كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

السامع تلك الأخبار الماضية والمحاورات، فوجب عليه وجوبا اضطراريا استماعه والنظر في الأمر المقرر في نفوس البشر، ولذلك آخذ الله أهل الفترة بالإشراك كما دلت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنة. ولذلك فلو قدرنا أحدا لم يخالط جماعات البشر، ولم يسبق له شعور بأن الناس آمنوا وكفروا وأثبتوا وعطلوا، لما وجب عليه الإصغاء إلى الرسول لأن ذلك الانسياق الضروري مفقود عنده. وعلى هذا الوجه يكون الوجوب غير شرعي، ولا عقلي نظري، بل هو من الأمور الضرورية التي لا يستطاع دفعها فلا عجب أن تقع المؤاخذة بتعمد مخالفتها.
وثاني الجوابين بالتسليم، غير أن ما وقر في جبلة البشر من استطلاع الحوادث والأخبار الجديدة، والإصغاء لكل صاحب دعوة، أمر يحمل كل من دعاه الرسول إلى الدين على أن يستمع لكلامه، ويتلقى دعوته وتحديه ومعجزته، فلا يشعر إلا وقد سلكت دعوته إلى نفس المدعو، فحركت فيه داعية النظر، فهو ينجذب إلى تلقي الدعوة، رويدا رويدا، حتى يجد نفسه قد وعاها وعلمها علما لا يستطيع بعده أن يقول: إني لا أنظر المعجزة، أو لا أصغي إلى الدعوة. فإن هو أعرض بعد ذلك فقد اختار العمى على الهدى، فكان مؤاخذا، فلو قدرنا أحدا مر برسول يدعو فشغله شاغل عن تعرف أمره والإصغاء لكلامه والنظر في أعماله، لسلمنا أنه لا يكون مخاطبا، وأن هذا الواحد وأمثاله إذا أفحم الرسول لا تتعطل الرسالة، ولكنه خسر هديه، وسفه نفسه.
ولا يرد علينا أن من سمع دعوة الرسول فجعل أصابعه في أذنيه وأعرض هاربا حينئذ، لا يتوجه إليه وجوب المعرفة، لأن هذا ما صنع صنعه إلا بعد أن علم أنه قد تهيأ لتوجه المؤاخذة عليه إذا سمع فعصى، وكفي بهذا شعورا منه بتوجه التكليف إليه فيكون مؤاخذا على استحبابه العمى على الهدى، كما قال تعالى في قوم نوح {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} أي إلى الإيمان {لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح:7].
والإظهار في مقام الإضمار في قوله {بَعْدَ الرُّسُلِ} دون أن يقال: بعدهم، للاهتمام بهذه القضية واستقلالها في الدلالة على معناها حتى تسير مسرى الأمثال.
ومناسبة التذييل بالوصفين في قوله {عَزِيزاً حَكِيماً} : أما بوصف الحكيم فظاهرة، لأن هذه الأخبار كلها دليل حكمته تعالى، وأما بوصف العزيز فلأن العزيز يناسب عزته أن يكون غالبا من كل طريق فهو غالب من طريق المعبودية، لا يسأل عما يفعل، وغالب من طريق المعقولية إذ شاء أن لا يؤاخذ عبيده إلا بعد الأدلة والبراهين والآيات. وتأخير

وصف الحكيم لأن إجراء عزته على هذا التمام هو أيضا من ضروب الحكمة الباهرة.
[166] {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} .
هذا استدراك على معنى أثاره الكلام: لأن ما تقدم من قوله {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [النساء:153] مسوق مساق بيان تعنتهم ومكابرتهم عن أن يشهدوا بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نسبة القرآن إلى الله تعالى، فكان هذا المعنى يستلزم أنهم يأبون من الشهادة بصدق الرسول، وأن ذلك يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء الاستدراك بقوله {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} . فإن الاستدراك تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه. والمعنى: لم يشهد أهل الكتاب لكن الله شهد وشهادة الله خير من شهادتهم.
وقد مضى عند قوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} في سورة البقرة [282]، أن حقيقة الشهادة إخبار لتصديق مخبر، وتكذيب مخبر آخر. وتقدم أنها تطلق على الخبر المحقق الذي لا يتطرفه الشك عند قوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} في سورة آل عمران [18]. فالشهادة في قوله {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} أطلقت على الإخبار بنزول القرآن من الله إطلاقا مجازيا، لأن هذا الخبر تضمن تصديق الرسول وتكذيب معانديه، وهو إطلاق على وجه الاستعارة من الإطلاق الحقيقي هو غير الإطلاق الذي في قوله {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] فإنه على طريقة المجاز المرسل. وعطف شهادة الملائكة على شهادة الله: لزيادة تقرير هذه الشهادة بتعدد الشهود، ولأن شهادة الله مجاز في العلم وشهادة الملائكة حقيقة. وإظهار فعل {يشهدون} مع وجود حرف العطف للتأكيد. وحرف لكن بسكون النون مخفف لكن المشددة النون التي هي من أخوات إن وإذا خففت بطل عملها.
وقوله {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} يجري على الاحتمالين.
وقوله {بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وقع تحويل في تركيب الجملة لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل، ليكون أوقع في النفس. وأصل الكلام: يشهد بإنزال ما أنزله إليك بعلمه، لأن قوله {بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} لم يفد المشهود به إلا ضمنا مع المشهود فيه إذا جيء باسم الموصول ليوصل بصلة فيها إيماء إلى المقصود، ومع ذلك لم يذكر المقصود من الشهادة الذي هو حق مدخول الباء بعد مادة شهد، فتكون جملة {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} مكملة معنى الشهادة. وهذا قريب من التحويل الذي يستعمله العرب في تمييز النسبة. وقال

الزمخشري: موقع قوله {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} من قوله {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز. فلعله يجعل جملة {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} مستقلة بالفائدة، وأن معنى {بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} بصحة ما أنزل إليك، وما ذكرته أعرق في البلاغة.
ومعنى {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي متلبسا بعلمه، أي بالغا الغاية في باب الكتب السماوية، شأن ما يكون بعلم من الله تعالى، ومعنى ذلك أنه معجز لفظا ومعنى، فكما أعجز البلغاء من أهل اللسان أعجز العلماء من أهل الحقائق العالية.
والباء في قوله {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} زائدة للتأكيد، وأصله: كفى الله شهيدا كقوله:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
أو يضمن كفى معنى اقتنعوا، فتكون الباء للتعدية.
[167] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً} .
يجوز أن يكون المراد بالذين كفروا هنا أهل الكتاب، أي اليهود، فتكون الجملة بمنزلة الفذلكة للكلام السابق الراد على اليهود من التحاور المتقدم. وصدهم عن سبيل الله يحتمل أن يكون من صد القاصر الذي قياس مضارعه يصد بكسر الصاد، أي أعرضوا عن سبيل الله. أي الإسلام، أو هو من صد المتعدي الذي قياس مضارعه بضم الصاد، أي صدوا الناس. وحذف المفعول لقصد التكثير. فقد كان اليهود يتعرضون للمسلمين بالفتنة، ويقوون أوهام المشركين بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون المراد بالذين كفروا المشركين، كما هو الغالب في إطلاق هذا الوصف في القرآن، فتكون الجملة استئنافا ابتدائيا، انتقل إليه بمناسبة الخوض في مناواة أهل الكتاب للإسلام. وصدهم عن سبيل الله، أي صدهم الناس عن الدخول في الإسلام مشهور.
والضلال الكفر لأنه ضياع عن الإيمان، الذي هو طريق الخير والسعادة، فإطلاق الضلال على الكفر استعارة مبنية على استعارة الطريق المستقيم للإيمان. ووصف الضلال بالبعيد مع أن البعد من صفات المسافات هو استعارة البعد لشدة الضلال وكماله في نوعه، بحيث لا يدرك مقداره، وهو تشبيه شائع في كلامهم: أن يشبهوا بلوغ الكمال بما يدل على المسافات والنهايات كقولهم: بعيد الغور، وبعيد القعر، ولا نهاية له، ولا غاية له، ورجل بعيد الهمة، وبعيد المرمى، ولا منهى لكبارها، وبحر لا ساحل له، وقولهم:

هذا إغراق في كذا.
ومن بديع مناسبته هنا أن الضلال الحقيقي يكون في الفيافي والموامي، فإذا اشتد التيه والضلال بعد صاحبه عن المعمور، فكان في وصفه بالبعيد تعاهد للحقيقة، وإيماء إلى أن في إطلاقه على الكفر والجهل نقلا عرفيا.
[169,168] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} .
الجملة بيان لجملة {قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:167]، لأن السامع يترقب معرفة جزاء هذا الضلال فبينته هذه الجملة.
وإعادة الموصول وصلته دون أن يذكر ضميرهم لتبنى عليه صلة {وظلموا} ، ولأن في تكرير الصلة تنديدا عليهم. ويجيء على الوجهين في المراد من الذين كفروا في الآية التي قبلها أن يكون عطف الظلم على الكفر في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا} إما أن يراد به ظلم النفس، وظلم النبي والمسلمين، وذلك اللائق بأهل الكتاب؛ وإما أن يراد به الشرك، كما هو شائع في استعمال القرآن كقوله {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، فيكون من عطف الأخص على الأعم في الأنواع؛ وإما أن يراد به التعدي على الناس، كظلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه من أرضه، وتأليب الناس عليه، وغير ذلك، وظلمهم المؤمنين بتعذيبهم في الله، وإخراجهم، ومصادرتهم في أموالهم، ومعاملتهم بالنفاق والسخرية والخداع؛ وإما أن يراد به ارتكاب المفاسد والجرائم مما استقر عند أهل العقول أنه ظلم وعدوان.
وقوله {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} صيغة جحود، وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} في سورة آل عمران [79]، فهي تقتضي تحقيق النفي، وقد نفي عن الله أن يغفر لهم تحذيرا من البقاء على الكفر والظلم، لأن هذا الحكم نيط بالوصف ولم ينط بأشخاص معروفين، فإن هم أقلعوا عن الكفر والظلم لم يكونوا من الذين كفروا وظلموا. ومعنى نفي أن يهديهم طريقا: إن كان طريقا يوم القيامة فهو واضح: أي لا يهديهم طريقا يوصلهم إلى مكان إلا طريقا يوصل إلى جهنم. ويجوز أن يراد من الطريق الآيات في الدنيا، كقوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]. فنفي هديهم إليه إنذار بأن الكفر والظلم من شأنهما أن يخيما على القلب بغشاوة تمنعه من وصول الهدى إليه، ليحذر المتلبس بالكفر والظلم من التوغل فيهما، فلعله أن يصبح ولا

مخلص له منهما. ونفي هدى الله إياهم على هذا الوجه مجاز عقلي في نفي تيسير أسباب الهدى بحسب قانون حصول الأسباب وحصول آثارها بعدها. وعلى أي الاحتمالين فتوبة الكافر الظالم بالإيمان مقبولة، وكثيرا ما آمن الكافرون الظالمون وحسن إيمانهم، وآيات قبول التوبة، وكذلك مشاهدة الواقع، مما يهدي إلى تأويل هذه الآية، وتقدم نظير هذه الآية قريبا، أي {الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء:137] الآية.
وقوله {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} استثناء متصل إن كان الطريق الذي نفي هديهم إليه الطريق الحقيقي، ومنقطع إن أريد بالطريق الأول الهدى. وفي هذا الاستثناء تأكيد الشيء بما يشبه ضده: لأن الكلام مسوق للإنذار، والاستثناء فيه رائحة إطماع، ثم إذا سمع المستثنى تبين أنه من قبيل الإنذار. وفيه تهكم لأنه استثنى من الطريق المعمول {ليهديهم} ، وليس الإقحام بهم في طريق جهنم بهدي لأن الهدي هو إرشاد الضال إلى المكان المحبوب.
ولذلك عقبه بقوله {وَكَانَ ذَلِكَ} أي الإقحام بهم في طريق النار على الله يسيرا إذ لا يعجزه شيء، وإذ هم عبيده يصرفهم إلى حيث يشاء.
[170] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} .
بعد استفراغ الحوار مع أهل الكتاب، ثم خطاب أهل الكفر بما هو صالح لأن يكون شاملا لأهل الكتاب، وجه الخطاب إلى الناس جميعا: ليكون تذييلا وتأكيدا لما سبقه، إذ قد تهيأ من القوارع السالفة ما قامت به الحجة، واتسعت المحجة، فكان المقام للأمر باتباع الرسول والإيمان. وكذلك شأن الخطيب إذا تهيأت الأسماع، ولانت الطباع. ويسمى هذا بالمقصد من الخطاب، وما يتقدمه بالمقدمة. على أن الخطاب بيا أيها الناس يعني خصوص المشركين في الغالب، وهو المناسب لقوله {فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ} .
والتعريف في {الرسول} للعهد، وهو المعهود بين ظهرانيهم. والحق هو الشريعة والقرآن، و {من ربكم} متعلق ب {جاءكم} ، أو صفة للحق، ومن للابتداء المجازي فيهما، وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين ترغيب لهم في الإيمان لأن الذي يجيء مهتما بناس يكون حقا عليهم أن يتبعوه، وأيضا في طريق الإضافة من قوله {ربكم} ترغيب ثان لما تدل عليه من اختصاصهم بهذا الدين الذي هو آت من ربهم، فلذلك أتي بالأمر

بالإيمان مفرعا على هاته الجمل بقوله {فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ} .
وانتصب {خيرا} على تعلقه بمحذوف لازم الحذف في كلامهم لكثرة الاستعمال، فجرى مجرى الأمثال، وذلك فيما دل على الأمر والنهي من الكلام نحو {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} [النساء:171]، ووراءك أوسع لك، أي تأخر، وحسبك خيرا لك، وقول عمر بن أبي ربيعة:
فواعديه سرحتي مالك
...
أو الربى بينهما. أسهلا
فنصبه مما لم يختلف فيه عن العرب، واتفق عليه أئمة النحو، وإنما اختلفوا في المحذوف: فجعله الخليل وسيبويه فعلا أمرا مدلولا عليه من سياق الكلام، تقديره: أيت أو أقصد، قالا: لأنك لما قلت له: انته، أو افعل، أو حسبك، فأنت تحمله على شيء آخر أفضل له. وقال الفراء من الكوفيين: هو في مثله صفة مصدر محذوف، وهو لا يتأتى فيما كان منتصبا بعد نهي، ولا فيما كان منتصبا بعد غير متصرف، نحو: وراءك وحسبك. وقال الكسائي والكوفيون: نصب بكان محذوفة مع خبرها، والتقدير: يكن خيرا. وعندي: أنه منصوب على الحال من المصدر الذي تضمنه الفعل، وحده، أو مع حرف النهي، والتقدير: فآمنوا حال كون الإيمان خيرا، وحسبك حال كون الاكتفاء خيرا، ولا تفعل كذا حال كون الانتهاء خيرا. وعود الحال إلى مصدر الفعل في مثله كعود الضمير إليه في قوله {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، لا سيما وقد جرى هذا مجرى الأمثال، وشأن الأمثال قوة الإيجاز. وقد قال بذلك بعض الكوفيين وأبو البقاء.
وقوله {وَإِنْ تَكْفُرُوا} أريد به أن تبقوا على كفركم.
وقوله {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هو دليل على جواب الشرط، والجواب محذوف لأن التقدير: إن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم لأن لله ما في السماوات وما في الأرض، وصرح بما حذف هنا في سورة الزمر[7] في قوله تعالى {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} وفيه تعريض بالمخاطبين، أي أن كفركم لا يفلتكم من عقابه، لأنكم عبيده، لأن له ما في السماوات وما في الأرض.
[171] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} .
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} .
استئناف ابتدائي بخطاب موجه إلى النصارى خاصة.
وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضا بأنهم خالفوا كتابهم.
وقرينة أنهم المراد هي قوله {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} إلى قوله {أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ} [النساء:172] فإنه بيان للمراد من إجمال قوله {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} وابتدئت موعظتهم بالنهي عن الغلو لأن النصارى غلوا في تعظيم عيسى فادعوا له بنوة الله، وجعلوه ثالث الآلهة.
والغلو: تجاوز الحد المألوف، مشتق من غلوة السهم، وهي منتهى اندفاعه، واستعير للزيادة على المطلوب من المعقول، أو المشروع في المعتقدات، والإدراكات، والأفعال. والغلو في الدين أن يظهر المتدين ما يفوت الحد الذي حدد له الدين. ونهاهم عن الغلو لأنه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصادقين. وغلو أهل الكتاب تجاوزهم الحد الذي طلبه دينهم منهم: فاليهود طولبوا باتباع التوراة ومحبة رسولهم، فتجاوزوه إلى بغضة الرسل كعيسى ومحمد عليهما السلام، والنصارى طولبوا باتباع المسيح فتجاوزوا فيه الحد إلى دعوى إلهيته أو كونه ابن الله، مع الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} عطف خاص على عام للاهتمام بالنهي عن الافتراء الشنيع. وفعل القول إذا عدي بحرف على دل على أن نسبة القائل القول إلى المجرور بعلى نسبة كاذبة، قال تعالى {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [آل عمران:78]. ومعنى القول على الله هنا: أن يقولوا شيئا يزعمون أنه من دينهم، فإن الدين من شأنه أن يتلقى من عند الله.
وقوله {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} جملة مبينة للحد الذي كان الغلو عنده، فإنه مجمل؛ ومبينة للمراد من قول الحق.
ولكونها تتنزل من التي قبلها منزلة البيان فصلت عنها. وقد أفادت الجملة قصر المسيح على صفات ثلاث: صفة الرسالة، وصفة كونه كلمة الله ألقيت إلى مريم، وصفة كونه روحا من عند الله. فالقصر قصر موصوف على صفة. والقصد من هذا القصر إبطال ما أحدثه غلوهم في هذه الصفات غلوا أخرجها عن كنهها؛ فإن هذه الصفات ثابتة

لعيسى، وهم مثبتون لها فلا ينكر عليهم وصف عيسى بها، لكنهم تجاوزوا الحد المحدود لها فجعلوا الرسالة البنوة، وجعلوا الكلمة اتحاد حقيقة الإلهية بعيسى في بطن مريم فجعلوا عيسى ابنا لله ومريم صاحبة لله سبحانه، وجعلوا معنى الروح على ما به تكونت حقيقة المسيح في بطن مريم من نفس الإلهية.
والقصر إضافي، وهو قصر إفراد، أي عيسى مقصور على صفة الرسالة والكلمة والروح، لا يتجاوز ذلك إلى ما يزاد على تلك الصفات من كون المسيح ابنا لله واتحاد الإلهية به وكون مريم صاحبة.
ووصف المسيح بأنه كلمة الله وصف جاء التعبير به في الأناجيل؛ ففي صدر إنجيل يوحنا في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله ثم قال والكلمة صار جسدا وحل بيننا. وقد حكاه القرآن وأثبته فدل على أنه من الكلمات الإنجيلية، فمعنى ذلك أنه أثر كلمة الله. والكلمة هي التكوين، وهو المعبر عنه في الاصطلاح بكن. فإطلاق الكلمة على التكوين مجاز، وليس هو بكلمة، ولكنه تعلق القدرة. ووصف عيسى بذلك لأنه لم يكن لتكوينه التأثير الظاهر المعروف في تكوين الأجنة، فكان حدوثه بتعلق القدرة، فيكون في {كلمته} في الآية مجازان: مجاز حذف، ومجاز استعارة صار حقيقة عرفية.
ومعنى {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أوصلها إلى مريم، وروعي في الضمير تأنيث لفظ الكلمة، وإلا فإن المراد منها عيسى، أو أراد كلمة أمر التكوين. ووصف عيسى بأنه روح الله وصف وقع في الأناجيل. وقد أقره الله هنا، فهو مما نزل حقا.
ومعنى كون عيسى روحا من الله أن روحه من الأرواح التي هي عناصر الحياة، لكنها نسبت إلى الله لأنها وصلت إلى مريم بدون تكون في نطفة فبهذا امتاز عن بقية الأرواح. ووصف بأنه مبتدأ من جانب الله، وقيل: لأن عيسى لما غلبت على نفسه الملكية وصف بأنه روح، كأن حظوظ الحيوانية مجردة عنه. وقيل: الروح النفخة. والعرب تسمي النفس روحا والنفخ روحا. قال ذو الرمة يذكر لرفيقه أن يوقد نارا بحطب:
فقلت له ارفعها إليك فأحيها
...
بروحك واقتته لها قيتة قدرا
أي بنفخك.

وتلقيب عيسى بالروح طفحت به عبارات الأناجيل. ومن ابتدائية على التقادير.
فإن قلت: ما حكمة وقوع هذين الوصفين هنا على ما فيهما من شبهة ضلت بها النصارى، وهلا وصف المسيح في جملة القصر بمثل ما وصف به محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] فكان أصرح في بيان العبودية، وأنفى للضلال.
قلت: الحكمة في ذلك أن هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل، أو في كلام الحواريين وصفا لعيسى عليه السلام، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذ، فلما تغيرت أساليب اللغات وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرب الضلال إلى النصارى في سوء وضعهما فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل، أي أن قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله، وليس في شيء من ذلك ما يؤدي إلى اعتقاد أنه ابن الله وأنه إله.
وتصدير جملة القصر بأنه { رسول الله} ينادي على وصف العبودية إذ لا يرسل الإله إلها مثله، ففيه كفاية من التنبيه على معنى الكلمة والروح.
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} .
الفاء للتفريع عن جملة القصر وما بنيت عليه. أي إذا وضح كل ما بينه الله من وحدانيته، وتنزيهه، وصدق رسله، يتفرع أن آمركم بالإيمان بالله ورسله. وأمروا بالإيمان بالله مع كونهم مؤمنين، أي النصارى، لأنهم لما وصفوا الله بما لا يليق فقد أفسدوا الإيمان، وليكون الأمر بالإيمان بالله تمهيدا للأمر بالإيمان برسله، وهو المقصود، وهذا هو الظاهر عندي. وأريد بالرسل جميعهم، أي لا تكفروا بواحد من رسله. وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهم متوهمون أن يعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى عليه السلام مبالغة في نفي الإلهية عنه.
وقوله {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} أي لا تنطقوا بهذه الكلمة، ولعلها كانت شعارا للنصارى في دينهم ككلمة الشهادة عند المسلمين، ومن عوائدهم الإشارة إلى التثليث بالأصابع الثلاثة: الإبهام والخنصر والبنصر. والمقصود من الآية النهي عن النطق بالمشتهر

من مدلول هذه الكلمة وعن الاعتقاد. لأن أصل الكلام الصدق فلا ينطق أحد إلا عن اعتقاد، فالنهي هنا كناية بإرادة المعنى ولازمه. والمخاطب بقوله {وَلا تَقُولُوا} خصوص النصارى.
و {ثلاثة} خبر مبتدأ محذوف كان حذفه ليصلح لكل ما يصلح تقديره من مذاهبهم من التثليث، فإن النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله كما سيأتي، فيقدر المبتدأ المحذوف على حسب ما يقتضيه المردود من أقوالهم في كيفية التثليث مما يصح الإخبار عنه بلفظ {ثلاثة} من الأسماء الدالة على الإله، وهي عدة أسماء. ففي الآية الأخرى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]. وفي آية آخر هذه السورة {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]، أي إلهين مع الله، كما سيأتي، فالمجموع ثلاثة: كل واحد منهم إله؛ ولكنهم يقولون: إن مجموع الثلاثة إله واحد أو اتحدت الثلاثة فصار إله واحد. قال في الكشاف: ثلاثة خبر مبتدأ محذوف. فإن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون: هو جوهر واحد وثلاثة أقانيم، فتقديره الله ثلاثة وإلا فتقديره الآلهة ثلاثة اه.
والتثليث أصل في عقيدة النصارى كلهم، ولكنهم مختلفون في كيفيته. ونشأ من اعتقاد قدماء الإلهيين من نصارى اليونان أن الله تعالى ثالوث، أي أنه جوهر واحد، وهذا الجوهر مجموع ثلاثة أقانيم، واحدها أقنوم بضم الهمزة وسكون القاف. قال في القاموس: هو كلمة رومية، وفسره القاموس بالأصل، وفسره التفتزاني في كتاب المقاصد بالصفة. ويظهر أنه معرب كلمة قنوم بقاف معقد عجمي وهو الاسم، أي الكلمة. وعبروا عن مجموع الأقانيم الثلاثة بعبارة آبا ابنا روحا قدسا وهذه الأقانيم يتفرع بعضها عن بعض: فالأقنوم الأول أقنوم الذات أو الوجود القديم وهو الأب وهو أصل الموجودات.
والأقنوم الثاني أقنوم العلم، وهو الابن، وهو دون الأقنوم الأول، ومنه كان تدبير جميع القوى العقلية.
والأقنوم الثالث أقنوم الروح القدس، وهو صفة الحياة، وهي دون أقنوم العلم ومنها كان إيجاد عالم المحسوسات.
وقد أهملوا ذكر صفات تقتضيها الإلهية، مثل القدم والبقاء، وتركوا صفة الكلام والقدرة والإرادة، ثم أرادوا أن يتأولوا ما يقع في الإنجيل كم صفات الله فسموا أقنوم

الذات بالأب، وأقنوم العلم بالابن، وأقنوم الحياة بالروح القدس، لأن الإنجيل أطلق اسم الأب على الله، وأطلق اسم الابن على المسيح رسوله، وأطلق الروح القدس على ما به كون المسيح في بطن مريم، على أنهم أرادوا أن ينبهوا على أن أقنوم الوجود هو مفيض الأقنومين الآخرين فراموا أن يدلوا على عدم تأخر بعض الصفات عن بعض فعبروا بالأب والابن، كما عبر الفلاسفة اليونان بالتولد. وسموا أقنوم العلم بالكلمة لأن من عبارات الإنجيل إطلاق الكلمة على المسيح، فأرادوا أن المسيح مظهر علم الله، أي أنه يعلم ما علمه الله ويبلغه، وهو معنى الرسالة إذ كان العلم يوم تدوين الأناجيل مكللا بالألفاظ الاصطلاحية للحكمة الإلهية الرومية، فلما اشتبهت عليهم المعاني أخذوا بالظواهر فاعتقدوا أن الأرباب ثلاثة وهذا أصل النصرانية، وقاربوا عقيدة الشرك.
ثم جرهم الغلو في تقديس المسيح فتوهموا أن علم الله اتحد بالمسيح، فقالوا: إن المسيح صار ناسوته لاهوتا، باتحاد أقنوم العلم به، فالمسيح جوهران وأقنوم واحد، ثم نشأت فيهم عقيدة الحلول، أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوعة، ثم اعتقدوا اتحاد الله بالمسيح، فقالوا: الله هو المسيح. هذا أصل التثليث عند النصارى، وعنه تفرعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله تعالى {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} وقوله {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:73] وقوله {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] وكانوا يقولون: في عيسى لاهوتية من جهة الأب وناسوتية أي إنسانية من حهة الأم.
وظهر بالإسكندرية راهب اسمه آريوس قال بالتوحيد وأن عيسى عبد الله مخلوق، وكان في زمن قسطنطينوس سلطان الروم باني القسطنطينية. فلما تدين قسطنطينوس المذكور بالتصرانية سنة 327 تبع مقالة آريوس، ثم رأى مخالفة معظم الرهبان له فأراد أن يوحد كلمتهم، فجمع مجمعا من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التاريخ المسيحي، وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافا كثيرا ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحد ثلاثمائة وبضعة عشر عالما فأخذ قولهم وجعله أصل المسيحية ونصره، وهذه الطائفة تلقب الملكانية نسبة للملك.
واتفق قولهم على أن كلمة الله اتحدت بجسد عيسى، وتقمصت في ناسوته، أي إنسانيته، ومازجته امتزاج الخمر بالماء، فصارت الكلمة ذاتا في بطن مريم، وصارت تلك الذات ابنا لله تعالى، فالإله مجموع ثلاثة أشياء:

الأول الأب ذو الوجود، والثاني الابن ذو الكلمة، أي العلم، والثالث روح القدس.
ثم حدثت فيهم فرقة اليعقوبية وفرقة النسطورية1 في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان. فاليعقوبية، ويسمون الآن أرثودكس، ظهروا في أواسط القرن السادس المسيحيي، وهم أسبق من النسطورية؛ قالوا: انقلبت الإلهية لحما ودما؛ فصار الإله هو المسيح فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص فأشبه صنعه صنع الله تعالى مما يعجز عنه غير الله تعالى. وكان نصارى الحبشة يعاقبة، وسنتعرض لذكرها عند قوله تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} في سورة المائدة [72]، وعند قوله تعالى {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم:37].
والنسطورية قالت: اتحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشمس من كوة من بلور، فالمسيح إنسان، وهو كلمة الله، فلذلك هو إنسان إله، أو هو له ذاتيتان ذات إنسانية وأخرى إلهية، وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النحلة لقب جاثليق. وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب. وكان رهبان اليعاقبة ورهبان النسطوريين يتسابقون لبث كل فريق نحلته بين قبائل العرب. وكان الأكاسرة حماة للنسطورية، وقياصرة الروم حماة لليعقوبية. وقد شاعت النصرانية بنحلتيها في بكر، وتغلب، وربيعة، ولخم، وجذام، وتنوخ، وكلب، ونجران، واليمن، والبحرين. وقد بسطت هذا ليعلم حسن الإيجاز في قوله تعالى {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} وإتيانه على هذه المذاهب كلها. فلله هذا الإعجاز العلمي.
والقول في نصب خيرا من قوله {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} كالقول في قوله تعالى {فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ} [النساء:170]. والقصر في قوله {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قصر موصوف
ـــــــ
1 اليعقوبية منسوبة إلى راهب اسمه يعقوب البرذعاني كان راهبا بالقسطنطينية. والنسطورية نسبة إلى نسطور الحكيم راهب ظهر في زمن الخليفة المامون وشرح الأناجيل كذا قال الشهرستاني في كتاب الملل والنحل والظاهر أنه من اشتباه الأسماء في أخبار هذه النحلة والذي يقوله مؤرخو الكنيسة أن نحلة النسطورية موجودة من أوائل القرن الخامس من التاريخ المسيحي وأن مؤسسها هو البطريق نسطوريوس بطريق القسطنطينية السوري المولود في حدود سنة 380مسيحية والمتوفى في برقة في حدود سنة 440. وهاتان النحلتان تعتبران عند الملكانية مبتدعين.

على صفة، لأن إنما المقصور، وهو هنا قصر إضافي، أي ليس الله بثلاثة.
وقوله سبحانه {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} إظهار لغلطهم في أفهامهم، وفي إطلاقاتهم لفظ الأب والابن كيفما كان محملهما لأنهما إما ضلالة وإما إيهامها، فكلمة سبحانه تفيد قوة التنزيه لله تعالى عن أن يكون له ولد، والدلالة على غلط مثبتيه، فإن الإلهية تنافي الكون أبا واتخاذ ابن، لاستحالة الفناء، والاحتياج، والانفصال، والممماثلة للمخلوقات عن الله تعالى. والبنوة تستلزم ثبوت هذه المستحيلات لأن النسل قانون كوني للموجودات لحكمة استبقاء النوع، والناس يتطلبونها لذلك، وللإعانة على لوازم الحياة، وفيها انفصال المولود عن أبيه، وفيها أن الابن مماثل لأبيه فأبوه مماثل له لا محالة.
وسبحان اسم مصدر سبح، وليس مصدرا، لأنه لم يسمع له فعل سالم. وجزم ابن جني بأنه علم على التسبيح، فهو من أعلام الأجناس، وهم ممنوع من الصرف للعلمية والزيادة. وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} في سورة البقرة [32].
وقوله {أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} متعلق بسبحان بحرف الجر، وهو حرف عن محذوفا.
وجملة {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تعليل لقوله سبحانه {أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} لأن الذي له ما في السماوات وما في الأرض قد استغنى عن الولد، ولأن من يزعم أنه ولد له هو مما في السماوات والأرض كالملائكة أو المسيح، فالكل عبيده وليس الابن بعبد.
وقوله {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} تذييل، والوكيل الحافظ، والمراد هنا حافظ ما في السماوات والأرض، أي الموجودات كلها. وحذف مفعول كفى للعموم، أي كفى كل أحد، أي فتوكلوا عليه، ولا تتوكلوا على من تزعمونه ابنا له. وتقدم الكلام على هذا التركيب عند قوله تعالى {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} في هذه السورة.
[173,172] {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} .

استئناف واقع موقع تحقيق جملة {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [النساء:171] أو موقع الاستدلال على ما تضمنته جملة سبحانه {أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:171].
والاستنكاف: التكبر والامتناع بأنفة، فهو أشد من الاستكبار. ونفي استنكاف المسيح: إما إخبار عن اعتراف عيسى بأنه عبد الله، وإما احتجاج على النصارى بما يوجد في أناجيلهم. قال الله تعالى حكاية عنه قال {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم:30] الخ. وفي نصوص الإنجيل كثير مما يدل على أن المسيح عبد الله وأن الله إلهه وربه، كما في مجادلته مع إبليس، فقد قال له المسيح للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد.
وعدل عن طريق الإضافة في قوله {عَبْدُ اللَّه} فأظهر الحرف الذي تقدر الإضافة عليه: لأن التنكير هنا أظهر في العبودية، أي عبدا من جملة العبيد، ولو قال: عبد الله لأوهمت الإضافة أنه العبد الخصيص، أو أن ذلك علم له. وأما ما حكى الله عن عيسى عليه السلام في قوله {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم:30] فلأنه لم يكن في مقام خطاب من ادعوا له الإلهية.
وعطف الملائكة على المسيح مع أنه لم يتقدم ذكر لمزاعم المشركين بأن الملائكة بنات الله حتى يتعرض لرد ذلك، إدماج لقصد استقصاء كل من ادعيت له بنوة الله، ليشمله الخبر بنفي استنكافه عن أن يكون عبدا لله، إذ قد تقدم قبله قوله {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:171]، وقد قالت العرب: إن الملائكة بنات الله من نساء الجن، ولأنه قد تقدم أيضا قوله {َلهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [النساء:171] ومن أفضل ما السماوات الملائكة، فذكروا هنا للدلالة على اعترافهم بالعبودية. وإن جعلت قوله {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ} استدلالا على ما تضمنه قوله {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:171] كان عطف {وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} محتملا للتتميم كقوله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] فلا دلالة فيه على تفضيل الملائكة على المسيح، ولا على العكس؛ ومحتملا للترقي إلى ما هو الأولى بعكس الحكم في أوهام المخاطبين، وإلى هذا الأخير مال صاحب الكشاف ومثله بقوله تعالى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وجعل، الآية دليلا على أن الملائكة أفضل من المسيح، وهو قول المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وزعم أن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وهو تضييق لواسع، فإن الكلام محتمل لوجوه، كما علمت، فلا ينهض به الاستدلال.
واعلم أن تفضيل الأنبياء على الملائكة مطلقا هو قول جمهور أهل السنة، وتفضيل

الملائكة عليهم قول جمهور المعتزلة والباقلاني والحليمي من أهل السنة، وقال قوم بالتفصيل في التفضيل، ونسب إلى بعض الماتريدية، ولم يضبط ذلك التفصيل، والمسألة اجتهادية، ولا طائل وراء الخوض فيها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في تفاضل الأنبياء، فما ظنك بالخوض في التفاضل بين الأنبياء وبين مخلوقات عالم آخر لا صلة لنا به.
و {المقربون} ، يحتمل أن يكون وصفا كاشفا، وأن يكون مقيدا، فيراد بهم الملقبون بالكروبيين وهم سادة الملائكة: جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل. ووصفهم بالكروبيين وصف قديم وقع في بيت نسب إلى أمية ابن أبي الصلت. وقد قالوا: إنه وصف مشتق من كرب مرادف قرب، وزيد فيه صيغتا مبالغة، وهي زنة فعول وياء النسب. والذي أظن أن هذا اللفظ نقل إلى العربية من العبرانية: لوقوع هذا اللفظ في التوراة في سفر اللاويين وفي سفر الخروج، وأنه في العبرانية بمعنى القرب، فلذلك عدل عنه القرآن وجاء بمرادفه الفصيح فقال {المقربون} ، وعليه فمن دونهم من الملائكة يثبت لهم عدم الاستنكاف عن العبودية لله بدلالة الأحرى.
وقوله {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} الآية تخلص إلى تهديد المشركين كما أنبأ عنه قوله {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} .
وضمير الجمع في قوله {فسيحشرهم} عائد إلى غير مذكور في الكلام، بل إلى معلوم من المقام، أي فسيحشر الناس إليه جميعا كما دل عليه التفصيل المفرع عليه وهو قوله {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخ. وضمير {وَلا يَجِدُونَ} عائد إلى {الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا} ، أي لا يجدون وليا حين يحشر الله الناس {جميعا} . ويجوز أن يعود إلى الذين استنكفوا واستكبروا ويكون جميعا، بمعنى مجموعين إلى غيرهم، منصوبا، فإن لفظ جميع له استعمالات جمة: منها أن يكون وصفا بمعنى المجتمع، وفي كلام عمر للعباس وعلي: ثم جئتماني وأمركما جميع أي متفق مجموع، فيكون منصوبا على الحال وليس تأكيدا. وذكر فريق المؤمنين في التفصيل يدل على أحد التقديرين.
والتوفية أصلها إعطاء الشيء وافيا، أي زائدا على المقدار المطلوب، ولما كان تحقق المساواة يخفى لقلة الموازين عندهم، ولاعتمادهم على الكيل، جعلوا تحقق المساواة بمقدار فيه فضل على المقدار المساوي، أطلقت التوفية على إعطاء المعادل؛

وتقابل بالخسران وبالغبن، قال تعالى حكاية عن شعيب {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} [السعراء:181] ولذلك قال هنا {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} ، وهذه التوفية والزيادة يرجعان إلى تقدير يعلمه الله تعالى.
وقوله {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} تأسيس لهم إذ قد عرف عند العرب وغيرهم، من أمم ذلك العصر، الاعتماد عند الضيق على الأولياء والنصراء ليكفوا عنهم المصائب بالقتال أو الفداء، قال النابغة.
يأملن رحلة نصر وابن سيار
ولذلك كثر في القرآن نفي الولي، والنصير، والفداء {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:91].
[175,174] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} .
فذلكة للكلام السابق بما هو جامع للأخذ بالهدى ونبذ الضلال، بما اشتمل عليه القرآن من دلائل الحق وكبح الباطل. فالجملة استئناف وإقبال على خطاب الناس كلهم بعد أن كان الخطاب موجها إلى أهل الكتاب خاصة. والبرهان: الحجة، وقد يخصص بالحجة الواضحة الفاصلة، وهو غالب ما يقصد به في القرآن، ولهذا سمى حكماء الإسلام أجل أنواع الدليل، برهانا.
والمراد هنا دلائل النبوءة. وأما النور المبين فهو القرآن لقوله؛ {وأنزلنا} والقول في {جاءكم} كالقول في نظيره المتقدم في قوله {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} ؛ وكذلك القول في {أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} .
وأما في قوله {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ} يجوز أن يكون للتفصيل: تفصيلا لما دل عليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} من اختلاف الفرق والنزعات: بين قابل للبرهان والنور، ومكابر جاحد، ويكون معادل هذا الشق محذوفا للتهويل، أي: وأما الذين كفروا فلا تسل عنهم، ويجوز أن يكون أما لمجرد الشرط دون تفصيل، وهو شرط لعموم الأحوال، لأن أما في الشرط بمعنى مهما يكن من شيء وفي هذه الحالة لا تفيد التفصيل ولا تطلب

معادلا.
والاعتصام: اللوذ، والاعتصام بالله استعارة للوذ بدينه، وتقدم في قوله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} في سورة آل عمران [103].
والإدخال في الرحمة والفضل عبارة عن الرضى.
وقوله {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} : تعلق الجار والمجرور بيهدي فهو ظرف لغو، و {صراطا} مفعول يهدي، والمعنى يهديهم صراطا مستقيما ليصلوا إليه، أي إلى الله، وذلك هو متمناهم، إذ قد علموا أن وعدهم عنده.
[176] {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
لا مناسبة بين هذه الآية وبين اللاتي قبلها، فوقوعها عقبها لا يكون إلا لأجل نزولها عقب نزول ما تقدمها من هذه السورة مع مناسبتها لآية الكلالة السابقة في أثناء ذكر الفرائض؛ لأن في هذه الآية بيانا لحقيقة الكلالة أشار إليه قوله تعالى {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ، وقد تقدم في أول السورة أنه ألحق بالكلالة المالك الذي ليس له والد، وهو قول الجمهور ومالك بن أنس.
فحكم الكلالة قد بين بعضه في آية أول هذه السورة، ثم إن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صورة أخرى من صور الكلالة. وثبت في الصحيح أن الذي سأله هو جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله وأبو بكر ماشيين في بني سلمة فوجداني مغمى علي فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصب علي وضوءه فأفقت وقلت: كيف أصنع في مالي فإنما يرثني كلالة. فنزل قوله تعالى {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الآية. وقد قيل: إنها نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متجهز لحجة الوداع في قضية جابر بن عبد الله.
فضمير الجماعة في قوله {يستفتونك} غير مقصود به جمع، بل أريد به جنس السائلين، على نحو: ما بال أقوام يشترطون شروطا وهذا كثير في الكلام. ويجوز أن يكون السؤال قد تكرر وكان آخر السائلين جابر بن عبد الله فتأخر الجواب لمن سأل قبله، وعجل البيان له لأنه وقت الحاجة لأنه كان يظن نفسه ميتا من ذلك المرض وأراد أن

يوصي بماله، فيكون من تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
والتعبير بصيغة المضارع في مادة السؤال طريقة مشهورة، نحو: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189]، {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة:219]. لأن شأن السؤال يتكرر، فشاع إيراده بصيغة المضارع، وقد يغلب استعمال بعض صيغ الفعل في بعض المواقع، ومنه غلبة استعمال المضارع في الدعاء في مقام الإنكار: كقول عائشة يرحم الله أبا عبد الرحمان تعني ابن عمر، وقولهم يغفر الله له. ومنه غلبة الماضي مع لا النافية في الدعاء إذا لم تكرر لا؛ نحو فلا رجع. على أن الكلالة قد تكرر فيها السؤال قبل نزول الآية وبعدها. وقد قال عمر بن الخطاب: ما راجعت رسول الله في شيء مراجعتي إياه في الكلالة، وما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن في نحري وقال يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء. وقوله {فِي الْكَلالَةِ} يتنازعه في التعلق كل من فعل يستفتونك وفعل يفتيكم.
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بآية الصيف، وعرفت بذلك، كما عرفت آية الكلالة التي في أول السورة بآية الشتاء، وهذا يدلنا على أن سورة النساء نزلت في مدة متفرقة من الشتاء إلى الصيف وقد تقدم هذا في افتتاح السورة.
وقد روي: أن هذه الآية في الكلالة نزلت في طريق حجة الوداع، ولا يصح ذلك لأن حجة الوداع كانت في زمن البرد لأنه لا شك أن غزوة تبوك وقعت في وقت الحر حين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، وذلك يقتضي أن تكون غزوة تبوك في نحو شهر أغسطس أو اشتنبر وهو وقت طيب البسر والرطب، وكانت سنة تسع وكانت في رجب ونزل فيها قوله تعالى {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]. ثم كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة من تلك السنة، سنة تسع، وذلك يوافق دجنبر. وكان حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع في ذي الحجة من سنة عشر فيوافق نحو شهر دجنبر أيضا.
وعن عمر بن الخطاب: أنه خطب فقال ثلاث لو بينها رسول الله لكان أحب إلي من الدنيا وما فيها: الجد. والكلالة، وأبواب الربا. وفي رواية والخلافة. وخطب أيضا فقال: والله إني ما أدع بعدي شيئا هو أهم إلي من أمر الكلالة. وقال في مجمع من الصحابة: لأقضين في الكلالة قضاء تتحدث به النساء في خدورها. وأنه كتب كتابا في ذلك فمكث يستخير الله فيه، فلما طعن دعا بالكتاب فمحاه. وليس تحير عمر في أمر الكلالة بتحير في فهم ما ذكره الله تعالى في كتابه ولكنه في اندراج ما لم يذكره القرآن

تحت ما ذكره بالقياس. وقد ذكر القرآن الكلالة في أربع آيات: آيتي هذه السورة المذكور فيها لفظ الكلالة، وآية في أول هذه السورة وهي قوله {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11]. وآية آخر الأنفال [75] وهي قوله {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} عند من رأى توارث ذوي الأرحام. ولا شك أن كل فريضة ليس فيها ولد ولا والد فهي كلالة بالاتفاق، فأما الفريضة التي ليس فيها ولد وفيها والد فالجمهور أنها ليست بكلالة. وقال بعض المتقدمين: هي كلالة.
وأمره بأن يجيب بقوله {اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} للتنويه بشأن الفريضة، فتقديم المسند إليه للاهتمام لا للقصر، إذ قد علم المستفتون أن الرسول لا ينطق إلا عن وحي، فهم لما استفتوه فإنما طلبوا حكم الله، فإسناد الإفتاء إلى الله تنويه بهذه الفريضة.
والمراد بالأخت هنا الأخت الشقيقة أو التي للأب في عدم الشقيقة بقرينة مخالفة نصيبها لنصيب الأخت للأم المقصودة في آية الكلالة الأولى. وبقرينة قوله {وَهُوَ يَرِثُهَا} لأن الأخ للأم لا يرث جميع المال إن لم يكن لأخته للأم ولد إذ ليس له إلا السدس.
وقوله {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} تقديره: إن هلك امرؤ، فامرؤ مخبر عنه بهلك في سياق الشرط، وليس هلك بوصف لامرؤ فلذلك كان الامرؤ المفروض هنا جنسا عاما.
وقوله {وَهُوَ يَرِثُهَا} يعود الضمير فيه على لفظ امرؤ الواقع في سياق الشرط، المفيد للعموم: ذلك أنه وقع في سياق الشرط لفظ امرؤ ولفظ أخ أوأخت، وكلها نكرات واقعة في سياق الشرط، فهي عامة مقصود منها أجناس مدلولاتها، وليس مقصودا بها شخص معين قد هلك، ولا أخت معينة قد ورثت، فلما قال {وَهُوَ يَرِثُهَا} كان الضمير المرفوع راجعا إلى امرؤ لا إلى شخص معين قد هلك؛ إذ ليس لمفهوم اللفظ هنا فرد معين فلا يشكل عليك بأن قوله {امْرُؤٌ هَلَكَ} يتأكد بقوله {وَهُوَ يَرِثُهَا} إذ كيف يصير الهالك وارثا. وأيضا كان الضمير المنصوب في يرثها عائدا إلى مفهوم لفظ أخت لا إلى أخت معينة، إذ ليس لمفهوم اللفظ هنا فرد معين، وعلم من قوله {يَرِثُهَا} أن الأخت إن توفيت ولا ولد لها يرثها أخوها، والأخ هو الوارث في هذه الصورة، وهي عكس التي قبلها. فالتقدير: ويرث الأخت امرؤ إن هلكت أخته ولم يكن لها ولد. وعلم معنى الإخوة من قوله {وَلَهُ أُخْتٌ} ، وهذا إيجاز بديع، ومع غاية إيجازه فهو في غاية الوضوح، فلا يشكل بأن الأخت كانت وارثة لأخيها فكيف عاد عليها الضمير بأن يرثها أخوها الموروث، وتصير هي موروثة، لأن هذا لا يفرضه عالم بالعربية، وإنما يتوهم ذلك

لو وقع الهلك وصفا لامرئ؛ بأن قيل: المرء الهالك يرثه وارثه وهو يرث وارثه إن مات وارثه قبله. والفرق بين الاستعمالين رشيق في العربية.
وقوله {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} امتنان، و {أَنْ تَضِلُّوا} تعليل ليبين حذفت منه اللام، وحذف الجار مع أن شائع. والمقصود التعليل بنفي الضلال لا لوقوعه؛ لأن البيان ينافي التضليل، فحذفت لا النافية، وحذفها موجود في مواقع من كلامهم إذا أتضح المعنى، كما ورد مع فعل القسم في نحو:
فآلينا عليها أن تباعا
أي أن لا تباع، وقوله:
آليت حب العراق الدهر أطعمه
وهذا كقول عمرو بن كلثوم:
نزلتم منزل الأضياف منا
...
فعجلنا القرى أن تشتمونا
أي أن لا تشتمونا بالبخل، وهذا تأويل الكوفيين، وتأول البصريون الآية والبيت ونظائرهما على تقدير مضاف يدل عليه السياق هو المفعول لأجله، أي كراهة أن تضلوا، وبذلك قدرها في الكشاف.
وقد جعل بعض المفسرين {أَنْ تَضِلُّوا} مفعولا به ليبين وقال: المعنى أن الله فيما بينه من الفرائض قد بين لكم ضلالكم الذي كنتم عليه في الجاهلية، وهذا بعيد؛ إذ ليس ما فعلوه في الجاهلية ضلالا قبل مجيء الشريعة، لأن قسمة المال ليست من الأفعال المشتملة على صفة حسن وقبيح بينه إلا إذا كان فيها حرمان لمن هو حقيق بالمؤاساة والمبرة، ولأن المصدر مع أن يتعين أن يكون بمعنى المستقبل، فكيف يصح أن يراد ب {أن تضلوا} ضلالا قد مضى، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} في سورة الأنعام [156].
وعن عمر أنه كان إذا قرأ هذه الآية يقول اللهم من بينت له الكلالة فلم تبين لي رواه الطبري، وفي سنده انقطاع، وقد ضعفوه.
وقوله {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل. وفي هذه الآية إيذان بختم الكلام، كقوله {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم:52] الآية، وكقوله تعالى في حكاية كلام صاحب

موسى {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82]. فتؤذن بختام السورة.
وتؤذن بختام التنزيل إن صح أنها آخر آية نزلت كما ذلك في بعض الروايات، وإذا صح ذلك فلا أرى اصطلاح علماء بلدنا على أن يختموا تقرير دروسهم بقولهم والله أعلم إلا تيمنا بمحاكاة ختم التنزيل.

المجلد الخامس
سورة المائدة...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة
هذه السورة سميت في كتب التفسير،وكتب السنة،بسورة المائدة:لأن فيها قصة المائدة التي أرسلها الحواريون من عيسى عليه السلام،وقد اختصت بذكرها.وفي مسند أحمد بن حنبل وغيره وقعت تسميتها سورة المائدة في كلام عبد الله بن عمر،وعائشة أم المؤمنين،وأسماء بنت يزيد،وغيرهم.فهذا أشهر أسمائها.
وتسمى أيضا سورة العقود: إذ وقع هذا اللفظ في أولها.وتسمى أيضا المنقذة.ففي أحكام ابن الفرس: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"سورة المائدة تدعى في ملكوت السماوات المنقذة". قال: "أي أنها تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب".
وفي كتاب كنايات الأدباء لأحمد الجرجاني1"يقال:فلان لا يقرأ سورة الأخيار، أي لا يفي بالعهد، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسمون سورة المائدة سورة الأخيار.قال جرير:
إن البعيث وعبد آل متاعس ... لا يقرآن بسورة الأخيار
وهي مدنية باتفاق،روي أنها نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية،بعد سورة الممتحنة، فيكون نزولها بعد الحديبية بمدة،لأن سورة الممتحنة نزلت بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من صلح الحديبية،وقد جاءته المؤمنات مهاجرات،وطلب منه المشركون إرجاعهن إليهم عملا بشروط الصلح،فأذن الله للمؤمنين بعدم إرجاعهن بعد امتحانهن.
روى ابن أبي حاتم عن مقاتل أن آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ
ـــــــ
1 صفحة "121"من المنتخب من كنايات الأدباء طبع السعادة بمصر سنة 1326.

ـإلى ـ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ المائدة:94]نزلت عام الحديبية فلعل ذلك الباعث للذين قالوا:إن سورة العقود نزلت عام الحديبية.وليس وجود تلك الآية في هذه السورة بمقتض أن يكون ابتداء نزول السورة سابقا على نزول الآية إذ قد تلحق الآية بسورة نزلت متأخرة عنها.
وفي الإتقان:"إنها نزلت قبل سورة النساء"،ولكن صح أن آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]نزلت يوم عرفة في عام حجة الوداع.ولذلك اختلفوا في أن هذه السورة نزلت متتابعة أو متفرقة،ولا ينبغي التردد في أنها نزلت منجمة.
وقد روي عن عبد الله بن عمرو وعائشة أنها آخر سورة نزلت،وقد قيل:إنها نزلت بعد النساء،وما نزل بعدها إلا سورة براءة، بناء على أن براءة آخر سورة نزلت،وهو قول البراء بن عازب في صحيح البخاري.وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو، وأسماء بنت يزيد: "أنها نزلت ورسول الله في سفر، وهو على ناقته العضباء،وأنها نزلت عليه كلها". قال الربيع بن أنس: "نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع".
وفي شعب الإيمان،عن أسماء بنت يزيد: "أنها نزلت بمنى".وعن محمد بن كعب: "أنها نزلت في حجة الوداع بين مكة والمدينة".وعن أبي هريرة: "نزلت مرجع رسول الله من حجة الوداع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة".وضعف هذا الحديث.وقد قيل:إن قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [المائدة:2]أنزل يوم فتح مكة.
ومن الناس من روى عن عمر بن الخطاب: "أن سورة المائدة نزلت بالمدينة في يوم اثنين".وهنالك روايات كثيرة أنها نزلت عام حجة الوداع؛فيكون ابتداء نزولها بالمدينة قبل الخروج إلى حجة الوداع.وقد روي عن مجاهد:أنه قال: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} إلى ـ {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]نزل يوم فتح مكة."ومثله عن الضحاك، فيقتضي قولهما أن تكون هذه السورة نزلت في فتح مكة وما بعده.وعن محمد بن كعب القرظي:أن أول ما نزل من هذه السورة قوله تعالى :{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَاب} ـ إلى قوله ـ {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة16,15]ثم نزلت بقية السورة في عرفة في حجة الوداع.
ويظهر عندي أن هذه السورة نزل بعضها بعد بعض سورة النساء،وفي ذلك ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقام له أمر العرب وأمر المنافقين ولم يبق في عناد الإسلام

إلا اليهود والنصارى.أما اليهود فلأنهم مختلطون بالمسلمين في المدينة وما حولها، وأما النصارى فلأن فتوح الإسلام قد بلغت تخوم ملكهم في حدود الشام.وفي حديث عمر في صحيح البخاري:وكان من حول رسول الله قد استقام له ولم يبق إلا ملك غسان بالشام كنا نخاف أن يأتينا.
وقد امتازت هذه السورة باتساع نطاق المجادلة مع النصارى،واختصار المجادلة مع اليهود،عما في سورة النساء.مما يدل على أن أمر اليهود أخذ في تراجع ووهن،وأن الاختلاط مع النصارى أصبح أشد منه من ذي قبل.
وفي سورة النساء تحريم السكر عند الصلوات خاصة،وفي سورة المائدة تحريمه بتاتا،فهذا متأخر عن بعض سورة النساء لا محالة.وليس يلزم أن لا تنزل سورة حتى ينتهي نزول أخرى بل يجوز أن تنزل سورتان في مدة واحدة.وهي، أيضا،متأخرة عن سورة براءة:لأن براءة تشتمل على كثير من أحوال المنافقين وسورة المائدة لا تذكر من أحوالهم إلا مرة،وذلك يؤذن بأن النفاق حين نزولها قد انقطع،أو خضدت شوكة أصحابه.وإذ قد كانت سورة براءة نزلت في عام حج أبي بكر بالناس،أعني سنة تسع من الهجرة.
فلا جرم أن بعض سورة المائدة نزلت في عام حجة الوداع، وحسبك دليلا اشتمالها على آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]التي اتفق أهل الأثر على أنها نزلت يوم عرفة، عام حجة الوداع، كما في خبر عن عمر بن الخطاب.وفي سورة المائدة[3] قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ} وفي خطبة حجة الوداع يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم".
وقد عدت السورة الحادية والتسعين في عدد السور على ترتيب النزول.عن جابر بن زيد،نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الممتحنة.وعدد آيها:مائة واثنتان وعشرون في عدد الجمهور،ومائة وثلاث وعشرون في عد البصريين،ومائة وعشرون عند الكوفيين.
وجعلت هذه السورة في المصحف قبل سورة الأنعام مع أن سورة الأنعام أكثر منها عدد آيات:لعل ذلك لمراعاة اشتمال هذه السورة على أغراض تشبه ما اشتملت عليه سورة النساء عونا على تبيين إحداهما للأخرى في تلك الأغراض.

وقد احتوت هذه السورة على تشريعات كثيرة تنبئ بأنها أنزلت لاستكمال شرائع الإسلام،ولذلك افتتحت بالوصاية بالوفاء بالعقود،أي بما عاقدوا الله عليه حين دخولهم في الإسلام من التزام ما يؤمرون به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على الصلاة والزكاة والنصح لكل مسلم، كما في حديث جابر بن عبد الله في الصحيح."وأخذ البيعة على الناس بما في سورة الممتحنة"، كما روى عبادة بن الصامت.ووقع في أولها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1]فكانت طالعتها براعة استهلال.
وذكر القرطبي: "أن فيها تسع عشرة فريضة ليست في غيرها،وهي سبع في قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ...وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} [المائدة:3] {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ...وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب} [المائدة:5],وتمام الطهور: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] "أي إتمام ما لم يذكر في سورة النساء {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} و {لاتَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة:95],و {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة:103]،وقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة:106]الآية وقوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:58]ليس في القرآن ذكر للأذان للصلوات إلا في هذه السورة".اهـ
وقد احتوت على تمييز الحلال من الحرام في المأكولات،وعلى حفظ شعائر الله في الحج والشهر الحرام، والنهي عن بعض المحرمات من عوائد الجاهلية مثل الأزلام،وفيها شرائع الوضوء،والغسل، والتيمم، والأمر بالعدل في الحكم،والأمر بالصدق في الشهادة،وأحكام القصاص في الأنفس والأعضاء،وأحكام الحرابة،وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفاق المنافقين،وتحريم الخمر والميسر،والأيمان وكفارتها،والحكم بين أهل الكتاب،وأصول المعاملة بين المسلمين،وبين أهل الكتاب، وبين المشركين والمنافقين،والخشية من ولايتهم أن تفضي إلى ارتداد المسلم عن دينه،وإبطال العقائد الضالة لأهل الكتابين،وذكر مساو من أعمال اليهود،وإنصاف النصارى فيما لهم من حسن الأدب وأنهم أرجى للإسلام وذكر قضية التيه،وأحوال المنافقين،والأمر بتخلق المسلمين بما يناقض أخلاق الضالين في تحريم ما أحل لهم،والتنويه بالكعبة وفضائلها وبركاتها على الناس،وما تخلل ذلك أو تقدمه من العبر،والتذكير للمسلمين بنعم الله تعالى،والتعريض

بما وقع فيه أهل الكتاب من نبذ ما أمروا به والتهاون فيه،واستدعاؤهم للإيمان بالرسول الموعود به.
وختمت بالتذكير بيوم القيامة،وشهادة الرسل على أممهم، وشهادة عيسى على النصارى،وتمجيد الله تعالى.
[1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
تصدير السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود مؤذن بأن سترد بعده أحكام وعقود كانت عقدت من الله على المؤمنين إجمالا وتفصيلا،ذكرهم بها لأن عليهم الإيفاء بما عاقدوا الله عليه.وهذا كما تفتتح الظهائر السلطانية بعبارة:هذا ظهير كريم يتقبل بالطاعة والامتثال.وذلك براعة استهلال.
فالتعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق، فشمل العقود التي عاقد المسلمون عليها ربهم وهو الامتثال لشريعته،وذلك كقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة:7],ومثل ما كان يبايع عليه الرسول المؤمنين أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا،ويقول لهم:"فمن وفى منكم فأجره على الله".
وشمل العقود التي عاقد المسلمون عليها المشركين،مثل قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2],وقوله: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2]ويشمل العقود التي يتعاقدها المسلمون بينهم.
والإيفاء هو إعطاء الشيء وافيا،أي غير منقوص،ولما كان تحقق ترك النقص لا يحصل في العرف إلا بالزيادة على القدر الواجب،صار الإيفاء مرادا منه عرفا العدل،وتقدم عند قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} في سورة النساء[173]
والعقود جمع عقد بفتح العين،وهو الالتزام الواقع بين جانبين في فعل ما.وحقيقته أن العقد هو ربط الحبل بالعرورة ونحوها،وشد الحبل في نفسه أيضا عقد.ثم استعمل مجازا في الالتزام،فغلب استعماله حتى صار حقيقة عرفية،قال الحطيئة:

قوم اذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
فذكر مع العقد العناج وهو حبل يشد القربة،وذكر الكرب وهو حبل آخر للقربة؛فرجع بالعقد المجازي إلى لوازمه فتخيل معه عناجا وكربا،وأراد بجميعها تخييل الاستعارة.فالعقد في الأصل مصدر سمي به ما يعقد،وأطلق مجازا على التزام من جانبين لشيء ومقابله،والموضع المشدود من الحبل يسمى عقدة.وأطلق العقد أيضا على الشيء المعقود إطلاقا للمصدر على المفعول.فالعهود عقود،والتحالف من العقود، والتبايع والمؤاجرة ونحوهما من العقود،وهي المراد هنا.ودخل في ذلك الأحكام التي شرعها الله لأنها كالعقود،إذ قد التزمها الداخل في الإسلام ضمنا، وفيها عهد الله الذي أخذه على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به.
ويقع العقد في اصطلاح الفقهاء على"إنشاء تسليم أو تحمل من جانبين"؛فقد يكون إنشاء تسليم كالبيع بثمن ناض؛وقد يكون إنشاء تحمل كالإجازة بأجر ناض،وكالسلم والقراض؛وقد يكون إنشاء تحمل من جانبين كالنكاح،إذ المهر لم يعتبر عوضا وإنما العوض هو تحمل كل من الزوجين حقوقا للآخر.والعقود كلها تحتاج إلى إيجاب وقبول.
والأمر بالإيفاء بالعقود يدل على وجوب ذلك،فتعين أن إيفاء العاقد بعقده حق عليه،فلذلك يقضى به عليه،لأن العقود شرعت لسد حاجات الأمة فهي من قسم المناسب الحاجي،فيكون إتمامها حاجيا؛ لأن مكمل كل قسم من أقسام المناسب الثلاثة يلحق بمكمله:إن ضروريا،أو حاجيا،أو تحسينا.وفي الحديث"المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا"
فالعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها مجرد الصيغة تلزم بإتمام الصيغة أو ما يقوم مقامها،كالنكاح والبيع.والمراد بما يقوم مقام الصيغة نحو الإشارة للأبكم،ونحو المعاطاة في البيوع.والعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها الشروع فيها بعد الصيغة تلزم بالشروع،كالجعل والقراض.وتمييز جزئيات أحد النوعين من جزئيات الآخر مجال للاجتهاد.
وقال القرافي في الفرق التاسع والمائتين:"إن أصل العقود من حيث هي اللزوم،وإن ما ثبت في الشرع أو عند المجتهدين أنه مبني على عدم اللزوم بالقول فإنما ذلك لأن في بعض العقود خفاء الحق الملتزم به فيخشى تطرق الغرر إليه،فوسع فيها على المتعاقدين فلا تلزمهم إلا بالشروع في العمل،لأن الشروع فرع التأمل والتدبر.ولذلك اختلف

المالكية في عقود المغارسة والمزارعة والشركة هل تلحق بما مصلحته في لزومه بالقول،أو بما مصلحته في لزومه بالشروع.وقد احتج في الفرق السادس والتسعين والمائة على أن أصل العقود أن تلزم بالقول بقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وذكر أن المالكية احتجوا بهذه الآية على إبطال حديث:خيار المجلس؛ يعني بناء على أن هذه الآية قررت أصلا من أصول الشريعة،وهو أن مقصد الشارع من العقود تمامها،وبذلك صار ما قررته مقدما عند مالك على خبر الآحاد،فلذلك لم يأخذ مالك على خبر الآحاد، فلذلك لم يأخذ مالك بحديث ابن عمر: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا".
واعلم أن العقد قد ينعقد على اشتراط عدم اللزوم،كبيع الخيار،فضبطه الفقهاء بمدة يحتاج إلى مثلها عادة في اختيار المبيع أو التشاور في شأنه.
ومن العقود المأمور بالوفاء بها عقود المصالحات والمهادنات في الحروب،والتعاقد على نصر المظلوم، وكل تعاقد وقع على غير أمر حرام،وقد أغنت أحكام الإسلام عن التعاقد في مثل هذا إذ أصبح المسلمون كالجسد الواحد،فبقي الأمر متعلقا بالإيفاء بالعقود المنعقدة في الجاهلية على نصر المظلوم ونحوه:كحلف الفضول.وفي الحديث: "أوفوا بعقود الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام". وبقي أيضا ما تعاقد عليه المسلمون والمشركون كصلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش.وقد روي أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال: "لعلك تسأل عن حلف لجيم وتيم، قال:نعم،قال:لا يزيده الإسلام إلا شدة". قلت:وهذا من أعظم ما عرف به الإسلام بينهم في الوفاء لغير من يعتدي عليه.وقد كانت خزاعة من قبائل العرب التي لم تناو المسلمين في الجاهلية،كما تقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} في سورة آل عمران[173] بالعقود
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} بالعقود بالعقود بالعقود
أشعر كلام بعض المفسرين بالتوقف في توجيه اتصال قوله تعالى:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}بقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ففي تلخيص بالعقود الكواشي، عن ابن عباس: "المراد
بالعقود ما بعد قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} اهـ.ويتعين أن يكون مراد ابن عباس ما مبدؤه قوله: {إلا ما يتلى عليكم} الآيات.
وأما قول الزمخشري {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} تفصيل لمجمل قوله: {أَوْفُوا

بِالْعُقُودِ} فتأويله أن مجموع الكلام تفصيل لا خصوص جملة {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} ؛فإن إباحة الأنعام ليست عقدا يجب الوفاء به إلا باعتبار ما بعده من قوله :{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}. وباعتبار إبطال ما حرم أهل الجاهلية باطلا مما شمله قوله تعالى :{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة:103]الآيات.
والقول عندي أن جملة {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} تمهيد لما سيرد بعدها من المنهيات:كقوله :{غير محلي الصيد} وقوله :{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]التي هي من عقود شريعة الإسلام فكان الابتداء بذكر بعض المباح امتنانا وتأنيسا للمسلمين، ليتلقوا التكاليف بنفوس مطمئنة؛فالمعنى:إن حرمنا عليكم أشياء فقد أبحنا لكم أكثر منها،وإن ألزمناكم أشياء فقد جعلناكم في سعة من أشياء أوفر منها، ليعلموا أن الله ما يريد منهم إلا صلاحهم واستقامتهم.فجملة {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا لأنها تصدير للكلام بعد عنوانه.
والبهيمة:الحيوان البري من ذوي الأربع إنسيها ووحشيها،عدا السباع،فتشمل بقر الوحش والظباء.وإضافة بهيمة إلى الأنعام من إضافة العام للخاص، وهي بيانية كقولهم:ذباب النحل ومدينة بغداد.فالمراد الأنعام خاصة،لأنها غالب طعام الناس،وأما الوحش فداخل في قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وهي هنا لدفع توهم أن يراد من الأنعام خصوص الإبل لغلبة إطلاق اسم الأنعام عليها، فذكرت "بهيمة" لشمول أصناف الأنعام الأربعة:الإبل،والبقر،والغنم،والمعز.
والإضافة البيانية على معنى "من" التي للبيان، كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}.
والاستثناء في قوله :{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} من عموم الذوات والأحوال،وما يتلى هو ما سيفصل عند قوله :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] وكذلك قوله :{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ،الواقع حالا من ضمير الخطاب في قوله :{أُحِلَّتْ لَكُمْ} وهو حال مقيد معنى الاستثناء من عموم أحوال وأمكنة، لأن الحرم جمع حرام مثل رداح على ردح.وسيأتي تفصيل هذا الوصف عند قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} في هذه السورة[97].
والحرام وصف لمن أحرم بحج أو عمرة،أي نواهما.ووصف أيضا لمن كان حالا في الحرم،ومن إطلاق المحرم على الحال بالحرم قول الراعي

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما
أي حالا بحرم المدينة.
والحرم:هو المكان المحدود المحيط بمكة من جهاتها على حدود معروفة،وهو الذي لا يصاد صيده ولا يعضد شجره ولا تحل لقطته،وهو المعروف الذي حدده إبراهيم عليه السلام ونصب أنصابا تعرف بها حدوده، فاحترمه العرب، وكان قصي قد جددها،واستمرت إلى أن بدا لقريش أن ينزعوها،وذلك في مدة إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة،واشتد ذلك على رسول الله،ثم أن قريشا لم يلبثوا أن أعادوها كما كانت.ولما كان عام فتح مكة بعث النبي عليه الصلاة والسلام تميما بن أسد الخزاعي فجددها.ثم أحياها وأوضحها عمر بن الخطاب في خلافته سنة سبع عشرة،فبعث لتجديد حدود الحرم أربعة من قريش كانوا يتبدون في بوادي مكة،وهم:مخرمة بن نوفل الزهري،وسعيد بن يربوع المخزومي،وحويطب بن عبد العزى العامري،وأزهر بن عوف الزهري، فأقاموا أنصابا جعلت علامات على تخطيط الحرم على حسب الحدود التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم وتبتدئ من الكعبة فتذهب للماشي إلى المدينة نحو أربعة أميال إلى التنعيم،والتنعيم ليس من الحرم،وتمد في طريق الذاهب إلى العراق ثمانية أميال فتنتهي إلى موضع يقال له:المقطع، وتذهب في طريق الطائف تسعة بتقديم المثناة أميال فتنتهي إلى الجعرانة، ومن جهة اليمن سبعة بتقديم السين فينتهي إلى أضاة لبن، ومن طريق جدة عشرة أميال فينتهي إلى آخر الحديبية، والحديبية داخلة في الحرم.فهذا الحرم يحرم صيده، كما يحرم الصيد على المحرم بحج أو عمرة.
فقوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يجوز أن يراد به محرمون، فيكون تحريما للصيد على المحرم:سواء كان في الحرم أم في غيره، ويكون تحريم صيد الحرم لغير المحرم ثابتا بالسنة، ويجوز أن يكون المراد به:محرمون وحالون في الحرم، ويكون من استعمال اللفظ في معنيين يجمعهما قدر مشترك بينهما وهو الحرمة، فلا يكون من استعمال المشترك في معنييه إن قلنا بعدم صحة استعماله فيهما،أو يكون من استعماله فيهما، على رأي من يصحح ذلك،وهو الصحيح،كما قدمناه في المقدمة التاسعة.
وقد تفنن الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}, وقوله :{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} فجيء بالأول بأداة الاستثناء،وبالثاني بالحالين الدالين على مغايرة الحالة المأذون فيها،والمعنى:إلا الصيد في حالة كونكم محرمين، أو في حالة الإحرام.وإنما تعرض لحكم

الصيد للمحرم هنا لمناسبة كونه مستثنى من بهيمة الأنعام في حال خاص،فذكر هنا لأنه تحريم عارض غير ذاتي، ولولا ذلك لكان موضع ذكره مع الممنوعات المتعلقة بحكم الحرم والإحرام عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة:2]الآية.
والصيد يجوز أن يكون هنا مصدرا على أصله،وأن يكون مطلقا على اسم المفعول:كالخلق على المخلوق، وهو إطلاق شائع أشهر من إطلاقه على معناه الأصلي،وهو الأنسب هنا لتكون مواقعه في القرآن على وتيرة واحدة،فيكون التقدير:غير محلي إصابة لصيد.والصيد بمعنى المصدر:إمساك الحيوان الذي لا يألف،باليد أو بوسيلة ممسكة،أو جارحة:كالشباك،والحبائل،والرماح،والسهام،والكلاب، والبزاة؛ وبمعنى المفعول هو المصيد.وانتصب {غَيْرَ} على الحال من الضمير المجرور في قوله: {لَكُمْ} وجملة {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} في موضع الحال من ضمير "محلّي" ،وهذا نسج بديع في نظم الكلام استفيد منه إباحة وتحريم:فالإباحة في حال عدم الإحرام،والتحريم له في حال الإحرام.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} تعليل لقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ،أي لا يصرفكم عن الإيفاء بالعقود أن يكون فيما شرعه الله لكم شيء من ثقل عليكم،لأنكم عاقدتم على عدم العصيان، وعلى السمع والطاعة لله، والله يحكم ما يريد لا ما تريدون أنتم.والمعنى أن الله أعلم بصالحكم منكم.
وذكر ابن عطية:أن النقاش حكى:أن أصحاب الكندي قالوا له: "أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، قال:نعم أعمل لكم مثل بعضه،فاحتجب عنهم أياما ثم خرج فقال:والله ما أقدر عليه،ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلا عاما ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يستطيع أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد جمع جلد أي أسفار.
[2 ]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ

الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً}.
اعتراض بين الجمل التي قبله وبين جملة {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ولذلك أعيد الخطاب بالنداء بقوله :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا مع انهم لا يظن بهم إحلال المحرمات، يدل على أن المقصود النهي عن الاعتداء على الشعائر الإلهية التي يأتيها المشركون كما يأتيها المسلمون.
ومعنى {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} لا تحلوا المحرم منها بين الناس،بقرينة قوله :{لا تُحِلُّوا}, فالتقدير:لا تحلوا محرم شعائر الله، كما قال تعالى،في إحلال الشهر الحرام بعمل النسيء {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ } [ التوبة:37]؛وإلا فمن شعائر الله ما هو حلال كالحلق، ومنها ما هو واجب.والمحرمات معلومة.
والشعائر:جمع شعيرة.وقد تقدم تفسيرها عند قوله تعالى :{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه} [البقرة:158].وقد كانت الشعائر كلها معروفة لديهم، فلذلك عدل عن عداها هنا.وهي أمكنة،وأزمنة،وذوات؛فالصفا،والمروة،والمشعر الحرام،من الأمكنة.وقد مضت في سورة البقرة.والشهر الحرام من الشعائر الزمانية،والهدي والقلائد من الشعائر الذوات.فعطف الشهر الحرام والهدي وما بعدهما من شعائر الله عطف الجزئي على كليه للاهتمام به،والمراد به جنس الشهر الحرام، لأنه في سياق النفي،أي الأشهر الحرم الأربعة التي في قوله تعالى :{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ...فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:136].فالتعريف تعريف الجنس، وهو كالنكرة يستوي فيه المفرد والجمع.وقال ابن عطية:الأظهر أنه أريد رجب خاصة ليشتد أمر تحريمه إذ كانت العرب غير مجمعة عليه،فإنما خص بالنهي عن إحلاله إذ لم يكن جميع العرب يحرمونه،فلذلك كان يعرف برجب مضر؛ فلم تكن ربيعة ولا إياد ولا أنمار يحرمونه.وكان يقال له:شهر بني أمية أيضا،لأن قريشا حرموه قبل جميع العرب فتبعتهم مضر كلها لقول عوف بن الأحوص:
وشهر بني أمية والهدايا ... إذا حبست مضرجها الدقاء
وعلى هذا يكون التعريف للعهد فلا يعم.والأظهر أن التعريف للجنس،كما قدمناه.
والهدي:هو ما يهدى إلى مناسك الحج لينحر في المنحر من منى،أو بالمروة،من الأنعام.

والقلائد:جمع قلادة وهي ظفائر من صوف أو وبر،يربط فيها نعلان أو قطعة من لحاء الشجر،أي قشره، وتوضع في أعناق الهدايا مشبهة بقلائد النساء، والمقصود منها أن يعرف الهدي فلا يتعرض له بغارة أو نحوها.وقد كان بعض العرب إذا تأخر في مكة حتى خرجت الأشهر الحرم،وأراد أن يرجع إلى وطنه،وضع في عنقه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يتعرض له بسوء.
ووجه عطف القلائد على الهدي المبالغة في احترامه بحيث يحرم الاعتداء على قلادته بله ذاته،وهذا كقول أبي بكر:"والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه."على أن القلائد مما ينتفع به، إذ كان أهل مكة يتخذون من القلائد نعالا لفقرائهم، كما كانوا ينتفعون بجلال البدن، وهي شقق من ثياب توضع على كفل البدنة؛ فيتخذون منها قمصا لهم وأزرا،فلذلك كان النهي عن إحلالها كالنهي عن إحلال الهدي لأن في ذلك تعطيل مصالح سكان الحرم الذين استجاب الله فيهم دعوة إبراهيم إذ قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [ابراهيم:37]قال تعالى :{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة:97].
وقوله :{وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} عطف على {شَعَائِرِ اللَّهِ}: أي ولا تحلوا قاصدي البيت الحرام وهم الحجاج، فالمراد قاصدوه لحجة،لأن البيت لا يقصد إلا للحج، ولذلك لم يقل:ولا أمين مكة،لأن من قصد مكة قد يقصدها لتجر ونحوه،لأن من جملة حرمة البيت حرمة قاصدة.ولا شك أن المراد آمين البيت من المشركين؛ لأن آمين البيت من المؤمنين محرم أذاهم في حالة قصد البيت وغيرها من الأحوال.وقد روي ما يؤيد هذا في أسباب النزول:وهو أن خيلا من بكر بن وائل وردوا المدينة وقائدهم شريح بن ضبيعة الملقب بالحطم بوزن زفر،والمكنى أيضا بابن هند، نسبة إلى أمه هند بنت حسان بن عمرو بن مرثد،وكان الحطم هذا من بكر بن وائل،من نزلاء اليمامة،فترك خيله خارج المدينة ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إلام تدعو"؟فقال رسول الله :"إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة". فقال:"حسن ما تدعو إليه وسأنظر ولعلي أن أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من ورائي من لا أقطع أمرا دونهم"وخرج فمر بسرح المدينة فاستاق إبلا كثيرة ولحقه المسلمون لما أعلموا به فلم يلحقوه،وقال في ذلك رجزا، وقيل:الرجز لأحد أصحابه،وهو رشيد بن رميض العنزي وهو:

هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم
باتوا نياما وابن هند لم ينم ... بات يقاسيها غلام كالزلم
خدلج الساقين خفاق القدم
ثم أقبل الحطم في العام القابل وهو عام القضية فسمعوا تلبية حجاج اليمامة فقالوا:هذا الحطم وأصحابه ومعهم هدي هو مما نهبه من إبل المسلمين،فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهبهم، فنزلت الآية في النهي عن ذلك.فهي حكم عام نزل بعد ذلك القضية،وكان النهي عن التعرض لبدن الحطم مشمولا لما اشتملت عليه هذه الآية.
والبيت الحرام هو الكعبة.وسيأتي بيان وصفه بهذا الوصف عند قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قياما للناس} [المائدة:97]في هذه السورة.وجملة {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ} صفة لـ {آمِّينَ} من قصدهم ابتغاء فضل الله ورضوانه وهو الذين جاءوا لأجل الحج إيماء إلى سبب حرمة آمي البيت الحرام.
وقد نهى الله عن التعرض للحجيج بسوء لأن الحج ابتغاء فضل الله ورضوانه،وقد كان أهل الجاهلية يقصدون منه ذلك، قال النابغة:
حياك ربي فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد عزما
مشمرين على خوص مزممة ... نرجو الإله ونرجو البر والطعما
ويتنزهون عن فحش الكلام، قال العجاج
ورب أسراب حجيج كظم ... عن اللغا ورفث التكلم
ويظهرون الزهد والخشوع، قال النابغة:
بمصطحبات من لصاف وثبرة ... يزرن إلالا سيرهن التدافع
عليهن شعث عامدون لربهم ... فهن كأطراف الحني خواشع
ووجه النهي عن التعرض للحجيج بسوء وإن كانوا مشركين:أن الحالة التي قصدوا فيها الحج وتلبسوا عندها بالإجرام،حالة خير وقرب من الإيمان بالله وتذكر نعمه،فيجب أن يعانوا على الاستكثار منها لأن الخير يتسرب إلى النفس رويدا،كما أن الشر يتسرب إليها كذلك،ولذلك سيجيء عقب هذه الآية قوله :{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}

والفضل:خير الدنيا،وهو صلاح العمل.والرضوان:رضى الله تعالى عنهم.وهو ثواب الآخرة، وقيل:أراد بالفضل الربح في التجارة،وهذا بعيد أن يكون هو سبب النهي إلا إذا أريد تمكينهم من إبلاغ السلع إلى مكة.
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
تصريح بمفهوم قوله:{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة:1]لقصد تأكيد الإباحة.فالأمر فيه للإباحة، وليس هذا من الأمر الوارد بعد النهي،لأن تلك المسألة مفروضة في النهي عن شيء نهيا مستمرا، ثم الأمر به كذلك، وما هنا:إنما هو نهي مؤقت وأمر في بقية الأوقات،فلا يجري هنا ما ذكر في أصول الفقه من الخلاف في مدلول صيغة الأمر الوارد بعد حظر:أهو الإباحة أو الندب أو الوجوب.فالصيد مباح بالإباحة الأصلية،وقد حرم في حالة الإحرام.فإذا انتهت تلك الحالة رجع إلى إباحته.
و {اصْطَادُوا} صيغة افتعال، استعملت في الكلام لغير معنى المطاوعة التي هي مدلول صيغة الافتعال في الأصل، فاصطاد في كلامهم مبالغة في صاد.ونظيره:اضطره إلى كذا.وقد نزل {اصْطَادُوا} منزلة فعل لازم فلم يذكر له مفعول.
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}
عطف على قوله :{لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} لزيادة تقرير مضمونه،أي لا تحلوا شعائر الله ولو مع عدوكم إذا لم يبدأوكم بحرب.
ومعنى {يَجْرِمَنَّكُمْ} يكسبنكم،يقال:جرمه يجرمه، مثل ضرب.وأصله كسب.من جرم النخلة إذا جذ عراجينها،فلما كان الجرم لأجل الكسب شاع إطلاق جرم بمعنى كسب،قالوا:جرم فلان لنفسه كذا، أي كسب.
وعدي إلى مفعول ثان وهو {أَنْ تَعْتَدُوا} ،والتقدير:يكسبكم الشنآن الاعتداء.وأما تعديته بعلى في قوله :{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8]فلتضمينه معنى يحملنكم.
والشنآن بفتح الشين المعجمة وفتح النون في الأكثر،وقد تسكن النون إما أصالة وإما تخفيفا هو البغض.وقيل:شدة البغض،وهو المناسب،لعطفه على البغضاء في قول الأحوص:

أنمي على البغضاء والشنآن
وهو من المصادر الدالة على الاضطراب والتقلب،لأن الشنآن فيه اضطراب النفس،فهو مثل الغليان والنزوان.
وقرأ الجمهور {شَنَآنُ} بفتح النون.وقرأ ابن عامر،وأبو بكر عن عاصم،وأبو جعفر ـ بسكون النون ـ.وقد قيل:إن ساكن النون وصف مثل غضبان،أي عدو،فالمعنى:لا يجر منكم عدو قوم،فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف.وإضافة شنآن إذا كان مصدرا من إضافة المصدر إلى مفعوله،أي بغضكم قوما، بقرينة قوله :{أَنْ صَدُّوكُمْ} لأن المبغض في الغالب هو المعتدى عليه.
وقرأ الجمهور {أَنْ صَدُّوكُمْ} بفتح همزة "أن" وقرأه ابن كثير،وأبو عمرو،ويعقوب:بكسر الهمزةـ على أنها"إن"الشرطية، فجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبل الشرط.
والمسجد الحرام اسم جعل علما بالغلبة على المكان المحيط بالكعبة المحصور ذي الأبواب،وهو اسم إسلامي لم يكن يدعى بذلك في الجاهلية، لأن المسجد مكان السجود ولم يكن لأهل الجاهلية سجود عند الكعبة،.وقد تقدم عند قوله تعالى :{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} في سورة البقرة[144] وسيأتي عند قوله تعالى :{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الاسراء:1]
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
تعليل للنهي الذي في قوله :{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} وكان مقتضى الظاهر أن تكون الجملة مفصولة، ولكنها عطفت:ترجيحا لما تضمنته من التشريع على ما اقتضته من التعليل، يعني:أن واجبكم أن تتعاونوا بينكم على فعل البر والتقوى،وإذا كان هذا واجبهم فيما بينهم،كان الشأن أن يعينوا على البر والتقوى،لأن التعاون عليها يكسب محبة تحصيلها، فيصير تحصيلها رغبة لهم،فلا جرم أن يعينوا عليها كل ساع إليها.ولو كان عدوا،والحج بر فأعينوا عليه وعلى التقوى،فهم وإن كانوا كفارا يعاونون على ما هو بر:لأن البر يهدي للتقوى،فلعل تكرر فعله يقربهم من الإسلام.ولما كان الاعتداء على العدو إنما يكون بتعاونهم عليه نبهوا على أن التعاون لا ينبغي أن يكون صدا عن المسجد

الحرام، وقد أشرنا إلى ذلك آنفا؛فالضمير والمفاعلة في {تَعَاوَنُوا} للمسلمين،أي ليعن بعضكم بعضا على البر والتقوى.وفائدة التعاون تيسير العمل،وتوفير المصالح، وإظهار الاتحاد والتناصر،حتى يصبح ذلك خلقا للأمة.وهذا قبل نزول قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]
وقوله :{وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} تأكيد لمضمون {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} لأن الأمر بالشيء، وإن كان يتضمن النهي عن ضده،فالاهتمام بحكم الضد يقتضي النهي عنه بخصوصه.والمقصود أنه يجب أن يصد بعضكم بعضا عن ظلم قوم لكم نحوهم شنآن.
وقوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ} الآية تذييل.وقوله {شَدِيدُ الْعِقَابِ} تعريض بالتهديد.
[3 ]{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}
استئناف بياني ناشئ عن قوله {أُُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}[ المائدة:1] فهو بيان لما ليس بحلال من الأنعام.
ومعنى تحريم هذه المذكورات تحريم أكلها،لأنه المقصود من مجموع هذه المذكورات هنا،وهي أحوال من أحوال الأنعام تقتضي تحريم أكلها.وأدمج فيها نوع من الحيوان ليس من أنواع الأنعام وهو الخنزير،لاستيعاب محرمات الحيوان.وهذا الاستيعاب دليل لإباحة ما سوى ذلك،إلا ما ورد في السنة من تحريم الحمر الأهلية،على اختلاف بين العلماء في معنى تحريمها،والظاهر أنه تحريم منظور فيه إلى حالة لا إلى الصنف.وألحق مالك بها الخيل والبغال قياسا،وهو من قياس الأدون،ولقول الله تعالى إذ ذكرها في معرض الامتنان {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8]

وهو قول أبي حنيفة خلافا لصاحبيه،وهو استدلال لا يعرف له نظير في الدلالة الفقهية.وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد:"يجوز أكل الخيل".وثبت في الصحيح، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "ذبحنا فرسا على عهد رسول الله فأكلناه".ولم يذكر أن ذلك منسوخ.وعن جابر ابن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل".
وأما الحمر الأهلية فقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن أكلها في غزوة خيبر". فقيل:لأن الحمر كانت حمولتهم في تلك الغزاة.وقيل:نهى عنها أبدا.وقال ابن عباس بإباحتها.فليس لتحريم هذه الثلاثة على الإطلاق وجه بين من الفقه ولا من السنة.
والميتة الحيوان الذي زالت منه الحياة،والموت حالة معروفة تنشأ عن وقوف حركة الدم باختلال عمل أحد الأعضاء الرئيسية أو أكلها.وعلة تحريمها أن الموت ينشأ عن علل يكون معظمها مضرا بسبب العدوى،وتمييز ما يعدي عن غيره عسير،ولأن الحيوان الميت لا يدرى غالبا مقدار ما مضى عليه في حالة الموت،فربما مضت مدة تستحيل معها منافع لحمه ودمه مضار،فنيط الحكم بغالب الأحوال وأضبطها.
والدم هنا هو الدم المهراق،أي المسفوح،وهو الذي يمكن سيلانه كما صرح به في آية الأنعام[145],حملا لمطلق هذه الآية على مقيد آية الأنعام،وهو الذي يخرج من عروق جسد الحيوان بسبب قطع العرق وما عليه من الجلد،وهو سائل لزج أحمر اللون متفاوت الحمرة باختلاف السن واختلاف أصناف العروق.
والظاهر أن علة تحريمه القذارة:لأنه يكتسب رائحة كريهة عند لقائه الهواء،ولذلك قال كثير من الفقهاء بنجاسة عينه،ولا تعرض في الآية لذلك،أو لأنه يحمل ما في جسد الحيوان من الأجزاء المضرة التي لا يحاط بمعرفتها،أو لما يحدثه تعود شرب الدم من الضراوة التي تعود على الخلق الإنساني بالفساد.وقد كانت العرب تأكل الدم،فكانوا في المجاعات يفصدون من إبلهم ويخلطون الدم بالوبر ويأكلونه،يسمونه العلهز بكسر العين والهاء وكانوا يملأون المصير بالدم ويشوونها ويأكلونها،وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} في سورة البقرة[173]
وإنما قال :{وَلَحْمُ الْخِنْزِير} ولم يقل والخنزير كما قال :{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} إلى آخر المعطوفات.ولم يذكر تحريم الخنزير في جميع آيات القرآن إلا بإضافة لفظ لحم إلى الخنزير.ولم يأت المفسرون في توجيه ذلك بوجه ينثلج له الصدر.وقد بينا ذلك في

نظير هذه الجملة من سورة البقرة[173].ويبدو لي أن إضافة لفظ لحم إلى الخنزير للإيماء إلى أن المحرم أكل لحمه لأن اللحم إذا ذكر له حكم فإنما يراد به أكله.وهذا إيماء إلى أن ما عدا أكل لحمه من أحوال استعمال أجزائه هو فيها كسائر الحيوان في طهارة شعره،إذا انتزع منه في حياته بالجز، وطهارة عرقه وطهارة جلده بالدبغ،إذا اعتبرنا الدبغ مطهرا جلد الميتة،اعتبارا بأن الدبغ كالذكاة.وقد روي القول بطهارة جلد الخنزير بالدبغ عن داود الظاهري وأبي يوسف أخذا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس.
وعلة تحريم الخنزير أن لحمه يشتمل على جراثيم مضرة لا تقتلها حرارة النار عند الطبخ، فإذا وصلت إلى دم آكله عاشت في الدم فأحدثت أضرارا عظيمة، منها مرض الديدان التي في المعدة.
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} هو ما سمي عليه عند الذبح اسم غير الله.والإهلال:الجهر بالصوت ومنه الإهلال بالحج، وهو التلبية الدالة على الدخول في الحج،ومنه استهل الصبي صارخا.قيل:ذلك مشتق من اسم الهلال، لأن العرب كانوا إذا رأوا هلال أول ليلة من الشهر رفعوا أصواتهم بذلك ليعلم الناس ابتداء الشهر،ويحتمل عندي أن يكون اسم الهلال قد اشتق من جهر الناس بالصوت عند رؤيته.وكانوا إذا ذبحوا القرابين للأصنام نادوا عليها باسم الصنم،فقالوا:"باسم اللات،باسم العزى".
{وَالْمُنْخَنِقَةُ} هي التي عرض لها ما يخنقها.والخنق:سد مجاري النفس بالضغط على الحلق،أو بسده، وقد كانوا يربطون الدابة عند خشبة فربما تخبطت فانخنقت ولم يشعروا بها،ولم يكونوا يخنقونها عند إرادة قتلها.ولذلك قيل هنا:المنخنقة،ولم يقل المخنوقة بخلاف قوله :{وَالْمَوْقُوذَةُ} ،فهذا مراد ابن عباس بقوله:كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها.
وحكمة تحريم المنخنقة أن الموت بانحباس النفس يفسد الدم باحتباس الحوامض الفحمية الكائنة فيه فتصير أجزاء اللحم المشتمل على الدم مضرة لآكله.
{وَالْمَوْقُوذَةُ}: المضروبة بحجر أو عصا ضربا تموت به دون إهراق الدم،وهو اسم مفعول من وقذ إذا ضرب ضربا مثخنا.وتأنيث هذا الوصف لتأويله بأنه وصف بهيمة.وحكمة تحريمها تماثل حكمة تحريم المنخنقة.
{وَالْمُتَرَدِّيَةُ}: هي التي سقطت من جبل أو سقطت في بئر ترديا تموت به،والحكمة واحدة.

{وَالنَّطِيحَةُ} فعيلة بمعنى مفعولة.والنطح ضرب الحيوان ذي القرنين بقرنيه حيوانا آخر.والمراد التي نطحتها بهيمة أخرى فماتت.وتأنيث النطيحة مثل تأنيث المنخنقة،وظهرت علامة التأنيث في هذه الأوصاف وهي من باب فعيل بمعنى مفعول لأنها لم تجر على موصوف مذكور فصارت بمنزلة الأسماء.
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}: أي بهيمة أكلها السبع،والسبع كل حيوان يفترس الحيوان كالأسد والنمر والضبع والذئب والثعلب،فحرم على الناس كل ما قتله السبع،لأن أكيلة السبع تموت بغير سفح الدم غالبا بل بالضرب على المقاتل.
وقوله :{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} استثناء من جميع المذكور قبله من قوله :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ؛ لأن الاستثناء الواقع بعد أشياء يصلح لأن يكون هو بعضها،يرجع إلى جميعها عند الجمهور،ولا يرجع إلى الأخيرة إلا عند أبي حنيفة والإمام الرازي،والمذكورات قبل بعضها محرمات لذاتها وبعضها محرمات لصفاتها.وحيث كان المستثنى حالا لا ذاتا،لأن الذكاة حالة،تعين رجوع الاستثناء لما عدا لحم الخنزير، إذ لا معنى لتحريم لحمه إذا لم يذك وتحليله إذا ذكي،لأن هذا حكم جميع الحيوان عند قصد أكله.ثم إن الذكاة حالة تقصد لقتل الحيوان فلا تتعلق بالحيوان الميت،فعلم عدم رجوع الاستثناء إلى الميتة لأنه عبث،وكذلك إنما تتعلق الذكاة بما فيه حياة فلا معنى لتعلقها بالدم،وكذا ما أهل لغير الله به،لأنهم يهلون به عند الذكاة، فلا معنى لتعلق الذكاة بتحليله،فتعين أن المقصود بالاستثناء:المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة،وما أكل السبع، فإن هذه المذكورات تعلقت بها أحوال تفضي بها إلى الهلاك، فإذا هلكت بتلك الأحوال لم يبح أكلها لأنها حينئذ ميتة،وإذا تداركوها بالذكاة قبل الفوات أبيح أكلها.والمقصود أنها إذا ألحقت الذكاة بها في حالة هي فيها حية،وهذا البيان ينبه إلى وجه الحصر في قوله تعالى :{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145]فذكر أربعة لا تعمل الذكاة فيها شيئا ولم يذكر المنخنقة والموقوذة وما عطف عليها هنا،لأنها تحرم في حال اتصال الموت بالسبب لا مطلقا.فعضوا على هذا بالنواجذ.
وللفقهاء في ضبط الحالة التي تعمل فيها الذكاة في هاته الخمس عبارات مختلفة:فالجمهور ذهبوا إلى تحديدها بأن يبقى في الحيوان رمق وعلامة حياة قبل الذبح أو النحر،من تحريك عضو أو عين أو فم تحريكا يدل على الحياة عرفا،وليس هو تحريك

انطلاق الموت.وهذا قول مالك في الموطا،ورواية جمهور أصحابه عنه.وعن مالك:أن المذكورات إذا بلغت مبلغا أنفذت معه مقاتلها، بحيث لا ترجى حياتها لو تركت بلا ذكاة،لا تصح ذكاتها،فإن لم تنفذ مقاتلها عملت فيها الذكاة.وهذه رواية ابن القاسم عن مالك،وهو أحد قولي الشافعي.ومن الفقهاء من قالوا:إنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة،ولا ينظر إلى حالة هل يعيش مثلها لو تركت دون ذبح.وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك،واختاره ابن حبيب،وأحد قولين للشافعي.ونفس الاستثناء الواقع في الآية يدل على أن الله رخص في حالة هي محل توقف في إعمال الذكاة،أما إذا لم تنفذ المقاتل فلا يخفى على أحد أنه يباح الأكل،إذ هو حينئذ حيوان مرضوض أو مجروح،فلا يحتاج إلى الإعلام بإباحة أكله بذكاة،إلا أن يقال:إن الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن،أي لكن كلوا ما ذكيتم دون المذكورات،وهو بعيد.ومن العلماء من جعل الاستثناء من قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} على رأي من يجعل الاستثناء للأخيرة،ولا وجه له إلا أن يكون ناظرا إلى غلبة هذا الصنف بين العرب، فقد كانت السباع والذئاب تنتابهم كثيرا،ويكثر أن يلحقوها فتترك أكيلتها فيدركوها بالذكاة.
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} هو ما كانوا يذبحونه من القرابين والنشرات فوق الأنصاب.والنصب بضمتين الحجر المنصوب،فهو مفرد مراد به الجنس، وقيل:هو جمع وواحده نصاب،ويقال:نصب بفتح فسكون {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43]وهو قد يطلق بما يرادف الصنم،وقد يخص الصنم بما كانت له صورة،والنصب بما كان صخرة غير مصورة مثل ذي الخلصة ومثل سعد.والأصح أن النصب هو حجارة غير مقصود منها أنها تمثال للآلهة،بل هي موضوعة لأن تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرب بها للآلهة وللجن،فإن الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معينة تقصد للتقرب.وأما الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء وإنما كانوا يتخذها كل حي يتقربون عنها، فقد روى أئمة أخبار العرب:أن العرب كانوا يعظمون الكعبة،وهم ولد إسماعيل،فلما تفرق بعضهم وخرجوا من مكة عظم عليهم فراق الكعبة فقالوا:الكعبة حجر، فنحن ننصب في أحيائنا حجارة تكون لنا بمنزلة الكعبة،فنصبوا هذه الأنصاب،وربما طافوا حولها،ولذلك يسمونها الدوار بضم الدال المشددة وبتشديد الواو ويذبحون عليها الدماء المتقرب بها في دينهم.
وكانوا يطلبون لذلك أحسن الحجارة.وعن أبي رجاء العطاردي في صحيح البخاري :"كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا خيرا منه ألقينا الأول وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرا أي في بلاد الرمل جمعنا

جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ليصير نظير الحجر ثم طفنا به."
فالنصب:حجارة أعدت للذبح وللطواف على اختلاف عقائد القبائل:مثل حجر الغبغب الذي كان حول العزى.وكانوا يذبحون على الأنصاب ويشرحون اللحم ويشوونه،فيأكلون بعضه ويتركون بعضا للسدنة،قال الأعشى:يذكر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدته التي صنعها في مدحه:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه
وقال زيد بن عمرو بن نفيل للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة،وقد عرض عليه الرسول سفرة ليأكل معه في عكاظ: "إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم". وفي حديث فتح مكة:كان حول البيت ثلاثمائة ونيف وستون نصبا،وكانوا إذا ذبحوا عليها رشوها بالدم ورشوا الكعبة بدمائها.وقد كان في الشرائع القديمة تخصيص صخور لذبح القرابين عليها،تمييزا بين ما ذبح تدينا وبين ما ذبح للأكل، فمن ذلك صخرة بيت المقدس،قيل:إنها من عهد إبراهيم وتحتها جب يعبر عنها ببئر الأرواح،لأنها تسقط فيها الدماء،والدم يسمى روحا.ومن ذلك فيما قيل:الحجر الأسود كان على الأرض ثم بناه إبراهيم في جدر الكعبة.ومنها حجر المقام،في قول بعضهم.فلما اختلطت العقائد في الجاهلية جعلوا هذه المذابح لذبح القرابين المتقرب بها للآلهة وللجن.وفي البخاري عن ابن عباس:"النصب:أنصاب يذبحون عليها"قلت:ولهذا قال الله تعالى :{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} بحرف"على"،ولم يقل وما ذبح للنصب لأن الذبيحة تقصد للأصنام والجن،وتذبح على الأنصاب، فصارت الأنصاب من شعائر الشرك.
ووجه عطف {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} على المحرمات المذكورة هنا،مع أن هذه السورة نزلت بعد أن مضت سنين كثيرة على الإسلام وقد هجر المسلمون عبادة الأصنام،أن في المسلمين كثيرين كانوا قريبي عهد بالدخول في الإسلام،وهم وإن كانوا يعلمون بطلان عبادة الأصنام،أول ما يعلمونه من عقيدة الإسلام،فقد كانوا مع ذلك مدة الجاهلية لا يختص الذبح على النصب عندهم بذبائح الأصنام خاصة،بل يكون في ذبائح الجن ونحوها من النشرات وذبائح دفع الأمراض ودفع التابعة عن ولدانهم، فقالوا:كانوا يستدفعون بذلك عن أنفسهم البرص والجذام ومس الجن،وبخاصة الصبيان،ألا ترى إلى ما ورد في كتب السيرة:أن الطفيل بن عمرو الدوسي لما أسلم قبل الهجرة ورجع إلى قومه ودعا امرأته إلى الإسلام قالت له:"أتخشى على الصبية من ذي الشرى"صنم

دوس".فقال:لا،أنا ضامن،فأسلمت،ونحو ذلك،فقد يكون منهم من استمر على ذبح بعض الذبائح على الأنصاب التي في قبائلهم على نية التداوي والانتشار،فأراد الله تنبيههم وتأكيد تحريم ذلك وإشاعته.ولذلك ذكر في صدر هذه السورة وفي آخرها عند قوله :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]الآيات.
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ}
الشأن في العطف التناسب بين المتعاطفات،فلا جرم أن هذا المعطوف من نوع المتعاطفات التي قبله، وهي المحرم أكلها.فالمراد هنا النهي عن أكل اللحم الذي يستقسمون عليه بالأزلام،وهو لحم جزور الميسر لأنه حاصل بالمقامرة،فتكون السين والتاء في {تَسْتَقْسِمُوا} مزيدتين كما هما في قولهم:استجاب واستراب.والمعني:وأن تقسموا اللحم بالأزلام.
ومن الاستقسام بالأزلام ضرب آخر كانوا يفعلونه في الجاهلية يتطلبون به معرفة عاقبة فعل يريدون فعله:هل هي النجاح والنفع أو هي خيبة وضر.وإذ قد كان لفظ الاستقسام يشمله فالوجه أن يكون مرادا من النهي أيضا،على قاعدة استعمال المشترك في معنييه،فتكون إرادته إدماجا وتكون السين والتاء للطلب،أي طلب القسم.وطلب القسم ـ بالكسرـ أي الحظ من خير أو ضده،أي طلب معرفته.كان العرب،كغيرهم من المعاصرين،مولعين بمعرفة الاطلاع على ما سيقع من أحوالهم أو على ما خفي من الأمور المكتومة،وكانوا يتوهمون بأن الأصنام والجن يعلمون تلك المغيبات فسولت سدنة الأصنام لهم طريقة يموهون عليهم بها فجعلوا أزلاما.والأزلام جمع زلم بفتحتين ويقال له:بكسر القاف وسكون الدال وهو سهم لا حديدة فيه.
وكيفية استقسام الميسر:المقامرة على أجزاء جزور ينحرونه ويتقامرون على أجزائه،وتلك عشرة سهام تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية في سورة البقرة[219].وكان مقتضى الظاهر أن يقال:وما استقسمتم عليه بالأزلام، فغير الأسلوب وعدل إلى {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} ،ليكون أشمل للنهي عن طريقتي الاستقسام كلتيهما،وذلك إدماج بديع.
وأشهر صور الاستقسام ثلاثة قداح:أحدهما مكتوب عليه"أمرني ربي"وربما كتبوا عليه"افعل"ويسمونه الآمر.والآخر مكتوب عليه"نهاني ربي"، أو"لا تفعل"ويسمونه

الناهي.والثالث غفل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء أخت القاف أي متروك بدون كتابة.فإذا أراد أحدهم سفرا أو عملا لا يدري أيكون نافعا أم ضارا،ذهب إلى سادن صنمهم فأجال الأزلام، فإذا خرج الذي عليه كتابة،فعلوا ما رسم لهم،وإذا خرج الغفل أعادوا الإجالة.ولما أراد امرؤ القيس أن يقوم لأخذ ثار أبيه حجر،استقسم بالأزلام عند ذي الخلصة،صنم خثعم،فخرج له الناهي فكسر القداح وقال:
لو كنت ياذا الخلص الموتور ... امثلي وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا
وقد ورد، في حديث فتح مكة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فقال :"كذبوا والله إن استقسم بها قط" وهم قد اختلقوا تلك الصورة،أو توهموها لذلك، تنويها بشأن الاستقسام بالأزلام،وتضليلا للناس الذين يجهلون.وكانت لهم أزلام أخرى عند كل كاهن كم كهانهم، ومن حكامهم،وكان منها عند هبل في الكعبة سبعة قد كتبوا على كل واحد شيئا من أهم ما يعرض لهم في شؤونهم،كتبوا على أحدها العقل في الدية،إذا اختلفوا في تعيين من يحمل الدية منهم؛وأزلام لإثبات النسب،مكتوب على واحد منكم،وعلى واحد من غيركم،وفي آخر ملصق.وكانت لهم أزلام لإعطاء الحق في المياه إذا تنازعوا فيها.وبهذه استقسم عبد المطلب حين استشار الآلهة في فداء ابنه عبد الله من النذر الذي نذره أن يذبحه إلى الكعبة بعشرة من الإبل،فخرج الزلم على عبد الله فقالوا له:"أرض الآلهة"فزاد عشرة حتى بلغ مائة من الإبل فخرج الزلم على الإبل فنحرها.وكان الرجل قد يتخذ أزلاما لنفسه،كما ورد في حديث الهجرة:"أن سراقة ابن مالك لما لحق النبي صلى الله عليه وسلم ليأتي بخبره إلى أهل مكة استقسم الأزلام فخرج له ما يكره".
والإشارة في قوله :{ذَلِكُمْ فِسْقٌ} راجعة إلى المصدر وهو{أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ}وجيء بالإشارة للتنبيه عليه حتى يقع الحكم على متميز معين.
والفسق:الخروج عن الدين،وعن الخير،وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} في سورة البقرة[26].
وجعل الله الاستقسام فسقا لأن منه ما هو مقامرة،وفيه ما هو من شرائع الشرك،لتطلب المسببات من غير أسبابها، إذ ليس الاستقسام سببا عاديا مضبوطا،ولا سببا

شرعيا، فتمحض لأن يكون افتراء،مع أن ما فيه من توهم الناس إياه كاشفا عن مراد الله بهم،من الكذب على الله، لأن الله نصب لمعرفة المسببات أسبابا عقلية:هي العلوم والمعارف المنتزعة من العقل، أو من أدلته، كالتجربة، وجعل أسبابا لا تعرف سببيتها إلا بتوقيف منه على لسان الرسل:كجعل الزوال سببا للصلاة.وما عدا ذلك كذب وبهتان، فمن أجل ذلك كان فسقا،ولذلك قال فقهاؤنا بجرحة من ينتحل ادعاء معرفة الغيوب.
وليس من ذلك تعرف المسببات من أسبابها كتعرف نزول المطر من السحاب،وترقب خروج الفرخ من البيضة بانقضاء مدة الحضانة،وفي الحديث: "إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة أي من جهة بحرهم،ومعنى عين أنها كثيرة المطر.وأما أزلام الميسر،فهي فسق،لأنها من أكل المال بالباطل
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}
جملة وقعت معترضة بين آية المحرمات المتقدمة،وبين آية الرخصة الآتية:وهي قوله :{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} لأن اقتران الآية بفاء الفريع يقضي باتصالها بما تقدمها.ولا يصلح للاتصال بها إلا قوله :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية.
والمناسبة في هذا الاعتراض:هي أن الله لما حرم أمورا كان فعلها من جملة دين الشرك،وهي ما أهل لغير الله به،وما ذبح على النصب،وتحريم الاستقسام بالأزلام،وكان في كثير منها تضييق عليهم بمفارقة معتادهم،والتقليل من أقواتهم،أعقب هذه الشدة بإيناسهم بتذكير أن هذا كله إكمال لدينهم،وإخراج لهم من أحوال ضلال الجاهلية،وأنهم كما أيدوا بدين عظيم سمح فيه صلاحهم، فعليهم أن يقبلوا ما فيه من الشدة الراجعة إلى إصلاحهم:فالبعض مصلحته راجعة إلى المنافع البدنية، والبعض مصلحته راجعة إلى الترفع عن حضيض الكفر:وهو ما أهل به لغير الله،وما ذبح على النصب.والاستقسام بالأزلام أذكرهم بفوزهم على من يناويهم،وبمحاسن دينهم وإكماله،فإن من إكمال الإصلاح إجراء الشدة عند الاقتضاء.وذكروا بالنعمة،على عادة القرآن في تعقيب الشدة باللين.وكان المشركون، زمانا،إذا سمعوا أحكام الإسلام رجوا أن تثقل على المسلمين فيرتدوا عن الدين،ويرجعوا إلى الشرك، كما قال المنافقون {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7].فلما نزلت هذه الأحكام أنزل الله هذه الآية:بشارة للمؤمنين، ونكاية بالمشركين.وقد روي:أنها نزلت يوم فتح مكة، كما رواه الطبري عن مجاهد،والقرطبي عن الضحاك.وقيل:نزلت يوم عرفة في حجة الوداع مع الآية التي

تأتي عقبها،وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وجمع،ونسبه ابن عطية إلى عمر بن الخطاب وهو الأصح.
فـ{الْيَوْمَ}يجوز أن يراد به اليوم الحاضر،وهو يوم نزول الآية،وهو إن أريد به يوم فتح مكة،فلا جرم أن ذلك اليوم كان أبهج أيام الإسلام،وظهر فيه من قوة الدين،بين ظهراني من بقي على الشرك، ما أيأسهم من تقهقر أمر الإسلام،ولا شك أن قلوب جميع العرب كانت متعلقة بمكة وموسم الحج ومناسكه:التي كانت فيها حياتهم الاجتماعية والتجارية والدينية والأدبية،وقوام شؤونهم،وتعارفهم، وفصل نزاعهم،فلا جرم أن يكون انفراد المسلمين بتلك المواطن قاطعا لبقية آمالهم:من بقاء دين الشرك، ومن محاولة الفت في عضد الإسلام.فذلك اليوم على الحقيقة:يوم تمام اليأس وانقطاع الرجاء، وقد كانوا قبل ذلك يعاودهم الرجاء تارة.فقد قال أبو سفيان يوم أحد:"اعل هبل وقال لنا العزى ولا عزى لكم".وقال صفوان بن أمية أو أخوه،يوم هوازن،حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة للمسلمين: "ألا بطل السحر اليوم".
وكان نزول هذه الآية يوم حجة الوداع مع الآية التي بعدها،كما يؤيده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يومئذ في قول كثير من أصحاب السير: "أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك فيما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على أنفسكم".
و {الْيَوْمَ} يجوز أن يراد به يوم معين،جدير بالامتنان بزمانه،ويجوز أن يجعل"اليوم"بمعنى الآن،أي زمان الحال، الصادق بطائفة من الزمان،رسخ اليأس،في خلالها،في قلوب أهل الشرك بعد أن خامر نفوسهم التردد في ذلك،فإن العرب يطلقون"اليوم"على زمن الحال،و"الأمس"على الماضي،و"الغد"على المستقبل.قال زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي
يريد باليوم زمان الحال، وبالأمس ما مضى، وبالغد ما يستقبل،ومنه قول زياد الأعجم:
رأيتك أمس خير بني معد ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الخير خيرا ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
وفعل{يَئِسَ}يتعدى بـ"من"إلى الشيء الذي كان مرجوا من قبل،وذلك هو القرينة

على أن دخول"من"التي هي لتعدية: {يَئِسَ} على قوله: {دِينِكُمْ} ،إنما هو بتقدير مضاف،أي يئسوا من أمر دينكم، يعني الإسلام،ومعلوم أن الأمر الذي كانوا يطعمون في حصوله:هو فتور انتشار الدين وارتداد متبعيه عنه.
وتفريع النهي عن خشية المشركين في قوله :{فَلا تَخْشَوْهُمْ} على الإخبار عن يأسهم من أذى الدين:لأن يأس العدو من نوال عدوه يزيل بأسه،ويذهب حماسه،ويقعده عن طلب عدوه.وفي الحديث:"نصرت بالرعب".فلما أخبر عن يأسهم طمن المسلمين من بأس عدوهم،فقال :{فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} أو لأن اليأس لما كان حاصلا من آثار انتصارات المسلمين،يوما فيوما،وذلك من تأييد الله لهم،ذكر الله المسلمين بذلك بقوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} ،وإن فريقا لم يغن عنهم بأسهم من الله شيئا لأحرياء بأن لا يخشى بأسهم،وأن يخشى من خذلهم ومكن أولياءه منهم.
وقد أفاد قوله :{لا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} مفاد صيغة الحصر، ولو قيل:فإياي فاخشون لجرى على الأكثر في مقام الحصر،ولكن عدل إلى جملتي نفي وإثبات:لأن مفاد كلتا الجملتين مقصود،فلا يحسن طي إحداهما.وهذا من الدواعي الصارفة عن صيغة الحصر إلى الإتيان بصيغتي إثبات ونفي،كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
ونظيره قوله الآتي :{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44].
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}
إن كانت آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نزلت يوم حجة الوداع بعد آية {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} بنحو العامين،كما قال الضحاك،كانت جملة مستقلة، ابتدائية،وكان وقوعها في القرآن، عقب التي قبلها،بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها مع نظيرها في إكمال أمر الدين،اعتقادا وتشريعا،وكان اليوم المعهود في هذه غير اليوم المعهود في التي قبلها وإن كانتا نزلتا معا يوم الحج الأكبر،عام حجة الوداع،وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وآخرين.وفي كلام ابن عطية أنه منسوب إلى عمر بن الخطاب،وذلك هو الراجح الذي عول عليه أهل العلم وهو الأصل في موافقة التلاوة للنزول، كان اليوم

المذكور في هذه وفي التي قبلها يوما واحدا،وكانت هذه الجملة تعدادا لمنة أخرى،وكان فصلها عن التي قبلها جاريا على سنن الجمل التي تساق للتعداد في منة أو توبيخ،ولأجل ذلك: أعيد لفظ {الْيَوْمَ} ليتعلق بقوله: {أَكْمَلْتُ} ،ولم يستغن بالظرف الذي تعلق بقوله :{يَئِسَ} فلم يقل:وأكملت لكم دينكم.
والدين: ما كلف الله به الأمة من مجموع العقائد،والأعمال،والشرائع،والنظم.وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} في سورة آل عمران[19].فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه،فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد،التي لا يسع المسلمين جهلها،وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحج بالقول والفعل،وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي،كان بعد ذلك كله قد تم البيان المراد لله تعالى في قوله :{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]وقوله :{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة،كافيا في هدي الأمة في عبادتها، ومعاملتها، وسياستها، في سائر عصورها، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها،فقد كان الدين وافيا في كل وقت بما يحتاجه المسلمون.ولكن ابتدأت أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثم اتسعت جامعتهم، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتساعها،إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكن رسوخه، حتى استكملت جامعة المسلمين كل شؤون الجوامع الكبرى،وصاروا أمة كأكمل ما تكون أمة، فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلها، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذ.وليس في ذلك ما يشعر بأن الدين كان ناقصا،ولكن أحوال الأمة في الأممية غير مستوفاة،فلما توفرت كمل الدين لهم فلا إشكال على الآية.وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعله ليس فيه تشريع شيء جديد، ولكنه تأكيد لما تقرر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنة.
فما نجده في هذه السورة من الآيات،بعد هذه الآية،مما فيه تشريع أنف مثل جزاء صيد المحرم،نجزم بأنها نزلت قبل هذه الآية وأن هذه الآية لما نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع.وعن ابن عباس: "لم ينزل على النبي بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض"فلو أن المسلمين أضاعوا كل أثارة من علم والعياذ بالله ولم يبق بينهم إلا القرآن لاستطاعوا الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم.قال الشاطبي: "القرآن،مع اختصاره،جامع.ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كلية،لأن الشريعة تمت بتمام

نزوله لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ،وأنت تعلم:أن الصلاة،والزكاة،والجهاد،وأشباه ذلك،لم تبين جميع أحكامها في القرآن،إنما بينتها السنة،وكذلك العاديات من العقود والحدود وغيرها،فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية،وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وهي:الضروريات،والحاجيات،والتحسينات ومكمل كل واحد منها،فالخارج عن الكتاب من الأدلة:وهو السنة،والإجماع،والقياس،إنما نشأ عن القرآن.وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال:"لعن الله الواشمات والمستوشمات والواصلات والمستوصلات والمتنمصات للحسن المغيرات خلق الله"فبلغ كلامه امرأة من بني أسد يقال لها:أم يعقوب،وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت:"لعنت كذا وكذا فذكرته،فقال عبد الله:"وما لي لا ألعن من لعن رسول الله وهو في كتاب الله"،فقالت المرأة:"لقد قرأت ما بين لوحي المصحف،فما وجدته"،فقال:"لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه":قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]"اهـ.
فكلام ابن مسعود يشير إلى أن القرآن هو جامع أصول الأحكام،وأنه الحجة على جميع المسلمين، إذ قد بلغ لجميعهم ولا يسعهم جهل ما فيه،فلو أن المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن لكفاهم في إقامة الدين،لأن كلياته وأوامره المفصلة ظاهرة الدلالة،ومجملاته تبعث المسلمين على تعرف بيانها من استقراء أعمال الرسول وسلف الأمة، المتلقين عنه،ولذلك لما اختلف الأصحاب في شأن كتابة النبي لهم كتابا في مرضه قال عمر:"حسبنا كتاب الله،فلو أن أحدا قصر نفسه على علم القرآن فوجد {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:183]و {آتُوا حَقَّهُ َيوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]و {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]،لتطلب بيان ذلك مما تقرر من عمل سلف الأمة،وأيضا ففي القرآن تعليم طرق الاستدلال الشرعية كقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]
فلا شك أن أمر الإسلام بدئ ضعيفا.ثم أخذ يظهر ظهور سنا الفجر،وهو في ذلك كله دين،يبين لأتباعه الخير والحرام والحلال،فما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أسلم كثير من أهل مكة، ومعظم أهل المدينة، فلما هاجر رسول الله أخذ الدين يظهر في مظهر شريعة مستوفاة فيها بيان عبادة الأمة،وآدابها،وقوانين تعاملها،ثم لما فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين،وغلب الإسلام على بلاد العرب،تمكن الدين وخدمته القوة،

فأصبح مرهوبا بأسه،ومنع المشركين من الحج بعد عام،فحج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عشرة وليس معه غير المسلمين،فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين:بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه،وذلك تبين واضحا يوم الحج الذي نزلت فيه هذه الآية.
لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه:لأن الدين في كل يوم،من وقت البعثة،هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوما فيوما،فمن كان من المسلمين آخذا بكل ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسك بالإسلام،فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يراد به،وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعها الحاضرين.
وفي هذه الآية دليل على وقوع تأخير البيان إلى وقت الحاجة.وإذا كانت الآية نازلة يوم فتح مكة، كما يروى عن مجاهد،فإكمال الدين إكمال بقية ما كانوا محرومين منه من قواعد الإسلام،إذ الإسلام قد فسر في الحديث بما يشمل الحج،إذ قد مكنهم يومئذ من أداء حجهم دون معارض،وقد كمل أيضا سلطان الدين بدخول الرسول إلى البلد الذي أخرجوه منه،ومكنه من قلب بلاد العرب فالمراد من الدين دين الإسلام وإضافته إلى ضمير المسلمين لتشريفهم بذلك.
ولا يصح أن يكون المراد من الدين القرآن:لأن آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية،وحسبك من ذلك بقية سورة المائدة وآية الكلالة،التي في آخر النساء،على القول بأنها آخر آية نزلت،وسورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1]كذلك،وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نحوا من تسعين يوما،يوحى إليه.ومعنى"اليوم"في قوله :{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نظير معناه في قوله :{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}.
وقوله :{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} إتمام النعمة:هو خلوصها مما يخالطها:من الحرج،والتعب.وظاهره أن الجملة معطوفة على جملة {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فيكون متعلقا للظرف وهو اليوم،فيكون تمام النعمة حاصلا يوم نزول هذه الآية.وإتمام هذه النعمة هو زوال ما كانوا يلقونه من الخوف فمكنهم من الحج آمنين،مؤمنين،خالصين،وطوع إليهم أعداءهم يوم حجة الوداع،وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمها عليهم، فلذلك قيد إتمام النعمة بذلك اليوم،لأنه زمان ظهور هذا الإتمام:إذ الآية نازلة يوم حجة الوداع على أصح الأقوال،فإن كانت نزلت يوم فتح مكة،وإن كان القول بذلك ضعيفا،فتمام النعمة فيه على المسلمين:أن مكنهم من أشد أعدائهم، وأحرصهم على استئصالهم،لكن

يناكده قوله :{أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} إلا على تأويلات بعيدة.
وظاهر العطف يقتضي:أن تمام النعمة منة أخرى غير إكمال الدين،وهي نعمة النصر،والأخوة،وما نالوه من المغانم،ومن جملتها إكمال الدين،فهو عطف عام على خاص.وجوزوا أن يكون المراد من النعمة الدين،وإتمامها هو إكمال الدين،فيكون مفاد الجملتين واحدا،ويكون العطف لمجرد المغايرة في صفات الذات،ليفيد أن الدين نعمة وأن إكماله إتمام للنعمة؛فهذا العطف كالذي في قول الشاعر أنشده الفراء في معاني القرآن:
إلى الملك القرم وابن الهما ... م وليث الكتيبة في المزدحم
وقوله :{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} الرضى بالشيء الركون اليه وعدم النفرة منه،ويقابله السخط:فقد يرضى أحد شيئا لنفسه فيقول:رضيت بكذا،وقد يرضى شيئا لغيره،فهو بمعنى اختياره له،واعتقاده مناسبته له،فيعدى باللام:للدلالة على أن رضاه لأجل غيره،كما تقول:اعتذرت له.وفي الحديث: "إن الله يرضى لكم ثلاثا" ،وكذلك هنا،فلذلك ذكر قوله :{لَكُمُ} وعدي {رَضِيتُ} إلى الإسلام بدون الباء.وظاهر تناسق المعطوفات:أن جملة{رَضِيتُ}معطوفة على الجملتين اللتين قبلها،وأن تعلق الظرف بالمعطوف عليه الأول سار إلى المعطوفين،فيكون المعنى:ورضيت لكم الإسلام دينا اليوم.وإذ قد كان رضى الإسلام دينا للمسلمين ثابتا في علم الله ذلك اليوم وقبله، تعين التأويل في تعليق ذلك الظرف بـ {رَضِيتُ} ؛فتأوله صاحب الكشاف بأن المعنى:آذنتكم بذلك في هذا اليوم،أي أعلمتكم:يعني أي هذا التأويل مستفاد من قوله :{الْيَوْمَ} ،لأن الذي حصل في ذلك اليوم هو إعلان ذلك، والإيذان به،لا حصول رضى الله به دينا لهم يومئذ،لأن الرضى به حاصل من قبل،كما دلت عليه آيات كثيرة سابقة لهذه الآية.فليس المراد أن"رضيت"مجاز في معنى"أذنت"لعدم استقامة ذلك:لأنه يزول منه معنى اختيار الإسلام لهم،وهو المقصود،ولأنه لا يصلح للتعدي إلى قوله :{الْأِسْلامَ}. وإذا كان كذلك فدلالة الخبر على معنى الإيذان من دلالته على لازم من لوازم معناه بالقرينة المعينة،فيكون من الكناية في التركيب.ولو شاء أحد أن يجعل هذا من استعمال الخبر في لازم الفائدة،فكما استعمل الخبر كثيرا في الدلالة على كون المخبر عالما به،استعمل هنا في الدلالة على الإعلام وإعلانه.
وقد يدل قوله :{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} " على أن هذا الدين دين أبدي:لأن

الشيء المختار المدخر لا يكون إلا أنفس ما أظهر من الأديان،والأنفس لا يبطله شيء إذ ليس بعده غاية، فتكون الآية مشيرة إلى أن نسخ الأحكام قد انتهى.
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وجود الفاء في صدر هذه الجملة،مع عدم مناسبة ما بعد الفاء لما وليته،يعين أن تكون متصلة ببعض الآي التي سبقت،وقد جعلها المفسرون مرتبطة بآية تحريم الميتة وما عطف عليها من المأكولات،من غير تعرض في كلامهم إلى انتظام نظم هذه الآية مع التي قبلها.وقد انفرد صاحب الكشاف ببيان ذلك فجعل ما بين ذلك اعتراضا.
ولا شك أنه يعني باتصال هذه الجملة بما قبلها:اتصال الكلام الناشيء عن كلام قبله،فتكون الفاء عنده للفصيحة،لأنه لما تضمنت الآيات تحريم كثير مما كانوا يقتاتونه،وقد كانت بلاد العرب قليلة الأقوات،معرضة للمخمصة:عند انحباس الأمطار،أو في شدة كلب الشتاء،فلم يكن عندهم من صنوف الأطعمة ما يعتاضون ببعضه عن بعض،كما طفحت به أقوال شعرائهم.
فلا جرم أن يكون تحريم كثير من معتاد طعامهم مؤذنا بتوقع منهم أن يفضي ذلك إلى امتداد يد الهلاك إليهم عند المخمصة،فناسب أن يفصح عن هذا الشرط المعرب عن أحوالهم بتقدير:فإن خشيتم الهلاك في مخمصة فمن اضطر في مخمصة الخ.ولا تصلح الفاء على هذا الوجه للعطف:إذ ليس في الجمل السابقة من جمل التحريم ما يصلح لعطف"من اضطر في مخمصة"عليه.
والأحسن عندي أن يكون موقع {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} متصلا بقوله :{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}, اتصال المعطوف بالمعطوف عليه،والفاء للتفريع:تفريع منة جزئية على منة كلية،وذلك أن الله امتن في هذه الجمل الثلاث بالإسلام ثلاث مرات:مرة بوصفه في قوله :{دِينِكُمْ} ،ومرة بالعموم الشامل له في قوله :{نِعْمَتِيَ} ،ومرة باسمه في قوله :{الْأِسْلامَ} ؛ فقد تقرر بينهم:أن الإسلام أفضل صفاته السماحة والرفق،من آيات كثيرة قبل هذه الآية،فلما علمهم يوجسون خيفة الحاجة في الأزمات بعد تحريم ما حرم عليهم من المطعومات،وأعقب ذلك بالمنة ثم أزال عقب ذلك ما أوجسوه من نفوسهم بقوله :{فَمَنِ اضْطُرَّ} الخ؛فناسب أن تعطف هاته التوسعة،وتفرع على قوله :{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} وتعقب المنة العامة بالمنة الخاصة.

والاضطرار:الوقوع في الضرورة،وفعله غلب عليه البناء للمجهول،وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى :{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّار} في سورة البقرة[126].
والمخمصة:المجاعة، اشتقت من الخمص وهو ضمور البطن،لأن الجوع يضمر البطون،وفي الحديث : "تغدو خماصا وتروح بطانا".
والتجانف:التمايل،والجنف:الميل،قال تعالى :{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً} [البقرة:182]الآية.والمعنى أنه اضطر غير مائل إلى الحرام من أخذ أموال الناس،أو من مخالفة الدين.وهذه حال قصد بها ضبط حالة الاضطرار في الإقدام والإحجام،فلا يقدم على أكل المحرمات إذا كان رائما بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج،ولا يحجم عن تناولها إذا خشي أن يتناول ما في أيدي الناس بالغصب والسرقة، وهذا بمنزلة قوله :{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173]،أي غير باغ ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين.
ووقع قوله :{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مغنيا عن جواب الشرط لأنه كالعلة له،وهي دليل عليه، والاستغناء بمثله كثير في كلام العرب وفي القرآن.والتقدير:فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فله تناول ذلك إن الله غفور،كما قال في الآية نظيرتها {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173].
[4] {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
{يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}
إن كان الناس قد سألوا عما أحل لهم من المطعومات بعد أن سمعوا ما حرم عليهم في الآية السابقة، أو قبل أن يسمعوا ذلك،وأريد جوابهم عن سؤالهم الآن،فالمضارع مستعمل للدلالة على تجدد السؤال،أي تكرره أو توقع تكرره.وعليه فوجه فصل جملة {يَسْأَلونَكَ} أنها استئناف بياني ناشئ عن جملة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]وقوله :{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة:3]؛أو هي استئناف ابتدائي:للانتقال من بيان المحرمات إلى بيان الحلال بالذات،وإن كان السؤال لم يقع،وإنما قصد به توقع السؤال،كأنه قيل:إن سألوك،فالإتيان بالمضارع بمعنى الاستقبال لتوقع أن يسأل الناس

عن ضبط الحلال،لأنه مما تتوجه النفوس إلى الإحاطة به،وإلى معرفة ما عسى أن يكون قد حرم عليهم من غير ما عدد لهم في الآيات السابقة،وقد بينا في مواضع مما تقدم منها قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} في سورة البقرة[189]:أن صيغة {يَسْأَلونَكَ} في القرآن تحتمل الأمرين.فعلى الوجه الأول يكون الجواب قد حصل ببيان المحرمات أولا ثم ببيان الحلال،أو ببيان الحلال فقط،إذا كان بيان المحرمات سابقا على السؤال،وعلى الوجه الثاني قد قصد الاهتمام ببيان الحلال بوجه جامع، فعنون الاهتمام به بإيراده بصيغة السؤال المناسب لتقدم ذكره.
و {الطَّيِّبَاتُ } صفة لمحذوف معلوم من السياق،أي الأطعمة الطيبة،وهي الموصوفة بالطيب،أي التي طابت.وأصل معنى الطيب معنى الطهارة والزكاء والوقع الحسن في النفس عاجلا وآجلا،فالشيء المستلذ إذا كان وخما لا يسمى طيبا:لأنه يعقب ألما أو ضرا،ولذلك كان طيب كل شيء أن يكون من أحسن نوعه وأنفعه.وقد أطلق الطيب على المباح شرعا؛لأن إباحة الشرع الشيء علامة على حسنه وسلامته من المضرة،قال تعالى :{كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة:168]والمراد بالطيبات في قوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} معناها اللغوي ليصح إسناد فعل {أُحِلَّ} إليها.وقد تقدم شيء من معنى الطيب عند قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً}في سورة البقرة[168] ويجيء شيء منه عند قوله تعالى :{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} في سورة الأعراف[58].
و {الطَّيِّبَاتُ} وصف للأطعمة قرن به حكم التحليل،فدل على أن الطيب علة التحليل،وأفاد أن الحرام ضده وهو الخبائث،كما قال في آية الأعراف،في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
وقد اختلف أقوال السلف في ضبط وصف الطيبات؛فعن مالك:"الطيبات الحلال"،ويتعين أن يكون مراده أن الحل هو المؤذن بتحقق وصف الطيب في الطعام المباح،لأن الوصف الطيب قد يخفى،فأخذ مالك بعلامته وهي الحل كيلا يكون قوله :{الطَّيِّبَاتُ} حوالة على ما لا ينضبط بين الناس مثل الاستلذاذ، فيتعين، إذن،أن يكون قوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} غير مراد منه ضبط الحلال،بل أريد به الامتنان والإعلام بأن ما أحله الله لهم فهو طيب،إبطالا لما اعتقدوه في زمن الشرك:من تحريم ما لا موجب لتحريمه،وتحليل ما هو خبيث.ويدل لذلك تكرر ذكر الطيبات مع ذكر الحلال في القرآن، مثل

قوله :{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5]وقوله في الأعراف[157]: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وعن الشافعي:"الطيبات:الحلال المستلذ،فكل مستقدر كالوزغ فهو من الخبائث حرام."قال فخر الدين:"العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة، فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات،"وتتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى :{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض،إلا أنه دخله التخصيص بحرمة الخبائث،فصار هذا أصلا كبيرا في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة.منها أن لحم الخيل مباح عند الشافعي.وقال أبو حنيفة:"ليس بمباح".حجة الشافعي أنه مستلذ مستطاب،والعلم بذلك ضروري، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالا،لقوله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وفي شرح الهداية في الفقه الحنفي لمحمد الكاكي"أن ما استطابه العرب حلال،لقوله تعالى :{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف:157]،وما استخبثه العرب حرام،لقوله :{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]والذين تعتبر استطابتهم أهل الحجاز من أهل الأمصار،لأن القرآن أنزل عليهم وخوطبوا به،ولم يعتبر أهل البوادي لأنهم يأكلون ما يجدون للضرورة والمجاعة.وما يوجد في أمصار المسلمين مما لا يعرفه أهل الحجاز رد إلى أقرب ما يشبهه في الحجاز"اهـ.وفيه من التحكم في تحكيم عوائد بعض الأمة دون بعض ما لا يناسب التشريع العام،وقد استقذر أهل الحجاز لحم الضب بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث خالد بن الوليد: "ليس هو من أرض قومي فأجدني أعافه" ومع ذلك لم يحرمه على خالد.
والذي يظهر لي:أن الله قد ناط إباحة الأطعمة بوصف الطيب فلا جرم أن يكون ذلك منظورا فيه إلى ذات الطعام،وهو أن يكون غير ضار ولا مستقذر ولا مناف للدين،وأمارة اجتماع هذه الأوصاف أن لا يحرمه الدين،وأن يكون مقبولا عند جمهور المعتدلين من البشر،من كل ما يعده البشر طعاما غير مستقذر،بقطع النظر عن العوائد والمألوفات،وعن الطبائع المنحرفات.ونحن نجد أصناف البشر يتناول بعضهم بعض المأكولات من حيوان ونبات،ويترك بعضهم ذلك البعض.فمن العرب من يأكل الضب واليربوع والقنافذ،ومنهم من لا يأكلها.ومن الأمم من يأكل الضفادع والسلاحف والزواحف ومنهم من يتقذر ذلك.وأهل مدينة تونس يأبون أكل اللحم أنثى الضأن ولحم المعز،وأهل جزيرة شريك يستجيدون لحم المعز،وفي أهل الصحاري تستجاد لحوم الإبل وألبانها،وفي أهل الحضر من يكره ذلك،وكذلك دواب البحر وسلاحفه وحياته.والشريعة من

ذلك كله فلا يقضي فيها طبع فريق على فريق.والمحرمات فيها من الطعوم ما يضر تناوله بالبدن أو العقل كالسموم والخمور والمخدرات كالأفيون والحشيشة المخدرة،وما هو نجس الذات بحكم الشرع،وما هو مستقذر كالنخامة وذرق الطيور وأرواث النعام،وما عدا ذلك لا تجد فيه ضابطا للتحريم إلا المحرمات بأعيانها وما عداها فهو في قسم الحلال لمن شاء تناوله.والقول بأن بعضها حلال دون بعض بدون نص ولا قياس هو من القول على الله بما لا يعلمه القائل،فما الذي سوغ الظبي وحرم الأرنب،وما الذي سوغ السمكة وحرم حية البحر،وما الذي سوغ الجمل وحرم الفرس،وما الذي سوغ الضب والقنفذ وحرم السلحفاة،وما الذي أحل الجراد وحرم الحلزون،إلا أن يكون له نص صحيح،أو نظر رجيح، وما سوى ذلك فهو ريح.وغرضنا من هذا تنوير البصائر إذا اعترى التردد لأهل النظر في إناطة حظر أو إباحة بما لا نص فيه أو في مواقع المتشابهات.
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
يجوز أن يكون عطفا على {الطَّيِّبَاتُ} عطف المفرد،على نية مضاف محذوف،والتقدير:وصيد ما علمتم من الجوارح،يدل عليه قوله :{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فما موصولة وفاء {فَكُلُوا} للتفريع.
ويجوز أن يكون عطف جملة على جملة،وتكون"ما"شرطية وجواب الشرط {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ}.
وخص بالبيان من بين الطيبات لأن طيبه قد يخفى من جهة خفاء معنى الذكاة في جرح الصيد،لا سيما صيد الجوارح،وهو محل التنبيه هنا الخاص بصيد الجوارح.وسيذكر صيد الرماح والقنص في قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94]والمعنى:وما أمسك عليكم ما علمتم بقرينة قوله بعد {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} لظهور أن ليس المراد إباحة أكل الكلاب والطيور المعلمة.
والجوارح:جمع الجارح،أو الجارحة،جرى على صيغة جمع فاعلة،لأن الدواب مراعى فيها تأنيث جمعها،كما قالت العرب للسباع:الكواسب،قال لبيد:
غبس كواسب ما يمن طعامها ولذلك تجمع جمع التأنيث،كما سيأتي {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}

و {مُكَلِّبِينَ} حال من ضمير {عَلَّمْتُمْ} مبينة لنوع التعليم وهو تعليم المكلب،والمكلب ـ بكسر اللام ـ بصيغة اسم الفاعل معلم الكلاب،يقال:مكلب، ويقال:كلاب.
فـ {مُكَلِّبِينَ} وصف مشتق من الاسم الجامد اشتق من اسم الكلب جريا على الغالب في صيد الجوارح،ولذلك فوقوعه حالا من ضمير {عَلَّمْتُمْ} ليس مخصصا للعموم الذي أفاده قوله :{وَمَا عَلَّمْتُمْ} فهذا العموم يشمل غير الكلاب من فهود وبزاة.وخالف في ذلك ابن عمر، حكى عنه ابن المنذر أنه قصر إباحة أكل ما قتله الجارح على صيد الكلاب لقوله تعالى :{مُكَلِّبِينَ} قال:فأما ما يصاد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو لك حلال وإلا فلا تطعمه.وهذا أيضا قول الضحاك والسدي.
فأما الكلاب فلا خلاف في إباحة عموم صيد المعلمات منها،إلا ما شذ من قول الحسن وقتادة والنخعي بكراهة صيد الكلب الأسود البهيم،أي علم السواد،محتجين بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الكلب الأسود شيطان". أخرجه مسلم،وهو احتجاج ضعيف،مع أن النبي عليه السلام سماه كلبا،وهل يشك أحد أن معنى كونه شيطانا أنه مظنة للعقر وسوء الطبع.على أن مورد الحديث في أنه يقطع الصلاة إذا مر بين يدي المصلي.على أن ذلك متأول.وعن احمد بن حنبل:"ما أعرف أحدا يرخص فيه""أي في أكل صيده"إذا كان بهيما،وبه قال إسحق ابن راهوية،وكيف يصنع بجمهور الفقهاء.
وقوله :{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}. حال ثانية،قصد بها الامتنان والعبرة والمواهب التي أودعها الله في الإنسان، إذ جعله معلما بالجبلة من يوم قال: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33]،والمواهب التي أودعها الله في بعض الحيوان،إذ جعله قابلا للتعلم.فباعتبار كون مفاد هذه الحال هو مفاد عاملها تتنزل منزلة الحال المؤكدة،وباعتبار كونها تضمنت معنى الامتنان فهي مؤسسة.قال صاحب الكشاف:"وفي تكرير الحال فائدة أن على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علما وأنحرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل،فكم من آخذ عن غير متقن قد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله".اهـ.
والفاء في قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فاء الفصيحة في قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} إن جعلت"ما"من قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} موصولة،فإن جعلتها شرطية فالفاء رابطة للجواب.

وحرف"من"في قوله :{مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} للتبعيض،وهذا تبعيض شائع الاستعمال في كلام العرب عند ذكر المتناولات،كقوله:"كلوا من ثمره"وليس المقصود النهي عن أكل جميع ما يصيده الصائد، ولا أن ذلك احتراس عن أكل الريش،والعظم،والجلد،والقرون؛لأن ذلك كله لا يتوهمه السامع حتى يحترس منه.
وحرف"على"في قوله:{مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}بمعنى لام التعليل،كما تقول:سجن على الاعتداء، وضرب الصبي على الكذب،وقول علقمة ابن شيبان:
ونطاعن الأعداء عن أبنائنا ... وعلى بصائرنا وإن لم نبصر
أي نطاعن على حقائقنا:أي لحماية الحقيقة، ومن هذا الباب قوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك".
ومعنى الآية إباحة أكل ما صاده الجوارح:من كلاب، وفهود، وسباع طير:كالبزاة، والصقور، إذا كانت معلمة وأمسكت بعد إرسال الصائد.وهذا مقدار اتفق علماء الأمة عليه وإنما اختلفوا في تحقق هذه القيود.
فأما شرط التعليم فاتفقوا على أنه إذا أشلي، فانشلى، فاشتد وراء الصيد، وإذا دعي فأقبل، وإذا زجر فانزجر، وإذا جاء بالصيد إلى ربه، أن هذا معلم.وهذا على مراتب التعلم.ويكتفي في سباع الطير بما دون ذلك:فيكتفي فيها بأن تؤمر فتطيع.وصفات التعليم راجعة إلى عرف أهل الصيد، وأنه صار له معرفة، وبذلك قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي:ولا حاجة إلى ضبط ذلك بمرتين أو ثلاث، خلافا لأحمد,وأبي يوسف، ومحمد.
وأما شرط الإمساك لأجل الصائد:فهو يعرف بإمساكها الصيد بعد إشلاء الصائد إياها، وهو الإرسال من يده إذا كان مشدودا، أو أمره إياها بلفظ اعتادت أن تفهم منه الأمر كقوله"هذا لك"لأن الإرسال يقوم مقام نية الذكاة.ثم الجارح ما دام في استرساله معتبر حتى يرجع إلى ربه بالصيد.واختلفوا في أكل الجارح من الصيد قبل الإتيان به إلى ربه هل يبطل حكم الإمساك على ربه:فقال جماعة من الصحابة والتابعين:"إذا أكل الجارح من الصيد لم تؤكل البقية؛ لأنه إنما أمسك على نفسه، لا على ربه"وفي هذا المعنى حديث عدي بن حاتم في الصحيح:أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلب، فقال: "وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه". وبه أخذ الشافعي، وأحمد، وأبو

ثور، وإسحاق.وقال جماعة من الصحابة:إذا أكل الجارح لم يضر أكله، ويؤكل ما بقي.وهو قول مال وأصحابه:لحديث أبي ثعلبة الخشني، في كتاب أبي داود:أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"وإن أكل منه".ورام بعض أصحابنا أن يحتج لهذا بقوله تعالى :{مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} حيث جاء بمن المفيدة للتبعيض، المؤذنة بأنه يؤكل إذا بقي بعضه، وهو دليل واه فقد ذكرنا آنفا أن "من" تدخل على الاسم في مثل هذا وليس المقصود التبعيض، والكلب أو الجارح، إذا أشلاه القناص فانشلى، وجاء بالصيد إلى ربه، فهو قد أمسكه عليه وإن كان قد أكل منه، فقد يأكل لفرط جوع أو نسيان.ونحا بعضهم في هذا إلى تحقيق أن أكل الجارح من الصيد هل يقدح في تعليمه، والصواب أن ذلك لا يقدح في تعليمه، إذا كانت أفعاله جارية على وفق أفعال الصيد، وإنما هذا من الفلتة أو من التهور.ومال جماعة إلى الترخيص في ذلك في سباع الطير خاصة، لأنها لا تفقه من التعليم ما يفقه الكلب، وروي هذا عن ابن عباس، وحماد، والنخعي، وأبي حنيفة، وأبي ثور.
وقد نشأ عن شرط تحقق إمساكه على صاحبه مسألة لو أمسك الكلب أو الجارح صيدا لم يره صاحبه وتركه ورجع دونه، ثم وجد الصائد بعد ذلك صيدا في الجهة التي كان يجوسها الجارح أو عرف أثر كلبه فيه؛ فعن مالك:"لا يؤكل"، وعن بعض أصحابه:"يؤكل".وأما إذا وجد الصائد سهمه في مقاتل الصيد فإنه يؤكل لا محالة.
وأحسب أن قوله تعالى :{مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} احتراز عن أن يجد أحد صيدا لم يصده هو، ولا رأى الجارح حين أمسكه، لأن ذلك قد يكون موته على غير المعتاد فلا يكون ذكاة، وأنه لا يحرم على من لم يتصد للصيد أن يأكل صيدا رأى كلب غيره حين صاده إذا لم يجد الصائد قريبا، أو ابتاعه من صائده، أو استعطاه إياه.
وقوله :{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أمر بذكر الله على الصيد، ومعناه أن يذكره عند الإرسال لأنه قد يموت بجرح الجارح، وأما إذا أمسكه حيا فقد تعين ذبحه فيذكر اسم الله عليه حينئذ.ولقد أبدع إيجاز كلمة "عليه" ليشمل الحالتين.وحكم نسيان التسمية وتعمد تركها معلوم من كتب الفقه والخلاف، والدين يسر.
وقد اختلف الفقهاء:في أن الصيد رخصة، أو صفة من صفات الذكاة.فالجمهور ألحقوه بالذكاة، وهو الراجح، ولذلك أجازوا أكل صيد الكتابي دون المجوسي.وقال مالك:"هو رخصة للمسلمين فلا يؤكل صيد الكتابي ولا المجوسي وتلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94].وهو دليل ضعف:لأنه وارد في غير بيان الصيد، ولكن في حرمة الحرم.وخالفه اشهب، وابن وهب، من أصحابه.ولا خلاف في عدم أكل صيد المجوسي إلا رواية عن أبي ثور إذ ألحقهم بأهل الكتاب فهو اختلاف في الأصل لا في الفرع.
وقوله :{وَاتَّقُوا اللَّهَ} الآية تذييل عام ختمت به آية الصيد، وهو عام المناسبة.
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}
يجيء في التقييد"باليوم" هنا ما جاء في قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ دينكم} [المائدة:3]وقوله :{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، عدا وجه تقييد حصول الفعل حقيقة بذلك اليوم، فلا يجيء هنا، لأن إحلال الطيبات أمر سابق إذ لم يكن شيء منها محرما، ولكن ذلك اليوم كان يوم الإعلام به بصفة كلية، فيكون كقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]في تعلق قوله :{الْيَوْمَ} به، كما تقدم.
ومناسبة ذكر ذلك عقب قوله :{الْيَوْمَ يَئِسَ} [المائئدة:3] و {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ} [المائدة:3] أن هذا أيضا منة كبرى لأن إلقاء الأحكام بصفة كلية نعمة في التفقه في الدين.
والكلام على الطيبات تقدم آنفا، فأعيد ليبنى عليه قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وعطف جملة {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} على جملة {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} لأجل ما في هذه الرخصة من المنة لكثرة مخالطة المسلمين أهل الكتاب فلو حرم الله عليهم طعامهم لشق ذلك عليهم.
والطعام في كلام العرب ما يطعمه المرء ويأكله، وإضافته إلى أهل الكتاب للملابسة، أي ما يعالجه أهل الكتاب بطبخ أو ذبح.قال ابن عطية:"الطعام الذي لا محاولة فيه كالبر والفاكهة ونحوهما لا يغيره تملك أحد له، والطعام الذي تقع فيه محاولة صنعته لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وعصر الزيت.فهذا إن تجنب من الذمي فعلى جهة

التقذر.والتذكية هي المحتاجة إلى الدين والنية، فلما كان القياس أن لا تجوز ذبائحهم رخص الله فيها على هذه الأمة وأخرجها عن القياس"وأراد بالقياس قياس أحوال ذبائحهم على أحوالهم المخالفة لأحوالنا، ولهذا قال كثير من العلماء:"أراد الله هنا بالطعام الذبائح"، مع اتفاقهم على أن غيرها من الطعام مباح، ولكن هؤلاء قالوا:"إن غير الذبائح ليس مرادا، أي لأنه ليس موضع تردد في إباحة أكله."والأولى حمل الآية على عمومها فتشمل كل طعام قد يظن أنه محرم علينا إذ تدخله صنعتهم، وهم لا يتوقون ما نتوقى، وتدخله ذكاتهم وهم لا يشترطون فيها ما نشترطه.ودخل في طعامهم صيدهم على الأرجح.
و{الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: هم أتباع التوراة والإنجيل، سواء كانوا ممن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام إلى اتباع الدين، أم كانوا ممن اتبعوا الدينين اختيارا؛ فإن موسى وعيسى دعوا بني إسرائيل خاصة، وقد تهود من العرب أهل اليمن، وتنصر من العرب تغلب، وبهراء، وكلب، ولخم، ونجران، وبعض ربيعة وغسان، فهؤلاء من أهل الكتاب عند الجمهور عدا عليا بن أبي طالب فإنه قال:"لا تحل ذبائح نصارى تغلب"، وقال:"إنهم لم يتمسكوا من النصرانية بشيء سوى شرب الخمر".وقال القرطبي:"هذا قول الشافعي"، وروى الربيع عن الشافعي:"لا خير في ذبائح نصارى العرب من تغلب."وعن الشافعي:"من كان من أهل الكتاب قبل البعثة المحمدية فهو من أهل الكتاب، ومن دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فلا يقبل منه إلا الإسلام، ولا تقبل منه الجزية"، أي كالمشركين.
وأما المجوس فليسوا أهل كتاب بالإجماع، فلا تؤكل ذبائحهم، وشذ من جعلهم أهل كتاب.وأما المشركون وعبدة الأوثان فليسوا من أهل الكتاب دون خلاف.
وحكمة الرخصة في أهل الكتاب:لأنهم على دين إلهي يحرم الخبائث، ويتقي النجاسة، ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة متبعة لا تظن بهم مخالفتها، وهي مستندة للوحي الإلهي، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان.وأما المجوس فلهم كتاب لكنه ليس بالإلهي، فمنهم أتباع"زراد شت" ، لهم كتاب "الزندفستا" وهؤلاء هم محل الخلاف.وأما المجوس "المانوية" فهم إباحية فلا يختلف حالهم عن حال المشركين وعبدة الأوثان، أو هم شر منهم.وقد قال مالك:"ما ليس فيه ذكاة من طعام المجوس فليس بحرام"يعني إذا كانوا يتقون النجاسة.وفي جامع الترمذي:أن أبا ثعلبة الخشني سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

قدور المجوس.فقال له :"أنقوها غسلا واطبخوا فيها" وفي البخاري:أن أبا ثعلبة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آنية أهل الكتاب.فقال له: "إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها" قال ابن العربي:"فغسل آنية المجوس فرض، وغسل آنية أهل الكتاب ندب"يريد لأن الله أباح لنا طعام أهل الكتاب فقد علم حالهم، وإنما يسري الشك إلى آنيتهم من طعامهم وهو مأذون فيه، ولم يبح لنا طعام المجوس، فذلك منزع التفرقة بين آنية الفريقين.
ثم الطعام الشامل للذكاة إنما يعتبر طعاما لهم إذا كانوا يستحلونه في دينهم، ويأكله أحبارهم وعلماؤهم، ولو كان مما ذكر القرآن أنه حرمه عليهم، لأنهم قد تأولوا في دينهم تأويلات، وهذا قول مالك.وأرى أن دليله:أن الآية عممت طعامهم فكان عمومها دليلا للمسلمين، ولا التفات إلى ما حكى الله أنه حرمه عليهم ثم أباحه للمسلمين، فكان عموم طعامهم في شرعنا مباحا ناسخا للمحرم عليهم، ولا نصبر إلى الاحتجاج بشرع من قبلنا... إلا إذا لم يكن لنا دليل على حكمه في شرعنا.وقيل:"لا يؤكل ما علمنا تحريمه عليهم بنص القرآن، وهو قول بعض أهل العلم، وقيل به في مذهب مالك، والمعتمد عن مالك كراهة شحوم بقر وغنم اليهود من غير تحريم؛ لأن الله ذكر أنه حرم عليهم الشحوم.
ومن المعلوم أن لا تعمل ذكاة أهل الكتاب ولا إباحة طعامهم فيما حرمه الله علينا بعينه:كالخنزير والدم، ولا ما حرمه علينا بوصفه، الذي ليس بذكاة:كالميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع، إذا كانوا هم يستحلون ذلك، فأما ما كانت ذكاتهم فيه مخالفة لذكاتنا مخالفة تقصير لا مخالفة زيادة فذلك محل نظر كالمضروبة بمحدد على رأسها فتموت، والمفتولة العنق فتتمزق العروق، فقال جمهور العلماء:"لا تؤكل".وقال أبو بكر ابن العربي من المالكية:"تؤكل".وقال في الأحكام:"فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس فالجواب:أن هذه ميتة، وهي حرام بالنص، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن، كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا يريد إباحته عند النصارى ثم قال:ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها؛ هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه، فقلت:تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقا وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا".وأشكل على كثير من الناظرين وجه الجمع بين كلامي ابن العربي، وإنما أراد التفرقة بين ما هو من أنواع قطع الحلقوم والأوداج ولو بالخنق

، وبين نحو الخنق لحبس النفس، ورض الرأس.وقول ابن العربي شذوذ.
وقوله :{وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} لم يعرج المفسرون على بيان المناسبة بذكر {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} والذي أراه أن الله تعالى نبهنا بهذا إلى التيسير في مخالطتهم، فأباح لنا طعامهم، وأباح لنا أن نطعمهم طعامنا، فعلم من هذين الحكمين أن علة الرخصة في تناولنا طعامهم هو الحاجة إلى مخالطتهم، وذلك أيضا تمهيد لقوله بعد {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} لأن ذلك يقتضي شدة المخالطة معهم لتزوج نسائهم والمصاهرة معهم.
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} [5]
عطف {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} على {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} عطف المفرد على المفرد.ولم يعرج المفسرون على بيان المناسبة لذكر حل المحصنات من المؤمنات في أثناء إباحة طعام أهل الكتاب، وإباحة تزوج نسائهم.وعندي:أنه إيماء إلى أنهن أولى بالمؤمنين من محصنات أهل الكتاب، والمقصود هو حكم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب فإن هذه الآية جاءت لإباحة التزوج بالكتابيات.فقوله :{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} عطف على {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فالتقدير:والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب حل لكم.
والمحصنات:النسوة اللاء أحصنهن ما أحصنهن، أي منعهن عن الخنا أو عن الريب، فأطلق الإحصان:على المعصومات بعصمة الأزواج كما في قوله تعالى في سورة النساء[24] عطفا على المحرمات {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ؛ وعلى المسلمات لأن الإسلام وزعهن عن الخنا، قال الشاعر:
ويصدهن عن الخنا الإسلام
وأطلق على الحرائر، لأن الحرائر يترفعن عن الخنا من عهد الجاهلية.ولا يصلح من هذه المعاني هنا الأول، إذ لا يحل تزوج ذات الزوج، ولا الثاني لقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} الذي هو ظاهر في أنهن بعض المؤمنات فتعين معنى الحرية، ففسرها مالك بالحرائر، ولذلك منع نكاح الحر الأمة إلا إذا خشي العنت ولم يجد للحرائر طولا، وجوز

ذلك للعبد، وكأنه جعل الخطاب هنا للأحرار بالقرينة وبقرينة آية النساء[25] {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} وهو تفسير بين ملتئم.وأصل ذلك لعمر بن الخطاب ومجاهد.ومن العلماء من فسر المحصنات هنا بالعفائف، ونقل عن الشعبي وغيره، فمنعوا تزوج غير العفيفة من النساء لرقة دينها وسوء خلقها.
وكذلك القول في تفسير قوله :{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي الحرائر عند مالك، ولذلك منع نكاح إمام أهل الكتاب مطلقا للحر والعبد.والذين فسروا المحصنات بالعفائف منعوا هنا ما منعوا هناك.
وشمل أهل الكتاب:الذميين، والمعاهدين، وأهل الحرب، وهو ظاهر، إلا أن مالكا كره نكاح النساء الحربيات.وعن ابن عباس:"تخصيص الآية بغير نساء أهل الحرب"، فمنع نكاح الحربيات.ولم يذكروا دليله.
والأجور:المهور، وسميت هنا "أجورا" مجازا في معنى الأعواض عن المنافع الحاصلة من آثار عقدة النكاح، على وجه الاستعارة أو المجاز المرسل.والمهر شعار متقادم في البشر للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة.ولو كانت المهور أجورا حقيقة لوجب تحديد مدة الانتفاع ومقداره وذلك مما تنزه عنه عقدة النكاح.
والقول في قوله :{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} كالقول في نظيره {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء:25]تقدم في هذه السورة .
وجملة {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} معترضة بين الجمل.والمقصود التنبيه على أن إباحة تزوج نساء أهل الكتاب لا يقتضي تزكية لحالهم، ولكن ذلك تيسير على المسلمين.وقد ذكر في سبب نزولها أن نساء أهل الكتاب قلن:"لولا أن الله رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا".والمراد بالإيمان الإيمان المعهود وهو إيمان المسلمين الذي بسببه لقبوا بالمؤمنين، فالكفر هنا الكفر بالرسل، أي:ينكر الإيمان، أي ينكر ما يقتضيه الإيمان من المعتقدات، إذ الإيمان صار لقبا لمجموع ما يجب التصديق به.
والحبط بسكون الموحدة والحبوط:فساد شيء كان صالحا، ومنه سمي الحبط بفتحتين مرض يصيب الإبل من جراء أكل الخضر في أول الربيع فتنتفخ أمعاؤها وربما ماتت.وفعل "حبط" يؤذن بأن الحابط كان صالحا فانقلب إلى فساد.والمراد من الفساد هنا الضياع والبطلان، وهو أشد الفساد، فدل فعل " حبط " على أن الأعمال صالحة،

وحذف الوصف لدلالة الفعل عليه.وهذا تشبيه لضياع الأعمال الصالحة بفساد الذوات النافعة، ووجه الشبه عدم انتفاع مكتسبها منها.والمراد ضياع ثوابها وما يترقبه العامل من الجزاء عليها والفوز بها.
والمراد التحذير من الارتداد عن الإيمان، والترغيب في الدخول فيه كذلك، ليعلم أهل الكتاب أنهم لا تنفعهم قرباتهم وأعمالهم، ويعلم المشركون ذلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحص:من أن سورة المائدة هي من آخر السور نزولا، وأنها نزلت في عام حجة الوداع، جزمنا بأن هذه الآية نزلت هنا تذكيرا بنعمة عظيمة من نعم التشريع:وهي منة شرع التيمم عند مشقة التطهر بالماء، فجزمنا بأن هذا الحكم كله مشروع من قبل، وإنما ذكر هنا في عداد النعم التي امتن الله بها على المسلمين، فإن الآثار صحت بأن الوضوء والغسل شرعا مع وجوب الصلاة، وبأن التيمم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ست.وقد تقدم لنا في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} في سورة النساء[43] الخلاف في أن الآية التي نزل فيها شرع التيمم أهي آية سورة النساء، أم آية سورة المائدة.وذكرنا هنالك أن حديث الموطأ من رواية مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية ولكن سماها آية التيمم، وأن القرطبي اختار أنها آية النساء لأنها المعروفة بآية التيمم، وكذلك اختار الواحدي في أسباب النزول، وذكرنا أن صريح رواية عمرو بن حريث عن عائشة:أن الآية التي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمان بن القاسم، ولا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهوا من أحد رواته غير عبد الرحمان بن القاسم وأبيه، أراد أن يذكر آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى

تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} ، وهي آية النساء[43]، فذكر آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية.فتعين تأويله حينئذ بأن تكون آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} قد نزلت قبل نزول سورة المائدة، ثم أعيد نزولها في سورة المائدة، أو أمر الله أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة، والأرجح عندي:أن يكون ما في حديث البخاري وهما من بعض رواته لأن بين الآيتين مشابهة.
فالأظهر أن هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء وشرع التيمم خلفا عن الوضوء بنص القرآن، لأن ذلك لم يسبق نزول قرآن فيه ولكنه كان مشروعا بالسنة.ولا شك أن الوضوء كان مشروعا من قبل ذلك، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة إلا بوضوء.قال أبو بكر ابن العربي في الأحكام:"لا خلاف بين العلماء في أن الآية مدنية، كما أنه لا خلاف أن الوضوء كان مفعولا قبل نزولها غير متلو ولذلك قال علماؤنا:إن الوضوء كان بمكة سنة، معناه كان بالسنة.فأما حكمه فلم يكن قط إلا فرضا .وقد روى ابن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرض الله سبحانه عليه الصلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظهر ذلك اليوم ليصلي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء وتوضأ معلما له وتوضا هو معه فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.وهذا صحيح وإن كان لم يروه أهل الصحيح ولكنهم تركوه لأنهم لم يحتاجوا إليه"اهـ.
وفي سيرة ابن إسحاق ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل اه.وقولهم:الوضوء سنة روي عن عبد الله بن مسعود.وقد تأوله ابن العربي بأنه ثابت بالسنة.قال بعض علمائنا:"ولذلك قالوا في حديث عائشة:فنزلت آية التيمم؛ ولم يقولوا:آية الوضوء؛ لمعرفتهم إياه قبل الآية".
فالوضوء مشروع مع الصلاة لا محالة، إذ لم يذكر العلماء إلا شرع الصلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك، فهذه الآية قررت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن.وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء؛ لأنه من بقايا الحنيفية التي كانت معروفة حتى أيام الجاهلية، وقد وضحنا ذلك في سورة النساء.ولذلك أجمل التعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا {فَاطَّهَّرُوا} ،وقوله هنالك {تَغْتَسِلُوا} [النساء:43]، فتمحضت الآية لشرع التيمم عوضا عن الوضوء.
ومعنى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} إذا عزمتم على الصلاة، لأن القيام يطلق في كلام

العرب بمعنى الشروع في الفعل، قال الشاعر:
فقام يذود الناس عنها بسيفه ... وقال ألا لا من سبيل إلى هند
وعلى العزم على الفعل، قال النابغة:
قاموا فقالوا حمانا غير مقروب
أي عزموا رأيهم فقالوا.والقيام هنا كذلك بقرينة تعديته بـ "إلى" لتضمينه معنى عمدتم إلى أن تصلوا.
وروى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أنه فسر القيام بمعنى الهبوب من النوم، وهو مروي عن السدي.فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية، وكلها تؤول إلى أن إيجاب الطهارة لأجل أداء الصلاة.
وأما ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية.فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كل صلاة لأن الأمر بغسل ما أمر بغسله شرط بـ {إِذَا قُمْتُمْ} فاقتضى طلب غسل هذه الأعضاء عند كل قيام إلى الصلاة.والأمر ظاهر في الوجوب.وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوب الوضوء لكل صلاة ونسبه الطبرسي إلى داود الظاهري، ولم يذكر ذلك ابن حزم في المحلى ولم أره لغير الطبرسي.وقال بريدة بن أبي بردة:"كان الوضوء واجبا على المسلمين لكل صلاة ثم نسخ ذلك عام الفتح بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، وصلى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد".وقال بعضهم:"هذا حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم".وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه، كيف وهي مصدرة بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} والجمهور حملوا الآية على معنى: "إذا قمتم محدثين" ولعلهم استندوا في ذلك إلى آية النساء[43] المصدرة بقوله :{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} إلى قوله ـ {وَلا جُنُباً} الآية.وحملوا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء لكل صلاة على أنه كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصا به غير داخل في هذه الآية، وأنه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكة، ومنهم من حمله على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لكل صلاة.وهو الذي لا ينبغي القول بغيره.والذين فسروا القيام بمعنى القيام من النوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب

الوضوء.وإني لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها؛ لأن تأويلها فيها بين لأنها افتتحت بشرط، هو القيام إلى الصلاة، فعلمنا أن الوضوء شرط في الصلاة على الجملة ثم بين هذا الإجمال بقوله :{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} إلى قوله ـ { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} إلى قوله ـ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فجعل هذه الأشياء موجبة للتيمم إذا لم يوجد الماء، فعلم من هذا بدلالة الإشارة أن امتثال الأمر يستمر إلى حدوث حادث من هذه المذكورات، إما مانع من أصل الوضوء وهو المرض والسفر، وإما رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه وهو الأحداث المذكور بعضها بقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ، فإن وجد الماء فالوضوء وإلا فالتيمم، فمفهوم الشرط وهو قوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى}ومفهوم النفي وهو {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} تأويل بين في صرف هذا الظاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل، وتفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنه لقصد الفضيلة لا للوجوب.
وما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب وما زاد عليه سنة واجبة.وحددت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأن اليد تطلق على ما بلغ الكوع وما إلى المرفق وما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النظافة وسكتت في التيمم فعلمنا أن السكوت مقصود وأن التيمم لما كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل وظاهر العضو، ولذلك اقتصر على قوله :{وَأَيْدِيكُمْ} في التيمم في هذه السورة وفي سورة النساء.وهذا من طريق الاستفادة بالمقابلة، وهو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة وعلماء الأصول فاحتفظ به وألحقه بمسائلهما.
وقد اختلف الأئمة في أن المرافق مغسولة أو متروكة، والأظهر أنها مغسولة لأن الأصل في الغاية في الحد أنه داخل في المحدود.وفي المدارك أن القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحد في المحدود فتوقف فيها.ثم قال للسائل بعد أيام: "قرأت كتاب سيبويه فرأيت أن الحد داخل في المحدود".وفي مذهب مالك:قولان في دخول المرافق في الغسل، وأولاهما دخولهما.قال الشيخ أبو محمد: "وإدخالهما فيه أحوط لزوال تكلف التحديد".وعن أبي هريرة:أنه يغسل يديه إلى الإبطين، وتؤول عليه بأنه أراد إطالة الغرة يوم القيامة.وقيل:"تكره الزيادة".
وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} قرأه نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب بالنصب عطفا على {وَأَيْدِيكُمْ} وتكون جملة {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} معترضة بين المتعاطفين.وكأن فائدة الاعتراض الإشارة إلى ترتيب أعضاء الوضوء لأن

الأصل في الترتيب الذكري أن يدل على الترتيب الوجودي، فالأرجل يجب أن تكون مغسولة؛ إذ حكمة الوضوء وهي النقاء والوضاءة والتنظف والتأهب لمناجاة الله تعالى تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشد تعرضا للوسخ؛ فإن الأرجل تلاقي غبار الطرقات وتفرز الفضلات بكثرة حركة المشي، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بمبالغة الغسل فيها، وقد نادى بأعلى صوته الذي لم يحسن غسل رجليه : "ويل للأعقاب من النار"
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بخفض {وَأَرْجُلَكُمْ} وللعلماء في هذه القراءة تأويلات:منهم من أخذ بظاهرها فجعل حكم الرجلين المسح دون الغسل، وروي هذا عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وعكرمة، والشعبي، وقتادة.وعن أنس بن مالك أنه بلغه أن الحجاج خطب يوما بالأهواز فذكر الوضوء فقال: "إنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما" فسمع ذلك أنس ابن مالك فقال:"صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} ورويت عن أنس رواية أخرى:قال: "نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل"، وهذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسح الرجلين منسوخا بالسنة؛ ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح، فنادى بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار" مرتين.وقد أجمع الفقهاء بعد عصر التابعين على وجوب غسل الرجلين في الوضوء ولم يشذ عن ذلك إلا الإمامية من الشيعة، قالوا: "ليس في الرجلين إلا المسح"، وإلا ابن جرير الطبري:رأى التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين بمنزلة روايتين في الإخبار إذا لم يمكن ترجيح إحداهما على رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجح.واستأنس الشعبي لمذهبه بأن التيمم يمسح فيه ما كان يغسل في الوضوء ويلغى فيه ما كان يمسح في الوضوء.ومن الذين قرأوا بالخفض من تأول المسح في الرجلين بمعنى الغسل، وزعموا أن العرب تسمى الغسل الخفيف مسحا وهذا الإطلاق إن صح لا يصح أن يكون مرادا هنا لأن القرآن فرق في التعبير بين الغسل والمسح.
وجملة {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} إلى قوله ـ {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} مضى القول في نظيره في سورة النساء بما أغنى عن إعادته هنا.
وجملة {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} تعليل لرخصة التيمم، ونفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأن المريد الذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق.

واللام في {لِيَجْعَلَ} داخلة على أن المصدرية محذوفة وهي لام يكثر وقوعها بعد أفعال الإرادة وأفعال مادة الأمر، وهي لام زائدة على الأرجح، وتسمى لام أن.وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء[26]، وهي قريبة في الموقع من موقع لام الجحود.
والحرج:الضيق والشدة، والحرجة:البقعة من الشجر الملتف المتضايق، والجمع حرج.والحرج المنفي هنا هو الحرج الحسي لو كلفوا بطهارة الماء مع المرض أو السفر، والحرج النفسي لو منعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضر أو سفر أو فقد ماء فإنهم يرتاحون إلى الصلاة ويحبونها.
وقوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} إشارة إلى أن من حكمة الأمر بالغسل والوضوء التطهير وهو تطهير حسي لأنه تنظيف، وتطهير نفسي جعله الله فيه لما جعله عبادة؛ فإن العبادات كلها مشتملة على عدة أسرار:منها ما تهتدي إليه الأفهام ونعبر عنها بالحكمة؛ ومنه ما لا يعلمه إلا الله، ككون الظهر أربع ركعات، فإذا ذكرت حكم للعبادات فليس المراد أن الحكم منحصرة فيما علمناه وإنما هو بعض من كل وظن لا يبلغ منتهى العلم، فلما تعذر الماء عوض بالتيمم، ولو أراد الحرج لكلفهم طلب الماء ولو بالثمن أو ترك الصلاة إلى أن يوجد الماء ثم يقضون الجميع.فالتيمم ليس فيه تطهير حسي وفيه التطهير النفسي الذي في الوضوء لما جعل التيمم بدلا عن الوضوء، كما تقدم في سورة النساء.
وقوله:{ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي يكمل النعم الموجودة قبل الإسلام بنعمة الإسلام، أو ويكمل نعمة الإسلام بزيادة أحكامه الراجعة إلى التزكية والتطهير مع التيسير في أحوال كثيرة.فالإتمام إما بزيادة أنواع من النعم لم تكن، وإما بتكثير فروع النوع من النعم.
وقوله :{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي رجاء شكركم إياه.جعل الشكر علة لإتمام النعمة على طريقة المجاز بأن استعيرت صيغة الرجاء إلى الأمر لقصد الحث عليه وإظهاره في صورة الأمر المستقرب الحصول.
[7] {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
عطف على جملة {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6]الآية الواقعة تذييلا لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]الآية.

والكلام مرتبط بما افتتحت به السورة من قوله :{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لأن في التذكير بالنعمة تعريضا بالحث على الوفاء.
ذكرهم بنعم مضت تذكيرا يقصد منه الحث على الشكر وعلى الوفاء بالعهود، والمراد من النعمة جنسها لا نعمة معينة، وهي ما في الإسلام من العز والتمكين في الأرض وذهاب أحوال الجاهلية وصلاح أحوال الأمة.
والميثاق:العهد، وواثق:عاهد.وأطلق فعل واثق على معنى الميثاق الذي أعطاه المسلمون، وعلى وعد الله لهم ما وعدهم على الوفاء بعهدهم.ففي صيغة {وَاثَقَكُمْ} استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
و {إِذْ} اسم زمان عرف هنا بالإضافة إلى قول معلوم عند المخاطبين.
والمسلمون عاهدوا الله في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم عدة عهود:أولها عهد الإسلام كما تقدم في صدر هذه السورة.ومنها عهد المسلمين عندما يلاقون الرسول عليه الصلاة والسلام وهو البيعة أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصونه في معروف، وهو عين العهد الذي ذكره القرآن في سورة الممتحنة عند ذكر بيعة النساء المؤمنات، كما ورد في الصحيح أنه كان يبايع المؤمنين على مثل ذلك.ومنها بيعة الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم الحج سنة ثلاث عشرة من البعثة قبل الهجرة، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا التقوا برسول الله بعد الموسم في العقبة ومعهم العباس بن عبد المطلب، فبايعوا على أن يمنعوا رسول الله كما يمنعون نساءهم وأبناءهم، وعلى أنهم يأوونه إذا هاجر إليهم.وقد تقدم هذه البيعة بيعتان إحداهما سنة إحدى عشرة من البعثة، بايعه نفر من الخزرج في موسم الحج.والثانية سنة اثنتي عشرة من البعثة، بايع اثنا عشر رجلا من الخزرج في موسم الحج بالعقبة ليبلغوا الإسلام إلى قومهم.ومن المواثيق ميثاق بيعة الرضوان في الحديبية تحت الشجرة سنة ست من الهجرة، وفي كل ذلك واثقوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره.
ومعنى {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} الاعتراف بالتبليغ، والاعتراف بأنهم سمعوا ما طلب منهم العهد عليه.فالسمع أريد به العلم بما واثقوا عليه، ويجوز أن يكون {سَمِعْنَا} مجازا في الامتثال، {وَأَطَعْنَا} تأكيدا له.وهذا من استعمال سمع، ومنه قولهم:بايعوا على السمع والطاعة.وقال النابغة يذكر حالة من لدغته حية فأخذوا يرقونه:

تناذرها الراقون من سوء سمعها
أي من سوء طاعتها للرقية، أي عدم نجاح الرقية في سمها.وعقب ذلك بالأمر بالتقوى؛ لأن النعمة تستحق أن يشكر مسديها.وشكر الله تقواه.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تذييل للتحذير من إضمار المعاصي ومن توهم أن الله لا يعلم إلا ما يبدو منهم.وحرف "إن" أفاد أن الجملة علة لما قبلها على الأسلوب المقرر في البلاغة في قول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
[8] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
لما ذكرهم بالنعمة عقب ذلك بطلب الشكر للمنعم والطاعة له، فأقبل على خطابهم بوصف الإيمان الذي هو منبع النعم الحاصلة لهم.
فالجملة استئناف نشأ عن ترقب السامعين بعد تعداد النعم.وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة النساء، ولكن آية سورة النساء[135] تقول {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} وما هنا بالعكس.
ووجه ذلك أن الآية التي في سورة النساء وردت عقب آيات القضاء في الحقوق المبتدأة بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105]، ثم تعرضت لقضية بني أبيرق في قوله: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} [النساء:105]، ثم أردفت بأحكام المعاملة بين الرجال والنساء، فكان الأهم فيها أمر العدل فالشهادة، فلذلك قدم فيها {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135]؛ فالقسط فيها هو العدل في القضاء، ولذلك عدي إليه بالباء، إذ قال: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}.
وأما الآية التي نحن بصدد تفسيرها فهي واردة بعد التذكير بميثاق الله، فكان المقام الأول للحض على القيام لله، أي الوفاء له بعهودهم له، ولذلك عدي قوله :{قَوَّامِينَ} باللام.وإذ كان العهد شهادة أتبع قوله :{قَوَّامِينَ لِلَّهِ} بقوله: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} ، أي شهداء بالعدل شهادة لا حيف فيها، وأولى شهادة بذلك شهادتهم لله تعالى.وقد حصل

من مجموع الآيتين:وجوب القيام بالعدل، والشهادة به، ووجوب القيام لله، والشهادة له.
وتقدم القول في معنى {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} قريبا، ولكنه هنا صرح بحرف "على" وقد بيناه هنالك.والكلام على العدل تقدم في قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58].
والضمير في قوله :{هُوَ أَقْرَبُ} عائد إلى العدل المفهوم من {تَعْدِلُوا} ، لأن عود الضمير يكتفى فيه بكل ما يفهم حتى قد يعود على ما لا ذكر له، نحو {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:23] على أن العرب تجعل الفعل بمعنى المصدر في مراتب
المرتبة الأولى:أن تدخل عليه "أن" المصدرية.
الثانية:أن تحذف "أن" المصدرية ويبقى النصب بها، كقول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
بنصب "أحضر" في رواية، ودل عليه عطف "وأن أشهد" .
الثالثة:أن تحذف "أن" ويرفع الفعل عملا على القرينة، كما روي بيت طرفة أحضر برفع أحضر، ومنه قول المثل "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" ، وفي الحديث"تحمل لأخيك الركاب صدقة".
الرابعة:عود الضمير على الفعل مرادا به المصدر، كما في هذه الآية.وهذه الآية اقتصر عليها النحاة في التمثيل حتى يخيل للناظر أنه مثال فذ في بابه، وليس كذلك بل منه قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف:4]وأمثلته كثيرة:منها قوله تعالى :{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} [الكهف:5]، فضمير {بِهِ} عائد إلى القول المأخوذ من {قَالُوا} ، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، فضمير {فَهُوَ} عائد للتعظيم المأخوذ من فعل {يُعَظِّمْ} ، وقول بشار:
والله رب محمد ... ما إن غدرت ولا نويته
أي الغدر.
ومعنى {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي للتقوى الكاملة التي لا يشذ معها شيء من الخير، وذلك أن العدل هو ملاك كبح النفس عن الشهوة وذلك ملاك التقوى.
[10,9] {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
عقب أمرهم بالتقوى بذكر ما وعد الله به المتقين ترغيبا في الامتثال، وعطف عليه حال أضداد المتقين ترهيبا.فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا.ومفعول: {وَعَدَ} الثاني محذوف تنزيلا للفعل منزلة المتعدي إلى واحد.
وجملة: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} مبينة لجملة: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} ، فاستغني بالبيان عن المفعول، فصار التقدير:وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرا عظيما لهم.وإنما عدل عن هذا النظم لما في إثبات المغفرة لهم بطريق الجملة الاسمية من الدلالة على الثبات والتقرر.
والقصر في قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} قصر ادعائي لأنهم لما كانوا أحق الناس بالجحيم وكانوا خالدين فيه جعلوا كالمنفردين به، أو هو قصر حقيقي إذا كانت إضافة {أَصْحَابُ} مؤذنة بمزيد الاختصاص بالشيء كما قالوه في مرادفها، وهو ذو كذا، كما نبهوا عليه في قوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:4]فيكون وجه هذا الاختصاص أنهم الباقون في الجحيم أبدا.
[11] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
بعد قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة:7]أعيد تذكيرهم بنعمة أخرى عظيمة على جميعهم إذ كانت فيها سلامتهم، تلك هي نعمة إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم لأنها نعمة يحصل بها ما يحصل من النصر دون تجشم مشاق الحرب ومتالفها.وافتتاح الاستئناف بالنداء ليحصل إقبال السامعين على سماعه.ولفظ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وما معه من ضمائر الجمع يؤذن بأن الحادثة تتعلق بجماعة المؤمنين كلهم.وقد أجمل النعمة ثم بينها بقوله: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ}.
وقد ذكر المفسرون احتمالات في تعيين القوم المذكورين في هذه الآية.والذي يبدو لي أن المراد قوم يعرفهم المسلمون يومئذ؛ فيتعين أن تكون إشارة إلى وقعة مشهورة أو قريبة من تاريخ نزول هذه السورة.ولم أر فيما ذكروه ما تطمئن له النفس.والذي أحسب أنها تذكير بيوم الأحزاب؛ لأنها تشبه قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:109]الآية.

ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما كان من عزم أهل مكة على الغدر بالمسلمين حين نزول المسلمين بالحديبية عام صلح الحديبية ثم عدلوا عن ذلك.وقد أشارت إليها الآية {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح:24]الآية.ويجوز أن تكون الإشارة إلى عزم أهل خيبر وأنصارهم من غطفان وبني أسد على قتال المسلمين حين حصار خيبر، ثم رجعوا عن عزمهم وألقوا بأيديهم، وهي التي أشارت إليها آية {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح:20]وعن قتادة:سبب الآية ما همت به بنو محارب وبنو ثعلبة يوم ذات الرقاع من الحمل على المسلمين في صلاة العصر فأشعر الله رسوله بذلك، ونزلت صلاة الخوف، وكف الله أيديهم عن المؤمنين.
وأما ما يذكر من غير هذا مما هم به بنو النضير من قتل النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءهم يستعينهم على دية العامريين فتآمروا على أن يقتلوه، فأوحى الله إليه بذلك فخرج هو وأصحابه.وكذا ما يذكر من أن المراد قصة الأعرابي الذي اخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائل في منصرفه من إحدى غزاوته؛ فذلك لا يناسب خطاب الذين آمنوا، ولا يناسب قصة الأعرابي لأن الذي أهم بالقتل واحد لا قوم.
وبسط اليد مجاز في البطش قال تعالى: {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} [الممتحنة:2] ويطلق على السلطة مجازا أيضا، كقولهم:يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل من بسطت يده في الأرض، وعلى الجود، كما في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] .وهو حقيقة في محاولة الإمساك بشيء، كما في قوله تعالى حكاية عن ابن آدم: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28].
وأما كف اليد فهو مجاز عن الإعراض عن السوء خاصة {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح:20].
والأمر بالتقوى عقب ذلك لأنها أظهر الشكر، فعطف الأمر بالتقوى بالواو للدلالة على أن التقوى مقصودة لذاتها، وأنها شكر لله بدلالة وقوع الأمر عقب التذكير بنعمة عظمى.
وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أمر لهم بالاعتماد على الله دون غيره.وذلك التوكل يعتمد امتثال الأوامر واجتناب المنهيات فناسب التقوى.وكان من مظاهره تلك النعمة التي ذكروا بها.

[12] {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
ناسب ذكر ميثاق بني إسرائيل عقب ذكر ميثاق المسلمين من قوله: {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة:7]. تحذيرا من أن يكون ميثاقنا كميثاقهم.ومحل الموعظة هو قوله: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}. وهكذا شأن القرآن في التفنن ومجيء الإرشاد في قالب القصص، والتنقل من أسلوب إلى أسلوب.
وتأكيد الخبر الفعلي بقد وباللام للاهتمام به، كما يجيء التأكيد بإن للاهتمام وليس ثم متردد ولا منزل منزلته.وذكر مواثيق بني إسرائيل تقدم في سورة البقرة.
والبعث أصله التوجيه والإرسال، ويطلق مجازا على الإقامة والإنهاض كقوله: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:25] وقوله: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} [الروم:56].ثم شاع هذا المجاز حتى بني عليه مجاز آخر بإطلاقه على الإقامة المجازية: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164]، ثم أطلق على إثارة الأشياء وإنشاء الخواطر في النفس.قال متمم بن نويرة:
فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى
أي أن الحزن يثير حزنا آخر.وهو هنا يحتمل المعنى الأول والمعنى الثالث.
والعدول عن طريق الغيبة من قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ} إلى طريق التكلم في قوله: {وَبَعَثْنَا} التفات.
والنقيب فعيل بمعنى فاعل:إما من نقب إذا حفر مجازا، أو من نقب إذا بعث {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} [ق:36] "، وعلى الأخير يكون صوغ فعيل منه على خلاف القياس، وهو وارد كما صيغ سميع من أسمع في قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع أي المسمع.

ووصفه تعالى بالحكيم بمعنى المحكم للأمور.فالنقيب الموكول إليه تدبير القوم، لأن ذلك يجعله باحثا عن أحوالهم؛ فيطلق على الرئيس وعلى قائد الجيش وعلى الرائد، ومنه ما في حديث بيعة العقبة أن نقباء الأنصار يومئذ كانوا اثني عشر رجلا.
والمراد بنقباء بني إسرائيل هنا يجوز أن يكونوا رؤساء جيوش، ويجوز أن يكونوا روادا وجواسيس، وكلاهما واقع في حوادث بني إسرائيل.
فأما الأول فيناسب أن يكون البعث معه بمعنى الإقامة، وقد أقام موسى عليه السلام من بني إسرائيل اثني عشر رئيسا على جيش بني إسرائيل على عدد الأسباط المجندين، فجعل لكل سبط نقيبا، وجعل لسبط يوسف نقيبين، ولم يجعل لسبط لاوي نقيبا، لأن اللاويين كانوا غير معدودين في الجيش إذ هم حفظة الشريعة، فقد جاء في أول سفر العدد:"كلم الله موسى:أحصوا كل جماعة إسرائيل بعشائرهم بعدد الأسماء من ابن عشرين فصاعدا كل خارج للحرب في إسرائيل حسب أجنادهم، تحسبهم أنت وهارون، ويكون معكما رجل لكل سبط رؤوس ألوف إسرائيل وكلم الرب موسى قائلا:"أما سبط لاوي فلا تعده بل وكل اللاويين على مسكن الشهادة وعلى جميع أمتعته".وكان ذلك في الشهر الثاني من السنة الثانية من خروجهم من مصر في برية سينا.
وأما الثاني فيناسب أن يكون البعث فيه بمعناه الأصلي، فقد بعث موسى اثني عشر رجلا من أسباط إسرائيل لاختبار أحوال الأمم التي حولهم في أرض كنعان، وهم غير الاثني عشر نقيبا الذين جعلهم رؤساء على قبائلهم.ومن هؤلاء يوشع بن نون من سبط أفرايم، وكالب بن يفنة من سبط يهوذا، وهما الوارد ذكرهما في قوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23]، كما سيأتي في هذه السورة.وقد ذكرت أسماؤهم في الفصل الثالث عشر من سفر العدد.والظاهر أن المراد هنا النقباء الذين أقيموا لجند إسرائيل.
والمعية في قوله :{إِنِّي مَعَكُمْ} معية مجازية، تمثيل للعناية والحفظ والنصر، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]وقال :{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4].والظاهر أن هذا القول وقع وعدا بالجزاء على الوفاء بالميثاق.
وجملة {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} الآية.استئناف محض ليس منها شيء يتعلق ببعض ألفاظ الجملة التي قبلها وإنما جمعهما العامل، وهو فعل القول، فكلتاهما مقول، ولذلك

يحسن الوقف على قوله: {إِنِّي مَعَكُمْ}، ثم يستأنف قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} " إلى آخره.ولام {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} موطئة للقسم، ولام {لَأُكَفِّرَنَّ} لام جواب القسم، ولعل هذا بعض ما تضمنه الميثاق، كما أن قوله: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} بعض ما شمله قوله {إِنِّي مَعَكُمْ}
والمراد بالزكاة ما كان مفروضا على بني إسرائيل:من إعطائهم عشر محصولات ثمارهم وزرعهم، مما جاء في الفصل الثامن عشر من سفر العدد، والفصل الرابع عشر والفصل التاسع عشر من سفر التثنية.وقد مضى القول فيه عند قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} في سورة البقرة.[43]
والتعزيز:النصر.يقال:عزره مخففا، وعزره مشددا، وهو مبالغة في عزره عزرا إذا نصره، وأصله المنع، لأن الناصر يمنع المعتدي على منصوره.
ومعنى: {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} الصدقات غير الواجبة.
وتكفير السيئات:مغفرة ما فرط منهم من التعاصي للرسول فجعل الطاعة والتوبة مكفرتين عن المعاصي.
وقوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي فقد حاد عن الطريق المستقيم، وذلك لا عذر للسائر فيه حين يضله، لأن الطريق السوي لا يحوج السائر فيه إلى الروغان في ثنيات قد تختلط عليه وتفضي به إلى التيه في الضلال.
[13] {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} قد تقدم الكلام على نظيره في قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ} [النساء:155] وقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} في سورة النساء.[160]
واللعن هو الإبعاد، والمراد هنا الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن هديه إذ استوجبوا غضب الله لأجل نقض الميثاق.
{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} قساوة القلب مجاز، إذ أصلها الصلابة والشدة، فاستعيرت

لعدم تأثر القلوب بالمواعظ والنذر.وقد تقدم في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74]وقرأ الجمهور: {قَاسِيَةً} بصيغة اسم الفاعل.وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف:{قسية}فيكون بوزن فعيلة من قسا يقسو.
وجملة {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} استئناف أو حال من ضمير {لَعَنَّاهُمْ}. والتحريف:الميل بالشيء إلى الحرف، والحرف هو الجانب.وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلق به إلى معاني العمل والهدى وضده؛ فمن ذلك قولهم:السلوك، والسيرة؛ والسعي؛ ومن ذلك قولهم:الصراط المستقيم، وصراطا سويان وسواء السبيل، وجادة الطريق، والطريقة الواضحة، وسواء الطريق؛ وفي عكس ذلك قالوا:المرواغة، والانحراف، وقالوا:بنيات الطريق، ويعبد الله على حرف،ويشعب الأمور.وكذلك ما هنا، أي يعدلون بالكلم النبوية عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها، وهو تبديل معاني كتبهم السماوية.وهذا التحريف يكون غالبا بسوء التأويل اتباعا للهوى، ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواء العامة، قيل:ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم.وعن ابن عباس:ما يدل على أن التحريف فساد التأويل.وقد تقدم القول في ذلك عند قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} في سورة النساء[46].وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم.
وجملة {وَنَسُوا حَظّاً} معطوفة على جملة {يُحَرِّفُونَ} . والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالبا.وعبر عنه بالفعل الماضي لأن النسيان لا يتجدد، فإذا حصل مضى، حتى يذكره مذكر.وهو وإن كان مرادا به الإهمال فإن في صوغه بصيغة الماضي ترشيحا للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى.
والحظ النصيب، وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذم.وما ذكروا به هو التوراة.
وقد جمعت الآية من الدلائل على قلة اكتراثهم بالدين ورقة اتباعهم ثلاثة أصول من ذلك:وهي التعمد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال، والغرور بسوء التأويل، والنسيان الناشئ عن قلة تعهد الدين وقلة الاهتمام به.
والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتعظ من الوقوع في مثلها.وقد حاط علماء الإسلام رضي الله عنهم هذا الدين من كل مسارب التحريف، فميزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقابا للتمييز بينها، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس:

يجوز أن يقال:هو دين الله، ولا يجوز أن يقال:قاله الله.
وقوله: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.وفعل {لا تَزَال} يدل على استمرار، لأن المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنه في قوة أن يقال:يدوم اطلاعك.فالاطلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر، والاطلاع هنا كناية عن المطلع عليه، أي لا يزالون يخونون فتطلع على خيانتهم.
والاطلاع افتعال من طلع.والطلوع:الصعود.وصيغة الافتعال فيه لمجرد المبالغة، إذ ليس فعله متعديا حتى يصاغ له مطاوع، فاطلع بمنزلة تطلع، أي تكلف الطلوع لقصد الإشراف.
والمعنى:ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم.
والخائنة:الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة، كالعاقبة، والطاغية.ومنه {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر:19] وأصل الخيانة:عدم الوفاء بالعهد، ولعل أصلها إظهار خلاف الباطن.وقيل:{خَائِنَةٍ} صفة لمحذوف، أي فرقة خائنة.
واستثنى قليلا منهم جبلوا على الوفاء، وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب، قال تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب:26]وأمره بالعفو عنهم والصفح حمل على مكارم الأخلاق، وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنبي صلى الله عليه وسلم.وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدينية، فلا يعارض هذا قوله في براءة {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] لأن تلك أحكام التصرفات العامة، فلا حاجة إلى القول بأن هذه الآية نسخت بآية براءة.
[14] {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
ذكر بعد ميثاق اليهود ميثاق النصارى.وجاءت الجملة على شبه اشتغال العامل عن المعمول بضميره حيث قدم متعلق {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} وفيه اسم ظاهر، وجيء بضميره مع العامل للنكتة الداعية للاشتغال من تقرير المتعلق وتثبيته في الذهن إذ يتعلق الحكم باسمه

الظاهر وبضميره، فالتقدير:وأخذنا، من الذين قالوا:إنا نصارى، ميثاقهم، وليس تقديم المجرور بالحرف لقصد الحصر.وقيل:ضمير {مِيثَاقَهُمْ} عائد إلى اليهود، والإضافة على معنى التشبيه، أي من النصارى أخذنا ميثاق اليهود، أي مثله، فهو تشبيه بليغ حذفت الأداة فانتصب المشبه به.وهذا بعيد، لأن ميثاق اليهود لم يفصل في الآية السابقة حتى يشبه به ميثاق النصارى.
وعبر عن النصارى بـ {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} هنا وفي قوله الآتي: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82]تسجيلا عليهم بأن اسم دينهم مشير إلى أصل من أصوله، وهو أن يكون أتباعه أنصارا لما يأمر به الله، {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف:14]ومن جملة ذلك أن ينصروا القائم بالدين بعد عيسى من أتباعه، مثل بولس وبطرس وغيرهما من دعاة الهدى؛ وأعظم من ذلك كله أن ينصروا النبي المبشر به في التوراة والإنجيل الذي يجيء بعد عيسى قبل منتهى العالم ويخلص الناس من الضلال {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران:81]الآية.فجميع أتباع الرسل قد لزمهم ما التزمه أنبياؤهم وبخاصة النصارى، فهذا اللقب، وهو النصارى، حجة عليهم قائمة بهم متلبسة بجماعتهم كلها.
ويفيد لفظ {قَالُوا} بطريق التعريض الكنائي أن هذا القول موفى به وأنه يجب أن يوفى به.هذا إذا كان النصارى جمعا لناصري أو نصراني على معنى النسبة إلى النصر مبالغة، كقولهم:شعراني، ولحياني، أي الناصر الشديد النصر؛ فإن كان النصارى اسم جمع ناصري، بمعنى المنسوب إلى الناصري، والناصري عيسى، لأنه ظهر من مدينة الناصرة.فالناصري صفة عرف بها المسيح عليه السلام في كتب اليهود لأنه ظهر بدعوة الرسالة من بلد الناصرة في فلسطين؛ فلذلك كان معنى النسبة إليه النسبة إلى طريقته وشرعه؛ فكل من حاد عن شرعه لم يكن حقيقا بالنسبة إليه إلا بدعوى كاذبة، فلذلك قال {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وقيل:إن النصارى جمع نصراني، منسوب إلى النصر:كما قالوا:شعراني، ولحياني، لأنهم قالوا:نحن أنصار الله.وعليه فمعنى {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} أنهم زعموا ذلك بقولهم ولم يؤيدوه بفعلهم.
وقد أخذ الله على النصارى ميثاقا على لسان المسيح عليه السلام.وبعضه مذكور في مواضع من الأناجيل.

وقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ} حقيقة الإغراء حث أحد على فعل وتحسينه إليه حتى لا يتوانى في تحصيله؛ فاستعير الإغراء لتكوين ملازمة العداوة والبغضاء في نفوسهم أي لزومهما لهم فيما بينهم، شبه تكوين العداوة والبغضاء مع استمرارهما فيهم بإغراء أحد أحدا بعمل يعمله تشبيه معقول بمحسوس.ولما دل الظرف، وهو {بينهم}، على أنهما أغريتا بهم استغني عن ذكر متعلق{أغرينا}وتقدير الكلام:فأغرينا العداوة والبغضاء بهم كائنتين بينهم.ويشبه أن يكون العدول على تعدية " أغرينا " بحرف الجر إلى تعليقه بالظرف قرينة أو تجريدا لبيان أن المراد بـ {أغرينا} ألقينا.
وما وقع في الكشاف من تفسير {أغرينا} بمعنى ألصقنا تطوح عن المقصود إلى رائحة الاشتقاق من الغراء، وهو الدهن الذي يلصق الخشب به، وقد تنوسي هذا المعنى في الاستعمال.والعداوة والضمير المجرور بإضافة بين إليه يعود إلى النصارى لتنتسق الضمائر.
والعداوة والبغضاء اسمان لمعنيين من جنس الكراهية الشديدة، فهما ضدان للمحبة.
وظاهر عطف أحد الاسمين على الآخر في مواضع من القرآن، في هذه الآية وفي الآيتين بعدها في هذه السورة وفي آية سورة الممتحنة، أنهما ليسا من الأسماء المترادفة؛ لأن التزام العطف بهذا الترتيب يبعد أن يكون لمجرد التأكيد، فليس عطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف المرادف لمجرد التأكيد كقول عدي:
وألفى قولها كذبا ومينا
وقد ترك علماء اللغة بيان التفرقة بين العداوة والبغضاء، وتابعهم المفسرون على ذلك؛ فلا تجد من تصدى للفرق بينهما سوى الشيخ ابن عرفه التونسي، فقال في تفسيره:"العداوة أعم من البغضاء لأن العداوة سبب في البغضاء؛ فقد يتعادى الأخ مع أخيه ولا يتمادى على ذلك حتى تنشأ عنه المباغضة، وقد يتمادى على ذلك"اهـ.
ووقع لأبي البقاء الكفوي في كتاب الكليات أنه قال:"العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض، وقد يبغض من ليس بعدو."وهو يخالف كلام ابن عرفة.وفي تعليليهما مصادرة واضحة، فإن كانت العداوة أعم من البغضاء زادت فائدة العطف لأنه يصير في معنى الاحتراس، وإن كانت العداوة أخص من البغضاء لم يكن العطف إلا للتأكيد، لأن التأكيد يحصل بذكر لفظ يدل على بعض مطلق من معنى الموكد، فيتقرر

المعنى ولو بوجه أعم أو أخص، وذلك يحصل به معنى التأكيد.
وعندي:أن كلا الوجهين غير ظاهر، والذي أرى أن بين معنيي العداوة والبغضاء التضاد والتباين؛ فالعداوة كراهية تصدر عن صاحبها:معاملة بجفاء، أو قطيعة، أو إضرار، لأن العداوة مشتقة من العدو وهو التجاوز والتباعد، فإن مشتقات مادة "ع د و" كلها تحوم حول التفرق وعدم الوئام.وأما البغضاء فهي شدة البغض، وليس في مادة "ب غ ض" إلا معنى جنس الكراهية فلا سبيل إلى معرفة اشتقاق لفظها من مادتها.نعم يمكن أن يرجع فيه إلى طريقة القلب، وهو من علامات الاشتقاق، فإن مقلوب بغض يكون غضب لا غير، فالبغضاء شدة الكراهية غير مصحوبة بعدو، فهي مضمرة في النفس.فإذا كان كذلك لم يصح اجتماع معنيي العداوة والبغضاء في موصوف واحد في وقت واحد فيتعين أن يكون إلقاؤهما بينهم على معنى التوزيع، أي أغرينا العداوة بين بعض منهم والبغضاء بين بعض آخر.فوقع في هذا النظم إيجاز بديع، لأنه يرجع إلى الاعتماد على علم المخاطبين بعدم استقامة اجتماع المعنيين في موصوف واحد.
ومن اللطائف ما ذكره ابن هشام، في شرح قصيدة كعب بن زهير عند قول كعب:
لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل
أن الزمخشري قال:إنه رأى نفسه في النوم يقول:العداوة مشتقة من عدوة الوادي، أي جانبه، لأن المتعاديين يكون أحدهما مفارقا للآخر فكأن كل واحد منهما على عداوة اه.فيكون مشتقا من الاسم الجامد وهو بعيد.
وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم كان عقابا في الدنيا لقوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} جزاء على نكثهم العهد.
وأسباب العداوة والبغضاء شدة الاختلاف:فتكون من اختلافهم في نحل الدين بين يعاقبه، وملكانية، ونسطورية، وهراتقة "بروتستانت" ؛ وتكون من التحاسد على السلطان ومتاع الدنيا، كما كان بين ملوك النصرانية، وبينهم وبين رؤساء ديانتهم.
فإن قيل:كيف أغريت بينهم العداوة وهم لم يزالوا إلبا على المسلمين? فجوابه:أن العداوة ثابتة بينهم في الدين بانقسامهم فرقا، كما قدمناه في سورة النساء[171] عند قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}، وذلك الانقسام يجر إليهم العداوة وخذل بعضهم بعضا.ثم إن دولهم كانت منقسمة ومتحاربة، ولم تزل كذلك، وإنما تألبوا في

الحروب الصليبية على المسلمين ثم لم يلبثوا أن تخاذلوا وتحاربوا، ولا يزال الأمر بينهم كذلك إلى الآن.وكم ضاعت مساعي الساعين في جمعهم على كلمة واحدة وتأليف اتحاد بينهم، وكان اختلافهم لطفا بالمسلمين في مختلف عصور التاريخ الإسلامي، على أن اتفاقهم على أمة أخرى لا ينافي تمكن العداوة فيما بينهم، وكفى بذلك عقابا لهم على نسيانهم ما ذكروا به.
وقيل:الضمير عائد على الفريقين، أي بين اليهود والنصارى، ولا إشكال في تجسم العداوة بين وقوله: {وسوف ينبئهم الله} تهديد لأن المراد بالإنباء إنباء المؤاخذة بصنيعهم كقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:135]وهذا يحتمل أن يحصل في الآخرة فالإنباء على حقيقنه، ويحتمل أن يحصل في الدنيا، فالإنباء مجاز في تقدير الله لهم حوادث يعرفون بها سوء صنيعتهم.
[16,15] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16]
بعد أن ذكر من أحوال فريقي أهل الكتاب وأنبائهم ما لا يعرفه غير علمائهم وما لا يستطيعون إنكاره أقبل عليهم بالخطاب بالموعظة؛ إذ قد تهيأ من ظهور صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ما يسهل إقامة الحجة عليهم، ولذلك ابتدئ وصف الرسول بأنه يبين لهم كثيرا مما كانوا يخفون من الكتاب، ثم أعقبه بأنه يعفو عن كثير.
ومعنى {يعفو} يعرض ولا يظهر، وهو أصل مادة العفو.يقال:عفا الرسم بمعنى لم يظهر، وعفاه:أزال ظهوره.ثم قالوا:عفا عن الذنب، بمعنى أعرض، ثم قالوا:عفا عن المذنب، بمعنى ستر عنه ذنبه، ويجوز أن يراد هنا معنى الصفح والمغفرة، أي ويصفح عن ذنوب كثيرة، أي يبين لكم دينكم ويعفو عن جهلكم.
وجملة {قد جاءكم من الله نور} بدل من جملة {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} بدل اشتمال، لأن مجيء الرسول اشتمل على مجيء الهدى والقرآن، فوزانها وزان "علمه" من قولهم:نفعني زيد علمه، ولذلك فصلت عنها، وأعيد حرف "قد" الداخل على الجملة المبدل منها

زيادة في تحقيق مضمون جملة البدل، لأن تعلق بدل الاشتمال بالمبدل منه أضعف من تعلق البدل المطابق.
وضمير{به}راجع إلى الرسول أو إلى الكتاب المبين.
وسبل السلام:طرق السلامة التي لا خوف على السائر فيها.وللعرب طرق معروفة بالأمن وطرق معروفة بالمخافة، مثل وادي السباع، الذي قال فيه سحيم بن وثيل الرياحي:
ومررت على وادي السباع ولا أرى ... كوادي السباع حين يظلم واديا
أقل به ركب أتوه تثية
وأخوف إلا ما وقى الله ساريا فسبيل السلام استعارة لطرق الحق.والظلمات والنور استعارة للضلال والهدى.والصراط المستقيم مستعار للإيمان.
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
هذا من ضروب عدم الوفاء بميثاق الله تعالى.كان أعظم ضلال النصارى ادعاؤهم إلهية عيسى عليه السلام، فإبطال زعمهم ذلك هو أهم أحوال إخراجهم من الظلمات إلى النور وهديهم إلى الصراط المستقيم، فاستأنف هذه الجملة {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} استئناف البيان.وتعين ذكر الموصول هنا لأن المقصود بيان ما في هذه المقالة من الكفر لا بيان ما عليه النصارى من الضلال، لأن ضلالهم حاصل لا محالة إذا كانت هذه المقالة كفرا.
وحكى قولهم بما تؤديه في اللغة العربية جملة {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ، وهو تركيب دقيق المعنى لم يعطه المفسرون حقه من بيان انتزاع المعنى المراد به، من تركيبه، من الدلالة على اتحاد مسمى هذين الاسمين بطريق تعريف كل من المسند إليه والمسند بالعلمية بقرينة السياق الدالة على أن الكلام ليس مقصودا للإخبار بأحداث لذوات، المسمى في الاصطلاح:حمل اشتقاق بل هو حمل مواطأة، وهو ما يسمى في المنطق:حمل "هو هو" ، وذلك حين يكون كل من المسند إليه والمسند معلوما للمخاطب ويراد

بيان أنها شيء واحد، كقولك حين تقول:قال زياد، فيقول سامعك:من هو زياد، فتقول:زياد هو النابغة، ومثله قولك:ميمون هو الأعشى، وابن أبي السمط هو مروان بن أبي حفصة، والمرعث هو بشار، وأمثال ذلك.فمجرد تعريف جزأي الإسناد كاف في إفادة الاتحاد، وإقحام ضمير الفصل بين المسند إليه والمسند في مثل هذه الأمثلة استعمال معروف لا يكاد يتخلف قصدا لتأكيد الاتحاد، فليس في مثل هذا التركيب إفادة قصر أحد الجزأين على الآخر، وليس ضمير الفصل فيه بمفيد شيئا سوى التأكيد.وكذلك وجود حرف "إن" لزيادة التأكيد، ونظيره قوله رويشد بن كثير الطائي من شعراء الحماسة:
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا ... قولا يبرئكم إني أنا الموت
فلا يأتي في هذا ما لعلماء المعاني من الخلاف في أن ضمير الفصل هل يفيد قصر المسند إليه، وهو الأصح؛ أو العكس، وهو قليل، لأن مقام اتحاد المسميين يسوي الاحتمالين ويصرف عن إرادة القصر.وقد أشار إلى هذا المعنى إشارة خفية قول صاحب الكشاف عقب قوله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} معناه"بت القول على أن حقيقة الله هو المسيح لا غير"ومحل الشاهد من كلام الكشاف ما عدا قوله "لا غير" ، لأن الظاهر أن "لا غير" يشير إلى استفادة معنى القصر من مثل هذا التركيب، وهو بعيد.وقد يقال:إنه أراد أن معنى الانحصار لازم بمعنى الاتحاد وليس ناشئا عن صيغة قصر.
ويفيد قولهم هذا أنهم جعلوا حقيقة الإله الحق المعلوم متحدة بحقيقة عيسى عليه السلام بمنزلة اتحاد الاسمين للمسمى الواحد، ومرادهم امتزاج الحقيقة الإلهية في ذات عيسى.ولما كانت الحقيقة الإلهية معنونة عند جميع المتدينين باسم الجلالة جعل القائلون اسم الجلالة المسند إليه، واسم عيسى المسند ليدلوا على أن الله اتحد بذات المسيح.
وحكاية القول عنهم ظاهرة في أن هذا قالوه صراحة عن اعتقاد، إذ سرى لهم القول باتحاد اللاهوت بناسوت عيسى إلى حد أن اعتقدوا أن الله سبحانه قد اتحد بعيسى وامتزج وجود الله بوجود عيسى.وهذا مبالغة في اعتقاد الحلول.وللنصارى في تصوير هذا الحلول أو الاتحاد أصل، وهو أن الله تعالى جوهر واحد، هو مجموع ثلاثة أقانيم جمع أقنوم بضم الهمزة وسكون القاف وهو كلمة رومية معناها:الأصل، كما في القاموس؛ وهذه الثلاثة هي أقنوم الذات، وأقنوم العلم وأقنوم الحياة، وانقسموا في بيان اتحاد هذه الأقانيم بذات عيسى إلى ثلاثة مذاهب:مذهب الملكانية وهم الجاثلقية

"الكاثوليك" ، ومذهب النسطورية، ومذهب اليعقوبية.وتفصيله في كتاب المقاصد.وتقدم مفصلا عند تفسير قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} في سورة النساء[171}وهذا قول اليعاقبة من النصارى، وهم أتباع يعقوب البرذعاني، وكان راهبا بالقسطنطينية، وقد حدثت مقالته هذه بعد مقالة الملكانية، ويقال لليعاقبة:أصحاب الطبيعة الواحدة، وعليها درج نصارى الحبشة كلهم.ولا شك أن نصارى نجران كانوا على هذه الطريقة.
ولقرب أصحابها الحبشة من بلاد العرب تصدى القرآن لبيان ردها هنا وفي الآية الآتية في هذه السورة.وقد بينا حقيقة معتقد النصارى في اتحاد اللاهوت بالناسوت وفي اجتماع الأقانيم عند قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} في سورة النساء[171]
وبين الله لرسوله الحجة عليهم بقوله: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} الآية، فالفاء عاطفة للاستفهام الإنكاري على قولهم:إن الله هو المسيح، للدلالة على أن الإنكار ترتب على هذا القول الشنيع، فهي للتعقيب الذكري.وهذا استعمال كثير في كلامهم، فلا حاجة إلى ما قيل:إن الفاء عاطفة على محذوف دل عليه السياق، أي ليس الأمر كما زعمتم، ولا أنها جواب شرط مقدر، أي إن كان ما تقولون فمن يملك من الله شيئا إلخ.
ومعنى يملك شيئا هنا يقدر على شيء، فالمركب مستعمل في لازم معناه على طريقة الكناية، وهذا اللازم متعدد وهو الملك، فاستطاعة التحويل، وهو استعمال كثير ومنه قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} الآية في سورة الفتح[11].وفي الحديث قال رسول الله لعيينه بن حصن: "أفأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة" لأن الذي يملك يتصرف في مملوكه كيف شاء.
فالتنكير في قوله {شيئا} للتقليل والتحقير.ولما كان الاستفهام هنا بمعنى النفي كان نفي الشيء القليل مقتضيا نفي الكثير بطريق الأولى، فالمعنى:فمن يقدر على شيء من الله، أي من فعله وتصرفه أن يحوله عنه، ونظيره {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } [يوسف:67]وسيأتي لمعنى "يملك" استعمال آخر عند قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة:76]في هذه السورة، وسيأتي قريب من هذا الاستعمال عند قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} في هذه السورة[المائدة:41]

وحرف الشرط من قوله {إِنْ أَرَادَ} مستعمل في مجرد التعليق من غير دلالة على الاستقبال، لأن إهلاك أم المسيح قد وقع بلا خلاف، ولأن إهلاك المسيح، أي موته واقع عند المجادلين بهذا الكلام، فينبغي إرخاء العنان لهم في ذلك لإقامة الحجة، وهو أيضا واقع في قول عند جمع من علماء الإسلام الذين قالوا:إن الله أماته ورفعه دون أن يمكن اليهود منه، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء:157]وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]وعليه فليس في تعليق هذا الشرط إشعار بالاستقبال.والمضارع المقترن بأن وهو {أَنْ يُهْلِكَ} مستعمل في مجرد المصدرية.والمراد بـ {مَنْ فِي الْأَرْضِ} حينئذ من كان في زمن المسيح وأمه من أهل الأرض فقد هلكوا كلهم بالضرورة.والتقدير:من يملك أن يصد الله إذ أراد إهلاك المسيح وأمه ومن في الأرض يومئذ.
ولك أن تلتزم كون الشرط للاستقبال باعتبار جعل {مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} بمعنى نوع الإنسان، فتعليق الشرط باعتبار مجموع مفاعيل {يهلك} على طريقة التغليب؛ فإن بعضها وقع هلكه وهو أم المسيح، وبعضها لم يقع وسيقع وهو إهلاك من في الأرض جميعا، أي إهلاك جميع النوع، لأن ذلك أمر غير واقع ولكنه ممكن الوقوع.
والحاصل أن استعمال هذا الشرط من غرائب استعمال الشروط في العربية، ومرجعه إلى استعمال صيغة الشرط في معنى حقيقي ومعنى مجازي تغليبا للمعنى الحقيقي، لأن {مَنْ فِي الْأَرْضِ} يعم الجميع وهو الأكثر.ولم يعطه المفسرون حقه من البيان.وقد هلكت مريم أم المسيح عليهما السلام في زمن غير مضبوط بعد رفع المسيح.
والتذييل بقوله : {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} فيه تعظيم شأن الله تعالى.ورد آخر عليهم بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وملك ما فيها من قبل أن يظهر المسيح، فالله هو الإله حقا، وأنه يخلق ما يشاء، فهو الذي خلق ا لمسيح خلقا غير معتاد، فكان موجب ضلال من نسب له الألوهية.وكذلك قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
[18] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}

مقال آخر مشترك بينهم وبين اليهود يدل على غباوتهم في الكفر إذ يقولون ما لا يليق بعظمة الله تعالى، ثم هو مناقض لمقالاتهم الأخرى.عطف على المقال المختص بالنصارى، وهو جملة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} [المائدة:17].وقد وقع في التوراة والإنجيل التعبير بأبناء الله؛ ففي سفر التثنية أول الفصل الرابع عشر قول موسى: "أنتم أولاد للرب أبيكم".وأما الأناجيل فهي مملوءة بوصف الله تعالى بأبي المسيح، وبأبي المؤمنين به، وتسمية المؤمنين أبناء الله في متى في الإصحاح الثالث: "وصوت من السماء قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت"وفي الإصحاح الخامس: "طوبي لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون".وفي الإصحاح السادس: "وأبوكم السماوي يقوتها".وفي الإصحاح العاشر: "لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم".وكلها جائية على ضرب من التشبيه فتوهمها دهماؤهم حقيقة فاعتقدوا ظاهرها.
وعطف {وأحباؤه} على {أبناء الله} أنهم قصدوا أنهم أبناء محبوبون إذ قد يكون الابن مغضوبا عليه.
وقد علم الله رسوله أن يبطل قولهم بنقضين: أولهما من ا لشريعة، وهو قوله :{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} يعني أنهم قائلون بأن نصيبا من العذاب ينالهم بذنوبهم، فلو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم بذنوبهم، وشأن المحب أن لا يعذب حبيبه وشأن الأب أن لا يعذب أبناءه.روي أن الشبلي سأل أبا بكر بن مجاهد:"أين تجد في القرآن أن المحب لا يعذب حبيبه فلم يهتد ابن مجاهد، فقال له الشبلي:"في قوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}. وليس المقصود من هذا أن يرد عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر، من تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم، لأن ذلك لا يعترفون به فلا يصلح للرد به، إذ يصير الرد مصادرة، بل المقصود الرد عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم، سواء كان عذاب الآخرة أم عذاب الدنيا.فأما اليهود فكتبهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80].وأما النصارى فلم أر في الأناجيل ذكرا لعذاب الآخرة إلا أنهم قائلون في عقائدهم بأن بني آدم كلهم استحقوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم آدم، فجاء عيسى بن مريم مخلصا وشافعا وعرض نفسه للصلب ليكفر عن البشر خطيئتهم الموروثة، وهذا يلزمهم الاعتراف بأن العذاب كان مكتوبا على الجميع لولا كفارة عيسى فحصل الرد عليهم باعتقادهم به بله اعتقادنا.

ثم أخذت النتيجة من البرهان بقوله: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي ينالكم ما ينال سائر البشر.
وفي هذا تعريض أيضا بأن المسيح بشر، لأنه ناله ما ينال البشر من الأعراض والخوف، وزعموا أنه ناله الصلب والقتل.
وجملة قوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} كالاحتراس، لأنه لما رتب على نوال العذاب إياهم أنهم بشر دفع توهم النصارى أن البشرية مقتضية استحقاق العذاب بوراثة تبعة خطيئة آدم فقال: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} ، أي من البشر {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}.
[19] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
كرر الله موعظتهم ودعوتهم بعد أن بين لهم فساد عقائدهم وغرور أنفسهم بيانا لا يدع للمنصف متمسكا بتلك الضلالات، كما وعظهم ودعاهم آنفا بمثل هذا عقب بيان نقضهم المواثيق.فموقع هذه الآية تكرير لموقع قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة:15] الآيات، إلا أنه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هنا بوصف مجيئه على فترة من الرسل ليذكرهم بأن كتبهم مصرحة بمجيء رسول عقب رسلهم، وليريهم أن مجيئه لم يكن بدعا من الرسل إذ كانوا يجيئون على فتر بينهم.وذكر الرسول هنالك بوصف تبيينه ما يخفونه من الكتاب لأن ما ذكر قبل الموعظة هنا قد دل على مساواة الرسل في البشرية ومساواة الأمم في الحاجة إلى الرسالة، وما ذكر قبل الموعظة هنالك إنما كان إنباء بأسرار كتبهم وما يخفون علمه عن الناس لما فيه من مساويهم وسوء سمعتهم.وحذف مفعول {يبين} لظهور أن المراد بيان الشريعة.فالكلام خطاب لأهل الكتاب يتنزل منزلة تأكيد لجملة {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ} [المائدة:15]، فلذلك فصلت.
وقوله: {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} حال من ضمير {يُبَيِّنُ لَكُمْ} ، فهو ظرف مستقر، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بـ {جاءكم}. ويجوز تعلقه بفعل {يبين} لأن البيان انقطع في مدة الفترة.
و "على" للاستعلاء المجازي بمعنى "بعد" لأن المستعلي يستقر بعد استقرار ما يستعلي هو فوقه، فشبه استقراره بعده باستعلائه عليه، فاستعير له الحرف الدال على الاستعلاء.

والفترة: انقطاع عمل ما.وحرف "من" في قوله: {مِنَ الرُّسُلِ} للابتداء، أي فترة من الزمن ابتداؤها مدة وجود الرسل، أي أيام إرسال الرسل.
والمجيء مستعار لأمر الرسول بتبليغ الدين، فكما سمي الرسول رسولا سمي تبليغه مجيئا تشبيها بمجيء المرسل من أحد إلى آخر.
والمراد بالرسل رسل أهل الكتاب المتعاقبين من عهد موسى إلى المسيح، أو أريد المسيح خاصة.والفترة بين البعثة وبين رفع المسيح، كانت نحو خمسمائة وثمانين سنة.وأما غير أهل الكتاب فقد جاءتهم رسل مثل خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان.
و {أَنْ تَقُولُوا} تعليل لقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ} لبيان بعض الحكم من بعثة الرسول، وهي قطع معذرة أهل الكتاب عند مؤاخذتهم في الآخرة، أو تقريعهم في الدنيا على ما غيروا من شرائعهم، لئلا يكون من معاذيرهم أنهم اعتادوا تعاقب الرسل لإرشادهم وتجديد الديانة، فلعلهم أن يعتذروا بأنهم لما مضت عليهم فترة بدون إرسال رسول لم يتجه عليهم ملام فيما أهملوا من شرعهم وأنهم لو جاءهم رسول لاهتدوا.فالمعنى أن تقولوا:ما جاءنا رسول في الفترة بعد موسى أو بعد عيسى.وليس المراد أن يقولوا:ما جاءنا رسول إلينا أصلا، فإنهم لا يدعون ذلك، وكيف وقد جاءهم موسى وعيسى.فكان قوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} تعليلا لمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، ومتعلقا بفعل {ما جاءنا} ووجب تقدير لام التعليل قبل "أن" وهو تقدير يقتضيه المعنى.ومثل هذا التقدير كثير في حذف حرف الجر قبل "أن" حذفا مطردا، والمقام يعين الحرف المحذوف؛ فالمحذوف هنا حرف اللام.
ويشكل معنى الآية بأن علة إرسال إليهم هي انتفاء أن يقولوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} لا إثباته كما هو واضح، فلماذا لم يقل:أن لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، وقد جاء في القرآن نظائر لهذه الآية، وفي شعر العرب كقول عمرو بن كلثوم:
فعجلنا القرى أن تشتمونا
أراد أن لا تشتمونا.فاختلف النحويون في تقدير ما به يتقوم المعنى في الآيات وغيرها:فذهب البصريون إلى تقدير اسم يناسب أن يكون مفعولا لأجله لفعل {جاءكم}، وقدروه: "كراهية أن تقولوا" ، وعليه درج صاحب الكشاف ومتابعوه من جمهور المفسرين؛ وذهب الكوفيون إلى تقدير حرف نفي محذوف بعد "أن" ، والتقدير:أن لا

تقولوا، ودرج عليه بعض المفسرين مثل البغوي؛ فيكون من إيجاز الحذف اعتمادا على قرينة السياق والمقام.وزعم ابن هشام في مغني اللبيب أنه تعسف، وذكر أن بعض النحويين زعم أن من معاني "أن" أن تكون بمعنى "لئلا" .
وعندي: أن الذي ألجأ النحويين والمفسرين لهذا التأويل هو البناء على أن "أن" تخلص المضارع للاستقبال فتقتضي أن قول أهل الكتاب:ما جاءنا بشير ولا نذير غير حاصل في حال نزول الآية، وأنه مقدر حصوله في المستقبل.ويظهر أن إفادة "أن" تخليص المضارع للمستقبل إفادة أكثرية وليست بمطردة، وقد ذهب إلى ذلك أبو حيان وذكر أن أبا بكر الباقلاني ذهب إليه، بل قد تفيد "أن" مجرد المصدرية كقوله تعالى :{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184]، وقول امرئ القيس:
فإما تريني لا أغمض ساعة ... من الليل إلا أن أكب وأنعسا
فإنه لا يريد أنه ينعس في المستقبل.وأن صرفها عن إفادة الاستقبال يعتمد على القرائن، فيكون المعنى هنا أن أهل الكتاب قد قالوا هذا العذر لمن يلومهم مثل الذين اتبعوا الحنيفية، كأمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل، أو قاله اليهود لنصارى العرب.
وقوله: {فقد جاءكم بشير ونذير} الفاء فيه للفصيحة، وقد ظهر حسن موقعها بما قررت به معنى التعليل، أي لأن قلتم ذلك فقد بطل قولكم إذ قد جاءكم بشير ونذير.ونظير هذا قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
[20ـ22] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}.
عطف القصة على القصص والمواعظ.وتقدم القول في نظائر {وَإِذْ قَالَ} في مواضع منها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} في البقرة[30].

ومناسبة موقع هذه الآيات هنا أن القصة مشتملة على تذكير بنعم الله تعالى عليهم وحث على الوفاء بما عاقدوا الله عليه من الطاعة تمهيدا لطلب امتثالهم.
وقدم موسى عليه السلام أمره لبني إسرائيل بحرب الكنعانيين بتذكيرهم بنعمة الله عليهم ليهيئ نفوسهم إلى قبول هذا الأمر العظيم عليهم وليوثقهم بالنصر إن قاتلوا أعداءهم، فذكر نعمة الله عليهم، وعد لهم ثلاث نعم عظيمة:
أولاها:أن فيهم أنبياء، ومعنى جعل الأنبياء فيهم يجوز أن يكون في عمود نسبهم فيما مضى مثل يوسف والأسباط وموسى وهارون، ويجوز أن يراد جعل في المخاطبين أنبياء؛ فيحتمل أنه أراد نفسه، وذلك بعد موت أخيه هارون، لأن هذه القصة وقعت بعد موت هارون؛ فيكون قوله {أنبياء} جمعا أريد به الجنس فاستوى الإفراد والجمع، لأن الجنسية إذا أريدت من الجمع بطلت منه الجمعية، وهذا الجنس انحصر في فرد يومئذ، كقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:44]يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، أو أراد من ظهر في زمن موسى من الأنبياء.فقد كانت مريم أخت موسى نبية، كما هو صريح التوراة "إصحاح 15 من الخروج" .وكذلك ألداد وميداد كانا نبيين في زمن موسى، كما في التوراة "إصحاح 11 سفر العدد" .وموقع النعمة في إقامة الأنبياء بينهم أن في ذلك ضمان الهدى لهم والجري على مراد الله تعالى منهم، وفيه أيضا حسن ذكر لهم بين الأمم وفي تاريخ الأجيال.
والثانية: أن جعلهم ملوكا، وهذا تشبيه بليغ، أي كالملوك في تصرفهم في أنفسهم وسلامتهم من العبودية التي كانت عليهم للقبط، وجعلهم سادة على الأمم التي مروا بها، من الآموربين، والعناقيين، والحشبونيين، والرفائيين، والعمالقة، والكنعانيين، أو استعمل فعل {جعلكم} في معنى الاستقبال مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] " قصدا لتحقيق الخبر، فيكون الخبر بشارة لهم بما سيكون لهم.
والنعمة الثالثة: أنه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، وما صدق "ما" يجوز أن يكون شيئا واحدا مما خص الله به بني إسرائيل، ويجوز أن يكون مجموع أشياء إذ آتاهم الشريعة الصحيحة الواسعة الهدى المعصومة، وأيدهم بالنصر في طريقهم، وساق إليهم رزقهم المن والسلوى أربعين سنة، وتولى تربية نفوسهم بواسطة رسله.
وقوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} هو الغرض من الخطاب، فهو كالمقصد بعد المقدمة، ولذلك كرر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء بـ {يا قوم} لزيادة

استحضار أذهانهم.والأمر بالدخول أمر بالسعي في أسبابه، أي تهيأوا للدخول.والأرض المقدسة بمعنى المطهرة المباركة، أي التي بارك الله فيها، أو لأنها قدست بدفن إبراهيم عليه السلام في أول قرية من قراها وهي حبرون.وهي هنا أرض كنعان من برية "صين" إلى مدخل "حماةوإلى حبرون" .وهذه الأرض هي أرض فلسطين، وهي الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبين نهر الأردن والبحر الميت فتنتهي إلى "حماة" شمالا وإلى "غزةوحبرون" جنوبا.وفي وصفها بـ {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ} تحريض على الإقدام لدخولها.
ومعنى {كَتَبَ اللَّهُ} قضى وقدر، وليس ثمة كتابة ولكنه تعبير مجازي شائع في اللغة، لأن الشيء إذا أكده الملتزم به كتبه، كما قال الحارث بن حلزة:
وهل ينقض ما في المهارق الاهواء
فأطلقت الكتابة على ما لا سبيل لإبطاله، وذلك أن الله وعد إبراهيم أن يورثها ذريته.ووعد الله لا يخلف.
وقوله: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} تحذير مما يوجب الانهزام، لأن ارتداد الجيش على الأعقاب من أكبر أسباب الانخذال.والارتداد افتعال من الرد، يقال:رده فارتد، والرد: إرجاع السائر عن الإمضاء في سيره وإعادته إلى المكان الذي سار منه.والأدبار:جمع دبر، وهو الظهر.والارتداد:الرجوع، ومعنى الرجوع على الأدبار إلى جهة الأدبار، أي الوراء لأنهم يريدون المكان الذي يمشي عليه الماشي وهو قد كان من جهة ظهره، كما يقولون:نكص على عقبيه، وركبوا ظهورهم، وارتدوا على أدبارهم، وعلى أعقابهم، فعدي بـ {على} الدالة على الاستعلاء، أي استعلاء طريق السير، نزلت الأدبار التي يكون السير في جهتها منزلة الطريق الذي يسار عليه.
والانقلاب: الرجوع، وأصله الرجوع إلى المنزل قال تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران:174].والمراد به هنا مطلق المصير.وضمائر {فيها} و {منها} تعود إلى الأرض المقدسة.
وأرادوا بالقوم الجبارين في الأرض سكانها الكنعانيين،والعمالقة، والحثيين، واليبوسيين، والأموريين.
والجبار:القوي، مشتق من الجبر، وهو الإلزام لأن القوي يجبر الناس على ما يريد.
وكانت جواسيس موسى الاثنا عشر الذين بعثهم لارتياد الأرض قد أخبروا القوم

بجودة الأرض وبقوة سكانها.وهذا كناية عن مخافتهم من الأمم الذين يقطنون الأرض المقدسة، فامتنعوا من اقتحام القرية خوفا من أهلها، وأكدوا الامتناع من دخول أرض العدو توكيدا قويا بمدلول "إن" و "لن" في {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا} تحقيقا لخوفهم.
وقوله: {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} تصريح بمفهوم الغاية في قوله: {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} لقصد تأكيد الوعد بدخولها إذا خلت من الجبارين الذين فيها.
وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الإصحاح الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد:"أن الله أمر موسى أن يرسل اثني عشر رجلا جواسيس يتجسسون أرض كنعان التي وعدها الله بني إسرائيل من كل سبط رجلا؛ فعين موسى اثني عشر رجلا، منهم:يوشع بن نون من سبط أفرايم، ومنهم كالب بن يفنة من سبط يهوذا، ولم يسموا بقية الجواسيس.فجاسوا خلال الأرض من برية صين إلى حماة فوجدوا الأرض ذات ثمار وأعناب ولبن وعسل ووجدوا سكانها معتزين، طوال القامات، ومدنهم حصينة.فلما سمع بنو إسرائيل ذلك وهلوا وبكوا وتذمروا على موسى وقالوا: لو متنا في أرض مصر كان خيرا لنا من أن تغنم نساؤنا وأطفالنا، فقال يوشع وكالب للشعب:"إن رضي الله عنا يدخلنا إلى هذه الأرض ولكن لا تعصوا الرب ولا تخافوا من أهلها، فالله معنا.فأبى القوم من دخول الأرض وغضب الله عليهم.وقال لموسى:"لا يدخل أحد من سنه عشرون سنة فصاعدا هذه الأرض إلا يوشع وكالبا وكلكم ستدفنون في هذا القفر، ويكون أبناؤكم رعاة فيه أربعين سنة".
[23ـ26] {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[23] قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [24]قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [25]قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[26]}
فصلت هذه الجمل الأربع جريا على طريقة المحاورة كما بيناه سالفا في سورة البقرة.والرجلان هما يوشع وكالب.ووصف الرجلان بأنهم {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} فيجوز أن يكون المراد بالخوف في قوله {يخافون} الخوف من العدو؛ فيكون المراد باسم الموصول بني إسرائيل.جعل تعريفهم بالموصولية للتعريض بهم بمذمة الخوف وعدم

الشجاعة، فيكون "من" في قوله: {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} اتصالية وهي التي في نحو قولهم:لست منك ولست مني، أي ينتسبون إلى الذين يخافون.وليس المعنى أنهم متصفون بالخوف بقرينة أنهم حرضوا قومهم على غزو العدو، وعليه يكون قوله: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} أن الله أنعم عليهما بالشجاعة، فحذف متعلق فعل "أنعم" اكتفاء بدلالة السياق عليه.ويجوز أن يكون المراد بالخوف الخوف من الله تعالى، أي كان قولهما لقومها "ادخلوا عليهم الباب" ناشئا عن خوفهما الله تعالى، فيكون تعريضا بأن الذين عصوهما لا يخافون الله تعالى، ويكون قوله: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} استئنافا بيانيا لبيان منشأ خوفهما الله تعالى، أي الخوف من الله نعمة منه عليهما.وهذا يقتضي أن الشجاعة في نصر الدين نعمة من الله على صاحبها.
ومعنى {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} أنعم عليهما بسلب الخوف من نفوسهم وبمعرفة الحقيقة.
و{الباب} يجوز أن يراد به مدخل الأرض المقدسة، أي المسالك التي يسلك منها إلى أرض كنعان، وهو الثغر والمضيق الذي يسلك منه إلى منزل القبيلة يكون بين جبلين وعرين، إذ ليس في الأرض المأمورين بدخولها مدينة بل أرض لقوله: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} ، فأرادا:فإذا اجتزتم الثغر ووطئتم أرض الأعداء غلبتموهم في قتالهم في ديارهم.وقد يسمى الثغر البحري بابا أيضا، مثل باب المندب، وسموا موضعا بجهة بخارى الباب.وحمل المفسرون الباب على المشهور المتعارف، وهو باب البلد الذي في سوره، فقالوا:أرادا باب قريتهم، أي لأن فتح مدينة الأرض يعد ملكا لجميع تلك الأرض.والظاهر أن هذه القرية هي "أريحا" أو "قادش" حاضرة العمالقة يومئذ، وهي المذكورة في سورة البقرة.والباب بهذا المعنى هو دفة عظيمة متخذة من ألواح توصل بجزأي جدار أو سور بكيفية تسمح لأن يكون ذلك اللوح سادا لتلك الفرجة متى أريد سدها وبأن تفتح عند إرادة فتحها؛ فيسمى السد به غلقا وإزالة السد فتحا.
وبعد أن أمرا القوم باتخاذ الأسباب والوسائل أمراهم بالتوكل على الله والاعتماد على وعده ونصره وخبر رسوله، ولذلك ذيلا بقولهما: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، لأن الشك في صدق الرسول مبطل للإيمان.
وإنما خاطبوا موسى عقب موعظة الرجلين لهم، رجوعا إلى إبايتهم الأولى التي شافهوا بها موسى إذ قالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} ، أو لقلة اكتراثهم بكلام الرجلين وأكدوا الامتناع الثاني من الدخول بعد المحاورة أشد توكيد دل على شدته في العربية بثلاث مؤكدات: "إن" ، و "لن" ، وكلمة "أبدا".

ومعنى قولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} إن كان خطابا لموسى أنهم طلبوا منه معجزة كما تعودوا من النصر فطلبوا أن يهلك الله الجبارين بدعوة موسى.وقيل: أرادوا بهذا الكلام الاستخفاف بموسى، وهذا بعيد، لأنهم ما كانوا يشكون في رسالته، ولو أرادوا الاستخفاف لكفروا وليس في كلام موسى الواقع جوابا عن مقالتهم هذه إلا وصفهم بالفاسقين.والفسق يطلق على المعصية الكبيرة، فإن عصيان أمر الله في الجهاد كبيرة، ولذلك قال تعالى : {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، وعن عبد الله بن مسعود قال: "أتى المقداد بن الأسود النبي وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال:"يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}". الحديث.
فلا تظنن من ذلك أن هذه الآية كانت مقروءة بينهم يوم بدر، لأن سورة المائدة من آخر ما نزل، وإنما تكلم المقداد بخبر كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحدثهم به عن بني إسرائيل، ثم نزلت في هذه الآية بذلك اللفظ.
"قال" أي موسى، مناجيا ربه أو بمسمع منهم ليوقفهم على عدم امتثالهم أمر ربهم {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي}، يجوز أن يكون المعنى لا أقدر إلا على نفسي وأخي، وإنما لم يعد الرجلين اللذين قالا: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} ، لأنه خشي أن يستهويهما قومهما.والذي في كتب اليهود أن هارون كان قد توفى قبل هذه الحادثة .ويجوز أن يريد بأخيه يوشع بن نون لأنه كان ملازما في شئونه,وسماه الله فتاه في قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60]الآية.وعطفه هنا على نفسه لأنه كان محرضا للقومعلى دخول القرية .
ومعنى {افْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أن لا تؤاخذنا بجرمهم,لأنه خشي أن يصيبهم عذاب في الدنيا فيهلك الجميع فطلب النجاة,ولا يصح أن يريد الفرق بينهم في الآخرة؛لأنه معلوم أن الله لا يؤاخذ البرئ بذنب المجرم,ولأن براءة موسى وأخيه من الرضا بما فعله قومهم أمر يعلمه الله,ويجوز أن يراد بالفرق بينهم الحكم بينهم وإيقاف الضالين على غلطهم.
وقول الله تعالى له: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} الخ جواب عن قول موسى {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} ، وهو جواب جامع لجميع ما تضمنه كلام موسى: لأن الله أعلم موسى بالعقاب الذي يصيب به الذين عصوا أمره، فسكن هاجس خوفه أن يصيبهم عذاب يعم الجميع، وحصل العقاب لهم على العصيان انتصارا لموسى.فإن

قلت:هذا العقاب قد نال موسى منه ما نال قومه، فإنه بقي معهم في التيه حتى توفي.قلت:كان ذلك هينا على موسى لأن بقاءه معهم لإرشادهم وصلاحهم وهو خصيصة رسالته، فالتعب في ذلك يزيده رفع درجة، أما هم فكانوا في مشقة.
{يتيهون} يضلون، ومصدره التيه بفتح التاء وسكون الياء والتيه بكسر التاء وسكون التحتية.وسميت المفازة تيهاء وسميت تيها.وقد بقي بنو إسرائيل مقيمين في جهات ضيقة ويسيرون الهوينا على طريق غير منتظم حتى بلغوا جبل "نيبو" على مقربة من نهر "الأردن" ، فهنالك توفي موسى عليه السلام وهنالك دفن.ولا يعرف موضع قبره كما في نص كتاب اليهود.وما دخلوا الأرض المقدسة حتى عبروا الأردن بقيادة يوشع بن نون خليفة موسى.وقد استثناه الله تعالى هو وكالب بن يفنة، لأنهما لم يقولا:لن ندخلها.وأما بقية الرواد الذين أرسلهم موسى لاختبار الأرض فوافقوا قومهم في الامتناع من دخولها.
وقوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} تفريع على الإخبار بهذا العقاب، لأنه علم أن موسى يحزنه ذلك، فنهاه عن الحزن لأنهم لا يستأهلون الحزن لأجلهم لفسقهم.والأسى: الحزن، يقال أسي كفرح إذا حزن.
[27ـ30] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [27] لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [28] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ[29] فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [30].
عطف نبأ على نبإ ليكون مقدمة للتحذير من قتل النفس والحرابة والسرقة، ويتبع بتحريم الخمر وأحكام الوصية وغيرها، وليحسن التخلص مما استطرد من الأنباء والقصص التي هي مواقع عبرة وتنظم كلها في جرائر الغرور.والمناسبة بينها وبين القصة التي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضاد.فأما التماثل فإن في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى:فإن بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إياهم بالدخول إلى الأرض المقدسة، وأحد ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنه لم يكن من المتقين.وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصية؛ فبنو إسرائيل قالوا {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [المائدة:24]، وابن آدم قال:

"لأقتلن الذي تقبل الله منه"وأما التضاد فإن في إحداهما إقداما مذموما من ابن آدم، وإحجاما مذموما من بني إسرائيل، وإن في إحداهما اتفاق أخوين هما موسى وأخوه على امتثال أمر الله تعالى، وفي الأخرى اختلاف أخوين بالصلاح والفساد.
ومعنى {ابْنَيْ آدَمَ} هنا ولداه، وأما ابن آدم مفردا فقد يراد به واحد من البشر نحو:"يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك"، أو مجموعا نحو: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} [لأعراف:31]
والباء في قوله {بالحق} للملابسة متعلقا بـ {اتل}. والمراد من الحق هنا الصدق من حق الشيء إذا ثبت، والصدق هو الثابت، والكذب لا ثبوت له في الواقع، كما قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13].ويصح أن يكون الحق ضد الباطل وهو الجد غير الهزل، أي اتل هذا النبأ متلبسا بالحق، أي بالغرض الصحيح لا لمجرد التفكه واللهو.ويحتمل أن يكون قوله {بالحق} مشيرا إلى ما حف بالقصة من زيادات زادها أهل القصص من بني إسرائيل في أسباب قتل أحد الأخوين أخاه.
و {إذ} ظرف زمان لـ {نبأ} ، أي خبرهما الحاصل وقت تقريبهما قربانا، فينتصب"إذ"على المفعول فيه.
وفعل {قربا} هنا مشتق من القربان الذي صار بمنزلة الاسم الجامد، وأصله مصدر كالشكران والغفران والكفران، يسمى به ما يتقرب به المرء إلى ربه من صدقة أو نسك أو صلاة، فاشتق من القربان قرب، كما اشتق من النسك نسك، ومن الأضحية ضحى، ومن العقيقة عق.وليس {قربا} هنا بمعنى أدنيا إذ لا معنى لذلك هنا.
وفي التوراة هما "قايين" والعرب يسمونه قابيل وأخوه "هابيل" .وكان قابيل فلاحا في الأرض، وكان هابيل راعيا للغنم، فقرب قابيل من ثمار حرثه قربانا وقرب هابيل من أبكار غنمه قربانا.ولا ندري هل كان القربان عندهم يعطى للفقراء ونحوهم أو كان يترك للناس عامة.فتقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل.والظاهر أن قبول قربان أحدهما دون الآخر حصل بوحي من ا لله لآدم.وإنما لم يتقبل الله قربان قابيل لأنه لم يكن رجلا صالحا بل كانت له خطايا.وقيل:كان كافرا، وهذا ينافي كونه يقرب قربانا.
وأفرد القربان في الآية لإرادة الجنس، وإنما قرب كل واحد منهما قربانا وليس هو

قربانا مشتركا.ولم يسم الله تعالى المتقبل منه والذي لم يتقبل منه إذ لا جدوى لذلك في موقع العبرة.
وإنما حمله على قتل أخيه حسده على مزية القبول.والحسد أول جريمة ظهرت في الأرض.
وقوله في الجواب: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} موعظة وتعريض وتنصل مما يوجب قتله.يقول: القبول فعل الله لا فعل غيره، وهو يتقبل من المتقي لا من غيره.يعرض به أنه ليس بتقي، ولذلك لم يتقبل الله منه.وآية ذلك أنه يضمر قتل النفس.ولذا فلا ذنب، لمن تقبل الله قربانه، يستوجب القتل.وقد أفاد قول ابن آدم حصر القبول في أعمال المتقين، فإذا كان المراد من المتقين معناه المعروف شرعا المحكي بلفظه الدال عليه مراد ابن آدم كان مفاد الحصر أن عمل غير المتقي لا يقبل؛ فيحتمل أن هذا كان شريعتهم، ثم نسخ في الإسلام بقبول الحسنات من المؤمن وإن لم يكن متقيا في سائر أحواله؛ ويحتمل أن يراد بالمتقين المخلصون في العمل، فيكون عدم القبول أمارة علة عدم الإخلاص، وفيه إخراج لفظ التقوى عن المتعارف؛ ويحتمل أن يريد بالتقبل تقبلا خاصا، وهو التقبل التام الدال عليه احتراق القربان، فيكون على حد قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، أي هدى كاملا لهم، وقوله: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]، أي الآخرة الكاملة، ويحتمل أن يريد تقبل القرابين خاصة؛ ويحتمل أن يراد المتقين بالقربان، أي المريدين به تقوى الله، وأن أخاه أراد بقربانه بأنه المباهاة.
ومعنى هذا الحصر أن الله لا يتقبل من غير المتقين وكان ذلك شرع زمانهم.
وقوله: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} الخ موعظة لأخيه ليذكره خطر هذا الجرم الذي أقدم عليه.وفيه إشعار بأنه يستطيع دفاعه ولكنه منعه منه خوف الله تعالى.والظاهر أن هذا اجتهاد من هابيل في استعظام جرم قتل النفس، ولو كان القتل دفاعا.وقد علم الأخوان ما هو القتل بما يعرفانه من ذبح الحيوان والصيد، فكان القتل معروفا لهما، ولهذا عزم عليه قابيل فرأى هابيل للنفوس حرمة ولو كانت ظالمة، ورأى في الاستسلام لطالب قتله إبقاء على حفظ النفوس لإكمال مراد الله من تعمير الأرض.ويمكن أن يكونا تلقيا من أبيهما الوصاية بحفظ النفوس صغيرها وكبيرها ولو كان في وقت الدفاع، ولذلك قال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. فقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} يدل على أن الدفاع بما يفضي إلى القتل كان محرما وأن هذا شريعة منسوخة لأن الشرائع تبيح للمعتدى عليه أن يدافع عن نفسه ولو بقتل المعتدي، ولكنه لا يتجاوز الحد الذي يحصل به الدفاع.وأما

حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" فذلك في القتال على الملك وقصد التغالب الذي ينكف فيه المعتدي بتسليم الآخر له؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلح الفريقين بالتسليم للآخر وحمل التبعة عليه تجنبا للفتنة، وهو الموقف الذي وقفه عثمان رضي الله عنه رجاء الصلاح.
ومعنى {أريد} أريد من إمساكي عن الدفاع.وأطلقت الإرادة على العزم كما في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27]وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185].فالجملة تعليل للتي قبلها، ولذلك فصلت وافتتحت بـ "إن" المشعرة بالتعليل بمعنى فاء التفريع.
و {تبوء} ترجع، وهو رجوع مجازي، أي تكتسب ذلك من فعلك، فكأنه خرج يسعى لنفسه فباء بإثمين.والأظهر في معنى قوله: {بإثمي} ما له من الآثام الفارطة في عمره، أي أرجو أن يغفر لي وتحمل ذنوبي عليك.وفي الحديث: "يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه". رواه مسلم فإن كان قد قال هذا عن علم من وحي فقد كان مثل ما شرع في الإسلام، وإن كان قد قاله عن اجتهاد فقد أصاب في اجتهاده وإلهامه ونطق عن مثل نبوءة.
ومصدر {أَنْ تَبُوءَ} هو مفعول {أريد}، أي أريد من الإمساك عن أن أقتلك إن أقدمت على قتلي أريد أن يقع إثمي عليك، فإثم مراد به الجنس، أي ما عسى أن يكون له من إثم.وقد أراد بهذا موعظة أخيه، ولذلك عطف عليه قوله: {وإثمك} تذكيرا له بفظاعة عاقبة فعلته، كقوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25] فعطف قوله: {وإثمك} إدماج بذكر ما يحصل في نفس الأمر وليس هو مما يريده.وكذلك قوله: {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} تذكيرا لأخيه بما عسى أن يكفه عن الاعتداء.ومعنى {مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي ممن يطول عذابه في النار، لأن أصحاب النار هم ملازموها.
وقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} دلت الفاء على التفريع والتعقيب، ودل "طوع" على حدوث تردد في نفس قابيل ومغالبة بين دافع الحسد ودافع الخشية، فعلمنا أن المفرع عنه محذوف، تقديره:فتردد مليا، أو فترصد فرصا فطوعت له نفسه.فقد قيل:إنه بقي زمانا يتربص بأخيه، "وطوع" معناه جعله طائعا، أي مكنه من المطوع.والطوع والطواعية:

ضد الإكراه، والتطويع: محاولة الطوع. شبه قتل أخيه بشيء متعاص عن قابيل ولا يطيعه بسبب معارضة التعقل والخشية.وشبهت داعية القتل في نفس قابيل بشخص يعنيه ويذلل له القتل المتعاصي، فكان "طوع" استعارة تمثيلية، والمعنى الحاصل من هذا التمثيل أن نفس قابيل سولت له قتل أخيه بعد ممانعة.وقد سلك في قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} مسلك الإطناب، وكان مقتضى الإيجاز أن يحذف {فطوعت له نفسه قتل أخيه} ويقتصر على قوله: {فقتله} لكن عدل عن ذلك لقصد تفظيع حالة القاتل في تصوير خواطره الشريرة وقساوة قلبه، إذ حدثه بقتل من كان شأنه الرحمة به والرفق، فلم يكن ذلك إطنابا.
ومعنى {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} صار، ويكون المراد بالخسارة هنا خسارة الآخرة، أي صار بذلك القتل ممن خسر الآخرة، ويجوز إبقاء "أصبح" على ظاهرها، أي غدا خاسرا في الدنيا.والمراد بالخسارة ما يبدو على الجاني من الاضطراب وسوء الحالة وخيبة الرجاء، فتفيد أن القتل وقع في الصباح.
[31] {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي}.
البعث هنا مستعمل في الإلهام بالطيران إلى ذلك المكان، أي فألهم الله غرابا ينزل بحيث يراه قابيل.وكأن اختيار الغراب لهذا العمل إما لأن الدفن حيلة في الغربان من قبل، وإما لأن الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس.ولعل هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب، فقالوا:غراب البين.
والضمير المستتر في "يريه" إن كان عائدا إلى اسم الجلالة فالتعليل المستفاد من اللام وإسناد الإرادة حقيقتان، وإن كان عائدا إلى الغراب فاللام مستعملة في معنى فاء التفريع، وإسناد الإرادة إلى الغراب مجاز، لأنه سبب الرؤية فكأنه مريء.و "كيف" يجوز أن تكون مجردة عن الاستفهام مرادا منها الكيفية، أو للاستفهام، والمعنى:ليريه جواب كيف يواري.

والسوأة:ما تسوء رؤيته، وهي هنا تغير رائحة القتيل وتقطع جسمه.
وكلمة {ياويلتا} من صيغ الاستغاثة المستعملة في التعجب، وأصله يا لويلتي، فعوضت الألف عن لام الاستغاثة نحو قولهم:يا عجبا، ويجوز أن يجعل الألف عوضا عن ياء المتكلم، وهي لغة، ويكون النداء مجازا بتنزيل الويلة منزلة ما ينادى، كقوله: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56]والاستفهام في {أعجزت} إنكاري.
وهذا المشهد العظيم هو مشهد أول حضارة في البشر، وهي من قبيل طلب ستر المشاهد المكروهة.وهو أيضا مشهد أول علم اكتسبه البشر بالتقليد وبالتجربة، وهو أيضا مشهد أول مظاهر تلقي البشر معارفه من عوالم أضعف منه كما تشبه الناس بالحيوان في الزينة، فلبسوا الجلود الحسنة الملونة وتكللوا بالريش الملون وبالزهور والحجارة الكريمة، فكم في هذه الآية من عبرة للتاريخ والدين والخلق.
{فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}.
القول فيه كالقول في {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30].ومعنى {مِنَ النَّادِمِينَ} أصبح نادما أشد ندامة، لأن {مِنَ النَّادِمِينَ} أدل على تمكن الندامة من نفسه، من أن يقال"نادما".كما تقدم عند قوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]وقوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} في سورة البقرة[35].
والندم أسف الفاعل على فعل صدر منه؛ لم يتفطن لما فيه عليه من مضرة قال تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، أي ندم على ما اقترف من قتل أخيه إذ رأى الغراب يحتفل بإكرام أخيه الميت ورأى نفسه يجترئ على قتل أخيه، وما إسراعه إلى تقليد الغراب في دفن أخيه إلا مبدأ الندامة وحب الكرامة لأخيه.
ويحتمل أن هذا الندم لم يكن ناشئا عن خوف عذاب الله ولا قصد توبة، فلذلك لم ينفعه.فجاء في الصحيح: "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنه أول من سن القتل". ويحتمل أن يكون دليلا لمن قالوا: إن القاتل لا تقبل توبته وهو مروي عن ابن عباس، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} الآية من سورة النساء[93].
[32] {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ

فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}.
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}.
يتعين أن يكون {من أجل ذلك} تعليلا لـ {كتبنا} ، وهو مبدأ الجملة، ويكون منتهى التي قبلها قوله{مِنَ النَّادِمِينَ}[المائدة:31].وليس قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} متعلقا بـ "النادمين" تعليلا له للاستغناء عنه بمفاد الفاء في قوله :{فَأَصْبَحَ} [المائدة:31].
و {من} للابتداء.والأجل الجراء والتسبب1 أصله مصدر أجل يأجل ويأجل كنصر وضرب بمعنى جنى واكتسب.وقيل:هو خاص باكتساب الجريمة، فيكون مرادفا لجنى وجرم، ومنه الجناية والجريمة.غير أن العرب توسعوا فأطلقوا الأجل على المكتسب مطلقا بعلاقة الإطلاق.
والابتداء الذي استعملت له "من" هنا مجازي، شبه سبب الشيء بابتداء صدوره، وهو مثار قولهم:إن من معاني "من" التعليل، فإن كثرة دخولها على كلمة "أجل" أحدث فيها معنى التعليل، وكثر حذف كلمة أجل بعدها محدث فيها معنى التعليل، كما في قول الأعشى:
فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفى حتى ألاقي محمدا
واستفيد التعليل من مفاد الجملة.وكان التعليل بكلمة من أجل أقوى منه بمجرد اللام، ولذلك اختير هنا ليدل على أن هذه الواقعة كانت هي السبب في تهويل أمر القتل وإظهار مثالبه.وفي ذكر اسم الإشارة وهو خصوص{ذلك} قصد استيعاب جميع المذكور.
وقرأ الجمهور {من أجل ذلك} بسكون نون "من" وإظهار همزة "أجل" ـ.وقراءة ورش عن نافع بفتح النون وحذف همزة أجل على طريقته.وقرأ أبو جعفر{من اجل ذلك} بكسر نون "من" وحذف همزة أجل بعد نقل حركتها إلى النون فصارت غير
ـــــــ
1 الجراء ـ بفتح الجيم وتشديد الراء ـ وهو بالمد,وبالقصر:التسبب,مشتق من جر إذا سبب وعلل.

منطوق بها.
ومعنى {كتبنا} شرعنا كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183].ومفعول {كتبنا} مضمون جملة {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}. و "أن" من قوله:{أنه} بفتح الهمزة أخت "إن" المكسورة الهمزة وهي تفيد المصدرية، وضمير "أنه" ضمير الشأن، أي كتبنا عليهم شأنا مهما هو مماثلة قتل نفس واحدة بغير حق لقتل القاتل الناس أجمعين.
ووجه تحصيل هذا المعنى من هذا التركيب يتضح ببيان موقع حرف "أن" المفتوح الهمزة المشدد النون، فهذا الحرف لا يقع في الكلام إلا معمولا لعامل قبله يقتضيه، فتعين أن الجملة بعد "أن" بمنزلة المفرد المعمول للعامل، فلزم أن الجملة بعد"أن"مؤولة بمصدر يسبك، أي يؤخذ من خبر "أن" .
وقد اتفق علماء العربية على كون "أن" المفتوحة الهمزة المشددة النون أختا لحرف "إن" المكسورة الهمزة، وأنها تفيد التأكيد مثل أختها.
واتفقوا على كون "أن" المفتوحة الهمزة من الموصولات الحرفية الخمسة التي يسبك مدخولها بمصدر.وبهذا تزيد "أن" المفتوحة على "إن" المكسورة.وخبر "أن" في هذه الآية جملة {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} الخ.وهي مع ذلك مفسرة لضمير الشأن.ومفعول {كتبنا} مأخوذ من جملة الشرط وجوابه، وتقديره:كتبنا مشابهة قتل نفس بغير نفس الخ بقتل الناس أجمعين في عظيم الجرم.
وعلى هذا الوجه جرى كلام المفسرين والنحويين.ووقع في لسان العرب عن الفراء ما حاصله:إذا جاءت "أن" بعد القول وما تصرف منه وكانت تفسيرا للقول ولم تكن حكاية له نصبتها "أي فتحت همزتها"، مثل قولك:قد قلت لك كلاما حسنا أن أباك شريف، تفتح "أن" لأنها فسرت "كلاما" ، وهو منصوب، "أي مفعول لفعل "قلت" فمفسره منصوب أيضا على المفعولية لأن البيان له إعراب المبين .فالفراء يثبت لحرف "أن" معنى التفسير علاوة على ما يثبته له جميع النحويين من معنى المصدرية، فصار حرف "أن" بالجمع بين القولين دالا على معنى التأكيد باطراد ودالا معه على معنى المصدرية تارة وعلى معنى التفسير تارة أخرى بحسب اختلاف المقام.ولعل الفراء ينحو إلى أن حرف "أن" المفتوحة الهمزة مركب من حرفين هما حرف "إن" المكسورة الهمزة المشددة النون، وحرف "أن" المفتوحة الهمزة الساكنة النون التي تكون تارة مصدرية وتارة تفسيرية؛ ففتح

همزته لاعتبار تركيبه من "أن" المفتوحة الهمزة الساكنة النون مصدرية أو تفسيرية، وتشديد نونه لاعتبار تركيبه من "إن" المكسورة الهمزة المشددة النون، وأصله و "أن إن" فلما ركبا تداخلت حروفهما، كما قال بعض النحويين:إن أصل "لن" "لا أن" .
وهذا بيان أن قتل النفس بغير حق جرم فظيع، كفظاعة قتل الناس كلهم.والمقصود التوطئة لمشروعية القصاص المصرح به في الآية الآتية {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] الآية.
والمقصود من الإخبار بما كتب على بني إسرائيل بيان للمسلمين أن حكم القصاص شرع سالف ومراد لله قديم، لأن لمعرفة تاريخ الشرائع تبصرة للمتفقهين وتطمينا لنفوس المخاطبين وإزالة لما عسى أن يعترض من الشبه في أحكام خفيت مصالحها، كمشروعية القصاص، فإنه قد يبدو للأنظار القاصرة أنه مداواة بمثل الداء المتداوى منه حتى دعا ذلك الاشتباه بعض الأمم إلى إبطال حكم القصاص بعلة أنهم لا يعاقبون المذنب بذنب آخر، وهي غفلة دق مسلكها عن انحصار الارتداع عن القتل في تحقق المجازاة بالقتل؛ لأن النفوس جبلت على حب البقاء وعلى حب إرضاء القوة الغضبية، فإذا علم عند الغضب أنه إذا قتل فجزاؤه القتل ارتدع، وإذا طمع في أن يكون الجزاء دون القتل أقدم على إرضاء قوته الغضبية، ثم علل نفسه بأن ما دون القصاص يمكن الصبر عليه والتفادي منه.وقد كثر ذلك عند العرب وشاع في أقوالهم وأعمالهم، قال قائلهم، وهو قيس بن زهير العبسي:
شفيت النفس من حمل بن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني
ولذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:179].
ومعنى التشبيه في قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} حث جميع الأمة على تعقب قاتل النفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من إيوائه أو الستر عليه، كل مخاطب على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض، من ولاة الأمور إلى عامة الناس.فالمقصود من ذلك التشبيه تهويل القتل وليس المقصود أنه قد قتل الناس جميعا، ألا ترى أنه قابل للعفو من خصوص أولياء الدم دون بقية الناس.على أن فيه معنى نفسانيا جليلا، وهو أن الداعي الذي يقدم بالقاتل على القتل يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني الناشئ عن الغضب وحب الانتقام على دواعي احترام الحق وزجر النفس والنظر في عواقب الفعل من نظم العالم، فالذي كان من حيلته ترجيح ذلك ا لداعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشريفة فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دوما إلى هضم الحقوق، فكلما سنحت له الفرصة

قتل، ولو دعته أن يقتل الناس جميعا لفعل.ولك أن تجعل المقصد من التشبيه توجيه حكم القصاص وحقيته، وأنه منظور فيه لحق المقتول بحيث لو تمكن لما رضي إلا بجزاء قاتله بمثل جرمه؛ فلا يتعجب أحد من حكم القصاص قائلا:كيف نصلح العالم بمثل ما فسد به، وكيف نداوي الداء بداء آخر، فبين لهم أن قاتل النفس عند ولي المقتول كأنما قتل الناس جميعا.وقد ذكرت وجوه في بيان معنى التشبيه لا يقبلها النظر.
ومعنى {وَمَنْ أَحْيَاهَا} من استنقذها من الموت، لظهور أن الإحياء بعد الموت ليس من مقدور الناس، أي ومن اهتم باستنقاذها والذب عنها فكأنما أحيا الناس جميعا بذلك التوجيه الذي بيناه آنفا، أو من غلب وازع الشرع والحكمة على داعي الغضب والشهوة فانكف عن القتل عند الغضب.
{وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}
تذييل لحكم شرع القصاص على بني إسرائيل، وهو خبر مستعمل كناية عن إعراضهم عن الشريعة، وأنهم مع ما شدد عليهم في شأن القتل ولم يزالوا يقتلون، كما أشعر به قوله: {بَعْدِ ذَلِكَ} ، أي بعد أن جاءتهم رسلنا بالبينات.وحذف متعلق "مسرفون" لقصد التعميم.والمراد مسرفون في المفاسد التي منها قتل الأنفس بقرينة قوله: {فِي الْأَرْضِ}، فقد كثر في استعمال القرآن ذكر {فِي الْأَرْضِ} [البقرة:60] " مع ذكر الإفساد.
وجملة{ثم إن كثيرا منهم} عطف على جملة {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ}. و "ثم" للتراخي في الرتبة، لأن مجيء الرسل بالبينات شأن عجيب، والإسراف في الأرض بعد تلك البينات أعجب.وذكر {في الأرض} لتصوير هذا الإسراف عند السامع وتفظيعه، كما في قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56].وتقديم {في الأرض} للاهتمام وهو يفيد زيادة تفظيع الإسراف فيها مع أهمية شأنها.
وقرأ الجمهور {رُسُلُنَا} بضم السين.وقرأه أبو عمرو ويعقوب بإسكان السين.
[33ـ34] {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

تخلص إلى تشريع عقاب المحاربين، وهم ضرب من الجناة بجناية القتل.ولا علاقة لهذه الآية ولا التي بعدها بأخبار بني إسرائيل.نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، وبه يشعر صنيع البخاري إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التفسير، وأخرج عقبه حديث أنس بن مالك في العرنيين.ونص الحديث من مواضع من صحيحه: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نفر من عكل وعرينة1 فأسلموا ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد استوخمنا هذه الأرض، فقال لهم:هذه نعم لنا فاخرجوا فيها فاشربوا ألبانها وأبوالها، فخرجوا فيها فشربوا من أبوالها وألبانها واستصحوا، فمالوا على الراعي فقتلوه واطردوا الذود وارتدوا، فبعث رسول الله في آثارهم.بعث جرير بن عبد الله في خيل فأدركوهم وقد أشرفوا على بلادهم، فما ترجل النهار حتى جيء بهم، فأمر بهم، فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم بمسامير أحميت، ثم حبسهم حتى ماتوا.وقيل:أمر بهم فألقوا في الحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا". قال جماعة: وكان ذلك سنة ست من الهجرة، كان هذا قبل أن تنزل آية المائدة.نقل ذلك مولى ابن الطلاع في كتاب الأقضية المأثورة بسنده إلى ابن جبير وابن سيرين، وعلى هذا يكون نزولها نسخا للحد الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان عن وحي أم عن اجتهاد منه، لأنه لما اجتهد ولم يغيره الله عليه قبل وقوع العمل به فقد تقرر به شرع.وإنما أذن الله له بذلك العقاب الشديد لأنهم أرادوا أن يكونوا قدوة للمشركين في التحيل بإظهار الإسلام للتوصل إلى الكيد للمسلمين، ولأنهم جمعوا في فعلهم جنايات كثيرة.قال أبو قلابة: "فماذا يستبقى من هؤلاء قتلوا النفس وحاربوا الله ورسوله وخوفوا رسول الله".وفي رواية للطبري: نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين المسلمين عهد فنقضوه وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض. رواه عن ابن عباس والضحاك.والصحيح الأول.وأياما كان فقد نسخ ذلك بهذه الآية.
فالحصر بـ {إنما} في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} الخ على أصح الروايتين في سبب نزول الآية حصر إضافي، وهو قصر قلب لإبطال أي لنسخ العقاب الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم على العرنيين، وعلى ما رواه الطبري عن ابن عباس فالحصر أن لا جزاء لهم إلا ذلك، فيكون المقصود من القصر حينئذ أن لا ينقص عن ذلك الجزاء وهو أحد الأمور
ـــــــ
1 هم سبعة:ثلاثة من عكل.وأربعة من عرينة.وعكل ـبضم العين وسكون الكاف ـ قبيلة من تيم الرباب بن عبد مناف بن طاببخة بن إلياس بن مضر.وعرينة ـبضم العين وفتح الراءقبيلة من قضاعة.

الأربعة.وقد يكون الحصر لرد اعتقاد مقدر وهو اعتقاد من يستعظم هذا الجزاء ويميل إلى التخفيف منه.وكذلك يكون إذا كانت الآية غير نازلة على سبب أصلا.
وأياما كان سبب النزول فإن الآية تقتضي وجوب عقاب المحاربين بما ذكر الله فيها، لأن الحصر يفيد تأكيد النسبة.والتأكيد يصلح أن يعد في أمارات وجوب الفل المعدود بعضها في أصول الفقه لأنه يجعل الحكم جازما.
ومعنى {يحاربون} أنهم يكونون مقاتلين بالسلاح عدوانا لقصد المغنم كشأن المحارب المبادئ، لأن حقيقة الحرب القتال.ومعنى محاربة الله محاربة شرعه وقصد الاعتداء على أحكامه، وقد علم أن الله لا يحاربه أحد فذكره في المحاربة لتشنيع أمرها بأنها محاربة لمن يغضب الله لمحاربته، وهو الرسول، صلى الله عليه وسلم.والمراد بمحاربة الرسول الاعتداء على حكمه وسلطانه، فإن العرنيين اعتدوا على نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخذة لتجهيز جيوش المسلمين، وهو قد امتن عليهم بالانتفاع بها فلم يراعوا ذلك لكفرهم فما عاقب به الرسول العرنيين كان عقابا على محاربة خاصة هي من صريح البغض للإسلام.ثم إن الله شرع حكما للمحاربة التي تقع في زمن رسول الله وبعده، وسوى عقوبتها، فتعين أن يصير تأويل {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} المحاربة لجماعة المسلمين.وجعل لها جزاء عين جزاء الردة، لأن الردة لها جزاء آخر فعلمنا أن الجزاء لأجل المحاربة.ومن أجل ذلك اعتبره العلماء جزاء لمن يأتي هذه الجريمة من المسلمين، ولهذا لم يجعله الله جزاء للكفار الذين حاربوا الرسول لأجل عناد الدين؛ فلهذا المعنى عدي {يحاربون} إلى {اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ليظهر أنهم لم يقصدوا حرب معين من الناس ولا حرب صف.
وعطف {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} لبيان القصد من حربهم الله ورسوله، فصار الجزاء على مجموع الأمرين، فمجموع الأمرين سبب مركب للعقوبة، وكل واحد من الأمرين جزء سبب لا يقتضي هذه العقوبة بخصوصها.
وقد اختلف العلماء في حقيقة الحرابة؛ فقال مالك:هي حمل السلاح على الناس لأخذ أموالهم دون نائرة ولا دخل ولا عداوة أي بين المحارب بالكسر وبين المحارب بالفتح، سواء في البادية أو في المصر، وقال به الشافعي وأبو ثور.وقيل:لا يكون المحارب في المصر محاربا، وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق.والذي نظر إليه مالك هو عموم معنى لفظ الحرابة، والذي نظر إليه مخالفوه هو الغالب في العرف لندرة الحرابة في المصر.وقد كانت نزلت بتونس قضية لص اسمه "وناس" أخاف أهل

تونس بحيله في السرقة، وكان يحمل السلاح فحكم عليه بحكم المحارب في مدة الأمير محمد الصادق باي وقتل شنقا بباب سويقة.
ومعنى {يسعون في الأرض فسادا} أنهم يكتسبون الفساد ويجتنونه ويجترحونه، لأن السعي قد استعمل بمعنى الاكتساب واللم، قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الاسراء:19]ويقولون:سعى فلان لأهله، أي اكتسب لهم، وقال تعالى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15]
وصاحب الكشاف جعله هنا بمعنى المشي، فجعل {فسادا} حالا أو مفعولا لأجله، ولقد نظر إلى أن غالب عمل المحارب هو السعي والتنقل، ويكون الفعل منزلا منزلة اللازم اكتفاء بدلالة المفعول لأجله.وجوز أن يكون سعى بمعنى أفسد، فجعل {فسادا} مفعولا مطلقا.ولا يعرف استعمال سعى بمعنى أفسد.
والفساد:إتلاف الأنفس والأموال، فالمحارب يقتل الرجل لأخذ ما عليه من الثياب ونحو ذلك.
و" يقتلوا " مبالغة في يقتلوا، كقول امرئ القيس:
في أعشار قلب مقتل
قصد من المبالغة هنا إيقاعه بدون لين ولا رفق تشديدا عليهم، وكذلك الوجه في قوله {يصلبوا}
والصلب:وضع الجاني الذي يراد قتله مشدودا على خشبة ثم قتله عليها طعنا بالرمح في موضع القتل.وقيل:الصلب بعد القتل.والأول قول مالك، والثاني مذهب أشهب والشافعي.
و {من} في قوله :{مِنْ خِلافٍ} ابتدائية في موضع الحال من {أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} ، فهي قيد للقطع، أي أن القطع يبتدئ في حال التخالف، وقد علم أن المقطوع هو العضو المخالف فتعين أنه مخالف لمقطوع آخر وإلا لم تتصور المخالفة، فإذا لم يكن عضو مقطوع سابق فقد تعذر التخالف فيكون القطع للعضو الأول آنفا ثم تجري المخالفة فيما بعد.وقد علم من قوله: {مِنْ خِلافٍ} أنه لا يقطع من المحارب إلا يد واحدة أو رجل واحدة ولا يقطع يداه أو رجلاه؛ لأنه لو كان كذلك لم يتصور معنى لكون القطع من خلاف.فهذا التركيب من بديع الإيجاز.والظاهر أن كون القطع من خلاف تيسير ورحمة،

لأن ذلك أمكن لحركة بقية الجهد بعد البرء وذلك بأن يتوكأ باليد الباقية على عود بجهة الرجل المقطوعة.
قال علماؤنا: "تقطع يده لأجل أخذ المال، ورجله للإخافة؛ لأن اليد هي العضو الذي به الأخذ، والرجل هي العضو الذي به الإخافة، أي المشي وراء الناس والتعرض لهم".
والنفي من الأرض:الإبعاد من المكان الذي هو وطنه لأن النفي معناه عدم الوجود.والمراد الإبعاد، لأنه إبعاد عن القوم الذين حاربوهم.يقال:نفوا فلانا، أي أخرجوه من بينهم، وهو الخليع، وقال النابغة:
ليهنئ لكم أن قد نفيتم بيوتنا
أي أقصيتمونا عن دياركم.ولا يعرف في كلام العرب معنى للنفي غير هذا.وقال أبو حنيفة وبعض العلماء:النفي هو السجن.وحملهم على هذا التأويل البعيد التفادي من دفع أضرار المحارب عن قوم كان فيهم بتسليط ضره على قوم آخرين.وهو نظر يحمل على التأويل، ولكن قد بين العلماء أن النفي يحصل به دفع الضر لأن العرب كانوا إذا أخرج أحد من وطنه ذل وخضدت شوكته، قال امرؤ القيس:
به الذئب يعوي كالخليع المعيل
وذلك حال غير مختص بالعرب فإن للمرء في بلده وقوعه من الإقدام ما ليس له في غير بلده.
على أن من العلماء من قال:ينفون إلى بلد بعيد منحاز إلى جهة بحيث يكون فيه كالمحصور.قال أبو الزناد:كان النفي قديما إلى "دهلك" وإلى "باضع" 1وهما جزيرتان في بحر اليمن.
وقد دلت الآية على أمرين:أحدهما التخيير في جزاء المحاربين؛ لأن أصل "أو" الدلالة على أحد الشيئين أو الأشياء في الوقوع، ويقتضي ذلك في باب الأمر ونحوه التخيير، نحو {فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196].وقد تمسك بهذا الظاهر جماعة من العلماء منهم مالك بن أنس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد، والنخعي،
ـــــــ
1 دهلكـ بفتح الدال المهلة وسكزن الهاء وفتح اللام ـجزيرة بين اليمن والحبشة.وباضع بموحدة في أوله وبكسر الضاد المعجمة جزيرة في بحر اليمن.

وأبو حنيفة والمروي عن مالك أن هذا التخيير لأجل الحرابة فإن اجترح في مدة حرابته جريمة ثابتة توجب الأخذ بأشد العقوبة كالقتل قتل دون تخيير، وهو مدرك واضح.ثم ينبغي للإمام بعد ذلك أن يأخذ في العقوبة بما يقارب جرم المحارب وكثرة مقامه في فساده.وذهب جماعة إلى أن "أو" في الآية للتقسيم لا للتخيير، وأن المذكورات مراتب للعقوبات بحسب ما اجترحه المحارب:فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن لم يقتل ولا أخذ مالا عزر، ومن أخاف الطريق نفي، ومن أخذ المال فقط قطع، وهو قول ابن عباس، وقتادة،والحسن، والسدي والشافعي.ويقرب خلافهم من التقارب.
والأمر الثاني:أن هذه العقوبات هي لأجل الحرابة وليست لأجل حقوق الأفراد من الناس، كما دل على ذلك قوله بعد: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية وهو بين.ولذلك فلو أسقط المعتدى عليهم حقوقهم لم يسقط عن المحارب عقوبة الحرابة.
وقوله: {ذلك لهم خزي في الدنيا} ، أي الجزاء خزي لهم في الدنيا.والخزي:الذل والإهانة {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:194].وقد دلت الآية على أن لهؤلاء المحاربين عقابين:عقابا في الدنيا وعقابا في الآخرة.فإن كان المقصود من المحاربين في الآية خصوص المحاربين من أهل الكفر كالعرنيين، كما قيل به، فاستحقاقهم العذابين ظاهر، وإن كان المراد به ما يشمل المحارب من أهل الإسلام كانت الآية معارضة لما ورد في الحديث الصحيح في حديث عبادة بن الصامت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ البيعة على المؤمنين بما تضمنته آية {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة:12]الخ فقال:"فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له".فقوله:"فهو كفارة له"، دليل على أن الحد يسقط عقاب الآخرة، فيجوز أن يكون ما في الآية تغليظا على المحاربين بأكثر من أهل بقية الذنوب، ويجوز أن يكون تأويل ما في هذه الآية على التفصيل، أي لهم خزي في الدنيا إن أخذوا به، ولهم في الآخرة عذاب عظيم إن لم يؤخذوا به في الدنيا.
والاستثناء بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} راجع إلى الحكمين خزي الدنيا وعذاب الآخرة، بقرينة قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} ، لأن تأثير التوبة في النجاة من عذاب الآخرة لا يتقيد بما قبل القدرة عليهم.وقد دلت أداة الاستثناء على سقوط العقوبة عن المحارب في هذه الحالة؛ فتم الكلام بها لأن الاستثناء كلام مستقل لا يحتاج إلى

زيادة تصريح بانتفاء الحكم المستثنى منه عن المستثنى في استعمال العرب، وعند جمهور العلماء.فليس المستثنى مسكوتا عنه كما يقول الحنفية، ولولا الاستثناء لما دلت الآية على سقوط عقوبة المحارب المذكورة.فلو قيل:فإن تابوا، لم تدل إلا على قبول التوبة منهم في إسقاط عقاب الآخرة.
ومعنى {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} ما كان قبل أن يتحقق المحارب أنه مأخوذ أو يضيق عليه الحصار أو يطارد في جميع البلاد ويضيق عليه، فإن أتى قبل ذلك كله طائعا نادما سقط عنه ما شرع الله له من العقوبة، لأنه قد دل على انتقال حاله من فساد إلى صلاح فلم تبق حكمة في عقابه.ولما لم تتعرض الآية إلى غرم ما أتلفه بحرابته علم أن التوبة لا تؤثر في سقوط ما كان قد اعتلق به من حقوق الناس من مال أو دم، لأن ذلك معلوم بأدلة أخرى.
وقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذكير بعد تمام الكلام ودفع لعجب من يتعحب من سقوط العقاب عنهم.فالفاء فصيحة عما دل عليه الاستثناء من سقوط العقوبة مع عظم الجرم، والمعنى:إن عظم عندكم سقوط العقوبة عمن تاب قبل أن يقدر عليه فاعلموا أن الله غفور رحيم.
وقد دل قوله {فاعلموا} على تنزيل المخاطبين منزلة من لا يعلم ذلك نظرا لاستعظامهم هذا العفو.وقد رأيت أن شأن فعل "اعلم" أن يدل على أهمية الخبر، كما سيأتي في قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} في سورة الأنفال[24] وقوله فيها {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال:41]
[35] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [35]
اعتراض بين آيات وعيد المحاربين وأحكام جزائهم وبين ما بعده من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [المائدة:36] الآية.خاطب المؤمنين بالترغيب بعد أن حذرهم من المفاسد، على عادة القرآن في تخلل الأغراض بالموعظة والترغيب والترهيب، وهي طريقة من الخطابة لاصطياد النفوس، كما قال الحريري:"فلما دفنوا الميت، وفات قول ليت، أقبل شيخ من رباوة، متأبطا لهراوة،.فقال:لمثل هذا فليعمل العاملون"، إلخ.فعقب حكم المحاربين من أهل الكفر بأمر المؤمنين بالتقوى

وطلب ما يوصلهم إلى مرضاة الله.وقابل قتالا مذموما بقتال يحمد فاعله عاجلا وآجلا.
والوسيلة: كالوصيلة.وفعل وسل قريب من فعل وصل، فالوسيلة: القربة، وهي فعيلة بمعنى مفعوله، أي متوسل بها أي اتبعوا التقرب اليه، أي بالطاعة.
و {إليه} متعلق بـ{ الوسيلة} أي الوسيلة إلى الله تعالى.فالوسيلة اريد بها ما يبلغ به إلى الله، وقد علم المسلمون أن البلوغ إلى الله ليس بلوغ مسافة ولكنه بلوغ زلفى ورضى.فالتعريف في الوسيلة تعريف الجنس، أي كل ما تعلمون أنه يقربكم إلى الله، أي ينيلكم رضاه وقبول أعمالكم لديه.فالوسيلة ما يقرب العبد من الله بالعمل بأوامره ونواهيه.وفي الحديث القدسي:"ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه"الحديث.والمجرور في قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} متعلق بـ {ابتغوا}. ويجوز تعلقه بـ {الوسيلة}، وقدم على متعلقه للحصر، أي لا تتوسلوا إلا إليه لا إلى غيره فيكون تعريضا بالمشركين لأن المسلمين لا يظن بهم ما يقتضي هذا الحصر.
[36ـ37] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [37]
الأظهر أن هذه الجملة متصلة بجملة {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33] اتصال البيان؛ فهي مبينة للجملة السابقة تهويلا للعذاب الذي توعدهم الله به في قوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33] فإن أولئك المحاربين الذين نزلت تلك الآية في جزائهم كانوا قد كفروا بعد إسلامهم وحاربوا الله ورسوله، فلما ذكر جزاؤهم عقب بذكر جزاء يشملهم ويشمل أمثالهم من الذين كفروا وذلك لا يناكد كون الآية للسابقة مرادا بها ما يشتمل أهل الحرابة من المسلمين.
والشرط في قوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} مقدر بفعل دلت عليه "أن" ، إذ التقدير:لو ثبت ما في الأرض ملكا لهم؛ فإن "لو" لاختصاصها بالفعل صح الاستغناء عن ذكره بعدها إذا وردت "أن" بعدها.وقوله: {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} معطوف على {مَا فِي الْأَرْضِ}، ولا حاجة إلى جعله مفعولا معه للاستغناء عن ذلك بقوله :{معه}. واللام في {لِيَفْتَدُوا بِهِ} مَا فِي الْأَرْضِ لتعليل الفعل المقدر، أي لو ثبت لهم ما في الأرض لأجل الافتداء به لا لأجل أن يكنزوه أو يهبوه.

وأفرد الضمير في قوله :{به} مع أن المذكور شيئان هما: {مَا فِي الْأَرْضِ } {ومثله}: إما على اعتبار الضمير راجعا إلى {مَا فِي الْأَرْضِ} فقط، ويكون قوله: {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} معطوفا مقدما من تأخير.وأصل الكلام لو أن لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثله معه.ودل على اعتباره مقدما من تأخير إفراد الضمير المجرور بالباء.ونكتة التقديم تعجيل اليأس من الافتداء إليهم ولو بمضاعفة ما في الأرض.وإما، وهو الظاهر عندي، أن يكون الضمير عائدا إلى {مِثْلَهُ مَعَهُ} ، لأن ذلك المثل شمل ما في الأرض وزيادة فلم تبق جدوى لفرض الافتداء بما في الأرض لأنه قد اندرج في مثله الذي معه.
ويجوز أن يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في صحة استعماله مفردا مع كونه عائدا إلى متعدد على تأويله بالمذكور؛ وهذا شائع في اسم الإشارة كقوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68]أي بين الفارض والبكر، وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68]إشارة ما ذكر من قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، لأن الإشارة صالحة للشيء وللأشياء، وهو قليل في الضمير، لأن صيغ الضمائر كثيرة مناسبة لما تعود إليه فخروجها عن ذلك عدول عن أصل الوضع، وهو قليل ولكنه فصيح، ومنه قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام:46]أي بالمذكور.وقد جعله في الكشاف محمولا على اسم الإشارة، وكذلك تأوله رؤبة لما أنشد قوله:
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق
فقال أبو عبيدة: "قلت: لرؤبة إن أردت الخطوط فقل:كأنها، وإن أردت السواد فقل:كأنهما، فقال:"أردت كأن ذلك ويلك".ومنه في الضمير قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} [النساء:4].وقد تقدم عند قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في سورة البقرة[68]
وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي دائم تأكيد لقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}.
[39,38] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [39]
جملة معطوفة على جملة {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} [المائدة:33] {والسارق}

مبتدأ والخبر محذوف عند سيبويه.والتقدير:مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.وقال المبرد:الخبر هو جملة {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط؛ لأن تقديره:والذي سرق والتي سرقت.والموصول إذا أريد منه التعميم ينزل منزلة الشرط أي يجعل "أل" فيها اسم موصول فيكون كقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15],وقوله: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16].قال سيبويه: "وهذا إذا كان في الكلام ما يدل على أن المبتدأ ذكر في معرض القصص أو الحكم أو الفرائض نحو {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا}{وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} إذ التقدير في جميع ذلك:وحكم اللاتي يأتين، أو وجزاء السارق والسارقة.
ولقد ذكرها ابن الحاجب في الكافية واختصرها بقوله:"والفاء للشرط عند المبرد وجملتان عند سيبويه، يعني:وأما عند المبرد فهي جملة شرط وجوابه فكأنها جملة واحدة وإلا فالمختار النصب"أشار إلى قراءة عيسى بن عمر {والسارق والسارقة} بالنصب، وهي قراءة شاذة لا يعتد بها فلا يخرج القرآن عليها.وقد غلط ابن الحاجب في قوله:فالمختار النصب.
وقوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ضمير الخطاب لولاة الأمور بقرينة المقام، كقوله :{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].وليس الضمير عائدا على الذين آمنوا في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:35].وجمع الأيدي باعتبار أفراد نوع السارق.وثني الضمير باعتبار الصنفين الذكر والأنثى؛ فالجمع هنا مراد منه التثنية كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]
ووجه ذكر السارقة مع السارق دفع توهم أن يكون صيغة التذكير في السارق قيدا بحيث لا يجرى حد السرقة إلا على الرجال، وقد كانت العرب لا يقيمون للمرأة وزنا فلا يجرون عليها الحدود، وهو الداعي إلى ذكر الأنثى في قوله تعالى في سورة البقرة {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} وقد سرقت المخزومية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يدها وعظم ذلك على قريش، فقالوا: "من يشفع لها عند رسول الله إلا زيد بن حارثة، فلما شفع لها أنكر عليه وقال: "أتشفع في حد من حدود الله، وخطب فقال: "إنما أهلك الذين من فبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف قطعوه،

والله لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها".
وفي تحقيق معنى السرقة ونصاب المقدار المسروق الموجب للحد وكيفية القطع مجال لأهل الاجتهاد من علماء السلف وأئمة المذاهب وليس من غرض المفسر.
وليس من عادة القرآن تحديد المعاني الرعية وتفاصيلها ولكنه يؤصل تأصيلها ويحيل ما وراء ذلك إلى متعارف أهل اللسان من معرفة حقائقها وتمييزها عما يشابهها.
فالسارق:المتصف بالسرقة.والسرقة معروفة عند العرب مميزة عن الغارة والغصب والاغتصاب والخلسة، والمؤاخذة بها ترجع إلى اعتبار الشيء المسروق مما يشح به معظم الناس.
فالسرقة: أخذ أحد شيئا لا يملكه خفية عن مالكه مخرجا إياه من موضع هو حرز مثله لم يؤذن آخذه بالدخول إليه.
والمسروق: ما له منفعة لا يتسامح الناس في إضاعته.وقد أخذ العلماء تحديده بالرجوع إلى قيمة أقل شيء حكم النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يد من سرقه.وقد ثبت في الصحيح أنه حكم بقطع يد سارق حجفة بحاء مهملة فجيم مفوحتين "ترس بن جلد" تساوي ربع دينار في قول الجمهور، وتساوي دينارا في قول أبي حنيفة، والثوري، وابن عباس، وتساوي نصف دينار في قول بعض الفقهاء.
ولم يذكر القرآن في عقوبة السارق سوى قطع اليد.وقد كان قطع يد السارق حكما من عهد الجاهلية، قضى به الوليد بن المغيرة فأقره الإسلام كما في الآية.ولم يرد في السنة خبر صحيح إلا بقطع اليد.وأول رجل قطعت يده في الإسلام الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وأول امرأة قطعت يدها المخزومية مرة بنت سفيان.
فاتفق الفقهاء على أن أول ما يبدأ به في عقوبة السارق أن تقطع يده.فقال الجمهور:"اليد اليمنى"، وقال فريق:"اليد اليسرى"، فإن سرق ثانية، فقال جمهور الأئمة:"تقطع رجله المخالفة ليده المقطوعة".وقال علي بن أبي طالب:"لا يقطع ولكن يحبس ويضرب".وقضى بذلك عمر بن الخطاب، وهو قول أبي حنيفة.فقال علي:"إني لأستحيي أن أقطع يده الأخرى فبأي شيء يأكل ويستنجي أو رجله فعلى أي شيء يعتمد"؛ فإن سرق الثالثة والرابعة فقال مالك والشافعي:"تقطع يده الأخرى ورجله الأخرى"، وقال الزهري:"لم يبلغنا في السنة إلا قطع اليد والرجل لا يزاد على ذلك"، وبه قال أحمد بن حنبل،

والثوري، وحماد بن سلمة.ويجب القضاء بقول أبي حنيفة فإن الحدود تدرأ بالشبهات وأي شبهة أعظم من اختلاف أئمة الفقه المعتبرين.
والجزاء: المكافأة على العمل بما يناسب ذلك العمل من خير أو شر، قال تعالى :{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ـإلى قوله جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} في سورة النبأ[31ـ36]، وقال تعالى : {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} في سورة الشورى[40]
والنكال:العقاب الشديد الذي من شأنه أن يصد المعاقب عن العود إلى مثل عمله الذي عوقب عليه، وهو مشتق من النكول عن الشيء، أي النكوص عنه والخوف منه.فالنكال ضرب من جزاء السوء، وهو أشده، وتقدم عند قوله تعالى :{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً} الآية في سورة البقرة[66].
وانتصب {جزاء} على الحال أو المفعول لأجله، وانتصب {نكالا} على البدل من {جزاء} بدل اشتمال.
فحكمة مشروعية القطع الجزاء على السرقة جزاء يقصد منه الردع وعدم العود، أي جزاء ليس بانتقام ولكنه استصلاح.وضل من حسب القطع تعويضا عن المسروق، فقال من بيتين ينسبان إلى المعري وليس في "السقط" ولا في "اللزوميات" :
يد بخمس مئين عسجدا وديت
ما بالها قطعت في ربع دينار ونسب جوابه لعلم الدين السخاوي:
عز الأمانة أغلاها؛ وأرخصها ... ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
وقوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} أي من تاب من السارقين من بعد السرقة تاب الله عليه، أي قبلت توبته.وقد تقدم معناه عند قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} في سورة البقرة[37].وليس في الآية ما يدل على إسقاط عقوبة السرقة عن السارق إن تاب قبل عقابه، لأن ظاهر "تاب وتاب الله عليه" أنه فيما بين العبد وبين ربه في جزاء الآخرة؛ فقوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} ترغيب لهؤلاء العصاة في التوبة وبشارة لهم.ولا دليل في الآية على إبطال حكم العقوبة في بعض الأحوال كما في آية المحاربين، فلذلك قال جمهور العلماء:"توبة السارق لا تسقط القطع ولو جاء تائبا قبل القدرة عليه.ويدل لصحة قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد المخزومية ولا شك أنها تائبة.

قال ابن العربي: "لأن المحارب مستبد بنفسه معتصم بقوته لا يناله الإمام إلا بالإيجاف بالخيل والركاب فأسقط إجزاؤه بالتوبة استنزالا من تلك الحالة كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الإسلام.وأما السارق والزاني فهما في قبضة المسلمين،"اهـ.
وقال عطاء:"إن جاء السارق تائبا قبل القدرة عليه سقط عنه القطع"، ونقل هذا عن الشافعي، وهو من حمل المطلق على المقيد حملا على حكم المحارب، وهذا يشبه أن يكون من متحد السبب مختلف الحكم.والتحقيق أن آية الحرابة ليست من المقيد بل هي حكم مستفاد استقلالا وأن الحرابة والسرقة ليسا سببا واحدا فليست المسألة من متحد السبب ولا من قبيل المطلق الذي قابله مقيد.
[40] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [40]
استئناف بياني، جواب لمن يسأل عن انقلاب حال السارق من العقاب إلى المغفرة بعد التوبة مع عظم جرمه بأن الله هو المتصرف في السماوات والأرض وما فيهما، فهو العليم بمواضع العقاب ومواضع العفو.
[41ـ42] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
استئناف ابتدائي لتهوين تألب المنافقين واليهود على الكذب والاضطراب في معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم وسوء طواياهم معه، بشرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم مما عسى أن يحزنه من طيش اليهود واستخفافهم ونفاق المنافقين.وافتتح الخطاب بأشرف الصفات وهي صفة الرسالة

عن الله.
وسبب نزول هذه الآيات حدث أثناء مدة نزول هذه السورة فعقبت الآيات النازلة قبلها بها.وسبب نزول هذه الآية وما أشارت إليه هو ما رواه أبو داود، والواحدي في أسباب النزول، والطبري في تفسيره ما محصله:أن اليهود اختلفوا في حد الزاني "حين زنى فيهم رجل بامرأة من أهل خيبر أو أهل فدك" ، بين أن يرجم وبين أن يجلد ويحمم1 اختلافا ألجأهم إلى أن أرسلوا إلى يهود المدينة أن يحكموا رسول الله في شأن ذلك، وقالوا: إن حكم بالتحميم قبلنا حكمه وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه، وأن رسول الله قال لأحبارهم بالمدينة: "ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن"، قالوا:"يحمم ويجلد ويطاف به"، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كذبهم وأعلمهم بأن حكم التوراة هو الرجم على من أحصن، فأنكروا، فأمر بالتوراة أن تنشر "أي تفتح طياتها وكانوا يلفونها على عود بشكل إصطواني" وجعل بعضهم يقرأها ويضع يده على آية الرجم "أي يقرؤها للذين يفهمونها" فقال له رسول الله:"ارفع يدك"فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم، فقال رسول الله:"لأكونن أول من أحيى حكم التوراة".فحكم بأن يرجم الرجل والمرأة .وفي روايات أبي داود أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} نزل في شأن ذلك، وكذلك روى الواحدي والطبري.
ولم يذكروا شيئا يدل على سبب الإشارة إلى ذكر المنافقين في صدر هذه الآية بقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} ولعل المنافقين ممن يبطنون اليهودية كانوا مشاركين لليهود في هذه القضية، أو كانوا ينتظرون أن لا يوجد في التوراة حكم رجم الزاني فيتخذوا ذلك عذرا لإظهار ما أبطنوه من الكفر بعلة تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأحسب أن التجاء اليهود إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ليس لأنهم يصدقون برسالته ولا لأنهم يعدون حكمه ترجيحا في اختلافهم ولكن لأنهم يعدونه ولي الأمر في تلك الجهة وما يتبعها.ولهم في قواعد أعمالهم وتقادير أحبارهم أن يطيعوا ولاة الحكم عليهم من غير أهل ملتهم.فلما اختلفوا في حكم دينهم جعلوا الحكم لغير المختلفين لأن حكم ولي الأمر مطاع عندهم.فحكم رسول الله حكما جمع بين إلزامهم بموجب تحكيمهم وبين إظهار خطئهم في العدول عن حكم كتابهم، ولذلك سماه الله تعالى القسط في قوله :{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}.
ـــــــ
1 معنى يحمّم يلطخ وجهه بالسواد تمثيلا به.

في قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}.
ويحتمل أن يكون ناشئا عن رأي من يثبت منهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه رسول للأميين خاصة.وهؤلاء هم اليهود العيسوية، فيكون حكمه مؤيدا لهم، لأنه يعد كالإخبار عن التوراة، ويؤيده ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن يهوديا زنى بيهودية فقال بعضهم لبعض:"اذهبوا بنا إلى محمد فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتى بالجلد دون الرجم قبلنا واحتججنا بها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك، وإما أن يكون ذلك من نوع الاعتضاد بموافقة شريعة الإسلام فيكون ترجيح أحد التأويلين بموافقته لشرع آخر".ويؤيده ما رواه أبو داود والترمذي أنهم قالوا: "ذهب سلطاننا فكرهنا القتل؛ وإما أن يكونوا قد عدلوا عن حكم شريعتهم توقفا عند التعارض فمالوا إلى التحكيم.ولعل ذلك مباح في شرعهم، ويؤيده أنه ورد في حديث البخاري وغيره أنهم لما استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم انطلق مع أصحابه حتى جاء المدراس وهو بيت تعليم اليهود وحاجهم في حكم الرجم، وأجابه حبران منهم يدعيان بابني صوريا بالاعتراف بثبوت حكم الرجم، في التوراة؛ وإما أن يكونوا حكموا النبي صلى الله عليه وسلم قصدا لاختباره فيما يدعي من العلم بالوحي، وكان حكم الرجم عندهم مكتوما لا يعلمه إلا خاصة أحبارهم، ومنسيا لا يذكر بين علمائهم، فلما حكم عليهم به بهتوا، ويؤيد ذلك ما ظهر من مرادهم في إنكارهم وجود حكم الرجم.ففي صحيح البخاري أنهم أنكروا أن يكون حكم الرجم في التوراة وأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء المدراس فأمر بالتوراة فنشرت فجعل قارئهم يقرأ ويضع يده على آية الرجم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على ذلك فأمره أن يرفع يده وقرئت آية الرجم واعترف ابنا صوريا بها.وأياما كان فهذه الحادثة مؤذنة باختلال نظام الشريعة بين اليهود يومئذ وضعف ثقتهم بعلومهم.
ومعنى {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ} نهيه عن أن يحصل له إحزان مسند إلى الذين يسارعون في الكفر.والإحزان فعل الذين يسارعون في الكفر، والنهي عن فعل الغير إنما هو نهي عن أسبابه، أي لا تجعلهم يحزنونك، أي لا تهتم بما يفعلون مما شأنه أن يدخل الحزن على نفسك.وهذا استعمال شائع وهو من استعمال المركب في معناه الكنائي.ونظيره قولهم:لا أعرفنك تفعل كذا، أي لا تفعل حتى أعرفه.وقولهم:لا ألفينك ههنا، ولا أرينك هنا.
وإسناد الإحزان إلى الذين يسارعون في الكفر مجاز عقلي ليست له حقيقة لأن الذين يسارعون سبب في الإحزان، وأما مثير الحزن في نفس المحزون فهو غير معروف في

العرف؛ ولذلك فهو من المجاز الذي ليست له حقيقة.وأما كون الله هو موجد الأشياء كلها فذلك ليس مما تترتب عليه حقيقة ومجاز؛ إذ لو كان كذلك لكان غالب الإسناد مجازا عقليا، وليس كذلك، وهذا مما يغلط فيه كثير من الناظرين في تعيين حقيقة عقلية لبعض موارد المجاز العقلي.ولقد أجاد الشيخ عبد القاهر إذ قال في دلائل الإعجاز:"اعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه صار حقيقة فإنك لا تجد في قولك أقدمني بلدك حق لي على فلان,فاعلا سوى الحق",وكذلك في قوله:
وصيرني هواك وبي ... لحيني يضرب المثل
ويزيدك وجهه حسنا
أن تزعم أن له فاعلا قد نقل عنه الفعل فجعل للهوى وللوجه"اهـ.ولقد وهم الإمام الرازي1 في تبيين كلام عبد القاهر فطفق يجلب الشواهد الدالة على أن أفعالا قد أسندت لفاعل مجازي مع أن فاعلها الحقيقي هو الله تعالى، فإن الشيخ لا يعزب عنه ذلك ولكنه يبحث عن الفاعل الذي يسند إليه الفعل حقيقة في عرف الناس من مؤمنين وكافرين.ويدل لذلك قوله: "إذا أنت نقلت الفعل إليه" أي أسندته إليه.
ومعنى المسارعة في الكفر إظهار آثاره عند أدنى مناسبة وفي كل فرصة، فشبه إظهاره المتكرر بإسراع الماشي إلى الشيء، كما يقال:أسرع إليه الشيب، وقوله:إذا نهي السفيه جرى إليه.
وعدي بفي الدالة على الظرفية للدلالة على أن الإسراع مجاز بمعنى التوغل، فيكون "في" قرينة المجاز، كقولهم:أسرع الفساد في الشيء، وأسرع الشيب في رأس فلان.فجعل الكفر بمنزلة الظرف وجعل تخبطهم فيه وشدة ملابستهم إياه بمنزلة جولان الشيء في الظرف جولانا بنشاط وسرعة.ونظيره قوله :{يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ} [المائدة:62]وقوله: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:56] {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:61].فهي استعارة متكررة في القرآن وكلام العرب.وسيجيء ما هو أقوى منها وهو قوله :{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:52].
وقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} إلخ بيان للذين يسارعون في الكفر.والذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون.
ـــــــ
1 في كتابه نهاية الإعجاز.

وقوله : {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} معطوف على قوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا}. والوقف على قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا}.
وقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} خبر مبتدأ محذوف، تقديره:هم سماعون للكذب.والظاهر أن الضمير المقدر عائد على الفريقين:المنافقين واليهود، بقرينة الحديث عن الفريقين.
وحذف المسند إليه في مثل هذا المقام حذف اتبع فيه الاستعمال، وذلك بعد أن يذكروا متحدثا عنه أو بعد أن يصدر عن شيء أمر عجيب يأتون بأخبار عنه بجملة محذوف المبتدأ منها، كقولهم للذي يصيب بدون قصد"رمية من غير رام"وقول أبي الرقيش:
سريع إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داعي الندى بسريع
وقول بعض شعراء الحماسة1:
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
عقب قوله:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
والسماع: الكثير السمع، أي الاستماع لما يقال له.والسمع مستعمل في حقيقته، أي أنهم يصغون إلى الكلام الكذب وهم يعرفونه كذبا، أي أنهم يحفلون بذلك ويتطلبونه فيكثر سماعهم إياه.وفي هذا كناية عن تفشي الكذب في جماعتهم بين سامع ومختلق، لأن كثرة السمع تستلزم كثرة القول.والمراد بالكذب كذب أحبارهم الزاعمين أن حكم الزنى في التوراة التحميم.
وجملة {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} خبر ثان عن المبتدأ المحذوف.والمعنى أنهم يقبلون ما يأمرهم به قوم آخرون من كتم غرضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن حكم بما يهوون اتبعوه وإن حكم بما يخالف هواهم عصوه، أي هم أتباع لقوم متسترين هم القوم الآخرون، وهم أهل خيبر وأهل فدك الذين بعثوا بالمسألة ولم يأت أحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
1 قيل هو عبد الله بن الزبيرـ بفتح الزاي وكسر الموحدة ـ الأسدي ـ وقيل:إبراهيم الصولي,وقيل محمد.بن سعيد الكاتب

واللام في {لقوم} للتقوية لضعف اسم الفاعل عن العمل في المفعول.
وجملة {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} صفة ثانية {لِقَوْمٍ آخَرِينَ} أو حال، ولك أن تجعلها حالا " من الذين يسارعون في الكفر.وتقدم الكلام في تحريف الكلم عند قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} في سورة النساء[46]، وأن التحريف الميل إلى حرف،أي جانب، أي نقله من موضعه إلى طرف آخر.
وقال هنا : {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}، وفي سورة النساء[46] {عَنْ مَوَاضِعِهِ} ، لأن آية سورة النساء في وصف اليهود كلهم وتحريفهم في التوراة.فهو تغيير كلام التوراة بكلام آخر عن جهل أو قصد أو خطأ في تأويل معاني التوراة أو في ألفاظها.فكان إبعادا للكلام عن مواضعه، أي إزالة للكلام الأصلي سواء عوض بغيره أو لم يعوض.وأما هاته الآية ففي ذكر طائفة معينة أبطلوا العمل بكلام ثابت في التوراة إذ ألغوا حكم الرجم الثابت فيها دون تعويضه بغيره من الكلام، فهذا أشد جرأة من التحريف الآخر، فكان قوله: {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أبلغ في تحريف الكلام، لأن لفظ "بعد" يقتضي أن مواضع الكلم مستقرة وأنه أبطل العمل بها مع بقائها قائمة في كتاب التوراة.
والإشارة التي في قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} إلى الكلم المحرف.والإيتاء هنا:الإفادة كقوله: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:251].
والأخذ: القبول، أي إن أجبتم بمثل ما تهوون فاقبلوه وإن لم تجابوه فاحذروا قبوله.وإنما قالوا:فاحذروا، لأنه يفتح عليهم الطعن في أحكامهم التي مضوا عليها وفي حكامهم الحاكمين بها.
وإرادة الله فتنة المفتون قضاؤها له في الأزل، وعلامة ذلك التقدير عدم إجداء الموعظة والإرشاد فيه.فذلك معنى قوله: {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} ، أي لا تبلغ إلى هديه بما أمرك الله به من الدعوة للناس كافة.
وهذا التركيب يدل في كلام العرب على انتفاء الحيلة في تحصيل أمر ما.ومدلول مفرداته أنك لا تملك، أي لا تقدر على أقل شيء من الله، أي لا تستطيع نيل شيء من تيسير الله لإزالة ضلالة هذا المفتون، لأن مادة الملك تدل على تمام القدرة، قال قيس بن الخطيم:
ملكت بها كفي فأنهر فتقها

أي شددت بالطعنة كفي، أي ملكتها بكفي، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعينية بن حصن: "أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة". وفي حديث دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عشيرته: "فإني لا أغني عنكم من الله شيئا".
و " شيئا" منصوب على المفعولية.وتنكير{شيئا} للتقليل والتحقير، لأن الاستفهام لما كان بمعنى النفي كان انتفاء ملك شيء قليل مقتضيا انتفاء ملك الشيء الكثير بطريق الأولى.
والقول في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} كالقول في قوله :{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ}
والمراد بالتطهير التهيئة لقبول الإيمان والهدى أو أراد بالتطهير نفس قبول الإيمان.
والخزي تقدم عند قوله تعالى: {إِلَّا خِزْيٌ} في سورة البقرة[85]،وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} في سورة آل عمران[192].
وأعاد {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} للتأكيد وليرتب عليه قوله: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}
ومعنى {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أخاذون له، لأن الأكل استعارة لتمام الانتفاع.والسحت بضم السين وسكون الحاء الشيء المسحوت، أي المستأصل.يقال:سحته إذا استأصله وأتلفه.سمي به الحرام لأنه لا يبارك فيه لصاحبه، فهو مسحوت وممحوق، أي مقدر له ذلك، كقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:276]، قال الفرزدق:
وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجنف
والسحت يشمل جميع المال الحرام، كالربا والرشوة وأكل مال اليتيم والمغصوب.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر، وخلف " سحت " بسكون الحاء وقرأه الباقون بضم الحاء إتباعا لضم السين.
{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[42]}
تفريع على ما تضمنه قوله تعالى : {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} وقوله :{يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} ، فإن ذلك دل على حوار وقع بينهم في إيفاد نفر منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتحكيم في شأن من شئونهم مالت أهواؤهم إلى تغيير حكم التوراة فيه

بالتأويل أو الكتمان، وأنكر عليهم منكرون أو طالبوهم بالاستظهار على تأويلهم فطمعوا أن يجدوا في تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم ما يعتضدون به.وظاهر الشرط يقتضي أن الله أعلم ورسوله باختلافهم في حكم حد الزنا، وبعزمهم على تحكيمه قبل أن يصل إليه المستفتون.وقد قال بذلك بعض المفسرين فتكون هذه الآية من دلائل النبوءة.ويحتمل أن المراد:فإن جاؤوك مرة أخرى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم.
وقد خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم والإعراض عنهم.ووجه التخيير تعارض السببين؛ فسبب إقامة العدل يقتضي الحكم بينهم، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم لئلا يعرض الحكم النبوي للاستخفاف.وكان ابتداء التخيير في لفظ الآية بالشق المقتضي أنه يحكم بينهم إشارة إلى أن الحكم بينهم أولى، ويؤيده قوله بعد: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي بالحق، وهو حكم الإسلام بالحد.وأما قوله: {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} فذلك تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقول في نفسه: كيف أعرض عنهم، فيتخذوا ذلك حجة علينا، يقولون:ركنا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنا فلا نسمع دعوتكم من بعد.وهذا مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يؤول إلى تنفير رؤسائهم دهماءهم من دعوة الإسلام فطمنه الله تعالى بأنه إن فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرة.ولعل في هذا التطمين إشعارا بأنهم لا طمع في إيمانهم في كل حال.وليس المراد بالضر ضر العداوة أو الأذى لأن ذلك لا يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخشاه منهم، خلافا لما فسر به المفسرون هنا.
وتنكير {شيئا} للتحقير كما هو في أمثاله، مثل {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} وهو منصوب على المفعولية المطلقة لأنه في نية الإضافة إلى مصدر، أي شيئا من الضر، فهو نائب عن المصدر.وقد تقدم القول في موقع كلمة شيء عند قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} في سورة البقرة[155].
والآية تقتضي تخيير حكام المسلمين في الحكم بين أهل الكتاب إذا حكموهم؛ لأن إباحة ذلك التخيير لغير الرسول من الحكام مساو إباحته للرسول.واختلف العلماء في هذه المسألة وفي مسالة حكم حكام المسلمين في خصومات غير المسلمين.وقد دل الاستقراء على أن الأصل في الحكم بين غير المسلمين إذا تنازع بعضهم مع بعض أن يحكم بينهم حكام ملتهم، فإذا تحاكموا إلى حكام المسلمين فإن كان ما حدث من قبيل الظلم كالقتل والغصب وكل ما ينتشر منه فساد فلا خلاف أنه يجب الحكم بينهم "وعلى هذا فالتخيير

الذي في الآية مخصوص بالإجماع" .وإن لم يكن كذلك كالنزاع في الطلاق والمعاملات.
فمن العلماء من قال: "حكم هذا التخيير محكم غير منسوخ"، وقالوا: الآية نزلت في قصة الرجم التي رواها مالك في الموطأ والبخاري ومن بعده وذلك أن يهوديا زنى بامرأة يهودية، فقال جميعهم:"لنسأل محمدا عن ذلك".فتحاكموا إليه، فخيره الله تعالى.واختلف أصحاب هذا القول فقال فريق منهم:كان اليهود بالمدينة يومئذ أهل موادعة ولم يكونوا أهل ذمة، فالتخيير باق مع أمثالهم ممن ليس داخلا تحت ذمة الإسلام، بخلاف الذين دخلوا في ذمة الإسلام فهؤلاء إذا تحاكموا إلى المسلمين وجب الحكم بينهم.وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى بن دينار، لأن اليهوديين كانا من أهل خيبر أو فدك وهما يومئذ من دار الحرب في موادعة.
وقال الجمهور:هذا التخيير عام في أهل الذمة أيضا.وهذا قول مالك ورواية عن الشافعي.قال مالك:"الأعراض أولى".وقيل:"لا يحكم بينهم في الحدود"، وهذا أحد قولي الشافعي.وقيل:"التخيير منسوخ بقوله تعالى بعد: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، وهو قول أبي حنيفة، وقاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، وعمر بن عبد العزيز، والنخعي، وعطاء الخراساني.ويبعده أن سياق الآيات يقتضي أنها نزلت في نسق واحد فيبعد أن يكون آخرها نسخا لأولها.
وقوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل.والعدل:الحكم الموافق لشريعة الإسلام.وهذا يحتمل أن الله نهى رسوله عن أن يحكم بينهم بما في التوراة لأنها شريعة منسوخة بالإسلام.وهذا الذي رواه مالك.وعلى هذا فالقصة التي حكموا فيها رسول الله لم يحكم فيها الرسول على الزانيين ولكنه قصر حكمه على أن بين لليهود حقيقة شرعهم في التوراة، فاتضح بطلان ما كانوا يحكمون به لعدم موافقته شرعهم ولا شرع الإسلام؛ فهو حكم على اليهود بأنهم كتموا.ويكون ما وقع في حديث الموطأ والبخاري:أن الرجل والمرأة رجما، إنما هو بحكم أحبارهم.ويحتمل أن الله أمره أن يحكم بينهم بما في التوراة لأنه يوافق حكم الإسلام؛ فقد حكم فيه بالرجم قبل حدوث هذه الحادثة أو بعدها.ويحتمل أن الله رخص له أن يحكم بينهم بشرعهم حين حكموه.وبهذا قال بعض العلماء فيما حكاه القرطبي.وقائل هذا يقول:"هذا نسخ بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، وهو قول جماعة من التابعين.ولا داعي إلى دعوى النسخ، ولعلهم أرادوا به ما يشمل البيان، كما سنذكره عند قوله: {فَاحْكُمْ

بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48].
والذي يستخلص من الفقه في مسألة الحكم بين غير المسلمين دون تحكيم:أن الأمة أجمعت على أن أهل الذمة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأن عهود الذمة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددت لهم شرائعهم.ولذلك فالأمور التي يأتونها تنقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: ما هو خاص بذات الذمي من عبادته كصلاته وذبحه وغيرها مما هو من الحلال والحرام.وهذا لا اختلاف بين العلماء في أن أيمة المسلمين لا يتعرضون لهم بتعطيله إلا إذا كان فيه فساد عام كقتل النفس.
القسم الثاني: ما يجري بينهم من المعاملات الراجعة إلى الحلال والحرام في الإسلام، كأنواع من الأنكحة والطلاق وشرب الخمر والأعمال التي يستحلونها ويحرمها الإسلام.وهذه أيضا يقرون عليها، قال مالك:"لا يقام حد الزنا على الذميين، فإن زنى مسلم بكتابية يحد المسلم ولا تحد الكتابية".قال ابن خويز منداد:"ولا يرسل الإمام إليهم رسولا ولا يحضر الخصم مجلسه".
القسم الثالث:ما يتجاوزهم إلى غيرهم من المفاسد كالسرقة والاعتداء على النفوس والأعراض.وقد أجمع علماء الأمة على أن هذا القسم يجري على أحكام الإسلام، لأنا لم نعاهدهم على الفساد، وقد قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، ولذلك نمنعهم من بيع الخمر للمسلمين ومن التظاهر بالمحرمات.
القسم الرابع:ما يجري بينهم من المعاملات التي فيها اعتداء بعضهم على بعض:كالجنايات، والديون، وتخاصم الزوحين.فهذا القسم إذا تراضوا فيه بينهم لا نتعرض لهم، فإن استعدى أحدهم على الآخر بحاكم المسلمين.فقال مالك:"يقضي الحاكم المسلم بينهم فيه وجوبا، لأن في الاعتداء ضربا من الظلم والفساد"، وكذلك قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر.وقال أبو حنيفة:"لا يحكم بينهم حتى يتراضى الخصمان معا".
[43] {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}

هذه الجملة عطف على جملة: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42}.والاستفهام للتعجيب، ومحل العجب مضمون قوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، أي من العجيب أنهم يتركون كتابهم ويحكمونك وهم غير مؤمنين بك ثم يتولون بعد حكمك إذا لم يرضهم.فالإشارة بقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} إلى الحكم المستفاد من {يحكمونك} ، أي جمعوا عدم الرضى بشرعهم وبحكمك.وهذه غاية التعنت المستوجبة للعجب في كلتا الحالتين، كما وصف الله حال المنافقين في قوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49,48].ويحتمل أن الاستفهام إنكاري، أي هم لا يحكمونك حقا.ومحل الإنكار هو أصل ما يدل عليه الفعل من كون فاعله جادا، أي لا يكون تحكيمهم صادقا بل هو تحكيم صوري يبتغون به ما يوافق أهواءهم، لأن لديهم التوراة فيها حكم ما حكموك فيه، وهو حكم الله، وقد نبذوها لعدم موافقتها أهواءهم، ولذلك قدروا نبذ حكومتك إن لم توافق هواهم، فما هم بمحكمين حقيقة.فيكون فعل{يحكمونك} مستعملا في التظاهر بمعنى الفعل دون وقوعه، كقوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا} [التوبة:64]الآية.ويجوز على هذا أن تكون الإشارة بقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} إلى مجموع ما ذكر، وهو التحكيم، وكون التوراة عندهم، أي يتولون عن حكمك في حال ظهور الحجة الواضحة، وهي موافقة حكومتك لحكم التوراة.
وجملة: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} في موضع الحال من ضمير الرفع في {يحكمونك}. ونفي الإيمان عنهم مع حذف متعلقه للإشارة إلى أنهم ما آمنوا بالتوراة ولا بالإسلام فكيف يكون تحكيمهم صادقا.
وضمير {فيها} عائد إلى التوراة، فتأنيثه مراعاة لاسم التوراة وإن كان مسماها كتابا ولكن لأن صيغة فعلاة معروفة في الأسماء المؤنثة مثل موماة.وتقدم وجه تسمية كتابهم توراة عند قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} في سورة آل عمران[3].
[44] {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68