كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

يكونون ممن يأتي الله بهم على الطاعة، وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي الله بهم مطيعين، وأما هنالك فسواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون فلم يكن للتعليق أي بالشرط هنالك وجه فرفع بالابتداء وهاهنا جزم للتعليق اه. وهو دقيق ويزاد أن الفعل المعطوف على الجزاء في آية آل عمران وقع في آخر الفاصلة التي جرت أخواتها على حرف الواو والنون فلو أوثر جزم الفعل لأزيلت النون فاختلت الفاصلة.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفتحسورة {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1]
سميت في كلام الصحابة سورة الفتح. ووقع في صحيح البخاري عن عبد الله بن مغفل بغين معجمة مفتوحة وفاء مشددة مفتوحة قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة سورة الفتح فرجع فيها. وفيها حديث سهل بن حنيف لقد رأيتنا يوم الحديبية ولو ترى قتالا لقاتلنا. ثم حكى مقاله عمر إلى أن قال فنزلت سورة الفتح ولا يعرف لها اسم آخر. ووجه التسمية أنها تضمنت حكاية فتح متجه الله للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
وهي مدنية على المصطلح المشهور في أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو كان نزوله في مكان غير المدينة من أرضها أو من غيرها. وهذه السورة نزلت بموضع يقال له كراع الغميم بضم الكاف من كراع وبفتح الغين المعجمة وكسر الميم من الغميم موضع بين مكة والمدينة وهو واد على مرحلتين من مكة وعلى ثلاثة أميال من عسفان وهو من أرض مكة. وقيل نزلت بضجنان بوزن سكران وهو جبل قرب مكة ونزلت ليلا فهي من القرآن الليلي.
ونزولها سنة ست بعد الهجرة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية وقبل غزوة خيبر. وفي الموطإ عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره أي منصرفه من الحديبية ليلا وعمر بن الخطاب يسير معه فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال: عمر ثكلت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر: فحركت بعيري وتقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال: "لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب الي مما طلعت عليه الشمس" ثم قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] ومعنى قوله لهي

أحب إلي مما طلعت عليه الشمس لما اشتملت عليه من قوله {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح: من الآية2].
وأخرج مسلم والترمذي عن أنس قال أنزل على النبي {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} إلى قوله {فَوْزاً عَظِيماً} [الفتح: 2-5] مرجعه من الحديبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض ثم قرأها.
وهي السورة الثالثة عشرة بعد المائة في ترتيب نزول السور في قول جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الصف وقبل سورة التوبة. وعدة آيها تسع وعشرون. وسبب نزولها ما رواه الواحدي وابن إسحاق عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة أنزل الله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} فقال رسول الله: "لقد أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا وما فيها" وفي رواية "من أولها إلى آخرها". أغراضها
تضمنت هذه السورة بشارة المؤمنين بحسن عاقبة صلح الحديبية وأنه نصر وفتح فنزلت به السكينة في قلوب المسلمين وأزال حزنهم من صدهم عن الاعتمار بالبيت وكان المسلمون عدة لا تغلب من قلة فرأوا أنهم عادوا كالخائبين فأعلمهم الله بأن العاقبة لهم، وأن دائرة السوء على المشركين والمنافقين. والتنويه بكرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه ووعده بنصر متعاقب. والثناء على المؤمنين الذين عزروه وبايعوه، وأن الله قدم مثلهم في التوراة وفي الإنجيل. ثم ذكر بيعة الحديبية والتنويه بشأن من حضرها. وفضح الذين تخلفوا عنها من الأعراب ولمزهم بالجبن والطمع وسوء الظن بالله وبالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعهم من المشاركة في غزوة خيبر، وإنبائهم بأنهم سيدعون إلى جهاد آخر فإن استجابوا غفر لهم تخلفهم عن الحديبية. ووعد النبي صلى الله عليه وسلم بفتح آخر يعقبه فتح أعظم منه وبفتح مكة. وفيها ذكر بفتح من خيبر كما سيأتي في قوله تعالى {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: من الآية20]
[1-3] {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً}
افتتاح الكلام بحرف "إن" ناشئ على ما أحل للمسلمين من الكآبة على أن أجيب المشركون إلى سؤالهم الهدنة كما سيأتي من حديث عمر بن الخطاب وما تقدم من حديث

عبد الله بن مغفل فالتأكيد مصروف للسامعين على طريقة التعريض، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقا بذلك، وسيأتي تبيين هذا التأكيد قريبا.
والفتح: إزالة غلق الباب أو الخزانة قال تعالى {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} ويطلق على النصر وعلى دخول الغازي بلاد عدوه لأن أرض كل قوم وبلادهم مواقع عنها فاقتحام الغازي إياها بعد الحرب يشبه إزالة الغلق عن البيت أو الخزانة، ولذلك كثر إطلاق الفتح على النصر المقترن بدخول أرض المغلوب أو بلده ولم يطلق على انتصار كانت نهايته غنيمة وأسر دون اقتحام أرض فيقال: فتح خيبر وفتح مكة ولا يقال: فتح بدر. وفتح أحد. فمن أطلق الفتح على مطلق النصر فقد تسامح، وكيف وقد عطف النصر على الفتح في قوله {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} في سورة الصف.[13]
ولعل الذي حداهم على عد النصر من معاني مادة الفتح أن فتح البلاد هو أعظم النصر لأن النصر يتحقق بالغلبة وبالغنيمة فإذا كان مع اقتحام أرض العدو فذلك نصر عظيم لأنه لا يتم إلا مع انهزام العدو أشنع هزيمة وعجزه عن الدفاع عن أرضه. وأطلق الفتح على الحكم قال تعالى {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية سورة ألم السجدة. [28]
ولمراعاة هذا المعنى قال جمع من المفسرين: المراد بالفتح هنا فتح مكة وأن محمله على الوعد بالفتح. والمعنى: سنفتح. وإنما جيء في الأخبار بلفظ الماضي لتحققه وتيقنه، شبه الزمن المستقبل بالزمن الماضي فاستعملت له الصيغة الموضوعة للمضي. أو نقول استعمل {فتحنا} بمعنى: قدرنا لك الفتح، ويكون هذا الاستعمال من مصطلحات القرآن لأنه كلام من له التصرف في الأشياء لا يحجزه عن التصرف فيها مانع. وقد جرى على عادة إخبار الله تعالى لأنه لا خلاف في إخباره، وذلك أيضا كناية عن علو شأن المخبر مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].
وما يندرج في هذا التفسير أن يكون المراد بالفتح صلح الحديبية تشبيها له بفتح مكة لأنه توطئة له فعن جابر بن عبدالله ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية ، يريد أنهم أيقنوا بوقوع فتح مكة بهذا الوعد، وعن البراء بن عازب تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ،يريد أنكم تحملون الفتح في قوله {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} على فتح بيعة الرضوان وإن كان فتح مكة هو الغالب عليه اسم الفتح. ويؤيد هذا المحمل حديث عبد الله بن مغفل

قرأ رسول الله يوم فتح مكة سورة الفتح ، وفي رواية دخل مكة وهو يقرأ سورة الفتح على راحلته.
على أن قرائن كثيرة ترجح أن يكون المراد بالفتح المذكور في سورة الفتح: أولاها أنه جعله مبينا.
الثانية: أنه جعل علته النصر العزيز الثانية ، ولا يكون الشيء علة لنفسه.
الثالثة: قوله {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: من الآية18].
الرابعة: قوله {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: من الآية19].
الخامسة: قوله {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: من الآية27]
والجمهور على أن المراد في سورة الفتح هو صلح الحديبية، وجعلوا إطلاق اسم الفتح عليه مجازا مرسلا باعتبار أنه آل إلى فتح خيبر وفتح مكة، أو كان سببا فيهما فعن الزهري لقد كان يوم الحديبية أعظم الفتوح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة فلما وقع صلح مشي الناس بعضهم في بعض، أي تفرقوا في البلاد فدخل بعضهم أرض بعض من أجل الأمن بينهم، وعلموا وسمعوا عن الله فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف اه، وفي رواية فلما كانت الهدنة أمن الناس بعضهم بعضا فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة فلم يكلم أحد يعقل بالإسلام إلا دخل فيه. وعلى هذا فالمجاز في إطلاق مادة الفتح على سببه ومآله لا في صورة الفعل، أي التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه بهذا الاعتبار المجازي قد وقع فيما مضي فيكون اسم الفتح استعمل استعمال المشترك في معنييه، وصيغة الماضي استعملت في معنييها فيظهر وجه الإعجاز في إيثار هذا التركيب.
وقيل: هو فتح خيبر الواقع عند الرجوع من الحديبية كما يجيء في قوله {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} [الفتح: من الآية15]
وعلى هذه المحامل فتأكيد الكلام ب "إن" لما في حصول ذلك من تردد بعض المسلمين أو تساؤلهم، فعن عمر أنه لما نزلت {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: أو فتح هو يا رسول الله? قال: "نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح". وروى البهقي عن عروة بن الزبير قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما هذا بفتح صددنا عن البيت وصد هدينا. فبلغ رسول الله فقال: "بئس الكلام

هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا ولقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين،فهذا أعظم الفتح أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون". فقال المسلمون: صدق الله ورسوله وهو أعظم الفتوح والله يا رسول الله ما فكرنا فيما ذكرت، ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا.
وحذف مفعول {فتحنا} لأن المقصود الإعلام بجنس الفتح لا بالمفتوح الخاص.
واللام في قوله {فَتَحْنَا لَكَ} لام العلة، أي فتحنا لأجلك فتحا عظيما مثل التي في قوله تعالى {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
وتقديم المجرور قبل المفعول المطلق خلافا للأصل في ترتيب متعلقات الفعل لقصد الاهتمام والاعتناء بهذه العلة.
وقوله {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} بدل اشتمال من ضمير {لك} . والتقدير: إنا فتحنا فتحا مبينا لأجلك لغفران الله لك وإتمام نعمته عليك، وهدايتك صراطا مستقيما ونصرك نصرا عزيزا.. وجعلت مغفرة الله للنبي صلى الله عليه وسلم علة للفتح لأنها من جملة ما أراد الله حصوله بسبب الفتح، وليست لام التعليل مقتضية حصر الغرض من الفعل المعلل في تلك العلة، فإن كثيرا من الأشياء تكون لها أسباب كثيرة فيذكر بعضها مما يقتضيه المقام وإذ قد كان الفتح لكرامة النبي صلى الله عليه وسلم على ربه تعالى كان من علته أن يغفر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مغفرة عامة إتماما للكرامة فهذه مغفرة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم هي غير المغفرة الحاصلة للمجاهدين بسبب الجهاد والفتح.
فالمعنى: أن الله جعل عند حصول هذا الفتح غفران جميع ما قد يؤاخذ الله على مثله رسله حتى لا يبقى لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يقصر به عن بلوغ نهاية الفضل بين المخلوقات. فجعل هذه المغفرة جزاء له على إتمام أعماله التي أرسل لأجلها من التبليغ والجهاد والنصب والرغبة إلى الله.
فلما كان الفتح حاصلا بسعيه وتسببه بتيسير الله له ذلك جعل الله جزاءه غفران ذنوبه بعظم أثر ذلك الفتح بإزاحة الشرك وعلو كلمة الله تعالى وتكميل النفوس وتزكيتها بالإيمان وصالح الأعمال حتى ينتشر الخير بانتشار الدين ويصير الصلاح خلقا للناس يقتدي فيه بعضهم ببعض وكل هذا إنما يناسب فتح مكة. وهذا هو ما تضمنته

سورة إذا جاء نصر الله من قوله {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 1-3] أي إنه حينئذ قد غفر لك أعظم مغفرة وهي المغفرة التي تليق بأعظم من تاب على تائب، وليست إلا مغفرة جميع الذنوب سابقها وما عسى أن يأتي منها مما بعده النبي صلى الله عليه وسلم ذنبا لشدة الخشية من أقل التقصير كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوما من أن يأتي بعدها بما يؤاخذ عليه. وقال ابن عطية: وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب، ولهذا المعنى اللطيف الجليل كانت سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} مؤذنة باقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم فيما فهم عمر بن الخطاب وابن عباس، وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والتقدم والتأخر من الأحوال النسبية للموجودات الحقيقية أو الاعتبارية يقال: تقدم السائر في سيره على الركب، ويقال: نزول سورة كذا على سورة كذا ولذلك يكثر الاحتياج إلى بيان ما كان بينهما تقدم وتأخر بذكر متعلق بفعل تقدم وتأخر. وقد يترك ذلك اعتمادا على القرينة، وقد يقطع النظر على اعتبار متعلق فينزل الفعل منزلة الأفعال غير النسبية لقصد التعميم في المتعلقات واكثر ذلك إذا جمع بين الفعلين كقوله هنا {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: من الآية2]
والمراد ب {مَا تَقَدَّمَ}: تعميم المغفرة للذنب كقوله {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فلا يقتضي ذلك أنه فرط منه ذنب أو أنه سيقع منه ذنب وإنما المقصود أنه تعالى رفع قدره رفعة عدم المؤاخذة بذنب لو قدر صدوره منه وقد مضى شيء من بيان معنى الذنب عند قوله تعالى {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} في سورة القتال.[55]
وإنما أسند فعل {ليغفر} إلى اسم الجلالة العلم وكان مقتضى الظاهر أن يسند إلى الضمير المستتر قصدا للتنويه بهذه المغفرة لأن الاسم الظاهر أنفذ في السمع وأجلب للتنبيه وذلك للاهتمام بالمسند وبمتعلقه لأن هذا الخبر أنف لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم علم به ولذلك لم يبرز الفاعل في {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ} لأن إنعام الله عليه معلوم وهدايته معلومة وإنما أخبر بازديادهما.
وإتمام النعمة: إعطاء ما لم يكن أعطاه إياه من أنواع النعمة مثل إسلام قريش وخلاص بلاد الحجاز كلها للدخول تحت حكمه، وخضوع من عانده وحاربه، وهذا ينظر

إلى قوله تعالى {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: من الآية3] فذلك ما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الآية وحصل بعد سنين.
ومعنى {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} يزيدك هديا لم يسبق وذلك بالتوسيع في بيان الشريعة والتعريف بما لم يسبق تعريفه به منها، فالهداية إلى الصراط المستقيم ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم من وقت بعثته ولكنها تزداد بزيادة بيان الشريعة وبسعة بلاد الإسلام وكثرة المسلمين مما يدعو إلى سلوك طرائق كثيرة في إرشادهم وسياستهم وحماية أوطانهم ودفع أعدائهم، فهذه الهداية متجمعة من الثبات على ما سبق هديه إليه، ومن الهداية إلى ما لم يسبق إليه وكل ذلك من الهداية.
والصراط المستقيم: مستعار للدين الحق كما تقدم في سورة الفاتحة. وتنوين {صراطا} للتعظيم. وانتصب {صراطا} على أنه مفعول ثان ل {يهدي} بتضمين معنى اإعطاء، أو بنزع الخافض كما تقدم في الفاتحة.
والنصر العزيز: غير نصر الفتح المذكور لأنه جعل علة الفتح فهو ما كان من فتح مكة وما عقبه من دخول قبائل العرب في الإسلام بدون قتال. وبعثهم الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتلقوا أحكام الإسلام ويعلموا أقوامهم إذا رجعوا إليهم. ووصف النصر بالعزيز مجاز عقلي وإنما العزيز هو النبي صلى الله عليه وسلم المنصور، أو أريد بالعزيز المعز كالسميع في قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع، وكالحكيم على أحد تأويلين.
والعزة: المنعة.
وإنما أظهر اسم الجلالة في قوله {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ} ولم يكتف بالضمير اهتماما بهذا النصر وتشريعا له بإسناده إلى الاسم الظاهر لصراحة الظاهر والصراحة أدعى إلى السمع، والكلام مع الإظهار أعلق بالذهن كما تقدم في {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}
[4] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ}

هذه الجملة بدل اشتمال من مضمون جملة {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} وحصل منها الانتقال إلى ذكر حظ المسلمين من هذا الفتح فإن المؤمنين هم جنود الله الذين قد نصر النبي صلى الله عليه وسلم بهم كما قال تعالى {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] فكان في ذكر عناية الله بإصلاح نفوسهم وإذهاب خواطر الشيطان عنهم وإلهامهم إلى الحق في ثبات عزمهم، وقرارة إيمانهم تكوين لأسباب نصر النبي صلى الله عليه وسلم والفتح الموعود به ليندفعوا حين يستنفرهم إلى العدو بقلوب ثابتة، ألا ترى أن المؤمنين تبلبلت نفوسهم من صلح الحديبية إذ انصرفوا عقبه عن دخول مكة بعد أن جاؤوا للعمرة بعدد عديد حسبوه لا يغلب، وأنهم إن أرادهم العدو بسوء أو صدهم عن قصدهم قابلوه فانتصروا عليه وأنهم يدخلون مكة قسرا. وقد تكلموا في تسمية ما حل بهم يومئذ فتحا كما علمت مما تقدم فلما بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما فيه من الخير اطمأنت نفوسهم بعد الاضطراب ورسخ يقينهم بعد خواطر الشك فلولا ذلك الاطمئنان والرسوخ لبقوا كاسفي البال شديدي البلبال، فذلك الاطمئنان هو الذي سماه الله بالسكينة، وسمي إحداثه في نفوسهم إنزالا للسكينة في قلوبهم فكان النصر مشتملا على أشياء من أهمها إنزال السكينة، وكان إنزال السكينة بالنسبة إلى هذا النصر نظير التأليف بين قلوب المؤمنين مع اختلاف قبائلهم وما كان بينهما من الأمن في الجاهلية بالنسبة للنصر الذي في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63,62]
وإنزالها: إيقاعها في العقل والنفس وخلق أسبابها الجوهرية والعارضة، وأطلق على ذلك الإيقاع فعل الإنزال تشريفا لذلك الوجدان بأنه كالشيء الذي هو مكان مرتفع فوق الناس فألقي إلى قلوب الناس، وتلك رفعة تخييلية مراد بها شرف ما أثبتت له على طريقة التخييلية. ولما كان من عواقب تلك السكينة أنها كانت سببا لزوال ما يلقيه الشيطان في نفوسهم من التأويل لوعد الله إياهم بالنصر على غير ظاهره، وحمله على النصر المعنوي لاستبعادهم أن يكون ذلك فتحا، فلما أنزل الله عليهم السكينة اطمأنت نفوسهم، فزال ما خامرها وأيقنوا أنه وعد الله وأنه واقع فانقشع عنهم ما يوشك أن يشكك بعضهم فيلتحق بالمنافقين الظانين بالله ظن السوء فإن زيادة الأدلة تؤثر رسوخ المستدل عليه في العقل وقوة التصديق. وهذا اصطلاح شائع في القرآن وجعل ذلك الازدياد كالعلة لإنزال السكينة في قلوبهم لأن الله علم أن السكينة إذا حصلت في قلوبهم رسخ إيمانهم، فعومل المعلوم حصوله من الفعل معاملة العلة وأدخل عليه حرف التعليل وهو لام كي وجعلت قوة الإيمان بمنزلة إيمان آخر دخل على الإيمان الأسبق لأن الواحد من أفراد الجنس إذا انضم

إلى أفراد أخر زادها قوة فلذلك علق بالإيمان ظرف {مع} في قوله {مَعَ إِيمَانِهِمْ} فكان في ذلك الحادث خير عظيم لهم كما كان فيه خير للنبي صلى الله عليه وسلم بأن كان سببا لتشريفه بالمغفرة العامة ولإتمام النعمة عليه ولهدايته صراطا مستقيما ولنصره نصرا عزيزا، فأعظم به حدثا أعقب هذا الخير للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
تذييل للكلام السابق لأنه أفاد أن لا عجب في أن يفتح الله لك فتحا عظيما وينصرك على أقوام كثيرين أشداء نصرا صحبه إنزال السكينة في قلوب المؤمنين بعد أن خامرهم الفشل وانكسار الخواطر، فالله من يملك جميع وسائل النصر وله القوة القاهرة في السماوات والأرض وما هذا نصر إلا بعض مما لله من القوة والقهر.
والواو اعتراضية وجملة التذييل معترضة بين جملة {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} وبين متعلقها وهو {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح: 5] الآية.
وأطلق على أسباب النصر الجنود تشبيها لأسباب النصر بالجنود التي تقاتل وتنتصر.
وفي تعقيب جملة {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} بجملة التذييل إشارة إلى أن المؤمنين من جنود الله وأن إنزال السكينة في قلوبهم تشديد لعزائمهم فتخصيصهم بالذكر قبل هذا العموم وبعده تنويه بشأنهم، ويومئ إلى ذلك قوله بعد {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} الآية.
فمن جنود السماوات: الملائكة الذين أنزلوا يوم بدر، والريح التي أرسلت على العدو يوم الأحزاب، والمطر الذي أنزل يوم بدر فثبت الله به أقدام المسلمين. ومن جنود الأرض جيوش المؤمنين وعديد القبائل الذين جاءوا مؤمنين مقاتلين مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة مثل بني سليم، ووفود القبائل الذين جاءوا مؤمنين طائعين دون قتال في سنة الوفود.
والجنود: جمع جند، والجند اسم لجماعة المقاتلين لا واحد له من لفظه وجمعه باعتبار تعدد الجماعات لأن الجيش يتألف من جنود: مقدمة، وميمنة، وميسرة، وقلب، وساقة.
وتقديم المسند على المسند إليه في {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لإفادة الحصر، وهو حصر ادعائي إذ لا اعتداد بما يجمعه الملوك والفاتحون من الجنود لغلبة العدو بالنسبة لما لله من الغلبة لأعدائه والنصر لأوليائه. وجملة {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} تذييل لما قبله من الفتح والنصر وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين.

والمعنى: أنه عليم بأسباب الفتح والنصر وعليم بما تطمئن به قلوب المؤمنين بعد البلبلة وأنه حكيم يضع مقتضيات علمه في مواضعها المناسبة وأوقاتها الملائمة.
[5] {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً}
اللام للتعليل متعلقة بفعل {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] فما بعد اللام علة لعلة إنزال السكينة فتكون علة لإنزال السكينة أيضا بواسطة أنه علة العلة.
وذكر المؤمنات مع المؤمنين هنا لدفع توهم أن يكون الوعد بهذا الإدخال مختصا بالرجال. وإذ كانت صيغة الجمع صيغة المذكر مع ما قد يؤكد هذا التوهم من وقوعه علة أو علة علة للفتح وللنصر وللجنود وكلها من ملابسات الذكور، وإنما كان للمؤمنات حظ في ذلك لأنهن لا يخلون من مشاركة في تلك الشدائد ممن يقمن منهن على المرضى والجرحى وسقي الجيش وقت القتال ومن صبر بعضهن على الثكل أو التأيم، ومن صبرهن على غيبة الأزواج والأبناء وذوي القرابة.
والإشارة في قوله {وَكَانَ ذَلِكَ} إلى المذكور من إدخال الله إياهم الجنة.
والمراد بإدخالهم الجنة إدخال خاص وهو إدخالهم منازل المجاهدين وليس هو الإدخال الذي استحقوه بالإيمان وصالح الأعمال الأخرى.
ولذلك عطف عليه {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}
والفوز: مصدر، وهو الظفر بالخير والنجاح. و {عِنْدَ اللَّهِ} متعلق ب{ فوزا} ، أي فازوا عند الله بمعنى: لقوا النجاح والظفر في معاملة الله لهم بالكرامة وتقديمه على متعلقه للاهتمام بهذه المعاملة ذات الكرامة.
[6] {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}
الحديث عن جنود الله في معرض ذكر نصر الله يقتضي لا محالة فريقا مهزوما بتلك الجنود وهم العدو، فإذا كان النصر الذي قدره الله معلولا بما بشر به المؤمنين فلا جرم اقتضى أنه معلول بما يسوء العدو وحزبه، فذكر الله من علة ذلك النصر أنه يعذب بسببه المنافقين حزب العدو، والمشركين صميم العدو، فكان قوله {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} معطوفا

على {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح: 5].
والمراد: تعذيب خاص زائد على تعذيبهم الذي استحقوه بسبب الكفر والنفاق وقد أومأ إلى ذلك قوله بعده {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}
والابتداء بذكر المنافقين في التعذيب قبل المشركين لتنبيه المسلمين بأن كفر المنافقين خفي فربما غفل المسلمون عن هذا الفريق أو نسوه.
كان المنافقون لم يخرج منهم أحد إلى فتح مكة ولا إلى عمرة القضية لأنهم لا يحبون أن يراهم المشركون متلبسين بأعمال المسلمين مظاهرين لهم ولأنهم كانوا يحسبون أن المشركين يدافعون المسلمين عن مكة وأنه يكون النصر للمشركين.
والتعذيب: إيصال العذاب إليهم وذلك صادق بعذاب الدنيا بالسيف كما قال تعالى {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] وقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73]
وبالوجل، وحذر الافتضاح، وبالكمد من رؤية المؤمنين منصورين سالمين قال تعالى {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} وقال { إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [التوبة: من الآية50] وصادق بعذاب الآخرة وهو ما خص بالذكر في آخر الآية بقوله {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ}
وعطف {المنافقات} نظير عطف {المؤمنات} [الفتح:5] المتقدم لأن نساء المنافقين يشاركونهم في أسرارهم ويحضون ما يبيتونه من الكيد ويهيئون لهم إيواء المشركين إذا زاروهم.
وقوله {الظانين} صفة للمذكورين من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات فإن حق الصفة الواردة بعد متعدد أن تعود إلى جميعه ما لم يكن مانع لفظي أو معنوي.
والسوء بفتح السين في قوله {ظَنَّ السَّوْءِ} في قراءة جميع العشرة، وأما في قولهم {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} فهو في قراءة الجمهور بالفتح أيضا. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده بضم السين. والمفتوح والمضموم مترادفان في أصل اللغة ومعناهما المكروه ضد السرور، فهما لغتان مثل: الكره والكره، والضعف والضعف، والضر والضر، والبأس والبؤس. هذا عن الكسائي وتبعه الزمخشري وبينه الجوهري بأن المفتوح مصدر والمضموم اسم مصدر، إلا أن الاستعمال غلب المفتوح في أن يقع وصفا لمذموم مضافا إليه موصوفه كما وقع في هذه الآية وفي قوله {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} في سورة براءة،[98] وغلب المضموم في معنى الشيء الذي هو بذاته شر. فإضافة الظن إلى السوء

من إضافة الموصوف إلى الصفة.
والمراد: ظنهم بالله أنهم لم يعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتح ولا أمره بالخروج إلى العمرة ولا يقدر للرسول صلى الله عليه وسلم النصر لقلة أتباعه وعزة أعدائه، فهذا ظن سوء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا المناسب لقراءته بالفتح.
وأما {دَائِرَةُ السَّوْءِ} في قراءة الجمهور فهي الدائرة التي تسوء أولئك الظانين بقرينة قوله {عليهم}، ولا التفات إلى كونها محمودة عند المؤمنين إذ ليس المقام لبيان ذلك والإضافة مثل إضافة {ظَنَّ السَّوْءِ} ، وأما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو فإضافة {دائرة} المضموم من إضافة الأسماء، أي الدائرة المختصة بالسوء والملازمة له لا من إضافة الموصوف. وليس في قراءتهما خصوصية زائدة على قراءة الجمهور ولكنها جمعت بين الاستعمالين ففتح السوء الأول متعين وضم الثاني جائز وليس براجح والاختلاف اختلاف في الرواية.
وجملة {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} دعاء أو وعيد، ولذلك جاءت بالاسمية لصلوحيتها لذلك بخلاف جملة {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ} فإنها إخبار عما جنوه من سوء فعلهم فالتعبير بالماضي منه أظهر.
[7] {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}
هذا نظير ما تقدم آنفا إلا أن هذا أوثر بصفة عزيز دون عليم لأن المقصود من ذكر الجنود هنا الإنذار والوعيد بهزائم تحل بالمنافقين والمشركين فكما ذكر {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيما تقدم للإشارة إلى أن نصر النبي صلى الله عليه وسلم يكون بجنود المؤمنين وغيرهما ذكر ما هنا للوعيد بالهزيمة فمناسبة صفة عزيز، أي لا يغلبه غالب.
[9,8] {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}
لما أريد الانتقال من الوعد بالفتح والنصر وما اقتضاه ذلك مما اتصل به ذكره، إلى تبيين ما جرى في حادثة الحديبية وإبلاغ كل ذي حظ من تلك القضية نصيبه المستحق ثناء أو غيره صدر ذلك بذكر مراد الله من إرسال رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك كالمقدمة للقصة وذكرت حكمة الله تعالى في إرساله ما له مزيد اختصاص بالواقعة المتحدث عنها، فذكرت

أوصاف ثلاثة هي: شاهد، ومبشر، ونذير. وقدم منها وصف الشاهد لأنه يتفرع عنه الوصفان بعده.
فالشاهد: المخبر بتصديق أحد أو تكذيبه فيما ادعاه أو أدعي به عليه وتقدم في قوله {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} في سورة النساء[41] وقوله {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} في سورة البقرة.[143]
فالمعنى: أرسلناك في حال أنك تشهد على الأمة بالتبليغ بحيث لا يعذر المخالفون عن شريعتك فيما خالفوا فيه، وتشهد على الأمم وهذه الشهادة حاصلة في الدنيا وفي يوم القيامة، فانتصب {شاهدا} على أنه حال، وهو حال مقارنة ويترتب على التبليغ الذي سيشهد به أنه مبشر للمطيعين ونذير للعاصين على مراتب العصيان. والكلام استئناف ابتدائي وتأكيده بحرف التأكيد للاهتمام.
وقوله {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} . قرأ الجمهور الأفعال الأربعة {لتؤمنوا} {وتعزروه} {وتوقروه} {وتسبحوه} بالمثناة الفوقية في الأفعال الأربعة فيجوز أن تكون اللام في {لتؤمنوا} لام كي مفيدة للتعليل ومتعلقة بفعل {أرسلناك} .
والخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم مع أمة الدعوة، أي لتؤمن أنت والذين أرسلت إليهم شاهدا ومبشرا ونذيرا، والمقصود الإيمان بالله. وأقحم {ورسوله} لأن الخطاب شامل للأمة وهم مأمورون بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يؤمن بأنه رسول الله ولذلك كان يقول في تشهده: "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" وقال يوم حنين: "أشهد أني عبد الله ورسوله". وصح أنه كان يتابع قول المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله ويجوز أن يكون الخطاب للناس خاصة ولا إشكال في عطف {ورسوله} ويجوز أن يكون الكلام قد انتهى عند قوله {ونذيرا} وتكون جملة {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} الخ جملة معترضة، ويكون اللام في قوله {لتؤمنوا} لام الأمر وتكون الجملة استئنافا للأمر كما في قوله تعالى {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} في سورة الحديد.[7]
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة فيها، والضمائر عائدة إلى معلوم من السياق لأن الشهادة والتبشير والنذارة متعينة للتعلق بمقدر، أي شاهدا على الناس ومبشرا ونذيرا لهم ليؤمنوا بالله الخ.

والتعزيز: النصر والتأييد، وتعزيزهم الله كقوله {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} [محمد: 7]. والتوقير: التعظيم.
والتسبيح: الكلام الذي يدل على تنزيه الله تعالى عن كل النقائص.
وضمائر الغيبة المنصوبة الثلاثة عائدة إلى اسم الجلالة لأن إفراد الضمائر مع كون المذكور قبلها اسمين دليل على أن المراد أحدهما. والقرينة على تعيين المراد ذكر {وتسبحوه} ، ولأن عطف {ورسوله} على لفظ الجلالة اعتداد بأن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم إيمان بالله فالمقصود هو الإيمان بالله. ومن أجل ذلك قال ابن عباس في بعض الروايات عنه: إن ضمير {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } عائد إلى {رسوله} .
والبكرة: أول النهار. والأصيل: آخره، وهما كناية عن استيعاب الأوقات بالتسبيح والإكثار منه، كما يقال: شرقا وغربا لاستيعاب الجهات.وقيل التسبيح هنا: كناية عن الصلوات الواجبة والقول في {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} هو هو.
وقد وقع في سورة الأحزاب نظير هذه الآية وهو قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب: 45,46] فزيد في صفات النبي صلى الله عليه وسلم هنالك {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} ولم يذكر مثله في الآية هذه التي في سورة الفتح. ووجه ذلك أن هذه الآية التي في سورة الفتح وردت في سياق إبطال شك الذين شكوا في أمر الصلح والذين كذبوا بوعد الفتح والنصر، والثناء على الذين اطمأنوا لذلك فاقتصر من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم على الوصف الأصلي وهو أنه شاهد على الفريقين وكونه مبشرا لأحد الفريقين ونذيرا للآخر، بخلاف آية الأحزاب فإنها وردت في سياق تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن مطاعن المنافقين والكافرين في تزوجه زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة بزعمهم أنها زوجة ابنه، فناسب أن يزاد في صفاته ما فيه إشارة إلى التمحيص بين ما هو من صفات الكمال وما هو من الأوهام الناشئة عن مزاعم كاذبة مثل التبني، فزيد كونه {دَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} ، أي لا يتبع مزاعم الناس ورغباتهم وأنه سراج منير يهتدي به من همته في الاهتداء دون التقعير.
وقد تقدم في تفسير سورة الأحزاب حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فارجه إليه.
[10] {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}

شروع في الغرض الأصلي من هذه السورة، وهذه الجملة مستأنفة، وأكد بحرف التأكيد للاهتمام، وصيغة المضارع في قوله {يبايعونك} لاستحضار حالة المبايعة الجليلة لتكون كأنها حاصلة في زمن نزول هذه الآية مع أنها قد انقضت وذلك كقوله تعالى {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38].
والحصر المفاد من {إنما} حصر الفعل في مفعوله، أي لا يبايعون إلا الله وهو قصر ادعائي بادعاء أن غاية البيعة وغرضها هو النصر لدين الله ورسوله فنزل الغرض منزلة الوسيلة فادعى أنهم بايعوا الله لا الرسول. وحيث كان الحصر تأكيدا على تأكيد، كما قال صاحب المفتاح،: لم أجعل "إن" التي في مفتتح الجملة للتأكيد لحصول التأكيد بغيرها فجعلتها للاهتمام بهذا الخبر ليحصل بذلك غرضان.
وانتقل من هذا الادعاء إلى تخيل أن الله تعالى يبايعه المبايعون فأثبتت له اليد التي هي من روادف المبايع بالفتح على وجه التخييلة مثل إثبات الأظفار للمنية.
وقد هيأت صيغة المبايعة لأن تذكر بعدها الأيدي لأن المبايعة يقارنها وضع المبايع يده في يد المبايع بالفتح كما قال كعب بن زهير:
حتى وضعت يميني لا أنازعه
في كف ذي يسرات قيله القيل
ومما زاد هذا التخييل حسنا ما فيه من المشاكلة بين يد الله وأيديهم كما قال في المفتاح: والمشاكلة من المحسنات البديعية والله منزه عن اليد وسمات المحدثات.
فجملة {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} مقررة لمضمون جملة {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} المفيدة أن بيعتهم النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، هي بيعة منهم لله في الواقع فقررته جملة {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وأكدته ولذلك جردت عن حرف العطف. وجعلت اليد المتخيلة فوق أيديهم: إما لأن إضافتها إلى الله تقتضي تشريفها بالرفعة على أيدي الناس كما وصفت في المعطي بالعليا في قول النبي صلى الله عليه وسلم "اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي الآخذة" ، وإما لأن المبايعة كانت بأن يمد المبايع كفه أمام المبايع بالفتح ويضع هذا المبايع يده على يد المبايع، فالوصف بالفوقية من تمام التخييلية. ويشهد لهذا ما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بايعه الناس كان عمر آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي كان عمر يضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيدي الناس كيلا يتعب بتحريكها لكثرة المبايعين فدل على أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت توضع على يد المبايعين. وأياما كان

فذكر الفوقية هنا ترشيح للاستعارة وإغراق في التخيل.
والمبايعة أصلها مشتقة من البيع فهي مفاعلة لأن كلا المتعاقدين بائع، ونقلت إلى معنى العهد على الطاعة والنصرة قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة: 12] الآية وهي هنا بمعنى العهد على النصرة والطاعة. وهي البيعة التي بايعها المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تحت شجرة من السمر وكانوا ألفا وأربعمائة على أكثر الروايات. وقال جابر بن عبد الله: أو أكثر، وعنه: أنهم خمس عشرة مائة. وعن عبد الله بن أبي أوفى كانوا ثلاث عشرة مائة. وأول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أبو سنان الأسدي.
وتسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18].
وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عثمان بن عفان من الحديبية إلى أهل مكة ليفاوضهم في شأن التخلية بين المسلمين وبين الاعتمار بالبيت فأرجف بأن عثمان قتل فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم لذلك ودعا من معه إلى البيعة على أن لا يرجعوا حتى يناجزوا القوم، فكان جابر بن عبد الله يقول: بايعوه على أن لا يفروا، وقال سلمة بن الأكوع وعبد الله بن زيد: بايعناه على الموت، ولا خلاف بين هذين لأن عدم الفرار يقتضي الثبات إلى الموت.
ولم يتخلف أحد ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية عن البيعة إلا عثمان إذ كان غائبا بمكة للتفاوض في شأن العمرة، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على يده اليسرى وقال: هذه يد عثمان ثم جاء عثمان، وإلا الجد بن قيس السلمى اختفى وراء جملة حتى بايع الناس ولم يكن منافقا ولكنه كان ضعيف العزم. وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "أنتم خير أهل الأرض"
وفرع قوله {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} على جملة {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} ، فإنه لما كشف كنه هذه البيعة بأنها مبايعة لله ضرورة أنها مبايعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار رسالته عن الله صار أمر هذه البيعة عظيما خطيرا في الوفاء بما وقع عليه التبايع وفي نكث ذلك.
والنكث: كالنقض للحبل. قال تعالى {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل: 92]. وغلب النكث في معنى النقض المعنوي كإبطال العهد.
والكلام تحذير من نكث هذه البيعة وتفظيع له لأن الشرط يتعلق بالمستقبل. ومضارع {ينكث} بضم الكاف في المشهور واتفق عليه القراء. ومعنى {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ}

أن نكثه عائد عليه بالضر كما دل عليه حرف {على} .
و {إنما} للقصر وهو لقصر النكث على مدلول {عَلَى نَفْسِهِ} ليراد لا يضر بنكثه إلا نفسه ولا يضر الله شيئا فإن نكث العهد لا يخلو من قصد إضرار بالمنكوث، فجيء بقصر القلب لقلب قصد الناكث على نفسه دون على النبي صلى الله عليه وسلم. ويقال: أوفى بالعهد وهي لغة تهامة، ويقال: وفي بدون همز وهي لغة عامة العرب، ولم تجيء في القرآن إلا الأولى. قالوا: ولم ينكث أحد ممن بايع.
والظاهر عندي: أن سبب المبايعة قد انعدم بالصلح الواقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة وأن هذه الآية نزلت فيما بين ساعة البيعة وبين انعقاد الهدنة وحصل أجر الإيفاء بالنية عدمه لو نزل ما عاهدوا الله عليه. وقرأ نافع وابن كثير وأن عامر ورويس عن يعقوب {فسنؤتيه} بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى المتكلم. وقرأه الباقون بياء الغيبة عائدا ضميره على اسم الجلالة.
{11] {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}
لما حذر من النكث ورغب في الوفاء أتبع ذلك بذكر التخلف عن الانضمام إلى جيش النبي صلى الله عليه وسلم حين الخروج إلى عمرة الحديبية وهو ما فعله الأعراب الذين كانوا نازلين حول المدينة وهم ست قبائل: غفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، والديل، بعد أن بايعوه على الخروج معه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد المسير إلى العمرة استنفر من حول المدينة منهم ليخرجوا معه فيرهبه أهل مكة فلا يصدوه عن عمرته فتثاقل أكثرهم عن الخروج معه. وكان من أهل البيعة زيد بن خالد الجهني من جهينة وخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم مائة رجل منهم مرداس بن مالك الأسلمي، والد عباس الشاعر، وعبد الله بن أبي أوفى، وزاهر ابن الأسود، وأهبان بضم الهمزة بن أوس، وسلمة بن الأكوع الأسلمي، ومن غفار خفاف بضم الخاء المعجمة بن أيماء بفتح الهمزة بعدها تحتية ساكنة، ومن مزينة عائذ بن عمرو. وتخلف عن الخروج معه معظمهم وكانوا يومئذ لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ولكنهم لم يكونوا منافقين، وأعدوا للمعذرة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شغلتهم أموالهم

وأهلوهم، فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بما بيتوه في قلوبهم وفضح أمرهم من قبل أن يعتذروا. وهذه من معجزات القرآن بالأخبار التي قبل وقوعه.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لمناسبة ذكر الإيفاء والنكث، فكمل بذكر من تخلفوا عن الداعي للعهد. والمعنى: أنهم يقولون ذلك عند مرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة معتذرين كاذبين في اعتذارهم.
والمخلفون بفتح اللام هم الذين تخلفوا. وأطلق عليهم المخلفون أي غيرهم خلفهم وراءه، أي تركهم خلفه، وليس ذلك بمقتض أنهم مأذون لهم بل المخلف هو المتروك مطلقا. يقال: خلفنا فلانا، إذا مروا به وتركوه لأنهم اعتذروا من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم فعذرهم بخلاف الأعراب فإنهم تخلف أكثرهم بعد أن استنفروا ولم يعتذروا حينئذ.
والأموال: الإبل.
وأهلون: جمع أهل على غير قياس لأنه غير مستوفي لشروط الجمع بالواو والنون أو الياء والنون، فعد مما ألحق بجمع المذكر السالم.
ومعنى فاستغفر لنا: اسأل لنا المغفرة من الله إذ كانوا مؤمنين فهو طلب حقيقي لأنهم كانوا مؤمنين ولكنهم ظنوا أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم يمحو ما أضمروه من النكث وذهلوا عن علم الله بما أضمروه كدأب أهل الجهالة فقد قتل اليهود زكريا مخافة أن تصدر منه دعوة عليهم حين قتلوا ابنه يحيى ولذلك عقب قولهم هنا بقوله تعالى {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} الآية.
وجملة {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} في موضع الحال.
ويجوز أن تكون بدل اشتمال من جملة {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ}
والمعنى: أنهم كاذبون فيما زعموه من الاعتذار، وإنما كان تخلفهم لظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد قتال أهل مكة أو أن أهل مكة مقاتلوه لا محالة وأن الجيش الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيعون أن يغلبوا أهل مكة، فقد روي أنهم قالوا: يذهب إلى قوم غزوه في عقر داره1 بالمدينة يعنون غزوة الأحزاب وقتلوا أصحابه فيقاتلهم وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة وذلك من ضعف يقينهم.
{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
ـــــــ
1 العقر بضم العين وفتحها: الأصل والمكان.

أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما فيه رد أمرهم إلى الله ليعلمهم أن استغفاره الله لهم لا يكره الله على المغفرة بل الله يفعل ما يشاء إذا أراده فإن كان أراد بهم نفعا نفعهم وإن كان أراد بهم ضرا ضرهم فما كان من النصح لأنفسهم أن يتورطوا فيما لا يرضي الله ثم يستغفرونه. فلعله لا يغفر لهم، فالغرض من هذا تخويفهم من عقاب ذنبهم إذ تخلفوا عن نفير النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوا في الاعتذار ليكثروا من التوبة وتدارك الممكن كما دل عليه قوله تعالى بعده {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ} [الفتح: 16] الآية.
فمعنى {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} هنا الإرادة التي جرت على وفق علمه تعالى من إعطائه النفع إياهم أو إصابته بضر وفي الكلام توجيه بأن تخلفهم سبب في حرمانهم من فضيلة شهود بيعة الرضوان وفي حرمانهم من شهود غزوة خيبر بنهيه عن حضورهم فيها.
ومعنى الملك هنا: القدرة والاستطاعة، أي لا يقدر أحد أن يغير ما أراده الله وتقدم نظير هذا التركيب في قوله تعالى {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} في سورة العقود. [17]
والغالب في مثل هذا أن يكون لنفي القدرة على تحويل الشر خيرا كقوله {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة: 41]. فكان الجري على ظاهر الاستعمال مقتضيا الاقتصار على نفي أن يملك أحد لهم شيئا إذا أراد الله ضرهم دون زيادة أو أراد بكم نفعا، فتوجه هذه الزيادة أنها لقصد التتميم والاستيعاب، ونظيره {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} في سورة الأحزاب.[17] وقد مضى قريب من هذا في قوله تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} في سورة الأعراف فراجعه.
وقرأ الجمهور {ضرا} بفتح الضاد، وقرأه حمزة والكسائي بضمها وهما بمعنى، وهو مصدر فيجوز أن يكون هنا مرادا به معنى المصدر، أي إن أراد أن يضركم أو ينفعكم. ويجوز أن يكون بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق، أي إن أراد بكم ما يضركم وما ينفعكم. ومعنى تعلق {أراد} به أنه بمعنى أراد إيصال ما يضركم أو ما ينفعكم.
وهذا الجواب لا عدة فيه من الله بأن يغفر لهم إذ المقصود تركهم في حالة وجل

ليستكثروا من فعل الحسنات.وقصدت مفاتحتهم بهذا الإبهام لإلقاء الوجل في قلوبهم أن لا يغفر لهم ثم سيتبعه بقوله {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 189] الآية الذي هو أقرب إلى الإطماع.
و {بل} في قوله {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} إضراب لإبطال قولهم {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} وبه يزداد مضمون قوله {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} تقريرا لأنه يتضمن إبطالا لعذرهم، ومن معنى الإبطال يحصل بيان الإجمال الذي في قوله {كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} إذ يفيد أنه خبير بكذبهم في الاعتذار فلذلك أبطل اعتذارهم بحرف الإبطال.
وتقديم {بِمَا تَعْمَلُونَ} على متعلقه لقصد الاهتمام بذكر عملهم هذا. وما صدق {مَا تَعْمَلُونَ} ما اعتقدوه وما ماهوا به من أسباب تخلفهم عن نفير الرسول وكثيرا ما سمى القرآن الاعتقاد عملا. وفي قوله {كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} تهديد ووعيد.
[12] {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً}
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الفتح: 11] أي خبيرا بما علمتم، ومنه ظنكم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون.
وأعيد حرف الإبطال زيادة لتحقيق معنى البدلية. كما يكرر العامل في المبدل منه والانقلاب: الرجوع إلى المأوى.
و {أن} مخففة من {أن} المشددة واسمها ضمير الشأن وسد المصدر مسد مفعولي {ظننتم} ، وجيء بحرف {لن} المفيد استمرار النفي، وأكد بقوله {أبدا} لأن ظنهم كان قويا.
والتزيين: التحسين، وهو كناية عن قبول ذلك وإنما جعل ذلك الظن مزينا في اعتقادهم لأنهم لم يفرضوا غيره من الاحتمال، وهو أن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم سالما. وهكذا شأن العقول الواهية والنفوس الهاوية أن لا تأخذ من الصور التي تتصور بها الحوادث إلا الصورة التي تلوح لها في بادئ الرأي. وإنما تلوح لها أول شيء لأنها الصورة المحبوبة ثم يعتريها التزيين في العقل فتلهو عن فرض غيرها فلا تستعد لحدثانه، ولذلك قيل حبك

الشيء يعمي ويصم
كانوا يقولون بين أقوالهم: إن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكلة بفتحات ثلاث رأس كناية عن القلة، أي يشبعهم رأس بعير لا يرجعون، أي هم قليل بالنسبة لقريش والأحابيش وكنانة، ومن في خلفهم.
و {ظَنَّ السَّوْءِ} أعم من ظنهم أن لا يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، أي ظننتم ظن السوء بالدين وبمن بقي من الموقنين لأنهم جزموا باستئصال أهل الحديبية وأن المشركين ينتصرون ثم يغزون المدينة بمن ينضم إليهم من القبائل فيسقط في أيدي المؤمنين ويرتدون عن الدين فذلك ظن السوء.
والسوء بفتح السين تقدم آنفا في قوله {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 6]
والبور: مصدر كالهلك بناء ومعنى، ومثله البوار بالفتح كالهلاك ولذلك وقع وصفا بالإفراد وموصوفه في معنى الجمع.
والمراد الهلاك المعنوي، وهو عدم الخير والنفع في الدين والآخرة نظير قوله تعالى {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة براءة.
وإقحام كلمة {قوما} بين {كنتم} و {بورا} لإفادة أن البوار صار من مقومات قوميتهم لشدة تلبسه بجميع أفرادهم كما تقدم عند قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة. وقوله {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة يونس.
{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً} جملة معترضة بين أجزاء القول المأمور به في قوله {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الفتح: 11] الآيات وقوله {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وهذا الاعتراض للتحذير من استدراجهم أنفسهم في مدارج الشك في إصابة أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفضي بهم إلى دركات الكفر بعد الإيمان إذ كان تخلفهم عن الخروج معه وما عللوا به تثاقلهم في نفوسهم وإظهار عذر مكذوب أضمروا خلافه، كل ذلك حوما حول حمى الشك يوشكون أن يقعوا فيه.
و {من} شرطية. وإظهار لفظ الكافرين في مقام أن يقال: أعتدنا لهم سعيرا، لزيادة تقرير معنى {مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}

والسعير: النار المسعرة وهو من أسماء جهنم.
[14] {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} عطف على جملة {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} فهو من أجزاء القول، وهذا انتقال من التخويف الذي أوهمه {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الفتح: من الآية11] إلى إطماعهم بالمغفرة التي سألوها، ولذلك قدم الضر على النفع في الآية الأولى فقيل {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} ليكون احتمال إرادة الضر بهم أسبق في نفوسهم.
وقدمت المغفرة هنا بقوله {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} ليتقرر معنى الإطماع في نفوسهم فيبتدروا إلى استدراك ما فاتهم.
وهذا تمهيد لوعدهم الآتي في قوله {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} إلى قوله {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} [الفتح: 16].
وزاد رجاء المغفرة تأكيدا بقوله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي الرحمة والمغفرة أقرب من العقاب، وللأمرين مواضع ومراتب في القرب والبعد، والنوايا والعوارض، وقيمة الحسنات والسيئات، قد أحاط الله بها وقدرها تقديرا.
ولفظ {من يشاء} في الموضعين إجمال للمشيئة وأسبابها وقد بينت غير مرة في تضاعيف القرآن والسنة ومن ذلك قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]
[15] {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [الفتح:15]
هذا استئناف ثان بعد قوله {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11] وهو أيضا إعلام للنبي صلى الله عليه وسلم بما سيقوله المخلفون عن الحديبية يتعلق بتخلفهم عن الحديبية وعذرهم الكاذب، وأنهم سيندمون على تخلفهم حين يرون اجتناء أهل الحديبية ثمرة غزوهم، ويتضمن تأكيد تكذيبهم في اعتذارهم عن التخلف بأنهم حين يعلمون أن هنالك مغانم من قتال غير شديد يحرصون على الخروج ولا تشغلهم أموالهم

ولا أهاليهم، فلو كان عذرهم حقا لما حرصوا على الخروج إذا توقعوا المغانم ولأقبلوا على الاشتغال بأموالهم وأهليهم.
ولكون هذه المقالة صدرت منهم عن قريحة ورغبة لم يؤت معها بمجرور {لك} كما أتي به في قوله {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ} آنفا لأن قول راغب صادق غير مزور لأجل الترويج على النبي صلى الله عليه وسلم كما علمت ذلك فيما تقدم.
واستغني عن وصفهم بأنهم من الأعراب لأن تعريف {المخلفون} تعريف العهد، أي المخلفون المذكورون.
وقوله {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} متعلق ب {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} وليس هو مقول القول.
و {إذا} ظرف للمستقبل، ووقوع فعل المضي بعده دون المضارع مستعار لمعنى التحقيق، و{إذا} قرينة على ذلك لأنها خاصة بالزمن المستقبل.
والمراد بالمغانم في قوله {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ} الخروج إلى غزوة خيبر فأطلق عليها اسم مغانم مجازا لعلاقة الأول مثال إطلاق خمرا في قوله {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36]. وفي هذا المجاز إيماء إلى أنهم منصورون في غزوتهم.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية إلى المدينة أقام شهر ذي الحجة سنة وست وأياما من محرم سنة سبع ثم خرج إلى غزوة خيبر ورام المخلفون عن الحديبية أن يخرجوا معه فمنعهم لأن الله جعل غزوة خيبر غنيمة لأهل بيعة الرضوان خاصة إذ وعدهم بفتح قريب.
وقوله {لتأخذوها} ترشيح للمجاز وهو إيماء إلى أن المغانم حاصلة لهم لا محالة.
وذلك أن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه وعد أهل الحديبية أن يعوضهم عن عدم دخول مكة مغانم خيبر.
و {مغانم} : جمع مغنم وهو اسم مشتق من غنم إذا أصاب ما فيه نفع له كأنهم سموه مغنما باعتبار تشبيه الشيء المغنوم بمكان فيه غنم فصيغ له وزن المفعل.
وأشعر قوله {ذرونا} بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيمنعهم من الخروج معه إلى غزو خيبر لأن الله أمره أن لا يخرج معه إلى خيبر إلا من حضر الحديبية، وتقدم في قوله تعالى {وَقَالَ

فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} في سورة غافر.[26]
وقوله {نتبعكم} حكاية لمقالتهم وهو يقتضي أنهم قالوا هذه الكلمة استنزالا لإجابة طلبهم بأن أظهروا أنهم يخرجون إلى غزو خيبر كالأتباع، أي أنهم راضون بأن يكونوا في مؤخرة الجيش فيكون حظهم في مغانمه ضعيفا.
وتبديل كلام الله: مخالفة وحيه من الأمر والنهي والوعد كرامة للمجاهدين وتأديبا للمخلفين عن الخروج إلى الحديبية. فالمراد بكلام الله ما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر خاصة لهم، وليس المراد بكلام الله هنا القرآن إذ لم ينزل في ذلك قرآن يومئذ. وقد أشرك مع أهل الحديبية من الحق بهم من أهل هجرة الحبشة الذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم بوحي.
وأما ما روي عن عبد الله بن زيد بن أسلم أن المراد بكلام الله قوله تعالى {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83] فقد رده ابن عطية بأنها نزلت بعد هذه السورة وهؤلاء المخلفون لم يمنعوا منعا مؤبدا بل منعوا من المشاركة في غزوة خيبر لئلا يشاركوا في مغانمها فلا يلاقي قوله فيها {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً} وينافي قوله في هذه السورة {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ} [الفتح: 16] الآية، فإنها نزلت في غزوة تبوك وهي بعد الحديبية بثلاث سنين.
وجملة {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} في موضع الحال. والإرادة في قوله {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} على حقيقتها لأنهم سيعلمون حينئذ يقولون: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} أن الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بمنعهم من المشاركة في فتح خيبر كما دل عليه تنازلهم في قولهم {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} فهم يريدون حينئذ أن يغيروا ما أمر الله به رسوله حين يقولون {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إذ اتباع الجيش والخروج في أوله سواء في المقصود من الخروج.
وقرأ الجمهور {كَلامَ اللَّهِ} وقرأه حمزة والكسائي وخلف {كلم الله} اسم جمع كلمة.
وجيء ب {لن} المفيدة تأكيد النفي لقطع أطماعهم في الإذن لهم باتباع الجيش الخارج إلى خيبر ولذلك حذف متعلق {تتبعونا} للعلم به. و {من قبل} تقديره: من قبل طلبكم الذي تطلبونه وقد أخبر الله عنهم بما سيقولونه إذ قال {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} وقد قالوا ذلك بعد نحو شهر ونصف فلما سمع المسلمون المتأهبون للخروج إلى خيبر مقالتهم قالوا: قد أخبرنا الله في الحديبية بأنهم سيقولون هذا.

و {بل} هنا للإضراب عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم {لَنْ تَتَّبِعُونَا} وهو إضراب إبطال نشأ عن فورة الغضب المخلوط بالجهالة وسوء النظر، أي ليس بكم الحفاظ على أمر الله، بل بكم أن لا نقاسمكم في المغانم حسدا لنا على ما نصيب من المغانم.
والحسد: كراهية أن ينال غيرك خيرا معينا أو مطلقا سواء كان مع تمني انتقاله إليك أو بدون ذلك، فالحسد هنا أريد به الحرص على الانفراد بالمغانم وكراهية المشاركة فيها لئلا ينقص سهام الكارهين.
وتقدم الحسد عند قوله تعالى {بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وعند قوله {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] كلاهما في سورة البقرة.
وضمير الرفع مراد به أهل الحديبية، نسبوهم إلى الحسد لأنهم ظنوا أن الجواب بمنعهم لعدم رضى أهل الحديبية بمشاركتهم في المغانم. ولا يظن بهم أن يريدوا بذلك الضمير شمول النبي صلى الله عليه وسلم لأن المخلفين كانوا مؤمنين لا يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بالحسد ولذلك أبطل الله كلامهم بالإضراب الإبطالي فقال {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً} أي ليس قولك لهم ذلك لقصد الاستبشار بالمغانم لأهل الحديبية ولكنه أمر الله وحقه لأهل الحديبية وتأديب للمخلفين ليكونوا عبرة لغيرهم فيما يأتي وهم ظنوه تمالؤا من جيش الحديبية لأنهم لم يفهموا حكمته وسببهم. وإنما نفى الله عنهم الفهم دون الإيمان لأنهم كانوا مؤمنين ولكنهم كانوا جاهلين بشرائع الإسلام ونظمه.
وأفاد قوله {لا يَفْقَهُونَ} انتفاء الفهم عنهم لأن الفعل في سياق النفي كالنكرة في سياق النفي يعم، فلذلك استثنى منه بقوله {إِلَّا قَلِيلاً} أي إلا فهما قليلا وإنما قلله لكون فهمهم مقتصرا على الأمور الواضحة من العاديات لا ينفذ إلى المهمات ودقائق المعاني، ومن ذلك ظنهم حرمانهم من الالتحاق بجيش غزوة خيبر منبعثا على الحسد. وقد جروا في ظنهم هذا على المعروف من أهل الأنظار القاصرة والنفوس الضئيلة من التوسم في أعمال أهل الكمال بمنظار ما يجدون من دواعي أعمالهم وأعمال خلطائهم.
و {قليلا} وصف للمستثنى المحذوف، والتقدير: إلا فقها قليلا.
[16] {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
انتقال إلى طمأنة المخلفين بأنهم سينالون مغانم في غزوات آتية ليعلموا أن حرمانهم من الخروج إلى خيبر مع جيش الإسلام ليس لانسلاخ الإسلام عنهم ولكنه لحكمة نوط

المسببات بأسبابها على طريقة حكمة الشريعة فهو حرمان خاص بوقعة معينة كما تقدم آنفا، وأنهم سيدعون بعد ذلك إلى قتال قوم كافرين كما تدعى طوائف المسلمين، فذكر هذا في هذا المقام إدخال للمسرة بعد الحزن ليزيل عنهم انكسار خواطرهم من جراء الحرمان. وفي هذه البشارة فرصة لهم ليستدركوا ما جنوه من التخلف عن الحديبية وكل ذلك دال على أنهم لم ينسلخوا عن الإيمان، ألا ترى أن الله لم يعامل المنافقين المبطنين للكفر بمثل هذه المعاملة في قوله {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:83]
وكرر وصف من {الأعراب} هنا ليظهر أن هذه المقالة قصد بها الذين نزل فيهم قوله {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: من الآية11] فلا يتوهم السامعون أن المعنى بالمخلفين كل من يقع منه التخلف.
وأسند {تدعون} إلى المجهول لأن الغرض الأمر بامتثال الداعي وهو ولي أمر المسلمين بقرينة قوله بعد في تذييله {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الفتح: من الآية17] ودعوة خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده ترجع إلى دعوة الله ورسوله لقوله "ومن أطاع أمري فقد أطاعني".
وعدي فعل {ستدعون} بحرف {إلى} لإفادة أنها مضمنة معنى المشي، وهذا فرق دقيق بين تعدية فعل الدعوة بحرف {إلى} وبين تعديته باللام نحو قولك: دعوت فلانا لما نابني، قال طرفة:
وإن أدع للجلى أكن من حماتها
وقد يتعاقب الاستعمالان بضرب من المجاز والتسامح.
والقوم أولو البأس الشديد يتعين أنهم قوم من العرب لأن قوله تعالى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} يشعر بأن القتال لا يرفع عنهم إلا إذا أسلموا، وإنما يكون هذا حكما في قتال مشركي العرب إذ لا تقبل منهم الجزية.
فيجوز أن يكون المراد هوازن وثقيف. وهذا مروي عن سعيد بن جبير، وعكرمة وقتادة، وذلك غزوة حنين وهي بعد غزوة خيبر، وأما فتح مكة فلم يكن فيه قتال. وعن الزهري ومقاتل: أنهم أهل الردة لأنهم من قبائل العرب المعروفة بالبأس، وكان ذلك صدر خلافة أبي بكر الصديق. وعن رافع بن خديج أنه قال: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم من هم حتى

دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم، وعن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، والحسن هم فارس والروم.
وجملة {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} إما حال من ضمير {تدعون} ، وإما بدل اشتمال من مضمون {تدعون}.
و{أو} للترديد بين الأمرين والتنويع في حالة تدعون، أي تدعون إلى قتالهم وإسلامهم، وذلك يستلزم الإمعان في مقاتلتهم والاستمرار فيها ما لم يسلموا، فبذلك كان {أو يسلمون} حالا معطوفا على جملة {تقاتلونهم} وهو حال من ضمير {تدعون}.
وقوله {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} تعبير بالتوالي الذي مضى، وتحذير من ارتكاب مثله في مثل هذه الدعوة بأنه تول يوقع في الإثم لأنه تول عن دعوة إلى واجب وهو القتال للجهاد.
فالتشبيه في قوله {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تشبيه في مطلق التولي لقصد التشويه وليس تشبيها فيما يترتب على ذلك التولي.
[17] {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً}
جملة معترضة بين جملة {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وبين جملة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية قصد منها نفي الوعيد عن أصحاب الضرارة تنصيصا على العذر للعناية بحكم التولي والتحذير منه.
وجملة {مَنْ يُطِعِ اللَّهَ} الخ تذييل لجملة {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} [الفتح: 16] الآية لما تضمنته من إيتاء الأجر لكل مطيع من المخاطبين وغيرهم، والتعذيب لكل متول كذلك، مع ما في جملة {ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ} من بيان أن الأجر هو إدخال الجنات، وهو يفيد بطريق المقابلة أن التعذيب الأليم بإدخالهم جهنم.
وقرأ نافع وابن عامر {ندخله} {ونعذبه} بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم. وقرأ الجمهور {يدخله} بالياء التحتية جريا على أسلوب الغيبة بعود الضمير إلى اسم الجلالة.
[19,18] {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}

عود إلى تفصيل ما جازى الله به أصحاب بيعة الرضوان المتقدم إجماله في قوله {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]، فإن كون بيعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم تعتبر بيعة لله تعالى أومأ إلى أن لهم بتلك المبايعة مكانة رفيعة من خير الدنيا والآخرة، فلما قطع الاسترسال في ذلك بما كان تحذيرا من النكث وترغيبا في الوفاء، بمناسبة التضاد وذكر ما هو وسط بين الحالين وهو حال المخلفين، وإبطال اعتذارهم وكشف طويتهم، وإقصائهم عن الخير الذي أعده الله للمبايعين وأرجائهم إلى خير يسنح من بعد إن هم صدقوا التوبة وأخلصوا النية.
فقد أنال الله المبايعين رضوانه وهو أعظم خير في الدنيا والآخرة قال تعالى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] والشهادة لهم بإخلاص النية، وإنزاله السكينة قلوبهم ووعدهم بثواب فتح قريب ومغانم كثيرة.
وفي قوله {عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ} إيذان بأن من لم يبايع ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس حينئذ بمؤمن وهو تعريض بالجد بن قيس إذ كان يومئذ منافقا ثم حسن إسلامه.
وقد دعيت هذه البيعة بيعة الرضوان من قوله تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
و {إذ يبايعونك} ظرف متعلق ب {رضي} ، وفي تعليق هذا الظرف بفعل الرضى ما يفهم أن الرضى مسبب عن مفاد ذلك الظرف الخاص بما أضيف هو إليه، مع ما يعطيه توقيت الرضى بالظرف المذكور من تعجيل حصول الرضى بحدثان ذلك الوقت، ومع ما في جعل الجملة المضاف إليها الظرف فعلية مضارعية من حصول الرضى قبل انقضاء الفعل بل في حال تجدده. فالمضارع في قوله {يبايعونك} مستعمل في الزمان الماضي لاستحضار حالة المبايعة الجليلة، وكون الرضى حصل عند تجديد المبايعة ولم ينتظر به تمامها، فقد علمت أن السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية.
والتعريف في {الشجرة} تعريف العهد وهي: الشجرة التي عهدها أهل البيعة حين كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في ظلها، وهي شجرة من شجر السمر بفتح السين المهملة وضم الميم وهو شجر الطلح. وقد تقدم أن البيعة كانت لما أرجف بقتل عثمان بن عفان بمكة. فعن سلمة بن الأكوع وعبد الله بن عمر، يزيد أحدهما على الآخر بينما نحن قائلون يوم الحديبية وقد تفرق الناس في ضلال الشجر إذ نادى عمر بن الخطاب: أيها الناس البيعة البيعة، نزل روح القدس فاخرجوا على اسم الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي دعا الناس

إلى البيعة فثار الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه كلهم إلا الجد بن قيس.
وعن جابر بن عبد الله بعد أن عمي لو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة وتواتر بين المسلمين علم مكان الشجرة بصلاة الناس عند مكانها. وعن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال: فلما خرجنا من العام المقبل أي في عمرة القضية نسيناها فلم نقدر عليها. وعن طارق بن عبد الرحمان قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت: ما هذا المسجد? قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله بيعة الرضوان. فاتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال: سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم أفأنتم أعلم.
والمراد بقول طارق: ما هذا المسجد: مكان السجود، أي الصلاة، وليس المراد البيت الذي يبني للصلاة لأن البناء على موضع الشجرة وقع بعد ذلك الزمن فهذه الشجرة كانت معروفة للمسلمين وكانوا إذا مروا بها يصلون عندها تيمنا بها إلى أن كانت خلافة عمر فأمر بقطعها خشية أن تكون كذات أنواط التي كانت في الجاهلية، ولا معارضة بين ما فعله المسلمون وبين ما رواه سعيد بن المسيب عن أبيه أنه وبعض أصحابه نسوا مكانها أن الناس متفاوتون في توسم الأمكنة واقتفاء الآثار.
والمروي أن الذي بنى مسجدا على مكان الشجرة أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي ولكن في المسجد المذكور حجر مكتوب فيه أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله ببناء هذا المسجد مسجد البيعة وأنه بنى سنة أربع وأربعين ومائتين، وهي توافق مدة المتوكل جعفر بن المعتصم وقد تخرب فجدده المستنصر العباسي سنة 629 ثم جدده السلطان محمود خان العثماني سنة 1254 وهو قائم إلى اليوم.
وذكر {تَحْتَ الشَّجَرَةِ} لاستحضار تلك الصورة تنويها بالمكان فإن لذكر مواضع الحوادث وأزمانها معاني تزيد السامع تصورا ولما في تلك الحوادث من ذكرى مثل مواقع الحروب والحوادث كقول عبد الله بن عباس ويوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله صلى الله علي وسلم وجعه الحديث. ومواقع المصائب وأيامها.
و {إذ} ظرف يتعلق بفعل {رضي} ، أي رضي الله عنهم في ذلك الحين. وهذر رضى خاص، أي تعلق رضى الله تعالى عنهم بتلك الحالة.

والفاء من قوله {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} ليست للتعقيب لأن علم الله بما في قلوبهم ليس عقب رضاه عنهم ولا عقب وقوع بيعتهم فتعين أن تكون فاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر بعدها. والتقدير: فلما بايعوك علم ما في قلوبهم من الكآبة، ويجوز أن تكون الفاء لتفريع الأخبار بأن الله علم ما في قلوبهم بعد الإخبار برضى الله عنهم لما في الإخبار بعلمه ما في قلوبهم من إظهار عنايته بهم. ويجوز أن يكون المقصود من التفريع قوله {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} ويكون قوله {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} توطئة له على وجه الاعتراض.
والمعنى: لقد رضي الله عن المؤمنين من أجل مبايعتهم على نصرك فلما بايعوا وتحفزوا لقتال المشركين ووقع الصلح حصلت لهم كآبة في نفوسهم فأعلمهم الله أنه اطلع على ما في قلوبهم من تلك الكآبة، وهذا من علمه الأشياء بعد وقوعها وهو من تعلق علم الله بالحوادث بعد حدوثها، أي علمه بأنها وقعت وهو تعلق حادث مثل التعلقات التنجيزية. والمقصود بإخبارهم بأن الله علم ما حصل في قلوبهم الكآبة عن أنه قدر ذلك لهم وشكرهم على حبهم نصر النبي صلى الله علي وسلم بالفعل ولذلك رتب عليه قوله {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}
والسكينة هنا هي: الطمأنينة والثقة بتحقق ما وعدهم الله من الفتح والارتياض على ترقبه دون حسرة فترتب على علمه ما في قلوبهم إنزاله السكينة عليهم، أي على قلوبهم فعبر بضميرهم عوضا عن ضمير {قلوبهم} لأن قلوبهم هي نفوسهم.
وعطف {أثابهم} على فعل {رَضِيَ اللَّهُ} ومعنى أثابهم: أعطاهم ثوابا، أي عوضا، كما يقال في هبة الثواب، أي عوضهم عن المبايعة بفتح قريب. والمراد: أنه وعدهم بثواب هو فتح قريب ومغانم كثيرة، ففعل {أثابهم} مستعمل في المستقبل. وهذا الفتح هو فتح خيبر فإنه كان خاصا بأهل الحديبية وكان قريبا من يوم البيعة بنحو شهر ونصف.
والمغانم الكثيرة المذكورة هنا هي: مغانم أرض خيبر والأنعام والمتاع والحوائط فوصفت ب {كثيرة} لتعدد أنواعها وهي أول المغانم التي كانت فيها الحوائط.
وفائدة وصف المغانم بجملة {يأخذونها} تحقيق حصول فائدة هذا الوعد لجميع أهل البيعة قبل أن يقع بالفعل ففيه زيادة تحقيق لكون الفتح قريبا وبشارة لهم بأنهم لا يهلك منهم أحد قبل رؤية هذا الفتح.

وجملة {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} معترضة، وهي مفيدة تذييل لجملة {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} لأن تيسير الفتح لهم وما حصل لهم فيه من المغانم الكثيرة من أثر عزة الله التي لا يتعاصى عليها شيء صعب، ومن أثر حكمته في ترتيب المسببات على أسبابها في حالة ليظن الرائي أنها لا تيسر فيها أمثالها.
[20] {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}
هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا نشأ عن قوله {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19,18] إذ علم أنه فتح خيبر، فحق لهم ولغيرهم أن يخطر ببالهم أن يترقبوا مغانم أخرى فكان هذا الكلام جوابا لهم، أي لكم مغانم أخرى لا يحرم منها من تخلفوا عن الحديبية وهي المغانم التي حصلت في الفتوح المستقبلة.
فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين تبعا للخطاب الذي في قوله {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] وليس خاصا بالذين بايعوا. والوعد بالمغانم الكثيرة واقع في ما سبق نزوله من القرآن وعلى لسان الرسول صلى الله عليه وسلم مما بلغه إلى المسلمين في مقامات دعوته للجهاد.
ووصف {مغانم} بجملة {تأخذونها} لتحقيق الوعد.
وبناء على ما اخترناه من أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة يكون فعل {فعجل} مستعملا في الزمن المستقبل مجازا تنبيها على تحقيق وقوعه، أي سيعجل لكم هذه. وإنما جعل نوالهم غنائم خيبر تعجيلا، لقرب حصوله من وقت والوعد به. ويحتمل أن يكون تأخر نزول هذه الآية إلى ما بعد فتح خيبر على أنها تكملة لآية الوعد التي قبلها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضعها عقبها وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على أول هذه السورة ولكن هذا غير مروي.
والإشارة في قوله {هذه} إلى المغانم في قوله {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19] وأشير إليها على اختلاف الاعتبارين في استعمال فعل {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}
{وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}
امتنان عليهم بنعمة غفلوا عنها حين حزنوا لوقوع صلح الحديبية وهي نعمة السلم

أي كف أيدي المشركين عنهم فإنهم لو واجهوهم يوم الحديبية بالقتال دون المراجعة في سبب قدومهم لرجع المسلمون بعد القتال متعبين. ولما تهيأ لهم فتح خيبر، وأنهم لو اقتتلوا مع أهل مكة لدحض في ذلك مؤمنون ومؤمنات كانوا في مكة كما أشار إليه قوله تعالى {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} [الفتح: 25] الآية.
فالمراد ب{الناس}: أهل مكة جريا على مصطلح القرآن في إطلاق هذا اللفظ غالبا.
وقيل: المراد كف أيدي الإعراب المشركين من بني أسد وغطفان وكانوا أحلافا ليهود خيبر وجاءوا لنصرتهم لما حاصر المسلمون خيبر فألقى الله في قلوبهم الرعب فنكصوا.
وقيل: إن المشركين بعثوا أربعين رجلا ليصيبوا من المسلمين في الحديبية فأسرهم المسلمون، وهو ما سيجيء في قوله {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24]
وقيل: كف أيدي اليهود عنكم، أي عن أهلكم وذراريكم إذ كانوا يستطيعون أن يهجموا على المدينة في مدة غيبة معظم أهلها في الحديبية، وهذا القول لا يناسبه إطلاق لفظ {الناس} في غالب مصطلح القرآن,
والكف: منع الفاعل من فعل إرادة أو شرع فيه، وهو مشتق من اسم الكف التي هي اليد لأن أصل المنع أن يكون دفعا باليد، ويقال: كف يده عن كذا، إذا منعه من تناوله بيده.
وأطلق الكف هنا مجازا على الصرف، أي قدر الله كف أيدي الناس عنكم بأن أوجد أسباب صرفهم عن أن يتناولوكم بضر سواء نووه أو لم ينووه، وإطلاق الفعل على تقديره كثير في القرآن حين لا يكون للتعبير عن المعاني الإلهية فعل مناسب له في كلام العرب، فإن اللغة بينت على متعارف الناس مخاطباتهم وطرأت معظم المعاني الإلهية بمجيء القرآن فتغير عن الشأن الإلهي بأقرب الأفعال إلى معناه.
{وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}
الظاهر أن الواو عاطفة وأن ما بعد الواو علة كما تقتضي لام كي فتعين أنه تعليل لشيء مما ذكر قبله في اللفظ أو عطف على تعليل سبقه. فيجوز أن يكون معطوفا على بعض التعليلات المتقدمة من قوله {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: من الآية4] أو من قوله {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح: 5] وما بينهما اعتراضا وهو وإن طال فقد

اقتضته التنقلات المتناسبات. والمعنى أن الله أنزل السكينة في قلوب المؤمنين لمصالح لهم منها ازدياد إيمانهم واستحقاقهم الجنة وتكفير سيئاتهم واستحقاق المنافقين والمشركين العذاب، ولتكون السكينة آية للمؤمنين، أي عبرة لهم واستدلالا على لطف الله بهم وعلى أن وعده لا تأويل فيه.
ومعنى كون السكينة آية أنها سبب لأنهم لما نزلت السكينة في قلوبهم اطمأنت نفوسهم فخلصت إلى التدبر والاستدلال فبانت لها آيات الله فتأنيث ضمير الفعل لأن معاده السكينة.
ويجوز أن يكون معطوفا على تعليل محذوف يثار من الكلام السابق، حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن في تقديره توفيرا للمعنى. والتقدير: فعجل لكم هذه لغايات وحكم لتكون آية. فهو من ذكر الخاص بعد العام المقدر.
فالتقدير مثلا: ليحصل التعجيل لكم بنفع عوضا عما ترقبتموه من منافع قتال المشركين، ولتكون هذه المغانم آية للمؤمنين منكم ومن يعرفون بها أنهم من الله بمكان عنايته وأنه موف لهم ما وعدهم وضامن لهم نصرهم الموعود كما ضمن لهم المغانم القريبة والنصر القريب. وتلك الآية تزيد المؤمنين قوة إيمان. وضمير {لتكون} على هذه راجع إلى قوله {هذه} على أنها المعللة. ويجوز أن يكون الضمير للخصال التي دل عليها مجموع قوله {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} فيكون معنى قوله {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} لغايات جمة منها ما ذكر آنفا ومنها سلامة المسلمين في وقت هم أحوج فيه إلى استبقاء قوتهم منهم إلى قتال المشركين ادخارا للمستقبل.
وجعل صاحب الكشاف جملة {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} معترضة، وعليه فالواو اعتراضية غير عاطفة وأن ضمير {لتكون} عائدا إلى المرة من فعل كف: أي الكفة.
وعطف عليه {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} وهو حكمة أخرى، أي ليزول بذلك ما خامركم من الكآبة والحزن فتتجرد نفوسكم لإدراك الخير المحض الذي في أمر الصلح وإحالتكم على الوعد فتوقنوا أن ذلك هو الحق فتزدادوا يقينا. ويجوز أن يكون فعل {ويهديكم} مستعملا في معنى الإدامة على الهدى وهو: الإيمان الحاصل لهم من قبل على حد قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: من الآية136] على أحد تأويلين.
[21] {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}

هذا من عطف الجملة على الجملة فقوله {أخرى} مبتدأ موصوف بجملة {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} والخبر قوله {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا}
ومجموع الجملة عطف على جملة {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح: 20] فلفظ {أخرى} صفة لموصوف محذوف دل عليه {مغانم} الذي في الجملة قبلها، أي هي نوع آخر من المغانم صعبة المنال، ومعنى المغانم يقتضي غانمين فعلم أنها لهم، أي غير التي وعدهم الله بها، أي هذه لم يعدهم الله بها، ولم نجعل {وأخرى} عطفا على قوله {هذه} عطف المفرد على المفرد إذ ليس المراد غنيمة واحدة بل غنائم كثيرة.
ومعنى {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} أنها موصوفة بعدم قدرتكم عليها، فلما كانت جملة {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} صفة ل {أخرى} لم يقتض مدلول الجملة أنهم حاولوا الحصول عليها فلم يقدروا، وإنما المعنى: أن صفتها عدم قدرتكم عليها فلم تتعلق أطماعكم بأخذها.
والإحاطة بالهمز: جعل الشيء حائطا أي حافظا، فأصل همزته للجعل وصار بالاستعمال قاصرا، ومعناه: احتوى عليه ولم يترك له منصرفا فول على شدة القدرة عليه قال تعالى {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] أي إلا أن تغلبوا غلبا لا تستطيعون معه الإتيان به.
فالمعنى: أن الله قدر عليها، أي قدر عليها فجعلها لكم بقرينة قوله قبله {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} والمعنى: ومغانم أخرى لم تقدروا على نيلها قد قدر الله عليها، أي فأنالكم إياها.
وإلا لم يكن لإعلامهم بأن الله قدر على ما لم يقدروا عليه جدوى لأنهم لا يجهلون ذلك، أي أحاط الله بها لأجلكم، وفي معنى الإحاطة إيماء إلى أنها كالشيء المحاط به من جوانبه فلا يفوتهم مكانه، جعلت كالمخبوء لهم.
ولذلك ذيل بقوله {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} إذ هو أمر مقرر في علمهم.
فعلم أن الآية أشارت إلى ثلاثة أنواع من المغانم: نوع من مغانم موعودة لهم قريبة الحصول وهي مغانم خيبر، ونوع هو مغانم مرجوة كثيرة غير معين وقت حصولها، ومنها مغانم يوم حنين وما بعده من الغزوات، ونوع هو مغانم عظيمة لا يخطر ببالهم نوالها قد أعدها الله للمسلمين ولعلها مغانم بلاد الروم وبلاد الفرس وبلاد البربر. وفي الآية إيماء إلى أن هذا النوع الأخير لا يناله جميع المخاطبين لأنه لم يأت في ذكره بضميرهم، وهو

الذي تأوله عمر في عدم قسمة سواد العراق وقرأ قوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]
[23,22] {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}
هذا عطف على قوله {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح: 20] على أن بعضه متعلق بالمعطوف عليه، وبعضه معطوف على المعطوف عليه فما بينهما ليس من الاعتراض.
والمقصود من هذا العطف التنبيه على أن كف أيدي الناس عنهم نعمة على المسلمين باستبقاء قوتهم وعدتهم ونشاطهم. وليس الكف لدفع غلبة المشركين إياهم لأن الله قدر للمسلمين عاقبة النصر فلو قاتلهم الذين كفروا لهزمهم المسلمون ولم يجدوا نصيرا، أي لم ينتصروا بجمعهم ولا بمن يعينهم.
والمراد بالذين كفروا ما أريد بالناس في قوله {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} . وكان مقتضى الظاهر الإتيان بضمير الناس بأن يقال: ولو قاتلوكم، فعدل عنه إلى الاسم الظاهر لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو أن الكفر هو سبب توليه الإدبار في قتالهم للمسلمين تمهيدا لقوله {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ}
و {الأدبار} منصوب على أنه مفعول ثان ل {ولوا} ومفعوله الأول محذوف لدلالة ضمير {قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} عليه. والتقدير: لولوكم الأدبار.
وال للعهد، أي أدبارهم، ولذلك يقول كثير من النحاة إن "ال" في مثله عوض عن المضاف إليه وهو تعويض معنوي.
والتولية: جعل الشيء واليا، أي لجعلوا ظهورهم تليكم، أي ارتدوا إلى ورائهم فصرتم وراءهم.
و {ثم} للتراخي الرتبي فإن عدم وجدان الولي والنصير أشد على المنهزم من انهزامه لأنه حين ينهزم قد يكون له أمل بأن يستنصر من ينجده فيكر به على الذين هزموه فإذا لم يجد وليا ولا نصيرا تحقق أنه غير منتصر وأصل الكلام لولوا الأدبار وما وجدوا وليا ولا نصيرا.
والولي: الموالي والصديق، وهو أعم من النصير إذ قد يكون الولي غير قادر على

إيواء وليه وإسعافه.
والسنة: الطريقة والعادة. وانتصب {سُنَّةَ اللَّهِ} نيابة عن المفعول المطلق الأتي بدلا من فعله لإفادة معنى تأكيد الفعل المحذوف. والمعنى: سن الله ذلك سنة، أي جعله عادة له ينصر المؤمنين على الكافرين إذا كانت نية المؤمنين نصر دين الله كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]
وقال {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: من الآية40]، أي أن الله ضمن النصر للمؤمنين بأن تكون عاقبة حروبهم نصرا وإن كانوا قد يغلبون في بعض المواقع كما وقع يوم أحد وقد قال تعالى {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] وقال {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]
وإنما يكون كمال النصر على حسب ضرورة المؤمنين وعلى حسب الإيمان والتقوى، ولذلك كان هذا الوعد غالبا للرسول ومن معه فيكون النصر تاما في حالة الخطر كما كان يوم بدر، ويكون سجالا في حالة السعة كما في وقعة أحد وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" وقال الله تعالى {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] ويكون لمن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم من جيوش المسلمين على حسب تمسكهم بوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم "يأتي زمان يغزو فآم من الناس فقال: فيكم من صحب النبي? فيقال: نعم، فيفتح عليه، ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب أصحاب النبي? فيقال: نعم فيفتح ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب من صاحب النبي? فيقال: نعم فيفتح".
ومعنى {خلت} مضت وسبقت من أقدم عصور اجتلاد الحق والباطل، والمضاف إليه {قبل} محذوف نوي معناه دون لفظه، أي ليس في الكلام دال على لفظه ولكن يدل عليه معنى الكلام، فلذلك بني {قبل} على الضم. وفائدة هذا الوصف الدلالة على اطرادها وثباتها.
والمعنى: أن ذلك سنة الله مع الرسل قال تعالى {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]
ولما وصف تلك السنة بأنها راسخة فيما مضى أعقب ذلك بوصفها بالتحقق في المستقبل تعميما للأزمنة بقوله {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} لأن اطراد ذلك النصر في مختلف الأمم والعصور وإخبار الله تعالى به على لسان رسله وأنبيائه يدل على أن الله أراد

تأييد أحزابه فيعلم أنه لا يستطيع كائن أن يحول دون إرادة الله تعالى.
[24] {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}
عطف على جملة {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح: من الآية20] وهذا كف غير الكف المراد من قوله {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لإفادة التخصيص، أي القصر، أي لم يكفهم عنكم ولا كفكم عنهم إلا الله تعالى، لا أنتم ولا هم فإنهم كانوا يريدون الشر بكم وأنتم حين أحطتم بهم كنتم تريدون قتلهم أو أسرهم فإن دواعي امتداد أيديهم إليكم وامتداد أيديكم إليهم متوفرة فلولا أن الله قدر موانع لهم ولكم لاشتبكتم في القتال، فكف أيديهم عنكم بأن نبهكم إليهم قبل أن يفاجئوكم وكف أيديكم عنهم حين أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عنهم ويطلقهم.
وتقدم الكلام على معنى {كف} في قوله آنفا {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}
والمعنى: أنه لم يترك أحد من الفريقين الاعتداء على الفريق الآخر من تلقاء نفسه ولكن ذلك كان بأسباب أوجدها الله تعالى لإرادته عدم القتال بينهم، وهي منة ثانية مثل المنة المذكورة في قوله {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} .
وهذه الآية أشارت إلى كف عن القتال يسره الله رفقا بالمسلمين وإبقاء على قوتهم في وقت حاجتهم إلى ذلك بعد وقعة بدر ووقعة أحد، واتفق المفسرون الأولون على أن هذا الكف وقع في الحديبية. وهذا يشير إلى ما روي من طرق مختلفة وبعضها في سنن الترمذي وقال: هو حديث صحيح، وفي بعضها زيادة على بعض أن جمعا من المشركين يقدر بستة أو باثني عشر أو بثلاثين أو سبعين أو ثمانين مسلحين نزلوا إلى الحديبية يريدون أن يأخذوا المسلمين على غرة ففطن لهم المسلمون فأخذوهم دون حرب النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاقهم وكان ذلك أيام كان السفراء يمشون بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أطلقهم تجنبا لما يعكر صفو الصلح.
وضمائر الغيبة راجعة للذين كفروا في قوله {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح: من الآية22] ووجه عوده إليه مع أن الذين كف الله أيديهم فريق غير الفريق الذي في قوله {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} هو أن عرف كلام العرب جار على أن ما يصدر من بعض القوم ينسب إلى

القوم بدون تمييز كما تقدم في سورة البقرة في قوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}
وقوله {بِبَطْنِ مَكَّةَ} ظاهر كلام الأساس: أن حقيقة البطن جوف الإنسان والحيوان وأن استعماله في معاني المنخفض من الشيء أو المتوسط مجاز، قال الراغب: ويقال للجهة السفلى بطن، وللعليا ظهر. ويقال: بطن الوادي لوسطه. والمعروف من إطلاق لفظ البطن إذا أضيف إلى المكان أن يراد به وسط المكان كما في قول كعب بن زهير:
في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
أي في وسط البلد الحرام فان قائل: زولوا، هو عمر بن الخطاب أو حمزة بن عبد المطلب، غير أن محمل ذلك في هذه الآية غير بين لأنه لا يعرف وقوع اختلاط بين المسلمين والمشركين في وسط مكة يفضي إلى القتال حتى يمتن عليهم بكف أيدي بعضهم عن بعض وكل ما وقع مما يفضي إلى القتال فإنما وقع في الحديبية. فجمهور المفسرين حملوا بطن مكة في الآية على الحديبية من إطلاق البطن على أسفل المكان، والحديبية قريبة من مكة وهي من الحل وبعض أرضها من الحرم وهي على الطريق بين مكة وجدة وهي إلى مكة أقرب وتعرف اليوم باسم الشميسي، وجعلوا الآية تشير إلى القصة المذكورة في جامع الترمذي وغيره بروايات مختلفة وهي ما قدمناه آنفا. ومنهم من زاد في تلك القصة: أن جيش المسلمين اتبعوا العدو إلى أن دخلوا بيوت مكة وقتلوا منهم وأسروا فيكون بطن مكة محمولا على مشهور استعماله، وهذا خبر مضطرب ومناف لظاهر قوله {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} ومنهم من أبعد المحمل فجعل الآية نازلة في فتح مكة وهذا لا يناسب سياق السورة ويخالف كلام السلف من المفسرين وهم أعلم بالمقصود، هذا كله بناء على أن الباء في قوله {بِبَطْنِ مَكَّةَ} متعلقة بفعل {كف} ، أي كان الكف في بطن مكة.
ويجوز عندي أن يكون {بِبَطْنِ مَكَّةَ} ظرفا مستقرا هو حال من ضميري {عنكم} و {عنهم} وهو حال مقدرة، أي لو كنتم ببطن مكة، أي لو لم يقع الصلح فدخلتم محاربين كما رغب المسلمون الذين كرهوا الصلح كما تقدم فيكون إطلاق {بِبَطْنِ مَكَّةَ} جاريا على الاستعمال الشائع، أي في وسط مدينة مكة. ولهذا أوثرت مادة الظفر في قوله {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} دون أن يقال: من بعد أن نصركم عليهم، لأن الظفر هو الفوز بالمطلوب فلا يقتضي وجود قتال فالظفر أعم من النصر، أي من بعد أن أنالكم ما فيه نفعكم وهو هدنة الصلح وأن تعودوا إلى العمرة في العام القابل.

ومناسبة تعريف ذلك المكان بهذه الإضافة الإشارة إلى أن جمع المشركين نزلوا من أرض الحرم المكي إذ نزلوا من جبل التنعيم وهو من الحرم وكانوا أنصارا لأهل مكة.
ويتعلق قوله {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} بفعل {كف} باعتبار تعديته إلى المعطوف على مفعوله، أعني: {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} لأنه هو الكف الذي حصل بعد ظفر المسلمين بفئة المشركين على حسب تلك الرواية والقرينة ظاهرة من قوله {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} . وهذا إشارة إلى أن كف أيدي بعضهم عن بعض كان للمسلمين إذ منوا على العدو بعد التمكن منه.
فعدي {أظفركم} ب"على" لتضمينه معنى أيدكم وإلا فحقه أن يعدى بالباء.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} تذييل للتي قبلها، والبصير بمعنى العليم بالمرئيات، أي عليما بعملكم حين أحطتم بهم وسقتموهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تظنون أنكم قاتلوهم أو آسروهم.
وقرأ الجمهور {تعملون} بتاء الخطاب، وقرأه أبو عمرو وحده بياء الغيبة، أي عليما بما يعملون من انحدارهم على غرة منكم طامعين أن يتمكنوا من أن يغلبوكم وفي كلتا القراءتين اكتفاء، أي كان الله بما تعملون ويعملون بصيرا، أو بما يعملون وتعملون بصيرا، لأن قوله {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} يفيد عملا لكل فريق، أي علم نواياكم فكفها لحكمة استبقاء قوتكم وحسن سمعتكم بين قبائل العرب وأن لا يجد المشركون ذريعة إلى التظلم منكم بالباطل.
[25] {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}
استئناف انتقل به من مقام الثناء على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اكتسبوا بتلك البيعة من رضى الله تعالى وجزائه ثواب الآخرة. وخير الدنيا عاجله وآجله، وضمان النصر لهم في قتال المشركين، وما هيأ لهم من أسباب النصر إلى تعيير المشركين بالمذمة التي أتوا بها وهي المسلمين عن المسجد الحرام وصد الهدي عن أن يبلغ به إلى أهله، فإنها سبة لهم بين العرب وهم أولى الناس بالحفاوة بمن يعتمرون، وهم

يزعمون أنهم أهل حرم الله زواره ومعظميه، وقد كان من عادتهم قبول كل زائر للكعبة من جميع أهل الأديان، فلا عذر لهم في منع المسلمين ولكنهم حملتهم عليه الحمية.
وضمير الغيبة المفتتح به عائد إلى الذين كفروا من قوله {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} [الفتح: من الآية22] الآية.
والمقصود بالافتتاح بضميرهم هنا لاسترعاء السمع لما يرد بعده من الخبر كما إذا جره حديث عن بطل في يوم من أيام العرب ثم قال قائل عثرة هو البطن المحامي.
والمقصود من الصلة هو جملة {صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وذكر {الَّذِينَ كَفَرُوا} إدماج للنداء عليهم بوصف الكفر. ولهذا الإدماج نكتة أيضا، وهي أن وصف الذين كفروا بمنزلة الجنس صار الموصول في قوة المعرف بلام الجنس فتفيد جملة {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قصر جنس الكفر على هذا الضمير لقصد المبالغة لكمالهم في الكفر بصدهم المعتمرين عن المسجد الحرام وصد الهدي عن أن يبلغ محله.
والهدي: ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام، وهو من التسمية باسم المصدر ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع كحكم المصدر قال تعالى {وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة: من الآية97] أي الأنعام المهدية وقلائدها وهو هنا الجمع.
والمعكوف: اسم مفعول عكفه، إذ ألزمه المكت في مكان، يقال: عكفه فعكف فيستعمل قاصرا ومتعديا عن ابن سيده وغيره كما يقال: رجعه فرجع وجبره فجبر. وقال أبو علي الفارسي: لا أعرف عكف متعديا، وتأول صيغة المفعول في قوله تعالى {معكوفا} على أنها لتضمين عكف معنى حبس. وفائدة ذكر هذا الحال التشنيع على الذين كفروا في صدهم المسلمين عن البيت بأنهم صدوا الهدايا أن تبلغ محلها حيث اضطر المسلمون أن ينحروا هداياهم في الحديبية فقد عطلوا بفعلهم ذلك شعيرة من شعائر الله، ففي ذكر الحال تصوير لهيئة الهدايا وهي محبوسة.
ومعنى صدهم الهدي: أنهم صدوا أهل الهدي عن الوصول إلى المنحر من منى. وليس المراد: أنهم صدوا الهدايا مباشرة لأنه لم ينقل أن المسلمين عرضوا على المشركين تخلية من يذهب بهداياهم إلى مكة لتنحر بها.
وقوله {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أن يكون بدل اشتمال من {الهدي} ويجوز أن يكون معمولا لحرف جر محذوف وهو"عن"، أي عن أن يبلغ محله.

والمحل بكسر الحاء: محل الحل مشتق من فعل حل ضد حرم، أي المكان الذي يحل فيه نحر الهدي، وهو الذي لا يجزئ غيره، وذلك بمكة بالمروة بالنسبة للمعتمر، ولذلك لما أحصروا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحروا هديهم في مكانهم إذ تعذر إبلاغه إلى مكة لأن المشركين منعوهم من ذلك. ولم يثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بتوخي جهة معينة للنحر من أرض الحديبية، وذلك من سماحة الدين فلا طائل من وراء الخوض في اشتراط النحر في أرض الحرم للمحصر.
{وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
أتبع النعي على المشركين سوء فعلهم من الكفر والصد عن المسجد الحرام وتعطيل شعائر الله وعده المسلمين بفتح قريب ومغانم كثيرة، بما يدفع غرور المشركين بقوتهم، ويسكن تطلع المسلمين لتعجيل الفتح، فبين أن الله كف أيدي المسلمين عن المشركين مع ما قرره آنفا من قوله {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [الفتح:22]
أنه إنما لم يأمر المسلمين بقتال عدوهم لما صدوهم عن البيت لأنه أراد رحمة جمع من المؤمنين والمؤمنات كانوا في خلال أهل الشرك لا يعلمونهم، وعصم المسلمين من الوقوع في مصائب من جراء إتلاف إخوانهم، فالجملة معطوفة على جملة {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} أو على جملة {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: من الآية24] الخ. وأياما كان فهي كلام معترض بين جملة {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الخ وبين جملة {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ} [الفتح: من الآية26].
ونظم هذه الآية بديع في أسلوبي الإطناب والإيجاز والتفنن في الانتقال ورشاقة كلماته.
و {لولا} دالة على امتناع لوجود، أي امتنع تعذيبنا الكافرين لأجل وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات بينهم. وما بعد {لولا} مبتدأ وخبره محذوف على الطريقة المستعملة في حذفه مع {لولا} إذا كان تعليق امتناع جوابها على وجود شرطها وجودا مطلقا غير مقيد بحال، فالتقدير: ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات موجودون، كما يدل عليه قوله بعده {لو تزيلوا} ، أي لو لم يكونوا موجودين بينهم، أي أن وجود هؤلاء هو الذي لأجله امتنع حصول مضمون جواب {لولا} .
وإجراء الوصف على رجال ونساء بالإيمان مشير إلى أن وجودهم المانع من حصول

مضمون الجواب هو الوجود الموصوف بإيمان أصحابه، ولكن الامتناع ليس معلقا على وجود الإيمان بل على وجود ذوات المؤمنين والمؤمنات بينهم.
وكذلك قوله {لم تعلموهم} ليس هو خبرا بل وصفا ثانيا إذ ليس محط الفائدة.
ووجه عطف {نِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} مع أن وجود {رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} كاف في ربط امتناع الجواب بالشرط ومع التمكن من أن يقول: ولولا المؤمنون، فإن جمع المذكر في اصطلاح القرآن يتناول النساء غالبا، أن تخصيص النساء بالذكر أنسب بمعنى انتفاع المعرة بقتلهن وبمعنى تعلق رحمة الله بهن.
ومعنى {لم تعلموهم} لم تعملوا إيمانهم إذ كانوا قد آمنوا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا.
فعن جنبذ بجيم مضمومة ونون ساكنة وموحدة مضمومة وذال معجمة بن سبع بسين مهملة مفتوحة وموحدة مضمومة ، ويقال: سباع بكسر السين يقال: إنه أنصاري، ويقال: قاري صحابي قال: هم سبعة رجال سمي منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبو جندل ابن سهيل، وأبو بصير القرشي ولم أقف على اسم السابع وعدت أم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب، وأحسب أن ثانيتهما أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط التي لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى المدينة. وعن حجر بن خلف: ثلاثة رجال وتسع نسوة، ولفظ الآية يقتضي أن النساء أكثر من اثنتين. والظاهر أن المراد بقوله {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} ما يشمل معنى نفي معرفة أشخاصهم ومعنى نفي العلم بما في قلوبهم، فيفيد الأول أنهم لا يعلمهم كثير منكم ممن كان في الحديبية من أهل المدينة ومن معهم من الأعراب فهم لا يعرفون أشخاصهم فلا يعرفون من كان منهم مؤمنا وإن كان يعرفهم المهاجرون، ويفيد الثاني أنهم لا يعلمون ما في قلوبهم من الإيمان أو ما أحدثوه بعد مفارقتهم من الإيمان، أي لا يعلم ذلك كله الجيش من المهاجرين والأنصار.
و {أَنْ تَطَأُوهُمْ} بدل اشتمال من {رجال} ومطوفه، أو من الضمير المنصوب في {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} أي لولا أن تطئوهم.
والوطء: الدوس بالرجل، ويستعار للإبادة والإهلاك، وقد جمعهما الحارث بن وعلة الذهلي في قوله:

ووطئتنا وطأ على حنق ... وطء المقيد نابت الهرم
والإصابة: لحاق ما يصيب.
و"من" في قوله {منهم} للابتداء المجازي الراجع إلى معنى التسبب، أي فتلحقكم من جرائهم ومن أجلهم معرة كنتم تتقون لحاقها لو كنتم تعلمونهم.
والمعرة: مصدر ميمي من عره، إذا دهاه، أي أصابه بما يكرهه ويشق عليه من ضر أو غرم أو سوء قالة، فهي هنا تجمع ما يلحقهم إذا ألحقوا أضرارا بالمسلمين من ديات قتلى، وغرم أضرار، ومن إثم يلحق القاتلين إذا لم يتثبتوا فيمن يقتلونه، ومن سوء قالة يقولها المشركون ويشيعونها في القبائل أن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ينج أهل دينهم من ضرهم ليكرهوا العرب في الإسلام وأهله.
والباء في {بِغَيْرِ عِلْمٍ} للملابسة، أي ملابسين لانتفاء العلم. والمجرور بها متعلق ب {تصيبكم} ، أي فتلحقكم من جرائهم مكارة لا تعلمونها حتى تقعوا فيها.
وهذا نفي علم آخر غير العلم المنفي في قوله {لم تعلموهم} لأن العلم المنفي في قوله {لم تعلموهم} هو العلم بأنهم مؤمنون بالذي انتفاؤه سبب إهلاك غير المعلومين الذي تسبب عليه لحاق المعرة. والعلم المنفي ثانيا في قوله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} هو العلم بلحاق المعرة من وطأتهم التابع لعدم العلم بإيمان القوم المهلكين وهو العلم الذي انتفاؤه يكون سببا في الإقدام على إهلاكهم.
واللام في قوله {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} للتعليل والمعلل واقع لا مفروض، فهو وجود شرط {لولا} الذي تسبب عليه امتناع جوابها فالمعلل هو ربط الجواب بالشرط، أي لولا وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لعذبنا الذين كفروا وأن هذا الربط لأجل رحمة الله من يشاء من عباده إذ رحم بهذا الامتناع جيش المسلمين بأن سلمهم من معرة تلحقهم وأن أبقى لهم قوتهم في النفوس والعدة إلى أمد معلوم، ورحم المؤمنين والمؤمنات بنجاتهم من الإهلاك، ورحم المشركين بأن استبقاهم لعلهم يسلمون أو يسلم أكثرهم كما حصل بعد فتح مكة، ورحم من أسلموا منهم بعد ذلك بثواب الآخرة، فالرحمة هنا شاملة لرحمة الدنيا ورحمة الآخرة.
و {من يشاء} يعم كل من أراد الله من هذه الحالة رحمته في الدنيا والآخرة أو فيهما معا.
وعبر ب {من يشاء} لما فيه من شمول أصناف كثيرة ولما فيه من الإيجاز ولما فيه من

الإشارة إلى الحكمة التي اقتضت مشيئة الله رحمة أولئك.
وجواب {لولا} يجوز اعتباره محذوفا دل عليه جواب {لو} المعطوفة على {لولا} في قوله {لو تزيلوا}، ويجوز اعتبار جواب {لو} مرتبطا على وجه تشبيه التنازع بين شرطي {لولا} و{لو} لمرجع الشرطين إلى معنى واحد وهو الامتناع فإن {لولا} حرف امتناع لوجود أي تدل على امتناع جوابها لوجود شرطها. و{لو} حرف امتناع لامتناع، أي تدل على امتناع جوابها لامتناع شرطها فحكم جوابيهما واحد، وهو الامتناع، وإنما يختلف شرطاهما فشرط {لو} منتف وشرط {لولا} مثبت.
وضمير {تزيلوا} عائد إلى ما دل عليه قوله {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} الخ من جمع مختلط فيه المؤمنون والمؤمنات مع المشركين كما دل عليه قوله {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ}
والتزيل: مطاوع زيله إذا أبعده عن مكان، وزيلهم، أي أبعد بعضهم عن بعض، أي فرقهم قال تعالى {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس: 28] وهو هنا بمعنى التفرق والتميز من غير مراعاة مطاوعة لفعل فاعل لأن أفعال المطاوعة كثيرا ما تطلق لإرادة المبالغة لدلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى وذلك أصل من أصول اللغة.
والمعنى: لو تفرق المؤمنون والمؤمنات عن أهل الشرك لسلطنا المسلمين على المشركين فعذبوا الذين كفروا عذاب السيف. فإسناد التعذيب إلى الله تعالى لأنه يأمر به ويقدر النصر للمسلمين كما قال تعالى {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} في سورة براءة. [14]
و"من" في قوله {منهم} للتبعيض، أي لعذبنا الذين كفروا من ذلك الجمع المتفرق المتميز مؤمنهم عن كافرهم، أي حين يصير الجمع مشركين خلصا وحدهم.
وجملة {لو تزيلوا} إلى آخرها بيان لجملة {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} إلى آخرها، أي لولا وجود رجال مؤمنين الخ مندمجين في جماعة المشركين غير مفترقين لو افترقوا لعذبنا الكافرين منهم.
وعدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} على طريقة الالتفات.
[26] {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ

اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}
ظرف متعلق بفعل {صدوكم} [الفتح: 25] أي صدوكم صدا لا عذر لهم فيه ولا داعي إليه إلا حمية الجاهلية، وإلا فإن المؤمنين جاءوا مسالمين معظمين حرمة الكعبة سائقين الهدايا لنفع أهل الحرم فليس من الرشد أن يمنعوا عن العمرة ولكن حمية الجاهلية غطت على عقولهم فصمموا على منع المسلمين، ثم آل النزاع بين الطائفتين إلى المصالحة على أن يرجع المسلمون هذا العام وعلى أن المشركين يمكنوهم من العمرة في القابل وأن العامين سواء عندهم ولكنهم أرادوا التشفي لما في قلوبهم من الإحن على المسلمين.
فكان تعليق هذا الظرف بفعل {وصدوكم} مشعرا بتعليل الصد بكونه حمية الجاهلية ليفيد أن الحمية متمكنة منهم تظهر منها آثارها فمنها الصد عن المسجد الحرام.
والحمية: الأنفة، أي الاستنكاف من أمر لأنه يراه غضاضة عليه وأكثر إطلاق ذلك على استكبار لا موجب له فإن كان لموجب فهو إباء الضيم.
ولما كان صدهم الناس عن زيارة البيت بلا حق لأن البيت بيت الله لا بيتهم كان داعي المنع مجرد الحمية قال تعالى {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} [الأنفال: من الآية34] و{جعل} بمعنى وضع، كقول الحريري في المقامة الأخيرة اجعل الموت نصب عينيك ، وقول الشاعر:
وإثمد يجعل في العين 1
وضمير {جعل} يجوز أن يكون عائدا إلى اسم الجلالة في قوله {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} من قوله {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح: من الآية25] والعدول عن ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة التفات.
و {الَّذِينَ كَفَرُوا} مفعول أول ل {جعل} . و {الحمية} بدل اشتمال من {الَّذِينَ كَفَرُوا} و {فِي قُلُوبِهِمْ} في محل المفعول الثاني ل {جعل} ، أي تخلقوا بالحمية فهي دافعة بهم إلى أفعالهم لا يراعون مصلحة ولا مفسدة فكذلك حين صدوكم عن المسجد الحرام.
__________
1 أوله:
الناس كالأرض ومنها هم ... من خشن الطبع ومن لين
فحجر تدمي به أرجل ... .................الخ
??
??
??
??

و {فِي قُلُوبِهِمْ} متعلق ب {جعل} أي وضع الحمية في قلوبهم.
وقوله {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} عطف بيان للحمية قصد من إجماله ثم تفصيله تقرير مدلوله وتأكيده ما يحصل لو قال {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}
وإضافة الحمية إلى الجاهلية لقصد تحقيرها وتشنيعها فإنها من خلق أهل الجاهلية فإن ذلك انتساب ذم في اصطلاح القرآن كقوله {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154] وقوله {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]
ويعكس ذلك إضافة السكينة إلى ضمير الله تعالى إضافة تشريف لأن السكينة من الأخلاق الفاضلة فهي موهبة إلهية.
وتفريع {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} على {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، يؤذن بأن المؤمنين ودوا أن يقاتلوا المشركين وأن يدخلوا مكة للعمرة عنوة غضبا من صدهم عنها ولكن الله أنزل عليهم السكينة.
والمرد بالسكينة: الثبات والأناة، أي جعل في قلوبهم التأني وصرف عنهم العجلة، فعصمهم من مقابلة الحمية بالغضب والانتقام فقابلوا الحمية بالتعقل والتثبت فكان في ذلك خير كثير.
وفي هذه الآية من النكت المعنوية مقابلة {جعل} ب {أنزل} في قوله {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} وقوله {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} فدل على شرف السكينة على الحمية لأن الإنزال تخييل للرفعة وإضافة الحمية إلى الجاهلية، وإضافة السكينة إلى اسم ذاته.
وعطف على إنزال الله سكينته {أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] أي جعل كلمة التقوى لازمة لهم لا يفارقونها، أي قرن بينهم وبين كلمة التقوى ليكون ذلك مقابل قوله {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] فإنه لما ربط صدهم المسلمين عن المسجد الحرام بالظرف في قوله {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} ربطا يفيد التعليل كما قدمناه آنفا ربط ملازمة المسلمين كلمة التقوى بإنزال السكينة في قلوبهم، ليكون إنزال السكينة في قلوبهم، وهو ظامر باطني، مؤثرا فيهم عملا ظاهريا وهو ملازمتهم كلمة التقوى كما كانت حمية الجاهلية هي التي دفعت الذين كفروا إلى صد المسلمين عن المسجد الحرام.
وضمير النصب في {وألزمهم} عائد إلى {المؤمنين} لأنهم هم الذين عوض الله

غضبهم بالسكينة ولم يكن رسول الله مفارقا السكينة من قبل.
و {كَلِمَةَ التَّقْوَى} إن حملت على ظاهر معنى {كلمة} كانت من قبيل الألفاظ وإطلاق الكلمة على الكلام شائع، قال تعالى {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: من الآية100] ففسرت الكلمة هنا بأنها قول: لا إله إلا الله. وروي هذا عن أبي كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي، وقال: هو حديث غريب. قلت: في سنده: ثوير، ويقال: ثور بن أبي فاختة قال فيه الدارقطني: هو متروك، وقال أبو حاتم: هو ضعيف. وروى ابن مردوية عن أبي هريرة وسلمة بن الأكوع مثله مرفوعا وكلها ضعيفة الأسانيد. وروي تفسيرها بذلك عند عدد كثير من الصحابة. ومعنى إلزامه إياهم كلمة التقوى: أنه قدر لهم الثبات عليها قولا بلفظها وعملا بمدلولها إذ فائدة الكلام حصول معناه، فإطلاق "الكلمة"هنا كإطلاقة في قوله تعالى {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: من الآية28] يعني بها قول إبراهيم لأبيه وقومه {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 27,26]
وإضافة {كلمة} إلى {التقوى} على هذا التفسير إضافة حقيقية. ومعنى إضافتها: أن كلمة الشهادة أصل التقوى فان أساس التقوى اجتناب عبادة الأصنام، ثم تتفرع على ذلك شعب التقوى كلها.
ورويت أقوال أخرى في تفسير {كَلِمَةَ التَّقْوَى} بمعنى كلام آخر من الكلم الطيب وهي تفاسير لا تلائم سياق الكلام ولا نظمه. ويجوز أن تحتمل {كلمة} على غير ظاهر معناها فتكون مقحمة وتكون إضافتها إلى التقوى إضافة بيانية، أي كلمة هي التقوى، ويكون المعنى: وألزمهم التقوى على حد إقحام لفظ اسم في قول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومنه قوله تعالى {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: من الآية78] على أحد التفسيرين فيه. ويدخل في التقوى ابتداء توحيد الله تعالى.
ويجوز أن يكون لفظ {كلمة} مطلقا على حقيقة الشيء. وجماع معناه كإطلاق الاسم في قول النابغة:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ... يهدي إلى غرائب لأشعار
ويؤيد هذا الوجه ما نقل عن مجاهد أنه قال: كلمة التقوى: الإخلاص. فجعل "الكلمة" معنى من التقوى. فالمعنى على هذين الوجهين الأخيرين: أنهم تخلقوا بالتقوى لا يفارقونها فاستعير الإلزام لدوام المقارنة. وهذان الوجهان لا يعارضان تفسير كلمة

"التقوى"بكلمة "الشهادة" المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يكون ذلك تفسيرا بجزئي من التقوى هو أهم جزئياتها، أي تفسير مثال.
وعن الحسن: أن كلمة {التقوى} الوفاء بالعهد، فيكون الإلزام على هذا بمعنى الإيجاب، أي أمرهم بأن يفوا بما عاهدوا عليه للمشركين ولا ينقضوا عهدهم، فلذلك لم ينقض المسلمون العهد حتى كان المشركون هم الذين ابتدأوا بنقضه.
والواو في {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} واو الحال، والجملة حال من الضمير المنصوب، أي ألزمهم تلك الكلمة في حال كانوا فيه أحق بها وأهلها ممن لم يلزموها وهم الذين لم يقبلوا التوحيد على نحو قوله تعالى {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] وجيء بفعل كانوا لدلالتها على أن هذه الأحقية راسخة فيهم حاصلة في الزمن الماضي، أي في قدر الله تعالى.
والمعنى: أن نفوس المؤمنين كانت متهيئة لقبول كلمة التقوى والتزامها بما أرشدها الله إليه. والمفضل عليه مقدر دل عليه ما تقدم، أي أحق بها من الذين كفروا والذين جعل الله في قلوبهم الحمية لأن الله قدر لهم الاستعداد للإيمان دون الذين أصروا على الكفر.
وأهل الشيء مستحقه، والمعنى أنهم كانوا أهل كلمة التقوى لأنها تناسب ضمائرهم وما انطوت عليه قلوبهم. وهذه الأهلية مثل الأحقية متفاوتة في الناس وكلما اهتدى أحد من المشركين إلى الإسلام دل اهتداؤه على أنه حصلت له هذه الأهلية للأسلام.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} تذييل، أي وسبق في علم الله ذلك في عموم ما أحاط به علم الله من الأشياء مجرى تكوينه على نحو علمه.
[27] {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}
استئناف بياني ناشئ عن قوله {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: من الآية26] ودحض ما خامر نفوس فريق من الفشل أو الشك أو التحير وتبيين ما أنعم الله به على أهل بيعة الرضوان من ثواب الدنيا والآخرة إلى كشف شبهة عرضت للقوم في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا قبل خروجه إلى الحديبية، أو وهو

في الحديبية: كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وحلقوا وقصروا. هكذا كانت الرؤيا مجملة ليس فيها وقوع حج ولا عمرة، والحلاق والتقصير مناسب لكليهما.
وقص رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه فاستبشروا بها وعبروها أنهم داخلون إلى مكة بعمرتهم التي خرجوا لأجلها، فلما جرى الصلح وتأهب الناس إلى القفول أثار بعض المنافقين ذكر الرؤيا فقالوا: فأين الرؤيا فوالله ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا وقصرنا? فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه: إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل وأنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى أن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وأن الله أوحى إليه بها وأنها وإن لم تقع في تلك القضية فستحقق بعد ذلك وكأن الحكمة في إراءة الله رسوله صلى الله عليه وسلم تلك الرؤيا أيامئذ وفي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بها: أن الله أدخل بذلك على قلوبهم الثقة بقوتهم وتربية الجراءة على المشركين في ديارهم فتسلم قلوبهم من ماء الجبن فإن الأمراض النفسية إذا اعترت النفوس لا تلبث أن تترك فيها بقايا الداء زمانا كما تبقى آثار المرض في العضو المريض بعد النقاهة زمانا حتى ترجع إلى العضو قوته الأولى بعد مدة مناسبة.
وتوكيد الخبر بحرف "قد" لإبطال شبهة المنافقين الذين قالوا: فأين الرؤيا? ومعنى {صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا} أنه أراه رؤيا صادقة لأن رؤيا الأنبياء وحي فآلت إلى معنى الخبر فوصفت بالصدق لذلك.
وهذا تطمين لهم بأن ذلك سيكون لا محالة وهو في حين نزول الآية لما يحصل بقرينة قوله {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} .
وتعدية {صدق} إلى منصوب ثان بعد مفعوله من النصب على نزع الخافض المسمى بالحذف والإيصال، أي حذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور بالعمل فيه النصب. وأصل الكلام: صدق الله رسوله في الرؤيا كقوله تعالى {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: من الآية23].
والباء في {بالحق} للملابسة وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف، أي صدقا ملابسا الحق، أو وقوع حالا صفة لمصدر محذوف، أي صدقا ملابسا وقع حالا من الرؤيا.
والحق: الغرض الصحيح والحكمة، أي كانت رؤيا صادقة وكانت مجعولة محكمة وهي ما قدمناه آنفا.
وجملة {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} إلى آخرها يجوز أن يكون بيانا لجملة {صَدَقَ

اللَّهُ} لأن معنى {لتدخلن} تحقيق دخول المسجد الحرام في المستقبل فيعلم منه أن الرؤيا إخبار بدخول لم يعين زمنه فهي صادقة فيما يتحقق في المستقبل. وهذا تنبيه للذين لم يتفطنوا لذلك فجزموا بأن رؤيا دخول المسجد تقتضي دخولهم إليه أيامئذ وما ذلك بمفهوم من الرؤيا وكان حقهم أن يعلموا أنها وعد لم يعين إبان موعوده وقد فهم ذلك أبو بكر إذ قال لهم: إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل. وقد جاء في سورة يوسف {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ}
وليست هذه الجملة بيانا للرؤيا لأن صيغة القسم لا تلائم ذلك.
والأحسن أن تكون جملة {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} استئنافا بيانيا عن جملة {صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ} أي سيكون ذلك في المستقبل لا محالة فينبغي الوقف عند قوله {بالحق} ليظهر معنى الاستئناف.
وقوله {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} من شأنه أن يذيل به الخبر المستقبل إذا كان حصوله متراخيا، ألا ترى أن الذي يقال له: افعل كذا، فيقول: أفعل إن شاء الله، لا يفهم من كلامه أنه يفعل في الحال أو في المستقبل القريب بل يفعله بعد زمن ولكن مع تحقيق أنه يفعله.
ولذلك تأولوا قوله تعالى في سورة يوسف [99] {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} أن {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} للدخول مع تقدير الأمن لأنه قال ذلك حين قد دخلوا مصر. أما ما في هذه الآية فهو من كلام الله فلا يناسبه هذا المحمل. وليس المقصود منه التنصل من التزام الوعد، وهذا من استعمالات كلمة {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} . فليس هو مثل استعمالها في اليمين فإنها حينئذ للثنيا لأنها في موضع قولهم: إلا أن يشاء الله، لأن معنى: إلا أن يشاء الله: عدم الفعل، وأما إن شاء الله، التي تقع موقع: إلا أن يشاء الله، فمعناه إن شاء الله الفعل.
والموعود به صادق بدخولهم مكة بالعمرة سنة سبع وهي عمرة القضية، فإنهم دخلوا المسجد الحرام آمنين وحلق بعضهم وقصر بعضهم غير خائفين إذ كان بينهم وبين المشركين عهد، وذلك أقرب دخول بعد هذا الوعد، وصادق بدخولهم المسجد الحرام عام حجة الوداع، وعدم الخوف فيه أظهر. وأما دخولهم مكة يوم الفتح فلم يكونوا فيه محرمين. قال مالك في الموطأ بعد أن ساق حديث قتل ابن خطل يوم الفتح ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما والله أعلم.

و {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ} حال من ضمير {آمنين} وعطف عليه {ومقصرين} والتحليق والتقصير كناية عن التمكن من إتمام الحج والعمرة وذلك من استمرار الأمن على أن هذه الحالة حكت ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤياه، أي يحلق من رام الحلق ويقصر من رام التقصير، أي لا يعجلهم الخوف عن الحلق فيقتصروا على التقصير.
وجملة {لا تخافون} في موضع الحال فيجوز أن تكون مؤكدة ل {آمنين} تأكيدا بالمرادف للدلالة على أن الأمن كامل محقق، ويجوز أن تكون حالا مؤسسة على أن {آمنين} معمول لفعل {تدخلن} وأن {لا تخافون} معمول ل {آمنين} ، أي آمنين أمن من لا يخاف، أي لا تخافون غدرا. وذلك إيماء إلى أنهم يكونون أشد قوة من عدوهم الذي أمنهم، وهذا يومئ إلى حكمة تأخير دخولهم مكة إلى عام قابل حيث يزدادون قوة واستعدادا وهو أظهر في دخولهم عام حجة الوداع.
والفاء في قوله {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} لتفريع الأخبار لا لتفريع المخبر به لأن علم الله سابق على دخولهم وعلى الرؤيا المؤذنة بدخولهم كما تقدم في قوله تعالى {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 18]
وفي إيثار فعل {جعل} في هذا التركيب دون أن يقول: فتح لكم من دون ذلك فتحا قريبا أو نحوه إفادة أن هذا الفتح أمره عجيب ما كان ليحصل مثله لولا أن الله كونه، وصيغة الماضي في {جعل} لتنزيل المستقبل المحقق منزلة الماضي، أو لأن {جعل} بمعنى قدر. ودون هنا بمعنى غير، ومن "م" ابتدائية أو بيانية. والمعنى: فجعل فتحا قريبا لكم زيادة على ما وعدكم من دخول مكة آمنين. وهذا الفتح أوله هو فتح خيبر الذي وقع قبل عمرة القضية وهذا القريب من وقت الصلح.
[28] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}
زيادة تحقيق لصدق الرؤيا بأن الذي أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين ما كان ليريه رؤيا صادقة. فهذه الجملة تأكيد للتحقيق المستفاد من حرف "قد" ولام القسم في قوله {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} [الفتح: من الآية27]. وبهذا يظهر لك حسن موقع الضمير والموصول في قوله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} لأن الموصول يفيد العلم بمضمون الصلة غالبا.

والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا} ، وهم يعلمون أن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله فهو يذكرهم بهاتين الحقيقتين المعلومتين عندهم حين لم يجروا على موجب العلم بهما فخامرتهم ظنون لا تليق بمن يعلم أن رؤيا الرسول وحي وأن الموحي له هو الذي أرسله فكيف يريه رؤيا غير صادقة. وفي هذا تذكير ولوم للمؤمنين الذين غفلوا عن هذا وتعريض بالمنافقين الذين أدخلوا التردد في قلوب المؤمنين.
والباء في {بالهدى} للمصاحبة وهو متعلق ب {أرسل} . والهدى أطلق على ما به الهدى، أي كقوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]
وقوله {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} [البقرة: من الآية185].
وعطف {دِينَ الْحَقِّ} على الهدى ليشمل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحكام أصولها وفروعها مما أوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم سوى القرآن من كل وحي بكلام لم يقصد به الإعجاز أو كان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يكون المراد {بالهدى} أصول الدين من اعتقاد الإيمان وفضائل الأخلاق التي بها تزكية النفس، وب {دِينَ الْحَقِّ} شرائع الإسلام وفروعه.
واللام في {ليظهره} لتعليل فعل {أرسل} ومتعلقاته، أي أرسله بذلك ليظهر هذا الدين على جميع الأديان الإلهية السالفة ولذلك أكد ب {كله} لأنه في معنى الجمع. ومعنى {يظهره} يعليه. والإظهار: أصله مشتق من ظهر بمعنى بدا، فاستعمل كناية عن الارتفاع الحقيقي ثم أطلق مجازا عن الشرف فصار أظهره بمعنى أعلاه، أي ليشرفه على الأديان كلها، وهذا كقوله في حق القرآن {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48]
ولما كان المقصود من قوله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} الخ الشهادة بأن الرؤيا صدق ذيل الجملة بقوله {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} أي أجزأتكم شهادة الله بصدق الرؤيا إلى أن تروا ما صدقها في الإبان. وتقدم الكلام على نظير {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} في آخر سورة النساء.[79]
[29] {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ

بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}
لما بين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه واطمأنت نفوس المؤمنين أعقب ذلك بتنويه شأن الرسول صلى الله عليه وسلم والثناء على المؤمنين الذين معه.
و {محمد} خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو محمد يعود هذا الضمير المحذوف على قوله {رسوله} [الفتح: 28] في الآية قبلها. وهذا من حذف المسند الذي وصفه السكاكي بالحذف الذي الاستعمال وارد على ترك المسند إليه وترك نظائره. قال التفتزاني في المطول ومنه قولهم بعد أن يذكروا رجلا: فتى من شأنه كذا وكذا، وهو أن يذكروا الديار أو المنازل ربع كذا وكذا. ومن أمثلة المفتاح "فراجعهما" أي العقل السليم والطبع المستقيم في مثل قوله:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت 1
إذ لم يقل: هو فتى.
وهذا المعنى هو الأظهر هنا إذ ليس المقصود إفادة أن محمدا رسول الله وإنما المقصود بيان رسول الله من هو بعد أن أجرى عليه من الأخبار من قوله {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} [الفتح: من الآية27] إلى قوله {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح:28] فيعتبر السامع كالمشتاق إلى بيان: من هذا المتحدث عنه بهذه الأخبار? فيقال له: محمد رسول الله، أي هو محمد رسول الله. وهذا من العناية والاهتمام بذكر مناقبه صلى الله عليه وسلم. فتعتبر الجملة المحذوف مبتدؤها مستأنفة استئنافا بيانيا. وفيه وجوه أخر لا تخفى، والأحسن منها هذا.
وفي هذا نداء على إبطال جحود المشركين رسالته حين امتنعوا من أن يكتب في صحيفة الصلح هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. وقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت.
__________
1 البيتان لعبد الله بن الزبير "بفتح الزاي وكسر الموحدة" الأسدي.
??
??
??
??

وقوله {وَالَّذِينَ مَعَهُ} يجوز أن يكون مبتدأ و {أشداء} خبرا عنه وما بعده إخبار، والمقصود الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى {معه} : المصاحبة الكاملة بالطاعة والتأييد كقوله تعالى {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} والمراد: أصحابه كلهم لا خصوص أهل الحديبية.
وإن كانوا هم المقصود ابتداء فقد عرفوا بصدق ما عاهدوا عليه الله، ولذلك لما انهزم المسلمون يوم حنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب ناد يا أصل المرة.
ويجوز أن يكون {وَالَّذِينَ مَعَهُ} عطفا على {رسوله} من قوله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: من الآية33]. والتقدير: وأرسل الذين معه، أي أصحابه على أن المراد بالإرسال ما يشمل الإذن لهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يّس: من الآية14] الآية فإن المرسلين إلى أهل أنطاكية كانوا من الحواريين، أمرهم عيسى بنشر الهدى والتوحيد. فيكون الإرسال البعث له في قوله تعالى {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} وعلى هذا يكون {أرسلنا} في هذه الآية مستعملا في حقيقته ومجازه.
و {أشداء} : جمع شديد، وهو الموصوف بالشدة المعنوية وهي صلابة المعاملة وقساوتها، قال تعالى في وصف النار {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم: من الآية6].
والشدة على الكفار: هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم، وهذا وصف مدح لأن المؤمنين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله والحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقوى المؤمنين إيمانا من أجل إشراق أنوار النبوة على قلوبهم فلا جرم أن يكونوا أشد على الكفار فإن بين نفوس الفريقين تمام المضادة وما كانت كراهيتهم للصلح مع الكفار يوم الحديبية ورغبتهم في قتل أسراهم الذين ثقفوهم يوم الحديبية وعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا من آثار شدتهم على الكفار ولم تكن لاحت لهم المصلحة الراجحة على القتال وعلى القتل التي آثرها النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان أكثرهم محاورة في إباء الصلح يومئذ أشد أشدائهم على الكفار وهو عمر بن الخطاب وكان أفهمهم للمصلحة التي توخاها النبي صلى الله عليه وسلم في إبرام الصلح أبا بكر. وقد قال سهل بن حنيف يوم صفين: أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل، ولو نستطيع أن نرد على رسول الله فعله لرددناه. والله ورسوله أعلم.
ثم تكون أحكام الشدة على الكفار من وجوب وندب وإباحة وأحكام صحبتهم ومعاملتهم جارية على مختلف الأحوال ولعلماء الإسلام فيها مقال، وقد تقدم كثير من

ذلك في سورة آل عمران وفي سورة براءة.
والشدة على الكفار اقتبسوها من شدة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين قال تعالى {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: من الآية128].
وأما كونهم رحماء بينهم فذلك من رسوخ أخوة الإيمان بينهم في نفوسهم. وقد وردت أخبار أخوتهم وتراحمهم في مواضع كثيرة من القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدة والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} في سورة العقود. [54]
وفي تعليق {رحماء} مع ظرف "بين" المفيد للمكان الداخل وسط ما يضاف هو إليه تنبيه على انبثاث التراحم فيهم جميعا قال النبي صلى الله عليه وسلم "تجد المسلمين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى له جميع الجسد بالسهر والحمى".
والخطاب في {تراهم} لغير معين بل لكل من تتأتى رؤيته إياهم، أي يراهم الرائي.
وإيثار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك، أي تراهم كلما شئت أن تراهم ركعا سجدا. وهذا ثناء عليهم بشدة إقبالهم على أفضل الأعمال المزكية للنفس، وهي الصلوات مفروضها ونافلتها وأنهم يتطلبون بذلك رضى الله ورضوانه. وفي سوق هذا في مساق الثناء إيماء إلى أن الله حقق لهم ما يبتغونه.
والسيما: العلامة، وتقدم عند قوله تعالى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} في البقرة [273] وهذه سيما خاصة هي من أثر السجود.
واختلف في المراد من السيما التي وصفت بأنها {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} على ثلاثة أنحاء الأول: أنها أثر محسوس للسجود، الثاني أنها من الأثر النفسي للسجود، الثالث أنها أثر يظهر في وجوههم يوم القيامة. فبالأول فسر مالك بن أنس وعكرمة وأبو العالية قال مالك: السيما هي ما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود مثل ما تعلق بجبهة النبي صلى الله عليه وسلم من أثر الطين والماء لما وكف المسجد صبيحة إحدى وعشرين من رمضان. وقال السعيد وعكرمة: الأثر كالغدة يكون في جبهة الرجل.
وليس المراد أنهم يتكلفون حدوث ذلك في وجوههم ولكنه يحصل من غير قصد

بسبب تكرر مباشرة الجبهة للأرض وبشرات الناس مختلفة في التأثر بذلك فلا حرج على من حصل له ذلك إذا لم يتكلفه ولم يقصد به رياء.
وقال أبو العالية: يسجدون على التراب لا على الأثواب.
والى النحو الثاني فسر الأعمش والحسن وعطاء والربيع ومجاهد عن ابن عباس وابن جزء والضحاك. فقال الأعمش: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار. وقريب منه عن عطاء والربيع بن سليمان. وقال ابن عباس: هو حسن السمت. وقال مجاهد: هو نور من الخشوع والتواضع. وقال الحسن والضحاك: بياض وصفرة وتهيج يعتري الوجوه من السهر. والى النحو الثالث فسر سعيد بن جبير أيضا والزهري وابن عباس في رواية العوفي والحسن أيضا وخالد الحنفي وعطية وشهر بن حوشب: أنها سيما تكون لهم يوم القيامة، وقالوا: هي بياض يكون في الوجه يوم القيامة كالقمر ليلة البدر يجعله الله كرامة لهم. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله في قوله تعالى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] النور يوم القيامة، قيل وسنده حسن. وهو لا يقتضي تعطيل بقية الاحتمالات إذ كل ذلك من السيما المحمودة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أعلاها.
وضمائر الغيبة في قوله {تراهم} و {يبتغون} و {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} عائدة إلى {الَّذِينَ مَعَهُ} على الوجه الأول، والى كل من {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} على الوجه الثاني.
{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}
الإشارة ب {ذلك} إلى المذكور من صفات الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن السابق في الذكر بمنزلة الحاضر فيشار إليه بهذا الاعتبار فاسم الإشارة مبتدأ و{مثلهم} خبره.
والمثل يطلق على الحالة العجيبة، ويطلق على النظير، أي المشابه فإن كان هنا محمولا على الحالة العجيبة فالمعنى: أن الصفات المذكورة هي حالهم الموصوف في التوراة. وقوله {فِي التَّوْرَاةِ} متعلق ب{مثلهم} أو حال منه. فيحتمل أن في التوراة وصف قوم سيأتون ووصفوا بهذه الصفات، فبين الله بهذه الآية أن الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم هم المقصود بتلك الصفة العجيبة التي في التوراة، أي أن التوراة قد جاءت فيها بشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ووصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والذي وقفنا عليه في التوراة مما يصلح

لتطبيق هذه الآية هو البشارة الرمزية التي في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية من قول موسى عليه السلام جاء الرب من سينا وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم فأحب الشعب جميع قديسيه وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك فإن جبل فاران هو حيال الحجاز.
وقوله فأحب الشعب جميع قديسيه يشير إليه قوله {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقد تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ما ينطبق على هذا من سورة الفتح. وقوله قديسيه يفيد معنى {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} [الفتح: من الآية29] ومعنى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: من الآية29]. وقوله في التوراة جالسون عند قدمك يفيد معنى قوله تعالى {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح: من الآية29].
ويكون قوله تعالى {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الوصف.
{وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} ابتداء كلام مبتدأ. ويكون الوقف على قوله {فِي التَّوْرَاةِ} والتشبيه في قوله {كزرع} خبره، وهو المثل. وهذا هو الظاهر من سياق الآية فيكون مشيرا إلى نحو قوله في إنجيل متى الإصحاح 13 فقرة 3 هو ذا الزارع قد خرج ليزرع يعني عيسى عليه السلام وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فجاءت الطيور وأكلته إلى أن قال وسقط الآخر على الأرض الجيدة فأعطى ثمرة بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين. قال فقرة، ثم قال وأما المزروع على الأرض الجيدة فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم، وهو الذي يأتي بثمر فيصنع بعض مائة وبعض ستين وآخر ثلاثين وهذا يتضمن نماء الإيمان في قلوبهم وبأنهم يدعون الناس الى الدين حتى يكثر المؤمنون كما تنبت الحبة مائة سنبلة وكما تنبت من النواة الشجرة العظيمة.
وفي قوله {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} استعارة الإخراج إلى تفرع الفراخ من الحبة لمشابهة التفرع بالخروج ومشابهة الأصل المتفرع عنه بالذي يخرج شيئا من مكان.
والشطء بهمزة في آخره وسكون الطاء: فراخ الزرع وفروع الحبة. ويقال: أشطأ الزرع، إذا أخرج فروعا. وقرأه الجمهور بسكون الطاء وبالهمز. وقرأه ابن كثير {شطأه} بفتح الطاء بعدها ألف على تخفيف الهمزة ألفا.
و {آزره} قواه، وهو من المؤازرة بالهمز وهي المعاونة وهو مشتق من اسم الإزار لأنه يشد ظهر المتزر به ويعينه شده على العمل والحمل كذا قيل. والأظهر عندي عكس ذلك وهو أن يكون الإزار مشتقا اسمه من: آزر، لأن الاشتقاق من الأسماء الجامدة نادر

لا يصار إلى دعائه إلا إذا تعين. وصيغة المفاعلة في {آزره} مستعارة لقوة الفعل مثل قولهم: عافاك الله، وقوله تعالى {وَبَارَكَ فِيهَا} .[فصلت: 10]
والضمير المرفوع في {آزره} للشطء، والضمير المنصوب للزرع، أي قوى الشطء أصله.
وقرأ الجمهور {فآزره} . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر {فآزره} بدون ألف بعد الهمزة والمعنى واحد.
ومعنى {استغلظ} غلظ غلظا شديدا في نوعه، فالسين والتاء للمبالغة مثل: استجاب.
والضميران المرفوعان في {استغلظ} و {استوى} عائدان الى الزرع.
والسوق: جمع ساق على غير قياس لأن ساقا ليس بوصف وهو اسم على زنة فعل بفتحتين.
وقراءة الجميع {على سوقه} بالواو بعد الضمة. وقال ابن عطية: قرأ ابن كثير {سؤقه} بالهمزة أي همزة ساكنة بعد السين المضمومة وهي لغة ضعيفة يهمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر1:
لحب المؤقدان إلي مؤسى
وتنسب لقنبل عن ابن كثير ولم يذكرها المفسرون ولم يذكرها في حرز الأماني وذكرها النوري في كتاب غيث النفع وكلامه غير واضح في صحة نسبة هذه القراءة إلى قنبل.
وساق الزرع والشجرة: الأصل الذي تخرج فيه السنبل والأغصان.
ومعنى هذا التمثيل تشبيه حال بدء المسلمين ونمائهم حتى كثروا وذلك يتضمن تشبيه بدء دين الإسلام ضعيفا وتقويه يوما فيوما حتى استحكم أمره وتغلب على أعدائه.
وهذا التمثيل قابل لاعتبار تجزئة التشبيه في أجزائه بأن يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بالزارع كما مثل عيسى غلب الإسلام في الإنجيل، ويشبه المؤمنون بحبات الزرع التي يبذرها في الأرض مثل: أبي بكر
ـــــــ
1 هو جرير, وتمام البيت:
وجعدة إذا أضاءهما الوقود
وتقدم عند قوله تعالى {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} في سورة البقرة[4] والبيت من قصيدة في مدح هشام بن عبد الملك.

وخديجة وعلي وبلال وعمار، والشطء: من أيدوا المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله وحده وانضم إليه نفر قليل ثم قواه الله بمن ضامن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع.
وقوله {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} تحسين للمشبه به ليفيد تحسين المشبه.
{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}
تعليل لما تضمنه تمثيلهم بالزرع الموصوف من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة لأن كونهم بتلك الحالة من تقدير الله لهم أن يكونوا عليها فمثل بأنه فعل ذلك ليغيظ بهم الكفار.
قال القرطبي: قال أبو عروة الزبيري1: كنا عند مالك بن أنس فذكروا عنده رجلا ينتقص أصحاب رسول الله فقرأ مالك هذه الآية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} إلى أن بلغ قوله {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فقال مالك من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. وقلت: رحم الله مالك بن أنس ورضي عنه ما أدق استنباطه.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}
أعقب تنويه شأنهم والثناء عليهم بوعدهم بالجزاء على ما اتصفوا به من الصفات التي لها الأثر المتين في نشر ونصر هذا الدين.
وقوله {منهم} يجوز أن تكون "من" للبيان كقوله {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: من الآية30] وهو استعمال كثير، ويجوز إبقاؤه على ظاهر المعنى من التبعيض لأنه وعد لكل من يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحاضر والمستقبل فيكون ذكر "من" تحذيرا وهو لا ينافي المغفرة لجميعهم لأن جميعهم آمنوا وعملوا الصالحات وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هم خيرة المؤمنين.
ـــــــ
1 قال القرطبي: ولد الزبير قلت لعله سعيد بن عمر الزبيري المدني من أصحاب مالك ترجمه في المدارك ولم يذكر كنيته.

سورت الحجرات
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجرات
سميت في جميع المصاحف وكتب السنة والتفسير سورة الحجرات وليس لها اسم غيره، ووجه تسميتها أنها ذكر فيها لفظ الحجرات. ونزلت في قصة نداء بني تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته، فعرفت بهذه الإضافة. وهي مدنية باتفاق أهل التأويل، أي مما نزل بعد الهجرة، وحكى السيوطي في الإتقان قولا شاذا أنها مكية ولا يعرف قائل هذا القول.
وفي أسباب النزول للواحدي أن قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: من الآية13] الآية نزلت بمكة في يوم فتح مكة كما سيأتي، ولم يثبت أن تلك الآية نزلت بمكة كما سيأتي. ولم يعدها في الإتقان في عداد السور المستثنى بعض آياتها.
وهي السورة الثامنة بعد المائة في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة المجادلة وقبل سورة التحريم وكان نزول هذه السورة سنة تسع، وأول آيها في شأن وفد بني تميم كما سيأتي عند قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: من الآية1] وقوله {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] وعد جميع العادين آيها ثمان عشرة آية.
أغراض هاته السورة
تتعلق أغراضها بحوادث جدت متقاربة كانت سببا لنزول ما فيها من أحكام وآداب.
وأولها تعليم المسلمين بعض ما يجب عليهم من الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته وخطابه ونداءه، دعا إلى تعليمهم إياها ما ارتكبه وفد بني تميم من جفاء الأعراب لما نادوا الرسول صلى الله عليه وسلم من بيوته كما سيأتي عند قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] ووجوب صدق المسلمين فيما يخبرون به، والتثبت في

نقل الخبر مطلقا وأن ذلك من خلق المؤمنين، ومجانبة أخلاق الكافرين والفاسقين، وتطرق إلى ما يحدث من التقاتل بين المسلمين، والإصلاح بينهم لأنهم إخوة، وما أمر الله به من آداب حسن المعاملة بين المسلمين في أحوالهم في السر والعلانية، وتخلص من ذلك إلى التحذير من بقايا خلق الكفر في بعض جفاة الأعراب تقويما لأود نفوسهم.
وقال فخر الدين عند تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: من الآية6]: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي إما مع الله أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس، وهم على صنفين: إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجين عنها وهو الفسوق، والداخل في طائفتهم: إما أن يكون حاضرا عندهم أو غائبا عنهم فهذه خمسة أقسام، قال: فذكر الله في هذه السورة خمس مرات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة، وسنأتي على بقية كلامه عند تفسير الآية الأولى من هذه السورة.
وهذه السورة هي أول سور المفصل بتشديد الصاد ويسمى المحكم على أحد أقوال في المذهب، وهو الذي ارتضاه المتأخرون من الفقهاء وفي مبدأ المفصل عندنا أقوال عشرة أشهرها قولان قيل: إن مبدأه سورة ق وقيل سورة الحجرات، وفي مبدأ وسط المفصل قولان أصحهما أنه سورة عبس، وفي قصاره قولان أصحهما أنها من سورة والضحى.
واختلف الحنفية في مبدأ المفصل على أقوال اثني عشر، والمصحح أن أوله من الحجرات، وأول وسط المفصل سورة الطارق، وأول القصار سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلة: من الآية1].
وعند الشافعية قيل: أول المفصل سورة الحجرات، وقيل سورة ق، ورجحه ابن كثير في التفسير كما سيأتي. وعند الحنابلة أول المفصل سورة ق.
والمفصل هو السور التي تستحب القراءة ببعضها في بعض الصلوات الخمس على ما هو مبين في كتب الفقه.
[1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

الافتتاح بنداء المؤمنين للتنبيه على أهمية ما يرد بعد ذلك النداء لتترقبه أسماعهم بشوق. ووصفهم ب {الَّذِينَ آمَنُوا} جار مجرى اللقب لهم مع ما يؤذن به أصله من أهليتهم لتلقي هذا النهي بالامتثال.
وقد تقدم عند الكلام على أغراض السورة أن الفخر ذكر أن الله أرشد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي إما في جانب الله أو جانب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بجانب الفساق أو بجانب المؤمن الحاضر أو بجانب المؤمن الغائب، فهذه خمسة أقسام، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة إلخ، فهذا النداء الأول اندرج فيه واجب الأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تعرض الغفلة عنها.
والتقدم حقيقته: المشي قبل الغير، وفعله المجرد: قدم من باب نصر قال تعالى {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: من الآية98]. وحق قدم بالتضعيف أن يصير متعديا إلى مفعولين لكن ذلك لم يرد وإنما يعدى إلى المفعول الثاني بحرف على.
ويقال: قدم بمعنى تقدم كأنه قدم نفسه، فهو مضاعف صار غير متعد. فمعنى {لا تقدموا} لا تتقدموا.
ففعل {لا تقدموا} مضارع قدم القاصر بمعنى تقدم على غيره وليس لهذا الفعل مفعول، منه اشتقت مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منه وهي ضد الساقة. ومنه سميت مقدمة الكتاب الطائفة منه المتقدمة على الكتاب. ومادة فعل تجيء بمعنى تفعل مثل وجه بمعنى توجه وبين بمعنى تبين، ومن أمثالهم بين الصبح لذي عينين.
والتركيب تمثيل بتشبيه حال من يفعل فعلا دون إذن من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحال من يتقدم مماشيه في مشيه ويتركه خلفه. ووجه الشبه الانفراد عنه في الطريق. والنهي هنا للتحذير إذ لم يسبق صدور فعل من أحد افتيانا على الشرع.
ويستروح من هذا أن هذا التقدم المنهي عنه هو ما كان في حالة إمكان الترقب والتمكن من انتظار ما يبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله فيومئ إلى أن إبرام الأمر في غيبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا حرج فيه.
وهذه الآية تؤيد قول الفقهاء: إن المكلف لا يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه. وعد الغزالي العلم بحكم ما يقدم عليه المكلف من قسم العلوم التي هي فرض على

الأعيان الذين تعرض لهم.
والمقصود من الآية النهي عن إبرام شيء دون إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر قبله اسم الله للتنبيه على أن مراد الله إنما يعرف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد حصل من قوله {لا تقدموا} الخ معنى اتبعوا الله ورسوله.
وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في صحيحه في قصة وفد بني تميم بسنده إلى ابن الزبير قال قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة. وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي أو إلى خلافي قال عمر: ما أردت خلافك أو إلى خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما في ذلك فنزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 1,2]
فهذه الآية توطئة للنهي عن رفع الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهر له بالقول وندائه من وراء الحجرات.
وعن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت بسبب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقتلت بنو عامر رجال السرية إلا ثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بين سليم فسألوهما عن نسبتهما فاعتزيا إلى بني عامر ظنا منهما أن هذا الاعتزاء أنجى لهما من شر توقعاه لأن بني عامر أعز من بني سليم، فقتلوا النفر الثلاثة وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال "بئسما صنعتم كانا من بني سليم، والسلب ما كسوتهما" أي عرف ذلك لما رأى السلب فعرفه بأنه كساهما إياه وكانت تلك الكسوة علامة على الإسلام لئلا يتعرض لهم المسلمون فوادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا} الآية، أي لا تعملوا شيئا من تلقاء أنفسكم في التصرف من الأمة إلا بعد أن تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذه الرواية تكون القصة جرت قبيل قصة بني تميم فقرنت آيتاهما في النزول. وهنالك روايات أخرى في سبب نزولها لا تناسب موقع الآية مع الآيات المتصلة بها. وأياما كان سبب نزولها فهي عامة في النهي عن جميع أحوال التقدم المراد.
وجعلت هذه الآية في صدر السورة مقدمة على توبيخ وفد بني تميم حين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات لأن ما صدر من بني تميم هو من قبيل رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم ولأن مماراة أبي بكر وعمر وارتفاع أصواتهما كانت في قضية بني تميم فكانت هذه الآية تمهيدا لقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، لأن من خصه الله بهذه الحظوة، أي جعل إبرام العمل بدون أمره كإبرامه بدون أمر

الله حقيق بالتهيب والإجلال أن يخفض الصوت لديه.
وإنما قدم هذا على توبيخ الذين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا أولى بالاعتناء إذ هو تأديب من هو أولى بالتهذيب.
وقرأه الجمهور {تقدموا} بضم الفوقية وكسر الدال مشددة. وقرأه يعقوب بفتحمهما على ان أصله: لا تتقدموا. وقال فخر الدين عند الكلام على قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: من الآية6] في هذه السورة: إن فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي: إما مع الله أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس وهم على صنفين لأنهم: إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين من الطاعة، وإما أن يكونوا خارجين عنها بالفسق؛ والداخل في طريقتهم: إما حاضر عندهم، أو غائب عنهم، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وأرشد بعد كل مرة الى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة:
فقال أولا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وهي تشمل طاعة الله تعالى، وذكر الرسول معه للإشارة إلى أن طاعة الله لا تعلم إلا بقول الرسول فهذه طاعة للرسول تابعة لطاعة الله.
وقال ثانيا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: من الآية2] لبيان الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم لذاته في باب حسن المعاملة. وقال ثالثا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} الآية للتنبيه على طريقة سلوك المؤمنين في معاملة من يعرف بالخروج عن طريقتهم وهي طريقة الاحتراز منه لأن عمله إفساد في جماعتهم، وأعقبه بآية {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: من الآية9]. وقال رابعا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] إلى قوله {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] فنهى عما يكثر عدم الاحتفاظ فيه من المعاملات اللسانية التي قلما يقام لها وزن.
وقال خامسا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} إلى قوله {تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:11] اه.
ويريد: أن الله ذكر مثالا من كل صنف من أصناف مكارم الأخلاق بحسب ما اقتضته المناسبات في هذه السورة بعد الابتداء بما نزلت السورة لأجله ابتداء ليكون كل مثال منها دالا على بقية نوعه ومرشدا إلى حكم أمثاله دون كلفة ولا سآمة. وقد سلك القرآن لإقامة أهم حسن المعاملة طريق النهي عن أضدادها من سوء المعاملة لأن درء المفسدة مقدم في النظر العقلي على جلب المصلحة.

وعطف {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تكملة للنهي عن التقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ليدل على أن ترك إبرام شيء دون إذن الرسول صلى الله عليه وسلم من تقوى الله وحده، أي ضده ليس من التقوى.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} في موضع العلة للنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله وللأمر بتقوى الله.
والسميع: العليم بالمسموعات، والعليم أعم وذكرها بين الصفتين كناية عن التحذير من المخالفة ففي ذلك تأكيد للنهي والأمر.
[2] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}
إعادة النداء ثانيا للاهتمام بهذا الغرض والإشعار بأنه غرض جدير بالتنبيه عليه بخصوصه حتى لا ينغمر في الغرض الأول فإن هذا من آداب سلوك المؤمنين في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ومقتضى التأدب بما هو آكد من المعاملات بدلالة الفحوى.
وهذا أيضا توطئة لقوله {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4]
وإلقاء لتربية ألقيت إليهم لمناسبة طرف من أطراف خبر وفد بني تميم.
والرفع: مستعار لجهر الصوت جهرا متجاوزا لمعتاد الكلام، شبه جهر الصوت بإعلاء الجسم في أنه أشد بلوغا إلى الأسماع كما أن إعلاء الجسم أوضح له في الإبصار، على طريقة الاستعارة المكنية، أو شبه إلقاء الكلام بجهر قوي بإلقائه من مكان مرتفع كالمئذنة على طريقة الاستعارة التبعية.
و {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ترشيح لاستعارة {لا ترفعوا} وهو فوق مجازي أيضا.
وموقع قوله {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} موقع الحال من {أصواتكم} ، أي متجاوزة صوت النبي صلى الله عليه وسلم، أي متجاوزة المعتاد في جهر الأصوات فإن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بجهر معتاد.
ولا مفهوم لهذا الظرف لأنه خارج مخرج الغالب، إذ ليس المراد أنه إذا رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فارفعوا أصواتكم بمقدار رفعه.
والمعنى: لا ترفعوا أصواتكم في مجلسه وبحضرته إذا كلم بعضكم بعضا كما وقع في صورة سبب النزول. ولقد تحصل من هذا النهي معنى الأمر بتخفيض الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس المراد أن يكونوا سكوتا عنده.

وفي صحيح البخاري: قال ابن الزبير فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر أي ابن الزبير ذلك عن أبيه يعني أبا بكر، ولكن أخرج الحاكم وعبد بن حميد عن أبي هريرة: أن أبا بكر قال بعد نزول هذه الآية والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله.
وفي صحيح البخاري قال ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا النهي مخصوص بغير المواضع التي يؤمر بالجهر فيها كالأذان وتكبير يوم العيد، وبغير ما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذنا خاصا كقوله للعباس حين انهزم المسلمون يوم حنين "ناد يا أصحاب السمرة" وكان العباس جهير الصوت.
وقوله {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} نهي عن جهر آخر وهو الجهر بالصوت عند خطابهم الرسول صلى الله عليه وسلم لوجوب التغاير بين مقتضى قوله {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ومقتضى {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ}
واللام في {له} لتعدية {تجهروا} لأن {تجهروا} في معنى: تقولوا، فدلت اللام على أن هذا الجهر يتعلق بمخاطبته، وزاده وضوحا التشبيه في قوله {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}
وفي هذا النهي ما يشمل صنيع الذين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فيكون تخلصا من المقدمة إلى الغرض المقصود، ويظهر حسن موقع قوله بعده {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4]
و {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل وهذا تعليل للمنهي عنه لا للنهي، أي أن الجهر له بالقول يفضي بكم إن لم تكفوا عنه أن تحبط أعمالكم، فحبط الأعمال بذلك مما يحذر منه فجعله مدخولا للام التعليل مصروف عن ظاهر. فالتقدير: خشية أن تحبط أعمالكم، كذا يقدر نحاة البصرة في هذا وأمثاله. والكوفيون يجعلونه بتقدير "لا" النافية فيكون التقدير: أن لا تحبط أعمالكم فيكون تعليلا للنهي على حسب الظاهر.
والحبط: تمثيل لعدم الانتفاع بالأعمال الصالحة بسبب ما يطرأ عليها من الكفر مأخوذ من حبطت الإبل إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها وتعتل وربما هلكت وفي الحديث

وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلم. وتقدم في سورة المائدة قوله تعالى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5].
وظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون حبط جميع الأعمال إلا في حالة الكفر لأن من الأعمال الإيمان فمعنى الآية: أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر. قال ابن عطية: أي يكون ذلك سببا إلى الوحشة في نفوسكم فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فحبط الأعمال. وأقول: لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توفير الرسول صلى الله عليه وسلم من النفس وتتولى من سيء إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر. وهذا معنى {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} لآن المنتقل من سيء إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملي من السوء بحكم التعود بالشيء قليلا حتى تغمره المعاصي وربما كان آخرها الكفر حين تضرى النفس بالإقدام على ذلك. ويجوز أن يراد حبط بعض الأعمال على أنه عام مراد به الخصوص فيكون المعنى حصول حطيطة في أعمالهم بغلبة عظم ذنب جهرهم له بالقول، وهذا مجمل لا يعلم مقدار الحبط إلا الله تعالى.
ففي قوله {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} تنبيه إلى مزيد الحذر من هذه المهلكات حتى يصير ذلك دربة حتى يصل إلى ما يحبط الأعمال، وليس عدم الشعور كائنا في إتيان الفعل المنهي عنه لأنه لو كان كذلك لكان صاحبه غير مكلف لامتناع تكليف الغافل ونحوه.
[3] {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}
عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] كان أبو بكر لا يكلم رسول الله إلا كأخي السرار، أي مصاحب السر من الكلام، فأنزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} الآية. فهذه الجملة استئناف بياني لأن التحذير الذي في قوله {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2] الخ يثير في النفس أن يسأل سائل عن ضد حال الذي يرفع صوته.
وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بمضمونه من الثناء عليهم وجزاء عملهم،

وتفيد الجملة تعليل النهيين بذكر الجزاء عن ضد المنهي عنهما وأكد هذا الاهتمام باسم الإشارة في قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} مع ما في اسم الإشارة من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون بالخبر المذكور بعده لأجل ما ذكر من الوصف قبل اسم الإشارة.
وإذ قد علمت آنفا أن محصل معنى قوله {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} وقوله {وَلا تَجْهَرُوا} [الحجرات: 2] الأمر بخفض الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم يتضح لك وجه العدول عن نوط الثناء هنا بعدم رفع الصوت وعدم الجهر عند الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نوطه بغض الصوت عنده.
والغض حقيقته: خفض العين، أي أن لا يحدق بها إلى الشخص وهو هنا مستعار لخفض الصوت والميل به إلى الإسرار.
والامتحان: الاختبار والتجربة، وهو افتعال من محنه، إذا اختبره، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة كقولهم: اضطره إلى كذا.
واللام في قوله للتقوى لام العلة، والتقدير: امتحن قلوبهم لأجل التقوى، أي لتكون فيها التقوى، أي ليكونوا أتقياء، يقال: امتحن فلان للشيء الفلاني كما يقال: جرب للشيء ودرب للنهوض بالأمر، أي فهو مضطلع به ليس بوان عنه، فيجوز أن يجعل الامتحان كناية على تمكن التقوى من قلوبهم وثباتهم عليها بحيث لا يوجدون في حال ما غير متقين وهي كناية تلويحية لكون الانتقال بعدة لوازم، ويجوز أن يجعل فعل {امتحن} مجازا مرسلا عن العلم، أي علم الله أنهم متقون، وعليه فتكون اللام من قوله {للتقوى} متعلقة بمحذوف هو حال من قلوب، أي كائنة للتقوى، فاللام للاختصاص.
وجملة {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} خبر {إن} وهو المقصود من هذه من الجملة المستأنفة وما بينهما اعتراض للتنويه بشأنه. وجعل في الكشاف خبر {إن} هو اسم الإشارة مع خبره وجعل جملة {لهم} مستأنفة ولكل وجه فأنظره.
وقال وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسما ل {إن} المؤكدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معا. والمبتدأ اسم الإشارة، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة مبهما أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي

الإعلام بمبلغ عزة رسول الله وقدر شرف منزلته اه.
وهذا الوعد والثناء يشملان ابتداء أبا بكر وعمر إذ كان كلاهما يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأخي السرار.
[5,4] {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
هذه الجملة بيان لجملة {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] بيانا بالمثال وهو سبب النزول. فهذا شروع في الغرض والذي نشأ عنه ما أوجب نزول صدر السورة فافتتح به لأن التحذير والوعد اللذين جعلا لأجله صالحان لأن يكونا مقدمة للمقصود فحصل بذلك نسج بديع وإيجاز جليل وإن خالف ترتيب ذكره ترتيب حصوله في الخارج، وقد صادف هذا الترتيب المحز أيضا إذ كان نداؤهم من وراء الحجرات من قبيل الجهر للرسول صلى الله عليه وسلم بالقول كجهر بعضهم لبعض فكان النهي عن الجهر له بالقول تخلصا لذكر ندائه من وراء الحجرات.
والمراد بالذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات جماعة من وفد بني تميم جاءوا المدينة في سنة تسع وهي سنة الوفود وكانوا سبعين رجلا أو أكثر. وكان سبب وفود هذا الوفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن بني العنبر منهم كانوا قد شهروا السلاح على خزاعة، وقيل كانوا منعوا إخوانهم بني كعب بن العنبر بن عمرو بن تميم من إعطاء الزكاة، وكان بنو كعب قد أسلموا من قبل ولم أقف على وقت إسلامهم. والظاهر أنهم أسلموا في سنة الوفود فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر بن سفيان ساعيا لقبض صدقات بني كعب، فمنعهم بنو العنبر فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن في خمسين من العرب ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا. فجاء في أثرهم جماعة من رؤسائهم لفدائهم فجاؤوا المدينة. وكان خطيبهم عطارد بن حاجب بن زراره، وفيهم سادتهم الزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، والأقرع بن حابس، ومعهم عيينة بن حصن الفزاري الغطفاني وكان هذان الأخيران أسلما من قبل وشهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، ثم جاء معهم الوفد فلما دخل الوفد المسجد وكان وقت القائلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم في حجرته، نادوا جميعا وراء الحجرات: يا محمد اخرج إلينا ثلاثا، فإن مدحنا زين، وإن شين، نحن أكرم العرب سلكوا في عملهم هذا مسلك وفود العرب على الملوك والسادة، كانوا يأتون بيت الملك أو السيد فيطيفون به ينادون ليؤذن لهم كما ورد في قصة ورود النابغة على النعمان بن الحارث الغساني.

وقولهم: إن مدحنا زين، طريقة كانوا يستدرون بها العظماء للعطاء فإضافة: مدحنا وذمنا إلى الضمير من إضافة المصدر إلى فاعله. فلما خرج إليهم رسول الله قالوا: جئناك نفاخرك فإذن لشاعرنا وخطيبنا إلى آخر القصة.وقولهم: نفاخرك، جروا فيه على عادة الوفود من العرب أن يذكروا مفاخرهم وأيامهم، ويذكر الموفود عليهم مفاخرهم، وذلك معنى صيغة المفاعلة في قولهم: نفاخرك، وكان جمهورهم لم يزالوا كفارا حينئذ وإنما أسلموا بعد أن تفاخروا وتناشدوا الأشعار.
فالمراد ب {الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} رجال هذا الوفد. وإسناد فعل النداء إلى ضمير {الذين} لأن جميعهم نادوه، كما قال ابن عطية. ووقع في حديث البراء بن عازب أن الذي نادى النداء هو الأقرع بن حابس، وعليه فإسناد فعل {ينادونك} إلى ضمير الجماعة مجاز عقلي عن نسبة فعل المتبوع إلى أتباعه إذ كان الأقرع بن حابس مقدم الوفد، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا، وإنما قتله واحد منهم، قال تعالى {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} [البقرة: 72].
ونفي العقل عنهم مراد به عقل التأدب الواجب في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أو عقل التأدب المفعول عنه في عادتهم التي اعتادوها في الجاهلية من الجفاء والغلظة والعنجهية، وليس فيها تحريم ولا ترتب ذنب. وإنما قال الله تعالى {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} لان منهم من لم يناد النبي صلى الله عليه وسلم مثل ندائهم، ولعل المقصود استثناء اللذين كانا أسلما من قبل. فهذه الآية تأديب لهم وإخراج لهم من مذام أهل الجاهلية.
والوراء: الخلف، وهو جهة اعتبارية بحسب موقع ما يضاف إليه.
والمعنى: أن الحجرات حاجزة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يرونه فعبر عن جهة من لا يرى بأنها وراء.
و {من} للابتداء، أي ينادونك نداء صادرا من وراء الحجرات فالمنادون بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا وراء حجراته فالذي يقول: ناداني فلان وراء الدار، لا يريد وراء مفتح الدار ولا وراء ظهرها ولكن أي جهة منها وكان القوم المنادون في المسجد فهم تجاه الحجرات النبوية، ولو قال: ناداني فلان وراء الدار، دون حرف {من} ، لكان محتملا لأن يكون المنادي والمنادى كلاهما في جهة وراء الدار، وأن المجرور ظرف مستقر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ولهذا أوثر جلب {من} ليدل بالصراحة على أن المنادى كان داخل الحجرات لأن دلالة {من} على الابتداء تستلزم اختلافا بين المبدأ والمنتهى كذا أشار في الكشاف، ولا شك أنه يعني أن اجتلاب حرف {من} لدفع

اللبس فلا ينافي أنه لم يثبت هذا الفرق في قوله تعالى {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} في سورة الأعراف [17] وقوله {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ} في سورة الروم.[25] وفيما ذكرنا ما يدفع الاعتراضات على صاحب الكشاف.
فلفظ {وراء} هنا مجاز في الجهة المحجوبة عن الرؤية.
والحجرات، بضمتين ويجوز فتح الجيم: جمع حجرة بضم الحاء وسكون الجيم وهي البقعة المحجورة، أي التي منعت من أن يستعملها غير حاجرها فهي فعلة بمعنى مفعولة كغرفة، وقبضة. وفي الحديث أيقظوا صواحب الحجر يعني أزواجه، وكانت الحجرات تفتح إلى المسجد.
وقرأ الجمهور {الحجرات} بضمتين. وقرأه أبو جعفر بضم الحاء وفتح الجيم.
وكانت الحجرات تسعا وهي من جريد النخل، أي الحواجز التي بين كل واحدة والأخرى، وعلى أبوابها مسوح من شعر أسود وعرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحو سبعة أذرع، ومساحة البيت الداخل، أي الذي في داخل الحجرة عشرة أذرع، أي فتصير مساحة الحجرة مع البيت سبعة عشر ذراعا. قال الحسن البصري: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي. وإنما ذكر الحجرات دون البيوت لأن البيت كان بيتا واحدا مقسما إلى حجرات تسع.
وتعريف {الحجرات} باللام تعريف العهد، لأن قوله {ينادونك} مؤذن بأن الحجرات حجراته فلذلك لم تعرف بالإضافة.
وهذا النداء وقع قبل نزول الآية فالتعبير بصيغة المضارع في {ينادونك} لاستحضار حالة ندائهم.
ومعنى قوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} أنه يكسبهم وقارا بين أهل المدينة ويستدعي لهم الإقبال من الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يخرج إليهم غير كاره لندائهم إياه، ورفع أصواتهم في مسجده فكان فيما فعلوه جلافة.
فقوله {خيرا} يجوز أن يكون اسم تفضيل، ويكون في المعنى: لكان صبرهم أفضل من العجلة. ويجوز أن يكون اسما ضد الشر، أي لكان صبرهم خيرا لما فيه من محاسن الخلق بخلاف ما فعلوه فليس فيه خير، وعلى الوجهين فالآية تأديب لهم وتعليمهم محاسن الأخلاق وإزالة العوائد الجاهلية الذميمة.
وإيثار {حتى} في قوله {حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} دون "إلى" لأجل الإيجاز بحذف

حرف "أن" فإنه ملتزم حذفه بعد {حتى} بخلافه بعد "إلى" فلا يجوز حذفه.
وفي تعقيب هذا اللوم بقوله {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إشارة إلى أنه تعالى لم يحص عليهم ذنبا فيما فعلوا ولا عرض لهم بتوبة. والمعنى: والله شأنه التجاوز عن مثل ذلك رحمة بالناس لأن القوم كانوا جاهلين.
[6] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}
هذا نداء ثالث ابتدئ به غرض آخر وهو آداب جماعات المؤمنين بعضهم مع بعض وقد تضافرت الروايات عند المفسرين عن أم سلمة وابن عباس والحارث بن ضرارة الخزاعي أن هذه الآية نزلت عن سبب قضية حدثت. ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتي بصدقاتهم فلما بلغهم مجيئه، أو لما استبطأوا مجيئه، فإنهم خرجوا لتلقيه أو خرجوا ليبلغوا صدقاتهم بأنفسهم وعليهم السلاح، وأن الوليد بلغه أنهم خرجوا إليه بتلك الحالة وهي حالة غير مألوفة في تلقي المصدقين وحدثته نفسه أنهم يريدون قتله، أو لما رآهم مقبلين كذلك على اختلاف الروايات خاف أن يكونوا أرادوا قتله إذ كانت بينه وبينهم شحناء من زمن الجاهلية فولى راجعا إلى المدينة.
هذا ما جاء في روايات أربع متفقة في صفة خروجهم إليه مع اختلافها في بيان الباعث لهم على ذلك الخروج وفي أن الوليد أعلم بخروجهم إليه أو رآهم أو استشعرت نفسه خوفا وأن الوليد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق أرادوا قتلي وأنهم منعوا الزكاة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يبعث إليهم خالد بن الوليد لينظر في أمرهم، وفي رواية أنه بعث خالدا وأمره بأن لا يغزوهم حتى يستثبت أمرهم وأن خالدا لما بلغ ديار القوم بعث عينا له ينظر حالهم فأخبره أنهم يقيمون الأذان والصلاة فأخبرهم بما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقبض زكاتهم وقفل راجعا. وفي رواية أخرى أنهم ظنوا من رجوع الوليد أن يظن بهم منع الصدقات فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج خالد إليهم متبرئين من منع الزكاة ونية الفتك بالوليد بن عقبة. وفي رواية أنهم لما وصلوا إلى المدينة وجدوا الجيش خارجا إلى غزوهم. فهذا تلخيص هذه الروايات وهي بأسانيد ليس منها شيء في الصحيح.
وقد روي أن سبب نزول هذه الآية قضيتان أخريان، وهذا أشهر. ولنشتغل الآن

ببيان وجه المناسبة لموقع هذه الآية عقب التي قبلها فإن الانتقال منها إلى هذه يقتضي مناسبة بينهما، فالقصتان متشابهتان إذ كان وفد بني تميم النازلة فيهم الآية السابقة جاؤوا معتذرين عن ردهم ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبض صدقات بني كعب بن العنبر من تميم كما تقدم، وبنو المصطلق تبرؤوا من أنهم يمنعون الزكاة إلا أن هذا يناكده بعد ما بين الوقتين إلا أن يكون في تعيين سنة وفد بني تميم وهم.
وإعادة الخطاب ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وفصله بدون عاطف لتخصيص هذا الغرض بالاهتمام كما علمت في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا للمناسبة المتقدم ذكرها.
ولا تعلق لهذه الآية بتشريع في قضية بني المصطلق مع الوليد بن عقبة لأنها قضية انقضت وسويت.
والفاسق: المتصف بالفسوق، وهو فعل ما يحرمه الشرع من الكبائر. وفسر هنا بالكاذب قاله ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله.
وأوثر في الشرط حرف {إن} الذي الأصل فيه أن يكون للشرط المشكوك في وقوعه للتنبيه على أن شأن فعل الشرط أن يكون نادر الوقوع لا يقدم عليه المسلمون. واعلم أن ليس الآية ما يقتضي وصف الوليد بالفاسق تصريحا ولا تلويحا.
وقد اتفق المفسرون على أن الوليد ظن ذلك كما في الإصابة عن ابن عبد البر وليس في الروايات ما يقتضي أنه تعمد الكذب. قال الفخر: إن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا.
قلت: ولو كان الوليد فاسقا لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تعنيفه واستتابته فإنه روى أنه لم يزد على قوله له التبيين من الله والعجلة من الشيطان ، إذ كان تعجيل الوليد الرجوع عجلة. وقد كان خروج القوم للتعرض إلى الوليد بتلك الهيئة مثار ظنه حقا إذ لم يكن المعروف خروج القبائل لتلقي السعاة. وأنا أحسب أن عملهم كان حيلة من كبرائهم على انصراف الوليد عن الدخول في حيهم تعيرا منهم في نظر عامتهم من أن يدخل عدو لهم إلى ديارهم ويتولى قبض صدقاتهم فتعيرهم أعداؤهم بذلك يمتعض منهم دهماؤهم ولذلك ذهبوا بصدقاتهم بأنفسهم في رواية أو جاؤوا معتذرين قبل مجيء خالد بن الوليد إليهم في رواية أخرى.
ويؤيد هذا ما جاء في بعض روايات هذا الخبر أن الوليد. أعلم بخروج القوم إليه،

وسمع بذلك فلعل ذلك الإعلام موعز به إليه ليخاف فيرجع. وقد اتفق من ترجموا للوليد بن عقبة على أنه كان شجاعا جوادا وكان ذا خلق ومروءة. واعلم أن جمهور أهل السنة على اعتبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عدولا وإن كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به فهو من أصحابه. وزاد بعضهم شرط أن يروي عنه أو يلازمه ومال إليه المازري. قال في أماليه في أصول الفقه ولسنا نعني بأصحاب النبي كل من رآه أو زاره لماما إنما يريد أصحابه الذين لازموه وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وأولئك هم المفلحون شهد الله لهم بالفلاح اه. وإنما تلقف هذه الأخبار الناقمون على عثمان إذ كان من عداد مناقمهم الباطلة أنه أولى الوليد بن عقبة إمارة الكوفة فحملوا الآية على غير وجهها وألصقوا بالوليد وصف الفاسق، وحاشاه منه لتكون ولايته الإمارة باطلا. وعلى تسليم أن تكون الآية إشارة إلى فاسق معين فلماذا لا يحمل على إرادة الذي أعلم الوليد بأن القوم خرجوا له ليصدوه عن الوصول الى ديارهم قصدا لإرجاعه.
وفي بعض الروايات أن خالدا وصل إلى ديار بني المصطلق. وفي بعضها أن بني المصطلق وردوا المدينة معتذرين، واتفقت الروايات على أن بين بني المصطلق وبين الوليد بن عقبة شحناء من عهد الجاهلية.
وفي الرواية أنهم اعتذروا للتسلح بقصد إكرام ضيفهم. وفي السيرة الحلبية، أنهم قالوا: خشينا أن يبادئنا بالذي كان بيننا من شحناء. وهذه الآية أصل في الشهادة والرواية من وجوب البحث عن دخيلة من جهل حال تقواه. وقد قال عمر ابن الخطاب لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول، وهي أيضا أصل عظيم في تصرفات ولاة الأمور وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض من عدم الإصغاء إلى كل ما يروى ويخبر به.
والخطاب ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مراد به النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ويشمل الوليد بن عقبة إذ صدق من أخبره بأن بني المصطلق يريد له سوءا ومن يأتي من حكام المؤمنين وأمرائهم لأن المقصود منه تشريع تعديل من لا يعرف بالصدق والعدالة. ومجيء حرف {إن} في هذا الشرط يومئ إلى أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادرا.
والتبيين: قوة الإبانة وهو متعد إلى مفعول بمعنى أبان، أي تأملوا وأبينوا. والمفعول محذوف دل عليه قوله بنبإ أي تبينوا ما جاء به وإبانة كل شيء بحسبها. والأمر بالتبيين أصل عظيم في وجوب التثبت في القضاء وأن لا يتتبع الحاكم القيل والقال ولا ينصاع إلى الجولان في الخواطر من الظنون والأوهام.

ومعنى {فتبينوا} تبينوا الحق، أي من غير جهة ذلك الفاسق. فخبر الفاسق يكون داعيا إلى التتبع والتثبت يصلح لأن يكون مستندا للحكم بحال من الأحوال وقد قال عمر بن الخطاب لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول.
وإنما كان الفاسق معرضا خبره للريبة والاختلاق لأن الفاسق ضعيف الوازع الديني في نفسه، وضعف الوازع يجرئه على الاستخفاف بالمحظور وبما يخبر به في شهادة أو خبر يترتب عليهما إضرار بالغير أو بالصالح العام ويقوي جرأته على ذلك دوما إذا لم يتب ويندم على ما صدر منه ويقلع عن مثله.
والإشراك أشد في ذلك الاجتراء لقلة مراعاة الوازع في أصول الإشراك.
وتنكير {فاسق} ، و {نبإ} ، في سياق الشرط يفيد العموم في الفساق بأي فسق اتصفوا، وفي الأنباء كيف كانت، كأنه قيل: أي فاسق جاءكم بأي نبإ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشافه.
وقرأ الجمهور {فتبينوا} بفوقية فموحدة فتحتية فنون من التبيين، وقرأ حمزة والكسائي وخلف فتثبتوا بفوقية فمثلثة فموحدة ففوقية من التثبت. والتبيين: تطلب البيان وهو ظهور الأمر، والتثبت التحري وتطلب الثبات وهو الصدق. ومآل القراءتين واحد وإن اختلف معناهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم "التثبت من الله والعجلة من الشيطان".
وموقع {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا} الخ نصبا على نزع الخافض وهو لام التعليل محذوفة. ويجوز كونه منصوبا على المفعول لأجله.
والمعلل باللام المحذوفة أو المقدرة هو التثبت، فمعنى تعليله بإصابة يقع إثرها الندم هو التثبت.
فمعنى تعليله بإصابة يقع آخرها الندم أن الإصابة علة تحمل على التثبت للتفادي منها فلذلك كان معنى الكلام على انتفاء حصول هذه الإضافة لأن العلة إذا صلحت لإثبات الكف عن فعل تصليح للإتيان بضده لتلازم الضد. وتقدم نظير هذا التعليل في قوله {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2] في هذه السورة.
وهذا التحذير من جراء قبول خبر الكاذب يدل على تحذير من يخطر له اختلاق خبر مما يترتب على خبره الكاذب من إصابة الناس. وهذا بدلالة فحوى الخطاب.
والجهالة: تطلق بمعنى ضد العلم، وتطلق بمعنى ضد الحلم مثل قولهم: جهل كجهل السيف، فإن كان الأول، فالباء للملابسة وهو ظرف مستقر في موضع الحال، أي

متلبسين أنتم بعدم العلم بالواقع لتصديقكم الكاذب، ومتعلق {تصيبوا} على هذا الوجه محذوف دل عليه السياق سابقا ولاحقا، أي أن تصيبوهم بضر، وأكثر إطلاق الإصابة على إيصال الضر وعلى الإطلاق الثاني الباء للتعدية، أي أن تصيبوا قوما بفعل من أثر الجهالة، أي بفعل من الشدة والإضرار.
ومعنى {فتصبحوا} فتصيروا لأن بعض أخوات كان تستعمل بمعنى الصيرورة. والندم: الأسف على فعل صدر. والمراد به هنا الندم الديني، أي الندم على التورط في الذنب للتساهل وترك تطلب وجوه الحق.
وهذا الخطاب الذي اشتمل عليه قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} موجه ابتداء للمؤمنين المخبرين بفتح الباء كل بحسب أثره بما يبلغ إليه من الأخبار على اختلاف أغراض المخبرين بكسر الباء. ولكن هذا الخطاب لا يترك المخبرين بكسر الباء بمعزل عن المطالبة بهذا التبين فيما يتحملونه من الأخبار وبتوخي سوء العاقبة فيما يختلفونه من المختلفات ولكن هذا تبين يخالف تبين الآخر وتثبته، فهذا تثبت من المتلقي بالتمحيص لما يتلقاه من حكاية أو يطرق سمعه من الكلام والآخر تمحيص وتمييز لحال المخبر. واعلم أن هذه الآية تتخرج منها أربع مسائل من الفقه وأصوله:
المسألة الأولى: وجوب البحث عن عدالة من كان مجهول الحال في قبول الشهادة أو الرواية عند القاضي وعند الرواة. وهذا صريح الآية وقد أشرنا إليه آنفا.
المسألة الثانية: أنها دالة على قبول الواحد الذي انتفت عنه تهمة الكذب في شهادته أو روايته وهو الموسوم بالعدالة، وهذا من مدلول مفهوم الشرط في قوله {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وهي مسألة أصولية في العمل بخبر الواحد.
المسألة الثالثة: قيل إن الآية تدل على أن الأصل في المجهول عدم العدالة، أي عدم ظن عدالته فيجب الكشف عن مجهول الحال فلا يعمل بشهادته ولا بروايته حتى يبحث عنه وتثبيت عدالته.
وهذا قول جمهور الفقهاء والمحدثين وهو قول مالك. وقال بعضهم: الأصل في الناس العدالة وينسب إلى أبي حنيفة فيقبل عنده مجهول الباطن ويعبر عنه بمستور الحال. أما المجهول باطنه وظاهره معا فحكي الاتفاق على عدم قبول خبره، وكأنهم نظروا إلى

معنى كلمة الأصل العقلي دون الشرعي، وقد قيل: إن عمر بن الخطاب كان قال المسلمون عدول بعضهم عن بعض وأنه لما بلغه ظهور شهادة الزور رجع فقال لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول
ويستثنى من هذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأصل أنهم عدول حتى يثبت خلاف ذلك بوجه لا خلاف فيه في الدين ولا يختلف فيه اجتهاد المجتهدين. وإنما تفيد الآية هذا الأصل إذا حمل معنى الفاسق على ما يشمل المتهم بالفسق.
المسألة الرابعة: دل قوله {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} أنه تحذير من الوقوع فيما يوجب الندم شرعا، أي ما يوجب التوبة من تلك الإصابة، فكان هذا كناية عن الإثم في تلك الإصابة فحذر ولاة الأمور من أن يصيبوا أحدا بضر أو عقاب أو حد أو غرم دون تبين وتحقق توجه ما يوجب تسليط تلك الإصابة عليه بوجه يوجب اليقين أو غلبة الظن وما دون ذلك فهو تقصير يؤاخذ عليه، وله مراتب بينها العلماء في حكم خطها القاضي وصفة المخطئ وما ينقض من أحكامه.
وتقديم المجرور على متعلقه في قوله {عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} للاهتمام بذلك الفعل، وهو الإصابة بدون تثبت والتنبيه على خطر أمره.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}
عطف على جملة {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات: من الآية6] عطف تشريع على تشريع وليس مضمونها تكملة لمضمون جملة {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} الخ بل هي جملة مستقلة.
وابتداء الجملة ب {اعلموا} للاهتمام، وقد تقدم في قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} في سورة البقرة[235]. وقوله {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} في الأنفال[41].
وقوله {أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} إن خبر مستعمل في الإيقاظ والتحذير على وجه الكناية. فإن كون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم أمر معلوم لا يخبر عنه. فالمقصود تعليم المسلمين باتباع ما شرع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام ولو كانت غير موافقة لرغباتهم.

وجملة {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} الخ يجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا.
فضميرا الجمع في قوله {يطيعكم} وقوله {لعنتم} عائدان إلى الذين آمنوا على توزيع الفعل على الأفراد فالمطاع بعض الذين آمنوا وهم الذين يبتغون أن يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم بما يطلبون منه، والعانت بعض آخر وهم جمهور المؤمنين الذين يجري عليهم قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بحسب رغبة غيرهم. ويجوز أن تكون جملة {لو يطيعكم} الخ في موضع الحال من ضمير {فيكم} لأن مضمون الجملة يتعلق بأحوال المخاطبين، من جهة أن مضمون جواب {لو} عنت يحصل للمخاطبين. ومآل الاعتبارين في موقع الجملة واحد وانتظام الكلام على كلا التقديرين غير منثلم.
والطاعة: عمل أحد يؤمر به وما ينهى عنه وما يشار به عليه، أي لو أطاعكم فيما ترغبون.
و {الأمر} هنا بمعنى الحادث والقضية النازلة.
والتعريف في الأمر تعريف الجنس شامل لجميع الأمور ولذلك جيء معه بلفظ {كَثِيرٍ مِنَ} أي في أحداث كثيرة مما لكم رغبة في تحصيل شيء منها فيه مخالفة لما شرعه.
وهذا احتراز عن طاعته إياهم في بعض الأمر مما هو من غير شؤون التشريع كما أطاعهم في نزول الجيش يوم بدر على جهة يستأثرون فيها بماء بدر.
والعنت: اختلال الأمر في الحاضر أو في العاقبة.
وصيغة المضارع في قوله {لو يطيعكم} مستعملة في الماضي لأن حرف {لو} يفيد تعليق الشرط في الماضي، وإنما عدل إلى صيغة المضارع لأن المضارع صالح للدلالة على الاستمرار، أي لو أطاعكم في قضية معينة ولو أطاعكم كلما رغبتم منه أو أشرتم عليه لعنتم لأن بعض ما يطلبونه مضر بالغير أو بالراغب نفسه فإنه قد يحب عاجل النفع العائد عليه بالضر.
وتقديم خبر "إن" على اسمها في قوله {أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} للاهتمام بهذا الكون فيهم وتنبيها على أن واجبهم الاغتباط به والإخلاص له لأن كونه فيهم شرف عظيم لجماعتهم وصلاح لهم.
والعنت: المشقة، أي لأصاب الساعين في أن يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بما يرغبون العنت. وهو الإثم إذ استغفلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولأصاب غيرهم العنت بمعنى المشقة وهي ما يلحقهم من جريان أمر النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلائم الواقع فيضر ببقية الناس وقد يعود بالضر على

الكاذب المتشفي برغبته تارة فيلحق عنت من كذب غيره تارة أخرى.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
الاستدراك المستفاد من {لكن} ناشئ عن قوله {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} لأنه اقتضى أن لبعضكم رغبة في أن يطيعهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرغبون أن يفعله مما يبتغون مما يخالونه صالحا بهم في أشياء كثيرة تعرض لهم. والمعنى: ولكن الله لا يأمر رسوله إلا بما فيه صلاح العاقبة وإن لم يصادف رغباتكم العاجلة وذلك فيما شرعه الله من الأحكام، فالإيمان هنا مراد منه أحكام الإسلام وليس مرادا منه الاعتقاد، فان اسم الإيمان واسم الإسلام يتواردان، أي حبب إليكم الإيمان الذي هو الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا تحريض على التسليم لما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في معنى قوله تعالى {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]، ولذا فكونه حبب إليهم الإيمان إدماج وإيجاز. والتقدير: ولكن الله شرع لكم الإسلام وحببه إليكم أي دعاكم إلى حبه والرضى به فامتثلتم.
وفي قوله {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} تعريض بأن الذين لا يطيعون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم بقية من الكفر والفسوق، قال تعالى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} إلى قوله {هُمُ الظَّالِمُونَ} [ النور: 50,48]
والمقصود من هذا أن يتركوا ما ليس من أحكام الإيمان فهو من قبيل قوله {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} [الحجرات: من الآية11] تحذيرا لهم من الحياد عن مهيع الإيمان وتجنيبا لهم ما هو من شأن أهل الكفر.
فالخبر في قوله {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ} إلى قوله {والعصيان} مستعمل في الإلهاب وتحريك الهمم لمراعاة الإيمان وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، أي إن كنتم أحببتم الإيمان وكرهتم الكفر والفسوق والعصيان فلا ترغبوا في حصول ما ترغبونه إذا كان الدين يصد عنه وكان الفسوق والعصيان يدعو إليه. وفي هذا إشارة إلى أن الاندفاع إلى تحصيل المرغوب من الهوى دون تمييز بين ما يرضي الله وما لا يرضيه أثر من آثار الجاهلية من آثار الكفر والفسوق والعصيان.
وذكر اسم الله في صدر جملة الاستدراك دون ضمير المتكلم لما يشعر به اسم الجلالة من المهابة والروعة. وما يقتضيه من واجب اقتبال ما حبب إليه ونبذ ما كره إليه.

وعدي فعلا {حبب} و {كره} بحرف "إلى" لتضمينها معنى بلغ، أي بلغ إليكم حب الإيمان وكره الكفر. ولم يعد فعل {وزينه} بحرف "إلى" مثل فعلي {حبب} و {كره} ، للإيماء إلى أنه لما رغبهم في الإيمان وكرههم الكفر امتثلوا فأحبوا الإيمان وزان في قلوبهم.
والتزيين: جعل الشيء زينا، أي حسنا قال عمر بن أبي ربيعة:
أجمعت خلتي مع الفجر بينا ... جلل الله ذلك الوجه زينا
وجملة {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} معترضة للمدح. والإشارة ب {أولئك} إلى ضمير المخاطبين في قوله {إليكم} مرتين وفي قوله {قلوبكم} أي الذين أحبوا الإيمان وتزينت به قلوبهم، وكرهوا الكفر والفسوق والعصيان هم الراشدون، أي هم المستقيمون على طريق الحق.
وأفاد ضمير الفصل القصر وهو قصر إفراد إشارة الى أن بينهم فريقا ليسوا براشدين وهم الذين تلبسوا بالفسق حين تلبسهم به فإن أقلعوا عنه التحقوا بالراشدين.
وانتصب {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} على المفعول المطلق المبين للنوع من أفعال {حبب} ، {وزين} ، {وكره} لأن ذلك التحبيب والتزيين والتكريه من نوع الفضل والنعمة.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل لجملة {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} إلى آخرها إشارة إلى أن ما ذكر فيها من آثار علم الله وحكمته.. والواو اعتراضية.
[9] {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} لما جرى قوله {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: من الآية6] الآية كان مما يصدق عليه إصابة قوم أن تقع الإصابة بين طائفتين من المؤمنين لأن من الأخبار الكاذبة أخبار النميمة بين القبائل وخطرها أكبر مما يجري بين الأفراد والتبيين فيها أعسر، وقد لا يحصل التبيين إلا بعد أن تستعر نار الفتنة ولا تجدي الندامة.
وفي الصحيحين عن أنس ابن مالك أن الآية نزلت في قصة مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبال الحمار، فقال عبد الله بن أبي: خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه. فقال له عبد الله بن رواحة: والله إن بول حماره لأطيب من مسكك فاستبا وتجالدا وجاء قوماهما الأوس والخزرج، فتجالدوا بالنعال والسعف فرجع إليهم

رسول الله فأصلح بينهم... فنزلت هذه الآية. وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد: وليس فيه أن الآية نزلت في تلك الحادثة.
ويناكد هذا أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة وأن انس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله فبلغنا أن نزلت فيهم {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . اللهم أن تكون هذه الآية ألحقت بهذه السورة بعد نزول الآية بمدة طويلة.
وعن قتادة والسدي: أنها نزلت في فتنة بين الأوس والخزرج بسبب خصومة بين رجل وامرأته أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج انتصر لكل منهما قومه حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال والعصي فنزلت الآية فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهما وهذا أظهر من الرواية الأولى فكانت حكما عاما نزل في سبب خاص.
و {إن} حرف شرط يخلص الماضي للاستقبال فيكون في قوة المضارع. وارتفع {طائفتان} بفعل مقدر يفسره قوله {اقتتلوا} للاهتمام بالفاعل. وإنما عدل عن المضارع بعد كونه الأليق بالشرط لأنه لما أريد تقديم الفاعل على فعله للاهتمام بالمسند إليه جعل الفعل ماضيا على طريقة الكلام الفصيح في مثله مما أوليت فيه {إن} الشرطية الاسم نحو { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: من الآية6]، {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً} [النساء: من الآية128]. قال الرضي وحق الفعل الذي يكون بعد الاسم الذي يلي "ان" أن يكون ماضيا وقد يكون مضارعا على الشذوذ وإنما ضعف مجيء المضارع لحصول الفصل بين الجازم وبين معموله.
ويعود ضمير {اقتتلوا} على {طائفتان} باعتبار المعنى لأن طائفة ذات جمع، والطائفة الجماعة. وتقدم عند قوله تعالى {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} في سورة النساء.[102]
والوجه أن يكون فعل {اقتتلوا} مستعملا في إرادة الوقوع مثل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: من الآية6] ومثل { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3]، أي يريدون العود لأن الأمر بالإصلاح بينهما واجب قبل الشروع في الاقتتال وذلك عند ظهور بوادره وهو أولى من انتظار وقوع الاقتتال ليمكن تدارك الخطب قبل وقوعه على معنى قوله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} [النساء: 128].
وبذلك يظهر وجه تفريع قوله {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} على جملة

{اقتتلوا} أي فإن ابتدأت إحدى الطائفتين قتال الأخرى ولم تنصع إلى الإصلاح فقاتلوا الباغية.
والبغي: الظلم والاعتداء على حق الغير، وهو هنا مستعمل في معناه اللغوي وهو غير معناه الفقهي ف {الَّتِي تَبْغِي} هي الطائفة الظالمة الخارجة عن الحق وإن لم تقاتل لأن بغيها يحمل الطائفة المبغي عليها أن تدافع عن حقها. وإنما جعل حكم قتال الباغية أن تكون طائفة لأن الجماعة يعسر الأخذ على أيدي ظلمهم بأفراد من الناس وأعوان الشرطة فتعين أن يكون كفهم عن البغي بالجيش والسلاح.
وهذا في التقاتل بين الجماعات والقبائل، فأما خروج فئة عن جماعة المسلمين فهو أشد وليس هو مورد هذه الآية ولكنها أصل له في التشريع.وقد بغى أهل الردة على جماعة المسلمين بغيا بغير قتال فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، وبغى بغاة أهل مصر على عثمان رضي الله عنه فكانوا بغاة على جماعة المؤمنين، فأبى عثمان قتالهم وكره أن يكون سببا في إراقة دماء المسلمين اجتهادا منه فوجب على المسلمين طاعته لأنه ولي الأمر ولم ينفوا عن الثوار حكم البغي.
ويحقق وصف البغي بإخبار أهل العلم أن الفئة بغت على الأخرى أو بحكم الخليفة العالم العدل، وبالخروج عن طاعة الخليفة وعن الجماعة بالسيف إذا أمر بغير ظلم ولا جور ولم تخش من عصيانه فتنة لأن ضر الفتنة أشد من شد الجور في غير إضاعة المصالح العامة من مصالح المسلمين، وذلك لأن الخروج عن طاعة الخليفة بغي على الجماعة الذين مع الخليفة.
وقد كان تحقيق معنى البغي وصوره غير مضبوط في صدر الإسلام وإنما ضبطه العلماء بعد وقعة الجمل ولم تطل ثم بعد وقعة صفين، وقد كان القتال فيها بين فئتين ولم يكن الخارجون عن علي رضي الله عنه من الذين بايعوه بالخلافة، بل كانوا شرطوا لمبايعتهم إياه أخذ القود من قتلة عثمان منهم، فكان اقتناع أصحاب معاوية مجالا للاجتهاد بينهم وقد دارت بينهم كتب فيها حجج الفريقين ولا يعلم الثابت منها والمكذوب إذ كان المؤرخون أصحاب أهواء مختلفة. وقال ابن العربي: كان طلحة والزبير يريان البداءة بقتل قتلة عثمان أولى، إلا أن العلماء حققوا بعد ذلك أن البغي في جانب أصحاب معاوية لأن البيعة بالخلافة لا تقبل التقييد بشرط. وقد اعترف الجميع بأن معاوية وأصحابه كانوا مدافعين عن نظر اجتهادي مخطئ، وكان الواجب يقضي على جماعة من المسلمين

الدعاء إلى الصلح بين الفريقين حسب أمر القرآن وجوب الكفاية فقد قيل: إن ذلك وقع التداعي إليه ولم يتم لانتقاض الحرورية على أمر التحكيم فقالوا: لا حكم إلا لله ولا نحكم الرجال.
وقيل: كيدت مكيدة بين الحكمين، والإخبار في ذلك مضطربة على اختلاف المتصدين لحكاية القضية من المؤرخين أصحاب الأهواء. والله أعلم بالضمائر.
وسئل الحسن البصري عن القتال بين الصحابة فقال: شهد أصحاب محمد وغبنا وعلموا وجهلنا. وقال المحاسبي: تعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا.
والأمر في قوله {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} للوجوب، لأن هذا حكم بين الخصمين والقضاء بالحق واجب لأنه لحفظ حق المحق، ولان ترك قتال الباغية يجر إلى استرسالها في البغي وإضاعة حقوق المبغي عليها في الأنفس والأحوال والأغراض والله لا يحب الفساد، ولأن ذلك يجرئ غيرها على أن تأتي مثل صنيعها فمقاتلها زجر لغيرها. وهو وجوب كفاية ويتعين بتعيين الإمام جيشا يوجهه لقتالها إذ لا يجوز أن يلي قتال البغاة إلا الأئمة والخلفاء. فإذا اختل أمر الإمامة فليتول قتال البغاة السواد الأعظم من الأمة وعلماؤها. فهذا الوجوب مطلق في الأحوال تقيده الأدلة الدالة على عدم المصير إليه إذا علم أن قتالها يجر إلى فتنة أشد من بغيها. وقد تلتبس الباغية من الطائفتين المتقاتلتين فإن أسباب التقاتل قد تتولد من أمور لا يؤبه بها في أول الأمر ثم تثور الثائرة ويتجالد الفريقان فلا يضبط أمر الباغي منهما، فالإصلاح بينهما يزيل اللبس فإن امتنعت إحداهما تعين البغي في جانبها لأن للإمام والقاضي أن يجبر على الصلح إذا خشي الفتنة ورأى بوارقها، وذلك بعد أن تبين لكلتا الطائفتين شبهتها إن كانت لها شبهة وتزال بالحجة الواضحة والبراهين القاطعة ومن يأب منهما فهو أعق وأظلم.
وجعل الفيء إلى أمر الله غاية للمقاتلة، أي يستمر قتال الطائفة الباغية إلى غاية رجوعها إلى أمر الله، وأمر الله هو ما في الشريعة من العدل والكف عن الظلم، أي حتى تقلع عن بغيها. وأتبع مفهوم الغاية ببيان ما تعامل به الطائفتان بعد أن تفي الباغية بقوله {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} والباء للملابسة والمجرور حال من ضمير {اصلحوا} .
والعدل: هو ما يقع التصالح عليه بالتراضي والإنصاف وأن لا يضر بإحدى الطائفتين فإن المتالف التي تلحق كلتا الطائفتين قد تتفاوت تفاوتا شديدا فتجب مراعاة التعديل.

وقيد الإصلاح المأمور به ثانيا بقيد أن تفيء الباغية بقيد {بالعدل} ولم يقيد الإصلاح المأمور به، وهذا القيد يقيد به أيضا الإصلاح المأمور به أولا لأن القيد من شأنه أن يعود إليه لاتحاد سبب المطلق والمقيد، أي يجب العدل في صورة الإصلاح فلا يضيعوا بصورة الصلح منافع عن كلا الفريقين إلا بقدر ما تقتضيه حقيقة الصلح من نزول عن بعض الحق بالمعروف.
ثم أمر المسلمين بالعدل بقوله {وأقسطوا} أمرا عاما تذييلا للأمر بالعدل الخاص في الصلح بين الفريقين، فشمل ذلك هذا الأمر العام أن يعدلوا في صورة ما إذا قاتلوا التي تبغي، ثم قال {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} وهذا إصلاح ثان بعد الإصلاح المأمور به ابتداء. ومعناه: أن الفئة التي خضعت للقوة وألقت السلاح تكون مكسورة الخاطر شاعرة بانتصار الفئة الأخرى عليها فأوجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما بترغيبهما في إزالة الإحن والرجوع إلى أخوة الإسلام لئلا يعود التنكر بينهما.
قال أبو بكر بن العربي: ومن العدل في صلحهم أن لا يطالبوا بما جرى بينهم مدة القتال من دم ولا مال فإنه تلف على تأويل وفي طلبهم به تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي وهذا أصل في المصلحة ا ه. ثم قال: لا ضمان عليهم في نفس ولا مال عندنا المالكية. وقال أبو حنيفة يضمنون. وللشافعي فيه قولان. فأما ما كان قائما رد بعينه. وانظر هل ينطبق كلام ابن العربي على نوعي الباغية أو هو خاص بالباغية على الخليفة وهو الأظهر.
فأما حكم تصرف الجيش المقاتل للبغاة فكأحوال الجهاد إلا أنه لا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم ولا تسبى ذراريهم ولا تغنم أموالهم ولا تسترق أسراهم. وللفقهاء تفاصيل في أحوال جبر الأضرار اللاحقة بالفئة المعتدى عليها والأضرار اللاحقة بالجماعة التي تتولى قتال البغاة فينبغي أن يؤخذ من مجموع أقوالهم ما يرى أولو الأمر المصلحة في الحمل عليها جريا على قوله تعالى {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
[10] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
تعليل لإقامة الإصلاح بين المؤمنين إذا استشرى الحال بينهم، فالجملة موقعها موقع العلة، وقد بني هذا التعليل على اعتبار حال المسلمين بعضهم مع بعض كحال الإخوة.

وجيء بصيغة القصر المفيدة لحصر حالهم في حال الإخوة مبالغة في تقرير هذا الحكم بين المسلمين فهو قصر ادعائي أو هو قصر إضافي للرد على أصحاب الحالة المفروضة الذين يبغون على غيرهم من المؤمنين، وأخبر عنهم بأنهم إخوة مجازا على وجه التشبيه البليغ زيادة لتقرير معنى الأخوة بينهم حتى لا يحق أن يقرن بحرف التشبيه المشعر بضعف صفتهم عن حقيقة الأخوة.
وهذه الآية فيها دلالة قوية على تقرر وجوب الأخوة بين المسلمين لأن شأن {إنما} أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما ينزل منزلة ذلك كما قال الشيخ في دلائل الإعجاز في الفصل الثاني عشر وساق عليه شواهد كثيرة من القرآن وكلام العرب فلذلك كان قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} مفيد أن معنى الأخوة بينهم معلوم مقرر. وقد تقرر ذلك في تضاعيف كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} في سورة الحشر، وهي سابقة في النزول على هذه السورة فإنها معدودة الثانية والمائة، وسورة الحجرات معدودة الثامنة والمائة من السور. وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار حين وروده المدينة وذلك مبدأ الإخاء بين المسلمين. وفي الحديث لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام أفضل.
وفي باب تزويج الصغار من الكبار من صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة من أبي بكر. فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك فقال: "أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال.وفي حديث صحيح مسلم "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" وفي الحديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" أي يحب للمسلم ما يحب لنفسه.
فأشارت جملة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} إلى وجه وجوب الإصلاح بين الطائفتين المتباغيتين منهم ببيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من النسب الموحى ما لا ينقص عن نسب الأخوة الجسدية على نحو قول عمر بن الخطاب للمرأة التي شكت إليه حاجة أولادها وقالت: أنا بنت خفاف بن أيماء، وقد شهد أبي مع رسول الله الحديبية فقال عمر مرحبا بنسب قريب ولما كان المتعارف بين الناس أنه إذا نشبت مشاقة بين الأخوين لزم بقية الإخوة أن يتناهضوا في إزاحتها مشيا بالصلح بينهما فكذلك شأن المسلمين إذا حدث شقاق بين طائفتين منهم أن ينهض سائرهم بالسعي بالصلح بينهما وبث السفراء إلى أن يرقعوا ما وهي، ويرفعوا ما أصاب ودهى.

وتفريع الأمر بالإصلاح بين الأخوين، على تحقيق كون المؤمنين إخوة تأكيد لما دلت عليه {إنما} من التعليل فصار الأمر بالإصلاح الواقع ابتداء دون تعليل في قوله {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} وقوله {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} قد أردف بالتعليل فحصل تقريره، ثم عقب بالتفريع فزاده تقريرا.
وقد حصل من هذا النظم ما يشبه الدعوى وهي كمطلوب القياس، ثم ما يشبه الاستدلال بالقياس، ثم ما يشبه النتيجة.
ولما تقرر معنى الأخوة بين المؤمنين كمال التقرر عدل عن أن يقول: فأصلحوا بين الطائفتين، إلى قوله {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فهو وصف جديد نشأ عن قوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فتعين إطلاقه على الطائفتين فليس هذا من وضع الظاهر موضع الضمير فتأمل.
وأوثرت صيغة التثنية في قوله {أخويكم} مراعاة لكون الكلام جار على طائفتين من المؤمنين فجعلت كل طائفة كالأخ للأخرى. وقرأ الجمهور {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} بلفظ تثنية الأخ، أي بين الطائفة والأخرى مراعاة لجريان الحديث على اقتتال طائفتين. وقرأ الجمهور {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} بلفظ تثنية الأخ على تشبيه كل طائفة بأخ. وقرأ يعقوب {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} بتاء فوقية بعد الواو على أنه جمع أخ باعتبار كل فرد من الطائفتين كالأخ.
والمخاطب بقوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} جميع المؤمنين فيشمل الطائفتين الباغية والمبغي عليها، ويشمل غيرهما ممن أمروا بالإصلاح بينهما ومقاتلة الباغية، فتقوى كل بالوقوف عند ما أمر الله به كلا مما يخصه، وهذا يشبه التذييل. ومعنى {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} : ترجى لكم الرحمة من الله فتجري أحوالكم على استقامة وصلاح. وإنما اختيرت الرحمة لأن الأمر بالتقوى واقع إثر تقرير حقيقة الأخوة بين المؤمنين وشأن تعامل الإخوة الرحمة فيكون الجزاء عليها من جنسها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ}

لما اقتضت الأخوة أن تحسن المعاملة بين الأخوين كان ما تقرر من إيجاب معاملة الإخوة بين المسلمين يقتضي حسن المعاملة بين آحادهم، فجاءت هذه الآيات منبهة على أمور من حسن المعاملة قد تقع الغفلة عن مراعاتها لكثرة تفشيها في الجاهلية لهذه المناسبة، وهذا نداء رابع أريد بما بعده أمر المسلمين بواجب بعض المجاملة بين أفرادهم.
وعن الضحاك: أن المقصود بنو تميم إذ سخروا من بلال وعمار وصهيب، فيكون لنزول الآية سبب متعلق بالسبب الذي نزلت السورة لأجله وهذا من السخرية المنهي عنها.
وروى الواحدي عن ابن عباس أن سبب نزولها: أن ثابت بن قيس بن شماس كان في سمعه وقر وكان إذا أتى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أوسعوا له ليجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فجاء يوما يتخطى رقاب الناس فقال رجل: قد أصبت مجلسا فاجلس. فقال ثابت: من هذا? فقال الرجل: أنا فلان. فقال ثابت: ابن فلانة وذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية، فاستحيا الرجل. فأنزل الله هذه الآية ، فهذا من اللمز.وروي عن عكرمة: أنها نزلت لما عيرت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة بالقصر ، وهذا من السخرية. وقيل: عير بعضهن صفية بأنها يهودية، وهذا من اللمز في عرفهم.
وافتتحت هذه الآيات بإعادة النداء للاهتمام بالغرض فيكون مستقلا غير تابع حسبما تقدم من كلام الفخر. وقد تعرضت الآيات الواقعة عقب هذا النداء لصنف مهم من معاملة المسلمين بعضهم لبعض مما فشا في الناس من عهد الجاهلية التساهل فيها. وهي من إساءة الأقوال ويقتضي النهي عنها الأمر بأضدادها. وتلك المنهيات هي السخرية واللمز والنبز.
والسخر، ويقال السخرية: الاستهزاء، وتقدم في قوله {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} في سورة براءة،[79] وتقدم وجه تعديته ب"من".
والقوم: اسم جمع: جماعة الرجال خاصة دون النساء، قال زهير:
وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء?
وتنكير {قوم} في الموضعين لإفادة الشياع، لئلا يتوهم نهي قوم معينين سخروا من قوم معينين.
وإنما أسند {يسخر} إلى {قوم} دون أن يقول: لا يسخر بعضكم من بعض كما قال {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات: 12] للنهي عما كان شائعا بين العرب من

سخرية القبائل بعضها من بعض فوجه النهي إلى الأقوام. ولهذا أيضا لم يقل: لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة. ويفهم منه النهي عن أن يسخر أحد من أحد بطريق لحن الخطاب. وهذا النهي صريح في التحريم.
وخص النساء بالذكر مع أن القوم يشملهم بطريق التغليب العرفي في الكلام، كما يشمل لفظ {المؤمنين} المؤمنات في اصطلاح القرآن بقرينة مقام التشريع، فأن أصله التساوي في الأحكام إلا ما اقتضى الدليل تخصيص أحد الصنفين به دفعا لتوهم تخصيص النهي بسخرية الرجال إذ كان الاستسخار متأصلا في النساء، فلأجل دفع التوهم الناشئ من هذين السيئين على نحو ما تقدم في قوله من آية القصاص {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} في سورة البقرة.[178]
وجملة {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} مستأنفة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين تفيد المبالغة في النهي عن السخرية بذكر حالة يكثر وجودها في المسخورية، فتكون سخرية الساخر أفظع من الساخر، ولأنه يثير انفعال الحياء في نفس الساخرة بينه وبين نفسه. وليست جملة {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} صفة لقوم من قوله {من قوم} وإلا لصار النهي عن السخرية خاصا بما إذا كان المسخور به مظنة أنه خير من الساخر، وكذلك القول في جملة {عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} وليست صفة ل {نساء} من قوله {من نساء} .
وتشابه الضميرين في قوله {أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ}وفي قوله {أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} لا لبس فيه لظهور مرجع كل ضمير، فهو كالضمائر في قوله تعالى {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} في سورة الروم،[9] وقول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
{وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}
اللمز: ذكر ما يعده الذاكر عيبا لأحد مواجهة فهو المباشرة بالمكروه. فإن كان بحق فهو وقاحة واعتداء، وإن كان باطلا فهو وقاحة وكذب، وكان شائعا بين العرب في جاهليتهم قال تعالى {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] يعني نفرا من المشركين كان دأبهم لمز رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون بحالة بين الإشارة والكلام بتحريك الشفتين بكلام خفي يعرف منه المواجه به أنه يذم أو يتوعد، أو يتنقص باحتمالات كثيرة، وهو غير النبز وغير الغيبة.

وللمفسرين وكتب اللغة اضطراب في شرح معنى اللمز وهذا الذي ذكرته هو المنخول من ذلك.
ومعنى {لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} لا يلمز بعضكم بعضا فنزل البعض الملموز نفسا للامزه لتقرر معنى الأخوة، وقد تقدم نظيره عند قوله {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} في سورة البقرة. [48]
والتنابز: نبز بعضهم بعضا، والنبز بسكون الباء: ذكر النيز بتحريك الباء وهو اللقب السوء، كقولهم: أنف الناقة، وقرقور، وبطة، وكان غالب الألقاب في الجاهلية نبزا. قال بعض الفزاريين:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسوأة اللقب
روي برفع السوأة اللقب فيكون جريا على الأغلب عندهم في اللقب وأنه سوأة. ورواه ديوان الحماسة بنصب السوأة على أن الواو واو المعية. وروي بالسوأة اللقبا أي لا ألقبه لقبا ملابسا للسوءة فيكون أراد تجنب بعض اللقب وهو ما يدل على سوء. ورواية الرفع أرجح وهي التي يقتضيها استشهاد سيبويه ببيت بعده في باب ظن. ولعل ما وقع في ديوان الحماسة من تغييرات أبي تمام التي نسب إليه بعضها في بعض أبيات الحماسة لأنه رأى النصب أصح معنى.
فالمراد ب {الألقاب} في الآية الألقاب المكروهة بقرينة {وَلا تَنَابَزُوا}
واللقب ما أشعر بخسة أو شرف سواء كان ملقبا به صاحبه أم اخترعه له النابز له.
وقد خصص النهي في الآية ب {الألقاب} التي لم يتقادم عهدها حتى صارت كالأسماء لأصحابها وتنوسي منها قصد الذم والسب خص بما وقع في كثير من الأحاديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم "أصدق ذو اليدين" ، وقوله لأبي هريرة "يا أبا هر" ، ولقب شاول ملك إسرائيل في القرآن طالوت، وقول المحدثين الأعرج لعبد الرحمان بن هرمز، والأعمش لسليمان من مهران.
وإنما قال {لا تَلْمِزُوا} بصيغة الفعل الواقع من جانب واحد وقال {لا تَلْمِزُوا} بصيغة الفعل الواقع من جانبين، لأن اللمز قليل الحصول فهو كثير في الجاهلية في قبائل كثيرة منهم بنو سلمة بالمدينة قاله ابن عطية.
{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}

تذييل للمنهيات المتقدمة وهو تعريض قوي بأن ما نهوا عنه فسوق وظلم، إذ لا مناسبة بين مدلول هذه الجملة وبين الجمل التي قبلها لولا معنى التعريض بأن ذلك فسوق وذلك مذموم ومعاقب عليه فدل قوله {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} ، على أن ما نهوا عنه مذموم لأنه فسوق يعاقب عليه ولا تزيله إلا التوبة فوقع إيجاز بحذف جملتين في الكلام اكتفاء بما دل عليه التذييل، وهذا دال على أن اللمز والتنابز معصيتان لأنهما فسوق. وفي الحديث سباب المسلم فسوق.
ولفظ {الاسم} هنا مطلق على الذكر، أي التسمية، كما يقال: طار اسمه في الناس بالجود أو باللؤم. والمعنى: بئس الذكر أن يذكر أحد بالفسوق بعد أن وصف بالإيمان.
وإيثار لفظ الاسم هنا من الرشاقة بمكان لأن السياق تحذير من ذكر الناس بالأسماء الذميمة إذ الألقاب أسماء فكان اختيار لفظ الاسم للفسوق مشاكلة معنوية.
ومعنى البعدية في قوله {بَعْدَ الْأِيمَانِ} بعد الاتصاف بالإيمان، أي أن الإيمان لا يناسبه الفسوق لأن المعاصي من شأن أهل الشرك الذين لا يزعهم عن الفسوق وازع، وهذا كقول جميلة بنت أبي حين شكت للنبي صلى الله عليه وسلم أنها تكره زوجها ثابت بن قيس وجاءت تطلب فراقه: لا أعيب على ثابت في دين ولا في خلق ولكني أكره الكفر بعد الإسلام تريد التعريض بخشية الزنا وإني لا أطيقه بغضا.
وإذ كان كل من السخرية واللمز والتنابز معاصي فقد وجبت التوبة منها فمن لم يتب فهو ظالم: لأنه ظلم الناس بالاعتداء عليهم، وظلم نفسه بأن رضي لها عقاب الآخرة مع التمكن من الإقلاع عن ذلك فكان ظلمه شديدا جدا. فلذلك جيء له بصيغة قصر الظالمين عليهم كأنه لا ظالم غيرهم لعدم الاعتداد بالظالمين الآخرين في مقابلة هؤلاء على سبيل المبالغة ليزدجروا. والتوبة واجبة من كل ذنب وهذه الذنوب المذكورة مراتب وإدمان الصغائر كبيرة.
وتوسيط اسم الإشارة لزيادة تمييزهم تفظيعا لحالهم وللتنبيه، بل إنهم استحقوا قصر الظلم عليهم لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}
أعيد النداء خامس مرة لاختلاف الغرض والاهتمام به. وذلك أن المنهيات المذكورة بعد هذا النداء من جنس المعاملات السيئة الخفية التي لا يتفطن لها من عومل بها فلا يدفعها فما يزيلها من نفس من عامله بها.
ففي قوله تعالى {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} تأديب عظيم يبطل ما كان فاشيا في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد، والاغتيالات، والطعن في الأنساب، والمبادأة بالقتال حذرا من اعتداء مظنون ظنا باطلا، كما قالوا خذ اللص قبل أن يأخذك
وما نجمت العقائد الضالة والمذاهب الباطلة إلا من الظنون الكاذبة قال تعالى {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: من الآية154] وقال {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20]
وقال {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: من الآية148] ثم قال {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: من الآية148].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث". ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة، فوجب التمحيص والفحص لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق.
والمراد ب{الظن} هنا: الظن المتعلق بأحوال الناس وحذف المتعلق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم. وجملة {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} استئناف بياني لأن قوله {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} يستوقف السامع ليتطلب البيان فأعلموا أن بعض الظن جرم، وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون ليعرضوا ما تفضي اليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة، أو ليسألوا أهل العلم على أن هذا البيان الاستئنافي يقتصر على التخويف من الوقوع في الإثم. وليس هذا البيان توضيحا لأنواع الكثير من الظن المأمور باجتنابه، لأنها أنواع كثيرة فنبه على عاقبتها وترك التفصيل لأن في إبهامه بعثا على مزيد الاحتياط.
ومعنى كونه إثما أنه: إما أن ينشأ على ذلك الظن عمل أو مجرد اعتقاد، فإن كان قد ينشأ عليه عمل من قول أو فعل كالاغتياب والتجسس وغير ذلك فليقدر الظان أن ظنه

كاذب ثم لينظر بعد في عمله الذي بناه عليه فيجده قد عامل به من لا يستحق تلك المعاملة من اتهامه بالباطل فيأثم مما طوى عليه قلبه لأخيه المسلم، وقد قال العلماء: إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز. وإن لم ينشأ عليه إلا مجرد اعتقاد دون عمل فليقدر أن ظنه كان مخطئا يجد نفسه قد اعتقد في أحد ما ليس به، فإن كان اعتقادا في صفات الله فقد افترى على الله وإن كان اعتقادا في أحوال الناس فقد خسر الانتفاع بمن ظنه ضارا، أو الاهتداء بمن ظنه ضالا، أو تحصيل العلم ممن ظنه جاهلا ونحو ذلك.
ووراء ذلك فالظن الباطل إذا تكررت ملاحظته ومعاودة جولانه في النفس قد يصير علما راسخا في النفس فتترتب عليه الآثار بسهولة فتصادف من هو حقيق بضدها كما تقدم في قوله تعالى {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: من الآية6].
والاجتناب: افتعال من جنبه وأجنبه، إذا أبعده، أي جعله جانبا آخر، وفعله يعدى إلى مفعولين، يقال: جنبه الشر، قال تعالى {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [ابراهيم: من الآية35]. ومطاوعه اجتنب، أي ابتعد، ولم يسمع له فعل أمر إلا بصيغة الافتعال.
ومعنى الأمر باجتناب كثير من الظن الأمر بتعاطي وسائل اجتنابه فإن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطرارا عن غير اختيار، فلا يعقل التكليف باجتنابه وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه وتمحيصه والتشكك في صدقه إلى أن يتبين موجبه بدون تردد أو برجحان أو يتبين كذبه فتكذب نفسك فيما حدثتك. وهذا التحذير يراد منه مقاومة الظنون السيئة بما هو معيارها من الأمارات الصحيحة. وفي الحديث إذا ظننتم فلا تحققوا على أن الظن الحسن الذي لا مستند له غير محمود لأنه قد يوقع فيما لا يجد ضره من اغترار في محل الحذر ومن اقتداء بمن ليس أهلا للتأسي. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية حين مات في بيتها عثمان بن مظعون وقال رحمة الله عليك أبا السايب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله وما يدريك أن الله أكرمه. فقالت: يا رسول الله ومن يكرمه الله? فقال: "أما هو فقد جاءه اليقين وإني أرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي". فقالت أم عطية: والله لا أزكي بعده أحدا.
وقد علم من قوله {كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} وتبيينه بأن بعض الظن إثم أن بعضا من الظن ليس إثما وأنا لم نؤمر باجتناب الظن الذي ليس بإثم لأن {كثيرا} وصف، فمفهوم المخالفة منه يدل على أن كثيرا من الظن لم نؤمر باجتنابه وهو الذي يبينه {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} أي أن بعض الظن ليس إثما، فعلى المسلم أن يكون معياره في تمييز أحد الظنيين من

الآخر أن يعرضه على ما بينته الشريعة في تضاعيف أحكامها من الكتاب والسنة وما أجمعت عليه علماء الأمة وما أفاده الاجتهاد الصحيح وتتبع مقاصد الشريعة، فمنه ظن يجب اتباعه كالحذر من مكائد العدو في الحرب، وكالظن المستند إلى الدليل الحاصل من دلالة الأدلة الشرعية، فإن أكثر التفريعات الشرعية حاصلة من الظن المستند إلى الأدلة. وقد فتح مفهوم هذه الآية باب العمل بالظن غير الإثم إلا أنها لا تقوم حجة إلا على الذين يرون العمل بمفهوم المخالفة وهو أرجح الأقوال فإن معظم دلالات اللغة العربية على المفاهيم كما تقرر في أصول الفقه.
وأما الظن الذي هو فهم الإنسان وزكانته فذلك خاطر في نفسه وهو أدرى فمعتاده منه من إصابة أو ضدها قال أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
{وَلا تَجَسَّسُوا}
التجسس من آثار الظن لأن الظن يبعث عليه حين تدعو الظان نفسه إلى تحقيق ما ظنه سرا فيسلك طريق التجنيس فحذرهم الله من سلوك هذا الطريق للتحقق ليسلكوا غيره إن كان في تحقيق ما ظن فائدة.
والتجسس: البحث بوسيلة خفية وهو مشتق من الجس، ومنه سمي الجاسوس.
والتجسس من المعاملة الخفية عن المتجسس عليه. ووجه النهي عنه أنه ضرب من الكيد والتطلع على العورات. وقد يرى المتجسس من المتجسس عليه ما يسوءه فتنشأ عنه العداوة والحقد. ويدخل صدره الحرج والتخوف بعد أن كانت ضمائره خالصة طيبة وذلك من نكد العيش.
وذلك ثلم للأخوة الإسلامية لأنه يبعث على إظهار التنكر ثم إن اطلع المتجسس عليه على تجسس الآخر ساءه فنشأ في نفسه كره له وانثلمت الأخوة ثلمة أخرى كما وصفنا في حال المتجسس، ثم يبعث ذلك على انتقام كليهما من أخيه.
وإذ قد اعتبر النهي عن التجسس من فروع النهي عن الظن فهو مقيد بالتجسس الذي هو إثم أو يفضي إلى الإثم، وإذا علم أنه يترتب عليه مفسدة عامة صار التجسس كبيرة. ومنه التجسس على المسلمين لمن يبتغي الضر بهم.
فالمنهي عنه هو التجسس الذي لا ينجر منه نفع للمسلمين أو دفع ضر عنهم فلا

يشمل التجسس على الأعداء ولا تجسس الشرط على الجناة واللصوص.
{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}
الاغتياب: افتعال من غابه المتعدي، إذا ذكره في غيبه بما يسوءه.
فالاغتياب ذكر أحد غائب بما لا يحب أن يذكر به، والاسم منه الغيبة بكسر الغين مثل الغيلة. وإنما يكون ذكره بما يكره غيبه إذا لم يكن ما ذكره به مما يثلم العرض وإلا صار قذعا.
وإنما قال {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} دون أن يقول: اجتنبوا الغيبة. لقصد التوطئة للتمثيل الوارد في قوله {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} لأنه لما كان ذلك التمثيل مشتملا على جانب فاعل الاغتياب ومفعوله مهد له بما يدل على ذاتين لأن ذلك يزيد التمثيل وضوحا.
والاستفهام في {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} تقريري لتحقق أن كل أحد يقر بأنه لا يحب ذلك، ولذلك أجيب الاستفهام بقوله {فكرهتموه} .
وإنما لم يرد الاستفهام على نفي محبة ذلك بأن يقال: ألا يحب أحدكم، كما هو غالب الاستفهام التقريري، إشارة إلى تحقق الإقرار المقرر عليه بحيث يترك للمقرر مجالا لعدم الإقرار ومع ذلك لا يسعه إلا الإقرار. مثلت الغيبة بأكل لحم الأخ الميت وهو يستلزم تمثيل المولوع بها بمحبة أكل لحم الأخ الميت، والتمثيل مقصود منه استفظاع الممثل وتشويهه لإفادة الإغلاظ على المغتابين لأن الغيبة متفشية في الناس وخاصة في أيام الجاهلية.
فشبهت حالة اغتياب المسلم من هو أخوه في الإسلام وهو غائب بحالة أكل لحم أخيه وهو ميت لا يدافع عن نفسه، وهذا التمثيل للهيئة قابل للتفريق بأن يشبه الذي اغتاب بآكل لحم، ويشبه الذي اغتيب بأخ، وتشبه غيبته بالموت.
والفاء في قوله {فكرهتموه} فاء الفصيحة، وضمير الغائب عائد إلى {أحدكم} ، أو يعود إلى {لحم} .
والكراهة هنا: الاشمئزاز والتقذر. والتقدير: إن وقع هذا أو إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه.

وفاء الفصيحة تفيد الإلزام بما بعدها كما صرح به الزمخشري في قوله تعالى {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} في سورة الفرقان، أي تدل على أن لا مناص للمواجه بها من التزام مدلول جواب شرطها المحذوف.
والمعنى: فتعين إقراركم بما سئلتم عنه من الممثل به إذ لا يستطاع جحده تحققت كراهتكم له وتقذركم منه، فليتحقق أن تكرهوا نظيره الممثل وهو الغيبة فكأنه قيل: فاكرهوا الممثل كما كرهتم الممثل به.
وفي هذا الكلام مبالغات: منها الاستفهام التقريري الذي لا يقع إلا على أمر مسلم عند المخاطب فجعلك للشيء في حيز الاستفهام التقريري يقتضي أنك تدعي أنه لا ينكره المخاطب.
ومنها جعل ما هو شديد الكراهة للنفس مفعولا لفعل المحبة للإشعار بتفظيع حالة ما شبه به وحالة من ارتضاه لنفسه فلذلك لم يقل: أيتحمل أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا، بل قال {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ}
ومنها إسناد الفعل إلى {أحد} للإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك.
ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخا.
ومنها أنه لم يقتصر على كون المأكول لحم الأخ حتى جعل الأخ ميتا.
وفيه من المحسنات الطباق بين {أيحب} وبين {فكرهتموه} .
والغيبة حرام بدلالة هذه الآية وآثار من السنة بعضها صحيح وبعضها دونه.
وذلك أنها تشتمل على مفسدة ضعف في أخوة الإسلام. وقد تبلغ الذي اغتيب فتقدح في نفسه عداوة لمن اغتابه فينثلم بناء الأخوة، ولأن فيها الاشتغال بأحوال الناس وذلك يلهي الإنسان عن الاشتغال بالمهم النافع له وترك ما لا يعنيه.
وهي عند المالكية من الكبائر وقل من صرح بذلك، لكن الشيخ عليا الصعيدي في حاشية الكفاية صرح بأنها عندنا من الكبائر مطلقا. ووجهه أن الله نهى عنها وشنعها. ومقتضى كلام السجلماسي في كتاب العمل الفاسي أنها كبيرة.
وجعلها الشافعية من الصغائر لأن الكبيرة في اصطلاحهم فعل يؤذن بقلة اكتراث فاعله بالدين ورقة الديانة كذا حدها إمام الحرمين.

فإذا كان ذلك لوجه مصلحة مثل تجريح الشهود ورواة الحديث وما يقال للمستشير في مخالطة أو مصاهرة فإن ذلك ليس بغيبة، بشرط أن لا يتجاوز الحد الذي يحصل به وصف الحالة المسؤول عنها.
وكذلك لا غيبة في فاسق بذكر فسقه دون مجاهرة له به. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما استؤذن عنده لعيينة بن حصن "بئس أخو العشيرة" ليحذره من سمعه إذ كان عيينة يومئذ منحرفا عن الإسلام.
وعن الطبري صاحب العدة في فروع الشافعية أنها صغيرة، قال المحلي وأقره الرافعي ومن تبعه. قلت: وذكر السجلماسي في نظمه في المسائل التي جرى بها عمل القضاة في فاس فقال:
ولا تجرح شاهدا بالغيبه ... لأنها عمت بها المصيبه
وذكر في شرحه: أن القضاة عملوا بكلام الغزالي.
وأما عموم البلوى فلا يوجب اغتفار ما عمت به إلا عند الضرورة والتعذر كما ذكر ذلك عن أبي محمد بن أبي زيد.
وعندي: أن ضابط ذلك أن يكثر في الناس كثرة بحيث يصير غير دال على استخفاف بالوازع الديني فحينئذ يفارقها معنى ضعف الديانة الذي جعله الشافعية جزءا من ماهية الغيبة.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
عطف على جمل الطلب السابقة ابتداء من قوله {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} وهذا كالتذييل لها إذ أمر بالتقوى وهي جماع الاجتناب والامتثال فمن كان سالما من التلبس بتلك المنهيات فالأمر بالتقوى يجنبه التلبس بشيء منها في المستقبل، ومن كان متلبسا بها أو ببعضها فالأمر بالتقوى يجمع الأمر بالكف عما هو متلبس به منها.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} تذييل للتذييل لأن التقوى تكون بالتوبة بعد التلبس بالإثم فقيل {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} وتكون التقوى ابتداء فيرحم الله المتقي، فالرحيم شامل للجميع.
[13] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ

أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه، وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض، إذ كان إعجاب كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشيا في الجاهلية كما ترى بقيته في شعر الفرزدق وجرير، وكانوا يحقرون بعض القبائل مثل باهلة، وضبيعة، وبني عكل.
سئل أعرابي: أتحب تدخل الجنة وأنت باهلي فأطرق حينا ثم قال: على شرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي. فكان ذلك يجر إلى الإحن والتقاتل وتتفرع عليه السخرية واللمز والنبز والظن والتجسس والاغتياب الواردة فيها الآيات السابقة، فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود إذ كثر الداخلون في الإسلام.
فعن أبي داود أنه روى في كتابه المراسيل عن الزهري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة من الأنصار أن يزوجوا أبا هند مولى بني بياضة قيل اسمه يسار امرأة منهم فقالوا: تزوج بناتنا موالينا، فأنزل الله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً} الآية. وروي غير ذلك في سبب نزولها.
ونودوا بعنوان {الناس} دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صدر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل والى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى فقيل {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} .
فمن أقدم على القول بأن هذه الآية نزلت في مكة دون بقية السورة اغتر بأن غالب الخطاب ب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إنما كان في المكي.
والمراد بالذكر والأنثى: آدم وحواء أبوا البشر، بقرينة قوله {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}
ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنتم بنو آدم وآدم من تراب" كما سيأتي قريبا. فيكون تنوين "ذكر وأنثى" لأنهما وصفان لموصوف فقرر، أي من أب ذكر ومن أم أنثى.
ويجوز أن يراد ب {ذَكَرٍ وَأُنْثَى} . صنف الذكر والأنثى، أي كل واحد مكون من صنف الذكر والأنثى.

وحرف "من" على كلا الاحتمالين للابتداء.
والشعوب: جمع شعب بفتح الشين وهو مجمع القبائل التي ترجع إلى جد واحد من أمة مخصوصة وقد يسمى جذما، فالأمة العربية تنقسم إلى شعوب كثيرة فمضر شعب، وربيعة شعب، وأنمار شعب، وإياد شعب، وتجمعها الأمة العربية المستعربة، وهي عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام، وحمير وسبأ، والأزد شعوب من أمة قحطان. وكنانة وقيس وتميم قبائل من شعب مضر. ومذحج، وكندة قبيلتان من شعب سبأ. والأوس والخزرج قبيلتان من شعب الأزد.
وتحت القبيلة العمارة مثل قريش من كنانة، وتحت العمارة البطن مثل قصي من قريش، وتحت البطن الفخذ مثل هاشم وأمية من قصي، وتحت الفخذ الفصيلة مثل أبي طالب والعباس وأبي سفيان.
واقتصر على ذكر الشعوب والقبائل لأن ما تحتها داخل بطريق لحن الخطاب.
وتجاوز القرآن عن ذكر الأمم جريا على المتداول في كلام العرب في تقسيم طبقات الأنساب إذ لا يدركون إلا أنسابهم.
وجعلت علة جعل الله إياه شعوبا وقبائل. وحكمته من هذا الجعل أن يتعارف الناس، أي يعرف بعضهم بعضا.
والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجا إلى الأعلى، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون والبطون مع العمائر، والعمائر مع القبائل، والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها.
فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاما محكما لربط أو اصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل ثم بينه وبين جماعات أكثر. وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم.
والمقصود: أنكم حرفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بسبب تناكر وتطاحن وعدوان.

ألا ترى إلى قول الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
وقول العقيلي وحاربه بنو عمه فقتل منهم:
ونبكي حين نقتلكم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي
وقول الشميذر الحارثي:
وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا ... بني عمنا لو كان أمرا مدانيا
وأقوالهم في هذا لا تحصر عدا ما دون ذلك من التفاخر والتطاول والسخرية واللمز والنبز وسوء الظن والغيبة مما سبق ذكره.
وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة.
ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يغين على نورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتجسس والغيبة، ذكرهم بأصل الأخوة في الانسياب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الاعتقاد ليكون ذلك التذكير عونا على تبصرهم في حالهم، ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعته الحكمة الإلهية فاستعملوه في فاسد لوازمه وأهملوا صالح ما جعل له بقوله {لتعارفوا} ثم وأتبعه بقوله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أي فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى كما قال تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: من الآية26].
والخبر في قوله {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين. والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فتلك الجملة تتنزل من جملة {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} منزلة المقصد من المقدمة والنتيجة من القياس ولذلك فصلت لأنها بمنزلة البيان.

وأما جملة {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} فهي معترضة بين الجملتين الأخريين.
والمقصود من اعتراضها: إدماج تأديب آخر من واجب بث التعارف والتواصل بين القبائل والأمم وأن ذلك مراد الله منهم.
ومن معنى الآية ما خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذ قال "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وأن أباكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى".
ومن نمط نظم الآية وتبيينها ما رواه الترمذي في تفسير هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها لا لآباء الناس مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب". وفي رواية أن ذلك مما خطب به يوم فتح مكة عبية بضم العين المهملة وبكسرها وبتشديد الموحدة المكسورة ثم تشديد المثناة التحتية: الكبر والفخر. ووزنهما على لغة ضم الفاء فعولة وعلى لغة كسر الفاء فعلية، وهي إما مشتقة من التعبية فتضعيف الباء لمجرد الإلحاق مثل نض الثوب بمعنى نضى أو مشتقة من عباب الماء فالتضعيف في الباء أصلي.
وفي رواية ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عمر طاف رسول الله يوم فتح مكة ثم خطبهم في بطن المسيل فذكر الحديث وزاد فيه أن الله يقول {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} إلى {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
وجملة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا وإنما أخرت في النظم عن جملة إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة لأنهم لما تساووا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أن لا يفضل بعضهم بعضا إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في الكرم ب {عِنْدَ اللَّهِ} إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به.
والمراد بالأكرم: الأنفس والأشرف، كما تقدم بيانه في قوله {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل. [29]
والأتقى: الأفضل في التقوى وهو اسم تفضيل صيغ من اتقى على غير قياس.

وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} تعليل لمضمون {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أي إنما كان أكرمكم أتقاكم لأن الله عليم بالكرامة الحق وأنتم جعلتم المكارم فيما دون ذلك من البطش وإفناء الأموال في غير وجه وغير ذلك الكرامة التي هي التقوى خبير بمقدار حظوظ الناس من التقوى فهي عنده حظوظ الكرامة فلذلك الأكرم هو الأتقى، وهذا كقوله {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: من الآية32] أي هو أعلم بمراتبكم في التقوى، أي التي هي التزكية الحق. ومن هذا الباب قوله {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]
علم أن قوله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} لا ينافي ان تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مماشأنه أن يكون له أثر تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعرافة في العلم والحضارة وحسن السمعة في الأمم وفي الفصائل، وفي العائلات، وكذلك بحسب ما خلده التاريخ الصادق للأمم والأفراد فما يترك آثارا لأفرادها وخلالا في سلائلها قال النبي صلى الله عليه وسلم "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".
فإن في خلق الأنباء آثارا من طباع الآباء الأدنين أو الأعلين تكون مهيئة نفوسهم للكمال أو ضده وأن للتهذيب والتربية آثارا جمة في تكميل النفوس أو تقصيرها وللعوائد والتقاليد آثارها في الرفعة والضعة وكل هذه وسائل لإعداد النفوس إلى الكمال والزكاء الحقيقي الذي تخططه التقوى.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} تذييل، وهو كناية عن الأمر بتزكية نواياهم في معاملاتهم وما يريدون من التقوى بأن الله يعلم ما في نفوسهم ويحاسبهم عليه.
[14] {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
كان من بين الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع المسماة سنة الوفود، وفد بني أسد بن خزيمة وكانوا ينزلون بقرب المدينة، وكان قدومهم المدينة عقب قدوم وفد بني تميم الذي ذكر في أول السورة، ووفد بنو أسد في عدد كثير وفيه ضرار بن الأزور، وطليحة بن عبد الله الذي ادعى النبوة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أيام الردة ، وكانت هذه السنة سنة جدب ببلادهم فأسلموا وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك

محارب خصفة وهوازن وغطفان. يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروحون بهذه المقالة ويمنون عليه ويريدون أن يصرف إليهم الصدقات، فأنزل الله فيهم هذه الآيات الى آخر السورة لوقوع القصتين قصة وفد بني تميم وقصة وفد بني أسد في أيام متقاربة، والأغراض المسكوة بالجفاء متناسبة. وقال السدي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح في قوله تعالى {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} الآية.
قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فنزلت هذه الآية.
والأعراب: سكان البادية من العرب. وأحسب أنه لا يطلق على أهل البادية من غير العرب، وهو اسم جمع لا مفرد له فيكون الواحد منه بياء النسبة أعرابي.
وتعريف {الأعراب} تعريف العهد لأعراب معينين وهم بنو أسد فليس هذا الحكم الذي في الآية حاقا على جميع سكان البوادي ولا قال هذا القول غير بني أسد.
وهم قالوا آمنا حين كانوا في شك لم يتمكن الإيمان منهم فأنبأهم الله بما في قلوبهم وأعلمهم أن الإيمان هو التصديق بالقلب لا بمجرد اللسان لقصد أن يخلصوا ويتمكنوا منه كما بينه عقب هذه الآية بقوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية.
والاستدراك بحرف "لكن" لرفع ما يتوهم من قوله {لم تؤمنوا} أنهم جاؤوا مضمرين الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وإنما قال {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} تعليما لهم بالفرق بين الإيمان والإسلام فإن الإسلام مقره اللسان والأعمال البدنية، وهي قواعد الإسلام الأربعة: الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج الكعبة الوارد في حديث عمر عن سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" فهؤلاء الأعراب لما جاءوا مظهرين الإسلام وكانت قلوبهم غير مطمئنة لعقائد الإيمان لأنهم حديثوا عهد به كذبهم الله في قولهم {آمنا} ليعلموا أنهم لم يخف باطنهم على الله، وأنه لا يتعد بالإسلام إلا إذا قارنه الإيمان، فلا يغني أحدهما بدون الآخر، فالإيمان بدون إسلام عناد، والإسلام بدون إيمان نفاق، ويجمعهما طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وكان مقتضى ظاهر نظم الكلام أن يقال: قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم، أو أن يقال:

قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، ليتوافق المستدرك عنه والاستدراك بحسب النظم المتعارف في المجادلات، فعدل عن الظاهر إلى هذا النظم لأن فيه صراحة بنفي الإيمان عنهم فلا يحسبوا أنهم غالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستغني بقوله {لم تؤمنوا} عن أن يقال لا تقولوا آمنا، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن الإعلان بالإيمان لأنهم مطالبون بأن يؤمنوا ويقولوا آمنا قولا صادقا لا كاذبا فقيل لهم {لم تؤمنوا} تكذيبا لهم مع عدم التصريح بلفظ التكذيب ولكن وقع التعريض لهم بذلك بعد في قوله { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} إلى قوله { أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي لا أنتم ولذلك جيء بالاستدراك محمولا على المعنى.
وعدل عن أن يقال: ولكن أسلمتم إلى {قُولُوا أَسْلَمْنَا} تعريضا بوجوب الصدق في القول ليطابق الواقع، فهم يشعرون بأن كذبهم قد ظهر، وذلك مما يتعير به، أي الشأن أن تقولوا قولا صادقا.
وقوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} واقع موقع الحال من ضمير {لم تؤمنوا} وهو مبين لمعنى نفي الإيمان عنهم في قوله {لم تؤمنوا} بأنه ليس انتفاء وجود تصديق باللسان ولكن انتفاء رسوخه وعقد القلب عليه إذ كان فيهم بقية من ارتياب كما أشعر به مقابلته بقوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}
واستعير الدخول في قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} للتمكن وعدم التزلزل لأن الداخل إلى المكان يتمكن ويستقر بالخارج عنه يكون سريع المفارقة له مستوفزا للانصراف عنه.
و"لما" هذه أخت "لم" وتدل على أن النفي بها متصل بزمان التكلم وذلك الفارق بينها وبين "لم" أختها. وهذه الدلالة على استمرار النفي إلى زمن المتكلم تؤذن غالبا، بأن المنفي بها متوقع الوقوع. قال في الكشاف وما في "لما" من معنى التوقع دالا على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
وهي دلالة من مستتبعات التراكيب. وهذا من دقائق العربية. وخالف فيه أبو حيان، والزمخشري حجة في الذوق لا يدانية أبو حيان، ولهذا لم يكن قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} تكريرا مع قوله {لم تؤمنوا} .

وقوله {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} إرشاد إلى دواء مرض الحال في قلوبهم من ضعف الإيمان بأنه إن يطيعوا الله ورسوله حصل إيمانهم فإن مما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيان عقائد الإيمان بأن يقبلوا على التعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة إقامتهم بالمدينة عوضا عن الاشتغال بالمن والتعريض بطلب الصدقات.
ومعنى {لا يلتكم} لا ينقصكم، يقال: لاته مثل باعه. وهذا في لغة أهل الحجاز وبني أسد، ويقال: ألته ألتا مثل: أمره، وهي لغة غطفان قال تعالى {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} في سورة الطور [21].
وقرأ بالأولى جمهور القراء وبالثانية أبو عمرو ويعقوب. ولأبي عمرو في تحقيق الهمزة فيها وتخفيفها ألفا روايتان فالدوري روى عنه تحقيق الهمزة والسوسي روى عنه تخفيفهما.
وضمير الرفع في {يلتكم} عائد إلى اسم الله ولم يقل: لا يلتاكم بضمير التثنية لأن الله هو متولي الجزاء دون الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: إن أخلصتم الإيمان كما أمركم الله ورسوله تقبل الله أعمالكم التي ذكرتم من أنكم جئتم طائعين للإسلام من غير قتال.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} استئناف تعليم لهم بأن الله يتجاوز عن كذبهم إذا تابوا، وترغيب في إخلاص الإيمان لأن الغفور كثير المغفرة شديدها، ومن فرط مغفرته أنه يجازي على الأعمال الصالحة الواقعة في حالة الكفر غير معتد بها فإذا آمن عاملها جوزي عليها بمجرد إيمانه وذلك من فرط رحمته بعباده.
وترتيب {رحيم} بعد {غفور} لأن الرحمة أصل للمغفرة وشأن العلة أن تورد بعد المعلل بها.
[15] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}
هذا تعليل لقوله {لم تؤمنوا} إلى قوله {فِي قُلُوبِكُمْ} وهو من جملة ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للأعراب، أي ليس المؤمنون إلا الذين آمنوا ولم يخالط إيمانهم ارتياب أو تشكك.

و"إنما" للحصر، و"إن" التي هي جزء منها أيضا للتعليل وقائمة مقام فاء التفريع، أي إنما لم تكونوا مؤمنين لأن الإيمان ينافيه الارتياب.
والقصر إضافي، أي المؤمنون الذين هذه صفاتهم غير هؤلاء الأعراب.
فأفاد أن هؤلاء الأعراب انتفى عنهم الإيمان لأنهم انتفى عنهم مجموع هذه الصفات.
وإذ قد كان القصر إضافيا لم يكن الغرض منه إلا إثبات الوصف لغير المقصور لإخراج المتحدث عنهم عن أن يكونوا مؤمنين، وليس بمقتض أن حقيقة الإيمان لا تتقوم إلا بمجموع تلك الصفات لأن عد الجهاد في سبيل الله مع صفتي الإيمان وانتفاء الريب فيه يمنع من ذلك لأن الذي يقعد عن الجهاد لا ينتفي عنه وصف الإيمان إذ لا يكفر المسلم بارتكاب الكبائر عند أهل الحق. وما عداه خطأ واضح، وإلا لانتقضت جامعة الإسلام بأسرها إلا فئة قليلة في أوقات غير طويلة.
والمقصود من إدماج ذكر الجهاد التنويه بفضل المؤمنين المجاهدين وتحريض الذين دخلوا في الإيمان على الاستعداد إلى الجهاد كما في قوله تعالى {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: من الآية16] الآية.
و"ثم" من قوله {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل. ففي "ثم" إشارة إلى أن انتفاء الارتياب في إيمانهم أهم رتبة من الإيمان إذ به قوام الإيمان، وهذا إيماء إلى بيان قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: من الآية14] أي من أجل ما يخالجكم ارتياب في بعض ما آمنتم به مما اطلع الله عليه.
وقوله {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} قصر، وهو قصر إضافي أيضا، أي هم الصادقون لا أنتم في قولكم {آمنا} .
[16] {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أعيد فعل {قل} ليدل على أن المقول لهم هذا هم الأعراب الذين أمر أن يقول لهم {لم تؤمنوا} إلى آخره، فأعيد لما طال الفصل بين القولين بالجمل المتتابعة، فهذا متصل بقوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} اتصال البيان بالمبين، ولذلك لم تعطف جملة الاستفهام.

وجملة {قل} معترضة بين الجملتين المبينة والمبينة.
قيل: إنهم لما سمعوا قوله تعالى {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} الآية جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحلفوا أنهم مؤمنون فنزل قوله {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} ولم يرو بسند معروف وإنما ذكره البغوي تفسيرا ولو كان كذلك لوبخهم الله على الإيمان الكاذبة كما وبخ المنافقين في سورة براءة {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية. ولم أر ذلك بسند مقبول، فهذه الآية مما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم.
والتعليم مبالغة في إيصال العلم إلى المعلم لأن صيغة التفعيل تقتضي قوة في حصول الفعل كالتفريق والتفسير، يقال: أعلمه وعلمه كما يقال: أنباه ونبأه. وهذا يفيد أنهم تكلفوا وتعسفوا في الاستدلال على خلوص إيمانهم ليقنعوا به الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أبلغهم أن الله نفى عنهم رسوخ الإيمان بمحاولة إقناعه تدل إلى محاولة إقناع الله بما يعلم خلافه.
وباء {بدينكم} زائدة لتأكيد لصوق الفعل بمفعوله كقوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} وقول النابغة:
لك الخيران وارت بك الأرض واحدا
والاستفهام في {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} مستعمل في التوبيخ وقد أيد التوبيخ بجملة الحال في قوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}
وفي هذا تجهيل إذ حاولوا إخفاء باطنهم عن المطلع على كل شيء.
وجملة {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل لأن {كُلِّ شَيْءٍ} أعم من {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فإن الله يعلم صفاته ويعلم الموجودات التي هي أعلى من السماوات كالعرش.
[17] {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
استئناف ابتدائي أريد به إبطال ما أظهره بنو أسد للنبي صلى الله عليه وسلم من مزيتهم إذ أسلموا من دون إكراه بغزو.
والمن: ذكر النعمة والإحسان ليراعيه المحسن إليه للذاكر، وهو يكون صريحا مثل قول سبرة بن عمرو الفقعسي:

أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلم ... وقد سال من ذل عليك قراقر
ويكون بالتعريض بأن يذكر المان من معاملته مع المنون عليه ما هو نافعه مع قرينة تدل على أنه لم يرد مجرد الإخبار مثل قول الراعي مخاطبا عبد الملك بن مروان:
فآزرت آل أبي خبيب وافدا ... يوما أريد لبيعتي تبديلا
أبو خبيب: كنية عبد الله بن الزبير.
وكانت مقالة بني أسد مشتملة على النوعين من المن لأنهم قالوا ولم نقاتلك كما قاتلك محارب وغطفان وهوازن وقالوا وجئناك بالأثقال والعيال.
و {أَنْ أَسْلَمُوا} منصوب بنزع الخافض وهو باء التعدية، يقال: من عليه بكذا، وكذلك قوله {لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} إلا أن الأول مطرد مع {أن} و"أن" والثاني سماعي وهو كثير.
وهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم آمنا كما حكاه الله آنفا، وسماه هنا إسلاما لقوله {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: من الآية14] أي أن منوا به عليك إسلام لا إيمان.
وأثبت بحرف {بل} أن ما منوا به إن كان إسلاما حقا موافقا للإيمان فالمنة لله لأن هداهم إليه فأسلموا عن طواعية.
وسماه الآن إيمانا مجاراة لزعمهم لأن المقام مقام كون المنة لله فمناسبة مسابرة زعمهم أنهم آمنوا، أي لو فرض أنكم آمنتم كما تزعمون فإن إيمانكم نعمة أنعم الله بها عليكم.
ولذلك ذيله بقوله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فنفى أولا أن يكون ما يمنون به حقا، ثم أفاد ثانيا أن يكون الفضل فيما ادعوه لهم لو كانوا صادقين بل هو فضل الله.
وقد أضيف إسلام إلى ضميرهم لأنهم أتوا بما يسمى إسلاما لقوله {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}
وأتي بالإيمان معرفا بلام الجنس لأنه حقيقة في حد ذاته وأنهم ملابسوها.
وجيء بالمضارع في {يمنون} مع أن منهم بذلك حصل فيما مضى لاستحضار حالة منهم كيف يمنون بما لم يفعلوا مثل المضارع في قوله تعالى {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} في سورة البقرة.[212]
وجيء بالمضارع في قوله {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} لأنه من مفروض لأن الممنون به لما يقع.
وفيه من الإيذان بأنه سيمن عليهم بالإيمان ما في قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] وهذا من التفنن البديع في الكلام ليضع السامع مع كل فن منه في قراره، ومثلهم من يتفطن لهذه الخصائص.

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة التقوية مثل: هو يعطي الجزيل، كما مثل به عبد القاهر.
[18] {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
ذيل تقويمهم على الحق بهذا التذييل ليعلموا أن الله لا يكتم، وأنه لا يكذب، لأنه يعلم كل غائبة في السماء والأرض فإنهم كانوا في الجاهلية لا تخطر ببال كثير منهم أصول الصفات الإلهية.
وربما علمها بعضهم مثل زهير في قوله:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى فمهما يكتم الله يعلم
ولعل ذلك من آثار تنصره.
وتأكيد الخبر ب {إن} لأنهم بحال من ينكر أن الله يعلم الغيب فكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم أنه مرسل من الله فكان كذبهم عليه مثل الكذب على الله.
وقد أفادت هذه الجملة تأكيد مضمون جملتي {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16] ولكن هذه زادت بالتصريح بأنه يعلم الأمور الغائبة لئلا يتوهم متوهم أن العمومين في الجملتين قبلها عمومان عرفيان قياسا على علم البشر.
وجملة {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} معطوف على جملة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} عطف الأخص على الأعم لأنه لما ذكر أنه يعلم الغيب وكان شأن الغائب أن لا يرى عطف عليه علمه بالمبصرات احتراسا من أن يتوهموا أن الله يعلم خفايا النفوس وما يجول في الخواطر ولا يعلم المشاهدات نظير قول كثير من الفلاسفة: إن الخالق يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، ولهذا أوثر هنا وصف {بصير} . وقرأ الجمهور {بِمَا تَعْمَلُونَ} بتاء الخطاء. وقرأه ابن كثير بياء الغيبة.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ق
سميت في عصر الصحابة سورة ق ينطق بحروف: قاف، بقاف، وألف، وفاء.
فقد روى مسلم عن قطبة بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الصبح سورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [قّ:1] وربما قال: {ق} ويعني في الركعة الأولى.
وروى مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم على المنبر إذ خطب الناس.
وروى مسلم عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر ب {قاف وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} هكذا رسم قاف ثلاث أحرف، وقوله في الفجر يعني به صلاة الصبح لأنها التي يصليها في المسجد في الجماعة فأما نافلة الفجر فكان يصليها في بيته.
وفي الموطأ ومسلم أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر? فقال: كان يقرأ فيهما ب {قاف} هكذا رسم قاف ثلاثة أحرف مثل ما رسم حديث جابر بن سمرة و {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]
وهي من السور التي سميت بأسماء الحروف الواقعة في ابتدائها مثل طه وص. و ق. ويس لانفراد كل سورة منها بعدد الحروف الواقعة في أوائلها بحيث إذا دعيت بها لا تلتبس بسورة أخرى.
وفي الإتقان أنها تسمى سورة الباسقات. هكذا بلام التعريف، ولم يعزه لقائل والوجه أن تكون تسميتها هذه على اعتبار وصف لموصوف محذوف، أي سورة النخل الباسقات إشارة إلى قوله {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [قّ:10]. وهذه السورة مكية كلها قال ابن عطية: بإجماع من المتأولين.
وفي تفسير القرطبي والإتقان عن ابن عباس وقتادة والضحاك: استثناء آية {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ:38] أنها نزلت

في اليهود، يعني في الرد عليهم إذ قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، يعني أم مقالة اليهود سمعت بالمدينة، يعني: وألحقت بهذه السورة لمناسبة موقعها. وهذا المعنى وان كان معنى دقيقا في الآية فليس بالذي يقتضي أن يكون نزول الآية في المدينة فإن الله علم ذلك فأوحى به الى رسوله صلى الله عليه وسلم على أن بعض آراء اليهود كان مما يتحدث به أهل مكة قبل الإسلام يتلقونه تلقي القصص والأخبار. وكانوا بعد البعثة يسألون اليهود عن أمر النبوة والأنبياء، على أن إرادة الله إبطال أوهام اليهود لا تقتضي أن يؤخر إبطالها الى سماعها بل قد يجيء ما يبطلها قبل فشوها في الناس كما في قوله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: من الآية67] فإنها نزلت بمكة. وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعض أحبار اليهود فقال: إن الله يضع السماوات على أصبع والأرضين على إصبع والبحار على أصبع والجبال على إصبع ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض فتلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية. والمقصود من تلاوتها هو قوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} والإيماء إلى سوء فهم اليهود صفات الله.
وهي السورة الرابعة والثلاثون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة المرسلات وقبل سورة {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1].
وقد أجمع العادون على عد آيها خمسا وأربعين.
أغراض هاته السورة
أولها: التنويه بشأن القرآن.
ثانيها: أنهم كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر،
وثالثها: الاستدلال على إثبات البعث وأنه ليس بأعظم من ابتداء خلق السماوات وما فيها وخلق الأرض وما عليها، ونشأة النبات والثمار من ماء السماء وأن ذلك مثل للإحياء بعد الموت.
الرابع: تنظير المشركين في تكذيبهم بالرسالة والبعث ببعض الأمم الخالية المعلومة لديهم، ووعيد هؤلاء أن يحل بهم ما حل بأولئك.
الخامس: الوعيد بعذاب الآخرة ابتداء من وقت احتضار الواحد، وذكر هول يوم

الحساب.
السادس: وعد المؤمنين بنعيم الآخرة.
السابع: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم إياه وأمره بالإقبال على طاعة ربه وإرجاء أمر المكذبين إلى يوم القيامة وأن الله لو شاء لأخذهم من الآن ولكن حكمة الله قضت بإرجائهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلف بأن يكرههم على الإسلام وإنما أمر بالتذكير بالقرآن.
الثامن: الثناء على المؤمنين بالبعث بأنهم الذين يتذكرون بالقرآن.
التاسع: إحاطة علم الله تعالى بخفيات الأشياء وخواطر النفوس.
[1-3] {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}
{ق}
القول فيه نظير القول في أمثاله من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور. فهو حرف من حروف التهجي. وقد رسموه في المصحف بصورة حرف القاف التي يتهجى بها في المكتب، وأجمعوا على أن النطق بها باسم الحرف المعروف، أي ينطقون بقاف بعدها ألف، بعده فاء. وقد أجمع من يتعد به القراء على النطق به ساكن الآخر سكون هجاء في الوصل والوقف.
ووقع في رواية بعض القصاصين المكذوبة عن ابن عباس أن المراد بقوله: {ق} اسم جبل عظيم محيط بالأرض. وفي رواية عنه انه اسم لكل واحد من جبال سبعة محيطة بالأرضين السبع واحدا وراء واحد كما أن الأرضين السبع أرض وراء أرض. أي فهو اسم جنس انحصرت أفراده في سبعة، وأطالوا في وصف ذلك بما أملاه عليهم الخيال المشفوع بقلة التثبت فيما يروونه للإغراب، وذلك من الأوهام المخلوطة ببعض أقوال قدماء المشرقيين، وبسوء فهم البعض في علم جغرافية الأرض وتخيلهم إياها رقاعا مسطحة ذات تقاسيم يحيط بكل قسم منها ما يفصله عن القسم الآخر من بحار وجبال، وهذا مما ينبغي ترفع العلماء عن الاشتغال بذكره لولا أن كثيرا من المفسرين ذكروه.
ومن العجب أن تفرض هذه الأوهام في تفسير هذا الحرف من القرآن {ألم} ،[البقرة:1] يكفهم أنه مكتوب على صورة حروف التهجي مثل {آلم} العنكبوت: 1] و {آلمص}

[الأعراف: 1] و {كهيعص} [مريم:1] ولو أريد الجبل الموهوم لكتب قاف ثلاثة حروف كما تكتب دوال الأشياء مثل عين: اسم الجارحة، وغينش: مصدر غان عليه، فلا يصح أن يدل على هذه الأسماء بحروف التهجي كما لا يخفى.
{وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}
قسم بالقرآن، والقسم به كناية عن التنويه بشأنه لأن القسم لا يكون إلا بعظيم عند المقسم فكان التعظيم من لوازم القسم. وأتبع هذا التنويه الكنائي بتنويه صريح بوصف {القرآن} ب {المجيد} فالمجيد المتصف بقوة المجد. والمجد ويقال المجادة: الشرف الكامل وكرم النوع.
وشرف القرآن من بين أنواع الكلام أنه مشتمل على أعلى المعاني النافعة لصلاح الناس فذلك مجده.
وأما كمال مجده الذي دلت عليه صيغة المبالغة بوصف مجيد فذلك بأنه يفوق أفضل ما أبلغه الله للناس من أنواع الكلام الدال على مراد الله تعالى إذ أوجد ألفاظه وتراكيبه وصورة نظمه بقدرته دون واسطة، فإن أكثر الكلام الدال على مراد الله تعالى أوجده الرسل والأنبياء المتكلمون به يعبرون بكلامهم عما يلقى إليهم من الوحي.
ويدخل في كمال مجده أنه يفوق كل كلام أوجده الله تعالى بقدرته على سبيل خرق العادة مثل الكلام الذي كلم الله به موسى عليه السلام بدون واسطة الملائكة، ومثل ما أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم من أقوال الله تعالى المعبر عنه في اصطلاح علمائنا بالحديث القدسي، فإن القرآن يفوق ذلك كله لما جعله الله بأفصح اللغات وجعله معجزا لبلغاء أهل تلك اللغة عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه. ويفوق كل كلام من ذلك القبيل بوفرة معانيه وعدم انحصارها، وأيضا بأنه تميز على سائر الكتب الدينية بأنه لا ينسخه كتاب يجيء بعده وما ينسخ منه إلا شيء قليل ينسخه بعضه.
وجواب القسم محذوف لتذهب نفس السامع في تقديره كل طريق ممكن في المقام فيدل عليه ابتداء السورة بحرف {ق} المشعر بالنداء على عجزهم عن معارضة القرآن بعد تحديهم بذلك، أو يدل عليه الإضراب في قوله {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}
والتقدير: والقرآن المجيد إنك لرسول الله بالحق، كما صرح به في قوله {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1-4] أو يقدر

الجواب: إنه لتنزيل من رب العالمين، أو نحو ذلك كما صرح به في نحو {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 1-3] ونحو ذلك. والإضراب الانتقالي يقتضي كلاما منتقلا منه والقسم بدون جواب لا يعتبر كلاما تاما فتعين أن يقدر السامع جوابا تتم به الفائدة يدل عليه الكلام.
وهذا من إيجاز الحذف وحسنه أن الانتقال مشعر بأهمية المتنقل إليه، أي عد عما تريد تقديره من جواب وانتقل إلى بيان سبب إنكارهم الذي حدا بنا إلى القسم كقول القائل: دع ذا، وقول امرئ القيس:
فدع ذا وسل الهم عنك بجسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا
وقول الأعشى:
فدع ذا ولكن رب أرض متيهة ... قطعت بحرجوج إذا الليل أظلما
وتقدم بيان نظيره عند قوله تعالى {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} في سورة ص [2].
وقوله {عجبوا} خبر مستعمل في الإنكار إنكارا لعجبهم البالغ حد الإحالة.
و {عجبوا} حصل لهم العجب بفتح الجيم وهو الأمر غير المألوف للشخص {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:73,72] فإن الاستفهام في {أتعجبين} إنكار وإنما تنكر إحالة ذلك لا كونه موجب تعجب. فالمعنى هنا: أنهم نفوا جواز أن يرسل الله إليهم بشرا مثلهم، قال تعالى {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [الاسراء:94]
وضمير {عجبوا} عائد إلى غيره مذكور، فمعاده معلوم من السياق أعني افتتاح السورة بحرف التهجي الذي قصد منه تعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن لأن عجزهم عن الإتيان بمثله في حال أنه مركب من حروف لغتهم يدلهم على أنه ليس بكلام بشر بل هو كلام أبدعته قدرة الله وأبلغه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على لسان الملك فإن المتحدين بالإعجاز مشهورون يعلمهم المسلمون وهم أيضا يعلمون أنهم المعنيون بالتحدي بالإعجاز. على أنه سيأتي ما يفسر الضمير بقوله {فَقَالَ الْكَافِرُونَ}
وضمير {منهم} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {عجبوا} . والمراد: أنه من نوعهم أي من بني الإنسان.
و {أَنْ جَاءَهُمْ} مجرور ب"من" المحذوفة مع {أن} ، أي عجبوا من

مجيء منذر منهم، أو عجبوا من ادعاء أن جاءهم منذر منهم.
وعبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف {منذر} وهو المخبر بشر سيكون، للإيماء إلى أن عجبهم كان ناشئا عن صفتين في الرسول صلى الله عليه وسلم إحداهما أنه مخبر بعذاب يكون بعد الموت، أي مخبر لا يصدقون بوقوعه، وإنما أنذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعذاب الآخرة بعد البعث كما قال تعالى {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
والثانية كونه من نوع البشر.
وفرع على التكذيب الحاصل في نفوسهم ذكر مقالتهم التي تفصح عنه وعن شبهتهم الباطلة بقوله {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} الآية.
وخص هذا بالعناية بالذكر لأنه أدخل عندهم في الاستبعاد وأحق بالإنكار فهو الذي غرهم فأحالوا أن يرسل الله إليهم أحدا من نوعهم ولذلك وصف الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء بصفة {منذر} قبل وصفه بأنه {منهم} ليدل على أن ما أنذرهم به هو الباعث الأصلي لتكذيبهم إياه وأن كونه منهم إنما قوي الاستبعاد والتعجب.
ثم إن ذلك يتخلص منه إلى إبطال حجتهم وإثبات البعث وهو المقصود بقوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} إلى قوله {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}[ق: 4- 11]
فقد حصل في ضمن هاتين الفاصلتين خصوصيات كثيرة من البلاغة: منها إيجاز الحذف، ومنها ما أفاده الإضراب من الاهتمام بأمر البعث، ومنها الإيجاز البديع الحاصل من التعبير ب{منذر}، ومنها إقحام وصفه بأنه {منهم} لأن لذلك مدخلا في تعجبهم، ومنها الإظهار في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر، ومنها الإجمال المعقب بالتفصيل في قوله {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا} الخ.
وعبر عنهم بالاسم الظاهر في {فَقَالَ الْكَافِرُونَ} دون: فقالوا، لتوسيمهم فأن هذه المقالة من آثار الكفر، وليكون فيه تفسير للضميرين السابقين.
والإشارة بقولهم {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} إلى ما هو جار في مقام مقالتهم تلك من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم للإيمان بالرجع، أي البعث وهو الذي بينته جملة {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} الخ.
والاستفهام مستعمل في التعجيب والإبطال، يريدون تعجيب السامعين من ذلك تعجيب إحالة لئلا يؤمنوا به. وجعلوا مناط التعجيب الزمان الذي أفادته {إذا} وما أضيف

إليه، أي زمن موتنا وكوننا ترابا.
والمستفهم عنه محذوف دل عليه ظرف {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} والتقدير: أنرجع إلى الحياة في حين انعدام الحياة منا بالموت وحين تفتت الجسد وصيرورته ترابا، وذلك عندهم أقصى الاستبعاد.
ومتعلق "إذا" هو المستفهم عنه المحذوف المقدر، أي نرجع أو نعود إلى الحياة وهذه الجملة مستقلة بنفسها.
وجملة {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} مؤكدة لجملة {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} بطريق الحقيقة والذكر، بعد أن أفيد بطريق المجاز والحذف، لأن شأن التأكيد أن يكون أجلى دلالة.
والرجع: مصدر رجع، أي الرجوع إلى الحياة. ومعنى {بعيد} أنه بعيد عن تصور العقل، أي هو أمر مستحيل.
[4] {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}
رد لقولهم {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} فإن إحالتهم البعث ناشئة عن عدة شبه: منها: أن تفرق أجزاء الأجساد في مناحي الأرض ومهاب الرياح لا تبقي أملا في إمكان جمعها إذ لا يحيط بها محيط وأنها لو علمت مواقعها لتعذر التقاطها وجمعها، ولو جمعت كيف تعود إلى صورها التي كانت مشكلة بها، وأنها لو عادت كيف تعود إليها، فاقتصر في إقلاع شبههم على إقلاع أصلها وهو عدم العلم بمواقع تلك الأجزاء وذراتها.
وفصلت الجملة بدون عطف لأنها ابتداء كلام لرد كلامهم، وهذا هو الأليق بنظم الكلام. وقيل هي جواب القسم كما علمته آنفا وأيا ما كان فهو رد لقولهم {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}
والمعنى: أن جمع أجزاء الأجسام ممكن لا يعزب عن علم الله، وإذا كان عالما بتلك الأجزاء كما هو مقتضى عموم العلم الإلهي وكان قد أراد إحياء أصحابها كما أخبر به، فلا يعظم على قدرته جمعها وتركيبها أجساما كأجسام أصحابها حين فارقوا الحياة فقوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} إيماء إلى دليل الإمكان لأن مرجعه إلى عموم العلم كما قلنا. فأساس مبنى الرد هو عموم علم الله تعالى لأنه يجمع إبطال الاحتمالات التي تنشأ عن شبهتهم فلو قال، نحن قادرون على إرجاع ما تنقص الأرض منهم، لخطر في وساوس نفوسهم شبهة أن الله وإن سلمنا أنه قادر فإن أجزاء الأجساد إذا تفرقت لا يعلمها الله حتى تتسلط على جمعها قدرته فكان البناء على عموم العلم أقطع لاحتمالاتهم.

واعلم أن هذا الكلام بيان للإمكان رعيا لما تضمنه كلامهم من الإحالة لأن ثبوت الإمكان يقلع اعتقاد الاستحالة من نفوسهم وهو كاف لإبطال تكذيبهم ولاستدعائهم للنظر في الدعوة، ثم يبقى النظر في كيفية الإعادة، وهي أمر لم نكلف بالبحث عنه وقد اختلف فيها أئمة أهل السنة فقال جمهور أهل السنة والمعتزلة تعاد الأجسام بعد عدمها. ومعنى إعادتها، إعادة أمثالها بأن يخلق الله أجسادا مثل الأولى تودع فيها الأرواح التي كانت في الدنيا حالة في الأجساد المعدومة الآن فيصير ذلك الجسم لصاحب الروح في الدنيا وبذلك يحق أن يقال: إن هذا هو فلان الذي عرفناه في الدنيا إذ الإنسان كان إنسانا بالعقل والنطق، وهما مظهر الروح. وأما الجسد فإنه يتغير بتغيرات كثيرة ابتداء من وقت كونه جنينا، ثم من وقت الطفولة ثم ما بعدها من الأطوار فتخلف أجزاؤه المتجددة أجزاءه المتقضية، وبرهان ذلك مبين في علم الطبيعيات، لكن ذلك التغير لم يمنع من اعتبار الذات ذاتا واحدة لأن هوية الذات حاصلة من الحقيقة النوعية والمشخصات المشاهدة التي تتجدد بدون شعور من يشاهدها. فلذا كانت حقيقة الشخص هي الروح وهي التي تكتسى عند البعث جسد صاحبها في الدنيا، فإن الناس الذين يموتون قبل قيام الساعة بزمن قليل لا تبلى في مثله أجسامهم ترجع أرواحهم إلى أجسادهم الباقية دون تجديد خلقها، ولذلك فتسمية هذا الإيجاد معادا أو رجعا أو بعثا إنما هي تسمية باعتبار حال الأرواح، وبهذا الاعتبار أيضا تشهد على الكفار ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون لأن الشاهد في الحقيقة هو ما به إدراك الأعمال من الروح المبثوثة في الأعضاء.
وأدلة الكتاب أكثرها ظاهر في تأييد هذا الرأي كقوله تعالى {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الانبياء: 104]، وفي معناه قوله تعالى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56].
وقال شذوذ: تعاد الأجسام بجمع الأجزاء المتفرقة يجمعها الله العليم بها ويركبها كما كانت يوم الوفاة. وهذا بعيد لأن أجزاء الجسم الإنساني إذا تفرقت دخلت في أجزاء من أجسام أخرى من مختلف الموجودات ومنها أجسام أناس آخرين. وورد في الآثار أن كل ابن آدم يفنى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب رواه مسلم. وعلى هذا تكون نسبة الأجساد المعادة كنسبة النخلة من النواة. وهذا واسطة بين القول بأن الإعادة عن عدم والقول بأنها عن تفرق. ولا قائل من العقلاء بأن المعدوم يعاد بعينه وإنما المراد ما ذكرناه وما عداه مجازفة في التعبير.

وذكر الجلال الدواني في شرح العقيدة العضدية أن أبي بن خلف لما سمع ما في القرآن من الإعادة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عظم قد رم ففتته بيده وقال: يا محمد أترى يحييني بعد أن أصير كهذا العظم? فقل له النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم ويبعثك ويدخلك النار". وفيه نزل قوله تعالى {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يّس:78].
وعبر ب {تَنْقُصُ الْأَرْضُ} دون التعبير بالإعدام لأن للأجساد درجات من الاضمحلال تدخل تحت حقيقة النقص فقد يفنى بعض أجزاء الجسد ويبقى بعضه، وقد يأتي الفناء على جميع أجزائه، على أنه إذا صح أن عجب الذنب لا يفني كان فناء الأجساد نقصا لا انعداما.
وعطف على قوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} قوله {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} عطف الأعم على الأخص، وهو بمعنى تذييل لجملة {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أي وعندنا علم بكل شيء علما ثابتا فتنكير {كتاب} للتعظيم، وهو تعظيم التعميم، أي عندنا كتاب كل شيء.
و {حفيظ} فعيل: إما بمعنى فاعل، أي حافظ لما جعل لإحصائه من أسماء الذوات ومصائرها. وتعيين جميع الأرواح لذواتها التي كانت مودعة فيها بحيث لا يفوت واحد منها عن الملائكة الموكلين بالبعث وإعادة الأجساد وبث الأرواح فيها. وإما بمعنى مفعول، أي محفوظ ما فيه مما قد يعتري الكتب المألوفة من المحو والتغيير والزيادة والتشطيب ونحو ذلك.
والكتاب: المكتوب، ويطلق على مجموع الصحائف. ثم يجوز أن يكون الكتاب حقيقة بأن جعل الله كتبا وأودعها الى ملائكة يسجلون فيها الناس حين وفياتهم ومواضع أجسادهم ومقار أرواحهم وانتساب كل روح إلى جسدها المعين الذي كانت حالة فيه حال الحياة الدنيا صادقا بكتب عديدة لكل إنسان كتابه، وتكون مثل صحائف الأعمال الذي جاء فيه قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17,18] وقوله {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 13,14]
ويجوز أن يكون مجموع قوله {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ} تمثيلا لعلم الله تعالى بحال علم من عنده كتاب حفيظ يعلم به جميع أعمال الناس.

والعندية في قوله {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ} مستعارة للحياطة والحفظ من أن يتطرق إليه ما يغير ما فيه أو من يبطل ما عين له.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}
إضراب ثان تابع للإضراب الذي في قوله {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [قّ: 2] على طريقة تكرير الجملة في مقام التنديد والإبطال، أو بدل من جملة {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} لأن ذلك العجب مشتمل على التكذيب، وكلا الاعتبارين يقتضيان فصل هذه الجملة بدون عاطف. والمقصد من هذه الجملة: أنهم أتوا بأفظع من إحالتهم البعث وذلك هو التكذيب بالحق.
والمراد بالحق هنا القرآن لأن فعل التكذيب إذا عدي بالباء عدي إلى الخبر وإذا عدي بنفسه كان لتكذيب المخبر.
و {لما} حرف توقيت فهي دالة على ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، وقوله {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: من الآية89] وقد مضيا في سورة البقرة. ومعنى {جاءهم} بلغهم وأعلموا به.
والمعنى: أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله، وهو أول حق جاء به القرآن، ولذلك عقب بقوله {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} إلى قوله {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} [قّ: 11]. فالتكذيب بما جاء به القرآن يعم التكذيب بالبعث وغيره.
وفرع على الخبر المنتقل إليه بالإضراب وصف حالهم الناشئة عن المبادرة بالتكذيب قبل التأمل بأنها أمر مريج أحاط بهم وتجلجلوا فيه كما دل عليه حرف الظرفية.
و {أمر} اسم مبهم مثل شيء، ولما وقع هنا بعد حرف {في} المستعمل في الظرفية المجازية تعين أن يكون المراد بالأمر الحال المتلبسون هم به تلبس المظروف بظرفه وهو تلبس المحوط بما أحاط به فاستعمال {في} استعارة تبعية.
والمريج: المضطرب المختلط، أي لا قرار في أنفسهم في هذا التكذيب، اضطربت فيه أحوالهم كلها من أقوالهم في وصف القرآن فإنهم ابتدروا فنفوا عنه الصدق فلم يتبينوا

بأي أنواع الكلام الباطل يلحقونه فقالوا {سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: من الآية110] وقالوا {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: من الآية25] وقالوا {قَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة: 41]، وقالوا {قَوْلِ كَاهِنٍ} [الحاقة: 42] وقالوا: "هذيان مجنون". وفي سلوكهم في طرق مقاومة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يصفونه به إذا سألهم الواردون من قبائل العرب. ومن بهتهم في إعجاز القرآن ودلالة غيره من المعجزات وما دمغهم به من الحجج على إبطال الإشراك وإثبات الوحدانية لله. وهذا تحميق لهم بأنهم طاشت عقولهم فلم يتقنوا التكذيب ولم يرسوا على وصف الكلام الذي كذبوا به.
[6] {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}
تفريع على قوله {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ} [قّ: 2] إلى قوله {مريج} لأن أهم ما ذكر من تكذيبهم أنهم كذبوا بالبعث، وخلق السماوات والنجوم والأرض دال على أن إعادة الإنسان بعد العدم في حيز الإمكان فتلك العوالم وجدت عن عدم وهذا أدل عليه قوله تعالى في سورة يس[81] {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}
والاستفهام يجوز أن يكون إنكاريا. والنظر نظر الفكر على نحو قوله تعالى {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: من الآية101]. ومحل الإنكار هو الحال التي دل عليها {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} ، أي ألم يتدبروا في شواهد الخليقة فتكون الآية في معنى {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الروم: من الآية8].
ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريا، والنظر المشاهدة، ومحل التقرير هو فعل {ينظروا} ، أو يكون {كيف} مراد به الحال المشاهدة.
هذا وأن التقرير على نفي الشيء المراد الإقرار بإثباته طريقة قرآنية ذكرناها غير مرة، وبينا أن الغرض منه إفساح المجال للمقرر إن كان يروم إنكار ما قرر عليه، ثقة من المقرر بكسر الراء بأن المقرر بالفتح لا يقدم على الجحود بما قرر عليه لظهوره، وتقدم عند قوله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف: من الآية148]، وقوله {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} كلاهما في سورة الأعراف.[172]
وهذا الوجه أشد في النعي عليهم لاقتضائه أن دلالة المخلوقات المذكورة على إمكان البعث يكفي فيها مجرد النظر بالعين.
و {فوقهم} حال من السماء. والتقييد بالحال تنديد عليهم لإهمالهم التأمل مع المكنة

منه إذ السماء قريبة فوقهم لا يكلفهم النظر فيها إلا رفع رؤوسهم.
و {كيف} اسم جامد مبني معناه: حالة، وأكثر ما يرد في الكلام للسؤال عن الحالة فيكون خبرا قبل ما لا يستغني عنه مثل: كيف أنت? وحالا قبل ما يستغنى عنه نحو: كيف جاء? ومفعولا مطلقا نحو {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفجر: من الآية6]، ومفعولا به نحو قوله تعالى {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الاسراء: من الآية21]. وهي هنا بدل من {فوقهم} فتكون حالا في المعنى. والتقدير: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم هيئة بنينا إياها، وتكون جملة {بنيناها} مبينة ل{كيف}.
وأطلق البناء على خلق العلويات بجامع الارتفاع. والمراد ب {السماء} هنا ما تراه العين من كرة الهواء التي تبدو كالقبة وتسمى الجو.
والتزيين جعل الشيء زينا، أي حسنا أي تحسين منظرها للرائي بما يبدو فيها من الشمس نهارا والقمر والنجوم ليلا. واقتصر على آية تزيين السماء دون تفصيل ما في الكواكب المزينة بها من الآيات لأن التزيين يشترك في إداركه جميع الذين يشاهدونه وللجمع بين الاستدلال والامتنان بنعمة التمكين من مشاهدة المرائي الحسنة كما قال تعالى {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6] في شأن خلق الأنعام في سورة النحل.
ثم يتفاوت الناس في إدراك ما في خلق الكواكب والشمس والقمر ونظامها من دلائل على مقدار تفاوت علومهم وعقولهم.
والآية صالحة لإفهام جميع الطبقات.
وجملة {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} عطف على جملتي {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} فهي حال ثالثة في المعنى.
والفروج: جمع فرج، وهو الخرق، أي يشاهدونها كأنها كرة متصلة الأجزاء ليس بين أجزائها تفاوت يبدو كالخرق ولا تباعد يفصل بعضها عن بعض فيكون خرقا في قبتها.
وهذا من عجيب الصنع إذ يكون جسم عظيم كجسم كرة الهواء الجوي مصنوعا كالمفروغ في قالب. وهذا مشاهد لجميع طبقات الناس على تفاوت مداركهم ثم هم يتفاوتون في إدراك ما في هذا الصنع من عجائب التئام كرة الجو المحيط بالأرض.
ولو كان في أديم ما يسمى بالسماء تخالف من أجزائه لظهرت فيه فروج وانخفاض وارتفاع. ونظير هذه الآية قوله في سورة الملك {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} إلى

قوله {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3].
[7] {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
عطف على جملة {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا} [ق: 6] عطف الخبر على الاستفهام الإنكاري وهو في معنى الإخبار. والتقدير: ومددنا الأرض.
ولما كانت أحوال الأرض نصب أعين الناس وهي أقرب إليهم من أحوال السماء لأنها تلوح للأنظار دون تكلف لم يؤت في لفت أنظارهم إلى دلالتها باستفهام إنكاري تنزيلا لهم منزلة من نظر في أحوال الأرض فلم يكونوا بحاجة إلى إعادة الأخبار بأحوال الأرض تذكيرا لهم.
وانتصب {الأرض} ب {مددناها} على طريقة الاشتغال.
والمد: البسط، أي بسطنا الأرض فلم تكن مجموع نتوءات إذ لو كانت كذلك لكان المشي عليها مرهقا.
والمراد: بسط سطح الأرض وليس المراد وصف حجم الأرض لأن ذلك لا تدركه المشاهدة ولم ينظر فيه المخاطبون نظر التأمل فيستدل عليهم بما لا يعلمونه فلا يعتبر في سياق الاستدلال على القدرة على خلق الأمور العظيمة، ولا في سياق الامتنان بما في ذلك الدليل من نعمة فلا علاقة لهذه الآية بقضية كروية الأرض.
والإبقاء: تمثيل لتكوين أجسام بارزة على الأرض متباعد بعضها عن بعض لأن حقيقة الإلقاء: رمي شيء من اليد إلى الأرض، وهذا استدلال بخلقة الجبال كقوله {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:19]. و{فيها} ظرف مستقر وصف ل {رواسي} قدم على موصوفه فصار حالا، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا ب {ألقينا} .
ورواسي: جمع راس على غير قياس مثل: فوارس وعواذل. والرسو: الثبات والقرار.
وفائدة هذا الوصف زيادة التنبيه إلى بديع خلق الله إذ جعل الجبال متداخلة مع الأرض ولم تكن موضوعة عليها وضعا كما توضع الخيمة لأنها لو كانت كذلك لتزلزلت وسقطت وأهلكت ما حواليها. وقد قال في سورة الأنبياء [31] {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} أي دفع أن تميد هي، أي الجبال بكم، أي ملصقة بكم في ميدها، وهنالك وجه آخر مضى في سورة الأنبياء.

والزوج: النوع من الحيوان والثمار والنبات، وتقدم في قوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} في سورة طه. [53] والمعنى: وأنبتنا في الأرض أصناف النبات وأنواعه.
وقوله {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} يظهر أن حرف {من} فيه مزيد للتوكيد. وزيادة {من} في غير النفي نادرة، أي أقل من زيادتها في النفي، ولكن زيادتها في الإثبات واردة في الكلام الفصيح، فأجاز القياس عليه نحاة الكوفة والأخفش وأبو علي الفارسي وابن جني، ومنه قوله تعالى {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43] إن المعنى: ينزل من السماء جبالا فيها برد، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا} في سورة الأنعام.[99]
فالمقصود من التوكيد بحرف {من} تنزيلهم منزلة من ينكر أن الله أنبت ما على الأرض من أنواع حين ادعوا استحالة إخراج الناس من الأرض، ولذلك جيء بالتوكيد في هذه الآية لأن الكلام فيها على المشركين ولم يؤت بالتوكيد في آية سورة طه. وليست {من} هنا للتبعيض إذ ليس المعنى عليه.
فكلمة {كل} مستعملة في معنى الكثرة كما تقدم في قوله تعالى {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} في سورة الأنعام،[25] وقوله فيها {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70]، وهذا كقوله تعالى {فأنبتنا به فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} في سورة طه.[53]
وفائدة التكثير هنا التعريض بهم لقلة تدبيرهم إذ عموا عن دلائل كثيرة واضحة بين أيديهم.
والبهيج يجوز أن يكون صفة مشبهة، يقال: بهج بضم الهاء، إذا حسن في أعين الناظرين، فالبهيج بمعنى الفاعل كما دل عليه قوله تعالى {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60]
ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، أي منبهج به على الحذف والإيصال، أي يسر به الناظر، يقال: بهجه من باب منع، إذا سره، ومنه الابتهاج المسرة.
وهذا الوصف يفيد ذكره تقوية الاستدلال على دقة صنع الله تعالى. وإدماج الامتنان

عليهم بذلك ليشكروا النعمة ولا يكفروها بعبادة غيره كقوله تعالى {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 5,6]
[8] {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}
مفعول لأجله للأفعال السابقة من قوله {بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [قّ: 6] وقوله {مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا} [قّ: 7] الخ، على أنه علة لها على نحو من طريقة التنازع، أي ليكون ما ذكر من الأفعال ومعمولاتها تبصرة وذكرى، أي جعلناه لغرض أن نبصر به ونذكر كل عبد منيب.
وحذف متعلق {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} ليعم كل ما يصلح أن يتبصر في شأنه بدلائل خلق الأرض وما عليها، وأهم ذلك فيهم هو التوحيد والبعث كما هو السياق تصريحا وتلويحا.
وإنما كانت التبصرة والذكرى علة للأفعال المذكورة لأن التبصرة والذكرى من جملة الحكم التي أوجد الله تلك المخلوقات لأجلها. وليس ذلك بمقتض انحصار حكمة خلقها في التبصرة والذكرى، لأن أفعال الله تعالى لها حكم كثيرة علمنا بعضها وخفي علينا بعض.
والتبصرة: مصدر بصره. وأصل مصدره التبصير، فحذفوا الياء التحتية من أثناء الكلمة وعوضوا عنها التاء الفوقية في أول الكلمة كما قالوا: جرب تجربة وفسر تفسرة، وذلك يقل في المضاعف ويكثر في المهموز نحو جزأ تجزئة، ووطأ توطئة. ويتعين في المعتل نحو: زكى تزكية، وغطاه تغطية.
والتبصير: جعل المرء مبصرا وهو هنا مجاز في إدراك النفس إدراكا ظاهرا للأمر الذي كان خفيا عنها فكأنها لم تبصره ثم أبصرته.
والذكرى اسم مصدر ذكر، إذا جعله يذكر ما نسيه. وأطلقت هنا على مراجعة النفس ما علمته ثم غفلت عنه.
و {عبد} بمعنى عبد الله، أي مخلوق، ولا يطلق إلا على الإنسان. وجمعه: عباد دون عبيد.
والمنيب: الراجع، والمراد هنا الراجع إلى الحق بطاعة الله فإذا انحرف أو شغله

شاغل ابتدر الرجوع إلى ما كان فيه من الاستقامة والامتثال فلا يفارقه حال الطاعة وإذا فارقه قليلا آب إليه وأناب. وإطلاق المنيب على التائب والإنابة على التوبة من تفاريع هذا المعنى، وتقدم عند قوله تعالى {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} في سورة ص.[24]
وخص العبد المنيب بالتبصرة والذكرى وإن كان فيما ذكر من أحوال الأرض إفادة التبصرة والذكرى لكل أحد لأن العبد المنيب هو الذي ينتفع بذلك فكأنه هو المقصود من حكمة تلك الأفعال. وهذا تشريف للمؤمنين وتعريض بإهمال الكافرين التبصر والتذكر. ويحمل "كل" على حقيقة معناه من الإحاطة والشمول. فالمعنى: أن تلك الأفعال قصد منها التبصرة والذكرى لجميع العباد المتبعين للحق إذ لا يخلون من تبصر وتذكر بتلك الأفعال على تفاوت بينهم في ذلك.
[10,9] {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}
بعد التنظر والتذكير والتبصير في صنع السماوات وصنع الأرض وما فيهما من وقت نشأتهما نقل الكلام إلى التذكير بإيجاد آثار من آثار تلك المصنوعات تتجدد على مرور الدهر حية ثم تموت ثم تحيا دأبا، وقد غير أسلوب الكلام لهذا الانتقال من أسلوب الاستفهام في قوله {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ} [قّ: من الآية6] إلى أسلوب الإخبار بقوله {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} إيذانا بتبديل المراد ليكون منه تخلص إلى الدلالة على إمكان البعث في قوله {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [قّ: 11]. فجملة {ونزلنا} عطف على جملة {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} [الحجر: 19]
وقد ذكرت آثار من آثار السماء وآثار الأرض على طريقة النشر المرتب على وفق اللف.
والمبارك: اسم مفعول للذي جعلت فيه البركة، أي جعل فيه خير كثير. وأفعال هذه المادة كثيرة التصرف ومتنوعة التعليق. والبركة: الخير النافع لما يتسبب عليه من إنبات الحبوب والأعناب والنخيل. وتقدم معنى المبارك عند قوله تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} في سورة آل عمران.[96]
وفي هذا استدلال بتفصيل الإنبات الذي سبق إجماله في قوله {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [قّ: 7] لما فيه من سوق العقول إلى التأمل في دقيق الصنع لذلك الإنبات وأن حصوله بهذا السبب وعلى ذلك

التطور أعظم دلالة على حكمة الله وسعة علمه مما لو كان إنبات الأزواج بالطفرة، إذ تكون حينئذ أسباب تكوينها خفية فإذا كان خلق السماوات وما فيها، ومد الأرض، وإلقاء الجبال فيها، دلائل على عظيم القدرة الربانية لخفاء كيفيات تكوينها فإن ظهور كيفيات التكوين في إنزال الماء وحصول الإنبات والإثمار دلالة على عظيم علم الله تعالى.
والجنات: جمع جنة، وهي ما شجر بالكرم وأشجار الفواكه والنخيل.
والحب: هو ما ينبت في الزرع الذي يخرج سنابل تحوي حبوبا مثل البر والشعير والذرة والسلت والقطاني مما تحصد أصوله ليدق فيخرج ما فيه من الحب.
و {حَبَّ الْحَصِيدِ} مفعول {أنبتا} لأن الحب مما نبت تبعا لنبات سنبله المدلول على إنباته بقوله {الحصيد} إذ لا يحصد إلا بعد أن ينبت.
والحصيد: الزرع المحصود، أي المقطوع من جذوره لأكل حبه، فإضافة {حب} إلى {الحصيد} على أصلها، وليست من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وفائدة ذكر هذا الوصف: الإشارة إلى اختلاف أحوال استحصال ما ينفع الناس من أنواع النبات فإن الجنات تستثمر وأصولها باقية والحبوب تستثمر بعد حصد أصولها، على أن في ذلك الحصيد، منافع للأنعام تأكله بعد أخذ حبه كما قال تعالى {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:33].
وخص النخل بالذكر مع تناول جنات له لأنه أهم الأشجار عندهم وثمره أكثر أقواتهم، ولإتباعه بالأوصاف له ولطلعه مما يثير تذكر بديع قوامه، وأنيق جماله.
والباسقات: الطويلات في ارتفاع، أي عاليات فلا يقال: باسق للطويل الممتد على الأرض. وعن ابن شداد: الباسقات الطويلات مع الاستقامة. ولم أره لأحد من أئمة اللغة. ولعل مراده من الاستقامة الامتداد في الارتفاع. وهو بالسين المهملة في لغة جميع العرب عدا بني العنبر من تميم يبدلون السين صادا في هذه الكلمة. قال ابن جني: الأصل السين وإنما الصاد بدل منها لاستعلاء القاف. وروى الثعلبي عن قطبة بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح قرأها بالصاد. ومثله في ابن عطية وهو حديث غير معروف. والذي في صحيح مسلم وغيره عن قطبة بن مالك مروية بالسين. ومن العجيب أن الزمخشري قال: وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم باصقات. وانتصب {باسقات} على الحال. والمقصود من ذلك الإيماء إلى بديع خلقته وجمال طلعته استدلالا وامتنانا.

والطلع: أول ما يظهر من ثمر التمر، وهو في الكفرى، أي غلاف العنقود.
والنضيد: المنضود، أي المصفف بعضه فوق بعض ما دام في الكفرى فإذا انشق عنه الكفرى فليس بنضيد. فهو معناه بمعنى مفعول قال تعالى {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29]
وزيادة هذه الحال للازدياد من الصفات الناشئة عن بديع الصنعة ومن المنة بمحاسن منظر ما أوتوه.
[11] {رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}
{رِزْقاً لِلْعِبَادِ}
مفعول لأجله لقوله {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} [قّ: 9] إلى آخره، فهو مصدر، أي لنرزق العباد، أي نقوتهم. والقول في التعليل به كالقول في التعليل بقوله {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} [قّ: 8]
والعباد: الناس وهو جمع عبد بمعنى عبد الله، فأما العبد المملوك فجمعه العبيد. وهذا استدلال وامتنان.
{وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً}
عطف على {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} عطف الفعل على الاسم المشتق من الفعل وهو رزقه المشتق لأنه في معنى: رزقنا العباد وأحيينا به بلدة ميتا، أي لرعي الأنعام والوحش فهو استدلال وفيه امتنان.
والبلدة: القطعة من الأرض.
والميت بالتخفيف: مرادف الميت بالتشديد قال تعالى {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33]
وتذكير الميت وهو وصف للبلدة، وهي مؤنث على تأويله بالبلد لأنه مرادفه، وبالمكان لأنه جنسه، شبه الجدب بالموت في انعدام ظهور الآثار، ولذلك سمي ضده وهو إنبات الأرض حياة. ويقال لخدمة الأرض اليابسة وسقيها: إحياء موات.
{كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}
بعد ظهور الدلائل بصنع الله على إمكان البعث لأن خلق تلك المخلوقات من عدم يدل على أن إعادة بعض الموجودات الضعيفة أمكن وأهون، جيء بما يفيد تقريب البعث

بقوله {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}
فهذه الجملة فذلكة للاستدلال على إمكان البعث الذي تضمنته الجمل السابقة فوجب انفصال هذه الجملة فتكون استئنافا أو اعتراضا في آخر الكلام على رأي من يجيزه وهو الأصح.
والإشارة {بذلك} إلى ما ذكر آنفا من إحياء الأرض بعد موتها، أي كما أحيينا الأرض بعد موتها كذلك نحيي الناس بعد موتهم وبلاهم، مع إفادتها تعظيم شأن المشار إليه، أي مثل البعث العظيم الإبداع.
والتعريف في {الخروج} للعهد، أي خروج الناس من الأرض كما قال تعالى {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً} [المعارج: من الآية43]. ف {الخروج} صار كالعلم بالغلبة على البعث، وسيأتي قوله تعالى {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [قّ: 42].
وتقديم المجرور على المبتدإ للاهتمام بالخبر لما في الخبر من دفع الاستحالة وإظهار التقريب، وفيه تشويق لتلقي المسند إليه.
[12-14] {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}
استئناف ابتدائي ناشئ عن قوله {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [قّ: 5] فعقب بأنهم ليسوا ببدع في الضلال فقد كذبت قبلهم أمم. وذكر منهم أشهرهم في العالم وأشهرهم بين العرب، فقوم نوح أول قوم كذبوا رسولهم، وفرعون كذب موسى، وقوم لوط كذبوه وهؤلاء معروفون عند أهل الكتاب، وأما أصحاب الرس وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبع فهم من العرب.
وذكروا هنا عقب قوم نوح للجامع الخيالي بين القومين وهو جامع التضاد لأن عذابهم كان ضد عذاب قوم نوح إذ كان عذابهم بالخسف وعذاب قوم نوح بالغرق، ثم ذكر ثمود لشبه عذابهم بعذاب أصحاب الرس إذ كان عذابهم برجفة الأرض وصواعق السماء، ولأن أصحاب الرس من بقايا ثمود، ثم ذكرت عاد لأن عذابها كان بحادث في الجو وهو الريح، ثم ذكر فرعون وقومه لأنهم كذبوا أشهر الرسل قبل الإسلام، وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب وهم من خلطاء بني إسرائيل.

وعبر عن قوم لوط ب {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} ولم يكونوا من قبيله، فالمراد ب {إخوان} أنهم ملازمون. وهم أهل سدوم وعمورة وقراهما وكان لوط ساكنا في سدوم ولم يكن من أهل نسبهم لأن أهل سدوم كنعانيون ولوطا عبراني. وقد تقدم قوله تعالى {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} [الشعراء: من الآية161] في سورة الشعراء. وذكر قوم تبع وهم أهل اليمن ولم يكن العرب يعدونهم عربا.
وهذه الأمم أصابها عذاب شديد في الدنيا عقابا على تكذيبهم الرسل. والمقصود تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتعريض بالتهديد لقومه المكذبين أن يحل بهم ما حل بأولئك.
والرس: يطلق اسما للبئر غير المطوية ويطلق مصدرا للدفن والدس. واختلف المفسرون في المراد به هنا. {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} قوم عرفوا بالإضافة إلى الرس، فيحتمل أن إضافتهم إلى الرس من إضافة الشيء إلى موطنه مثل {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} ، و {أَصْحَابُ الْحِجْرِ} [الحجر: 80] و {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13] ويجوز أن تكون إضافة إلى حدث حل بهم مثل {أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج: 4] وفي تعيين {أَصْحَابُ الرَّسِّ} أقوال ثمانية أو تسعة وبعضها متداخل.
وتقدم الكلام عليهم في سورة الفرقان. والأظهر أن إضافة {أصحاب} إلى {الرس} من إضافة اسم إلى حدث حدث فيه فقد قيل: إن أصحاب الرس عوقبوا بخسف في الأرض فوقعوا في مثل البئر. وقيل: هو بئر ألقى أصحابه فيه حنظلة بن صفوان رسول الله إليهم حيا فهو إذن علم بالغلبة وقيل هو فلج من أرض اليمامة.
وتقدم الكلام على أصحاب الرس في سورة الفرقان [38] عند قوله تعالى {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ}
وأصحاب الأيكة هم من قوم شعيب وتقدم في سورة الشعراء وقوم تبع هم حمير من عرب اليمن وتقدم ذكرهم في سورة الدخان.
وجملة {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} مؤكدة لجملة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} الى آخرها، فلذلك فصلت ولم تعطف، وليبني عليه قوله {فَحَقَّ وَعِيدِ} فيكون تهديد بأن يحق عليهم الوعيد كما حق على أولئك مرتبا بالفاء على تكذيبهم الرسل فيكون في ذلك تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وللرسل السابقين. وتنوين {كل} تنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل أولئك. و {حق} صدق وتحقق.
والوعيد: الإنذار بالعقوبة واقتضى الإخبار عنه ب {حق} أن الله توعدهم به فلم يعبأوا

وكذبوا وقوعه فحق وصدق. وحذفت ياء المتكلم التي أضيف إليها {وعيد} للرعي على الفاصلة وهو كثير.
[15] {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}
تشير فاء التفريع إلى أن هذا الكلام مفرع على ما قبله وهو جملة {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [قّ: من الآية6] وقوله {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} [قّ: 8] المعرض بأنهم لم يتبصروا به ولم يتذكروا. وقوله {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} [قّ: 9] وقوله {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [قّ: 11].
ويجوز أن يجعل تفريعا على قوله {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} .
والاستفهام المفرع بالفاء استفهام إنكار وتغليط لأنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله لم يعي بالخلق الأول إذ لا ينكر عاقل كمال قدرة الخالق وعدم عجزه.
و {عيينا} معناه عجزنا، وفعل "عي" إذا لم يتصل به ضمير يقال مدغما وهو الأكثر ويقال: عيي بالفك فإذا اتصل به ضمير تعين الفك. ومعناه: عجز عن إتقان فعل ولم يهتد لحيلته. ويعدى بالباء يقال: عيي بالأمر والباء فيه للمجاوزة. وأما أعيا بالهمزة في أوله قاصرا فهو للتعب بمشي أو حمل ثقل وهو فعل قاصر لا يعدى بالباء. فالمعنى: ما عجزنا عن الخلق الأول للإنسان فكيف تعجز عن إعادة خلقه.
و {بل} في قوله {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} للإضراب الإبطالي عن المستفهم عنه، أي بل ما عيينا بالخلق الأول، أي وهم يعلمون ذلك ويعلمون أن الخلق الأول للأشياء أعظم من إعادة خلق الأموات ولكنهم تمكن منهم اللبس الشديد فأغشى إدراكهم عن دلائل الإمكان فأحالوه، فالإضراب على أصله من الإبطال.
واللبس: الخلط للأشياء المختلفة الحقائق بحيث يعسر أو يتعذر معه تمييز مختلفاتها بعضها عن بعض.
والمراد منه اشتباه المألوف المعتاد الذي لا يعرفون غيره بالواجب العقلي الذي لا يجوز انتفاؤه، فإنهم اشتبه عليهم إحياء الموتى وهو ممكن عقلا بالأمر المستحيل في العقل فجزموا بنفي إمكانه فنفوه، وتركوا القياس بأنه من قدر على إنشاء ما لم يكن موجودا هو على إعادة ما كان موجودا أقدر.
وجيء بالجملة الاسمية من قوله {هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} للدلالة على ثبات

هذا الحكم لهم وأنه متمكن من نفوسهم لا يفارقهم البتة، وليتأتى اجتلاب حرف الظرفية في الخبر فيدل على انغماسهم في هذا اللبس وإحاطته بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
و {من} في قوله {مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} ابتدائية وهي صفة ل{لبس}، أي لبس واصل إليهم ومنجر عن خلق جديد، أي من لبس من التصديق به.
وتنكير {لبس} للنوعية وتنكير {خَلْقٍ جَدِيدٍ} كذلك، أي ما هو إلا خلق من جملة ما يقع من خلق الله الأشياء مما وجه إحالته. ولتنكيره أجريت عليه الصفة ب{ جديد} .
والجديد: الشيء الذي في أول أزمان وجوده.
وفي هذا الوصف تورك عليهم وتحميق لهم من إحالتهم البعث، أي اجعلوه خلقا جديدا كالخلق الأول، وأي فارق بينهما.
وفي تسمية إعادة الناس للبعث باسم الخلق إيماء الى أنها إعادة بعد عدم الأجزاء لا جمع لمتفرقها، وقد مضى القول فيه في أول السورة.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}
هذا تفصيل لبعض الخلق الأول بذكر خلق الإنسان وهو أهم في هذا المقام للتنبيه على أنه المراد من الخلق الأول وليبنى عليه {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} الذي هو تتميم لإحاطة صفة العلم في قوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [قّ: من الآية4] ولينتقل الإنذار بإحصاء أعمال الناس عليها وهو ما استرسل في وصفه من قوله {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [قّ: 17] الخ.
ووصف البعث وصف الجزاء من قوله {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} الى قوله {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [قّ:20- 35]
وتأكيد هذا الخبر باللام و"قد" مراعى فيه المتعاطفات وهي {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} لأنهم وإن كانوا يعلمون أن الله خلق الناس فإنهم لا يعلمون أن الله عالم بأحوالهم.
و {الإنسان} يعم جميع الناس ولكن المقصود منهم أولا المشركون لأنهم المسوق إليهم هذا الخبر، وهو تعريض بالإنذار كما يدل عليه قوله بعده {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}

[قّ: 19] وقوله {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [قّ: من الآية22] وقوله {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [قّ: 20].
والباء في قوله {به} زائدة لتأكيد اللصوق، والضمير عائد الصلة كأنه قيل: ما تتكلمه نفسه على طريقة { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6].
وفائدة الإخبار بأن الله يعلم ما توسوس به نفس كل إنسان التنبيه على سعة علم الله تعالى بأحوالهم كلها فإذا كان يعلم حديث النفس فلا عجب أن يعلم ما تنقص الأرض منهم.
والإخبار عن فعل الخلق بصيغة المضي ظاهر، وأما الإخبار عن علم ما توسوس به النفس بصيغة المضارع فللدلالة على أن تعلق علمه تعالى بالوسوسة متجدد غير منقض ولا محدود لإثبات عموم علم الله تعالى، والكناية عن التحذير من إضمار ما لا يرضي الله.
وجملة {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} في موضع الحال من ضمير {ونعلم} .
والمقصود منها تأكيد عاملها وتحقيق استمرار العلم بباطن الإنسان ، ومعنى {توسوس} تتكلم كلاما خفيا همسا. ومصدره الوسواس والوسوسة أطلقت هنا مجازا على ما يجول في النفس من الخواطر والتقديرات والعزائم لأن الوسوسة أقرب شيء تشبه به تلك الخواطر وأحسن ما يستعار لها لأنها تجمع مختلف أحوال ما يجول في العقل من التقادير وما عداها من نحو ألفاظ التوهم والتفكر إنما يدل على بعض أحوال الخواطر دون بعض.
والحبل: هنا واحد حبال الجسم. وهي العروق الغليظة المعروفة في الطب بالشرايين، واحدها: شريان بفتح الشين المهملة وتكسر وبسكون الراء وتعرف بالعروق الضوارب ومنبتها من التجويف الأيسر من تجويفي القلب. وللشرايين عمل كثير في حياة الجسم لأنها التي توصل الدم من القلب إلى أهم الأعضاء الرئيسية مثل الرئة والدماغ والنخاع والكليتين والمعدة والأمعاء. وللشرايين أسماء باعتبار مصابها من الأعضاء الرئيسية.
والوريد: واحد من الشرايين وهو ثاني شريانين يخرجان من التجويف الأيسر من القلب. واسمه في علم الطب أورطي ويتشعب إلى ثلاث شعب ثالثتهما تنقسم إلى قسمين قسم أكبر وقسم أصغر. وهذا الأصغير يخرج منه شريانان يسميان السباتي ويصعدان يمينا

ويسارا مع الودجين، وكل هذه الأقسام يسمى الوريد. وفي الجسد وريدان وهما عرقان يكتنفان صفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه.
وقد تختلف أسماء أجزائه باختلاف مواقعها من الجسد فهو في العنق يسمى الوريد، وفي القلب يسمى الوتين، وفي الظهر يسمى الأبهر، وفي الذراع والفخذ يسمونه الأكحل والنسا، وفي الخنصر يدعى الأسلم.
وإضافة {حبل} إلى {الوريد} بيانية، أي الحبل الذي هو الوريد، فإن إضافة الأعم إلى الأخص إذا وقعت في الكلام كانت إضافة بيانية كقولهم: شجر الأراك.
والقرب هنا كناية عن إحاطة العلم بالحال لأن القرب يستلزم الاطلاع، وليس هو قربا بالمكان بقرينة المشاهدة فآل الكلام إلى التشبيه البليغ تشبيه معقول بمحسوس، وهذا من بناء التشبيه على الكناية بمنزلة بناء المجاز على المجاز.
ومن لطائف هذا التمثيل أن حبل الوريد مع قربه لا يشعر الإنسان بقربه لخفائه، وكذلك قرب الله من الإنسان بعلمه قرب لا يشعر به الإنسان فلذلك اختير تمثيل هذا القرب بقرب حبل الوريد. وبذلك فاق هذا التشبيه لحالة القرب كل تشبيه من نوعه ورد في كلام البلغاء. مثل قولهم: هو منه مقعد القابلة ومعقد الإزار، وقول زهير:
فهن ووادي الرس كاليد للفم
وقول حنظلة بن سيار وهو حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي مخضرم :
كل امرئ مصبح في إهله ... والموت أدنى من شراك نعله
{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
يتعلق {إذ} بقوله {أقرب} [ق: 16] لأن اسم التفضيل يعمل في الظرف وإن كان لا يعمل في الفاعل ولا في المفعول به واللغة تتوسع في الظروف والمجرورات ما لا تتوسع في غيرها، وهذه قاعدة مشهورة ثابتة والكلام تخلص للموعظة والتهديد بالجزاء يوم البعث والجزاء من إحصاء الأعمال خيرها وشرها المعلومة من آيات كثيرة في القرآن. وهذا التخلص بكلمة {إذ} الدالة على الزمان من ألطف التخلص.
وتعريف {المتلقيان} تعريف العهد إذا كانت الآية نزلت بعد آيات ذكر فيها الحفظة،

أو تعريف الجنس، والتثنية فيها للإشارة إلى أن هذا الجنس مقسم اثنين اثنين.
والتلقي: أخذ الشيء من يد معطيه. استعير لتسجيل الأقوال والأعمال حين صدورها من الناس.
وحذف مفعول {يتلقى} لدلالة قوله {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} إذ تحصى أقوالهم وأعمالهم.
فيؤخذ من الآية أن لكل إنسان ملكين يحصيان أعماله وأن أحدهما يكون من جهة يمينه والآخر من جهة شماله. وورد في السنة بأسانيد مقبولة: أن الذي يكون على اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات وورد أنهما يلازمان الإنسان من وقت تكليفه إلى أن يموت.
وقوله {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} يجوز أن يكون {قعيد} بدلا من {الملتقيان} بدل بعض، و {عَنِ الْيَمِينِ} متعلق ب {قعيد} ، وقدم على متعلقه للاهتمام بما دل عليه من الإحاطة بجانبيه وللرعاية على الفاصلة. ويجوز أن يكون {عَنِ الْيَمِينِ} خبرا مقدما، و {قعيد} مبتدأ وتكون الجملة بيانا لجملة {يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ}
وعطف قوله {وَعَنِ الشِّمَالِ} على جملة {يتلقى} وليس عطفا على قوله {عَنِ الْيَمِينِ} لأنه ليس المعنى على أن القعيد قعيد في الجهتين بل كل من الجهتين قعيد مستقل بها. والتقدير: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد آخر. والتعريف في {اليمين} و {الشمال} تعريف العهد أو اللام عوض عن المضاف إليه، أي عن يمين الإنسان وعن شماله.
والقعيد: المقاعد مثل الجليس للمجالس، والأكيل للمؤاكل، والشريب للمشارب، والخليط للمخالط. والغالب في فعيل أن يكون إما بمعنى فاعل، وإما بمعنى مفعول، فلما كان في المفاعلة معنى الفاعل والمفعول معا، جاز مجيء فعيل منه بأحد الاعتبارين تعويلا على القرينة، ولذلك قالوا لامرأة الرجل قعيدته. والقعيد مستعار للملازم الذي لا ينفك عنه كما أطلقوا القعيد على الحافظ لأنه يلازم الشيء الموكل بحفظه.
وجملة {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} الخ مبنية لجملة {يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} فلذلك فصلت. و {ما} نافية وضمير {يلفظ} عائد للإنسان.
واللفظ: النطق بكلمة دالة على معنى، ولو جزء معنى، بخلاف القول فهو الكلام المفيد معنى.
و {من} زائدة في مفعول الفعل المنفي للتنصيص على الاستغراق. والاستثناء في

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68