كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

وتقييد {تَخُطُّهُ} بقيد {بِيَمِينِكَ} للتأكيد لأن الخط لا يكون إلا باليمين فهو كقوله {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]
ووصف المكذبين بالمبطلين منظور فيه لحالهم في الواقع لأنهم كذبوا مع انتفاء شبهة الكذب فكان تكذيبهم الآن باطلا، فهم مبطلون متوغلون في الباطل؛ فالقول في وصفهم بالمبطلين كالقول في وصفهم بالكافرين.
[49] {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}
{بل} إبطال لما اقتضاه الفرض من قوله {إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]، أي بل القرآن لا ريب يتطرقه في أنه من عند الله، فهو كله آيات دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه من عند الله لما اشتمل عليه من الإعجاز في لفظه ومعناه ولما أيد ذلك الإعجاز من كون الآتي به أميا لم يكن يتلو من قبله كتابا ولا يخط، أي بل القرآن آيات ليست مما كان يتلى قبل نزوله بل هو آيات في صدر النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمراد من {صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} صدر النبي صلى الله عليه وسلم عبر عنه بالجمع تعظيما له.
و {الْعِلْمَ} الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم هو النبوة كقوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} ومعنى الآية أن كونه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم هو شأن كل ما ينزل من القرآن حين نزوله، فإذا أنزل فإنه يجوز أن يخطه الكاتبون، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ كتابا للوحي فكانوا ربما كتبوا الآية في حين نزولها كما دل عليه حديث زيد بن ثابت في قوله تعالى {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] وكذلك يكون بعد نزوله متلوا، فالمنفي هو أن يكون متلوا قبل نزوله. هذا الذي يقتضيه سياق الإضراب عن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يتلو كتابا قبل هذا القرآن بحيث يظن أن ما جاء به من القرآن مما كان يتلوه من قبل فلما انتفى ذلك ناسب أن يكشف عن حال تلقي القرآن، فذلك هو موقع قوله {صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} كما قال { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193-194] وقال {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32].
وأما الإخبار بأنه آيات بينات فذلك تمهيد للغرض وإكمال لمقتضاه، ولهذا فالوجه أن يكون الجار والمجرور في قوله {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} خبرا ثانيا عن

الضمير. ويلتئم التقدير هكذا: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك بل هو ألقي في صدرك وهو آيات بينات. ويجوز أن يكون المراد بـ {صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحفاظ المسلمين، وهذا يقتضي أن يكون قوله {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} تتميما للثناء على القرآن وأن الغرض هو الإخبار عن القرآن بأنه آيات بينات فيكون المجرور صفة لـ {آيَاتٌ} ، والإبطال مقتصر على قوله {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} .
وجملة {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} تذييل يؤذن بأن المشركين جحدوا آيات القرآن على ما هي عليه من وضوح الدلالة على أنها من عند الله لأنهم ظالمون لا إنصاف لهم وشأن الظالمين جحد الحق، يحملهم على جحده هوى نفوسهم للظلم، كما قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] فهم متوغلون في الظلم كما تقدم في وصفهم بالكافرين والمبطلين.
[50] {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}
لما ذكر الجاحدين لآية القرآن ثلاث مرات ووصفهم بالكافرين والمبطلين والظالمين انتقل الكلام إلى مقالتهم الناشئة عن جحودهم، وذلك طلبهم أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بآيات مرئية خارقة للعادة تدل على أن الله خلقها تصديقا للرسول كما خلق ناقة صالح وعصا موسى. وهذا من خلافتهم أن لا يتأثروا إلا للأمور المشاهدة وهم يحسبون أن الرسول عليه الصلاة والسلام ينتصب للمعاندة معهم فيهم يقترحون عليه ما يرغبونه ليجعلوا ما يسألونه من الخوارق حديث النوادي حتى يكون محضر الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم كمحضر المشعوذين وأصحاب الخنقطرات. وقد قدمت بيان هذا الوهم عند قوله تعالى {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} في [سورة الأنعام: 37].
ومعنى {عِنْدَ اللَّهِ} أنها من عمل القدرة الذي يجري على وفق إرادته تعالى فلكونها منوطة بإرادته شبهت بالشيء المحفوظ عند مالكه.
وأفادت {إِنَّمَا} قصر النبي عليه الصلاة والسلام على صفة النذارة، أي الرسالة لا يتجاوزها إلى خلق الآيات أو اقتراحها على ربه، فهو قصر إفراد ردا على زعمهم أن من حق الموصوف بالرسالة أن يأتي بالخوارق المشاهدة.

والمعنى: أنه لا يسلم أن التبليغ يحتاج إلى الإتيان بالخوارق على حسب رغبة الناس واقتراحهم حتى يكونوا معذورين في عدم تصديق الرسول إذا لم يأتهم بآية حسب اقتراحهم.
وخص بالذكر من أحوال الرسالة وصف النذير تعريضا بالمشركين بأن حالهم يقتضي الإنذار وهو توقع الشر.
والمبين: الموضح للإنذار بالدلائل العقلية الدالة على صدق ما يخبر به.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {آيَاتٌ} . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {آيَةٍ} . والجمع والإفراد في هذا سواء لأن القصد إلى الجنس، فالآية الواحدة كافية في التصديق.
[51] {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
عطف على جملة {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} [العنكبوت: 50] وهو ارتقاء في المجادلة.
والاستفهام تعجيبي إنكاري. والمعنى: وهل لا يكفيهم من الآيات آيات القرآن فإن كل مقدار من مقادير إعجازه آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإن آيات القرآن زهاء ستة آلاف آية. ومقدار كل ثلاث آيات مقدار معجز، فيحصل من القرآن مقدار ألفي معجزة وذلك لم يحصل لأحد من رسل الله.
{والكتاب} القرآن. وعدل عن لفظ القرآن الذي هو كالعلم عليه إلى لفظ الكتاب المعهود لإيمائه إلى معنى تعظيمه بأنه المشتهر من بين كتب الأنبياء.
وجملة {يتلى عليهم} مستأنفة أو حال، لأن الكتاب معلوم غير محتاج للوصف لما تشعر به مادة التلاوة من الانتشار والشيوع. واختير المضارع دون الوصف بأن يقال: متلو عليهم، لما يؤذن به المضارع من الاستمرار، فحصل من مادة {يُتْلَى} ومن صيغة المضارع دلالة على عموم الأمكنة والأزمنة.
وقد أشار قوله {يُتْلَى عَلَيْهِمْ} وما بعده إلى خمس مزايا للقرآن على غيره من المعجزات.
المزية الأولى: ما أشار إليه قوله {يُتْلَى عَلَيْهِمْ} من انتشار إعجازه وعمومه في المجامع والآفاق والأزمان المختلفة بحيث لا يختص بإدراك إعجازه فريق خاص في زمن

خاص شأن المعجزات المشهودة مثل عصا موسى وناقة صالح وبرء الأكمه، فهو يتلى، ومن ضمن تلاوته الآيات التي تحدت الناس بمعارضته وسجلت عليهم عجزهم عن المعارضة من قبل محاولتهم إياها فكان كما قال فهو معجزة باقية والمعجزات الأخرى معجزات زائلة.
المزية الثانية : كونه مما يتلى، فإن ذلك أرفع من كون المعجزات الأخرى أحوالا مرئية لأن إدراك المتلو إدراك عقلي فكري وهو أعلى من المدركات الحسية فكانت معجزة القرآن أليق بما يستقبل من عصور العلم التي تهيأت إليها الإنسانية.
المزية الثالثة : ما أشار إليه قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً} فإنها واردة مورد التعليل للتعجيب من عدم اكتفائهم بالكتاب وفي التعليل تتميم لما اقتضاه التعبير بالكتاب وبـ {يُتْلَى عَلَيْهِمْ}، فالإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى {الْكِتَابَ} ليستحضر بصفاته كلها وللتنويه به بما تقتضيه الإشارة من التعظيم. وتنكير {رَحْمَةً} للتعظيم، أي لا يقادر قدرها. فالكتاب المتلو مشتمل على ما هو رحمة لهم اشتمال الظرف على المظروف لأنه يشتمل على إقامة الشريعة وهي رحمة وصلاح للناس في دنياهم، فالقرآن مع كونه معجزة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ومرشدة إلى تصديقه مثل غيره من المعجزات هو أيضا وسيلة علم وتشريع وآداب للمتلو عليهم وبذلك فضل غيره من المعجزات التي لا تفيد إلا تصديق الرسول الآتي بها.
المزية الرابعة : ما أشار إليه قوله {وَذِكْرَى} فإن القرآن مشتمل على مواعظ ونذر وتعريف بعواقب الأعمال، وإعداد إلى الحياة الثانية، ونحو ذلك مما هو تذكير بما في تذكره خير الدارين، وبذلك فضل غيره من المعجزات الصامتة التي لا تفيد أزيد من كون الآتية على يديه صادقا.
المزية الخامسة : أن كون القران كتابا متلوا مستطاعا إدراك خصائصه لكل عربي، ولكل من حذق العربية من غير العرب مثل أئمة العربية، يبعده عن مشابهة نفثات السحرة والطلاسم، فلا يستطيع طاعن أن يزعم أنه تخيلات كما قال قوم فرعون لموسى {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} [الزخرف: 49] وقال تعالى حكاية عن المشركين حين رأوا معجزة انشقاق القمر {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]، فأشار قوله {يُعْرِضُوا} إلى أن ذلك القول صدر عنهم في معجزة مرئية.
وعلق بالرحمة والذكرى قوله {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} للإشارة إلى أن تلك منافع من القرآن

زائدة على ما في المعجزات الأخرى من المنفعة التي هي منفعة الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذه مزايا عظيمة لمعجزة القرآن حاصلة في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيبته ومستقلة عن الحاجة إلى بيانه وتكميله بالدعوة وبتكريرها.
واستحضار المؤمنين بعنوان (قوم يؤمنون) دون أن يقال: للمؤمنين، لما في لفظ قوم من الإيماء إلى أن الإيمان من مقومات قوميتهم، أي لقوم شعارهم أن يؤمنوا، يعني لقوم شعارهم النظر والإنصاف فإذا قامت لهم دلائل الإيمان آمنوا ولم يكابروا ظلما وعلوا، فالفعل مراد به الحال القريبة من الاستقبال. وفيه تعريض بالذين لم يكتفوا بمعجزته واقترحوا آيات أخرى لا نسبة بينه وبينها.
[52] {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
{ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
بعد أن ألقمهم حجر الحجة الدامغة أمر بأن يجعل الله حكما بينه وبينهم لما استمر تكذيبهم بعد الدلائل القاطعة.
وهذا من الكلام المنصف المقصود منه استدراج المخاطب.
و {كفى بالله} بمعنى هو كاف لي في إظهار الحق؛ والباء مزيدة للتوكيد. وقد تقدم نظيره في قوله {وكفى بالله شهيدا} في سورة النساء.
والشهيد: الشاهد. ولما ضمن معنى الحاكم عدي بظرف {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} قال الحارث بن حلزة في عمرو بن هند الملك:
وهو الرب والشهيد على يو ... م الحيارين والبلاء بلاء
وجملة {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مقررة لمعنى الاكتفاء به شهيدا فهي تتنزل منها منزلة التوكيد.
[52] {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
بعد أن أنصفهم بقوله {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} استمر في الانتصاف بما لا يستطيعون إنكاره وهو أن الذين اعتقدوا الباطل وكفروا بالله هم الخاسرون في الحكومة والقضية الموكولة إلى الله تعالى؛ فهم إن تأملوا في إيمانهم بالله حق التأمل وجدوا أنفسهم غير مؤمنين بإلهيته لأنهم أشركوا معه ما ليس حقيقا بالإلهية فعلموا أنهم كفروا بالله فتعين

أنهم آمنوا بالباطل فالكلام موجه كقوله {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، وقول حسان في أبي سفيان بن حرب أيام جاهليته:
أتهجوه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء
وفي الجمع بين {آمَنُوا} {وَكَفَرُوا} محسن المضادة وهو الطباق.
والباطل: ضد الحق، أي ما ليس بحقيق أن يؤمن به، أي ما ليس بإله حق ولكنهم يدعون له الإلهية وذلك إيمانهم بإلهية الأصنام. وأما كفرهم بالله فلأنهم أشركوا معه في الإلهية فكفروا بأعظم صفاته وهي الوحدانية. واسم الإشارة يفيد التنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف التي ذكرت لهم قبل اسم الإشارة، مثل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5].
والقصر المستفاد من تعريف جزأي جملة {هُمُ الْخَاسِرُونَ} قصر ادعائي للمبالغة في اتصافهم بالخسران العظيم بحيث إن كل خسران في جانب خسرانهم كالعدم؛ فكأنهم انفردوا بالخسران فأطلق عليهم المركب المفيد قصر الخسران عليهم وذلك لأنهم حقت عليهم الشقاوة العظمى الأبدية. واستعير الخسران لانعكاس المأمول من العمل المكد تشبيها بحال من كد في التجارة لينال مالا فأفنى رأس ماله، وقد تقدم عند قوله تعالى {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16].
[53-55] {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
عطف على جملة {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} [العنكبوت: 50] استقصاء في الرد على شبهاتهم وإبطالا لتعلات إعراضهم الناشئ عن المكابرة، وهم يخيلون أنهم إنما أعرضوا لعدم اقتناعهم بآية صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومناسبة وقوعه هنا أنه لما ذكر كفرهم بالله وكان النبي عليه الصلاة والسلام ينذرهم على ذلك بالعذاب وكانوا يستعجلونه به ذكر توركهم عليه عقب ذكر الكفر. واستعجال العذاب: طلب تعجيله وهو العذاب الذي توعدوا به. وقصدهم من ذلك الاستخفاف بالوعيد. وتقدم الكلام على تركيب {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} في قوله تعالى {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} في [سورة يونس: 11]، وقوله {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ

قَبْلَ الْحَسَنَةِ} في [سورة الرعد: 6]. والتعريف في (العذاب) تعريف الجنس. وحكي استعجالهم العذاب بصيغة المضارع لاستحضار حال استعجالهم لإفادة التعجيب منها كما في قوله تعالى {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} .
وقد أبطل ما قصدوه بقوله {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} وذلك أن حلول العذاب ليس بيد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا جاريا على طلبهم واستبطائهم فإن الله هو المقدر لوقت حلوله بهم في أجل قدره بعلمه.
والمسمى أريد به المعين المحدود أي في علم الله تعالى. وقد تقدم عند قوله تعالى {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} في [سورة الحج: 5].
والمعنى: لولا الأجل المعين لحلول العذاب بهم لجاءهم العذاب عاجلا لأن كفرهم يستحق تعجيل عقابهم ولكن أراد الله تأخيره لحكم علمها، منها إمهالهم ليؤمن منهم من آمن بعد الوعيد، وليعلموا أن الله لا يستفزه استعجالهم العذاب لأنه حكيم لا يخالف ما قدره بحكمته، حليم يمهل عباده. فالمعنى: لولا أجل مسمى لجاءهم العذاب في وقت طلبهم تعجيله، ثم أنذرهم بأنه بغتة وأن إتيانه محقق لما دل عليه لام ا لقسم ونون التوكيد وذلك عند حلول الأجل المقدر له. وقد حل بهم عذاب يوم بدر بغتة كما قال تعالى {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} فاستأصل صناديدهم يومئذ وسقط في أيديهم.
وإذ قد كان الله أعد لهم عذابا أعظم من عذاب يوم بدر وهو عذاب جهنم الذي يعم جميعهم أعقب إنذارهم بعذاب يوم بدر بإنذارهم بالعذاب الأعظم. وأعيد لأجله ذكر استعجالهم بالعذاب معترضا بين المتعاطفين إيماء إلى أن ذلك جواب استعجالهم فإنهم استعجلوا العذاب فأنذروا بعذابين، أحدهما أعجل من الآخر. وفي إعادة { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} تهديد وإنذار بأخذهم، فجملة {وَإِنَّ جَهَنَّمَ} معطوفة على جملة {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} فهما عذابان كما هو مقتضى ظاهر العطف.
والإحاطة كناية عن عدم إفلاتهم منها.
والمراد بالكافرين المستعجلون. واستحضروا بوصف الكافرين للدلالة على أنه موجب إحاطة العذاب بهم. واستعمل اسم الفاعل في الإحاطة المستقبلة مع أن شأن اسم الفاعل أن يفيد الاتصاف في زمن الحال، تنزيلا للمستقبل منزلة زمان الحال تنبيها على تحقيق وقوعه لصدوره عمن لا خلاف في إخباره.

ويتعلق {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ} بـ(محيطة)، أي تحيط بهم يوم يغشاهم العذاب. وفي قوله {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} تصوير للإحاطة. والغشيان: التغطية والحجب.
وقوله {مِنْ فَوْقِهِمْ } بيان للغشيان لتصويره تفظيعا لحاله كقوله {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وتأكيدا لمعنى الغشيان لرفع احتمال المجاز، فهو في موضع الحال من {الْعَذَابِ} وهي حال مؤكدة.
وقوله {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} احتراس عما قد يوهمه الغشيان من الفوقية خاصة، أي تصيبهم نار من تحتهم تتوهج إليهم وهم فوقها، ولما كان معطوفا على الحال بالواو وكان غير صالح لأن يكون قيدا لـ {يَغْشَاهُمُ} لأن الغشيان هو التغطية فتقتضي العلو تعين تقدير فعل يتعلق به {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} ، وهو أن يقدر عامل محذوف. وقد عد هذا العمل من خصائص الواو في العطف أن تعطف عاملا محذوفا دل عليه معموله- كقول عبد الله بن الزبعرى:
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا
يريد: وممسكا رمحا لأن الرمح لا يتقلد يصلح أن يكون مفعولا معه وأبو عبيدة والأصمعي والجرمي واليزيدي، ومن وافقهم يجعلون هذا من قيبل تضمين الفعل معنى فعل صالح للتعلق بالمذكور فيقدر في هذه الآية تضمين فعل {يَغْشَاهُمُ} معنى يصيبهم أو يأخذهم . والمقصود من هذا الكناية عن أن العذاب محيط بهم، فلذلك لم يذكر الجانبان الأيمن والأيسر لأن الغرض من الكناية قد حصل. والمقام مقام إيجاز لأنه مقام غضب وتهديد بخلاف قوله تعالى {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] لأنه حكاية لإلحاح الشيطان في الوسوسة.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي {وَيَقُولُ} بالياء التحتية والضمير عائد إلى معلوم من المقام. فالتقدير: ويقول الله. وعدل عن ضمير التكلم على خلاف مقتضى الظاهر على طريقة الالتفات على رأي كثير من أئمة البلاغة، أو يقدر: ويقول الملك الموكل بجهنم، أو التقدير: ويقول العذاب، بأن يجعل الله للنار أصواتا كأنها قول القائل: ذوقوا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالنون وهي نون العظمة.
ومعنى {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} جزاؤه لأن الجزاء لما كان بقدر المجزي أطلق عليه

اسمه مجازا مرسلا أو مجازا بالحذف.
[56] {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}
استئناف ابتدائي وقع اعتراضا بين الجملتين المتعاطفتين: جملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وجملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} [العنكبوت: 58] الآية. وهذا أمر بالهجرة من دار الكفر. ومناسبته لما قبله أن الله لما ذكر عناد المشركين في تصديق القرآن وذكر إيمان أهل الكتاب به آذن المؤمنين من أهل مكة أن يخرجوا من دار المكذبين إلى دار الذين يصدقون بالقرآن وهم أهل المدينة فإنهم يومئذ ما بين مسلمين وبين يهود فيكون المؤمنون في جوارهم آمنين من الفتن يعبدون ربهم غير مفتونين. وقد كان فريق من أهل مكة مستضعفين قد آمنوا بقلوبهم ولم يستطيعوا إظهار إيمانهم خوفا من المشركين مثل الحارث بن ربيعة بن الأسود كما تقدم عند قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} في أول هذه السورة، وكان لهم العذر حين كانوا لا يجدون ملجأ سالما من أهل الشرك، وكان فريق من المسلمين استطاعوا الهجرة إلى الحبشة من قبل، فلما أسلم أهل المدينة زال عذر المؤمنين المستضعفين إذ أصبح في استطاعتهم أن يهاجروا إلى المدينة فلذلك قال الله تعالى {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . فقوله {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} كلام مستعمل مجازا مركبا في التذكير بأن في الأرض بلادا يستطيع المسلم أن يقطنها آمنا، فهو كقول إياس بن قبيصة الطائي:
ألم تر الأرض رحب فسيحة
فهل تعجزني بقعة من بقاعها
ألا تراه كيف فرع على كونها رحبا قوله: فهل تعجزني بقعة. وكذلك في الآية فرع على كونها واسعة الأمر بعبادة الله وحده للخروج مما كان يفتن به المستضعفون من المؤمنين إذ يكرهون على عبادة الأصنام كما تقدم في قوله تعالى {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106].
فالمعنى: أن أرضي التي تأمنون فيها من أهل الشرك واسعة، وهي المدينة والقرى المجاورة لها مثل خيبر والنضير وقريظة وقينقاع، وما صارت كلها مأمنا إلا بعد أن أسلم أهل المدينة لأن تلك القرى أحلاف لأهل المدينة من الأوس والخزرج.
وأشعر قوله {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} أن علة الأمر لهم بالهجرة هي تمكينهم من إظهار

التوحيد وإقامة الدين. وهذا هو المعيار في وجوب الهجرة من البلد الذي يفتن فيه المسلم في دينه وتجري عليه فيه أحكام غير إسلامية. والنداء بعنوان التعريف بالإضافة لتشريف المضاف. ومصطلح القرآن أن (عباد) إذا أضيف إلى ضمير الجلالة فالمراد بهم المؤمنون غالبا إلا إذا قامت قرينة كقوله {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [الفرقان: 17]، وعليه فلا وصف بـ {الَّذِينَ آمَنُوا} لما في الموصول من الدلالة على أنهم آمنوا بالله حقا ولكنهم فتنوا إلى حد الإكراه على إظهار الكفر.
والفاء في قوله {فَإِيَّايَ} فاء التفريع والفاء في قوله {فَاعْبُدُونِ} إما مؤكدة للفاء الأولى للدلالة على تحقيق التفريع في الفعل وفي معموله، أي فلا تعبدوا غيري فاعبدون؛ وإما مؤذنة بمحذوف هو ناصب ضمير المتكلم تأكيدا للعبادة. والتقدير: وإياي اعبدوا فاعبدون. وهو أنسب بدلالة التقديم على الاختصاص لأنه لما أفاد الأمر بتخصيصه بالعبادة كان ذكر الفاء علامة تقدير على تقدير فعل محذوف قصد من تقديره التأكيد، وقد تقدم في قوله تعالى {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} في أوائل [سورة البقرة: 40].
وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية تخفيفا، وللرعاية على الفاصلة. ونظائره كثيرة.
[57] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
اعتراض ثان بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها تأكيد الوعيد الذي تضمنته جملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} إلى آخرها والوعد الذي تضمنته جملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} أي الموت مدرك جميع الأنفس ثم يرجعون إلى الله. وقصد منها أيضا تهوين ما يلاقيه المؤمنون من الأذى في الله ولو بلغ إلى الموت بالنسبة لما يترقبهم من فضل الله وثوابه الخالد، وفيه إيذان بأنهم يترقبهم جهاد في سبيل الله.
وقرأ الجمهور {تُرْجَعُونَ} بتاء الخطاب على أنه خطاب للمؤمنين في قوله {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} . وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة تبعا لقوله {يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ} .
[58-59] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}

عطف على جملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} .
وجيء بالموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر، أي نبوئهم غرفا لأجل إيمانهم وعملهم الصالح.
والتبوئة: الإنزال والإسكان، وقد تقدم عند قوله تعالى {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} في [سورة يونس: 93]. وقرأ الجمهور {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} بموحدة بعد نون العظمة وهمزة بعد الواو. وقرأ حمزة والكسائي وخلف {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} بمثلثة بعد النون وتحتية بعد الواو من أثواه بهمزة التعدية إذا جعله ثاويا، أي مقيما في مكان.
والغرف: جمع غرفة وهو البيت المعتلى على غيره. وتقدم عند قوله تعالى {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} في آخر [سورة الفرقان: 75].
وجملة {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} الخ إنشاء ثناه وتعجيب على الأجر الذي أعطوه، فلذلك قطعت عن العطف. وقوله {الَّذِينَ صَبَرُوا} خبر مبتدأ محذوف اتباعا للاستعمال، والتقدير: هم الذين صبروا. والمراد: صبرهم على إقامة الدين وتحمل أذى المشركين، وقد علموا أنهم لاقوه فتوكلوا على ربهم ولم يعبأوا بقطيعة قومهم ولا بحرمانهم من أموالهم ثم فارقوا أوطانهم فرارا بدينهم من الفتن.
ومن اللطائف مقابلة غشيان العذاب الكفار من فوقهم ومن تحت أرجلهم بغشيان النعيم المؤمنين من فوقهم بالغرف ومن تحتهم بالأنهار.
وتقديم المجرور على متعلقه من قوله {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} للاهتمام. وتقدم معنى التوكل عند قوله تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في [سورة آل عمران: 159].
[60] {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
عطف على جملة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت: 57] فإن الله لما هون بها أمر الموت في مرضاة الله وكانوا ممن لا يعبأ بالموت علم أنهم يقولون في أنفسهم: إنا لا نخاف الموت ولكنا نخاف الفقر والضيعة. واستخفاف العرب بالموت سجية كما أن خشية المعرة من سجاياهم كما بيناه عند قوله تعالى {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31]، فأعقب ذلك بأن ذكرهم بأن رزقهم على الله وأنه لا يضيعهم. وضرب لهم

المثل برزق الدواب، وللمناسبة في قوله تعالى {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56] من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقا في البلاد التي يهاجرون إليها، وهو أيضا مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت: 59]، وفي الحديث لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. ولعل ما في هذه الآية وما في الحديث مقصود به المؤمنون الأولون؛ ضمن الله لهم رزقهم لتوكلهم عليه في تركهم أموالهم بمكة للهجرة إلى الله ورسوله. وتوكلهم هو حق التوكل، أي أكمله وأحزمه فلا يضع نفسه في هذه المرتبة من لم يعمل عملهم.
وتقدم الكلام على {كَأَيِّنْ} عند قوله تعالى {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} في [سورة آل عمران: 146].
وقوله {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} خبر غير مقصود منه إفادة الحكم بل هو مستعمل مجازا مركبا في لازم معناه وهو الاستدلال على ضمان رزق المتوكلين من المؤمنين. وتمثيله للتقريب بضمان رزق الدواب الكثيرة التي تسير في الأرض لا تحمل رزقها، وهي السوائم الوحشية، والقرينة على هذا الاستعمال هو قوله {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} الذي هو استئناف بياني لبيان وجه سوق قوله {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} ولذلك عطف {وَإِيَّاكُمْ} على ضمير {دَابَّةٍ} . والمقصود: التمثيل في التيسير والإلهام للأسباب الموصلة وإن كانت وسائل الرزق مختلفة.
والحمل في قوله {لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} يجوز أن يكون مستعملا في حقيقته، أي تسير غير حاملة رزقها لا كما تسير دواب القوافل حاملة رزقها، وهو علفها فوق ظهورها بل تسير تأكل من نبات الأرض: ويجوز أن يستعمل مجازا في التكلف له، مثل قول جرير:
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له
أي لا تتكلف لرزقها. وهذا حال معظم الدواب عدا النملة والفارة، قيل وبعض الطير كالعقعق.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله {اللَّهُ يَرْزُقُهَا} دون أن يقول: يرزقها الله، ليفيد بالتقديم معنى الاختصاص، أي الله يرزقها لا غيره، فلماذا تعبدون أصناما ليس بيدها رزق.
وجملة {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} عطف على جملة {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} . فالمعنى:

الله يرزقكم وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من الإخلاص لله في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم منه الرزق.
[61] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} هذا الكلام عائد إلى قوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52] تعجيبا من نقائض كفرهم، أي هم كفروا بالله وإن سألهم سائل عمن خلق السماوات والأرض يعترفوا بأن هو خالق ذلك ولا يثبتون لأصنامهم شيئا من الخلق فكيف يلتقي هذا مع ادعائهم الإلهية لأصنامهم. ولذلك قال الله {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي كيف يصرفون عن توحيد الله وعن إبطال إشراكهم به ما لا يخلق شيئا.
وهذا الإلزام مبني على أنهم لا يستطيعون إذا سئلوا إلا الاعتراف لأنه كذلك في الواقع ولأن القرآن يتلى عليهم كلما نزل منه شيء يتعلق بهم ويتلوه المسلمون على مسامعهم فلو استطاعوا إنكار ما نسب إليهم لصدعوا به.
وضمير جمع الغائبين عائد إلى الذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله واستعجلوا بالعذاب بقرينة قوله {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} . والاستفهام في قوله {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} إنكار وتعجيب. وتخصيص تسخير الشمس والقمر بالذكر من بين مظاهر خلق السماوات والأرض لما في حركتهما من دلالة على عظيم القدرة، مع ما في ذلك من المنة على الناس إذ ناط بحركتهما أوقات الليل والنهار وضبط الشهور والفصول.
وتسخير الشيء: إلجاؤه لعمل شديد. وأحسب أنه حقيقة سواء كان المسخر بالفتح ذا إرادة أم كان جمادا. وقد تقدم عند قوله تعالى {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} في [سورة الأعراف: 54].
[62] {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
هذا إلزام آخر لهم بإبطال شركهم وافتضاح تناقضهم فإنهم كانوا معترفين بأن الرازق هو الله تعالى {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى قوله {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} في [سورة يونس: 31]. وإنما جاء أسلوب هذا الاستدلال

مخالفا لأسلوب الذي قبله والذي بعده فعدل عن تركيب {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} [العنكبوت: 61] تفننا في الأساليب لتجديد نشاط السامع.
وأدمج في الاستدلال على انفراده تعالى بالرزق التذكير بأنه تعالى يرزق عباده على حسب مشيئته دليلا على أنه المختار في تصرفه وليس ذلك على مقادير حاجاتهم ولا على ما يبدو من الانتفاع بما يرزقونه.
وبسط الرزق: إكثاره، وقدره: تقليله. والمقصود: أنه الرازق لأحوال الرزق، وقد تقدم في قوله تعالى {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} في [سورة الرعد: 26]. فجاءت هذه الآية على وزان قوله في [سورة الروم: 37] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فجمع بين ضمير المشركين في أولها وبين كون الآيات للمؤمنين في آخرها.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله {اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} لإفادة الاختصاص، أي الله لا غيره يبسط الرزق ويقدر. والتعبير بالمضارع لإفادة تجدد البسط والقدر. وزيادة {له} بعد {وَيَقْدِرُ} في هذه الآية دون آية سورة الرعد وآية القصص للتعريض بتبصير المؤمنين الذين ابتلوا في أموالهم من اعتداء المشركين عليها كما أشار إليه قوله آنفا {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت: 60] بأن ذلك القدر في الرزق هو لهم لا عليهم لما ينجر لهم منه من الثواب ورفع الدرجات، فغلب في هذا الغرض جانب المؤمنين ولهذا لم يعد {يَقْدِرُ} بحرف (على) كما هو مقتضى معنى القدر كما في قوله تعالى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]. وقال بعض المفسرين: إن المشركين عبروا المسلمين بالفقر، وقيل: إن بعض المسلمين قالوا إن هاجرنا لم نجد ما ننفق.
والضمير المجرور باللام عائد إلى (من يشاء من عباده) باعتبار أن (من يشاء) عام ليس بشخص معين لا سيما وقد بين عمومه بقوله {مِنْ عِبَادِهِ} . والمعنى: أنه يبسط الرزق لفريق ويقدر لفريق.
والتذييل بقوله {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لإفادة أن ذلك كله جار على حكمة لا يطلع عليها الناس، وإن الله يعلم صبر الصابرين وجزع الجازعين كما تقدم في قوله في أول السورة {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] قال تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ

أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
[63] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}
أعيد أسلوب السؤال والجواب ليتصل ربط الأدلة بعضها ببعض على قرب. فقد كان المشركون لا يدعون أن الأصنام تنزل المطر كما صرحت به الآية فقامت الحجة عليهم ولم ينكروها وهي تقرع أسماعهم.
وأدمج في الاستدلال عليهم بانفراده تعالى بإنزال المطر أن الله أحيا به الأرض بعد موتها وإن كان أكثر المشركين ينسبون المسببات إلى أسبابها العادية كما تبين في بحث الحقيقة والمجاز العقليين في قولهم: أنبت الربيع البقل، أنه حقيقة عقلية في كلام أهل الشرك لأنهم مع ذلك لا ينسبون الإنبات إلى أصنامهم، وقد اعترفوا بأن سبب الإنبات وهو المطر منزل من عند الله فيلزمهم أن الإنبات من الله على كل تقدير.
وفي هذا الإدماج استدلال تقريبي لإثبات البعث كما قال {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50] وقال {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19].
ولما كان سياق الكلام هنا في مساق التقرير كان المقام مقتضيا للتأكيد بزيادة {مِنَ} في قوله {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} إلجاء لهم إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله دون أصنامهم فلذلك لم يكن مقتض لزيادة (من) في آية البقرة، وفي آية [الجاثية: 5] {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} .
وقد أشار قوله {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} إلى موت الأرض، أي موت نباتها يكون بإمساك المطر عنها في فصول الجفاف أو في سنين الجدب لأنه قابله بكون إنزال المطر لإرادته إحياء الأرض بقوله {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} ، فلا جرم أن يكون موتها بتقدير الله للعلم بأن موت الأرض كان بعد حياة سبقت من نوع هذه الحياة، فصارت الآية دالة على أنه المتصرف بإحياء الأرض وإماتتها، ويعلم منه أن محيي الحيوان ومميته بطريقة لحن الخطاب. فانتظم من هذه الآيات المفتتحة بقوله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [العنكبوت: 61] إلى هنا أصول صفات أفعال الله تعالى، وهي: الخلق، والرزق،

والإحياء، والإماتة، من أجل ذلك عقبت بأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بان يحمده بكلام يدل على تخصيصه بالحمد.
[63] {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}
لما اتضحت الحجة على المشركين بأن الله منفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، ولزم من ذلك أن ليس لأصنامهم شرك في هذه الأفعال التي هي أصول نظام ما على الأرض من الموجودات فكان ذلك موجبا لإبطال شركهم بما لا يستطيعون إنكاره ولا تأويله بعد أن قرعت أسماعهم دلائله وهم واجمون لا يبدون تكذيبا فلزم من ذلك صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما دعاهم إليه. وكذبهم فيما تطاولوا به عليه في أمر الله ورسوله بأن يحمده على أن نصره بالحجة نصرا يؤذن بأنه سينصره بالقوة. وتلك نعمة عظيمة تستحق أن يحمد الله عليها إذ هو الذي لقنها رسوله صلى الله عليه وسلم بكتابه وما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان.
فهذا الحمد المأمور به متعلقه محذوف تقديره: الحمد لله على ذلك. وهو الحجج المتقدمة، وليس خاصا بحجة إنزال الماء من السماء، وكذلك شأن القيود الواردة بعد جمل متعددة أن ترجع إلى جميعها، وكذلك ترجع معها متعلقاتها بكسر اللام وقرينة المقام كنار على علم، ألا ترى أن كل حجة من تلك الحجج تستأهل أن يحمد الله على إقامتها فلا تختص بالحمد حجة إنزال المطر فقد قال تعالى في [سورة لقمان: 25] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فلذلك لا يجعل قوله {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} اعتراضا.
و {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إضراب انتقال من حمد الله على وضوح الحجج إلى ذم المشركين بأن أكثرهم لا يتفطنون لنهوض تلك الحجج الواضحة فكأنهم لا عقل لهم لأن وضوح الحجج يقتضي أن يفطن لنتائجها كل ذي مسكة من عقل فنزلوا منزلة من لا عقول لهم.
وإنما أسند عدم العقل إلى أكثرهم دون جميعهم لأن من عقلائهم وأهل الفطن منهم من وضحت له تلك الحجج فمنهم من آمنوا، ومنهم من أصروا على الكفر عنادا.
[64] {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
هذا الكلام مبلغ إلى الفريقين اللذين تضمنهما قوله تعالى {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}

[العنكبوت: 63] فإن عقلاءهم آثروا باطل الدنيا على الحق الذي وضح لهم، ودهماءهم لم يشعروا بغير أمور الدنيا، وجميعهم أنكروا البعث فأعقب الله ما أوضحه لهم من الدلائل بأن نبههم على أن الحياة الدنيا كالخيال وأن الحياة الثانية هي الحياة الحق والمراد بالحياة ما تشتمل عليه من الأحوال وذلك يسري إلى الحياة نفسها.
واللهو: ما يلهو به الناس، أي يشتغلون به عن الأمور المكدرة أو يعمرون به أوقاتهم الخلية عن الأعمال.
واللعب: ما يقصد به الهزل والانبساط. وتقدم تفسير اللعب واللهو ووجه حصر الحياة الدنيا فيهما عند قوله تعالى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} في [سورة الأنعام: 32].
والحصر: ادعائي كما تقدم. وقد زادت هذه الآية بتوجيه اسم الإشارة إلى الحياة وهي إشارة تحقير وقلة اكتراث، كقول قيس بن الخطيم مشيرا إلى الموت:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
ولم توجه الإشارة إلى الحياة في سورة الأنعام. ووجه ذلك أن هذه الآية لم يتقدم فيها ما يقتضي تحقير الحياة فجيء باسم الإشارة لإفادة تحقيرها، وأما آية سورة الأنعام فتقدم قوله {إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31] فذكر لهم في تلك الآية ما سيظهر لهم إذا جاءتهم الساعة من ذهاب حياتهم الدنيا سدى.
وأما تقديم ذكر اللهو هنا وذكر اللعب في سورة الأنعام فلأن آية سورة الأنعام لم تشتمل على اسم إشارة يقصد منه تحقير الحياة الدنيا فكان الابتداء بأنها لعب مشيرا إلى تحقيرها لأن اللعب أعرق في قلة الجدوى من اللهو.
ولما أشير في هذه الآية إلى الحياة الآخرة في قوله {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} [العنكبوت: 63] زاده تصريحا بأن الحياة الآخرة هي الحياة الحق فصيغ لها وزن الفعلان الذي هو صيغة تنبئ عن معنى التحرك توضيحا لمعنى كمال الحياة بقدر المتعارف، فإن التحرك والاضطراب أمارة على قوة الحيوية في الشيء مثل الغليان واللهبان. وهم قد جهلوا الحياة الآخرة من أصلها فلذلك قال {لو كانوا يعلمون} . وجواب {لو} محذوف دليله ما تقدم، أو هو الجواب مقدما.
[65-66] { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}

أفادت الفاء تفريع ما بعدها على ما قبلها، والمفرع عليه محذوف ليس هو واحدا من الأخبار المتقدمة بخصوصه ولكنه مجموع ما تدل عليه قوة الحديث عنهم وما تقتضيه الفاء. والتقدير: هم أي المشركون على ما وصفوا به من الغفلة عن دلائل الوحدانية وإلغائهم ما في أحوالهم من دلائل الاعتراف لله بها لا يضرعون إلا إلى الله فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله، فضمائر جمع الغائبين عائدة إلى المشركين.
وهذا انتقال إلى إلزامهم بما يقتضيه دعاؤهم حين لا يشركون فيه إلها آخر مع الله بعد إلزامهم بموجبات اعترافاتهم فإنهم يدعون أصنامهم في شؤون من أحوالهم ويستنصرونهم ولكنهم إذا أصابهم هول توجهوا بتضرعهم إلى الله.
وإنما خص بالذكر حال خوفهم من هول البحر في هذه الآية وفي آيات كثيرة مثل ما في سورة يونس وما في سورة الإسراء لأن أسفارهم في البر كانوا لا يعتريهم فيها خوف يعم جميع السفر لأنهم كانوا يسافرون قوافل، معهم سلاحهم، ويمرون بسبل يألفونها فلا يعترضهم خوف عام، فأما سفرهم في البحر فإنهم يفرقون من هوله ولا يدفعه عنهم وفرة عدد ولا قوة عدد، فهم يضرعون إلى الله بطلب النجاة ولعلهم لا يدعون أصنامهم حينئذ.
فأما تسخير المخلوقات فما كانوا يطمعون به إلا من الله تعالى، وأيضا كان يخامرهم الخوف عند ركوبهم في البحر لقلة إلفهم بركوبه إذ كان معظم أسفارهم في البراري.
وقد تقدم تعدية الركوب بحرف (في) عند قوله {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} في [سورة هود: 41]. والإخلاص: التمحيض والإفراد.
والدين: المعاملة. والمراد به هنا الدعاء، أي دعوا الله غير مشركين معه أصنامهم. ويفسر ذلك قوله {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} .
فجيء بحرف المفاجأة للدلالة على أنهم ابتدروا إلى الإشراك في حين حصولهم في البر، أي أسرعوا إلى ما اعتادوه من زيارة أصنامهم والذبح لها. والمفاجأة عرفية بحسب ما يقتضيه الإرساء في البر والوصول إلى مواطنهم فكانوا يبادرون بإطعام الطعام عند الرجوع من السفر.
واللام في {لِيَكْفُرُوا} لام التعليل وهي لام كي وهي متعلقة بفعل {يُشْرِكُونَ} . والكفر هنا ليس هو الشرك ولكنه كفران النعمة بقرينة قوله {بِمَا آتَيْنَاهُمْ} فإن الإيتاء بمعنى الإنعام وبقرينة تفريعه على {يُشْرِكُونَ} فالعلة مغايرة للمعلول وكفران النعمة مسبب عن

الإشراك لأنهم لما بادروا إلى شؤون الإشراك فقد أخذوا يكفرون النعمة، فاللام استعارة تبعية؛ شبه المسبب بالعلة الباعثة فاستعير له حرف التعليل عوضا عن فاء التفريع.
وأما اللام في قوله {وَلِيَتَمَتَّعُوا} بكسر اللام على أنها لام التعليل في قراءة ورش عن نافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب. وقرأه قالون عن نافع وابن كثير، وحمزة والكسائي، وخلف بسكونها فهي لام الأمر، وهي بعد حرف العطف تسكن وتكسر، وعليه فالأمر مستعمل في التهديد نظير قوله {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وهو عطف جملة التهديد على جملة {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} الخ... نظير قوله في [سورة الروم: 34] {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
والتمتع: الانتفاع القصير زمنه.
وجملة {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تفريع على التهديد بالوعيد.
[67] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}
هذا تذكير خاص لأهل مكة وإنما خصوا من بين المشركين من العرب لأن أهل مكة قدوة لجميع القبائل؛ ألا ترى أن أكثر قبائل العرب كانوا ينتظرون ماذا يكون من أهل مكة فلما أسلم أهل مكة يوم الفتح أقبلت وفود القبائل معلنة إسلامهم.
والجملة معطوفة على جملة {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ} باعتبار ما اشتملت عليه تلك الجملة من تقريعهم على كفران نعم الله تعالى، ولذلك عقبت هذه الجملة بقوله {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} .
والاستفهام إنكاري، وجعلت نعمة أمن بلدهم كالشيء المشاهد فأنكر عليهم عدم رؤيته، فقوله {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} مفعول {يَرَوْا} .
ومعنى هذه الآية يعلم مما تقدم عند الكلام على قوله تعالى { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} في [سورة القصص: 57] وقد كان أهل مكة في بحبوحة من الأمن وكان غيرهم من القبائل حول مكة وما بعد منها يغزو بعضهم بعضا ويتغاورون ويتناهبون، وأهل مكة آمنون لا يعدو عليهم أحد مع قلتهم، فذكرهم الله هذه النعمة عليهم.

والباطل: هو الشرك كما تقدم عند قوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} في هذه السورة [العنكبوت:52] و(نعمة الله) المراد بها الجنس الذي منه إنجاؤهم من الغرق وما عداه من النعم المحسوسة المعروفة، ومن النعم الخفية التي لو تأملوا لأدركوا عظمها، ومنها نعمة الرسالة المحمدية. والمضارع في المواضع الثلاثة دال على تجدد الفعل.
[68] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ}
لما أوفاهم ما يستأهلونه من تشنيع أحوالهم وسوء انتظام شؤونهم جاء في عقبه بتذييل يجمعها في أنها افتراء على الله وتكذيب بالحق، ثم جزاهم الجزاء الأوفى اللائق بحالهم وهو أن النار مثواهم.
وافتتح تشخيص حالهم بالاستفهام عن وجود فريق هم أظلم من هؤلاء الذين افتروا على الله وكذبوا بالحق توجيها لأذهان السامعين نحو البحث هل يجدون أظلم منهم حتى إذا أجادوا التأمل واستقروا مظان الظلمة واستعرضوا أصنافهم تيقنوا أن ليس ثمة ظلم أشد من ظلم هؤلاء.
وإنما كانوا أشد الظالمين ظلما لأن الظلم الاعتداء على أحد بمنعه من حقه وأشد من المنع أن يمنعه مستحقه ويعطيه من لا يستحقه، وأن يلصق بأحد ما هو بريء منه. ثم إن الاستحقاق وعدمه قد يثبتان بحكم العوائد وقد يثبتان بأحكام الشرائع وقد يثبتان بقضايا العقول السليمة وهو أعلى مراتب الثبوت ومدار أمور أهل الشرك على الافتراء على الله بأن سلبوا عنه ما هو متصف به من صفات الإلهية الثابتة بدلالة العقول، وأثبتوا له ما هو منزه عنه من الصفات والأفعال بدلالة العقول، وعلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ونكران دلالة المعجزة التي يقتضيها العقل، وعلى رمي الرسول عليه الصلاة والسلام بما هو بريء منه بشهادة العقل والعادة التي عرفوها منه بهتانا وكذبا، فكانوا بمجموع الأمرين وضعوا أشياء في مواضع لا يمكن أن تكون مواضعها فكانوا أظلم الناس لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول.
وتقييد الافتراء بالحال المؤكدة في قوله {كَذِباً} لزيادة تفظيع الافتراء لأن اسم الكذب مشتهر القبح في عرف الناس، وإنما اختير الافتراء للدلالة على أنهم يتعمدون الاختلاق تعمدا لا تخالطه شبهة.
وتقييد تكذيبهم بالحق بقوله {لَمَّا جَاءَهُ} لإدماج ذم المكذبين بنكران نعمة إرسال الحق إليهم التي لم يقدروها قدرها، وكان شأن العقلاء أن

يتطلبوا الحق ويرحلوا في طلبه، وهؤلاء جاءهم الحق بين أيديهم فكذبوا به.
وأيضا فإن {لَمَّا} التوقيتية تؤذن بأن تكذيبهم حصل بدارا عند مجيء الحق، أي دون أن يتركوا لأنفسهم مهلة النظر.
وجملة {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} بيان لجملة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} وتقرير لها لأن في جملة {ومن أظلم ممن افترى على الله} إلى آخرها إيذانا إجماليا بجزاء فظيع يترقبهم، فكان بيانه بمضمون جملة {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} ، وهو بألفاظه ونظمه يفيد تمكنهم من عذاب جهنم إذ جعلت مثواهم. فالمثوى: مكان الثواء. والثواء: الإقامة الطويلة والسكنى. وعلق ذلك بعنوان الكافرين للتنبيه على استحقاقهم ذلك لأجل كفرهم.
والتعريف في {الكافرين} تعريف العهد، أي لهؤلاء الكافرين وهم الذين ذكروا من قبل بأنهم افتروا على الله كذبا وكذبوا بالحق، فكان مقتضى الظاهر الإتيان بضميرهم فعدل عنه إلى الاسم الظاهر لإحضارهم بوصف الكفر.
والهمزة في {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ} للاستفهام التقريري، وأصلها: إما الإنكار بتنزيل المقر منزلة المنكر ليكون إقراره أشد لزوما له، وإما أن تكون للاستفهام فلما دخلت على النفي أفادت التقرير لأن إنكار النفي إثبات للمنفي وهو إثبات مستعمل في التقرير على وجه الكناية. وهذا التقرير بالهمزة هو غالب استعمال الاستفهام مع النفي، ومنه قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
فإنه لا يحتمل غير معنى التقرير بشهادة الذوق ولياقة مقام مدح الخليفة. وهذا تقرير لمن يسمع هذا الكلام. جعل كون جهنم مثواهم أمرا مسلما معروفا بحيث يقر به كل من يسأل عنه كناية عن تحقق المغبة على طريقة إيماء الكناية.
[69] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}
ختم توبيخ المشركين وذمهم بالتنويه بالمؤمنين إظهارا لمزيد العناية بهم فلا يخلو مقام ذم أعدائهم عن الثناء عليهم، لأن ذلك يزيد الأعداء غيظا وتحقيرا. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا} في الله هم المؤمنون الأولون فالموصول بمنزلة المعرف بلام العهد. وهذا الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى ومدافعة كيد العدو وهو المتقدم في قوله أول السورة

{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} إذ لم يكن يومئذ جهاد القتال كما علمت من قبل. وجيء بالموصول للإيماء إلى أن الصلة سبب الخبر. ومعنى {جَاهَدُوا فِينَا} جاهدوا في مرضاتنا، والدين الذي اخترناه لهم. والظرفية مجازية، يقال: هي ظرفية تعليل تفيد مبالغة في التعليل.
والهداية: الإرشاد والتوفيق بالتيسير القلبي والإرشاد الشرعي، أي لنزيدنهم هدى، وسبل الله: الأعمال الموصلة إلى رضاه وثوابه؛ شبهت بالطرق الموصلة إلى منزل الكريم المكرم للضيف.
والمراد بـ {الْمُحْسِنِينَ} جميع الذين كانوا محسنين، أي كان عمل الحسنات شعارهم وهو عام. وفيه تنويه بالمؤمنين بأنهم في عداد من مضى من الأنبياء والصالحين. وهذا أوقع في إثبات الفوز لهم مما لو قيل: فأولئك المحسنون لأن في التمثيل بالأمور المقررة المشهورة تقريرا للمعاني ولذلك جاء في تعليم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قوله " كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" .
والمعية: هنا مجاز في العناية والاهتمام بهم.
والجملة في معنى التذييل بما فيها من معنى العموم. وإنما جيء بها معطوفة للدلالة على أن المهم من سوقها هو ما تضمنته من أحوال المؤمنين، فعطفت على حالتهم الأخرى وأفادت التذييل بعموم حكمها.
وفي قوله {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} إيماء إلى تيسير طريق الهجرة التي كانوا يتأهبون لها أيام نزول هذه السورة.

المجلد الحادي والعشرون
سورة الروم...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الروم
هذه السورة تسمى سورة الروم في عهد النبيء صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما في حديث الترمذي عن ابن عباس ونيار بن مكرم الأسلمي، وسيأتي قريبا في تفسير الآية الأولى من السورة.
ووجه ذلك أنه ورد فيها ذكر اسم الروم ولم يرد في غيرها من القرآن.
وهي مكية كلها بالاتفاق، حكاه ابن عطية والقرطبي، ولم يذكرها صاحب "الإتقان" في السور المختلف في مكيتها ولا في بعض آيها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري: أن هذه السورة نزلت يوم بدر فتكون عنده مدنية. قال أبو سعيد: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين وفرحوا بذلك فنزلت {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قوله: {بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 1- 5] وكان يقرؤها {غُلِبَتِ} بفتح اللام، وهذا قول لم يتابعه أحد، وأنه قرأ {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] بالبناء للنائب، ونسب مثل هذه القراءة إلى علي وابن عباس وابن عمر. وتأولها أبو السعود في "تفسيره" آخذاً من "الكشاف" بأنها إشارة إلى غلب المسلمين على الروم. قال أبو السعود: وغلبهم المسلمون في غزوة مؤتة سنة تسع. وعن ابن عباس كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان. وعن الحسن البصري أن قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] الآية مدنية بناء على أن تلك الآية تشير إلى الصلوات الخمس وهو يرى أن الصلوات الخمس فرضت بالمدينة وأن الذي كان فرضا قبل الهجرة هو ركعتان في أي وقت تيسر للمسلم. وهذا مبني على شذوذ.

وهي السورة الرابعة والثمانون في تعداد نزول السور، نزلت بعد سورة الانشقاق وقبل سورة العنكبوت. وقد روي عن قتادة وغيره أن غلب الروم على الفرس كان في عام بيعة الرضوان، ولذلك استفاضت الروايات وكان بعد قتل أبي بن خلف يوم أحد.
واتفقت الروايات على أن غلب الروم للفرس وقع بعد مضي سبع سنين من غلب الفرس على الروم الذي نزلت عنده هذه السورة. ومن قال: إن ذلك كان بعد تسع سنين بتقديم التاء المثناة فقد حمل على التصحيف كما رواه القرطبي عن القشيري يقتضي أن نزول سورة الروم كان في إحدى عشرة قبل الهجرة لأن بيعة الرضوان كانت في سنة ست بعد الهجرة. وعن أبي سعيد الخذري أن انتصار الروم على فارس يوافق يومه يوم بدر.
وعدد آيها في عد أهل المدينة وأهل مكة تسع وخمسون. وفي عدد أهل الشام والبصرة والكوفة ستون. وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن ابن عباس والواحدي وغير واحد: أنه لما تحارب الفرس والروم الحرب التي سنذكرها عند قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 2، 3] وتغلب الفرس على الروم كان المشركون من أهل مكة فرحين بغلب الفرس على الروم لأن الفرس كانوا مشركين ولم يكونوا أهل كتاب فكان حالهم أقرب إلى حال قريش ولأن عرب الحجاز والعراق كانوا من أنصار الفرس وكان عرب الشام من أنصار الروم فأظهرت قريش التطاول على المسلمين بذلك فأنزل الله هذه السورة مقتا لهم وإبطالا لتطاولهم بأن الله سينصر الروم على الفرس بعد سنين. فلذلك لما نزلت الآيات الأولى من هذه السورة خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 4], وراهن أبو بكر المشركين على ذلك كما سيأتي.
أغراض هذه السورة
أول أغراض هذه السورة سبب نزولها على ما سر المشركين من تغلب الفرس على الروم، فقمع الله تعالى تطاول المشركين به وتحداهم بأن العاقبة للروم في الغلب على الفرس بعد سنين قليلة.
ثم تطرق من ذلك إلى تجهيل المشركين بأنهم لا تغوص أفهامهم في الاعتبار بالأحداث ولا في أسباب نهوض وانحدار الأمم من الجانب الرباني، ومن ذلك إهمالهم النظر في الحياة الثانية ولم يتعظوا بهلاك الأمم السالفة المماثلة لهم في الإشراك بالله، وانتقل من ذلك إلى ذكر البعث. واستدل لذلك ولوحدانيته تعالى بدلائل من آيات الله في

تكوين نظام العالم ونظام حياة الإنسان. ثم حض النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين على التمسك بهذا الدين وأثنى عليه. ونظر بين الفضائل التي يدعو إليها الإسلام وبين حال المشركين ورذائلهم، وضرب أمثالا لإحياء مختلف الأموات بعد زوال الحياة عنها ولإحياء الأمم بعد يأس الناس منها، وأمثالا لحدوث القوة بعد الضعف وبعكس ذلك. وختم ذلك بالعود إلى إثبات البعث ثم بتثبيت النبيء صلى الله عليه وسلم ووعده بالنصر.
ومن أعظم ما اشتملت عليه التصريح بأن الإسلام دين فطر الله الناس عليه وأن من ابتغى غيره دينا فقد حاول تبديل ما خلق الله وأنى له ذلك.
[1] {الم [1]} .
تقدم القول على نظيره في سور كثيرة وخاصة في سورة العنكبوت، وأن هذه السورة إحدى ثلاث سور مما افتتح بحروف التهجي المقطعة غير معقبة بما يشير إلى القرآن، وتقدم في أول سورة مريم.
[2- 4] {غُلِبَتِ الرُّومُ [2] فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [3] فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [4] بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [5]} .
{غُلِبَتِ الرُّومُ [2] فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [3] فِي بِضْعِ سِنِينَ} .
قوله: {غُلِبَتِ الرُّومُ} خبر مستعمل في لازم فائدته على طريق الكناية، أي نحن نعلم بأن الروم غلبت، فلا يهنكم ذلك ولا تطاولوا به على رسولنا وأوليائنا فإنا نعلم أنهم سيغلبون من غلبوهم بعد بضع سنين بحيث لا يعد الغلب في مثله غلبا.
فالمقصود من الكلام هو جملة {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} وكان ما قبله تمهيدا له. وإسناد الفعل إلى المجهول لأن الغرض هو الحديث عن المغلوب لا على الغالب ولأنه قد عرف أن الذين غلبوا الروم هم الفرس.
و {الرُّومُ} : اسم غلب في كلام العرب على أمة مختلطة من اليونان والصقالبة ومن الرومانيين الذين أصلهم من اللاطينيين سكان إيطاليا نزحوا إلى أطراف شرق أوربا. تقومت هذه الأمة المسماة الروم على هذا المزيج فجاءت منها مملكة تحتل قطعة من أوربا وقطعة من آسيا الصغرى وهي بلاد الأناضول. وقد أطلق العرب على مجموع هذه الأمة

اسم الروم تفرقة بينهم وبين الرومان اللاطينيين. وسموا الروم أيضا ببني الأصفر كما جاء في حديث أبي سفيان عن كتاب النبيء صلى الله عليه وسلم المبعوث إلى هرقل سلطان الروم وهو في حمص من بلاد الشام إذ قال أبو سفيان لأصحابه "لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر".
وسبب اتصال الأمة الرومانية بالأمة اليونانية وتكون أمة الروم من الخليطين، هو أن اليونان كان لهم استيلاء على صقلية وبعض بلاد إيطاليا وكانوا بذلك في اتصالات وحروب سجال مع الرومان ربما عظمت واتسعت مملكة الرومان تدريجا بسبب الفتوحات وتسربت سلطتهم إلى إفريقيا وأداني آسيا الصغرى بفتوحات يوليوس قيصر لمصر وشمال أفريقيا وبلاد اليونان وبتوالي الفتوحات للقياصرة من بعده فصارت تبلغ من رومة إلى أرمينيا والعراق. ودخلت فيها بلاد اليونان ومدائن رودس وساقس وكاريا والصقابلة الذين على نهر الطونة ولحق بها البيزنطينيون المنسبون إلى مدينة بيزنطة الواقعة في موقع استانبول على البسفور. وهم أصناف من اليونان والإسبرطيين. وكانوا أهل تجارة عظيمة في أوائل القرن الرابع قبل المسيح ثم ألفوا اتحادا بينهم وبين أهل رودس وساقس وكانت بيزنطة من جملة مملكة إسكندر المقدوني. وبعد موته واقتسام قواده المملكة من بعده صارت بيزنطة دولة مستقلة وانضوت تحت سلطة رومة فحكمها قياصرة الرومان إلى أن صار قسطنطين قيصرا لرومة وانفرد بالسلطة في حدود سنة 322 مسيحية، وجمع شتات المملكة فجعل للملكة عاصمتين عاصمة غربية هي رومة وعاصمة شرقية اختطها مدينة عظيمة على بقايا مدينة بيزنطة وسماها قسطنطينية ، وانصرفت همته إلى سكناها فنالت شهرة تفوق رومة. وبعد موته سنة 337 قسمت المملكة بين أولاده، وكان القسم الشرقي الذي هو بلاد الروم وعاصمته القسطنطينية لابنه قسطنطينيوس ، فمنذ ذلك الحين صارت مملكة القسطنطينية هي مملكة الروم وبقيت مملكة رومة مملكة الرومان. وزاد انفصال المملكتين في سنة 395 حين قسم طيودسيوس بلدان السلطنة الرومانية بين ولديه فجعلها قسمين مملكة شرقية ومملكة غربية، فاشتهرت المملكة الشرقية باسم بلاد الروم وعاصمتها القسطنطينية. ويعرف الروم عند الإفرنج بالبيزنطينيين نسبة إلى بيزنطة اسم مدينة يونانية قديمة واقعة على شاطئ البوسفور الذي هو قسم من موقع المدينة التي حدثت بعدها كما تقدم آنفا. وقد صارت ذات تجارة عظيمة في القرن الخامس قبل المسيح وسمي ميناها بالقرن الذهبي. وفي أواخر القرن الرابع قبل المسيح خلعت طاعة أثينا. وفي أواسط القرن الرابع بعد المسيح جعل قسطنطين سلطان مدينة القسطنطينية.

وهذا الغلب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة 615 مسيحية. وذلك أن خسرو ابن هرمز ملك الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيصر الروم، فنازل إنطاكية ثم دمشق وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحادة بلاد العرب بين بصرى وأذرعات. وذلك هو المراد في هذه الآية {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب.
فالتعريف {الْأَرْضِ} للعهد، أي أرض الروم المتحدث عنهم، أو اللام عوض عن المضاف إليه، أي في أدنى أرضهم، أو أدنى أرض الله. وحذف متعلق {أَدْنَى} لظهور أن تقديره: من أرضكم، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب، فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم وهي أقرب مملكة الروم من بلاد العرب. وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم.
وقوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ, فِي بِضْعِ سِنِينَ} إخبار بوعد معطوف على الإخبار الذي قبله. وضمائر الجمع عائدة إلى الروم.
و {غَلَبِهِمْ} مصدر مضاف إلى مفعوله. وحذف مفعول {سَيَغْلِبُونَ} للعلم بأن تقديره: سيغلبون الذين غلبوهم، أي الفرس إذ لا يتوهم أن المراد سيغلبون قوما آخرين لأن غلبهم على قوم آخرين وإن كان يرفع من شأنهم ويدفع عنهم معرة غلب الفرس إياهم، لكن القصة تبين المراد ولأن تمام المنة على المسلمين بأن يغلب الروم الفرس الذين ابتهج المشركون بغلبهم وشمتوا لأجله بالمسلمين كما تقدم.
وفائدة ذكر {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم، وأنها بحيث لا يظن نصر لهم بعدها، فابتهج بذلك المشركون؛ فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تحد تحدى به ا لقرآن المشركين، ودليل على أن الله قدر لهم الغلب على الفرس تقديرا خارقا للعادة معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم وكرامة للمسلمين.
ولفظ {بِضْعِ} بكسر الموحدة كناية عن عدد قليل لا يتجاوز العشرة، وقد تقدم في قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} في سورة يوسف [42]. وهذا أجل لرد الكرة لهم على الفرس.
وحكمة إبهام عدد السنين أنه مقتضى حال كلام العظيم الحكيم أن يقتصر على

المقصود إجمالا وأن لا يتنازل إلى التفصيل لأن ذلك التفصيل يتنزل منزلة الحشو عند أهل العقول الراجحة وليكون للمسلمين رجاء في مدة أقرب مما ظهر ففي ذلك تفريج عليهم. وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الجهة الرابعة في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
روى الترمذي بأسانيد حسنة وصحيحة أن المشركين كانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب مثلهم فكانت فارس يوم نزلت {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} قاهرين للروم فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: "أما أنهم سيغلبون" ونزلت هذه الآية فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1- 3] فقال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك قال: بلى- وذلك قبل تحريم الرهان - وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه. فسمى أبو بكر لهم ست سنين فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان فمضت ست السنين قبل أن يظهر الروم فأخذ المشركون رهن أبي بكر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "ألا أخفضت يا أبا بكر، ألا جعلته إلى دون العشر فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع" . وعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين وأسلم عند ذلك ناس كثير. وذكر المفسرون أن الذي راهن أبا بكر هو أبي بن خلف، وأنهم جعلوا الرهان خمس قلائص، وفي رواية أنهم بعد أن جعلوا الأجل ستة أعوام غيروه فجعلوه تسعة أعوام وازدادوا في عدد القلائص، وأن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبيء صلى الله عليه وسلم تعلق به أبي بن خلف وقال له: أعطني كفيلا بالخطر إن غلبت، فكفل به ابنه عبد الرحمان، وكان عبد الرحمان أيامئذ مشركا باقيا بمكة. وأنه لما أراد أبي بن خلف الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمان بكفيل فأعطاه كفيلا. ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبيء صلى الله عليه وسلم، فلما غلب الروم بعد سبع سنين أخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي بن خلف. وقد كان تغلب الروم على الفرس في سنة ست وورد الخبر إلى المسلمين. وفي حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: "لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين". والمعروف أن ذلك كان يوم الحديبية. وقد تقدم في أول السورة أن المدة بين انهزام الروم وانهزام الفرس سبع سنين بتقديم السين وأن ما وقع في بعض الروايات أنها تسع

هو تصحيف. وقد كان غلب الروم على الفرس في سلطنة هرقل قيصر الروم، وبإثره جاء هرقل إلى بلاد الشام ونزل حمص ولقي أبا سفيان بن حرب في رهط من أهل مكة جاءوا تجارا إلى الشام.
واعلم أن هذه الرواية في مخاطرة أبي بكر وأبي بن خلف وتقرير النبيء صلى الله عليه وسلم إياها احتج بها أبو حنيفة على جواز العقود الربوية مع أهل الحرب. وأما الجمهور فهذا يرونه منسوخا بما ورد من النهي عن القمار نهيا مطلقا لم يقيد بغير أهل الحرب. وتحقيق المسألة أن المراهنة التي جرت بين أبي بكر وأبي بن خلف جرت على الإباحة الأصلية إذ لم يكن شرع بمكة أيامئذ فلا دليل فيها على إباحة المراهنة وأن تحريم المراهنة بعد ذلك تشريع أنف وليس من النسخ في شيء.
{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} .
جملة معترضة بين المتعاطفات. والمراد بالأمر أمر التقدير والتكوين، أي أن الله قدر الغلب الأول والثاني قبل أن يقعا، أي من قبل غلب الروم على الفرس وهو المدة التي من يوم غلب الفرس عليهم ومن بعد غلب الروم على الفرس. فهنالك مضافان إليهما محذوفان. فبنيت {قَبْلُ} و {بَعْدُ} على الضم لحذف المضاف إليه لافتقار معناهما إلى تقدير مضافين إليهما فأشبهتا الحرف في افتقار معناه إلى الاتصال بغيره. وهذا البناء هو الأفصح في الاستعمال إذا حذف ما تضاف إليه {قَبْلُ} و {بَعْدُ} وقدر لوجود دليل عليه في الكلام، وأما إذا لم تقصد إضافتهما بل أريد بهما الزمن السابق والزمن اللاحق فإنهما يعربان كسائر الأسماء النكرات، كما قال عبد الله بن يعرب بن معاوية أو يزيد بن الصعق:
فساغ لي الشراب وكنت قبلا ... أكاد أغص بالماء الحميم
أي وكنت في زمن سبق لا يقصد تعيينه. وجوز الفراء فيهما مع حذف المضاف إليه أن تبقى فيهما حركة الإعراب بدون تنوين، ودرج عليه ابن هشام وأنكره الزجاج وجعل من الخطإ رواية قول الشاعر الذي لا يعرف اسمه:
ومن قبل نادى كل مولى قرابة ... فما عطفت مولى عليه العواطف
بكسر لام "قبل" رادا قول الفراء أنه روي بكسر دون تنوين يريد الزجاج، أي الواجب أن يروى بالضم.

وتقديم المجرور في قوله: {لِلَّهِ الْأَمْر} لإبطال تطاول المشركين الذين بهجهم غلب الفرس على الروم لأنهم عبدة أصنام مثلهم لاستلزامه الاعتقاد بأن ذلك الغلب من نصر الأصنام عبادها، فبين لهم بطلان ذلك وأن التصرف لله وحده في الحالين للحكمة التي بيناها آنفا كما دل عليه التذييل بقوله: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاء} .
فيه أدب عظيم للمسلمين لكي لا يعللوا الحوادث بغير أسبابها وينتحلوا لها عللا توافق الأهواء كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم. وهذ المعنى كان النبيء صلى الله عليه وسلم يعلنه في خطبه فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبيء فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم فخطب النبيء صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته" . وكان من صناعة الدجل أن يتلقن أصحاب الدجل الحوادث المقارنة لبعض الأحوال فيزعموا أنها كانت لذلك مع أنها تنفع أقواما وتضر بآخرين ولهذا كان التأييد بنصر الروم في هذه الآية موعودا به من قبل ليعلم الناس كلهم أنه متحدى به قبل وقوعه لا مدعى به بعد وقوعه، ولهذا قال تعالى بعد الوعود: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} .
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [5]}.
عطف على جملة {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} الخ أي: ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون بنصر الله أي بنصر الله إياهم على الذين كانوا غلبوهم من قبل، وكان غلبهم السابق أيضا بنصر الله إياهم على الروم لحكمة اقتضت هذا التعاقب وهي تهيئة أسباب انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك لنشر دين الله في بلاديهم، وقد أومأ إلى هذا قوله: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} .
والجملة المضافة إلى {إِذْ} في قوله: {وَيَوْمَئِذٍ} محذوفة عوض عنها التنوين. والتقدير: ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون، فـ {يَوْمَ} منصوب على الظرفية وعامله {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} . وأضيف النصر إلى اسم الجلالة للتنويه بذلك النصر وأنه عناية لأجل المسلمين.
وجملة {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} تذييل لأن النصر المذكور فيها عام بعموم مفعوله وهو {مَنْ يَشَاءُ} فكل منصور داخل في هذا العموم، أي من يشاء نصره لحكم يعلمها، فالمشيئة هي الإرادة، أي ينصر من يريد نصره، وإرادته تعالى لا يسأل عنها، ولذلك

عقب بقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} إن العزيز المطلق هو الذي يغلب كل مغالب له، وعقبه بـ {الرَّحِيمِ} للإشارة إلى أن عزته تعالى لا تخلو من رحمة بعباده ولولا رحمته لما أدال للمغلوب دولة على غالبه مع أنه تعالى هو الذي أراد غلبة الغالب الأول، فكان الأمر الأول بعزته والأمر الثاني برحمته للمغلوب المنكوب وترتيب الصفتين العليتين منظور فيه لمقابلة كل صفة منهما بالذي يناسب ذكره من الغلبين، فالمراد رحمته في الدنيا.
[6، 7] {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [6] يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [7]}.
انتصب {وَعْدَ اللَّهِ} على المفعولية المطلقة. وهذا من المفعول المطلق المؤكد لمعنى جملة قبله هي بمعناه ويسميه النحويون مصدرا مؤكدا لنفسه تسمية غريبة يريدون بنفسه معناه دون لفظه. ومثله في "الكشاف" ومثلوه بنحو "لك علي ألف عرفا" لأن عرفا بمعنى اعترافا، أكد مضمون جملة: لك علي ألف، وكذلك {وَعْدَ اللَّهِ} أكد مضمون جملة {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} . [الروم: 3، 4].
وإضافة الوعد إلى الله تلويح بأنه وعد محقق الإيفاء لأن وعد الصادق القادر الغني لا موجب لإخلافه.
وجملة {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} بيان للمقصود من جملة {وَعْدَ اللَّهِ} فإنها دلت على أنه وعد محقق بطريق التلويح، فبين ذلك بالصريح بجملة {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . ولكونها في موقع البيان فصلت ولم تعطف، وفائدة الإجمال ثم التفصيل تقرير الحكم لتأكيده، ولما في جملة {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} من إدخال الروع على المشركين بهذا التأكيد. وسماه وعدا نظرا لحال المؤمنين الذي هو أهم هنا. وهو أيضا وعيد للمشركين بخذلان أشياعهم ومن يفتخرون بمماثلة دينهم.
وموقع الاستدراك في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} هو ما اقتضاه الإجمال. وتفصيله من كون ذلك أمرا لا ارتياب فيه وأنه وعد الله الصادق الوعد القادر على نصر المغلوب فيجعله غالبا، فاستدرك بأن مراهنة المشركين على عدم وقوعه نشأت عن قصور عقولهم فأحالوا أن تكون للروم بعد ضعفهم دولة على الفرس الذين قهروهم في زمن قصير هو بضع سنين ولم يعلموا أن ما قدره الله أعظم.
فالمراد بـ {أَكْثَرَ النَّاسِ} ابتداء المشركون لأنهم سمعوا الوعد وراهنوا على عدم

وقوعه. ويشمل المراد أيضا كل من كان يعد انتصار الروم على الفرس في مثل هذه المدة مستحيلا، من رجال الدولة ورجال الحرب من الفرس الذين كانوا مزدهين بانتصارهم، ومن أهل الأمم الأخرى، ومن الروم أنفسهم، فلذلك عبر عن هذه الجمهرة بـ {أَكْثَرَ النَّاسِ} بصيغة التفضيل. والتعريف في {النَّاسِ} للاستغراق.
ومفعول {يَعْلَمُونَ} محذوف دل عليه قوله: {سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 3, 4]. فالتقدير: لا يعلمون هذا الغلب القريب العجيب. ويجوز أن يكون المراد تنزيل الفعل منزلة اللازم بأن نزلوا منزلة من لا علم عندهم أصلا لأنهم لما لم يصلوا إلى إدراك الأمور الدقيقة وفهم الدلائل القياسية كان ما عندهم من بعض العلم شبيها بالعدم إذ لم يبلغوا به الكمال الذي بلغه الراسخون أهل النظر، فيكون في ذلك مبالغة في تجهيلهم وهو مما يقتضيه المقام.
ولما كان في أسباب تكذيبهم الوعد بانتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين أنهم يعدون ذلك محالا، وكان عدهم إياهم كذلك من التباس الاستبعاد العادي بالمحال، مع الغفلة عن المقادير النادرة التي يقدرها الله تعالى ويقدر لها أسبابا ليست في الحسبان فتأتي على حسب ما جرى به قدره لا على حسب ما يقدره الناس، وكان من حق العاقل أن يفرض الاحتمالات كلها وينظر فيها بالسبر والتقييم، أنحى الله ذلك عليهم بأن أعقب إخباره عن انتفاء علمهم صدق وعد القرآن، بأن وصف حالة علمهم كلها بأن قصارى تفكيرهم منحصر في ظواهر الحياة الدنيا غير المحتاجة إلى النظر العقلي وهي المحسوسات والمجربات والأمارات، ولا يعلمون بواطن الدلالات المحتاجة إلى إعمال الفكر والنظر.
والوجه أن تكون {مِنْ} في قوله: {مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تبعيضية، أي يعلمون ظواهر ما في الدنيا، أي ولا يعلمون دقائقها وهي العلوم الحقيقية وكلها حاصلة في الدنيا. وبهذا الاعتبار كانت الدنيا مزرعة الآخرة.
والكلام يشعر بذم حالهم، ومحط الذم هو جملة {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} . فأما معرفة الحياة الدنيا فليست بمذمة لأن المؤمنين كانوا أيضا يعلمون ظاهر الحياة الدنيا، وإنما المذموم أن المشركين يعلمون ما هو ظاهر من أمور الدنيا ولا يعلمون أن وراء عالم المادة عالما آخر هو عالم الغيب. وقد اقتصر في تجهيلهم بعالم الغيب على تجهيلهم بوجود الحياة الآخرة اقتصارا بديعا حصل به التخلص من غرض الوعد بنصر الروم إلى غرض أهم وهو إثبات البعث مع أنه يستلزم إثبات عالم الغيب ويكون مثالا لجهلهم بعالم

الغيب وذما لجهلهم به بأنه أوقعهم في ورطة إهمال رجاء الآخرة وإهمال الاستعداد لما يقتضيه ذلك الرجاء، فذلك موقع قوله: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} ؛ فجملة {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بدل من جملة {لا يَعْلَمُونَ} بدل اشتمال باعتبار ما بعد الجملة من قوله: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} لأن علمهم يشتمل على معنى نفي علم بمغيبات الآخرة وإن كانوا يعلمون ظواهر الحياة الدنيا.
وجملة {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} يجوز أن تجعلها عطفا على جملة {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فحصل الإخبار عنهم بعلم أشياء وعدم العلم بأشياء، ولك أن تجعل جملة {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ} الخ في موقع الحال، والواو واو الحال.
وعبر عن جهلهم الآخرة بالغفلة كناية عن نهوض دلائل وجود الحياة الآخرة لو نظروا في الدلائل المقتضية وجود حياة آخرة فكان جهلهم بذلك شبيها بالغفلة لأنه بحيث ينكشف لو اهتموا بالنظر فاستعير له {غَافِلُونَ} استعارة تبعية.
{وَهُمْ} الأولى في موضع مبتدأ و {هُمْ} الثانية ضمير فصل. والجملة الاسمية دالة على تمكنهم من الغفلة عن الآخرة وثباتهم في تلك الغفلة، وضمير الفصل لإفادة الاختصاص بهم، أي هم الغافلون عن الآخرة دون المؤمنين.
ومن البديع الجمع بين {لا يَعْلَمُونَ} و {يَعْلَمُونَ} . وفيه الطباق من حيث ما دل عليه اللفظان لا من جهة متعلقهما. وقريب منه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].
[8] {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [8]}.
عطف على جملة {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] لأنهم نفوا الحياة الآخرة فسيق إليهم هذا الدليل على أنها من مقتضى الحكمة.
فضمير {يَتَفَكَّرُوا} عائد إلى الغافلين عن الآخرة وفي مقدمتهم مشركو مكة. والاستفهام تعجيبي من غفلتهم وعدم تفكرهم. والتقدير: هم غافلون وعجيب عدم تفكرهم. ومناسبة هذا الانتقال أن لإحالتهم رجوع الدالة إلى الروم بعد انكسارهم سببين:
أحدهما: اعتيادهم قصر أفكارهم على الجولان في المألوفات دون دائرة الممكنات، وذلك من أسباب إنكارهم البعث وهو أعظم ما أنكروه لهذا السبب.

وثانيهما: تمردهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن شاهدوا معجزته فانتقل الكلام إلى نقض آرائهم في هذين السببين.
والتفكر: إعمال الفكر، أي الخاطر العقلي للاستفادة منه، وهو التأمل في الدلالة العقلية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} في سورة الأنعام [50].
والأنفس: جمع نفس. والنفس يطلق على الذات كلها، ويطلق على باطن الإنسان، ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] كقول عمر يوم السقيفة: "وكنت زوت في نفسي مقالة" أي في عقلي وباطني.
وحرف {فِي} من قوله: {فِي أَنْفُسِهِم} يجوز أن يكون للظرفية الحقيقية الاعتبارية فيكون ظرفا لمصدر {يَتَفَكَّرُوا} ، أي تفكرا مستقرا في أنفسهم. وموقع هذا الظرف مما قبله موقع معنى الصفة للتفكر. وإذ قد كان التفكر إنما يكون في النفس فذكر {فِي أَنْفُسِهِم} لتقوية تصوير التفكر وهو كالصفة الكاشفة لتقرر معنى التفكر عند السامع، كقوله: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِك} [العنكبوت: 48] وقوله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، وتكون جملة {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الخ على هذا مبينة لجملة {يَتَفَكَّرُوا} إذ مدلولها هو ما يتفكرون فيه كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} [الأعراف: 184].
ويجوز أن يكون {فِي} للظرفية المجازية متعلقة بفعل {يَتَفَكَّرُوا} تعلق المفعول بالفعل، أي يتدبروا ويتأملوا في أنفسهم. والمراد بالأنفس الذوات فهو في معنى قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]؛ فإن حق النظر المؤدي إلى معرفة الوحدانية وتحقق البعث أن يبدأ بالنظر في أحوال خلقة الإنسان قال تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] وهذا كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185] أي في دلالة ملكوت السماوات والأرض، وتكون جملة {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الخ على هذا التفسير بدل اشتمال من قوله: {أَنْفُسَهُم} إذ الكلام على حذف مضاف، تقديره: في دلالة أنفسهم، فإن دلالة {أَنْفُسَهُم} تشتمل على دلالة خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق لأن {أَنْفُسَهُم} مشمولة لما في الأرض من الخلق ودالة على ما في الأرض، وكذلك يطلق ما في الأرض دال على خلق أنفسهم.
وعلى الاحتمالين وقع تعليق فعل {يَتَفَكَّرُوا} عن العمل في مفعولين لوجود النفي

بعده. ومعنى {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} : أن خلقهم ملابس للحق.
والحق هنا هو ما يحق أن يكون حكمة لخلق السماوات والأرض وعلة له، وحق كل ماهية ونوع هو ما يحق أن يتصرف به من الكمال في خصائصه وأنه به حقيق كما يقول الأب لابنه القائم ببره: أنت ابني حقا، ألا ترى أنهم جعلوا تعريف النكرة بلام الجنس دالا على معنى الكمال في نحو: أنت الحبيب، لأن اسم الجنس في المقام الخطابي يؤذن بكماله في صفاته، وإنما يعرف حق كل نوع بالصفات التي بها قابلته، ومن ينظر في القابليات التي أودعها الله تعالى في أنواع المخلوقات يجد كل الأنواع مخلوقة على حدود خاصة بها إذا هي بلغتها لا تقبل أكثر منها؛ فالفرس والبقرة والكلب الكائنات في العصور الخالية وإلى زمن آدم لا تتجاوز المتأخرة من أمثالها حدودها التي كانت عليها فهي في ذلك سواء. دلت على ذلك تجارب الناس الحاضرين لأجيالها الحاضرة، وأخبار الناس الماضين عن الأجيال المعاصرة لها، وقياس ما كان قبل أزمان التاريخ على الأجيال التي انقرضت قبلها حاشا نوع الإنسان فإن الله فطره بقابلية للزيادة في كمالات غير محدودة على حسب أحوال تجدد الأجيال في الكمال والارتقاء وجعله السلطان على هذا العالم والمتصرف في أنواع مخلوقات عالمه كما قال {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] وذلك بما أودع فيه من العقل. ودلت المشاهدة على تفاوت أفراد نوع الإنسان في كمال ما يصلح له تفاوتا مترامي الأطراف، كما قال البحتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا ... لدى الفضل حتى عد ألف بواحد
فدلت التجربة في المشاهدة كما دلت الأخبار عن الماضي وقياس ما قبل التاريخ على ما بعده، كل ذلك دل على هذا المعنى؛ ولأجل هذا التفاوت كلف الإنسان خالقه بقوانين ليبلغ مرتقى الكمال القابل له في زمانه، مع مراعاة ما يحيط به من أحوال زمانه، وليتجنب إفساد نفسه وإفساد بني نوعه، وقد كان ما أعطيه نوع الإنسان من شعب العقل مخولا إياه أن يفعل على حسب إرادته وشهوته، وأن يتوخى الصواب أو أن لا يتوخاه، فلما كلفه خالقه باتباع قوانين شرائعه ارتكب واجتنب فالتحق تارة بمراقي كماله، وقصر تارة عنها قصورا متفاوتا، فكان من الحكمة أن لا يهمل مسترسلا في خطوات القصور والفساد، وذلك إما بتسليط قوة ملجئة عليه تستأصل المفسد وتستبقي المصلح، وإما بإراضته على فعل الصلاح حتى يصير منساقا إلى الصلاح باختياره المحمود، إلا أن حكمة أخرى ربانية اقتضت بقاء عمران العالم وعدم استئصاله، وبذلك تعطل استعمال القوة المستأصلة، فتعين

استعمال إراضته على الصلاح، فجمع الله بين الحكمتين بأن جعل ثوابا للصالحين على قدر صلاحهم وعقابا للمفسدين بمقدار عملهم، واقعا ذلك كله في عالم غير هذا العالم، وأبلغ ذلك إليهم على ألسنة رسله وأنبيائه إزالة للوصمة، وتنبيها على الحكمة، فخاف فريق ورجا فارتكب واجتنب، وأعرض فريق ونأى فاجترح واكتسب، وكان من حق آثار هاته الحكم أن لا يحرم الصالح من ثوابه، وأن لا يفوت المفسد بما به ليظهر حق أهل الكمال ومن دونهم من المراتب، فجعل الله بقاء أفراد النوع في هذا العالم محدودا بآجال معينة وجعل لبقاء هذا العالم كله أجلا معينا، حتى إذا انتهت جميع الآجال جاء يوم الجزاء على الأعمال، وتميز أهل النقص من أهل الكمال.
فكان جعل الآجال لبقاء المخلوقات من جملة الحق الذي خلقت ملابسة له، ولذلك نبه عليه بخصوصه اهتماما بشأنه، وتنبيها على مكانه، وإظهارا أنه المقصد بكيانه، فعطفه على الحق للاهتمام به، كما عطف ضده على الباطل، في قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون115] فقال {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} .
وقد مضى في سورة الأنعام [73] قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} الآية. وفائدة ذكر السماوات هنا أن في أحوال السماوات من شمسها وكواكبها وملائكتها ما هو من جملة الحق الذي خلقت ملابسة له، أما ما وراء ذلك من أحوالها التي لا نعرف نسبة تعلقها بهذا العالم، فنكل أمره إلى الله ونقيس غائبه على الشاهد، فنوقن بأنه ما خلق إلا بالحق كذلك. فشواهد حقية البعث والجزاء بادية في دقائق خلق المخلوقات، ولذلك أعقبه بقوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} ، وهذا كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
والمسمى: المقدر. أطلقت التسمية على التقدير، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} في سورة الحج [5]. وعند قوله تعالى: {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} في سورة العنكبوت [53]. وجملة {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} تذييل.
وتأكيده بـ {إِنَّ} لتنزيل السامع منزلة من يشك في وجود من يحجد لقاء الله بعد هذا الدليل الذي مضى بله أن يكون الكافرون به كثيرا. والمراد بالكثير هنا: مشركو أهل مكة

وبقية مشركي العرب المنكرين للبعث ومن ماثلهم من الدهريين. ولم يعبر هنا بـ {أَكْثَرَ النَّاسِ} [العنكبوت: 60] لأن المثبتين للبعث كثيرون مثل أهل الكتاب والصابئة والمجوس والقبط.
[9] {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [9]} .
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
عطف على جملة {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8] وهو مثل الذي عطف هو عليه متصل بما يتضمنه قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] أن من أسباب عدم علمهم تكذيبهم الرسول عليه ا لصلاة والسلام الذي أنبأهم بالبعث، فلما سيق إليهم دليل حكمة البعث والجزاء بالحق أعقب بإنذارهم موعظة لهم بعواقب الأمم الذين كذبوا رسلهم لأن المقصود هو عاقبة تكذيبهم رسل الله وهو قوله: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} الآية.
والأمر بالسير في الأرض تقدم في قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} في سورة الأنعام [11], وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} في سورة العنكبوت [20].
والاستفهام في {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} تقريري. وجاء التقرير على النفي للوجه الذي ذكرناه في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُم} [لأعراف: 148] وقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} في الأنعام [130], وقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} في آخر العنكبوت [68].
و {الْأَرْضِ} : اسم للكرة التي عليها الناس.
والنظر: هنا نظر العين لأن قريشا كانوا يمرون في أسفارهم إلى الشام على ديار ثمود وقوم لوط وفي أسفارهم إلى اليمن على ديار عاد. وكيفية العاقبة هي حالة آخر أمرهم من خراب بلادهم وانقطاع أعقابهم فعاضد دلالة التفكر التي في قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8] الآية بدلالة الحس بقوله: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . و {كَيْفَ} استفهام معلق فعل {يَنْظُرُوا} عن مفعوله، فكأنه قيل: فينظروا ثم استؤنف فقيل: كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.

والعاقبة: آخر الأمر من الخير والشر، بخلاف العقبى فهي للخير خاصة إلا في مقام المشاكلة، وتقدم ذكر العاقبة في قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} في الأعراف [128]. وقد جمع قوله: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وعيدا على تكذيبهم النبيء صلى الله عليه وسلم وتجهيلا لإحالتهم الممكن، حيث أيقنوا بأن الفرس لا يغلبون بعد انتصارهم. فهذه آثار أمم عظيمة كانت سائدة على الأرض فزال ملكهم وخلت بلادهم من سبب تغلب أمم أخرى عليهم.
والمراد بالذين من قبلهم عاد وثمود وقوم لوط وأمثالهم الذين شاهد العرب آثارهم. والمعنى: أنهم كانوا من قبلهم في مثل حالتهم من الشرك وتكذيب الرسل المرسلين إليهم، كما دل عليه قوله عقبه {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} الآية.
{كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
كل أولئك كانوا أشد قوة من قريش وأكثر تعميرا في الأرض، وكلهم جاءتهم رسل، وكلهم كانت عاقبتهم الاستئصال، كل هذه ما تقر به قريش.
وجملة {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} بيان لجملة {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
والشدة: صلابة جسم، وتستعار بكثرة لقوة صفة من الأوصاف في شيء تشبيها لكمال الوصف وتمامه بالصلابة في عسر التحول، وتقدم في قوله: {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} في سورة النمل [33].
والقوة: حالة يقاوم بها صاحبها ما يوجب انخرامه، فمن ذلك قوة البدن، وقوة الخشب، وتستعار القوة لما به تدفع العادية وتستقيم الحالة؛ فهي مجموع صفات يكون بها بقاء الشيء على أكمل أحواله كما في قوله: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} [النمل: 33] فقوة الأمة مجموع ما به تدفع العوادي عن كيانها وتستبقي صلاح أحوالها من عدد حربية وأموال وأبناء وأزواج. وحالة مشركي قريش لا تداني أحوال تلك الأمم في القوة، وناهيك بعاد فقد كانوا مضرب الأمثال في القوة في سائر أمورهم، والعرب تصف الشيء العظيم في جنسه بأنه عادي نسبة إلى عاد.
وعطف {أَثَارُوا} على {كَانُوا} فهو فعل مشتق من الإثارة بكسر الهمزة، وهي تحريك أجزاء الشيء، فالإثارة: رفع الشيء المستقر وقلبه بعد استقراره قال تعالى {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [الروم: 48] أي تسوقه وتدفعه من مكان إلى مكان.

وأطلقت الإثارة هنا على قلب تراب الأرض بجعل ما كان باطنا ظاهرا وهو الحرث، قال تعالى: {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} [البقرة: 71]، وقال النابغة يصف بقر الوحش إذا حفرت التراب:
يثرن الحصى حتى يباشرن برده ... إذا الشمس مجت ريقها بالكلاكل
ويجوز أن يكون {أَثَارُوا} هنا تمثيلا لحال شدة تصرفهم في الأرض وتغلبهم على من سواهم بحال من يثير ساكنا ويهيجه، ومنه أطلقت الثورة على الخروج عن الجماعة. وهذا الاحتمال أنسب بالمقصود الذي هو وصف الأمم بالقوة والمقدرة من احتمال أن تكون الإثارة بمعنى حرث الأرض لأنه يدخل في العمارة. وضمير {أَثَارُوا} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {كَانُوا أَشَدّ} .
ومعنى عمارة الأرض: جعلها عامرة غير خلاء وذلك بالبناء والغرس والزرع. يقال: ضيعة عامرة، أي معمورة بما تعمر به الضياع، ويقال في ضده: ضيعة غامرة. ولكون قريش لم تكن لهم إثارة في الأرض بكلا المعنيين إذ كانوا بواد غير ذي زرع لم يقل في هذا الجانب: أكثر مما أثاروها.
وضميرا جمع المذكر في قوله: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} راجع أولهما إلى ما رجع إليه ضمير {أَثَارُوا} وثانيهما إلى ما رجع إليه ضمير {يَسِيرُوا فِي الْأَرْض}. ويعرف توزيع الضميرين بالقرينة مثل توزيع الإشارة في قوله تعالى: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} في سورة [القصص: 15] كالضميرين في قول عباس بن مرداس يذكر قتال هوازن يوم حنين:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
وتقدم تفصيله عند قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} في سورة يونس [58], أي عمر الذين من قبلهم الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء، فإن لقريش عمارة في الأرض من غرس قليل وبناء وتفجير ولكنه يتضاءل أمام عمارة الأمم السالفة من عاد وثمود.
وتفريع {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} على قوله: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَات} إيجاز حذف بديع، لأن مجيء الرسل بالبينات يقتضي تصديقا وتكذيبا فلما فرع عليه أنهم ظلموا أنفسهم علم أنهم كذبوا الرسل وأن الله جازاهم على تكذيبهم رسله بأن عاقبهم عقابا لو كان لغير

جرم لشابه الظلم، فجعل من مجموع نفي ظلم الله إياهم ومن إثبات ظلمهم أنفسهم معرفة أنهم كذبوا الرسل وعاندوهم وحل بهم ما هو معلوم من مشاهدة ديارهم وتناقل أخبارهم.
والاستدراك ناشئ على ما يقتضيه نفي ظلم الله إياهم من أنهم عوملوا معاملة سيئة لو لم يستحقوها لكانت معاملة ظلم. وعبر عن ظلمهم أنفسهم بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ظلمهم وتكرره وأن الله أمهلهم فلم يقلعوا حتى أخذهم بما دلت عليه تلك العاقبة، والقرينة قوله: {كَانُوا} .
وتقديم {أَنْفُسَهُم} وهو مفعول {يَظْلِمُونَ} على فعله للاهتمام بأنفسهم في تسليط ظلمهم عليها لأنه ظلم يتعجب منه، مع ما فيه من الرعاية على الفاصلة. وليس تقديم المفعول هنا للحصر لأن الحصر حاصل من جملتي النفي والإثبات.
[10] {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [10]}.
{ثُمَّ} للتراخي الرتبي لأن هذه العاقبة أعظم رتبة في السوء من عذاب الدنيا، فيجوز أن يكون هذا الكلام تذييلا لحكاية ما حل بالأمم السالفة من قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم: 9].
والمعنى: ثم عاقبة كل من أساءوا السوأى مثلهم، فيكون تعريضا بالتهديد لمشركي العرب كقوله تعالى: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، فالمراد بـ {الَّذِينَ أَسَاءُوا} كل مسيء من جنس تلك الإساءة وهي الشرك. ويجوز أن يكون إنذارا لمشركي العرب المتحدث عنهم من قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] فيكونوا المراد بـ {الَّذِينَ أَسَاءُوا} ، ويكون إظهارا في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر لقصد الإيماء بالصلة، أي أن سبب عاقبتهم السوأى هو إساءتهم. وأصل الكلام: ثم كان عاقبتهم السوأى. وهذا إنذار بعد الموعظة ونص بعد القياس، فإن الله وعظ المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم بعواقب الأمم التي كذبت رسلها ليكونوا على حذر من مثل تلك العاقبة بحكم قياس التمثيل، ثم أعقب تلك الموعظة بالنذارة بأنهم ستكون لهم مثل تلك العاقبة، وأوقع فعل {كَانَ} الماضي في موقع المضارع للتنبيه على تحقيق وقوعه مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّه} [النحل: 1] إتماما للنذارة.
والعاقبة: الحالة الأخيرة التي تعقب حالة قبلها. وتقدمت في قوله: {ثُمَّ انْظُرُوا

كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} في سورة الأنعام [11], وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} في سورة طه [132]. و {الَّذِينَ أَسَاءُوا} هم كفار قريش. والمراد {بآيَاتِ اللَّه} القرآن ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم.
و {السُّوأَى} : تأنيث الأسوإ، أي الحالة الزائدة في الاتصاف بالسوء وهو أشد الشر، كما أن الحسنى مؤنث الأحسن في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] وتعريف {السُّوأَى} تعريف الجنس إذ ليس ثمة عاقبة معهودة.
ويحتمل أن يراد بـ {الَّذِينَ أَسَاءُوا} الأمم الذين أثاروا الأرض وعمروها فتكون من وضع الظاهر موضع المضمر توسلا إلى الحكم عليهم بأنهم أساءوا واستحقوا السوأى وهي جهنم. وفعل {كَانَ} على ما هو عليه من التنبيه على تحقق الوقوع.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {عَاقِبَةُ} بالرفع على أصل الترتيب بين اسم {كَانَ} وخبرها. وقرأه البقية بالنصب على أنه خبر {كَانَ} مقدم على اسمها وهو استعمال كثير. والفصل بين {كَانَ} ومرفوعها بالخبر سوغ حذف تاء التأنيث من فعل {كَانَ} .
و {أَنْ كَذَّبُوا} تعليل لكون عاقبتهم السوأى بحذف اللام مع {أَنَّ} و {آيَاتِ اللَّه} : القرآن والمعجزات.
والباء في {بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} للتعدية، وتقديم المجرور للاهتمام بشأن الآيات، وللرعاية على الفاصلة.
[11] {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [11]}.
استئناف ابتدائي، وهو شروع فيما أقيمت عليه هذه السورة من بسط دلائل انفراد الله تعالى بالتصرف في الناس بإيجادهم وإعدامهم وبإمدادهم وأطوار حياتهم، لإبطال أن يكون لشركائهم شيء من التصرف في ذلك. فهي دلائل ساطعة على ثبوت الوحدانية التي عموا عنها.
وإذ كان نزول أول السورة على سبب ابتهاج المشركين لتغلب الفرس على الروم فقطع الله تطاولهم على المسلمين بأن أخبر أن عاقبة النصر للروم على الفرس نصرا باقيا، وكان مثار التنازع بين المشركين والمؤمنين ميل كل فريق إلى مقاربه في الدين جعل ذلك الحدث مناسبة لإفاضة الاستدلال في هذه السورة على إبطال دين الشرك.

وقد فصلت هذه الدلائل على أربعة استئنافات متماثلة الأسلوب، ابتدئ كل واحد منهم باسم الجلالة مجرى عليه أخبار عن حقائق لا قبل لهم بدحضها لأنهم لا يسعهم إلا الإقرار ببعضها أو العجز عن نقض دليلها.
فالاستئناف الأول المبدوء بقوله: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} , والثاني المبدوء بقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} [الروم: 40]، والثالث: المبدوء بقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الروم: 48]، والرابع المبدوء بقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم: 54].
فأما قوله: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فاستدلال بما لا يسعهم إلا الاعتراف به وهو بدء الخلق إذ لا ينازعون في أن الله وحده هو خالق الخلق ولذلك قال الله تعالى {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} [الرعد: 16] الآية. وأما قوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} فهو إدماج لأنه إذا سلم له بدء الخلق كان تسليم إعادته أولى وأجدر. وحسن موقع الاستئناف وروده بعد ذكر أمم غابرة وأمم حاضرة خلف بعضها بعضا، وإذ كان ذلك مثالا لإعادة الأشخاص بعد فنائها وذكر عاقبة مصير المكذبين للرسل في العاجلة، ناسب في مقام الاعتبار أن يقام لهم الاستدلال على إمكان البعث ليقع ذكر ما يعقبه من الجزاء موقع الإقناع لهم.
وتقديم اسم الجلالة على المسند الفعلي لمجرد التقوي. و {ثُمَّ} هنا للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، وذلك أن شأن الإرجاع إلى الله أعظم من إعادة الخلق إذ هو المقصد من الإعادة ومن بدء الخلق. فالخطاب في {تُرْجَعُونَ} للمشركين على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
وقرأ الجمهور {تُرْجَعُونَ} بتاء الخطاب. وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بياء الغيبة على طريقة ما قبله.
[12، 13] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [12] وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ [13]} .
عطف على جملة {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11] تبيينا لحال المشركين في وقت ذلك الإرجاع كأنه قيل: ثم إليه ترجعون ويومئذ يبلس المجرمون. وله مزيد اتصال بجملة {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10]، وكان مقتضى الظاهر أن يقال ويومئذ يبلس المجرمون أو ويومئذ تبلسون، أي ويوم ترجعون إليه يبلس المجرمون، فعدل عن تقدير

الجملة المضاف إليها {يَوْمِ} التي يدل عليها {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11] بذكر جملة أخرى هي في معناها لتزيد الإرجاع بيانا أنه إرجاع الناس إليه يوم تقوم الساعة، فهو إطناب لأجل البيان وزيادة التهويل لما يقتضيه إسناد القيام إلى الساعة من المباغتة والرعب. ويدل لهذا القصد تكرير هذا الظرف في الآية بعدها بهذا الإطناب. وشاع إطلاق {السَّاعَةُ} على وقت الحشر والحساب. وأصل الساعة: المقدار من الزمن، ويتعين تحديده بالإضافة أو التعريف.
والإبلاس: سكون بحيرة. يقال: أبلس، إذا لم يجد مخرجا من شدة هو فيها. وتقدم عند قوله تعالى: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُون} في سورة المؤمنين [77].
و{الْمُجْرِمُونَ}: المشركون، وهم الذين أجريت عليهم ضمائر الغيبة وضمائر الخطاب بقرينة قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} .
والإظهار في مقام الإضمار لإجراء وصف الإجرام عليهم وكان مقتضى الظاهر أنه يقال: تبلسون، بالخطاب أو بياء الغيبة. ووصفوا بالإجرام لتحقير دين الشرك وأنه مشتمل على إجرام كبير. وقد ذكر أحد أسباب الإبلاس وأعظمها حينئذ وهو أنهم لم يجدوا شفعاء من آلهتهم التي أشركوا بها وكانوا يسحبونها شفعاء عند الله، فلما نظروا وقلبوا النظر فلم يجدوا شفعاء خابوا وخسئوا وأبلسوا، ولهم أسباب خيبة أخرى لم يتعلق الغرض بذكرها. وأما ما ينالهم من العذاب فذلك حالة يأس لا حالة إبلاس. و {مِنْ} تبعيضية، وليس الكلام من قبيل التجريد.
ونفي فعل {يَكُنْ} بـ {لَمْ} التي تخلص المضارع للمضي للإشارة إلى تحقيق حصول هذا النفي مثل قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].
ومقابلة ضمير الجمع بصيغة جمع الشركاء من باب التوزيع، أي لم يكن لأحد من المجرمين أحد شفيع فضلا عن عدة شفعاء.
وكذلك قوله: {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِين} لأن المراد أنهم يكفرون بهم يوم تقوم الساعة كقوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ويلعن بعضكم بعضا} [العنكبوت: 25].
وكتب في المصحف {شْفَعُؤُاْ} بواو بعد العين وألف بعد الواو، أرادوا بالجمع بين الواو والألف أن ينبهوا على أن الهمزة مضمومة ليعلم أن {شُفَعَاءُ} اسم}كان{وأن ليس اسمها قوله: {مِنْ شُرَكَائِهِمْ} بتوهم أن {مِنْ} اسم بمعنى بعض، أو أنها مزيدة في النفي،

فأثبتوا الواو تحقيقا لضم الهمزة وأثبتوا الألف لأن الألف صورة للهمزة.
[14- 16] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [14] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [15] وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [16]}.
أعيد {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} لزيادة التهويل الذي تقدم بيانه آنفا. وكرر {يَوْمَئِذٍ} لتأكيد حقيقة الظرفية. ولما ذكر إبلاس المشركين المشعر بتوقعهم السوء والعذاب أعقب بتفصيل أحوال الناس يومئذ مع بيان مغبة إبلاس الفريق الكافرين.
والضمير في {يَتَفَرَّقُونَ} عائد إلى معلوم من المقام دل عليه ذكر المجرمين فعلم أن فريقا آخر ضدهم لأن ذكر إبلاس المجرمين يومئذ يفهم أن غيرهم ليسوا كذلك على وجه الإجمال.
والتفرق: انقسام الجمع وتشتت أجزاء الكل. وقد كني به هنا عن التباعد لأن التفرق يلازمه التباعد عرفا. وقد فصل التفرق هنا بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى آخره.
والروضة: كل أرض ذات أشجار وماء وأزهار في البادية أو في الجنان. ومن أمثال العرب "أحسن من بيضة في روضة" يريدون بيضة النعامة. وقد جمع محاسن الروضة قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب1 شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
و{ يحبرون} : يسرون من الحبور، وهو السرور الشديد يقال: حبره: إذا سره سرورا تهلل له وجهه وظهر فيه أثره.
و {مُحْضَرُونَ} يجوز أن يكون من الإحضار، أي جعل الشيء حاضرا، أي لا يغيبون عنه، أي لا يخرجون منه، وهو يفيد التأييد بطريق الكناية لأنه لما ذكر بعد قوله: {فِي الْعَذَابِ} ناسب أن لا يكون المقصود من وصفهم المحضرين أنهم كائنون في
ـــــــ
1 أراد بالكوكب النور تشبيهاً له بكوكب نجوم السماء في البياض والاستدارة.

العذاب لئلا يكون مجرد تأكيد بمدلول في الظرفية فإن التأسيس أوقع من التأكيد، ويجوز أن يكون محضرون بمعنى مأتي بهم إلى العذاب فقد كثر في القرآن استعمال محضر ونحوه بمعنى معاقب، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158]، واسم الإشارة تنبيه على أنهم أحرياء بتلك العقوبة لأجل ما ذكر قبل اسم الإشارة كقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5].
وكتب في رسم المصحف {وَلِقَائِي} بهمزة على ياء تحتية للتنبيه على أن الهمزة مكسورة وذلك من الرسم التوفيقي، ومقتضى القياس أن تكتب الهمزة في السطر بعد الألف.
[17، 18] {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [17] وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ [18]}.
الفاء تقتضي اتصال ما بعدها بما قبلها وهي فاء فصيحة، أو عطف تفريع على ما قبلها وقد كان أول الكلام قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الروم: 8]، والضمير عائد إلى أكثر الناس في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] والمراد بهم الكفار فالتفريع أو الإفصاح ناشئ عن ذلك فيكون المقصود من {سُبْحَانَ اللَّهِ} إنشاء تنزيه الله تعالى عما نسبوه إليه من العجز عن إحياء الناس بعد موتهم وإنشاء ثناء عليه.
والخطاب في {تُمْسُونَ} و {تُصْبِحُونَ} تابع للخطاب الذي قبله في قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11]، وهو موجه إلى المشركين على طريقة الالتفات من ضمائر الغيبة المبتدئة من قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 11] إلى آخرها كما علمت آنفا. وهذا هو الأنسب باستعمال مصدر {سُبْحَانَ} في مواقع استعماله في الكلام وفي القرآن مثل قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] وهو الغالب في استعمال مصدر {سُبْحَانَ} في الكلام إن لم يكن هو المتعين كما تقتضيه أقوال أئمة اللغة. وهذا غير استعمال نحو قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] وقول الأعشى في داليته:
وسبح على حين العشيات والضحى
وقوله: {حِينَ تُمْسُونَ} ، و {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [النور: 48]، و {وَعَشِيّاً} ، و {وَحِينَ تُظْهِرُون} ظروف متعلقة بما في إنشاء التنزيه من معنى الفعل، أي ينشأ تنزيه الله في هذه الأوقات

وهي الأجزاء التي يتجزأ الزمان إليها، والمقصود التأييد كما تقول: سبحان الله دوما. وسلك به مسلك الإطناب لأنه مناسب لمقام الثناء. وجوز بعض المفسرين أن يكون {سُبْحَانَ} هنا مصدرا واقعا بدلا عن فعل أمر بالتسبيح كأنه قيل: فسبحوا الله سبحانا. وعليه يخرج ما روي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن? قال: نعم. وتلا قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إلى قوله: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} . فإذا صح ما روي عنه فتأويله: أن {سُبْحَانَ} أمر بأن يقولوا: سبحان الله، وهو كناية عن الصلاة لأن الصلاة تشتمل على قول: سبحان ربي الأعلى وبحمده.
وقوله: {حِينَ تُمْسُونَ} إلى آخره إشارة إلى أوقات الصلوات وهو يقتضي أن يكون الخطاب موجها إلى المؤمنين. والمناسبة مع سابقه أنه لما وعدهم بحسن مصيرهم لقنهم شكر نعمة الله بإقامة الصلاة في أجزاء اليوم والليلة. وهذا التفريع يؤذن بأن التسبيح والتحميد الواقعين إنشاء ثناء على الله كناية عن الشكر عن النعمة لأن التصدي لإنشاء الثناء عقب حصول الإنعام أو الوعد به يدل على أن المادح ما بعثه على المدح في ذلك المقام إلا قصد الجزاء على النعمة بما في طوقه، كما ورد "فإن لم تقدروا على مكافأته فادعوا له".
وليست الصلوات الخمس وأوقاتها هي المراد من الآية ولكن نسجت على نسج صالح لشموله الصلوات الخمس وأوقاتها وذلك من إعجاز القرآن، لأن الصلاة وإن كان فيها تسبيح ويطلق عليها السبحة فلا يطلق عليها: سبحان الله. وأضيف الحين إلى جملتي {تُمْسُونَ} و {تُصْبِحُونَ} . وقدم فعل الإمساء على فعل الإصباح: إما لأن الاستعمال العربي يعتبرون فيه الليالي مبدأ عدد الأيام كثيرا قال تعالى {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِين} [سبأ: 18]، وإما لأن الكلام لما وقع عقب ذكر الحشر من قوله: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11]، وذكر قيام الساعة ناسب أن يكون الإمساء وهو آخر اليوم خاطرا في الذهن فقدم لهم ذكره.
و {عَشِيّاً} عطف على {حِينَ تُمْسُونَ} . وقوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} جملة معترضة بين الظروف تفيد أن تسبيح المؤمنين لله ليس لمنفعة الله تعالى بل لمنفعة المسبحين لأن الله محمود في السماوات والأرض فهو غني عن حمدنا.
وتقديم المجرور في {وَلَهُ الْحَمْدُ} لإفادة القصر الادعائي لجنس الحمد على الله تعالى لأن حمده هو الحمد الكامل على نحو قولهم: فلان الشجاع، كما تقدم في طالعة

سورة الفاتحة. ولك أن تجعل التقديم للاهتمام بضمير الجلالة.
والإمساء: حلول المساء. والإصباح: حلول الصباح. وتقدم في قوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} في سورة الأنعام [96]. والإمساء: اقتراب غروب الشمس إلى العشاء. والصباح: أول النهار. والإظهار: حلول وقت الظهر وهو نصف النهار.
وقد استعمل الإفعال الذي همزته للدخول في المكان مثل: أنجد، وأتهم، وأيمن، وأشأم في حلول الأوقات من المساء والصباح والظهر تشبيها لذلك الحلول بالكون في المكان. فيكثر أن يقال: أصبح وأضحى وأمسى وأعتم وأشرق، قال تعالى {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60].
والعشي: ما بعد العصر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} في سورة الأنعام [52].
[19] {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [19]}.
هذه الجملة بدل من جملة {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 11]. ويجوز أيضا أن تكون موقع العلة لجملة {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] وما عطف عليها، أي هو مستحق للتسبيح والحمد لتصرفه في المخلوقات بالإيجاد العجيب وبالإحياء بعد الموت. واختير من تصرفاته العظيمة تصرف الإحياء والإماتة في الحيوان والنبات لأنه تخلص للغرض المقصود من إثبات البعث ردا للكلام على ما تقدم من قوله: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم: 11].
فتحصل من ذلك أن الأمر بتسبيحه وحمده معلول بأمرين: إيفاء حق شكره المفاد بفاء التفريع في قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} [الروم: 17]، وإيفاء حق التعظيم والإجلال، والمقصود هو إخراج الحي من الميت. وأما عطف {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} فللاحتراس من اقتصار قدرته على بعض التصرفات ولإظهار عجيب قدرته أنها تفعل الضدين. وفي الآية الطباق. وهذا الخطاب للمؤمنين تعريض بالرد على المشركين.
والإخراج: فصل شيء محوي عن حاويه. يقال: أخرجه من الدار، وأخرج يده من جيبه، فهو هنا مستعمل لإنشاء شيء من شيء. والإتيان بصيغة المضارع في {يَخْرُجُ} .

و {يُحْيِي} لاستحضار الحالة العجيبة مثل قوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الروم: 48]. فهذا الإخراج والإحياء آية عظيمة على استحقاقه التعظيم والإفراد بالعبادة إذ أودع هذا النظام العجيب في الموجودات فجعل في الشيء الذي لا حياة له قوة وخصائص تجعله ينتج الأشياء الحية الثابتة المتصرفة ويجعل في تراب الأرض قوى تخرج الزرع والنبات حيا ناميا.
وإخراج الحي من الميت يظهر في أحوال كثيرة منها: إنشاء الأجنة من النطف، وإنشاء الفراخ من البيض؛ وإخراج الميت من الحي يظهر في العكس وقد تقدم في سورة آل عمران. وفي الآية إيماء إلى أن الله يخرج من غلاة المشركين أفاضل من المؤمنين مثل إخراج خالد بن الوليد من أبيه الوليد بن المغيرة، وإخراج هند بنت عتبة بن ربيعة من أبيها أحد أئمة الكفر وقد قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم "ما كان أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك واليوم ما أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك، فقال لها النبيء صلى الله عليه وسلم: "وأيضا" "أي ستزيدين حبا لنا بسبب نور الإسلام" . وإخراج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط من أبيها. ولما كلمت أم كلثوم بنت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن إسلامها وهجرتها إلى المدينة حين جاء أخواها يرومان ردها إلى مكة حسب شروط الهدنة فقالت: يا رسول الله أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف فأخشى أن يفتنوني في ديني ولا صبر لي، فقرأ النبيء صلى الله عليه وسلم {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} ، ونزلت آية الامتحان فلم يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما وكانت أول النساء المهاجرات إلى المدينة بعد صلح الحديبية.
والتشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} راجع إلى ما يصلح له من المذكور قبله وهو ما فيه إنشاء حياة شيء بعد موته بناء على ما قدمناه من أن قوله: {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ليس مقصودا من الاستدلال ولكنه احتراس وتكملة. ويجوز أن يكون التشبيه راجعا إلى أقرب مذكور وهو إحياء الأرض بعد موتها، أي وكإخراج النبات من الأرض بعد موته فيها يكون إخراجكم من الأرض بعد أن كنتم أمواتا فيها، كما قال تعالى {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح: 17، 18] ولا وجه لاقتصار التشيبه على الثاني دون الأول.
والمعنى: أن الإبداء والإعادة متساويان فليس البعث بعد الموت بأعجب من ابتداء الخلق ولكن المشركين حكموا الإلف في موضع تحكيم العقل. وقرأ نافع وحفص وحمزة {الْمَيِّتَ} بتشديد الياء. وقرأه الباقون بالتخفيف. وقرأ الجمهور {تُخْرِجُونَ} بضم التاء

الفوقية. وقرأه حمزة والكسائي بفتحها.
[20] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [20]}.
لما كان الاستدلال على البعث متضمنا آيات على تفرده تعالى بالتصرف ودلالته على الوحدانية انتقل من ذلك الاستدلال إلى آيات على ذلك التصرف العظيم غير ما فيه إثبات البعث تثبيتا للمؤمنين وإعذار لمن أشركوا في الإلهية. وقد سبقت ست آيات على الوحدانية، وابتدئت بكلمة {وَمِنْ آيَاتِهِ} تنبيها على اتحاد غرضها، فهذه هي الآية الأولى ولها شبه بالاستدلال على البعث لأن خلق الناس من تراب وبث الحياة والانتشار فيهم هو ضرب من ضروب إخراج الحي من الميت، فلذلك كانت هي الأولى في الذكر لمناسبتها لما قبلها فجعلت تخلصا من دلائل البعث إلى دلائل عظيم القدرة. وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الإنسان وتقويم بشريته.
وتقدم كيف كان الخلق من تراب عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} في سورة المؤمنين [12، 13].
فضمير النصب في {خَلَقَكُمْ} عائد إلى جميع الناس وهذا في معنى قوله تعالى في سورة الحج [5] {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} الآية.
وهذا استدلال للناس بأنفسهم لأنهم أشعر بها مما سواها، والناس يعلمون أن النطف أصل الخلقة، وهم إذا تأملوا علموا أن النطفة تتكون من ا لغذاء، وأن الغذاء يتكون من نبات الأرض، وأن نبات الأرض مشتمل على الأجزاء الترابية التي أنبتته فعلموا أنهم مخلوقون من تراب، فبذلك استقام جعل التكوين من التراب آية للناس أي علامة على عظيم القدرة مع كونه أمرا خفيا. على أنه يمكن أن يكون الاستدلال مبنيا على ما هو شائع بين البشر أن أصل الإنسان تراب حسبما أنبأت به الأديان كلها.
وبهذا التأويل يصح أيضا أن يكون معنى {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} خلق أصلكم وهو آدم، وأول الوجوه أظهرها. فالتراب موات لا حياة فيه وطبعه مناف لطبع الحياة لأن التراب بارد يابس وذلك طبع الموت، والحياة تقتضي حرارة ورطوبة فمن ذلك البارد اليابس ينشأ المخلوق الحي المدرك. وقد أشير إلى الحياة والإدراك بقوله: {إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ} ، وإلى التصرف والحركة بقوله: {تَنْتَشِرُونَ} . ولما كان تمام البشرية ينشأ عن تطور التراب إلى نبات ثم إلى نطفة ثم إلى أطوار التخلق في أزمنة متتالية عطفت الجملة بحرف المهلة الدال على تراخي الزمن

مع تراخي الرتبة الذي هو الأصل في عطف الجمل بحرف {ثُمَّ} .
وصدرت الجملة بحرف المفاجأة لأن الكون بشرا يظهر للناس فجأة بوضع الأجنة أو خروج الفراخ من البيض، وما بين ذلك من الأطوار التي اقتضاها حرف المهلة هي أطوار خفية غير مشاهدة؛ فكان الجمع بين حرف المهلة وحرف المفاجأة تنبيها على ذلك التطور العجيب. وحصل من المقارنة بين حرف المهلة وحرف المفاجأة شبه الطباق وإن كان مرجع كل من الحرفين غير مرجع الآخر.
والانتشار: الظهور على الأرض والتباعد بين الناس في الأعمال قال تعالى {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10].
[21] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [21]}.
هذه آية ثانية فيها عظة وتذكير بنظام الناس العام وهو نظام الازدواج وكينونة العائلة وأساس التناسل، وهو نظام عجيب جعله الله مرتكزا في الجبلة لا يشذ عنه إلا الشذاذ.
وهي آية تنطوي على عدة آيات منها: أن جعل للإنسان ناموس التناسل، وأن جعل تناسله بالتزاوج ولم يجعله كتناسل النبات من نفسه، وأن جعل أزواج الإنسان من صنفه ولم يجعلها من صنف آخر لأن التأنس لا يحصل بصنف مخالف، وأن جعل في ذلك التزاوج أنسا بين الزوجين ولم يجعله تزاوجا عنيفا أو مهلكا كتزاوج الضفادع، وأن جعل بين كل زوجين مودة ومحبة فالزوجان يكونان من قبل التزواج متجاهلين فيصبحان بعد التزواج متحابين، وأن جعل بينهما رحمة فهما قبل التزواج لا عاطفة بينهما فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة، ولأجل ما ينطوي عليه هذا الدليل ويتبعه من النعم والدلائل جعلت هذه الآية آيات عدة في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الصنفين من الإنسان: صنف الذكر، وصنف الأنثى، وإيداع نظام الإقبال بينهما في جبلتهما. وذلك من الذاتيات النسبية بين الصنفين. وقد أدمج في الاعتبار بهذه الآية امتنان بنعمة في هذه الآية أشار إليها بقوله: {لَكُمُ} أي لأجل نفعكم.
و {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} متعلق بـ {آيَاتٍ} لما فيه من معنى الدلالة. وجعلت الآيات لقوم يتفكرون لأن التفكر والنظر في تلك الدلائل هو الذي يجلي كنهها ويزيد الناظر بصارة بمنافع أخرى في ضمنها.

والذين يتفكرون: المؤمنون وأهل الرأي من المشركين الذين يؤمنون بعد نزول هذه الآية. والخطاب في قوله: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ} لجميع نوع الإنسان الذكور والإناث.
والزوج: هو الذي به يصير للواحد ثان فيطلق على امرأة الرجل ورجل المرأة فجعل الله لكل فرد زوجه.
ومعنى {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} من نوعكم، فجميع الأزواج من نوع الناس، وأما قول تأبط شرا:
وتزوجت في الشبيبة غولا ... بغزال وصدقتي زق خمر
فمن تكاذيبهم، وكذلك ما يزعمه المشعوذون من التزوج بالجنيات وما يزعمه أهل الخرافات والروايات من وجود بنات في البحر وأنها قد يتزوج بعض الإنس ببعضها.
والسكون: هنا مستعار للتأنس وفرح النفس لأن في ذلك زوال اضطراب الوحشة والكمد والسكون الذي هو زوال اضطراب الجسم كما قالوا: اطمأن إلى كذا وانقطع إلى كذا.
وضمن {لِتَسْكُنُوا} معنى لتميلوا فعدي بحرف "إلى" وإن كان حقه أن يعلق بـ"عند" ونحوها من الظروف.
والمودة: المحبة. والرحمة: صفة تبعث على حسن المعاملة.
وإنما جعل في ذلك آيات كثيرة باعتبار اشتمال ذلك الخلق على دقائق كثيرة متولد بعضها عن بعض يظهرها التأمل والتدبر بحيث يتجمع منها آيات كثيرة.
واللام في قوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} معناه شبه التمليك وهو معنى أثبته صاحب "مغني اللبيب" ويظهر أنه واسطة بين معنى التمليك ومعنى التعليل. ومثله في "المغني" بقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل: 72] وذكر في المعنى العشرين من معاني اللام أن ابن مالك في "كافيته" سماه لام التعدية ولعله يريد تعدية خاصة، ومثله بقوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5].
[22] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ [22]}
هذه الآية الثالثة وهي آية النظام الأرضي في خلق الأرض بمجموعها وسكانها؛

فخلق السماوات والأرض آية عظيمة مشهودة بما فيها من تصاريف الأجرام السماوية والأرضية، وما هو محل العبرة من أحوالهما المتقارنة المتلازمة كالليل والنهار والفصول، والمتضادة كالعلو والانخفاض.
وإذ قد كان أشرف ما على الأرض نوع الإنسان قرن ما في بعض أحواله من الآيات بما في خلق الأرض من الآيات، وخص من أحواله المتخالفة لأنها أشد عبرة إذ كان فيها اختلاف بين أشياء متحدة في الماهية، ولأن هاته الأحوال المختلفة لهذا النوع الواحد نجد أسباب اختلافها من آثار خلق السماوات والأرض، فاختلاف الألسنة سببه القرار بأوطان مختلفة متباعدة، واختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض، واختلاف مسامته أشعة الشمس لها؛ فهي من آثار خلق السماوات والأرض. ولذلك فالظاهر أن المقصود هو آية اختلاف اللغات والألوان وأن ما تقدمه من خلق السماوات والأرض تمهيدا له وإيماء إلى انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض. وقد كانت هذه الآية متعلقة بأحوال عرضية في الإنسان ملازمة له فبتلك الملازمة أشبهت الأحوال الذاتية المطلقة ثم النسبية، فلذلك ذكرت هذه الآية عقب الآيتين السابقتين حسب الترتيب السابق. وقد ظهر وجه المقارنة بين خلق السماوات والأرض وبين اختلاف ألسن البشر وألوانهم، وتقدم في سورة آل عمران [190] قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} .
والألسنة: جمع لسان، وهو يطلق على اللغة كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبرهيم: 4] وقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103].
واختلاف لغات البشر آية عظيمة فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كونه الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير وتنويع التصرف في وضع اللغات، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة. فلا شك أن اللغة كانت واحدة للبشر حين كانوا في مكان واحد، وما اختلفت اللغات إلا بانتشار قبائل البشر في المواطن المتباعدة، وتطرق التغير إلى لغاتهم تطرقا تدريجيا؛ على أن توسع اللغات بتوسع الحاجة إلى التعبير عن أشياء لم يكن للتعبير عنها حاجة قد أوجب اختلافا في وضع الأسماء لها فاختلفت اللغات بذلك في جوهرها كما اختلفت فيما كان متفقا عليه بينها باختلاف لهجات النطق، واختلاف التصرف، فكان لاختلاف الألسنة موجبان. فمحل العبرة هو اختلاف مع اتحاد

أصل النوع كقوله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4] ولما في ذلك الاختلاف من الأسرار المقتضية إياه. ووقع في الإصحاح الحادي عشر من "سفر التكوين" ما يوهم ظاهره أن اختلاف الألسن حصل دفعة واحدة بعد الطوفان في أرض بابل وأن البشر تفرقوا بعد ذلك. والظاهر أنه وقع في العبارة تقديم وتأخير وأن التفرق وقع قبل تبلبل الألسن. وقد علل في ذلك "الإصحاح" بما ينزه الله عن مدلوله.
وقيل: أراد باختلاف الألسنة اختلاف الأصوات بحيث تتمايز أصوات الناس المتكلمين بلغة واحدة فنعرف صاحب الصوت وإن كان غير مرئي. وأما اختلاف ألوان البشر فهو آية أيضا لأن البشر منحدر من أصل واحد وهو آدم، وله لون واحد لا محالة، ولعله البياض المشوب بحمرة، فلما تعدد نسله جاءت الألوان المختلفة في بشراتهم وذلك الاختلاف معلول لعدة علل أهمها المواطن المختلفة بالحرارة والبرودة، ومنها التوالد من أبوين مختلفي اللون مثل المتولد من أم سوداء وأب أبيض، ومنها العلل والأمراض التي تؤثر تلوينا في الجلد، ومنها اختلاف الأغذية ولذلك لم يكن اختلاف ألوان البشر دليلا على اختلاف النوع بل هو نوع واحد، فللبشر ألوان كثيرة أصلاها البياض والسوادن وقد أشار إلى هذا أبو علي ابن سينا في "أرجوزته" في الطب بقوله:
بالنزح حر غير الأجساد ... حتى كسا بياضها سوادا
والصقلب اكتسبت البياضا ... حتى غدت جلودها بضاضا
وكان أصل اللون البياض لأنه غير محتاج إلى علة ولأن التشريح أثبت أن ألوان لحوم البشر التي تحت الطبقة الجلدية متحدة اللون. ومن البياض والسواد انشقت ألوان قبائل البشر فجاء منها اللون الأصفر واللون الأسمر واللون الأحمر. ومن العلماء وهو كوقيي1 جعل أصول ألوان البشر ثلاثة: الأبيض والأسود والأصفر، وهو لون أهل الصين. ومنهم من زاد الأحمر وهو لون سكان قارة أمريكا الأصليين المدعوين هنود أمريكا. واعلم أن من مجموع اختلاف اللغات واختلاف الألوان تمايزت الأجذام البشرية واتحدت مختلطات أنسابها. وقد قسموا أجذام البشر الآن إلى ثلاثة أجذام أصلية وهي الجذم القوقاسي الأبيض، والجذم المغولي الأصفر، والجذم الحبشي الأسود، وفرعوها إلى ثمانية وهي الأبيض والأسود والحبشي والأحمر والأصفر والسامي والهندي والملابي
ـــــــ
1 كُوقييْ: عالم طبيعي فرنسي ولد سنة 1769 وتوفي سنة 1832.

نسبة إلى بلاد الملايو.
وجعل ذلك آيات في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} لما علمت من تفاصيل دلائله وعلله، أي آيات لجميع الناس، وهو نظير قوله آنفا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
واللام في قوله: {لِلْعَالَمِينَ} نظير ما تقدم في الآية قبلها. وجعل ذلك آيات للعالمين لأنه مقرر معلوم لديهم بمكنهم الشعور بآياته بمجرد التفات الذهن دون إمعان نظر. وقرأ الجمهور {لِلْعَالَمِينَ} بفتح اللام. وقرأه حفص بكسر اللام أي لأولي العلم.
[23] {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [23]}.
هذه آية رابعة وهي كائنة في أعراض من أعراض الناس لا يخلو عنها أحد من أفرادهم، إلا أنها أعراض مفارقة غير ملازمة فكانت دون الأعراض التي أقيمت عليها الآية الثالثة ولذلك ذكرت هذه الآية بعدها.
وحالة النوم حالة عجيبة من أحوال الإنسان والحيوان إذ جعل الله له في نظام أعصاب دماغه قانونا يسترد به قوة مجموعه العصبي بعد أن يعتريه فشل الإعياء من إعمال عقله وجسده فيعتريه شبه موت يخدر إدراكه ولا يعطل حركات أعضائه الرئيسية ولكنه يثبطها حتى يبلغ من الزمن مقدارا كافيا لاسترجاع قوته فيفيق من نومته وتعود إليه حياته كاملة، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} في سورة البقرة [255]. والمنام مصدر ميمي للنوم أو هو اسم مصدر.
وقوله: {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} متعلق بـ {مَنَامُكُمْ} . والباء للظرفية بمعنى "في" فالناس ينامون بالليل ومنهم من ينام بالنهار في القائلة وبخاصة أهل الأعمال المضنية إذا استراحوا منها في منتصف النهار خصوصا في البلاد الحارة أو في فصل الحر.
والابتغاء من فضل الله: طلب الرزق بالعمل لأن فضل الله الرزق، وجعل هذا كناية عن الهبوب إلى العمل لأن الابتغاء يستلزم الهبوب من النوم، وذلك آية أخرى لأنه نشاط القوة بعد أن خارت وفشلت. ولكون ابتغاء الرزق من خصائص النهار أطلق هنا فلم يقيد بالليل والنهار. ولك أن تجعل عدم تقييده بمثل ما قيد به {مَنَامُكُمْ} للاستغناء بدلالة القيد

الذي قبله بتقدير: وابتغاؤكم من فضله فيهما. وقد تكلف صاحب "الكشاف" فجعل الكلام من قبيل اللف والنشر؛ على أن اللف وقع فيه تفريق، ووجهه محشيه القزويني بأن التقديم للاهتمام بآية الليل والنهار.
وقد جعلت دلالات المنام والابتغاء من فضل الله {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} لوجهين: أحدهما : أن هذين حالتان متعاورتان على الناس قد اعتادوهما فقل من يتدبر في دلالتهما على دقيق صنع الله تعالى؛ فمعظم الناس في حاجة إلى من يوقفهم على هذه الدلالة ويرشدهم إليها. وثانيهما : أن في ما يسمعه الناس من أحوال النوم ما هو أشد دلالة على عظيم صنع الله تعالى مما يشعر به صاحب النوم من أحوال نومه، لأن النائم لا يعرف من نومه إلا الاستعداد له وإلا أنه حين يهب من نومه يعلم أنه كان نائما؛ فأما حالة النائم في حين نومه ومقدار تنبهه لمن يوقظه، وشعوره بالأصوات التي تقع بقربه، والأضواء التي تنتشر على بصره فتنبهه أو لا تنبهه، كل ذلك لا يتلقاه النائم إلا بطريق الخبر من الذين يكونون أيقاظا في وقت نومه. فطريق العلم بتفاصيل أحوال النائمين واختلافها السمع، وقد يشاهد المرء حال نوم غيره إلا أن عبرته بنومه الخاص به أشد، فطريق السمع هو أعم الطرق لمعرفة تفاصيل أحوال النوم، فلذلك قيل {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} . وأيضا لأن النوم يحول دون الشعور بالمسموعات بادئ ذي بدء قبل أن يحول دون الشعور بالمبصرات.
وأجريت صفة {يَسْمَعُونَ} على {قَوْمٍ} للإيماء إلى أن السمع متمكن منهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164]. ووجه جعل ذلك آيات لما ينطوي عليه من تعدد الدلالات بتعدد المستدلين وتولد دقائق تلك الآية بعضها عن بعض كما تقدم آنفا.
ومعنى اللام في قوله: {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} كما تقدم في معناه عند قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
[24] {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [24]}
تلك آية خامسة وهي متعلقة بالإنسان وليست متصلة به، فإن البرق آية من آيات صنع الله وهو من خلق القوى الكهربائية النورانية في الأسحبة وجعلها آثارا مشاهدة، وكم من قوى أمثالها منبثة في العوالم العلوية لا تشاهد آثارها. ومن الحكم الإلهية في كون البرق

مرئيا أن ذلك يثير في النفوس خوفا من أن يكون الله سلطه عقابا، وطمعا في أن يكون أراد به خيرا للناس فيطمعون في نزول المطر، ولذلك أعقبه بقوله: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} فإن نزول المطر مما يخطر بالبال عند ذكر البرق.
وقوله: {مِنْ آيَاتِهِ} جار ومجرور يحتاج إلى تقدير كون إن كان ظرفا مستقرا، أو إلى متعلق إن كان ظرفا لغوا. وموقع هذا الجار والمجرور في هذه الآية وارد على مثل مواقع أمثاله في الآيات السابقة واللاحقة الشبيهة بها، وذلك مما يدعو إلى اعتبار ما يذكر بعد الجار والمجرور في معنى مبتدأ مخبر عنه بالجار والمجرور المقدم عليه حملا على نظائره، فيكون المعنى: ومن آياته إرادته إياكم البرق الخ، فلذلك قال أئمة النحو: يجوز هنا جعل الفعل المضارع بمعنى المصدر من غير وجود "أن" ولا تقديرها، أي من غير نصب المضارع بتقدير "أن" محذوفة، وجعلوا منه قول عروة بن الورد.
وقالوا ما تشاء فقلت ألهو ... إلى الإصباح آثر ذي آثار
وقول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى
وجعلوا منه قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] برفع {أَعْبُدُ} في مشهور القراءات، وقولهم في المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمل عليها متاعه صدقة" وقوله فيه: "وتميط الأذى عن الطريق صدقة" رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
ومن بديع الاستعمال تفنن هذه الآيات في التعبير عن معاني المصدر بأنواع صيغة الواردة في الاستعمال، من تعبير بصيغة صريح المصدر تارة كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 22] وقوله: {وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23]، وبالمصدر الذي ينسبك من اقتران {أَنْ} المصدرية بالفعل الماضي {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم: 21] واقترانها بالفعل المضارع {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]، وباسم المصدر تارة {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الروم: 23] ومرة بالفعل المجرد المؤول بالمصدر {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}.
ولك أن تجعل المجرور متعلقا بـ {يُرِيكُمُ} وتكون {مِنْ} ابتدائية في موضع الحال من البرق، وتكون جملة {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} معطوفة على جملة {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ

وَالنَّهَارِ} [الروم: 23] الخ. فيكون تغيير الأسلوب لأن مناط هذه الآية هو تقرير الناس بها إذ هي غير متصلة بذواتهم فليس حظهم منها سوى مشاهدتها والإقرار بأنها آية بينة، فهذا التقرير كالذي في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2]، وليتأتى عطف {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} عليه لأنه تكملة لهذه الآية.
وقوله: {خَوْفاً وَطَمَعاً} مفعول لأجله معطوف عليه. والمراد: خوفا تخافونه وطمعا تطمعونه. فالمصدران مؤولان بمعنى الإرادة، أي إرادة أن تخافوا خوفا وتطمعوا. وقد تقدم الكلام على البرق في قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} في سورة الرعد [12]. وتقدم هنالك أن {خَوْفاً} مفعول له و {طَمَعاً} كذلك وتوجيه ذلك.
وجعلت هذه الآية آيات لانطوائها على دقائق عظيمة في خلق القوى التي هي أسباب البرق ونزول المطر وخروج النبات من الأرض بعد جفافها وموتها. ونيط الانتفاع بهذه الآيات بأصحاب صفة العقل لأن العقل المستقيم غير المشوب بعاهة العناد والمكابرة كاف في فهم ما في تلك المذكورات من الدلائل والحكم على نحو ما قرر في نظائره آنفا.
وإجراء {يَعْقِلُونَ} على لفظ {قَوْمٍ} للإيماء إلى ما تقدم ذكره آنفا في مثله. ومعنى اللام في قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} مثل معنى أختها في قوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
[25] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [25]}.
ختمت الآيات بهذه الآية السادسة وهي التي دلت على عظيم القدرة على حفظ نظام المخلوقات العظيمة بعد خلقها؛ فخلق السماوات والأرض آية مستقلة تقدمت، وبقاء نظامهما على ممر القرون آية أخرى. وموقع العبرة من هاته الآية هو أولها وهو أن تقوم السماء والأرض هذا القيام المتقن بأمر الله دون غيره.
فمعنى القيام هنا: البقاء الكامل الذي يشبه بقاء القائم غير المضطجع وغير القاعد من قولهم: قامت السوق، إذا عظم فيها البيع والشراء. وهذا هو المعبر عنه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41] وقوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الحج: 65].
والأمر المضاف إلى الله هو أمره التكويني وهو مجموع ما وضعه الله من نظام العالم

العلوي والسفلي، ذلك النظام الحارس لهما من تطرق الاختلال بإيجاد ذلك النظام.
و {بِأَمْرِهِ} متعلق بفعل {تَقُومَ} ، والباء للسببية.
و {ثم} عاطفة الجملة على الجملة. والمقصود من الجملة المعطوفة الاحتراس عما قد يتوهم من قوله: {أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} من أبدية وجود السماوات والأرض، فأفادت الجملة أن هذا النظام الأرضي يعتوره الاختلال إذا أراد الله انقضاء العالم الأرضي وإحضار الخلق إلى الحشر تسجيلا على المشركين بإثبات البعث. فمضمون جملة {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} ليس من تمام هذه الآية السادسة ولكنه تكملة وإدماج موجه إلى منكري البعث.
وفي متعلق المجرور في قوله: {مِنَ الْأَرْضِ} اضطراب؛ فالذي ذهب إليه صاحب "الكشاف" أنه متعلق بـ {دَعَاكُمْ} لأن {دَعَاكُمْ} لما اشتمل على فاعل ومفعول فالمتعلق بالفعل يجوز أن يكون من شؤون الفاعل ويجوز أن يكون من شؤون المفعول على حسب القرينة، كما تقول: دعوت فلانا من أعلى الجبل فنزل إلي، أي دعوته وهو في أعلى الجبل. وهذا الاستعمال خلاف الغالب ولكن دلت عليه القرينة مع التفصي من أن يكون المجرور متعلقا ب {تَخْرُجُونَ} لأن ما بعد حرف المفاجأة لا يعمل فيما قبلها، على أن في هذا المنع نظرا. ولا يجوز تعليقه بـ {دَعْوَةَ} لعدم اشتمال المصدر على فاعل ومفعول، وهو وجيه وكفاك بذوق قائله. وأقول: قريب منه قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. و {مِنْ} لابتداء المكان، والمجرور ظرف لغو. ويجوز أن يكون المجرور حالا من ضمير النصب في {دَعَاكُمْ} فهو ظرف مستقر. ويجوز أن يكون {مِنَ الْأَرْضِ} متعلقا بـ {تُخْرِجُونَ} قدم عليه. وهذا ذكر في "مغنى اللبيب" أنه حكاه عنهم أبو حاتم في كتاب "الوقف" ، وهذا أحسن وأبعد عن التكلف، وعليه فتقديم المجرور للاهتمام تعريضا بخطئهم إذ أحالوا أن يكون لهم خروج من الأرض عن بعد صيرورتهم فيها في قولهم المحكي عنهم بقوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] وقولهم {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل: 67].
وأما قضية تقديم المعمول على {إِذَا} الفجائية فإذا سلم عدم جوازه فإن التوسع في المجرور والمظروف من حديث البحر، فمن العجب كيف سد باب التوسع فيه صاحب "مغني اللبيب" في الجهة الثانية من الباب الخامس. وجيء بحرف المفاجأة في قوله: {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} لإفادة سرعة خروجهم إلى الحشر كقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا

هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13, 14] و {إِذاً} الفجائية تقتضي أن يكون ما بعدها مبتدأ. وجيء بخبر المبتدأ جملة فعلية لإفادة التقوي الحاصل من تحمل الفعل ضمير المبتدأ فكأنه أعيد ذكره كما أشار إليه صاحب "المفتاح" . وجيء بالمضارع لاستحضار الصورة العجيبة في ذلك الخروج كقوله: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51].
[26] {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُون} َ [26]}.
أتبع ذكر إقامة الله تعالى السماوات والأرض بالتذكير بأن كل العقلاء في السماوات والأرض عبيد لله تعالى فيكون من مكملات ما تضمنته جملة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] فعطفت عليها هذه ا لجملة زيادة لبيان معنى إقامته السماء والأرض.
فاللام في قوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لام الملك، واللام في قوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} لام التقوية، أي تقوية تعدية العامل إلى معموله لضعف العامل بكونه فرعا في العمل، وبتأخيره عن معموله. وعليه تكون {مَنْ} صادقة على العقلاء كما هو الغالب في استعمالها. وظاهر معنى القنوت امتثال الأمر، فيجوز أن يكون المعنى: أنهم منقادون لأمره. وإذ قد كان في العقلاء عصاة كثيرون تعين تأويل القنوت باستعماله في الامتثال لأمر التكوين، أو في الشهادة لله بالوحدانية بدلالة الحال، وهذا هو المقصود هنا لأن هذا الكلام أورد بعد ذكر الآيات الست إيراد الفذلكة بإثبات الوحدانية فلا يحمل قنوتهم على امتثالهم لما يأمرهم الله به من أمر التكليف مباشرة أو بواسطة لأن المخلوقات متفاوتون في الامتثال للتكليف؛ فالشيطان أمره الله مباشرة بالسجود آدم فلم يمتثل، وآدم أمره الله مباشرة أن لا يأكل من الشجرة فأكل منها؛ إلا أن ذلك قبل ابتداء التكليف.
والمخلوقات السماوية ممتثلون لأمره ساعون في مرضاته قال تعالى {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]. وأما المخلوقات الأرضية العقلاء فهم مخلوقون للطاعة قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56], فزيغ الزائغين عن طاعة الله تعالى انحراف منهم عن الفطرة التي فطروا عليها، وهم في انحرافهم متفاوتون؛ فالضالون الذين أشركوا بالله فجعلوا له أندادا، والعصاة الذين لم يخرجوا عن توحيده، ولكنهم ربما خالفوا بعض أوامره قليلا أو كثيرا، هم في ذلك آخذون بجانب من الإباق متفاوتون فيه. فجملة {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} معطوفة على جملة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ

تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]. ويجوز أن تكون جملة {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} تكملة لجملة {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] على معنى: وله يومئذ من في السماوات والأرض كل له قانتون، فالقنوت بمعنى الامتثال الواقع في ذلك اليوم وهو امتثال الخضوع لأن امتثال التكليف قد انقضى بانقضاء الدنيا، أي لا يسعهم إلا الخضوع فيها يأمر الله به من شأنهم {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24], فتكون الجملة معطوفة على جملة {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25]. والقنوت تقدم في قوله: {قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} في سورة النحل [120].
[27] {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27]} .
تقدم نظير صدر هذه الآية في هذه السورة وأعيد هنا ليبنى عليه قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} تكملة للدليل إذ لم تذكر هذه التكملة هناك. فهذا ابتداء بتوجيه الكلام إلى المشركين لرجوعه إلى نظيره المسوق إليهم. وهذا أشبه بالتسليم الجدلي في المناظرة، ذلك لأنهم لما اعترفوا بأن الله هو بادئ خلق الإنسان، وأنكروا إعادته بعد الموت، واستدل عليهم هنالك بقياس المساواة، ولما كان إنكارهم الإعادة بعد الموت متضمنا تحديد مفعول القدرة الإلهية جاء التنازل في الاستدلال إلى أن تحديد مفعول القدرة لو سلم لهم لكان يقتضي إمكان البعث بقياس الأحرى فإن إعادة المصنوع مرة ثانية أهون على الصانع من صنعته الأولى وأدخل تحت تأثير قدرته فيما تعارفه الناس في مقدوراتهم. فقوله: {أَهْوَنُ} اسم تفضيل، وموقعه موقع الكلام الموجه، فظاهره أن {أَهْوَنُ} مستعمل في معنى المفاضلة على طريقة إرخاء العنان والتسليم الجدلي، أي الخلق الثاني أسهل من الخلق الأول، وهذا في معنى قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]. ومراده: أن إعادة الخلق مرة ثانية مساوية لبدء الخلق في تعلق القدرة الإلهية، فتحمل صيغة التفضيل على معنى قوة الفعل المصوغة له كقوله: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]. وللإشارة إلى أن قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} مجرد تقريب لأفهامهم عقب بقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أي ثبت له واستحق الشأن الأتم الذي لا يقاس بشؤون الناس المتعارفة وإنما لقصد التقريب لأفهامكم.

و {الْأَعْلَى} : معناه الأعظم البالغ نهاية حقيقة العظمة والقوة. قال حجة الإسلام في "الإحياء" : "لا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء الشمس ولكنهم ينالون منها ما تحيا به أبصارهم وقد تأنق بعضهم في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام المجيد إلى فهم الإنسان لعلو درجة الكلام المجيد وقصور رتبة الأفهام البشرية فإن الناس إذا أرادوا أن يفهموا الدواب ما يريدون من تقديمها وتأخيرها ونحوه وروأها تقصر عن فهم الكلام الصادر عن العقول مع حسنه وترتيبه نزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إليها بأصوات يضعونها لائقة بها من الصفير ونحوه من الأصوات القريبة من أصواتها" اهـ.
وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} صفة للمثل أو حال منه، أي كان استحقاقه المثل الأعلى مستقرا في السماوات والأرض، أي في كائنات السموات والأرض، فالمراد: أهلها، على حد {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، أي هو موصوف بأشرف الصفات وأعظم الشؤون على ألسنة العقلاء وهي الملائكة والبشر المعتد بعقولهم ولا اعتداد بالمعطلين منهم لسخافة عقولهم وفي دلائل الأدلة الكائنة في السماوات وفي الأرض، فكل تلك الأدلة شاهدة بأن لله المثل الأعلى.
ومن جملة المثل الأعلى عزته وحكمته تعالى؛ فخصا بالذكر هنا لأنهما الصفتان اللتان تظهر آثارهما في الغرض المتحدث عنه وهو بدء الخلق وإعادته؛ فالعزة تقتضي الغنى المطلق فهي تقتضي تمام القدرة. والحكمة تقتضي عموم العلم. ومن آثار القدرة والحكمة أنه يعيد الخلق بقدرته وأن الغاية من ذلك الجزاء وهو من حكمته.
[28] {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [28]}.
أتبع ضرب المثل لإمكان إعادة الخلق عقب دليل بدئه بضرب مثل لإبطال الشرك عقب دليليه المتقدمين في قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم: 19] وقوله: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 19] لينتظم الدليل على هذين الأصلين المهمين: أصل الوحدانية، وأصل البعث، وينكشف بالتمثيل والتقريب بعد نهوضه بدليل العقل. والخطاب للمشركين.
وضرب المثل: إيقاعه ووضعه، وعليه فانتصاب {مَثَلاً} على المفعول به، أو يراد

بضربه جعله ضربا، أي مثلا ونظيرا، وعليه فانتصاب {مَثَلاً} على المفعولية المطلقة لأن {مَثَلاً} حينئذ يرادف ضربا مصدر ضرب بهذا المعنى. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة [26]. واللام في قوله: {لَكُمُ} لام التعليل، أي ضرب مثلا لأجلكم، أي لأجل إفهامكم.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ابتدائية متعلقة بـ {ضَرَبَ} ، أي جعل لكم مثلا منتزعا من أنفسكم، والأنفس هنا جنس الناس كقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]، أي مثلا من أحوال جماعتكم إذ لا تخلو الجماعة عن ناس لهم عبيد وهم يعرفون أحوال العبيد مع سادتهم سواء منهم من يملك عبيدا ومن لا عبيد له. فالخطاب لجميع الأمة باعتبار وجود فريق فيهم ينطبق عليهم هذا المثل. والاستفهام مستعمل في الإنكار ومناط الإنكار قوله: {فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ} إلى آخره، أي من شركاء لهم هذا الشأن.
و {مِنْ} في قوله: {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} تبعيضية، و {مِنْ} في قوله: {مِنْ شُرَكَاءَ} زائدة مؤكدة لمعنى النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري. فالجمع بين هذه الحروف في كلام واحد من قبيل الجناس التام.
والشركاء: جمع شريك، وهو المشارك في المال لقوله: {فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ} ، والفاء للتفريع على الشركة، أي فتكونوا متساوين فيما أنتم فيه شركاء.
وجملة {تَخَافُونَهُمْ} في موضع الحال من ضمير الفاعل في {سَوَاءٌ} . والخوف: انفعال نفساني ينشأ من توقع إصابة مكروه يبقى، وهو هنا التوقي من التفريط في حظوظهم من الأرزاق وليس هو الرعب بقرينة قوله: {كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، أي كما تتوقون أنفسكم من إضاعة حقوقكم عندهم.
والأنفس الثاني بمعنى: أنفس الذين لهم شركاء مما ملكت أيمانهم من المخاطبين لأنهم بعض المخاطبين.
وهذا المثل تشبيه هيئة مركبة بهيئة مركبة؛ شبهت الهيئة المنتزعة من زعم المشركين أن الأصنام شركاء لله في التصرف ودافعون عن أوليائهم ما يريده الله من تسلط عقاب أو نحوه إذ زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله وهم مع ذلك يعترفون بأنها مخلوقة لله فإنهم يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك. هذه الهيئة شبهت بهيئة ناس لهم عبيد صاروا شركاء في أرزاق سادتهم شركة على السواء فصار سادتهم يحذرون إذا أرادوا أن

يتصرفوا في تلك الأرزاق أن يكون تصرفهم غير مرضي لعبيدهم. وهذا التشبيه وإن كان منصرفا لمجموع المركب من الهيئتين قد بلغ غاية كمال نظائره إذ هو قابل للتفريق في أجزاء ذلك المركب بتشبيه مالك الخلق كلهم بالذين يملكون عبيدا، وتشبيه الأصنام التي هي مخلوقة لله تعالى بمماليك الناس، وتشبيه تشريك الأصنام في التصرف مع الخالق في ملكه بتشريك العبيد في التصرف في أرزاق سادتهم، وتشبيه زعمهم عدول الله عن بعض ما يريده في الخلق لأجل تلك الأصنام،وشفاعتها بحذر أصحاب الأرزاق من التصرف في حظوظ عبيدهم الشركاء تصرفا يأبونه. فهذه الهيئة المشبه بها هيئة قبيحة مشوهة في العادة لا وجود لأمثالها في عرفهم فكانت الهيئة المشبهة منفية منكرة، ولذلك أدخل عليها استفهام الإنكار والجحود لينتج أن الصورة المزعومة للأصنام صورة باطلة بطريق التصوير والتشكيل إبرازا لذلك المعنى الاعتقادي الباطل في الصورة المحسوسة المشوهة الباطلة.
ولذلك عقب بجملة {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، أي نفصل الدلائل على الاعتقاد الصحيح تفصيلا كهذا التفصيل وضوحا بينا، وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 24] ستئناف ابتدائي. والقوم الذين يعقلون هم المتنزهون عن المكابرة والإعراض، والطالبون للحق والحقائق لوفرة عقولهم، فيزداد المؤمنون يقينا ويؤمن الغافلون والذين تروج عليهم ضلالات المشركين ثم تنكشف عنهم بمثل هذه الدلائل البينة.
وفي ذكر لفظ {قَوْمٍ} وإجراء الصفة عليه إيماء إلى أن هذه الآيات لا ينتفع بها إلا من كان العقل من مقومات قوميته كما تقدم في قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [162]، وتقدمت له نظائر كثيرة. والقول في إيثار وصف العقل هنا دون غيره من أوصاف النظر والفكر كالقول فيما تقدم عند قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} إلى قوله: {يَعْقِلُونَ} [الروم: 24].
وفي هذا تعريض بالمتصلبين في شركهم بأنهم ليسوا من أهل العقول، وليسوا ممن ينتفعون كقوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وقوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].
وقوله: {كَذَلِكَ} تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسطا} [البقرة: 143].

[29] {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [29]}.
إضراب إبطالي لما تضمنه التعريض الذي في قوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28] إذ اقتضى أن الشأن أن ينتفع الناس بمثل هذا المثل فيقلع المشركون منهم عن إشراكهم ويلجوا حظيرة الإيمان، ولكنهم اتبعوا أهواءهم وما تسوله لهم نفوسهم ولم يطلبوا الحق ويتفهموا دلائله فهم عن العلم بمنأى. فالتقدير: فما نفعتهم الآيات المفصلة بل اتبعوا أهواءهم.
و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} : المشركون {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 31] وتقييد اتباع الهوى بأنه بغير علم تشنيع لهذا الاتباع فإنه اتباع شهوة مع جهالة، فإن العالم إذا اتبع الهوى كان متحرزا من التوغل في هواه لعلمه بفساده، وليس ما هنا مماثلا لقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] في أنه قيد كاشف من حيث إن الهوى لا يكون إلا ملتبسا بمغايرة هدى الله.
والفاء في {فَمَنْ يَهْدِي} للتفريع، أي يترتب على اتباعهم أهواءهم بغير علم انتفاء الهدى عنهم أبدا. و {مَنْ} اسم استفهام إنكاري بمعنى النفي فيفيد عموم نفي الهادي لهم، إذ التقدير: لا أحد يهدي من أضل الله لا غيرهم ولا انفسهم، فإنهم من عموم ما صدق {مَنْ يَهْدِي} .
ومعنى {مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} : من قدر له الضلال وطبع على قلبه، فإسناد الإضلال إلى الله إسناد لتكوينه على ذلك لا للأمر به وذلك بين. ومعنى انتفاء هاديهم: أن من يحاوله لا يجد له في نفوسهم مسلكا.
ثم عطف على جملة نفي هداهم خبر آخر عن حالهم وهو {مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ردا على المشركين الزاعمين أنهم إذا أصابوا خطيئة عند الله أن الأصنام تشفع لهم عند الله.
[30] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [30]}
الفاء فصيحة. والتقدير: إذا علمت أحوال المعرضين عن دلائل الحق فأقم وجهك للدين.
والأمر مستعمل في طلب الدوام. والمقصود: أن لا تهتم بإعراضهم، كقوله تعالى:

{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20] وقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] "أي من آمن" وقوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
فالمعنى: فأقم وجهك للدين والمؤمنون معك، كما يؤذن به قوله بعده {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم: 31] بصيغة الجمع.
وإقامة الوجه: تقويمه وتعديله باتجاهه قبالة نظره غير ملتفت يمينا ولا شمالا. وهو تمثيل لحالة الإقبال على الشيء والتمحض للشغل به بحال قصر النظر إلى صوب قبالته غير ملتفت يمنة ولا يسرة، وهذا كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ} [الأعراف: 29] وقوله حكاية عن إبراهيم {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79] وقوله تعالى: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20]، أي أعطيته لله، وذلك معنى التمحيض لعبادة الله وأن لا يلتفت إلى معبود غيره.
والتعريف في {الدِّينِ} للعهد وهو دينهم الذي هم عليه وهو دين الإسلام. و {حَنِيفاً} يجوز أن يكون حالا من الضمير المستتر في فعل {أَقِمْ} فيكون حالا للنبيء صلى الله عليه وسلم كما كان وصفا لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل: 120], وهذا هو الأظهر في تفسيره. ويجوز كونه حالا من الدين على ما فسر به الزجاج فيكون استعارة بتشبيه الدين برجل حنيف في خلوه من شوائب الشرك، فيكون الحنيف تمثيلية وفي إثباته للدين استعارة تصريحية.
وحنيف: صيغة مبالغة في الاتصاف بالحنف وهو الميل، وغلب استعمال هذا الوصف في الميل عن الباطل، أي العدول عنه بالتوجه إلى الحق، أي عادلا ومنقطعا عن الشرك كقوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، وقد مضى في سورة البقرة [135].
و {فِطْرَتَ اللَّهِ} بدل من {حَنِيفاً} بدل اشتمال فهو في معنى الحال من {الدِّينِ} أيضا وهو حال ثانية فإن الحال كالخبر تتعدد بدون عطف على التحقيق عند النحاة. وهذا أحسن لأنه أصرح في إفادة أن هذا الدين مختص بوصفين هما: التبرؤ من الإشراك، وموافقته الفطرة، فيفيد أنه دين سمح سهل لا عنت فيه. ونظيره قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} [الكهف: 1، 2] أي الدين الذي هو فطرة الله لأن التوحيد هو الفطرة، والإشراك تبديل للفطرة. والفطرة أصله اسم هيئة من الفطر وهو الخلق مثل الخلقة كما بينه قوله: {الَّتِي فَطَرَ

النَّاسَ عَلَيْهَا} أي جبل الناس وخلقهم عليها، أي متمكنين منها. فحرف الاستعلاء مستعار لتمكن ملابسة الصفة بالموصوف تمكنا يشبه تمكن المعتلي على شيء، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [5]، وحقيقة المعنى: التي فطر الناس بها.
ومعنى فطر الناس على الدين الحنيف أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم غير مجافية لها، غير نائين عنه ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانية لله لأن التوحيد هو الذي يساوق العقل والنظر الصحيح حتى لو ترك الإنسان وتفكيره ولم يلقن اعتقادا ضالا لاهتدى إلى التوحيد بفطرته. قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أي الفطرة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الإنسان التي هي معدة ومهيئة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه. اهـ.
وإن لم أر من أتقن الإفصاح عن معنى كون الإسلام هو الفطرة فأبينه: بأن الفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسدا وعقلا، فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية وهو المسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع، وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابتة في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية، وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية.
وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتابه "النجاة" فقال: "ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل لكنه لم يسمع رأيا ولم يعتقد مذهبا ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسة، ولكنه شاهد المحسوسات وأخذ منها الحالات، ثم يعرض على ذهنه شيئا ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة، وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق إنما الصادق فطرة القوة التي تسمى عقلا، وأما فطرة الذهن بالجملة فربما كانت كاذبة، وإنما يكون هذا الكذب في الأمور التي ليست محسوسة بالذات بل هي مبادئ للمحسوسات. فالفطرة الصادقة هي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها: إما شهادة الكل مثل: أن العدل جميل، وإما شهادة الأكثر؛ وإما شهادة العلماء أو الأفاضل منهم. وليست

الذائعات من جهة ما هي ذائعات مما يقع التصديق بها في الفطرة فما كان من الذائعات ليس بأولي عقلي ولا وهمي فإنها غير فطرية، ولكنها متقررة عند الأنفس لأن العادة مستمرة عليها منذ الصبى وربما دعا إليها محبة التسالم والاصطناع المضطر إليهما الإنسان، أو شيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس أو الاستقراء الكثير، أو كون القول في نفسه ذا شرط دقيق لأن يكون حقا صرفا فلا يفطن لذلك الشرط ويؤخذ على الإطلاق. اهـ. فوصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جار على مقتضى الفطرة العقلية، وأما تشريعاته وتفاريعه فهي: إما أمور فطرية أيضا، أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به، وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته.
وقوانين المعاملات فيه هي راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة. وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه وقد بينته في كتابي المسمى "مقاصد الشريعة الإسلامية" . واعلم أن شواهد الفطرة قد تكون واضحة بينة وقد تكون خفية، كما يقتضيه كلام الشيخ ابن سينا، فإذا خفيت المعاني الفطرية أو التبست بغيرها فالمضطلعون بتمييزها وكشفها هم العلماء الحكماء الذين تمرسوا بحقائق الأشياء والتفريق بين متشابهاتها، وسبروا أحوال البشر، وتعرضت أفهامهم زمانا لتصاريف الشريعة، وتوسموا مراميها، وغاياتها وعصموا أنفسهم بوازع الحق عن أن يميلوا مع الأهواء.
إن المجتمع الإنساني قد مني عصورا طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل، فاختلطت عنده بالعلوم الحق فتقاول الناس عليها وارتاضوا على قبولها، فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته، فتلك يخاف منها أن تتلقى بالتسليم على مرور العصور فيعسر إقلاعهم عنها وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحق، فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كل سبيل، واستوضحوا خطيرها وسليمها فكانوا للسابلة خير دليل. وكون الإسلام هو الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية، وهذا ما أفاده قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ

الْقَيِّمُ} . فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح بجميع الأمم، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحا للناس كافة وللعصور عامة وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحا يسرا لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة.
وفي قوله: {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} بيان لمعنى الإضافة في قوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ} ، وتصريح بأن الله خلق الناس سالمة عقولهم مما ينافي الفطرة من الأديان الباطلة والعادات الذميمة، وأن ما يدخل عليهم من الضلالات ما هو إلا من جراء التلقي والتعود، وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" ، أي كما تولد البهيمة من ابل أو بقر أو غنم كاملة جمعاء أي بذيلها، أي تولد كاملة ويعمد بعض الناس إلى قطع ذيلها وجدعه وهي الجدعاء، و"تحسون" تدركون بالحس، أي حاسة البصر. فجعل اليهودية والنصرانية مخالفة الفطرة، أي في تفاريعها. وفي "صحيح مسلم" أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم -أي غير مشركين- وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" الحديث1.
وجملة {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} مبينة لمعنى {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} فهي جارية مجرى حال ثالثة من {الدِّينِ} على تقدير رابط محذوف. والتقدير: لا تبديل لخلق الله فيه، أي في هذا الدين، فهو كقوله في حديث أم زرع في قول الرابعة: زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة أي في ذلك الليل.
فمعنى {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أنه الدين الحنيف الذي ليس فيه تبديل لخلق الله خلاف دين أهل الشرك، قال تعالى عن الشيطان: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]. ويجوز أن تكون جملة {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} معترضة لإفادة النهي عن تغيير خلق الله فيما أودعه الفطرة. فتكون {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} خبرا مستعملا في معنى النهي على وجه المبالغة كقوله: {لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. فنفي الجنس مراد به جنس من التبديل خاص بالوصف لا نفي وقوع جنس التبديل فهو من العام المراد به الخصوص
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في صفة أهل الجنة من كتاب "الجنة والنار" . وهو حديث طويل.

بالقرينة. واسم الإشارة لزيادة تمييز هذا الدين مع تعظيمه.
و {الْقَيِّمُ} : وصف بوزن فيعل مثل هين ولين يفيد قوة الاتصاف بمصدره، أي البالغ قوة القيام مثل استقام الذي هو مبالغة في قام كاستجاب.
والقيام: حقيقته الانتصاب ضد القعود والاضطجاع، ويطلق مجازا على انتفاء الاعوجاج يقال: عود مستقيم وقيم، فإطلاق القيم على الدين تشبيه انتفاء الخطإ عنه باستقامة العود وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، كما في قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} [الكهف: 1، 2] وقال تعالى {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} في سورة براءة [36].
ويطلق أيضا على الرعاية والمراقبة والكفالة بالشيء لأنها تستلزم القيام والتعهد قال تعالى {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33], ومنه قلنا لراعي التلامذة ومراقب أحوالهم: قيم. ويطلق القيم على المهيمن والحافظ. والمعاني كلها صالحة للحمل عليها هنا، فإن هذا الكتاب معصوم عن الخطأ ومتكفل بمصالح الناس وشاهدا على الكتب السالفة تصحيحا ونسخا قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} وتقدم في طالع سورة المائدة [48]. فهذا الدين به قوام أمر الأمة. قال عمر بن الخطاب لمعاذ بن جبل: يا معاذ ما قوام هذه الأمة? قال: الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والصلاة وهي الدين، والطاعة وهي العصمة، فقال عمر: صدقت. يريد معاذ بالإخلاص التوحيد كقوله تعالى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
والاستدراك في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} لدفع توهم واهم يقول إذا كان هو دين الفطرة وهو القيم فكيف أعرض كثير من الناس عنه بعد تبليغه، فاستدرك ذلك بأنهم جهال لا علم عندهم فإن كان قد بلغهم فإنهم جهلوا معانيه لإعراضهم عن التأمل ولا يعلمون منه إلا ما لا يفيدهم مهمهم لأنهم لم يسعوا في أن يبلغهم على الوجه الصحيح؛ ففعل {لا يَعْلَمُونَ} غير متطلب مفعولا بل هو منزل منزلة اللازم لأن المعنى لا علم عندهم على نحو ما قرر في نظيره في أول هذه السورة.
والمراد بـ {أَكْثَرَ النَّاسِ} المشركون إذ أعرضوا عن دعوة الإسلام، وأهل الكتاب إذ أبوا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة أديانهم بعد إبطالها لانتهاء صلاحية تفاريعها بانقضاء الأحوال التي شرعت لها انقضاء لا مطمع بعده لأن تعود.

ومقابل {أَكْثَرَ النَّاسِ} هم المؤمنون، وشر ذمة من علماء أهل الكتاب علموا أحقية الإسلام وبقوا على أديانهم عنادا: فهم يعلمون ويكابرون، أو تحيرا: فهم في شك بين علم وجهل.
[31، 32] {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [31] مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [32]} .
{مُنِيبِينَ} حال من ضمير {فَأَقِمْ} [الروم: 30] للإشارة إلى أن الخطاب الموجه إلى النبيء صلى الله عليه وسلم مراد منه نفسه والمؤمنون معه كما تقدم.
والمنيب: الملازم للطاعة. ويظهر أن معنى أناب صار ذا نوبة، أي ذا رجوع متكرر وأن الهمزة فيه للصيرورة، والنوبة: حصة من عمل يتوزعه عدد من الناس. وأصلها: فعلة بصيغة المرة لأنها مرة من النوب وهو قيام أحد مقام غيره، ومنه النيابة، ويقال: تناوبوا عمل كذا. وفي حديث عمر: "كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوما وأنزل يوما" الحديث، فإطلاق المنيب على المطيع استعارة لتعهد الطاعة تعهدا متكررا، وجعلت تلك الاستعارة كناية عن مواصلة الطاعة وملازمتها قال تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} في سورة هود [75]. وفسرت الإنابة أيضا بالتوبة. وقد قيل: إن ناب مرادف تاب، وهو المناسب لقوله في الآية الموالية {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33]. والأمر الذي في قوله: {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} مستعمل في طلب الدوام.
و {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} هم المشركون لأنهم اتخذوا عدة آلهة. وإنما كررت {مِنْ} التبعيضية لاعتبار الذين فرقوا دينهم بدلا من المشركين بدلا مطابقا أو بيانا، فإظهار حرف الجر ثانية مع الاستغناء عنه بالبدلية تأكيد بإظهار العامل كما تقدم في قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114] وشأن البدل والبيان أن يجوز معهما إظهار العامل المقدر فيخرجان عن إعراب التوابع إلى الإعراب المستقل ويكونان في المعنى بدلا أو بيانا ولهذا قال النحاة: إن البدل على نية تكرار العامل. وقال المحققون: إن البدل معرب بالعامل المقدر، ومثله البيان وهما سيان. وتقدم الكلام على معنى {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} في آخر سورة الأنعام [159].
وقرأ الجمهور {فَرَّقُوا} بتشديد الراء. وقرأه حمزة والكسائي {فَرَّقُوا دِينَهُمْ} بألف

بعد الفاء فالمراد بالدين دين الإسلام. ومعنى مفارقتهم إياه ابتعادهم منه، فاستعيرت المفارقة للنبذ إذ كان الإسلام هو الدين الذي فطر الله عليه الناس فلما لم يتبعوه جعل إعراضهم عنه كالمفارقة لشيء كان مجتمعا معه، وليس المراد الارتداد عن الإسلام.
والشيع: جمع شيعة وهي الجماعة التي تشايع، أي توافق رأيا، وتقدم قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} في سورة مريم [69].
والحزب: الجماعة الذين رأيهم ونزعتهم واحدة. و {مَا لَدَيْهِمْ} هو ما اتفقوا عليه. والفرح: الرضا والابتهاج. وهذه حالة ذميمة من أحوال أهل الشرك يراد تحذير المسلمين من الوقوع في مثلها، فإذا اختلفوا في أمور الدين الاختلاف الذي يقتضيه اختلاف الاجتهاد أو اختلفوا في الآراء والسياسات لاختلاف العوائد فليحذروا أن يجرهم ذلك الاختلاف إلى أن يكونوا شيعا متعادين متفرقين يلعن بعضهم بعضا ويذيق بعضهم بأس بعض. وتقدم {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} في سورة المؤمنين [53].
[33، 34] {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [33] لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [34]}.
عطف على جملة {فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الروم: 32] أي فرقوا دينهم وكانوا شيعا، وإذا مسهم ضر فدعوا الله وحده فرحمهم عادوا إلى شركهم وكفرهم نعمة الذي رحمهم. فالمقصود من الجملة هو قوله: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} ، فمحل انتظامه في مذام المشركين أنهم يرجعون إلى الكفر، بخلاف حال المؤمنين فإنهم أذاقهم الله رحمة بعد ضر شكروا نعمة ربهم وذلك من إنابتهم إلى الله. ونسج الكلام على هذا الأسلوب ليكون بمنزلة التذييل بما في لفظ {النَّاسَ} من العموم وإدماجا لفضيلة المؤمنين الذين لا يكفرون نعمة الرحيم. فالتعريف في {النَّاسَ} للاستغراق.
والضر، بضم الضاد: سوء الحال في البدن أو العيش أو المال، وهذا نحو ما أصاب قريشا من الشدة والقحط حتى كانوا يرون في الجو مثل الدخان من شدة الجفاف، وحتى أكلوا العظام والميتة، وقد أصاب ذلك مشركيهم ومؤمنيهم وكانت شدته على المشركين لأنهم كانوا في رفاهية، فالشدة أقوى عليهم. فأرسلوا إلى النبيء صلى الله عليه وسلم يستشفعون به أن يدعو الله بكشف الضر عنهم فدعا فأمطروا فعادوا إلى ترفهم، قال تعالى: {فَارْتَقِبْ

يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} الآيات، فدعاؤهم ربهم يشمل طلبهم أن يدعو لهم الرسول صلى الله عليه وسلم. و {مُنِيبِينَ} حال من الناس كلهم أي استووا في الإنابة إليه أي راجعين إليه بعد، واشتغل المشركون عنه بدعاء الأصنام، قال تعالى {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} . وتقدم {مُنِيبِينَ} آنفا.
والمس: مستعار للإصابة. وحقيقة: المس أنه وضع اليد على شيء ليعرف وجوده أو يختبر حاله، وتقدم في قوله: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في العقود [73]. واختير هنا لما يستلزمه من خفة الإصابة، أي يدعون الله إذا أصابهم خفيف ضر بله الضر الشديد.
والإذاقة: مستعارة للإصابة أيضا، وحقيقتها: إصابة المطعوم بطرف اللسان وهي أضعف إصابات الأعضاء للأجسام فهي أقل من المضغ والبلع، وتقدم في قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} في سورة العقود [95]، و {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ} في سورة يونس [21]. واختير فعل الإذاقة لما يدل عليه من إسراعهم إلى الإشراك عند ابتداء إصابة الرحمة لهم.
والرحمة: تخليصهم من الشدة. و {ثُمّ} للتراخي الرتبي لأن إشراكهم بالله بعد الدعاء والإنابة وحصول رحمته أعجب من إشراكهم السابق، ففي التراخي الرتبي معنى التعجيب من تجدد إشراكهم، وحرف المفاجأة {إِذَا} يفيد أيضا أن هذا الفريق أسرعوا العودة إلى الشرك بحدثان ذوق الرحمة لتأصل الكفر منهم وكمونه في نفوسهم.
وضمير {مِنْهُ} عائد إلى الله تعالى. و {مِنْ} ابتدائية متعلقة بـ {أَصَابَهُمْ} . و {رَحْمَةً} فاعل {أَصَابَهُمْ} ولم يؤنث لها الفعل لأن تأنيث مسمى الرحمة غير حقيقي ولأجل الفصل بالمجرور. وتقديم المجرور على الفاعل للاهتمام به ليظهر أن الذي أصابهم هو من فضل الله وتقديره لا غير ذلك.
واللام في قوله: {لِيَكْفُرُوا} لام التعليل وهي مستعارة لمعنى التسبب الذي حقه أن يفاد بالفاء لأنهم لما أشركوا لم يريدوا بشركهم أن يجعلوه علة للكفر بالنعمة ولكنهم أشركوا محبة للشرك فكان الشرك مفضيا إلى كفرهم نعمة الله خشية الإفضاء والتسبب بالعلة الغائية على نحو قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8].
وضمير {لِيَكْفُرُوا} عائد إلى الفريق باعتبار معناه.

والإيتاء: إعطاء النافع، أي بما أنعمنا عليهم من النعم التي هي نعمة الإيجاد والرزق وكشف الضر عنهم. ثم التفت عن الغيبة إلى الخطاب بقوله: {فَتَمَتَّعُوا} توبيخا لهم وإنذارا. وجيء بفاء التفريع في قوله: {فَتَمَتَّعُوا} لأن الإنذار والتوبيخ مفرعان عن الكلام السابق. والأمر في "تمتعوا" مستعمل في التهديد والتوبيخ. والتمتع: الانتفاع بالملائم وبالنعمة مدة تنقضي.
والفاء في {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تفريع للإنذار على التوبيخ، وهو رشيق. و"سوف تعلمون" إنذار بأنهم يعلمون في المستقبل شيئا عظيما، والعلم كناية عن حصول الأمر الذي يعلم، أي عن حلول مصائب بهم لا يعلمون كنهها الآن، وهو إيماء إلى عظمتها وأنها غير مترقبة لهم. وهذا إشارة إلى ما سيصابون به يوم بدر من الاستئصال والخزي وهم كانوا يستعجلون بعذاب من جنس ما عذب به الأمم الماضية مثل عاد وثمود، وكانت الغاية واحدة؛ فإن إصابتهم بعذاب سيوف المسلمين أبلغ في كون استئصالهم بأيدي المؤمنين مباشرة، وأظهر في إنجاء المؤمنين من عذاب لا يصيب الذين ظلموا خاصة وذلك هو المراد في قوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 15، 16]. والبطشة الكبرى: بطشة يوم بدر.
[35] {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [35]
{أَمْ} منقطعة، فهي مثل "بل" للإضراب وهو إضراب انتقالي. وإذ كان حرف {أَمْ} حرف عطف فيجوز أن يكون ما بعدها إضرابا عن الكلام السابق فهو عطف قصة على قصة بمنزلة ابتداء، والكلام توبيخ ولوم متصل بالتوبيخ الذي أفاده قوله: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الروم: 34]. وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عن مخاطبتكم إلى مخاطبة المسلمين تعجيبا من حال أهل الشرك. ويجوز أن يكون ما بعدها متصلا بقوله: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم: 29] فهو عطف ذم على ذم وما بينهما اعتراض.
وحيثما وقعت {أَمْ} فالاستفهام مقدر بعدها لأنها ملازمة لمعنى الاستفهام. فالتقدير: بل أنزلنا عليهم سلطانا وهو استفهام إنكاري، أي ما أنزلنا عليهم سلطانا، ومعنى الاستفهام الإنكاري أنه تقرير على الإنكار كأن السائل يسأل المسؤول ليقر بنفي المسؤول عنه.

والسلطان: الحجة. ولما جعل السلطان مفعولا للإنزال من عند الله تعين أن المراد به كتاب كما قالوا {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء: 93]. ويتعين أن المراد بالتكلم الدلالة بالكتابة كقوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29], أي تدل كتابته، أي كتب فيه بالقلم القدرة أن الشرك حق كقوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 21]. وقدم {بِهِ} على {يشْرِكُونَ} للاهتمام بالتنبيه على سبب إشراكهم الداخل في حيز الإنكار للرعاية على الفاصلة.
[36, 37] {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [36] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [37]} .
أعيد الكلام على أحوال المشركين زيادة في بسط الحالة التي يتلقون بها الرحمة وضدها تلقيا يستوون فيه بعد أن ميز فيما تقدم حال تلقي المشركين للرحمة بالكفران المقتضي أن المؤمنين لا يتلقونها بالكفران. فأريد تنبيههم هنا إلى حالة تلقيهم ضد الرحمة بالقنوط ليحذروا ذلك ويرتاضوا برجاء الفرج والابتهال إلى الله في ذلك والأخذ في أسباب انكشافها. والرحمة أطلقت على أثر الرحمة وهو المنافع والأحوال الحسنة الملائمة كما ينبغي عنه مقابلتها بالسيئة وهي ما يسوء صاحبه ويحزنه فالمقصد من هذه الآية تخلق المسلمين بالخلق الكامل، فـ {النَّاسَ} مراد به خصوص المشركين بقرينة أن الآية ختمت بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
وقدمت في هذه الآية إصابة الرحمة على إصابة السيئة عكس التي قبلها للاهتمام بالحالة التي جعلت مبدأ العبرة وأصل الاستدلال، فقوله: {فَرِحُوا بِهَا} وصف لحال الناس عندما تصيبهم الرحمة ليبنى عليه ضده في قوله: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} لما يقتضيه القنوط من التذمر والغضب، فليس في الكلام تعريض بإنكار الفرح حتى نضطر إلى تفسير الفرح بالبطر ونحوه لأنه عدول عن الظاهر بلا داع. والمعنى: أنهم كما يفرحون عند الرحمة ولا يخطر ببالهم زوالها ولا يحزنون من خشيته، فكذلك ينبغي أن يصبروا عند ما يمسهم الضر ولا يقنطوا من زواله لأن قنوطهم من زواله غير جار على قياس حالهم عندما تصيبهم رحمة حين لا يتوقعون زوالها، فالقنوط هو محل الإنكار عليهم وهذا كقوله تعالى: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49] في أن محل التعجيب هو اليأس والقنوط، وتقدم ذكر الإذاقة آنفا. والقنوط: اليأس، وتقدم في سورة الحجر [55]

عند قوله تعالى: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} .
وأدمج في خلال الإنكار عليهم قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} لتنبيههم إلى أن ما يصيبهم من حالة سيئة في الدنيا إنما سببها أفعالهم التي جعلها الله أسبابا لمسببات مؤثرة لا يحيط بأسرارها ودقائقها إلا الله تعالى، فما على الناس إلا أن يحاسبوا أنفسهم ويجروا أسباب إصابة السيئات، ويتداركوا ما فات، فذلك أنجى لهم من السيئات وأجدر من القنوط. وهذا أدب جليل من آداب التنزيل قال تعالى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
وقرأ الجمهور {يقنطون} بفتح النون على أنه مضارع قنط من باب حسب. وقرأه أبو عمرو والكسائي بكسر النون على أنه مضارع قنط من باب ضرب وهما لغتان فيه.
ثم أنكر عليهم إهمال التأمل في سنة الله الشائعة في الناس: من لحاق الضر وانفراجه، ومن قسمة الحظوظ في الرزق بين بسط وتقتير فإنه كثير الوقوع كل حين فكما أنهم لم يقنطوا من بسط الرزق عليهم في حين تقتيره فكدحوا في طلب الرزق بالأسباب والدعاء فكذلك كان حقهم أن يتلقوا السوء النادر بمثل ما يتلقون به ضيق الرزق، فيسعوا في كشف السيئة بالتوبة والابتهال إلى الله وبتعاطي أسباب زوالها من الأسباب التي نصبها الله تعالى، فجملة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} الخ عطف على جملة {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} . والاستفهام إنكاري في معنى النفي؛ أنكر عليهم عدم الرؤية تنزيلا لرؤيتهم ذلك منزلة عدم الرؤية لإهمال آثارها من الاعتبار بها. فالتقدير: إذا هم يقنطون كيف لم يروا بسط الله الرزق وتقتيره كأنهم لم يروا ذلك. والرؤية بصرية.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} تذييل، أي في جميع ما ذكر آيات كثيرة حاصلة كثرتها من اشتمال كل حالة من تلك الأحوال على أسباب خفية وظاهرة، ومسبباتها كذلك، ومن تعدد أحوال الناس من الاعتبار بها والأخذ منها، كل على حسب استعداده. وخص القوم المؤمنون بذلك لأنهم أعمق بصائر بما ارتاضت عليه أنفسهم من آداب الإيمان ومن نصب أنفسهم لطلب العلم والحكمة من علوم الدين وحكمة النبوءة.
[38] {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [38].
فاء التفريع تفيد أن الكلام بعدها مترتب على الكلام الذي قبلها، وقد اشتمل الكلام

قبلها على لحاق آثار رحمة الله بالناس، وإصابة السوء إياهم، وعلى أن ما يصيبهم من السوء بما قدمت أيدي الناس، وذكر بسط الرزق وتقديره. وتضمن ذلك أن الفرح يلهيهم عن الشكر، وأن القنوط يلهيهم عن المحاسبة في الأسباب، فكان الأمر بإيتاء الضعفاء والمنكوبين إرشادا إلى وسائل شكر النعمة عند حصولها شكرا من نوعها واستكشاف الضر عند نزوله، وإلى أن من الحق التوسعة على المضيق عليهم الرزق، كما يحب أن يوسع عليه رزقه؛ فالخطاب بالأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم باعتبار من معه من المؤمنين ممن يحق عليه الإيتاء وهو الذي بسط له في الرزق، أي فآتوا ذا القربى حقه بقرينة قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 38] الآية. ويجوز أن يكون خطابا لغير معين من المؤمنين.
والإيتاء: الإعطاء. وهو مشعر بأن المعطى مال، ويقوي ذلك وقوع الآية عقب قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [الروم: 37]. وصيغة الأمر من قوله: {فَآتِ} مجمل. والأصل في محملها لاوجوب مع أن المأمور بإيتائه عبر عنه بأنه حق والأصل في الحق الوجوب. وظاهر الآية يقتضي أن المراد حق في مال المؤتي.
وعن مجاهد وقتادة: صلة الرحم - أي بالمال - فرض من الله عز وجل لا تقبل صدقة أحد ورحمه محتاجة. وقال الحسن: حق ذي القربى المواساة في اليسر، وقول ميسور في العسر. وقال ابن عطية: معظم ما قصد أمر المعونة بالمال ومنه قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "في المال حق سوى الزكاة" ، وللمساكين وابن السبيل حق، وبين أن حق هذين في المال اهـ. أقول ولذلك قال جمع كثير: إن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وقال فريق: لم تنسخ بل للقريب حق في البر على كل حال، أي لا نسخ في جميع ما تضمنته بل نسخ بعضه بآية المواريث وبقي ما عداه. قلت: وما بقي غير منسوخ مختلفة أحكامه، وهو مجمل تبينه أدلة أخرى متفرقة من الشريعة.
و {الْقُرْبَى} : قرب النسب والرحم. وتقدم عند قوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} في سورة النساء [36].
و {الْمِسْكِينِ} تقدم في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} في سورة التوبة [60]. و {ابْنَ السَّبِيلِ} : المسافر المجتاز بالقرية أو بالحي.
ووقع الحق مجملا والحوالة في بيانه على ما هو متعارف بين الناس وعلى ما يبينه النبيء صلى الله عليه وسلم. وكانت الصدقة قبل الهجرة واجبة على الجملة موكولة إلى حرص المؤمن. وقد أطلق عليها اسم الزكاة في آيات مكية كثيرة، وقرنت بالصلاة؛ فالمراد بها في تلك الآيات الصدقة الواجبة وكانت غير مضبوطة بنصب ثم ضبطت بأصناف ونصب ومقادير

مخرجة عنها. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "فإن الزكاة حق المال". وإنما ضبطت بعد الهجرة فصار ما عداها من الصدقة غير واجب. وقصر اسم الزكاة على الواجبة وأطلق على ما عداها اسم الصدقة أو البر أو نحو ذلك، فجماع حق هؤلاء الثلاثة المواساة بالمال، فدل على أن ذلك واجب لهم. وكان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بفرض الزكاة، ثم إن لكل صنف من هؤلاء الثلاثة حقا؛ فحق ذي القربى يختلف بحسب حاجته؛ فللغني حقه في الإهداء توددا، وللمحتاج حق أقوى. والظاهر أن المراد ذو القرابة الضعيف المال الذي لم يبلغ به ضعفه مبلغ المسكنة بقرينة التعبير عنه بالحق، وبقرينة مقابلته بقوله: {لِترْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم: 39] على أحد الاحتمالات في تفسيره. وأما إعطاء القريب الغني فلعله غير مراد هنا وليس مما يشمله لفظ {حَقَّهُ} وإنما يدخل في حسن المعاملة المرغب فيها.
وحق المسكين: سد خلته. وحق ابن السبيل: الضيافة كما في الحديث "جائزته يوم وليلة" والمقصود إبطال عادة أهل الجاهلية إذ كانوا يؤثرون البعيد على القريب في الإهداء والإيصاء حبا للمدحة، ويؤثرون بعطاياهم السادة وأهل السمعة تقربا إليهم، فأمر المسلمون أن يتجنبوا ذلك قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} ، كما تقدم في سورة البقرة [180].
ولذلك عقب بقوله هنا {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} ، أي الذين يتوخون بعطاياهم إرضاء الله وتحصيل ثوابه وهم المؤمنون. والإشارة بقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} إلى الإيتاء المأخوذ من قوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} الآية.
وذكر الوجه هنا تمثيل كأن المعطي أعطى المال بمرأى من الله لأن الوجه هو محل النظر. وفيه أيضا مشاكلة تقديرية لأن هذا الأمر أريد به مقابلة ما كان يفعله أهل الجاهلية من الإعطاء لوجه المعطى من أهل الوجاهة في القوم فجعل هنا الإعطاء لوجه الله. والمراد: أنه لامتثال أمره وتحصيل رضاه.
واسم الإشارة في قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} للتنويه بالمأمور به. و {خَيْرٌ} يجوز أن يكون تفضيلا والمفضل عليه مفهوم من السياق أن ذلك خير من صنيع أهل الجاهلية الذين يعطون الأغنياء البعداء للرياء والسمعة، أو المراد ذلك خير من بذل المال في المراباة التي تذكر بعد في قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً} الآية [الروم: 39]. ويجوز أن يكون الخير ما قابل الشر، أي ذلك فيه خير للمؤمنين، وهو ثواب الله.

وفي قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} صيغة قصر من أجل ضمير الفصل، وهو قصر إضافي، أي أولئك المتفردون بالفلاح، وهو نجاح عملهم في إيتاء من ذكر لوجه الله تعالى لا للرياء والفخر. فمن آتى للرياء والفخر فلا فلاح له من إيتائه.
[39] {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [39]} .
لما جرى الترغيب والأمر ببذل المال لذوي الحاجة وصلة الرحم وما في ذلك من الفلاح أعقب بالتزهيد في ضرب آخر من إعطاء المال لا يرضى الله تعالى به وكان الربا فاشيا في زمن الجاهلية وصدر الإسلام وخاصة في ثقيف وقريش. فلما أرشد الله المسلمين إلى مواساة أغنيائهم فقراءهم أتبع ذلك بتهيئة نفوسهم للكف عن المعاملة بالربا للمقترضين منهم، فإن المعاملة بالربا تنافي المواساة لأن شأن المقترض أنه ذو خلة، وشأن المقرض أنه ذو جدة فمعاملته المقترض منه بالربا افتراص لحاجته واستغلال لاضطراره، وذلك لا يليق بالمؤمنين.
و {مَا} شرطية تفيد العموم، فالجملة معترضة بعد جملة {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الروم: 38] الخ. والواو اعتراضية. ومضمون هذه الجملة بمنزلة الاستدراك للتنبيه على إيتاء مال هو ذميم. وجيء بالجملة شرطية لأنها أنسب بمعنى الاستدراك على الكلام السابق. فالخطاب للمسلمين الذين يريدون وجه الله الذين كانوا يقرضون بالربا قبل تحريمه.
ومعنى {آتَيْتُمْ} : آتى بعضكم بعضا لأن الإيتاء يقتضي معطيا وآخذا.
وقوله: {لِترْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} خطاب للفريق الآخذ.
و {لِترْبُوَ} لتزيدوا، أي لأنفسكم أموالا على أموالكم. وقوله: {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} {فِي} للظرفية المجازية بمعنى "من" الابتدائية، أي لتنالوا زيادة وأرباحا تحصل لكم من أموال الناس، فحرف {فِي} هنا كالذي في قول سبرة الفقعسي:
ونشرب في أثمانها ونقامر1
ـــــــ
1 أوله: نحابي أكفاءنا ونهينها. وهوو من شعر الحماسة يذكر فيه إبل الدية. قال ذلك من أبيات يذكر أن أحد بني أسد عيره بأخذ الدية عن قتيل.

أي نشرب ونقامر من أثمان إبلنا. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} في سورة النساء [5].
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ رِباً} وقوله: {مِنْ زَكَاةٍ} بيانية مبينة لإبهام {مَا} الشرطية في الموضعين. وتقدم الربا في سورة البقرة.
وقوله: {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} جواب الشرط. ومعنى {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} أنه عمل ناقص عند الله غير ذاك عنده، والنقص يكنى به عن المذمة والتحقير.
وهذا التفسير هو المناسب لمحمل لفظ الربا على حقيقته المشهورة، ولموافقة معنى قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276], ولمناسبة ذكر الإضعاف في قوله هنا {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} وقوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً} في سورة آل عمران [130]. وهذا المعنى مروي عن السدي والحسن. وقد استقام بتوجيهه المعنى من جهة العربية في معنى {فِي} من قوله: {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} .
ويجوز أن يكون لفظ {رِباً} في الآية أطلق على الزيادة في مال لغيره، أي إعطاء المال لذوي الأموال قصد الزيادة في أموالهم تقربا إليهم، فيشمل هبة الثواب والهبة للزلفى والملق. ويكون الغرض من الآية التنبيه على أن ما كانوا يفعلونه من ذلك لا يغني عنهم من موافقة مرضاة الله تعالى شيئا وإنما نفعه لأنفسهم. ودرج على هذا المعنى جم غفير من المفسرين فيصير المعنى: وما أعطيتم من زيادة لتزيدوا في أموال الناس، وتصير كلمة {لِترْبُوَ} توكيدا لفظيا ليعلق به قوله: {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} .
وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} الخ رجوع إلى قوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حقه} [الروم: 38] الآية لأن ذلك الحق هو المسمى بالزكاة.
وجملة {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} جواب {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} ، أي فمؤتوه المضعفون، أي أولئك الذين حصل لهم الإضعاف وهو إضعاف الثواب. وضمير الفصل جنس المضعفين على هؤلاء، وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بإضعاف من عداهم لأن إضعاف من عداهم إضعاف دنيوي زائل. واسم الإشارة في قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} للتنويه بهؤلاء والدلالة على أنهم أحرياء بالفلاح. واسم الإشارة إظهار في مقام الإضمار اقتضاه مقام اجتلاب اسم الإشارة.
وقرأ الجمهور {ءاتَيْتُمْ} بهمزتين، أي أعطيتم. وقرأه ابن كثير {آتَيْتُمْ} بهمزة

واحدة، أي قصدتم، أي فعلتم. وقرأ الجمهور {لِيَرْبُوَ} بتحتية مفتوحة وفتحة إعراب على واو {لِيَرْبُوَ} . وكتب في المصاحف بألف بعد الواو وليس واو الجماعة بالاتفاق، ورسم المصحف سنة، وقرأ نافع {لُتوبوا} بتاء الخطاب مضمومة وواو ساكنة هي واو الجماعة.
[40] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [40]}.
هذا الاستئناف الثاني من الأربعة التي أقيمت عليها دلائل انفراد الله تعالى بالتصرف في الناس وإبطال ما زعموه من الإشراك في الإلهية كما أنبأ عنه قوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} ، وإدماجا للاستدلال على وقوع البعث. وقد جاء هذا الاستئناف على طريقة قوله: {الله يبدأ الخلق ثم يعيده} [يونس: 34] واطرد الافتتاح بمثله في الآيات التي أريد بها إثبات البعث كما تقدم عند قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} وسيأتي في الآيتين بعد هذه.
و {ثُمَّ} مستعمل في معنيي التراخي الزمني والرتبي.
و {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} استفهام إنكاري في معنى النفي ولذلك زيدت {مِنْ} الدالة على تحقيق نفي الجنس كله في قوله: {مِنْ شَيْءٍ} . والمعنى: ما من شركائكم من يفعل شيئا من ذلكم. فـ {مِنْ} الأولى بيانية هي بيان للإبهام الذي في {مَنْ يَفْعَلُ} ، فيكون {مَنْ يَفْعَلُ} مبتدأ وخبره محذوف دل عليه الاستفهام، تقديره: حصل، أو وجد، أو هي تبعيضية صفة لمقدر، أي هل أحد من شركائكم. و{مِنْ} الثانية في قوله: {مِنْ ذَلِكُمْ} تبعيضية في موضع الحال {مِنْ شَيْءٍ} . و {مِنْ} الثالثة زائدة لاستغراق النفي.
وإضافة {شُرَكَا} إلى ضمير المخاطبين من المشركين لأن المخاطبين هم الذين خلعوا على الأصنام وصف الشركاء لله فكانوا شركاء بزعم المخاطبين وليسوا شركاء في نفس الأمر، وهذا جار مجرى التهكم، كقول خالد بن الصعق لعمرو بن معد يكرب في مجمع من مجامع العرب بظاهر الكوفة فجعل عمرو يحدثهم عن غاراته فزعم أنه أغار على نهد فخرجوا إليه يقدمهم خالد بن الصعق وأنه قتله، فقال له خالد بن الصعق: "مهلا أبا ثور قتيلك يسمع" أي القتيل بزعمك. والقرينة قوله: "يسمع" كما أن القرينة في هذه الآية هي جملة التنزيه عن الشريك. والإشارة بـ {ذَلِكُمْ} إلى الخلق، والرزق، والإماتة،

والإحياء، وهي مصادر الأفعال المذكورة. وأفرد اسم الإشارة بتأويل المذكور.
وجملة {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} مستأنفة لإنشاء تنزيه الله تعالى عن الشريك في الإلهية. وموقعها بعد الجملتين السابقتين موقع النتيجة بعد القياس، فإن حاصل معنى الجملة الأولى أن الإله الحق وهو مسمى اسم الجلالة هو الذي خلق ورزق ويميت ويحيي، فهذا في قوة مقدمة هي صغرى قياس، وحاصل الجملة الثانية أن لا أحد من الأصنام بفاعل ذلك، وهذه في قوة مقدمة هي كبرى قياس وهو من الشكل الثاني، وحاصل معنى تنزيه الله عن الشريك أن لا شيء من الأصنام بإله. وهذه نتيجة قياس من الشكل الثاني. ودليل المقدمة الصغرى إقرار الخصم، ودليل المقدمة الكبرى العقل. وقرأ الجمهور {تُشْرِكُونَ} بفوقية على الخطاب تبعا للخطاب في {آتَيْتُمْ} [الروم: 39]. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
[41] {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [41]}
موقع هذه الآية ومعناها صالح لعدة وجوه من الموعظة، وهي من جوامع كلم القرآن. والمقصد منها هو الموعظة بالحوادث ماضيها وحاضرها للإقلاع عن الإشراك وعن تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فأما موقعها فيجوز أن تكون متصلة بقوله قبلها {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآيات [الروم: 9]، فلما طولبوا بالإقرار على ما رأوه من آثار الأمم الخالية، أو أنكر عليهم عدم النظر في تلك الآثار، أتبع ذلك بما أدى إليه طريق الموعظة من قوله: {هُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27], ومن ذكر الإنذار بعذاب الآخرة، والتذكير بدلائل الوحدانية ونعم الله تعالى، وتفريع استحقاقه تعالى الشكر لذاته ولأجل إنعامه استحقاقا مستقرا إدراكه في الفطرة البشرية، وما تخلل ذلك من الإرشاد والموعظة، عاد الكلام إلى التذكير بأن ما حل بالأمم الماضية من المصائب ما كان إلا بما كسبت أيديهم، أي بأعمالهم، فيوشك أن يحل مثل ما حل بهم بالمخاطبين الذين كسبت أيديهم مثل ما كسبت أيدي أولئك.
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع النتيجة من مجموع الاستدلال أو موقع الاستئناف البياني بتقدير سؤال عن سبب ما حل بأولئك الأمم. ويجوز أن تقع هذه الآية موقع التكملة لقوله: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ} [الروم: 33] الآية، فهي خبر مستعمل

في التنديم على ما حل بالمكذبين المخاطبين من ضر ليعلموا أن ذلك عقاب من الله تعالى فيقلعوا عنه خشية أن يحيط بهم ما هو أشد منه، كما يؤذن به قوله عقب ذلك {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . فالإتيان بلفظ الناس في قوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} إظهار في مقام الإضمار لزيادة إيضاح المقصود، ومقتضى الظاهر أن يقال "بما كسبت أيديهم". فالآية تشير إلى مصائب نزلت ببلاد المشركين وعطلت منافعها، ولعلها مما نشأ عن الحرب بين الروم وفارس، وكان العرب منقسمين بين أنصار هؤلاء وأنصار أولئك، فكان من جراء ذلك أن انقطعت سبل الأسفار في البر والبحر فتعطلت التجارة وقلت الأقوات بمكة والحجاز كما يقتضيه سوق هذه الموعظة في هذه السورة المفتتحة بـ {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2].
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع الاستئناف البياني لسبب مس الضر إياهم حتى لجأوا إلى الضراعة إلى الله، وما بينها وبين جملة {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضر} [الروم: 33] إلى آخره اعتراض واستطراد تخلل في الاعتراض. ويجوز أن يكون موقعها موقع الاعتراض بين ذكر ابتهال الناس إلى الله إذا أحاط بهم ضر ثم إعراضهم عن عبادته إذا أذاقهم منه رحمة وبين ذكر ما حل بالأمم الماضية اعتراضا ينبئ أن الفساد الذي يظهر في العالم ما هو إلا من جراء اكتساب الناس وأن لو استقاموا لكان حالهم على صلاح.
و {الْفَسَادَ} : سوء الحال، وهو ضد الصلاح، ودل قوله: {فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} على أنه سوء الأحوال في ما ينتفع به الناس من خيرات الأرض برها وبحرها. ثم التعريف في {الْفَسَادَ} : إما أن يكون تعريف العهد لفساد معهود لدى المخاطبين، وإما أن يكون تعريف الجنس الشامل لكل فساد ظهر في الأرض برها وبحرها أنه فساد في أحوال البر والبحر، لا في أعمال الناس بدليل قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
وفساد البر يكون بفقدان منافعه وحدوث مضاره، مثل حبس الأقوات من الزرع والثمار والكلأ، وفي موتان الحيوان المنتفع به، وفي انتقال الوحوش التي تصاد من جراء قحط الأرض إلى أرضين أخرى، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض.
وفساد البحر كذلك يظهر في تعطيل منافعه من قلة الحيتان واللؤلؤ والمرجان فقد كانا من أعظم موارد بلاد العرب ، وكثرة الزوابع الحائلة عن الأسفار في البحر، ونضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس. وقيل: أريد بالبر البوادي وأهل الغمور وبالبحر المدن والقرى، وهو عن مجاهد وعكرمة وقال: إن العرب تسمي الأمصار

بحرا. قيل: ومنه قول سعد بن عبادة في شأن عبد الله بن أبي بن سلول: "ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوجوه". يعني بالبحرة مدينة يثرب وفيه بعد. وكأن الذي دعا إلى سلوك هذا الوجه في إطلاق البحر أنه لم يعرف أنه حدث اختلال في سير الناس في البحر وقلة فيما يخرج منه. وقد ذكر أهل السير أن قريشا أصيبوا بقحط وأكلوا الميتة والعظام، ولم يذكروا أنهم تعطلت أسفارهم في البحر ولا انقطعت عنهم حيتان البحر، على أنهم ما كانوا يعرفون بالاقتيات من الحيتان.
وعلى هذه الوجوه الثلاثة يكون الباء في قوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} للعوض، أي جزاء لهم بأعمالهم، كالباء في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30], ويكون اللام في قوله: {لِيُذِيقَهُمْ} على حقيقة معنى التعليل.
ويجوز أن يكون المراد بالفساد الشرك قاله قتادة والسدي فتكون هذه الآية متصلة بقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} إلى قوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40], فتكون الجملة إتماما للاستدلال على وحدانية الله تعالى تنبيها على أن الله خلق العالم سالما من الإشراك، وأن الإشراك ظهر بما كسبت أيدي الناس من صنيعهم، وهذا معنى قوله في الحديث القدسي في "صحيح مسلم" : "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي" الحديث.
فذكر البر والبحر لتعميم الجهات بمعنى: ظهر الفساد في جميع الأقطار الواقعة في البر والواقعة في الجزائر والشطوط، ويكون الباء في قوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} للسببية، ويكون اللام في قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} لام العاقبة، والمعنى: فأذقناهم بعض الذي عملوا، فجعلت لام العاقبة في موضع الفاء كما في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8], أي فأذقنا الذين أشركوا بعض ما استحقوه من العذاب لشركهم. ويجوز أن يكون المعنى أن الله تعالى خلق العالم على نظام محكم ملائم صالح للناس فأحدث الإنسان فيه أعمالا سيئة مفسدة، فكانت وشائج لأمثالها:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه
فأخذ الاختلال يتطرق إلى نظام العالم قال تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ*إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 4- 6],

وعلى هذا الوجه يكون محمل الباء ومحمل اللام مثل محملهما على الوجه الرابع. وأطلق الظهور على حدوث حادث لم يكن، فشبه ذلك الحدوث بعد العدم بظهور الشيء الذي كان مختفيا.
ومحمل صيغة فعل {ظَهَرَ} على حقيقتها من المضي يقتضي أن الفساد حصل وأنه ليس بمستقبل، فيكون إشارة إلى فساد مشاهد أو محقق الوقوع بالأخبار المتواترة. وقد تحمل صيغة الماضي على معنى توقع حصول الفساد والإنذار به فكأنه قد وقع على طريقة {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]. وأياما كان الفساد من معهود أو شامل، فالمقصود أن حلوله بالناس بقدرة الله كما دل عليه قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} ، وأن الله يقدر أسبابه تقديرا خاصا ليجازي من يغضب عليهم على سوء أفعالهم.
وهو المراد بما كسبت أيديهم لأن إسناد الكسب إلى الأيدي جرى مجرى المثل في فعل الشر والسوء من الأعمال كلها، دون خصوص ما يعمل منها بالأيدي لأن ما يكسبه الناس يكون بالجوارح الظاهرة كلها، وبالحواس الباطنة من العقائد الضالة والأدواء النفسية.
و {مَا} موصولة، وحذف العائد من الصلة، وتقديره: بما كسبته أيدي الناس، أي بسبب أعمالهم. وأعظم ما كسبته أيدي الناس من الأعمال السيئة الإشراك وهو المقصود هنا وإن كان الحكم عاما. ويعلم أن مراتب ظهور الفساد حاصلة على مقادير ما كسبت أيدي الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسئل: أي الذنب أعظم? "أن تدعو لله ندا وهو خلقك" ، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] وقال {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقا} . [الجن: 16].
ويجري حكم تعريف {النَّاسِ} على نحو ما يجري في تعريف {الْفَسَادَ} من عهد أو عموم، فالمعهود هم المشركون وقد شاع في القرآن تغليب اسم {النَّاسِ} عليهم.
والإذاقة: استعارة مكنية؛ شبه ما يصيبهم من الآلام فيحسون بها بإصابة الطعام حاسة المطعم. ولما كان ما عملوه لا يصيبهم بعينه تعين أن بعض الذي عملوا أطلق على جزاء العمل ولذلك فالبعضية تبعيض للجزاء، فالمراد بعض الجزاء على جميع العمل لا الجزاء على بعض العمل، أي أن ما يذيقهم من العذاب هو بعض ما يستحقونه. وفي هذا تهديد إن لم يقلعوا عن مساوئ أعمالهم كقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [الفاطر: 45]، ثم وراء ذلك عذاب الآخرة كما قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127]

والعدول عن أن يقال: بعض أعمالهم إلى {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} للإيماء إلى ما في الموصول من قوة التعريف، أي أعمالهم المعروفة عندهم المتقرر صدروها منهم.
والرجاء المستفاد من {لَعَلَّ} يشير إلى أن ما ظهر من فساد كاف لإقلاعهم عما هم اكتسبوه، وأن حالهم حال من يرجى رجوعه فإن هم لم يرجعوا فقد تبين تمردهم وعدم إجداء الموعظة فيهم، وهذا كقوله تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126].
والرجوع مستعار للإقلاع عن المعاصي كأن الذي عصى ربه عبد أبق عن سيده، أو دابة قد أبدت، ثم رجع. وفي الحديث "لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا دابته عنده" .
وقرأ الجمهور {لِيُذِيقَهُمْ} بالياء التحتية، أي ليذيقهم الله. ومعاد الضمير قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [الروم: 40]. وقرأه قنبل عن ابن كثير وروح عن عاصم بنون العظمة.
[42] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [42]}.
لما وعظهم بما أصابهم من فساد الأحوال ونبههم إلى أنها بعض الجزاء على ما كسبت أيديهم عرض لهم بالإنذار بفساد أعظم قد يحل بهم مثله وهو ما أصاب الذين من قبلهم بسبب ما كانوا عليه من نظير حال هؤلاء في الإشراك فأمرهم بالسير في الأرض والنظر في مصير الأمم التي أشركت وكذبت مثل عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم لأن كثيرا من المشركين قد اجتازوا في أسفارهم بديار تلك الأمم كما قال تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137، 138]. فهذا تكرير وتأكيد لقوله السابق {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم: 9], وإنما أعيد اهتماما بهذه العبرة مع مناسبة قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41].
والعاقبة: نهاية الأمر. والمراد بالعاقبة الجنس، وهو متعدد الأفراد بتعدد الذين من قبل، ولكل قوم عاقبة.

وجملة {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} واقعة موقع التعليل لجملة {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} ، أي سبب تلك العاقبة المنظورة هو إشراك الأكثرين منهم، أي أن أكثر تلك الأمم التي شوهدت عاقبتها الفظيعة كان من أهل الشرك فتعلمون أن سبب حلول تلك لعاقبة بهم هو شركهم، وبعض تلك الأمم لم يكونوا مشركين وإنما أصابهم ما أصابهم لتكذيبهم رسلهم مثل أهل مدين قال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر: 43].
[43] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [43]}
تفرع على الإنذار والتحذير من عواقب الشرك تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على شريعته, ووعد بأن يأتيه النصر كقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99], مع التعريض بالإرشاد إلى الخلاص من الشرك باتباع الدين القيم، أي الحق. وهذا تأكيد للأمر بإقامة الوجه للدين في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [الروم: 30], فإن ذلك لما فرع في قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم: 9]، وما اتصل من تسلسل الحجج والمواعظ فرع أيضا نظيره هذا على قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم: 42] وقد تقدم الكلام على نظير قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} وعلى معنى إقامة الوجه عند قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [الروم: 30].
و {الْقَيِّمُ} بوزن فيعل، وهي زنة تدل على قوة ما تصاغ منه، أي الشديد القيام، والقيام هنا مجاز في الإصابة لأن الصواب يشبه بالقيام، وضده يشبه بالعوج، وقد جمعهما قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} [الكهف: 1، 2] فوصف الإسلام في الآية السابقة بالحنيف والفطرة ووصف هنا بالقيم. وبين {أَقِمْ} و {الْقَيِّمُ} محسن الجناس.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر إعراض عن صريح خطاب المشركين. والمقصود التعريض بأنهم حرموا أنفسهم من اتباع هذا الدين العظيم الذي فيه النجاة. يؤخذ هذا التعريض من أمر النبيء عليه الصلاة والسلام بالدوام على الإسلام ومن قوله عقب ذلك {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} الآية.
والمرد: مصدر ميمي من الرد وهو الدفع، و {لَهُ} يتعلق به، و {مِنَ اللَّهِ} متعلق بـ {يَأْتِي} و {مِنَ} ابتدائية. والمراد "باليوم" يوم عذاب في الدنيا وأنه إذا جاء لا يرده عن المجازين به راد لأنه آت من الله. والظاهر أن المراد به يوم بدر.

و {يَصَّدَّعُونَ} أصله يتصدعون فقلبت التاء صادا لتقارب مخرجيهما لتأتي التخفيف بالإدغام. والتصدع: مطاوع الصدع، وحقيقة الصدع: الكسر والشق، ومنه تصدع القدح.
والمراد باليوم يوم الحشر. والتصدع: التفرق والتمايز. ويكون ضمير الجمع عائدا إلى جميع الناس، أي يومئذ يفترق المؤمنون من الكافرين على نحو قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 14- 16].
[44، 45] {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [44] لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [45]}.
هذه الجملة تتنزل منزلة البيان لإجمال الجملة التي قبلها وهي {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم: 43], إذ التثبيت على الدين بعد ذكر ما أصاب المشركين من الفساد بسبب شركهم يتضمن تحقير شأنهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فبين ذلك بأنهم لا يضرون بكفرهم إلا أنفسهم، والذي يكشف هذا المعنى تقديم المسند في قوله: {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} فإنه يفيد تخصيصه بالمسند إليه، أي فكفره عليه لا عليك ولا على المؤمنين، ولهذا ابتدئ بذكر حال من كفر ثم ذكر بعده {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً} . واقتضى حرف الاستعلاء أن في الكفر تبعة وشدة وضرا على الكافر، لأن "على" تقتضي ذلك في مثل هذا المقام، كما اقتضى اللام في قوله: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أن لمجرورها نفعا وغنما، ومنه قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. وقال توبة بن الحمير:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وأفرد ضمير {كُفْرُهُ} رعيا للفظ {مَنْ} . وهذا التركيب من جوامع الكلم لدلالته على ما لا يحصى من المضار في الكفر على الكافر وأنه لا يضر غيره، مع تمام الإيجاز، وهو وعيد لأنه في معنى: من كفر فجزاؤه عقاب الله، فاكتفي عن التصريح بذلك اكتفاء بدلالة "على" من قوله: {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} وبمقابلة حالهم بحال من عمل صالحا بقوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} .
وأما قوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} فهو بيان أيضا لما في جملة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم: 43] من الأمر بملازمة التحلي بالإسلام وما في ذلك من الخير العاجل والآجل مع ما تقتضيه عادة القرآن من تعقيب النذارة بالبشارة والترهيب

بالترغيب فهو كالتكملة للبيان. وإنما قوبل {مَنْ كَفَرَ} بـ {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً} ولم يقابل بـ"من آمن" للتنويه بشأن المؤمنين بأنهم أهل الأعمال الصالحة دون الكافرين. فاستغني بذكر العمل الصالح عن ذكر الإيمان لأنه يتضمنه، ولتحريض المؤمنين على الأعمال الصالحة لئلا يتكلوا على الإيمان وحده فتفوتهم النجاة التامة. وهذا اصطلاح القرآن في الغالب أن يقرن الإيمان بالعمل الصالح كما في قوله قبل هذه الآية {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 14- 16] حتى توهمت المعتزلة والخوارج أن العمل الصالح شرط في قبول الإيمان.
وتقديم {فَلِأَنْفُسِهِمْ} على {يَمْهَدُونَ} للاهتمام بهذا الاستحقاق وللرعاية على الفاصلة وليس للاختصاص.
{يَمْهَدُونَ} يجعلون مهادا، والمهاد: الفراش. مثلت حالة المؤمنين في عملهم الصالح بحال من يتطلب راحة رقاده فيوطئ فراشه ويسويه لئلا يتعرض له في مضجعه من النتوء أو اليبس ما يستفز منامه.
وتقديم {لِأَنْفُسِهِمْ} على {يَمْهَدُونَ} للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بذكر أنفس المؤمنين لأن قرينة عدم الاختصاص واضحة. وروعي في جمع ضمير {يَمْهَدُونَ} معنى {مِنْ} دون لفظها مع ما تقتضيه الفاصلة من ترجيح تلك المراعاة.
ويتعلق {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} بـ {يمهدون} أي يمهدون لعلة أن يجزي الله إياهم من فضله. وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} للاهتمام بالتصريح بأنهم أصحاب صلة الإيمان والعمل الصالح وأن جزاء الله إياهم مناسب لذلك لتقرير ذلك في الأذهان، مع التنويه بوصفهم ذلك بتكريره وتقريره كما أنبأ عن ذلك قوله عقبه {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .
وقد فهم من قوله: {مِنْ فَضْلِهِ} أن الله يجازيهم أضعافا لرضاه عنهم ومحبته إياهم كما اقتضاه تعليل ذلك بجملة {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} المقتضي أنه يحب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فحصل بقوله: {إنه لا يحب الكافرين} تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس فإن قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} دل بصريحه على أنهم أهل الجزاء بالفضل، ودل بمفهومه على أنهم أهل الولاية.

وقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} يدل يتعليله لما قبله على أن الكافرين محرومون من الفضل، وبمفهومه على أن الجزاء موفور للمؤمنين فضلا وأن العقاب معين للكافرين عدلا.
[64] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [46]}.
عود إلى تعداد الآيات الدالة على تفرده بالإلهية فهو عطف على جملة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] وما تخلل بينهما من أفانين الاستدلال على الوحدانية والبعث ومن طرائق الموعظة لتطرية نشاط السامعين لهذه الدلائل الموضحة المبينة. والإرسال مستعار لتقدير الوصول، أي يقدر تكوين الرياح ونظامها الذي يوجهها إلى بلد محتاج المطر.
والمبشرات: المؤذنة بالخير وهو المطر. وأصل البشارة: الخبر السار. شبهت الرياح برسل موجهة بأخبار المسرة. وتقدم ذكر البشارة عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في سورة البقرة [25]، وقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} في سورة النحل [58]، وذلك أن الرياح تسوق سحاب المطر إلى حيث بمطر. وتقدم الكلام على الرياح في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} في سورة البقرة [164] وعلى كونها لواقح في سورة الحجر [22].
وقوله: {وَلِيُذِيقَكُمْ} عطف على {مُبَشِّرَاتٍ} لأن {مُبَشِّرَاتٍ} في معنى التعليل للإرسال. وتقدم الكلام على الإذاقة آنفا.
و {مِنْ رَحْمَتِهِ} صفة لموصوف محذوف دل عليه فعل {لِيُذِيقَكُمْ} أي مذوقا. و {مِنْ} ابتدائية، ورحمة الله: هي المطر.
وجريان الفلك بالرياح من حكمة خلق الرياح ومن نعمه، وتقدم في آية سورة البقرة [164].
والتقييد بقوله: {بِأَمْرِهِ} تعليم للمؤمنين وتحقيق للمنة، أي لولا تقدير الله ذلك وجعله أسباب حصوله لما جرت الفلك، وتحت هذا معان كثيرة يجمعها إلهام الله البشر لصنع الفلك وتهذيب أسباب سيرها. وخلق نظام الريح والبحر لتسخير سيرها كما دل على

ذلك قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، وقد تقدم ذلك في سورة الحج [36]، وتقدم هنالك معنى {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} .
[47] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [47]}.
هذه جملة معترضة مستطردة أثارها ذكر سير الفلك في عداد النعم فعقب ذلك بما كان سير الفلك فيه تذكير بنقمة الطوفان لقوم نوح، وبجعل الله الفلك لنجاة نوح وصالحي قومه من نقمة الطوفان، فأريد تحذير المكذبين من قريش أن يصيبهم ما أصاب المكذبين قبلهم، وكان تلك النقمة نصر المؤمنين، أي نصر الرسل وأتباعهم؛ ألا ترى إلى حكاية قول نوح {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} في سورة المؤمنين [26]، وقوله تعالى هنا {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} . والواو اعتراضية وليست للعطف.
والانتقام من النقم وهو الكراهية والغضب، وفعله كضرب وعلم قال تعالى {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} [الأعراف: 126]. وفي المثل مثله كمثل الأرقم إن يقتل ينقم - بفتح القاف - وإن يترك يلقم. والانتقام: العقوبة لمن يفعل ما لا يرضي كأنه صيغ منه الافتعال للدلالة على حصول أثر النقم، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} وقوله: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} في سورة الأعراف [136].
وكلمة {حَقّاً عَلَيْنَا} من صيغ الالتزام، قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 105]، وهو محقوق بكذا، أي لازم له، قال الأعشى:
لمحقوقه أن تستجيبي لصوته
فإن وعد الصادق حق. قال تعالى {وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنباء: 104]. وقد اختصر طريق الإفصاح عن هذا الغرض أعني غرض الوعد بالنصر والوعيد له فأدرج تحت ذكر النصر معنى الانتصار، وأدرج ذكر الفريقين: فريق المصدقين الموعود، وفريق المكذبين المتوعد، وقد أخلى الكلام أولا عن ذكرهما.
وعن أبي بكر شعبة راوي عاصم أنه كان يقف على قوله: {حَقّاً} فيكون في {كَانَ} ضمير يعود على الانتقام، أي وكان الانتقام من المجرمين حقا، أي عدلا، ثم يستأنف بقوله: {عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وكأنه أراد التخلص من إيهام أن يكون للعباد حق على الله

إيجابا فرارا من مذهب الاعتزال وهو غير لازم كما علمت. قال ابن عطية: وهو وقف ضعيف، وكذلك قال الكواشي عن أبي حاتم.
[48, 49] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [48] وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [49]}.
جاءت هذه الجملة على أسلوب أمثالها كما تقدم في قوله: {هو الذي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27], وجاءت المناسبة وهنا لذكر الاستدلال بإرسال الرياح في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] استدلالا على التفرد بالتصرف وتصوير الصنع الحكيم الدال على سعة العلم، ثم أعقب بالاستدلال بإرسال الرياح تسلا إلى ذكر إحياء الأرض بعد موتها المستدل به على البعث، فقد أفادت صيغة الحصر بقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} أنه المتصرف في هذا الشأن العجيب دون غيره، وكفى بهذا إبطالا لإلهية الأصنام، لأنها لا تستطيع مثل هذا الصنع الذي هو أقرب التصرفات في شؤون نفع البشر. والتعبير بصيغة المضارع في: {يُرْسِلُ} ، و {تُثِيرُ} ، و {يَبْسُطُهُ} ، و {يَجْعَلُهُ} لاستحضار الصور العجيبة في تلك التصرفات حتى كأن السامع يشاهد تكوينها مع الدلالة على تجدد ذلك.
وجمع {الرِّيَاحَ} لما شاع في استعمالهم من إطلاقها بصيغة الجمع على ريح البشارة بالمطر لأن الرياح التي تثير السحاب هي الرياح المختلفة جهات هبوبها بين: جنوب وشمال وصبا ودبور، اسم الريح المفردة فإنه غلب في الاستعمال إطلاق على ريح القوة والشدة لأنها تتصل واردة من صوب واحد فلا تزال تشتد. وروي أن النبيء صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح قال: "اللهم اجعلها رياحا لا ريحا" 1. وقد تقدم قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} في سورة البقرة [164].
والإثارة: تحريك القار تحريكا يضطرب به عن موضعه. وإثارة السحاب إنشاؤه بما تحدثه الرياح في الأجواء من رطوبة تحصل من تفاعل الحرارة والبرودة.
والبسط: النشر. والسماء: الجو الأعلى وهو جو الأسحبة.
ـــــــ
1 عن البيهقي بسند ضعيف.

و {كَيْفَ} هنا مجردة نن معنى الاستفهام، وموقعها المفعولية المطلقة من {يَبْسُطُهُ} لأنها نائبة عن المصدر، أي يبسطه بسطا كيفيته يشاؤها الله، وقد تقدم في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} في سورة آل عمران [6]. وتقدم أن من زعم أنها شرط لم يصادف الصواب.
و{كِسَفاً} بكسر ففتح في قراءة الجمهور جمع كسف بكسر فسكون، ويقال: كسفة بهاء تأنيث وهو القطعة. وقد تقدم في قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} في سورة الإسراء [92]. وتقدم الكسف في قوله: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في سورة الشعراء [187]. والمعنى: أنه يبسط السحاب في السماء تارة، أي يجعله ممتدا عاما في جو السماء وهو المدجن الذي يظلم به الجو ويقال المغلق، ويجعله كسفا أي تارة أخرى كما دلت عليه المقابلة، أي يجعله غمامات لأن حالة جعله كسفا غير حالة بسطه في السماء، فتعين أن يكون الجمع بينهما في الذكر مرادا منه اختلاف أحوال السحاب. والمقصود من هذا: أن اختلاف الحال آية على سعة القدرة.
والخطاب في {فَتَرَى الْوَدْقَ} خطاب لغير معين وهو كل من يتأتى منه سماع هذا وتتأتى منه رؤية الودق. والودق: المطر. وضمير {خِلالِهِ} للسحاب بحالتيه المذكورتين وهما حالة بسطه في السماء وحالة جعله كسفا فإن المطر ينزل من خلال السحاب المغلق والغمامات. والخلال: جمع خلل بفتحتين وهو الفرجة بين شيئين. وتقدم نظير هذه الجملة في سورة النور [43].
وذكر اختلاف أحوال العباد في وقت نزول المطر وفي وقت انحباسه بين استبشار وإبلاس إدماج للتذكير برحمة الله إياهم وللاعتبار باختلاف تأثرات نفوسهم في السراء والضراء، وفي ذلك إيماء إلى عظيم تصرف الله في خلقة الإنسان إذ جعله قابلا لاختلاف الانفعال مع اتحاد العقل والقلب كما جعل السحاب مختلف الانفعال من بسط وتقطع مع اتحاد الفعل وهو خروج الودق من خلاله.
و {إِنّ} في قوله: {وَإِنْ كَانُوا} مخففة مهملة عن العمل، واللام في قوله: {لَمُبْلِسِينَ} اللام الفارقة بين {إِنّ} المخففة و {إِنّ} الشرطية.
والإبلاس: يأس مع انكسار. وقوله: {مِنْ قَبْلِهِ} تكرير لقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} [الروم: 49]لتوكيد معنى قبلية نزول المطر وتقريره في نفوس السامعين. قال ابن

عطية: أفاد التأكيد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار اهـ. يعني أن إعادة قوله: {مِنْ قَبْلِهِ} زيادة تنبيه على الحالة التي كانت من قبل نزول المطر. وقال في "الكشاف" "فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم" اهـ. يعني أن فائدة إعادة {مِنْ قَبْلِهِ} أن مدة ما قبل نزول المطر مدة طويلة فأثير إلى قوتها بالتوكيد.
وضمير {قَبْلِهِ} عائد إلى المصدر المأخوذ من {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي تنزيله.
[50] {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [50]} .
رتب على ما تقرر من استحضار صورة تكوين المطر واستبشار الناس بنزوله بعد الإبلاس، أن اعترض بذكر الأمر بالنظر إلى أثر الرحمة وإغاثة الله عباده حين يحيي لهم الأرض بعد موتها بالجفاف. والأمر بالنظر للاعتبار والاستدلال. والنظر: رؤية العين. وعبر عن الجفاف بالموت لأن قوام الحياة الرطوبة، وعبر عن ضده بالإحياء. والخطاب بـ {انْظُرْ} لغير معين ليعم كل من يتأتى منه النظر مثل قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ} [الروم: 48].
و {رَحْمَةِ اللَّهِ} : هي صفته التي تتعلق بإمداد مخلوقاته ذوات الإدراك بما يلائمها ويدفع عنها ما يؤلمها وذلك هو الإنعام.
وأثر الشيء: ما ينشأ عنه مما يدل عليه. فبرحمة الله دلت عليها الآثار الدالة على وجوده وتصرفه بما فيه رحمة للخلق. و {كَيْفَ} بدل من {أَثَرِ} أو مفعول لـ {انْظُرْ} أي انظر هيئة إحياء الله الأرض بعد موتها، تلك الحالة التي هي أثر من آثار رحمته الناس على حد قوله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] إذ جعلوا {كَيْفَ} بدلا من الإبل بدل اشتمال وإن أباه ابن هشام في "مغني اللبيب" . وقد مضى عند قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} في سورة الفرقان [45]، وتقدم آنفا في قوله: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48].
وأطلق على إنبات الأرض إحياء وعلى قحولتها الموت على سبيل الاستعارة.
وجملة {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} استئناف وهو إدماج؛ أدمج دليل البعث عقب

الاعتبار بإحياء الأرض بعد موتها. وحرف التوكيد يفيد مع تقرير الخبر زيادة معنى فاء التسبب كقول بشار:
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
إذ التقدير: فالنجاح في التكبير، كما تقرر غير مرة. واسم الإشارة عائد إلى اسم الله تعالى بما أجرى عليه من الإخبار بإحياء الأرض بعد موتها ليفيد اسم الإشارة معنى أنه جدير بما يرد بعده من الخبر عن المشار إليه، فالمعنى: أن الله الذي يحيي الأرض بعد موتها لمحيي الموتى، تقريبا لتصور البعث. وعدل عن الموصول إلى الإشارة للإيجاز، ولما في الإشارة من التعظيم. وذيل ذلك بقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإنه يعم جميع الأشياء والبعث من جملتها إذ ليس هو إلا إيجاد خلق وهو مقدور لله تعالى كما أنشأ الخلق أول مرة. والشبه تام لأن إحياء الأرض إيجاد أمثال ما كان عليها من النبات فكذلك إحياء الموتى إيجاد أمثالهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم {إِلَى أَثَرِ} بالإفراد. وقرأه الباقون {إِلَى آثَارِ} بصيغة الجمع.
[51] {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [51]}.
عطف على جملة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 49] وما بينها اعتراض واستطراد لغرض قد علمته آنفا. وهذه الجملة سيقت للتنبيه على أن الكفران مطبوع في نفوسهم بحيث يعاودهم بأدنى سبب فهم إذا أصابتهم النعمة استبشروا ولم يشكروا وإذا أصابتهم البأساء أسرعوا إلى الكفران فصور لكفرهم أعجب صورة وهي إظهارهم إياه بحدثان ما كانوا مستبشرين منه إذ يكون الزرع أخضر والأمل في الارتزاق منه قريبا فيصيبه إعصار فيحترق فيضجون من ذلك وتكون حالهم حالة من يكفر بالله وتجري على أقوالهم عبارات السخط والقنوط، كما قال بعض رجاز الأعراب إذ أصاب قومه قحط:
رب العباد ما لنا لك ... قد كنت تسقينا فما بدا لك
أنزل علينا الغيث لا أبا لك
فالضمير المنصوب في {رَأَوْهُ} عائد إلى {أَثَرِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم: 50]وهو الزرع والكلأ والشجر. والاصفرار في الزرع ونحوه مؤذن بيبسه، وسموا صفارا بضم وتخفيف الفاء: داء يصيب الزرع.

والمصفر: اسم فاعل مقتض الوصف بمعناه في الحال، أي فرأوه يصير أصفر، فالتعبير بـ {مُصْفَرّاً} لتصوير حدثان الاصفرار عليه دون أن يقال: فرأوه أصفر.
وظل: بمعنى صار، والإتيان بفعل التصبير مع الإخبار عنه بالمضارع لتصوير مبادرتهم إلى الكفر ثم استمرارهم عليه. والحاصل أن المعنى أنه يغلب الكفر على أحوالهم.
واعلم أن الإتيان بالأفعال الثلاثة ماضية لأن وقوعها في سياق الشرط يمحضها للاستقبال، فأوثرت صيغة المضي لأنها أخف والمتكلم مخبر في اجتلاب أي الصيغتين مع الشرط، مثل قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] بصيغة المضارع لأن المقام للنفي بـ {لا} وهي لا تدخل على الماضي المسند إلى مفرد إلا في الدعاء.
[52، 53] {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [52] وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [53]}
الفاء للترتيب على قوله: {لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم: 51]المفيد أن الكفر غالب أحوالهم لأنهم بين كفر بالله وبين إعراض عن شكره، أو الفاء فصيحة تدل على كلام مقدر، أي إن كبر عليك إعراضهم وساءك استرسالهم على الكفر فإنهم كالموتى وإنك لا تسمع الموتى. وهذا معذرة للنبيء صلى الله عليه وسلم ونداء على أنه بذل الجهد في التبليغ. وفيما عدا الفاء فالآية نظير التي في آخر سورة النمل ونزيد هنا فنقول: إن تعداد التشابيه منظور فيه إلى اختلاف أحوال طوائف المشركين فكان لكل فريق تشبيه: فمنهم من غلب عليهم التوغل في الشرك فلا يصدقون بما يخالفه ولا يتأثرون بالقرآن والدعوة إلى الحق فهؤلاء بمنزلة الأموات أشباح بلا إدراك، وهؤلاء هم دهماؤهم وأغلبهم ولذلك ابتدئ بهم. ومنهم من يعرض عن استماع القرآن وهم الذين يقولون {فِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] ويقولون: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] وهؤلاء هم ساداتهم ومدبروا أمرهم يخافون إن أصغوا إلى القرآن أن يملك مشاعرهم فلذلك يتباعدون عن سماعه، ولهذا قيد الذي شهوا به بوقت توليهم مدبرين إعراضا عن الدعوة، فهو تشبيه تمثيل. ومنهم من سلكوا مسلك ساداتهم واقتفوا خطاهم فانحرفت أفهامهم عن الصواب فهم يسمعون القرآن ولا يستطيعون العمل به، وهؤلاء هم الذين اعتادوا متابعة أهوائهم وهم الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] ويحصل من جميع ذلك تشبيه جماعتهم بجماعة تجمع أمواتا وصما وعميا فليس هذا من تعدد

التشبه لمشبه واحد كالذي في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19].
وقرأ الجمهور {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ} بتاء فوقية مضمومة وكسر ميم {تُسْمِعُ} ونصب {الصُّمَّ} ، على أنه خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم. وقرأه ابن كثير {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ} بتحتية مفتوحة وبفتح ميم {يَسْمَعُ} ورفع {الصُّمُّ} على الفاعلية لـ {يَسْمَعُ} . وقرأ الجمهور {بِهَادِي} بموحدة وبألف بعد الهاء وبإضافة {هَادِي} إلى {الْعُمْيَ} ، وقرأه حمزة وحده {تَهْدِي} بمثناة فوقية وبدون ألف بعد الهاء على الخطاب وبنصب {الْعُمْيَ} على المفعولية.
[54] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [54]} .
هذا رابع استئناف من الأربعة المتقدمة رجوع إلى الاستدلال على عظيم القدرة في مختلف المصنوعات من العوالم لتقرير إمكانية البعث وتقريب حصوله إلى عقول منكرية لأن تعدد صور إيجاد المخلوقات وكيفياته من ابتدائها عن عدم أو من إعادتها بعد انعدامها ويتطور وبدونه مما يزيد إمكان البعث وضوحا عند منكريه، فموقع هذه الآية كموقع قوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [الروم: 48] ونظائرها كما تقدم؛ ولذلك جاءت فاتحتها على أسلوب فواتح نظائرها وهذا ما يؤذن به تعقيبها بقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم: 55] الآية.
ثم قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} مبتدأ وصفة، وقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} هو الخبر، أي يخلق ما يشاء مما أخبر به وأنتم تنكرون. والضعف بضم الضاد في الآية وهو أفصح وهو لغة قريش. ويجوز في ضاده الفتح وهو لغة تميم. وروي أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قرأتها على رسول الله {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} - يعني لفتح الضاد - فأقرأني {مِنْ ضَعْفٍ} - يعني بضم الضاد -. وقرأ الجمهور ألفاظ {ضَعْفٍ} الثلاثة - بضم الضاد - في الثلاثة. وقرأها عاصم وحمزة بفتح الضاد، فلهما سند لا محالة يعارض حديث ابن عمر. والجمع بين هذه القراءة وبين حديث ابن عمر أن النبيء صلى الله عليه وسلم نطق بلغة الضم لأنها لغة قومه، وأن الفتح رخصة لمن يقرأ بلغة قبيلة أخرى، ومن لم يكن له لغة تخصه فهو مخير بين القراءتين. والضعف: الوهن واللين.
و {مِنْ} ابتدائية، أي مبتدأ خلقه من ضعف، أي من حالة ضعف، وهي حالة كونه جنينا ثم صبيا إلى أن يبلغ أشده، وهذا كقوله: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]

يدل على تمكن الوصف من الموصوف حتى كأنه منتزع منه، قال تعالى {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 28].
والمعنى: أنه كما أنشأكم أطوارا تبتدئ من الوهن وتنتهي إليه فكذلك ينشئكم بعد الموت إذ ليس ذلك بأعجب من الإنشاء الأول وما لحقه من الأطوار، ولهذا أخبر عنه بقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} .
وذكر وصف العلم والقدرة لأن التطور هو مقتضى الحكمة وهي من شؤون العلم، وإبرازه على أحكم وجه هو من أثر القدرة.
وتنكير {ضَعِف} و {قُوَّةٍ} للنوعية؛ ف {ضَعِف} المذكور ثانيا هو عين {ضَعِف} المذكور أولا، و {قُوَّةٍ} المذكورة ثانيا عين {قُوَّةٍ} المذكورة أولا. وقولهم: النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، يريدون به التنكير المقصود منه الفرد الشائع لا التنكير المراد به النوعية. وعطف {وَشَيْبَةً} للإيماء إلى أن هذا الضعف لا قوة بعده وأن بعده العدم بما شاع من أن الشيب نذير الموت.
والشيبة: اسم مصدر الشيب. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} في سورة مريم [4].
[55] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [55]}.
لما ذكر عدم انتفاع المشركين بآيات القرآن وشبهوا بالأموات والصم والعمي فظهرت فظاعة حالهم في العاجلة أتبع ذلك بوصف حالهم حين تقوم الساعة في استصحاب مكابرتهم التي عاشوا عليها في الدنيا، بأن الله حين يعيد خلقهم وينشئ لهم أجساما كأجسامهم ويعيد إليهم عقولهم يكون تفكيرهم يومئذ على وفاق ما كانوا عليه في الدنيا من السفسطة والمغالطة والغرور، فإذا نشروا من القبور وشعروا بصحة أجسامهم وعقولهم وكانوا قد علموا في آخر أوقات حياتهم أنهم ميتون خامرتهم حينئذ عقيدة إنكار البعث وحجتهم السفسطائية من قولهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] هنالك يريدون أن يقنعوا أنفسهم بصحة دليلهم القديم ويلتمسون اعتلالا لتخلف المدلول بعلة أن بعثهم إليهم أنهم محقون في إنكاره في الدنيا إذ كانوا قد أخبروا أن البعث يكون بعد فناء الأجسام، فهم أرادوا الاعتذار عن إنكارهم البعث

حين تحققوه بما حاصلة: أنهم لو عملوا أن البعث يكون بعد ساعة من الحلول في القبر لأقروا به. وقد أنبأ عن هذا تسمية كلامهم هذا معذرة بقوله عقبه: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُم} [الروم: 57]. وهذه فتنة أصيبوا بها حين البعث جعلها الله لهم ليكونوا هزأة لأهل النشور. ويتضح غلطهم وسوء فهمهم كما دل عليه قوله تعالى بعد ذلك: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَان} الآية [الروم: 56]، وقد أومأ إلى أن هذا هو المراد من الآية أنه قال عقب ذلك {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} ، أي كهذا الخطأ كانوا في الدنيا يصرفون عن الحق بمثل هذه الترهات. وتقدم شيء من هذا في المعنى عند قوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} في سورة طه [103، 104]. وبلغ من ضلالهم في ذلك أنهم يقسمون عليه، وهذا بعد ما يجزي بينهم من الجدال من قول بعضهم: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} . وقول بعضهم {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} ، وقول آخرين {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] وبعض اليوم يصدق بالساعة، كما حكي عنهم في هذه الآية. والظاهر أن هذا القسم يتخاطبون به فيما بينهم كما اقتضته آية سورة طه، أو هو حديث آخر أعلنوا به حين اشتد الخلاف بينهم لأن المصير إلى الحلف يؤذن بمشادة ولجاج في الخلاف. وفي قوله: {السَّاعَةَ} و {سَّاعَةَ} الجناس التام.
وجملة {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} استئناف بياني لأن غرابة حالهم من فساد تقدير المدة والقسم عليه مع كونه توهما يثير سؤال سائل عن مثار هذا الوهم في نفوسهم فكان قوله: {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} بيانا لذلك. ومعناه: أنهم لا عجب في صدور ذلك منهم فإنهم كانوا يجيئون بمثل تلك الأوهام مدة كونهم في الدنيا، فتصرفهم أوهامهم عن اليقين، وكانوا يقسمون على عقائدهم كما في قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] استخفافا بالأيمان، وكذلك إشارة إلى انصرافهم عن الحق يوم البعث. والمشار إليه هو المشبه به والمشبه محذوف دل عليه كاف التشبيه، والتقدير: إفكا مثل إفكهم هذا كانوا يؤفكون به في حياتهم الدنيا. والمقصود من التشبيه المماثلة والمساواة.
والإفك بفتح الهمزة: الصرف وهو من باب ضرب، ويعدى إلى الشيء المصروف عنه بحرف {عَنْ}، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} في سورة العنكبوت [60]. ولم يسند إفكهم إلى آفك معين لأن بعض صرفهم يكون من أوليائهم وأئمة دينهم، وبعضه من طبع الله على قلوبهم.
وإقحام فعل {كَانُوا} للدلالة على أن المراد في زمان قبل ذلك الزمن، أي في زمن

الحياة الدنيا. والمعنى: أن ذلك خلق تخلقوا به وصار لهم كالسجية في حياتهم الدنيا حتى إذا أعاد الله إليهم أرواحهم صدر عنهم ما كانوا تخلقوا به وقال تعالى {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} الآية [طه: 125- 127] وفي هذا الخبر أدب عظيم للمسلمين أن يتحاموا الرذائل والكبائر في الحياة الدنيا خشية أن تصير لهم خلقا فيحشروا عليها.
[56] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [56]}.
جعل الله منكري البعث هدفا لسهام التغليط والافتضاح في وقت النشور، فلما سمع المؤمنون الذين أوتوا علم القرآن وأشرقت عقولهم في الحياة الدنيا بالعقائد الصحيحة وآثار الحكمة لم يتمالكوا أن لا يردوا عليهم غلطهم ردا يكون عليهم حسرات أن لا يكونوا قبلوا دعوة الحق كما قبلها المؤمنون. وهذه الجملة معترضة. وعطف الإيمان على العلم والاهتمام به لأن العلم بدون إيمان لا يرشد إلى العقائد الحق التي بها الفوز في الحياة الآخرة. والمعنى: وقال لهم المؤمنون إنكار عليهم وتحسيرا لهم.
والظاهر أن المؤمنين يسمعون تحاج المشركين بعضهم مع بعض فيبادرون بالإنكار عليهم لأن تغيير المنكر سجيتهم التي كانوا عليها. وفي هذا أدب إسلامي وهو أن الذي يسمع الخطأ في الدين والإيمان لا يقره ولو لم يكن هو المخاطب به.
وقولهم {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} صرف لهم عن تلك المعذرة كأنهم يقولون: دعوا عنكم هذا فلا جدوى فيه واشتغلوا بالمقصود وما وعدتم به من العذاب يوم البعث.
وفعل {لَبِثْتُمْ} مستعمل في حقيقته، أي مكثتم، أي استقررتم في القبور، والخبر مستعمل في التحزين والترويع باعتبار ما يرد بعده من الإفصاح عن حضور وقت عذابهم.
و {فِي} من قوله: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} للتعليل، أي لبثتم إلى هذا اليوم ولم يعذبوا من قبل لأجل ما جاء في كتاب الله من تهديدهم بهذا اليوم مثل قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100], أي: لقد بلغكم وذلك وسمعتموه فكان الشأن أن تؤمنوا به ولا تعتذروا بقولكم ما لبثنا غير ساعة.
والفاء في {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} فاء الفصيحة أفصحت عن شرط مقدر، وتفيد معنى المفاجأة كما تقدم عند قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} في سورة الفرقان [19]،

أي إذ كان كذلك فهذا يوم البعث كالفاء في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
وهذا توبيخ لهم وتهديد وتعجيل لإساءتهم بما يترقبهم من العذاب. والاقتصار على {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} ليتوقعوا كل سوء وعذاب.
والاستدراك في {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} استدراك على ما تضمنته جملة {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} ، أي لقد بلغكم ذلك وكان الشأن أن تستعدوا له ولكنكم كنتم لا تعلمون، أي: لا تتصدون للعلم بما فيه النفع بل كان دأبكم الإعراض عن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي التعبير بنفي العلم وقصد نفي الاهتمام به والعناية بتلقيه إشارة إلى أن التصدي للتعلم وسيلة لحصوله.
[57] {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [57]}.
تفريع على جملة {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55]. والذين ظلموا هم المشركون الذين أقسموا ما لبثوا غير ساعة، فالتعبير عنهم بالذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار لغرض التسجيل عليهم بوصف الظلم وهو الإشراك بالله لأنه جامع لفنون الظلم، ففيه الاعتداء على حق الله، وظلم المشرك نفسه بتعريضها للعذاب، وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، وظلمهم المؤمنين بالاعتداء على أموالهم وأبشارهم.
والمعذرة: اسم مصدر اعتذر، إذا أبدى علة أو حجة ليدفع عن نفسه مؤاخذة على ذنب أو تقصير. وهو مشتق من فعل عذره، إذا لم يؤاخذه على ذنب أو تقصير لأجل ظهور سبب يدفع عنه المؤاخذة بما فعله. وإضافة "معذرة" إلى ضمير {الَّذِينَ ظَلَمُوا} تقتضي أن المعذرة واقعة منهم. ثم يجوز أن تكون الإضافة للتعريف بمعذرة معهودة فتكون هي قولهم {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] كما تقدم، ويجوز أن يكون التعريف للعموم كما هو شأن المصدر المضاف، أي لا تنفعهم معذرة يعتذرون بها مثل قولهم {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106] وقولهم {هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38].
واعلم أن هذا لا ينافي قوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] المقتضي نفي وقوع الاعتذار منهم لأن الاعتذار المنفي هو الاعتذار المأذون فيه، أي:

المقبول، لأن الله لو أذن لهم في الاعتذار لكان ذلك توطئة لقبوله اعتذارهم نظير قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]}.
والمثبت هنا معذرة من تلقاء أنفسهم لم يؤذن لهم بها فهي غير نافعة لهم كما قال تعالى {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 106- 108] وقوله: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 65]}.
وقرأ الجمهور {تَنْفَعُ} بالمثناة الفوقية. وقرأه حمزة وعاصم والكسائي وخلف بالتحتية وهو وجه جائز لأن "معذرة" مجازي التأنيث، ولوقوع الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول.
و {يُسْتَعْتَبُونَ} مبني للمجهول والمبني منه للفاعل استعتب، إذا سأل العتبى -بضم العين وبالقصر- وهي اسم للإعتاب، أي إزالة العتب، فهمزة الإعتاب للإزالة قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24]، فصار استعتب المبني للمجهول جاريا على استعتب المبني للمعلوم فلما قيل: استعتب بمعنى طلب العتبي صار استعتب المبني للمجهول بمعنى أعتب، فمعنى {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} : ولا هم بمزال عنهم المؤاخذة نظير قوله: {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} . وهذا استعمال عجيب جار على تصاريف متعددة في الفصيح من الكلام، وبعض استقاقها غير قياسي ومن حاولوا إجراءه على القياس اضطروا إلى تلكفات في المعنى لا يرضي بها الذوق السليم، والعجب وقوعها في "الكشاف" . وقال في "القاموس" : واستعتبه: أعطاه العتبي كأعتبه، وطلب إليه العتبي ضد. والمعنى: لا ينفعهم اعتذار بعذر ولا إقرار بالذنب وطلب العفو. وتقدم قوله: {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} في سورة النحل [84].
[58، 59] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ [58] كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [59]}
لما انتهى ما أقيمت عليه السورة من دلائل الوحدانية وإثبات البعث عقب ذلك بالتنويه بالقرآن وبلوغه الغاية القصوى في البيان والهدى.
والضرب حقيقته: الوضع والإلصاق. واستعير في مثل هذه الآية للذكر والتبيين لأنه كوضع الدال بلصق المدلول، وتقدم في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً

مَا} [البقرة: 26] وتقدم أيضا آنفا عند قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الروم: 28]، وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} المتقدم في سورة الإسراء [89]، و "الناس" أريد به المشركون لأنهم المقصود من تكرير هذه الأمثال، وعطف عليه قوله: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} الخ فهو وصف لتلقي المشركين أمثال القرآن فإذا جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن فيها إرشادهم تلقوها بالاعتباط والإنكار البحث فقالوا { إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} .
وضمير جمع المخاطب للنبيء صلى الله عليه وسلم لقصد تعظيمه من جانب الله تعالى وإنما يقول الذين كفروا: إن أنت إلا مبطل، فحكي كلامهم بالمعنى للتنويه بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهو حكاية باللفظ. وهذا تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم من إيمانه معانديه، أي أئمة المفر منهم، ولذلك اعترض بعده بجملة {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} بين الجملتين المتعاطفتين تمهيدا للأمر بالصبر على غلوائهم، أي تلك سنة أمثالهم، أي مثل ذلك الطبع الذي علمته يطبع الله على قلوبهم، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً} في سورة البقرة [143] وفي مواضع كثيرة من القرآن.
والطبع على القلب: تصيره غير قابل لفهم الأمور الدينية وهو الختم، وقد تقدم في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} في سورة البقرة [7].
و {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} مراد بهم الذين كفروا أنفسهم، فعدل الإضمار لزيادة وصفهم بانتفاء العلم عنهم بعد أن وصفوا: بالمجرمين، والذين ظلموا، والذين كفروا.
[60] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [60]}
الأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم بالصبر تفرغ على جملة {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} [الروم: 58] لتضمنها تأييسه من إيمانهم. وحذف متعلق الأمر بالصبر لدلالة المقام عليه، أي اصبر على تعنتهم. وجملة {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} تعليل للأمر بالصبر وهو تأنيس للنبيء صلى الله عليه وسلم بتحقيق وعد الله من الانتقام من المكذبين ومن نصر الرسول عليه الصلاة والسلام.
والحق: مصدر حق يحق بمعنى ثبت، فالحق: الثابت الذي لا ريب فيه ولا مبالغة. والاستخفاف: مبالغة في جعله خفيفا فالسين والتاء للتقوية مثلها في نحو: استجاب واستمسك، وهو ضد الصبر. والمعنى: لا يحملنك على ترك الصبر. والخفة مستعارة

لحالة الجزع وظهور آثار الغضب. وهي مثل القلق المستعار من اضطراب الشيء لأن آثار الجزع والغضب تشبه تقلقل الشيء الخفيف، فالشيء الخفيف يتقلقل بأدنى تحريك، وفي ضده يستعار الرسوخ والتثاقل. وشاعت هذه الاستعارات حتى ساوت الحقيقة في الاستعمال.
ونهي الرسول عن أن يستخفه الذين لا يوقنون نهي عن الخفة التي من شأنها أن تحدث للعاقل إذا رأى عناد من هو يرشده إلى الصلاح، وذلك مما يستفز غضب الحلم، فالاستخفاف هنا هو أن يؤثروا في نفسه ضد الصبر، ويأتي قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} في سورة الزخرف [54]، فانظره إكمالا لما هنا. وأسند الاستخفاف إليهم على طريقة المجاز العقلي لأنهم سببه بما يصدر من عنادهم.
و {الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} : هم المشركون الذين أجريت عليهم الصفات المتقدمة من الإجرام، والظلم، والكفر، وعدم العلم، فهو إظهار في مقام الإضمار للتصريح بمساويهم. قيل: كان منهم النضر بن الحارث. ومعنى {لا يُوقِنُونَ} أنهم لا يوقنون بالأمور اليقينية، أي التي دلت عليها الدلائل القطعية فهم مكابرون.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة لقمانسميت هذه السورة بإضافتها إلى لقمان لأن فيها ذكر لقمان وحكمته وجملا من حكمته التي أدب بها ابنه. وليس لها اسم غير هذا الاسم، وبهذا الاسم عرفت بين القراء والمفسرين. ولم أقف على تصريح به فيما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند مقبول.
وروى البيهقي في "دلائل النبوة" عن ابن عباس: أنزلت سورة لقمان بمكة.
وهي مكية كلها عند ابن عباس في أشهر قوليه وعليه إطلاق جمهور المفسرين وعن ابن عباس من رواية النحاس استثناء ثلاث آيات من قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان: 27- 29]. وعن قتادة إلا آيتين إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28] وفي "تفسير الكواشي" حكاية قول إنها مكية عدا آية نزلت بالمدينة وهي {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان: 4]قائلا لأن الصلاة والزكاة فرضت بالمدينة. ورده البيضاوي على تسليم ذلك بأن فرضها بالمدينة لا ينافي تشريعها بمكة على غير إيجاب. والمحقوق يمنعون أن تكون الصلاة والزكاة فرضتا بالمدينة، فأما الصلاة فلا ريب في أنها فرضت على الجملة بمكة، وأما الزكاة ففرضت بمكة دون تعيين أنصباء ومقادير، ثم عينت الأنصباء والمقادير بالمدينة. ويتحصل من هذا أن القائل بأن آية {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} إلى آخرها نزلت بالمدينة قاله من قبل رأيه وليس له سند يعتمد كما يؤذن به قوله لأن الصلاة والزكاة الخ. ثم هو يقتضي أن يكون صدر سورة النازل بمكة {هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 3] {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان: 5] الخ ثم ألحق به {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان: 4].
وأما القول باستثناء آيتين وثلاث فمستند إلى ما رواه ابن جرير عن قتادة وعن سعيد

بن جبير عن ابن عباس: أن قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان: 27] إلى آخر الآيتين أو الثلاث نزلت بسبب مجادلة كانت من اليهود أن أحبارهم قالوا: يا محمد أرأيت قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85] إيانا تريد أم قومك? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا أردت. قالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها في علم الله قليل، فأنزل الله عليه {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآيات. وذلك مروي بأسانيد ضعيفة وعلى تسليمها فقد أجيب بأن اليهود جادلوا في ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بأن لقنوا ذلك وفدا من قريش إليهم إلى المدينة، وهذا أقرب للتوفيق بين الأقوال. وهذه الروايات وإن كانت غير ثابتة بسند صحيح إلا أن مثل هذا يكتفي فيه بالمقبول في الجملة. قال أبو حيان: سبب نزول هذه السورة أن قريشا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة لقمان مع ابنه، أي سألوه سؤال تعنت واختبار. وهذا الذي ذكره أبو حيان يؤيد تصدير السورة بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6].
وهذه السورة هي السابعة والخمسون في تعداد نزول السور، نزلت بعد سورة الصافات وقبل سورة سبأ. وعدت آياتها ثلاثا وثلاثين في عد أهل المدينة ومكة، وأربعا وثلاثين في عد أهل الشام والبصرة والكوفة.
أغراض هذه السورة
الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة تتصل بسبب نزولها الذي تقدم ذكره أن المشركين سألوا عن قصة لقمان وابنه، وإذا جمعنا بين هذا وبين ما سيأتي عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] من أن المراد به النضر بن الحارث إذ كان يسافر إلى بلاد الفرس فيقتني كتب اسفنديار ورستم وبهرام، وكان يقرؤها على قريش ويقول: يخبركم محمد عن عاد وثمود وأحثكم أنا عن رستم واسفنديار وبهرام، فصدرت هذه السورة بالتنويه بهدى القرآن ليعلم الناس أنه لا يشتمل إلا على ما فيه هدى وإرشاد للخير ومثل الكمال النفساني، فلا التفات فيه إلى أخبار الجبابرة وأهل الضلال إلا في مقام التحذير مما هم فيه ومن عواقبه، فكان صدر هذه السورة تمهيدا لقصة لقمان، وقد تقدم الإلماع إلى هذا في قوله تعالى في أول سورة يوسف [3] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ، ونبهت عليه في المقدمة السابعة بهذا التفسير. وانتقل من ذلك إلى تسفيه النضر بن الحارث وقصصه الباطلة.

وابتدئ ذكر لقمان بالتنويه بأن آتاه الله الحكمة وأمره بشكر النعمة. وأطيل الكلام في وصايا لقمان وما اشتملت عليه: من التحذير من الإشراك، ومن الأمر ببر الوالدين، ومن مراقبة الله لأنه عليم بخفيات الأمور، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر، والتحذير من الكبر والعجب، والأمر بالاتسام بسمات المتواضعين في المشي والكلام.
وسلكت السورة أفانين ذات مناسبات لما تضمنته وصية لقان لابنه، وأدمج في ذلك تذكير المشركين بدلائل وحدانية الله تعالى وبنعمه عليهم وكيف أعرضوا عن هديه وتمسكوا بما ألفوا عليه آباءهم.
وذكرت مزية دين الإسلام. وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بتمسك المسلمين بالعروة الوثقى، وأنه لا يحزنه كفر من كفروا.
وانتظم في هذه السورة الرد على المعارضين للقرآن في قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} {لقمان: 27] وما بعدها. وختمت بالتحذير من دعوة الشيطان والتنبيه إلى بطلان ادعاء علم الغيب.
[1] {الم} .
تقدم الكلام على نظائرها في أول سورة البقرة.
[5,2] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
إذا كانت هذه السورة نزلت بسبب سؤال قريش عن لقمان وابنه فهذه الآيات إلى قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] بمنزلة مقدمة لبيان أن مرمى القرآن من قص القصة ما فيها من علم وحكمة وهدى وأنها مسوقة للمؤمنين لا للذين سألوا عنها فكان سؤالهم نفعا للمؤمنين.
والإشارة بـ {تِلْكَ} إلى ما سيذكر في هذه السورة، فالمشار إليه مقدر في الذهن مترقب الذكر على ما تقدم في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} في أول البقرة [2] وفي أول سورة الشعراء [2] والنمل [1] والقصص [2].
و {آيَاتُ الْكِتَابِ} خبر عن اسم الإشارة. وفي الإشارة تنبيه على تعظيم قدر تلك الآيات بما دل عليه اسم الإشارة من البعد المستعمل في رفعة القدر، وبما دلت عليه

إضافة الآيات إلى الكتاب الموصوف بأنه الحكيم وأنه هدى ورحمة وسبب وفلاح.
و {الْحَكِيمِ} : وصف للكتاب بمعنى ذي الحكمة، أي لاشتماله على الحكمة. فوصف {الْكِتَابِ} بـ {الْحَكِيمِ} كوصف الرجل بالحكيم، ولذلك قيل: إن الحكيم استعارة مكنية، أو بعبارة أرشق تشبيه بليغ بالرجل الحكيم. ويجوز أن يكون الحكيم بمعنى المحكم بصيغة اسم المفعول وصفا على غير قياس كقولهم: عسل عقيد، لأنه أحكم وأتقن فبيس فيه فضول ولا ما لا يفيد كمالا نفسانيا.
وفي وصف {الْكِتَابِ} بهذا الوصف براعة استهلال للغرض من ذكر حكمة لقمان. وتقدم وصف الكتاب بـ {الْحَكِيمِ} في أول سورة يونس [1].
وانتصب {هُدىً وَرَحْمَةً} على الحال من {الْكِتَابِ} وهي قراءة الجمهور. وإذا كان {الْكِتَابِ} مضافا إليه فمسوغ مجيء الحال من المضاف إليه أن {الْكِتَابِ} أضيف إليه ما هو اسم جزئه، أو على أنه حال من آيات. والعامل في الحال ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. وقرأه حمزة وحده برفع {رَحْمَةً} على جعل {هُدىً} خبرا ثانيا عن اسم الإشارة.
ومعنى المحسنين: الفاعلون للحسنات، وأعلاها الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك خصت هذه الثلاث بالذكر بعد إطلاق المحسنين لأنها أفضل الحسنات، وإن كان المحسنون يأتون بها وبغيرها.
وزيادة وصف الكتاب بـ {رَحْمَةً} بعد {هُدىً} لأنه لما كان المقصد من هذه السورة قصة لقمان نبه على أن ذكر القصة رحمة لما تتضمنه من الآداب والحكمة لأن في ذلك زيادة على الهدى أنه تخلق بالحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا، والخبر الكثير: رحمة من الله تعالى.
و {الزَّكَاةَ} هنا الصدقة وكانت موكولة إلى همم المسلمين غير مضبوطة بوقت ولا بمقدار. وتقدم الكلام على {بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} إلى {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في أول سورة البقرة [6، 7].
[6، 7] { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

عطف على جملة {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان: 2]. والمعنى: أن حال الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين، وأن من الناس معرضين عنه يؤثرون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله الذي يهدي إليه الكتاب. وهذا من مقابلة الثناء على آيات الكتاب الحكيم بضد ذلك في ذم ما يأتي به بعض الناس، وهذا تخلص من المقدمة إلى مدخل للمقصود وهو تفظيع ما يدعوا إليه النضر بن الحارث ومشايعوه من اللهو بأخبار الملوك التي لا تكسب صاحبها كمالا ولا حكمة.
وتقديم المسند في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ} للتشويق إلى تلقي خبرة العجيب. والاشتراء كناية عن العناية بالشيء والاغتباط به وليس هنا استعارة بخلاف قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} في سورة البقرة [16]؛ فالاشتراء هنا مستعمل في صريحه وكناية: فالصريح تشويه لاقتناء النضر بن الحارث قصص رستم واسفنديار وبهرام، والكناية تقبيح للذين التفوا حوله وتلقوا أخباره، أي من الناس من يشغله لهو الحديث والولع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم.
واللهو: ما يقصد منه تشغيل البال وتقصير طول وقت البطالة دون نفع، لأنه إذا كانت في ذلك منفعة لم يكن المقصود منه اللهو بل تلك المنفعة. و {لَهْوَ الْحَدِيثِ} ما كان من الحديث مرادا للهو فإضافة {لَهْوَ} إلى {الْحَدِيثِ} على معنى {مِنَ} التبعيضية على رأي بعض النحاة، وبعضهم لا يثبت الإضافة على معنى {مِنَ} التبعيضية فيردها إلى معنى اللام.
وتقدم اللهو في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} في سورة الأنعام [32].
والأصح في المراد بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} أنه النضر بن الحارث فإنه كان يسافر في تجارة إلى بلاد فارس فيتلقى أكاذيب الأخبار عن أبطالهم في الحروب المملوءة أكذوبات فيقصها على قريش في أسمارهم ويقول: إن كان محمد يحدثكم بأحاديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم واسفنديار وبهرام. ومن المفرسين من قال: إن النضر كان يشتري من بلاد فارس كتب أخبار ملوكهم فيحدث بها قريشا، أي بواسطة من يترجمها لهم. ويشمل لفظ {النَّاسِ} أهل سامره الذين ينصتون لما يقصه عليهم كما يقتضيه قوله تعالى إثره {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
وقيل المراد بـ {مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} من يقتني القينات المغنيات. روى الترمذي عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمان عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: "لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا خير في تجارة فيهن وتمنهن حرام" ، في مثل ذلك أنزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى آخر الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب إنما يروي من حديث القاسم عن أبي أمامة وعلي بن يزيد يضعف في الحديث سمعت محمدا -يعني البخاري- يقول علي بن يزيد يضعف اهـ. وقال ابن العربي في "العارضة" : في سبب نزولها قولان: أحدهما أنها نزلت في النضر بن الحارث. الثاني أنها نزلت في رجل من قريش قيل هو ابن خطل اشترى جارية مغنية فشغل الناس بها عن استماع النبيء صلى الله عليه وسلم اهـ. وألفاظ الآية أنسب انطباقا على قصة النضر بن الحارث.
ومعنى {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أنه يفعل ذلك ليلهي قريشا عن سماع القرآن فإن القرآن سبيل موصل إلى الله تعالى، أي إلى الدين الذي أراده، فلم يكن قصده مجرد اللهو بل تجاوزه إلى الصد عن سبيل الله، وهذا زيادة في تفظيع عمله. وقرأ الجمهور {لِيُضِلَّ} بصم الياء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، أي ليزداد ضلالا على ضلالة إذ لم يكشف لنفسه بالكفر حتى أخذ يبث ضلاله للناس، وبذلك يكون مآل القراءتين متحد المعنى.
ويتعلق {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} بفعل {يَشْتَرِي} ويتعلق به أيضا قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} لأن أصل تعلق المجرورات أن يرجع إلى المتعلق المبني عليه الكلام، فالمعنى: يشتري لهو الحديث بغير علم، أي عن غير بصيرة في صالح نفسه حيث يستبدل الباطل بالحق. والضمير المنصوب في {يَتَّخِذَهَا} عائد إلى {سَبِيلِ اللَّهِ} فإن السبيل تؤنث. وقرأ الجمهور {وَيَتَّخِذَهَا} بالرفع عطفا على {يَشْتَرِي} ، أي يشغل الناس بلهو الحديث ليصرفهم عن القرآن ويتخذ سبيل الله هزؤا. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بالنصب عطفا على {لِيُضِلَّ} ، أي يلهيهم بلهو الحديث ليضلهم وليتخذ دين الإسلام هزءا. ومآل المعنى متحد في القراءتين لأن كلا الأمرين من فعله ومن غرضه. وأما الإضلال فقد رجح فيه جانب التعليل لأنه العلة الباعثة له على ما يفعل.
والهزؤ: مصدر هزأ به إذا سخر به كقوله: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة: 231] ولما كان {مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} صادقا على النضر بن الحارث والذين يستمعون إلى قصصه من المشركين جيء في وعيدهم بصيغة الجمع {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
واختير اسم الإشارة للتنبيه على أن ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر إنما استحقه

لأجل ما سبق اسم الإشارة من الوصف.
وجملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} معترضة بين الجملتين جملة {مَنْ يَشْتَرِي} وجملة {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} فهذا عطف على جملة {يَشْتَرِي} الخ. والتقدير: ومن الناس من يشتري الخ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً} ؛ فالموصول واحد وله صلتان: اشتراء لهو الحديث للضلال، والاستكبار عندما تتلى عليه آيات القرآن.
ودل قوله: {تُتْلَى عَلَيْهِ} أنه يواجه بتبليغ القرآن وإسماعه. وقوله: {وَلَّى} تمثيل للإعراض عن آيات الله كقوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات: 22].
و {مُسْتَكْبِراً} حال، أي هو إعراض استكبار لا إعراض تفريط في الخير فحسب.
وشبه في ذلك بالذي لا يسمع الآيات التي تتلى عليه، ووجه الشبه هو عدم التأثر ولو تأثرا يعقبه إعراض كتأثر الوليد بن المغيرة. و {كَأَنَّ} مخففة من "كأن" وهي في موضع الحال من ضمير {مُسْتَكْبِراً} . وكرر التشبيه لتقويته مع اختلاف الكيفية في أن عدم السمع مرة مع تمكن آلة السمع ومرة مع انعدام قوة آلته فشبه ثانيا بمن في أذنيه وقر وهو أخص من معنى {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} . ومثل هذا التشبيه الثاني قول لبيد:
فتنازعا سبطا يطير ظلاله ... كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشموله غلشت بنابت عرفج ... كدخان نار ساطع أسنامها
والوقر: أصله الثقل، وشاع في الصمم مجازا مشهورا ساوى الحقيقة، وقد تقدم في قوله: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} في سورة الأنعام [25].
وقرأ نافع {فِي أُذُنَيْهِ} بسكون الذال للتخفيف لأجل ثقل المثنى، وقرأه الباقون بضم الذال على الأصل. وقد ترتب على هذه الأعمال التي وصف بها أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوعده بعذاب أليم. وإطلاق البشارة هنا استعارة تهكمية، كقول عمرو بن كلثوم:
فعجلنا القرى أن تشتمونا
وقد عذب النضر بالسيف إذ قتل صبرا يوم بدر، فذلك عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة أشد.
[8، 9] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

لما ذكر عذاب من يضل عن سبيل الله اتبع ببشارة المحسنين الذين وصفوا بأنهم يقيمون الصلاة إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان: 5].
وانتصب {وَعْدَ اللَّهِ} على المفعول المطلق النائب عن فعله، وانتصب {حَقّاً} على الحال المؤكدة لمعنى عاملها كما تقدم في صدر سورة يونس. وإجراء الاسمين الجليلين على ضمير الجلالة لتحقيق وعده لأنه لعزته لا يعجزه الوفاء بما وعد، ولحكمته لا يخطئ ولا يذهل عما وعد،فموقع جملة {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} موقع التذييل بالأعم.
[10، 11] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
استئناف للاستدلال على الذين دأبهم الإعراض عن آيات الله بأن الله هو خالق المخلوقات فلا يستحق غيره أن تثبت له الإلهية فكان ادعاء الإلهية لغير الله هو العلة للإعراض عن آيات الكتاب الحكيم، فهم لما أثبتوا الإلهية لما لا يخلق شيئا كانوا كمن يزعم أن الأصنام مماثلة لله تعالى في أوصافه فلذلك يقتضي انتفاء وصف الحكمة عنه كما هو منتف عنها. ولذا فإن موقع هذه الآيات موقع دليل الدليل، وهو المقام المعبر عنه في علم الاستدلال بالتدقيق، وهو ذكر الشيء بدليله ودليل دليله، فالخطاب في قوله: {تَرَوْنَهَا} و {بُكْمٌ} للمشركين، وقد تقدم في وسورة الرعد [2] قوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ، وتقدم في أول سورة النحل [15] قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} ، والمعنى خوف أن تميد بكم أو لئلا تميدكم كما بين هنالك. وتقدم في سورة البقرة [164] قوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} .
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} هو نظير قوله في سورة البقرة [164] {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} وقوله في سورة الرعد [17] {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ} .
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {وَأَنْزَلْنَا} للاهتمام بهذه النعمة التي هي أكثر دورانا عند الناس. وضمير {فِيهَا} عائد إلى الأرض.
والزوج: الصنف، وتقدم في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} في طه [53] وقوله: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} في سورة الحج [5].

والكريم: النفيس في نوعه، وتقدم عند قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29].
وقد أدمج في أثناء دلائل صفة الحكمة الامتنان بما في ذلك من منافع للخلق بقوله: {ان تميد بكم وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} فإن من الدواب المبثوثة ما ينتفع به الناس من أكل لحوم أوانسها ووحوشها والانتفاع بألبانها وأصوافها وجلودها وقرونها وأسنانها والحمل عليها والتجمل بها في مرابطها وغدوها ورواحها، ثم من نعمة منافع النبات من الحب والثمر والكلأ والكمأة. وإذ كانت البحار من جملة الأرض فقد شمل الانتفاع بدواب البحر فالله كما أبدع الصنع أسبغ النعمة فأرانا آثار الحكمة والرحمة.
وجملة {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} إلى آخرها نتيجة الاستدلال بخلق السماء والأرض والجبال والدواب وإنزال المطر. واسم الإشارة إلى ما تضمنه قوله: {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} إلى قوله: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} . والإتيان به مفردا بتأويل المذكور والانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله: {خَلْقُ اللَّهِ} التفاتا لزيادة التصريح بأن الخطاب وارد من جانب الله بقرينة قوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} . وكذلك يكون الانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله: {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} التفاتا لمراعاة العود إلى الغيبة في قوله: {خَلْقُ اللَّهِ} . ويجوز أن تكون الرؤية من قوله: {فَأَرُونِي} علمية، أي فأنبئوني، والفعل معلقا عن العمل بالاستفهام بـ {مَاذَا} . فيتعين أن يكون {فَأَرُونِي} تهكما لأنهم لا يمكن لهم أن يكافحوا الله زيادة على كون الأمر مستعملا في التعجيز، لكن التهكم أسبق للقطع بأنهم لا يتمكنون من مكافحة الله قبل أن يقطعوا بعجزهم عن تعيين مخلوق خلقه من دون الله قطعا نظريا.
وصوغ أمر التعجيز من مادة الرؤية البصرية أشد في التعجيز لاقتضائها الاقتناع منهم بأن يحضروا شيئا يدعون أن آلهتهم خلقته. وهذا كقول حطائط بن يعقر النهشلي1 وقيل حاتم الطائي:
أريني جوادا مات هزلا2 لعلني ... أرى ما تزين أو بخيلا مخلدا
أي: أحضرني جوادا مات من الهزال وأرينيه لعلي أرى مثل ما رأيتيه.
والعرب يقصدون في مثل هذا الغرض الرؤية البصرية، ولذلك يكثر أن يقول: ما
ـــــــ
1 حُطائط بضم الحاء: القصير.
2 هَزلاً بفتح الهاء: الهزال.

رأت عيني، وانظر هل ترى. وقال امرؤ القيس:
فلله عينا من رأى من تفوق ... أشت وأنأى من فراق المحصب
وإجراء اسم موصول العقلاء على الأصنام مجازاة للمشركين إذ يعدنهم عقلاء. و {مِنْ دُونِهِ} صلة الموصول. و"دون" كناية عن الغير، و {مِنْ} جارة لاسم المكان على وجه الزيادة لتأكيد الاتصال بالظرف.
و {بَلْ} للإضراب الانتقالي من غرض المجادلة إلى غرض تسجيل ضلالهم، أي في اعتقادهم إلهية الأصنام، كما يقال في المناظرة: دع عنك هذا وانتقل إلى كذا.
و {الظَّالِمُونَ} : المشركون. والضلال المبين: الكفر الفظيع، لأنهم أعرضوا عن دعوة الإسلام للحق، وذلك ضلال، وأشركوا مع الله غيره في الإلهية، فذلك كفر فظيع. وجيء بحرف الظرفية اكتناف الضلال بهم في سائر أحوالهم، أي شدة ملابسته إياهم.
[12] {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
الواو عاطفة قصة لقمان على قصة النضر بن الحارث المتقدمة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] باعتبار كونها تضمنت عجيب حاله في الضلالة من عنايته بلهو الحديث ليضل عن سبيل الله ويتخذ سبيل الله هزؤا، وباعتبار كون قصة لقمان متضمنة عجيب حال لقمان في الاهتداء والحكمة، فهما حالان متضادان؛ فقطع النظر عن كون قصة النضر سيقت مساق المقدمة والمدخل إلى المقصود لأن الكلام لما طال في المقدمة خرجت عن سنن المقدمات إلى المقصودات بالذات فلذلك عطفت عطف القصص ولم تفصل فصل النتائج عقب مقدماتها. وقد تتعدد الاعتبارات للأسلوب الواحد فيتخير البليغ في رعيها كقوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} في سورة البقرة [49]، {ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} في سورة إبراهيم [6]. وافتتاح القصة بحر في التوكيد: لام القسم و"قد" للإنباء بأنها خبر عن أمر مهم واقع.
و {لُقْمَانَ} اسم رجل حكيم صالح. وأكبر الروايات في شانه التي يعضد بعضها وإن كانت أسانيدها ضعيفة تقتضي أنه كان من السود، فقيل هو من بلاد النوبة، وقيل من الحبشة.

وليس هو لقمان بن عاد الذي قال المثل المشهور: إحدى حطيات لقمان والذي ذكره أبو المهوش الأسدي أو يزيد بن عمر يصعق في قوله:
تراه يطوف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
ويعرف ذلك بلقمان صاحب النسور، وهو الذي له ابن اسمه لقيم1 وبعضهم ذكر أن اسم أبيه باعوراء، فسبق إلى أوهام بعض المؤلفين2 أنه المسمى في كتب اليهود بلعام بن باعوراء المذكور خبره في "الإصحاحين" [22 و23] من "سفر العدد" ، ولعل ذلك وهم لأن بلعام ذلك رجل من أهل مدين كان نبيا في زمن موسى عليه السلام، فلعل التوهم جاء من اتحاد اسم الأب، أو من ظن أن بلعام يرادغ معنى لقمان لأن بلعام من البلع ولقمان من اللقم فيكون العرب سموه بما يرادف اسمه في العبرانية. وقد اختلف السلف في أن لقمان المذكور في القرآن كان حكيما أو نبيا. فالجمهور قالوا: كان حكيما صالحا. واعتمد مالك في "الموطأ" على الثاني، فذكره في "جامع الموطأ" مرتين بوصف لقمان الحكيم، وذلك يقتضي أنه اشتهر بذلك بين علماء المدينة. وذكر ابن عطية: أن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله تعالى فأحبه فمن عليه بالحكمة" ويظهر من الآيات المذكورة في قصته هذه أنه لم يكن نبيا لأنه لم يمتن عليه بوحي ولا بكلام الملائكة. والاقتصار على أنه أوتي الحكمة يومئ إلى أنه ألهم الحكمة ونطق بها، ولأنه لما ذكر تعليمه لابنه قال تعالى {وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان: 13] وذلك مؤذن بأنه تعليم لا تبليغ تشريع.
وذهب عكرمة والشعبي: أن لقمان نبي ولفظ الحكمة يسمح بهذا القول لأن الحكمة أطلقت على النبوءة في كثير من القرآن كقوله في داود { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]. وقد فسرت الحكمة في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] بما يشمل النبوءة. وإن الحكمة "معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه" وأعلاها النبوءة لأنها علم بالحقائق مأمون من أن يكون مخالفا لما هي عليه في نفس الأمر إذ النبوءة متلقاة من الله الذي لا يعزب عن عمله شيء. وسيأتي أن إيراد قوله تعالى:
ـــــــ
1 وهو المعني في البيت الذي أنشده ابن بري:
لقيم بن لقمان من أخته
فكان ابن أخت له وابنُه
2 هو لاروس صاحب دوائر المعارف الفرنسية.

{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14] في أثناء كلام لقمان يساعد هذا القول.
وذكر أهل التفسير والتاريخ أنه كان في زمن داود. وبعضهم يقول إنه كان ابن أخت أيوب أو ابن خالته، فتعين أنه عاش في بلاد إسرائيل. وذكر بعضهم أنه كان عبدا فأعتقه سيده وذكر ابن كثير عن مجاهد: أن لقمان كان قاضيا في بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام، ولا يوجد ذكر ذلك في كتب الإسرائيليين. قيل كان راعيا لغنم وقيل كان نجارا وقيل خياطا. وفي "تفسير ابن كثير" عن ابن وهب أن لقمان كان عبدا لبني الحسحاس وبنو الحسحاس من العرب وكان من عبيدهم سحيم العبد الشاعر المخضرم الذي قتل في مدة عثمان.
وحكمة لقمان مأثورة في أقواله الناطقة عن حقائق الأحوال والمقربة للخفيات بأحسن الأمثال. وقد عني بها أهل التربية وأهل الخير، وذكر القرآن منها ما في هذه السورة، وذكر منها مالك في "الموطأ" بلاغين في كتاب "الجامع" وذكر حكمة له في كتاب "جامع العتبية" وذكر منها أحمد بن حنبل في "مسنده" ولا نعرف كتابا جمع حكمة لقمان. وفي "تفسير القرطبي" قال وهب بن منبه: قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب. ولعل هذا إن صح عن وهب بن منبه كان مبالغة في الكثرة.
وكان لقمان معروفا عند خاصة العرب. قال ابن إسحاق في "السيرة" : قدم سويد ابن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك? قال: مجلة لقمان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علي، فعرضها عليه، فقال: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله. قال ابن إسحاق: فقدم المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج وكان قتله قيل يوم بعاث. وكان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم وكان قومه يدعونه الكامل اهـ. وفي "الاستيعاب" لبن عبد البر: أنا شاك في إسلامه كما شك غيري. وقد تقدم في صدر الكلام على هذه السورة أن قريشا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقمان وابنه وذلك يقتضي أنه كان معروفا للعرب. وقد انتهى الي حين كتابة هذا التفسير من حكم لقمان المأثورة ثمان وثلاثون حكمة غير ما ذكر في هذه الآية وسنذكرها عند الفراغ من تفسير هذه الآيات.
والإيتاء: الإعطاء، وهو مستعار هنا للإلهام أو الوحي.
و {لُقْمَانُ} : اسم علم مادته مادة عربية مشتق من اللقم. والأظهر أن العرب عربوه

بلفظ قريب من ألفاظ لغتهم على عادتهم كما عربوا شاول باسم طالوت وهو ممنوع من الصرف لزيادة الألف والنون لا للعجمة.
وتقدم تعريف {الْحِكْمَةَ} عند قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} في سورة البقرة [269] وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} في سورة النحل [125].
و {أَنِ} في قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} تفسيرية وليست تفسيرا لفعل {آتَيْنَا} لأنه نصب مفعوله وهو الحكمة، فتكون {أَنِ} مفسرة للحكمة باعتبار أن الحكمة هنا أقوال أوحيت إليه أو ألهمها فيكون في الحكمة معنى القول دون حروفه فيصلح أن تفسر بـ {أَنِ} التفسيرية، كما فسرت حاجة في قول الشاعر الذي لم يعرف وهو من شواهد العربية:
إن تحملا حاجة لي خف محملها ... تستوجبا منة عندي بها ويدا
أن تقرءان علي أسماء ويحكما ... مني السلام وأن لا تخبرا أحدا
والصوفية وحكماء الإشراق يرون خواطر الأصفياء حجة ويسمونها إلهاما. ومال إليه جم من علمائنا. وقد قال قطب الدين الشبرازي في "ديباجة شرحه على المفتاح" أما بعد إني قد ألقي إلي على سبيل الإنذار، من حضرة الملك الجبار، بلسان الإلهام، إلا كوهم من الأوهام، ما أورثني التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار السرور الخ.
وكان أول ما لقنه لقمان من الحكمة هو الحكمة في نفسه بأن أمره الله يشكره على ما هو محفوف به من نعم الله التي منها نعمة الاصطفاء لإعطائه الحكمة وإعداده لذلك بقابليته لها. وهذا رأس الحكمة لتضمنه النظر في دلائل نفسه وحقيقته قبل النظر في حقائق الأشياء وقبل التصدي لإرشاد غيره، وأن أهم النظر في حقيقته هو الشعور بوجوده على حالة كاملة والشعور بموجده ومفيض الكمال عليه، وذلك كله مقتض لشكر موجده على ذلك. وأيضا فإن شكر الله من الحكمة، إذ الحكمة تدعو إلى معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه لقصد العمل بمقتضى العلم، فالحكيم يبث في الناس تلك الحقائق على حسب قابلياتهم بطريقة التشريع تارة والموعظة أخرى، والتعليم لقابليه مع حملهم على العمل بما علموه من ذلك، وذلك العمل من الشكر إذ الشكر قد عرف بأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من مواهب ونعم فيما خلق لأجله، فكان شكر الله هو الأهم في الأعمال المستقيمة فلذلك كان رأس الحكمة لأن من الحكمة تقديم العلم بالأنفع على العلم بما هو دونه، فالشكر هو مبدأ الكمالات علما، وغايتها عملا.

وللتنبيه على هذا المعنى أعقب الله الشكر المأمور به ببيان أن فائدته لنفس الشاكر لا للمشكور بقوله: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأن آثار شكر الله كمالات حاصلة للشاكر ولا تنفع المشكور شيئا لغناه سبحانه عن شكر الشاكرين، ولذلك جيء به في صورة الشرط لتحقيق التعلق بين مضمون الشرط ومضمون الجزاء فإن الشرط أدل على ذلك من الإخبار. وجيء بصيغة حصر نفع الشكر في الثبوت للشاكر بقوله: {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي ما يشكر إلا لفائدة نفسه، ولام التعليل مؤذنة بالفائدة. وزيد ذلك تبينا بعطف ضده بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} لإفادة أن الإعراض عن الشكر بعد استشعاره كفر للنعمة وأن الله غني عن شكره بخلاف شأن المخلوقات إذ يكسبهم الشكر فوائد بين بني جنسهم تجر إليهم منافع الطاعة أو الإعانة أو الإغناء أو غير ذلك من فوائد الشكر للمشكورين على تفاوت مقاماتهم، والله غني عن جميع ذلك، وهو {حَمِيدٌ} ، أي كثير المحمودية بلسان حال الكائنات كلها حتى حال الكافر به كما قال تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} سورة الرعد [15].
ومن بلاغة القرآن وبديع إيجازه أن كان قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} جامعا لمبدأ الحكمة التي أوتيها لقمان، ولأمره بالشكر على ذلك، فقد جمع قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} الإرشاد إلى الشكر، مع الشروع في الأمر المشكور عليه تنبيها على المبادرة بالشكر عند حصول النعمة. وإنما قوبل الإعراض عن الشكر بوصف الله بأنه حميد لأن الحمد والشكر متقاربان، وفي الحديث: "الحمد رأس الشكر" ، فلما لم يكن في أسماء الله تعالى اسم من مادة الشكر إلا اسمه الشكور وهو بمعنى شاكر، أي: شاكر لعباده عبادتهم إياه عبر هنا باسمه {حَمِيدٌ} . وجيء في فعل {يَشْكُرُ} بصيغة المضارع للإيماء إلى جدارة الشكر بالتجديد.
واللام في قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي} [لقمان: 14} داخلة على مفعول الشكر وهي لام ملتزم زيادتها مع مادة الشكر للتأكيد والتقوية، وتقدم في قوله: {وَاشْكُرُوا لِي} في سورة البقرة [152].
[13] {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
عطف على جملة {آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] لان الواو نائبة مناب الفعل فمضمون هذه الجملة يفسر بعض الحكمة التي أوتيها لقمان. والتقدير: وآتيناه الحكمة إذ

قال لابنه فهو في وقت قوله ذلك لابنه قد أوتي حكمة فكان ذلك القول من الحكمة لا محالة، وكل حالة تصدر عنه فيها حكمة هو فيها قد أوتي حكمة.
و {إِذْ} ظرف متعلق بالفعل المقدر الذي دلت عليه واو العطف، أي والتقدير: وآتيناه الحكمة إذ قال لابنه. وهذا انتقال من وصفه بحكمة الاهتداء إلى وصفه بحكمة الهدي والإرشاد. ويجوز أن يكون {إِذْ قَالَ} ظرفا متعلقا بفعل "اذكر" محذوفا.
وفائدة ذكر الحال يقوله: {وَهُوَ يَعِظُهُ} الإشارة إلى أن قوله هذا كان لتلبس ابنه بالإشراك، وقد قال جمهور المفسرين: إن ابن لقمان كان مشركا فلم يزل لقمان يعظه حتى آمن بالله وحده، فإن الوعظ زجر مقترن بتخويف قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء: 63] ويعرف المزجور عنه بمتعلق فعل الموعظة فتعين أن الزجر هنا عن الإشراك بالله. ولعل ابن لقمان كان يدين بدين قومه من السودان فلما فتح الله على لقمان بالحكمة والتوحيد أبى ابنه متابعته فأخذ يعظه حتى دان بالتوحيد، وليس استيطان لقمان بمدينة داود مقتضيا أن تكون عائلته تدين بدين اليهودية.
وأصل النهي عن الشيء أن يكون حين التلبس بالشيء المنهي عنه أو عند مقاربة التلبس به، والأصل ان لا ينهي عن شيء منتف عن المنهي. وقد ذكر المفسرون اختلافا في اسم ابن لقمان فلا داعي إليه.
وقد جمع لقمان في هذه الموعظة أصول الشريعة وهي: الاعتقادات، والأعمال، وأدب المعاملة، وأدب النفس.
وافتتاح الموعظة بنداء المخاطب الموعوظ مع أن توجيه الخطاب مغن عن ندائه لحضوره بالخطاب، فالنداء مستعمل مجازا في طلب حضور الذهن لوعي الكلام وذلك من الاهتمام بالغرض المسوق له الكلام كما تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [يوسف: 4] وقوله: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ} في سورة يوسف [5] وقوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} في سورة العقود [112] وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} في سورة مريم [42].
و {بُنَيَّ} تصغير "ابن" مضافا إلى ياء المتكلم فلذلك كسرت الياء. وقرأه الجمهور بكسر ياء {بُنَيَّ} مشددة. وأصله: يا بنييي بثلات ياءات إذ أصله الأصيل يا بنيوي لأن كلمة ابن واوية اللام الملتزمة حذفها فلما صغر رد إلى أصله، ثم لما التقت ياء التصغير ساكنة قبل واو الكلمة المتحركة بحركة الإعراب قلبت الواو ياء لتقاربهما وأدغمتا، ولما

نودي وهو مضاف إلى ياء المتكلم حذفت ياء المتكلم لجواز حذفها في النداء وكراهية تكرر الأمثال، وأشير إلى الياء المحذوفة بإلزامه الكسر في أحوال الإعراب الثلاثة لأن الكسرة دليل على ياء المتكلم. وتقدم في سورة يوسف.والتصغير فيه لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له، وهو في مقام الموعظة والنصيحة إيماء وكناية عن إمحاض النصح وحب الخير، ففيه حث على الامتثال للموعظة.
ابتدأ لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتها عن مبادئ الفساد والضلال، فإن إصلاح الاعتقاد أصل الإصلاح العمل. وكان أصل فساد الاعتقاد أحد أمرين هما الدهرية والإشراك، فكان قوله: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} يفيد إثبات وجود إله وإبطال أن يكون له شريك في إلهيته. وقرأ حفص عن عاصم في المواضع الثلاثة في هذه السورة {يَا بُنَيَّ} بفتح الياء مشددة على تقدير: يا بنيا بالألف وهي اللغة الخامسة في المنادي المضاف إلى ياء المتكلم ثم حذفت الألف واكتفي بالفتحة عنها، وهذا سماع.
وجملة {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} تعليل للنهب عنه وتهويل لأمره، فإنه ظلم لحقوق الخالق، وظلم المرء لنفسه إذ يضع نفسه في حضيض العبودية لأخس الجمادات، وظلم لأهل الإيمان الحق إذ يبعث على اضطهادهم وأذاهم، وظلم لحقائق الأشياء بقلبها وإفساد تعلقها. وهذا من جملة كلام لقمان كما هو ظاهر السياق، ودل عليه الحديث في "صحيح مسلم" عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . وجوز ابن عطية أن يكون جملة {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} من كلام الله تعالى أي معترضة بين كلم لقمان. فقد روي عن ابن مسعود أنهم لما قالوا ذلك أنزل الله تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وانظر من روى هذا ومقدار صحته.
[14، 15] {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

إذا درجنا على أن لقمان لم يكن نبيا مبلغا عن الله وإنما كان حكيما مرشدا كان هذا الكلام اعتراضا بين كلامي لقمان لأن صيغة هذا الكلام مصوغة على أسلوب الإبلاغ والحكاية لقول من أقوال الله. والضمائر ضمائر العظمة جرته مناسبة حكاية نهي لقمان لابنه عن الإشراك وتفظيعه بأنه عظيم. فذكر الله هذا لتأكيد ما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بتعميم النهي في الأشخاص والأحوال لئلا يتوهم متوهم أن النهي خاص بابن لقمان أو ببعض الأحوال فحكى الله أن الله أوصى بذلك كل إنسان وأن لا هوادة فيه ولو في أحرج الأحوال وهي حال مجاهدة الوالدين أولادهم على الإشراك. وأحسن من هذه المناسبة أن تجعل مناسبة هذا الكلام أنه لما حكي وصاية لقمان لابنه بما هو شكر الله بتنزيهه عن الشرك في الإلهية بين الله أنه تعالى أسبق منة على عباده إذ أوصى الأبناء ببر الآباء فدخل في العموم المنة على لقمان جزاء على رعيه لحق الله في ابتداء موعظة ابنه فالله أسبق بالإحسان إلى الذين أحسنوا برعي حقه. ويقوي هذا التفسير اقتران شكر الله وشكر الوالدين في الأمر.
وإذا درجنا على أن لقمان كان نبيا فهذا الكلام مما أبلغه لقمان لابنه وهو مما أوتيه من الوحي ويكون قد حكي بالأسلوب الذي أوحي به إليه على نحو أسلوب قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان: 12]. وهذا الاحتمال أنسب بسياق الكرم، ويرجحه اختلاف الأسلوب بينها وبين آيتي سورة العنكبوت وسورة الأحقاف لأن ما هنا حكاية ما سبق في أمة أخرى والأخريين خطاب أنف لهذه الأمة. وقد روي أن لقمان لما أبلغ ابنه هذا قال له: إن الله رضيني لك فلم يوصيني بك ولم يرضك لي فأوصاك بي.
والمقصود من هذا الكلام هو قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} إلى آخره... وما قبله تمهيد له وتقرير لواجب بر الوالدين ليكون النهي عن طاعتهما إذا أمرا بالإشراك بالله نهيا عنه في أولى الحالات بالطاعة حتى يكون النهي عن الشرك فيما دون ذلك من الأحوال مفهوما بفحوى الخطاب مع ما في ذلك من حسن الإدماج المناسب لحكمة لقمان سواء كان هذا من كلام لقمان أو كان من جانب الله تعالى.
وعلى كلا الاعتبارين لا يحسن ما ذهب إليه جمع من المفسرين أن هذه الآية نزلت في قضية إسلام سعد بن أبي وقاص وامتعاض أمه، لعدم مناسبته السياق، ولأنه قد تقدم أن نظير هذه الآية في سورة العنكبوت نزل في ذلك، وأنها المناسبة لسبب النزول فإنها أخليت عن الأوصاف التي فيها ترقيق على الأم بخلاف هذه، ولا وجه لنزول آيتين في

غرض واحد ووقت مختلف وسيجيء بيان الموصى به.
والوهن -بسكون الهاء- مصدر وهن يهن من باب ضرب. ويقال: وهن -بفتح الهاء- على أنه مصدر وهن يوهن كوجل يوجل. وهو الضعف وقلة الطاقة على تحمل شيء. وانتصب {وَهْناً} على الحال من {أُمُّهُ} مبالغة في ضعفها حتى كأنها نفس الوهن، أي واهنة في حمله، و {عَلَى وَهْنٍ} صفة لـ {وَهْناً} أي وهنا واقعا على وهن، كما يقال: رجع عودا على بدء، إذا استأنف عملا فرغ منه فرجع إليه، أي بعد بدء، أو {عَلَى} بمعنى "مع" كما في قول الأحوص:
إني على ما قد علمت محسد ... أنمي على البغضاء والشنآن
فإن حمل المرأة يقارنه التعب من ثقل الجنين في البطن، والضعف من انعكاس دمها إلى تغذية الجنين، ولا يزال ذلك الضعف يتزايد بامتداد زمن الحمل فلا جرم أنه وهن على وهن.
وجملة {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} في موضع التعليل للوصاية بالوالدين قصدا لتأكيد تلك الوصاية لأن تعليل الحكم يفيده تأكيدا، ولأن في مضمون هذه الجملة ما يثير الباعث في نفس الولد على أن يبر بأمه ويستتبع البر بأبيه. وإنما وقع تعليل الوصاية بالوالدين بذكر أحوال خاصة بأحدهما وهي الأم اكتفاء بأن تلك الحالة تقتضي الوصاية بالأب أيضا للقياس فإن الأب يلاقي مشاق وتعبا في القيام على الأم لتتمكن من الشغل بالطفل في مدة حضانته ثم هو يتولى تربيته والذب عنه حتى يبلغ أشده ويستغني عن الإسعاف كما قال تعالى {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24]، فجمعهما في التربية في حال الصغر مما يرجع إلى حفظه وإكمال نشأته. فلما ذكرت هنا الحالة التي تقتضي البر بالأم من الحمل والإرضاع كانت منبهة إلى ما للأب من حالة تقتضي البر به على حساب ما تقتضيه تلك العلة في كليهما قوة وضعفا. ولا يقدح في القياس التفاوت بين المقيس والمقيس عليه في قوة الوصف الموجب للإلحاق. وقد نبه على هذا القياس تشريكهما في التحكم عقب ذلك بقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} وقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} . وحصل من هذا النظم قضاء حق الإيجاز.
وأما رجحان الأم في هذا الباب عند التعارض في مقتضيات البرور تعارضا لا يمكن معه الجمع فقال ابن عطية في "تفسيره" : شرك الله في هذه الآية الأم والأب في رتبة الوصية بهما ثم خصص الأم بذكر درجة الحمل ودرجة الرضاع فتحصل للأم ثلاث مراتب

وللأب واحدة، وأشبه ذلك " قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل: من أبر? قال: أمك. قال: ثم من? قال: أمك. قال: ثم من? قال: أمك. قال: ثم من? قال: أباك" . فجعل له الربع من المبرة. وهذا كلام منسوب مثله لابن بطال في شرح "صحيح البخاري" . ولا يخفى أن مساق الحديث لتأكيد البر بالأم إذ قد يقع التفريط في الوفاء بالواجب للأم من الابن اعتمادا على ما يلاقيه من اللين منها بخلاف جانب الأب فإنه قوي ولأبنائه توق من شدته عليهم، فهذا هو مساق الحديث. ولا معنى لأخذه على ظاهره حتى نذهب إلى تجزئة البر بين الأم والأب أثلاثا أو أرباعا. وهو ما استشكله القرافي في " فائدة من الفرق الثالث والعشرين" ، وحسبنا نظم هذه الآية البديع في هذا الشأن. وأما لفظ الحديث فهو مسوق لتأكيد البر بالأم خشية التفريط فيه. وليس معنى "ثم" فيه إلا محاكاة قول السائل ثم من بقرينة أنه عطف بها لفظ الأم في المرتين ولا معنى لتفضيل الأم على نفسها في البر. وإذ كان السياق مسوقا للاهتمام تعين أن عطف الأب على الأم في المرة الثالثة عطف في الاهتمام فلا ينتزع منه ترجيح عند التعارض. ولعل الرسول عليه الصلاة والسلام علم من السائل إرادة الترخيص له في عدم البر. وقد قال مالك سأله: أن أباه في بلد السودان كتب إليه أن يقدم عليه وأن أمه منعته فقال له مالك: أطع أباك ولا تعص أمك. وهذا يقتضي إعراضه عن ترجيح جانب أحد الأبوين وأنه متوقف في هذا التعارض ليحمل الابن على ترضية كليهما. وقال الليث: يرجح جانب الأم. وقال الشافعي: يرجح جانب الأب.
وجملة {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} عطف على جملة {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} الخ، فهي في موقع الحال أيضا. وفي الجملة تقدير ضمير رابط إياها بصاحبها، إذ التقدير: وفصالها إياه، فلما أضيف الفصال إلى مفعوله علم أن فاعله هو الأم.
والفصال: اسم للفطام، فهو فصل عن الرضاعة. وتقدم في قوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} في سورة البقرة [233]. وذكر الفصال في معرض تعليل حقية الأم بالبر، لأنه يستلزم الإرضاع من قبل الفصال، وللإشارة إلى ما تتحمله الأم من كدر الشفقة على الرضيع حين فصاله، وما تشاهده من حزنه وألمه في مبدأ فطامه. وذكر لمدة فطامه أقصاها وهو عامان لأن ذلك أنسب بالترقيق على الأم، وأشير إلى أنه قد يكون الفطام قبل العامين بحرف الظرفية لأن الظرفية تصدق مع استيعاب المظروف جميع الظرف، ولذلك فموقع {فِي} .

أبلغ من موقع "من" التبعيضية في قول سبرة بن عمرو الفقعسي:
ونشرب في أثمانها ونقامر
لأنه يصدق بأن يستغرق الشراب والمقامرة كامل أثمان إبله. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} في سورة النساء [5]. وقد حمله علي بن أبي طالب أو ابن عباس على هذا المعنى فأخذ منه أن أقل مدة الحمل ستة أشهر جمعا بين هذه الآية وآية سورة الأحقاف كما سيأتي هنالك.
وجملة {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} تفسير لفعل {وَصَّيْنَا} . و {إِنْ} تفسيرية، وإنما فسرت الوصية بالوالدين بما فيه الأمر بشكر الله مع شكرهما على وجه الإدماج تمهيدا لقوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} الخ.
وجملة {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} استئناف للوعظ والتحذير من مخالفة ما أوصى الله به من الشكر له. وتعريف {الْمَصِيرُ} تعريف الجنس، أي مصير الناس كلهم. ولك أن تجعل أل عوضا عن المضاف إليه. وتقديم المجرور للحصر، أي ليس للأصنام مصير في شفاعة ولا غيرها. وتقدم الكلام على نظير قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} إلى {فَلا تُطِعْهُمَا} في سورة العنكبوت [8], سوى أنه قال هنا {عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} وقال في سورة العنكبوت: {لِتُشْرِكَ بِي} فأما حرف {عَلَى} فهو أدل على تمكن المجاهدة، أي مجاهدة قوية للإشراك، والمجاهدة: شدة السعي والإلحاح. والمعنى: إن ألحا وبالغا في دعوتك إلى الإشراك بي فلا تطعهما. وهذا تأكيد للنبيء عن الإصغاء إليهما إذا دعوا إلى الإشراك. وأما آية العنكبوت فجيء فيها بلام العلة لظهور أن سعدا كان غنيا عن تأكيد النهي عن طاعة أمه لقوة إيمانه.
وقال القرطبي: إن امرأة لقمان وابنه كانا مشركين فلم يزل لقمان يعظهما حتى آمنا، وبه يزيد ذكر مجاهدة الوالدين على الشرك اتضاحا.
والمصاحبة: المعاشرة. ومنه حديث معاوية بن حيدة "أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحق الناس بحسن صحابتي? قال: أمك" الخ.
والمعروف: الشيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر فهو الشيء الحسن، أي صاحب والديك صحبة حسنة, وانتصب {مَعْرُوفاً} على أنه وصف لمصدر محذوف مفعول مطلق لـ {صَاحِبْهُمَا} ، أي صحابا معروفا لأمثالهما. وفهم منه اجتناب ما ينكر في

مصاحبتهما، فشمل ذلك معاملة الابن أبويه بالمنكر، وشمل ذلك أن يدعو الوالد إلى ما ينكره الله ولا يرضى به ولذلك لا يطاعان إذا أمرا بمعصية. وفهم من ذكر {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} أثر قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} الخ... أن الأمر بمعاشرتهما بالمعروف شامل لحالة كون الأبوين مشركين فإن على الابن معاشرتهما بالمعروف ما الإحسان إليهما وصلتهما. وفي الحديث: أن أسماء بنت أبي بكر قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي جاءت راغبة أفأصلها? فقال: نعم صلي أمك، وكانت مشركة وهي قتيلة بنت عبد العزى. وشمل المعروف ما هو معروف لهما أن يفعلاه في أنفسهما، وإن كان منكرا للمسلم فلذلك قال فقهاؤنا: إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكرا في الدينين فلا يحل للمسلم أن يشايع أحد أبويه عليه. واتباع سبيل من أناب هو الاقتداء بسيرة المنيبين لله، أي الراجعين إليه، وقد تقدم ذكر الإنابة في سورة الروم [33] عند قوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} وفي سورة هود [88]. فالمراد بمن أناب: المقلعون عن الشرك وعن المنهيات التي منها عقوق الوالدين وهم الذين يدعون إلى التوحيد ومن اتبعوهم في ذلك.
وجملة {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} معطوفة على الجمل السابقة و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي المفيد للاهتمام بما بعدها، أي وعلاوة على ذلك كله إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. وضمير الجمع للإنسان والوالدين، أي مرجع الجميع. وتقديم المجرور للاهتمام بهذا الرجوع أو هو للتخصيص، أي لا ينفعكم شيء مما تأملونه من الأصنام. وفرع على هذا {فَأُنَبِّئُكُمْ} الخ... والإنباء كناية عن إظهار الجزاء على الأعمال لأن الملازمة بين إظهار الشيء وبين العلم به ظاهرة. وجملة {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} وعد ووعيد. وفي هذه الضمائر تغليب الخطاب على الغيبة لأن الخطاب أهم لأنه أعرف.
[16] {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}
تكرير النداء لتجديد نشاط السامع لوعي الكلام. وقرأ نافع وأبو جعفر {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ} برفع {مِثْقَالَ} على أنه فاعل {تَكُ} من "كان" التامة. وإنما جيء بفعله بتاء المضارعة للمؤنثة، وأعيد عليه الضمير في قوله: {بِهَا} مؤنثا مع أن {مِثْقَالَ} لفظ غير مؤنث لأنه أضيف إلى {حَبَّةٍ} فاكتسب التأنيث من المضاف إليه، وهو استعمال كثير إذا

كان المضاف لو حذف لما اختل الكلام بحيث يستغني بالمضاف إليه عن المضاف، وعليه فضمير {إِنَّهَا} للقصة والحادثة وهو المسمى بضمير الشأن, وهو يقع بصورة ضمير المفردة المؤنثة بتأويل القصة، ويختار تأنيث هذا الضمير إذا كان في القصة لفظ مؤنث كما في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46]، ويكثر وقوع ضمير الشأن بعد "أن" كقوله تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه: 74]، ومن ذلك تقدير ضمير الشأن اسما لحرف "أن" المفتوحة المخففة، وهو يفيد الاهتمام بإقبال المخاطب على ما يأتي بعده، فاجتمع في هذه الجملة ثلاثة مؤكدات: النداء، وإن، وضمير القصة، لعظم خطر ما بعده المقيد تقرير وصفه تعالى بالعلم المحيط بجميع المعلومات من الكائنات، ووصفه بالقدرة المحيطة بجميع الممكنات بقرينة قوله: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} .
وقد أفيد ذلك بطريق دلالة الفحوى؛ فذكر أدق الكائنات حالا من حيث تعلق العلم والقدرة به، وذلك أدق الأجسام المختفي في أصلب مكان أو أقصاه وأعزه منالا، أو أوسعه وأشده انتشارا، ليعلم أن ما هو أقوى منه في الظهور والدنو من التناول أولى بأن يحيط به علم الله وقدرته. وقرأه الباقون بنصب {مِثْقَالَ} على الخبرية لـ {تَكُ} من "كان" الناقصة، وتقدير اسم لها يدل عليه المقام مع كون الفعل مسندا لمؤنث، أي إن تك الكائنة، فضمير {إِنَّهَا} مراد منه الخصلة من حسنة أو سيئة أخذا من المقام.
والمثقال بكسر الميم: ما يقدر به النقل ولذلك صيغ على زنة اسم الآلة.
والحبة: واحدة الحب وهو بذر النبات من سنابل أو قطنية بحيث تكون تلك الواحدة زريعة لنوعها من النبات، وقد تقدم في سورة البقرة [261] قوله: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} في سورة الأنعام [95].
والخردل: نبت له جذر وساق قائمة متفرعة أسطوانية أوراقها كبيرة يخرج أزهارا صغيرة صفرا سنبلية تتحول إلى قرون دقيقة مربعة الزوايا تخرج بزورا دقيقة تسمى الخردل أيضا، ولب تلك البزور شديد الحرارة يلدغ اللسان والجلد، وهي سريعة التفتق ينفتق عنها قشرها بدق أو إذا بلت بمائع، فتستعمل في الأدوية ضمادات على المواضع التي فيها التهاب داخلي من نزلة أو ذات جنب وهو كثير الاستعمال في الطب قديما وحديثا. وقد أخذ الأطباء يستغنون عنه بعقاقير أخرى. وتقدم نظير هذا في سورة الأنبياء [47] {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} .

وقوله: {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ} عطف على {فِي صَخْرَةٍ} لأن الصخرة من أجزاء الأرض فذكر بعدها {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ} على معنى أو كانت في أعز منالا من الصخرة، وعطف عليه {أَوْ فِي الْأَرْضِ} وإنما الصخرة جزء من الأرض لقصد تعميم الأمكنة الأرضية فإن الظرفية تصدق بهما، أي ذلك كله سواء في جانب علم الله وقدرته، كأنه قال: فتك في صخرة أو حيث كانت من العالم العلوي والعالم السفلي وهو معنى قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].
والإتيان كناية عن التمكن منها، وهو أيضا كناية رمزية عن العلم بها لأن الإتيان بأدق الأجسام من أقصى الأمكنة وأعمقها وأصلبها لا يكون إلا عن علم بكونها في ذلك المكان وعلم بوسائل استخراجها منه.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} يجوز أن تكون من كلام لقمان فهي كالمقصد من المقدمة أو كالنتيجة من الدليل، ولذلك فصلت ولم تعطف لأن النتيجة كبدل الاشتمال يشتمل عليها القياس ولذلك جيء بالنتيجة كلية بعد الاستدلال بجزئيه. وإنما لم نجعلها تعليلا لأن مقام تعليم لقمان ابنه يقتضي أن الابن جاهل بهذه الحقائق، وشرط التعليل أن يكون مسلما معلوما قبل العلم بالمعلل ليصح الاستدلال به.
ويجوز أن تكون معترضة بين كلام لقمان تعليما من الله للمسلمين.
واللطيف: من يعلم دقائق الأشياء ويسلك في إيصالها إلى من تصلح به مسلك الرفق، فهو وصف مؤذن بالعلم والقدرة الكاملين، أي يعلم ويقدر وينفذ قدرته، وتقدم في قوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} في الأنعام [103]. ففي تعقيب {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} بوصفه بـ"اللطيف" إيماء إلى أن التمكن منها وامتلاكها بكيفية حقيقة تناسب قلق الصخرة واستخراج الخردلة منها مع سلامتها وسلامة ما اتصل بهما من اختلال نظام صنعه. وهنا قد استوفى أصول الاعتقاد الصحيح.
وجلمة {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] يجوز أن تكون من كلام لقمان وأن تكون متعرضة من كلام الله تعالى.
[17] {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .

انتقل من تعليمه أصول العقيدة إلى تعليمه أصول الأعمال الصالحة فابتدأها بإقامة الصلاة، والصلاة التوجه إلى الله بالخضوع والتسبيح والدعاء في أوقات معينة في الشريعة التي يدين بها لقمان، والصلاة عماد الأعمال لاشتمالها على الاعتراف بطاعة الله وطلب الاهتداء للعمل الصالح. وإقامة الصلاة إدامتها والمحافظة على أدائها في أوقاتها. وتقدم في أول سورة البقرة. وشمل الأمر بالمعروف الإتيان بالأعمال الصالحة كلها على وجه الإجمال ليتطلب بيانه في تضاعيف وصايا أبيه كما شمل النهي عن المنكر اجتناب الأعمال السيئة كذلك. والأمر بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يقتضي إتيان الأمر وانتهاءه في نفسه لأن الذي يأمر بفعل الخير وينهى عن فعل الشر يعلم ما في الأعمال من خير وشر، ومصالح ومفاسد، فلا جرم أن يتوقاها في نفسه بالأولوية من أمره الناس ونهيه إياهم. فهذه كلمة جامعة من الحكمة والتقوى إذ جمع لابنه الإرشاد إلى فعله الخير وبثه في الناس وكفه عن الشر وزجره الناس عن ارتكابه، ثم أعقب ذلك بأن أمره بالصبر على ما يصيبه. ووجه تعقيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بملازمة الصبر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يجران للقائم بهما معاداة من بعض الناس أو أذى من بعض فإذا لم يصبر على ما يصيبه من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو شك أن يتركهما. ولما كانت فائدة الصبر عائدة على الصابر بالأجر العظيم عد الصبر هنا في عداد الأعمال القاصرة على صاحبها ولم يلتفت إلى ما في تحمل أذى الناس من حسن المعاملة معهم حتى يذكر الصبر مع قوله: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] لأن ذلك ليس هو المقصود الأول من الأمر بالصبر.
والصبر: هو تحمل ما يحل بالمرء مما يؤلم أو يحزن. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} في سورة البقرة [45].
وجملة {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} موقعها كموقع جملة {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
والإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى المذكور من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما أصاب. والتأكيد للاهتمام.
والعزم مصدر بمعنى: الجزم والإلزام. والعزيمة: الإرادة التي لا تردد فيها. و {عَزْمِ} مصدر بمعنى المفعول، أي من معزوم الأمور، أي التي عزمها الله وأوجبها.
[18] {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ

فَخُورٍ}.
انتقل لقمان بابنه إلى الآداب في معاملة الناس فنهاه عن احتقار الناس وعن التفخر عليهم، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعد نفسه كواحد منهم.
وقرأ الجمهور {وَلا تُصاعِرْ} . وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب {وَلا تُصَعِّرْ} . يقال: صاعر وصعر، إذا أمال عنقه إلى جانب ليعرض عن جانب آخر، وهو مشتق من الصغر بالتحريك لداء يصيب البعير فيلوي منه عنقه فكأنه صيغ له صيغة تكلف بمعنى تكلف إظهار الصعر وهو تمثيل للاحتقار لأن مصاعرة الخد هيئة المحتقر المستخف في غالب الأحوال. قال عمرو بن حني التغلبي يخاطب بعض ملوكهم:
وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقوم
والمعنى: لا تحتقر الناس فالنهي عن الإعراض عنهم احتقارا لهم لا عن خصوص مصاعرة الخد فيشمل الاحتقار بالقول والشتم وغير ذلك فهو قريب من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] إلا أن هذا تمثيل كنائي والآخر كناية لا تمثيل فيها.
وكذلك قوله: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} تمثيل كنائي عن النهي عن التكبر والتفاخر لا عن خصوص المشي في حال المرح فيشمل الفخر عليهم بالكلام وغيره.
والمرح: فرط النشاط من فرح وازدهاء، ويظهر ذلك في المشي تبخترا واختيالا فلذلك يسمى ذلك المشي مرحا كما في الآية، فانتصابه على الصفة لمفعول مطلق، أي مشيا مرحا، وتقدم في سورة الإسراء [37]. وموقع قوله: {فِي الْأَرْضِ} بعد {لا تَمْشِ} مع أن المشي لا يكون إلا في الأرض هو الإيماء إلى أن المشي في مكان يمشي فيه الناس كلهم قويهم وضعيفهم، ففي ذلك موعظة للماشي مرحا أنه مساو لسائر الناس.
وموقع {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} موقع {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] كما تقدم. والمختال: اسم فاعل من اختال بوزن الافتعال من فعل خال إذا كان ذا خيلاء فهو خائل. والخيلاء: الكبر والازدهار، فصيغة الافتعال فيه للمبالغة في الوصف فوزن المختال مختيل فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا، فقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} مقابل قوله: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} ، وقوله: {فَخُورٍ} مقابل قوله: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} .
والفخور: شديد الفخر. وتقدم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} .

في سورة النساء [36].
ومعنى {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أن الله لا يرضى عن أحد من المختالين الفخورين، ولا يخطر ببال أهل الاستعمال أن يكون مفادة أن الله لا يحب مجموع المختالين الفخورين إذا اجتمعوا بناء على ما ذكره عبد القاهر من أن {كُلَّ} إذا وقع في حيز النفي مؤخرا عن أداته ينصب النفي على الشمول، فإن ذلك إنما هو في {كُلَّ} التي يراد منها تأكيد الإحاطة لا في {كُلَّ} التي يراد منها الأفراد، والتعويل في ذلك على القرائن. على أنا نرى ما ذكره الشيخ أمر أغلبي غير مطرد في استعمال أهل اللسان ولذلك نرى صحة الرفع والنصب في لفظ "كل" في قول أبي النجم العجلي:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع
وقد بينت ذلك في تعليقاتي على دلائل الإعجاز.
وموقع جملة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} يجوز فيه ما مضى في جملة {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وجملة {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، وجملة {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
[19] {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}
بعد أن بين له آداب حسن المعاملة مع الناس قفاها بحسن الآداب في حالته الخاصة، وتلك حالتا المشي والتكلم، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه.
والقصد: الوسط العدل بين طرفين، فالقصد في المشي هو أن يكون بين طرف التبختر وطرف الدبيب ويقال: قصد في مشيه. فمعنى {اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} ارتكب القصد.
والغض: نقص قوة استعمال الشيء. يقال: غض بصره، إذا خفض نظره فلم يحدق. وتقدم قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} في سورة النور [30]. فغض الصوت: جعله دون الجهر.
وجيء بـ {مِنْ} الدالة على التبعيض لإفادة أنه بغض بعضه، أي بعض جهره، أي ينقص من جهورته ولكنه لا يبلغ به إلى التخافت والسرار.
وجملة {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} تعليل علل به الأمر بالغض من صوته باعتبارها متضمنة تشبيها بليغا، أي لأن صوت الحمير أنكر الأصوات. ورفع الصوت في

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68