظهار الدين إن كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته، ووعيدهم بالعقاب في الدنيا قبل عقاب الآخرة، فلأجل الوفاء بهذين الغرضين ذكر في هذه الجملة أمران: الانتقام منهم لا محالة، وكون ذلك واقعا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته. والمفرع هو {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} وما ذكر معه، فمراد منه تحقق ذلك على كل تقدير.
و"إما" كلمتان متصلتان أصلهما "إن" الشرطية و"ما" زائدة بعد "إن"، وأدغمت نون "إن" في الميم من حرف "ما"، وزيادة "ما" للتأكيد، ويكثر اتصال فعل الشرط بعد "إن" المزيدة بعدها "ما" بنون التوكيد زيادة في التأكيد، ويكتبونها بهمزة وميم وألف تبعا لحالة النطق بها.
والذهاب به هنا مستعمل للتوفي بقرينة قوله {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} لأن الموت مفارقة للأحياء فالإماتة كالانتقال به، أي تغييبه ولذلك يعبر عن الموت بالانتقال. والمعنى: فإما نتوفينك فإنا منهم منتقمون بعد وفاتك.
وقد استعمل {منتقمون} للزمان المستقبل استعمال اسم الفاعل في الاستقبال، وهو مجاز شائع مساو للحقيقة والقرينة قوله {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ}
والمراد ب {الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} الانتقام المأخوذ من قوله {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} وقد أراه الله تعالى الانتقام منهم بقتل صناديدهم يوم بدر، قال تعالى {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ

الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16] والبطشة هي بطشة بدر.
وجملة {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} جواب الشرط، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية، وإنما صيغ كذلك للدلالة على ثبات الانتقام ودوامه، وأما جملة {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} فهي دليل جواب جملة {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} المعطوفة على جملة الشرط لأن اقتدار الله عليهم لا يناسب أن يكون معلقا على إراءته الرسول صلى الله عليه وسلم الانتقام منهم، فالجواب محذوف لا محالة لقصد التهويل. وتقديره: أو إما نرينك الذي وعدناهم، وهو الانتقام تر انتقاما لا يفلتون منه فإنا عليهم مقتدرون، أي متقدرون الآن فاسم الفاعل مستعمل في زمان الحال وهو حقيقته.
ولا يستقيم أن تكون جملة {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} دليلا على الجواب المحذوف لأنه يصير: أو إما نرينك الانتقام منهم فإنا منهم منتقمون. وتقديم المجرورين {منهم} و {عليهم} على متعلقيهما للاهتمام بهم في التمكن بالانتقام والاقتدار عليهم.
والوعد هنا بمعنى الوعيد بقرينة قوله قبله {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} فإن الوعد إذا ذكر مفعوله صح إطلاقه على الخير والشر، وإذا لم يذكر مفعوله انصرف للخير وأما الوعيد فهو للشر دائما.
والاقتدار: شدة القدرة، واقتدر أبلغ من قدر. وقد غفل صاحب القاموس عن التنبيه عليه.
وقد اشتمل هذان الشرطان وجواباهما على خمسة مؤكدات وهي "ما" الزائدة، ونون التوكيد، وحرف "إن" للتوكيد، والجملة الاسمية، وتقديم المعمول على {منتقمون} .
وفائدة الترديد في هذا الشرط تعميم الحالين حال حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحال وفاته. والمقصود: وقت ذينك الحالين لأن المقصود توقيت الانتقام منهم.
والمعنى: أننا منتقمون منهم في الدنيا سواء كنت حيا أو بعد موتك، أي فالانتقام منهم من شأننا وليس من شأنك لأنه من أجل إعراضهم عن أمرنا وديننا، ولعله لدفع استبطاء النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين تأخير الانتقام من المشركين ولأن المشركين كانوا يتربصون بالنبي الموت فيستريحوا من دعوته فأعلمه الله أنه لا يفلتهم من الانتقام على تقدير موته وقد حكى الله عنهم قولهم {لآنَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: من الآية30] ففي هذا الوعيد إلقاء الرعب في قلوبهم لما يسمعونه.

[43] {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]
لما هون الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه من شدة الحرص على إيمانهم ووعده النصر عليهم فرع على ذلك أن أمره بالثبات على دينه وكتابه وأن لا يخور عزمه في الدعوة ضجرا من تصلبهم في كفرهم ونفورهم من الحق.
والاستمساك: شدة المسك، فالسين والتاء فيه للتأكيد. والأمر به مستعمل في طلب الدوام، لأن الأمر بفعل لمن هو متلبس به لا يكون لطلب الفعل بل لمعنى آخر وهو هنا طلب الثبات على التمسك بما أوحي إليه كما دل عليه قوله {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهذا كما يدعى للعزيز المكرم، فيقال: أعزك الله وأكرمك، أي أدام ذلك وقوله: أحياك الله، أي أطال حياتك، ومنه قوله تعالى في تعليم الدعاء {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
والذي أوحي إليه هو القرآن. وجملة {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تأييد لطلب الاستمساك بالذي أوحي إليه وتعليل له.
والصراط المستقيم: هو العمل بالذي أوحي إليه، فكأنه قيل: إنه صراط مستقيم، ولكن عدل عن ذلك إلى {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ليفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم راسخ في الاهتداء إلى مراد الله تعالى كما يتمكن السائر من طريق مستقيم لا يشوبه في سيره تردد في سلوكه ولا خشية الضلال في بنياته. ومثله قوله تعالى {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: من الآية79] في سورة النمل.
وحرف "على" للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] وهذا تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم وثناء عليه بأنه ما زاغ قيد أنملة عما بعثه الله به، كقوله {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} ويتبعه تثبيت المؤمنين على إيمانهم. وهذا أيضا ثناء سادس على القرآن.
[44] {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} ذكر حظ الرسول صلى الله عليه وسلم من الثناء والتأييد في قوله {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المجعول علة للأمر بالثبات عليه، ثم عطف عليه تعليل آخر اشتمل على ذكر حظ

القرآن من المدح، والنفع بقوله {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ} وتشريفه به بقوله {لك} ، وأتبع بحظ التابعين له ولكتابه من الاهتداء، والانتفاع، بقوله {ولقومك} . ثم عرض بالمعرضين عنه والمجازفين له بقوله {وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} مع التوجيه في معنى كلمة ذكر من إرادة أن هذا الدين يكسبه قومه حسن السمعة في الأمم فمن اتبعه نال حظه من ذلك ومن أعرض عنه عد عداد الحمقى كما سيأتي، مع الإشارة إلى انتفاع المتبعين به في الآخرة، واستضرار المعرضين عنه فيها، وتحقيق ذلك بحرف الاستقبال. فهذه الآية اشتملت على عشرة معان، وبذلك كانت أوفر معاني من قول امريء القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
المعدود أبلغ كلام من كلامهم في الإيجاز إذ وقف، واستوقف، وبكى واستبكى. وذكر الحبيب، والمنزل في مصراع. وهذه الآية لا تتجاوز مقدار ذلك المصراع وعدة معانيها عشرة في حين كانت معاني مصراع امرئ القيس ستة مع ما تزيد به هذه الآية من الخصوصيات، وهي التأكيد ب"إن" واللام والكناية ومحسن التوجيه.
والذكر يحتمل أن يكون ذكر العقل، أي اهتداءه لما كان غير عالم به، فشبه بتذكر الشيء المنسي وهو ما فسر به كثير الذكر بالتذكير، أي الموعظة.
ويحتمل ذكر اللسان، أي أنه يكسبك وقومك ذكرا، والذكر بهذا المعنى غالب في الذكر بخبره.
والمعنى: أن القرآن سبب الذكر لأنه يكسب قومه شرفا يذكرون بسببه. وقد روي هذا التفسير عن علي وابن عباس في رواية ابن عدي وابن مردويه قال القرطبي ونظيره قوله تعالى {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني القرآن شرف لك ولقومك من قريش، فالقرآن نزل بلسان قريش فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم كل من آمن بذلك فشرفوا بذلك على سائر أهل اللغات. وقال ابن عطية قال ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل فإذا قالوا له: فلمن يكون الأمر بعدك? سكت حتى إذا نزلت هذه الآية فكان إذا سئل عن ذلك قال: لقريش.
ودرج عليه كلام الكشاف.
ففي لفظ {ذكر} محسن التوجيه فإذا ضم إليه أن ذكره وقومه بالثناء يستلزم ذم من خالفهم كان فيه تعريض بالمعرضين عنه. وقومه هم قريش لأنهم المقصود بالكلام أو جميع العرب لأنهم شرفوا بكون الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم منهم ونزول القرآن بلغتهم، وقد ظهر ذلك الشرف لهم في سائر الأعصر إلى اليوم، ولولاه ما كان للعرب من يشعر بهم من الأمم العظيمة الغالبة على الأرض.

وهذا ثناء سابع على القرآن.
والسؤال في قوله {وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} سؤال تقرير. فسؤال المؤمنين عن مقدار العمل بما كلفوا به، وسؤال المشركين سؤال توبيخ وتهديد قال تعالى {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} [الزخرف: من الآية19] وقال تعالى {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} إلى قوله {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11,8]
[45] {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}
الأمر بالسؤال هنا تمثيل لشهرة الخبر وتحققه كما في قول السمؤال أو الحارثي:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
وقول زيد الخيل:
سائل فوارس يربوع بشدتنا
وقوله {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] إذ لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم في شك حتى يسأل، وإلا فإن سؤاله الرسل الذين من قبله متعذر على الحقيقة. والمعنى استقر شرائع الرسل وكتبهم وأخبارهم هل تجد فيها عبادة آلهة. وفي الحديث واستفت قلبك أي تثبت في معرفة الحلال والحرام.
وجملة {أجعلنا} بدل من جملة {واسأل} ، والهمزة للاستفهام وهو إنكاري وهو المقصود من الخبر، وهو رد على المشركين في قولهم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: من الآية22] أي ليس آباؤكم بأهدى من الرسل الأولين إن كنتم تزعمون تكذيب رسولنا لأنه أمركم بإفراد الله بالعبادة. ويجوز أن يجعل السؤال عن شهرة الخبر. ومعنى الكلام: وإنا ما أمرنا بعبادة آلهة دوننا على لسان أحد من رسلنا. وهذا رد لقول المشركين {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: من الآية20]
و {من} في قوله {مِنْ قَبْلِكَ} لتأكيد اتصال الظرف بعامله. و {من} في قوله {مَنْ أَرْسَلْنَا} بيان ل {قبلك} .
فمعنى {أجعلنا} ما جعلنا ذلك، أي جعل التشريع والأمر، أي ما أمرنا بأن تعبد آلهة دوننا.
فوصف آلهة ب {يعبدون} لنفي أن يكون الله يرضى بعبادة غيره فضلا عن أن

يكون غيره إلها مثله وذلك أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام وكانوا في عقائدهم أشتاتا فمنهم من يجعل الأصنام آلهة شركاء لله، ومنهم من يزعم أنه يعبدهم ليقربوه من الله زلفى، ومنهم من يزعمهم شفعاء لهم عند الله. فلما نفي بهذه الآية أن يكون جعل آلهة يعبدون أبطل جميع هذه التمحلات.
وأجري {آلهة} مجرى العقلاء فوصفوا بصيغة جمع العقلاء بقوله {يعبدون} . ومثله كثير في القرآن جريا على ما غلب في لسان العرب إذ اعتقدوهم عقلاء عالمين.
وقرأ ابن كثير والكسائي {وسل} بتخفيف الهمزة.
[47,46] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ}
قد ذكر الله في أول السورة قوله {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} [الزخرف:6, 8] وساق بعد ذلك تذكرة بإبراهيم عليه السلام مع قومه، وما تفرع على ذلك من أحوال أهل الشرك فلما تقضى أتبع بتنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع طغاة قومه واستهزائهم بحال موسى مع فرعون وملئه، فإن للمثل والنظائر شأنا في إبراز الحقائق وتصوير الحالين تصويرا يفضي إلى ترقب ما كان لإحدى الحالتين من عواقب أن تلحق أهل الحالة الأخرى، فإن فرعون وملئه تلقوا موسى بالإسراف في الكفر وبالاستهزاء به وباستضعافه إذ لم يكن ذا بذخة ولا محلى بحلية الثراء وكانت مناسبة قوله {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الزخرف: من الآية45] الآية هيأت المقام لضرب المثل بحال بعض الرسل الذين جاءوا بشريعة عظمى قبل الإسلام.
والمقصود من هذه القصة هو قوله فيها {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} [الزخرف:,55 56]، فإن المراد بالآخرين المكذبون صناديد قريش.
ومن المقصود منها بالخصوص هنا: قوله {وملئه} أي عظماء قومه فإن ذلك شبيه بحال أبي جهل وأضرابه، وقوله {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} لأن حالهم في ذلك مشابه لحال قريش الذي أشار إليه قوله {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزخرف: 6,7]، وقوله بعد ذلك {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: من الآية52] لأنهم أشبهوا بذلك حال أبي جهل ونحوه في قولهم

{لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: من الآية31] إلا أن كلمة سادة قريش كانت أقرب إلى الأدب من كلمة فرعون لأن هؤلاء كان رسولهم من قومهم فلم يتركوا جانب الحياء بالمرة وفرعون كان رسوله غريبا عنهم. وقوله {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 53] لأنه مشابه لما تضمنه قول صناديد قريش {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} الزخرف: من الآية31] فإن عظمة ذينك الرجلين كانت بوفرة المال، ولذلك لم يذكر مثله في غير هذه القصة من قصص بعثة موسى عليه السلام، وقولهم {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف: من الآية49] وهو مضاه لقوله في قريش {هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} وقوله {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: من الآية55] الدال على أن الله أهلكهم كلهم، وذلك إنذار بما حصل من استئصال صناديد قريش يوم بدر.
فحصل من العبرة هذه القصة أمران:
أحدهما: أن الكفار والجهلة يتمسكون بمثل هذه الشبهة في رد فضل الفضلاء فيتمسكون بخيوط العنكبوت من الأمور العرضية التي لا أثر لها في قيمة النفوس الزكية.
وثانيهما: أن فرعون صاحب العظمة الدنيوية المحضة صار مقهورا مغلوبا انتصر عليه الذي استضعفه، وتقدم نظير هذه الآية غير مرة.
و {إذا} حرف مفاجأة، أي يدل على أن ما بعده حصل من غير ترقب فتفتتح به الجملة التي يفاد منها حصول حادث على وجه المفاجأة.
ووقعت الجملة التي فيها {إذا} جوابا لحرف "لما"، وهي جملة اسمية و"لما" تقتضي أن يكون جوابها جملة فعلية، لأن ما في {إذا} من معنى المفاجأة يقوم مقام الجملة الفعلية.
والضحك: كناية عن الاستخفاف بالآيات والتكذيب فلا يتعين أن يكون كل الحاضرين صدر منهم ضحك، ولا أن ذلك وقع عند رؤية آية إذ لعل بعضها لا يقتضي الضحك.
[48] {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:48]
الأظهر أن جملة {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} في موضع الحال، وأن الواو واو الحال وأن الاستثناء من أحوال، وما بعد {إلا} في موضع الحال،

واستغنت عن الواو لأن {إلا} كافية في الربط.
والمعنى: أنهم يستخفون بالآيات التي جاء بها موسى في حال أنها آيات كبيرة وعظيمة فإنما يستخفون بها لمكابرتهم وعنادهم.
وصوغ {نريهم} بصيغة المضارع لاستحضار الحالة ومعنى {هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} يحتمل أن يراد به أن كل آية تأتي تكون أعظم من التي قبلها، فيكون هنالك صفة محذوفة لدلالة المقام، أي من أختها السابقة، كقوله تعالى {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: من الآية79]، أي كل سفينة صحيحة، وهذا يستلزم أن تكون الآيات مترتبة في العظم بحسب تأخر أوقات ظهورها لأن الإتيان بآية بعد أخرى ناشئ عن عدم الارتداع من الآية السابقة. ويحتمل ما قال صاحب الكشاف أن الآيات موصوفات بالكبر لا بكونها متفاوتة فيه وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير، أي تختلف آراء الناس في تفضيلها، فعلى ذلك بنى الناس كلامهم فقالوا: رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض، وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك، ومنه بيت الحماسة1:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
وقد فاضلت الأنمارية2 بين الكملة من بنيها ثم قالت: لما أبصرت مراتبهم متقاربة قليلة التفاوت ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها.
فالمعنى: وما نريهم من آية إلا وهي آية جليلة الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم تكاد تنسيهم الآية الأخرى. والأخت مستعارة للمماثلة في كونها آية.
وعطف {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} على جملة {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ} لأن العذاب كان من الآيات.
والعذاب: عذاب الدنيا، وهو ما يؤلم ويشق، وذلك القحط، والقمل، والطوفان، والضفادع، والدم في الماء.
والأخذ بمعنى: الإصابة. والباء في {بالعذاب} للاستعانة كما تقول: خذ الكتاب بقوة، أي ابتدأناهم بالعذاب قبل الاستئصال لعل ذلك يفيقهم من غفلتهم، وفي هذا
ـــــــ
1 قائله هو العرندس الكلابي أبو عبيد بن العرندس من أبيات.
2 الأنمارية هي فاطمة بنت الخرشب الأنمارية أم الكلمة من بني عبس وهم أبناء زياد: ربيع وعمارة وقيس وأنس ولهم ألقاب: الكامل, والحافظ, والوهاب, وانس الفوارس.

تعريض بأهل مكة إذ أصيبوا بسني القحط.
والرجوع: مستعار للإذعان والاعتراف، وليس هو كالرجوع في قوله آنفا {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28]
وضمائر الغيبة في {نريهم} و {أخذناهم} ، و {لعلهم} عائدة إلى فرعون وملئه.
[49] {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف:49]
عطف على {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} والمعنى: ولما أخذناهم بالعذاب على يد موسى سألوه أن يدعو الله بكشف العذاب عنهم.
ومخاطبتهم موسى بوصف الساحر مخاطبة تعظيم تزلفا إليه لأن الساحر عندهم كان هو العالم وكانت علوم علمائهم سحرية، أي ذات أسباب خفية لا يعرفها غيرهم وغير أتباعهم، ألا ترى إلى قول ملأ فرعون له {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء: 36,37]
وكان الساحر بأيدي الكهنة ومن مظاهره تحنيط الموتى الذي بقي به جثث الأموات سالمة من البلى ولم يطلع أحد بعدهم على كيفية صنعه.
وفي آية الأعراف {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} ولا تنافي ما هنا لأن الخطاب خطاب إلحاح فهو يتكرر ويعاد بطرق مختلفة.
وقرأ الجمهور {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} بدون ألف بعد الهاء في الوصل وهو ظاهر، وفي الوقف أي بفتحة دون ألف وهو غير قياسي لكن القراءة رواية. وعلله أبو شامة بأنهم اتبعوا الرسم وفيه نظر. وقرأه أبو عمرو والكسائي ويعقوب بإثبات الألف في الوقف. وقرأه ابن عامر بضم الهاء في الوصل خاصة وهو لغة بني أسد، وكتبت في المصحف كلمة {أيه} بدون ألف بعد الهاء، والأصل أن تكون بألف بعد الهاء لأنها "ها" حرف تنبيه يفصل بين "أي" وبين نعتها في النداء فحذفت الألف في رسم المصحف رعيا لقراءة الجمهور والأصل أن يراعى في الرسم حالة الوقف.
وعنوا {بربك} الرب الذي دعاهم موسى إلى عبادته. والقبط كانوا يحسبون أن لكل أمة ربا ولا يحيلون تعدد الآلهة، وكانت لهم أرباب كثيرون مختلفة أعمالهم وقدرهم. ومثل ذلك كانت عقائد اليونان.
وأرادوا {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} ما خصك بعلمه دون غيرك مما استطعت به أن تأتي بخوارق العادة.
وكانوا يحسبون أن تلك الآيات معلولة لعلل خفية قياسا على معارفهم

بخصائص بعض الأشياء التي لا تعرفها العامة، وكان الكهنة يعهدون بها إلى تلامذتهم ويوصونهم بالكتمان.
والعهد: هو الائتمان على أمر مهم، وليس مرادهم به النبوءة لأنهم لم يؤمنوا به وإذ لم يعرفوا كنه العهد عبروا عنه بالموصول وصلته. والباء في قوله {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} متعلقة ب {ادع} وهي للاستعانة. ولما رأوا الآيات علموا أن رب موسى قادر، وأن بينه وبين عهدا يقتضي استجابة سؤله.
وجملة {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} جواب لكلام مقدر دل عليه {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} أي دعوت لنا وكشفت عنا العذاب لنؤمنن لك كما في آية الأعراف {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} الآية.
ف {مهتدون} اسم فاعل مستعمل في معنى الوعد وهو منصرف للمستقبل بالقرينة كما دل قوله {ينكثون} ونظيره قوله في سورة الدخان حكاية عن المشركين {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} الآية. وسموا تصديقهم إياه اهتداء لأن موسى سمى ما دعاهم إليه هديا كما في آية النازعات {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}
[50] {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}
أي تفرع على تضرعهم ووعدهم بالاهتداء إذا كشف عنهم العذاب أنهم نكثوا الوعد.
والنكث: نقض الحبل المبرم، وتقدم في قوله {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف:135] في سورة الأعراف، وهو مجاز في الخيس بالعهد.
والكلام على تركيب هذه الجملة مثل الكلام على قوله آنفا {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف: 47]
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]
لما كشف عنهم العذاب بدعوة موسى، وأضمر فرعون وملؤه نكث الوعد الذي وعدوه موسى بأنهم يهتدون، خشي فرعون أن يتبع قومه دعوة موسى ويؤمنوا برسالته فأعلن في قومه تذكيرهم بعظمة نفسه ليثبتهم على طاعته، ولئلا ينقل إليهم ما سأله من موسى وما

حصل من دعوته بكشف العذاب وليحسبوا أن ارتفاع العذاب أمر اتفاقي إذ قومه لم يطلعوا على ما دار بينه وبين موسى من سؤال كشف العذاب.
والنداء:رفع الصوت، وإسناده إلى فرعون مجاز عقلي، لأنه الذي أمر بالنداء في قومه. وكان يتولى النداء بالأمور المهمة الصادرة عن الملوك والأمراء منادون يعينون لذلك وربما نادوا في الأمور التي يراد علم الناس بها. ومن ذلك ما حكي في قوله تعالى في سورة يوسف {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} وقوله تعالى {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ}
ووقع في المقامة الثلاثين للحريري فلما جلس كأنه ابن ماء السماء، نادى مناد من قبل الأحماء، وحرمة ساسان أستاذ الأستاذين، وقدوة الشحاذين، لا عقد هذا العقد المبجل، في هذا اليوم الأغر المحجل، إلا الذي جال وجاب، وشب في الكدية وشاب، فذلك نداء لإعلان العقد.
وجملة {قال} إلخ مبينة لجملة {نادى} ، والمجاز العقلي في {قال} مثل الذي في {وَنَادَى فِرْعَوْنُ}
وفرعون المحكي عنه في هذه القصة هو منفطاح الثاني.
فالأنهار: فروع النيل وترعه، لأنها لعظمها جعل كل واحد منها مثل نهر فجمعت على أنهار وإنما هي لنهر واحد هو النيل. فإن كان مقر ملك فرعون هذا في مدينة منفيس فاسم الإشارة في قوله {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ} إشارة إلى تفاريع النيل التي تبتدئ قرب القاهرة فيتفرع النيل بها إلى فرعين عظيمين فرع دمياط وفرع رشيد ، وتعرف بالدلتا. وأحسب أنه الذي كان يدعى فرع تنيس لأن تنيس كانت في تلك الجهة وغمرها البحر، وله تفاريع أخرى صغيرة يسمى كل واحد منها ترعة، مثل ترعة الإسماعيلية، وهنالك تفاريع أخرى تدعى الرياح. وإن كان مقر ملكه طيبة التي هي بقرب مدينة آبو اليوم فالإشارة إلى جداول النيل وفروعه المشهورة بين أهل المدينة كأنها مشاهدة لعيونهم.
ومعنى قوله {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} يحتمل أن يكون ادعى أن النيل يجري بأمره، فيكون {مِنْ تَحْتِي} كناية عن التسخير كقوله تعالى {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} [التحريم: من الآية10] أي كانتا في عصمتهما. ويقول الناس: دخلت البلدة الفلانية تحت الملك فلان، ويحتمل أنه أراد أن النيل يجري في مملكته من بلاد أصوان إلى البحر

زمنه هو منفطاح الثاني وهو ابن رعمسيس الثاني الذي ولد موسى في أيامه وربي عنده، وهذا يقتضي أن منفطاح كان يعرف موسى ولذلك قال له {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}
وأما رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فلما أرسل إلى أمة ذات فصاحة وبلاغة وكانت معجزته القرآن المعجز في بلاغته وفصاحته وكانت صفة الرسول الفصاحة لتكون له المكانة الجليلة في نفوس قومه.
ومعنى {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} ويكاد أن لا يبين، وقد تقدم القول في مثله عند قوله تعالى {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} في سورة البقرة. [71]
[53] {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}
لما تضمن وصفه موسى بمهين ولا يكاد يبين أنه مكذب له دعواه الرسالة عن الله فرع عليه قوله {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} ترقيا في إحالة كونه رسولا من الله، وفرعون لجهله أو تجاهله يخيل لقومه أن للرسالة شعارا كشعار الملوك.
و"لولا" حرف تحضيض مستعمل في التعجيز مثل ما في قوله {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]
والإلقاء: الرمي وهو مستعمل هنا في الإنزال، أي هلا ألقي عليه من السماء أساورة من ذهب، أي سوره الرب بها ليجعله ملكا على الأمة.
وقرأ الجمهور {أساورة} ، وقرأ حفص عن عاصم ويعقوب {أسورة} .
والأساورة: جمع أسوار لغة في سوار. وأصل الجمع أساوير مخفف بحذف إشباع الكسرة ثم عوض الهاء عن الحروف كما عوضت في زنادقة جمع زنديق إذ حقه زناديق. وأما سوار فيجمع على أسورة.
والسوار: حلقة عريضة من ذهب أو فضة تحيط بالرسغ، وهو عند معظم الأمم من حلية النساء الحرائر ولذلك جاء في المثل لو ذات سوار لطمتني أي لو حرة لطمتني، قاله أحد الأسرى لطمته أمة لقوم هو أسيرهم. وكان السوار من شعار الملوك بفارس ومصر يلبس الملك سوارين. وقد كان من شعار الفراعنة لبس سوارين أو أسورة من ذهب وربما جعلوا سوارين على الرسغين وآخرين على العضدين. فلما تخيل فرعون أن رتبة الرسالة

مثل الملك حسب افتقادها هو من شعار الملوك عندهم أمارة على انتفاء الرسالة.
و {أو} للترديد، أي إن لم تلق عليه أساورة من ذهب فلتجئ معه طوائف من الملائكة شاهدين له بالرسالة.
ولم أقف على أنهم كانوا يثبتون وجود الملائكة بالمعنى المعروف عند أهل الدين الإلهي فلعل فرعون ذكر الملائكة مجاراة لموسى إذ لعله سمع منه أن لله ملائكة أو نحو ذلك في مقام الدعوة فأراد إفحامه بأن يأتي معه بالملائكة الذين يظهرون له.
و {مقترنين} حال من {الملائكة} أي مقترنين معه فهذه الحال مؤكدة لمعنى "معه" لئلا يحمل معنى المعية على إرادة أن الملائكة تؤيده بالقول من قولهم: قرنته به فاقترن، أي مقترنين بموسى وهو اقتران النصير لنصيره.
[54] {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}
أي فتفرع عن نداء فرعون قومه أن أثر بتمويهه في نفوس ملئه فعجلوا بطاعته بعد أن كانوا متهيئين لاتباع موسى لما رأوا الآيات. فالخفة مستعارة للانتقال من حالة التأمل في خلع طاعة فرعون والتثاقل في اتباعه إلى التعجيل بالامتثال له كما يخف الشيء بعد التثاقل.
والمعنى يرجع إلى أنه استخف عقولهم فأسرعوا إلى التصديق بما قاله بعد أن صدقوا موسى في نفوسهم لما رأوا آياته نزولا ورفعا. والمراد ب {قومه} هنا بعض القوم، وهم الذين حضروا مجلس دعوة موسى هؤلاء هم الملأ الذين كانوا في صحبة فرعون.
والسين والتاء في {استخف} للمبالغة في أخف مثل قوله تعالى {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} [آل عمران: من الآية155]وقولهم: هذا فعل يستفز غضب الحليم.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} في موضع العلة لجملة {فأطاعوه} كما هو شأن "إن" إذا جاءت في غير مقام التأكيد فإن كونهم قد كانوا فاسقين أمر بين ضرورة أن موسى جاءهم فدعاهم إلى ترك ما كانوا عليه من عبادة الأصنام فلا يقتضي في المقام تأكيد كونهم فاسقين، أي كافرين. والمعنى: أنهم إنما خفوا لطاعة رأس الكفر لقرب عهدهم بالكفر لأنهم كانوا يؤلهون فرعون فلما حصل لهم تردد في شأنه ببعثة موسى عليه السلام لم يلبثوا أن رجعوا إلى طاعة فرعون بأدنى سبب.

والمراد بالفسق هنا: الكفر، كما قال في شأنهم في آية الأعراف [145] {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}
[56,55] {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ}
عقب ما مضى من القصة بالمقصود وهو هذه الأمور الثلاثة المترتبة المتفرع بعضها على بعض وهي: الانتقام، فالإغراق، فالاعتبار بهم في الأمم بعدهم.
والأسف: الغضب المشوب بحزن وكدر، وأطلق على صنيع فرعون وقومه فعل {أسفونا} لأنه فعل يترتب عليه انتقام الله منهم انتقاما كانتقام الآسف لأنهم عصوا رسوله وصمموا على شركهم بعد ظهور آيات الصدق لموسى عليه السلام.
فاستعير {ءاسفونا} لمعنى عصونا للمشابهة، والمعنى: فلما عصونا عصيان العبد ربه المنعم عليه بكفران النعمة، والله يستحيل عليه أن يتصف بالآسف كما يستحيل عليه أن يتصف بالغضب على الحقيقة، فيؤول المعنى إلى أن الله عاملهم كما يعامل السيد المأسوف عبدا أسفه فلم يترك لرحمة سيده مسلكا. وفعل أسف قاصر فعدي إلى المفعول بالهمزة.
وفي قوله {فَلَمَّا آسَفُونَا} إيجاز لأن كونهم مؤسفين لم يتقدم له ذكر حتى يبنى أنه كان سببا للانتقام منهم فدل إناطة أداة التوقيت به على أنه قد حصل، والتقدير: فأسفونا فلما أسفونا انتقمنا منهم.
والانتقام تقدم معناه قريبا عند قوله تعالى {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [الزخرف: من الآية41].
وإنما عطف {فأغرقناهم} بالفاء على {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} مع أن إغراقهم هو عين الانتقام منهم، إما لان فعل {انتقمنا} مؤول بقدرنا الانتقام منهم فيكون عطف {فأغرقناهم} بالفاء كالعطف في قوله {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس: من الآية82] وإما أن تجعل الفاء زائدة لتأكيد تسبب {أسفونا} في الإغراق، وأصل التركيب: انتقمنا منهم أغرقناهم، على أن جملة {فأغرقناهم} مبينة لجملة {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فزيدت الفاء لتأكيد معنى التبيين، وإما أن تجعل الفاء عاطفة جملة {انتقمنا} على جملة {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} [الزخرف: 54] فأغرقناهم أجمعين وتكون جملة {انتقمنا} منهم معترضة بين الجملة المفرعة والمفرعة عنها، وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي

الْيَمِّ} [الأعراف136]
وفرع على إغراقهم أن الله جعلهم سلفا لقوم آخرين، أي يأتون بعدهم.
والسلف بفتح السين وفتح اللام في قراءة الجمهور: جمع سالف مثل: خدم لخادم، وحرس لحارس. والسالف الذي يسبق غيره في الوجود أو في عمل أو مكان، ولما ذكر الانتقام كان المراد بالسلف هنا السالف في الانتقام، أي أن من بعدهم سيلقون مثل ما لقوا. وقرأ حمزة وحده والكسائي {سلفا} بضم السين وضم اللام وهو جمع سليف اسم للفريق الذي سلف ومضى.
والمثل: النظير والمشابه، يقال: مثل بفتحتين كما يقال شبه، أي مماثل. قال أبو علي الفارسي: المثل واحد يراد به الجمع. وأطلق المثل على لازمه على سبيل الكناية، أي جعلناهم عبرة للآخرين يعلمون أنهم إن عملوا مثل عملهم أصابهم مثل ما أصابهم. ويجوز أن يكون المثل هنا بمعنى الحديث العجيب الشأن الذي يسير بين الناس مسير الأمثال، أي جعلناهم للآخرين حديثا يتحدثون به ويعظهم به محدثهم.
ومعنى الآخرين الناس الذين هم آخر مماثل لهم في حين هذا الكلام فتعين أنهم المشركون المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم فإن هؤلاء هم آخر الأمم المشابهة لقوم فرعون في عبادة الأصنام وتكذيب الرسول. ومعنى الكلام: فجعلناهم سلفا لكم ومثلا لكم فاتعظوا بذلك.
ويتعلق {للآخرين} ب {سَلَفاً وَمَثَلاً} على وجه التنازع.
[58,57] {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
عطف قصة من أقاصيص كفرهم وعنادهم على ما مضى من حكاية أقاويلهم، جرت في مجادلة منهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا تصدير وتمهيد بين يدي قوله {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [الزخرف: 63] الآيات الذي هو المقصود من عطف هذا الكلام على ذكر رسالة موسى عليه السلام.
واقتران الكلام ب {لما} المفيدة وجود جوابها عند وجود شرطها، أو توقيته، يقتضي أن مضمون شرط {لما} معلوم الحصول ومعلوم الزمان فهو إشارة إلى حديث جرى بسبب مثل ضربه ضارب لحال من أحوال عيسى، على أن قولهم {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يحتمل أن

يكون جرى في أثناء المجادلة في شأن عيسى، ويحتمل أن يكون مجرد حكاية شبهة أخرى من شبه عقائدهم، ففي هذه الآية إجمال يبينه ما بعرفه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من جدل جرى مع المشركين، ويزيده بيانا قوله {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ} [الزخرف:59] وهذه الآية من أخفى آي القرآن معنى مرادا.
وقد اختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية وما يبين إجمالها على ثلاثة أقوال ذكرها في الكشاف وزاد من عنده احتمالا رابعا. وأظهر الأقوال ما ذكره ابن عطية عن ابن عباس وما ذكره في الكشاف وجها ثانيا ووجها ثالثا أن المشركين لما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم بيان إن مثل عيسى عند الله كمثل أدم وليس خلقه من دون أب بأعجب من خلق آدم من دون أب ولا أم أو ذلك قبل أن تنزل سورة آل عمران لأن تلك السورة مدنية وسورة الزخرف مكية قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن عبدنا الملائكة أي يدفعون ما سفههم به النبي صلى الله عليه وسلم بأن حقه أن يسفه النصارى فنزل قوله تعالى {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} الآية ولعلهم قالوا ذلك عن تجاهل بما جاء في القرآن من رد على النصارى.
والذي جرى عليه أكثر المفسرين أن سبب نزولها الإشارة إلى ما تقدم في سورة الأنبياء عند قوله تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} إذ قال عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه للنبي صلى الله عليه وسلم أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم ، قال: خصمتك ورب الكعبة ألست تزعم أن عيسى بن مريم نبي وقد عبدته النصارى فإن كان عيسى في النار فقد رضينا أن نكون نحن وألهتنا معه ففرح بكلامه من حضر من المشركين وضج أهل مكة بذلك فأنزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} في سورة الأنبياء ونزلت هذه الآية تشير إلى لجاجهم.
وبعض المفسرين يزيد في رواية كلام ابن الزبعرى وقد عبدت بنو مليح الملائكة فإن كان عيسى والملائكة في النار فقد رضينا. وهذا يتلاءم مع بناء فعل {ضرب} للمجهول لأن الذي جعل عيسى مثلا لمجادلته هو عبد الله بن الزبعرى، وليس من عادة القرآن تسمية أمثاله، ولو كان المثل مضروبا في القرآن لقال: ولما ضربنا ابن مريم مثلا، كما قال بعده {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ} [الزخرف: 59]. ويتلاءم مع تعدية فعل {يصدون} بحرف "من" الابتدائية دون حرف "عن" ومع قوله {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً

بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} لأن الظاهر أن ضمير النصب في {ضربوه} عائد إلى ابن مريم.
والمراد بالمثل على هذا المثل به والمشبه به، لأن ابن الزبعري نظر آلهتهم بعيسى في أنها عبدت من دون الله مثله فإذا كانوا في النار كان عيسى كذلك.
ولا يناكد هذا الوجه إلا ما جرى عليه عد السور في ترتيب النزول من عد سورة الأنبياء التي كانت آيتها سبب المجادلة متأخرة في النزول عن سورة الزخرف، ولعل تصحيح هذا الوجه عندهم بكر بالإبطال على من جعل سورة الأنبياء متأخرة في النزول عن سورة الزخرف بل يجب أن تكون سابقة حتى تكون هذه الآية مذكرة بالقصة التي كانت سبب نزول سورة الأنبياء، وليس ترتيب النزول بمتفق عليه ولا بمحقق السند فهو يقبل منه ما لا معارض له. على أنه قد تنزل الآية ثم تلحق بسورة نزلت قبلها.
فإذا رجح أن تكون سورة الأنبياء نزلت قبل سورة الزخرف كان الجواب القاطع لابن الزبعري في قوله تعالى فيها {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الانبياء:101] لأنه يعني أن عدم شمول قوله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الانبياء: 98] لعيسى معلوم لكل من له نظر وإنصاف لأن الحكم فيها إنما أسند إلى معبودات المشركين لا إلى معبود النصارى وقليل من قبائل العرب التي لم تقصد بالخطاب القرآني أيامئذ، ولما أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الآية لجميع الأمم إنما عنى المعبودات التي هي من جنس أصنامهم لا تفقه ولا تتصف بزكاء، بخلاف الصالحين الذين شهد لهم القرآن برفعة الدرجة قبل تلك الآية وبعدها، إذ لا لبس في ذلك، ويكون الجواب المذكور هنا في سورة الزخرف بقوله {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً} جوابا إجماليا، أي ما أرادوا به إلا التمويه لأنهم لا يخفى عليهم أن آية سورة الأنبياء تفيد أن عيسى ليس حصب جهنم، والمقام هنا مقام إجمال لأن هذه الآية إشارة وتذكير إلى ما سبق من الحادثة حين نزول آية سورة الأنبياء.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف {يصدون} بضم الصاد من الصدود إما بمعنى الإعراض والمعرض عنه محذوف لظهوره من المقام، أي يعرضون عن القرآن لأنهم أوهموا بجدلهم أن في القرآن تناقضا، وإما على أن الضم لغة في مضارع صد بمعنى ضج مثل لغة كسر الصاد وهو قول الفراء والكسائي. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب بكسر الصاد وهو الصد بمعنى الضجيج والصخب. والمعنى: إذا قريش قومك يصخبون ويضجون من احتجاج ابن

الزبعرى بالمثل بعيسى في قوله، معجبين بفلجه وظهور حجته لضعف إدراكهم لمراتب الاحتجاج.
والتعبير عن قريش بعنوان {قومك} للتعجيب منهم كيف فرحوا من تغلب ابن الزبعرى على النبي صلى الله عليه وسلم بزعمهم في أمر عيسى عليه السلام، أي مع أنهم قومك وليسوا قوم عيسى ولا أتباع دينه فكان فرحهم ظلما من ذوي القربى، قال زهير:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
و"من" في قوله {منه} على الاحتمالين ليست لتعدية {يصدون} إلى ما في معنى المفعول، لأن الفعل إنما يتعدى إليه بحرف "عن" ولا أن الضمير المجرور بها عائد إلى القرآن ولكنها متعلقة ب {يصدون} تعلقا على معنى الابتداء، أي يصدون صدا ناشئا منه، أي من المثل، أي ضرب لهم مثل فجعلوا ذلك المثل سببا للصد. وقالوا جميعا: آلهتنا خير أم هو، تلقفوها من فم ابن الزبعرى حين قالها للنبي صلى الله عليه وسلم فأعادوها. فهذا حكاية لقول ابن الزبعرى: إنك تزعم أن عيسى نبي وقد عبدته النصارى فإن كان عيسى في النار قد رضينا أن نكون وآلهتنا في النار.
والاستفهام في قوله {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} تقريري للعلم بأن النبي يفضل عيسى على آلهتهم، أي فقد لزمك أنك جعلت أهلا للنار من كنت تفضله فأمر آلهتنا هين.
وضمير الرفع في {ما ضربوه} عائد إلى ابن الزبعرى وقومه الذين أعجبوا بكلامه وقالوا بموجبه.
وضمير النصب الغائب يجوز أن يكون عائدا إلى المثل في قوله {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} ، أي ما ضربوا لك ذلك المثل إلا جدلا منهم، أي محاجة وإفحاما لك وليسوا بمعتقدين هون أمر آلهتهم عندهم، ولا بطالبين الميز بين الحق والباطل، فإنهم لا يعتقدون أن عيسى خير من آلهتهم ولكنهم أرادوا مجاراة النبي في قوله ليفضوا إلى إلزامه بما أرادوه من المناقضة.
ويجوز أن يكون ضمير النصب في {ضربوه} عائدا إلى مصدر مأخوذ من فعل {وقالوا} ، أي ما ضربوا ذلك القول، أي ما قالوه إلا جدلا. فالضرب بمعنى الإيجاد كما يقال: ضرب بيتا، وقول الفرزدق:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها
والاستثناء في {إلا جدلا} مفرغ للمفعول لأجله أو للحال، فيجوز أن ينتصب

{جدلا} على المفعول لأجله، أي ما ضربوه لشيء إلا للجدل، ويجوز أن ينصب على الحال بتأويله بمجادلين أي ما ضربوه في حال من أحوالهم إلا في حال أنهم مجادلون لا مؤمنون بذلك.
وقوله {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} إضراب انتقالي إلى وصفهم بحب الخصام وإظهارهم من الحجج ما لا يعتقدونه تمويها على عامتهم.
والخصم بكسر الصاد: شديد التمسك بالخصومة واللجاج مع ظهور الحق عنده، فهو يظهر أن ذلك ليس بحق.
وقرأ الجمهور {أآلهتنا} بتسهيل الهمزة الثانية. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي بتخفيفها.
[59] {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ}
لما ذكر ما يشير إلى قصة جدال ابن الزبعرى في قوله تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الانبياء: 98]، وكان سبب جداله هو أن عيسى قد عبد من دون الله لم يترك الكلام ينقضي دون أن يردف بتقرير عبودية عيسى لهذه المناسبة، إظهارا لخطل رأي الذين ادعوا إلهيته وعبدوه وهم النصارى حرصا على الاستدلال للحق.
وقد قصر عيسى على العبودية على طريقة قصر القلب للرد على الذين زعموه إلها، أي ما هو إلا عبد لا إله لأن الإلهية تنافي العبودية. ثم كان قوله {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} إشارة إلى أنه قد فضل بنعمة الرسالة، أي فليست له خصوصية مزية على بقية الرسل، وليس تكوينه بدون أب إلا إرهاصا.
وأما قوله {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ} فهو إبطال لشبهة الذين ألهوه بتوهمهم أن كونه خلق بكلمة من الله يفيد أنه جزء من الله فهو حقيق بالإلهية، أي كان خلقه في بطن أمه دون أن يقربها ذكر ليكون عبرة عجيبة في بني إسرائيل لأنهم كانوا قد ضعف إيمانهم بالغيب وبعد عهدهم بإرسال الرسل فبعث الله عيسى مجددا للإيمان بينهم، ومبرهنا بمعجزاته على عظم قدرة الله، ومعيدا لتشريف الله بني إسرائيل إذ جعل فيهم أنبياء ليكون ذلك سببا لقوة الإيمان فيهم، ومظهرا لفضيلة أهل الفضل الذين آمنوا به ولعناد الذين منعهم الدفع عن حرمتهم من الاعتراف بمعجزاته فناصبوه العداء وسعوا للتنكيل به وقتله فعصمه الله منهم ورفعه من بينهم فاهتدى به أقوام وافتتن به آخرون.
فالمثل هنا بمعنى

العبرة كالذي في قوله آنفا {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} [الزخرف:56]
وفي قوله {لِبَنِي إِسْرائيلَ} إشارة إلى أن عيسى لم يبعث إلا إلى بني إسرائيل وأنه لم يدع غير بني إسرائيل إلى اتباع دينه، ومن اتبعوه من غير بني إسرائيل في عصور الكفر والشرك فإنما تقلدوا دعوته لأنها تنقذهم من ظلمات الشرك والوثينة والتعطيل.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} لما أشارت الآية السابقة إلى إبطال ضلالة الذين زعموا عيسى عليه السلام ابنا لله تعالى، من قصره على كونه عبدا لله أنعم الله عليه بالرسالة وأنه عبرة لبني إسرائيل عقب ذلك بإبطال ما يماثل تلك الضلالة، وهي ضلالة بعض المشركين في ادعاء بنوة الملائكة لله تعالى المتقدم حكايتها في قوله {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} [الزخرف: 15] الآيات فأشير إلى أن الملائكة عباد لله تعالى جعل مكانهم العوالم العليا، وأنه لو شاء لجعلهم من سكان الأرض بدلا عن الناس، أي أن كونهم من أهل العوالم العليا لم يكن واجبا لهم بالذات وما هو إلا وضع بجعل من الله تعالى كما جعل للأرض سكانا، ولو شاء الله لعكس فجعل الملائكة في الأرض بدلا عن الناس، فليس تشريف الله إياهم بسكني العوالم العليا بموجب بنوتهم لله ولا بمقتض لهم إلهية، كما لم يكن تشريف عيسى بنعمة الرسالة ولا تمييزه بالتكون من دون أب مقتضيا له إلهية وإنما هو بجعل الله وخلقه.
وجعل شرط {لو} فعلا مستقبلا للدلالة على أن هذه المشيئة لم تزل ممكنة بأن يعوض للملائكة سكنى الأرض.
ومعنى "من" في قوله {منكم} البدلية والعوض كالتي في قوله تعالى {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]
والمجرور متعلق ب"جعلنا"، وقدم على مفعول الفعل للاهتمام بمعنى هذه البدلية لتتعمق أفهام السامعين في تدبرها.
وجملة {فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} بيان لمضمون شبه الجملة إلى قوله {منكم} وحذف مفعول {يخلفون} لدلالة {منكم} عليه، وتقديم هذا المجرور للاهتمام بما هو أدل على كون الجملة بيانا لمضمون {منكم} . وهذا هو الوجه في معنى الآية وعليه درج المحققون. ومحاولة صاحب الكشاف حمل {منكم} على معنى الابتدائية والاتصال لا يلاقي سياق الآيات.

{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61]
الأظهر أن هذا عطف على جملة {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} ويكون ما بينهما مستطردات واعتراضا اقتضته المناسبة.
لما أشبع مقام إبطال إلهية غير الله بدلائل الوحدانية ثني العنان إلى إثبات أن القرآن حق، عودا على بدء. وهذا كلام موجه من جانب الله تعالى إلى المنكرين يوم البعث، ويجوز أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وضمير المذكر الغائب في قوله {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} مراد به القرآن وبذلك فسره الحسن وقتادة وسعيد بن جبير فيكون هذا ثناء ثامنا على القرآن، فالثناء على القرآن استمر متصلا من أول السورة آخذا بعضه بحجز بعض متخللا بالمعترضات والمستطردات ومتخلصا إلى هذا الثناء الأخير بأن القرآن أعلم الناس بوقوع الساعة.
ويفسره ما تقدم من قوله {بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} ويبينه قوله بعده {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} على أن ورود مثل هذا الضمير في القرآن مرادا به القرآن كثير معلوم من غير معاد فضلا على وجود معاده.
ومعنى تحقيق أن القرآن علم للساعة أنه جاء بالدين الخاتم للشرائع فلم يبق بعد مجيء القرآن إلا انتظار انتهاء العالم. وهذا معنى ما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين، وقرن بين السبابة والوسطى مشيرا إليهما ، والمشابهة في عدم الفصل بينهما.
وإسناد {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} إلى ضمير القرآن إسناد مجازي لأن القرآن سبب العلم بوقوع الساعة إذ فيه الدلائل المتنوعة على إمكان البعث ووقوعه. ويجوز أن يكون إطلاق العلم بمعنى المعلم، من استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل مبالغة في كونه محصلا للعلم بالساعة إذ لم يقاربه في ذلك كتاب من كتب الأنبياء.
وقد ناسب هذا المجاز أو المبالغة التفريع في قوله {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} لأن القرآن لم يبق لأحد مرية في أن البعث واقع. وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن الضمير لعيسى، وتأولوه بأن نزول عيسى علامة الساعة، أي سبب علم بالساعة، أي بقربها، وهو تأويل

بعيد فإن تقدير مضاف وهو نزول لا دليل عليه ويناكده إظهار اسم عيسى في قوله {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى} إلخ. ويجوز عندي أن يكون ضمير {إنه} ضمير شأن، أي أن الأمر المهم لعلم الناس بوقوع الساعة.
وعدي فعل {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} بالباء لتضمينه معنى: لا تكذبن بها، أو الباء بمعنى "في" الظرفية.
{وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
يجوز أن يكون ضمير المتكلم عائدا إلى الله تعالى، أي اتبعوا ما أرسلت إليكم من كلامي ورسولي، جريا على غالب الضمائر من أول السورة كما تقدم، فالمراد باتباع الله: اتباع أمره ونهيه وإرشاده الوارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتباع الله تمثيل لامتثالهم ما دعاهم إليه بأن شبه حال الممتثلين أمر الله بحال السالكين صراطا دلهم عليه دليل. ويكون هذا كقوله في سورة الشورى {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}
ويجوز أن يكون عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتقدير: وقل اتبعون، ومثله في القرآن كثير.
والإشارة في {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} للقرآن المتقدم ذكره في قوله {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أو الإشارة إلى ما هو حاضر في الأذهان مما نزل من القرآن أو الإشارة إلى دين الإسلام المعلوم من المقام كقوله تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]
وحذفت ياء المتكلم تخفيفا مع بقاء نون الوقاية دليلا عليها.
{وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
لما أبلغت أسماعهم أفانين المواعظ والأوامر والنواهي، وجرى في خلال ذلك تحذيرهم من الإصرار على الإعراض عن القرآن، وإعلامهم بأن ذلك يفضي بهم إلى مقارنة الشيطان، وأخذ ذلك حظه من البيان انتقل الكلام إلى نهيهم عن أن يحصل صد الشيطان إياهم عن هذا الدين والقرآن الذي دعوا إلى اتباعه بقوله {وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف: 61] تنبيها على أن الصدود عن هذا الدين من وسوسة الشيطان، وتذكيرا بعداوة الشيطان للإنسان عداوة قوية لا يفارقها الدفع بالناس إلى مساوي الأعمال ليوقعهم في العذاب تشفيا لعداوته.

وقد صيغ النهي عن اتباع الشيطان في صده إياهم بصيغة نهي الشيطان عن أن يصدهم، للإشارة إلى أن في مكنتهم الاحتفاظ من الارتباق في شباك الشيطان، فكني بنهي الشيطان عن صدهم عن نهيهم عن الطاعة له بأبلغ من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، على طريقة قول العرب: لا أعرفنك تفعل كذا، ولا ألفينك في موضع كذا.
وجملة {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تعليل للنهي عن أن يصدهم الشيطان فإن شأن العاقل أن يحذر من مكائد عدوه وعداوة الشيطان للبشر ناشئة من خبث كينونته مع ما أنضم إلى ذلك الخبث من تنافي العنصرين فإذا التقى التنافي مع خبث الطبع نشأ من مجموعهما القصد بالأذى، وقد أذكى تلك العداوة حدث قارن نشأة نوع الإنسان عند تكوينه، في قصته مع آدم كما قصه القرآن غير مرة.
وحرف "إن" هنا موقعة موقع فاء التسبب في إفادة التعليل.
{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
قد علمت آنفا أن هذا هو المقصود من ذكر عيسى عليه السلام فهو عطف على قصة إرسال موسى.
ولم يذكر جواب {لما} فهو محذوف لدلالة بقية الكلام عليه.
وموقع حرف {لما} هنا أن مجيء عيسى بالبينات صار معلوما للسامع مما تقدم في قوله {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ} [الزخرف:59]
الآية، أي لما جاءهم عيسى اختلف الأحزاب فيما جاء به، فحذف جواب {لما} لأن المقصود هو قوله {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف: 65] لأنه يفيد أن سنن الأمم المبعوث إليهم الرسل لم يختلف فإنه لم يخل رسول عن قوم آمنوا به وقوم كذبوه ثم كانوا سواء في نسبة الشركاء في الإلهية بمزاعم النصارى أن عيسى ابن لله تعالى كما أشار إليه قوله {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الزخرف: 65] أي أشركوا كما هو اصطلاح القرآن غالبا. فتم التشابه بين الرسل السابقين وبين محمد صلى الله عليهم أجمعين، فحصل في الكلام إيجاز تدل عليه فاء التفريع.
وفي قصة عيسى مع قومه تنبيه على أن الإشراك من عوارض أهل الضلالة لا يلبث أن يخامر نفوسهم وإن لم يكن عالقا بها من قبل، فإن عيسى بعث إلى قوم لم يكونوا

يدينون بالشرك إذ هو قد بعث لبني إسرائيل وكلهم موحدون فلما اختلف أتباعه بينهم وكذبت به فرق وصدقه فريق ثم لن يتبعوا ما أمرهم به لم يلبثوا أن حدثت فيهم نحلة الإشراك.
وجملة {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} مبينة لجملة {جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} وليست جوابا لشرط {لما} الذي جعل التفريع في قوله {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم: 37] دليلا عليه.
وفي إيقاع جملة {قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} بيانا لجملة {جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} إيماء إلى أنه بادأهم بهذا القول، لأن شأن أهل الضلالة أن يسرعوا إلى غاياتها ولو كانت مبادئ الدعوة تنافي عقائدهم، أي لم يدعهم عيسى إلى أكثر من اتباع الحكمة وبيان المختلف فيه ولم يدعهم إلى ما ينافي أصول شريعة التوراة ومع ذلك لم يخل حاله من صدود مريع عنه وتكذيب.
وابتداؤه بإعلامهم أنه جاءهم بالحكمة والبيان وهو إجمال حال رسالته ترغيب لهم في وعي ما سيلقيه إليهم من تفاصيل الدعوة المفرع بعضها على هذه المقدمة بقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ}
والحكمة هي معرفة ما يؤدي إلى الحسن ويكف عن القبيح وهي هنا النبوة، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} في سورة البقرة.[269]
وقد جاء عيسى بتعليمهم حقائق من الأخلاق الفاضلة والمواعظ.
وقوله {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ} عطف على {بالحكمة} لأن كليهما متعلق بفعل {جئتكم} . واللام للتعليل. والتبيين: تجلية المعاني الخفية لغموض أو سوء تأويل، والمراد ما بينه عيسى في الإنجيل وغيره مما اختلفت فيه أفهام اليهود من الأحكام المتعلقة بفهم التوراة أو بتعيين الأحكام للحوادث الطارئة.
ولم يذكر في هذه الآية قوله المحكي في آية سورة النساء {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} لأن ذلك قد قاله في مقام آخر.
والمقصود حكاية ما قاله لهم مما ليس شأنه أن يثير عليه قومه بالتكذيب فهم كذبوه في وقت لم يذكر لهم فيه أنه جاء بنسخ بعض الأحكام من التوراة، أي كذبوه في حال ظهور آيات صدقه بالمعجزات وفي حال انتفاء ما من شأنه أن يثير عليه شكا.
وإنما قال {بعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} إما لأن الله أعلمه بأن المصلحة لم تتعلق ببيان كل ما اختلفوا فيه بل يقتصر على البعض ثم يكمل بيان الباقي على لسان رسول يأتي من بعده

يبين جميع ما يحتاج إلى البيان وإما لأن ما أوحي إليه من البيان غير شامل لجميع ما هم مختلفون في حكمه وهو ينتظر بيانه من بعد تدريجا في التشريع كما وقع في تدريج تحريم الخمر في الإسلام.
وقيل: المراد ب {بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} ما كان الاختلاف فيه راجعا إلى أحكام الدين دون ما كان من الاختلاف في أمور الدنيا.
وفي قوله {بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} تهيئة لهم لقبول ما سيبين لهم حينئذ أو من بعد.
وهذه الآية تدل على جواز تأخير البيان فيما له ظاهر وفي ما يرجع إلى البيان بالنسخ، والمسألة من أصول الفقه.
وفرع على إجمال فاتحة كلامه قوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وهذا كلام جامع لتفاصيل الحكمة وبيان ما يختلفون فيه، فإن التقوى مخافة الله. وقد جاء في الأثر "رأي الحكمة مخافة الله"1 ، وطاعة الرسول تشمل معنى {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} فإذا أطاعوه عملوا بما يبين لهم فيحصل المقصود من البيان وهو العمل. وأجمع منه قول النبي صلى الله عليه وسلم لسفيان الثقفي وقد سأله أن يقول له في الإسلام قولا لا يسأل عنه أحدا غيره "قل آمنت بالله ثم استقم" ، لأنه أليق بكلمة جامعة في شريعة لا يترقب بعدها مجيء شريعة أخرى، بخلاف قول عيسى عليه السلام {وأطيعون} فإنه محدود بمدة وجوده بينهم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} تعليل لجملة {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} لأنه إذا ثبت تفرده بالربوبية توجه الأمر بعبادته إذ لا يخاف الله إلا من اعترف بربوبيته وانفراده بها.
وضمير الفصل أفاد القصر، أي الله ربي لا غيره. وهذا إعلان بالوحدانية وإن كان القوم الذين أرسل إليهم عيسى موحدين، لكن قد ظهرت بدعة في بعض فرقهم الذين قالوا: عزير ابن الله.
وتأكيد الجملة ب {إن} لمزيد الاهتمام بالخبر فإن المخاطبين غير منكرين ذلك.
وتقديم نفسه على قومه في قوله {رَبِّي وَرَبُّكُمْ} لقصد سد ذرائع الغلو في تقديس
ـــــــ
1 رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن أبي مسعود مرفوعا وضعفه البيهقي.

عيسى، وذلك من معجزاته لأن الله علم أنه ستغلو فيه فرق من أتباعه فيزعمون بنوته من الله على الحقيقة، ويضلون بكلمات الإنجيل التي يقول فيها عيسى: أبي، مريدا به الله تعالى.
وفرع على إثبات التوحيد لله الأمر بعبادته بقوله {فاعبدوه} فإن المنفرد بالإلهية حقيق بأن يعبد.
والإشارة ب {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} إلى مضمون قوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي هذا طريق الوصول إلى الفوز عن بصيرة ودون تردد، كما أن الصراط المستقيم لا ينبهم السير فيه على السائر.
{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}
هذا التفريع هو المقصود من سوق القصة مساق التنظير بين أحوال الرسل، أي عقب دعوته اختلاف الأحزاب من بين الأمة الذين بعث إليهم والذين تقلدوا ملته طلبا للاهتداء.
وهذا التفريع دليل على جواب "لما" المحذوف.
وضمير {بينهم} مراد به الذين جاءهم عيسى لأنهم معلومون من سياق القصة من قوله {جَاءَ عِيسَى} [الزخرف: 63] فإن المجيء يقتضي مجيئا إليه وهم اليهود.
و {من} يجوز أن تكون مزيدة لتأكيد مدلول {بينهم} أي اختلفوا اختلاف أمة واحدة، أي فمنهم من صدق عيسى وهم: يحيى بن زكريا ومريم أم عيسى والحواريون الاثنا عشر وبعض نساء مثل مريم المجدلية ونفر قليل، وكفر به جمهور اليهود وأحبارهم، وكان ما كان من تألب اليهود عليه حتى رفعه الله. ثم انتشر الحواريون يدعون إلى شريعة عيسى فاتبعهم أقوام في بلاد رومية وبلاد اليونان ولم يلبثوا أن اختلفوا من بينهم في أصول الديانة فتفرقوا ثلاث فرق: نسطورية، ويعاقبة، وملكانية. فقالت النسطورية: عيسى ابن الله، وقالت اليعاقبة: عيسى هو الله، أي بطريق الحلول، وقالت الملكانية وهم الكاثوليك: عيسى ثالث ثلاثة مجموعها هو الإله، وتلك هي: الأب الله ، والابن عيسى ، وروح القدس جبريل فالإله عندهم أقانيم ثلاثة.
وقد شملت الآية كلا الاختلافين فتكون الفاء مستعملة في حقيقة التعقيب ومجازه. بأن يكون شمولها للاختلاف الأخير مجازا علاقته المشابهة لتشبيه مفاجأة طرو الاختلاف

بين أتباعه مع وجود الشريعة المانعة من مثله كأنه حدث عقب بعثة عيسى وإن كان بينه وبينها زمان طويل دبت فيه بدعتهم، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه شائع لأن المدار على أن تكون قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي وحده على التحقيق. وهذا الاختلاف أجمل هنا ووقع تفصيله في آيات كثيرة تتعلق بما تلقى به اليهود دعوة عيسى، وآيات تتعلق بما أحدثه النصارى في دين عيسى من زعم بنوته من الله وإلهيته.
ويجوز أن تكون {من} في قوله {من بينهم} ابتدائية متعلقة ب {اختلف} أي نشأ الاختلاف من بينهم دون أن يدخله عليهم غيرهم، أي كان دينهم سالما فنشأ فيهم الاختلاف.
وعلى هذا الوجه يختص الخلاف بأتباع عيسى عليه السلام من النصارى إذ اختلفوا فرقا وابتدعوا قضية بنوة عيسى من الله فتكون الفاء خالصة للتعقيب المجازي.
وفرع على ذكر الاختلاف تهديد بوعيد للذين ظلموا بالعذاب يوم القيامة تفريع التذييل على المذيل، فالذين ظلموا يشمل جميع الذين أشركوا مع الله غيره في الإلهية {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وهذا إطلاق الظلم غالبا في القرآن، فعلم أن الاختلاف بين الأحزاب أفضى بهم أن صار أكثرهم مشركين بقرينة ما هو معروف في الاستعمال من لزوم مناسبة التذييل للمذيل، بأن يكون التذييل يعم المذيل وغيره فيشمل عموم هذا التذييل مشركي العرب المقصودين من هذه الأمثال والعبر، ألا ترى أنه وقع في سورة مريم قوله {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فجعلت الصلة فعل {كفروا} لأن المقصود من آية سورة مريم الذين كفروا من النصارى ولذلك أردف بقوله {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم: 38] لما أريد التخلص إلى إنذار المشركين بعد إنذار النصارى.
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
استئناف بياني بتنزيل سامع قوله {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف: 65] منزلة من يطلب البيان فيسأل: متى يحل هذا اليوم الأليم? وما هو هذا الويل? فوردت جملة {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} جوابا عن الشق الأول من السؤال، وسيجيء الجواب عن الشق الثاني في قوله {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الزخرف: 67 وفي قوله {إن المجرمين في عذاب جهنم} [الزخرف:74] الآيات.

وقد جرى الجواب على طريقة الأسلوب الحكيم، والمعنى: أن هذا العذاب واقع لا محالة سواء قرب زمان وقوعه أم بعد، فلا يريبكم عدم تعجيله قال تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس50] وقد أشعر بهذا المعنى تقييد إتيان الساعة بقيد "بغتة" فإن الشيء الذي لا تسبقه أمارة لا يدرى وقت حلوله.
و {ينظرون} بمعنى ينتظرون، والاستفهام إنكاري، أي لا ينتظرون بعد أن أشركوا لحصول العذاب إلا حلول الساعة. وعبر عن اليوم بالساعة تلميحا لسرعة ما يحصل فيه.
والتعريف في {الساعة} تعريف العهد.
والبغتة: الفجأة، وهي: حصول الشيء عن غير ترقب.
و {أن تأتيهم} بدل من {الساعة} بدلا مطابقا فإن إتيان الساعة هو عين الساعة لأن مسمى الساعة حلول الوقت المعين، والحلول هو المجيء المجازي المراد هنا.
وجملة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} في موضع الحال من ضمير النصب في {تأتيهم} . والشعور: العلم بحصول الشيء الحاصل.
ولما كان مدلول {بغتة} يقتضي عدم الشعور بوقوع الساعة حين تقع عليهم كانت جملة الحال مؤكدة للجملة التي قبلها.
{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} استئناف يفيد أمرين.
أحدهما: بيان بعض الأهوال التي أشار إليها إجمال التهديد في قوله {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف: 65]
وثانيهما: موعظة المشركية بما يحصل يوم القيامة من الأهوال لأمثالهم والحبرة

للمؤمنين. وقد أوثر بالذكر هنا من الأهوال ما له مزيد تناسب لحال المشركين في تألبهم على مناواة الرسول صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، فإنهم ما ألبهم إلا تناصرهم وتوادهم في الكفر والتباهي بذلك بينهم في نواديهم وأسمارهم، قال تعالى حكاية عن إبراهيم {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وتلك شنشنة أهل الشرك من قبل.
وفي معنى هذه الآية قوله المتقدم آنفا {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}
والأخلاء: جمع خليل، وهو الصاحب الملازم، قيل: إنه مشتق من التخلل لأنه كالمتخلل لصاحبه والممتزج به، وتقدم في قوله {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} في سورة النساء.[الزخرف:38] والمضاف إليه "إذ" من قوله {يومئذ} هو المعوض عنه التنوين دل عليه المذكور قبله في قوله {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف: 65]
والعدو: المبغض، ووزنه فعول بمعنى فاعل، أي عاد، ولذلك استوى جريانه على الواحد وغيره، والمذكر وغيره، وتقدم عند قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} في سورة النساء.[92]
وتعريف {الأخلاء} تعريف الجنس وهو مفيد استغراقا عرفيا، أي الأخلاء من فريقي المشركين والمؤمنين أو الأخلاء من قريش المتحدث عنهم، وإلا فإن من الأخلاء غير المؤمنين من لا عداوة بينهم يوم القيامة وهم الذين لم يستخدموا خلتهم في إغراء بعضهم بعضا على الشرك والكفر والمعاصي وإن افترقوا في المنازل والدرجات يوم القيامة.
و {يومئذ} ظرف متعلق بعدو، وجملة {يا عبادي} مقولة لقول محذوف دلت عليه صيغة الخطاب، أي نقول لهم أو يقول الله لهم وقرأ الجمهور {يا عبادي} بإثبات الياء على الأصل. وقرأه حفص والكسائي بحذف ياء المتكلم تخفيفا. قال ابن عطية قال أبو علي: وحذفها حسن لأنها في موضع تنوين وهي قد عاقبته فكما يحذف التنوين في الاسم المفرد المنادى كذلك تحذف الياء هنا.
ومفاتحة خطابهم بنفي الخوف عنهم تأنيس لهم، ومنة بإنجائهم من مثله، وتذكير لهم بسبب مخالفة حالهم لحال أهل الضلالة فإنهم يشاهدون ما يعامل به أهل الضلالة

والفساد.
و {لا خوف} مرفوع منون في جميع القراءات المشهورة، وإنما لم يفتح لأن الفتح على تضمين "من" الزائدة المؤكدة للعموم وإذ قد كان التأكيد مفيدا التنصيص على عدم إرادة نفي الواحد، وكان المقام غير مقام التردد في نفي جنس الخوف عنهم لأنه لم يكن واقعا بهم حينئذ مع وقوعه على غيرهم، فأمارة نجاتهم منه واضحة، لم يحتج إلى نصب اسم {لا} ، ونظيره قول الرابعة من نساء حديث أم زرع زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة روايته برفع الأسماء الأربعة لأن انتفاء تلك الأحوال عن ليل تهامة مشهور، وإنما أرادت بيان وجوه الشبه من قولها كليل تهامة.
وجيء في قوله {وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} بالمسند إليه مخبرا عنه بالمسند الفعلي لإفادة التقوي في نفي الحزن عنهم، فالتقوي أفاد تقوي النفي لا نفي قوة الحزن الصادق بحزن غير قوي. هذا هو طريق الاستعمال في نفس صيغ المبالغة كما في قوله تعالى {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] تطمينا لأنفسهم بانتفاء الحزن عنهم في أزمنة المستقبل، إذ قد يهجس بخواطرهم هل يدوم لهم الأمن الذي هم فيه.
وجملة {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا} نعت للمنادى من قوله {يا عبادي} ، جيء فيها بالموصول لدلالة الصلة على علة انتفاء الخوف والحزن عنهم، وعطف على الصلة قوله {وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}
والمخالفة بين الصلتين إذ كانت أولاهما فعلا ماضيا والثانية فعل كون مخبرا عنه باسم فاعل لأن الإيمان: عقد القلب يحصل دفعة واحدة وأما الإسلام فهو الإتيان بقواعد الإسلام الخمس كما جاء تفسيره في حديث سؤال جبريل، فهو معروض للتمكن من النفس فلذلك أوثر بفعل "كان" الدال على اتحاد خبره باسمه حتى كأنه من قوام كيانه.
وعطف أزواجهم عليهم في الإذن بدخول الجنة من تمام نعمة التمتع بالخلة التي كانت بينهم وبين أزواجهم في الدنيا.
و {تحبرون} مبني للمجهول مضارع حبر بالبناء للمجهول، وفعله حبره، إذا سره، ومصدره الحبر بفتح فسكون، والاسم الحبور والحبرة، وتقدم في قوله تعالى {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} في سورة الروم.[15]
وجملة {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} إلخ معترضة بين أجزاء القول فليس في ضمير

{عليهم} التفات بل المقام لضمير الغيبة.
والصحاف: جمع صفحة، إناء مستدير واسع الفم ينتهي أسفله بما يقارب التكوير. والصفحة: إناء لوضع الطعام أو الفاكهة مثل صحاف الفغفوري الصيني تسع شبع خمسة، وهي دون القصعة التي تسع شبع عشرة. وقد ورد أن عمر بن الخطاب اتخذ صحافا على عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلا يؤتى إليه بفاكهة أو طرفة إلا أرسل إليهن منها في تلك الصحاف.
والأكواب: جمع كوب بضم الكاف وهو إناء للشراب من ماء أو خمر مستطيل الشكل له عنق قصير في أعلى ذلك العنق فمه وهو مصب ما فيه، وفمه أضيق من جوفه، والأكثر أن لا تكون له عروة يمسك منها فيمسك بوضع اليد على عنقه، وقد تكون له عروة قصيرة، وهو أصغر من الإبريق إلا أنه لا خرطوم له ولا عروة في الغالب. وأما الإبريق فله عروة وخرطوم.
وحذف وصف الأكواب لدلالة وصف صحاف عليه، أي وأكواب من ذهب. وهذه الأكواب تكون للماء وتكون للخمر.
وجملة {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} إلخ حال من {الجنة} ، وهي من بقية القول.
وضمير {فيها} عائد إلى {الجنة} ، وقد عم قوله {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} كل ما تتعلق الشهوات النفسية بنواله وتحصيله، والله يخلق في أهل الجنة الشهوات اللائقة بعالم الخلود والسمو.
{وتلذ} مضارع لذ بوزن علم: إذا أحس لذة، وحق فعله أن يكون قاصرا فيعدى إلى الشيء الذي به اللذة بالباء فيقال: لذ به، وكثر حذف الباء وإيصال الفعل إلى المجرور بنفسه فينتصب على نزع الخافض، وكثر ذلك في الكلام حتى صار الفعل بمنزلة المتعدي فقالوا: لذه. ومنه قوله هنا {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} التقدير، وتلذه الأعين. والضمير المحذوف هو رابط الصلة بالموصول. ولذة الأعين في رؤية الأشكال الحسنة والألوان التي تنشرح لها النفس، فلذة الأعين وسيلة للذة النفوس فعطف {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} على {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} عطف ما بينه وبين المعطوف عليه عموم وخصوص، فقد تشتهي الأنفس نا لا تراه الأعين كالمحادثة مع الأصحاب وسماع الأصوات الحسنة والموسيقى. وقد تبصر الأعين ما لم تسبق للنفس شهوة رؤيته أو ما اشتهت النفس طعمه أو سمعه فيؤتى به في

صور جميلة إكمالا للنعمة. و{الأنفس} فاعل {تلذ} وحذف المفعول لظهوره من المقام.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر {ما تشتهيه} بهاء ضمير عائد إلى {ما} الموصولة وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام، وقرأه الباقون {ما تشتهي} بحذف هاء الضمير، وكذلك رسم في مصحف مكة ومصحف البصرة ومصحف الكوفة. والمروي عن عاصم قارئ الكوفة روايتان: إحداهما أخذ بها حفص والأخرى أخذ بها أبو بكر. وحذف العائد المتصل المنصوب بفعل أو وصف من صلة الموصول كثير في الكلام.
وقوله {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} بشارة لهم بعدم انقطاع الحبرة وسعة الرزق ونيل الشهوات، وجيء فيه بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات تأكيدا لحقيقة الخلود لدفع توهم أن يراد به طول المدة فحسب.
وتقديم المجرور للاهتمام، وعطف على بعض ما يقال لهم مقول آخر قصد منه التنويه بالجنة وبالمؤمنين إذ أعطوها بسبب أعمالهم الصالحة، فأشير إلى الجنة باسم إشارة البعيد تعظيما لشأنها وإلا فإنها حاضرة نصب أعينهم.
وجملة {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} الآية تذييل للقول. واسم الإشارة مبتدأ و {الجنة} خبره، أي تلك التي ترونها هي الجنة التي سمعتم بها ووعدتم بدخولها.
وجملة {الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} صفة للجنة.
واستعير {أورثتموها} لمعنى: أعطيتموها دون غيركم، بتشبيه إعطاء الله المؤمنين دون غيرهم نعيم الجنة بإعطاء الحاكم مال الميت لوارثه دون غيره من القرابة لأنه أولى به وآثر بنيله.
والباء في {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} للسببية وهي سببية بجعل الله ووعده، ودل قوله {كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} على أن عملهم الذي استحقوا به الجنة أمر كائن متقرر، وأن عملهم ذلك متكرر متجدد، أي غير منقطع إلى وفاتهم.
وجملة {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} صفة ثانية للجنة. والفاكهة: الثمار رطبها ويابسها، وهي من أحسن ما يستلذ من المآكل، وطعومها معروفة لكل سامع.
ووجه تكرير الامتنان بنعيم المأكل والمشرب في الجنة: أن ذلك من النعيم الذي لا تختلف الطباع البشرية في استلذاذه، ولذلك قال {مِنْهَا تَأْكُلُونَ} كقوله تعالى {كُلُوا مِنْ

ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141]
[75,74] {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}
لهذه الجملة موقعان:
أحدهما: إتمام التفصيل لما أجمله الوعيد الذي في قوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف: 65] عقب تفصيل بعضه بقوله {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} [الزخرف: 66] إلخ. وبقوله {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67] حيث قطع إتمام تفصيله بالاعتناء بذكر وعد المؤمنين المتقين فهي في هذا الموقع بيان لجملة الوعيد وتفصيل لإجمالها.
الموقع الثاني: أنها كالاستئناف البياني يثيره ما يسمع من وصف أحوال المؤمنين المتقين من التساؤل: كيف يكون حال أضدادهم المشركين الظالمين.
والموقعان سواء في كون الجملة لا محل لها من الإعراب.
وافتتاح الخبر ب {إن} للاهتمام به، أو لتنزيل السائل المتلهف للخبر منزلة المتردد في مضمونه لشدة شوقه إليه، أو نظرا إلى ما في الخبر من التعريض بإسماعه المشركين وهم ينكرون مضمونه فكأنه قيل: إنكم أيها المجرمون في عذاب جهنم خالدون.
والمجرمون: الذين يفعلون الإجرام، وهو الذنب العظيم. والمراد بهم هنا: المشركون المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم لأن السياق لهم، ولأن الجملة بيان لإجمال وعيدهم في قوله {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف: 65]، ولأن جواب الملائكة نداءهم بقولهم {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} لا ينطبق على غير المكذبين، أي كارهون للإسلام والقرآن، فذكر المجرمين إظهار في مقام الإضمار للتنبيه على أن شركهم إجرام.
وجملة {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} في موضع الحال من {عَذَابِ جَهَنَّمَ} و {يفتر} مضاعف فتر، إذا سكن، وهو بالتضعيف يتعدى إلى مفعول. والمعنى: لا يفتره أحد.
وجملة {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} عطف على جملة {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}

والإيلاس: اليأس والذل، وتقدم في سورة الأنعام: وزاد الزمخشري في معنى الإيلاس قيد السكوت ولم يذكره غيره، والحق أن السكوت من لوازم معنى الإيلاس وليس قيدا في المعنى.
[76] {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}
جملة معترضة ي حكاية أحوال المجرمين قصد منها نفي استعظام ما جوزوا به من الخلود في العذاب ونفي الرقة لحالهم المحكية بقوله {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}
والظلم هنا: الاعتداء، وهو الإصابة بضر بغير موجب مشروع أو معقول، فنفيه عن الله في معاملته إياهم بتلك المعاملة لأنها كانت جزاء على ظلمهم فلذلك عقب بقوله {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} أي المعتدين إذ اعتدوا على ما أمر الله من الاعتراف له بالإلهية، وعلى رسوا الله صلى الله عليه وسلم إذ كذبوه ولمزوه، كما تقدم في قوله {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} في سورة لقمان.[13]
و {هم} ضمير منفصل لا يطلب معادا لأنه لم يجتلب للدلالة على معاد لوجود ضمير {كانوا} دالا على المعاد فضمير الفصل مجتلب لإفادة قصر صفة الظلم على اسم "كان"، وإذ قد كان حرف الاستدراك بعد النفي كافيا في إفادة القصر كان اجتلاب ضمير الفصل تأكيدا للقصر بإعادة صيغة أخرى من صيغ القصر. وجمهور العرب يجعلون ضمير الفصل في الكلام غير واقع في موقع إعراب فهو بمنزلة الحرف، وهو عند جمهور النحاة حرف لا محل له من الإعراب ويسميه نحاة البصرة فصلا، ويسميه نحاة الكوفة عمادا.
واتفق القراء على نصب {الظالمين} على أنه خبر {كانوا} وبنو تميم يجعلونه ضميرا طالبا معادا وصدرا لجملته مبتدأ ويجعلون جملته في محل الإعراب الذي يقتضيه ما قبله، وعلى ذلك قرأ عبد الله بن مسعود وأبو زيد النحوي {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِونَ} على أن هم مبتدأ والجملة منه ومن خبره خبر {كانوا} . وحكى سيبوية أن رؤية بن العجاج كان يقول أظن زيدا هو خير منك برفع خير.
[78,77] {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} جملة {ونادوا} حال من ضمير {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أو عطف على

جملة {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} . وحكي نداؤهم بصيغة الماضي مع أنه مما سيقع يوم القيامة، إما لأن إبلاسهم في عذاب جهنم وهو اليأس يكون بعد أن نادوا يا مالك وأجابهم بما أجاب به، وذلك إذا جعلت جملة {ونادوا} حالية، وإما لتنزيل الفعل المستقبل منزلة الماضي في تحقيق وقوعه تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر نحو قوله تعالى {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} وهذا إن كانت جملة {ونادوا} إلخ معطوفة.
و {مالك} المنادى اسم الملك الموكل بجهنم خاطبوه ليرفع دعوتهم إلى الله تعالى شفاعة.
واللام في {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} لام الأمر بمعنى الدعاء وتوجيه الأمر إلى الغائب لا يكون إلا على معنى التبليغ كما هنا، أو تنزيل الحاضر منزلة الغائب لاعتبار ما مثل التعظيم في نحو قول الوزير للخليفة لير الخليفة رأيه.
والقضاء بمعنى: الإماتة كقوله {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} سألوا الله أن يزيل عنهم الحياة ليستريحوا من إحساس العذاب وهم إنما سألوا الله أن يميتهم فأجيبوا بأنهم ماكثون جوابا جامعا لنفي الإماتة ونفي الخروج فهو جواب قاطع لما قد يسألونه من بعد.
ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما روي أن ابن مسعود قرأ ونادوا يا مال بحذف الكاف على الترخيم، فذكرت قراءته لابن عباس فقال ما كان أشغل أهل النار عن الترخيم ، قال في الكشاف: وعن بعضهم: حسن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه اه. وأراد ببعضهم ابن جني فيما ذكره الطيبي أن ابن جني قال: وللترخيم في هذا الموضع سر وذلك أنهم لعظم ما هم عليه ضعفت وذلت أنفسهم وصغر كلامهم فكان هذا من مواضع الاختصار.
وفي صحيح البخاري عن يعلى بن أمية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} بإثبات الكاف. قال ابن عطية: وقراءة "ونادوا يا مال" رواها أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالوجهين وتواترت قراءة إثبات الكاف وبقيت الأخرى مروية بالآحاد فلم تكن قرآنا.
وجملة {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} إلى آخرها في موضع العلة لجملة {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} باعتبار تمام الجملة وهو الاستدراك بقوله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}

وضمير {جئناكم} للملائكة، والحق: الوحي الذي نزل به جبريل فنسب مالك المجيء بالحق إلى جمع الملائكة على طريقة اعتزاز الفريق والقبيلة بمزايا بعضها، وهي طريقة معروفة في كلام العرب كقول الحارث بن حلزة:
وفككنا غل امرئ القيس عنه ... بعد ما طال حبسه والعناء1
وإنما نسبت كراهة الحق إلى أكثرهم دون جميعهم لأن المشركين فريقان أحدهما سادة كبراء لملة الكفر وهم الذين يصدون الناس عن الإيمان بالإرهاب والترغيب مثل أبي جهل حين صد أبا طالب عند احتضاره عن قول لا إله إلا الله وقال أترغب عن ملة عبد المطلب ، وثانيهما دهماء وعامة وهم تبع لأئمة الكفر. وقد أشارت إلى ذلك آيات كثيرة منها قوله في سورة البقرة {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} الآيات فالفريق الأول هم المراد. من قوله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} وأولئك إنما كرهوا الحق لأنه يرمي إلى زوال سلطانهم وتعطيل منافعهم.
وتقديم {للحق} على {كارهون} للاهتمام بالحق تنويها به، وفيه إقامة الفاصلة أيضا.
[79] {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}
{أم} منقطعة للإضراب الانتقالي من حديث إلى حديث مع اتحاد الغرض، انتقل من حديث ما أعد لهم من العذاب يوم القيامة إلى ما أعد لهم من الخزي في الدنيا.
الجملة عطف على جملة {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} [الزخرف: 66] إلخ.
والكلام بعد {أم} استفهام حذفت منه أداة استفهام وهو استفهام تقريري وتهديد، أي أأبرموا أمرا.
وضمير {أبرموا} مراد به المشركون الذين ناووا النبي صلى الله عليه وسلم. وضمير "إنا" ضمير الجلالة.
والفاء في قوله {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} للتفريع على ما اقتضاه الاستفهام من تقدير حصول المستفهم عنه فيؤول الكلام إلى معنى الشرط، أي أن أبرموا أمرا من الكيد فإن الله مبرم لهم أمرا من نقض الكيد وإلحاق الأذى بهم، ونظيره وفي معناه قوله {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً
ـــــــ
1 يريد امرأ القيس بن المنذر أخا عمرو بن هند وكان: أسره ملك من غسان فأغار عمرو بن هند أخوه في جيش من بكر بن وائل قبيلة الشاعر وقتلوا الملك وأنقذوا امروأ القيس.

فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور:42]
وعن مقاتل نزلت هذه الآية في تدبير قريش بالمكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتل النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يستطيع بنو هاشم المطالبة بدمه، وقتل الله جميعهم في بدر.
والإبرام حقيقته: القتل المحكم، وهو هنا مستعار لإحكام التدبير والعزم على ما دبروه.
والمخالفة بين {أبرموا} و {مبرمون} لأن إبرامهم واقع، وأما إبرام الله جزاء لهم فهو توعد بأن الله قدر نقض ما أبرموه فإن اسم الفاعل حقيقة في زمن الحال، أي نحن نقدر لهم الآن أمرا عظيما، وذلك إيجاد أسباب وقعة بدر التي استؤصلوا فيها.
والأمر: العمل العظيم الخطير، وحذف مفعول {مبرمون} لدلالة ما قبله عليه.
[80] {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} {أم} والاستفهام المقدر بعدها في قوله {أم يحسبون} هما مثل ما تقدم في قوله {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً} [الزخرف: 79].
وحرف {بلى} جواب للنفي من قوله {أَنَّا لا نَسْمَعُ} أي بلى نحن نسمع سرهم ونجواهم.
والسمع هو: العلم بالأصوات.
والمراد بالسر: ما يسرونه في أنفسهم من وسائل المكر للنبي صلى الله عليه وسلم، وبالنجوى ما يتناجون به بينهم في ذلك بحديث خفي.
وعطف {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ليعلموا أن علم الله بما يسرون علم يترتب عليه أثر فيهم وهو مؤاخذتهم بما يسرون لأن كتابة الأعمال تؤذن بأنها ستحسب لهم يوم الجزاء.
والكتابة يجوز أن تكون حقيقة، وأن تكون مجازا، أو كناية عن الإحصاء والاحتفاظ.
والرسل: هم الحفظة من الملائكة لأنهم مرسلون لتقصي أعمال الناس ولذلك قال {لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} كقوله {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [قّ:18]، أي رقيب يرقب قوله.

[82,81] {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} لما جرى ذكر الذين ظلموا بادعاء بنوة الملائكة في قوله {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف: 65] عقب قوله {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} [الزخرف: 57]، وعقب قوله قبله {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف: 19]
وأعقب بما ينتظرهم من أهوال القيامة وما أعد للذين انخلعوا عن الإشراك بالإيمان، أمر الله رسوله أن ينتقل من مقام التحذير والتهديد إلى مقام الاحتجاج على انتفاء أن يكون لله ولد، جمعا بين الرد على بعض المشركين الذين عبدوا الملائكة، والذين زعموا أن بعض أصنامهم بنات الله مثل اللات والعزى، فأمره بقوله {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي قل لهم جدلا وإفحاما، ولقنه كلاما يدل على أنه ما كان يعزب عنه أن الله ليس له ولد ولا يخطر بباله أن لله ابنا.
والذين يقول لهم هذا القول هم المشركون الزاعمون ذلك فهذا غرض الآية على الإجمال لأنها افتتحت بقوله {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} مع علم السامعين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يروج عنده ذلك. ونظم الآية دقيق ومعضل، وتحته معان جمة:
وأولها وأولاها: أنه لو يعلم أن لله أبناء لكان أول من يعبدهم، أي أحق منكم بأن أعبدهم، أي لأنه ليس أقل فهما من أن يعلم شيئا ابنا لله ولا يعترف لذلك بالإلهية لأن ابن الله يكون منسلا من ذات إلهية فلا يكون إلا إلها وأنا أعلم أن الإله يستحق العبادة، فالدليل مركب من ملازمة شرطية، والشرط فرضي، والملازمة بين الجواب والشرط مبنية على أن المتكلم عاقل داع إلى الحق والنجاة فلا يرضى لنفسه ما يورطه، وأيضا لا يرضى لهم إلا ما رضيه لنفسه، وهذا منتهى النصح لهم، وبه يتم الاستدلال ويفيد أنه ثابت القدم في توحيد الإله.
ونفي التعدد بنفي أخص أحوال التعدد وهو التعدد بالأبوة والبنوة كتعدد العائلة، وهو أصل التعدد فينتفي أيضا تعدد الآلهة الأجانب بدلالة الفحوى. ونظيره قول سعيد بن جبير للحجاج. وقد قال له الحجاج حين أراد أن يقتله: لابدلنك بالدنيا نارا تلظى فقال سعيد: لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك، فنبهه إلى خطئه بأن إدخال النار من خصائص الله تعالى.

والحاصل أن هذا الاستدلال مركب من قضية شرطية أول جزأيها وهو المقدم باطل، وثانيهما وهو التالي باطل أيضا، لأن بطلان التالي لازم لبطلان المقدم، كقولك: إن كانت الخمسة زوجا فهي منقسمة بمتساويين، والاستدلال هنا ببطلان التالي على بطلان المقدم لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم عابدا لمزعوم بنوته لله أمر منتف بالمشاهدة فإنه لم يزل ناهيا إياهم عن ذلك. وهذا على وزان الاستدلال في قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الانبياء: 22]، إلا أن تلك جعل شرطها بأداة صريحة في الامتناع، وهذه جعل شرطها بأداة غير صريحة في الامتناع.
والنكتة في العدول عن الأداة الصريحة في الامتناع هنا، إيهامهم في بادئ الأمر أن فرض الولد لله محل نظر، وليتأتى أن يكون نظم الكلام موجها حتى إذا تأملوه وجدوه ينفي أن يكون لله ولد بطريق المذهب الكلامي. ويدل لهذا ما رواه في الكشاف أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال: إن الملائكة بنات الله فنزل قوله تعالى {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقني، فقال له الوليد بن المغيرة ما صدقك ولكن قال: ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة. وروي مجمل هذا المعنى عن السدي فكان في نظم الآية على هذا النظم إيجاز بديع، وإطماع للخصوم بما إن تأملوه استبان وجه الحق فإن أعرضوا بعد ذلك عد إعراضهم نكوصا.
وتحتمل الآية وجوها أخر من المعاني. منها: أن يكون المعنى إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين لله، أي فأنا أول المؤمنين بتكذيبهم، قاله مجاهد، أي بقرينة تذييله بجملة {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية.
ومنها، أن يكون حرف {إن} للنفي دون الشرط، والمعنى: ما كان للرحمن ولد فتفرع عليه: أنا أول العابدين لله، أي أتنزه عن إثبات الشريك له، وهذا عن ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه.
ومنها: تأويل {العابدين} أنه اسم فاعل من عبد يعبد من باب فرح، أي أنف وغضب، قاله الكسائي، وطعن فيه نفطويه بأنه إنما يقال في اسم فاعل عبد يعبد عبد وقلما يقولون: عابد والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة.
وقرأ الجمهور {ولد} بفتح الواو وفتح اللام. وقرأه حمزة والكسائي {ولد} بضم الواو وسكون اللام جمع ولد.
وجملة {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} يجوز أن تكون تكملة لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله، أي قل: إن كان للرحمن ولد على الفرض،

والتقدير: مع تنزيه عن تحقق ذلك في نفس الأمر. فيكون لهذه الجملة حكم التالي في جزأي القياس الشرطي الاستثنائي. وليس في ضمير {يصفون} التفات لأن تقدير الكلام: قل لهم إن كان للرحمن ولد.
ويجوز أن تكون كلاما مستأنفا من جانب الله تعالى لإنشاء تنزيهه عما يقولون فتكون معترضة بين جملة {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} وجملة {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] ولهذه الجملة معنى التذييل لأنها نزهت الله عن جميع ما يصفونه به من نسبة الولد وغير ذلك.
ووصفه بربوبية أقوى الموجودات وأعمها وأعظمها، لأنه يفيد انتفاء أن يكون له ولد لانتفاء فائدة الولادة، فقد تم خلق العوالم ونظام نمائها ودوامها، وعلم من كونه خالقها أنه غير مسبوق بعدم وإلا لاحتاج إلى خالق يخلقه، واقتضى عدم السبق بعدم أنه لا يلحقه فناء فوجود الولد له يكون عبثا.
[83] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}
اعتراض بتفريع عن تنزيه الله عما ينسبونه إليه من الولد والشركاء، وهذا تأييس من إجداء الحجة فيهم وأن الأولى به متاركتهم في ضلالهم إلى أن يحين يوم يلقون فيه العذاب الموعود. وهذا متحقق في أئمة الكفر الذين ماتوا عليه، وهم الذين كانوا متصدين لمحاجة النبي صلى الله عليه وسلم ومجادلته والتشغيب عليه مثل أبي جهل، وأمية بن خلف، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، والوليد بن المغيرة، والنضر بن عبد الدار، ممن قتلوا يوم بدر.
و"اليوم" هنا محتمل ليوم بدر وليوم القيامة وكلاهما قد وعدوه، والوعد هنا بمعنى الوعيد كما دل عليه السياق.
والخوض حقيقته: الدخول في لجة الماء ماشيا، ويطلق مجازا على كثرة الحديث، والأخبار والاقتصار على الاشتغال بها، وتقدم في قوله {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} في سورة الأنعام.[86]
والمعنى: فأعرض عنهم في حال خوضهم في الأحاديث ولعبهم في مواقع الجد حين يهزأون بالإسلام. واللعب: المزح والهزم.

وجزم فعل {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} بلام الأمر محذوفة وهو أولى من جعله جزما في جواب الأمر، وقد تكرر مثله في القرآن فالأمر هنا مستعمل في التهديد من قبيل {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}
وقرأ الجمهور {يلاقوا} بضم الياء وبألف بعد اللام، وصيغة المفاعلة مجاز في أنه لقاء محقق. وقرأه أبو جعفر {يلقوا} بفتح الياء وسكون اللام على أنه مضارع المجرد.
[84] {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}
عطف على جملة {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81] والجملتان اللتان بينهما اعتراضان، قصد من العطف إفادة نفي الشريك في الإلهية مطلقا بعد نفي الشريك فيها بالبنوة، وقصد بذكر السماء والأرض الإحاطة بعوالم التدبير والخلق لأن المشركين جعلوا لله شركاء في الأرض وهم أصنامهم المنصوبة، وجعلوا له شركاء في السماء وهم الملائكة إذ جعلوهم بنات لله تعالى فكان قوله {فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} إبطالا للفريقين مما زعمت إلهيتهم.
وكان مقتضى الظاهر بهذه الجملة أن يكون أولها {فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} على أنه وصف للرحمن من قوله {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81] فعدل عن مقتضى الظاهر بإيراد الجملة معطوفة لتكون مستقلة غير صفة، وبإيراد مبتدأ فيها لإفادة قصر صفة الإلهية في السماء وفي الأرض على الله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره، لأن إيراد المسند إليه معرفة والمسند معرفة طريق من طرق القصر. فالمعنى وهو لا غيره الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وصلة {الذي} جملة اسمية حذف صدرها، وصدرها ضمير يعود إلى معاد ضمير {وهو} وحذف صدر الصلة استعمال حسن إذا طالت الصلة كما هنا. والتقدير الذي هو في السماء إله.
والمجروران يتعلقان ب {إله} باعتبار ما يتضمنه من معنى المعبود لأنه مشتق من أله، إذا عبد فشابه المشتق. وصح تعلق المجرور به فتعلقه بلفظ إله كتعلق الظرف بغربال وأقوى من تعلق المجرور بكانون في قول الحطيئة يهجو أمه من أبيات:
أغربالا إذا استودعت سرا ... وكانونا على المتحدثينا1
ـــــــ
1 الرواية بنصب غربالا وكانوا بتقديرين: أتكونين,ويجوز رفعهما بتقدير: أانت.

{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}
بعد أن وصف الله بالتفرد بالإلهية أتبع بوصفه ب {الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} تدقيقا للدليل الذي في قوله {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} حيث دل على نفي إلهية غيره في السماء والأرض واختصاصه بالإلهية فيهما لما في صيغة القصر من إثبات الوصف له ونفيه عمن سواه، فكان قوله {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} تتميما للدليل واستدلالا عليه، ولذلك سميناه تدقيقا إذ التدقيق في الاصطلاح هو ذكر الشيء بدليل دليله، وأما التحقيق فذكر الشيء بدليله. لأن الموصوف بتمام الحكمة وكمال العلم مستغن عما سواه فلا يحتاج إلى ولد ولا إلى بنت ولا إلى شريك.
[85] {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
عطف على {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزخرف: 82]، قصد منه إتباع إنشاء التنزيه بإنشاء الثناء والتمجيد.
و {تبارك} خبر مستعمل في إنشاء المدح لأن معنى {تبارك} كان متصفا بالبركة اتصافا قويا لما يدل عليه صيغة تفاعل من قوة حصول المشتق منه لأن أصلها أن تدل على صدور فعل من فاعلين مثل: تقاتل وتمارى، فاستعملت في مجرد تكرر الفعل، وذلك مثل: تسامى وتعالى.
والبركة: الزيادة في الخير.
وقد ذكر مع التنزيه أنه رب السماوات والأرض لاقتضاء الربوبية التنزيه عن الولد المسوق الكلام لنفيه، وعن الشريك المشمول لقوله {عما يصفون} ، وذكر مع التبريك والتعظيم أن له ملك السماوات والأرض لمناسبة الملك للعظمة وفيض الخير، فلا يربيك أن {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزخرف: 82] مغن عن {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لأن غرض القرآن التذكير وأغراض التذكير تخالف أغراض الاستدلال والجدل، فإن التذكير يلائم التنبيه على مختلف الصفات باختلاف الاعتبارات والتعرض للاستمداد من الفضل. ثم إن صيغة {تبارك} تدل على أن البركة ذاتية لله تعالى فيقتضي استغناءه عن الزيادة باتخاذ الولد واتخاذ الشريك، فبهذا الاعتبار كانت هذه الجملة استدلالا آخر تابعا لدليل قوله {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا

يَصِفُونَ} [الزخرف:82].
وقد تأكد انفراده بربوبية أعظم الموجدات ثلاث مرات بقوله {رَبِّ الْعَرْشِ} وقوله {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] وقوله {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}
فكم من خصائص ونكت تنهال على المتدبر من آيات القرآن التي لا يحيط بها إلا الحكيم العليم.
ولما كان قوله {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مفيدا التصرف في هذه العوالم مدة وجودها ووجود ما بينها أردفه بقوله {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للدلالة على أن له مع ملك العوالم الفانية ملك العوالم الباقية، وأنه المتصرف في تلك العوالم بما فيها بالتنعيم والتعذيب، فكان قوله {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} توطئة لقوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وإدماجا لإثبات البعث. وتقديم المجرور في {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لقصد التقوي إذ ليس المخاطبون بمثبتين رجعى إلى غيره فإنهم لا يؤمنون بالبعث أصلا.
وأما قولهم للأصنام {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فمرادهم أنهم شفعاء لهم في الدنيا أو هو على سبيل الجدل ولذلك أتبع بقوله {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف: 86].
وقرأ الجمهور {ترجعون} بالفوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمباشرة بالتهديد. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتحتية تبعا لأسلوب الضمائر التي قبله، وهم متفقون على أنه مبني للمجهول.
[86] {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
لما أنبأهم أن لله ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة أعلمهم أن ما يعبدونه من دون الله لا يقدر على أن يشفع لهم في الدنيا إبطالا لزعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله.
ولما كان من جملة من عبدوا دون الله الملائكة استثناهم بقوله {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي فهم يشفعون، وهذا في معنى قوله {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الانبياء:26] ثم قال {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وقد

مضى في سورة الأنبياء.[28]
ووصف الشفعاء بأنهم شهدوا بالحق وهم يعلمون أي وهم يعلمون حال من يستحق الشفاعة. فقد علم أنهم لا يشفعون للذين خالف حالهم حال من يشهد لله بالحق.
[87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]
بعد أن أمعن في إبطال أن يكون إله غير الله بما سيق من التفصيلات، جاء هنا بكلمة جامعة لإبطال زعمهم إلهية غير الله بقوله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي سألتهم سؤال تقرير عمن خلقهم فإنهم يقرون بأن الله خلقهم، وهذا معلوم من حال المشركين كقول ضمام بن ثعلبة للنبي صلى الله عليه وسلم أسألك بربك ورب من قبلك الله أرسلك، ولأجل ذلك أكد إنهم يقرون لله بأنه الخالق فقال {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وذلك كاف في سفاهة رأيهم إذ كيف يكون إلها من لم يخلق، قال تعالى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17].
والخطاب في قوله {سألتهم} للنبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون لغير معين، أي إن سألهم من يتأتى منه أن يسأل. وفرع على هذا التقرير والإقرار الانكار والتعجيب من انصرافهم من عبادة الله إلى عبادة آلهة أخرى بقوله {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}
و"أنى" اسم استفهام عن المكان فمحله نصب على الظرفية، أي إلى أي مكان يصرفون.
و {يؤفكون} يصرفون: يقال: أفكه عن كذا، يأفكه من باب ضرب، إذا صرفه عنه، وبني للمجهول إذ لم يصرفهم صارف ولكن صرفوا أنفسهم عن عبادة خالقهم، فقوله {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} هو كقول العرب: أين يذهب بك، أي أين تذهب بنفسك إذ لا يريدون أن ذاهبا ذهب به يسألونه عنه ولكن المراد: أنه لم يذهب به أحد وإنما ذهب بنفسه.
[88] {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}
القيل مصدر قال، والأظهر أنه اسم مراد به المفعول، أي المقول مثل الذبح وأصله: قول، بكسر القاف وسكون الواو. والمعنى: ومقوله.
والضمير المضاف إليه "قيل" ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم بقرينة سياق الاستدلال والحجاج من قوله {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] وبقرينة قوله {يا

رب} وبقرينة أنه قال {إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} وبقرينة إجابته بقوله {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف: 89]، والأولى أن يكون ضمير الغائب التفاتا عن الخطاب في قوله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ} [الزخرف: 87]، فإنه بعد ما مضى من المحاجة ومن حكاية إقرارهم بأن الله الذي خلقهم، ثم إنهم لم يتزحزحوا عن الكفر قيد أنملة، حصل اليأس للرسول من إيمانهم فقال {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} التجاء إلى الله فيهم وتفويضا إليه ليجري حكمه عليهم.
وهذا من استعمال الخبر في التحسر أو الشكاية وهو خبر بمعنى الإنشاء مثل قوله تعالى {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30]
أي لم يعملوا به فلم يؤمنوا، ويؤيد هذا تفريع {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} [الزخرف: 89] ففي ضمير الغيبة التفات لأن الكلام كان جاريا على أسلوب الخطاب من قوله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ} [الزخرف: 87] فمقتضى الظاهر: وقولك: يا رب إلخ. ويحسن هذا الالتفات أنه حكاية لشيء في نفس الرسول فجعل الرسول بمنزلة الغائب لإظهار أن الله لا يهمل نداءه وشكواه على حد قوله تعالى {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1]. وإضافة القيل إلى ضمير الرسول مشعرة بأنه تكرر منه وعرف به عند ربه، أي عرف بهذا وبما في معناه من نحو {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} وقوله {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214].
وقرأ الجمهور {وقيله} بنصب اللام على اعتبار أنه مصدر نصب على أنه مفعول مطلق بدل من فعله.
والتقدير: وقال: الرسول قيله، والجملة معطوفة على جملة {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ} [الزخرف: 87] أو على جملة {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي وقال الرسول حينئذ يا رب إلخ. ونظيره قول كعب بن زهير:
تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم ... إنك يا بن أبي سلمى لمقتول
على رواية {قيلهم} ونصبه، أي ويقولون: قيلهم وهي رواية الأصمعي.
ويجوز أن يكون النصب على المفعول به لقوله {لا نسمع} ، والتقدير: بلى ونعلم قيله وهذا اختيار الفراء والأخفش، وقال المبرد والزجاج: هو منصوب بفعل مقدر دل عليه قوله {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [الزخرف: 85] أي ويعلم قيله.
وقرأ عاصم وحمزة بجر لام "قيله" ويجوز في جره وجهان:

أحدهما: أن يكون عطفا على {الساعة} في قوله {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي وعلم قيل الرسول: يا رب، وهو على هذا وعد للرسول بالنصر وتهديد لهم بالانتقام.
وثانيهما: أن تكون الواو للقسم ويكون جواب القسم جملة {إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} على أن الله أقسم بقول الرسول: يا رب، تعظيما للرسول ولقيله الذي هو تفويض للرب وثقة به.
ومقول {قيله} هو {يا رب} فقط، أي أقسم بنداء الرسول ربه نداء مضطر.
وذكر ابن هشام في شرح الكعبية عن أبي حاتم السجستاني: أن من جر فقوله بظن وتخليط، وأنكره عليه ابن هشام لإمكان تخريج الجر على وجه صحيح.
وقد حذف بعد النداء ما نودي لأجله مما دل عليه مقام من أعيته الحيلة فيهم ففوض أمره إلى ربه فأقسم الله بتلك الكلمة على أنهم لا يؤمنون ولكن الله سينتقم منهم فلذلك قال {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89]
والإشارة ب {هؤلاء} إلى المشركين من أهل مكة كما هي عادة القرآن غالبا ووصفهم بأنهم قوم لا يؤمنون، أدل على تمكن عدم الإيمان منهم من أن يقول: هؤلاء لا يؤمنون.
[89] {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
الفاء فصيحة لأنها أفصحت عن مقدر، أي إذ قلت ذلك القيل وفوضت الأمر إلينا فسأتولى الانتصاف منهم فاصفح عنهم، أي أعرض عنهم ولا تحزن لهم وقل لهم إن جادلوك: {سلام} ، أي سلمنا في المجادلة وتركناها.
وأصل {سلام} مصدر جاء بدلا من فعله. فأصله النصب، وعدل إلى رفعه لقصد الدلالة على الثبات كما تقدم في قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
يقال: صفح يصفح من باب منع بمعنى: أعرض وترك، وتقدم في أول السورة {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} [الزخرف: 5] ولكن الصفح المأمور به هنا غير الصفح المنكر وقوعه في قوله {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً}
وفرع عليه {فسوف تعلمون} تهديدا لهم ووعيدا. وحذف مفعول {تعلمون} للتهويل لتذهب نفوسهم كل مذهب ممكن.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وروح عن يعقوب {تعلمون} بالمثناة الفوقية على أن {فسوف

تعلمون} مما أمر الرسول بأن يقوله لهم، أي وقل سوف تعلمون. وقرأه الجمهور بياء تحتية على أنه وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه منتقم من المكذبين.
وما في هذه الآية من الأمر بالإعراض والتسليم في الجدال والوعيد ما يؤذن بانتهاء الكلام في هذه السورة وهو من براعة المقطع.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الدخانسميت هذه السورة حم الدخان روى الترمذي بسندين ضعيفين يعضد بعضهما بعضا: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قرأ حم الدخان في ليلة أو في ليلة الجمعة" الحديث.
واللفظان بمنزلة اسم واحد لأن كلمة {حم} غير خاصة بهذه السورة فلا تعد علما لها، ولذلك لم يعدها صاحب الإتقان في عداد السور ذوات أكثر من اسم وسميت في المصاحف وفي كتب السنة سورة الدخان.
ووجه تسميتها بالدخان وقوع لفظ الدخان فيها المراد به آية من آيات الله أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فلذلك سميت به اهتماما بشأنه، وإن كان لفظ "الدخان" بمعنى آخر قد وقع في سورة حم تنزيل في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] وهي نزلت قبل هذه السورة على المعروف من ترتيب تنزيل سور القرآن عن رواية جابر بن زيد التي اعتمدها الجعبري وصاحب الإتقان على أن وجه التسمية لا يوجبها.
وهي مكية كلها في قول الجمهور. قال ابن عطية: هي مكية لا أحفظ خلافا في شيء منها. ووقع في الكشاف استثناء قوله {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15] ولم يعزه إلى قائل، ومثله القرطبي، وذكره الكواشي قولا وما عزاه إلى معين. وأحسب أنه قول نشأ عما فهمه القائل، وسنبينه في موضعه.
وهي السورة الثالثة والستون في عد نزول السور في قول جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الزخرف وقبل سورة الجاثية في مكانها هذا وعدت آيها ستا وخمسين عند أهل المدينة ومكة والشام، وعدت عند أهل البصرة سبعا وخمسين، وعند أهل الكوفة تسعا وخمسين.

أغراضها
أشبه افتتاح هذه السورة فاتحة سورة الزخرف من التنويه بشأن القرآن وشرفه وشرف وقت ابتداء نزوله ليكون ذلك مؤذنا أنه من عند الله ودالا على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وليتخلص منه إلى أن المعرضين عن تدبر القرآن ألهاهم الاستهزاء واللمز عن التدبر فحق عليهم دعاء الرسول بعذاب الجوع، إيقاظا لبصائرهم بالأدلة الحسية حين لم تنجع فيهم الدلائل العقلية، ليعلموا أن إجابة الله دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه أرسله ليبلغ عنه مراده.
فأنذرهم بعذاب يحل بهم علاوة على ما دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم تأييدا من الله له بما هو زائد على مطلبه.
وضرب لهم مثلا بأمم أمثالهم عصوا رسل الله إليهم فحل بهم من العقاب من شأنه أن يكون عظة لهؤلاء، تفصيلا بقوم فرعون مع موسى ومؤمني قومه، ودون التفصيل بقوم تبه، وإجمالا وتعميما بالذين من قبل هؤلاء.
وإذ كان إنكار البعث وإحالته من أكبر الأسباب التي أغرتهم على إهمال التدبر في مراد الله تعالى انتقل الكلام إلى إثباته والتعريف بما يعقبه من عقوبة المعاندين ومثوبة المؤمنين ترهيبا وترغيبا.
وأدمج فيها فضل الليلة التي أنزل فيها القرآن، أي ابتدئ إنزاله وهي ليلة القدر وأدمج في خلال ذلك ما جرت إليه المناسبات من دلائل الوحدانية وتأييد الله من آمنوا بالرسل، ومن إثبات البعث.
وختمت بالشد على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بانتظار النصر وانتظار الكافرين القهر.
[1] {حم}
القول في نظائره تقدم.
[2-6] {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
القول في نظير هذا القسم وجوابه تقدم في أول سورة الزخرف. ونوه بشأن القرآن بطريقة الكناية عنه بذكر فضل الوقت الذي ابتدىء إنزاله فيه.

فتعريف {الكتاب} تعريف العهد، والمراد بالكتاب: القرآن.
ومعنى الفعل في {أنزلناه} ابتداء إنزاله فإن كل آية أو آيات تنزل من القرآن فهي منضمة إليه انضمام الجزء للكل، ومجموع ما يبلغ إليه الإنزال في كل ساعة هو مسمى القرآن إلى أن تم نزول آخر آية من القرآن.
وتنكير {ليلة} للتعظيم، ووصفها ب {مباركة} تنويه بها وتشويق لمعرفتها. فهذه الليلة هي الليلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في الغار من جبل حراء في رمضان قال تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].
والليلة التي ابتدئ نزول القرآن فيها هي ليلة القدر قال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] والأصح أنها في العشر الأواخر من رمضان وأنها في ليلة الوتر. وثبت أن الله جعل لنظيرتها من كل سنة فضلا عظيما لكثرة ثواب العبادة فيها في كل رمضان كرامة لذكرى نزول القرآن وابتداء رسالة أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة. قال تعالى {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4.5] وذلك من معاني بركتها وكم لها من بركات للمسلمين في دينهم، ولعل تلك البركة تسري إلى شؤونهم الصالحة من أمور دنياهم.
فبركة الليلة التي أنزل فيها القرآن بركة قدرها الله لها قبل نزول القرآن ليكون القرآن بابتداء نزوله فيها ملابسا لوقت مبارك فيزداد بذلك فضلا وشرفا، وهذا من المناسبات الإلهية الدقيقة التي أنبأنا الله ببعضها.
والظاهر أن الله أمدها بتلك البركة في كل عام كما أومأ إلى ذلك قوله {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إذ قاله بعد أن مضى على ابتداء نزول القرآن بضع عشرة سنة. وقوله {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} وقوله {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر} وقوله {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وعن عكرمة: أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان وهو قول ضعيف.
واختلف في الليلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم من ليالي رمضان، فقيل: هي ليلة سبع عشرة منه ذكره ابن إسحاق عن الباقر أخذا من قوله تعالى {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة ليلة من رمضان اه. أي تأول قوله {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أنه ابتداء نزول القرآن. وفي المراد ب {ما أنزلنا} احتمالات ترفع الاحتجاج بهذا التأويل بأن ابتداء نزول القرآن كان في مثل ليلة يوم

بدر.والذي يجب الجزم به أن ليلة نزول القرآن كانت في شهر رمضان وأنه كان في ليلة القدر.
ولما تضافرت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر "اطلبوها في العشر الأواخر من رمضان في ثالثة تبقى في خامسة تبقى في سابعة تبقى في تاسعة تبقى" . فالذي نعتمده أن القرآن ابتدئ نزوله في العشر الأواخر من رمضان، إلا إذا حمل قول النبي صلى الله عليه وسلم "اطلبوها في العشر الأواخر" على خصوص الليلة من ذلك العام. وقد اشتهر عند كثير من المسلمين أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين باستمرار وهو مناف لحديث اطلبوها في العشر الأواخر على كل احتمال.
وجملة {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} معترضة. وحرف "إن" يجوز أن يكون للتأكيد ردا لإنكارهم أن يكون الله أرسل رسلا للناس لأن المشركين أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بزعمهم أن الله لا يرسل رسولا من البشر قال تعالى {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، فكان رد إنكارهم ذلك ردا لإنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فتكون جملة {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} مستأنفة ويجوز أن تكون "إن" لمجرد الاهتمام بالخبر فتكون مغنية غناء فاء التسبب فتفيد تعليلا، فتكون جملة {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} تعليلا لجملة {أنزلناه} أي أنزلناه للإنذار لأن الإنذار شأننا، فمضمون الجملة علة العلة وهو إيجاز وإنما اقتصر على وصف {منذرين} مع أن القرآن منذر ومبشر اهتماما بالإنذار لأنه مقتضى حال جمهور الناس يومئذ، والإنذار يقتضي التبشير لمن انتذر. وحذف مفعول {منذرين} لدلالة قوله {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} عليه، أي منذرين المخاطبين بالقرآن.
وجملة {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن تنكير {ليلة} . ووصفها ب {مباركة} كما علمت آنفا فدل على عظم شأن هاته الليلة عند الله تعالى فإنها ظهر فيها إنزال القرآن، وفيها يفرق عند الله كل أمر حكيم. وفي هذه الجمل الأربع محسن اللف والنشر، ففي قوله {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} لف بين معنيين أولهما: تعيين إنزال القرأن، وثانيهما: اختصاص تنزيله في ليلة مباركة ثم علل المعنى الأول بجملة {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} وعلل المعنى الثاني بجملة {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} .
والمنذر: الذي ينذر، أي يخبر بأمر فيه ضر لقصد أن يتقيه المخبر به، وتقدم في قوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} في سورة البقرة.[119]
والفرق: الفصل والقضاء، أي فيها يفصل كل ما يراد قضاؤه في الناس ولهذا يسمى القرآن فرقانا، وتقدم قوله تعالى {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} في سورة المائدة،

أي جعل الله الليلة التي أنزل فيها القرآن وقتا لإنفاذ وقوع أمور هامة مثل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفا لتلك المقضيات وتشريفا لتلك الليلة.
وكلمة {كل} يجوز أن تكون مستعملة في حقيقة معناها من الشمول وقد علم الله ما هي الأمور الحكيمة فجمعها للقضاء بها في تلك الليلة وأعظمها ابتداء نزول الكتاب الذي فيه صلاح الناس كافة ويجوز أن تكون {كل} مستعملة في معنى الكثرة، وهو استعمال في كلام الله تعالى وكلام العرب، وقد تقدم في قوله تعالى في سورة النمل {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي فيها تفرق أمور عظيمة.
والظاهر أن هذا مستمر في كل ليلة توافق عد تلك الليلة من كل عام كما يؤذن به المضارع في قوله {يفرق} . ويحتمل أن يكون استعمال المضارع في {يفرق} لاستحضار تلك الحالة العظيمة كقوله تعالى {فَتُثِيرُ سَحَاباً} [الروم: 48]
والأمر الحكيم: المشتمل على حكمة من حكمة الله تعالى أو الأمر الذي أحكمه الله تعالى وأتقنه بما ينطوي عليه من النظم المدبرة الدالة على سعة العلم وعمومه.
وبعض تلك الأمور الحكيمة ينفذ الأمر به إلى الملائكة الموكلين بأنواع الشؤون، وبعضها ينفذ الأمر به على لسان الرسول مدة حياته الدنيوية، وبعضا يلهم إليه من ألهمه الله أفعالا حكيمة، والله هو العالم بتفاصيل ذلك.
وانتصب {أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا} على الحال من {أَمْرٍ حَكِيمٍ}
وإعادة كلمة {أمرا} لتفخيم شأنه، وإلا فإن المقصود الأصلي هو قوله {مِنْ عِنْدِنَا} ، فكان مقتضى الظاهر أن يقع {مِنْ عِنْدِنَا} صفة ل {أَمْرٍ حَكِيمٍ} فخولف ذلك لهذه النكتة، أي أمرا عظيما فخما إذا وصف ب {حكيم} . ثم بكونه من عند الله تشريفا له بهذه العندية، وينصرف هذا التشريف والتعظيم ابتداء وبالتعيين إلى القرآن إذ كان بنزوله في تلك الليلة تشريفها وجعلها وقتا لقضاء الأمور الشريفة الحكيمة. وجملة {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} معترضة وحرف "إن" فيها مثل ما وقع في {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}
واعلم أن مفتتح السورة يجوز أن يكون كلاما موجها إلى المشركين ابتداء لفتح بصائرهم إلى شرف القرآن وما فيه من النفع للناس ليكفوا عن الصد عنه ولهذا وردت الحروف المقطعة في أولها المقصود منها التحدي بالإعجاز، واشتملت تلك الجمل الثلاث على حرف التأكيد، ويكون إعلام الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المزايا حاصلا تبعا إن كان لم يسبق

إعلامه بذلك بما سبق من آي القرآن أو بوحي غير القرآن. ويجوز أن يكون موجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أصالة ويكون علم المشركين بما يحتوي عليه حاصلا تبعا بطريق التعريض، ويكون التوكيد منظورا فيه إلى الغرض التعريضي.
ومفعول {مرسلين} محذوف دل عليه مادة اسم الفاعل، أي مرسلين الرسل.
و {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} مفعول له من {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي كنا مرسلين لأجل رحمتنا، أي بالعباد المرسل إليهم لأن الإرسال بالإنذار رحمة بالناس ليتجنبوا مهاوي العذاب ويكتسبوا مكاسب الثواب، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ويجوز أن يكون {رحمة} حالا من الضمير المنصوب في {أنزلناه} .
وإيراد لفظ الرب في قوله {من ربك} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقول: رحمة منا. وفائدة هذا الإظهار الإشعار بأن معنى الربوبية يستدعي الرحمة بالمربوبين ثم إضافة "رب" إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم صرف للكلام عن مواجهة المشركين إلى مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب لأنه الذي جرى خطابهم هذا بواسطته فهو كحاضر معهم عند توجيه الخطاب إليهم فيصرف وجه الكلام تارة إليه كما في قوله {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29] وهذا لقصد التنويه بشأنه بعد التنويه بشأن الكتاب الذي جاء به.
وإضافة الرب إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم ليتوصل إلى حظ له في خلال هذه التشريعات بأن ذلك كله من ربه، أي بواسطته فإنه إذا كان الإرسال رحمة كان الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الانبياء:107]
ويعلم من كونه رب الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رب الناس كلهم إذ لا يكون الرب رب بعض الناس دون بعض فأغنى عن أن يقول: رحمة من ربك وربهم، لأن غرض إضافة رب إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم يأبى ذلك، ثم سيصرح بأنه ربهم في قوله {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الدخان: 8]وهو مقام آخر سيأتي بيانه.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تعليل لجملة {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي كنا مرسلين رحمة بالناس لأنه علم عبادة المشركين للأصنام، وعلم إغواء أئمة الكفر للأمم، وعلم ضجيج الناس من ظلم قويهم ضعيفهم، وعلم ما سوى ذلك من أقوالهم، فأرسل الرسل لتقويمهم وإصلاحهم، وعلم أيضا نوايا الناس وأفعالهم وإفسادهم في الأرض فأرسل الرسل بالشرائع لكف الناس عن الفساد وإصلاح عقائدهم وأعمالهم، فأشير إلى علم النوع الأول

وقرأ الجمهور {رَبِّ السَّمَاوَاتِ} برفع {رب} على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال في مثله بعد إجراء أخبار أو صفات عن ذات ثم يردف بخبر آخر، ومن ذلك قولهم بعد ذكر شخص: فتى يفعل ويفعل. وهو من الاستئناف البياني إذ التقدير: إن اردت أن تعرفه فهو كذا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بجر { رب} على أنه بدل من قوله {ربك} .[الدخان: 6]
وحذف متعلق {موقنين} للعلم به من قوله {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} . وجواب الشرط محذوف دل عليه المقام. والتقدير: إن كنتم موقنين فلا تعبدوا غيره، ولذلك أعقبه بجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الدخان: 8].
[8] {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}
جملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} نتيجة للدليل المتقدم لأن انفراده بربوبية السماوات والأرض وما بينهما دليل على انفراده بالإلهية، أي على بطلان إلهية أصنامهم فكانت هذه الجملة نتيجة لذلك فلذلك فصلت لشدة اقتضاء الجملة التي قبلها إياها.
وجملة {يُحْيِي وَيُمِيتُ} مستأنفة للاستدلال على أنه لا إله إلا هو بتفرده بالإحياء والإماتة، والمشركون لا ينازعون في أن الله هو المحيي والمميت فكما استدل عليهم بتفرده بإيجاد العوالم وما فيها استدل عليهم بخلق أعظم أحوال الموجودات وهي حالة الحياة التي شرف بها الإنسان عن موجودات العالم الأرضي وكرم أيضا بإعطائها للحيوان لتسخيره لانتفاع الإنسان به بسببها، وبتفرده بالإماتة وهي سلب الحياة عن الحي للدلالة على أن الحياة ليست ذاتية للحي. ولما كان تفرده بالإحياء والإماتة دليلا واضحا في أحوال المخاطبين وفيما حولهم من ظهور الأحياء بالولادة والأموات بالوفاة يوما فيوما من شأنه أن لا يجهلوا دلالته بله جحودهم إياها ومع ذلك قد عبدوا الأصنام التي لا تحيي ولا تميت، أعقب بإثبات ربوبيته للمخاطبين تسجيلا عليهم بجحد الأدلة وبكفران النعمة.
وعطف {وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} ليسجل عليهم الإلزام بقولهم {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] ووصفهم ب {الأولين} لأنهم جعلوا أقدم الآباء حجة أعظم من الآباء الأقربين كما قال تعالى حكاية عنهم {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24].
[9] {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}

{بل} للإضراب الإبطالي رد به أن يكونوا موقنين ومقرين بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما فإن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ثابت بل هو كالعدم لأنهم خلطوه بالشك واللعب فارتفعت عنه خاصية اليقين والإقرار التي هي الجري على موجب العلم، فإن العلم إذا لم يجر صاحبه على العمل به وتجديد ملاحظته تطرق إليه الذهول ثم النسيان فضعف حتى صار شكا لانحجاب الأدلة التي يرسخ بها في النفس، أي هم شاكون في وحدانية الله تعالى.
والإتيان بحرف الظرفية للدلالة على شدة تمكن الشك من نفوسهم حتى كأنه ظرف محيط بهم لا يجدون عنه مخرجا، أي لا يفارقهم الشك، فالظرفية استعارة تبعية مثل الاستعلاء في قوله {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]
وجملة {يلعبون} حال من ضمير {هم} أي اشتغلوا عن النظر في الأدلة التي تزيل الشك عنهم وتجعلهم مهتدين، بالهزء واللعب في تلقي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فكأن انغماسهم في الشك مقارنا لحالهم من اللعب، ولهذه الجملة الحالية موقع عظيم إذ بها أفيد أن الشك حامل لهم على الهزء واللعب، وأن الشغل باللعب يزيد الشك فيهم رسوخا بخلاف ما لو قيل: بل هم في شك ولعب، فتفطن.
[11,10] {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} تفريع على جملة {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان:9]
قصد منه وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بانتقام الله من مكذبيه، ووعيد المشركين على جحودهم بدلائل الوحدانية وصدق الرسول وعكوفهم على اللعب، أي الاستهزاء بالقرآن والرسول، وذكر له مخوفات للمشركين لإعدادهم للإيمان وبطشة انتقام من أيمتهم تستأصلهم.
فالخطاب في {ارتقب} للنبي صلى الله عليه وسلم والأمر مستعمل في التثبيت. والارتقاب: افتعال من رقبه، إذا انتظره، وإنما يكون الانتظار عند قرب حصول الشيء المنتظر. وفعل "ارتقب" يقتضي بصريحه أن إتيان السماء بدخان لم يكن حاصلا في نزول هذه الآية،ويقتضي كناية عن اقتراب وقوعه كما يرتقب الجائي من مكان قريب.
و {يوم} اسم زمان منصوب على أنه مفعول به ل"ارتقب" وليس ظرفا وذلك كقوله تعالى {يَخَافُونَ يَوْماً} [النور: 37]، وهو مضاف إلى الجملة بعده لتمييز اليوم المراد عن

بقية الأيام بأنه الذي تأتي فيه السماء بدخان مبين فنصب {يوم} نصب إعراب ولم ينون لأجل الإضافة.
والجملة التي يضاف إليها اسم الزمان تستغني عن الرابط لأن الإضافة مغنية عنه، ولأن الجملة في قوة المصدر. والتقدير: فارتقب يوم إتيان السماء بدخان. وأطلق اليوم على الزمان فإن ظهور الدخان كان في أيام وشهور كثيرة.
والدخان: ما يتصاعد عند إيقاد الحطب، وهو تشبيه بليغ، أي بمثل دخان.
والمبين: البين الظاهر، وهو اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان. والمعنى: أنه ظاهر لكل أحد لا يشك في رؤيته.
وقال أبو عبيدة وابن قتيبة: الدخان في الآية هو: الغبار الذي يتصاعد من الأرض من جراء الجفاف وأن الغبار يسميه العرب دخانا وهو الغبار الذي تثيره الرياح من الأرض الشديدة الجفاف.
وعن الأعرج: أنه الغبار الذي أثارته سنابك الخيل يوم فتح مكة فقد حجبت الغبرة السماء، وإسناد الإتيان به إلى السماء مجاز عقلي لأن السماء مكانه حين يتصاعد في جو السماء أو حين يلوح للأنظار منها. والكلام يؤذن بأن هذا الدخان المرتقب حادث قريب الحصول، فالظاهر أنه حدث يكون في الحياة الدنيا، وأنه عقاب للمشركين.
فالمراد بالناس من قوله {يَغْشَى النَّاسَ} هم المشركون كما هو الغالب في إطلاق لفظ الناس في القرآن، وأنه يكشف زمنا قليلا عنهم إعذارا لهم لعلهم يؤمنون وأنهم يعودون بعد كشفه إلى ما كانوا عليه، وأن الله يعيده عليهم كما يؤذن بذلك قوله {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً} [الدخان: 15]. وأما قوله {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ} [الدخان: 16] فهو عذاب آخر. وكل ذلك يؤذن بأن العذاب بالدخان يقع في الدنيا وأنه مستقبل قريب، وإذ قد كانت الآية مكية تعين أن هذا الدخان الذي هو عذاب للمشركين لا يصيب المؤمنين لقوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [لأنفال:33] فتعين أن المؤمنين يوم هذا الدخان غير قاطنين بدار الشرك، فهذا الدخان قد حصل بعد الهجرة لا محالة وتعين أنه قد حصل قبل أن يسلم المشركون الذين بمكة وما حولها فيتعين أنه حصل قبل فتح مكة أو يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال. والأصح أن هذا الدخان عني به ما أصاب المشركين من سني القحط بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. والأصح في ذلك حديث عبد الله بن مسعود في صحيح البخاري عن مسلم وأبي الضحى عن مسروق قال: دخلت على عبد الله بن مسعود فقال: إن قريشا لما غلبوا

على النبي صلى الله عليه وسلم واستعصوا عليه قال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" ، فأخذتم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: استسق لمضر أن يكشف عنهم العذاب، فدعا فكشف عنهم وقال الله له: "إن كشفنا عنهم العذاب عادوا" ، فعادوا: فانتقم الله منهم يوم بدر فذلك قوله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إلى قوله {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16] والبطشة الكبرى يوم بدر. وإن عبد الله فال: مضى خمس: الدخان، والروم، والقمر، والبطشة، واللزام.
في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري في أبواب الاستسقاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة من الصبح يقول: "اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة. اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف" . وهؤلاء الذين دعا لهم بالنجاة كانوا ممن حبسهم المشركون بعد الهجرة، وكل هذه الروايات يؤذن بأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين بالسنين كان بعد الهجرة لئلا يعذب المسلمون بالجوع وأنه كان قبل وقعة بدر، وفي بعض روايات القنوت أنه دعا في القنوت على بني لحيان وعصية.
والذي يستخلص من الروايات أن هذا الجوع حل بقريش بعيد الهجرة، وذلك هو الجوع الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" ، وفي رواية "اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف" فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: استسق لمضر وفي رواية عن مسروق عن ابن مسعود في صحيح البخاري أن الذي أتى النبي هو أبو سفيان. وقال المفسرون: أن أبا سفيان أتاه في ناس من أهل مكة يعني أتوا المدينة لما علموا أن النبي كان دعا عليهم بالقحط، فقالوا: إن قومك قد هلكوا فادع الله أن يسقيهم فدعا.
وعلى هذه الرواية يكون قوله تعالى {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} تمثيلا لهيئة ما يراه الجائعون من شبه الغشاوة على أبصارهم حين ينظرون في الجو بهيئة الدخان النازل من الأفق، فالمجاز في التركيب. وأما مفردات التركيب فهي مستعملة في حقائقها لأن من معاني السماء في كلام العرب قبة الجو، وتكون جملة {يَغْشَى النَّاسَ} ترشيحا للتمثيلية لأن الذي يغشاهم هو الظلمة التي في أبصارهم من الجوع، وليس الدخان هو الذي يغشاهم. وبعض الروايات ركب على هذه الآية حديث

الاستسقاء الذي في الصحيح أن رجلا جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: يا رسول الله هلك الزرع والضرع فادع الله أن يسقينا فرفع يديه وقال: "اللهم اسقنا ثلاثا" ، وما يرى في السماء قزعة سحاب، فتلبدت السماء بالسحاب وأمطروا من الجمعة إلى الجمعة حتى سالت الأدوية وسال وادي قناة شهرا، فأتاه آت الجمعة القابلة هو الأول أو غيره، فقال: يا رسول الله تقطعت السبل فادع الله أن يمسك المطر عنا، فقال اللهم حوالينا ولا علينا، فتفرقت السحب حتى صارت المدينة في شبه الإكليل بن السحاب.
والجمع بين الروايتين ظاهر. ويظهر أن هذا القحط وقع بعد يوم بدر فهو قحط آخر غير قحط قريش الذي ذكر في هذه الآية.
ومعنى {يَغْشَى النَّاسَ} أنه يحيط بهم ويعمهم كما تحيط الغاشية بالجسد، أي لا ينجو منه أحد من أولئك الناس وهم المشركون. فإن كان المراد من الدخان ما أصاب أبصارهم من رؤية مثل الغبرة من الجوع فالغشيان مجاز، وإن كان المراد منه غبار الحرب يوم الفتح فالغشيان حقيقة أو مجاز مشهور. ويجوز أن يكون غبارا متصاعدا في الجو من شدة الجفاف.
وقوله {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال ابن عطية يجوز أن يكون إخبارا من جانب الله تعالى تعجيبا منه كما في قوله تعالى في قصة الذبيح {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106] ويحتمل أن يكون ذلك من قول الناس الذين يغشاهم العذاب بتقدير: يقولون: هذا عذاب أليم.
والإشارة في {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} إلى الدخان المذكور آنفا، عدل عن استحضاره بالإضمار وأن يقال: هو عذاب أليم، إلى استحضاره بالإشارة، لتنزيله منزلة الحاضر المشاهد تهويلا لأمره كما تقول: هذا الشتاء قادم فأعد له.
وقريب منه الأمر بالنظر في قوله تعالى {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأنعام:24] فإن المحكي مما يحصل في الآخرة.
[12] {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]
هذه جملة معترضة بين جملة {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11] وجملة {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} [الدخان: 13] فهي مقول قول محذوف. وحملها جميع المفسرين على أنها حكاية قول الذين يغشاهم العذاب بتقدير يقولون: ربنا اكشف عنا العذاب، أي هو وعد صادر من الناس الذين يغشاهم العذاب بأنهم يؤمنون أن كشف عنهم العذاب أي فيكون مثل قوله

تعالى في سورة الزخرف[49] { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي إن دعوت ربك اتبعناك ويكون بمعنى قوله في سورة الأعراف {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} إلى قوله {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ}
ومما تسمح به تراكيب الآية وسياقها أن يكون القول المحذوف مقدرا بفعل أمر أي قولوا لتلقين المسلمين أن يستعيذوا بالله من أن يصيبهم ذلك العذاب إذ كانوا والمشركين في بلد واحد كما استعاذ موسى عليه السلام بقوله {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155] وفيه إيماء إلى أن الله سيخرج المؤمنين من مكة قبل أن يحل بأهلها هذا العذاب، فهذا التلقين كالذي في قوله تعالى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] الآيات.
وعليه فجملة {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} تعليل لطلب دفع العذاب عنهم، أي إنا متلبسون بما يدفع عنا عذاب الكافرين، وفي تلقينهم بذلك تنويه بشرف الإيمان، وأسلوب الكلام جار على أن جملة {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} تعليل لطلب كشف العذاب عنهم لما يقتضيه ظاهر استعمال حرف "إن" من معنى الإخبار دون الوعد، ومن التعليل دون التأكيد، ولما يقتضيه اسم الفاعل من زمن الحال دون الاستقبال، ولأن سياقه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بترقب إعانة الله إياه على المشركين، كما كان يدعو أعني عليهم بسبع كسني يوسف فمقتضى المقام تأمينه من أن يصيب العذاب المسلمين وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر مادة الكشف تقتضي إزالة شيء كان حاصلا في شيء إلا أن الكشف هنا لما لم يكن مستعملا في معناه الحقيقي كان مجازه محتملا أن يكون مستعملا في منع حصول يخشى حصوله كما في قوله تعالى {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 98] فإن قوم يونس لم يحل بهم عذاب فزال عنهم ولكنهم توعدوا به فبادروا بالإيمان فنجاهم الله منه، وقول جعفر بن علبة الحارثي:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
أراد أنه يمنع العدو من أن ينالهم بسوء، ومحتملا للاستعمال في زوال شيء كان حصل.
ولم يذكر أحد من رواة السير والآثار أن المشركين وعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يسلمون إن أزال الله عنهم القحط.
[14,13] {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}

هذه الجملة جعلها جميع المفسرين جوابا عن قول القائلين {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]
تكذيبا لوعدهم، أي هم لا يتذكرون، وكيف يتذكرون وقد جاءهم ما هو أقوى دلالة من العذاب وهي دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأما على التأويل الذي انتزعناه من تركيب الآية فهي جملة مستأنفة ناشئة عن قوله {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان:9] وهي كالنتيجة لها لأنهم إذا كانوا في شك يلعبون فقد صاروا بعداء عن الذكرى.
و {أنى} اسم استفهام أصله استفهام عن أمكنة حصول الشيء ويتوسعون فيها فيجعلونها استفهاما عن الأحوال بمعنى "كيف" بتنزيل الأحوال منزلة ظروف في مكان كما هنا بقرينة قوله {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} والمعنى: من أين تحصل لهم الذكرى والمخافة عند ظهور الدخان المبين وقد سدت عليهم طرقها بطعنهم في الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أتاهم بالتذكير.
والاستفهام مستعمل في الإنكار والإحالة، أي كيف يتذكرون وهم في شك يلعبون وقد جاءهم رسول مبين فتولوا عنه وطعنوا فيه. فجملة {وَقَدْ جَاءَهُمْ} في موضع الحال.
و {مبين} اسم فاعل إما من أبان المتعدي، وحذف مفعوله لدلالة {الذكرى} عليه، أي مبين لهم ما به يتذكرون، ويجوز أن يكون من أبان القاصر الذي هو بمعنى بان، أي رسول ظاهر، أي ظاهرة رسالته عن الله بما توفر معها من دلائل صدقه.
وإيثار {مبين} بتخفيف الياء على {مبين} بالتشديد من نكت الإعجاز ليفيد المعنيين.
و {ثم} للتراخي الرتبي وهو ترق من مفاد قوله {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان:9] الذي اتصلت به جملة كانت جملة {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} من متعلقاتها، فالمعنى: وقد جاءهم رسول فشكوا في رسالته ثم تولوا عنه وطعنوا فيه، فالتولي والطعن حصلا عند حصول الشك واللعب، ولذلك كانت {ثم} للتراخي الرتبي لا لتراخي الزمان. ومعنى التراخي الرتبي هنا أن التولي والبهتان أفظع من الشك واللعب. والمعلم الذي يعلمه غيره، وقد تقدم عند قوله تعالى {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] في سورة النحل.[103]
والمعنى: أنهم وصفوه مرة بأنه يعلمه غيره، ووصفوه مرة بالجنون، تنقلا في البهتان، أو وصفه فريق بهذا وفريق بذلك، فالقول موزع بين أصحاب ضمير {قالوا} أو

بين أوقات القائلين. ولا يصح أن يكون قولا واحدا في وقت واحد لأن المجنون لا يكون معلما ولا يتأثر بالتعليم.
[15] {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}
يجيء على ما فسر به جميع المفسرين قوله {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ} [الدخان: 12]، أن هذه الجملة جواب لسؤالهم، ويجيء على ما درجنا عليه أن تكون هذه الجملة إعلاما للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يكشف العذاب المتوعد به المشركون مدة، فيعودون إلى ما كانوا فيه، وعليه فضمير {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} التفات إلى خطاب المشركين ، أي يمسكون عن ذلك مدة وهي المدة التي أرسلوا فيها وفدهم إلى المدينة ليسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بكشف القحط عنهم فإنهم أيامئذ يمسكون عن الطعن والذم رجاء أن يدعو لهم ثم يعودون لما كانوا فيه، كما قال تعالى {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر: 8] كما اقتضى أن العذاب عائد إليهم بعد عودتهم إلى ما كانوا فيه من أسباب إصابتهم بالعذاب.
فمعنى {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} : إنا كاشفوه في المستقبل بقرينة قوله قبله {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] المقتضي أنه يحصل في المستقبل، والآية متصل بعضها ببعض وكذلك معنى { إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} ، أي في المستقبل. واسم الفاعل يكون مرادا به الحصول في المستقبل بالقرينة.
روي أنهم كشف عنهم القحط بعد استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم، فحيوا وحييت أنعامهم ثم عادوا فعادوهم القحط كمال سبع سنين، ولعلها عقبها فتح مكة.
وجملة {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأنهم إذا سمعوا {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً} تطلعوا إلى ما سيكون بعد كشفه، وتطلع المؤمنون إلى ما تصير إليه حال المشركين بعد كشف العذاب هل يقلعون عن الطعن فكان قوله {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} مبينا لما يتساءلون عنه.
[16] {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
هذا هو الانتقام الذي وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم وتوعد به أيمة الكفر. والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فإن السامع يثار في نفسه سؤال عن جزائهم حيث يعودون إلى التولي والطعن فأجيب بأن

الانتقام منهم هو البطشة الكبرى، وهي الانتقام التام، ولأجل هذا التطلع والتساؤل أكدا بخبر بحرف التأكيد دفعا للتردد.
وأصل تركيب الجملة: إنا منتقمون يوم نبطش البطشة الكبرى، ف {يوم} منصوب على المفعول فيه لاسم الفاعل وهو {منتقمون} .
وتقدم على عامله للاهتمام به لتهويله ولا يمنع من هذا التعليق أن العامل في الظرف خبر عن "إن" بناء على الشائع من كلام النحاة أن ما بعد "إن" لا يعمل فيما قبلها فإن الظروف ونحوها يتوسع فيها.
و {الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} : هي بطشة يوم بدر فإن ما أصاب صناديد المشركين يومئذ كان بطشة بالشرك وأهله لأنهم فقدوا سادتهم وذوي الرأي منهم الذين كانوا يسيرون أهل مكة كما يريدون.
والبطشة: واحدة البطش وهو: الأخذ الشديد بعنف، وتقدم في قوله تعالى {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} في سورة الأعراف. [195]
[17-21] {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وأن وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ}
جعل الله قصة قوم فرعون مع موسى عليه السلام وبني إسرائيل مثلا لحال المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، وجعل ما حل بهم إنذارا بما سيحل بالمشركين من القحط والبطشة مع تقريب حصول ذلك وإمكانه ويسره وإن كانوا في حالة قوة فإن الله قادر عليهم، كما قال تعالى {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً} [الزخرف:8] فذكرها هنا تأييد للنبي ووعد له بالنصر وحسن العاقبة، وتهديد للمشركين.
وهذا المثل وإن كان تشبيها لمجموع الحالة بالحالة فهو قابل للتوزيع بأن يشبه أبو جهل بفرعون، ويشبه أتباعه بملأ فرعون وقومه أو يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام، ويشبه المسلمون ببني إسرائيل. وقبول المثل لتوزيع التشبيه من محاسنه.
وموقع جملة {وَلَقَدْ فَتَنَّا} يجوز أن يكون موقع الحال فتكون الواو للحال وهي حال من ضمير {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16]. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}

[الدخان: 16] أي منتقمون منهم في المستقبل وانتقمنا من قوم فرعون فيما مضى.
وأشعر قوله {قبلهم} أن أهل مكة سيفتنون كما فتن قوم فرعون، فكان هذا الظرف مؤذنا بجملة محذوفة على طريقة الإيجاز، والتقدير: إنا منتقمون ففاتنوهم فقد فتنا قبلهم قوم فرعون، ومؤذنا بأن المذكور كالدليل على توقع ذلك وإمكانه وهو إيجاز آخر.
والمقصود تشبيه الحالة بالحالة ولكن عدل عن صوغ الكلام بصيغة التشبيه والتمثيل إلى صوغه بصيغة الإخبار اهتماما بالقصة وإظهارا بأنها في ذاتها مما يهم العلم به، وأنها تذكير مستقل وأنها غير تابعة غيرها.
ولأن جملة {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} عطفت على جملة {فتنا} أي ولقد جاءهم رسول كريم، عطف مفصل على مجمل، وإنما جاء معطوفا إذ المذكور فيه أكثر من معنى الفتنة، فلا تكون جملة {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} بيانا لجملة {فتنا} بل هي تفصيل لقصة بعثة موسى عليه السلام.
والفتن: الإيقاع في اختلال الأحوال، وتقدم في قوله تعالى {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة.[191] والرسول الكريم: موسى، والكريم: النفيس الفائق في صنفه، وتقدم عند قوله تعالى {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل،[29] أي رسول من خيرة الرسل أو من خيرة الناس.
و {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} تفسير لما تضمنه وصف {رسول} وفعل {جاءهم} من معنى الرسالة والتبليغ ففيهما معنى القول.
ومعنى {أَدُّوا إِلَيَّ} أرجعوا إلي وأعطوا قال تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، يقال: أدى الشيء أوصله وأبلغه. وهمزة الفعل أصلية وهو مضاعف العين ولم يسمع منه فعل سالم غير مضاعف، جعل بني إسرائيل كالأمانة عند فرعون على طريقة الاستعارة المكنية.
وخطاب الجمع لقوم فرعون. والمراد: فرعون ومن حضر من ملئه لعلهم يشيرون على فرعون بالحق، ولعله إنما خاطب مجموع الملإ لما رأى من فرعون صلفا وتكبرا من الامتثال، فخاطب أهل مشورته لعل فيهم من يتبصر الحق.
و {عِبَادَ اللَّهِ} يجوز أن يكون مفعول {أدوا} مرادا به بنو إسرائيل، أجري وصفهم {عِبَادَ اللَّهِ} تذكيرا لفرعون بموجب رفع الاستعباد عنهم، وجاء في سورة الشعراء {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} فحصل أنه وصفهم بالوصفتين، فوصف {عِبَادَ اللَّهِ} مبطل لحسبان القبط إياهم عبيدا كما قال {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] وإنما هم عباد

الله، أي أحرار فعباد الله كناية عن الحرية كقول بشار يخاطب نفسه:
أصبحت مولى ذي الجلال وبعضهم ... مولى العبيد فلذ بفضلك وافخر
ويجوز أن يكون مفعول فعل {أدوا} محذوفا يدل عليه المقام، أي أدوا إلي الطاعة ويكون {عِبَادَ اللَّهِ} منادى بحذف حرف النداء. قال ابن عطية: الظاهر من شرع موسى أنه بعث إلى دعاء فرعون للإيمان وأن يرسل بني إسرائيل، فلما أبى فرعون أن يؤمن ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل، قال: ويدل عليه قوله بعد {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ}
وقوله {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} علة للأمر بتسليم بني إسرائيل إليه، أي لأني مرسل إليكم بهذا، وأنا أمين، أي مؤتمن على أني رسول لكم. وتقديم {لكم} على {رسول} للاهتمام بتعلق الإرسال بأنه لهم ابتداء بأن يعطوه بني إسرائيل لأن ذلك وسيلة للمقصود من إرساله لتحرير أمة إسرائيل والتشريع لها، وليس قوله {لكم} خطابا لبني إسرائيل فإن موسى قد أبلغ إلى بني إسرائيل رسالته مع التبليغ إلى فرعون قال تعالى {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } [يونس: 83] وليكون امتناع فرعون من تسريح بني إسرائيل مبررا لانسلاخ بني إسرائيل عن طاعة فرعون وفرارهم من بلاده.
وعطف على طلب تسليم بني إسرائيل نهيا عن الاستكبار عن إجابة أمر الله أنفة من الحط من عظمته في أنظار قومهم فقال {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} أي لا تعلوا على أمره أو على رسوله فلما كان الاعتلاء على أمر الله وأمر رسوله ترفيعا لأنفسهم على واجب امتثال ربهم جعلوا في ذلك كأنهم يتعالون على الله.
و {أَنْ لا تَعْلُوا} عطف على {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ} وأعيد حرف {أن} التفسيرية لزيادة تأكيد التفسير لمدلول الرسالة. و {لا} ناهية، وفعل {تعلوا} مجزوم ب {لا} الناهية.
وجملة {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} علة جديرة بالعود إلى الجمل الثلاثة المتقدمة وهي {أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} لأن المعجزة تدل على تحقق مضامين تلك الجمل معلولها وعلتها.
والسلطان من أسماء الحجة قال تعالى {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس: 68] فالحجة تلجئ المحجوج على الإقرار لمن يحاجه فهي كالمتسلط على نفسه.

والمعجزة: حجة عظيمة ولذلك وصف السلطان ب {مبين} ، أي واضح الدلالة لا ريب فيه. وهذه المعجزة هي انقلاب عصاه ثعبانا مبينا.
و {أتيكم} مضارع أو اسم فاعل أتى. وعلى الاحتمالين فهو مقتض للإتيان بالحجة في الحال.
وجملة {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي} عطف على جملة {أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} فإن مضمون هذه الجملة مما شمله كلامه حين تبليغ رسالته فكان داخلا في مجمل معنى {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} المفسر بما بعد {أن} التفسيرية. ومعناه: تحذيرهم من أن يرجموه لأن معنى {عُذْتُ بِرَبِّي} جعلت ربي عوذا، أي ملجأ. والكلام على الاستعارة بتشبيه التذكير بخوف الله الذي يمنعهم من الاعتداء عليه بالالتجاء إلى حصن أو معقل بجامع السلامة من الاعتداء. ومثل هذا التركيب مما جرى مجرى المثل، ومنه قوله في سورة مريم {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} وقال أحد رجاز العرب:
قالت وفيها حيدة وذعر ... عوذ بربي منكم وحجر
والتعبير عن الله تعالى بوصف {رَبِّي وَرَبُّكُمْ} لأنه أدخل في ارعوائهم من رجمه حين يتذكرون أنه استعصم بالله الذي يشتركون في مربوبيته وأنهم لا يخرجون عن قدرته.
والرجم: الرمي بالحجارة تباعا حتى يموت المرمي أو يثخنه الجراح. والقصد منه تحقير المقتول لأنهم كانوا يرمون بالحجارة من يطردونه، قال { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر:34]
وإنما استعاذ موسى منه لأنه علم أن عادتهم عقاب من يخالف دينهم بالقتل رميا بالحجارة. وجاء في سورة القصص [33] {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ومعنى ذلك إن لم تؤمنوا بما جئت به فلا تقتلوني، كما دل عليه تعقيبه بقوله {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي}
والمعنى: إن لم تؤمنوا بالمعجزة التي آتيكم بها فلا ترجموني فإني أعوذ بالله من أن ترجموني ولكن اعتزلوني فكونوا غير موالين لي وأكون مع قومي بني إسرائيل، فالتقدير: فاعتزلوني وأعتزلكم لأن الاعتزال لا يتحقق إلا من جانبين.
وجيء في شرط {إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي} بحرف {إن} التي شأنها أن تستعمل في الشرط غير المتيقن لأن عدم الإيمان به بعد دلالة المعجزة على صدقه من شأنه أن يكون غير واقع فيفرض عدمه كما يفرض المحال. ولعله قال ذلك قبل أن يعلمه الله بإخراج بني

إسرائيل من مصر، أو أراد: فاعتزلوني زمنا، يعني إلى أن يعين له الله زمن الخروج.
وعدي {تؤمنوا} باللام لأنه يقال: آمن به وآمن له، قال تعالى {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] وأصل هذه اللام لام العلة على تضمين فعل الإيمان معنى الركون.
وقد جاء ترتيب فواصل هذا الخطاب على مراعاة ما يبدو من فرعون وقومه عند إلقاء موسى دعوته عليهم إذ ابتدأ بإبلاغ ما أرسل به إليهم فآنس منهم التعجب والتردد فقال {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} فرأى منهم الصلف والأنفة فقال {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} فلم يرعوا فقال {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ، فلاحت عليهم علامات إضمار السوء له فقال {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} فكان هذا الترتيب بين الجمل مغنيا عن ذكر ما أجابوا به على أبدع إيجاز.
[22] {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ}
التعقيب المفاد بالفاء تعقيب على محذوف يقتضي هذا الدعاء إذ ليس في المذكور قبل الفاء ما يناسبه التعقيب بهذا الدعاء إذ المذكور قبله كلام من موسى إليهم، فالتقدير: فلم يستجيبوا له فيما أمرهم، أو فأصروا على أذاه وعدم متاركته فدعا ربه، وهذا التقرير الثاني أليق بقوله {أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} وهذا كالتعقيب الذي في قوله تعالى {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، وقوله {أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} اتفق القراء العشرة على قراءته بفتح الهمزة وشد النون فما بعدها في قوة المصدر، فلذلك تقدر الباء التي يتعدى بها فعل "دعا"، أي دعا ربه بما يجمعه هذا التركيب المستعمل في التعريض بأنهم استوجبوا تسليط العقاب الذي يدعو به الداعي، فالإخبار عن كونهم قوما مجرمين مستعمل في طلب المجازاة على الإجرام أو في الشكاية من اعتدائهم، أو في التخوف من شرهم إذا استمروا على عدم تسريح بني إسرائيل، وكل ذلك يقتضي الدعاء لكف شرهم، فلذلك أطلق على هذا الخبر فعل "دعا".
{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}
تفريع على جملة {أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} والمفرع قول محذوف دلت عليه صيغة الكلام، أي فدعا فقلنا: اسر بعبادي. وقرأه نافع وابن كثير وأبو جعفر {فَأَسْرِ} بهمزة وصل على أنه أمر من "سرى"، وقرأه الباقون بهمزة قطع من "أسرى"

يقال: سرى وأسرى. وقد تقدم عند قوله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الاسراء: 1] فتقييده بزمان الليل هنا نظير تقييده في سورة الإسراء، والمقصود منه تأكيد معنى الإسراء بأنه حقيقة وليس مستعملا مجازا في التبكير بناء على أن المتعارف في الرحيل أن يكون فجرا.
وفائدة التأكيد أن يكون له من سعة الوقت ما يبلغون به إلى شاطئ البحر الأحمر قبل أن يدركهم فرعون بجنوده.
وجملة {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} تقيد تعليلا للأمر بالإسراء ليلا لأنه مما يستغرب، أي أنكم متبعون فأردنا أن تقطعوا مسافة يتعذر على فرعون لحاقكم.
وتأكيد الخبر ب"إن" لتنزيل غير السائل منزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بالخبر فيستشرف له استشراف المتردد السائل، على حد قوله تعالى {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37]
وأسند الاتباع إلى غير مذكور لأنه من المعلوم أن الذي سيتبعهم هو فرعون وجنوده.
[24] {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ}
عطف على جملة {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} [الدخان: 23] فيجوز أن تكون الجملتان صدرتا متصلتين بأن أعلم الله موسى حين أمره بالإسراء بأنه يضرب البحر بعصاه فينفلق عن قعره اليابس حتى يمر منه بنو إسرائيل كما ورد في آيات أخرى مثل آية سورة الشعراء. ولما أمره بذلك طمنه بأن لا يخشى بقاءه منفلقا فيتوقع أن يلحق به فرعون بل يجتاز البحر ويتركه فإنه سيطغى على فرعون وجنده فيغرقون، ففي الكلام إيجاز تقديره: فإذا سريت بعبادي فسنفتح لكم البحر فتسلكونه فإذا سلكته فلا تخش أن يلحقكم فرعون وجنده واتركه فإنهم مغرقون فيه. ويجوز أن تكون الجملة الثانية صدرت وقت دخول موسى ومن معه في طرائق البحر فيقدر قول محذوف، أي وقلنا له: اترك البحر رهوا، أي سيدخله فرعون وجنده ولا يخرجون منه لأن في بقائه مفروقا حكمة أخرى وهي دخول فرعون وجنده في طرائقه طمعا منهم أن يلحقوا موسى وقومه، حتى إذا توسطوه انضم عليهم، فتحصل فائدة إنجاء بني إسرائيل وفائدة إهلاك عدوهم، فتكون الواو عاطفة قولا محذوفا على القول المحذوف قبله.
وعلى الوجهين فالترك مستعمل مجازا في عدم المبالاة بالشيء كما يقال: دعه يفعل كذا، وذره، كقوله تعالى {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]، وقالت كبشة بنت

معد يكرب:
ودع عنك عمرا إن عمرا مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر المطعم
والبحر هو بحر القلزم المسمى اليوم البحر الأحمر.
والرهو: الفجوة الواسعة. وأصله مصدر رها، إذا فتح بين رجليه، فسميت الفجوة رهوا تسمية بالمصدر، وانتصب {رهوا} على الحال من البحر على التشبيه البليغ، أي مثل رهو.
وجملة {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} استئناف بياني جوابا عن سؤال ناشئ عن الأمر بترك البحر مفتوحا، وضمير {إنهم} عائد إلى اسم الإشارة في قوله {أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان: 22] والجند: القوم والأمة وعسكر الملك.
وإقحام لفظ {جند} دون الاقتصار على {مغرقون} لإفادة أن إغراقهم قد لزمهم حتى صار كأنه من مقومات عنديتهم كما قدمناه عند قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة. [164]
[25-28] { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}
{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ}
استئناف ابتدائي مسوق للعبرة بعواقب الظالمين المغرورين بما هم فيه من النعمة والقوة، غرورا أنساهم مراقبة الله فيما يرضيه، فموقع هذا الاستئناف موقع النتيجة من الدليل أو البيان من الإجمال لما في قوله {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الدخان: 17] من التنظير الإجمالي.
وضمير {تركوا} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان: 24].
والترك حقيقته: إلقاء شيء في مكان متنقل عنه إبقاء اختياريا، ويطلق مجازا على مفارقة المكان والشيء الذي في مكان غلبة دون اختيار وهو مجاز مشهور يقال: ترك الميت مالا، ومنه سمي مخلف الميت تركة وهو هنا من هذا القبيل.
وفعل {تركوا} مؤذن بأنهم أغرقوا وأعدموا، وذلك مقتضى أن ما أمر الله به موسى

من الإسراء ببني إسرائيل وما معه من اتباع فرعون إياهم وانفلاق البحر وإزلاف بني إسرائيل واقتحام فرعون بجنوده البحر، وانضمام البحر عليهم قد تم، ففي الكلام إيجاز حذف جمل كثيرة يدل عليها {كَمْ تَرَكُوا}
و {كم} اسم لعدد كثير مبهم يفسر نوعه مميز بعد {كم} مجرور ب {من} مذكورة أو محذوفة.
وحكم {كم} كالأسماء تكون على حسب العوامل. وإذ كان لها صدر الكلام لأنها في الأصل استفهام فلا تكون خبر مبتدأ ولا خبر "كان" ولا "إن" وإذا كانت معمولة للأفعال وجب تقديمها على عاملها. وانتصب {كم} هنا على المفعول به ل {تركوا} أي تركوا كثيرا من جنات. و {من} مميزة لمبهم العدد في {كم}
والمقام بفتح الميم: مكان القيام، والقيام هنا مجاز في معنى التمكن من المكان.
والكريم من كل نوع أنفسه وخيره، والمراد به: المساكن والديار والأسواق ونحوها مما كان لهم في مدينة "منفسين".
والنعمة بفتح النون: اسم للتنعم مصوغ على وزنة المرة. وليس المراد به المرة بل مطلق المصدر باعتبار أن مجموع أحوال النعيم صار كالشيء الواحد وهو أبلغ وأجمع في تصوير معنى المصدر، وهذا هو المناسب لفعل {تركوا} لأن المتروك هو أشخاص الأمور التي ينعم بها وليس المتروك وهو المعنى المصدري.
و {فاكهين} متصفين بالفكاهة بضم الفاء وهي اللعب والمزح، أي كانوا مغمورين في النعمة لاعبين في تلك النعمة. وقرأ الجمهور {فاكهين} بصيغة اسم الفاعل. وقرأه حفص وأبو جعفر {فكهين} بدون ألف على أنه صفة مشبهة.
وقوله {كذلك} راجع لفعل {تركوا} . والتقدير: تركا مثل ذلك الترك.
والإشارة إلى مقدر دل عليه الكلام ومعنى الكاف، وهذا التركيب تقدم الكلام عليه عند قوله {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} في سورة الكهف.[91]
{وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}
عطف على {تركوا} أي تركوها وأورثناها غيرهم، أي لفرعون الذي ولي بعد موت منفطا وسمي صفطا منفطا وهو أحد أمراء فرعون منفطا تزوج ابنة منفطا المسماة طوسير التي خلفت أباها منفطا على عرش مصر، ولكونه من غير نسل فرعون وصف هو وجنده

بقوم آخرين، وليس المراد بقوله {قَوْماً آخَرِينَ} قوما من بني إسرائيل، ألا ترى أنه أعيد الاسم الظاهر في قوله عقبه {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الدخان: 30] ولم يقل ولقد نجيناهم.
ووقع في آية الشعراء {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء: 57-59] والمراد هنالك أن أنواعا مما أخرجنا منه قوم فرعون أورثناها بني إسرائيل، ولم يقصد أنواع تلك الأشياء في خصوص أرض فرعون. ومناسبة ذلك هنالك أن القومين أخرجا مما كانا فيه، فسلب أحد الفريقين ما كان له دون إعادة لأنهم هلكوا، وأعطي الفريق الآخر أمثال ذلك في أرض فلسطين، ففي قوله {وأورثناها} تشبيه بليغ وانظر آية سورة الشعراء.
[29] {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}
تفريع على قوله {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ} إلى قوله { قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان: 28] فإن ذلك كله يتضمن أنهم هلكوا وانقرضوا، أي فما كان مهلكهم إلا كمهلك غيرهم ولم يكن حدثا عظيما كما كانوا يحسبون ويحسب قومهم، وكان من كلام العرب إذا هلك عظيم أن يهولوا أمر موته بنحو: بكت عليه السماء، وبكته الريح، وتزلزلت الجبال، قال النابغة في توقع موت النعمان بن المنذر من مرضه:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام
وقال في رثاء النعمان بن الحارث الغساني:
بكى حارث الجولان من فقد ربه ... وحوران منه موحش متضائل
والكلام مسوق مساق التحقير لهم، وقريب من قوله تعالى {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [ابراهيم: 46] وهو طريقة مسلوكة وكثر ذلك في كلام الشعراء المحدثين، قال أبو بكر بن اللبانة الأندلسي في رثاء المعتمد بن عباد ملك أشبيلية:
تبكي السماء بمزن رائج غاد ... على البهاليل من أبناء عباد
والمعنى: فما كان هلاكهم إلا كهلاك غيرهم ولا انظروا بتأخير هلاكهم بل عجل لهم الاستئصال.
[31,30] { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً

مِنَ الْمُسْرِفِينَ}
معطوف على الكلام المحذوف الذي دل عليه قوله {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان: 24] الذي تقديره: فأغرقناهم ونجينا بني إسرائيل كما قال في سورة الشعراء {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}
والمعنى: ونجينا بني إسرائيل من عذاب فرعون وقساوته، أي فكانت آية البحر هلاكا لقوم وإنجاء لآخرين. والمقصود من ذكر هذا الإشارة إلى أن الله تعالى ينجي الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم من عذاب أهل الشرك بمكة، كما نجى الذين اتبعوا موسى من عذاب فرعون.
وجعل طغيان فرعون وإسرافه في الشر مثلا لطغيان أبي جهل وملئه ولأجل هذه الإشارة أكد الخبر باللام. وقد يفيد تحقيق إنجاء المؤمنين من العذاب المقدر للمشركين إجابة لدعوة {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]
و {الْعَذَابِ الْمُهِينِ} : هو ما كان يعاملهم به فرعون وقومه من الاستعباد والإشقاق عليهم في السخرة، وكان يكلفهم أن يصنعوا له اللبن كل يوم لبناء مدينتي فيثوم و رعمسيس وكان اللبن يصنع من الطوب والتبن فكان يكلفهم استحضار التبن اللازم لصنع اللبن ويلتقطون متناثره ويذلونهم ولا يتركون لهم راحة، فذلك العذاب المهين لأنه عذاب فيه إذلال.
وقوله {مِنْ فِرْعَوْنَ} الأظهر أن يكون بدلا مطابقا للعذاب المهين فتكون {من} مؤكدة ل {من} الأولى المعدية ل {نجينا} لأن الحرف الداخل على المبدل منه يجوز أن يدخل على البدل للتأكيد. ويحسن ذلك في نكت يقتضيها المقام وحسنه هنا، فأظهرت {من} لخفاء كون اسم فرعون بدلا من العذاب تنبيها على قصد التهويل لأمر فرعون في جعل اسمه نفس العذاب المهين، أي في حال كونه صادرا من فرعون.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً} مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان التهويل الذي أفاده جعل اسم فرعون بدلا من العذاب المهين. والعالي: المتكبر العظيم في النسا، قال تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4]
و {مِنَ الْمُسْرِفِينَ} خبر ثان عن فرعون، والإسراف: الإفراط والإكثار. والمراد هنا الإكثار في التعالي، يراد الإكثار في أعمال الشر بقرينة مقام الذم. و {مِنَ الْمُسْرِفِينَ} أشد مبالغة في اتصافه بالإسراف من أن يقال: مسرفا، كما تقدم في قوله تعالى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة.[67]

[32] {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
إشارة إلى أن الله تعالى قد اختار الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم على أمم عصرهم كما اختار الذين آمنوا بموسى عليه السلام على أمم عصرهم وأنه عالم بأن أمثالهم أهل لأن يختارهم الله. والمقصود: التنويه بالمؤمنين بالرسل وأن ذلك يقتضي أن ينصرهم الله على أعدائهم ولأجل هذه الإشارة أكد الخبر باللام و"قد"، كما أكد في قوله آنفا {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الدخان: 30] و {على} في قوله {عَلَى عِلْمٍ} بمعنى "مع"، كقول الأحوص:
إني على ما قد علمت محسد ... أنمي على البغضاء والشنآن
وموضع المجرور بها موضع الحال.
والمراد ب {العالمين} الأمم المعاصرة لهم. ثم بدلوا بعد ذلك فضربت عليهم الذلة، وقد اختار الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم فقال {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]أي أخرجها الله للناس. واختار المسلمين بعدهم اختيارا نسبيا على حسب استقامتهم واستقامة غيرهم من الأمم على أن التوحيد لا يعدله شيء.
{وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ}
إيتاء الآيات من آثار الاختيار لأنه من عناية الله بالأمة لأنه يزيدهم يقينا بإيمانهم. والمراد بالآيات المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام أيد الله به بني إسرائيل في مواقع حروبهم بنصر الفئة القليلة منهم على الجيوش الكثيرة من عدوهم.
وهذا تعريض بالإنذار للمشركين بأن المسلمين سيغلبون جمعهم مع قلتلهم في بدر وغيرها.
والبلاء: الاختبار يكون بالخير والشر. فالأول اختبار لمقابلة النعمة بالشكر أو غيره، والثاني اختبار لمقدار الصبر، قال تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الانبياء: 35] أي ما فيه اختبار لهم في نظر الناس ليعلم بعضهم أنهم قابلوا نعمة إيتاء الآيات بالشكر، ويحذروا قومهم من مقابلة النعمة بالكفران.
[34-36] {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ

فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
اعتراض بين جملة {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16]
وجملة {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37] فإنه لما هددهم بعذاب الدخان ثم بالبطشة الكبرى وضرب لهم المثل بقوم فرعون أعقب ذلك بالإشارة إلى أن إنكار البعث هو الذي صرفهم عن توقع جزاء السوء على إعراضهم.
وافتتاح الكلام بحرف {إن} الذي ليس هو للتأكيد لأن هذا القول إلى المشركين لا تردد فيه حتى يحتاج إلى التأكيد فتعين كون حرف {إن} لمجرد الاهتمام بالخبر، وهو إذا وقع مثل هذا الموقع أفاد التسبب وأغنى عن الفاء. فالمعنى: إنا منتقمون منهم بالبطشة الكبرى لأنهم لا يرتدعون بوعيد الآخرة لإنكارهم الحياة الآخرة فلم ينظروا إلا لما هم عليه في الحياة الدنيا من النعمة والقوة فلذلك قدر الله لهم الجزاء على سوء كفرهم جزاء في الحياة الدنيا.
وضمير {هي} ضمير الشأن ويقال له: ضمير القصة لأنه يستعمل بصيغة المؤنث بتأويل القصة، أي لا قصة في هذا الغرض إلا الموتة المعروفة فهي موتة دائمة لا نشور لنا بعدها.
وهذا كلام من كلماتهم في إنكار البعث فإن لهم كلمات في ذلك، فتارة ينفون أن تكون بعد الموت حياة كما حكى عنهم في آيات أخرى مثل قوله تعالى {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29]، وتارة ينفون أن يطرأ عليهم بعد الموتة المعروفة شيء غيرها يعنون بذلك شيئا ضد الموتة وهو الحياة بعد الموتة.
فلهم في نفي الحياة بعد الموت أفانين من أقوال الجحود، وهذا القصر قصر حقيقي في اعتقادهم لأنهم لا يؤمنون باعتراء أحوال لهم بعد الموت.
وكلمة {هؤلاء} حيثما ذكر في القرآن غير مسبوق بما يصلح أن يشار إليه: مراد به المشركون من أهل مكة كما استنبطناه، وقدمنا الكلام عليه عند قوله تعالى {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} في سورة الأنعام. [89]
ووصف {الأولى} مراد به السابقة مثل قوله {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [لنجم:50] ومنه قوله تعالى {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات:71]. ونظيرها قوله تعالى {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:71]
وأعقبوا قصر ما ينتابهم بعد الحياة على الموتة التي يموتونها، بقولهم {وَمَا نَحْنُ

بِمُنْشَرِينَ} تصريحا بمفهوم القصر. وجيء به معطوفا للاهتمام به لأنه غرض مقصود مع إفادته تأكيد القصر وجعلوا قولهم {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} حجة على نفي البعث بأن الأموات السابقين لم يرجع أحد منهم إلى الحياة وهو سفسطة لأن البعث الموعود به لا يحصل في الحياة الدنيا، وهذا من توركهم واستهزائهم.
وضمير جمع المخاطبين أرادوا به النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين الذين كانوا يقولون لهم {إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ} [هود: 7] كما جاء في حديث خباب بن الأرت مع العاصي بن وائل الذي نزل بسببه قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} الآية، وتقدم في سورة مريم.[77]
[37] {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}
استئناف ناشئ عن قوله { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الدخان: 17] فضمير {هم} راجع إلى اسم الإشارة في قوله {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} [الدخان: 35] فبعد أن ضرب لهم المثل بمهلك قوم فرعون زادهم مثلا آخر هو أقرب إلى اعتبارهم به وهو مهلك قوم أقرب إلى بلادهم من قوم فرعون وأولئك قوم تبع فإن العرب يتسامعون بعظمة ملك تبع وقومه أهل اليمن وكثير من العرب شاهدوا آثار قوتهم وعظمتهم في مراحل أسفارهم وتحادثوا بما أصابهم من الهلك بسيل العرم. وافتتح الكلام بالاستفهام التقريري لاسترعاء الأسماع لمضمونه لأن كل أحد يعلم أن تبعا ومن قبله من الملوك خير من هؤلاء المشركين.
والمعنى: أنهم ليسوا خيرا من قوم تبع ومن قبلهم من الأمم الذين استأصلهم الله لأجل إجرامهم فلما ماثلوهم في الإجرام فلا مزية لهم تدفع عنهم استئصال الذي أهلك الله به أمما قبلهم.
والاستفهام في {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} تقريري إذ لا يسعهم إلا أن يعترفوا بأن قوم تبع والذين من قبلهم خير منهم لأنهم كانوا يضربون بهم الأمثال في القوة والمنعة. والمراد بالخيرية التفضيل في القوة والمنعة، كما قال تعالى بعد ذكر قوم فرعون {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} في سورة القمر.[43]
وقوم تبع هم حمير وهم سكان اليمن وحضرموت من حمير وسبأ وقد ذكرهم الله تعالى في سورة ق.
وتبع بضم الميم وتشديد الموحدة لقب لمن يملك جميع بلاد اليمن حميرا وسبأ

وحضرموت، فلا يطلق على الملك لقب تبع إلا إذا ملك هذه المواطن الثلاثة. قيل سموه تبعا باسم الظل لأنه يتبع الشمس كما يتبع الظل الشمس، ومعنى ذلك: أنه يسير بغزواته إلى كل مكان تطلع عليه الشمس، كما قال تعالى في ذي القرنين {فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} إلى قوله {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} [الكهف: 90]، وقيل لأنه تتبعه ملوك مخاليف اليمن، وتخضع له جميع الأقيال والأذواء من ملوك مخاليف اليمن وأذوائه، فلذلك لقب تبعا لأنه تتبعه الملوك.
وتبع المراد هنا المسمى أسعد والمكنى أبا كرب، كان قد عظم سلطانه وغزا بلاد العرب ودخل مكة ويثرب وبلغ العراق. ويقال: إنه الذي بنى مدينة الحيرة في العراق، وكانت دولة تبع في سنة ألف قبل البعثة المحمدية، وقيل كان في حدود السبعمائة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. وتعليق الإهلاك بقوم تبع دونه يقتضي أن تبعا نجا من هذا الإهلاك وأن الإهلاك سلط على قومه، قالت عائشة: ألا ترى أن الله ذم قومه ولم يذمه.
والمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد وغيره أنه قال "لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم" وفي رواية "كان مؤمنا" ، وفسره بعض العلماء بأنه كان على دين إبراهيم عليه السلام وأنه اهتدى إلى ذلك بصحبة حبرين من أحبار اليهود لقيهما بيثرب حين غزاها وذلك يقتضي نجاته من الإهلاك. ولعل الله أهلك قومه بعد موته أو في مغيبه.
وجملة {أهلكناهم} مستأنفة استئنافا بيانيا لما أثاره الاستفهام التقريري من السؤال عن إبهامه ماذا أريد به.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} تعليل لمضمون جملة {أهلكناهم} ، أي أهلكناهم عن بكرة أبيهم بسبب إجرامهم، أي شركهم.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} عطف على جملة {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} [الدخان:,34,35] ردا عليهم كما علمته آنفا. والمعنى: أنه لو لم يكن بعث وجزاء لكان خلق السماوات والأرض وما بينهما عبثا، ونحن خلقنا ذلك كله بالحق، أي بالحكمة كما دل عليه إتقان نظام الموجودات، فلا جرم اقتضى خلق ذلك أن يجازى كل فاعل على فعله وأن لا يضاع ذلك، ولما كان المشاهد أن كثيرا من الناس يقضي حياته ولا يرى لنفسه جزاء على أعماله تعين أن الله أخر جزاءهم إلى حياة أخرى وإلا لكان خلقهم في بعض أحواله من قبيل

اللعب.
وذكر اللعب توبيخ للذين أحالوا البعث والجزاء بأنهم اعتقدوا ما يفضي بهم إلى جعل أفعال الحكيم لعبا، وقد تقدم وجه الملازمة عند تفسير قوله تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} في سورة المؤمنون [115] وعند قوله تعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} في سورة ص.[27]
و {لاعبين} حال من ضمير {خلقنا} ، والنفي متوجه إلى هذا الحال فاقتضى نفي أن يكون شيء من خلق ذلك في حالة عبث فمن ذلك حالة إهمال الجزاء.
وجملة {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} بدل اشتمال من جملة {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}
والباء في {بالحق} للملابسة، أي خلقنا ذلك ملابسا ومقارنا للحق، أو الباء للسببية، أي بسبب الحق، أي لإيجاد الحق من خلقهما.
والحق: ما يحق وقوعه من عمل أو قول، أي يجب ويتعين لسببية أو تفرع أو مجازاة، فمن الحق الذي خلقت السماوات والأرض وما بينهما لأجله مكافأة كل عامل بما يناسب عمله ويجازيه، وتقدم عند قوله تعالى {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} في سورة الروم. [8]
والاستدراك في قوله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ناشئ عما أفاده نفي أن يكون خلق المخلوقات لعبا وإثبات أنه للحق لا غير من كون شأن ذلك أن لا يخفى ولكن جهل المشركين هو الذي سول لهم أن يقولوا {مَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} [الدخان: 35].
وجملة الاستدراك تذييل، وقريب من معنى الآية قوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} في آخر سورة الحجر.[85]
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
هذه الجملة تتنزل من التي قبلها منزلة النتيجة من الاستدلال ولذلك لم تعطف، والمعنى: فيوم الفصل ميقاتهم إعلاما لهم بأن يوم القضاء هو أجل الجزاء، فهذا وعيد لهم وتأكيد الخبر لرد إنكارهم.

و {يوم الفصل} : هو يوم الحكم، لأنه يفصل فيه الحق من الباطل وهو من أسماء يوم القيامة قال تعالى {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ} [المرسلات: 13,12]
والميقات: اسم زمان التوقيت، أي التأجيل، قال تعالى {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ:17]، وتقدم عند قوله تعالى {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} في سورة البقرة [189] وحذف متعلق الميقات لظهوره من المقام، أي ميقات جزائهم.
وأضيف الميقات إلى ضمير المخبر عنهم لأنهم المقصود من هذا الوعيد وإلا فإن يوم الفصل ميقات جميع الخلق مؤمنيهم وكفارهم.
والتأكيد ب {أجمعين} للتنصيص على الإحاطة والشمول، أي ميقات لجزائهم كلهم لا يفلت منه أحد منهم تقوية في الوعيد وتأييسا من الاستثناء.
و {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً} بدل من {يَوْمُ الْفَصْلِ} أو عطف بيان. وفتحة {يَوْمَ لا يُغْنِي} فتحة إعراب لأن {يوم} أضيف إلى جملة ذات فعل معرب.
والمولى: القريب والحليف،وتقدم عند قوله تعالى {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} في سورة مريم.[5] وتنكير {مولى} في سياق النفي لإفادة العموم، أي لا يغني أحد من الموالي كائنا من كان عن أحد من مواليه كائنا من كان.
و {شيئا} مفعول مطلق لأن المراد {شيئا} من إغناء. وتنكير {شيئا} للتقليل وهو الغالب في تنكير لفظ شيء، كما قال تعالى {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 16] ووقوعه في سياق النفي للعموم أيضا، يعني أي إغناء كان في القلة بله الإغناء الكثير. والمعنى: يوم لا تغني عنهم مواليهم، فعدل عن ذلك إلى التعميم لأنه أوسع فائدة إذ هو بمنزلة التذييل.
والإغناء: الإفادة والنفع بالكثير أو القليل، وضميرا {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} راجعان إلى ما رجع إليه ضمير {أَهُمْ خَيْرٌ} [الدخان: 37]، وهو اسم الإشارة من قوله {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} [الدخان:34]. والمعنى: أنهم لا يغني عنهم أولياؤهم المظنون بهم ذلك ولا ينصرهم مقيضون آخرون ليسوا من مواليهم تأخذهم الحمية أو الغيرة أو الشفقة فينصرونهم.
والنصر: الإعانة على العدو وعلى الغالب، وهو أشد الإغناء.
فعطف {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} على {لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً} زيادة في نفي عدم الإغناء.

فمحصل المعنى أنه لا يغني موال عن مواليه بشيء من الإغناء حسب مستطاعه ولا ينصرهم ناصر شديد الاستطاعة هو أقوى منهم يدفع عنهم غلب القوي عليهم، فالله هو الغالب لا يدفعه غالب.
وبني فعل {ينصرون} إلى المجهول ليعم نفي كل ناصر مع إيجاز العبارة.
والاستثناء بقوله {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} وقع عقب جملتي {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} فحق بأن يرجع إلى ما يصلح للاستثناء منه في تينك الجملتين. ولنا في الجملتين ثلاثة ألفاظ تصلح لأن يستثنى منها وهي {مولى} الأول المرفوع بفعل {يغني} ، و {مولى} الثاني المجرور بحرف {عن} ، وضمير {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} فالاستثناء بالنسبة إلى الثلاثة استثناء متصل، أي إلا من رحمه الله من الموالي، أي فإنه يأذن أن يشفع فيه، ويأذن للشافع بأن يشفع كما قال تعالى {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] وقال {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الانبياء: 28]. وفي حديث الشفاعة أنه يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم "سل تعطه واشفع تشفع". والشفاعة: إغناء عن المشفوع فيه. والشفعاء يومئذ أولياء للمؤمنين فإن من الشفعاء الملائكة وقد حكى الله عنهم قولهم للمؤمنين {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: 31]
وقيل هو استثناء منقطع لأن من رحمه الله ليس داخلا في شيء قبله مما يدل على أهل المحشر، والمعنى: لكن من رحمه الله لا يحتاج إلى من يغني عنه أو ينصره وهذا قول الكسائي والفراء.
وأسباب رحمة الله كثيرة مرجعها إلى رضاه عن عبده وذلك سر يعلمه الله.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} استئناف بياني هو جواب مجمل عن سؤال سائل عن تعيين من رحمه الله، أي أن الله عزيز لا يكرهه أحد على العدول عن مراده، فهو يرحم من يرحمه بمحض مشيئته وهو رحيم، أي واسع الرحمة لمن يشاء من عباده على وفق ما جرى به علمه وحكمته ووعده. وفي الحديث ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
[43-50] {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}

لما ذكر الله فريقا مرحومين على وجه الأجمال قابله هنا بفريق معذبون وهم المشركون، ووصف بعض أصناف عذابهم وهو مأكلهم وإهانتهم وتحريقهم، فكان مقتضى الظاهر أن يبتدأ الكلام بالإخبار عنهم بأنهم يأكلون شجرة الزقوم كما قال في سورة الواقعة {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} الآية، فعدل عن ذلك إلى الإخبار عن شجرة الزقوم بأنها طعام الأثيم اهتماما بالإعلام بحال هذه الشجرة. وقد جعلت شجرة الزقوم شيئا معلوما للسامعين فأخبر عنها بطريق تعريف الإضافة لأنها سبق ذكرها في سورة الواقعة التي نزلت قبل سورة الدخان فإن الواقعة عدت السادسة والأربعين في عداد نزول السور وسورة الدخان ثالثة وستين.
ومعنى كون الشجرة طعاما أن ثمرها طعام، كما قال تعالى طَلْعُهَا {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا} [الصافات:66,65].
وكتبت كلمة {شجرت} في المصاحف بتاء مفتوحة مراعاة لحالة الوصل وكان الشائع في رسم أواخر الكلم أن تراعي فيه حالة الوقف، فهذا مما جاء على خلاف الأصل.
و {الأثيم} : الكثير الآثام كما دلت عليه زنة فعيل. والمراد به: المشركون المذكورون في قوله {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} [الدخان:35,34] فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لقصد الإيماء إلى أن المهم بالشرك مع سبب معاملتهم هذه
وتقدم الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات[62] عند قوله تعالى {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}
والمهل بضم الميم دردي الزيت. والتشبيه به في سواد لونه وقيل في ذوبانه.
و{الحميم}: الماء الشديد الحرارة الذي انتهى غليانه، وتقدم عند قوله تعالى {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} في سورة الأنعام.[70] ووجه الشبه هو هيئة غليانه.
وقرأ الجمهور {تغلي} بالتاء الفوقية على أن الضمير ل {شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}
وإسناد الغليان إلى الشجرة مجاز وإنما الذي يغلي ثمرها. وقرأه ابن كثير وحفص بالتحتية على رجوع الضمير إلى الطعام لا إلى المهل.
والغليان: شدة تأثر الشيء بحرارة النار يقال: غلي الماء وغلت القدر، قال النابغة.

يسير بها النعمان تغلي قدوره
وجملة {خذوه} إلخ مقول لقول محذوف دل عليه السياق، أي يقال لملائكة العذاب: خذوه، والضمير المفرد عائد إلى الأثيم باعتبار آحاد جنسه.
والعتل: القود بعنف وهو أن يؤخذ بتلبيب أحد فيقاد إلى سجن أو عذاب، وماضيه جاء بضم العين وكسرها.
وقرأه بالضم نافع وابن كثير وابن عامر. وقرأه الباقون بكسر التاء.
وسواء الشيء: وسطه وهو أشد المكان حرارة.
وقوله {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} يتنازعه في التعلق كل من فعلي {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} لتضمنهما: سوقوه سوقا عنيفا.
و {ثم} للتراخي الرتبي أن صب الحميم على رأسه أشد عليه من أخذه وعتله.
والصب: إفراغ الشيء المظروف من الظرف وفعل الصب لا يتعدى إلى العذاب لأن العذاب أمر معنوي لا يصب. فالصب مستعار للتقوية والإسراع فهو تمثيلية اقتضاها ترويع الأثيم حين سمعها، فلما كان المحكي هنا القول الذي يسمعه الأثيم صيغ بطريقة التمثيلية تهويلا، بخلاف قوله {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19] الذي هو إخبار عنهم في زمن هم غير سامعيه فلم يؤت بمثل هذه الاستعارة إذ لا مقتضى لها.
وجملة {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} مقول قول آخر محذوف تقديره: قولوا له أو يقال له.
والذوق مستعار للإحساس وصيغة الأمر مستعملة في الإهانة.
وقوله {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} خبر مستعمل في التهكم بعلاقة الضدية. والمقصود عكس مدلوله، أي أنت الذليل المهان، والتأكيد للمعنى التهكمي.
وقرأه الجمهور بكسر همزة {إنك} . وقرأه الكسائي بفتحها على تقدير لام التعليل وضمير المخاطب المنفصل في قوله {أنت} تأكيد للضمير المتصل في {إنك} ولا يؤكد ضمير النصب المتصل إلا بضمير رفع منفصل.
وجملة {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} بقية القول المحذوف، أي ويقال للآثيمين جميعا: إن هذا ما كنتم به تمترون في الدنيا. والخبر مستعمل في التنديم والتوبيخ واسم

الإشارة مشار به إلى الحالة الحاضرة لديهم، أي هذا العذاب والجزاء هو ما كنتم تكذبون به في الدنيا.
والامتراء: الشك، وأطلق الامتراء على جزمهم بنفي يقينهم بانتفاء البعث لأن يقينهم لما كان خليا عن دلائل العلم كان بمنزلة الشك، أي أن البعث هو بحيث لا ينبغي أن يوقن بنفيه على نحو ما قرر في قوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].
[51-53] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ}
استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من وصف عذاب الأثيم إلى وصف نعيم المتقين لمناسبة التضاد على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس.
والمقام بضم الميم: مكان الإقامة. والمقام بفتح الميم: مكان القيام ويتناول المسكن وما يتبعه.
وقرأه نافع وابن عامر وأبو جعفر بضم الميم. وقرأه الباقون بفتح الميم.
والمراد بالمقام المكان فهو مجاز بعلاقة الخصوص والعموم.
والأمين بمعنى الآمن والمراد: الآمن ساكنه، فوصفه ب {أمين} مجاز عقلي كما قال تعالى {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:3]. والأمن أكبر شروط حسن المكان لأن الساكن أول ما يتطلب الأمن وهو السلامة من المكاره والمخاوف فإذا كان آمنا في منزلة كان مطمئن البال شاعرا بالنعيم الذي يناله. وأبدل منه بأنهم {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وذلك من وسائل النزهة والطيب. وأعيد حرف {في} مع البدل للتأكيد.
والجنات: جمع جنة، وتقدم في أول البقرة. والعيون: جمع عين، وتقدم في قوله {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} في سورة البقرة [60]، فهذا نعيم مكانهم. ووصف نعيم أجسادهم بذكر لباسهم وهو لباس الترف والنعيم وفيه كناية عن توفر أسباب نعيم الأجساد لأنه لا يلبس هذا اللباس إلا من استكمل ما قبله من ملائمات الجسد باطنه وظاهره.
والسندس: الديباج الرقيق النفيس، والأكثر على أنه معرب من الفارسية وقيل عربي. أصله: سندي، منسوب إلى السند على غير قياس. والسندس يلبس مما يلي الجسد.
والإستبرق الديباج القوي يلبس فوق الثياب وهو معرب استبره فارسية، وهو الغليظ

مطلقا ثم خص بغليظ الديباج، ثم عرب.
وتقدما في قوله {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} في سورة الكهف [31] فارجع إليه.
و {من} لبيان الجنس، والمبين محذوف دل عليه {يلبسون} . والتقدير: ثيابا من سندس وإستبرق.
ثم وصف نعيم نفوسهم بعضهم مع بعض في مجالسهم ومحادثاتهم بقوله {متقابلين} لأن الحديث مع الأصحاب والأحبة نعيم للنفس فأغنى قوله {متقابلين} عن ذكر اجتماعهم وتحابهم وحديث بعضهم مع بعض وأن ذلك شأنهم أجمعين بأن ذكر ما يستلزم ذلك وهو صيغة متقابلين ومادته على وجه الإيجاز البديع.
[54-57] {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
{كَذَلِكَ}
اعتراض وقد تقدم بيان معناه عن قوله تعالى {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} في سورة الكهف. وتقدم نظيره آنفا في هذه السورة.
{وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} معنى {زوجناهم} جعلناهم أزواجا جمع زوج ضد الفرد، أي جعلنا كل فرد من المتقين زوجا بسبب نساء حور العيون.
والزوج هنا كناية عن القرين، أي قرنا بكل واحد نساء حورا عينا، وليس فعل {زوجناهم} هنا مشتقا من الزوج الشائع إطلاقه على امرأة الرجل وعلى رجل المرأة لأن ذلك الفعل يتعدى بنفسه يقال: زوجه ابنته وتزوج بنت فلان، قال تعالى {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] وليس ذلك بمراد هنا إذ لا طائل تحته، إذ ليس في الجنة عقود نكاح، وإنما المراد أنهم مأنوسون بصحبة حبائب من النساء كما أنسوا بصحبة الأصحاب والأحبة من الرجال استكمالا لمتعارف الأنس بين الناس. وفي كلا الأنسين نعيم نفساني منجر للنفس من النعيم الجثماني، وهذا معنى سام من معاني الانبساط الروحي وإنما أفسد بعضه في

الدنيا ما يخالط بعضه من أحوال تجر إلى فساد منهي عنه مثل ارتكاب المحرم شرعا ومثل الاعتداء على المرأة قسرا، ومن مصطلحات متكلفة، وقد سمى الله سكونا فقال {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
والحور: جمع الحوراء، وهي البيضاء، أي بنساء بضيضات الجلد.
والعين: جمع العيناء، وهي واسعة العين، وتقدم في سورة الصافات. وشمل الحور العين النساء اللاء كن أزواجهم في الدنيا، ونساء يخلقهن الله لأجل الجنة قال تعالى {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} وقال تعالى {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ} [ّيس: 56].
ومعنى {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ} أي هم يأمرون بأن تحضر لهم الفاكهة، أي فيجابون.
والدعاء نوع من الأمر أي يأذنون بكل فاكهة، أي بإحضار كل فاكهة و {كل} هنا مستعملة في الكثرة الشديدة لكل واحد منهم. ويجوز أن تكون بمعنى الإحاطة، أي بكل صنف من أصناف الفاكهة.
والفاكهة: ما يتفكه به، أي يتلذذ بطعمه من الثمار ونحوها.
وجملة {يدعون} حال من {المتقين} ، و {آمنين} حال من ضمير {يدعون} . والمراد هنا أمن خاص غير الذي في قوله {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51] وهو الأمن من الغوائل والآلام من تلك الفواكه على خلاف حال الإكثار من الطعام في الدنيا كقوله في خمر الجنة {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات:47]، أو آمنين من نفاد ذلك وانقطاعه.
وجملة {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} حال أخرى. وهذه بشارة بخلود النعمة لأن الموت يقطع ما كان في الحياة من النعيم لأصحاب النعيم كما كان الإعلام بأن أهل الشرك لا يموتون نذارة بدوام العذاب.
والاستثناء في قوله {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لزيادة تحقيق انتفاء ذوق الموت عن أجل الجنة فكأنه قيل لا يذوقون الموت البتة وقرينة ذلك وصفها ب {الأولى} . والمراد ب {الأولى} السالفة، كما تقدم آنفا في قوله {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} [الدخان: 35]

{وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} عطف على {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} وهذا تذكير بنعمة السلامة مما ارتبك فيه غيرهم. وذلك مما يحمد الله عليه كما ورد أن من آداب من يرى غيره في شدة أو بأس أن يقول: الحمد لله الذي عافاني مما هو فيه.
وضمير {وقاهم} عائد إلى ضمير المتكلم في {وزوجناهم} على طريقة الالتفات.
و {فضلا} حال من المذكورات. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر الرب إظهار في مقام الإضمار ومقتضى الظاهر أن يقال: فضلا منه أو منا. ونكتة هذا الإظهار تشريف مقام النبي صلى الله عليه وسلم والإيماء إلى أن ذلك إكرام له لإيمانهم به.
وجملة {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} تذييل، والإشارة في {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} لتعظيم الفضل ببعد المرتبة. وأتي بضمير الفصل لتخصيص الفوز بالفضل المشار إليه وهو قصر لإفادة معنى الكمال كأنه لا فوز غيره.
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}
الفاء للتفريع إشارة إلى أن ما بعدها متفرع عما قبلها حيث كان المذكور بعد الفاء فذلكة للسورة، أي إجمال لأغراضها بعد تفصيلها فيما مضى إحضارا لتلك الأغراض وضبطا لترتب علتها.
وضمير {يسرناه} عائد إلى الكتاب المفهوم من المقام والمذكور في قوله {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] إلخ، والذي كان جل غرض السورة في إثبات إنزاله من الله كما أشار إليه افتتاحها بالحروف المقطعة، وقوله {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} فهذا التفريع مرتبط بذلك الافتتاح وهو من رد العجز على الصدر. فهذا التفريع تفريع لمعنى الحصر الذي في قوله {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} لبيان الحكمة في إنزال القرآن باللسان العربي فيكون تفريعا على ما تقدم في السورة وما تخلله وتبعه من المواعظ.
ويجوز أن يكون المفرع قوله {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وقدم عليه ما هو توطئة له اهتماما بالمقدم وتقدير النظم فلعلهم يتذكرون بهذا لما يسرناه لهم بلسانهم.
والقصر المستفاد من "إنما" قصر قلب وهو رد على المشركين إذ قد سهل لهم طريق

فهمه بفصاحته وبلاغته فقابلوه بالشك والهزء كما قصه الله في أول السورة بقوله {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} أي أنا جعلنا فهمه يسيرا بسبب اللغة العربية الفصحى وهي لغتهم إلا ليتذكروا فلم يتذكروا.
فمفعول {يسرناه} مضاف مقدر دل عليه السياق تقديره: فهمه.
والباء في {بلسانك} للسببية، أي بسبب لغتك، أي العربية وفي إضافة اللسان إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم عناية بجانبه وتعظيم له، وإلا فاللسان لسان العرب كما قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [ابراهيم: 4]
وإطلاق اللسان وهو اسم الجارحة المعروفة في الفم على اللغة مجاز شائع لأن أهم ما يستعمل فيه اللسان الكلام قال تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195].
وأفصح قوله {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} عن الأمر بالتذكير بالقرآن. والتقدير: فذكرهم به ولا تسأم لعنادهم فيه ودم على ذلك حتى يحصل التذكر، فالتيسير هنا تسهيل الفهم، وتقدم عند قوله تعالى {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} إلخ في سورة مريم [97].
و"لعل" مستعملة في التعليل، أي لأجل أن يتذكروا به، وهذا كقوله {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الاحقاف: 12].
وفي هذا الكلام الموجز إخبار بتيسير القرآن للفهم لأن الغرض منه التذكر، قال تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، وبأن سبب ذلك التيسير كونه بأفصح اللغات وكونه على لسان أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فلذلك كان تسببه في حصول تذكرهم تسببا قريبا لو لم يكونوا في شك يلعبون. وباعتبار هذه المعاني المتوافرة حسن أن يفرع على هذه الجملة تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد معانديه بقوله {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} أي فارتقب النصر الذي سألته بأن تعان عليهم بسنين كسنين يوسف فإنهم مرتقبون ذلك وأشد منه وهو البطشة الكبرى.
وإطلاق الارتقاب على حال المعاندين استعارة تهكمية لأن المعنى أنهم لاقون ذلك لا محالة وقد حسنها اعتبار المشاكلة بين "ارتقب" و {مرتقبون} .
وجملة {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} تعليل للأمر في قول {فارتقب} أي ارتقب النصر بأنهم لاقوا العذاب بالقحط وقد أغنت "إن" التسبب والتعليل.
وفي هذه الخاتمة رد العجز على الصدر إذ كان صدر السورة فيه ذكر إنزال الكتاب

المبين وأنه رحمة من الله بواسطة رسالة محمد صلى اله عليه وسلم وكان في صدرها الإنذار بارتقاب يوم تأتي السماء بدخان مبين وذكر البطشة الكبرى.
فكانت خاتمة هذه السورة خاتمة عزيزة المنال اشتملت على حسن براعة المقطع وبديع الإيجاز.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجاثيةسميت هذه السورة في كثير من المصاحف العتيقة بتونس وكتب التفسير وفي صحيح البخاري سورة الجاثية معرفا باللام.
وتسمى حم الجاثية لوقوع لفظ {جَاثِيَةً} [الجاثية: 28] فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن، واقتران لفظ "الجاثية" بلام التعريف في اسم السورة مع أن اللفظ المذكور فيها خلي عن لام التعريف لقصد تحسين الإضافة، والتقدير: سورة هذه الكلمة، أي السورة التي تذكر فيها هذه الكلمة، وليس لهذا التعريف فائدة غير هذه. وذلك تسمية حم غافر، وحم الزخرف.
وتسمى سورة شريعة لوقوع لفظ {شريعة} [الجاثية: 18] فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن. وتسمى سورة الدهر لوقوع {مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] فيها ولم يقع لفظ الدهر في ذوات حم الأخر.
وهي مكية قال ابن عطية: بلا خلاف، وفي القرطبي عن ابن عباس وقتادة استثناء قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} إلى {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] نزلت بالمدينة. وعن ابن عباس أنها نزلت عن عمر بن الخطاب شتمه رجل من المشركين بمكة فأراد أن يبطش به فنزلت.
وهي السورة الرابعة والستون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الدخان وقبل الأحقاف. وعدد آيها في عد المدينة ومكة والشام والبصرة ست وثلاثون. وفي عد الكوفة سبع وثلاثون لاختلافهم في عد لفظ {حم} آية مستقلة.
أغراضها
الابتداء بالتحدي بإعجاز القرآن وأنه جاء بالحق توطئة لما سيذكر بأنه حق كما

اقتضاه قوله {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 6]
وإثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلائل ما في السماوات والأرض من آثار خلقه وقدرته في جواهر الموجودات وأعراضها وإدماج ما فيها مع ذلك من نعم يحق على الناس شكرها لا كفرها.
ووعيد الذين كذبوا على الله والتزموا الآثام بالإصرار على الكفر والإعراض عن النظر في آيات القرآن والاستهزاء بها. والتنديد على المشركين إذ اتخذوا آلهة على حسب أهوائهم وإذ جحدوا البعث، وتهديدهم بالخسران يوم البعث، ووصف أهوال ذلك، وما أعد فيه من العذاب للمشركين ومن رحمة للمؤمنين. ودعاء المسلمين للإعراض عن إساءة الكفار لهم والوعد بأن الله سيخزي المشركين.
ووصف بعض أحوال يوم الجزاء. ونظر الذين أهملوا النظر في آيات الله مع تبيانها وخالفوا على رسولهم صلى الله عليه وسلم فيما فيه صلاحهم بحال بني إسرائيل في اختلافهم في كتابهم بعد أن جاءهم العلم وبعد أن اتبعوه فما ظنك بمن خالف آيات الله من أول وهلة تحذيرا لهم من أن يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل من تسليط الأمم عليهم وذلك تحذير بليغ. وذلك تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم بأن شأن شرعه مع قومه كشأن شريعة موسى لا تسلم من مخالف، وأن ذلك لا يقدح فيها ولا في الذي جاء بها، وأن لا يعبأ بالمعاندين ولا بكثرتهم إذ لا وزن لهم عند الله.
[1] {حم} تقدم القول في نظائره، وهذه جملة مستقلة.
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
استئناف ابتدائي وهو جملة مركبة من مبتدأ وخبر. {الكتاب} هو المعهود وهو ما نزل من القرآن إلى تلك الساعة.
والمقصود: إثبات أن القرآن موحى به من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكان مقتضى الظاهر أن يجعل القرآن مسندا إليه ويخبر عنه فيقال القرآن منزل من الله العزيز الحكيم لأن كونه منزلا من الله هو محل الجدال فيقتضي أن يكون هو الخبر ولو أذعنوا لكونه تنزيلا لما كان منهم نزاع في أن تنزيله من الله ولكن خولف مقتضى الظاهر لغرضين:
أحدهما: التشويق إلى تلقي الخبر لأنهم إذا سمعوا الابتداء بتنزيل الكتاب استشرفوا إلى ما سيخبر عنه؛ فأما الكافرون فيترقبون أنه سيلقى إليهم وصف جديد لأحوال تنزيل

الكتاب فيتهيأون لخوض جديد من جدالهم وعنادهم، والمؤمنون يترقبون لما يزيدهم يقينا بهذا التنزيل.
والغرض الثاني: أن يدعى أن كون القرآن تنزيلا أمر لا يختلف فيه فالذين خالفوا فيه كأنهم خالفوا في كونه منزلا من عند الله وهل يكون التنزيل إلا من عند الله فيؤول إلى تأكيد الإخبار بأنه منزل من عند الله إذ لا فرق بين مدلول كونه تنزيلا وكونه من عند الله إلا باختلاف مفهوم المعنيين دون ما صدقيهما على طريقة قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].
وإيثار وصفي {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} بالذكر دون غيرهما من الأسماء الحسنى لإشعار وصف {العزيز} بأن ما نزل منه مناسب لعزته فهو كتاب عزيز كما وصفه تعالى بقوله {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41]، أي هو غالب لمعانديه، وذلك لأنه أعجزهم عن معارضته، ولإشعار وصف {الحكيم} بأن ما نزل من عنده مناسب لحكمته، فهو مشتمل على دلائل اليقين والحقيقة، ففي ذلك إيماء إلى أن إعجازه، من جانب بلاغته إذ غلبت بلاغة بلغائهم،ومن جانب معانيه إذ أعجزت حكمته حكمة الحكماء، وقد تقدم مثيل هذا في طالعة سورة الزمر وقريب منه في طالعة سورة غافر.
[3-5] {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
موقع هذا الكلام موقع تفصيل المجمل لما جمعته جملة {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2] باعتبار أن آيات السماوات والأرض وما عطف عليها إنما كانت آيات للمؤمنين الموقنين، وللذين حصل لهم العلم بسبب ما ذكرهم به القرآن، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} [الجاثية: 6]
وأكد ب {إن} وإن كان المخاطبون غير منكريه لتنزيلهم منزلة المنكر لذلك بسبب عدم انتفاعهم بما في هذه الكائنات من دلالة على وحدانية الله تعالى وإلا فقد قال الله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} في سورة الزخرف.[9]
والخطاب موجه إلى المشركين ولذلك قال {لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقال {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} دون أن يقال: لآيات لكم أو آيات لكم، أي هي آيات لمن يعلمون دلالتها من

المؤمنين. ومن الذين يوقنون إشارة إلى أن تلك الآيات لا أثر لها في نفوس من هم بخلاف ذلك.
والمراد بكون الآيات في السماوات والأرض أن ذات السماوات والأرض وعداد صفاتها دلائل على الوحدانية فجعلت السماوات والأرض بمنزلة الظرف لما أودعته من الآيات لأنها ملازمة لها بأدنى نظر وجعلت الآيات للمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها وعلموا منها أن موجدها ومقدر نظامها واحد لا شريك له.
وعطف جملة {وَفِي خَلْقِكُمْ} الخ على جملة {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} عطف خاص على عام لما في هذا الخاص من التذكير بنعمة إيجاد النوع استدعاء للشكر عليه.
والبث: التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل وفي خلق الله ما يبث من دابة. وتقدم البث في قوله تعالى {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} في سورة البقرة.[164]
وعبر بالمضارع في {يبث} ليفيد تجدد البث وتكرره باعتبار اختلاف أجناس الدواب وأنواعها وأصنافها.
والدابة تطلق على كل ما يدب على الأرض غير الإنسان وهذا أصل إطلاقها وقد تطلق على ما يدب بالأرجل دون الطائر كقوله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]
والرزق أطلق هنا على المطر على طريقة المجاز المرسل لأن المطر سبب وجود الأقوات. والرزق: القوت. وقد ذكر في آية سورة البقرة [164] {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ}
وتقدمت نظائر هذه الآية في أواسط سورة البقرة وفي مواضع عدة.
والمراد ب"المؤمنين"، وب "قوم يوقنون"، وب "قوم يعقلون" واحد، وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون، أي يعلمون دلالة الآيات.
والمعنى: أن المؤمنين والذين يوقنون، أي يعلمون ولا يكابرون، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان مترددا، وازداد إيمانا من كان مؤمنا فصار موقنا. فالمعنى: أن الذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون، فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الآي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتلاء بعضها لبعض.

وقدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب،وجعل اختلاف الليل والنهار واختلاف حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوازم مترتبة بإدراك العقل.
وقد أومأ ذكر هذه الصفات إلى أن الذين لم يهتدوا بهذه الآيات ليسوا من أصحاب هذه الصفات ولذلك أعقبه بقوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6] استفهاما إنكاريا بمعنى النفي.
واعلم أن هذا الكلام وإن كان موجها إلى قوم لا ينكرون وجود الإله وإنما يزعمون له شركاء، وكان مقصودا منه ابتداء إثبات الوحدانية، فهو أيضا صالح لإقامة الحجة على المعطلين الذين ينفون وجود الصانع المختار وفي العرب فريق منهم. فإن أحوال السماوات كلها متغيرة دالة على تغير ما اتصفت بها، والتغير دليل الحدوث وهو الحاجة إلى الفاعل المختار الذي يوجدها بعد العدم ثم يعدمها.
وقرأ الجمهور قوله {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقوله {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} برفع {آيات} فيهما على أنهما مبتدآن وخبراهما المجروران. وتقدر في محذوفة في قوله {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} لدلالة أختها عليها التي في قوله {وَفِي خَلْقِكُمْ}
والعطف في كلتا الجملتين عطف جملة لا عطف مفرد.
وقرأها حمزة والكسائي وخلف {لآيات} في الموضعين بكسرة نائبة عن الفتحة ف {آيات} الأول عطف على اسم {إن} و {فِي خَلْقِكُمْ} عطف على خبر {إن} فهو عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه، وأما {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فكذلك، إلا انه عطف على معمولي عاملين مختلفين، أي ليسا مترادفين هما "إن" و"في" على اعتبار أن الواو عاطفة {آيات} وليست عاطفة جملة {فِي خَلْقِكُمْ} الآية، وهو جائز عند أكثر نحاة الكوفة وممنوع عند اكثر نحاة البصرة، ولذلك تأول سيبويه هذه القراءة بتقدير "في" عند قوله {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} لدلالة أختها عليها وتبقى الواو عاطفة {آيات} على اسم "إن" فلا يكون من العطف على معمولي عاملين.
والحق ما ذهب إليه جمهور الكوفيين وهو كثير كثرة تنبو عن التأويل. وجعل ابن الحاجب في أماليه قراءة الجمهور برفع {آيات} في الموضعين أيضا من العطف على معمولي عاملين لأن الرفع يحتاج إلى عامل كما أن النصب يحتاج إلى عامل قال: وأكثر الناس يفرض الإشكال في قراءة النصب لكون العامل لفظيا وهما سواء. وقرأ يعقوب

{آيات} الثانية فقط بكسر التاء على أنه حال متعدد من اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق وتصريف الرياح، والسحاب.
[6] {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}
يجوز أن تكون الإشارة وبيانها بآيات الله إشارة إلى الآيات المذكورة في قوله {لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3] وقوله {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 4] وقوله {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5]
وإضافتها إلى اسم الجلالة لأن خالقها على تلك الصفات التي كانت لها آيات للمستنصرين.
وجملة {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} في موضع الحال من {آيَاتُ اللَّهِ} . والعامل في اسم الإشارة من معنى الفعل على نحو قوله تعالى {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72].
والتلاوة: القراءة. ومعنى كون الآيات متلوة أن في ألفاظ القرآن المتلوة دلالة عليها فاستعمال فعل "نتلو" مجاز عقلي لأن المتلو ما يدل عليها.
ويجوز أن تكون الإشارة إلى حاضر في الذهن غير مذكور لما دل عليه قوله {الكتاب} أي تلك آيات الله المنزلة في القرآن، فيكون استعمال فعل {نتلوها} في حقيقته.
وإسناد التلاوة إلى الله مجاز عقلي أيضا لأن الله موجد القرآن المتلو الدال على تلك الآيات.
وقوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} و {بعد} هنا بمعنى "دون". فالمعنى: فبأي حديث دون الله وآياته، وتقدم قوله تعالى {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} في سورة الشورى،[44] وفي الأعراف {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} والاستفهام في قوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ} مستعمل في التأييس والتعجيب كقول الأعشى:
فمن أي ما تأتي الحوادث
أفرق وإضافة {بعد} إلى اسم الجلالة على تقدير مضاف دل عليه ما تقدم من قوله {فبأي حديث} ، والتقدير: بعد حديث الله، أي بعد سماعه، كقول النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل

أي على مخافة وعل.
واسم {بعد} مستعمل في حقيقته.
والمراد بالحديث: الكلام، يعني القرآن كقوله {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] وكما وقع إضافة حديث إلى ضمير القرآن في قوله في الأعراف [185] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} وفي آخر المرسلات [50] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}
وعطف و {آياته} على {حديث} لأن المراد بها الآيات غير القرآن من دلائل السماوات والأرض مما تقدم في قوله {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3].
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر وروح عن يعقوب {يؤمنون} بالتحتية. وقرأه أبو عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ورويس عن يعقوب بالتاء الفوقية فهو التفات.
[7-10] {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً}
أعقب ذكر المؤمنين الموقنين العاقلين المنتفعين بدلالة آيات الله وما يفيده مفهوم تلك الصفات التي أجريت عليهم من تعريض بالذين لم ينتفعوا بها، بصريح ذكر أولئك الذين لم يؤمنوا ولم يعقلوها كما وصف لذلك قوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6].
وافتتح ذكره بالويل له تعجيلا لإنذاره وتهديده قبل ذكر حاله. و"ويل له" كلمة دعاء بالشكر وأصل الويل الشر وحلوله.
و"الأفاك" القوي الإفك، أي الكذب. والأثيم مبالغة أو صفة مشبهة وهو يدل على المبالغ في اقتراف الآثام، أي الخطايا. وفسره الفيروز آبادي في القاموس بالكذاب وهو

تسامح وإنما الكذب جزئي من جزئيات الأثيم.
وجعلت حالته أنه يسمع آيات الله ثم يصر مستكبرا لأن تلك الحالة وهي حالة تكرر سماعه آيات الله وتكرر إصراره مستكبرا عنها تحمله على تكرير تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وتكرير الإثم، فلا جرم أن يكون أفاكا أثيما بله ما تلبس به من الشرك الذي كله كذب وإثم.
والمراد ب {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} جميع المشركين الذين كذبوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وعاندوا في معجزة القرآن وقالوا {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 31] وبخاصة زعماء أهل الشرك وأيمة الكفر مثل النضر بن الحارث، وأبي جهل وقرنائهم.
و {آيَاتِ اللَّهِ} أي القرآن فإنها المتلوة. و {ثم} للتراخي الرتبي لأن ذلك الإصرار بعد سماع مثل تلك الآيات أعظم وأعجب، فهو يصر عند سماع آيات الله وليس إصراره متأخرا عن سماع الآيات.
والإصرار: ملازمة الشيء وعدم الانفكاك عنه، وحذف متعلق {يصر} لدلالة المقام عليه، أي يصرون على كفرهم كما دل على ذلك قوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6]
وشبه حالهم في عدم انتفاعهم بالآيات بحالهم في انتفاء سماع الآيات، وهذا التشبيه كناية عن وضوح دلالة آيات القرآن بحيث أن من يسمعها يصدق بما دلت عليه فلولا إصرارهم واستكبارهم لانتفعوا بها.
و {كأن} أصلها "كأن" المشددة فخففت فقدر اسمها وهو ضمير الشأن.وفرع على حالتهم هذه إنذارهم بالعذاب الأليم وأطلق على الإنذار اسم البشارة التي هي الأخبار بما يسر على طريقة التهكم.
والمراد بالعلم في قوله {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً} السمع، أي إذا ألقى سمعه إلى شيء من القرآن اتخذه هزؤا، أي لا يتلقى شيئا من القرآن إلا ليجعله ذريعة للهزء به، ففعل {علم} هنا متعد إلى واحد لأنه بمعنى عرف.
وضمير التأنيث في {اتخذها} عائد إلى {آياتنا} ، أي اتخذ الآيات هزؤا لأنه يستهزئ بما علمه منها وبغيره، فهو إذا علم شيئا منها استهزئ بما علمه وبغيره.
ومعنى اتخاذهم الآيات هزؤا: أنهم يلوكونها بأفواههم لوك المستهزئ بالكلام، وإلا فإن مطلق الاستهزاء بالآيات لا يتوقف على العلم بشيء منها. ومن الاستهزاء ببعض

الآيات تحريفها على مواضعها وتحميلها غير المراد منها عمدا للاستهزاء، كقول أبي جهل لما سمع {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:44,43] تجاهل بإظهار أن الزقوم اسم لمجموع الزبد والتمر فقال زقمونا ، وقوله: لما سمع قوله تعالى {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30]: أنا ألقاهم وحدي.
{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
جيء باسم الإشارة للتنبيه على أن ما ذكر من الأوصاف من قوله تعالى {لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} إلى قوله {هزؤا} على أن المشار إليهم أحرياء به لأجل ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف.
وجملة {مِنْ وَرَائِهِمْ} بيان لجملة {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وفي قوله {مِنْ وَرَائِهِمْ} تحقيق لحصول العذاب وكونه قريبا منهم وأنهم غافلون عن اقترابه كغفلة المرء عن عدو يتبعه من ورائه ليأخذه فإذا نظر إلى أمامه حسب نفسه آمنا. ففي الوراء استعارة تمثيلية للاقتراب والغفلة، ومنه قوله تعالى {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [الكهف: 79] وقول لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا? تحنى عليها الأصابع
ومن فسر وراء بقدام، فما رعى حق الكلام.
وعطف جملة {وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً} على جملة {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} لأن ذلك من جملة العذاب المهين فإن فقدان الفداء وفقدان الولي مما يزيد العذاب شدة ويكسب المعاقب إهانة.
ومعنى الإغناء في قوله {وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ} الكفاية والنفع، أي لا ينفعهم.
وعدي بحرف "عن" لتضمينه معنى يدفع فكأنه عبر بفعلين لا يغنيهم وبالدفع عنهم، وتقدم في قوله {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} في سورة آل عمران.[10]
و {ما كسبوا} : أموالهم. و {شيئا} منصوب على المفعولية، أي شيئا من الإغناء لأن {شيئا} من أسماء الأجناس العالية فهو مفسر بما وقع قبله أو بعده، وتنكيره للتقليل، أي لا يدفع عنهم ولو قليلا من جهنم، أي عذابها.

{وَلا مَا اتَّخَذُوا} عطف على {ما كسبوا} وأعيد حرف النفي للتأكيد، و {أولياء} مفعول ثان ل {اتخذوا} . وحذف مفعوله الأول وهو ضميرهم لوقوعه في حيز الصلة فإن حذف مثله في الصلة كثير.
وأردف {عَذَابٌ مُهِينٌ} بعطف {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لإفادة أن لهم عذابا غير ذلك وهو عذاب الدنيا بالقتل والأسر، فالعذاب الذي في قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} غير العذاب الذي في قوله {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}
[11] {هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}
جملة {هَذَا هُدىً} استئناف ابتدائي انتقل به من وصف القرآن في ذاته بأنه منزل من الله وأنه من آيات الله إلى وصفه بأفضل صفاته بأنه هدى، فالإشارة بقوله {هذا} إلى القرآن الذي هو في حال النزول والتلاوة فهو كالشيء المشاهد، ولأنه قد سبق من أوصافه من قوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2] وقوله {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [الجاثية: 6] إلى آخره ما صيره متميزا شخصا بحسن الإشارة إليه. ووصف القرآن بأنه {هدى} من الوصف بالمصدر للمبالغة، أي: هاد للناس، فمن آمن فقد اهتدى ومن كفر به فله عذاب لأنه حرم نفسه من الهدى فكان في الضلال وارتبق في المفاسد والآثام.
فجملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} عطف على جملة {هَذَا هُدىً} والمناسبة أن القرآن من جملة آيات الله وأنه مذكر بها، فالذين كفروا بآيات الله كفروا بالقرآن في عموم الآيات، وهذا واقع موقع التذييل لما تقدمه ابتداء من قوله {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7]. وجيء بالموصول وصلته لما تشعر به الصلة من أنهم حقيقون بالعقاب.
واستحضروا في هذا المقام بعنوان الكفر دون عنواني الإصرار والاستكبار اللذين استحضروا بهما في قوله {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} [الجاثية: 8] لأن الغرض هنا النعي عليهم إهمالهم الانتفاع بالقرآن وهو النعمة العظمى التي جاءتهم من الله فقابلوها بالكفران عوضا عن الشكر، كما جاء في قوله تعالى { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]
والرجز: أشد العذاب، قال تعالى {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59]
ويجوز أن يكون حرف {من} للبيان فالعذاب هو الرجز ويجوز أن يكون للتبعيض، أي عذاب مما يسمى بالرجز وهو أشده.
و {أليم} يجوز أن يكون وصفا ل {عذاب} فيكون مرفوعا وكذلك قرأه الجمهور.

ويجوز أن يكون وصفا ل {رجز} فيكون مجرورا كما قرأه ابن كثير وحفص عن عاصم.
[12] {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} استئناف ابتدائي للانتقال من التذكير بما خلق الله من العوالم وتصاريف أحوالها من حيث إنها دلالات على الوحدانية، إلى التذكير بما سخر الله للناس من المخلوقات وتصاريفها من حيث كانت منافع الناس تقتضي أن يشكروا مقدرها فجحدوا بها إذ توجهوا بالعبادة إلى غير المنعم عليهم، ولذلك علق بفعلي {سخر} في الموضعين مجرور بلام العلة بقوله {لكم} ؛ على أن هذه التصاريف آيات أيضا مثل اختلاف الليل والنهار، وما انزل الله من السماء من ماء، وتصريف الرياح، ولكن لوحظ هنا ما فيها من النعم كما لوحظ هنالك ما فيها من الدلالة، والفطن يستخلص من المقامين كلا الأمرين على ما يشبه الاحتباك. ومناسبة هذا الانتقال واضحة.
واسم الجلالة مسند إليه والموصول مسند، وتعريف الجزأين مفيد الحصر وهو قصر قلب بتنزيل المشركين منزلة من يحسب أن تسخير البحر وتسخير ما في السماوات والأرض إنعام من شركائهم كقوله تعالى {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40] فكان هذا القصر إبطالا لهذا الزعم الذي اقتضاه هذا التنزيل.
وقوله {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ} بدل اشتمال من {لكم} لأن في قوله {لكم} إجمالا أريد تفصيله.
فتعريف {الفلك} تعريف الجنس، وليس جري الفلك في البحر بنعمة على الناس إلا باعتبار أنهما يجرونهما للسفر في البحر فلا حاجة إلى جعل الألف واللام عوضا عن المضاف إليه من باب {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41].
وعطف عليه {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} باعتبار ما فيه من عموم الاشتمال، فحصل من مجموع ذلك أن تسخير البحر لجري الفلك فيه للسفر لقضاء مختلف الحاجات حتى التنزه وزيارة الأهل.
وعطف {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} على قوله {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ} لا باعتبار ما اشتمل عليه إجمالا، بل باعتبار لفظه في التعليق بفعله. وهذا مناط سوق هذا الكلام، أي لعلكم تشكرون فكفرتم، وتقدم نظير مفردات هذه الآية غير مرة ما أغنى عن أعادته.

[13] {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}
هذا تعميم بعد تخصيص اقتضاه الاهتمام أولا ثم التعميم ثانيا. و {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} عام مخصوص بما تحصل للناس فائدة من وجوده: كالشمس للضياء، والمطر للشراب، أو من بعض أحواله: كالكواكب للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، والشجر للاستظلال، والأنعام للركوب والحرث ونحو ذلك. وأما ما في السماوات والأرض مما لا يفيد الناس فغير مراد مثل الملائكة في السماء والأهوية المنحبسة في باطن الأرض التي يأتي منها الزلزال.
وانتصب {جميعا} على الحال من { مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وتنوينه تنوين عوض عن المضاف إليه، أي جميع ذلك مثل تنوين "كل" في قوله {كُلّاً هَدَيْنَا} [الأنعام: 84].
و"من" ابتدائية، أي جميع ذلك من عند الله ليس لغيره فيه أدنى شركة. وموقع قوله {منه} موقع الحال من المضاف إليه المحذوف المعوض عنه التنوين أو من ضمير {جميعا} لأنه في معنى مجموعا.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
أي في ذلك المذكور من تسخير البحر وتسخير ما في السماوات والأرض دلائل على تفرد الله بالإلهية فهي وإن كانت مننا يحق أن يشكرها الناس فأنها أيضا دلائل إذا تفكر فيها المنعم عليهم اهتدوا بها، فحصلت لهم منها ملائمات جسمانية ومعارف نفسانية، وبهذا الاعتبار كانت في عداد الآيات المذكورة قبلها من قوله {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3] وإنما أخرت عنها لأنها ذكرت في معرض الامتنان بأنها نعم، ثم عقبت بالتنبيه على أنها أيضا دلائل على تفرد الله بالخلق.
وأوثر التفكر بالذكر في آخر صفات المستدلين بالآيات، لأن الفكر هو منبع الإيمان والإيقان والعلم المتقدمة في قوله {لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3 ]{آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 4] {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5]

[15,14] {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}
إن كانت هذه متصلة بالآي التي قبلها في النزول ولم يصح ما روي عن ابن عباس في سبب نزولها فمناسبة وقعها هنا أن قوله {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} إلى قوله {لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية: 7-11] يثير غضب المسلمين على المستهزئين بالقرآن وقد أخذ المسلمون يعتزون بكثرتهم فكان ما ذكر من استهزاء المشركين بالقرآن واستكبارهم عن سماعه يتوقع منه أن يبطش بعض المسلمين ببعض المشركين، ويحتمل أن يكون بدر من بعض المسلمين غضب أو توعد وان الله علم ذلك من بعضهم.
قال القرطبي والسدي: نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة أصابهم أذى شديد من المشركين فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله بالتجاوز عن ذلك لمصلحة في استبقاء الهدوء بمكة والمتاركة بين المسلمين والمشركين ففي ذلك مصالح جمة من شيوع القرآن بين أهل مكة وبين القبائل النازلين حولها فإن شيوعه لا يخلو من أن يأخذ بمجامع قلوبهم بالرغم على ما يبدونه من إعراض واستكبار واستهزاء فتتهيأ نفوسهم إلى الدخول في الدين عند زوال ممانعة سادتهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبعد استئصال صناديد قريش يوم بدر. وقد تكرر في القرآن مثل هذا من الأمر بالصفح عن المشركين والعفو عنهم والإعراض عن أذاهم، ولكن كان أكثر الآيات أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم في نفسه وكانت هذه أمرا له بأن يبلغ للمؤمنين ذلك، وذلك يشعر بأن الآية نزلت في وقت كان المسلمون قد كثروا فيه وأحسوا بعزتهم. فأمروا بالعفو وأن يكلوا أمر نصرهم إلى الله تعالى، وإن كانت نزلت على سبب خاص عرض في أثناء نزول السورة فمناسبتها لأغراض السورة واضحة لأنها تعليم لما يصلح به مقام المسلمين بمكة بين المضادين لهم واحتمال ما يلاقونه من صلفهم وتجبرهم إلى أن يقضي الله بينهم.
وقد روي في سبب نزولها أخبار متفاوتة الضعف، فروى مكي ابن أبي طالب أن رجلا من المشركين شتم عمر بن الخطاب فهم أن يبطش به قال ابن العربي وهذا لم يصح. وفي الكشاف أن عمر شتمه رجل من غفار فهم أن يبطش به فنزلت. وعن سعيد بن المسيب كنا بين يدي عمر بن الخطاب فقرأ قارئ هذه الآية فقال عمر: ليجزي عمر بما صنع يعني أنه سبب نزول الآية. وروى الواحدي والقشيري عن ابن عباس: أنها نزلت في غزوة بني المصطلق: نزلوا على بئر يقال لها: المريسع فأرسل عبد الله بن أبي

غلامه ليستقي من البئر فأبطأ، فلما أتاه قال: ما حسبك. قال غلام عمر: قعد على فم البئر فما ترك أحدا يسقي حتى ملأ قرب المنبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر وملأ لمولاه، فقال عبد الله بن أبي: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك فهم عمر بن الخطاب بقتله، فنزلت.
وروى بن مهران عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] الآية قال فنحاص اليهودي: احتاج رب محمد، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه فنزلت الآية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه فلما جاء قال: ضع سيفك. وهاتان روايتان ضعيفتان ومن أجلهما روي عن عطاء وقتادة وابن عباس أن هذه الآية مدنية.
وأقرب هذه الأخبار ما قاله مكي بن أبي طالب. ولو صحت ما كان فيه ما يفكك انتظام الآيات سواء صادف نزولها تلك الحادثة أو أمر الله بوضعها في هذا الموضع.
وجزم {يغفروا} على تقدير لام الأمر محذوفا، أي قل لهم ليغفروا، أو هو مجزوم في جواب {قل} ، والمقول محذوف دل عليه الجواب. والتقدير: قل للذين آمنوا اغفروا يغفروا. وهذا ثقة بالمؤمنين أنهم إذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم امتثلوا. والوجهان يتأتيان في مثل هذا التركيب كلما وقع في الكلام، وقد تقدم عند قوله تعالى {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} في سورة إبراهيم.[31]
و {لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} يراد بهم المشركون من أهل مكة.
والرجاء: ترقب وتطلب الأمر المحبوب، وهذا أشهر اطلاقاته وهو الظاهر في هذه الآية.
والأيام: جمع يوم، وهذا الجمع أو مفرده إذا أضيف إلى اسم أحد أو قوم أو قبيلة كان المراد به اليوم الذي حصل فيه لمن أضيف هو إليه نصر وغلب على معاند أو مقاتل، ومنه أطلق على أيام القتال المشهورة بين قبائل العرب: أيام العرب، أي التي كان فيها قتال بين قبائل منهم فانتصر بعضهم على بعض، كما يقال أيام عبس، وأيام داحس والغبراء، وأيام البسوس، قال عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غر طوال ... عصينا الملك فيها إن ندينا
فإذا قالوا: أيام يني فلان، أرادوا الأيام التي انتصر فيها من أضيفت الأيام إلى اسمه، ويقولون: أيام بني فلان على بني فلان فيريدون أن المجرور بحرف الاستعلاء

مغلوب لتضمن لفظ {أيام} أو"يوم" معنى الانتصار والغلب. وبذلك التضمن كان المجرور متعلقا بلفظ {أيام} أو"يوم" وإن كان جامدا، فمعنى {أَيَّامَ اللَّهِ} على هذا هو من قبيل قولهم: أيام بني فلان، فيحصل من محمل الرجاء على ظاهر استعماله.
ومحمل {أَيَّامَ اللَّهِ} على محمل أمثاله أن معنى الآية للذين لا تترقب نفوسهم أيام نصر الله، أي نصر الله لهم: إما لأنهم لا يتوكلون على الله ولا يستنصرونه بل توجههم إلى الأصنام، وإما لأنهم لا يخطر ببالهم إلا أنهم منصورون بحولهم وقوتهم فلا يخطر ببالهم سؤال نصر الله أو رجاؤه وهم معروفون بهذه الصلة بين المسلمين فلذلك أجريت عليهم هنا وعرفوا بها.
وأوثر تعريفهم بهذه الصلة ليكون في ذلك تعريض بأن الله ينصر الذين يرجون أيام نصره وهم المؤمنون. والغرض من هذا التعريض الإيماء بالموصول إلى وجه أمر المؤمنين أن يغفروا للمشركين ويصفحوا عن أذى المشركين ولا يتكلفوا الانتصار لأنفسهم لأن الله ضمن لهم النصر.
وقد يطلق {أَيَّامَ اللَّهِ} في القرآن على الأيام التي حصل فيها فضله ونعمته على قوم، وهو أحد تفسيرين لقوله تعالى {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [ابراهيم: 5].
ومعنى {لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} على هذا التأويل أنهم في شغل عن ترقب نعم الله بما هم فيه من إسناد فعل الخير إلى أصنامهم بانكبابهم على عبادة الأصنام دون عبادة الله ويأتي في هذا الوجه من التعريض والتحريض مثل ما ذكر في الوجه الأول لأن المؤمنين هم الذين يرجون نعمة الله. وفسر به قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان: 21] وقوله { مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13]، فيكون المراد ب {أَيَّامَ اللَّهِ} : أيام جزائه في الآخرة لأنها أيام ظهور حكمه وعزته فهي تقارب الأيام بالمعنى الأول، ومنه قوله تعالى {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} [النبأ: 39]، أي ذلك يوم النصر الذي يحق أن يطلق عليه "يوم" فيكون معنى هذه الآية: أنهم لا يخافون تمكن الله من عقابهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث.
ومعنى الآية أن المؤمنين أمروا بالعفو عن أذى المشركين وقد تكرر ذلك في القرآن قال تعالى {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد في هذه الآية وكان التبيء صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى

وقوله {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} تعليل للأمر المستفاد من قوله {يغفروا} أي ليغفروا ويصفحوا عن أذى المشركين فلا ينتصروا لأنفسهم ليجزيهم الله على إيمانهم وعلى ما أوذوا في سبيله فإن الانتصار للنفس توفية للحق وماذا عساهم يبلغون من شفاء أنفسهم بالتصدي للانتقام من المشركين على قلتهم وكثرة أولئك فإذا توكلوا على نصر ربهم كان نصره لهم أتم وأخضد لشوكة المشركين كما قال نوح {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] وهذا من معنى قوله تعالى {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] وكان مقتضى الظاهر أن يقال ليجزيهم بما كانوا يكسبون. فعدل إلى الإظهار في مقام الإضمار ليكون لفظ {قوما} مشعرا بأنهم ليسوا بمضيعة عند الله فإن لفظ"قوم" مشعر بفريق له قوامه وعزته {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد11]
وتنكير {قوما} للتعظيم، فكأنه قيل: ليجزي أيما قوم، أي قوما مخصوصين. وهذا مدح لهم وثناء عليهم. ونحوه ما ذكر الطيبي عن ابن جني عن أبي علي الفارسي في قوله الشاعر:
أفآت بنو مروان ظلما دماءنا ... وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل
قال: أبو علي: هو تعالى أعرف المعارف وسماه الشاعر: حكما عدلا وأخرج اللفظ مخرج التنكير، ألا ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف ا ه. والأظهر أن {قوما} مراد به الإبهام وتنوينه للتنكير فقط.
والمعنى: ليجزي الله كل قوم بما كانوا يكسبون من خير أو شر بما يناسب كسبهم فيكون وعيدا للمشركين المعتدين على المؤمنين ووعدا للمؤمنين المأمورين بالصفح والتجاوز عن أذى المشركين، وهذا وجه عدم تعليق الجزاء بضمير الموقنين لأنه أريد العموم فليس ثمة إظهار في مقام الإضمار ويؤيد هذا قوله {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [الجاثية: 15]. وهذا كالتفصيل للإجمال الذي في قوله {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف على سابقتها، وتقدم نظيره في سورة فصلت. وقرأ الجمهور {لِيَجْزِيَ قَوْماً} بتحتية في أوله، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة في قوله {أَيَّامَ اللَّهِ} وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بنون العظمة في أوله على الالتفات. وقرأه أبو جعفر بتحية في أوله مضمومة وبفتح الزاي على البناء للجمهول ونصب {قوما} . وتأويلها أن نائب الفاعل مصدر مأخوذ من فعل {يجزي} . والتقدير: ليجزي الجزاء. و {قوما} مفعول ثان لفعل "يجزى" من باب كسا وأعطى.

وليس هذا من إنابة المصدر الذي هو مفعول مطلق وقد منعه نحاة البصرة بل جعل المصدر مفعولا أول من باب أعطى وهو في المعنى مفعول ثان لفعل جزى، وإنابة المفعول الثاني في باب كسا وأعطى متفق على جوازه وإن كان الغالب إنابة المفعول الأول كقوله تعالى {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [لنجم:41]
وقوله {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي بعد الأعمال في الدنيا تصيرون إلى حكم الله تعالى فيجازيكم على أعمالكم الصالحة والسيئة بما يناسب أعمالكم.
وأطلق على المصير إلى حكم الله أنه رجوع إلى الله على طريقة التمثيل بحال من كان بعيدا عن سيده أو أميره فعمل ما شاء ثم رجع إلى سيده أو أميره فإنه يلاقي جزاء ما عمله، وقد تقدمت نظائره.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17]
الوجه أن يكون سوق خبر بني إسرائيل هنا توطئة وتمهيدا لقوله بعده {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18] أثار ذلك ما تقدم من قوله {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ}إلى قوله {اتَّخَذَهَا هُزُواً} [الجاثية: 9] ثم قوله {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] فكان المقصد قوله {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} ولذلك عطفت الجملة بحرف {ثم} الدال على التراخي الرتبي، أي على أهمية ما عطف بها.
ومقتضى ظاهر النظم أن يقع قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ} الآيتين بعد قوله {جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} [الجاثية: 18] فيكون دليلا وحجة له فأخرج النظم على خلاف مقتضى الظاهر فجعلت الحجة تمهيدا قصدا للتشويق لما بعده، وليقع ما بعده معطوفا ب {ثم} الدالة على أهمية ما بعدها.
وقد عرف من تورك المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم في شأن القرآن ما حكاه الله عنهم في قوله {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48] وقولهم { لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32]، فمن أجل ذلك وقع هذا بعد قوله {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} إلى قوله {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً} [الجاثية:

7-9] وقوله {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] فالجملة معطوفة على تلك الجمل.
وأدمج في خلالها ما اختلف فيه بنو إسرائيل على ما دعتهم إليه شريعتهم، لما فيه من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة قومه دعوته تنظيرا في أصل الاختلاف دون أسبابه وعوارضه.
ولما كان في الكلام ما القصد منه التسلية والاعتبار بأحوال الأمم حسن تأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق، فمصب هذا التحقيق هو التفريع الذي في قوله {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الجاثية: 17} تأكيدا للمؤمنين بأن الله يقضي بينهم وبين المشركين كشأنه فيما حدث بين بني إسرائيل.
وقد بسط في ذكر النظير من بني إسرائيل من وصف حالهم حينما حدث الاختلاف بينهم، ومن التصريح بالداعي للاختلاف بينهم ما طوي من مثل بعضه من حال المشركين حين جاءهم الإسلام فاختلفوا مع أهله إيجازا في الكلام للاعتماد على ما يفهمه السامعون بطريق المقايسة على أن أكثره قد وقع تفصيله في الآيات السابقة مثل قوله {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} وقوله {هَذَا هُدىً} [الجاثية: 11]، فإن ذلك يقابل قوله هنا {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} ومثل قوله {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجاثية: 13] فإنه يقابل قوله هنا {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} ومثل قوله {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} إلى {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} فإنه يقابل قوله هنا {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} ومثل قوله {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] فإنه مقابل قوله هنا {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
و {الكتاب} : التوراة.
و {الحكم} يصح أن يكون بمعنى الحكمة، أي الفهم في الدين وعلم محاسن الأخلاق كقوله تعالى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم: 12] يعني يحيى، ويصح أن يكون بمعنى السيادة، أي أنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم ولا تحكمهم أمة أخرى كقوله تعالى {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} [المائدة: 20] والنبوة أن يقوم فيهم أنبياء. ومعنى إيتائهم هذه الأمور الثلاثة: إيجادها في الأمة وإيجاد القائمين بها لأن نفع ذلك عائد على الأمة جمعاء فكان كل فرد من الأمة كمن أوتي تلك الأمور.

وأما رزقهم من الطيبات فبأن يسر لهم امتلاك بلاد الشام التي تفيض لبنا وعسلا كما في التوراة في وعد إبراهيم والتي تجبى إليها ثمرات الأرضين المجاورة لها وترد عليها سلع الأمم المقابلة لها على سواحل البحر فتزخر مراسيها بمختلف الطعام واللباس والفواكه والثمار والزخارف، وذلك بحسن موقع البلاد من بين المشرق برا والمغرب بحرا. و {الطيبات} : هي التي تطيب عند الناس وتحسن طعما ومنظرا ونفعا وزينة. وأما تفضيلهم على العالمين فبأن جمع الله لهم بين استقامة الدين والخلق، وبين حكم أنفسهم بأنفسهم، وبث أصول العدل فيهم، وبين حسن العيش والأمن والرخاء، فإن أمما أخرى كانوا في بحبوحة من العيش ولكن ينقص بعضها استقامة الدين والخلق، وبعضها عزة حكم النفس وبعضها الأمن بسبب كثرة الفتن.
والمراد ب {العالمين} : أمم زمانهم وكل ذلك إخبار عما مضى من شأن بني إسرائيل في عنفوان أمرهم لا عما آل إليه أمرهم بعد أن اختلفوا واضمحل ملكهم ونسخت شريعتهم.
و {بينات} صفة نزلت منزلة الجامد، فالبينة: الحجة الظاهرة، أي آتيناهم حججا، أي علمناهم بواسطة كتبهم وبواسطة علمائهم حجج الحق والهدى التي من شأنها أن لا تترك للشك والخطأ إلى نفوسهم سبلا إلا سدتها.
و {الأمر} : الشأن كما في قوله {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] والتعريف في {الأمر} للتعظيم، أي من شؤون عظيمة، أي شأن الأمة وما به قوام نظامها إذ لم يترك موسى والأنبياء من بعده شيئا مهما من مصالحهم إلا وقد وضحوه وبينوه وحذروا من الالتباس فيه.
و {من} في قوله {من الأمر} بمعنى "في" الظرفية فيحصل من هذا أن معنى {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} : علمناهم حججا وعلوما في أمر دينهم ونظامهم بحيث يكونون على بصيرة في تدبير مجتمعهم وعلى سلامة من مخاطر الخطأ والخطل. وفرع على ذلك قوله {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} تفريع إدماج لمناسبته للحالة التي أريد تنظيرها. وتقدير الكلام: فاختلفوا وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، فحذف المفرع لدلالة ما بعده عليه على طريقة الإيجاز إذ المقصود هو التعجيب من حالهم كيف اختلفوا حين لا مظنة للاختلاف إذ كان الاختلاف بينهم بعدما جاءهم العلم المعهود بالذكر آنفا من الكتاب والحكم والنبوة والبينات من الأمر، ولو اختلفوا قبل ذلك لكان

لهم عذر في الاختلاف وهذا كقوله تعالى {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] وهذا الكلام كناية عن عدم التعجيب من اختلاف المشركين مع المؤمنين حيث أن المشركين ليسوا على علم ولا هدى ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملطوف به في رسالته.
والبغي: الظلم. والمراد: أن اختلافهم عن عمد ومكابرة بعضهم لبعض وليس عن غفلة أو تأويل، وهذا الظلم هو ظلم الحسد فإن الحسد من أعظم الظلم، أي فكذلك حال نظرائهم من المشركين ما اختلفوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بغيا منهم عليه مع علمهم بصدقه بدلالة إعجاز القرآن لفظا ومعاني.
وانتصب {بغيا} أما على المفعول لأجله، وإما على الحال بتأويل المصدر باسم الفاعل، وعلى كلا الوجهين فالعامل فيه فعل {اختلفوا} ، وإن كان منفيا في اللفظ لأن الاستثناء أبطل النفي إذ ما أريد إلا نفي أن يكون الاختلاف في وقت قبل أن يحثهم العلم فلما استفيد ذلك بالاستثناء صار الاختلاف ثابتا وما عدا ذلك غير منفي.
وجملة {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن خبرهم العجيب يثير سؤالا في نفس سامعه عن جزاء الله إياهم على فعلهم، وهذا جواب فيه إجمال لتهويل ما سيقضى به بينهم في الخير والشر لأن الخلاف يقتضي محقا ومبطلا.
ونظير هذه الآية قوله تعالى {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:93]
[19,18] {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}
{ثم} للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، ولولا إرادة التراخي الرتبي لكانت الجملة معطوفة بالواو. وهذا التراخي يفيد أن مضمون الجملة المعطوفة بحرف {ثم} أهم من مضمون الجملة المعطوف عليها أهمية الغرض على المقدمة والنتيجة على الدليل. وفي هذا التراخي تنويه بهذا الجعل وإشارة إلى أنه أفضل من إيتاء بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة والبينات من الأمر، فنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه وحكمه وبيناته

أفضل وأهدى مما أوتيه بنو إسرائيل من مثل ذلك.
و {على} للاستعلاء المجازي، أي التمكن والثبات على حد قوله تعالى { أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]
وتنوين {شريعة} للتعظيم بقرينة حرف التراخي الرتبي.
والشريعة: الدين والملة المتبعة، مشتقة من الشرع وهو: جعل طريق للسير، وسمي النهج شرعا تسمية بالمصدر. وسميت شريعة الماء الذي يرده الناس شريعة لذلك، قال الراغب: استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيها بشريعة الماء قلت: ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير.
و {الأمر} : الشأن، وهو شأن الدين وهو شأن من شؤون الله تعالى، قال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، فتكون {من} تبعيضية وليست كالتي في قوله آنفا {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} [الجاثية: 17] لأن إضافة {شريعة} إلى {الأمر} تمنع من ذلك.
وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغا عظيما إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى، وأنها شريعة عظيمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدأب في بيانها والدعوة إليها. ولذلك فرع عليه أمره باتباعها بقوله {فاتبعها} أي دم على اتباعها، فالأمر لطلب الدوام مثل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136].
وبين قوله {فاتبعها} وقوله {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} محسن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر.
و {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} هم المشركون وأهواؤهم دين الشرك قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]
والأهواء: جمع هوى، وهو المحبة والميل. والمعنى: أن دينهم أعمال أحبوها لم يأمر الله بها ولا اقتضتها البراهين.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود منه: إسماع المشركين لئلا يطمعوا بصانعة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم حين يرون منه الإغضاء عن هفواتهم وأذاهم وحين يسمعون في القرآن بالصفح عنهم كما في الآية السالفة {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] وفيه أيضا تعريض للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون. وعن ابن عباس أنها نزلت لما دعته قريش إلى دين آبائه قال البغوي: كانوا يقولون له: ارجع

إلى دين آبائك فإنهم أفضل منك.
وجملة {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} تعليل للنهي عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، ويتضمن تعليل الأمر باتباع شريعة الله فإن كونهم لا يغنون عنه من الله شيئا يستلزم أن في مخالفة ما أمر الله من اتباع شريعته ما يوقع في غضب الله وعقابه فلا يغني عنه اتباع أهوائهم من عقابه.
والإغناء: جعل الغير غنيا، أي غير محتاج، فالآثم المهدد من قدير غير غني عنه الذي يعاقبه ولو حماه من هو كفء لمهدده أو أقدر منه لأغناه عنه وضمن فعل الإغناء معنى الدفع فعدي ب"عن". وانتصب {شيئا} على المفعول المطلقن و {من الله} صفة ل {شيئا} . و {من} بمعنى بدل، أي لن يغنوا عنك بدلا من عذاب الله، أي قليلا من الإغناء البديل من عقاب الله فالكلام على حذف مضاف، وتقدم عند قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} في آل عمران [10].
وعطف على هذا التعليل تعليل آخر وهو {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } أي إنهم ظالمون وأنت لست من الظالمين في شيء فلا يجوز أن تتبعهم في شيء وإنما يتبعهم من هم أولياؤهم. وذيل ذلك بقوله {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} وهو يفيد أن النبيء صلى الله عليه وسلم الله وليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول المتقين.
[20] {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} إن كانت الإشارة إلى الكلام المتقدم وما فيه من ضرب المثل بموسى وقومه ومن تفضيل شريعة محمد على شريعة موسى عليهما الصلاة والسلام والأمر بملازمة اتباعها والتحذير من اتباع رغائب الذين لا يعلمون، فهذه الجملة بمنزلة التذييل لما قبلها والتهيئة لأغراضها تنبيها لما في طيها من عواصم عن الشك والباطل بمنزلة قوله تعالى بعد عدة آيات في آخر سورة الأحقاف [35] 1 {بلاغ} ، وقوله في سورة الأنبياء[106,105] {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ}
وإن كانت الإشارة إلى القرآن إذ هو حاضر في الأذهان كانت الجملة استئنافا أعيد
ـــــــ
1 في المطبوعة "الفتح" وهو خطأ.

بها التنويه بشأن القرآن ومتبعيه والتعريض بتحميق الذين أعرضوا عنه، وتكون مفيدة تأكيد قوله آنفا {هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية:11]وتكون الجملة المتقدمة صريحة في وعيد الذين كفروا بآياته وهذه تعريضا بأنهم لم يحظوا بهذه البصائر، وكلا الاحتمالين رشيق، وكل بأن يكون مقصودا حقيق.
و {بصائر} : جمع بصيرة وهي إدراك العقل الأمور على حقائقها، شبهت ببصر العين، وفرق بينهما بصيغة فعلية للمبالغة قال تعالى {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} في سورة يوسف.[108] وقال {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} في سورة الإسراء [102] وقوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} في سورة القصص [43].
ووصف الآيات السابقة أو القرآن بالبصائر مجاز عقلي لأن ذلك سبب البصائر. وجمع البصائر: إن كانت الإشارة إلى القرآن باعتبار المتبصرين بسببه كما اقتضاه قوله {للناس} لأن لكل أحد بصيرته الخاصة فهي أمر جزئي بالتبع لكون صاحب كل بصيرة جزئيا مشخصا فناسب أن تورد جمعا، فالبصيرة: الحاسة من الحواس الباطنة، وهذا بخلاف إفراد {هُدىً وَرَحْمَةً} لأن الهدى والرحمة معنيان كليان يصلحان للعدد الكثير قال تعالى {هُدىً لِلنَّاسِ} [آل عمران: 4] وقال {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الانبياء:107] وإنما كان هدى لأنه طريق نفع لمن اتبع إرشاده فاتباعه كالاهتداء للطريق الموصلة إلى المقصود. وإنما كان رحمة لأن في اتباع هديه نجاح الناس أفرادا وجماعات في الدنيا لأنه نظام مجتمعهم ومناط أمنهم، وفي الآخرة لأنه سبب نوالهم درجات النعيم الأبدي. وكان بصائر لأنه يبين للناس الخير والشر ويحرضهم على الخير ويحذرهم من الشر ويعدهم على فعل الخير ويوعدهم على فعل الشرور فعمله عمل البصيرة.
وجعل البصائر للناس لأنه بيان للناس عامة وجعل الهدى والرحمة لقوم يوقنون لأنه لا يهتدي ببيانه إلا الموقن بحقيقته ولا يرحم به إلا من اتبعه المؤمن بحقيته.
وذكر لفظ "قوم" للإيماء إلى أن الإيقان متمكن من نفوسهم كأنه من مقومات قوميتهم التي تميزهم عن أقوام آخرين.
والإيقان: العلم الذي لا يتردد فيه صاحبه. وحذف متعلقه لأنه معلوم بما جاءت به آيات الله.

[21] { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]
انتقال من وصف تكذيبهم بالآيات واستهزائهم بها ثم من أمر المؤمنين بالصفح عنهم وإيكال جزاء صنائعهم إلى الله ثم من التثبيت على ملازمة الشريعة الإسلامية إلى وصف صنف آخر من ضلالهم واستهزائهم بالوعد والوعيد وإحالتهم الحياة بعد الموت والجزاء على الأعمال وتخييلهم للناس أنهم يصيرون في الآخرة، على الحال التي كانوا عليها في الدنيا، عظيمهم في الدنيا عظيمهم في الاخرة، وضعيفهم في الدنيا ضعيفهم في الآخرة، وهذا الانتقال رجوع إلى بيان قوله {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية:15]
فحرف {أم} للإضراب الانتقالي، والاستفهام الذي يلزم تقديره بعد {أم} استفهام إنكاري، والتقدير: لا يحسب الذين اجترحوا السيئات أنهم كالذين آمنوا لا في الحياة ولا في الممات.
و {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} في نقل عن ابن عباس: أنهم المشركون كما يؤذن به الانتقال من الغرض السابق إلى هذا الغرض وإنما عبر عنهم بهذا العنوان لما في الصلة من تعليل إنكار المشابهة والمساواة بينهم وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله في عالم الخلد ولأن اكتساب السيئات من شعار أهل الشرك إذ ليس لهم دين وازع يزعهم عن السيئات ولا هم مؤمنون بالبعث والجزاء، فيكون إيمانهم به مرغبا في الجزاء، ولذلك كثر في القرآن الكناية عن المشركين بالتلبس بالسيئات كقوله {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} إلى قوله {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1-5] وكقوله {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 42-46] وقوله {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1-3] ونظيره {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، فإن ذلك حال الكفار، وأما المؤمن العاصي فلا تبلغ به حاله أن يحسب أنه مفلت من قدرة الله. قيل: نزلت في قوم من المشركين. قال البغوي: نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين: لئن كان ما تقولون حقا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا. وعن الكلبي: أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة قالوا لعلي وحمزة وبعض المسلمين: والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقا أي إن كان البعث حقا لحالنا أفضل من حالكم

في الآخرة كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا. وتأويل نزول هذه الآية على هذا السبب أن حدوث قول هؤلاء النفر صادف وقت نزول هذه الآيات من السورة أو أن قولهم هذا متكرر فناسب تعرض الآية له حقه.
ونزول الآية على هذا السبب لإبطال كلامهم في ظاهر حاله وإن كانوا لم يقولوه عن اعتقاد وإنما قالوه استهزاء، لئلا يروج كلامهم على دهمائهم والحديثين في الإسلام لأن شأن التصدي للإرشاد أن لا يغادر مغمزا لرواج الباطل إلا سده، كما في قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم: 78,77] وله نظائر في القرآن.
وزاد القرطبي في حكاية كلام الكلبي أنهم قالوه حين برزوا لهم يوم بدر، وهو لا يستقيم لأن السورة مكية ولم ينقل عن أحد استثناء هذه الآية منها.
والاجتراح: الاكتساب، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة، وهو مشتق من الجرح فأطلق على اكتساب السباع ونحوها، ولذلك سميت كلاب الصيد جوارح وسمي به اكتساب الناس لأن غالب كسبهم في الجاهلية كان من الإغارة على إبل القوم وهي بالرماح، قالت أم رزع: فنكحت بعده رجلا سريا، ركب شريا، وأخذ خطبا وأراح علي نعما ثريا ، ولذلك غلب إطلاق الاجتراح على اكتساب الإثم والخبيث.
وظاهر تركيب الآية أن قوله {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} داخل في الحسبان المنكور فيكون المعنى: إنكار أن يستوي المشركون مع المؤمنين لا في الحياة ولا بعد الممات، فكما خالف الله بين حاليهم في الحياة الدنيا فجعل فريقا كفرة مسيئين وفريقا مؤمنين محسنين، فكذلك سيخالف بين حاليهم في الممات فيموت المشركون على اليأس من رحمة الله إذ لا يوقنون بالبعث ويلاقون بعد الممات هول ما توعدهم الله به، ويموت المؤمنون رجاء رحمة الله والبشرى بما وعدوا به ويلاقون بعد الممات ثواب الله ورضوانه.
وقرأ الجمهور {سواء} مرفوعا فيكون موقع جملة {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ} موقع البدل من كاف التشبيه التي هي بمعنى مثل على ما ذهب إليه صاحب الكشاف يريد أنه بدل مطابق لأن الجملة تبدل من المفرد على الأصح، والبدل المطابق هو عطف البيان عند التحقيق، فيكون جملة {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} بيان ما حسبه المشركون. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف منصوبا، فلفظ {سواء} وحده بدل من كاف المماثلة، بدل مفرد من مفرد أو حال من ضمير النصب في {نجعلهم} وهذا لأن

المشركين قالوا للمسلمين: سنكون بعد الموت خيرا منكم كما كنا في الحياة خيرا منكم.
فضمير {محياهم} وضمير {مماتهم} عائدان لكل من الذين اجترحوا السيئات والذين أمنوا على التوزيع، أي محيا كل مساو لمماته، أي لا يتبدل حال الفريقين بعد الممات بل يكونون بعد الممات كما كانوا في الحياة غير أن موقع كاف التمثيل في قوله {كَالَّذِينَ آمَنُوا} ليس واضح الملاقاة لحسبان المشركين المسلط عليه الإنكار لأنهم إنما حسبوا أن يكونوا بعد الممات على تقدير وقوع البعث أحسن حالا من المؤمنين لا أن يكونوا مثل المؤمنين لأنهم قالوا ذلك في مقام التطاول على المؤمنين، وإرادة إفحامهم بسفسطتهم. فبنا أن نبين موقع هذا الكاف في الآية.
والذي أرى: أن موقعه الإيماء إلى أن الله قدر للمؤمنين حسن الحال بعد الممات حتى صار ذلك المقدر مضرب الأمثال ومناط التشبيه، وإلى أن حسبان المشركين أنفسهم في الآخرة على حالة حسنة باطل، فعبر عن حسبانهم الباطل بأنهم أثبتوا لأنفسهم في الآخرة الحال التي هي حال المؤمنين، أي حسب المشركون بزعمهم أن يكونوا بعد الموت في حالة إذا أراد الواصف أن يصفها وصفها بمشابهة حال المؤمنين في عند الله وفي نفس الأمر، وليس المراد أن المشركين مثلوا حالهم بحال المؤمنين فيؤول قوله {كَالَّذِينَ آمَنُوا} إلى حكاية الكلام المحكي بعبارة تساويه لا بعبارة قائلة، وذلك مما يتوسع فيه في حكاية الأقوال كقوله تعالى حكاية عن عيسى {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] فإن ما أمره الله به: أن اعبدوا الله ربك وربهم، وذلك من خلاف مقتضى الظاهر دعا الله هنا قصد التنويه بالمؤمنين والعناية بزلفاهم عند الله، فكأنه قيل: احسبوا أن نجعلهم في حالة حسنة ولكن هذا المأمول في حسبانهم هو في نفس الأمر حال المؤمنين لا حالهم. فأوجز الكلام، وفهم السامع يبسطه. والمواجه بهذا الكلام هم النبي والمؤمنون تكملة للغرض المبدأ به في قوله {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] على أن لك أن تجعل قوله تعالى {كَالَّذِينَ آمَنُوا} معترضا بين مفعولي {نجعل} وهما ضميرا الغائبين وجملة {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ} أو ولفظ {سواء} في قراءة نصبه فلا يكون مرادا إدخاله في حسبان المشركين.
ويجوز على هذا أن يكون قوله {كَالَّذِينَ آمَنُوا} تهكما على المشركين في حسبانهم تأكيدا للإنكار عليهم.
ومن خلاف ظاهر التركيب ما قيل: إن مدلول {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} ليس من

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68