كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

وقوله: {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} تفريع على الوعيد بشأن ذم جهنم.
[9 ]{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
خطاب للمنافقين الذين يظهرون الإيمان فعاملهم الله بما أظهروه وناداهم بوصف الذين آمنوا كما قال: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ َلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُم} [المائدة: 41] ومنه ما حكاه الله عن المشركين {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] أي يا أيها الذي نزل عليه الذكر بزعمه، ونبههم إلى تدارك حالهم بالإقلاع عن آثار النفاق على عادة القرآن من تعقيب التخويف بالترغيب. فالجملة استئناف ابتدائي.
ذلك أن المنافقين كانوا يعملون بعمل أهل الإيمان إذا لقوا الذين آمنوا فإذا رجعوا إلى قومهم غلب عليهم الكفر فكانوا في بعض أحوالهم مقاربين الإيمان بسبب مخالطتهم للمؤمنين. ولذلك ضرب الله لهم مثلا بالنور في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ثم قوله: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20]. وهذا هو المناسب لقوله تعالى: {فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} ، ويكون قوله: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا} تنبيها على ما يجب عليهم إن كانوا متناجين لا محالة.
ويجوز أن تكون خطابا للمؤمنين الخلص بأن وجه الله الخطاب إليهم تعليما لهم بما يحسن من التناجي وما يقبح منه بمناسبة ذم تناجي المنافقين فلذلك ابتدئ بالنهي عن مثل تناجي المنافقين وإن كان لا يصدر مثله من المؤمنين تعريضا بالمنافقين، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156] ويكون المقصود من الكلام هو قوله: {تَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} تعليما للمؤمنين.
والتقييد بـ {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} يشير إلى أنه لا ينبغي التناجي مطلقا ولكنهم لما اعتادوا التناجي حذروا من غوائله، وإلا فإن التقييد مستغنى عنه بقوله: لا تتناجوا بالإثم والعدوان وهذا مثل ما وقع حديث النهي عن الجلوس في الطرقات من قوله صلى الله عليه سلم: "فإن كنتم فاعلين لا محالة فاحفظوا حق الطرقات" وقرأ الجمهور {فلا تَتَنَاجَوْا} بصيغة التفاعل. وقرأه رويس عن يعقوب وحده {فَلا

تَتَنتجَوْا} بوزن تنتهوا.
والمر من قوله: {وتناجوا بالبر} مستعمل في الإباحة كما اقتضاه قوله تعالى: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} .
والإثم والعدوان ومعصية الرسول تقدمت. وأما البر فهو ضد الإثم والعدوان وهو يعم أفعال الخير المأمور بها في الدين.
{والتقوى} : الامتثال، وتقدمت في قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} في سورة البقرة [2.]
وفي قوله: {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تذكير بيوم الجزاء. فالمعنى: الذي إليه تحشرون فيجازيكم.
[10] {إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
تسلية للمؤمنين وتأنيس لنفوسهم يزال به ما يلحقهم من الحزن لمشاهدة نجوى المنافقين لاختلاف مذاهب نفوسهم إذا رأوا المتناجين في عديد الظنون والتخوفات كما تقدم. فالجملة استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة النهي عن النجوى، على أنها قد تكون تعليلا لتأكيد النهي عن النجوى.
والتعريف في {النجوى} تعريف العهد لا محالة. أي نجوى المنافقين الذين يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة و {من} ابتدائية، أي قصر النجوى على الكون من الشيطان، أي جائية لأن الأغراض التي يتناجون فيها من أكبر ما يوسوس الشيطان من أهل الضلالة بأن يفعلوه ليحزن الذين آمنوا بما يتطرقهم من خواطر الشر بالنجوى، وهذه العلة ليست قيدا في الحصر فإن للشيطان عللا أخرى مثل إلقاء المتناجين في الضلالة، والاستعانة بهم على إلقاء الفتنة، وغير ذلك من الأغراض الشيطانية.
وقد خصت هذه العلة بالذكر لأن المقصود تسلية المؤمنين وتصبرهم على أذى المنافقين ولذلك عقب بقوله: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً} ليطمئن المؤمنون بحفظ الله إياهم من ضر الشيطان. وهذا نحو قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [ الحجر: 42].

وقرأ نافع وحده {ليحزن} بضم الياء وكسر الزاي فيكون {الَّذِينَ آمَنُوا} مفعولا. وقرأه الباقون بفتح الياء وضم الزاي مضارع حزن فيكون {الَّذِينَ آمَنُوا} فاعلا وهما لغتان.
وجملة {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ} الخ معترضة.
وضمير الرفع المستتر في قوله: {بضارهم} عائد إلى {الشيطان}.
والمعنى: أن الشيطان لا يضر المؤمنين بالنجوى أكثر من أن يحزنهم. فهذا كقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران:111] أو عائد إلى النجوى بتاويله بالتناجي، أي ليس التناجي بضار المؤمنين لأن أكثره ناشئ عن إيهام حصول ما يتقونه في الغزوات.
وعلى كلا التقديرين فالاستثناء بقوله: {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} استثناء من أحوال. والباء للسببية، أي إلا في حال أن يكون الله قدر شيئا من المضرة من هزيمة أو قتل. والمراد بالإذن أمر التكوين.
وانتصب {شيئا} على المفعول المطلق، أي شيئا من الضر.
ووقوع {شيئا} وهو ذكره في سياق النفي يفيد عموم نفي كل ضر من الشيطان، أي انتفى كل شيء من ضر الشيطان عن المؤمنين، فيشمل ضر النجوى وضر غيرها، والاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} من عموم {شيئا} الواقع في سياق النفي، أي لا ضرا ملابسا لإذن الله في أن يسلط عليهم الشيطان ضره فيه، أي ضر وسوسته.
وأستعير الإذن لما جعله الله في أصل الخلقة من تأثر النفوس بما يسول إليها. وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] فإذا خلى الله بين الوسوسة وبين العبد يكون اقتراب العبد م المعاصي الظاهرة والباطنة في كل حالة يبتعد فيها المؤمن عن مراقبة الأمر والنهي الشرعيين. وهذا الضر هو المعبر عنه بالسلطان في قوله تعالى: في شأن الشيطان {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} أي فلك عليه سلطان. وهذه التصاريف الإلهية جارية على وفق حكمة الله تعالى وما يعلمه من أقوال عباده وسرائرهم وهو يعلم السر وأخفى.
ولهذا ذيل بقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} لأنهم إذا توكلوا على الله توكلا حقا بأن استفرغوا وسعهم في التحرز من كيد الشيطان واستعانوا بالله على تيسير ذلك لهم فإن الله يحفظهم من كيد الشيطان قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

ويجوز أن يكون عموم {شيئا} مرادا به الخصوص، أي ليس بضارهم شيئا مما يوهمه تناجي المنافقين من هزيمة أو قتل إلا بتقدير الله حصول هزيمة أو قتل.
والمعنى: أن التناجي يوهم الذين آمنوا ما ليس واقعا فأعلمهم الله أن لا يحزنوا بالنجوى لأن الأمور تجري على ما قدره الله بنفس الآمر حتى تأتيهم الأخبار الصادقة.
وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} للاهتمام بمدلول هذا المتعلق.
[11] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
فصل بين آيات الأحكام المتعلقة بالنجوى بهذه الآية مراعاة لاتحاد الموضوع بين مضمون هذه الآية ومضمون التي بعدها في أنهما يجمعهما غرض التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، تلك المراعاة أولى من مراعاة اتحاد سياق الأحكام.
ففي هذه الآية أدب في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، والآية التي بعدها تتعلق بالأدب في مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخر تلك عن آيات النجوى العامة إيذانا بفضلها دون النجوى التي تضمنتها الآيات السابقة، فاتحاد الجنس في نجوى هو ومسوغ الانتقال من النوع الأول إلى النوع الثاني، والإيماء إلى تميزها بالفضل هو الذي اقتضى الفصل بين النوعين بآية أدب المجلس النبوي.
وأيا قد كان للمنافقين نية مكر في قضية المجلس كما كان لهم نية مكر في النجوى، وهذا مما أنشأ مناسبة الانتقال من الكلام على النجوى إلى ذكر التفسح في المجلس النبوي الشريف.
روي عن مقاتل أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصفة، وكان في المكان ضيق في يوم الجمعة فجاء ناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس قد سبقوا في المجلس فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يفسح لهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر فقال لمن حوله: هم يا فلان بعدد الواقفين من أهل بدر فشق ذلك على الذين أقيموا، وغمز المنافقون وقالوا: ما أنصف هؤلاء، وقد أحبوا القرب من نبييهم فسبقوا إلى مجلسه فانزل

الله هذه الآية تطييبا لخاطر الذين أقيموا، وتعليما للأمة بواجب رعي فضيلة أصحاب الفضيلة منها، وواجب الاعتراف بمزينة أهل المزايا، قال الله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32]، وقال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
والخطاب بـ {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب لجميع المؤمنين يعم من حضروا المجلس الذي وقعت فيه حادثة سبب النزول وغيرهم ممن عسى أن يحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.
وابتدئت الآية بالأمر بالتفسح لأن إقامة الذين أقيموا إنما كانت لطلب التفسيح فإناطة الحكم إيماء إلى علة الحكم.
والتفسح: التوسع وهو تفعل من فسح له بفتح السين مخففة إذ أو جاء له فسحة في مكان وفسح المكان من باب كرم إذ صار فصيحا. ومادة التفعل هنا للتكلف، أي يكلف أن يجعل فسحة في المكان وذلك بمضايقة من الجلاس.
وتعريف {المجلس} يجوز أن يكون تعريف المهد، وهو مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، أي إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم لكم ذلك لأن أمره لا يكون إلا لمراعاة حق راجح إلى غيره والمجلس مكان الجلوس. وكان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم بمسجده لأكثر أن يكون جلوسه المكان المسمى بالروضة وهو ما بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وبيته.
ويجوز أن يكون تعريف {المجلس} تعريف الجنس. وقوله: {فْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} مجزوم في جواب قوله: {فافسحوا} ، وهو وعد بالجزاء على الامتثال لأمر التفسح من جنس الفعل إذ جعلت توسعة الله على الممتثل جزاء على امتثاله الذي هو إفساحه لغيره، فضمير {لكم} عائد على {الَّذِينَ آمَنُوا} باعتبار أن الذين يفسحون هم من جملة المؤمنين لأن الحكم مشاع بين جميع الأمة وإنما الجزاء للذين تعاق بهم الأمر تعلقا إلزاميا.
وحذف متعلق {يفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} ليعلم كل ما يتطلب الناس الإفساح فيه بحقيقته ومجازه في الدنيا والآخرة من مكان أو رزق أو جنة عرضها السماوات والأرض على حسب النيات، وتقديره الجزاء موكول إلى إرادة الله تعالى.
وحذف فاعل القول لظهوره، أي إذ قال لكم الرسول: تفسحوا فافسحوا، فإن الله يثيبكم على ذلك.

فالآية لا تدل إلا على الأمر بالتفسح إذ أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يستفاد منها أن تفسح المؤمنين بعضهم لبعض في المجالس محمود مأمور به وجوبا أو ندبا لأنه من المكارمة والإرفاق.فهو من مكملات واجب التحاب بين المسلمين وإن كان فيه كلفة على صاحب البقعة يضايقه فيها غيره. فهي كلفة غير معتبرة إذا قوبلت بمصلحة التحاب وفوائده، وذلك ما لم يفض إلى شدة مضايقة أو ومضرة أو إلى تفويت مصلحة من سماع أو نحوه مثل مجالس العلم و الحديث وصفوف الصلاة. وذلك قياس على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في أنه مجلس خير. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أحبكم إلي ألينكم مناكب في الصلاة" . قال مالك ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر. يريد أن هذا الحكم وإن نزل في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فهو شامل لمجالس المسلمين من مجالس الخير لأن هذا أدب ومؤاساة، فليس فيه قرينة الخصوصية بالمجالس النبوية، وأراد مالك ب" نحوها" كل مجلس فيه أمر مهم في شؤون الدين فمن حق المسلمين أن يحصروا على إعانة بعضهم بعضا على حضوره. وهذا قياس على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وعلته هي التعاون على المصالح.
وأفهم لفظ التفسح أنه تجنب للمضايقة والمراصة بحيث يفوت المقصود من حضور ذلك المجلس أو يحصل ألم للجالسين.
وقد أرخص مالك في التخلف عن دعوة الوليمة إذ كثر الزحام فيها.
وقرأ الجمهور {في المجلس} وقرأه عاصم بصيغة الجمع {فِي الْمَجَالِسِ} وعلى كلتا القراءتين يجوز كون اللام للعهد وكونها للجنس وأن يكون مجالس النبي صلى الله عليه وسلم كلما تكررت وأما يشمل جميع مجالس المسلمين وعلى كلتا القراءتين يصح الأمر في قوله تعالى: {فافسحوا} للوجوب أو للندب.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} الآية عطف على {ذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ}.
و {انشزوا} أمر من نشز إذا نهض من مكانه يقال: نشز ينشز من باب قعد وضرب إذا ارتفع لأن النهوض ارتفاع من المكان الذي استقر فيه ونشوز المرأة من زوجها مجازا عن بعدها عن مضجعها. والنشوز: أخص من التفسيح من وجه فهو من عطف الأخص: من وجه أعم منه على الأعم منه للاهتمام بالمعطوف لأن القيام من المجلس أقوى من التفسيح من قعود. فذكر النشوز لئلا يتوهم وأن التفسيح المأمور به تفسيح من قعود لا

سيما وقد كان سبب النزول بنشوز، وهو المقصود من نزول الآية على ذلك القول. ومن المفسرين من فسر النشوز بمطلق القيام من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان لأجل التفسيح أو لغير ذلك مما يؤمر بالقيام لأجله. روي عن ابن عباس وقتادة والحسن إذا قيل انشزوا إلى الخير وإلى الصلاة فانشزوا.
وقال ابن زيد: إذا قيل انشزوا عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفعوا فإن للنبي صلى الله عليه وسلم حوائج، وكانوا إذا كانوا في بيته أحب كل واحد منهم أن يكون آخر عهده ب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب النزول لا يخصص العام ولا يقيد المطلق.
وهذا الحكم إذا عسر التفسيح واشتد الزحام والتراص فإن لأصحاب المقاعد الحق المستقر في أن يستمروا قاعدين لا يقام أحد لغيره وذلك إذا كان المقوم لأجله أولى بالمكان من الذي أقيم له بسبب من أسباب الأولية كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة نفر لإعطاء مقاعدهم للبدريين. ومنه أولوية طلبة العلم بمجالس الدرس، وأولوية الناس في مقاعد المساجد بالسبق، ونحو ذلك، فإن لم يكن أحد أولى من غيره فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يقيم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه.
وللرجل أن يرسل إلى المسجد ببساطه أو طنفسته أو سجادته لتبسط له في مكان من المسجد حتى يأتي فيجلس عليها فإن ذلك حوز لذلك المكان في ذلك الوقت. وكان ابن سيرين يرسل غلامه إلى المسجد يوم الجمعة فيجلس له فيه فإذا جاء ابن سيرين قام الغلام له منه.
وفي الموطأ عن مالك بن أبي عامر قال كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب فصلى الجمعة. فالطنفسة ونحوها حوز المكان لصاحب البساط.
فيجوز لأحد أن يأمر أحدا يبكر إلى المسجد فيأخذ مكانا يقعد فيه حتى إذا جاء الذي أرسل ترك له البقعة لأن ذلك من قبيل النيابة في حوز الحق.
وقرأ ابن نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {انْشُزُوا فَانْشُزُوا} بضم الشين فيهما. وقرأه الباقون بكسر الشين. وهما لغتان في مضارع نشز.
وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} جواب الأمر لقوله: {فانشزوا} فقد أجمع القراء على جزم فعل {يرفع} فهو جواب الأمر بهذا. وعد

بالجزاء على الامتثال للأمر الشرعي فيما فيه أمر أو لما يقتضي الأمر من علة يقاس بها على المأمور به أمثاله مما فيه علة الحكم كما تقدم في قوله تعالى: {فافسحوا} .
ولما كان النشوز ارتفاعا عن المكان الذي كان به كان جزاؤه من جنسه.
وتنكير {درجات} للإشارة إلى أنواعها من درجات الدنيا ودرجات الآخرة.
وضمير {منكم} خطاب للذين نودوا بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} .
و"من" تبعيضية، أي يرفع الله درجات الذين امتثلوا. وقرينة هذا التقدير هي جعل الفعل جزاء للأمر فإن الجزا مسبب عما رتب عليه بقوله: {منكم} صفة للذين آمنوا. أي الذين آمنوا من المؤمنين والتغاير بين معنى الوصف ومعنى الموصوف بتغاير المقدر وإن كان لفظ الوصف والموصوف مترادفين في الظاهر. فآل الكلام إلى تقدير: يرفع الله الذين استجابوا للأمر بالنشوز إذا كانوا من المؤمنين، أي دون من يضمه المجلس من المنافقين. فكان مقتضى الظاهر أن يقال: يرفع الله الناشزين منكم فاستحضروا بالموصول بصلة الإيمان لما تؤذن به الصلة من الإيماء إلى علة رفع الدرجات لأجل امتثالهم أمر القائل {انشزوا} وهو الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان لإيمانهم وأن ذلك الامتثال من إيمانهم ليس لنفاق أو لصاحبه امتعاض.
وعطف الذين أوتوا العلم منهم عطف الخاص على العام لأن غشيان مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو لطلب العلم من مواعظه وتعليمه، أي والذين أوتوا العلم منكم أيها المؤمنون، لأن الذين أوتوا العلم قد يكون الأمر لأحد بالقيام من المجلس لأجلهم، أي لأجل إجلاسهم، أي لأجل إجلاسهم، وذلك رفع لدرجاتهم في الدنيا، ولأنهم إذا تمكنوا من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم كان تمكنهم أجمع للفهم وأنفى للملل، وذلك أدعى لإطالتهم الجلوس وازديادهم التلقي وتوفير مستنبطات أفهامهم فيما يلقى إليهم من العلم، فإقامة الجالسين في المجلس لأجل إجلاس الذين أوتوا العلم من رفع درجاتهم في الدنيا.
ولعل البدريين الذين نزلت الآية بسبب قصتهم كانوا من الصحابة الذين أوتوا العلم.
ويجوز أن بعضا من الذين أمروا بالقيام كان من أهل العلم فأقيم لأجل رجحان فضيلة البدريين عليه، فيكون في الوعد للذي أقيم من مكانه برفع الدرجات استئناس له بأن الله رافع درجته.
هذا تأويل نظم الآية الذي اقتضاه قوة إيجازه. وقد ذهب المفسرون في الإفصاح عن

استفادة المعنى من هذا النظم البديع مذاهب كثيرة وما سلكناه أوضح منها.
وانتصب {درجات} على أنه ظرف مكان يتعلق ب {يرفع} أي يرفع الله الذين آمنوا رفعا كائنا في درجات.
ويجوز أن يكون نائبا عن المفعول المطلق ل {يرفع} لأنها درجات من الرفع، أي مرافع.
والدرجات مستعارة للكرامة فإن لكان الرفع في الآية رفعا مجازيا، وهو التفضيل والكرامة وجيء للاستراحة بترشيحها بكون الرفع درجات. وهذا الترشيح هو أيضا استعارة مثل الترشيح في قوله تعالى: {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [الرعد: 25] وهذا أحسن الترشيح. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: في سورة الأنعام ِ[83] {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} .
وقال عبد الله بن مسعود وجماعة من أهل التفسير: إن قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} كلام مستأنف وتم الكلام عند قوله: {منكم} قال ابن عطية: ونصب بفعل مضمر ولعله يعني: نصب {درجات} بفعل هو الخبر عن المبتدأ، والتقدير: جعلهم.
وجملة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تذييل، أي الله عليم بأعمالكم ومختلف نياتكم من الامتثال كقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله" الحديث.
[12] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
استئناف ابتدائي عاد به إلى ذكر بعض أحوال النجوى وهو من أحوالها المحمودة. والمناسبة هي قوله تعالى: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة:9.] فهذه الصدقة شرعها الله تعالى وجعل سببها مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكرت عقب آي النجوى لاستيفاء أنواع النجوى من محمود ومذموم. وقد اختلف المتقدمون في سبب نزول هذه الآية، وحكمة مشروعية صدقة المناجاة. فنقلت عن أبن عباس وقتادة وجابر بن زيد وزيد بن أسلم ومقاتل أقوال في سبب نزولها متخالفة، ولا أحسبهم يريدون منها إلا حكاية أحوال للنجوى كانت شائعة، فلما نزل حكم صدقة النجوى أقل الناس من النجوى. وكانت عبارات الأقدمين

تجري على التسامح فيطلقون على أمثاله الأحكام وجزئيات الكليات اسم أسباب النزول، كما ذكرناها في المقدمة الخامسة من مقدمات هذا التفسير، وأمسك مجاهد فلم يذكره لهذه الآية سببا واقتصر على قوله: نهو عن مناجاة الرسول حتى يتصدقوا.
والذي يظهر لي: أن هذه الصدقة شرعها الله وفرضها على من يجد ما يتصدق به قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسقطها عن الذين لا يجدون ما يتصدقون به. وجعل سببها ووقتها هو وقت توجههم إلى مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون حريصين على سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين كل يوم فشرع اله لهم هذه الصدقة كل يوم لنفع الفقراء نفعا يوميا، وكان الفقراء أيامئذ كثيرين بالمدينة منهم أهل الصفة ومعظم المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم.
والأظهر أن هذه الصدقة شرعت بعد الزكاة فتكون لحكمة إغناء الفقراء يوما فيوما لأن الزكاة تدفع في رؤوس السنين وفي معين الفصول فلعل ما يصل إلى الفقراء منها يستنفدونه قبل حلول وقت الزكاة القابلة.
وعن أبن عباس: أن صدقة المناجاة شرعت قبل شرع الزكاة ونسخت بوجوب الزكاة، وظاهر قوله في الآية التي بعدها {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة: 13] أن الزكاة حينئذ شرع مفرد معلوم، ولعل ما نقل عن أبن عباس إن صح عنه أراد أنها نسخت بالاكتفاء بالزكاة.
وقد تعددت أخبار مختلفة الأسانيد تتضمن أن هذه الآية لم يدم العمل بها إلا زمنا قليلا، قيل: إنه عشرة أيام. وعن الكلبي قال: كان ساعة من نهار، أي أنها لم يدم العمل بها طويلا إن كان الأمر مرادا به الوجوب وإلا فإن ندب لك ذلك لم ينقطع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لتكون نفس المؤمن أزكى عند ملاقاة النبي مثل استحباب تجديد الوضوء لكل صلاة.
وتضافرت كلمات المتقدمين على أن حكم الأمر في قوله: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قد نسخه قوله: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] الآية. وهذا مؤذن بأن الأمر فيها للوجوب. وفي تفسير القرطبي وأحكام أبن الفرس حكاية أقوال في سبب نزول هذه الآية تحوم حول كون هذه الصدقة شرعت لصرف أصناف من الناس عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا قد ألحفوا في مناجاته دون داع يدعوهم فلا ينثلج لها صدر العالم لضعفها سندا ومعنى، ومنافاتها مقصد الشريعة. وأقرب ما روي عن خبر تقرير هذه الصدقة. ما في جامع الترمذي عن على بن عقلمة الأنماري عن علي بن أبي طالب قال:

لما نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً صدقة} قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "ما ترى دينارا?" قلت: لا يطيقونه، قال "فنصف دينار"? قلت: لا يطيقونه. قال: "فكم"? قلت: شعيرة قال الترمذي: أي وزن شعيرة من ذهب. قال: "إنك لزهيد" فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] الآية. قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه اهـ.
قلت: علي بن علقمة الأنماري قال البخاري: في حديثه نظر، ووثقه ابن حبان. وقال ابن الفرس: صححوا عن علي قال: ما عمل بها أحد غيري. وساق حديثا.
ومحمل قول علي فبي خفف الله عن هذه الأمة، أنه أراد التخفيف في مقدار الصدقة من دينار إلى زنة شعيرة من ذهب وهي جزء من اثنين وسبعين جزءا من الدينار.
وفعل {ناجيتم} مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} المائدة: 6] الآية. وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]
والقرينة قوله: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ}.
والجمهور على أن الأمر في قوله: {فقدموا} للوجوب، واختاره الفخر ورجحه بأنه الأصل في صيغة الأمر، وبقوله: {إِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول الوجوب. ويناسب أن يكون هذا هو قول من قال: إن هذه الصدقة نسخت بفرض الزكاة، وهو عن ابن عباس. وقال فريق: الأمر للندب وهو يناسب قول من قال: إن فرض الزكاة كان سابقا على نزول هذه الآية فإن شرع الزكاة أبطل كل حق كان واجبا في المال.
و {بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ} معناه: قبل نجواكم بقليل، وهي استعارة تمثيلية جرت مجرى المثل للقرب من الشيء قبيل الوصول إليه. شبهت هيئة قرب الشيء من آخر بهيئة وصول الشخص بين يدي من يرد هو عليه تشبيه معقول بمحسوس.
ويستعمل في قرب الزمان بتشبيه الزمان بالمكان كما هنا وهو كقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:]. وقد تقدم في سورة البقرة.[ 255]
والإشارة ب {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ} إلى التقديم المفهوم من "قدمو" على طريقة قوله:

{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8}.
وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} تعريف بحكمة الأمر بالصدقة قبل نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم ليرغب فيها الراغبون.
و {خير} يجوز أن يكون اسم تفضيل، أصله: أخير وهو المزاوج لقوله: {وأطهر} أي ذلك أشد خيرية لكم من أن تناجوا الرسول صلى الله عليه وسلم بدون تقديم صدقة، وإن كان في كل خير. كقوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].
ويجوز أن يكون اسما على وزن فعل وهو مقابل الشر، أي تقديم الصدقة قبل النجوى فيه خير لكم وهو تحصيل رضى الله تعالى في حين إقبالهم على رسوله صلى الله عليه وسلم فيحصل من الانتفاع بالمناجاة ما لا يحصل مثله بدون تقديم الصدقة.
وأما {أطهر} فهو اسم تفضيل لا محالة، أي أطهر لكم بمعنى: أشد طهرا، والطهر هنا معنوي، وهو طهر النفس وزكاؤها لأن المتصدق تتوجه إليه أنوار ربانية من رضى الله عنه فتكون نفسه زكية كما قال تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. ومنه سميت الصدقة زكاة.
وصفة هذه الصدقة أنها كانت تعطى للفقير حين يعمد المسلم إلى الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليناجيه.
وعذر الله العاجزين عن تقديم الصدقة بقوله: {فإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فإن لم تجدوا ما تتصدقون به قبل النجوى غفر الله لكم المغفرة التي كانت تحصل لكم لو تصدقتم لأن من نوى أن يفعل الخير لو قدر عليه كان له أجر على نيته.
وأما استفادة أن غير الواجد لا حرج عليه في النجوى بدون صدقة فحاصلة بدلالة الفحوى لأنه لا يترك مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن إرادة مناجاته الرسول صلى الله عليه وسلم ليست عبثا بل لتحصيل علم من أمور الدين.
وأما قوله: {رحيم} فهو في مقابلة ما فات غير الواجد ما يتصدق به من تزكية النفس إشعارا بأن رحمة الله تنفعه.
واتفق العلماء على أن حكم هذه الآية منسوخ.
[13] {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

نزلت هذه الآية عقب التي قبلها: والمشهور عند جمع من سلف المفسرين أنها نزلت بعد عشرة أيام من التي قبلها. وذلك أن بعض المسلمين القادرين على تقديم الصدقة قبل النجوى شق عليهم ذلك فأمسكوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط الله وجوب هذه الصدقة، وقد قيل لم يعمل بهذه الآية غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولعل غيره لم يحتج إلى مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم واقتصد مما كان يناجيه لأدنى موجب.
فالخطاب لطائفة من المؤمنين قادرين على تقديم الصدقة قبل المناجاة وشق عليهم ذلك أو ثقل عليهم.
والإشفاق توقع حصول ما لا يبتغيه ومفعول {أآشفقتم} هو {أَنْ تُقَدِّمُوا} أي من أن تقدموا، أي أأشفقتم عاقبة ذلك وهو الفقر.
قال المفسرون على أن هذه الآية ناسخة للتي قبلها فسقط وجوب تقديم الصدقة لمن يريد مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وروي ذلك عن ابن عباس واستبعده ابن عطية.
والاستفهام مستعمل في اللوم على تجهم تلك الصدقة مع ما فيها من فوائد لنفع الفقراء.
ثم تجاوز الله عنهم رحمة بهم بقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} الآية. وقد علم من الاستفهام التوبيخي أي بعضا لم يفعل ذلك.
و {إذا} ظرفية مفيدة للتعليل، أي فحين لم تفعلوا فأقيموا الصلاة.
وفاء {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} لتفريع ما بعدها على الاستفهام التوبيخي.
وجملة {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} معترضة، والواو اعتراضية. وما تتعلق به {إذ} محذوف دل عليه قوله: {وتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} تقديره: خففنا عنكم وأعفيناكم من أن تقدموا صدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وفاء {فأَقِيمُوا الصَّلاةَ} عاطفة على الكلام المقدر وحافظوا على التكاليف الأخرى وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله. أي فذلك لا تسامح فيه قيل لهم ذلك لئلا يحسبوا أنهم كلما ثقل عليهم فعل ما كلفوا به يعفون منه.
وإذ قد كانت الزكاة المفروضة سابقة على الأمر بصدقة النجوى على الأصح كان فعل {آتوا} مستعملا في طلب الدوام مثل فعل {فأقيموا} .
واعلم أنه يكثر وقوع الفاء بعد "إذ" ومتعلقها كقوله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ

فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} في سورة الأحقاف[11] {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} في سورة الكهف[16].
وجملة {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} تذييل لجملة {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وهو كناية عن التحذير من التفريط في طاعة الله ورسوله.
[14، 15] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
هذه حالة أخرى من أحوال أهل النفاق هي توليهم اليهود مع أنهم ليسوا من أهل ملتهم لأن المنافقين من أهل الشرك.
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لأنها عود إلى الغرض الذي سبقت فيه آيات {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5] بعد أن فصل بمستطردات كثيرة بعده.
والقوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود وقد عرفوا بما يرادف هذا الوصف في القرآن في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7].
والاستفهام تعجبي مثل قوله: {أتَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} [المجادلة: 8].
ووجه التعجيب من حالهم أنهم تولوا قوما من غير جنسهم وليسوا في دينهم ما حملهم على توليهم إلا اشتراك الفريقين في عداوة الإسلام والمسلمين.
وضمير {ما هم} يحتمل أن يعود إلى {الَّذِينَ تَوَلَّوْا} وهم المنافقون فيكون جملة {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} حالا من {الَّذِينَ تَوَلَّوْا} ، أي ما هم مسلمين ولا يهود.ويجوز أن يعود الضمير إلى {قوما} ، قوما ليسوا مسلمين ولا مشركين بل هم يهود.
وكذلك ضمير {وَلا مِنْهُمْ} يحتمل الأمرين على التعاكس وكلا الاحتمالين واقع، ومراد على طريقة الكلام الموجه تكثيرا للمعاني مع الإيجاز فيفيد التعجب من حال المنافقين أن يتولوا قوما أجانب عنهم على قوم هم أيضا أجانب عنهم، على أنهم إن كان يفرق بينهم وبين اليهود اختلاف الدين واختلاف النسب لأن المنافقين من أهل يثرب عرب ويفيد بالاحتمال الآخر الإخبار عن

المنافقين بأن إسلامهم ليس صادقا، أي ما هم منكم أيها المسلمون، وهو المقصود، ويكون قوله: {ولا منهم} على هذا الاحتمال احتراسا وتتميما لحكاية حالهم، وعلى هذا الاحتمال يكون ذم المنافقين أشد لأنه يدل على حماقتهم إذ جعلوا لهم أولياء من ليسوا على دينهم فهم لا يوثق بولايتهم وأضمروا بغض المسلمين فلم يصادفوا الدين الحق.
{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} عطف على {تولوا} وجيء به مضارعا للدلالة على تجدده ولاستحضار الحالة العجيبة في حين حلفهم على الكذب للتنصل مما فعلوه، والكذب الخبر المخالف للواقع وهي الأخبار التي يخبرون بها عن أنفسهم في نفي ما يصدر منهم في جانب المسلمين.
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملة في موضع الحال، وذلك أدخل في التعجيب لأنه أشنع من الحلم على الكذب لعدم التثبت في المحلوف عليه.
وأشار هذا إلى ما كان يحلفه المنافقون والنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين إذا كشف لهم بعض مكائدهم، ومن ذلك قول الله تعالى فيهم {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56]، وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62 ] وقوله: {يحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 74 ].
قال السدي ومقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل بنون فباء موحدة فمثناة فوقية كان أحدهما وهو عبد الله بن نبتل يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ويرفع أخباره إلى اليهود ويسب النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغ خبره أو اطلعه الله عليه جاء فاعتذر وأقسم إنه ما فعل.
وجملة {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تعليل لإعداد العذاب لهم، أي أنهم عملوا فيما مضى أعمالا سيئة متطاولة متكررة كما يؤذن بها المضارع من قوله: {يعملون} .
وبين {يعملون} ، و {يعلمون} الجناس المقلوب قلب بعض.
[16] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
جملة مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] لأن ذلك يثير سؤال سائل أن يقول ما ألجأهم إلى الحلف على الكذب، فأجيب بأن ذلك لقضاء مآربهم وزيادة مكرهم. ويجوز أن تجعل الجملة خبرا ثانيا لأن في

قوله: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} [المجادلة:15] وتكون داخلة في التعليل.
والجنة: الوقاية والسترة، من جن، إذا أستتر، أي وقاية من شعور المسلمين بهم ليتمكنوا من صد كثير ممن يريد الدخول في الإسلام عن الدخول فيه لأنهم يختلقون أكذوبات ينسبونها إلى الإسلام وذلك معنى التفريع بالفاء في قوله تعالى: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله} .
و"صدوا" يجوز أن يكون متعديا، وحذف مفعوله لظهوره، أي فصدوا الناس عن سبيل الله،أي الإسلام بالتنبيط وإلصاق التهم والنقائص بالدين. ويجوز أن يكون الفعل قاصرا، أي فصدوا هم عن سبيل الله ومجيء فعل "صدوا عن سبيل الله" ماضيا مفرعا على {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} مع أن إيمانهم حصلت بعد أن صدوا عن سبيل الله على كلا المعنيين مراعى فيه التفريغ الثاني وهو {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
وفرع عليه {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} ليعلم إنما اتخذوا من إيمانهم جنة سبب من أسباب العذاب يقتضي مضاعفة العذاب. وقد وصف العذاب أول مرة بشديد وهو الذي يجازون به على توليهم قوما غضب الله عليهم وحلفهم على الكذب.
ووصف عذابهم ثانيا ب {مهين} لأنه جزاء على صدهم الناس عن سبيل الله. وهذا معنى شديد العذاب لأجل عظيم الجرم كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} . [النمل:88].
فكان العذاب مناسبا للمقصدين في كفرهم وهو عذاب واحد فيه الوصفان. وكرر ذكره إبلاغا في الإنذار والوعيد فإنه مقام تكرير مع تحسينه باختلاف الوصفين.
[17] {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
مناسب لقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] فكما لم تقهم أيمانهم العذاب لم تغن عنهم أموالهم ولا أنصارهم شيئا يوم القيامة.
وكان المنافقون من أهل الثراء بالمدينة، وكان ثراؤهم من أسباب إعراضهم عن قبول الأسباب إعراضهم عن قبول الإسلام لأنهم كانوا أهل سيادة فلم يرضوا أن يصيروا في طبقة عموم الناس. وكان عبد الله بن أبي بن سلول مهيأ لأن يملكوه على المدينة قبيل إسلام الأنصار، فكانوا يفخرون

على المسلمين بوفرة الأموال وكثرة العشائر وذلك في السنة الأولى من الهجرة، ومن ذلك قول عبد الله بن أبي بن سلول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يريد بالأعز فريقه وبالأذل فريق المسلمين فآذنهم الله بأن أموالهم وأولادهم لا تغنى عنهم مما توعهم الله به من المذلة في الدنيا والعذاب في الآخرة قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب:60، 61]. وإذ لم تغن عنهم من الله في الدنيا فإنها أجدر بأن لا تغني عنهم من عذاب الآخرة شيئا، أي شيئا قليلا من الإغناء.
وعن مقاتل: أنهم قالوا: إن محمد يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقيقنا إذن. فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة. فنزلت هذه الآية.
وإقحام حرف النفي في المعطوف على المنفي لتوكيد انتفاء الإغناء.
ومعنى {من الله} من بأس الله أو من عذابه. وحذف مثل هذا كبير في الكلام. وتقديره ظاهر. ويلقب هذا الاستعمال عند علماء أصول الفقه بإضافة الحكم إلى الأعيان على إرادة أشهر أحوالها نحو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، أي أكلها.
وجملة {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} الخ خبر ثالث أو ثان عن {إن} في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة:15].
وجملة {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} في موضع العلة لجملة {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} ، أي لأنهم أصحاب النار، أي حق عليهم أنهم أصاحب النار. وصاحب الشيء ملازمه فلا يفارقه. إذ قد تقرر في قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} [المجادلة: 15] ومن قوله: { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة: 16] أنهم لا محيص لهم عن النار، فكيف تغنى عنهم أموالهم وأولادهم شيئا من عذاب النار. وهذا كقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19] أي ما أنت تنقذه من النار. فإن اسم الإشارة في مثل هذا الموقع ينبه على أن المشار ليه صار جديرا بما يرد بعد اسم الإشارة من جل الأخبار التي أخبر بها عنه قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [5]
[18 ] {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ

هُمُ الْكَاذِبُونَ}.
هذا متصل بقوله: {يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} إلى قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 14، 16] وتقدم الكلام على نظير قوله: {َوْيوَم يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [المجادلة: 6]. كما سبق آنفا في هذه السورة، أي اذكر يوم يبعثهم الله.
وحلفهم لله في الآخرة إشارة إلى ما حكاه الله عنهم في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].
والتشبيه في قوله: {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} كما في صفة الحلف، وهي قولهم: إنهم غير مشركين، وفي كونه حلفا على الكذب، وهم يعلمون، ولذلك سماه تعالى فتنة في آية الأنعام[23]. قوله تعالى: {لمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .
ومعنى {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} يضنون يومئذ أن حلفهم يفيدهم تصديقهم عند الله فيحسبون أنهم حصلوا شيئا عظيما، أي نافعا.
و {على} للاستعلاء المجازي وهو شدة التلبس بالوصف ونحوه كقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة[5].
وحذفت صفة {شيء} لظهور معناها من المقام، أي على شيء نافع كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} [المائدة: 68]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان "ليسوا بشيء" .
وهذا يقتضي توغلهم في النفاق ومرونتهم عليه وأنه باق في أرواحهم بعد بعثهم لأن نفوسهم خرجت من عالم الدنيا متخلقة به، بين النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثا في عالم التكليف. وحكمة إيجاد النفوس في الدنيا هي تزكيتها وتصفية اكدارها لتخلص إلى عالم الخلود طاهرة، فإن هي سلكت مسلك التزكية تخلصت إلى عالم الخلود زكية ويزيده الله زكاه وارتياضا يوم البعث. وإن غمست مدة الحياة في حمأة النقائص وصلصال الرذائل جاءت يوم القيامة على ما كانت عليه تشويها لحالها. لتكون مهزلة لأهل المحشر. وقد تبقى في النفوس الزكية خلائق لا تنافي الفضيلة ولا تناقض عالم الحقيقة مثل الشهوات المباحة ولقاء الأحبة قال تعالى [67، 70 ]{الأخلاء الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يا عبادي لا خوف عليكم يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} . وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلا

من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع، فيقول الله: أو لست فيما شئت قال: بلا ولكن أحب أزرع، فأسرع وبذر فيبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال". وكان رجل من أهل البادية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لا نجد هذا إلا قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم إقرارا لما فهمه الأعرابي.
وفي حديث جابر بن عبد الله عن مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يبعث كل عبد على ما مات عليه". قال عياض في الإكمال هو عام في كل حالة مات عليها المرء. قال السيوطي: يبعث الزمار بمزماره. وشارب الخمر بقدحه اهـ. قلت: ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هي عليه إذ تصير العلوم على الحقيقة.
وختم هذا الكلام بقوله تعالى: {ألا أنهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وهو تذييل جامع لحال كذبهم الذي ذكره الله بقوله {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} [المجادلة: 14]. فالمراد أن كذبهم عليكم لا يماثله كذب، حتى قصرت صفة الكاذب عليهم بضمير الفصل في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بكذب غيرهم. وأكد ذلك بحرف التوكيد توكيدا لمفاد الحصر الادعائي، هو أن كذب غيرهم كلا كذب في جانب كذبهم، وبأداة الاستفتاح المقتضية استماله السمع لخبرهم لتحقيق تمكن صفة الكذب منهم حتى أنهم يلازمهم يوم البعث.
[19 ] {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
استئناف بياني لأن ما سيق من وصفهم بانحصار صفة الكذب فيهم يثير سؤال السامع أن يطلب السبب الذي بلغ بهم إلى هذه الحال الفظيع فيجاب بأنه استحواذ الشيطان عليهم وامتلاكه زمام أنفسهم يصرفها كيف يريد وهل يرضى الشيطان إلا بأشد الفساد والغواية.
والاستحواذ: الاستيلاء والغلب، وهو استفعال من حاذ حوذا، إذا حاط شيئا وصرفه كيف يريد يقال: حاذ العير إذا جمعها وساقها غالبا لها. فاشتقوا منه استفعل للذي يستولي بتدبير ومعالجة، ولذلك لا يقال استحواذ إلا في استيلاء العاقل لأنه يتطلب وسائل استيلاء. ومثله استولى. والسين والتاء للمبالغة في الغلب مثلها في: استجاب.
والأحوذي: القاهر للأمور الصعبة. وقالت عائشة: كان عمر أحوذيا نسيج وحده.

وكان حق استحوذ أن يقلب عينه ألفا لأن أصلها واو متحركة إثر ساكن صحيح وهو غير اسم تعجب ولا مضاعف اللام ولا معتل اللام فحقها أن تنقل حركتها إلى الساكن الصحيح قبلها فرارا من ثقل الحركة على حرف العلة مع إمكان الاحتفاظ بتلك الحركة بنقلها إلى الحرف قبلها الخالي من الحركة فيبقى حرف العلة ساكنا سكونا ميتا إثر حركة فيقلب مدة مجانسة للحركة التي قبلها مثل يقوم ويبين وأقام، فحق استحوذ أن يقال فيه: استحاذ ولكن الفصيح فيه تصحيحه على خلاف غالب بابه وهو تصحيح سماعي، وله نظائر قليلة منها استنوق الجمل، وأعول، إذا رفع صوته. وأغيمت السماء واستغيل الصبي، إذا شرب الغيل وهو لبن الحامل. وقال أبو زيد التصحيح هو لغة لبعض العرب مطردة في هذا الباب كله. وحكى المفسرون أن عمر بن الخطاب قرأ {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} . وقال الجوهري: تصحيح هذا الباب كله مطرد. وقال في التسهيل : يطرد تصحيح هذا الباب في كل فعل أهمل ثلاثيه مثل استنوق الجمل واستتيست الشاة إذا صارت كالتيس.
وتقدم الكلام على الاستحواذ عند قوله تعالى: {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} في سورة النساء[141] فضم هذا إلى ذاك.
والنسيان مراد منه لازمه وهو الإضاعة وترك المنسي، لقوله تعالى: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126].
والذكر يطلق على نطق اللسان باسم أو كلام ويطلق على التذكر بالعقل. وقد يخص هذا الثاني بضم الذال وهو هنا مستعمل في صريحه وكنايته، مستعمل في لازمه وهو العبادة والطاعة لأن المعنى أنه أنساهم توحيد الله بكلمة الشهادة والتوجه إليه بالعبادة. والذي لا يتذكر شيئا لا يتوجه إلى واجباته.
وجملة {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} نتيجة وفذلكة لقول: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} فإن الاستحواذ يقتضي أنه صيرهم من أتباعه.
واسم الإشارة لزيادة تمييزهم لئلا يتردد في أنهم حزب الشيطان.
وجملة {ألا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} واقعة موقع التفرع والتسبب على جملة {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: فإن حزب الشيطان هم الخاسرون، فلذلك عدل عن ذلك إلى حرف الاستفتاح تنبيها على أهمية مضمونها وأنه

مما يحق العناية باستحضاره في الأذهان مبالغة في التحذير من الاندماج فيهم، والتلبس بمثل أحوالهم المذكورة آنفا. وزيد هذا التحذير اهتماما بتأكيد الخبر بحرف {إن} وبصيغة القصر، إذ لا يتردد أحد في أن حزب الشيطان خاسرون فإن ذلك من القضايا المسلمة بين البشر، فلذلك لم تكن هذه المؤكدات لرد الإنكار لتحذير المسلمين أن تغرهم حبائل الشيطان وتروق في أنظارهم بزة المنافقين وتخدعهم أيمانهم الكاذبة.
وإظهار كلمة {حِزْبُ الشَّيْطَانِ} دون ضميرهم لزيادة التصريح ولتكون الجملة صالحة للتمثل بها مستقلة بدلالتها.
وضمير الفصل أفاد القصر، وهو قصر ادعائي للمبالغة في مقدار خسرانهم وأنهم لا خسران أشد منه فكأن كل خسران غيره عدم فيدعى أن وصف الخاسر مقصور عليهم.
وحزب المرء: أنصاره وجنده ومن يواليه.
[20، 21] {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } .
موقع هذه الآية بعد ما ذكر من أحوال المنافقين يشبه موقع آية {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5] المتقدم ذكرهم المشركون المعلنون بالمحادة. وأما المحادن المذكورون في هذه الآية فهم المسرون للمحادة المتظاهرون بالموالاة، وهم المنافقون، فالجملة استئناف بياني بينت شيئا من الخسران الذي قضى به على حزب الشيطان الذين هم في مقدمته. وبهذا تكتسب هذه الجملة معنى بدل البعض من مضمون جملة {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]، لأن الخسران يكون في الدنيا والآخرة، وخسران الدنيا أنواع أشدها على الناس المذلة والهزيمة، والمعنى: أن حزب الشيطان في الأذلين المغلوبين.
واستحضارهم بصلة {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إظهار في مقام الإضمار فمقتضى الظاهر أن يقال: إنهم في الأذلين فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر إلى الموصولية لإفادة مدلول الصلة أنهم أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإفادة الموصول تعليل الحكم الوارد بعده وهو كونهم أذلين لأنهم أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أعداء الله القادر على كل شيء فعدوه لا يكون عزيزا.

ومفاد حرف الظرفية أنهم كائنون في زمرة القوم الموصوفين بأنهم أذلوا، أي شديدو المذلة ليتصورهم السامع في كل جماعة يرى أنهم أذلون، فيكون هذا النظم أبلغ من أن يقال أولئك هم الأذلون.
واسم الإشارة تنبيه على أن الإشارة إليهم جديرون بما بعد اسم الإشارة من الحكم بسبب الوصف الذي قبل اسم الإشارة مثل {أولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5].
وتقدم الكلام على {يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في أوائل هذه السورة [ 5].
وجملة {كتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} علة لجملة {أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} أي لأن الله أراد أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم غالبا لأعدائه وذلك من آثار قدرة الله التي لا يغليها شيء وقد كتب لجميع رسله الغلبة على أعدائهم، فغلبتهم من غلبة الله إذ قدرة الله تتعلق بالأشياء على وفق إرادة الله لا يغيرها شيء، والإرادة تجري على وفق العلم ومجموع توارد العلم والإرادة والقدرة على الموجود هو المسمى بالقضاء. وهو المعبر عنه هنا بـ {كَتَبَ اللَّهُ} لأن الكتابة استعيرت لمعنى: قضى الله ذلك وأراد وقوعه في الوقت الذي علمه وأراده فهو محقق الوقوع لا يتخلف مثل الأمر الذي يراد ضبطه وعدم الإخلال به فإنه يكتب لكي لا ينسى ولا ينقص منه شيء ولا يجحد التراضي عليه.
فثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم الغلبة لشمول ما كتبه الله لرسله إياه وهذا إثبات لغلبة رسوله أقوى من يحادونه بطريق برهاني.
فجملة {لأغلبن} مصوغة صيغة القول ترشيحا لاستعارة {كتب} إلى معنى قضى وقدر. والمعنى: قضى مدلول هذه الجملة، أي قضى بالغلبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكأن هذه الجملة هي المكتوبة من الله. والمراد: الغلبة بالقوة لأن الكلام مسوق مساق التهديد. وأما الغلبة بالحجة فأمر معلوم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} تعليل لجملة {لأغلبن} لأن الذي يغالب الغالب مغلوب. قال حسان:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها
وليغلبن مغالب الغلاب
[22 ] {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}.
كان للمنافقين قرابة بكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان نفاقهم لا يخفى على بعضهم، فحذر الله المؤمنين الخالصين من موادة من يعادي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ورويت ثمانية أقوال متفاوتة قوة أسانيد أقصاها القرطبي في نزول هذه الآية وليس يلزم أن يكون للآية سبب نزول فإن ظاهرها أنها متصلة المعنى بما قبلها وما بعدها من ذم المنافقين وموالاتهم اليهود، فما ذكر فيها من قصص لسبب نزولها فإنما هو أمثلة لمقتضى حكمها.
وافتتاح الكلام ب {لا تَجِدُ قَوْماً} يثير تشويقا إلى معرفة حال هؤلاء القوم وما سيساق في شأنهم من حكم.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود منه أمره بإبلاغ المسلمين أن موادة من يعلم أنه محاد الله ورسوله هي مما ينافي الإيمان ليكف عنها من عسى أن يكون متلبسا بها. فالكلام من قبل الكناية عن السعي في نفي وجدان قوم هذه صفتهم، من قبيل قولهم: لا أرينك ها هنا، أي لا تحضر هنا.
ومنه قوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18] أراد بما لا يكون، لأن ما لا يعلمه الله لا يجوز أن يكون موجودا، وكانت هذه عادة المؤمنين قبل الهجرة أيام كانوا بمكة. وقد نقلت أخبار من شواهد ذلك متفاوتة القوة ولكن كان الكفر أيامئذ مكشوفا والعداوة بين المؤمنين والمشركين واضحة. فلما انتقل المسلمون إلى المدينة كان الكفر مستورا في المنافقين فكان التحرز من موادتهم أجدر وأحذر.
والموادة أصلها: حصول المودة في جانبين. والنهي هنا إنما هو عن مودة المؤمن الكافرين لا عن مقابلة الكافر المؤمنين بالمودة، وإنما جيء بصيغة المفاعلة هنا اعتبارا بأن شأن الود أن يجلب ودا من المودود للواد.

وإما أن تكون المفاعلة كناية عن كون الود صادقا لأن الواد الصادق يقابله المودود بمثله. ويعرف ذلك بشواهد المعاملة، وقرينة الكناية توجيه نفي وجدان الموصوف بذلك إلى القوم الذين يؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لم يقل الله هنا {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، لأن المودة من أحوال القلب فلا تتصور معها التقية، بخلاف قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
وقوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} إلى آخره مبالغة في نهاية الأحوال التي قد تقدم فيها المرء على الترخص فيما نهي عنه بعلة قرب القرابة.
ثم أن الذي يحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان متجاهرا بذلك معلنا به، أو متجاهرا بسوء معاملة المسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوة دنيوية، فالواجب على المسلمين إظهار عداوته، قال تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9] ولم يرخص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتقاء شرهم إن كان لهم بأس قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
وأما م عدا هذا الصنف فهو الكافر الممسك شره عن المسلمين، قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].
ومن هذا الصنف أهل الذمة وقد بين شهاب الدين القرافي في الفرق التاسع عشر بعد المائة مسائل الفرق بين البر والمودة وبهذا تعلم أن هذه الآية ليست منسوخة بآية {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} .[الممتحنة:8] وأن لكل منهما حالتها.
فـ {لو} وصلية وتقدم بيان معنى {لو} الوصلية عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران [91] ورتبت أصناف القرابة في هذه الآية على طريقة التدلي من الأقوى إلى من دونه لئلا يتوهم أن النهي خاص بمن تقوى فيه ظنة النصيحة له والائتمار بأمره.
وعشيرة الرجل قبيلته الذين يجتمع معهم في جد غير بعيد وقد أخذ العلماء من هذه

الآية أن أهل الإيمان الكامل لا يوادون من فيه معنى من محادة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بخرق سياج شريعته عمدا. والاستخفاف بحرمات الإسلام، وهؤلاء مثل أهل الظلم والعدوان في الأعمال من كل ما يؤذن بقلة اكتراث مرتكبه بالدين وينبيء عن ضعف احترامه للدين مثل المتجاهرين بالكبائر والفواحش الساخرين من الزواجر والمواعظ، ومثل أهل الزيغ والضلال في الاعتقاد ممن يؤذن حالهم بالإعراض عن أدلة الاعتقاد الحق، وإيثار الهوى النفسي والعصبية على أدلة الاعتقاد الإسلامي الحق. فعن الثوري أنه قال: كانوا يرون تنزيل هذه الآية على من يصحب سلاطين الجور. وعن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله لقوله تعالى: : {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
وقال فقهاؤنا: يجوز أو يجب هجران ذو البدعة الضالة أو الانغماس في الكبائر إذا لم يقبل الموعظة.
وهذا كله من إعطاء بعض أحكام المعنى الذي فيه حكم شرعي أو وعيد لمعنى آخر فيه وصف من نوع المعنى ذي الحكم الثابت. وهذا يرجع إلى أنواع من الشبه في مسالك العلة للقياس فإن الأشياء متفاوتة في الشبه.
وقد استدل أئمة الأصول على حجية الإجماع بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء:115] مع أن مهيع الآية المحتج بها إنما هو الخروج عن الإسلام ولكنهم رأوا الخروج مراتب متفاوتة فمخالفة إجماع المسلمين كلهم فيه شبه اتباع غير سبيل المؤمنين.
{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
الإشارة إلى القوم الموصوفين بأنهم {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} .
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الأوصاف السابقة ووقوعها عقب ما وصف به المنافقون من محادة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سابقا وآنفا، وما توعدهم الله به أنه أعد لهم عذابا شديدا ولهم عذاب مهين، وأنهم حزب الشيطان، وأنهم الخاسرون، مما يستشرف بعده

السامع إلى ما سيخبر به عن المتصفين بضد ذلك. وهم المؤمنون الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وكتابة الإيمان في القلوب نظير قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]. وهي التقدير الثابت الذي لا تتخلف آثاره، أي هم المؤمنون حقا الذين زين الله الإيمان في قلوبهم فاتبعوا كماله وسلكوا شعبه.
والتأكيد: التقوية والنصر. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} في سورة البقرة [87]، أي أن تأييد الله إياهم قد حصل وتقرر بالإتيان بفعل المضي للدلالة على الحصول وعلى التحقق والدوام فهو مستعمل في معنييه.
والروح هنا: ما به كمال نوع الشيء من عمل أو غيره وروح من الله: عنايته ولطفه. ومعاني الروح في قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} في سورة الإسراء[85]، ووعدهم بأنه يدخلهم في المستقبل الجنات خالدين فيها.
ورضي الله عنهم حاصل من الماضي ومحقق الدوام فهو مثل الماضي في قوله: {وأيدهم} ، ورضاهم عن ربهم كذلك حاصل في الدنيا بثباتهم على الدين ومعاداة أعدائه، وحاصل في المستقبل بنوال رضا الله عنهم ونوال نعيم الخلود.
وأما تحويل التعبير إلى المضارع في قوله: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} فلأنه الأصل في الاستقبال. وقد استغني عن إفادة التحقيق بما تقدمه من قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} .
وقوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} إلى آخره كالقول في {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19]. وحرف التنبيه يحصل منه تنبيه المسلمين إلى فضلهم. وتنبيه من يسمع ذلك من المنافقين إلى ما حبا الله به المسلمين من خير الدنيا والآخرة لعل المنافقون يغبطونهم فيخلصون الإسلام.
وشتان بين الحزبين. فالخسران لحزب الشيطان، والفلاح لحزب الله تعالى.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحشراشتهرت تسمية هذه السورة سورة الحشر. وبهذا الاسم دعاها النبي صلى الله عليه وسلم.
روي الترمذي عن معقل بن يسار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قال حين يصبح ثلاث مراد أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر" الحديث، أي الآيات التي أولها {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22] إلى آخر السورة.
وفي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس سورة الحشر قال قل بني النضير، أي سورة بني النضير فابن جبير سماها باسمها المشهور. وأبن عباس يسميها سورة بني النضير. ولعله لم يبلغه تسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياها سورة الحشر لأن ظاهر كلامه أنه يرى تسميتها سورة بني النضير لقوله أن جبير قل بني النضير.
وتأول أبن حجر كلام أبن عباس على أنه كره تسميتها ب{الحشر} لئلا يظن أن المراد بالحشر يوم القيامة. وهذا تأويل بعيد. وأحسن من هذا أن أبن عباس أراد أن لها اسمين، وأن الأمر في قوله: قل، للتخيير.
فأما وجه تسميتها الحشر فلوقوع لفظ {الحشر} [الحشر:2] فيها. ولكونها ذكر فيها حشر بني النضير من ديارهم أي من قريتهم المسماة الزهرة قريبا من المدينة. فخرجوا إلى بلاد الشام إلى أريحا وأذرعات، وبعض بيوتهم خرجوا إلى خيبر، وبعض بيوتهم خرجوا إلى الحيرة.
وأما وجه تسميتها سورة بني النضير فلأن قصة بني النضير ذكرت فيها.
وهي مدينة بالاتفاق. وهي الثامنة والتسعون في عداد نزول السور عند جابر بن زيد.

نزلت بعد سورة البينة وقبل سورة النصر.
وكان نزولها عقب إخراج بني النضير من بلادهم سنة أربع من الهجرة. وعدد آيها أربع وعشرون باتفاق العادين.
أغراض هذه السورة
وفق الاتفاق على أنها نزلت في شأن بني النضير ولم يعينوا ما هو الغرض الذي نزلت فيه. ويظهر أن المقصد منها حكم أموال بني النضير بعد الانتصار عليهم، كما سنبينه في تفسير الآية الأولى منها.
وقد اشتملت إلى أن ما في السماوات وما في الأرض دال على تنزيه الله، وكون في السماوات والأرض ملكه، وأنه الغالب المدبر.
وعلى ذكر نعمة الله على ما يسر من إجلاء بني النضير مع ما كانوا عليه من المنعة والحصون والعدة. وتلك آية من آيات تأييد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبته على أعدائه.
وذكر ما أجراه المسلمون من إتلاف أموال بني النضير وأحكام ذلك في أموالهم وتعيين مستحقيه من المسلمين.
وتعظيم شأن المهاجرين والأنصار والذين يجيئون بعدهم من المؤمنين.
وكشف دخائل المنافقين ومواعيدهم لبني النضير أن ينصروهم وكيف كذبوا وعدهم.
وأنحى على بني النضير والمنافقين بالجبن وتفرق الكلمة وتنظير حال تغرير المنافقين لليهود بتغرير الشيطان للذين يكفرون بالله، وتنصله من ذلك يوم القيامة فكان عاقبة الجميع الخلود في النار.
ثم خطاب المؤمنين بالأمر بالتقوى والحذر من أحوال أصحاب النار والتذكير بتفاوت حال الفريقين.
وبيان عظمة القرآن وجلالته واقتضائه خشوع أهله.
وتخلل ذلك إيماء إلى حكمة شرائع انتقال الأموال بين المسلمين بالوجوه التي نظمها الإسلام بحيث لا تشق على أصحاب الأموال.
والآمر باتباع ما يشرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

وختمت بصفات عظيمة من الصفات الإلهية وأنه {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحشر: 24] تزكيه لحال المؤمنين وتعريضا بالكافرين.
[1] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح ما في السماوات والأرض لله تعالى تذكير للمؤمنين بتسبيحهم لله تسبيح شكر ما أنالهم من فتح بلاد بني النضير فكأنه قالوا سبحوا لله كما سبح له ما في السماوات والأرض.
وتعريض بأولئك الذين نزلت السورة فيهم بأنهم أصابهم ما أصابه لتكبرهم عن تسبيح الله حق تسبيحه بتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم إذ أعرضوا عن النظر في دلائل رسالته أو كابروا في معرفتها. والقول في لفظ هذه الآية كالقول في نظيرها في أول سورة الحديد[1]، إلا أن التي في أول سورة الحديد فيها {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وها هنا قال: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لأن فاتحة سورة الحديد تضمنت الاستدلال على عظمة الله تعالى وصفاته وانفراده بخلق السماوات والأرض فكان دليل ذلك هو مجموع ما احتوت عليه السماوات والأرض من أصناف الموجودات فجمع ذلك كله في اسم واحد هو {ما} الموصولة التي صلتها قوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وأما فاتحة سورة الحشر فقد سيقت للتذكير بمن الله تعالى على المسلمين في حادثة أرضية وهي خذلان بني النضير فناسب فيها أن يخص أهل الأرض باسم موصول خاص بهم، وهي {ما} الموصولة الثانية التي صلتها {في الأرض} ، وعلى هذا المنوال جاءت فواتح سور الصف والجمعة والتغابن كما سيأتي في مواضعها. وأوثر الأخبار عن {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} بفعل المضي لأن المخبر عنه تسبيح شكر عن نعمة مضت قبل نزول السورة وهي نعمة إخراج أهل النضير.
[2] {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} .
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا}

يجوز أن تجعل جملة {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخرها استئنافا ابتدائيا لقصد إجراء هذا التمجيد على اسم الجلالة لما يتضمنه من باهر تقديره، ولما يؤذن به ذلك من التعريض بوجوب شكره على ذلك الإخراج العجيب.
يجوز أن تجعل علة لما تضمنه الخبر عن تسبيح ما في السماوات وما في والأرض من التذكير للمؤمنين والتعريض بأهل الكتاب والمنافقين الذين هم فريقان مما في الأرض فإن القصة التي تضمنها فاتحة السورة من أهم أحوالهما.
ويجوز أن تفعل مبينة لجملة {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 1] لأن هذا التسخير العظيم من آثار عزه وحكمته.
وعلى كل الوجوه فهو تذكير بنعمة الله على المسلمين وإيماء إلى أن يشكروا الله على ذلك وتمهيد المقصود من السورة وهو قسمة أموال أبن النضير.
وتعريف جزأي الجملة بالضمير والموصول يفيد قصر صفة إخراج الذين كفروا من ديارهم عليه تعالى وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بسعي المؤمنين في ذلك الإخراج ومعالجتهم بعض أسبابه كتخريب ديار بني النضير.
ولذلك فجملة {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} تتنزل منزلة التعليل لجملة القصر.
وجملة {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} عطف على العلة، أي وهم ظنوا أهل المسلمين لا يغلبونهم. وإنما لم يقل: وظنوا أن لا يخرجوا. مع أن الكلام على خروجهم، من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فعدل عنه إلى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} أي مانعتهم من إخراجهم استغناء عن ذكر المظنون بذكر علة الظن. والتقدير: وظنوا أن لا يخرجوا لأنهم تمنعهم حصونهم، أي ظنوا ظنا قويا معتمدين على حصونهم.
والمراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} بنو النضير بوزن أمير وهم قبيلة من اليهود استوطنوا بلاد العرب هم وبنو عمهم قريظة، ويهود خيبر، وكلهم من ذرية هارون عليه السلام وكان يقال لبني النضير وبني قريظة: الكاهنان لأن كل فريق منها من ذرية هارون وهو كائن الملة الإسرائيلية. والكهانة: حفظ أمور الديانة بيده ويد أعقابه.
وقصة استيطانهم بلاد العرب أن موسى عليه السلام كان أرسل طائفة من أسلافهم لقتال العماليق المجاورين للشام وأرض العرب فقصروا في قتالهم وتوفي موسى قريبا من

ذلك. فلما عملوا بوفاة موسى رجعوا على أعقابهم إلى ديار إسرائيل في أريحا لهم قومهم: أنتم عصيتم أمر موسى فلا تدخلوا بلادنا، فخرجوا إلى جزيرة العرب وأقاموا لأنفسهم قرى حول يثرب المدينة وبنوا لأنفسهم حصونا وقرية سموها الزهرة. وكانت حصونهم خمسة سيأتي ذكر أسمائهما في آخر تفسير الآية، وصاروا أهل زرع وأموال. وكان فيهم أهل الثراء مثل السموأل بن عاديا، وكعب بن الأشرف، وأبن أبي الحقيق، وكان بينهم وبين الأوس والخزرج حلف ومعاملة، فكان من بطون أولئك اليهود بنو النضير وقريظة وخيبر.
ووسموا بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم تسجيلا عليهم بهذا الوصف الذميم وقد وصفوا ب {الَّذِينَ كَفَرُوا} في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} {البقرة:89} إلى قوله: {عَذَابٌ مُهِينٌ} في سورة البقرة [90].
وعليه فحرف {من} في قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} بيانية لأن المراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود أي الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهم أهل الكتاب وأراد بهم اليهود، فوصفوا بـ {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} لئلا يظن أن المراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} المشركون بمكة أو بقية المشركين بالمدينة فيظن أن الكلام وعيد.
وتفصيل القصة التي أشارت إليها الآية على ما ذكر جمهور أهل التفسير. أن بني النضير لما هاجر المسلمون إلى المدينة جاءوا فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له، ويقال: أن مصالحتهم كانت عقب وقعة بدر لما غلب المسلمون المشركين لأنهم توسموا أن لا تهزم لهم راية، فلما غلب المسلمون يوم أحد نكثوا عهدهم وراموا مصالحة المشركين بمكة، إذ كانوا قد قعدوا عن نصرتهم يوم بدر كدأب اليهود في موالاة القوي فخرج كعب بن الأشرف وهو سيد بني النضير في أربعين راكبا فحالفوا المشركين عند الكعبة على أن يكونوا عونا لهم على مقاتلة المسلمين، فلما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمر محمد بن مسلمة أن يقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة في حصنه في قصة مذكورة في كتب السنة والسير.
وذكر ابن إسحاق سببا آخر وهو أنه لما انقضت وقعة بئر معونة في صفر سنة أربع كان عمرو بن أمية الضمري أسيرا عند المشركين فأطلقه عامر بن الطفيل. فلما كان راجعا إلى المدينة أقبل رجلان من بني عامر وكان لقومهما عقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلا مع

عمرو بن أمية، فلما ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يحسب أنه يثأر بهما من بني عامر الذين قتلوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببئر معونة، ولما قدم عمرو ابن أمية أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قتلت قتيلين ولآدينهما"، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين إذ كان بين بني النضير وبين بني عامر حلف، وأضمر بنو النضير الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلعه الله عليه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتهيؤ لحربهم.
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالسير إليهم في ربيع الأول في سنة أربع من الهجرة فسار إليهم هو والمسلمون وأمرهم بأن يخرجوا من قريتهم فامتنعوا وتنادوا إلى الحرب ودس إليهم عبد الله بن أبي بن سلول أن لا يخرجوا من قريتهم وقال: إن قاتلكم المسلمون فنحن معكم لننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة "أي سدوا منافذ بعضها لبعض ليكون كل درب منها صالحا للمدافعة" وحصنوها، ووعدهم أن معه ألفين من قومه وغيرهم، وإن معهم قريظة وحلفاءهم من غطفان من العرب فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وانتظروا عبد الله بن أبي بن سلول وقريظة وغطفان أن يقدموا إليهم ليردوا عنهم جيش المسلمين فلما رأوا أنهم لم ينجدوهم قذف الله في قلوبهم الرعب فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الصلح فأبى إلا الجلاء عن ديارهم وتشارطوا على أن يخرجوا ويحمل كل ثلاثة أبيات منهم حمل بعير مما شاؤوا من متاعهم، فجعلوا يخربون بيوتهم ليحملوا معهم ما ينتفعون به من الخشب والأبواب.
فخرجوا فمنهم من لحق بخيبر، وقليل منهم لحقوا ببلاد الشام في مدن "أريحا" وأذرعات من أرض الشام وخرج قليل منهم إلى الحيرة.
واللام في قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} لام التوقيت وهي التي تدخل على أول الزمان المجعول ظرفا لعمل مثل قوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] أي من وقت حياتي. وقولهم: كتب ليوم كذا. وهي بمعنى "عند". فالمعنى أنه أخرجهم عند مبدإ الحشر المقدر لهم، وهذا إيماء إلى أن الله قدر أن يخرجوا من جميع ديارهم في بلاد العرب. وهذا التقدير أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. فالتعريف في {الحشر} تعريف العهد.
والحشر: جمع ناس في مكان قال تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِين يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء:36، 37].

والمراد به هنا: حشر يهود جزيرة العرب إلى أرض غيرها، أي جمعهم للخروج، وهو بهذا المعنى يرادف الجلاء إذا كان الجلاء لجماعة عظيمة تجمع من متفرق ديار البلاد.
وليس المراد به: حشر يوم القيامة إذ لا مناسبة له هنا ولا يلائم ذكر لفظ {أول} لأن أول كل شيء إنما يكون متحد النوع مع ما أضيف هو إليه.
وعن الحسن: أنه حمل الآية على حشر القيامة وركبوا على ذلك أوهاما في أن حشر القيامة يكون بأرض الشام وقد سبق أن ابن عباس احترز من هذا حين سمى هذه السورة سورة بني النضير وفي جعل هذا الإخراج وقتا لأول الحشر إيذان بأن حشرهم يتعاقب حتى يكمل إخراج جميع اليهود وذلك ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته إذ قال "لا يبقى دينان في جزيرة العرب". وقد أنفذه عمر بن الخطاب حين أجلى اليهود من جميع بلاد العرب. وقيل: وصف الحشر بالأول لأنه أول جلاء أصاب بني النضير، فإن اليهود أجلوا من فلسطين مرتين مرة في زمن بختنصر ومرة في زمن طيطس سلطان الروم وسلم بنو النضير ومن معهم من الجلاء لأنهم كانوا في بلاد العرب. فكان أول جلاء أصابهم جلاء بني النضير.
{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}.
أي كان ظن المسلمين وظن أهل الكتاب متواردين على تعذر إخراج بني النضير من قريتهم بسبب حصانة حصونهم.
وكان اليهود يتخذون حصونا يأوون إليها عندما يغزوهم العدو مثل حصون خيبر.
وكان لبني النضير ستة حصون أسماؤها: الكتيبة بضم الكاف وفتح المثناة الفوقية والوطيح بفتح الواو وكسر الطاء والسلالم بضم السين والنطاة بفتح النون وفتح الطاء بعدها ألف وبها تأنيث آخره والوخدة بفتح الواو وسكون الخاء المعجمة ودال مهملة وشق بفتح الشين المعجمة وتشديد القاف.
ونظم جملة {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} على هذا النظم دون أن يقال: وظنوا أن حصونهم مانعتهم ليكون الابتداء بضميرهم لأنه سيعقبه إسناد {مانعتهم} إليه فيكون الابتداء بضميرهم مشيرا إلى اغترارهم بأنفسهم أنهم في عزة ومنعة، وأن منعة حصونهم هي من شؤون عزتهم.

وفي تقديم {مانعتهم} وهو وصف على {حصونهم} هو اسم والاسم بحسب الظاهر أولى بأن يجعل بمرتبة المبتدأ ويجعل الوصف خبرا عنه، فعدل عن ذلك إشارة إلى أهمية منعة الحصون عند ظنهم فهي بمحل التقديم في استحضار ظنهم، ولا عبرة بجواز جعل حصونهم فاعلا باسم الفاعل وهو{مانعتهم} بناء على أنه معتمد على مسند إليه لأن محامل الكلام البليغ تجري على وجوه التصرف في دقائق المعاني فيصير الجائز مرجوحا. قال المرزوقي في شرح "باب النسب" قول الشاعر وهو منسوب إلى ذي الرمة في غير ديوان الحماسة:
فإن لم يكن إلا معرج ساعة ... قليلا فإني نافع لي قليلها
يجوز أن يكون قليلها مبتدأ و نافع خبر مقدم عليه أي لقصد الاهتمام. والجملة في موضع خبر "إن" والتقدير: إني قليلها نافع لي.
[2] {فأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَر} .
تفريع على مجموع جملتي {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} اللتين هما تعليل للقصر في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} .
وتركيب أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا تمثيل، مثل شأن الله حين يسر أسباب استسلامهم بعد أن صمموا على الدفاع وكانوا أهل عدة وعدة ولم يطل حصارهم بحال من أخذ حذره من عدوه وأحكم حراسته من جهاته فأتاه عدوه من جهة لم يكن قد أقام حراسة فيها. وهذا يشبه التمثيل الذي في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: 39].
والاحتساب: مبالغة في الحسبان، أي الظن أي من مكان لم يظنوه لأنهم قصروا استعدادهم على التحصن والمنعة ولم يعلموا أن قوة الله فوق قوتهم.
والقذف: الرمي باليد بقوة. واستعير للحصول على العاجل، أي حصل الرعب في قلوبهم دفعة دون سابق تأمل ولا حصول سبب للرعب ولذلك لم يؤت بفعل القذف في آية آل عمران [151] {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}.
والمعنى: وجعل الله الرعب في قلوبهم فأسرعوا بالاستسلام. وقذف الرعب في

قلوبهم هو حال من إتيان الله إياهم من حيث لم يحتسبوا فتخصيصه بالذكر للتعجيب من صنع الله، وعطفه على أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا عطف خاص على عام للاهتمام.
و {الرعب} : شدة الخوف والفزع. وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: نصرت بالرعب، أي برعب أعداء الدين.
وجملة {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} حال من الضمير المضاف إليه {قلوبهم} لأن المضاف جزء من المضاف إليه فلا يمنع مجيء الحال منه.
والمقصود التعجيب من اختلال أمورهم فإنهم وإن خربوا بيوتهم باحتيارهم لكن داعي التخريب قهري.
والإخراب والتخريب: إسقاط البناء ونقضه.
والخراب: تهدم البناء.
وقرأ الجمهور {يخربون} بسكون الخاء وتخفيف الراء المكسورة مضارع: أخرب. وقرأه أبو عمرو وحده بفتح الخاء وتشديد الراء المكسورة مضارع: خرب. وهما بمعنى واحد. قال سيبويه: إن أفعلت وفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته، وأفرحته وفرحته. يريد في أصل المعنى. وقد تقدم ما ذكر من الفرق بين: أنزل ونزل في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير.
وأشارت الآية إلى ما كان من تخريب بني النضير بيوتهم ليأخذوا منها ما يصلح من أخشاب وأبواب مما يحملونه معهم ليبنوا به منازلهم في مهاجرهم، وما كان من تخريب المؤمنين بقية تلك البيوت كلما حلوا بقعة تركها بنو النضير.
وقوله: {بأيديهم} هو تخريبهم البيوت بأيديهم، حقيقة في الفعل وما في تعلق به، وأما تخريبهم بيوتهم بأيدي المؤمنين فهو مجاز عقلي في إسناد التخريب الذي خربه المؤمنون إلى بني النضير باعتبار أنهم سببوا تخريب المؤمنين لما تركه بنو النضير.
فعطف {أَيْدِيَ الْمُؤْمِنِينَ} على {بأيديهم} بحيث يصير متعلقا بفعل {يخربون} استعمال دقيق لأن تخريب المؤمنين ديار بني النضير لما وجدوها خاوية تخريب حقيقي يتعلق المجرور به حقيقة.
فالمعنى: ويسببون خراب بيوتهم بأيدي المؤمنين فوقع إسناد فعل {يخربون} على

الحقيقة ووقع تعلق وتعليق {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} به على اعتبار المجاز العقلي، فالمجاز في التعليق الثاني.
وأما معنى التخريب فهو حقيقي بالنسبة لكلا المتعلقين فإن المعنى الحقيقي فيهما هو العبرة التي نبه عليها قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} ، أي اعتبروا بأن كان تخريب بيوتهم بفعل وكانت آلات التخريب من آلاتهم وآلات عدوهم.
والاعتبار: النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها. وهو افتعال من العبرة، وهي الموعظة. وقول القاموس: هي العجب قصور.
وتقدم في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] في سورة يوسف.
والخطاب في قوله: {يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} موجه إلى غير معين. ونودي أولوا الأبصار بهذه الصلة ليشير إلى أن العبرة بحال بني النضير واضحة مكشوفة لكل ذي بصر ممن شاهد ذلك، ولكل ذي بصر يرى مواقع ديارهم بعدهم، فتكون له عبرة قدرة الله تعالى على إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال. وفي انتصار الحق على الباطل وانتصار أهل اليقين على المذبذبين.
وقد احتج بهذه الآية بعض علماء الأصول لإثبات حجية القياس بناء على أنه من الاعتبار.
[3] {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} .
{وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا}.
جملة معترضة ناشئة عن جملة {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:2]. فالواو اعتراضية، أي أخرجهم الله من قريتهم عقابا لهم على كفرهم وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم كما قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:4] ولو لم يعاقبهم الله بالجلاء لعاقبهم بالقتل والأسر لأنهم استحقوا العقاب. فلو لم يقذف في قلوبهم الرعب حتى استسلموا لعاقبهم بجوع الحصار وفتح ديارهم عنوة فعذبوا قتلا وأسرا.
والمراد بالتعذيب: الألم المحسوس بالأبدان بالقتل والجرح والأسر والإهانة وإلا

فإن الإخراج من الديار نكبة ومصيبة لكنها لا تدرك بالحس وإنما تدرك بالوجدان.
و {لولا} حرف امتناع لوجود، تفيد امتناع جوابها لآجل وجود شرطها، أي وجود تقدير الله جلاءهم سبب لانتفاء تعذيب الله إياهم في الدنيا بعذاب آخر.
وإنما قدر الله لهم الجلاء دون التعذيب في الدنيا لمصلحة اقتضتها حكمته، وهي أن يأخذ المسلمون أرضهم وديارهم وحوائطهم دون إتلاف من نفوس المسلمين مما لا يخلو منه القتال لأن الله أراد استبقاء قوة المسلمين لما يستقبل من الفتوح، فليس تقدير الجلاء لهم القصد اللطف بهم وكرامتهم وإن كانوا قد آثروه على الحرب.
ومعنى {كتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ} قدر لهم تقديرا كالكتابة في تحقيق مضمونه وكان مظهر هذا التقدير الإلهي ما تلاحق بهم من النكبات من جلاء النضير ثم فتح قريظة ثم فتح خيبر.
والجلاء: الخروج من الوطن بنية عدم العود، قال زهير:
فإن الحق مقطعة ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء
واعلم أن {أن} الواقعة بعد {لولا} هنا مصدرية لأن {أن} الساكنة النون إذا لم تقع بعد فعل علم يقين أو ظن ولا بعد ما فيه معنى القول، فهي مصدرية وليست مخففة من الثقيلة.
{وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّار} .
عطف على جملة {لولا َوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ} الآية، أو على جملة {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحشر: 2] الآيات، وليس عطفا على جواب {لولا} فإن عذاب النار حاق عليهم وليس منتفيا. والمقصود الاحتراس من توهم أن الجلاء بدل من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة.
[4] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
الإشارة إلى جميع ما ذكر من إخراج الذين كفروا من ديارهم، وقذف الرعب في قلوبهم، وتخريب بيوتهم، وإعداد العذاب لهم في الآخرة.
والباء للسببية وهي جارة للمصدر المنسبك من "أن" وجملتها.

والمشاقة: المخاصمة والعداوة قال تعالىْ: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27] وقد تقدم نظيره في أول الأنفال.
والمشاقة كالمحادة مشتقة من الاسم. وهو الشق، كما اشتقت المحادة من الحد، كما تقدم في أول سورة المجادلة. وتقدم في سورة النساء[35] {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} .
وقد كان بنو النضير ناصبوا المسلمين العداء بعد أن سكنوا المدينة وأضروا المنافقين وعاهدوا مشركي أهل مكة كما علمت آنفا.
وجملة {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تذييل، أي شديد العقاب لكل من يشاققه من هؤلاء وغيرهم.
وعطف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم على اسم الجلالة في الجملة الأولى لقصر تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليعلموا أن طاعته طاعة لله لأنه إنما يدعو إلى ما أمره الله بتبليغه ولم يعطف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم في الجملة الثانية استغناء بما علم من الجملة الأولى.
وأدغم القافان في {يشاق} لأن الإدغام والإظهار من مثله جائزان في العربية. وقرئ بهما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} في سورة العقود[217]. والفك لغة الحجاز. والإدغام لغة بقية العرب.
وجملة {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} دليل جواب {من} الشرطية إذ التقدير: ومن يشاقق الله فالله معاقبهم إنه شديد العقاب.
[5] {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}.
استئناف ابتدائي أفضى به إلى المقصد عن السورة عن أحكام أموال بني النضير وإشارة الآية إلى ما حدث في حصار بني النضير وذلك أنهم قبل أن يستسلموا اعتصموا بحصونهم فحاصرهم المسلمون وكانت حوائطهم خارج قريتهم وكانت الحوائط تسمى البويرة بضم الباء الموحدة وفتح الواو وهي تصغير بؤر بهمزة مضمومة بعد الباء فخففت واوا عمد بعض المسلمين إلى قطع بعض نخيل النضير قيل بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم وقيل بدون أمره ولكنه لم يغيره عليهم. فقيل كان ذلك ليوسعوا مكانا لمعسكرهم، وقيل لتخويف بني

النضير ونكايتهم، وأمسك بعض الجيش عن قطع النخيل وقالوا: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا. وقد ذكر أن النخلات التي قطعت ست نخلات أو نخلتان. فقالت اليهود: يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر، وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض فأنزل الله هذه الآية.
والمعنى: أن ما قطعوا من النخل أريد به مصلحة إلجاء العدو إلى الاستسلام وإلقاء الرعب في قلوبهم وإذلالهم بأن يروا أكرم أموالهم عرضة للإتلاف بأيدي المسلمين، وأن ما أبقي لم يقطع في بقائه مصلحة لأنه آيل إلى المسلمين فيما أفاء الله عليهم فكان في كلا القطع والإبقاء مصلحة فتعارض المصلحتان فكان حكم الله تخيير المسلمين. والتصرف في وجوه المصالح يكون تابعا لاختلاف الأحوال، فجعل الله القطع والإبقاء كليهما بإذنه، أي مرضيا عنده، فأطلق الإذن على الرضى على سبيل الكناية، أو أطلق إذن الله على إذن رسوله صلى الله عليه وسلم إن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بذلك ابتداء، ثم أمر بالكف عنه.
وكلام الأئمة غير واضح في إذن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ابتداء وأظهر أقوالهم قول مجاهد: إن القطع والامتناع منه كان اختلافا بين المسلمين، وأن الآية نزلت بتصديق من نهي عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم. وفي ذلك قال حسان ابن ثابت يتورك على المشركين بمكة إذ غلب المسلمون بني النضير أحلافهم ويتورك على بني النضير إذ لم ينصرهم أحلافهم المشركون من قريش:
تفاقد معشر نصروا قريشا ... وليس لهم ببلدتهم نصير
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
يريد سراة أهل مكة وكلهم من بني لؤي بن غالب بن فهر، وفهر هو قريش أي لم ينقذوا أحلافهم لهوانهم عليهم.
وأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يومئذ مشرك:
أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق في نواحيها السعير
ستعلم أينا منها بنزه ... وتعلم أي أرضينا تضير
يريد أن التحريق وقع بنواحي مدينتكم فلا يضير إلا أرضكم ولا يضير أرضنا، فقوله: أدام الله ذلك من صنيع، تهكم.
ومن هذه الآية أخذ المحققون من الفقهاء أن تحريق دار العدو وتخريبها وقطع

ثمارها جائز إذا دعت إليه المصلحة المتعينة وهو قول مالك. وإتلاف بعض المال لإنقاذ باقيه مصلحة وقوله: {مِنْ لِينَةٍ} بيان لما في قوله: {مَا قَطَعْتُمْ} .
واللينة: النخلة ذات الثمر الطيب تطلق اسم اللينة على كل نخلة غير العجوة والبرمني في قول الجمهور أهل المدينة وأئمة اللغة. وتمر اللينة يسمى اللون.
وإيثار {لينة} على نخلة لأنه أخف ولذلك لم يرد لفظ نخلة مفردا في القرآن، وإنما ورد النخل اسم جمع.
قال أهل اللغة ياء لينة أصلها واو انقلبت ياء لوقوعها إثر كسرة ولم يذكروا سبب كسر أوله ويقال: لونة وهو ظاهر.
وفي كتب السيرة يذكر أن بعض نخل بني النضير أحرقه المسلمون وقد تضمن ذلك شعر حسان ولم يذكر القرآن الحرق فلعل خبر الحرق مما أرجف به فتناقله بعض الرواة، وجرى عليه شعر حسان وشعر أبي سفيان بن الحارث، أو أن النخلات التي قطعت أحرقها الجيش للطبخ أو للدفء.
وجيء بالحال في قوله: {قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} لتصوير هيئتها وحسنها. وفيه إيماء إلى أن ترك القطع أولى. وضمير {أصولها} عائد إلى {ما} الموصولة في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ} . } لأن مدلول {ما} هنا جمع وليس عائد إلى {لينة} لأن اللينة ليس لها عدة أصول بل لكل لينة أصل واحد.
وتعلق {عَلَى أُصُولِهَا} بـ {قائمة} . والمقصود: زيادة تصوير حسنها. والأصول: القواعد. والمراد هنا: سوق النخل قال تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [ابراهيم: 24]. ووصفها بأنها {قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} هو بتقدير: قائمة فروعها على أصولها لظهور أن أصل النخلة بعضها.
والفاء من قوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} مزيدة في خبر المبتدأ لأنه اسم موصول، واسم الموصول يعامل معاملة الشرط كثيرا إذا ضمن معنى التسبب، وقد قرئ بالفاء وبدونها قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} في سورة الشورى. [30]
وعطف {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} من عطف العلة على السبب وهو {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} لأن السبب في معنى العلة، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية في آل عمران[166].

والمعنى: فقطع ما قطعتم من النخل وترك ما تركتم لأن الله أذن للمسلمين به لصلاح لهم فيه، {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} ، أي ليهين بني النضير فيروا كرائم أموالهم بعضها مخضود وبعضها بأيدي أعدائهم. فذلك عزة للمؤمنين وخزي للكافرين والمراد ب {الفاسقين} هنا: يهود النضير.
وعدل عن الإتيان بضميرهم كما أتي بضمائرهم من قبل ومن بعد إلى التعبير عنهم بوصف {الفاسقين} لأن الوصف المشتق يؤذن بسبب ما اشتق منه في ثبوت الحكم، أي ليجزيهم لأجل الفسق.
والفسق: الكفر.
[6] {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يشاء والله على كل شيء قدير} .
يجوز أن يكون عطفا على جملة {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5 ] الآية فتكون امتنانا وتكملة لمصارف أموال بني النضير.
ويجوز أن تكون عطفا على مجموع ما تقدم عطف القصة على القصة والغرض على الغرض للانتقال إلى التعريف بمصير موال بني النضير لئلا يختلف رجال المسلمين في قسمته. ولبيان أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة أموال بني النضير هو عدل إن كانت الآية نزلت بعد القسمة وما صدق {مَا أَفَاءَ اللَّهُ} هو ما تركوه من الأرض والنخل والنقض والحطب.
والفيء معروف في اصطلاح الغزاة ففعل أفاء أعطى الفيء، فالفيء في الحروب والغارات ما يظفر به الجيش من متاع عدوهم وهو أعم من الغنيمة ولم يتحقق أئمة اللغة في أصل اشتقاقه فيكون الفيء بقتال ويكون بدون قتال وأما الغنيمة فهي ما أخذ بقتال.
وضمير {منهم} عائد إلى {الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 2] الواقع في أول السورة وهم بنو النضير. وقيل: أريد به الكفار، وأنه نزل في فيء فدك فهذا بعيد ومخالف للآثار.
وقوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} خبر عن "ما" الموصولة قرن بالفاء لأن الموصول كالشرط لتضمنه معنى التسبب كما تقدم آنفا في قوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5].

وهو بصريحه امتنان على المسلمين بأن الله ساق لهم أموال بني النضير دون قتال، مثل قوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]، ويفيد مع ذلك كناية بأن يقصد بالإخبار عنه بأنهم لم يوجفوا عليه لازم الخبر وهو أنه ليس لهم سبب حق فيه. والمعنى: فما هو من حقكم، أو لا تسألوا قسمته لأنكم لم تنالوه بقتالكم ولكن الله أعطاه رسوله صلى الله عليه وسلم نعمة منه بلا مشقة ولا نصب.
والإيجاف: نوع من سير الخيل. وهو سير سريع بإيقاع وأريد به الركض للإغارة لأنه يكون سريعا.
والركاب: اسم جمع للإبل التي تركب. والمعنى: ما أغرتم عليه بخيل ولا إبل.
وحرف {على} في قوله تعالى: ف {فمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} للتعليل، وليس لتعدية {أوجفتم} لأن معنى الإيجاف لا يتعدى إلى الفيء بحرف الجر، أو متعلق بمحذوف وهو مصدر {أوجفتم}، أي إيجافا لأجله.
و {من} في قوله: {من خيل} زائدة داخلة على النكرة في سياق النفي ومدخول {من} في معنى المفعول به ل {أوجفتم} أي ما سقتم خيلا ولا ركابا.
وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} استدراك على النفي الذي في قوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} لرفع توهم أنه لا حق فيه لأحد. والمراد: أن الله سلط عليه رسوله صلى الله عليه وسلم. فالرسول أحق به. وهذا التركيب يفيد قصرا معنويا كأنه قيل: فما سلطكم الله عليهم ولكن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} إيجاز حذف لأن التقدير: ولكن الله سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم. والله يسلط رسله على من يشاء وكان هذا بمنزلة التذييل لعمومه وهو دال على المقدر.
وعموم {مَنْ يَشَاءُ} لشمول أنه يسلط رسله على مقاتلين ويسلطهم على غير المقاتلين.
والمعنى: وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو بتسليط الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلقاء الرعب في قلوبهم والله يسلط رسله على من يشاء. فأغنى التذييل عن المحذوف، أي فلا حق لكم فيه فيكون من مال الله يتصرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور من بعده.

فتكون الآية تبيينا لما وقع في قسمة فيء بني النضير. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقسمه على جميع الغزاة ولكن قسمه على المهاجرين سواء كانوا ممن غزوا معه أم لم يغزوا إذ لم يكن للمهاجرين أموال. فأراد أن يكفيهم ويكفي الأنصار ما منحوه المهاجرين من النخيل. ولم يعط منه الأنصار إلا ثلاثة لشدة حاجتهم وهم أبو دجانة سماك ابن خزينة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. وأعطى سعد بن معاذ سيف أبي الحقيق، وكل ذلك تصرف باجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله جعل تلك الأموال له.
فإن كانت الآية نزلت بعد أن قسمت أموال النضير كانت بيانا بأن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حق، أمره الله به، أو جعله إليه، وإن كانت نزلت قبل القسمة، إذ روي أن سبب نزولها أن الجيش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تخميس أموال بني النضير مثل غنائم بدر فنزلت هذه الآية، وكانت الآية تشريعا لاستحقاق هذه الأموال.
قال أبو بكر بن العربي لا خلاف بين العلماء أن الآية الأولى خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي هذه الآية الأولى من الآيتين المذكورتين في هذه السورة خاصة بأموال بني النضير، وعلى أنها خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء. وبذلك قال عمر بن الخطاب بمحضر عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد، وهو قول مالك فيما روى عنه ابن القاسم وابن وهب. قال: كانت أموال بني النضير صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمسها. واختلف في القياس عليها كل مال لم يوجف عليه،قال ابن عطية: قال بعض العلماء وكذلك كل ما فتح الله على الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة اهـ. وسيأتي تفسير ذلك في الآية بعدها.
[7] {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}.
جمهور العلماء جعلوا هذه الآية ابتداء كلام، أي على الاستئناف الابتدائي، وأنها قصد منها حكم غير الحكم الذي تضمنته الآية التي قبلها. ومن هؤلاء مالك وهو قول الحنفية فجعلوا مضمون الآية التي قبلها أموال بني النضير خاصة، وجعلوا الآية الثانية هذه إخبارا عن حكم الأفياء التي حصلت عند فتح قرى أخرى بعد غزوة بني النضير. مثل

قريضة سنة خمس وفدك سنة سبع، ونحوهما فعينته هذه الآية للأصناف المذكورة فيها، ولا حق في ذلك لأهل الجيش أيضا وهذا الذي يجري على وفاق كلام عمر بن الخطاب في قضائه بين العباس وعلي فيما بأيديهما من أموال بني النضير على احتمال فيه، وهو الذي يقتضيه تغيير أسلوب التعبير بقوله هنا: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} بعد أن قال التي في قبلها {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] فإن ضمير {منهم} راجع ل {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: من 2] وهم بنو النضير لا محالة. وعلى هذا القول يجوز أن تكون هذه الآية نزلت بعد مدة فإن فتح القرى وقع بعد فتح النضير بنحو سنتين.
ومن العلماء من جعل هذه الآية كلمة وبيانا للآية التي قبلها، أي بيانا للإجماع الواقع في قوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} الآية [الحشر:6] لأن الآية التي قبلها اقتصرت على الإعلام بأن أهل الجيش لا حق لهم فيه، ولم تبين مستحقه وأشعر قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] أنه مال لله تعالى يضعه حيث يشاء على يد رسوله صلى الله عليه وسلم فقد بين الله له مستحقيه من غير أهل الجيش. فموقع هذه الآية من التي قبلها موقع عطف البيان. ولذلك فصلت.
وممن قال بهذا الشافعي وعليه جرى تفسير صاحب الكشاف. ومقتضى هذا أن تكون أموال بني النضير مما يخمس ولم يرو أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسها بل ثبت ضده، وعلى هذا يكون حكم أموال بني النضير حكما خاصا، أو تكون هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها إن كانت نزلت بعدها بمدة.
قال ابن الفرس: آية {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} . وهذه الآية من المشكلات إذا نظرت مع الآية التي قبلها ومع آية الغنيمة من سورة الأنفال. ولا خلاف في أن قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} الآية [الحشر: 6] إنما نزلت فيما صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الكفار بغير إيجاف، وبذلك فسرها عمر ولم يخالفه أحد.
وأما آية الأنفال فلا خلاف أنها نزلت فيما صار من أموال الكفار بإيجاف، وأما الآية الثانية من الحشر فاختلف أهل العلم فيها فمنهم من أضافها إلى التي قبلها، ومنهم من أضافها إلى آية الأنفال وأنهما نزلتا بحكمين مختلفين في الغنيمة الموجف عليها، وأن آية الأنفال، نسخت آية الحشر.
ومنهم من قال: إنها نزلت في معنى ثالث غير المعنيين المذكورين في الآيتين:

واختلف الذاهبون إلى هذا: فقيل نزلت في خراج الأرض والجزية دون بقية الأموال وقيل نزلت في حكم الأرض خاصة دون سائر أموال الكفار فتكون تخصيصا لآية الأنفال وإلى هذا ذهب مالك. والآية عند أهل هذه المقالة غير منسوخة. ومنهم من ذهب إلى تخيير الإمام اهـ.
والتعريف في قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} تعريف العهد وهي قرى معروفة عدت منها قريظة، وفدك، وقرى عرينة، والينبع، ووادي القرى، والصفراء، فتحت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف الناس في فتحها أكان عنوة أو صلحا أو فيئا. والأكثر على أن فدك كانت مثل النضير.
ولا يختص جعله للرسول بخصوص ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بل مثله فيه أئمة المسلمين.
وتقييد الفيء بفيء القرى جرى على الغالب لأن الغالب أن لا تفتح إلا القرى لأن أهلها يحاصرون فيستسلمون ويعطون بأيديهم إذا اشتد عليهم الحصار، فأما النازلون بالبوادي فلا يغلبون إلا بعد إيجاف وقتال فليس لقيد {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} مفهوم عندنا، وقد اختلف الفقهاء في حكم الفيء الذي يحصل للمسلمين بدون إيجاف. فمذهب مالك أنه لا يخمس وإنما تخمس الغنائم وهي ما غنمه المسلمون بإيجاف وقتال.
وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل بين الأموال غير الأرضين وبين الأرضين. فأما غير الأرضين فهو مخمس، وأما الأرضون فالخيار فيها للإمام بما يراه أصلح إن شاء قسهما وخمس أهلها فهم أرقاء، وإن شاء تركها على ملك أهلها وجعل خراجا عليها وعلى أنفسهم.
وذهب الشافعي: إلى أن جميع أموال الحرب مخمسة وحمل حكم هاته الآية على حكم آية سورة الأنفال بالتخصيص أو بالنسخ.
وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل بين الأموال غير الأرضين وبين الأرضين فأما غير الأرضين فهو مخمس وأما الأرضون فالتفويض فيها للإمام بما يراه أصلح إن شاء قسمها وخمس أهلها فهم أرقاء وإن شاء أقر أهلها بها وجعل خراجا عليها وعلى أنفسهم.
وهذه الآية اقتضت أن صنفا مما أفاء الله على المسلمين لم يجعل الله فيه نصيبا للغزاة وبذلك تحصل معارضة بين مقتضاها وبين قصر آية الأنفال التي لم تجعل لمن ذكروا في هذه الآية إلا الخمس فقال جمع من العلماء: إن آية الأنفال نسخت حكم هذه الآية.

وقال جمع: هذه الآية نسخت آية الأنفال. وقال قتادة: كانت الغنائم في صدر الإسلام لهؤلاء الأصناف الخمسة ثم نسخ ذلك بآية الأنفال، بذلك قال زيد بن رومان: قال القرطبي ونحوه عن مالك اهـ. على أن سورة الأنفال سابقة في النزول على سورة الحشر لأن الأنفال نزلت في غنائم بدر وسورة الحشر نزلت بعدها بسنتين.
إلا أن يقول قائل: إن آية الأنفال نزلت بعد آية الحشر تجديدا لما شرعه الله من التخميس في غنائم بدر، أي فتكون آية الحشر ناسخة لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة مغانم بدر،ثم نسخت آية الأنفال آية الحشر فيكون إلحاقها بسورة الأنفال بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال القرطبي: قيل إن سورة الحشر نزلت بعد الأنفال، واتفقوا على أن تخميس الغنائم هو الذي استقر عليه العمل، أي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبالإجماع.
وليس يبعد عندي أن تكون القرى التي عنتها آية الحشر فتحت بحالة مترددة بين مجرد الفيء وبين الغنيمة، فشرع لها حكم خاص بها، وإذ قد كانت حالتها غير منضبطة تعذر أن نقيس عليها ونسخ حكمها واستقر الأمر على انحصار الفتوح في حالتين: حالة الفيء المجرد وما ليس مجرد فيء. وسقط حكم آية الحشر بالنسخ أو بالإجماع. والإجماع على مخالفة حكم النص يعتبر ناسخا لأنه يتضمن ناسخا. وعن معمر أنه قال: بلغني أن هذه الآية أي آية {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} نزلت في أرض الخراج والجزية.
ومن العلماء من حملها على أرض الكفار إذا أخذت عنوة مثل سواد العراق دون ما كان من أموالهم غير أرض. كل ذلك من الحيرة في الجمع بين هذه الآية وآية سورة الأنفال مع أمها متقدمة على هذه مع ما روي عن عمر في قضية حكمه بين العباس وعلي، ومع ما فعله عمر في سواد العراق، وقد عرفت موقع الكل. وستعرف وجه ما فعله عمر في سواد العراق عند الكلام على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10].
ومن العلماء من جعل محمل هذه الآية على الغنائم كلها بناء على تفسيرهم الفيء بما يرادف الغنيمة. وزعموا أنها منسوخة بآية النفال. وتقدم ما هو المراد من ذكر اسم الله تعالى في عداد من لهم المغانم والفيء والأصناف المذكورة في هذه الآية تقدم بيانا في سورة الأنفال.
و {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} الخ تعليل لما اقتضاه لام التمليك من جعله ملكا لأصناف كثيرة الأفراد، أي جعلناه مقسوما على هؤلاء لأجل أن لا يكون الفيء دولة بين الأغنياء

من المسلمين، ي لئلا يتداوله الأغنياء ولا ينال أهل الحاجة نصيب منه.
والمقصود من ذلك. إبطال ما كان معتادا بين العرب قبل الإسلام من استئثار قائد الجيش بأمور من المغانم وهي: المرباع، والصفايا، وما صالح عليه عدوه دون قتال، والنشيطة والفضول.
قال عبد الله بن غنمة الضبي يخاطب بسطام بن قيس سيد بني شيبان وقائدهم في أيامهم:
لك المرباع منه والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
فالمرباع: ربع المغانم كان يستأثر به قائد الجيش.
والصفايا: النفيس من المغانم الذي لا نظير له فتعذر قسمته، كان يستأثر به قائد الجيش، وأما حكمه فهو ما أعطاه العدو من المال إذا نزلوا على حكم أمير الجيش.
والنشيطة: ما يصيبه الجيش في طريقه من مال عدوهم قبل أن يصلوا إلى موضع القتال.
والفضول: ما يبقى بعد قسمة المغانم مما لا يقبل القسمة على رؤوس الغزاة مثل بعير وفرس.
وقد أبطل الإسلام ذلك كله فجعل الفيء مصروفا إلى ستة مصارف راجعة فوائدها إلى عموم المسلمين لسد حاجاتهم العامة والخاصة، فإن ما هو لله وللرسول صلى الله عليه وسلم إنما يجعله الله لما يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل الخمس من المغانم كذلك لتلك المصارف.
وقد بدأ من هذا التعليل أن من مقاصد الشريعة أن يكون المال دولة بين الأمة الإسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد مثل الموات، والفيء، واللقطات، والركاز، أو كان جزءا معينا مثل: الزكاة، والكفارات، وتخميس المغانم، والخراج، والمواريث، وعقود المعاملات التي بين جانبي مال وعمل مثل: القراض، والمغارسة، والمساقاة، وفي الأموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل: الفيء والركائز، وما ألقاه البحر، وقد بينت ذلك في الكتاب الذي سميته "مقاصد الشريعة الإسلامية" .
والدولة بضم الدال: ما يتداوله المتداولون. والتداول: التعاقب في التصرف في

شيء. وخصها الاستعمال بتداول الأموال.
والدولة بفتح الدال: النوبة في الغلبة والملك. ولذلك أجمع القراء المشهورون على قراءتها في هذه الآية بضم الدال.
وقرأ الجمهور {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} بنصب {دولة} على أنه خبر {يكون} . واسم {يكون} ضمير عائد إلى ما أفاء الله وقرأه هشام عن ابن عامر، وأبو جعفر برفع {دولة} على أن {يكون} تامة و {دولة} فاعله.
وقرأ الجمهور {يكون} بتحتية في أوله. وقرأه أبو جعفر {تكون} بمثناة فوقية جريا على تأنيث فاعله. واختلف الرواة عن هشام فبعضهم روى عنه موافقة أبي جعفر في تاء {تكون} وبعضهم روى عنه موافقة الجمهور في الياء.
والخطاب في قوله تعالى: {بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} للمسلمين لأنهم الذين خوطبوا في ابتداء السورة بقوله: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر: 2] ثم قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} وما بعده. وجعله ابن عطية خطاب للأنصار لأن المهاجرين لم يكن لهم في ذلك الوقت غنى.
والمراد بـ {الأغنياء} الذين هم مظنة الغنى، وهم الغزاة لأنهم أغنياء بالمغانم والأنفال.
[7] {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
اعتراض ذيل به حكم فيء بني النضير إذ هو أمر بالأخذ بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومما جاءت به هذه الآيات في شأن فيء النضير،والواو اعتراضية، والقصد من هذا التذييل إزالة ما في نفوس بعض الجيش من حزازة حرمانهم مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أرض النضير.
والأيتاء مستعار لتبليغ الأمر إليهم جعل تشريعه وتبليغه كإيتاء شيء بأيديهم كما قال تعالى {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63 ،93] واستعير الأخذ أيضا لقبول الأمر والرضى به والعمل.
وقرينة ذلك مقابلته بقوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وهو تتميم لنوعي التشريع. وهذه الآية جامعة للأمر باتباع ما يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم من قول وفعل فيندرج فيها جميع أدلة السنة. وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن الله الواشمات والمستوشمات". .. الحديث. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم

يعقوب فجاءته فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال لها: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله? فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
وعطف على هذا الأمر تحذير من المخالفة فأمرهم بتقوى الله فيما أمر به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطف الأمر بالتقوى على الأمر بالأخذ بالأوامر وترك المنهيات يدل على أن التقوى هي امتثال الأمر واجتناب النهي.
والمعنى: واتقوا عقاب الله لأن الله شديد العقاب، أي لمن خالف أمره واقتحم نهيه.
[8] {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} .
بدل مما يصلح أن يكون بدر منه من أسماء الأصناف المتقدمة التي دخلت عليها اللام مباشرة وعطفا قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] بدل بعض من كل.
وأول فائدة في هذا البدل التنبيه على أن ما أفاء الله على المسلمين من أهل القرى المعنية في الآية لا يجري قسمه على ما جرى عليه قسم أموال بني النضير التي اقتصر في قسمها على المهاجرين وثلاثة من الأنصار ورابع منهم، فكأنه قيل: ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل للفقراء منهم لا مطلقا يدخل في ذلك المهاجرون والأنصار والذين آمنوا بعدهم.
وأعيد اللام مع البدل لربطه بالمبدل منه لانفصال ما بينهما بطول الكلام من تعليل وتذييل وتحذير. ولإفادة التأكيد.
وكثير ما يقترن البدل العامل في المبدل منه على وجه التأكيد اللفظي، وتقدم في قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} في سورة العقود[114]. فبقى احتمال أن يكون قيدا {لِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]، فيتعين أن يكون قوله {للفقراء} إلى آخره مسوقا لتقييد استحقاق هؤلاء الأصناف وشأن القيود الواردة بعد مفردات أن ترجع إلى جميع ما قبلها، فيقتضي هذا أن يشترط الفقر في كل صنف من هذه

الأصناف الأربعة، لأن مطلقها قد قيد بقيد عقب إطلاق، والكلام بأواخره فليس يجري الاختلاف في حمل المطلق على المقيد، ولا تجري الصور الأربعة في حمل المطلق على المفيد من اتحاد حكمهما وجنسهما. ولذلك قال مالك وأبو حنيفة: لا يعطي ذوو القربى إلا إذا كانوا فقراء لأنه عوض لهم عما حرموه من الزكاة. وقال الشافعي وكثير من الفقهاء: يشترط الفقر فيما عدا ذوي القربى لأنه حق لهم لأجل القرابة للنبي صلى الله عليه وسلم. قال إمام الحرمين: أغلظ الشافعي الرد على مذهب أبي حنيفة بأن الله علق الاستحقاق بالقرابة ولم يشترط الحاجة، فاشتراطها وعدم اعتبار القرابة يضاره ويحاده.
قلت: هذا محل النزاع فإن الله ذكر وصف اليتامى ووصف ابن السبيل ولم يشترط الحاجة.
واعتذر إمام الحرمين للحنفية بأن الصدقات لما حرمت على ذوي القربى كانت فائدة وذكرهم في خمس الفيء والمغانم أنه لا يمنع صرفه إليهم امتناع صرف الصدقات، ثم قال: لا تغتر بالاعتذار فإن الآية نص على ثبوت الاستحقاق تشريفا اهم فمن علله بالحاجاة فوت هذا المعنى اهـ.
وعند التأمل تجد أن هذا الرد مدخول، والبحث فيه يطول. ومحله مسائل الفقه والأصول.
ومن العلماء والمفسرين من جعل جملة {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} ابتدائية على حذف المبتدأ. والتقدير ما أفاء الله على رسوله للمهاجرين الفقراء إلى آخر ما عطف عليه فتكون هذه مصارف أخرى للفيء، ومنهم من جعلها بحذف حرف العطف على طريقة التعداد كأنه قيل: فلله وللرسول، إلى آخره، ثم قيل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} . فعلى هذين القولين ينتفي كونها قيد للجملة التي قبلها، وتنفتح طرائف أخرى في حمل المطلق على المقيد، والاختلاف في شروطها الحمل، وهي طرائف واضحة للمتأمل، وعلى الوجه الأول يكون المعول.
ووصف المهاجرين بالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم تنبيها على أن إعطاءهم مراعى جبر ما نكبوا به من ضياع الأموال والديار، ومراعى فيه إخلاصهم الإيمان وأنهم مكررون نصر دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فذيل بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} .
واسم الإشارة لتعظيم شأنهم وللتنبيه على أن استحقاقهم وصف الصادقين لأجل ما

سبق اسم الإشارة من الصفات وهي أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم وابتغاؤهم فضلا من الله ورضوانا ونصرهم الله ورسوله فإن الأعمال الخالصة فيما عملت لأجله يشهد للإخلاص فيها ما يلحق عاملها من مشاق وأذى وإضرار، فيستطيع أن يخلص منها لو ترك ما عمله لأجلها أو قصر فيه.
وجملة {هُمُ الصَّادِقُونَ} مفيدة القصر لأجل ضمير الفصل وهو قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بالصدق الكامل كأن صدق غيرهم ليس صدقا في جانب صدقهم.
وموقع قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} كموقع قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة البقرة[5].
[9] {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
الأظهر أن {الذين} عطف على {المهاجرين} أي والذين تبؤوا الدار هم الأنصار.
والدر تطلق على البلاد، وأصلها موضع القبيلة من الأرض. وأطلقت على القرية قال تعالى في ذكر ثمود {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [االأعراف: 78]، أي في مدينتهم وهي حجر ثمود.
والتعريف هنا للعهد لأن امراد بالدار: يثرب والمعنى الذين هم أصحاب الدار. هذا توطئة لقوله: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} .
والتبوء: اتخاذ المباءة وهي البقعة التي يبوء إليها صاحبها، أي يرجع إليها بعد انتشاره في أعماله. وفي موقع قوله {والإيمان} غموض إذ لا يصح أن يكون مفعول لفعل تبؤوا، فتأوله المفسرون على وجهين: أحدهما أن يجعل الكلام استعارة مكنية بتشبيه الإيمان بالمنزل وجعل إثبات التبؤ تخييلا فيكون فعل تبوأوا مستعملا في حقيقته ومجازه.
وجمهور المفسرين جعلوا المعطوف عاملا مقدرا يدل عليه الكلام، وتقديره: واخلصوا الإيمان على نحو قول الراجز الذي لا يعرف:

علفتها تبنا وماء باردا1
وقول عبد الله بن الزبعرى:
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا
أي وممسكا رمحا وهو الذي درج عليه الكشاف. وقيل الواو للمعية. و{الإيمان} مفعول معه.
وعندي أن هذا أحسن الوجوه، وإن قل قائلوه. والجمهور يجعلون النصب على المفعول معه سماعيا فهو عندهم قليل الاستعمال فتجنبوا تخرج آيات القران عليه حتى ادعى ابن هشام في مغني اللبيب أنه غير واقع في القرآن بيقين. وتأويل قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]، ذلك لأن البصرين يشترطون أن يكون العامل في المفعول معه هو العامل في الاسم الذي صاحبه ولا يرون واو المعية ناصبة المفعول معه خلافا للكوفيين والأخفش فإن الواو عندهم بمعنى "مع". وقال عبد القاهر: منصوب بالواو.
والحق عدم التزام أن يكون المفعول معه معمولا للفعل، ألا ترى صحة قول القائل: استوى الماء والخشبة. وقولهم: سرت والنيل، وهو يفيد الثناء عليهم بأن دار الهجرة دارهم آووا إليها المهاجرين لأنها دار مؤمنين لا يماثلها يومئذ غيرها.
وبذلك يتضح أن متعلق {مِنْ قَبْلِهِمْ} فعل {تبوءوا} بمفرده، وأن المجرور المتعلق به قيد فيه دون ما ذكر بعد الواو لأن الواو ليست واو عطف فلذلك لا تكون قائمة مقام الفعل السابق لأن واو في معنى ظرف فلا يعلق بها مجرور.
وفي ذكر الدار وهي المدينة مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة بحيث جعل تبؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان ولعل هذا هو الذي عناه مالك رحمة الله فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكا يذكر فضل المدينة على غيرها من لآفاق. فقال:
ـــــــ
1 هو من شواهد النحو. والمشهور أن تمامه:
حتى شتت همالة عيناها.
وفي خزانة الأدب عن حاشية الشييرازي واليمني للكشاف أنه عجز رجز وأن صدره:
لما حططت الرجل عنها وأراد .
قال: ورأيت في حاشية نسخة صحيحة من صحاح الجوهري أنه لذي المرمة ولم أجده في ديوانه.

إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرأ {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} الآية.
وجملة {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} حال من الذين تبوءوا، وهذا ثناء عليهم بما تقرر في نفوسهم من أخوة الإسلام إذ أحبوا المهاجرين، وشأن القبائل أن يتحرجوا من الذين يهاجرون إلى ديارهم لمضايقتهم.
ومن آثار هذه المحبة ما ثبت في الصحيح من خبر سعد بن الربيع مع عبد الرحمان بن عوف إذ عرض سعد عليه أن يقاسمه ماله وأن ينزل له عن إحدى زوجتيه، وقد أسكنوا المهاجرين معهم في بيوتهم ومنحوهم من نحيلهم، وحسبك الأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.
وقوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} أريد بالوجدان الإدراك العقلي، وكنى بانتفاء وجدان الحاجة من انتفاء وجودها لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم وهذا من باب قول الشاعر:
ولا ترى الضب بها ينجحر
والحاجة في الأصل: اسم مصدر الحوج وهو الاحتياج، أي الافتقار إلى شيء، وتطلق على الأمر المحتاج إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول، وهي هنا مجاز في المأرب والمراد، وإطلاق الحاجة إلى المأرب مجاز مشهور ساوى الحقيقة كقوله تعالى: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} [غافر: 80]، أي لتبلغوا في السفر عليها المأرب الذي تسافرون لأجله، وكقوله تعالى: {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68] أي مأربا مهما وقول النابغة:
أيام تخبرني نعم وأخبرها
ما أكتم الناس من حاجي وإسراري
وعليه فتكون "من" في قوله: {مِمَّا أُوتُوا} ابتدائية، أي مأربا أو رغبة ناشئة من فيء أعطيه المهاجرون. والصدور مراد بها النفوس جمع الصدر وهو الباطن الذي فيه االحواس الباطنة وذلك كإطلاق القلب على ذلك.
"وما أوتوا" هو فيء بني النضير.
وضمير {صدورهم} عائد إلى {لَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} وضمير {أوتوا} عائد إلى {مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ، لأن من هاجر جماعة من المهاجرين فروعي في ضمير معنى "من"

بدون لفظها. وهذان الضميران وإن كانا ضميري غيبة وكانا مقتربين فالسامع يرد كل ضمير إلى معاده بحسب السياق مثل "ما" في قوله تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} في سورة الروم. وقول عباس بن مرداس يذكر انتصار المسلمين مع قومه بني سليم على هوازن:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسليمن وأحرزوا ما جمعوا
أي أحرز جيش هوازن ما جمعه جيش المسلمين.
والمعنى: أنهم لا يخامر نفوسهم تشوف إلى أخذ شيء مما أوتيه المهاجرون من فيء بني النضير.
ويجوز وجه آخر بان يحمل لفظ حاجة على استعماله الحقيقي اسم مصدر الاحتياج فإن الحاجة بهذا المعنى يصح وقوعها في الصدور لأنها من الوجدانيات والانفعالات. ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم أنهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم أنهم مفتقرون إلى شيء ما يؤتاه المهاجرون، أي فهم أغنياء عما يؤتاه المهاجرون فلا تستشرف نفوسهم إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون بله أن يتطلبوه.
وتكون "من" في قوله تعالى: {مِمَّا أُوتُوا} للتعليل، أي حاجة لأجل ما أوتيه المهاجرون، أو ابتدائية، أي حاجة ناشئة عما أوتيه المهاجرون فيفيد انتفاء وجدان الحاجة في نفوسهم وانتفاء أسباب ذلك الوجدان ومناشئه المعتادة في الناس تبعا للمنافسة والغبطة، وقد دل انتفاء أسباب الحاجة على متعلق حاجة المحذوف إذ التقدير: ولا يجدون في نفوسهم حاجة لشيء أوتيه المهاجرون.
والايثار: ترجيح شيء على غيره بمكرمة أو منفعة.
والمعنى: يؤثرون على أنفسهم في ذلك اختيارا منهم وهذا أعلى درجة مما أفاده قوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} فلذلك عقب به ولم يذكر مفعول {يؤثرون} لدلالة قوله: {مِمَّا أُوتُوا} عليه.
ومن إيثارهم المهاجرين ما روي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الأنصار ليقطع لهم قطائع بنخل البحرين فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها.
وإما إيثار الواحد منهم على غيره منهم فما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد. فأرسل في نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال التبي صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يضيف هذا الليلة" رحمه الله فقام رجل من الأنصار هو

أبو طلحة فقال: أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته: هذا ضيف رسول الله لا تدخريه شيئا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالى فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. فإذا دخل الضيف فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج تري أنك تصلحينه فأطفئيه وأريه أنا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف.
وذكرت قصص من هذا القبيل في التفاسير، قيل نزلت هذه الآية في قصة أبي طلحة وقيل غير ذلك.
وجملة {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} في موضع الحال.
و {لو} وصلية وهي التي تدل على مجرد تعليق جوابها بشرط يفيد حالة لا يظن حصول الجواب عند حصولها. والتقدير: لو كان بهم خصاصة لآثروا على أنفسهم فيعلم أن إيثارهم في الأحوال التي دون ذلك بالأحرى دون إفادة الامتناع. وقد بينا ذلك عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران [91].
والخصاصة: شدة الاحتياج.
وتذكير فعل {كان} لأجل كون تأنيث الخصاصة ليس حقيقيا، ولأنه فصل بين {كان} واسمها بالمجرور. والباء للملابسة.
وجملة {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تذييل، والواو اعتراضية، فإن التذييل من قبيل الاعتراض في آخر الكلام على الرأي الصحيح. وتذييل الكلام بذكر فضل من يوقون شح أنفسهم بعد قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يشير إلأ أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس فكانه قيل لسلامتهم من شح الأنفس {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
والشح بضم الشين وكسرها: غريزة في النفس بمتع ما هو لها، وهو قريب من معنى البخل. وقال الطيبي: الفرق بين الشح والبخل عسير جدا وقد أشار في الكشاف إلى الفرق بينهما بما يقتضي أن البخل أثر الشح وهو أن يمنع أحد ما يراد منه بدله وقد قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] أي جعل الشح حاضرا معها لا يفارقها، وأضيف في هذه الآية إلى النفس لذلك فهو غريزة لا تسلم منها نفس.
وفي الحديث في بيان أفضل الصدقة "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر

وتأمل الغنى". ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه. قال وقد أحسن وصفه من قال، لم أقف على قايله:
يمارس نفسا بين جنبيه كزة ... إذا هم بالمعروف قالت له مهلا
فمن وقي شح نفسه، أي وقي من أن يكون الشح المذموم خلقا له، لأنه إذا وقي هذا الخلق سلم من كل مواقع ذمه. فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وقيه.
واسم الإشارة لتعظيم هذا الصنف من الناس.
وصيغة القصر المؤداة بضمير الفصل للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتب على وقاية شح النفس حتى كان جنس المفلح مقصور على ذلك الموقى.
ومن المفسرين من جعل {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} ابتداء كلام للثناء على الأنصار بمناسبة الثناء على المهاجرين وهؤلاء لم يجعلوا للأنصار حظا في ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى وقصروا قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر:7] على قرى خاصة هي: قريظة. وفدك، وخيبر. والنفع، وعرينة، ووادي القرى، ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه فيئها قال للأنصار: "إن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه"? فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة، فنزلت آية {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية [الحشر: 7].
ومنهم من قصر هذه الآية على فيء بني النضير وكل ذلك خروج عن مهيع انتظام آي هذه السورة بعضها مع بعض وتفكيك لنظم الكلام وتناسبه مع وهن الأخبار التي رووها في ذلك فلا ينبغي التعويل عليه. وعلى هذا التفسير يكون عطف {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} عطف جملة على جملة، واسم الموصول مبتدأ وجملة {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} خبرا عن المبتدأ.
[10] {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
عطف على {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} [الحشر:9] على التفسيرين المتقدمين؛ فأما على

رأي من جعلوا {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} [الحشر:9] معطوفا على {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8] جعلوا {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} فريقا من أهل القرى، وهو غير المهاجرين والأنصار بل هو من جاء إلى الإسلام بعد المهاجرين والأنصار، فضمير {مِنْ بَعْدِهِمْ} عائد إلى مجموع الفريقين.
والمجيء مستعمل للطرو والمصير إلى حالة تماثل حالهم، وهي حالة الإسلام، فكانهم أتوا إلأى مكان لإقامتهم، وهذا فريق ثالث وهؤلاء هم الذين ذكروا في قوله تعالى: بعد ذكر المهاجرين والأنصار {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] أي اتبعوهم في الإيمان.
وإنما صيغ {جاءوا} بصيغة الماضي تغليبا لأن من العرب وغيرهم من أسلموا بعد الهجرة مثل غفارة، ومزينة، وأسلم ومثل عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، فكأنه قيل: الذين جاؤوا ويجيئون، بدلالة لحن الخطاب. والمقصود من هذا: زيادة دفع إيهام أن يختص المهاجرون بما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى كما اختصهم النبي صلى الله عليه وسلم بفيء بني النضير.
وقد شملت هذه الآية كل من يوجد من المسلمين أبد الدهر وعلى هذا جرى فهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. زوي البخاري من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال عمر لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها أي الفاتحين كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.
وذكر القرطبي: أن عمر دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا علي فلما غدو عليه قال: قد مررت بالآيات التي في سورة الحشر وتلا {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:7، 8]. قال: ما هي لهؤلاء فقط وتلا {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} إلى قوله: {رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ثم قال: ما بقى من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك اهـ.
وهذا ظاهر في الفيء، وأما ما فتح عنوة فمسألة أخرى ولعمر بن الخطاب في عدم قسمته سواد العراق بين الجيش الفاتحين له عمل آخر، وهو ليس غرضنا. ومحله كتب الفقه والحديث.
والقريق من المفسرين الذين جعلوا قوله تعالى: : {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} [الحشر:9]، كلاما مستأنفا، وجعل {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9] خبرا عن اسم الموصول، جعلوا قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} كذلك مستأنفا.

ومن الذين جعلوا قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} [الحشر: 9] معطوفا على {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:9] من جعل قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} مستأنفا. ونسبه ابن الفرس في أحكام القرآن إلى الشافعي. ورأى أن الفيء إذا كان أرضا فهو إلى تخيير الإمام وليس يتعين صرفه للأصناف المذكورة في فيء بني النضير.
وجملة {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} على التفسير المختار في موضع الحال من {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} .
والغل بكسر الغين: الحسد والبغض، أي سألوا الله أن يطهر نفوسهم من الغل والحسد للمؤمنين السابقين على ما أعطوه من فضيلة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وما فضل به بعضهم من الهجرة وبعضهم من النصرة، فبين الله للذين جاؤوا من بعدهم ما يكسبهم فضيلة ليست للمهاجرين والأنصار، وهي فضيلة الدعاء لهم بالمغفرة وانطواء ضمائرهم على محبتهم وانتفاء البغض لهم.
والمراد أنهم يضمرون ما يدعون الله به لهم في نفوسهم ويرضوا أنفسهم عليه.
وقد دلت الآية على أن حقا على المسلمين أن يذكروا سلفهم بخير، وأن حقا عليهم محبة المهاجرين والأنصار وتعطيمهم، قال مالك: من كان يبغض أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان قلبه عليه غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية.
فلعله أخذ بمفهوم الحال من قوله تعالى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} الآية، فإن المقصد من الثناء عليهم بذلك أن يضمروا مضمونه في نفوسهم فإذا أضمروا خلافه وأعلنوا بما ينافي ذلك فقد تخلف فيهم هذا الوصف، فإن الفيء عطية أعطاها الله تلك الأصناف ولم يكتسبوها بحق قتال، فاشترط الله عليهم في استحقاقها أن يكونوا محبين لسلفهم غير حاسدين لهم.
وهو يعني إلا ما كان من شنآن بين شخصين لأسباب عادية أو شرعية مثل ما كان بين العباس وعلي حين تحاكما إلى عمر، فقال العباس: اقض بيني وبين هذا الظالم الخائن الغادر. ومثل إقامة عمر حد القذف على أبي بكرة.
وأما ما جرى بين عائشة وعلي من النزاع والقتال وبين علي ومعاوية من القتال فإنما كان انتصارا للحق في كلا رأيي الجانبين وليس ذلك لغل أو تنقص، فهو كضرب القاضي

أحدا تأدييا له فوجب إمساك غيرهم من التحزب لهم بعدهم فإنه وإن ساغ ذلك لآحادهم لتكافئ درجاتهم أو تقاربها. والظن بهم زوال الحزازات من قلوبهم بانقضاء تلك الحوادث، لا يسوغ ذلك للأذناب من بعدهم الذين ليسوا منهم في عير ولا نفير، وإنما هي مسحة من حمية الجاهلية نخرت عضد الأمة المحمدية.
[11] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
أعقب ذكر ما حل بيني النضير وما اتصل به من بيان أسبابه، ثم بيان مصارف فيئهم وفيء ما يفتح من القرى بعد ذلك، بذكر أحوال المنافقين مع بني النضير وتغريرهم بالوعود الكاذبة ليعلم المسلمون أن النفاق سجية في أولئك لا يتخلون عنه ولو في جانب قوم هم الذين يودون أن يظهروا على المسلمين.
والجملة استئناف ابتدائي والاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المنافقين فبني على نفي العلم بحالهم كناية عن التحريض على ايقاع هذا العلم كأنه يقول تأمل الذين نافقوا في حال مقالتهم لإخوانهم ولا تترك النظر في ذلك فإنه حال عجيب، وقد تقدم تفصيل معنى: {أَلَمْ تَرَ} إلى كذا عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} في سورة البقرة [243].
وجملة {يقولون} في موضع المفعول الثاني. والتقدير: ألم ترهم قائلين. وجيء بالفعل المضارع لقصد تكرر ذلك منهم، أي يقولون ذلك مؤكدينه ومكررينه لا على سبيل البداء أو الخاطر المعدول عنه.
و {الَّذِينَ نَافَقُوا} المخبر عنهم هنا هم فريق من بني عوف من الخزرج من المنافقين سمى منهم عبد الله بن أبي بن سلول، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد، ورافعة بن تابوت، وأوس بن قيضي، ووديعة بن أبي قوتل، أو ابن قوقل، وسويد لم ينسب وداعس لم ينسب، بعثوا إلى بني النضير حين حاصر جيش المسلمين بني النضير يقلون لهم: أثبتوا في معاقلكم فإنا معكم.
والمراد بإخوانهم بنو النضير وإنما وصفهم بالإخوة لهم لأنهم كانوا متحدين في الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وليست هذه أخوة النسب فإن بني النضير من اليهود، والمنافقين

الذين بعثوا إليهم من بني عوف من عرب المدينة وأصلهم من الأزد.
وفي وصف إخوانهم بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} إيماء إلى أن جانب الأخوة بينهم هو الكفر إلا أن كفر المنافقين كفر الشرك وكفر إخوانهم كفر أهل الكتاب وهو الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولام {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} موطئة للقسم، أي قالوا لهم كلاما مؤكدا بالقسم.
وإنما وعدوهم بالخروج معهم ليطمئنوا لنصرتهم فهو كناية عن النصر وإلا فإنهم لا يرضون أن يفارقوا بلادهم.
وجملة {وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً} معطوفة على جملة {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} فهي من المقول لا من المقسم عليه، وقد أعربت عن المؤكد لأن بني النضير يعلمون أن المنافقين لا يطيعون الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين فكان المنافقون في غنية عن تحقيق هذا الخبر.
ومعنى {فيكم} في شأنكم، ويعرف هذا بقرينة المقام، أي في ضركم إذ لا يخطر بالبال أنهم لا يطيعون من يدعوهم إلى موالاة إخوانهم، ويقدر المضاف في مثل هذا بما يناسب المقام. ونظيره قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:52]، أي في الموالاة لهم. ومعنى {لننصرنكم} لنعيننكم في القتال. والنصر يطلق على الإعانة على المعادي. وقد أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم كاذبون في ذلك بعد ما اعلمه بما اقسموا عليه تطمينا لخاطره لأن الآية نزلت بعد إجلاء بني النضير وقبل غزو قريضة لئلا يتوجي الرسول صلى الله عليه وسلم خيفة من بأس المنافقين، وسمى الله الخبر شهادة لأنه خبر عن يقين بمنزلة الشهادة التي لا يتجازف المخبر في شأنها.
[12] {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}.
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ}
بيان لجملة {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11].
واللام موطئة للقسم وهذا تأكيد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنهم لن يضروه شيئا لكيلا يعبأ بما بلغه من مقالتهم.

وضمير {أخرجوا} و {قوتلوا} عائدان إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11] أي الذين لم يخرجوا ولما يقاتلوا وهم قريظة وخيبر، أما بنو النضير فقد أخرجوا قبل نزول هذه السورة فهم غير معنيين بهذا الخبر المستقبل. والمعنى: لئن أخرج بقية اليهود في المستقبل لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا في المستقبل لا ينصرونهم. وقد سلك في هذا البيان طريق الإطناب. فإن قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11] جمع ما في هاتين الجملتين فجاء بيانه بطريقة الإطناب لزيادة تقرير كذبهم.
{وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} .
ارتقاء في تكذيبهم على ما وعدوا به إخوانهم، والواو واو الحال وليست واو العطف.
وفعل نصروهم إرادة وقوع الفعل بقرينة قوله: {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} . فيكون إطلاق الفعل على إرادته مثل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة:6] وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98].
وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226]، أي يريدون العود إلى ما امتنعوا منه بالإيلاء. والمعنى: أنه لو فرض أنهم أرادوا نصرهم فإن أمثالهم لا يترقب منهم الثبات في الوغى فلو أرادوا نصرهم وتجهزوا معهم لفروا عند الكريهة وهذا كقوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة: 47].
ويجوز أن يكون أطلق النصر على الإعانة بالرجال والعتاد وهو من معنى النصر.
و {ثم} في قوله: {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل فإن انتفاء النصر أعظم رتبة في تأسيس أهل الكتاب من الانتفاع بغعانة المنافقين فهو أقوى من انهزام المنافقين إذا جاؤوا لإعانة أهل الكتاب في القتال.
والنصر هنا بمعنى: الغلب.
وضمير {لا ينصرون} عائد إلى الذين كفروا من أهل الكتاب إذ الكلام جار على وعد المنافقين بنصر أهل الكتاب.
والمقصود تثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتأمينهم من بأس أعدائهم.
[13] {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} .

لما كان المقصود من ذكر وهن المنافقين في القتال تشديد نفس النبي صلى الله عليه وسلم وأنفس المؤمنين حتى لا يرهبوهم ولا يخشوا مساندتهم لأهل حرب المسلمين أحلاف المنافقين قريظة وخيبر أعقب ذلك بإعلام المؤمنين بأن المنافقين وأحلافهم يخشون المسلمين خشية شديدة وصفت شدتها بأنها أشد من خشيتهم الله تعالى، فإن خشية جميع الخلق من الله أعظم خشية فإذا بلغت الخشية في قلب أحد أن تكون أعظم من خشية الله فذلك منتهى الخشية.
والمقصود تشديد نفوس المسلمين ليعلموا أن عدوهم مرهب منهم، وذلك مما يريد المسلمين إقداما في محاربتهم إذ ليس سياق الكلام للتسجيل على المنافقين واليهود قلة رهبتهم لله بل إعلام المسلمين بأنهم أرهب لهم من كل أعظم الرهبات.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين.
والصدور مراد بها: النفوس والضمائر لأن محل أجهزتها في الصدور.
والرهبة: مصدر رهب، أي خاف.
وقوله: {فِي صُدُورِهِمْ} لـ {رهبة} فهي رهبة أولئك.
وضمير {صدورهم} عائد إلى {الَّذِينَ نَافَقُوا} و {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11] إذ ليس اسم أحد الفريقين أولى بعود الضمير إليه مع صلاحية الضمير لكليهما، ولأن المقصودين بالقتال هم يهود قريظة وخيبر وأما المنافقون فكانوا أعوانا لهم.
وإسناد {أشد} إلى ضمير المسلمين المخاطبين إسناد سببي كأنه قيل: لرهبتكم في صدورهم أشد من رهبة فيها. فالرهبة في معنى المصدر المضاف إلى مفعوله، وكل مصدر لفعل متعد يحتمل أن يضاف إلى فاعله أو إلى مفعوله، ولذلك فسره الزمخشري بأشد مرهوبية.
و {مِنَ اللَّهِ} هو المفضل عليه، وهو على حذف مضاف، أي من رهبة الله، أي من رهبتهم الله كما قال النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
أي على مخافة وعل.
وهذا تركيب غريب النسج بديعه. والمألوف في أداء مثل هذا المعنى أن يقال:

لرهبتهم منكم في صدورهم أشد من رهبتهم من الله، فحول عن هذا النسج إلى النسج الذي حبك عليه في الآية، ليتأتى الابتداء بضمير المسلمين اهتماما به وليكون متعلق الرهبة ذوات المسلمين لتوقع بطشهم وليأتي التمييز المحول عن الفاعل لما فيه من خصوصية الإجمال مع التفصيل كما تقرر في خصوصية قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم:4] دون: واشتعل شيب رأسي. وليتأتى حذف المضاف في تركيب {مِنَ اللَّهِ} ، إذ التقدير: من رهبة الله لأن حذفه لا يحسن إلا إذا كان موقعه متصلا بلفظ {رهبة} ، إذ لا يحسن أن يقال: لرهبتهم أشد من الله. وانظر ما تقدم عند تفسير قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} في سورة النساء [77].
فاليهود والمنافقون من شأنهم أن يخشوا الله. أما اليهود فلأنهم أهل دين فهم يخافون الله ويحذرون عقاب الدنيا وعقاب الآخرة. وأما المنافقون فهم مشركون وهم يعترفون بأن الله تعالى هو الإله الأعظم، وأنه أولى الموجودات بأن يخشى لأنه رب الجميع وهم لا يثبتون البعث والجزاء فخشيتهم الله قاصرة على خشية عذاب الدنيا من خسف وقحط واستئصال ونحو ذلك وليس وراء ذلك خشية. وهذا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأن الله أوقع الرعب منهم في نفوس عدوهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "نصرت بالرعب مسيرة شهر".
ووجه وصف الرهبة بأنها في صدورهم الإشارة إلى أنها رهبة جد خفية، أي أنهم يتظاهرون بالاستعداد لحرب المسلمين ويتطاولون بالشجاعة ليرهبهم المسلمون وما هم بتلك المثابة فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على دخيلتهم فليس قوله: {فِي صُدُورِهِمْ} وصفا كاشفا.
وإذ قد حصلت البشارة من الخبر عن الرعب الذي في قلوبهم ثني عنان الكلام إلى مذمة هؤلاء الأعداء من جراء كونهم أخوف للناس منهم لله تعالى بأن ذلك من قلة فقه نفوسهم، ولو فقهوا لكانوا أخوف لله منهم للناس فنظروا فيما يخلصهم من عقاب التفريط في النظر في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلموا صدقه فنجوا من عواقب كفرهم به في الدنيا والآخرة فكانت رهبتهم من المسلمين هذه الرهبة مصيبة عليهم وفائدة للمسلمين.
فالجملة معترضة بين البيان ومبينه.
والإشارة بذلك إلى المذكور من قوله: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} واجتلاب اسم الإشارة ليتميز الأمر المحكوم عليه أتم تمييز لغرابته.

والباء للسببية والمجرور خبر عن اسم الإشارة، أي سبب ذلك المذكور وهو انتفاء فقاهتهم.
وإقحام لفظ {قوم} لما يؤذن به من أن عدم فقه أنفسهم أمر عرفوا به جميعا وصار من مقومات قوميتهم لا يخلو عنه أحد منهم، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: : {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164].
والفقه: فهم المعاني الخفية، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} في سورة النساء[78]، وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} في سورة الأنعام[65]، ذلك أنهم تبعوا دواعي الخوف المشاهد وذهلوا عن الخوف المغيب غن أبصارهم، وهو خوف الله فكان ذلك من قلة فهمهم للخفيات.
[14] {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}.
{لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}.
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 13] لأن شدة الرهبة من المسلمين تشتمل على شدة التحصن لقتالهم إياهم، أي لا يقدرون على قتالكم إلا في هاته الاحوال والضمير المرفوع في {يقاتلونكم} عائد إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11].
وقوله: {جميعا} يجوز أن يكون بمعنى كلهم كقوله تعالى: : {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} [المائدة:48] فيكون للشمول، أي كلهم لا يقاتلونكم اليهود والمنافقون إلا في قرى محصنة الخ.
ويجوز أن يكون بمعنى مجتمعين، أي لا يقاتلونكم جيوشا كشأن جيوش المتحالفين فإن ذلك قتال من لا يقبعون في قراهم فيكون النفي منصبا إلى هذا القيد، أي لا يجتمعون على قتالكم اجتماع الجيوش، أي لا يهاجمونكم ولكن يقاتلون قتال دفاع في قراهم.
واستثناء {إِلَّا فِي قُرىً} على الوجه الأول في {جميعا} استثناء حقيقي من عموم الأحوال، أي لا يقاتلونكم كلهم في حال من الأحوال إلا في حال الكون في قرى محصنة

الخ. وهو على الوجه الثاني في {جميعا} استثناء منقطع لأن القتال في القرى ووراء الجدر ليس من أحوال قتال الجيوش المتساندين.
وعلى كلا الاحتمالين فالكرم يفيد أنهم لا يقاتلون إلا متفرقين كل فريق في قريتهم، وإلا خائفين متترسين.
والمعنى: لا يهاجمونكم، وإن هاجمتموهم لا يبرزون إليكم ولكنهم يدافعونكم في قرى محصنة أو يقاتلونكم من وراء جدر، أي في الحصون والمعاقل ومن وراء الأسوار، وهذا كناية عن مصيرهم إلى الهزيمة إذ ما حورب قوم في عقر دارهم إلا ذلوا كما قال علي رضي الله عنه: وهذا إطلاع لهم على تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ودخائل الأعداء.
و "الجدر" بضمتين في قراءة الجمهور جمع جدار. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو {جدار} على الإفراد، والمراد الجنس تساوي الجمع.
و {محصنة} ممنوعة ممن يريد أخذها بأسوار أو خنادق.
و {قرى} بالقصر جمع قرية، ووزنه وقصره على غير قياس لأن ما كان على زنة فعلة معتل اللام مثل قرية يجمع على فعال بكسر الفاء ممدودا مثل: رطوة وركاء، وشكوة وشكاء. ولم يسمع القصر إلا في كوة بفتح الكاف لغة وكوى، وقرية وقرى ولذلك قال الفراء: قرى شاذ، يريد خارج عن القياس.
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} .
استئناف بياني لأن الإخبار عن أهل الكتاب وأنصارهم بأنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصنة المفيد أنهم لا يتفقون على جيش واحد متساندين فيه مما يثير في نفس السامع أن يسأل عن موجب ذلك مع أنهم متفقون على عداوة المسلمين. فيجاب بأن بينهم بأسا شديدا وتدابرا، فهم لا يتفقون.
وافتتحت الجملة ب {بأسهم} للاهتمام بالأخبار عنه بأنه {بينهم} ، أي متسلط من بعضهم على بعض وليس بأسهم على المسلمين، وفي تهكم.
ومعنى {بينهم} أن مجال البأس في محيطهم فما في بأسهم من إضرار فهو منعكس إليهم، وهذا التركيب نظير قوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
وجملة {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} إلى آخرها استئناف عن جملة {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} .

لأنه قد يسأل السائل: كيف ذلك ونحن نراهم متفقين? فأجيب بأن ظاهر حالهم حال اجتماع واتحاد وهم في بواطنهم مختلفون فآراؤهم غير متفقة لا إلفة بينهم لأن بينهم إحنا وعداوات فلا يتعاضدون.
والخطاب لغير معين لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحسب ذلك. وهذا تشجيع للمسلمين على قتالهم والاستخفاف بجماعتهم. وفي الآية تربية للمسلمين ليحذروا من التخالف والتدابر ويعلموا أن الأمة لا تكون ذات بأس على أعدائها إلا إذا كانت متفقة الضمائر يرون رأيا متماثلا في أصول مصالحهما المشتركة، وإن اختلفت في خصوصياتها التي لا تنقض أصول مصالحها، ولا تفرق جامعتها، وأنه لا يكفي في الاتحاد توافق الأقوال ولا التوافق على الأغراض إلا أن تكون الضمائر خالصة من الإحن والعداوات.
والقلوب: العقول والأفكار، وإطلاق القلب على العقل كثير في اللغة.
وشتى: جمع شتيت بمعنى مفارق بوزن فعلى مثل قتيل وقتلى، شبهت العقول المختلفة مقاصدها بالجماعات المتفرقين في جهات في أنها لا تتلاقى في مكان واحد، والمعنى: أنهم لا يتفقون على حرب المسلمين.
وقوله: {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من أن بأسهم بينهم ومن تشتت قلوبهم أي ذلك مسبب على عدم عقلهم إذ انساقوا إلأى إرضاء خواطر الأحقاد والتشفي بين أفرادهم وأهملوا النظر في عواقب الأمور واتباع المصالح فأضاعوا مصالح قومهم.
ولذلك أقحم لفظ القوم في قوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} إيماء إلى أن ذلك من آثار ضعف عقولهم حتى صارت عقولهم كالمعدومة فالمراد: أنهم لا يعقلون المعقل الصحيح.
وأوثر هنا {لا يَعْقِلُونَ} . وفي الآية التي قبلها {لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13] لأن معرفة مآل التشتت في الرأي وصرف البأس إلى المشارك في المصلحة من الوهن والفت في ساعد الأمة معرفة مشهورة بين العقلاء قال أحد بني نبهان يخاطب قومه إذ أزمعوا على حرب بعضهم:
وأن الحزامة أن تصرفوا ... لحي سوانا صدور الأسل
فإهمالهم سلوك ذلك جعلهم سواء مع من لا عقول لهم فكانت هذه الحالة شقوة لهم حصلت منها سعادة للمسلمين.
وقد تقدم غير مرة أن إسناد الحكم إلى عنوان قوم يؤذن بأن ذلك الحكم كالجبلة

المقومة للقومية وقد ذكرته آنفا.
[15] {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
خبر مبتدأ محذوف دل عليه هذا الخبر، فالتقدير: مثلهم كمثل الذين من قبلهم قريبا، أي حال أهل الكتاب الموعود بنصر المنافقين كحال الذين من قبلهم قريبا.
والمراد: أن حالهم المركبة من التظاهر بالبأس مع إضمار الخوف من المسلمين، ومن التفرق بينهم وبين إخوانهم من أهل الكتاب، ومن خذلان المنافقين إياهم عند الحاجة، ومن أنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، كجال الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب وهم بنو النضير فإنهم أظهروا الاستعداد للحرب وأبوا الجلاء، فلم يحاربوا إلا في قريتهم إذ حصنوها وقبعوا فيها حتى أعياهم الحصار فاضطروا إلى الجلاء ولم ينفعهم المنافقون ولا إخوانهم من أهل الكتاب.
وعن مجاهد أن {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} المشركون يوم بدر.
و {من} زائدة لتأكيد ارتباط الظرف بعامله.
وانتصب {قريبا} على الظرفية متعلقا بالكون المضمر في قوله: {كمثل} ، أي كحال كائن قريب، أو انتصب على الحال من {الذين} أي القوم القريب منهم، كقوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89].
والوبال أصله: وخامة المرعى المستلذ به للماشية يقال: كلأ وبيل، إذا كان مرعى خضرا {حلوا} تهش إليه الإبل فيحبطها ويمرضها أو يقتلها، فشبهوا في إقدامهم على حرب المسلمين مع الجهل بعاقبة تلك الحرب بإبل ترامت على مرعى وبيل فهلكت وأثبت الذوق على طريقة المكنية وتخييلها، فكان ذكر {ذاقوا} مع {وبال} إشارة إلى هذه الاستعارة.
و {أمرهم} شأنهم وما دبروه وحسبوا له حسابه وذلك أنهم أوقعوا أنفسهم في الجلاء وترك الديار وما فيها، أي ذاقوا سوء أعمالهم في الدنيا.
وضمير {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عائد إلى {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي زيادة على ما ذاقوه من عذاب الدنيا بالجلاء وما فيه من مشقة على الانفس والأجساد لهم عذاب أليم في الآخرة على الكفر.

[16، 17] {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} .
هذا مثل آخر لممثل آخر، وليس مثلا منضما إلى المثل الذي قبله لأنه لو كان ذلك لكان معطوفا عليه بالواو، أو ب "أو" كقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19].
والوجه: أن هذا المثل متصل بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر:15]كما يفصح عنه قوله في آخره {فكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} الآية، أي مقلهم في تسبيبهم لأنفسهم عذاب الآخرة كمثل الشيطان إذ يوسوس للإنسان بأن يكفر ثم يتركه ويترأ منه فلا ينتفع أحدهما بصاحبه ويقعان معا في النار.
فجملة {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} حال من ضمير {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر: 15] أي في الآخرة.
والتعريف في {الشيطان} تعريف الجنس وكذلك تعريف الإنسان. والمراد به الإنسان الكافر.
ولم ترد في الآخرة حادثة معينة من وسوسة الشيطان لإنسان معين في الدنيا، وكيف يكون ذلك والله تعالى يقول : {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، وهل يتكلم الشيطان مع الناس في الدنيا فإن ظاهرة قوله: {قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} أنه يقوله للإنسان، وإما احتمال أن يقوله في نفسه فهو احتمال بعيد. فالحق: أن قول الشيطان هذا هو ما في آية {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} في سورة إبراهيم [22].
وقد حكى ابن عباس وغيرهما من السلف في هذه الآية قصة راهب بحكاية مختلفة جعلت كأنها المراد من الإنسان في هذه الآية. ذكرها ابن جرير والقرطبي وضعف ابن عطية أسانيدها فلئن كانوا ذكروا القصة فإنما أرادوا أنها تصلح مثالا لما يقع من الشيطان للإنسان كما مال إليه ابن كثير.
فالمعنى: إذ قال للإنسان في الدنيا اكفر فلما كفر ووافى القيامة على الكفر قال

الشيطان يوم القيامة: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} ، أي قال كل شيطان لقرينه من الإنس إني بريء منك طمعا في أن يكون ذلك منجيه من العذاب.
ففي الآية إيجاز حذف حذف فيها معطوفات مقدرة بعد شرط "لمأ" هي داخلة في الشرط إذ التقدير: فلما كفر واستمر على الكفر وجاء يوم الحشر واعتذر بأن الشيطان أضله قال الشيطان: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} الخ. وهذه المقدرات مأخوذة من آيات أخرى مثل آية سورة إبراهيم وآية سورة ق[27]. {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} الآية. وظاهر أن هذه المحاجة لا تقع إلا في يوم الجزاء وبعد موت الكافر على الكفر دون من أسلموا.
وقول: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} من تمام المثل. أي كان عاقبة المثل بهما خسرانهما معا. وكذلك تكون عاقبة الفريقين الممثلين أنهما خائبان فيما دبرا وكادا للمسلمين.
وجملة {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} تذييل، والإشارة الى ما يدل عليه {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} من معنى، فكانت عاقبتهما سوأى والعلقبة السوأى جزاء جميع الظالمين المعتدين على الله والمسلمين، فكما كانت عاقبة الكافر وشيطانه عاقبة سوء كذلك لكون عاقبة الممثلين بهما وقد اشتركا في ظلم أهل الخير والهدى.
[18] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . انتقال من الامتنان على المسلمين بما يسر من فتح قرية بني النضير بدون قتال، وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم منهم، ووصف ما جرى من خيبتهم وخيبة أملهم في نصرة المنافقين، ومن الإيذان بأن عاقبة أهل القرى الباقية كعاقبة أسلافهم. وكذلك موقف أنصارهم معهم الى الأمر بتقوى الله شكرا له على ما منح وما وعد من صادق الوعد فإن الشكر جزاء العبد عن نعمة ربه إذ لا يستطيع جزاء غير ذلك فأقبل على خطاب الذين آمنوا بالأمر بتقوى الله.
ولما كان ما تضمنته السورة من تأييد الله إياهم وفيض نعمه عليهم كان من منافع الدنيا، أعقبه بتذكيرهم بالإعداد للآخرة بقوله: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي لتتأمل كل نفس فيما قدمته للآخرة.

وجملة {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} عطف أمر على أمر آخر. وهي معترضة بين جملة {اتَّقُوا اللَّهَ} وجملة {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . وذكر {نفس} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر: وانظروا ما قدمتم، فعدل عن الإظهار لقصد العموم أي لتنظروا وتنظر كل نفس.
وتنكير {نفس} بفيد العموم في سياق الأمر، أي لتنظر كل نفس، فإن الأمر والدعاء ونحوهما كالشرط تكون النكرة في سياقها مثل ما هي في سياق النفي كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] وكقول الحريري:
يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا
(أي كل ضر)
وإنما لما يعرف بلام التعريف على العموم لئلا يتوهم نفس معهودة.
واطلق غد على الزمن المستقبل مجازا لتقريب الزمن المتقبل من البعيد لملازمة اقتراب الزمن لمفهوم الغد، لأن الغد هو اليوم الموالي لليوم الذي فيه المتكلم فهو أقرب أزمنة المستقبل كما قال قراد بن أجدع:
فإن يك صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب
وهذا المجاز شائع في كلام العرب في لفظ غد وأخواته قال زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عم
يريد باليوم بالزمن الحاضر، وبالأمس الزمن الماضي، وبالغد الزمن المستقبل.
وتنكير غد للتعظيم والتهويل، أي لغد لا يعرف كنهه.
واللام في قوله: {لغد} لام العلة، أي ما قدمته لأجل يوم القيامة، أي لأجل الانتفاع به.
والتقديم: مستعار للعمل الذي يعمل لتحصيل فائدته في زمن آت شبه قصد الانتفاع به في المستقبل بتقديم من يحل في المنزل قبل ورود السائرين اليه من جيش أو سفر ليهيء لهم ما يصلح أمرهم، ومنه مقدمة الجيش وتقديم الرائد قبل القافلة. قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:110] ويقال في ضده: أخر، إذا ترك عمل شيء قال تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5].

وإعادة {وَاتَّقُوا اللَّهَ} ليبني عليه {إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيحصل الربط بين التعليل والمعلل إذ وقع بينهما فصل {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} وإنما أعيد بطريق العطف لزيادة التأكيد فإن التوكيد اللفظي يؤتى به تارة معطوفا كقوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:34، 35] وقوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3، 4]. وقول عدي بن زيد. وألفى قولها ومينا.
وذلك أن في العطف إيهام أن يكون التوكيد يجعل كالتأسيس لزيادة الاهتمام بالمؤكد.
فجملة {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} تعليل للجث على تقوى الله وموقع {إن} فيها موقع التعليل.
ويجوز أن يكون {اتَّقُوا اللَّهَ} المذكور أولا مراد به التقوى بمعنى الخوف من الله وهي الباعثة على العمل ولذلك أردف بقوله{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ويكون {اتَّقُوا اللَّهَ} المذكور ثانيا مراد به الدوام على التقوى الأولى، أي ودوموا على التقوى على حد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} . [النساء:136] ولذلك أردف بقوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بمقدار اجتهادكم في التقوى، وأردف بقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] أي أهملوا التقوى بعد أن تقلدوها كما سيأتي أنهم المنافقون فإنهم تقلدوا الإسلام وأضاعوه قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]. وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار، فتكون الجملة مستقلة بدلالتها أتم استقلال مجرى الأمثال ولتربية المهابة في نفس المخاطبين.
[19] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
بعد أن أمر المؤمنين بتقوى الله وإعداد العدة للآخرة أعقبه بهذا النهي تحذيرا عن الإعراض عن الدين والتغافل عن التقوى، وذلك يفضي الى الفسوق. وجيء في النهي بنهيهم عن حالة قوم تحققت فيهم هذه الصلة ليكون النهي عن إضاعة التقوى مصورا في صورة محسوسة قوم تحققت فيهم تلك الصلة وهم الذين أعرضوا عن التقوى.
وهذا الإعراض مراتب قد تنتهي إلى الكفر الذي تلبس به اليهود وإلى النفاق الذي

تلبس به فريق ممن أظهروا الإسلام في أول سني الهجرة، وظاهر الموصول أنه لطائفة معهودة فيحتمل أن يراد بـ" الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ" المنافقين لأنهم كانوا مشركين ولم يهتدوا للتوحيد بهدى الإسلام فعبر عن النفاق بنسيان الله لانه جهل بصفات الله من التوحيد والكمال. وعبر عنهم بالفاسقين قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في سورة براءة [67] فتكون هذه الآية ناظرة إلى تلك.
ويحتمل أن يكون المراد بهم اليهود لأنهم أضاعوا دينهم ولم يقبلوا رسالة عيسى عليه السلام وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فالمعنى: نسوا دين الله وميثاقه الذي واثقهم به، قال تعالى: {وأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} [البقر:40 ،41].
وقد أطلق نسيانهم على الترك والإعراض عن عمد أي فنسوا دلائل توحيد الله ودلائل صفاته ودلائل صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم كتابه فالكلام بتقدير حذف مضاف أو مضافين.
ومعنى {أَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُم} أن الله لم يخلق في مداركهم التفطن لفهم الهدي الإسلامي فيعلموا بما ينجيهم من عذاب الآخرة ولما فيه صلاحهم قي الدنيا، إذ خذلهم بذبذبة آرائهم فأصبح اليهود في قبضة المسلمين يخرجونهم من ديارهم، وأصبح المنافقون ملموزين بين اليهود بالغدر ونقض العهد وبين المسلمين بالاحتقار واللعن.
وأشعر فاء التسبب بأن إنساء الله إياهم أنفسهم مسبب على نسيانهم دين الله، أي لما أعرضوا عن الهدى بكسبهم وارادتهم عاقبهم الله بأن خلق فيهم نسيان أنفسهم.
وإظهار اسم الجلالة في قوله تعالى: {كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} دون أن يقال: نسوه لاستفظاع هذا النسيان فعلق باسم الله الذين خلقهم وأرشدهم.
والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بشدة الفسق حتى كأن فسق غيرهم ليس بفسق في جانب فسقهم.
واسم الإشارة للتشهير بهم بهذا الوصف.
والفسق: الخروج من المكان الموضوع للشيء فهو صفة ذم غالبا لأنه مفارقة للمكان اللائق بالشيء، ومنه قيل: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، فالفاسقون هم الآتون

بفواحش السيئات ومساوي الأعمال وأعظمها الإشراك.
وجملة {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان الإبهام الذي أفاده قوله: {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} كأن السامع سأل: ماذا كان إثر إنساء الله إياهم أنفسهم? فأجيب بأنهم بلغوا بسبب ذلك منتهى الفسق في الأعمال السيئة حتى حق عليهم أن يقال: إنه لا فسق بعد فسقهم.
[20] {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
تذييل لجملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] الخ. لأنه جامع لخلاصة عاقبة الحالين: حال التقوى والاستعداد للآخرة، وحال نسيان ذلك وإهماله، ولكلا الفريقين عاقبة عمله. ويشمل الفريقين وأمثالهم.
والجملة أيضا فذلكة لما قبلها من حال المتقين والذين نسوا الله ونسوا أنفسهم لأن ذكر مثل هذا الكلام بعد ذكر أحوال المتحدث عنه يكون في الغالب للتعريض بذلك المتحدث عنه كقولك عندما ترى أحدا يؤذي الناس المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، فمعنى الآية كناية عن كون المؤمنين هم أصحاب الجنة، وكون الذين نسوا الله هم أهل النار فتضمنت الآية وعدا للمتقين ووعيدا للفاسقين.
والمراد من نفي الاستواء في مثل هذا الكناية عن البون بين الشيئين.
وتعيين المفضل من الشيئين موكول إلى فهم السامع من قرينة المقام كما في قول السموأل:
فليس سواء عالم وجهول
وقول أبي حزام غالب بن الحارث العكلي:
وأعلم أن تسليما وتركا ... للا متشابهان ولا سواء
ومنه قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً} بعد قوله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [آل عمران:110] الآية. وقيل قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران:113]. وقد يردف بما يدل على جهة التفضيل كما في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10]. وقوله هنا

{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} ، وتقدم في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية[95] في سورة النساء.
وأما من ذهب من علماء الأصول إلى تعميم نحو {لا يستوون} من قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18] فاستدلوا به على أن الفاسق لا يلي ولاية النكاح، وهو استدلال الشافعية فليس ذلك بمرضي، وقد أباه الحنفية ووافقهم تاج الدين السبكي في غير جمع الجوامع.
والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} فصر ادعائي لأن فوزهم أبدي فوز غيرهم ببعض أمور الدنيا كالعدم.
[21] {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
ما حذر المسلمين من الوقوع في مهواة نسيان الله التي وقع فيها الفاسقون وتوعد الذين نسوا الله بالنار، وبين حالهم بأن الشيطان سول لهم الكفر. وكان القرآن دالا على مسالك الخير ومحذرا من مسالك الشر، وما وقع الفاسقون في الهلكة إلا من جراء إهمالهم التدير فيه، وذلك من نسيانهم الله تعالى انتقل الكلام إلى التنويه بالقرآن وهديه البين الذي لا يصرف الناس عنه إلا أهواءهم ومكابرتهم، وكان إعراضهم عنه أصل استمرار ضلالهم وشركهم، ضرب لهم هذا المثل تعجيبا من تصلبهم في الضلال.
وفي هذا الانتقال إيذان بانتهاء السورة لأنه انتقال بعد طول الكلام في غرض فتح قرى اليهود وما ينال المنافقين من جرائه من خسران في الدنيا والآخرة.
و {هَذَا الْقُرْآنُ} إشارة إلى المقدار الذي نزل منه، وهو ما عرفوه وتلوه وسمعوا تلاوته.
وفائدة الإتيان باسم إشارة القريب التعريض لهم بأن القرآن غير بعيد عنهم. وأنه في متناولهم ولا كلفة عليهم في تدبره ولكنهم قصدوا الإعراض عنه.
وهذا مثل ساقه الله تعالى كما دل عليه قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} الخ. وقد ضرب هذا مثلا لقسوة الذين نسوا الله وانتفاء تأثرهم بقوارع القرآن.
والمراد بالجبل: حقيقته، لأن الكلام فرض وتقدير كما هو مقتضى {لو} أن تجيء

في الشروط المفروضة.
فالجبل: مثال لأشد الأشياء صلابة وقلة تأثر بما يقرعه. وإنزل القرآن مستعار للخطاب به. عبر عنه بالإنزال على طريقة التبعية تشبيها لشرف الشيء بعلو المكان، ولإبلاغه للغير بإنزال الشيء من علو.
والمعنى: لو كان المخاطب بالقرآن جبلا، وكان الجبل يفهم الخطاب لتأثر بخطاب القرآن تأثرا ناشئا من خشية لله خشية تؤثرها فيه معاني القرآن.
والمعنى: لو كان الجبل في موضع هؤلاء الذين نسوا الله وأعرضوا عن فهم القرآن ولم يتعظوا بمواعظه لاتعظ الجبل وتصدع صخره وتربه من شدة تأثره بخشية الله.
وضرب التصدع مثلا لشدة الانفعال والتأثر لأن منتهى تأثر الأجسام الصلبة أن تنشق وتتصدع إذ لا يحصل ذلك لها بسهولة.
والخشوع: التطأطؤ والركوع، أي لرأيته ينزل أعلاه إلى الأرض.
والتصدع: التشقق، أي لتزلزل وتشقق من خوفه الله تعالى.
والخطاب في {لرأيته} لغير معين فيعم كل من يسمع هذا الكلام والرؤية بصرية، وهي منفية لوقوعها جوابا لحرف {لو} الامتناعية.
والمعنى: لو كان كذلك لرأيت الجبل في حالة الخشوع والتصدع.
وجملة {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} تذييل لأن ما قبلها سيق مساق المثل فذيل بأن الأمثال التي يضربها الله في كلامه مثل المثل أراد منها أن يتفكروا فإن لم يتفكروا بها فقد سحل عليهم عنادهم ومكابرتهم، فالإشارة بتلك إلى مجموع ما مر على أسماعهم من الأمثال الكثيرة، وتقدير الكلام: ضربنا هذا مثلا، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} .
وضرب المثل سوقه، أطلق عليه الضرب بمعنى الوضع كما يقال: ضرب بيتا، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة [26].
[22] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} .

لما تكرر في هذه السورة ذكر اسم الله وضمائره وصفاته أربعين مرة منها أربع وعشرون بذكر اسم الجلالة وست عشرة مرة بذكر ضميره الظاهر، أو صفاته العلية. وكان ما تضمنته السورة دلائل على عظيم قدرة الله وبديع تصرفه وحكمته.
وكان ما حوته السورة الاعتبار بعظيم قدرة الله إذ أيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ونصرهم على بني النضير ذلك النصر الخارق للعادة، وذكر ما حل بالمنافقين أنصارهم وأن ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله وذلك بالثناء على المؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذين نصروا الدين، ثم الأمر بطاعة الله والاستعداد ليمو الجزاء، والتحذير من الذين أعرضوا عن كتاب الله ومن سوء عاقبتهم، وختم ذلك بالتذكير بالقرآن الدال على الخير، والمعرف بعظمة الله المقتضية شدة خشيته عقب ذلك بذكر طائفة من عظيم صفات الله ذات الآثار العديدة في تصرفاته المناسبة لغرض السورة زيادة في تعريف المؤمنين بعظمته المقتضية للمزيد من خشيته. وبالصفات الحسنى الموجبة لمحبته، وزيادة في إرهاب المعاندين المعرضين من صفات بطشه وجبروته، ولذلك ذكر في هذه الآيات الخواتم للسورة من صفاته تعالى ما هو مختلف التعلق والآثار للفريقين حظ ما يليق به منها.
وفي غضون ذلك كله دلائل على بطلان إشراكهم ب? أصنامهم. وسنذكر مراجع هذه الأسماء إلى ما اشتملت عليه السورة فيما يأتي.
فضمير الغيبة الواقع في أول الجملة عائد إلى اسم الجلالة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:18]، و {هو} مبتدأ واسم الجلالة خبر عنه {الذي} صفة لاسم الجلالة.
وكان مقتضى الظاهر الاقتصار على الضمير دون ذكر اسم الجلالة لأن المقصود الإخبار عن الضمير بـ {الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وبما بعد ذلك من الصفات العليا، فالجمع بين الضمير وما يساوي معادة اعتبار بأن اسم الجلالة يجمع صفات الكمال لأن أصله الإله ومدلول الإله يقتضي جمع صفات الكمال.
ويجوز أن يجعل الضمير ضمير الشأن ويكون الكلام استئنافا قصد منه تعليم المسلمين هذه الصفات ليتبصروا فيها وللرد على المشركين إشراكهم بصاحب هذه الصفات معه أصنافا ليس لواحد منها سيء من مثل هذه الصفات، ولذلك ختمة طائفة منها بجملة {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23] لتكون خاتما لهذه السورة الجليلة التي تضمنت منه عظيمة، وهي منه الفتح الواقع والقتح الميسر في المستقبل، لا جرم أنه حقيق بأن

يعرفوا جلائل صفاته التي لتعلقانها آثار في الأحوال الحاصلة والتي ستحصل من هذه الفتوح وليعلم المشركون والكافرون من اليهود أنهم ما تعاقبت هزائمهم إلا من جراء كفرهم. ولما كان شأن هذه الصفات عظيما ناسب أن تفتتح الجملة بضمير الشأن، فيكون اسم الجلالة مبتدأ و {الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر. والجملة خبر عن ضمير الشأن فيكون اسم الجلالة مبتدأ و {الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر والجملة خبرا عن ضمير الشأن.
وابتدئ في هذه الصفات العلية بصفة الوحانية وهي مدلول {الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وهي الأصل فيما يتبعها من الصفات. ولذلك كثر في القرآن ذكرها عقب اسم الجلالة كما في آية الكرسي. وفاتحة آل عمران.
وثني بصفة {عَالِمُ الْغَيْبِ} لأنها التي تقتضيها صفة الإلهية إذ علم الله هو العلم الواجب وهي تقتضي جمع الصفات إذ لا تتقوم حقيقة العلم الواجب إلا بالصفات السلبية، وإذ هو يقتضي الصفات المعنوية، وإنما من متعلقات علمه أمور الغيب لأنه فارق به علم الله تعالى علم غيره، وذكر معه علم الشهادة للاحتراس توهم أنه يعلم الحقائق العالية الكلية فقط كما ذهب إليه فريق من الفلاسفة الأقدمين ولأن التعريف في {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} للاستغراق. أي كل غيب وشهادة، وذلك مما لا يشاركه فيه غيره. وهو علم الغيب والشهادة، أي الغائب عن إحساس الناس والمشاهد لهم. فالمقصود فيها بمعنى اسم الفاعل، أي عالم ما ظهر وما غاب عنهم من كل غائب يتعلق به العلم على ما هو عليه.
والتعريف في {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} للاستغراق الحقيقي.
وفي ذكر الغيب إيماء إلى ضلال الذين قصروا أنفسهم على المشاهدات وكفروا بالمغيبات من البعث والجزاء وإرسال الرسل، أما ذكر علم الشهادة فتتميم على أن المشركين يتوهمون الله لا يطلع على ما يخفونه. قال تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} إلى قوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:22، 23].
وضمير {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ضمير فصل يفيد قصر الرحمة عليه تعالى لعدم الاعتداد برحمة غيره لقصورها قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [االأعراف:156]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "جعل الله الرحمة في مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا. فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه". وقد تقدم الكلام على {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في سورة الفاتحة [3].

ووجه تعقيب صفة عموم العلم بصفة الرحمة أن عموم العلم يقتضي أن لا يغيب عن علمه شيء من أحوال خلقه وحاجتهم إليه، فهو يرحم المحتاجين إلى رحمته ويهمل المعاندين إلى عقاب الآخرة، فهو رحمان بهم في الدنيا، وقد كثر إتباع اسم الجلالة بصفتي {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في القرآن كما في الفاتحة.
[23] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّر} .
القول في ضمير {هو} كالقول في نظيره في الجملة الأولى. وهذا تكرير للاستئناف لأن المقام مقام عظيم وهو من مقامات التكرير، وفيه اهتمام بصفة الوحدانية.
و{الملك} : الحاكم في الناس، على الإطلاق إلا الله تعالى وأما وصف غيره بالملك فهو بالإضافة إلى طائفة معينة من الناس. وعقب وصفا الرحمة بوصف {الملك} للإشارة إلى أن رحمته فضل وأنه مطلق التصرف كما وقع في سورة الفاتحة.
و {القدوس} بضم القاف في الأفصح، وقد تفتح القاف قال ابن جني: فعول في الصفة قليل، وإنما هو في الأسماء مثل تنور وسفود وعبود. وذكر سيبويه السبوح بالفتح، وقال ثعلب لم يرد فعول بضم أوله إلا القدوس والسبوح. وزاد غيره الذروح، وهو ذباب أحمر متقطع الحمرة بسواد يشبه الزبور. ويسمى في اصطلاح الأطباء ذباب الهند. وما عداهما مفتوح مثل سفود وكلوب. وتنور وسمور وشبوط صنف من الحوت وكأنه يريد أن سبوح وقدوس صارا اسمين.
وعقب ب {القدوس} وصف {الملك} للاحتراس إشارة إلى أنه منزه عن نقائض الملوك المعروفة من الغرور، والاسترسال في الشهوات ونحو ذلك من نقائض النفوس.
و {السلام} مصدر بمعنى المسالمة وصف الله تعالى به على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة في الوصف، أي ذو السلام، أي السلامة، وهي أنه تعالى سالم الخلق من الظلم والجور. وفي الحديث "إن الله هو السلام ومنه السلام". وبهذا ظهر تعقيب وصف {الملك} بوصف {السلام} فإنه بعد أن عقب ب {القدوس} للدلالة على نزاهة ذاته،

عقب بـ {السلام} للدلالة على العدل في معاملته الخلق، وهذا احتراس أيضا.
و {المؤمن} اسم فاعل نن آمن الذي همزته للتعدية، أي جعل غيره آمنا.
فالله هو الذي جعل الأمان في غالب أحوال الموجودات، إذ خلق نظام المخلوقات بعيدا عن الأخطار والمصاءب، وإنما تعرض للمخلوقات للمصائب بعوارض تتركب من تقارن مصالح، فيرجع أقواها ويدحض أدناها، وقد تأتي من جراء أفعال الناس.
وذكر وصف {المؤمن} عقب الأوصاف التي قبله إتمام للاحتراس من توهم وصفه تعالى بـ {الملك} أنه كالملوك المعروفين بالنقائص. فأفيد أولا نزاهة ذاته بوصف {القدوس} ، ونزاهة تصرفاته المغية عن الغدر والكيد بوصف {المؤمن} ، ونزاهة تصرفاته الظاهرة عن الجور والظلم بوصف {السلام} .
و {المهيمن} : الرقيب بلغة قريش، والحافظ في لغة بقية العرب.
واختلف في اشتقاقه فقيل مشتق من أمن الداخل عليه همزة التعدية فصار ءامن وأن وزن الوصف مؤيمن قلبت همزته هاء، ولعل موجب القلب إرادة نقله من الوصف إلى الاسمية بقطع النظر عن معنى الأمن، بحيث صار كالاسم الجامد. وصار معناه: رقب: ألا ترى أنه لم يبق فيه معنى إلا من الذي في المؤمن لما صار اسما للرقيب والشاهد، وهو قلب نادر مثل قلب همزته: أراق إلى الهاء فقالوا: هراق، وقد وضعه الجوهري في فصل الهمزة من باب النون ووزنه مفعلل اسم فاعل من آمن مثل مدحرج، فتصريفه مؤآمن بهمزتين بعد الميم الأولى المزيدة، فأبدلت الهمزة الأولى هاء كما أبدلت همزة آراق فقالوا: هراق.
وقيل: أصله هيمن بمعنى: رقب، كذا في لسان العرب وعليه فالهاء أصلية ووزنه مفيعل. وذكره صاحب القاموس في فصل الهاء من باب النون ولم يذكره في فصل الهمزة منه. وذكره الجوهري في فصل الهمزة وفصل الهاء من باب النون مصرحا بأن هاءه أصلها همزة. وعدل الراغب وصاحب الأساس عن ذكره. وذلك يشعر بأنهما يريان هاءه مبدلة من الهمزة وأنه مندرج في معاني الأمن.
وفي "المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى" للغزالي {المهيمن} في حق الله: القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم، وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه

وحفظه. والإشراف، أي الذي هو الاطلاع يرجع إلى العلم، والاستيلاء يرجع إلى كمال القدرة، والحفظ يرجع إلى الفعل. والجامع بين هذه المعاني اسمه {المهيمن} ولن يجتمع على ذلك الكمال والإطلاق إلا الله تتعالى، ولذلك قيل: أنه من أسماء الله تعالى في الكتب القديمة اهـ. وفي هذا التعريف بهذا التفصيل نظر ولعله جرى من حجة الإسلام مجرى الاعتبار بالصفة لا تفسير مدلولها.
وتعقيب {المؤمن} ب {المهيمن} لدفع توهم أن تأمينه عن ضعف أو عن مخافة غيره، فأعلموا أن تأمينه لحكمته مع أنه رقيب مطلع على أحوال خلقه فتأمينه إياهم رحمة بهم.
و {العزيز} الذي لا يغلب ولا يذله أحد، ولذلك فسر بالغالب.
و {الجبار} : القاهر المكره غيره على الانفعال بفعله، فالله جبار كل مخلوق على الافعال لما كونه عليه لا تستطيع مخلوق اجتيازه ما حده له في خلقته فلا يستطيع الإنسان الطيران ولا يستطيع ذوات الأربع المشي على رجلين فقط، وكذلك هو جبار للموجودات على قبول ما أراده بها وما تعلقت به قدرته عليها.
وإذا وصف الإنسان بالجبار كان وصف ذم لأنه يشعر بأنه يحمل غيره على هواه ولذلك قال تعالى: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص:19]. فالجبار من أمثلة المبالغة لأنه مشتق من أجبره، وأمثله المبالغة تشتق من المزيد بقلة مثل الحكيم بمعنى المحكم. قال الفراء: لم اسمع فعالا في أفعل إلا جبارا ودراكا. وكان القياس يقال: المجبر والمدرك، وقيل: الجبار معناه المصلح من جبر الكسر، إذ أصلحه، فاشتقاقه لا نذرة فيه.
و {المتكبر} : الشديد الكبرياء، أي العظمة والجلالة. وأصل صيغة التفعل أن تدل على التكلف لكنها استعملت هنا في لازم التكلف وهو القوة لأن الفعل الصادر عن تأنق وتكلف يكون أتقن.
ويقال: فلان يتظلم على الناس، أي يكثر ظلمهم.
ووجه ذكر هذه الصفات الثلاث عقب صفة {المهبيمن} أن جميع ما ذكره آنفا من الصفات لا يؤذن إلا باطمئنان العباد لعناية ربهم بهم وإصلاح أمورهم وأن صفة {المهيمن} تؤذن بأمر مشترك فعقبت بصفة {العزيز} ليعلم الناس أن الله غالب لا يعجزه

شيء. واتبعت بصفة {الجبار} الدالة على أنه مسخر المخلوقات لإرادته ثم صفة {المتكبر} الدالة على أنه ذو الكبرياء يصغر كل شيء دون كبريائه فكانت هذه الصفات في جانب التخويف كما كانت قبلها في جانب الإطماع.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
ذيلت هذه الصفات بتنزيه الله تعالى عن أن يكون له شركاء بأن أشرك به المشركون. فضمير {يشركون} عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذين لم يزل القرآن يقرعهم بالمواعظ.
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}.
القول في ضمير {هو} المفتتح به وفي تكرير الجملة كالقول في التي سبقها فإن كان ضمير الغيبة شأن فالجملة بعده خبر عنه.
وجملة {اللَّهُ الْخَالِقُ} تفيد قصرا بطريق تعريف جزأي الجملة هو الخالق لا شركاؤهم. وهذا إبطال لإلهية ما لا يخلق. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل:20]، وقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، وإن كان عائدا على اسم الجلالة المتقدم فاسم الجلالة بعده خبر عنه و {الخالق} صفة.
و {الخالق} : اسم فاعل من الخلق، وأصل الخلق في اللغة إيجاد شيء على صورة مخصوصة. وقد تقدم عند قوله تعالى: حكاية عن عيسى عليه السلام {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الآية [49] في سورة آل عمران. ويطلق الخلق على معنى أخص من إيجاد الصور وهو ايجاد ما لم يكن موجودا. كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [قّ: 38]. وهذا هو المعنى الغالب من اطلاق اسم الله تعالى {الخالق} .
قال في الكشاف المقدر لما يوجده. ونقل عنه في بيان مراده بذلك أنه قال لما كانت إحداثات الله مقدرة بمقادير الحكمة عبر عن إحداثه بالخلق اهـ. يشير إلى أن

الخالق في صفة الله بمعنى المحدث الأشياء عن عدم، وبهذا يكون الخلق أعم من التصوير. ويكون ذكر {الباري} و {المصور} بعد {الخالق} تنبيها على أحوال خاصة في الخلق. قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] على أحد التأويلين.
وقال الراغب: الخلق التقدير المستقيم واستعمل في إياع الشيء من غير أصل ولا احتذاء اهـ.
وقال أبو بكر ابن العربي في عارضة الأحوذي على سنن الترمذي : {الخالق} : المخرج الأشياء من العدم إلى الوجود المقدر لها على صفاتها فخلط بين المعنين ثم قال: فالخالق عام، والباريء أخص منه، والمصور أخص من الأخص وهذا قريب من كلام صاحب الكشاف . وقال الغزالي في المقصد الأسني : الخالق الباريء المصور قد يظن أن هذه الأسماء مترادفة ولا ينبغي أن يكون كذلك بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى تقدير أولا وإلى الايجاد على وفق التقدير ثانيا وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا. والله خالق من حيث أنه مقدر وبارئ من حيث إنه مخترع موجود، ومصور من حيث إنه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب اهـ. فجعل المعاني متلازمة وجعل الفرق بينها بالاعتبار، ولا أحسبه ينطبق على مواقع استعمال هذه الأسماء.
و {البارئ} اسم فاعل من برأ مهموزا. قال في الكشاف المميز لما يوجده بعضه من بعض بالأشكال المختلفة اهـ. وهو مغاير لمعنى الخالق بالخصوص. وفي الحديث "من شر ما خلق وذرأ وبرأ". ومن كلام علي رضي الله عنه: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، فيكون اسم البريئة غير خاص بالناس في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ البريئة} [البينة:6، 7] {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ البريئة} . وقال الراغب: البريئة: الخلق.
وقال ابن العربي في العارضة: {البارئ} : خالق الناس من البرى مقصورا وهو التراب خاصا بخلق جنس الإنسان، وعليه يكون اسم البريئة خاصا بالبشر في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} .
وفسره ابن عطية بمعنى الخالق. وكذبك صاحب القاموس . وفسره الغزالي بانه الموجود المخترع، وقد علمت أنه غير منطبق فأحسن تفسير له ما في الكشاف .
و {المصور} : مكون الصور لجميع المخلوقات ذوات الصور المرئية.
وإنما ذكرت هذه الصفات متتابعة لأن من مجموعها يحصل تصور الإبداع الإلهي

للإنسان فابتدئ بالخلق الذي هو الإيجاد الأصلي ثم بالبرء الذي هو تكوين جسم الإنسان ثم بالتصور الذي هو إعطاء الصورة الحسنة، كما أشار إليه قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ} [الانفطار:7،8]، {الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6].
ووجه ذكرها عقب الصفات المتقدمة، أي هذه الصفات الثلاث أريد منها الإشارة إلى تصرفه في البشر بالإيجاد على كيفية البديعة ليثير داعية شكرهم على ذلك. ولذلك عقبت بجملة {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
واعلم أن وجه إرجاع هذه الصفات الحسنى إلى ما يناسبها مما اشتملت عليه السورة ينقسم إلى ثلاثة أقسام ولكنها ذكرت في الآية بحسب تناسب مواقع بعضها عقب بعض من تنظير أو احتراس أو تتميم كما علمته آنفا.
القسم الأول يتعلق بما يناسب أحوال المشركين وأحلافهم اليهود المتألبين على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بالحرب والكيد والأذى، وأنصارهم من المنافقين المخادعين للمسلمين.
وإلى هذا القسم تنضوي صفة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الحشر:23] وهذه الصفة هي الأصل في التهيؤ للتدبر والنظر في بقية الصفات، فإن الإشراك أصل الضلالات، والمشركون هم الذين يغرون اليهود، والمنافقون بين يهود ومشركين تستروا بإظهار الإسلام، فالشرك هو الذي صد الناس عن الوصول إلى مسالك الهدى، قال تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود:101].
وصفة {عَالِمُ الْغَيْبِ} [الحشر:22] فإن من أصول الشرك إنكار الغيب الذي من آثاره إنكار البعث والجزاء، وعلى الاسترسال في الغي وإعمال السيئات وإنكار الوحي والرسالة. وهذا ناظر إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [لأنفال:13] الآية.
وكذلك ذكر صفات الملك، والعزيز، والجبار، والمتكبر، لأنها تناسب ما أنزله ببني النضير من الرعب والخزي والبطشة.
القسم الثاني متعلق بما اجتناه المؤمنون من ثمرة النصر في قصة بني النضير، وتلك صفات: {السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر:23] لقوله {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6]، أي لم يتجشم المسلمون للغنى مشقة ولا أذى ولا قتالا.

وكذلك صفتا {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22] لمناسبتهما لإعطاء حظ في الفيء للضعفاء.
القسم الثالث متعلق بما يشترك فيه الفريقان المذكوران في هذه السورة فيأخذ كل فريق حظه منها، وهي صفات: القدوس، المهيمن، الخالق، الباريء، المصور.
{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
تذييل لما عدد من صفات الله تعالى، أي له جميع الأسماء الحسنى التي بعضها الصفات المذكورة آنفا.
والمراد بالأسماء الصفات، عبر عنها بالأسماء لأنه متصف بها على ألسنة خلقه ولكونها بالغة منتهى حقائقها بالنسبة لوصفه تعالى بها فصارت كالاعلام على ذاته تعالى.
والمقصود: أن له مدلولات الأسماء الحسنى كما في قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} بعد قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، أي عرض المسميات على الملائكة.
وقد تقدم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} في سورة الأعراف [180].
{يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
جملة {يسَبِّحُ لَهُ} الخ في موضع الحال من ضمير {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} يعني أن اتصافه بالصفات الحسنى يضطر ما في السماوات والأرض من العقلاء على تعظيمه بالتسبيح والتنزيه عن النقائص فكل صنف يبعثه علمه ببعض أسماء الله على أن ينزهه ويسبحه بقصد أو بغير قصد. فالدهري أو الطبائعي إذا نوه بنظام الكائنات وأعجب بانتساقها فإنما يسبح في الواقع للفاعل المختار وإن كان هو يدعوه دهرا أو طبيعة، وهذا إذا حمل التسبيح على معناه الحقيقي وهو التنزيه بالقول، فأما إن حمل على ما يشمل المعنيين الحقيقي والمجازي من دلالة على التنويه ولو بلسان الحال. فالمعنى: أن ما ثبت له من صفات الخلق والإمداد والقهر تدل عليه شواهد المخلوقات وانتظام وجودها.
وجملة {َهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} عطف على جملة الحال وأوثر هاتان الصفتان لشدة مناسبتهما لنظام الخلق.
وفي هذه الآية رد العجز على الصدر لأن صدر السورة مماثل لآخرها.

روى الترمذي بسند حسن عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ} [الحشر: 22] إلى آخر السورة، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا. ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة". فهذه فضيلة لهذه الآيات أخروية.
وروى الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد قال: قرات على خلف راوي حمزة فلما بلغت هذه الآية {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] إلى آخر السورة قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على الاعمش. فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يحيى بن وثاب، فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك، فإني قرأت على علقمة والأسود فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإنا قرانا على عبد الله فلما بلغنا هذه الآية قال: ضعا أيديكما على رؤوسكما، فإني قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت هذه الآية قال لي: "ضع يدك على رأسك فإن جبريل لما نزل بها إلي قال: ضع يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام". والسام الموت. قلت: هذا حديث أغر مسلسل إلى جبريل عليه السلام.
وأخرج الديلمي عن علي وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ} [الحشر: 21] إلى آخر السورة: "هي رقية الصداع"، فهذه مزية لهذه الآيات.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الممتحنة
عرفت هذه السورة في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف بـ"سورة الممتحنة". قال القرطبي: والمشهور على الألسنة النطق في كلمة الممتحنة بكسر الحاء وهو الذي جزم به السهيلي.
ووجه التسمية أنها جاءت فيها آية امتحان إيمان النساء اللاتي يأتين من مكة مهاجرات إلى المدينة وهي آية {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى قوله: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. فوصف الناس تلك الآية بالممتحنة لأنها شرعت الامتحان. وأضيفت السورة إلى تلك الآية.
وقال السهيلي: أسند الامتحان إلى السورة مجازا كما قيل لسورة براءة الفاضحة. يعني أن ذلك الوصف مجاز عقلي.
وروي بفتح الحاء على اسم المفعول قال ابن حجر: وهو المشهور أي المرأة الممتحنة على أن التعريف تعريف العهد والمعهود أول امرأة امتحنت في إيمانها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط امرأة عبد الرحمان بن عوف. كما سميت سورة قد سمع الله سورة المجادلة بكسر الدال.
ولك أن تجعل التعريف تعريف الجنس، أي النساء الممتحنة.
قال في الإتقان : وتسمى سورة الامتحان، وسورة المودة، وعزا ذلك إلى كتاب جمال القراء لعلي السخاوي ولم يذكر سنده. وهذه السورة مدنية بالاتفاق.
واتفق أهل العدد على عد آيها ثلاث عشرة آية. وآياتها طوال.
واتفقوا على أن الآية الأولى نزلت في شأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى

المشركين من أهل مكة.
روى البخاري من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار يبلغ به إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ثم قال: قال عمرو بن دينار: نزلت فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الممتحنة: 1] قال سفيان: هذا في حديث الناس لا أدري في الحديث أو قول عمرو. حفظته من عمرو وما تركت منه حرفا اهـ.
وفي صحيح مسلم وليس في حديث أبي بكر وزهير من الخمسة الذين روى عنهم مسلم يروون عن سفيان بن عيينة ذكر الآية. وجعلها إسحاق أي بن إبراهيم أحد من روى عنهم مسلم هذا الحديث في روايته من تلاوة سفيان اهـ. ولم يتعرض مسلم لرواية عمرو الناقد وابن أبي عمر عن سفيان فلعلهما لم يذكرا شيئا في ذلك.
واختلفوا في آن كتابة إليهم أكان عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديبية وهو قول قتادة ودرج عليه ابن عطية وهو مقتضى رواية الحارث عن علي بن أبي طالب عند الطبري، قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة أفشى في الناس أنه يريد خيبر وأسر إلى ناس من أصحابه منهم حاطب بن أبي بلتعة أنه يريد مكة. فكتب حاطب إلى أهل مكة... إلى آخره، فإن قوله: أفشى، أنه يريد خيبر يدل على أن إرادته مكة إنما هي إرادة عمر الحديبية لا غزو مكة لأن خيبر فتحت قبل فتح مكة. ويؤيد هذا ما رواه الطبري أن المرأة التي أرسل معها حاطب كتابه كان مجيئها المدينة بعد غزوة بدر بسنتين: وقال ابن عطية: نزلت هذه السورة سنة ست.
وقال جماعة: كان كتاب حاطب إلى أهل مكة عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وهو ظاهر صنيع جمهور أهل السير وصنيع البخاري في كتاب المغازي من صحيحه في ترتيبه للغزوات، ودرج عليه معظم المفسرين.
ومعظم الروايات ليس فيها تعيين ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم من تجهزه إلى مكة أهو لأجل العمرة أم لأجل الفتح فإن كان الأصح الأول وهو الذي نختاره كانت السورة جميعها نازلة في مدة متقاربة فإن امتحان أم كلثوم بنت عقبة كان عقب صلح الحديبية. ويكون نزول السورة مرتبا على ترتيب آياتها وهو الأصل في السور.
وعلى القول الثاني يكون صدور السورة نازلا بعد آيات الامتحان وما بعدها حتى

قال بعضهم: إن أول السورة نزل بمكة بعد الفتح، وهذا قول غريب لا ينبغي التعويل عليه.
وهذه السورة قد عدت الثانية والتسعين في تعداد نزول السور. عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة العقود وقبل سورة النساء.
أغراض هذه السورة
اشتملت من الأغراض على تحذير المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياء مع أنهم كفروا بالدين الحق وأخرجوهم من بلادهم.
وإعلامهم بأن اتخاذهم أولياء ضلال وأنهم لو تمكنوا من المؤمنين لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصر القرابة لا يعتد به تجاه العداوة في الدين، وضرب لهم مثلا في ذلك قطيعة إبراهيم لأبيه وقومه.
وأردف ذلك باستئناس المؤمنين برجاء أن تحصل مودة بينهم وبين الذين أمرهم الله بمعاداتهم أي هذه معاداة غير دائمة.
وأردف بالرخصة في حسن معاملة الكفرة الذين لم يقاتلوا المسلمين قتال عداوة في دين ولا أخرجوهم من ديارهم. وهذه الأحكام إلى نهاية الآية التاسعة.
وحكم المؤمنات اللاء يأتين مهاجرات واختبار صدق إيمانهن وأن يحفظن من الرجوع إلى دار الشرك ويعوض أزواجهن المشركون ما أعطوهن من المهور ويقع التراد كذلك مع المشركين.
ومبايعة المؤمنات المهاجرات ليعرف التزامهن لأحكام الشريعة الإسلامية. وهي الآية الثانية عشرة.
وتحريم تزوج المسلمين المشركات وهذا في الآيتين العاشرة والحادية عشرة.
والنهي عن موالاة اليهود وأنهم أشبهوا المشركين وهي الآية الثالثة عشرة.
[1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ

سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي}.
اتفق المفسرون وثبت في صحيح الأحاديث أن هذه الآية نزلت في قضية الكتاب الذي كتب به حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى من قريش. وكان حاطب من المهاجرين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل بدر.
وحاصل القصة مأخوذة مما في صحيح الآثار ومشهور السيرة: أن رسول الله كان قد تجهز قاصدا مكة. قيل لأجل العمرة عام الحديبية، وهو الأصح، وقيل لأجل فتح مكة وهو لا يستقيم، أيامئذ من مكة إلى المدينة امرأة تسمى سارة مولا' لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف وكانت على دين الشرك فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة وقد ذهب الموالي تعني من قتل من مواليها يوم بدر. وقد اشتدت بي الحاجة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب وبني المطلب على إعطائها، فكسوها وأعطوها وحملوها، وجاءها حاطب بن أبي بلتعة فأعطاها كتابا لتبلغه إلى من كتب إليهم من أهل مكة يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج إليهم، وآجرها على إبلاغه فخرجت، وأوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث عليا والزبير والمقداد وأبا مرثد الغنوي، وكانوا فرسانا. وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها. فخرجوا تتعادى بهم خيلهم حتى بلغوا روضة خاخ فإذا هم بالمرأة. فقالوا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقالوا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب يعنون أنهم يجردونها فأخرجته من عقاصها، وفي رواية من حجزتها.
فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا صاحب هذا ما هذا"? قال: لا تعجل علي يا رسول الله. فإني كنت امرأ ملصقا في قريش وكان لمن كان معك من المهاجرين قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي يريد أمه وأخوته ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "صدق". فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا وما يدريك ربك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وقال: "لا تقولوا لحاطب إلا خيرا" فأنزل الله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ أولياء} الآيات.
والظاهر أن المرأة جاءت متجسسة إذ ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمن يوم الفتح أربعة منهم هذه المرأة لكن هذا يعارضه ما جاء في رواية القصة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا منها الكتاب وخلو سبيلها".
وقد وجه الخطاب بالنهي إلى جميع المؤمنين تحذيرا من إتيان فعل حاطب.
والعدو: ذو العداوة، وهو فعول بمعنى فاعل من: عدا يعدو، مثل عفو. وأصله مصدر. على وزن فعول مثل قبول ونحوه من مصادر قليلة. ولكنه على زنة المصادر عومل معاملة المصدر فاستوى في الصف به المذكر والمؤنث والواحد والمثنى والجمع. قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77]، وتقدم عند قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} في سورة النساء. [92]
والمعنى: لا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أولياء. والمراد العداوة في الدين فإن المؤمنين لم يبدأوهم بالعداوة وإنما أبدى المشركون عداوة المؤمنين انتصارا لشركهم فعدوا من خرجوا عن الشرك أعداء لهم. وقد كان مشركو العرب متفاوتين في مناورتة المسلمين فإن خزاعة كانوا مشركين وكانوا موالين النبي صلى الله عليه وسلم. فمعنى إضافة عدو إلى ياء المتكلم على تقدير: عدو ديني، أو رسولي.
والاتخاذ: افتعال من الأخذ صيغ الافتعال للمبالغة في الأخذ المجازي فأطلق على التلبس والملازمة. وقد تقدم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} في سورة النساء. [71] ولذلك لزمه ذكر حال بعد مفعوله لتدل على تعيين جانب المعاملة من خير أو شر. فعومل هذا الفعل معاملة صير. واعتبرت الحال التي بعده بمنزلة المفعول الثاني للزوم ذكرها وهل المفعول الثاني للزوم ذكرها وهل المفعول الثاني من باب ظن وأخواته إلا حال في المعنى، وقد تقدم عند قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} في سورة الأنعام [74].
وجملة {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} في موضع الحال من ضمير {لا تَتَّخِذُوا} ، أو في موضع الصفة ل {أولياء} أو بيان لمعنى أتخاذهم أولياء.
ويجوز أن تكون جملة في موضع الحال من ضمير {لا تَتَّخِذُوا} لأن جعلها حالا يتوصل منه إلى التعجيب من إلقائهم إليهم بالمودة.
والإلقاء حقيقته رمي ما في اليد على الأرض. واستعير لإيقاع الشيء بدون تدبر في

موقعه، أي تصرفون إليهم مودتكم بغير تأمل. قال تعالى: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} في سورة النحل [86].
والباء في {بالمودة} لتأكيد اتصال الفعل بمفعوله. وأصل الكلام: تلقون إليهم المودة، كقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وقوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6] وذلك تصوير لقوة مودتهم لهم.
وزيد في تصوير هذه الحالة بجملة الحال التي بعدها وهي {قَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} وهي حال من ضمير {إليهم} أو من {عدوي} .
"وما جاءكم من الحق" هو القرآن والدين فذكر بطريق الموصولية ليشمل كل ما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الإيجاز مع ما في الصلة من الإيذان بتشنيع كفرهم بأنه كفر بما ليس من شأنه أن يكفر به طلاب الهدى فإن الحق محبوب مرغوب.
وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين وهم الذين آمنوا لأنهم الذين انتفعوا بذلك الحق وتقبلوه فكأنه جاء إليهم لا إلى غيرهم وإلا فإنه جاء لدعوة الذين آمنوا والمشركين فقبله الذين آمنوا ونبذه المشركون.
وفيه إيماء إلى أن كفر الكافرين به ناشئ عن حسدهم الذين آمنوا قبلهم.
وفي ذلك أيضا إلهاب القلوب المؤمنين ليحذروا من موالاة المشركين.
وجملة {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُم} حال من ضمير {كفروا} ، أي لم كتفوا بكفرهم بما جاء من الحق فتلبسوا معه بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وإخراجكم من بلدكم لأن تؤمنوا بالله ربكم، أي هو اعتداء حملهم عليه أنكم آمنتم بالله ربكم. وأن ذلك لا عذر لهم فيه لأن إيمانكم لا يضيرهم. ولذلك أجري على اسم الجلالة وصف ربكم على حد قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1، 3]ثم قال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
وحكيت هذه الحالة بصيغة المضارع لتصوير الحالة لأن الجملة لما وقعت حالا من ضمير {وَقَدْ كَفَرُوا} كان إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في تلك الحالة عملا فظيعا، فأريد استحضار صورة ذلك الإخراج العظيم فظاعة اعتلالهم له.
والإخراج أريد به: الحمل على الخروج بإتيان أسباب الخروج من تضييق على

المسلمين وأذى لهم.
وأسند الإخراج إلى ضمير العدو كلهم لأن جميعهم كانوا راضين بما يصدر من بعضهم من أذى المسلمين. وربما أغروا به سفهاءهم، ولذلك فالإخراج مجاز في أسبابه، وإسناده إلى المشركين إسناد حقيقي.
وهذه الصفات بمجموعها لا تنطبق إلا على المشركين من أهل مكة ومجموعها هو عليه النهي عن موادتهم.
وجيء بصيغة المضارع في قوله تعالى: {أَنْ تُؤْمِنُوا} لإفادة استمرار إيمان المؤمنين وفيه إيماء إلى الثناء على المؤمنين بثباتهم على دينهم، وأنهم لم يصدهم عنه ما سبب لهم الخروج من بلادهم.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} شرط ذيل به النهي من قوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} . وهذا مقام يستعمل في مثله الشرط بمنزلة التتميم لما قبله دون قصد تعليق ما قبله بمضمون فعل الشرط، أي لا يقصد أنه إذا انتفى فعل الشرط انتفى ما علق عليه كما هو الشأن في الشروط بل يقصد تأكيد الكلام الذي قبله بمضمون فعل الشرط فيكون كالتعليل لما قبله، وإنما يؤتى به في صورة الشرط مع ثقة المتكلم بحصول مضمون فعل الشرط بحيث لا يتوقع من السامع أن يحصل منه غير مضمون فعل الشرط فتكون صيغة الشرط مرادا بها التحذير بطريق المجاز المرسل في المركب لأن معنى الشرط يلزمه التردد غالبا. ولهذا يؤتى بمثل هذا الشرط إذا كان المتكلم واثقا بحصول مضمونه متحققا صحة ما يقوله قبل الشرط. كما ذكر في الكشاف في قوله تعالي: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} في سورة الشعراء [51]، في قراءة من قرأ {إَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} بكسر همزة "إن" وهي قراءة شاذة فتكون "إن" شرطية مع أنهم متحققون أنهم أول المؤمنين فطمعوا في مغفرة خطاياهم لتحققهم أنهم أول المؤمنين، فيكون الشرط في مثله بمنزلة التعليل وتكون أداة الشرط مثل "إذ" أو لام التعليل.
وقد يأتي بمثل هذا الشرط من يظهر وجوب العمل على مقتضى ما حصل من فعل الشرط وأن لا يخالف مقتضاه كقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [لأنفال:41] إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [لأنفال:41] أي فإيمانكم ويقينكم مما أنزلنا يوجبان أن ترضوا بصرف الغنيمة للأصناف المعينة من عند

الله. ومنه كثير في القرآن إذا تتبعت مواقعه.
ويغلب أن يكون فعل الشرط في مثله فعل كون إيذانا بأن الشرط محقق الحصول.
وما وقع في هذه السورة من هذا القبيل فالمقصود استقرار النهي عن أتخاذ عدو الله أولياء وعقب بفرض شرطه موثوق بأن الذين نهوا متلبسون بمضمون فعل الشرط بلا ريب، فكان ذكر الشرط مما يزيد تأكيد الانكفاف.
ولذلك يجاء بمثل هذا الشرط في آخر الكلام إذ هو يشبه التتميم والتذييل، وهذا من دقائق الاستعمال في الكلام البليغ.
قال في الكشاف في قوله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} في سورة الفرقان [42] و لولا في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث الصنعة مجرى التقييد للحكم المطلق. وقال هنا {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلق بـ {لا تَتَّخِذُوا} وقول النحويين في مثله على أنه شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه. اهـ. يعني أن فرقا بين كلام النحويين وبين ما اختاره هو من جعله متعلقا ب {لا تَتَّخِذُوا} فإنه جعل جواب الشرط غير منوي. قلت: فينبغي أن يعد كلامه من فروق استعمال الشروط مثل فروق الخبر وفروق الحال المبوب لكليهما في كتاب دلائل الإعجاز . وكلام النحاة جرى على غالب أحوال الشروط التي تتأخر عن جوابها نحو: اقبل شفاعة فلان إن شفع عندك، وينبغي أن يتطلب لتقديم ما يدل على الجواب المحذوف إذا حذف نكتة في غير ما جرى على استعمال الشرط بمنزلة التذييل والتتميم.
وأداة الشرط في مثله تشبه {إن} الوصلية و {لو} الوصلية، ولذلك قال في الكشاف هنا: إن جملة {إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلقة بـ {لا تَتَّخِذُوا} يعني تعلق الحال بعاملها، أي والحال حال خروجكم في سبيل الله وابتغائكم مرضاته بناء على أن شرط "إن". و"لو" الوصليتين يعتبر حالا. ولا يعكر عليه أن شرطهما يقترن بواو الحال لأن ابن جني والزمخشري سوغا خلو الحال في مثله عن الواو والاستعمال يشهد لهما.
والمعنى: لا يقع منكم اتخاذ عدوي وعدوكم أولياء ومودتهم، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وأخرجوكم لأجل إيمانكم. {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} من بلادكم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، فكيف توالون من أخرجوكم وكان إخراجهم إياكم لأجلي وأنا ربكم.

والمراد بالخروج في قوله تعالى: {إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} الخروج من مكة مهاجرة إلى المدينة. فالخطاب خاص بالمهاجرين على طريقة تخصيص العموم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} روعي في هذا التخصيص قرينة سبب نزول الآية على حادث حاطب بن أبي بلتعة.
و {جهادا} ، {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} مصدران منصوبان على المفعول لأجله.
{تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} .
يجوز أن تكون الجملة بيانا لجملة {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} ، أو بدل استمال منها فإن الإسرار إليهم بالمودة مما اشتمل عليه الإلقاء إليهم بالمودة. والخبر مستعمل في التوبيخ والتعجيب، فالتوبيخ مستفاد من إيقاع الخبر عقب النهي المتقدم، والتعجيب مستفاد من تعثيبه بجملة {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} ، أي كيف تظنون أن إسراركم إليهم يخفى علينا ولا نطلع عليه رسولنا.
والإسرار: التحدث والإخبار سرا.
ومفعول {تسرون} يجوز أن يكون محذوفا يدل عليه السياق، أي تخبرونهم أحوال المسلمين سرا.
وجيء بصيغة المضارع لتصوير حالة الإسرار إليه تفظيعا لها.
والباء في {بالمودة} للسببية، أي تخبرونهم سرا بسبب المودة أي بسبب طلب المودة لهم كما هو في قضية كتاب حاطب.
ويجوز أن يكون {بالمودة} في محل المفعول لفعل {تسرون} والباء زائدة لتأكيد المفعولية كالباء في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6].
وجملة {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} في موضع الحال من ضمير {تسرون} أو معترضة، والواو اعتراضية.
وهذا مناط التعجيب من فعل المعرض به وهو حاطب بن أبي بلتعة. وتقديم الإخفاء لأنه المناسب لقوله: {وَأَنَا أَعْلَمُ} . ولموافقته للقصة.
و {أعلم} اسم تفضيل والمفضل عليه معلوم من قوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ} فالتقدير: أعلم منهم ومنكم بما أخفيتم وما أعلنتم.

والباء متعلقة باسم التفضيل وهي بمعنى المصاحبة.
{وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .
عطف على جملة النهي في قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} ، عطف على النهي التوعد على عدم الانتهاء بان من لم ينته عما نهي عنه هو ضال عن الهدى.
وضمير الغيبة في {يفعله} عائد إلى الاتخاذ المفهوم من فعل {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} أي ومن يفعل ذلك بعد هذا النهي والتحذير فهو قد ضل عن سواء السبيل.
و {سَوَاءَ السَّبِيلِ} مستعار لأعمال الصلاح والهدى لشبهها بالطريق المستوي الذي يبلغ من سلكه إلى بغيته ويقع من انحرف عنه في هلكة. والمراد به هنا ضل عن الإسلام وضل عن الرشد.
و {من} شرطية الفعل بعدها مستقبل وهو وعيد للذين يفعلون مثل ما فعل حاطب بعد أن بلغهم النهي والتحذير والتوبيخ والتفظيع لعمله.
[2] {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} .
تفيد هذه الجملة معنى التعليل لمفاد قوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1] باعتبار بعض ما أفادته الجملة، وهو الضلال عن الرشد، فإنه قد يخفى ويظن أن في تطلب مودة العدو فائدة، كما هو حال المنافقين المحكي في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141]، فقد يظن أن موالاتهم من الدهاء والحزم رجاء نفعهم إن دالت لهم الدولة، فبين الله لهم خطأ هذا الظن، وأنهم إن استفادوا من مودتهم إياهم إطلاعا على قوتهم فتأهبوا لهم وظفروا بهم لم يكونوا ليرقبوا فيهم إلا ولا ذمة، وأنهم لو أخذوهم وتمكنوا منهم لكانوا أعداء لهم لأن الذي أضمر العداوة زمنا يعسر أن ينقلب ودودا، وذلك لشدة الحنق على ما لقوا من المسلمين من إبطال دين الشرك وتحقير أهله وأصنامهم.
وفعل {يكونوا} مشعر بأن عداوتهم قديمة وأنها تستمر.
والبسط: مستعار للإكثار لما شاع من تشبيه الكثير بالواسع والطويل، وتشبيه ضده

وهو القبض بضد ذلك، فبسط اليد الإكثار من عملها.
والمراد به هنا: عمل اليد الذي يضر مثل الضرب والتقييد والطعن، وعمل اللسان الذي يؤذي مثل الشتم والتهكم, ودل على ذلك قوله: {بالسوء} ، فهو متعلق بـ {يبسطوا} الذي مفعوله {أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ} .
وجملة {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} حال من ضمير {يكونوا}، والواو واو الحال، أي وهم قد ردوا من الآن أن تكفروا فكيف لو يأسرونكم أليس أهم شيء عندهم حينئذ أن يردوكم كفارا، فجملة الحال دليل على معطوف مقدر على جواب الشرط كأنه قيل: إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء إلى آخره، ويردوكم كفارا، وليست جملة {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} معطوفة على جملة الجواب، لأن محبتهم أن يكفر المسلمون محبة غير مقيدة بالشرط، ولذلك وقع فعل {ودوا} ماضيا ولم يقع مضارعا مثل الأفعال الثلاثة قبله {يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ} ليعلم أنه ليس معطوفا على جواب الشرط.
وهذا الوجه أحسن مما في كتاب الإيضاح للقزويني في بحث تقييد المسند بالشرط، إذ استظهر أن يكون {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} عطفا على جملة {إن يَثْقَفُوكُمْ} .
ونظره بجملة {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} من قوله تعالى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} . [آل عمران: 111] في آل عمران. فإن المعطوف ب"ثم" فيها عطف على مجموع الشرط وفعله وجوابه لا على جملة فعل الشرط.
و {لو} هنا مصدرية ففعل{تكفرون} مؤول بمصدر، أي ودوا كفركم.
[3] {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
تخلص من تبيين سوء عاقبة موالاة أعداء الدين في الحياة الدنيا، إلى بيان سوء عاقبة تلك الموالاة في الآخرة، ومناسبة حسن التخلص قوله: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2] الدال على معنى: أن ودادتهم كفركم من قبل أن يثقفوكم تنقلب إلى أن يكرهوكم على الكفر حين يثقفوكم، فلا تنفعكم ذوو أرحامكم مثل الأمهات والإخوة الأشقاء، وللأم، ولا أولادكم، ولا تدفع عنكم عذاب الآخرة إن كانوا قد نفعوكم في الدنيا بصلة ذوي الأرحام ونصرة الأولاد.

فجملة {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ} إلى آخرها مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن سؤال مفروض ممن يسمع جملة {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]، أي من حق ذلك أن يسأل عن آثاره لخطر أمرها.
وإذا كان ناشئا عن كلام جرى مجرى التعليل لجملة {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1]، فهو أيضا مفيد تعليلا ثانيا بحسب المعنى، ولولا إرادة الاستئناف البياني لجاءت هذه الجملة معطوفة بالواو على التي قبلها، وزاد ذلك حسنا أن ما صدر من حاطب ابن أبي بلعتة مما عد عليه هو موالاة للعدو، وأنه اعتذر بأنه أراد أن يتخذ عند المشركين يدا يحمون بها قرابته أي أمه وإخوته. ولذلك ابتدئ في نفي النفع بذكر الأرحام لموافقة قصة حاطب لأن الأم ذات رحم والإخوة أبناؤها هم إخوته من رحمه.
وأما عطف {وَلا أَوْلادُكُمْ} فتتميم لشمول النهي قوما لهم أبناء في مكة.
والمراد بالأرحام: ذوو الأرحام على حذف مضاف لظهور القرينة.
و {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف يتنازعه كل من فعل {لَنْ تَنْفَعَكُمْ} ، وفعل {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} . إذ لا يلزم تقدم العاملين على المعمول المتنازع فيه إذا كان ظرفا لأن الظروف تتقدم على عواملها وأن أبيت هذا التنازع فقل هو ظرف {تنفعكم} واجعل لـ {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} . ظرفا محذوفا دل عليه المذكور.
والفصل هنا: التفريق، وليس المراد به القضاء. والمعنى: يوم القيامة يفرق بينكم وبين ذوي أرحامكم وأولادكم فريق في الجنة وفريق في السعير، قال تعالى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34، 37].
والمعنى: أنهم لا ينفعونكم يوم القيامة فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لهم وهم يفرون منكم يوم اشتداد الهول، خطأ رأيهم في موالاة المفار أولا بما يرجع إلى حال من والوه. ثم خطاه ثانيا بما يرجع إلى حال من استعملوا الموالاة لأجلهم، وهو تقسيم حاصر إشارة إلى أن ما أقدم عليه حاطب من أي جهة نظر إليه يكون خطأ وباطلا.
وقرأ الجمهور {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} . ببناء {يفصل} للمجهول مخففا. وقرأه عاصم ويعقوب {يفصل} بالبناء الفاعل، وفاعله ضمير عائد إلى الله لعلمه من المقام، وقرأه حمزة والكسائي وخلف {يفصل} مشدد الصاد مكسورة مبنيا للفاعل مبالغة في الفصل، والفاعل ضمير يعود إلى الله المعلوم من المقام.

وقرأه ابن عامر {يفصل} بضم التحتية وتشديد الصاد مفتوحة مبنيا للنائب من فصل المشدد.
وجملة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وعيد ووعد.
[4] {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}
صدر هذه الآية يفيد تأكيدا لمضمون جملة {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} [الممتحنة:2] وجملة {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} [الممتحنة:3]، لأنها بما تضمنته من أن الموجه إليهم التوبيخ خالفوا الأسوة الحسنة تقوي إثبات الخطأ المستوجب للتوبيخ.
ذلك أنه بعد الفراغ من بيان خطأ من يوالي عدو الله بما يجر إلى أصحابه من مضار في الدنيا وفر الآخرة تحذيرا لهم من ذلك، انتقل إلى تمثيل الحالة الصالحة بمثال من فعل أهل الإيمان الصادق والاستقامة القويمة وناهيك بها أسوة.
وافتتاح الكلام بكلمتي {قَدْ كَانَتْ} لتأكيد الخبر، فإن {قد} مع فعل الكون يراد بهما التعريض بالإنكار على المخاطب ولومه في الإعراض عن العمل بما تضمنه الخبر كقول عمر لابن عباس يوم طعنه غلام المغيرة: قد كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر هؤلاء الأعلاج بالمدينة، ومن قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [قّ:22] توبيخا على ما كان منهم في الدنيا من إنكار للبعث، وقوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] وقوله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رسول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21].
ويتعلق {لكم} بفعل {كان} ، أو هو ظرف مستقر وقع موقع الحال من {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
وإبراهيم عليه السلام مثل في اليقين بالله والغضب له، عرف ذلك العرب واليهود

والنصارى من الأمم، وشاع بين الأمم المجاورة من الكنعانيين والأراميين، ولعله بلغ إلى الهند. وقد قيل: إن اسم برهما معبود البراهة من الهنود محرف عن اسم إبراهيم وهو احتمال.
وعطف {وَالَّذِينَ مَعَهُ} ليتم التمثيل لحال المسلمين مع رسولهم صلى الله عليه وسلم بحال إبراهيم عليه السلام والذين معه، أي أن يكون المسلمون تابعين لرضى رسولهم صلى الله عليه وسلم كما كان الذين مع إبراهيم عليه السلام.
والمراد ب {الَّذِينَ مَعَهُ} الذين آمنوا به واتبعوا هديه وهم زوجه سارة وابن أخيه لوط ولم يكن لإبراهيم أبناء، فضمير {إِذْ قَالُوا} عائد إلى إبراهيم والذين معه فهم ثلاثة.
و {إذ} ظرف زمان بمعنى حين، أي الأسوة فيه وفيهم في ذلك الزمن.
والمراد بالزمن: الأحوال الكائنة فيه، وهو ما تبينه الجملة المضاف إليها الظرف وهي جملة {إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} الخ.
والإسوة بكسر الهمزة وضمها: القدوة التي يقتدى بها في فعل ما. فوصفت في الآية ب {حسنة} وصفا للمدح لأن كونها حسنة قد علم من سياق ما قبله وما بعده.
وقرأ الجمهور {إسوة} بكسر الهمزة، وقرأه عاصم بضمها. وتقدمت في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رسول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} في سورة الأحزاب[21].
وحرف {في} مستعار لقوة الملابسة إذ جعل تلبس إبراهيم والذين معه بكونهم أسوة حسنة، بمنزلة تلبس الظرف بالمظروف في شدة التمكن من الوصف. ولذلك كان المعنى: قد كان لكم إبراهيم والذين معه أسوة في حين قولهم لقومهم. فليس قوله: {إسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} من قبيل التجريد مثل قول أبي خالد العتابي.
وفي الرحمان للضعفاء كاف1
لأن الأسوة هنا هي قول إبراهيم والذين معه لا أنفسهم.
ـــــــ
1 من شواهد الكشاف وصدر البيت:
ولولا هن قد سؤمت مهري
وقبله:
لقد زاد الحياة إلي حبا ... بناتي إنهن من الضيعاف

و {برءاء} بهمزتين بوزن فعلاء جمع بريء مثل كريم وكرماء.
وبريء فعيل بمعنى فاعل من بريء إذا خلا منه سواء بعد ملابسته أو بدون ملابسة.
والمراد هنا التبرؤ من مخاطبتهم وملابستهم..وعطف عليه {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الأصنام التي تعبدونها من دون الله والمراد برآء من عبادتها.
وجملة {كَفَرْنَا بِكُمْ} وما عطف عليها بيان لمعنى جملة {إِنَّا بُرَآءُ} . وضمير {بكم} عائد إلى مجموع الخاطبين من قومهم مع ما يعبدونه من دون الله، ويفسر الكفر بما يناسب المعطوف، أي كفرنا بجميعكم فكفرهم بالقوم غير بما يعبده قومهم.
وعطف عليه {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً} ويا معناه: ظهر ونشأ، أي أحثنا معكم العداوة ظاهرة لا مواربة فيها، أي ليست عداوة في القلب خاصة بل هي عداوة واضحة علانية بالقول والقلب. وهو اقصى ما يستطيعه أمثالهم من درجات تغيير المنكر وهو التغيير باللسان إذ ليسوا بمستطيعين تغيير ما عليه قومهم باليد لقلتهم وضعفهم بين قومهم.
و {العداوة} المعاملة بالسوء والاعتداء.
و {البغضاء} : نفرة النفس، والكراهية وقد تطلق إحداهما في موضع الأخرى إذا افترقنا، فذكرهما معا هنا مقصود به حصول الحالتين في أنفسهم: حالة المعاملة بالعدوان، وحالة النفرة والكراهية، أي نسيء معاملتكم ونضمر لكم الكراهية حتى يؤمنوا بالله وحده دون إشراك.
والمراد بقولهم هذا لقومهم أنهم قالوه مقال الصادق في قوله، فالائتساء بهم في ذلك القول والعمل بما يترجم عليه القول مما في النفوس، فالمؤتسى به أنهم كاشفوا قومهم بالمنافرة، وصرحوا لهم بالبغضاء لأجل كفرهم بالله ولم يصانعوهم ويغضوا عن كفرهم لاكتساب مودتهم كما فعل الموبخ بهذه الآية.
{إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} .

الأظهر أن هذه الجملة معترضة بين جمل حكاية مقال إبراهيم والذين معه وجملة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة: 6]، والاستثناء منقطع إذ ليس هذا القول من جنس قولهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} الخ، فإن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك رفق بأبيه وهو يغاير التبرؤ منه، فكان الاستثناء في معنى الاستدراك عن قوله {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} الشامل لمقالة إبراهيم معهم لاختلاف جنسي القولين.
قال في الكشاف في قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ} [الحجر1:58، 59]. أنه استثناء منقطع من {قوم} لأن القوم موصوفون بالإجرام فاختلف لذلك الجنسان اهـ. فجعل اختلاف جنسي المستثنى والمستثنى منه موجبا اعتبار الاستثناء منقطعا. وفائدة الاستدراك هنا التعريض بخطإ حاطب ابن أبي بلتعة، أي إن كنتم معتذرين فليكم عذركم في مواصلة أعداء الله بأن تودوا لهم مغفرة كفرهم باستدعاء سبب المغفرة وهو أن يهديهم الله إلى الدين الحق كما قال إبراهيم لأبيه {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} ، ولا يكون ذلك بمصانعة لا يفهمون منها أنهم منكم بمحل المودة والعناية فيزدادوا تعنتا في كفرهم.
وحكاية قول إبراهيم لأبيه {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} إكمال لجملة ما قاله إبراهيم لأبيه وإن كان المقصود من الاستثناء مجرد وعده بالاستغفار له فبني عليه ما هو من بقية كلامه لما فيه من الدلالة على أن الاستغفار له قد لا يقبله الله.
والوا في {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} يجوز أن يكون للحال أو للعطف. والمعنى متقارب، ومعنى الحال أوضح وهو تذييل.
ومعنى الملك في قوله: {وَمَا أَمْلِكُ} القدرة، وتقدم في قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} في سورة العقود[17].
و {مِنْ شَيْءٍ} عام للمغفرة المسؤولة وغيرها مما يريده الله به.
{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} .
الأظهر أن يكون هذا من كلام إبراهيم وقومه وجملة {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ} إلى آخرها معترضة بين أجزاء القول فهو مما أمر المسلمون أن يأتسوا به، وبه يكون الكلام شديد
ـــــــ
1 في المطبوعة الشعراء وهو خطأ.

الاتصال مع قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة:6].
ويحتمل أن يكون تعليما للمؤمنين أن يقولوا هذا الكلام ويستحضروا معانيه ليجري عملهم بمقتضاه فهو على تقدير أمر بقول محذوف والمقصود من القول العمل بالقول فإن الكلام يجدد المعنى في نفس المتكلم به ويذكر السامع من غفلته. وهذا تتميم لما أوصاهم به من مقاطعة الكفار بعد التحريض على الائتساء بإبراهيم ومن معه.
فعلى المعنى الأول يكون حكاية لما قاله إبراهيم وقومه بما يفيد حاصل معانيه فقد يكون هو معنى ما حكاه الله عن إبراهيم من قوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:78 ،82].
فإن التوكل على الله في أمور الحياة بسؤاله النجاح في ما يصلح أعمال العبد في مساعيه وأعظمه النجاح في دينه وما فيه قوام عيشه ثم ما فيه دفع الضر. وقد جمعها قول إبراهيم هناك { فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . وهذا جمعه قوله هنا {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} جمعه قوله: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فإن المصير مصيران مصير بعد الحياة ومصير بعد البعث.
وقوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} فإن وسيلة الطمع هو التوبة وقد تضمنه قوله: {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} .
وعلى المعنى الثاني هو تعليم للمؤمنين أن يصرفوا توجههم إلى الله بإرضائه ولا يلتفتوا إلى ما لا يرضاه وإن حسبوا أنهم ينتفعون به فإن رضى الله مقدم على ما دونه.
والقول في معنى التوكل تقدم عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران[159].
والإنابة: التوبة، وتقدمت عند قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} في سورة هود[75]، وعند قوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} في سورة الروم [31].
وتقديم المجرور على هذه الأفعال لإفادة القصر، وهو قصر بعضه ادعائي وبعضه حقيقي كما تصرف إليه القرينة.
وإعادة النداء بقولهم {ربنا} إظهار للتضرع مع كل دعوة من الدعوات الثلاث.

[5] {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}.
الفتنة: اضطراب الحال وفساده، وهو اسم مصدر فتجيء بمعنى المصدر كقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191]، وتجيء وصفا للمفتون والفاتن.
ومعنى جعلهم فتنة للذين كفروا: جعلهم مفتونين يفتنهم الذين كفروا، فيصدق ذلك بأن يتسلط عليهم الذين كفروا فيفتنون كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} [البروج:10] الخ. ويصدق أيضا بأن تحتل أمور دينهم بسبب الذين كفروا، أي بمحبتهم والتقرب نتهم كقوله تعالى: حكاية عن دعاء موسى {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} [االأعراف: 155].
وعلى الوجهين فالفتنة من إطلاق المصدر على اسم المفعول. وتقدم في قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} في سورة يونس [85].
واللام في {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} على الوجهين للملك، أي مفتونين مسخرين لهم.
ويجوز عندي أن تكون {فتنة} مصدرا بمعنى اسم الفاعل، أي لا تجعلنا فاتنين، أي سبب فتنة للذين كفروا، فيكون كتابة عن معنى لا تغلب الذين كفروا علينا واصرف عنا ما يكون به اختلال أمرنا وسوء الأحوال كيلا يكون شيء من ذلك فاتنا الذين كفروا، أي مقويا فتنتهم فيفتتنوا في دينهم، أي يزدادوا كفرا وهو فتنة في الدين، أي فيظنوا أنا على الباطل وأنهم على الحق، وقد تطلق الفتنة على ما يفضي إلى غور في الدين كما في قوله تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر: 49] في سورة الزمر وقوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأنبياء [111].
واللام على هذا الوجه لام التبليغ وهذه معان جمة أفادتها الآية.
{وَاغْفِرْ لَنَا} .
أعقبوا دعواتهم التي تعود إلى إصلاح دينهم في الحياة الدنيا بطلب ما يصلح أمورهم في الحياة الآخرة وما يوجب رضى الله عنهم في الدنيا فإن رضاه يفضي إلى عنايته بهم بتيسير أمورهم في الحياتين. وللإشعار بالمغايرة بين الدعوتين عطفت هذه الواو ولم تعطف التي قبلها.

{إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
تعليل للدعوات كلها فإن التوكل والإنابة والمصير تناسب صفة {العزيز} إذ مثله يعامل نمثل ذلك، وطلب أن لا يجعلهم فتنة باختلاف معانيه يناسب صفة {الحكيم} ، وكذلك طلب المغفرة لأنهم لما ابتهلوا إليه أن لا يجعلهم فتنة الكافرين وأن يغفر لهم رأوا أن حكمته تناسبها إجابة دعائهم لما فيه من صلاحهم وقد جاؤوا سائلينه.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
تكرير قوله آنفا {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: 4] الخ، أعيد لتأكيد التحريض والحث على عدم إضاعة الائتساء بهم، وليبنى عليه قوله: { لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} الخ.
وقرن هذا التأكيد بلام القسم مبالغة في التأكيد. وإنما لم تتصل بفعل {كان} تاء تأنيث مع أن اسمها مؤنث اللفظ لأن تأنيث أسوة غير حقيقي، ولوقوع الفصل بين الفعل ومرفوعه بالجار والمجرور.
والإسوة هي التي تقدم ذكرها واختلاف القراء في همزتها في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
وقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} بدل من ضمير الخطاب في قوله: {لكم} وهو شامل لجميع المخاطبين، لأن المخاطبين بضمير {لكم} المؤمنون في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] فليس ذكر {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} تخصيصا لبعض المؤمنين ولكنه ذكر للتذكير بأن الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضي تأسيهم بالمؤمنين السابقين وهم إبراهيم والذين معه.
وأعيد حرف الجر العامل في المبدل منه لتأكيد أن الإيمان يستلزم ذلك.
والقصد هو زيادة الحث على الائساء بإبراهيم ومن معه، وليترتب عليه قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، وهذا تحذير من العود لما نهو عنه.
ففعل {يتول} مضارع تولى، فيجوز أن يكون ماضيه بمعنى إعراض، أي من لا يرجو الله واليوم الآخر ويعرض عن نهي الله فإن الله غني عن امتثاله. ويجوز عندي أن

يكون ماضيه من التولي بمعنى اتخاذ الولي، أي من يتخذ عدو الله أولياء فإن الله غني عن ولايته كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} في سورة العقود[51].
وضمير الفصل في قوله: {هُوَ الْغَنِيُّ} توكيد للحصر الذي أفاده تعريف الجزأين، وهو حصر ادعائي لعدم الاعتداد بغنى غيره ولا بحمده، أي هو الغني عن المتولين لأن النهي عما نهوا عنه إنما لفائدتهم لا يفيد الله شيئا فهو الغني عن كل شيء.
واتباع {الغني} بوصف {الحميد} تتميم، أي الحميد لمن يمتثل أمره ولا يعرض عنه أو الحميد لمن لا يتخذ عدوه وليا على نحو قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
اعتراض وهو استئناف متصل بما قبله من أول السورة خوطب به المؤمنون تسلية لهم على ما نهوا عنه من مواصلة أقربائهم، بأن يرجوا من الله أن يجعل قطيعتهم آيلة إلى مودة بأن يسلم المشركون من قرابة المؤمنين وقد حقق الله ذلك يوم فتح مكة بإسلام أبي سفيان والحارث ابن هشام وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام.
قال ابن عباس: كان من هذه المودة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، تزوجها بعد وفاة زوجها عبد الله بن جحش بأرض الحبشة بعد أن تنصر زوجها فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم لانت عريكة أبي سفيان وصرح بفضل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه روي بدال بعد القاف يقال: قدع أنفه. إذا ضرب أنفه بالرمح وهذا تمثيل، وكانوا إذا نزا فحل غير كريم على ناقة كريمة دفعوه عنها بضرب أنفه بالرمح لئلا يكون نتاجها هجينا. وإذا تقدم أن هذه السورة نزلت عام فتح مكة وكان تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة في مدة مهاجرتها بالحبشة وتلك قبل فتح مكة كما صرح به ابن عطية وغيره. يعني فتكون آية {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ} الخ نزلت أول السورة ثم ألحقت بالسورة.
وإما أن يكون كلام ابن عباس على وجه المثال لحصول المودة بعد بعض المشركين، وحصول مثل تلك المودة يهئ صاحبه إلى الإسلام واستبعد ابن عطية صحة ما روي عن ابن عباس.

و {عسى} فعل مقاربة وهو مستعمل هنا في رجاء المسلمين ذلك من الله أو مستعملة في الوعد مجردة عن الرجاء. قال في الكشاف: كما يقول الملك في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك.
وضمير {منهم} عائد إلى العدو من قوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] وجملة {اللَّهُ قَدِيرٌ} تذييل. والمعنى: أنه شديد القدرة على أن يغير الأحوال فيصير المشركون مؤمنين صادقين وتصيرون أوداء لهم.
وعطف على التذييل جملة {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، أي يغفر لمن أنابوا إليه ويرحمهم فلا عجب أن يصيروا أوداء لكم كما تصيرون أوداء لهم.
[8] {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
استئناف هو منطوق لمفهوم الأوصاف التي وصف بها العدو في قوله تعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] وقوله: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} [الممتحنة: 2]، المسوقة مساق التعليل للنهي عن اتخاذ عدو الله أولياء، استثنى الله أقواما من المشركين غير مضمرين العداوة للمسلمين وكان دينهم شديد المنافرة مع دين الإسلام.
فإن نظرنا إلى وصف العدو من قوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} وحملناه على حالة معاداة من خالفهم في الدين ونظرنا مع ذلك إلى وصف {يخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أ}، كان مضمون قوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى آخره، بيانا لمعنى العداوة المجعولة علة للنهي عن الموالاة وكان المعنى أن مناط النهي هو مجموع الصفات المذكورة لكل صفة على حيالها.
وإن نظرنا إلى أن وصف العدو هو عدو الدين، أي مخالفة في نفسه مع ضمينة وصف {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} ، كان مضمون {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} إلى آخره تخصيصا للنهي بخصوص أعداء الدين الذين لم يقاتلوا المسلمين لأجل الدين ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم.
وأياما كان فهذه الجملة قد أخرجت من حكم النهي القوم الذين لم يقاتلوا في

الدين ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم. واتصال هذه الآية بالآيات التي قبلها يجعل الاعتبارين سواء فدخل في حكم الآية أصناف وهم حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم مثل خزاعة، وبني الحارث بن كعب عبد مناة بن كنامة، ومزينة كان هؤلاء كلهم مظاهرين النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون ظهوره على قريش، ومثل النساء والصبيان من المشركين، وقد جاءت قتيلة بالتصغير ويقال لها: قتلة، مكبرا بنت عبد العزي من بني عامر بن لؤي من قريش وهي أم أسماء بنت أبي بكر الصديق إلى المدينة زائرة ابنتها وقتيلة يومئذ مشركة في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش بعد صلح الحديبية وهي المدة التي نزلت فيها هذه السورة فسألت أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصل أمها? قال: نعم صلي أمك، وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في شأنها.
وقوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} بدل اشتمال من {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الخ، لأن وجود ضمير الموصول في المبدل وهو الضمير المنصوب في {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} يجعل بر المسلمين بهم مما تشتمل عليه أحوالهم. فدخل في الذين لم يقاتلوكم المسلمين في الدين نفر من بني هاشم منهم العباس بن عبد المطلب، والذين شملتهم أحكام هذه الآية كلهم قد قيل إنهم سبب نزولها وإنما هو شمول وما هو بسبب نزول.
ولبر: حسن المعاملة والإكرام. وهو يتعدى بحرف الجر، يقال: بر به، فتعديته هنا بنفسه على نزع الخافض.
والقسط: العدل. وضمن تقسطوا معنى تفضلوا فعدي ب" إلى" وكان حقه أن يعدى باللام. على أن اللام و"إلى" يتعاقبان كثيرا في الكلام، أي أن تعاملوهم بمثل ما يعاملونكم به من التقرب، فإن أحد يمثل ما عامل به من العدل.
وجملة و {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} تذييل، أي يحب كل مقسط فيدخل الذين يقسطون للذين حالفوهم في الدين إذا كانوا مع المخالفة محسنين معاملتهم.
وعن أبي وهب قال سألت ابن زيد عن قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} الآية قال: نسخها القتال، قال الطبري لا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ، لأن بر المؤمنين بمن بينه وبينه قرابة من أهل الحرب أو بمن لا قرابة بينه وبينه محرم إذا لم يكن في ذلك دلالة على عورة لأهل الإسلام. اهـ.
ويؤخذ من هذه الآية جواز معاملة أهل الذمة بالإحسان وجواز الاحتفاء بأعيانهم.

[9] {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
فذلك لما تقدم وحصر الآية المتقدمة. وهي تؤذن بانتهاء الغرض المسوق له الكلام من أوله.
والقصر المستفاد من جملة {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} إلى آخرها قصر قلب لرد اعتقاد من ظن أو شك في جواز صلة المشركين على الإطلاق. والذين تحققت فيهم هذه الصفات يوم نزول الآية هم مشركوا أهل مكة، و {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} بدل اشتمال من {الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ} .
{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} شرط وجيء في جواب الشرط باسم الإشارة لتمييز المشار إليهم زيادة في إيضاح الحكم.
والمظاهرة: المعاونة. وذلك لأن أهل مكة فريقان منهم من يأتي بالأسباب التي لا يحتمل المسلمون معها البقاء بمكة، ومنهم من بعين على ذلك ويغري عليه.
والقصر المستفاد من قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قصر ادعائي، أي أن ظلمهم لشده ووقوعه بعد النهي الشديد والتنبيه على الأخطاء والعصيان ظلوا لا يغفر لأنه اعتداء على حقوق الله وحقوق المسلمين وعلى حق الظالم نفسه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
لا خلاف في أن هذه الآيات آخر السورة نزلت عقب صلح الحديبية وقد علمن أنا رجحنا أن أول السورة نزلت قبل هذه وأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين كان عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديبية.
ومناسبة ورود هذه الآية بعد ما قبلها، أي النهي عن موالاة المشركين يتطرق إلى ما بين المسلمين والمشركين من عقود النكاح والمصاهرة فقد يكون المسلم زوجا لمشركة

وتكون المسلمة زوجا لمشرك فتحدث في ذلك حوادث لا يستغني المسلمون عن معرفة حكم الشريعة في مثلها.
وقد حدث عقب الصلح الذي انعقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في الحديبية سنة ست مجيء أبي جندل بن عمرو يوسف في الحديد وكان مسلما موثقا في القيود عند أبيه بمكة فانفلت وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية وكان من شروط الصلح أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه فرده النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط هاربة من زوجها عمرو بن العاص، وجاءت سبيعة الأسلمية مهاجرة هاربة من زوجها صيفي بن الراهب أو مسافر المخزومي، وجاءت أميمة بنت بشر هاربة من زوجها ثابت بن الشمراخ وقيل: حسان بن الدحداح. وطلبهن أزواجهن فجاء بعضهم إلى المدينة جاء زوج سبيعة الأسلمية يطلب ردها إليه وقال: إن طينة الكتاب الذي بيننا وبينك لم تجف بعد، فنزلت هذه الآية فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها إليه ولم يرد واحدة إليهم وبقيت بالمدينة فتزوج أم كلثوم بنت عقبة زيد بن حارثة. وتزوج سبيعة عمر رضي الله عنه1 وتزوج أميمة سهل بن حنيف2.
وجاءت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم مسلمة ولحق بها زوجها أبو العص بن الربيع بن عبد العزي بعد سنين مشركا ثم اسلم في المدينة فردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
وقد اختلف: هل كان النهي في شأن المؤمنات المهاجرات أن يرجعوهن إلى الكفار نسخا لما تضمنته شرط الصلح الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين أو كان الصلح غير مصرح بإرجاع النساء لأن الصيغة صيغة جمع المذكر فاعتبر مجملا وكان النهي الذي في هذه الآية بيانا لذلك المجمل. وقد قيل: إن الصلح صرح فيه بأن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير إذن وله من رجل أو امرأة يرد إلى وليه. فإذا صح ذلك كان صريحا وكانت الآية ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي في سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام خلي من هذا التصريح ولذلك كان لفظ الصلح محتملا لإرادة الرجال لأن الضمائر التي اشتمل عليها ضمائر تذكير.
ـــــــ
1 في المطبوعة سهل بن حنيف والمثبت من تفسير البغوي 4/333 و الإصابة 4/325.
2 انظر الإصابة 4/239.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذين سألوه إرجاع النساء المؤمنات وطلبوا تنفيذ شروط الصلح: "إنما الشرط في الرجال لا في النساء" فكانت هذه الآية تشريعا للمسلمين فيما يفعلونه إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات وإيذانا للمشركين بأن شرطهم غير نص وشأن شروط الصلح الصراحة لعظم أمر المصالحات والحقوق المترتبة عليها، وقد أذهل الله المشركين عن الاحتياط في شرطهم ليكون ذلك رحمة بالنساء المهاجرات إذ جعل لهن مخرجا وتأييدا لرسوله صلى الله عليه وسلم كما في الآية التي بعدها لقصد أن يشترك من يمكنه الاطلاع من المؤمنين على صدق إيمان المؤمنات المهاجرات تعاونا على إظهار الحق، ولأن ما فيها من التكليف يرجع كثير منه إلى أحوال المؤمنين مع نسائهم.
والامتحان: الأخبار. والمراد اختبار إيمانهن.
وجملة {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} معترضة، أي أن الله يعلم سرائرهن ولكن عليكم أن تختبروا ذلك بما تستطيعون من الدلائل.
ولذلك فرع ما قبل الاعتراض قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} الخ، أي إن حصل لكم العلم بأنهن مؤمنات غير كاذبات في دعواهن. وهذا الالتحاق هو الذي سمي المبايعة في قوله في الآية الآتية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ} الآية [الممتحنة: 12].
وفي صحيح البخاري عن عائشة أن رسول الله كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية يقول الله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12] وزاد ابن عباس فقال: كانت الممتحنة أن تستحلف أنها ما خرجت بغضا لزوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقا لرجل منا، ولا بجريرة جرتها بل حبا لله ولرسوله والدار الآخرة، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عمر بن الخطاب بتولي تحليفهن فإذا تبين إيمان المرأة لم يردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى دار الكفر كما هو صريح الآية. {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
وموقع قوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} موقع البيان والتفصيل للنهي في قوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} تحقيقا لوجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر.
وإذا قد كان المخاطب بذلك النهي جميع المؤمنين كما هو مقتضى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} إلى آخره، تعين أن يقوم بتنفيذ من إليه تنفيذ أمور

المسلمين العامة في كل مكان وكل زمان وهم ولاة الأمور من أمراء وقضاة إذ لا يمكن أن يقوم المسلمون بما خوطبوا به مثل هذه الأمور العامة إلا على هذا الوجه ولكن على كل فرد من المسلمين التزام العمل به في خاصة نفسه والتزام الامتثال لما يقرره ولاة الأمور.
وإذا كان محمل لفظ الحل وما تصرف منه كلام الشارع منصرفا إلى معنى الإباحة الشرعية وهي الجواز وضد التحريم.
ومن الواضح أن الكفار لا تتوجه إليهم خطابات التكليف بأمور الإسلام إذ هم خارجون عنه فمطالبتهم بالتكاليف الإسلامية لا يتعلق به قصد الشريعة، ولذلك تعد المسألة الملقبة في علم الأصول بمسألة: خطاب الكفار بالفروع، مسألة لا طائل تحتها ولا ينبغي الاشتغال بها بله التفريع عليها.
وإذ قد علق حكم نفي حل المرأة الذي هو معنى حرمة دوام عصمتها على ضمير الكفار في قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} . ولم يكن الكفار صالحين للتكليف بهذا التحريم فقد تعين تأويل هذا التحريم بالنسبة إلى كونه على الكافرين، وذلك بإرجاع وصف الحل المنفي إلى النساء في كلتا الجملتين وإبداء وجه الإتيان بالجملتين ووجه التعاكس في ترتيب أجزائهما. وذلك أن نقول: إن رجوع المرأة المؤمنة إلى الكافر يقع على صورتين:
إحداهما: أن ترجع المرأة المؤمنة إلى زوجها في بلاد الكفر، وذلك ما ألح الكفار في طلبه لما جاءت بعض المؤمنات مهاجرات.
والثانية: أن ترجع إلى زوجها في بلاد الإسلام بأن يخلي بينها وبين زوجها الكافر يقيم معها في بلاد الإسلام إذا جاء يطلبها ومنع من تسلمها. وكلتا الصورتين غير حلال للمرأة المسلمة فلا يجيزها ولاة الأمور، وقد عبر عن الصورة الأولى بجملة {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} إذ جعل فيها وصف حل خبرا عن ضمير النساء وأدخلت اللام على ضمير الرجال، وهي لام تعدية الحل وأصلها لام الملك فأفاد أن لا يملك الرجال الكفار عصمة أزواجهم المؤمنات وذلك يستلزم أن بقاء النساء المؤمنات في عصمة أزواجهن الكافرين غير حلال، أي لم يحللهن الإسلام لهم.
وقدم {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} لأنه راجع إلى الصورة الأكثر أهمية عند المشركين إذ كانوا يسألون إرجاع النساء إليهم ويرسلون الوسائط في ذلك بقصد الرد عليهم بهذا.

وجيء في الجملة الأولى بالصفة المشبهة وهي {حل} المفيدة لثبوت الوصف إذ كان الرجال الكافرون يظنون أن العصمة التي لهم على أزواجهم المؤمنات مثبتة أنهن حل لهم.
وعبر عن الثانية بجملة {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فعكس الإخبار بالحل إذ جعل خبرا عن ضمير الرجال، وعدي الفعل إلى المحلل باللام داخلة على ضمير النساء فأفاد أنهن لا يحل لهن أواجهن الكافرون ولو بقى الزوج في بلاد الإسلام.
ولهذا ذكرت الجملة الثانية {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} كالتتمة لحكم الجملة الأولى، وجيء في الجملة الثانية بالمسند فعلا مضارعا لدلالته على التجدد لإفادة نفي الطماعية في التحليل ولو بتجدده في الحال بعقد جديد أو اتفاق جديد على البقاء في دار الإسلام خلافا لأبي حنيفة إذ قال: إن موجب الفرقة هو اختلاف الدارين لا اختلاف الدين.
ويجوز في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد تأكيد نفي الحال فبعد أن قال: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} وهو الأصل كما علمت آنفا أكد بجملة {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي أن انتفاء الحل حاصل من كل جهة كما بقال: لست منك ولست مني.
ونظيره قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} في سورة البقرة[187] تأكيدا لشدة التلبس والاتصال من كل جهة.
وفي الكلام محسن العكس من المحسنات البديعية مع تغيير يسير بين {حل} و {يحلون} اقتضاه المقام، وإنما يوفر حظ التحسين بمقدار ما يسمح له به مقتضى حال البلاغة.
{وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} .
المراد ب {مَا أَنْفَقُوا} . ما أعطوه من المهور، والعدول عن إطلاق اسم المهور والأجور على ما دفعه المشركون لنسائهم اللاء من لطائف القرآن لأن أولئك النساء أصبحن غير زوجات. فألغي إطلاق اسم المهور على ما يدفع لهم.
وقد سمى الله بعد ذلك ما يعطيه المسلمون لهن أجورا بقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .

والمكلف بإرجاع مهور الأزواج المشركين إليهم هم ولاة أمور المسلمين مما بين أيديهم من أموال المسلمين العامة.
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .
وإنما قال تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} للتنبيه على خصوص قوله: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} لئلا يظن أن ما دفع للزوج السابق مسقط استحقاق المرأة المهر ممن يروم تزويجها ومعلوم أن نكاحها بعد استبرائها بثلاثة أقراء.
{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} .
نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في عصمتهم وهن النساء اللاء لم يخرجن مع أزواجهن لكفرهن فلما نزلت هذه الآية طلق المسلمون من كان لهم من أزواج بمكة، فطلق عمر امرأتين له بقيتا بمكة مشركتين، وهما: قريبة بنت أبي أمية، وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية.
والمراد بالكوافر: المشركات. وهن موضوع هذه التشريعات لأنها في حالة واقعة فلا تشمل الآية النهي عن بقاء المرأة المسلمة في عصمة زوج مشرك وإنما يؤخذ حكم ذلك بالقياس.
قال ابن عطية: رأيت لأبي علي الفارسي إنه قال: سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} أنه في الرجال والنسوان، فقلت له: النحويون لا يرونه إلا في النساء لأن كوافر جمع كافرة، فقال: وآيش يمنع من هذا، أليس الناس يقولون: طائفة كافرة، وفرقة كافرة، فبت وقلت: هذا تأييد اهـ. وجواب أبي الحسن الكرخي غير مستقيم لأنه يمنع منه ضمير الذكور في قوله: {وَلا تُمْسِكُوا} فهم الرجال المؤمنون والكوافر نساؤهم. ومن العجيب قول أبي علي: فبهت وقلت... الخ. وقرأ الجمهور {وَلا تُمْسِكُوا} بضم التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة. وقرأ أبو عمرو بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين مكسورة مضارع مسك بمعنى أمسك.
{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} .
عطف على قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} وهو تتميم لحكمه، أي كما تعطونهم مهور أزواجهم اللاء فررن منهم مسلمات، فكذلك إذا فرت إليهم امرأة مسلم كافرة ولا قدرة

لكم على إرجاعها إليكم تسألون المشركين إرجاع مهرها إلى زوجها المسلم الذي فرت منه وهذا إنصاف بين الفريقين، والأمر للإباحة.
وقوله: {وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} تكملة لقوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} لإفادة أن معنى واو العطف هنا على المعية بالقرينة لأن قوله {وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} لو أريد حكنة بمفرده لكان مغنيا عند قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} ، فلما ككر عقب قوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} علمنا أن المراد جمع مضمون الجملتين، أي إذا أعطوا ما عليهم أعطوهم ما عليكم وإلا فلا. فالواو مفيدة معنى المعية هنا بالقرينة. وينبغي أن يحمل عليه ما قاله بعض الحنفية من أن معنى واو العطف المعية. قال إمام الحرمين في البرهان في معاني الواو: اشتهر من مذهب الشافعي أنها للترتيب وعند بعض الحنفية أنها للمعية. وقد زل الفريقان اهـ. وقد أشار إليه في مغني اللبيب ولم يرده. وقال المازري في شرح البرهان: وأما قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فإن المراد النهي عن تناول السمك وتناول اللبن فيكون الإعراب مختلفا فإذا قال: وتشرب اللبن بفتح الباء كان نهيا عن الجمع ويكون الانتصاب بمعنى تقدير حرف أن اهـ. وهو يرمي إلى أن هذا المحمل يحتاج إلى قرينة.
فأفاد قوله: {وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} أنهم إن أبوا من دفع مهور نساء المسلمين يفرون إليهم كان ذلك مخولا للمؤمنين أن لا يعطوهم مهور من فروا من أزواجهم إلى المسلمين، كما يقال في الفقه خيرته تنفي ضروه.
{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
أي هذا حكم الله، وهو عدل بين الفريقين إذ ليس لأحد أن يأخذ بأحد جانبيه ويترك الآخر. قال الزهري: لولا العهد لأمسك النساء ولم يرد إلى أزواجهم صداق. وجملة {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يجوز كونها حالا من اسم الجلالة أو حالا من {حُكْمُ اللَّهِ} مع تقدير ضمير يربط الجملة بصاحب الحال تقديره: يحكمه بينكم، وأن تكون استئنافا.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . تذييل يشير إلى أن هذا حكم يقتضيه علم الله بحاجات عباده وتقتضيه حكمته إذ أعطى كل ذي حق حقه.
وقد كانت هذه الأحكام التي غي هذه الآيات من التراد في المهور شرعا في أحوال مخصوصة اقتضاها اختلاط الأمر بين أهل الشرك والمؤمنين وما كان من عهد المهادنة بين المسلمين والمشركين في أوائل أمر الإسلام خاصا بذلك الزمان بإجماع أهل العلم، قاله

ابن العربي والقرطبي وأبو بكر الجصاص.
[11] {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} .
عطف على جملة {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} [الممتحنة:10] فإنها لما ترتب على نزولها إباء المشركين من أن يردوا إلى أزواج النساء اللاء بقين على الكفر بمكة واللاء فررن من المدينة والتحقن بأهل الكفر بمكة مهورهم التي كانوا أعطوها نساءهم، عقبت بهذه الآية لتشريع رد تلك المهور من أموال المسلمين فيما بينهم.
روي أن المسلمين كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية من التراد بين الفريقين في قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة:10].
فامتنع المشركون من دفع مهور النساء اللاتي ذهبت إليهم فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} الآية.
وأصل الفوت: المفارقة والمباعدة، والتفاوت: المتباعد. والفوت هنا مستعار لضياع الحق كقول رويشد بن كثير الطائي أو عمرو بن معد يكرب:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... فما علي بذنب منكم فوت
أي فلا ضياع علي بما أذنتم، أي فإنا كمن لم يضع له حق.
والمعنى: إن فرت بعض أزواجكم ولحقت بالكفار وحصل التعاقب بينكم وبين الكفار فعقبتم على أزواج الكفار وعقب الكفار على أزواجكم وأبى الكفار من دفع مهور بعض النساء اللاء ذهبن إليهم، فادفعوا أنتم لمن حرمه الكفار مهر امرأته، أي ما هو حقه، واحتجزوا بذلك على الكفار. وهذا يقتضي أنه إن أعطي جميع المؤمنين مهور من فاتهم من نسائهم وبقي للمشركين فضل يرده المسلمون إلى الكفار. وهذا تفسير الزهري في رواية يونس عنه وهو أظهر ما فسرت به الآية.
وعن ابن عباس والجمهور: الذين فاتهم أزواجهم إلى الكفار يعطون مهور نسائهم من مغانم المسلمين. وهذا يقتضي أن تكون الآية منسوخة بآية سورة براءة[7] {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} .
والوجه أن لا يصار إلى الإعطاء من الغنائم إلا إذا لم يكن في ذمم المسلمين شيء

من مهور نساء المشركين اللاء أتين إلى بلاد الإسلام وصرن أزواجا للمسلمين.
والكلام إيجاز حذف شديد دل عليه مجموع الألفاظ وموضع الكلام عقب قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} .
ولفظ {شيء} هنا مراد به: بعض {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} بيان ل {شيء} ، وأريد ب {شيء} تحقير الزوجات اللاء أبين الإسلام، فإن المراد قد فاتت ذاتها عن زوجها فلا انتفاع له بها.
وضمن فعل {فاتكم} معنى الفرار فعدي بحرف إلى أي فررن إلى الكفار.
و {عاقبتم} صيغة تفاعل من العقبة بضم العين وسكون القاف وهي النوبة، أي مصير أحد إلى حال كان فيها غيره. وأصلها في ركوب الرواحل والدواب أن يركب أحد عقبة وآخر عقبة شبه ما حكم به على الفريقين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك في بعض الأحوال ومن أداء أولئك مهور نساء هؤلاء في أحوال أخرى مماثلة بمركوب يتعاقبون فيه.
ففعل {ذهبت} مجاز مثل فعل {فاتكم} في معنى عدم القدرة عليهن.
والخطاب في قوله {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} وفي قوله: {فآتوا} خطاب للمؤمنين والذين ذهبت أزواجهم هم أيضا من المؤمنين.
والمعنى: فليعط المؤمنون لإخوانهم الذين ذهبت أزواجهم ما يماثل ما كانوا أعطوه من المهور لزوجاتهم.
والذي يتولى الإعطاء هنا هو كما قررنا في قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة:10] أي يدفع ذلك من أموال المسلمين كالغنائم والأخماس ونحوها كما بينته السنة، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، وعياض بن أبي شداد الفهري، وشماس بن عثمان، وهشام بن العاص، مهور نسائهم اللاحقات بالمشركين من الغنائم.
وأفاد لفظ {مثل} أن يكون المهر المعطى مساويا لما كان أعطاه زوج المرأة من قبل لا نقص فيه.
وأشارت الآية إلى نسوة من نساء المهاجرين لم يسلمن وهن ثمان نساء: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية ويقال: قريبة وهي أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب، وأم كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر،

وبروع بفتح الباء على الأصح والمحدثون يكسرونها بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان وشبهة بنت غيلان. وعبدة بنت عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص، وقيل تحت عمرو بن عبد. وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص، وأروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كانت تحت طلحة بن عبيد الله، وكان قد هاجر وبقيت زوجه مشركة بمكة فلما نزلت الآية طلقها طلحة بن عبيد الله.
وقد تقدم أن عمر طلق زوجتيه قريبة وأمجرول، فلم تكونا ممن لحقن بالمشركين، وإنما بقيتا بمكة إلى أن طلقهما عمر. وأحسب أن جميعهن إنما طلقهن أزواجهن عند نزول قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10].
والتذييل بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} تحريض للمسلمين على الوفاء بما أمرهم الله وأن لا يصدهم عن الوفاء ببعضه معاملة المشركين لهم بالجور وقلة النصفة، فأمر بأن يؤدي المسلمون لإخوانهم مهور النساء اللاء فارقوهن ولم يرض المشركون بإعطائهم مهورهن ولذلك اتبع اسم الجلالة بوصف {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} لأن الإيمان يبعث على التقوى والمشركون لما لم يؤمنوا بما أمر الله انتفى منهم وازع الإنصاف، أي فلا تكونوا مثلهم.
والجملة الاسمية في الصلة للدلالة على ثبات إيمانهم.
[12] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هذه تكملة لامتحان النساء المتقدم ذكره في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] الآية. وبيان لتفصيل آثاره. فكأنه يقول: فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار وبينوا لهن شرائع الإسلام. وآية الامتحان عقب صلح الحديبية في شأن من هاجرن من مكة إلى المدينة بعد الصلح وهن: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وسبيعة الأسلمية، وأميمة بنت بشر، وزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا صحة للأخبار التي تقول: إن الآية نزلت في فتح مكة ومنشؤها التخليط في الحوادث واشتباه المكرر بالأنف.
روى البخاري ومسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر من

المؤمنات بهذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله: قد بايعتك.
والمقتضى لهذه البيعة بين الامتحان أنهن دخلن في الإسلام بعد أن استقرت أحكام الدين في مدة سنين لم يشهدن فيها ما شهده الرجال من اتساع التشريع آنا فآنا، ولهذا ابتدئت هذه البيعة بالنساء المهاجرات كما يؤذن به قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} ، أي قدمن عليك من مكة فهي على وزان قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة:10]. قال ابن عطية: كانت هذه البيعة ثاني يوم الفتح على جبل الصفا.
وأجرى النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيعة على نساء الأنصار أيضا. روى البخاري عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} الحديث.
وفيه عن ابن عباس قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الخطبة فنزل نبي الله فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ} حتى فرغ من الآية كلها. ثم قال حين فرغ: "أنتن على ذلك" فقالت امرأة منهن واحدة لم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله. قال: "فتصدقن".
وأجرى هذه المبايعة على الرجال أيضا. ففي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرفوا"، وقرأ آية النساء أي النازلة بخطاب النساء في سورة الممتحنة "فمن وفى منكم فأجره على الله. ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له. ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شار عذبه وإن شاء غفر له".
واستمر العمل بهذه المبايعة إلى يوم فتح مكة وقد أسلم أهلها رجالا ونساء فجلس ثاني يوم الفتح على الصفا يأخذ البيعة من الرجال على ما في هذه الآية، وجلس عمر بن الخطاب يأخذ البيعة من النساء على ذلك، وممن بايعته من النساء يومئذ هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وكبشة بنت رافع.
وجملة {يبايعنك} يجوز أن تكون حالا من {المؤمنات} على معنى: يردن المبايعة وهي المذكورة في هذه الآية. وجواب {إذا} {فبايعهن} .
ويجوز أن تكون جملة {يبايعنك} جواب {إذا} .

ومعنى {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} ، أي الداخلات في جماعة المؤمنين على الجملة والإجمال، لا يعلمن أصول الإسلام وبينه بقوله: {يبايعنك} فهو خير مراد به الأمر، أي فليبايعنك وتكون جملة {فبايعهن} تفريعا لجملة {يبايعنك} وليبنى عليها قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} .
وقد شملت الآية التخلي عن خصال في الجاهلية وكانت السرقة فيهن أكثر منها في الرجال. قال الأعرابي لما ولدت زوجه بنتا: والله ما هي بنعم الولد بزها بكاء ونصرها سرقة.
والمراد بقتل الأولاد أمران: أحدهما الوأد الذي كان يفعله أهل الجاهلية ببناتهم، وثانيهما إسقاط الأجنة وهو الإجهاض.
وأسند القتل إلى النساء وإن كان بعضه يفعله الرجال لأن النساء كن يرضين به أو يسكتن عليه.
والبهتان: الخبر المكذوب الذي لا شبهة لكاذبه فيه لأنه يبهت من ينقل عنه.
والافتراء: اختلاق الكذب، أي لا يختلقن أخبارا بأشياء لم تقع.
وقوله: {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} يتعلق ب {يأتين} ، وهذا من الكلام الجامع لمعان كثيرة باختلاف محامله من حقيقة ومجاز وكناية، فالبهتان حقيقته: الإخبار بالكذب وهو مصدر. ويطلق المصدر على اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.
وحقيقة بين الأيدي والأرجل: أن يكون الكذب حاصلا في مكان يتوسط الأيدي والأرجل فإن كان البهتان على حقيقته وهو الخبر الكاذب كان افتراؤه بين أيديهن وأرجلهن أنه كذب مواجهة في وجه المكذوب عليه كقولها: يا فلانة زنيت مع فلان، أو سرقت حلي فلانة. لتبهتها في ملأ من الناس، أو أنت بنت زنى، أو نحو ذلك.
وإن كان البهتان بمعنى المكذوب كان معنى افترائه بين أيديهن وأرجلهن كناية عن ادعاء الحمل بأن تشرب ما ينفخ بطنها فتوهم زوجها أنها حامل ثم تظهر الطلق وتأتي بولد تلتقطه وتنسبه إلى زوجها لئلا يطلقها، أو لئلا يرثه عصبته، فهي تعظم بطنها وهو بين يديها، ثم إذا وصل إبان إظهار الطلق وضعت الطفل بين رجليها وتحدثت وتحدث الناس بذلك فهو مبهوت عليه. فالافتراء هو ادعاؤها ذلك تأكيدا لمعنى البهتان.

وإن كان البهتان مستعارا للباطل الشبيه بالخبر البهتان، كان {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} محتملا للكناية عن تمكين المرأة نفسها من غير زوجها يقبلها أو يجسها، فذلك بين يديها أو يزني بها، وذلك بين أرجلها.
وفسره أبو مسلم الأصفهاني بالسحر إذ تعالج أموره بيديها، وهي جالسة تضع أشياء السحر بين رجليها.
ولا يمنع من هذه المحامل أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الرجال بمثلها. وبعض هذه المحامل لا يتصور في الرجال إذ يؤخذ لكل صنف ما يصلح له منها.
وبعد تخصيص هذه المنهيات بالذكر لخطر شأنها عمم النهي بقوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} والمعروف هو ما لا تنكره النفوس. والمراد هنا المعروف في الدين، فالتقييد به إما لمجرد الكشف فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يامر إلا بالمعروف، وإما لقصد التوسعة عليهن في أمر لا يتعلق بالدين كما فعلت بريرة إذ لم تقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إرجاعها زوجها مغيثا إذ بانت منه بسبب عتقها وهو رقيق.
وقد روى في الصحيح عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن في هذه المبايعة عن النياحة فقبضت امرأة يدها وقالت: اسعدتني فلانة أريد أن أجزيها. فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلقت ورجعت فبايعها. وإنما هذا مثال لبعض المعروف الذي يأمرهن به النبي صلى الله عليه وسلم تركه فاش فيهن.
وورد في أخبار أنه نهاهن عن تبرج الجاهلية وعن أن يحدثن الرجال الذين ليسوا بمحرم فقال عبد الرحمان بن عوف يا نبي الله إن لنا أضيافا وإنا تغيب، قال رسول الله: "ليس أولئك عنيت". وعن ابن عباس: نهاهن عن تمزيق الثياب وخدش الوجوه وتقطيع الشعور والدعاء بالويل والثبور، أي من شؤون النياحة في الجاهلية.
وروى الطبري بسنده إلى ابن عباس لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على النساء كانت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان جالسة مع النساء متنكرة خوفا من رسول الله أن يقتص منها على شقها بطن حمزة وأخراجها كبده يوم أحد. فلما قال: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} ، قالت هند: وكيف نطمع أن يقبل منا شيئا لم يقبله من الرجال. فلما قال: {وَلا يَسْرِقْنَ} . قالت هند: والله إني لأصيب من مال أبي سفيان هنات فما أدري أتحل لي أم لا? فقال: أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال. فضحك

رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فدعاها فأتته فعاذت به، وقالت: فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقال: {وَلا يَزْنِينَ} . فقالت: أو تزني الحرة. قال: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} . فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فأنتم وهم أعلم. تريد أن المسلمين قتلوا ابنها حنظلة بن أبي سفيان يوم بدر. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ} . فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. فقال: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} . فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
فقوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} جامع لكل ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر به مما يرجع إلى واجبات الإسلام. وفي الحديث عن أم عطية قالت: كان من ذلك: أن لا ننوح. قالت: فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد أن أسعدهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا آل فلان"، وهذه رخصة خاصة بأم عطية وبمن سمتهم. وفي يوم معين.
وقوله: {فبايعهن} جواب {إذا} تفريع على {يبايعنك} ، أي فأقبل منهن ما بايعنك عليه لأن البيعة عنده من جانبين ولذلك صيغت لها صيغة المفاعلة.
{وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} ، أي فيما فرط منهن في الجاهلية مما خص بالنهي في شروط البيعة وغير ذلك. ولذلك حذف المفعول الثاني لفعل {استغفر} .
[13 ] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}.
بعد أن استقصت السورة إرشاد المسلمين إلى ما يجب في المعاملة مع المشركين، جاء في خاتمتها الإرشاد إلى المعاملة مع قوم ليسوا دون المشركين في وجوب الحذر منهم وهم اليهود، فالمراد بهم غير المشركين إذ شبه يأسهم من الآخرة ييأس الكفار، فتعين أن هؤلاء غير المشركين لئلا يكون من تشبيه الشيء بنفسه.
وقد نعتهم الله بأنهم قوم غضب الله عليهم، وهذه صفة تكرر في القرآن إلحاقها باليهود كما جاء في سورة الفاتحة أنهم المغضوب عليهم. فتكون هذه الآية مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} في سورة العقود[57].

ذلك أن يهود خيبر كانوا يومئذ بجوار المسلمين من أهل المدينة. وذكر الواحدي في أسباب النزول : أنها نزلت في ناس من فقراء المسلمين يعملون عند اليهود ويواصلونهم ليصيبوا بذلك من ثمارهم، وربما أخبروا اليهود بأحوال المسلمين عن غفلة وقلة حذر فنبههم الله إلى أن لا يتولوهم.
واليأس: عدم توقع الشيء فإذا علق بذات كان دالا على عدم توقع وجودها. وإذ قد كان اليهود لا ينكرون الدار الآخرة كان معنى يأسهم من الآخرة محتملا أن يراد به الإعراض عن العمل للآخرة فكأنهم في إهمال الاستعداد لها آيسون منها، وهذا في معنى قوله تعالى: في شأنهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} في سورة البقرة[86].
وتشبيه إعراضهم هذا بيأس الكفار من أصحاب القبور وجهه شدة الإعراض وعدم التفكر في الأمر، شبه إعراضهم عن العمل لنفع الآخرة بيأس الكفار من حياة الموتى والبعث وفيه تشنيع المشبه، و {مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} على هذا الوجه متعلق ب {يئسوا} . {والكفار} : المشركون.
ويجوز أن يكون {مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} بيانا للكفار، أي الكفار الذين هلكوا ورأوا أن لا حظ لهم في خير الآخرة فشبه إعراض اليهود عن الآخرة بيأس الكفار من نعيم الآخرة، ووجه الشبه تحقق عدم الانتفاع بالآخرة. والمعنى كيأس المفار الأموات، أي يأسا من الآخرة.
والمشبه به معلوم للمسلمين بالاعتقاد فالكلام من تشبيه المحسزس بالمعقول.
وفي استعارة اليأس للإعراض ضرب من المشاكلة أيضا.
ويحتمل أن يكون يأسهم من الآخرة أطلق على حرمانهم من نعيم الحياة الآخرة. فالمعنى: قد أيأسناهم من الآخرة على نحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} في سورة العنكبوت[23].
ومن المفسرين الأولين من حمل هذه الآية على معنى التأكيد لما في أول السورة من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] فالقوم الذين غضب الله عليهم هم المشركون فإنهم وصفوا بالعدو لله والعدو مغضوب عليه ونسب هذا إلى ابن عباس. وجعل يأسهم من الآخرة هو إنكارهم البعث.

وجعل تشبيه يأسهم من الآخرة بيأس المفار من أصحاب القبور أن يأس الكفار الأحياء كيأس الأموات من الكفار، أي كيأس أسلافهم الذين هم في القبور إذ كانوا في مدة حياتهم آيسين من الآخرة فتكون {من} بيانية صفة للكفار، وليست متعلقة بفعل {يئس} فليس في لفظ {الكفار} إظهار في مقام الإضمار وإلا لزم أن يشبه الشيء بنفسه كما قد توهم.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصفاشتهرت هذه السورة باسم سورة الصف وكذلك سميت في عصر الصحابة.
روى ابن أبي حاتم سنده إلى عبد الله بن سلام أن ناسا قالوا: لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى أن قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر حتى جمعهم ونزلت فيهم سورة سبح لله الصف الحديث، رواه ابن كثير، وبذلك عنونت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي ، وكذلك كتب اسمها في المصاحف وفي كتب التفسير.
ووجه التسمية وقوع لفظ {صفا} [الصف:4] فيها وهو صف القتال، فالتعريف باللام تعريف العهد.
وذكر السيوطي في الإتقان : أنها تسمى سورة الحواريين ولم يسنده. وقال الآلوسي تسمى سورة عيسى ولم أقف على نسبته لقائل. وأصله للطبرسي فلعله أخذ من حديث رواه في فضلها عن أبي بن كعب بلفظ سورة عيسى. وهو حديث موسوم بأنه موضوع. والطبرسي يكثر من تخريج الأحاديث الموضوعة. فتسميتها سورة الحواريين لذكر الحواريين فيها. ولعلها أول سورة نزلت ذكر فيها لفظ الحواريين.
وإذا ثبت تسميتها سورة عيسى فلما فيها من ذكر {عِيسَى} [الصف:6 ،14] مرتين.
وهي مدنية عند الجمهور كما يشهد لذلك حديث عبد الله بن سلام. وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء أنها مكية ودرج عليه في الكشاف والفخر. وقال ابن عطية: الأصح أنها مدنية ويشبه أن يكون فيها المكي.
واختلف في سبب نزولها وهل نزلت متتابعة أو متفرقة متلاحقة.

وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله تعالى {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:1،2] قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله. وأخرجه الحاكم وأحمد في مسنده وابن أبي حاتم والدرامي بزيادة فقرأها علينا رسول الله حتى ختمها أو فقراها كلها.
فهذا يقتضي أنهم قيل لهم: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} قبل أن يخلفوا ما وعدوا به فيكون الاستفهام مستعملا مجازا في التحذير من عدم الوفاء بما نذروه ووعدوا به.
وعن علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبر الله أن أحب الأعمال: إيمان به وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به. فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم. فأنزل الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} .
ومثله عن أبي صالح أن السورة نزلت بعد أن أمروا بالجهاد بآيات غير هذه السورة. وبعد أن وعدوا بالانتداب للجهاد ثم تقاعدوا عنه وكرهوه. وهذا المروي عن ابن عباس وهو أوضح وأوفق بنظم الآية، والاستفهام فيه للتوبيخ واللوم وهو المناسب لقوله بعده {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3].
وعن مقاتل بن حيان: قال المؤمنون: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به فدلهم الله فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف:4]، فابتلوا يوم أحد بذلك فولوا مدبرين فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} . ونسب الواحدي مثل هذا للمفسرين وهو يقتضي أن صدر الآية نزل بعد آخرها.
وعن الكلبي: أنهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها فنزلت {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] الآية. فابتلوا يوم أحد فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} تعيرهم بترك الوفاء. وهو يقتضي أن معظم السورة قبل نزول الآية التي في أولها.

وهي السورة الثامنة والمائة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة التغابن وقبل سورة الفتح. وكان نزولها بعد وقعة أحد.
وعدد آيها أربع عشرة آية باتفاق أهل العدد.
أغراضها
أول أغراضها التحذير من إخلاف الوعد والالتزام بواجبات الدين.
والتحريض على الجهاد في سبيل الله والثبات فيه، وصدق الإيمان.
والثبات في نصرة الدين.
والائتساء بالصادقين مثل الحواريين.
والتحذير من أذى الرسول صلى الله عليه وسلم تعريضا باليهود مثل كعب بن الأشرف.
وضرب المثل لذلك بفعل اليهود مع موسى وعيسى عليهما السلام.
والتعريض بالمنافقين.
والوعد على إخلاص الإيمان والجهاد بحسن مثوبة الآخرة والنصر والفتح.
[1] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
مناسبة هذه الفاتحة لما بعدها من السورة بيان أن الكافرين محقوقون بان تقاتلوهم لأنهم شذوا عن جميع المخلوقات فلم يسبحوا الله ولم يصفوه بصفات الكمال إذ جعلوا له شركاء في الإلهية. وفيه تعريض بالذين أخلفوا ما وعدوا بأنهم لم يؤدوا حق تسبيح الله، لأن الله مستحق لأن يوفى بعهده في الحياة الدنيا وأن الله ناصر الذين آمنوا على عدوهم.
وتقدم الكلام على نظير قوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ} إلى {الحكيم} في أول سورة الحشر وسورة الحديد.
وفي إجراء وصف {العزيز} عليه تعالى هنا إيماء إلى أنه الغالب لعدوه فما كان لكم أن ترهبوا أعداءه فتفروا منهم عند اللقاء.
وإجراء صفة {الحكيم} إن حملت على معنى المتصف بالحكمة أن الموصوف بالحكمة لا يأمركم بجهاد العدو عبثا ولا يخليهم يغلبونكم. وإن حملت على معنى

المحكم للأمور فكذلك.
[2،3 ]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}.
ناداهم بوصف الإيمان تعريضا بأن الإيمان من شأنه أن يزغ المؤمن عن أن يخالف فعله قوله في الوعد بالخير.
واللام لتعليل المستفهم عنه وهو الشيء المبهم الذي هو مدلول {ما} الاستفهامية لأنها تدل على أمر مبهم يطلب تعيينه.
والتقدير: تقولون ما لا تفعلون لأي سبب أو لأية علة.
وتتعلق اللام بفعل {تقولون} المجرور مع حرف الجر لصدارة الاستفهام.
والاستفهام عن العلة مستعمل هنا في إنكار أن يكون سبب ذلك مرضيا لله تعالى، أي أن ما يدعوهم إلى ذلك هو أمر منكر وذلك كناية عن اللوم والتحذير من ذلك كما في قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} في سورة البقرة[91].
فيجوز أن يكون القول الذي قالوه وعدا وعدوه ولم يفوا به. ويجوز أن يكون خبرا أخبروا به عن أنفسهم لم يطابق الواقع. وقد مضى استيفاء ذلك في الكلام على صدر السورة.
وهذا كناية عن تحذيرهم من الوقوع في مثل ما فعلوه يوم أحد بطريق الرمز، وكناية عن اللوم على ما فعلوه يوم أحد بطريق التلويح.
وتعقيب الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف:4] إلخ. يؤذن بأن اللوم على وعد يتعلق بالجهاد في سبيل الله. وبذلك يلتئم معنى الآية مع حديث الترمذي في سبب النزول وتندحض روايات أخرى رويت في سبب نزولها ذكرها في الكشاف.
وفيه تعريض بالمنافقين إذ يظهرون الإيمان بأقوالهم وهم لا يعملون أعمال أهل الإيمان بالقلب ولا بالجسد. قال ابن زيد: هو قول المنافقين للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك.
وجملة {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} بيان لجملة {لمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} تصريحا بالمعنى المكنى عنه بها.

وهو خبر عن كون قولهم {مَا لا تَفْعَلُونَ} أمرا كبيرا في جنس المقت.
والكبر: مستعار للشدة لأن الكبير فيه كثرة وشدة في نوعه.
و {أَنْ تَقُولُوا} فاعل {كبر}.
والمقت: البغض الشديد. وهو هنا بمعنى اسم المفعول.
وانتصب {مقتا} على التمييز لجهة الكبر. وهو تمييز نسبة.
والتقدير: كبر ممقوتا قولكم ما لا تفعلونه.
ونظم هذا الكلام بطريقة الإجمال ثم التفصيل بالتمييز لتهويل هذا الأمر في قلوب السامعين لكون الكثير منهم بمظنة التهاون في الحيطة منه حتى وقعوا فيما وقعوا يوم أحد. ففيه وعيد على تجدد مثله، وزيد المقصود اهتماما بأن وصف المقت بأنه عند الله، أي مقت لا تسامح فيه.
وعدل عن جعل فاعل {كبر} ضمير القول بأن يقتصر على {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} أو يقال: كبر ذلك مقتا، لقصد زيادة التهويل بإعادة لفظه، ولإفادة التأكيد.
و {ما} في قوله: {مَا لا تَفْعَلُونَ} في الموضعين موصولة، وهي بمعنى لام العهد، أي الفعل الذي وعدتم أن تفعلوه وهو أحب الأعمال إلى الله أو الجهاد. فاقتضت الآية أن الوعد في مثل هذا يجب الوفاء به لأن الموعود به طاعة فالوعد به من قبيل النذر المقصود منه القربة فيجب الوفاء به.
[4] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .
هذا جواب على تمنيهم معرفة أحب الأعمال إلى الله كما في حديث عبد الله بن سلام عند الترمذي المتقدم وما قبله توطئة له على أسلوب الخطب ومقدماتها.
والصف: عدد من أشياء متجانبة منتظمة الأماكن، فيطلق على صف المصلين، وصف الملائكة، وصف الجيش في ميدان القتال بالجيش إذا حضر القتال كان صفا من رجالة أو فرسان ثم يقع تقدم بعضهم إلى بعض فرادى أو زرافات.
فالصف هنا: كناية عن الانتظام والمقاتلة عن تدبر.

وأما حركات القتال فتعرض بحسب مصالح الحرب في اجتماع وتفرق وكر وفر. وانتصب {صفا} على الحال بتأويل: صافين، أو مصفوفين.
والمرصوص: المتلاصق بعضه ببعض. والتشبيه في الثبات وعدم الانفلات وهو الذي اقتضاه التوبيخ السابق في قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2].
[5] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
موقع هذه الآية هنا خفي المناسبة. فيجوز أن تكون الجملة معترضة استئنافا ابتدائيا انتقل به من النهي عن عدم الوفاء بما وعدوا الله عليه إلى التعريض بقوم آذوا النبي صلى الله عليه وسلم بالقول أو بالعصيان أو نحو ذلك، فيكون الكلام موجها إلى المنافقين، فقد وسموا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب:57] الآية. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61] وقوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61].
وعلى هذا الوجه فهو اقتضاب نقل به الكلام من الغرض الذي قبله لتمامه إلى هذا الغرض، أو تكون مناسبة وقعه في هذا الموقع حدوث سبب اقتضى نزوله من أذى قد حدث لم يطلع عليه المفسرون ورواة الأخبار وأسباب النزول.
والواو على هذا الوجه عطف غرض على غرض. وهو المسمى بعطف قصة على قصة.
ويجوز أن يكون من تتمة الكلام الذي قبلها ضرب الله مثلا للمسلمين لتحذيرهم من إتيان ما يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم ويسوؤوه من الخروج عن جادة الكمال الذيني مثل عدم الوفاء بوعدهم في الإتيان بأحب الأعمال إلى الله تعالى. وأسفقهم من أن يكون ذلك سببا للزيغ والضلال كما حدث لقوم موسى لما آذوه.
وعلى هذا الوجه فالمراد بأذى قوم موسى إياه: عدم توخي طاعته ورضاه، فيكون ذلك مشيرا إلى ما حكاه الله عنه من قوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21]، إلى قوله: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].

فإن قولهم ذلك استخفاف يدل لذلك قوله عقبه {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25].
وقد يكون وصفهم في هذه الآية بقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ناظرا إلى وصفهم بذلك مرتين في آية سورة العقود في قوله: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25] وقوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:26].
فيكون المقصود الأهم من القصة هو ما تفرع على ذكرها من قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . ويناسب أن تكون هذه الآية تحذيرا من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعبرة بما عرض لهم من الهزيمة يوم أحد لما خالفوا أمره من عدم ثبات الرماة في مكانهم.
وقد تشابهت القصتان في أن القوم فروا يوم أحد كافر قوم موسى يوم أريحا، وفي أن الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لا يبرحوا مكانهم ولو تخطفنا الطير" وأن ينضحوا عن الجيش بالنبال خشية أن يأتيه العدو من خلفه لم يفعلوا ما أمرهم به وعصوا أمر أميرهم عبد الله بن جبير وفارقوا موقفهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين يوم أحد.
والواو على هذا الوجه عطف تحذير مأخوذ من قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} على النهي الذي في قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] الآية.
ويتبع ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حصل من مخالفة الرماة حتى تسببوا في هزيمة الناس.
و {إذ} متعلقة بفعل محذوف تقديره: اذكر، وله نظائر كثيرة في القرآن، أي اذكر لهم أيضا وقت قول موسى لقومه أو اذكر لهم مع هذا النهي وقت قول موسى لقومه.
وابتداء كلام موسى عليه السلام ب {يا قوم} تعريض بأن شأن قوم الرسول أن يطيعوه بله أن لا يؤذوه. ففي النداء بوصف {قوم} تمهيد للإنكار في قوله: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} .
والاستفهام للإنكار، أي إنكار أن يكون للإذاية سبب كما تقدم في قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} .
وقد جاءت جملة الحال من قوله: {َقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ} مصادفة المحل من الترقي في الإنكار.

و {قد} لتحقيق معنى الحالية، أي وعلمكم برسالتي عن الله أمر محقق لما شاهدوه من دلائل رسالته، وكما أكد علمهم ب {قد} أكد حصول المعلوم ب "أن" المفتوحة، فحصل تأكيدان للرسالة. والمعنى: فكيف لا يجري أمركم على وفق هذا العلم.
والإتيان بعد {قد} بالمضارع هنا للدلالة على أن علمهم بذلك مجدد بتجدد الآيات والوحي، وذلك أجدى بدوام امتثاله لأنه لو جيء بفعل المضي لما دل على أكثر من حصول ذلك العلم فيما مضى. ولعله قد طرأ عليه ما يبطله، وهذا كالمضارع في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} في سورة الأحزاب[18].
والزيغ: الميل عن الحق، أي لما خالفوا ما أمرهم رسولهم جعل الله في قلوبهم زيغا، أي تمكن الزيغ من نفوسهم فلم ينفكوا عن الضلال.
وجملة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} تذييل، أي وهذه سنة الله في الناس فكان قوم موسى الذين آذوه من أهل ذلك العموم.
وذكر وصف {الفاسقين} جاريا على لفظ {القوم} للإيماء إلى الفسوق الذي دخل في مقومات قوميتهم. كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في البقرة[164].
فالمعنى: الذين كان الفسوق عن الحق سجية لهم لا يلطف الله بهم ولا يعتني بهم عناية خاصة تسوقهم إلى الهدى، وإنما هو طوع الأسباب والمناسبات.
[6] {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} .
عطف على جملة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} [الصف:5] فعلى الوجه الأول في موقع التي قبلها فموقع هذه مساو له.
وأما على الوجه الثاني في الآية السابقة فإن هذه مسوقة مساق التتميم لقصة موسى بذكر مثال آخر لقوم حادوا عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم من غير إفادة تحذير للمخاطبين من المسلمين، وللتخلص إلى ذكر أخبار عيسى بالرسول الذي يجيء بعده.
ونادى عيسى قومه بعنوان {بَنِي إِسْرائيلَ} دون {يا قوم} [الصف:5] لأن بني إسرائيل

بعد موسى اشتهروا بعنوان "بَنِي إِسْرائيلَ" ولم يطلق عليهم عنوان: قوم موسى، إلا في مدة حياة موسى خاصة فإنهم إنما صاروا أمة وقوما بسببه وشريعته.
فأما عيسى فإنما كان مرسلا بتأييد شريعة موسى، والتذكير بها وتغيير بعض أحكامها، ولأن عيسى حين خاطبهم لم يكونوا قد اتبعوه ولا صدقوه فلم يكونوا قوما له خالصين.
وتقدم القول في معنى {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} في أوائل سورة آل عمران[50] وفي أثناء سورة العقود.
والمقصود من تنبيههم على هذا التصديق حين ابتداءهم بالدعوة تقريب إجابتهم واستنزال طائرهم لشدة تمسكهم بالتوراة واعتقادهم أن أحكامها لا تقبل النسخ، وأنها دائمة. ولذلك لما ابتداءهم بهذه الدعوة لم يرد عليها ما حكى عنه في سورة آل عمران من قوله: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ، فيحمل ما هنالك على أنه خطاب واقع بعد أول الدعوة فإن الله لم يوح إليه أول مرة بنسخ بعض أحكام التوراة ثم أوحاه إليه بعد ذلك. فحينئذ أخبرهم بما أوحى إليه.
وكذلك شأن التشريع أن يلقى إلى الأمة تدريجا كما في حديث عائشة في صحيح البخاري أنها قالت: إنما أنزل أول ما أنزل منه أي القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو أنزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا نترك الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا: لقالوا: لا ندع الزنى أبدا. لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46]، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده اهـ.
فمعنى قوله: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} في كلتا الآيتين هو التصديق بمعنى التقرير والأعمال على وجه الجملة، أي أعمال مجموعها وجمهرة أحكامها ولا ينافي ذلك أنه قد تغير بعض أحكامها بوحي من الله في أحوال قليلة.
والتبشير: الإخبار بحادث يسر، وأطلق هنا على الإخبار بأمر عظيم النفع لهم لأنه يلزمه السرور الحق فإن مجيء الرسول إلى الناس نعمة عظيمة.
ووجه إيثار هذا اللفظ الإشارة إلى ما وقع في الإنجيل من وصف رسالة الرسول

الموعود به بأنها بشارة الملكوت1.
وإنما أخبرهم بمجيء رسول من بعده لأن بني إسرائيل لم يزالوا ينتظرون مجيء رسول من الله يخلصهم من براثن المتسلطين عليهم وهذا الانتظار ديدنهم، وهم موعودون لهذا المخلص لهم على لسان أنبيائهم بعد موسى. فكان وعد عيسى به كوعد من سبقه من أنبيائهم، وفاتحهم به في أول الدعوة اعتناء بهذه الوصية.
وفي الابتداء بها تنبيه على أن ليس عيسى هو المخلص المنتظر وأن المنتظر رسول يأتي من بعده وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
ولعظم شأن هذا الرسول الموعود به أراد الله أن يقيم للأمم التي يظهر فيها علامات ودلائل ليتبينوا بها شخصه فيكون انطباقها فاتحة لإقبالهم على تلقي دعوته، وإنما يعرفها حق معرفتها الراسخون في الدين من أهل الكتاب لأنهم الذين يرجع إليهم الدهماء من أهل ملتهم قال تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. وقال {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43].
وقد وصف الله بعض صفات هذا الرسول لموسى عليه السلام في قوله تعالى: حكاية عن إجابته دعاء موسى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى قوله {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 57].
فلما أراد الله تعالى إعداد البشر لقبول رسالة هذا الرسول العظيم الموعود به صلى الله عليه وسلم استودعهم أشراطه وعلاماته على لسان كل رسول أرسله إلى الناس. قال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:81،82] أي أأخذتم إصري من أممكم على الإيمان بالرسول الذي يجيء مصدقا للرسل. وقوله:
ـــــــ
1 في الإصحاح الرابع والعشرين من إنجيل متى فقرة 11 ويكرر ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة.

{فاشهدوا} [آل عمران:81]، أي على أممكم وسيجيء من حكاية كلام عيسى في الإنجيل ما يشرح هذه الشهادة.
وقال تعالى في خصوص ما لقنه إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] الآية.
وأوصى به عيسى عليه السلام في هذه الآية وصية جامعة لما تقدمها من وصايا الأنبياء وأجملها إجمالا على طريق الرمز. وهو أسلوب من أساليب أهل الحكمة والرسالة في غير بيان الشريعة قال السهرودي قي تلك حكمة الإشراق وكلمات الأولين مرموزة فقال قطب الدين الشيرازي في شرحه : كانوا يرمزون في كلامهم إما تشحيذا للخاطر باستكداد الفكر أو تشبيها بالباري تعلى وأصحاب النواميس فيما أتوا به من الكتب المنزلة المرموزة لتكون أقرب إلى فهم الجمهور فينتفع الخواص بباطنها والعوام بظاهرها. اهـ، أي ليتوسمها أهل العلم من أهل الكتاب فيتحصل لهم من مجموع تفصيلها شمائل الرسول الموعود به ولا يلتبس عليهم بغيره ممن يدعي ذلك كذبا. أو يدعيه له طائفة من الناس كذبا أو اشتباها.
ولا يحمل قوله: {اسْمُهُ أَحْمَدُ} على ما يتبادر من لفظ اسم من أنه العلم المجهول للدلالة على ذات معينة لتميزه من بين من لا يشاركها في ذلك الاسم لأن هذا الحمل يمنع منه وأنه ليس بمطابق للواقع لأن الرسول الموعود به لم يدعه الناس أحمد فلم يكن أحد يدعوا النبي محمدا صلى الله عليه وسلم باسم أحمد لا قبل نبوءته ولا بعدها ولا يعرف ذلك.
وأما ما وقع في الموطأ و الصحيحين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب"1 فتأويله أنه أطلق الأسماء على ما يشمل الاسم العلم والصفة الخاصة به على طريقة التغليب. وقد رويت له أسماء غيرها استقصاها أبو بكر ابن العربي في العارضة و القبس .
فالذي نوقن به أن محمل قوله: {اسْمُهُ أَحْمَدُ} يجري على جميع ما تحمله جزءا هذه الجملة من المعاني.
ـــــــ
1 وقع هذا الحديث مرسلا في أكثر الروايات عن مالك ووقع في رواية معن بن عيسى، وأبي مصعب الزهري، وعبد الله بن نافع عن مالك أن محمد بن جبير رواه عن أبيه فهو مسند.

فأما لفظ اسم استعماله في كلام العرب ثلاثة استعمالات:
أحدها : أن يكون بمعنى المسمى. قال أبو عبيدة: الاسم المسمى. ونسب ثعلب إلى سيبويه أن الاسم غير المسمى أي إذا أطلق لفظ اسم في الكلام فالمعنى به مسمى ذلك الاسم لكن جزم ابن السيد البطليوسي في كتابه الذي جعله في معاني الاسم هل هو عين المسمى، أنه وقع في بعض مواضع من كتاب سيبويه أن الاسم هو المسمى، ووقع في بعضها أنه غير المسمى، فحمله ابن السيد البطليوسي على أنهما إطلاقان، وليس ذلك باختلاف في كلام سيبويه، وتوقف أبو العباس ثعلب في ذلك فقال: ليس لي فيه قول. ولما في هذا الاستعمال من الاحتمال بطل الاستدلال به.
الاستعمال الثاني: أن يكون الاسم بمعنى شهرة في الخير وأنشد ثعلب:
لأعظمها قدرا وأكرمها أبا ... وأحسنها وجها وأعلنها سمى
سمى لغة في اسم.
الاستعمال الثالث: أن يطلق على لفظ جعل دالا على ذات لتميز من كثير من أمثالها، وهذا هو العلم.
ونحن نجري على أصلنا في حمل ألفاظ القرآن على جميع المعاني التي يسمح بها الاستعمال الفصيح كما في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير، فنحمل الاسم في قوله {اسْمُهُ أَحْمَدُ} ما يجمع بين هذه الاستعمالات الثلاثة، أي مسماة أحمد، وذكره أحمد، وعلمه أحمد، ولنحمل لفظ أحمد على ما لا يأباه واحد من استعمالات اسم الثلاثة إذا قرن به وهو أن أحمد اسم تفضيل يجوز أن يكون مسلوب المفاضلة معنيا به القوة فيم هو مشتق منه، أي الحمد وهو الثناء، فيكون أحمد هنا مستعملا في قوة مفعولية الحمد، أي حمد الناس إياه، وهذا مثل قولهم. العود أحمد، أي محمود كثيرا. فالوصف ب{أحمد} بالنسبة للمعنى الأول في اسم أن مسمى هذا الرسول ونفسه موصوفة بأقوى ما يحمد عليه محمود فيشمل ذلك جميع صفات الكمال النفسانية والخلقية والخلقية والنسبية والقومية وغير ذلك مما هو معدود من الكمالات الذاتية والغرضية.
ويصح اعتبار {احمد} تفضيلا حقيقيا في كلام عيسى عليه السلام، أي مسماه أحمد مني، أي أفضل، أي في رسالته وشريعته. وعبارات الإنجيل تشعر بهذا التفضيل ففي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر وأنا أطلب من الأب أي من ربنا فيعطيكم

فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. ثم قال: وأما الفارقليط الروح القدس الذي سيرسله الأب الله فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم، أي في جملة ما يعلمكم أن يذكركم بكل ما قلته لكم. وهذا يفيد تفضيله على عيسى بفضيلة دوام شريعته المعبر عنها بقول الإنجيل ليثبت معكم إلى الأبد وبفضيلة عموم شرعه للأحكام المعبر عنه بقوله يعلمكم كل شيء.
والوصف ب {أحمد} على المعنى الثاني في الاسم. أن سمعته وذكره في جيله والأجيال بعده موصوف بأنه أشد ذكر محمود وسمعة محمودة.وهذا معنى قوله في الحديث "أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة وأن الله يبعثه مقاما محمودا".
ووصف {أحمد} بالنسبة إلى المعنى الثالث في الاسم رمز إلى أنه اسمه العلم يكون بمعنى: أحمد، فإن لفظ محمد اسم مفعول من حمد اسم مفعول من حمد المضاعف الدال على كثرة حمد الحامدين إياه كما قالوا: فلان ممدح، إذا تكرر مدحه من مادحين كثيرين.
فاسم محمد يفيد معنى: المحمود حمدا كثيرا ورمز إليه بأحمد.
وهذه الكلمة الجامعة التي أوحى الله بها إلى عيسى عليه السلام أراد الله بها أن تكون شعارا لجماع صفات الرسول الموعود به صلى الله عليه وسلم، صيغت بأقصى صيغة تدل على ذلك إجمالا بحسب ما تسمح اللغة بجمعه من معاني. ووكل تفصيلها إلى ما يظهر من شمائله قبل بعثته وبعدها ليتوسمها المتوسمون ويتدبر مطاويها الراسخون عند المشاهدة والتجربة.
جاء في إنجيل متي في الإصحاح الرابع والعشرين قول عيسى ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرا ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص ويكرز1 ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يكون المنتهى، ومعنى يكرز يدعو وينبيء،
ـــــــ
1 كذا وقعت كلمة يكرز في ترجمة الإنجيل ولم أحقق مأخذ المترجم لهاته الكلمة ولعلها مأخوذة من اسم الكراز بتشديد الراء اسم الكبش الذي يضع عليه الراعي كرزه فيحمله. أو من الكرز بضم الكاف وسكون الراء ضرب من الجوالق كبير يحمل فيه الراعي زاده ومتاعه. ومن المعلوم تشبيه الرسل برعاة الغنم. ومن كلام عيسى عليه السلام: "إنما بعثت لخرفان بني إسرائيل" وأما فعل كرز فلعله من باب قعد.

ومعنى يصير إلى المنتهى يتأخر إلى قرب الساعة.
وفي الإنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب فيعطيكم آخر يثبت معكم إلى الأبد. و فارقليط كلمة رومية، أي بوانية تطلق بمعنى المدافع أو المسلي، أي الذي يأتي بما يدفع الأحزان والمصائب، أي يأتي رحمة، أي رسول مبشر، وكلمة آخر صريحة في أنه رسول مثل عيسى.
وفي الصحاح الرابع عشر والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل الذي أرسلني وبهذا كلمتكم وأنا عندكم أي مدة وجودي بينكم، وأما الفارقليط الروح القدسي الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته، ومعنى باسمي أي بصفة الرسالة لا أتكلم معكم كثيرا لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء ولكن ليفهم العالم أني أحب الأب وكما أوصاني الأب أفعل.
وفي الإصحاح الخامس عشر منه ومتى جاء الفارقليط1 الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي.
وفي هذه الأخبار إثبات أن هذا الرسول المبشر به تعم رسالته جميع الأمم في جميع الأرض، وأنه الخاتم، وأن لشريعة ملكا لقول إنجيل متي هو يكرز ببشارة الملكوت والملكوت هو الملك، وأن تعاليمه تتعلق بجميع الأشياء العارضة للناس، أي شريعته تتعلق أحكامها بجميع الأحوال البشرية، وجميعها مما تشمله الكلمة التي جاءت على لسان عيسى عليه السلام وهي كلمة {اسْمُهُ أَحْمَدُ} فكانت من الرموز الإلهية ولكونها مرادة لذلك ذكرها الله تعالى في القرآن تذكيرا وإعلانا.
وذكر القرآن تبشير بمحمد عليهما الصلاة والسلام في خلال المقصود
ـــــــ
1 لفظ فارقليط وقع في تراجم الأناجيل، وخاصة إنجيل يوحنا كما في طبعة الكتاب المقدس بعناية واطس في لندن سنة 1848. وكذلك أثبتها مرارا البقاعي عن نظم الدرر وغيره. وهو لفظ يوناني أصله باركليتوس أوله باء فارسية مخرجها بين الباء والفاء. وتاؤه المثناة مفخمة ولذلك قالوا هي روحية. ووقع في شرح الشيرازي على حكمة الإشراق للسهروردي أنها عبرية. وهم وهَم. ومعناها المدافع وكذلك المسلي والمعزي، أي من الرسل. وبهذا الأخير ترجمت في طبعة الرهبان الأمريكان في بيروت سنة 1896. طبعة ثامنة. وقد قيل إن كلمة فارقليط تطلق على جبريل ولعل من تأويلات النصارى للتفصي عن مجيء رسول بعد عيسى.

الذي هو تنظير ما أوذي به موسى من قومه وما أوذي به عيسى من قومه إدماجا يؤيد به النبي صلى الله عليه وسلم ويثبت فؤاده ويزيده تسلية. وفيها تخلص إلى أن ما لقيه من قومه نظير ما لقيه عيسى من بني إسرائيل.
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} هو مناط الأذى.
فإن المتبادر أن يعود ضمير الرفع في قوله: {جاءهم} إلى عيسى، وأن يعود ضمير النصب إلى الذين خاطبهم عيسى. والتقدير: فكذبوه، فلما جاءهم بالمعجزات قالوا هذا سحر أو هو ساحر.
ويحتمل أن يكون ضمير الرفع عائدا إلى رسول يأتي من بعدي. وضمير النصب عائدا إلى لفظ بني إسرائيل، أي بني إسرائيل غير الذين دعاهم عيسى عليه السلام من باب: عندي درهم ونصفه، أي نصف ما يسمى بدرهم، أي فلما جاءهم الرسول الذي دعاه عيسى باسم أحمد بالبينات، أي دلائل انطباق الصفات الموعود بها قالوا هذا سحر أو هذا ساحر مبين فيكون هذا التركيب مبين من قبيل الكلام الموجه.
وحصل أذاهم بهذا القول لكلا الرسولين.
فالجملة على هذا الاحتمال تحمل على أنها اعتراض بين المتعاطفات وممهدة للتخلص إلى مذمة المشركين وغيرهم ممن لم يقبل دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بفتح الياء من قوله: {بعدي} . وقرأه الباقون بسكونها. قال في الكشاف: واختار الخليل وسيبوبه الفتح.
وقرأ الجمهور {هَذَا سِحْرٌ} بكسر السين. وقرأه حمزة والكسائي وخلف {هَذَا سَاحِرٌ} فعلى الأولى الإشارة للبنات، وعلى الثانية الإشارة إلى عيسى أو إلى الرسول.
[7] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مماثلة دعوة عيسى عليه السلام وكان جواب الذين دعاهم إلى الإسلام من أهل الكتابين والمشركين مماثلا لجواب الذين دعاهم عليه السلام. فلما أدمج في حكاية دعوة عيسى بشارته برسول يأتي من بعده ناسب أن ينقل الكلام إلى ما قابل به قوم الرسول الموعود رسولهم فلذلك ذكر في دعوة هذا الرسول دين الإسلام فوصفوا

بأنهم أظلم الناس تشنيعا لحالهم.
فالمراد من هذا الاستفهام هم الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك عطف هذا الكلام بالواو ودون الفاء لأنه ليس مفرعا على دعوة عيسى عليه السلام.
وقد شمل هذا التشنيع جميع الذين كذبوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين والمشركين.
والمقصود الأول هم أهل الكتاب، وسيأتي عند قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8، 9] فهما فريقان.
والاستفهام ب {مَنْ أَظْلَمُ} إنكار، أي لا أحد أظلم من هؤلاء فالمكذبون من قبلهم، إما أن يكونوا أظلم منهم وإما أن يساووهم على كل حال، فالكلام مبالغة.
وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم ظلموا الرسول صلى الله عليه وسلم بنسبته إلى ما ليس فيه إذ قالوا: هو ساحر، وظلموا أنفسهم إذ لم يتوخوا لها النجاة، فيعرضوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم على النظر الصحيح حتى يعلموا صدقه، وظلموا ربهم إذ نسبوا ما جاءهم من هديه وحجج رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما ليس منه فسموا الآيات والحجج سحرا، وظلموا الناس بحملهم على التكذيب وظلموهم بإخفاء الأخبار التي جاءت في التوراة والإنجيل مثبتة صدق رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وكمل لهم هذا الظلم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، فيعلم أنه ظلم مستمر.
وقد كان لجملة الحال {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ} موقع متين هنا، أي فعلوا ذلك في حين أن الرسول يدعوهم إلى ما فيه خيرهم فعاضوا الشكر بالكفر.
وإنما جعل افتراؤهم الكذب على الله لأنهم كذبوا رسولا يخبرهم أنه مرسل من الله فكانت حرمة هذه النسبة تقتضي أن يقبلوا على التأمل والتدبر فيما دعاهم إليه ليصلوا إلى التصديق، فلما بادروها بالإعراض وانتحلوا للداعي صفات النقص كانوا قد نسبوا ذلك إلى الله دون توقير.
فأما أهل الكتاب فجحدوا الصفات الموصوفة في كتابهم كما قال تعالى فيهم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} في سورة البقرة [140]. وذلك افتراء.
وأما المشركون فإنهم افتروا على الله إذ قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68