كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

أقوالا حسنة يقولونها بينهم. وقد ذكر بعضها في قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وفي قوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} .
ويجوز أن يكون المعنى: أنهم يرشدون إلى أماكن يسمعون فيها أقوالا طيبة. وهو معنى قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ.سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} . وهذا أشد مناسبة بمقابلة ما يسمعه أهل النار في قوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .
وجملة: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} معترضة في آخر الكلام، والواو للاعتراض، هي كالتكملة لوصف حسن حالهم لمناسبة ذكر الهداية في قوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} ، ولم يسبق مقابل لمضمون هذه الجملة بالنسبة لأحوال الكافرين. وسيجيء ذكر مقابلها في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وذلك من أفانين المقابلة. والمعنى: وقد هدوا إلى صراط الحميد في الدنيا، وهو دين الإسلام، شبه بالصراط لأنه موصل إلى رضى الله.
والحميد من أسماء الله تعالى، أي المحمود كثيرا فهو فعيل بمعنى مفعول، فإضافة {صِرَاطِ} إلى اسم "الله" لتعريف أي صراط هو. ويجوز أن يكون {الْحَمِيدِ} صفة لـ {صِرَاطِ} ، أي المحمود لسالكه. فإضافة صراط إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة. والصراط المحمود هو صراط دين الله. وفي هذه الجملة إيماء إلى سبب استحقاق تلك النعم أنه الهداية السابقة إلى دين الله في الحياة الدنيا.
[25] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
هذا مقابل قوله: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} بالنسبة إلى أحوال المشركين إذ لم يسبق لقوله ذلك مقابل في الأحوال المذكورة في آية: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} كما تقدم. فموقع هذه الجملة الاستئناف البياني. والمعنى: كما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتباعهم صراط الله كذلك كان سبب استحقاق المشركين ذلك العذاب كفرهم وصدهم عن سبيل الله.

وفيه مع هذه المناسبة لما قبله تخلص بديع إلى ما بعده من بيان حق المسلمين في المسجد الحرام، وتهويل أمر الإلحاد فيه، والتنويه به وتنزيهه عن أن يكون مأوى للشرك ورجس الظلم والعدوان.
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به.
وجاء {يَصُدُّونَ} بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه دأبهم سواء فيه أهل مكة وغيرهم لأن البقية ظاهروهم على ذلك الصد ووافقوهم.
أما صيغة الماضي في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} فلأن ذلك الفعل صار كاللقب لهم مثل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} .
وسبيل الله: الإسلام، فصدهم عنه هو الذي حقق لهم عذاب النار، كما حقق اهتداء المؤمنين إليه لهم نعيم الجنة.
والصد عن المسجد الحرام مما شمله الصد عن سبيل الله فخص بالذكر للاهتمام به، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام، وذكر بنائه، وشرع الحج له من عهد إبراهيم. والمراد بصدهم عن المسجد الحرام صد عرفه المسلمون يومئذ. ولعله صدهم المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت. والمعروف من ذلك أنهم منعوا المسلمين بعد الهجرة من زيارة البيت فقد قال أبو جهل لسعد بن معاذ لما جاء إلى مكة معتمرا وقال لصاحبه أمية بن خلف: انتظر لي ساعة من النهار لعلي أطوف بالبيت، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل وغرفه. فقال له أبو جهل: أتطوف بالكعبة? آمنا وقد أوتيتم الصباة "يعني المسلمين". ومن ذلك ما صنعوه يوم الحديبية. وقد قيل: إن الآية نزلت في ذلك. وأحسب أن الآية نزلت قبل ذلك سواء نزلت بمكة أم بالمدينة.
ووصف المسجد بقوله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} الآية للإيماء إلى علة مؤاخذة المشركين بصدهم عنه لأجل أنهم خالفوا ما أراد الله منه فإنه جعله للناس كلهم يستوي في أحقية التعبد به العاكف فيه، أي المستقر في المسجد، والبادي، أي البعيد عنه إذا دخله.
والمراد بالعاكف: الملازم له في أحوال كثيرة، وهو كناية عن الساكن بمكة لأن الساكن بمكة يعكف كثيرا في المسجد الحرام، بدليل مقابلته بالبادي، فأطلق العكوف في المسجد على سكنى مكة مجازا بعلاقة اللزوم العرفي. وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من

الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة.
وقرأ الجمهور {سَوَاءً} بالرفع على أنه مبتدأ و {العَاكِفُ فِيهِ} فاعل سد مسد الخبر، والجملة مفعول ثان لـ {جَعَلْنْاهُ}. وقرأه حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني لـ {جَعَلْنْاهُ}.
والعكوف: الملازمة. والبادي: ساكن البادية.
وقوله: {سَوَاءً} لم يبين الاستواء فيما ذا لظهور أن الاستواء فيه بصفة كونه مسجدا إنما هي في العبادة المقصودة منه ومن ملحقاته وهي: الطواف، والسعي، ووقوف عرفه.
وكتب {وَالبَادْ} في المصحف بدون ياء في آخره. وقرأ ابن كثير {والبادي} بإثبات الياء على القياس لأنه معرف، والقياس إثبات ياء الاسم المنقوص إذا كان معرفا باللام، ومحمل كتابته في المصحف بدون ياء عند أهل هذه القراءة أن الياء عوملت معاملة الحركات وألفات أواسط الأسماء فلم يكتبوها. وقرأه نافع بغير ياء في الوقف وأثبتها في الوصل. ومحمل كتابته على هذه القراءة بدون ياء أنه روعي فيه التخفيف في حالة الوقف لأن شأن الرسم أن يراعى فيه حالة الوقف.
وقراه الباقون بدون ياء في الحالين الوصل والوقف. والوجه فيه قصد التخفيف ومثله كثير.
وليس في هذه الآية حجة لحكم امتلاك دور مكة إثباتا ولا نفيا لأن سياقها خاص بالمسجد الحرام دون غيره، ويلحق به ما هو من تمام مناسكه: كالمسعى، والموقف، والمشعر الحرام، والجمار. وقد جرت عادة الفقهاء أن يذكروا مسألة امتلاك دور مكة عند ذكر هذه الآية على وجه الاستطراد. ولا خلاف بين المسلمين في أن الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه إلا ما منعته الشريعة كطواف الحائض بالكعبة.
وأما مسألة امتلاك دور مكة فللفقهاء فيها ثلاثة أقوال: فكان عمر بن الخطاب وابن عباس وغيرهما يقولون: إن القادم إلى مكة للحج له أن ينزل حيث شاء من ديارها وعلى رب المنزل أن يؤويه. وكانت دور مكة تدعى السوائب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال مالك والشافعي: دور مكة ملك لأهلها، ولهم الامتناع من إسكان غيرهم، ولهم إكراؤها للناس، وإنما تجب المواساة عند الضرورة، وعلى ذلك حملوا ما كان يفعله

عمر فهو من المواساة. وقد اشترى عمر دار صفوان بن أمية وجعلها سجنا. وقال أبو حنيفة: دور مكة لا تملك وليس أهلها أن يكروها. وقد ظن أن الخلاف في ذلك مبني على الاختلاف في أن مكة فتحت عنوة أو صلحا. والحق أنه لا بناء على ذلك لأن من القائلين بأنها فتحت عنوة قائلين بتملك دور مكة فهذا مالك بن أنس يراها فتحت عنوة ويرى صحة تملك دورها. ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهلها في منازلهم فيكون قد أقطعهم إياها كما من على أهلها بالإطلاق من الأسر ومن السبي. ولم يزل أهل مكة يتبايعون دورهم ولا ينكر عليهم أحد من أهل العلم.
وخبر {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} محذوف تقديره: نذقهم من عذاب أليم، دل عليه قوله في الجملة الآتية {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} .
وإذ كان الصد عن المسجد الحرام إلحادا بظلم فإن جملة: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} تذييل للجملة السابقة لما في "من" الشرطية من العموم.
والإلحاد: الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور. والظلم يطلق على الإشراك وعلى المعاصي لأنها ظلم النفس.
والباء في {بِإِلْحَادٍ} زائدة للتوكيد مثلها في {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}. أي من يرد إلحادا وبعدا عن الحق والاستقامة وذلك صدهم عن زيارته.
والباء في {بِظُلْمٍ} للملابسة. فالظلم: الإشراك، لأن المقصود تهديد المشركين الذين حملهم الإشراك على مناواة المسلمين ومنعهم من زيارة المسجد الحرام.
و"من" في قوله: {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} مزيدة للتوكيد على رأي من لا يشترطون لزيادة "من" وقوعها بعد نفي أو نهي. ولك أن تجعلها للتبعيض، أي نذقه عذابا من عذاب أليم.
[26] {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
عطف على جملة: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} عطف قصة على قصة. ويعلم منها تعليل الجملة المعطوفة عليها بأن الملحد في المسجد الحرام قد خالف بإلحاده فيه ما أراده الله من تطهيره حين أمر ببنائه. والتخلص من ذلك إلى إثبات ظلم المشركين وكفرانهم نعمة الله في إقامة المسجد الحرام وتشريع الحج.

و"إذا" اسم زمان مجرد عن الظرفية فهو منصوب بفعل مقدر على ما هو متعارف في أمثاله، والتقدير: واذكر إذ بوأنا، أي اذكر زمان بوأنا لإبراهيم فيه كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ، أي اذكر ذلك الوقت العظيم. وعرف معنى تعظيمه من إضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية دون المصدر فصار بما يدل عليه الفعل من التجدد كأنه زمن حاضر.
والتبوئة: الإسكان. وتقدم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا}.
والمكان: الساحة من الأرض وموضع للكون فيه، فهو فعل مشتق من الكون، فتبوئته المكان: إذنه بأن يتخذه مباءة، أي مقرا يبني فيه بيتا، فوقع بذكر {مكان} إيجاز في الكلام كأنه قيل: وإذ أعطيناه مكانا ليتخذ فيه بيتا، فقال: مكان البيت، لأن هذا حكاية عن قصة معروفة لهم. وسبق ذكرها فيما نزل قبل هذه الآية من القرآن.
واللام في {لِإِبْرَاهِيمَ} لام العلة لأن {إبراهيم} مفعول أول لـ {بَوَّأْنَا} الذي هو من باب أعطى، فاللام مثلها في قولهم: شكرت لك، أي شكرتك لأجلك. وفي ذكر اللام في مثله ضرب من العناية والتكرمة.
و {البَيْتِ} معروف معهود عند نزول القرآن فلذلك عرف بلام العهد ولولا هذه النكتة لكان ذكر {مَكَانَ} حشوا. والمقصود أن يكون مأوى للدين، أي معهدا لإقامة شعائر الدين.
فكان يتضمن بوجه الإجمال أنه يترقب تعلما بالدين فلذلك أعقب بحرف أن التفسيرية التي تقع بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه. وكان أصل الدين هو نفي الإشراك بالله فعلم أن البيت جعل معلما للتوحيد بحيث يشترط على الداخل إليه أن لا يكون مشركا، فكانت الكعبة لذلك أول بيت وضع للناس، لإعلان التوحيد كما بيناه عند قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} في سورة آل عمران.
وقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} مؤذن بكلام مقدر دل عليه {بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} . والمعنى: وأمرناه ببناء البيت في ذلك المكان، وبعد أن بناه قلنا لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي.

وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة تشريف للبيت. والتطهير: تنزيهه عن كل خبيث: معنى كالشرك والفواحش وظلم الناس وبث الخصال الذميمة، وحسا من الأقذار ونحوها، أي أعدده طاهرا للطائفين والقائمين فيه.
والطواف المشي حول الكعبة، وهو عبادة قديمة من زمن إبراهيم قررها الإسلام وقد كان أهل الجاهلية يطوفون حول أصنامهم كما يطوفون بالكعبة.
والمراد بالقائمين الداعون تجاه الكعبة، ومنه سمي مقام إبراهيم، وهو مكان قيامه للدعاء فكان الملتزم موضعا للدعاء. قال زيد بن عمرو بن نفيل:
عذت مما عاذ به إبراهيم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
والركع: جمع راكع، ووزن فعل يكثر جمعا لفاعل وصفا إذا كان صحيح اللام نحو: عذل وسجد.
والسجود: جمع ساجد مثل: الرقود، والقعود، وهو من جموع أصحاب الأوصاف المشابهة مصادر أفعالها.
[27-28] {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}
{وَأَذِّنْ} عطف على {وَطَهّرْ بَيْتِيَ}. وفيه إشارة إلى أن من إكرام الزائر تنظيف المنزل وأن ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان.
والتأذين: رفع الصوت بالإعلام بشيء. وأصله مضاعف أذن إذا سمع ثم صار بمعنى بلغه الخبر فجاء منه آذن بمعنى أخبر. وأذن بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل، أي أكثر الإخبار بالشيء، والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار. ولكونه بمعنى الإخبار يعدى إلى المفعول الثاني بالباء.
والناس يعم كل البشر، أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك.
والمراد بالحج: القصد إلى بيت الله. وصار لفظ الحج علما بالغلبة على الحضور بالمسجد الحرام لأداء المناسك. ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلا

إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس. فهذه أصل في سنة المؤثرات لأهل المقصد النافع.
وفي تعليق فعل {يَأْتُوكَ} بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحج كل عام يبلغ للناس التوحيد وقواعد الحنيفية. روي أن إبراهيم لما أمره الله بذلك اعتلى جبل أبي قيس وجعل إصبعيه في أذنيه ونادى: "إن الله كتب عليكم الحج فحجوا". وذلك أقصى استطاعته في امتثال الأمر بالتأذين. وقد كان إبراهيم رحالة فلعله كان ينادي في الناس في كل مكان يحل فيه.
وجملة: {يَأتُوكَ} جواب للأمر، جعل التأذين سببا للإتيان تحقيقا لتيسير الحج على الناس. فدل جواب الأمر على أن الله ضمن له استجابة ندائه.
وقوله {رجالا} حال من ضمير الجمع في قوله: {يَأتُوكَ}.
وعطف عليه {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} بواو التقسيم التي بمعنى "أو" كقوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} إذ معنى العطف هنا على اعتبار التوزيع بين راجل وراكب، إذ الراكب لا يكون راجلا ولا العكس. والمقصود منه استيعاب أحوال الآتين تحقيقا للوعد بتيسير الإتيان المشار إليه بجعل إتيانهم جوابا للأمر، أي يأتيك من لهم رواحل ومن يمشون على أرجلهم.
ولكون هذه الحال أغرب قدم قوله: {رِجَالَاً} ثم ذكر بعده {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} تكملة لتعميم الأحوال إذ إتيان الناس لا يعدو أحد هذين الوصفين.
و {رِجَالَاً} : جمع راجل وهو ضد الراكب.
والضامر: قليل لحم البطن. يقال: ضمر ضمورا فهو ضامر، وناقة ضامر أيضا. والضمور من محاسن الرواحل والخيل لأنه يعينها على السير والحركة.
فالضامر هنا بمنزلة الاسم كأنه قال: وعلى كل راحلة.
وكلمة "كل" من قوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} مستعملة في الكثرة، أي وعلى رواحل كثيرة. وكلمة "كل" أصلها الدلالة على استغراق جنس ما تضاف إليه ويكثر استعمالها في معنى كثير مما تضاف إليه كقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي من أكثر الأشياء التي يؤتاها أهل الملك، وقول النابغة:

بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد
أي بها وحش كثير في رمال كثيرة.
وتكرر هذا الإطلاق ثلاث مرات في قول عنترة:
جادت عليه كل بكر حرة ... فتركن كل قرارة كالدرهم
سحا وتسكابا فكل عشية ... يجري عليها الماء لم يتصرم.
وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} في سورة البقرة. ويأتي إن شار الله في سورة النمل.
و {يَأْتِينَ} يجوز أن يكون صفة لـ {كُلِّ ضَامِرٍ} لأن لفظ "كل" صيره في معنى الجمع. وإذ هو جمع لما لا يعقل فحقه التأنيث، وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل دون الناس فلم يقل: يأتون، لأن الرواحل هي سبب إتيان الناس من بعد لمن لا يستطيع السفر على رجليه.
ويجوز أن تجعل جملة: {يَأْتِينَ} حالا ثانية من ضمير الجمع في {يَأْتُوكَ} لأن الحال الأولى تضمنت معنى التنويع والتصنيف، فصار المعنى: يأتوك جماعات، فلما تأول ذلك بمعنى الجماعات جرى عليهم الفعل بضمير التأنيث، وهذا الوجه أظهر لأنه يتضمن زيادة التعجيب من تيسير الحج حتى على المشاة, وقد تشاهد في طريق الحج جماعات بين مكة والمدينة يمشون رجالا بأولادهم وأزواجهم وكذلك يقطعون المسافات بين مكة وبلادهم.
والفج: الشق بين جبلين تسير فيه الركاب، فغلب الفج على الطريق لأن أكثر الطرق المؤدية إلى مكة تسلك بين الجبال.
والعميق: البعيد إلى أسفل لأن العمق البعد في القعر، فأطلق على البعيد مطلقا بطريقة المجاز المرسل، أو هو استعارة بتشبيه مكة بمكان مرتفع والناس مصعدون إليه. وقد يطلق على السفر من موطن المسافر إلى مكان آخر إصعاد كما يطلق على الرجوع انحدار وهبوط، فإسناد الإتيان إلى الرواحل تشريف لها بأن جعلها مشاركة للحجيج في الإتيان إلى البيت.
وقوله: {لِيَشْهَدُوا} يتعلق بقوله: {يَأْتُوكَ} فهو علة لإتيانهم الذي هو مسبب على

التأذين بالحج فآل إلى كونه علة في التأذين بالحج.
ومعنى {لِيَشْهَدُوا} ليحضروا منافع لهم، أي ليحضروا فيحصلوا منافع لهم إذ يحصل كل واحد ما فيه نفعه. وأهم المنافع ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه السلام من الثواب. فكنى بشهود المنافع عن نيلها. ولا يعرف ما وعدهم الله على ذلك بالتعيين. وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه.
وتنكير {مَنَافِعَ} للتعظيم المراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية لأن في مجمع الحج فوائد جمة للناس: لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج. ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحا في الدنيا بالتعارف والتعامل.
وخص من المنافع أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. وذلك هو النحر والذبح للهدايا. وهو مجمل في الواجبة والمتطوع بها. وقد بينته شريعة إبراهيم من قبل بما لم يبلغ إلينا. وبينه الإسلام بما فيه شفاء.
وحرف {على} متعلق بـ {يذكروا}. وهو للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الملابسة والمصاحبة، أي على الأنعام. وهو على تقدير مضاف، أي عند نحر بهيمة الأنعام أو ذبحها.
و"ما" موصولة، و {مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} بيان لمدلول "ما". والمعنى: ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام. وأدمج في هذا الحكم الامتنان بأن الله رزقهم تلك الأنعام. وهذا تعريض بطلب الشكر على هذا الرزق بالإخلاص لله في العبادة وإطعام المحاويج من عباد الله من لحومها. وفي ذلك سد لحاجة الفقراء بتزويدهم ما يكفيهم لعامهم. ولذلك فرع عليه {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} .
فالأمر بالأكل منها يحتمل أن يكون أمر وجوب في شريعة إبراهيم عليه السلام فيكون الخطاب في قوله: {فَكُلُوا} لإبراهيم ومن معه.
وقد عدل عن الغيبة الواقعة في ضمائر {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ، إلى الخطاب بذلك في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ} الخ. على طريقة الالتفات أو على تقدير قول محذوف مأمور به إبراهيم عليه السلام.

وفي حكاية هذا تعريض بالرد على أهل الجاهلية إذ كانوا يمنعون الأكل من الهدايا.
ثم عاد الأسلوب إلى الغيبة في قوله: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} .
ويحتمل أن تكون جملة: {فَكُلُوا مِنْهَا} الخ معترضة مفرعة على خطاب إبراهيم ومن معه تفريع الخبر على الخبر تحذيرا من أن يمنع الأكل من بعضها.
والأيام المعلومات أجملت هنا لعدم تعلق الغرض ببيانها إذ غرض الكلام ذكر حج البيت وقد بينت عند التعرض لأعمال الحج عند قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} .
والبائس: الذي أصابه البؤس، وهو ضيق المال، وهو الفقير. هذا قول جمع من المفسرين. وفي الموطأ : في باب ما يكره من أكل الدواب. قال مالك: سمعت أن البائس هو الفقير اهـ. وقلت: من أجل ذلك لم يعطف أحد الوصفين على الآخر لأنه كالبيان له وإنما ذكر البائس مع أن الفقير مغن عنه لترقيق أفئدة الناس على الفقير بتذكيرهم أنه في بؤس لأن وصف فقير لشيوع تداوله على الألسن صار كاللقب غير مشعر بمعنى الحاجة وقد حصل من ذكر الوصفين التأكيد. وعن ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي تكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني.
فعلى هذا التفسير يكون البائس هو المسكين ويكون ذكر الوصفين لقصد استيعاب أحوال المحتاجين والتنبيه إلى البحث عن موقع الامتناع.
[29] {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
هذا من جملة ما خاطب الله به إبراهيم عليه السلام.
وقرأ ورش عن نافع، وقنبل عن ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بكسر لام {لْيَقْضُوا} . وقرأه الباقون بسكون اللام. وهما لغتان في لام الأمر إذا وقعت بعد "ثم"، كما تقدم آنفا في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ}.
و "ثم" هنا عطفت جملة على جملة فهي للتراخي الرتبي لا الزمني فتفيد أن المعطوف بها أهم في الغرض المسوق إليه الكلام من المعطوف عليه. وذلك في الوفاء بالنذر والطواف بالبيت العتيق ظاهر إذ هما نسكان أهم من نحر الهدايا، وقضاء التفث محمول على أمر مهم كما سنبينه.

والتفث: كلمة وقعت في القرآن وتردد المفسرون في المراد منها. واضطرب علماء اللغة في معناها لعلهم لم يعثروا عليها في كلام العرب المحتج به. قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعلمون التفث إلا من التفسير، أي أقوال المفسرين. فعن ابن عمر وابن عباس: التفث: مناسك الحج وأفعاله كلها. قال ابن العربي: "لو صح عنهما لكان حجة الإحاطة باللغة". قلت: رواه الطبري عنهما بأسانيد مقبولة. ونسبة الجصائص إلى سعيد. وقال نفطويه وقطرب: التفث: هو الوسخ والدرن. ورواه ابن وهب عن مالك بن أنس. واختاره أبو بكر ابن العربي وأنشد قطرب لأمية بن أبي الصلت:
حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ... ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا
ويحتمل أن البيت مصنوع لأن أئمة اللغة قالوا لم يجئ في معنى التفث شعر يحتج به. قال نفطويه: سألت أعرابيا: ما معنى قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} ، فقال: ما أفسر القرآن ولكن نقول للرجل ما أتفثك، أي ما أدرنك.
وعن أبي عبيده: التفث: قص الأظفار والأخذ من الشارب وكل ما يحرم على المحرم، ومثله قوله عكرمة ومجاهد وربما زاد مجاهد مع ذلك: رمي الجمار.
وعن صاحب العين والفراء والزجاج: التفث الرمت، والذبح، والحلق وقص الأظفار والشارب وشعر الإبط. وهو قول الحسن ونسب إلى مالك بن أنس أيضا.
وعندي: أن فعل {لْيَقْضُوا} ينادي على أن التفث عمل من أعمال الحج وليس وسخا ولا ظفرا ولا شعرا. ويؤيده ما روي عن ابن غمر وابن عباس آنفا، وأن موقع "ثم" في عطف جملة الأمر على ما قبلها ينادي على معنى التراخي الرتبي فيقتضي أن المعطوف بـ"ثم"أهم مما ذكر قبلها فإن أعمال الحج هي المهم في الإتيان إلى مكة، فلا جرم أن التفث هو مناسك الحج وهذا الذي درج عليه الحريري في قوله في المقامة المكية فلما قضيت بعون الله التفث. واستبحت الطيب والرفث. صادف موسم الخيف. معمعان الصيف.
وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي إن كانوا نذروا أعمالا زائدة على ما تقتضيه فريضة الحج مثل نذر طواف زائد أو اعتكاف في المسجد الحرام أو نسكا أو إطعام فقير أو نحو ذلك.
والنذر: التزام قربة الله تعالى لم تكن واجبة على ملتزمها بتعليق على حصول

مرغوب أو بدون تعليق، وبالنذر تصير القربة الملتزمة واجبة على الناذر. وأشهر صيغة: لله علي...، وفي هذه الآية دليل على أن النذر كان مشروعا في شريعة إبراهيم. وقد نذر عمر في الجاهلية اعتكاف ليلة بالمسجد الحرام ووفى به إسلامه كما في الحديث.
وقرأ الجمهور: {وَلْيُوفُوا} بضم التحتية وسكون الواو بعدها مضارع أوفى. وقرأ أبو بكر عن عاصم {وَلْيُوفُوا} بتشديد الفاء وهو بمعنى قراءة التخفيف لأن كلتا الصيغتين من فعل وفى المزيد فيه بالهمزة وبالتضعيف.
وختم خطاب إبراهيم بالأمر بالطواف بالبيت إيذانا بأنهم كانوا يجعلون آخر أعمال الحج الطواف بالبيت وهو المسمى في الإسلام طواف الإفاضة.
والعتيق: المحرر غير المملوك للناس. شبه بالعبد العتيق في أنه لا ملك لأحد عليه. وفيه تعريض بالمشركين إذ كانوا يمنعون منه من يشاءون حتى جعلوا بابه مرتفعا بدون درج لئلا يدخله إلا من شاءوا كما جاء في حديث عائشة أيام الفتح. وأخرج الترمذي بسند حسن أن رسول الله قال: "إنما سمى الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط".
واعلم أن هذه الآيات حكاية عما كان في عهد إبراهيم عليه السلام فلا تؤخذ منها أحكام الحج والهدايا في الإسلام.
وقرأ الجمهور {ثُمَّ لْيَقْضُوا} – {وَلْيُوفُوا} – {وَلْيَطَّوَّفُوا} بإسكان لام الأمر في جميعها. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر {وليوفوا} - {وليطوفوا} بكسر اللام فيهما. وقرأ ابن هشام عن ابن عامر، وأبو عمرو، وورش عن نافع، وقنبل عن ابن كثير، ورويس عن يعقوب {ثُمَّ لْيَقْضُوا} بكسر اللام. وتقدم توجيه الوجهين آنفا عند قوله تعالى: {ثم ليقطع} .
وقرا أبو بكر عن عاصم {وليوفوا} بفتح الواو وتشديد الفاء من وفى المضاعف.
[30-31] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}
اسم الإشارة مستعمل هنا للفصل بين كلامين أو بين وجهين من كلام واحد. والقصد منه التنبيه على الاهتمام بما سيذكر بعده. فالإشارة مراد بها التنبيه، وذلك حيث يكون ما بعده غير صالح لوقوعه خبرا عن اسم الإشارة فيتعين تقدير خبر عنه في معنى: ذلك بيان، أو ذكر، وهو من أساليب الاقتضاب في الانتقال. والمشهور في هذا الاستعمال لفظ هذا كما في قوله تعالى: {هذا وإن للطاغين لشر مئاب} وقول زهير:
هذا وليس كمن يعيا بخطبته ... وسط الندي إذا ما قائل نطقا
وأوثر في الآية اسم إشارة البعيد للدلالة على بعد المنزلة كناية عن تعظيم مضمون ما قبله.
فاسم الإشارة مبتدأ حذف خبره لظهور تقديره، أي ذلك بيان ونحوه. وهو كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض الأغراض فإذا أراد الخوض في غرض آخر، قال: هذا وقد كان كذا وكذا.
وجملة: {وَمَنْ يُعَظِّمْ} الخ معترضة عطفا على جملة: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} عطف الغرض على الغرض. وهو انتقال إلى بيان ما يجب الحفاظ عليه من الحنيفية والتنبيه إلى أن الإسلام بني على أساسها.
وضمير {فهو} عائد إلى التعظيم المأخوذ من فعل {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} . والكلام موجه إلى المسلمين تنبيها لهم على أن تلك الحرمات لم يعطل الإسلام حرمتها، فيكون الانتقال من غرض إلى غرض ومن مخاطب إلى مخاطب آخر. فإن المسلمين كانوا يعتمرون ويحجون قبل إيجاب الحج عليهم. أي قبل فتح مكة.
والحرمات: جمع حرمة بضمتين: وهي ما يجب احترامه.
والاحترام: اعتبار الشيء ذا حرم، كناية عن عدم الدخول فيه, أي عدم انتهاكه بمخالفة أمر الله في شأنه، والحرمات يشمل كل ما أوصى الله بتعظيم أمره فتشمل مناسك الحج كلها.
وعن زيد بن أسلم: الحرمات خمس: المسجد الحرام، والبيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم ما دام محرما. فقصره على الذوات دون الأعمال.

والذي يظهر أن الحرمات يشمل الهدايا والقلائد والمشعر الحرام وغير ذلك من أعمال الحج. كالغسل في مواقعه، والحلق ومواقيته ومناسكه.
{وََأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}
لما ذكر آنفا بهيمة الأنعام وتعظيم حرمات الله أعقب ذلك بإبطال ما حرمه المشركون على أنفسهم من الأنعام مثل: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي وبعض ما في بطونها. وقد ذكر في سورة الأنعام.
واستثنى منه ما يتلى تحريمه في القرآن وهو ما جاء ذكره في سورة الأنعام في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآيات وما ذكر في سورة النحل وكلتاهما مكيتان سابقتان.
وجيء بالمضارع في قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} ليشمل ما نزل من القرآن في ذلك مما سبق نزول سورة الحج بأنه تلي فيما مضى ولم يزل بتلى، ويشمل ما عسى أن ينزل من بعد مثل قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} الآية في سورة العقود.
والأمر باجتناب الأوثان مستعمل في طلب الدوام كما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} . وفرع على ذلك جملة معترضة للتصريح بالأمر باجتناب ما ليس من حرمات الله، وهو الأوثان.
واجتناب الكذب على الله بقولهم لبعض المحرمات {هَذَا حَلَالٌ} مثل الدم وما أهل لغير الله به، وقولهم لبعض {هَذَا حَرَامٌ} مثل: البحيرة، والسائبة قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}.
والرجس: حقيقته الخبث والقذارة. وتقدم في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} في سورة الأنعام.
ووصف الأوثان بالرجس أنها رجس معنوي لكون اعتقاد إلهيتها في النفوس بمنزلة تعلق الخبث بالأجساد فإطلاق الرجس عليها تشبيه بليغ.
و"من" في قوله: {مِنَ الأَوْثَانِ} بيان لمجمل الرجس، فهي تدخل على بعض أسماء

التمييز بيانا للمراد من الرجس هنا لا أن معنى ذلك أن الرجس هو عين الأوثان بل الرجس أعم أريد به هنا بعض أنواعه فهذا تحقيق معنى "من" البيانية.
و {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} حال من ضمير {اجْتَنَبُوا} أي تكونوا إن اجتنبتم ذلك حنفاء لله، جمع حنيف وهو المخلص لله في العبادة، أي تكونوا على ملة إبراهيم حقا. ولذلك زاد معنى {حُنَفَاءَ} بيانا بقوله: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وهذا كقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
والباء في قوله: {مُشْرِكِينَ بِهِ} للمصاحبة والمعية، أي غير مشركين معه غيره.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أعقب نهيهم عن الأوثان بتمثيل فظاعة حال من يشرك بالله في مصيره بالشرك إلى حال انحطاط وتلقف الضلالات إياه ويأسه من النجاة ما دام مشركا تمثيلا بديعا إذ كان من قبيل التمثيل القابل لتفريق أجزائه إلى تشبيهات.
قال في الكشاف : "يجوز أن يكون هذا التشبيه من المركب والمفرق بأن صور حال المشرك بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة. والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة" اهـ.
يعني أن المشرك لما عدل عن الإيمان الفطري وكان في مكنته فكأنه كان في السماء فسقط منها، فتوزعته أنواع المهالك. ولا يخفى عليك أن في مطاوي هذا التمثيل تشبيهات كثيرة لا يعوزك استخراجها.
والسحيق: البعيد فلا نجاة لمن حل فيه.
وقوله: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} تخيير في نتيجة التشبيه، كقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} . أشارت الآية إلى أن الكافرين قسمان: قسم شركه ذبذبة وشك، فهذا مشبه بمن اختطفته الطير فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر، فكذلك المذبذب متى لاح له خيال اتبعه وترك ما كان عليه. وقسم مصمم على الكفر مستقر فيه، فهو مشبه بمن ألقته الريح في واد سحيق، وهو إيماء إلى أن من المشركين من شركه لا

يرجى منه خلاص كالذي تخطفته الطير. ومنهم من شركه قد يخلص منه بالتوبة إلا أن توبته أمر بعيد عسير الحصول.
والخرور: السقوط وتقدم في قوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} في سورة النحل.
و {تخطفه} مضاعف خطف للمبالغة. الخطف والخطف: أخذ شيء بسرعة سواء كان في الأرض أم كان في الجو ومنه تخطف الكرة. والهوي: نزول شيء من علو إلى الأرض. والباء في {َتَهْوِي بِهِ} للتعدية مثلها في: ذهب به.
وقرأ نافع، وأبو جعفر {فتخطفه} بفتح الخاء وتشديد الطاء مفتوحة مضارع خطف المضاعف. وقرأه الجمهور بسكون الخاء وفتح الطاء مخففة مضارع خطف المجرد.
[32] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}
{ذَلِكَ} تكرير لنظيره السابق.
الشعائر: جمع شعيرة: المعلم الواضح مشتقة من الشعور. وشعائر الله: لقب لمناسك الحج. جمع شعيرة بمعنى: مشعرة بصيغة اسم الفاعل أي. معلمة بما عينه الله.
فمضمون جملة: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} الخ أخص من مضمون جملة: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} وذكر الأخص بعد الأعم للاهتمام. أو بمعنى مشعر بها فتكون شعيرة فعلية بمعنى مفعولة لأنها تجعل ليشعر بها الرائي. وتقدم ذكرها في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} في سورة البقرة. فكل ما أمر الله به بزيارته أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله، أي مما اشعر الله الناس وقرره وشهره. وهي معالم الحج: الكعبة. والصفا والمروة. وعرفة، والمشعر الحرام. ونحوها من معالم الحج.
وتطلق الشعيرة أيضا على بدنة الهدي قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} لأنهم يجعلون فيها شعارا، والشعار العلامة بأن يطعنوا في جلد جانبها الأيمن طعنا حتى يسيل منه الدم فتكون علامة على أنها نذرت للهدي. فهي فعلية بمعنى مفعولة مصوغة من أشعر على غير قياس.
فعلى التفسير الأول تكون جملة: {وَمَنْ يُعَظَّمْ شَعَائِرَ اللهِ} إلى آخرها عطفا على

جملة: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} الخ. وشعائر الله أخص من حرمات الله فعطف هذه الجملة للعناية بالشعائر.
وعلى التفسير الثاني للشعائر تكون جملة: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} عطفا على جملة: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} تخصيصا لها بالذكر بعد ذكر حرمات الله.
وضمير {فَإِنَّهَا} عائد إلى شعائر الله المعظمة فيكون المعنى: فإن تعظيمها من تقوى القلوب.
وقوله: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} جواب الشرط والرابط بين الشرط وجوابه هو العموم في قوله: {الْقُلُوبِ} فإن من جملة القلوب قلوب الذين يعظمون شعائر الله. فالتقدير: فقد حلت التقوى قلبه بتعظيم الشعائر لأنها من تقوى القلوب. أي لأن تعظيمها من تقوى القلوب.
وإضافة {تَقْوَى} إلى {الْقُلُوبِ} لأن تعظيم الشعائر اعتقاد قلبي ينشأ عنه العمل.
[33] {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
جملة: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} حال من الأنعام في قوله: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} وما بينهما اعتراضات أو حال من {شَعَائِرَ اللهِ} على التفسير الثاني للشعائر. والمقصود بالخبر هنا: هو صنف من الأنعام، وهو صنف الهدايا بقرينة قوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
وضمير الخطاب موجه للمؤمنين.
والمنافع: جمع منفعة، وهي اسم النفع، وهو حصول ما يلائم ويحف. وجعل المنافع فيها يقتضي أنها انتفاع بخصائصها مما يراد من نوعها قبل أن تكون هديا.
وفي هذا تشريع لإباحة الانتفاع بالهدايا انتفاعا لا يتلفها، وهو رد على المشركين إذ قلدوا الهدي وأشعروه حظروا الانتفاع به: من ركوبه وحمل عليه وشرب لبنه. وغير ذلك.
وفي الموطأ عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: اركبها? فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، ويلك في الثانية

أو الثالثة" .
والأجل المسمى هو وقت نحرها، وهو يوم من أيام منى. وهي الأيام المعدودات.
والمحل: بفتح الميم وكسر الحاء مصدر ميمي من حل بحل إذا بلغ المكان واستقر فيه. وهو كناية عن نهاية أمرها، كما يقال: بلغ الغاية. ونهاية أمرها النحر أو الذبح.
و {إلى} حرف انتهاء مجازي لأنها لا تنحر في الكعبة، ولكن التقرب بها بواسطة تعظيم الكعبة لأن الهدايا إنما شرعت تكملة لشرع الحج، والحج قصد البيت. قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ، فالهدايا تابعة للكعبة قال تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وإن كانت الكعبة لا ينحر فيها، وإنما المناحر: منى، والمروة، وفجاج مكة أي، طرقها بحسب أنواع الهدايا. وتبيينه في السنة.
وقد جاء في قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} رد العجز على الصدر باعتبار مبدأ هذه الآيات وهو قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}.
[34-35] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
عطف على جملة: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا}
والأمة: أهل الدين الذين اشتركوا في اتباعه. والمراد: أن المسلمين لهم منسك واحد وهو البيت العتيق كما تقدم. والمقصود من هذا الرد على المشركين إذ جعلوا لأصنامهم مناسك تشابه مناسك الحج وجعلوا لها مواقيت ومذابح مثل الغبغب منحر العزى. فذكرهم الله تعالى بأنه ما جعل لكل أمة إلا منسكا واحدا للقربان إلى الله تعالى الذي رزق الناس الأنعام التي يتقربون إليه منها فلا يحق أن يجعل لغير الله منسك لأن ما لا يخلق الأنعام المقرب بها ولا يرزقها الناس لا يستحق أن يجعل له منسك لقربانها فلا تتعدد المناسك.

فالتنكير في قوله {منسكا} للإفراد أي واحدا لامتعددا ومحل الفائده هو إسناد الجعل إلى ضمير الجلالة.
وقد دل على ذلك قوله: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} وأدل عليه التفريع بقوله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . والكلام يفيد الاقتداء ببقية الأمم أهل الأديان الحق.
و {عَلَى} يجوز أن تكون للاستعلاء المجازي متعلقة بـ {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} مع تقدير مضاف بعد على تقديره: إهداء ما رزقهم. أي عند إهداء ما رزقهم. يعني ونحرها أو ذبحها.
ويجوز أن تكون {عَلَى} بمعنى: لام التعليل. والمعنى: ليذكروا اسم الله لأجل ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
وقد فرع على هذا الانفراد بالإلهية بقوله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} أي إذ كان قد جعل لكم منسكا واحدا فقد نبهكم بذلك أنه إله واحد، ولو كانت آلهة كثيرة لكانت شرائعها مختلفة. وهذا التفريع الأول تمهيد للتفريع الذي عقبه وهو المقصود، فوقع في النظم تغيير بتقديم وتأخير. وأصل النظم: فلله أسلموا، لأن إلهكم إله واحد. وتقديم المجرور في {فَلَهُ أَسْلِمُوا} للحصر، أي أسلموا له لا لغيره. والإسلام: الانقياد التام، وهو الإخلاص في الطاعة، أي لا تخلصوا إلا لله، أي فاتركوا جميع المناسك التي أقيمت لغير الله فلا تنسكوا إلا في المنسك الذي جعله لكم، تعريضا بالرد على المشركين.
وقرأ الجمهور {مَنْسَكَاً} بفتح السين وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بكسر السين. وهو على القراءتين اسم مكان للنسك، وهو الذبح. إلا أنه على قراءة الجمهور جار على القياس لأن قياسه الفتح في اسم المكان إذ هو من نسك ينسك بضم العين في المصارع. وأما على قراءة الكسر فهو سماعي مثل مسجد من سجد يسجد، قال أبو علي الفارسي: ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب.
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
اعتراض بين سوق المنن. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وأصحاب هذه الصفات هم المسلمون.

والمخبت: المتواضع الذي لا تكبر عنده. وأصل المخبت من سلك الخبت. وهو المكان المتخفض ضد المصعد. ثم استعير للمتواضع كأنه سلك نفسه في الانخفاض، والمراد بهم هنا المؤمنون، لأن التواضع من شيمهم كما كان التكبر من سمات المشركين قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}.
والوجل: الخوف الشديد. وتقدم في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} في سورة الحجر.
وقد أتبع صفة {المُخْبِتِينْ} بأربع صفات وهي: وجل القلوب عند ذكر الله، والصبر على الأذى في سبيله، وإقامة الصلاة، والإنفاق. وكل هذه الصفات الأربع مظاهر للتواضع فليس المقصود من جمع تلك الصفات لأن بعض المؤمنين لا يجد ما ينفق منه وإنما المقصود من لم يخل بواحدة منها عند إمكانها. والمراد من الإنفاق الإنفاق على المحتاجين الضعفاء من المؤمنين لأن ذلك هو دأب المخبتين. وأما الإنفاق على الضعيف والأصحاب فذلك مما يفعله المتكبرون من العرب كما تقدم عند قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . وهو نظير الإنفاق على الندماء في مجالس الشراب. ونظير إتمام الإيسار في مواقع الميسر، كما قاله النابغة:
أني أتمم أيساري وأمنحهم ... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما
والمراد بالصبر: الصبر على ما يصيبهم من الأذى في سبيل الإسلام. وأما الصبر في الحروب وعلى فقد الأحبة فمما تتشرك فيه النفوس الجلدة من المتكبرين والمخبتين. وفي كثير من ذلك الصبر فضيلة إسلامية إذا كان تخلقا بأدب الإسلام قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} الآية.
[36] {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
عطف على جملة {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} أي جعلنا منسكا للقربان والهدايا، وجعلنا البدن التي تهدى ويتقرب بها شعائر من شعائر الله.
والمعنى: أن الله أمر بقربان البدن في الحج من عهد إبراهيم عليه السلام وجعلها

جزاء عما يترخص فيه من أعمال الحج. وأمر بالتطوع بها فوعد عليها بالثواب الجزيل فنالت بذلك الجعل الإلهي يمنا وبركة وحرمة ألحقتها بشعائر الله، وامتن بذلك على الناس بما اقتضته كلمة {لكم}.
والبدن: جمع بدنة بالتحريك، وهي البعير العظيم البدن. وهو اسم مأخوذ من البدانة. وهي عظم الجثة والسمن. وفعله ككرم ونصر، وليست زنة بدنة وصفا ولكنها اسم مأخوذ من مادة الوصف. وجمعه بدن, وقياس هذا الجمع أن يكون مضموم الدال مثل خشب جمع خشبة، وثمر جمع ثمرة، فتسكين الدال تخفيف شائع. وغلب اسم البدنة على البعير المعين للهدي.
وفي الموطأ : "عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة" فقول الرجل: إنها بدنة، متعين لإرادة هديه للحج.
وتقديم {البدن} على عامله للاهتمام بها تنويها بشأنها.
والاقتصار على البدن الخاص بالإبل لأنها أفضل في الهدي لكثرة لحمها. وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنة. واسم ذلك هدي.
ومعنى كونها من شعائر الله: أن الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة. وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلم بها بعير الهدي في جلده إشعارا.
قال مالك في الموطأ : كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هديا من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة، يقلده قبل أن يشعره... يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر.. بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر.
وقد عدها في جملة الحرمات في قوله: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ} في سورة العقود[2].
وتقديم {لكم} على المبتدأ ليتأتى كون المببدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم. وتقديم {فيها} على متعلقه وهو {خير} للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد.
والخير: النفع. وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجلالها ونعالها وقلائدها. وما يحصل للمهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم

النحر، وخير الآخرة من ثواب المهدين، وثواب الشكر من المعطين لحومها لربهم الذي أغناهم بها.
وفرع على ذلك أن أمر الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها.
وصواف: جمع صافة. يقال: صف إذا كان مع غيره صفا بأن اتصل به. ولعلهم كانوا يصفونها في المنحر يوم النحر بمنى، لأنه كان بمنى موضع أعد للنحر وهو المنحر.
وقد ورد في حديث مسلم عن جابر بن عبد الله في حجة الوداع قال فيه: "ثم انصرف رسول الله إلى المنحر فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده ثم أعطى الحربة عليا فنحر ما غبر، أي ما بقي وكانت مائة بدنة". وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة.
وانتصب {صواف} على الحال من الضمير المجرور في قوله {عليها}. وفائدة هذه الحال ذكر محاسن من مشاهد البدن فإن إيقاف الناس بدنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالا. وقريب منه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .
ومعنى: {وَجَبَتْ} سقطت، أي إلى الأرض، وهو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال. والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعا إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر من هديه، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة.
والأمر في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} مجمل، يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ويحتمل الندب. وقرينة عدم الوجوب ظاهرة لأن المكلف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه. وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المهدي من لحوم هديه فبقي النظر في أنه مباح بحت أو هو مندوب.
واختلف الفقهاء في الأكل من لحوم الهدايا الواجبة.
فقال مالك: يباح الأكل من لحوم الهدايا الواجبة. وهو عنده مستحب ولا يؤكل من فدية الأذى وجزاء الصيد ونذر المساكين. والحجة لمالك صريح الآية. فإنها عامة إلا ما قام الدليل على منعه وهي الثلاثة الأشياء المستثناة.

وقال أبو حنيفة: يأكل من هدي التمتع والقران. ولا يأكل من الواجب الذي عينه الحاج عند إحرامه.
وقال الشافعي: لا يأكل من لحوم الهدايا بحال مستندا إلى القياس. وهو أن المهدي أوجب إخراج الهدي من ماله فكيف يأكل منه. كذا قال ابن العربي. وإذا كان هذا قصارى كلام الشافعي فهو استدلال غير وجيه ولفظ القرآن ينافيه لا سيما وقد ثبت أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من لحوم الهدايا بأحاديث صحيحة.
وقال أحمد: يؤكل من الهدايا الواجبة إلا جزاء الصيد والنذر.
وأما الأمر في قوله: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} فقال الشافعي: للوجوب. وهو الأصح. قال ابن العربي وهو صريح قول مالك.
وقلت: المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المهدي على نحو هديه ولم يتصدق منه ما كان آثما.
والقانع: المتصف بالقنوع. وهو التذلل. يقال: قنع من باب سأل، قنوعا بضم القاف إذا سأل بتذلل.
وأما القناعة ففعلها من باب تعب ويستوي الفعل المضارع مع اختلاف الموجب. ومن أحسن ما جمع من النظائر ما أنشده الخفاجي:
العبد حر إن قنع1 ... والحر عبد إن قنع2
فاقنع ولا تقنع فما ... شيء يشين سوى الطمع
وللزمخشري في "مقاماته" : "يا أبا القاسم اقنع من القناعة لا من القنوع، تستغن عن كل معطاء ومنوع. وفي "الموطأ" في كتاب الصيد: قال مالك: والقانع هو الفقير.
والمعتر: اسم فاعل من اعتر، إذا تعرض للعطاء، أي دون سؤال بل بالتعريض وهو أن يحضر موشع العطاء، يقال: اعتر، إذا تعرض، وفي الموطأ في كتاب الصيد: قال مالك: وسمعت أن المعتر هو الزائر، أي فتكون من عرا إذا زار. والمراد زيارة التعرض للعطاء.
وهذا التفسير أحسن. ويرجحه أنه عطف {المعترّ} على {القَانِعَ} ، فدل العطف على
ـــــــ
1 بكسر النون.
2 بفتح النون.

المغايرة، ولو كانا في معنى واحد لما عطف عليه كما لم يعطف في قوله: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} .
وجملة: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس. والأمارة الدالة على إرادته ذلك أنه سخرها للناس مع ضعف الإنسان وقوة تلك الأنعام فيأخذ الرجل الواحد العدد منها ويسوقها منقادة ويؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن. ولولا أن الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجز من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخر له.
وقوله: {كَذَلِكَ} هو مثل نظائره، أي مثل ذلك التسخير العجيب الذي ترونه كان تسخيرها لكم.
ومعنى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} خلقناها مسخرة لكم استجلابا لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة. وهذا تعريض بالمشركين إذ وضعوا الشرك موضع السكر.
[37] {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}
{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}
جملة في موضع التعليل لجملة: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . أي دل على أنا سخرناها لكم لتشكروني أنه لا انتفاع لله بشيء من لحومها ولا دمائها حين تتمكنون من الانتفاع بها فلا يريد الله منكم على ذلك إلا أن تتقوه.
والنيل: الإصابة. يقال ناله. أي أصابه ووصل إليه. ويقال أيضا بمعنى أحرز، فإن فيه معنى الإصابة كقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وقوله: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} .
والمقصود من نفي أن يصل إلى الله لحومها ودماؤها إبطال ما يفعله المشركون من نصح الدماء في المذابح وحول الكعبة وكانوا يذبحون بالمروة. قال الحسن: كانوا يلطخون بدماء القرابين وكانوا يشرحون لحوم الهدايا وينصبونها حول الكعبة قربانا لله تعالى. يعني زيادة على ما يعطونه للمحاويج.
وفي قوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} إيماء إلى أن

إراقة الدماء وتقطيع اللحوم ليسا مقصودين بالتعبد ولكنهما وسيلة لنفع الناس بالهدايا إذ لا ينفع بلحومها وجلودها وأجزائها إلا بالنحر أو الذبح وأن المقصد من شرعها انتفاع الناس المهدين وغيرهم.
فأما المهدون فانتفاعهم بالأكل منها في يوم عيدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم صيام يوم النحر "يوم تأكلون فيه من نسككم" فذلك نفع لأنفسهم ولأهاليهم ولو بالادخار منه إلى رجوعهم إلى آفاقهم.
وأما غيرهم فانتفاع من ليس له هدي من الحجيج بالأكل مما يهديه إليهم أقاربهم وأصحابهم، وانتفاع المحاويج من أهل الحرم بالشبع والتزود منها والانتفاع بجلودها وجلالها وقلائدها.
كما أومأ إليه قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ}.
وقد عرض غير مرة سؤال عما إذا كانت الهدايا أوفر من حاجة أهل الموسم قطعا أو ظنا قريبا من القطع كما شوهد ذلك في مواسم الحج، فما يبقى منها حيا يباع وبنفق ثمنه في سد خلة المحاويج أجدى من نحره أو ذبحه حين لا يرغب فيه أحد. ولو كانت اللحوم التي فات أن قطعت وكانت فاضلة عن حاجة المحاويج يعمل تصبيرها بما يمنع عنها التعفن فينفع بها في خلال العام أجدى للمحاويج.
وقد ترددت في الجواب عن ذلك أنظار المتصدين للإفتاء من فقهاء هذا العصر، وكادوا أن تتفق كلمات من صدرت منهم فتاوى على أن تصبيرها مناف للتعبد بهديها.
أما أنا فالذي أراه أن المصير إلى كلا الحالين من البيع والتصبير لما فضل عن حاجة الناس في أيام الحج. لينتفع بها المحتاجون في عامهم، أوفق بمقصد الشارع تجنبا لإضاعة ما فضل منها رعيا لمقد الشريعة من نفع المحتاج وحفظ الأموال مع عدم تعطيل النحر والذبح للقدر المحتاج إليه منها المشار إليه بقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، جمعا بين المقاصد الشرعية.
وتعرض صورة أخرى وهي توزيع المقادير الكافية للانتفاع بها على أيام النحر الثلاثة بحيث لا يتعجل بنحر جميع الهدايا في اليوم الأول طلبا لفضيلة المبادرة. فإن التقوى التي

تصل إلى الله من تلك الهدايا هي تسليمها للنفع بها.
وهذا قياس على أصل حفظ الأموال كما فرضوه في بيع الفرس الحبس إذا أصابه ما يفضي به إلى الهلاك أو عدم النفع، وفي المعاوضة لربع الحبس إذا خرب.
وحكم الهدايا مركب من تعبد وتعليل. ومعنى التعليل فيه أقوى. وعلته انتفاع المسلمين، ومسلك العلة الإيماء الذي في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} .
واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء عقيدة وثنية قديمة فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام فلا يدعون أحدا يأكله. وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رمادا ويتوهمون أن رائحة الشواء تسر الآلهة المتقرب إليها بالقرابين. وكان المصريون يلقون الطعام للتماسيح التي في النيل لأنها مقدسة.
وقرأ الجمهور {يَنَالَ} ، و {يَنَالُهُ} بتحتية في أولهما. وقرأه يعقوب بفوقية على مراعاة ما يجوز في ضمير جمع غير العاقل، وربما كانوا يقذفون بمزع من اللحم على أنها لله فربما أصابها محتاج وربما لم يتفطن لها فتأكلها السباع أو تفسد.
ويشمل التقوى ذكر اسم الله عليها والتصدق ببعضها على المحتاجين.
و {يَنَالُهُ} مشاكله ل {يَنَالَ} الأول، استعير النيل لتعلق العلم. شبه علم الله تقواهم بوصول الشيء المبعوث إلى الله تشبيها وجهه الحصول في كل وحسنته المشاكلة.
و{مِنْ} في قوله {منكم} ابتدائية. وهي ترشيح للاستعارة. ولذلك عبر بلفظ {التَّقْوَى مِنْكُمْ} دون: تقواكم أو التقوى. مجردا مع كون المعدول عنه أوجز لأن في هذا الإطناب زيادة معنى من البلاغة.
{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}
تكرير لجملة: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} . وليبنى عليه التنبيه إلى أن الثناء على الله مسخرها هو رأس الشكر المنبه عليه في الآية السابقة، فصار مدلول الجملتين مترادفا، فوقع التأكيد. فالقول في جملة: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} كالقول في أشباهها.

وقوله: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} {على} فيه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن. أي لتكبروا الله عند تمكنكم من نحرها. و"ما" موصولة. والعائد محذوف مع جاره. والتقدير: على ما هداكم إليه من الأنعام.
والهداية إليها: هي تشريع في تلك المواقيت لينفع بها الناس ويرتزق سكان الحرم الذين اصطفاهم الله ليكونوا دعاة التوحيد لا يفارقون ذلك المكان. والخطاب للمسلمين.
وتغيير الأسلوب تخريج على خلاف مقتضى الظاهر بالإظهار في مقام الإضمار للإشارة إلى أنهم قد اهتدوا وعملوا بالاهتداء فأحسنوا.
[38] {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}
استئناف بياني جوابا لسؤال يخطر في نفوس المؤمنين ينشأ من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، فإنه توعد المشركين على صدهم عن سبيل الله والمسجد الحرام بالعذاب الأليم. وبشر المؤمنين المخبتين والمحسنين بما يتبادر منه ضد وعيد المشركين وذلك ثواب الآخرة. وطال الكلام في ذلك بما تبعه لا جرم تشوفت نفوس المؤمنين إلى معرفة عاقبة أمرهم في الدنيا. وهل ينتصر لهم من أعدائهم أو يدخر لهم الخير كله إلى الدار الآخرة. فكان المقام خليقا بأن يطمئن الله نفوسهم بأنه كما أعد لهم نعيم الآخرة هو أيضا مدافع عنهم في الدنيا وناصرهم. وحذف مفعول {يُدَافِعُ} لدلالة المقام.
فالكلام موجه إلى المؤمنين. ولذلك فافتتاحه بحرف التوكيد إما لمجرد تحقيق الخبر، وإما لتنزيل غير المتردد لشدة انتظارهم النصر واستبطائهم إياه.
والتعبير بالموصول لما فيه من الإيمان إى وجه بناء الخبر وأن دفاع الله عنهم لأجل إيمانهم.
وقرأ الجمهور لفظ {يُدَافِعُ} بألف بعد الدال فيفيد قوة الدفع.وقرأه أبو عمرو، وابن كثير، ويعقوب {يدفع} بدون ألف بعد الدال.
وجملة: {أن الله لا يحب كل خوان كفور} تعليل الدفاع بكونه عن الذين

آمنوا، بأن الله لا يجب الكافرين الخائبين، فلذلك يدفع عن المؤمنين لرد أذى الكافرين: ففي هذا إيذان بمفعول {يُدَافِعُ} المحذوف، أي يدافع الكافرين الخائنين.
والخوان: الشديد الخون. والخون كالخيانة: الغدر بالأمانة. والمراد بالخوان الكافر، لأن الكفر خيانة لعهد الله الذي أخذه على المخلوقات بأن يوحدوه فجعله في الفطرة وأبلغه الناس على ألسنة الرسل فنبه بذلك ما أودعهم في فطرتهم.
والكفور: الشديد الكفر. وأفادت "كل" في سياق النفي عموم نفي محبة الله عن جميع الكافرين إذ لا يحتمل المقام غير ذلك. ولا يتوهم من قوله: {لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} أنه يحب بعض الخوانين لأن كلمة {كُلَّ} اسم جامد لا يشعر بصفة فلا يتوهم توجه النفي إلى معنى الكلية المستفاد من كلمة كل وليس هو مثل قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} الموهم أن نفي قوة الظلم لا يقتضي نفي قليل الظلم.
[39] {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}
جملة وقعت بدل اشتمال من جملة: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ} لأن دفاع الله عن الناس يكون تارة بالإذن لهم بمقاتلة من أراد الله مدافعتهم عنهم فإنه إذا أذن لهم بمقاتلهم كان متكفلا لهم بالنصر.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم {أُذِنَ} بالبناء للنائب. وقراه الباقون بالبناء إلى الفاعل.
وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص، وأبو جعفر {يُقَاتَلُونَ } بفتح التاء الفوقية مبنيا إلى المجهول. وقرأه البقية بكسر التاء مبنيا للفاعل.
والذين يقاتلون مراد بهم المؤمنون على كلتا القراءتين لأنهم إذا قوتلوا فقد قاتلوا. والقتال مستعمل في المعنى المجازي إما بمادته. وإما بصيغة المضي.
فعلى قراءة فتح التاء فالمراد بالقتال فيه القتل المجازي. وهو الأذى. وأما على قراءة {يُقَاتِلونَ} بكسر التاء فصيغة المضي مستعملة مجازا في التهيؤ والاستعداد. أي أذن للذين تهيئوا للقتال وانتظروا إذن الله.
وذلك أن المشركين كانوا يؤذون المؤمنين بمكة أذى شديد فكان المسلمون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه. فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر

بالقتال. فلما هاجر نزلت هذه الآية بعد بيعة العقبة إذنا لهم بالتهيؤ للدفاع عن أنفسهم ولم يكن قتال قبل ذلك كما يؤذن به قوله تعالى: عقب هذا {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ}.
والباء في {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أراها متعلقة بـ {أُذِنَ} لتضمينه معنى الإخبار. أي أخبرناهم بأنهم مظلومون. وهذا الإخبار كناية عن الإذن للدفاع لأنك إذا قلت لأحد: إنك مظلوم، فكأنك استعديته على ظالمه وذكرته بوجوب الدفاع، وقرينة ذلك تعقيبه بقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، ويكون قوله: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} نائب فاعل {أُذِنَ} على قراءة ضم الهمزة أو مفعولا على قراءة فتح الهمزة. وذهب المفسرون إلى أن الباء سببية وأن المأذون به محذوف دل عليه قوله: {يُقَاتَلُونَ} ، أي أذن لهم في القتال، وهذا يجري على كلتا القراءتين في قوله: {يُقَاتَلُونَ} ، والتفسير الذي رأيته أنسب وأرشق.
وجملة: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} عطف على جملة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} ، أي أذن لهم بذلك وذكروا بقدرة الله على أن ينصرهم. وهذا وعد من الله بالنصر وارد على سنن كلام العظيم المقتدر بإيراد الوعد في صورة الإخبار بأن ذلك بمحل العلم منه ونحوه، كقولهم: عسى أن يكون كذا، أو أن عندنا خيرا، أو نحو ذلك، بحيث لا يبقى للمترقب شك في الفوز بمطلوبه.
وتوكيد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيقه أو تعريض بتنزيلهم منزلة المتردد في ذلك لأنهم استبطأوا النصر.
[40] { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}
بدل من {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} . وفي إجراء هذه الصلة عليهم إيماء إلى أن المراد بالمقاتلة الأذى، وأعظمه إخراجهم من ديارهم كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}.
و {بِغَيرِ حَقِّ} حال من ضمير {أُخْرِجُوا} ، أي أخرجوا متلبسين بعدم الحق عليهم

الموجب إخراجهم. فإن للمرء حقا في وطنه ومعاشرة قومه، وهذا الحق ثابت بالفطرة لأن من الفطرة أن الناشئ في أرض والمتولد بين قوم هو مساو لجميع أهل ذلك الموطن في حق القرار في وطنهم وبين قومهم بالوجه الذي ثبت لجمهورهم في ذلك المكان من نشأة متقادمة أو قهر وغليب لسانه، كما قال عمر بن الخطاب: "إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام". ولا يزول ذلك الحق إلا بموجب قرره الشرع أو العوائد قبل الشرع. كما قال زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء.
فمن ذلك في الشرائع التغريب والنفي، ومن ذلك في قوانين أهل الجاهلية الجلاء والخلع. وإنما يكون ذلك لاعتداء يعتديه المرء على قومه لا يجدون له مسلكا من الردع غير ذلك.
ولذلك قال تعالى: {بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} فإن إيمانهم بالله لا ينحر منه اعتداء على غيرهم إذ هو شيء قاصر على نفوسهم والإعلان به بالقول لا يضر بغيرهم. فالاعتداء عليهم بالإخراج من ديارهم لأجل ذلك ظلم بواح واستخدام للقوة في تنفيذ الظلم.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} استثناء من عموم الحق. ولما كان المقصود من الحق حقا يوجب الإخراج. أي الحق عليهم، كان هذا الاستثناء مستعملا على طريقة الاستعارة التهكمية. أي إن كان عليهم حق فهو أن يقولوا ربنا الله، فيستفاد من ذلك تأكيد عدم الحق عليهم بسبب استقراء ما قد يتخيل أنه حق عليهم. وهذا من تأكيد الشيء بما يوهم نقضه. ويسمى عند أهل البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، وشاهده قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وهذه الآية لا محالة نزلت بالمدينة.
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}
اعتراض بين جملة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الخ وبين قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} الخ. فلما تضمنت جملة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}

الخ الإذن للمسلمين بدفاع المشركين عنهم أتبع ذلك ببيان الحكمة في هذا الإذن بالدفاع، مع التنويه بهذا الدفاع، والمتولين له بأنه دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين، وليس هو دفاعا لنفع المسلمين خاصة. والواو في قوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} إلى آخره. اعتراضية وتسمى واو الاستئناف. ومفاد هذه الجملة تعليل مضمون جملة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الخ.
و {وَلَوْلا} حرف امتناع لوجود، أي حرف يدل على امتناع جوابه، أي انتفائه لأجل وجود شرطه، أي عند تحقيق مضمون جملة شرطه فهو حرف يقتضي جملتين. والمعنى: لولا دفاع الناس عن مواضع عبادة المسلمين لصري المشركون ولتجاوزوا فيه المسلمين إلى الاعتداء على ما يجاور بلادهم من أهل الملل الأخرى المناوئة لملة الشرك ولهدموا معابدهم من صوامع، وبيع، وصلوات، ومساجد، للأديان المخالفة للشرك. فذكر الصوامع، والبيع، إدماج لينتبهوا إلى تأييد المسلمين فالتعريف في {النَّاسَ} تعريف العهد، أي الناس الذين يتقاتلون وهم المسلمون ومشركو أهل مكة.
ويجوز أن يكون المراد: لولا ما سبق قبل الإسلام من إذن الله لأمم التوحيد بقتال أهل الشرك كما قاتل داودد جالوت. وكما تغلب سليمان على ملكة سبا. لمحق المشركون معالم التوحيد كما محق بخنتصر هيكل سليمان فتكون هذه الجملة تذييلا لجملة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، أي أذن للمسلمين بالقتال كما أذن لأمم قبلهم لكيلا يطغى عليهم المشركون كما طغوا على من قبلهم حين لم يأذن الله لهم بالقتال، فالتعريف في {النَّاسَ} تعريف الجنس.
وإضافة الدفاع إلى الله إسناد مجازي عقلي لأنه إذن للناس أن يدفعوا عن معابدهم فكان إذن الله سبب الدفع. وهذا يهيب بأهل الأديان إلى التألب على مقاومة أهل الشرك.
وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب {دفاع} . وقرأ الباقون {دَفْعُ} بفتح الدال وبدون ألف. و {بعضهم} بدل من {النَّاسَ} بدل بعض. و {ببعض} متعلق بـ {دفاع} والباء للآلة.
والهدم: تقويض البناء وتسقيطه.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو جعفر {لهُدِمت} - بتخفيف الدال -. وقرأه الباقون -

بتشديد الدال - للمبالغة في الهدم، أي لهدّمت هدما ناشئا عن غيظ بحيث لا يبقون لها أثرا.
والصوامع: جمع صومعة بوزن فوعلة، وهي بناء مستطيل مرتفع يصعد إليه بدرج وبأعلاه بيت، كان الرهبان يتخذونه للعبادة ليكونوا بعداء عن مشاغلة الناس إياهم، وكانوا يوقدون به مصابيح للإعانة على السهر للعبادة ولإضاءة الطريق للمارين. من أجل ذلك سميت الصومعة المنارة. قال امرؤ القيس:
تضيء الظلام بالعشي كأنها ... منارة ممسي راهب متبتل
والبيع جمع: بيعة بكسر الباء وسكون التحتية مكان عبادة النصارى ولا يعرف أصل اشتقاقها. ولعلها معربة عن لغة أخرى.
والصلوات جمع: صلاة وهي هنا مراد بها كنائس اليهود معربة عن كلمة "صلوثا" "بالمثلثة في آخره بعدها ألف". فلما عربت جعلوا مكان المثلثة مثناة فوقية وجمعوها كذلك. وعن مجاهد. والجحدري، وأبي العالية، وأبي رجاء أنهم قرأوها هنا {وصلواث} بمثلثة في آخره. وقال ابن عطيه: قرأ عكرمة. ومجاهد {صلوثا} بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء أي المثلثة كما قال القرطبي وهذه المادة قد فاتت أهل اللغة وهي غفلة عجيبة.
والمساجد: اسم لمحل السجود من كل موضع عبادة ليس من الأنواع الثلاثة المذكورة قبله وقت نزول هذه الآية فتكون الآية نزلت في ابتداء هجرة المسلمين إلى المدينة حين بنوا مسجد قباء ومسجد المدينة.
وجملة: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} صفة والغالب في الصفة الواردة بعد جمل متعاطفة فيها أن ترجع إلى ما في تلك الجمل من الموصوف بالصفة. فلذلك قيل برجوع صفة {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} إلى {صوامع، وبيع، وصلوات، ومساجد} للأربعة المذكورات قبلها وهي معاد ضمير {فيها}.
وفائدة هذا الوصف الإيماء إلى أن سبب هدمها أنها يذكر فيها اسم الله كثيرا، أي ولا تذكر أسماء أصنام أهل الشرك فإنهم لما أخرجوا المسلمين بلا سبب إلا أنهم يذكرون اسم الله فيقولون ربنا الله. لمحو ذكر اسم الله من بلدهم لا جرم أنهم يهدمون المواضع المجعولة لذكر اسم الله كثيرا. أي دون ذكر الأصنام. فالكثرة مستعملة في الدوام

لاستغراق الأزمنة، وفي هذا لإيماء إلى أن في هذه المواضع فائدة دينية وهي ذكر اسم الله.
قال ابن خويز منداد من أئمة المالكية من أهل أواخر القرن الرابع تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نارهم اه.
قلت: أما بيوت النار فلا تتضمن هذه الآية منع هدمها فإنها لا يذكر فيها اسم الله وإنما منع هدمها عقد الذمة الذي ينعقد بين أهلها وبين المسلمين. وقيل الصفة راجعة إلى مساجد خاصة.
وتقديم الصوامع في الذكر على ما بعده لأن صومع الرهبان كانت أكثر في بلاد العرب من غيرها، وكانت أشهر عندهم، لأنهم كانوا يهتدون بأضوائها في أسفارهم ويأوون إليها. وتعقيبها بذكر البيع للمناسبة إذ هي معابد النصارى مثل الصوامع. وأما ذكر الصلوات بعدهما فلأنه قد تهيأ المقام لذكرها، وتأخير المساجد لأنها أعم، وشأن العموم أن يعقب به الخصوص إكمالا للفائدة.
وقوله {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} عطف على جملة {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ}، أي أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم. وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله، فكأنهم نصروا الله. ولذلك أكد الجملة بلام القسم ونون التوكيد. وهذه الجملة تذييل لما فيها من العموم الشامل للمسلمين الذين أخرجهم المشركون.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} تعليل لجملة {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}، أي كان نصرهم مضمونا لأن ناصرهم قدير على ذلك بالقوة والعزة. والقوة مستعملة في القدرة. والعزة هنا حقيقة لأن العزة هي المنعة، أي عدم تسلط غير صاحبها على صاحبها.
بدل من {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} وما بينهما اعتراض. فالمراد من {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} المهاجرون فهو ثناء على المهاجرين وشهادة لهم بكمال دينهم. وعن عثمان: هذا والله ثناء قبل بلاء. أي قبل اختبار. أي فهو من الإخبار بالغيب الذي علمه الله من حالهم. ومعنى {إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي بالنصر الذي وعدناهم في قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
[41] {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}

{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر}
ويجوز أن يكون بدلا من {مَنْ} الموصولة في قوله: {مَنْ يَنْصُرُه} فيكون المراد: كل من نصر الدين من أجيال المسلمين. أي مكناهم بالنصر الموعود به إن نصروا دين الله. وعلى الاحتمالين فالكلام مسوق للتنبيه على الشكر على نعمة النصر بأن يأتوا بما أمر الله به من أصول الإسلام فإن بذلك دوام نصرهم، وانتظام عقد جماعتهم، والسلامة من اختلال أمرهم، فإن حادوا عن ذلك فقد فرطوا في ضمان نصرهم وأمرهم إلى الله.
فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدين وتجديد لمفعوله في النفوس، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم.
والتمكين: التوثيق. وأصله إقرار الشيء في مكان وهو مستعمل هنا في التسليط والتمليك، والأرض للجنس، أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو ملكهم وما بسطت فيه أيديهم. وقد تقدم قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} في سورة الأعراف، وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} في سورة يوسف: والمراد بالمعروف ما هو مقرر من شؤون الدين: وإما بكونه معروفا للأمة كلها: وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائر الأمة. وإما بكونه معروفا لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومرتب علمائه.
والمنكر: ما شأنه أن ينكر في الدين، أي أن لا يرضى بأنه من الدين. وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها، فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شؤون عاداتهم مما هو في منطقة المباح، ولا ما يفعلون في شؤون دينهم مما هو من نوع الديانات كالأعمال المندرجة تحت كليات دينية، والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد السريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين.

والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر وإنما جمعت الآية بينها بأعتبار أول ما تتوجه إليه نفوس الناس عن مشاهدة الأعمال، ولتكون معروفة دليلا على إنكار المنكر وبالعكس إذ بضدها تتمايز الأشياء، ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس.
{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} عطف على جملة: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} ، أو على جملة: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، والمآل واحد، وهو تحقيق وقوع النصر، لأن الذي وعد به لا يمنعه من تحقيق وعده مانع، وفيه تأنيس للمهاجرين لئلا يستبطئوا النصر.
والعاقبة: آخر الشيء وما يعقب الحاضر. وتأنيثها لملاحظة معنى الحالة وصارت بكثرة الاستعمال اسما. وفي حديث هرقل ثم تكون لهم العاقبة.
وتقديم المجرور هنا للاهتمام والتنبيه على أن ما هو لله فهو يصرفه كيف يشاء.
[42-43] {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}
لما نعى على المشركين مساويهم في شؤون الدين بإشراكهم وإنكارهم البعث وصدهم عن الإسلام وعن المسجد الحرام وما ناسب ذلك في غرضه من إخراج أهله منه، عطف هنا إلى ضلالهم بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فقصد من ذلك تسلية الرسول "عليه الصلاة والسلام" وتمثيلهم بأمثال الأمم التي استأصلها الله، وتهديدهم بالمصير إلى مصيرهم. ونظير هذه الآية إجمالا وتفصيلا تقدم غير مرة في سورة آل عمران وغيرها.
وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله: {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} الخ إذ التقدير: فلا عجب في تكذيبهم، أو فلا غضاضة عليك في تكذيب قومك إياك فإن تلك عادة أمثالهم.
وقوم إبراهيم هم الكلدان. وأصحاب مدين هم قوم شعيب. وإنما لم يعبر عنهم بقوم شعيب لئلا يتكرر لفظ قوم أكثر من ثلاث مرات.
وقال: {وَكُذِّبَ مُوسَى} لأن مكذبيه هم القبط قوم فرعون ولم يكذبه قومه بنو إسرائيل.

وقوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} معناه فأمليت لهم، فوضع الظاهر موضع الضمير للإيماء إلى أن علة الإملاء لهم ثم أخذهم هو الكفر بالرسل تعريضا بالنذارة لمشركي قريش.
والأخذ، حقيقته: التناول لما لم يكن في اليد، واستعير هنا للقدرة عليهم بتسليط الإهلاك بعد إمهالهم. ومناسبة هذه الاستعارة أن الإملاء لهم يشبه بعد الشيء عن متناوله فشبه انتهاء ذلك الإملاء بالتناول، شبه ذلك بأخذ الله إياهم عنده، لظهور قدرته عليهم بعد وعيدهم، وهذا الأخذ معلوم في آيات أخرى عدا أن قوم إبراهيم لم يتقدم في القرآن ذكر لعذابهم أو أخذهم سوى أن قوله تعالى: في سورة الأنبياء {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} مشير إلى سوء عاقبتهم مما أرادوا به من الكيد. وهذه الآية صريحة في ذلك كما أشرنا هنالك.
ومناسبة عد قوم إبراهيم هنا في عداد الأقوام الذين أخذهم الله دون الآيات الأخرى التي ذكر فيها من أخذوا من الأقوام، أن قوم إبراهيم أتم شبها بمشركي قريش في أنهم كذبوا رسولهم وآذوه، وألجأوه إلى الخروج من موطنه {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} ، فكان ذكر إلجاء قريش المؤمنين إلى الخروج من موطنهم في قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} مناسبة لذكر قوم إبراهيم.
والإملاء: ترك المتلبس بالعصيان دون تعجيل عقوبته وتأخيرها إلى وقت متأخر حتى يحسب أنه قد نجا ثم يؤخذ بالعقوبة.
والفاء في {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} للتعقيب دلالة على أن تقدير هلاكهم حاصل في وقت تكذيبهم وإنما أخر لهم، وهو تعقيب موزع، فلكل قوم من هؤلاء تعقيب إملائه. والأخذ حاصل بعد الإملاء بمهلة، فلذلك عطف فعله بحرف المهلة.
وعطفت جملة: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} بالفاء لأن حق ذلك الاستفهام أن يحصل عند ذكر ذلك الأخذ، وهو استفهام تعجيبي، أي فأعجب من نكيري كيف حصل. ووجه التعجيب منه أنهم أبدلوا بالنعمة محنة، وبالحياة هلاكا، وبالعمارة خرابا فهو عبرة لغيرهم.
والنكير: الإنكار الزجري لتغيير الحالة التي عليها الذي ينكر عليه.
و {نكير} بكرة في آخره دالة على بناء المتكلم المحذوفة تخفيفا.
وكأن مناسبة اختيار النكير في هذه الآية دون العذاب ونحوه أنه وقع بعد التنويه بالنهي عن النكر لينبه المسلمين على أن يبذلوا في تغيير المنكر منتهى استطاعتهم، فإن

الله عاقب على المنكر بأشد العقاب، فعلى المؤمنين الائتساء بصنع الله، وقد قال الحكماء: إن الحكمة هي التشبه بالخالق بقدر ما تبلغه القوة الإنسانية، وفي هذا المجال تتسابق جياد الهمم.
[45] {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}
تفرع ذكر جملة: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} على جملة: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} فعطفت عليها بفاء التفريع، والتعقيب في الذكر لا في الوجود، لأن الإملاء لكثير من القرى ثم أخذها بعد الإملاء لها بين كيفية نكير الله وغضبه على القرى الظالمة ويفسره، فناسب أن يذكر التفسير عقب المفسر بحرف التفريع. ثم هو يفيد بما ذكر فيه من اسم كثرة العدد شمولا للأقوام الذين ذكروا من قبل في قوله: {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} إلى آخره فيكون لتلك الجملة بمنزلة التذييل.
و {كَأَيِّنْ} اسم دال على الإخبار عن عدد كثير.
وموضعها من الجملة محل رفع بالابتداء وما بعده خبر. والتقدير: كثير من القرى أهلكناها، وجملة: {أَهْلَكْنَاهَا} الخبر: ويجوز كونها في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف يفسره {أَهْلَكْنَاهَا} . والتقدير: أهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها، والأحسن الوجه الأول لأنه يحقق الصدارة التي تستحقها "كأين" بدون حاجة إلى ذكر الاكتفاء بالصدارة الصورية. وعلى الوجه الأول فجملة: {أَهْلَكْنَاهَا} في محل جر صفة لـ"قرية" وجملة: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ} معطوفة على جملة: {أَهْلَكْنَاهَا} وقد تقدم نظيره في قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} في سورة آل عمران.
وأهل المدن الذين أهلكهم الله لظلمهم كثيرون، منهم من ذكر في القرآن مثل عاد وثمود، ومنهم من لم يذكر مثل طسم وجديس وآثارهم باقية في اليمامة.
ومعنى {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أنها لم يبق فيها سقف ولا جدار. وجملة: {عَلَى عُرُوشِهَا} خبر ثان عن ضمير {فهي} . والمعنى: ساقطة على عروشها، أي ساقطة جدرانها فوق سقفها.
والعروش: جمع عرش، وهو السقف. وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية عند قوله

تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} في سورة البقرة.
والمعطلة: التي عطل الانتفاع بها مع صلاحها للانتفاع، أي هي نابعة بالماء وحولها وسائل السقي ولكنها لا يستقي منها لأن أهلها هلكوا. وقد وجد المسلمون في مسيرهم إلى تبوك بئار في ديار ثمود ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب منها إلا بئرا واحدة التي شربت منها ناقة صالح "عليه السلام".
والقصر: المسكن المبني بالحجارة المجعول طباقا.
والمشيد: المبني بالشيد بكسر الشين وسكون الياء وهو الجص، وإنما يبنى به البناء من الحجر لأن الجص أشد من التراب فبشدة مسكه يطول بقاء الحجر الذي رص به.
والقصور المشيدة، وهي المخلفة عن القرى التي أهلكها الله، كثيرة مثل: قصر غمدان في اليمن، وقصور ثمود في الحجر، وقصور الفراعنة في صعيد مصر. وفي تفسير القرطبي يقال: إن هذه البئر وهذا القصر بحضرموت معروفان. ويقال: إنها بئر الرس وكانت في عدن وتسمى حضور بفتح الحاء وكان أهلها بقية من المؤمنين بصالح الرسول "عليه السلام" وكان صالح معهم، وأنهم آل أمرهم إلى عبادة صنم وأن الله بعث إليهم حنظلة بن صفوان رسولا فنهاهم عن عبادة الصنم فقتلوه فغارت البئر وهلكوا عطشا. يريد أن هذه القرية واحدة من القرى المذكورة في هذه الآية وإلا فإن كلمة "كأين" تنافي إرادة قرية معينة.
وقرأ الجمهور {أَهْلَكْنَاهَا} بنون العظمة وقرأه أبو عمرو ويعقوب {أهلكتها} بتاء المتكلم.
[46] {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
تفريع على جملة: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} وما بعدها.
والاستفهام تعجيبي من حالهم في عدم الاعتبار بمصارع الأمم المكذبة لأنبيائها: والتعجيب متعلق بمن سافروا منهم ورأوا شيئا من تلك القرى المهلكة وبمن لم يسافروا، فإن شأن المسافرين أن يخبروا القاعدين بعجائب ما شاهدوه في أسفارهم كما يشير إليه

قوله تعالى: {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} فالمقصود بالتعجب هو حال الذين ساروا في الأرض، ولكن جعل الاستفهام داخلا على نفي السير لأن سير السائرين منهم لما لم يفدهم عبرة وذكرى جعل كالعدم فكان التعجب من انتفائه، فالكلام جار على خلاف مقتضى الظاهر.
والفاء في {فَتَكُونَ} سببية جوابية مسبب ما بعدها على السير، أي لم يسيروا سيرا تكون لهم به قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها، أي انتفى أن تكون لهم قلوب وآذان بهذه المثابة لانتفاء سيرهم في الأرض. وهذا شأن الجواب بالفاء بعد النفي أن تدخل الفاء على ما هو مسبب على المنفي لو كان ثابتا. وفي هذا المعنى قال المعري:
وقيل أفاد بالأسفار مالا ... فقلنا هل أفاد بها فؤادا.
وهذا شأن الأسفار أن تفيد المسافر ما لا تفيده الإقامة في الأوطان من اطلاع على أحوال الأقوام وخصائص البلدان واختلاف العادات، فهي تفيد كل ذي همة في شيء فوائد همته نفاذا فيما تتوجه إليه وأعظم ذلك فوائد العبرة بأسباب النجاح والخسارة.
وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل لأن القلب هو مفيض الدم وهو مادة الحياة على الأعضاء الرئيسة وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل، ولذلك قال: {يَعْقِلُونَ بِهَا} وإنما آلة العقل هي الدماغ ولكن الكلام جرى أوله على متعارف أهل اللغة ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال: {يَعْقِلُونَ بِهَا} فأشار إلى أن القلوب هي العقل.
ونزلت عقولهم منزلة المعدوم كما نزل سيرهم في الأرض منزلة المعدوم.
وأما ذكر الأذان فلأن الأذان آلة السمع والسائر في الأرض ينظر آثار الأمم ويسمع أخبار فنائهم فيستدل من ذلك على ترتب المسببات على أسبابها، على أن حظ كثير من المتحدث إليهم وهم الذين لم يسافروا أن يتلقوا الأخبار من المسافرين فيعلموا ما علمه المسافرون علما سبيله سماع الأخبار.
وفي ذكر الآذان اكتفاء عن ذكر الأبصار إذ يعلم أن القلوب التي تعقل إنما طريق علمها مشاهدة آثار العذاب والاستئصال كما أشار إليه قوله بعد ذلك {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
فحصل من مجموع نظم الآية أنهم بمنزلة الأنعام لهم آلات الاستدلال وقد انعدمت

منهم آثارها فلهو قلوب لا يعقلون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون. بها وهذا كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.
والفاء في جملة: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} تفريع على جواب النفي في قوله: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ، وفذلكة للكلام السابق، وتذييل له بما في هذه الجملة من العموم.
والضمير في قوله: {فَإِنَّهَا} ضمير القصة والشأن، أي فإن الشأن والقصة هو مضمون الجملة بعد الضمير، أي لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب. أي فإن الأبصار والأسماع طرق لحصول العلم بالمبصرات والمسموعات، والمدرك لذلك هو الدماغ فإذا لم يكن في الدماغ عقل كان المبصر كالأعمى والسامع كالأصم، فآفة ذلك كله هو اختلال العقل.
واستعير العمى الثاني لانتفاء إدراك المبصرات بالعقل مع سلامة حاسة البصر لشبهه به في الحالة الحاصلة لصاحبه.
والتعريف في {الأبصار} ، و {القلوب} ، و {الصدور} تعريف الجنس الشامل لقلوب المتحدث عنهم وغيرهم. والجمع فيها باعتبار أصحابها.
وحرف التوكيد في قوله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} لغرابة الحكم لا لأنه مما يشك فيه.
وغالب الجمل المفتتحة بضمير الشأن اقترانها بحرف التوكيد.
والقصر المستفاد من النفي وحرف الاستدراك قصر ادعائي للمبالغة بجعل فقد حاسة البصر المسمى بالعمى كأنه غير عمى، وجعل عدم الاهتداء إلى دلالة المبصرات مع سلامة حاسة البصر هو العمى مبالغة في استحقاقه لهذا الاسم الذي استعير إليه، فالقصر ترشيح للاستعارة.
ففي هذه الآية أفانين من البلاغة والبيان وبداعة النظم.
و {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} صفة لـ {القلوب} تفيد توكيدا للفظ {القلوب} فوزانه وزان الوصف في قوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} . ووزان القيد في قوله:

{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} فهو لزيادة التقرير والتشخيص.
ويفيد هذا الوصف وراء التوكيد تعريضا بالقوم المتحدث عنهم بأنهم لم ينتفعوا بأفئدتهم مع شدة اتصالها بهم إذ هي قارة في صدورهم على نحو قول عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "فالآن أنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي" فإن كونها بين جنبيه يقتضي أن تكون أحب الأشياء إليه.
[47] {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}
عطف على جملة: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} عطف القصة على القصة فإن من تكذيبهم أنهم كذبوا بالوعيد وقالوا: لو كان محمد صادقا في وعيده لعجل لنا وعيده، فكانوا يسألونه التعجيل بنزول العذاب استهزاء، كما حكى الله عنهم في قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وقال {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فذكر ذلك في هذه الآية بمناسبة قوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} الآية.
وحكي {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} بصيغة المضارع للإشارة إلى تكريرهم ذلك تجديدا منهم للاستهزاء وتوركا على المسلمين.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود إبلاغه إياهم.
والباء من قوله: {بِالعَذَابِ} زائدة لتأكيد معنى الاستعجال بشدته كأنه قيل يحرصون على تعجيله. وقد تقدم ذلك عند قوله :{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} في أول سورة الرعد.
ولما كان استعجالهم إياه تعريضا منهم بأنهم موقنون بأنه غير واقع أعقب بقوله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}. أي فالعذاب الموعود لهم واقع لا محالة لأنه وعد من الله والله لا يخلف وعده. وفيه تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لئلا يستبطئونه.
وقوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} عطف على جملة: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} فإن الله توعدهم بالعذاب وهو صادق على عذاب الدنيا والآخرة وهم إنما استعجلوا عذاب الدنيا تهكما وكناية عن إيقانهم بعدم وقوعه بلازم واحد، وإيماء إلى عدم

وقوع عذاب الآخرة بلازمين، فرد الله عليهم ردا عاما بقوله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} ، وكان ذلك تثبيتا للمؤمنين. ثم أعقبه بإنذارهم بأن عذاب الآخرة لا يفلتون منه أيضا وهو أشد العذاب.
فقوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} خبر مستعمل في التعريض بالوعيد. وهذا اليوم هو يوم القيامة".
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} .
وليس المراد بقوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ} إلى آخره استقصار أجل حلول العذاب بهم في الدنيا كما درج عليه أكثر المفسرين لعدم رشاقة. ذلك على أن هذا الاستقصار يغني عنه قوله عقب هذا {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا}.
والخطاب في {تَعُدُّونَ} للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وقرأ الجمهور {تَعُدُّونَ} بالفوقية. وقرأه ابن كثير، وحمزة، والكسائي {مما يعدون} بياء الغائبين، أي مما يعده المشركون المستعجلون بالعذاب.
[48] {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}
عطف على جملة: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أو على جملة: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} باعتبار ما تضمنه استعجالهم بالعذاب من التعريض بأنهم آيسون منه لتأخر وقوعه، فذكروا بأن أمما كثيرة أمهلت ثم حل بها العذاب. فوزان هذه الآية وزان قوله آنفا {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الخ، إلا أن الأولى قصد منها كثرة الأمم التي أهلكت لئلا يتوهم من ذكر قوم نوح ومن عطف عليهم أن الهلاك لم يتجاوزهم ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإهلاك دون الإمهال. وهذه الآية القصد منها التذكير بان تأخير الوعيد لا يقتضي إبطاله، ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإمهال ثم الأخذ بعده المناسب للإملاء من حيث إنه دخول في القبضة بعد بعده عنها.
وأما عطف جملة: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} بالفاء وعطف جملة: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} بالواو فلأن الجملة الأولى وقعت بدلا من جملة: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} فقرنت بالفاء التي دخلت نظيرتها على الجملة

المبدل منها، وأما هذه الجملة الثانية فخلية عن ذلك فعطفت بالحرف الأصلي للعطف.
وجملة: {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} تذييل، أي مصير الناس كلهم إلي والمصير مصدر ميمي لـ"صار" بمعنى: رجع، وهو رجوع مجازي بمعنى الحصول في المكنة.
وتقديم المجرور للحصر الحقبقي، أي يصير الناس إلا إلى الله، وهو يقتضي أن المصير إليه لا محالة، وهو المقصود من الحصر لأن الحصر يقتضي بالأحرى فهو كناية عن عدم الإفلات.
[49-50] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
استئناف بعد المواعظ السالفة والإنذارات. وافتتحاحه بـ {قل} للاهتمام به: وافتتاح المقول بنداء الناس للفت ألبابهم إلى الكلام. والمخاطبون هم المشركون.
والغرض من خطابهم إعلامهم بأن تكذيبهم واستهزاءهم لا يغيظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصده عن إداء رسالته: ففي ذلك قمع لهم إذا كانوا يحسبون أنهم بتكذيبهم واستهزائهم يملونه فيترك دعوتهم. وفيه تثبيت للنبي وتسلية فيما يلقاه منهم.
وقصر النبي على صفة النذارة قصر إضافي، أي لست طالبا نكايتكم ولا تزلفا فمن آمن فلنفسه ومن عمي فعليها.
والنذير: المحذر من شر يتوقع.
وفي تقديم المجرور المؤذن بالاهتمام بنذارتهم إيماء إلى أنهم مشرفون على شر عظيم فهم أحرياء بالنذارة.
والمبين: المفصح الموضح، أي مبين للإنذار بما لا إيهام فيه ولا مصانعة.
وفرع على الأمر بالقول تقسيم للناس في تلقي هذا الإنذار المأمور الرسول بتبليغه إلى مصدق ومكذب لبيان حال كلا الفريقين في الدنيا والآخرة ترغيبا في الحالة الحسنى وتحذيرا من الحالة السوأى فقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ} إلى آخره، فهذا إخبار من الله تعالى كما يقتضيه قوله: {فِي آيَاتِنَا}.

والجملة معترضة بالفاء.
والمغفرة: غفران ما قدموه من الشرك وما يتبعه من شرائع الشرك وضلالاته ومفاسده. وهذه المغفرة تفضي إلى نعيم الآخرة، فالمعنى: أنهم فازوا في الدار الآخرة.
والرزق: العطاء. ووصفه بالكريم يجمع وفرته وصفائه من المكدرات كقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ذلك هو الجنة.
والرزق منه ما هو حاصل لهم في الدنيا، فهم متمتعون بانشراح صدورهم ورضاهم عن ربهم، وأعظمه ما يحصل لهم في الآخرة.
والذين سعوا هم الفريق المقابل للذين آمنوا، فمعناه: والذين استمروا على الكفر، فعبر عن الاستمرار بالسعي في الآيات لأنه أخص من الكفر، وذلك حال المشركين المتحدث عنهم.
والسعي: المشي الشديد، ويطلق على شدة الحرص في العمل تشبيها للعامل الحريص بالماشي الشديد في كونه يكد للوصول إلى غاية كما قال تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى} . فليس المراد أن فرعون خرج يمشي وأنما المراد أنه صرف عنايته لإحضار السحرة لإحباط دعوة موسى، وقال تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً}.
والكلام تمثيل، شبهت هيئة تفننهم في التكذيب بالقرآن وتطلب المعاذير لنقض دلائله من قولهم: هو سحر، هو شعر، هو أساطير الأولين، هو قول مجنون، وتعرضهم بالمجادلات والمناقضات للنبي صلى الله عليه وسلم بهيئة الساعي في طريق يسابق غيره ليفوز بالوصول.
والمعاجز: المسابق الطالب عجز مسايره عن الوصول إلى غايته وعن اللحاق به، فصيغ له المفاعلة لأن كل واحد يطلب عجز الآخر عن لحاقه. والمعنى: أنهم بعملهم يغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يشعرون أنهم يحاولون أن يغلبوا الله وقد ظنوا أنهم نالوا مرادهم في الدنيا ولم يعلموا ما لهم من سوء العاقبة.
وقرأ الجمهور {مُعَاجِزِينَ} بألف بعد العين وقرأه ابن كثير، وأبوا عمرو {معجزين} بفتح العين وتضعيف الجيم أي محاولين إعجاز الله تعالى وهم لا يعلمون.

والتصدير باسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} " للتنبيه على أن المخبر عنهم جديرون بما سيرد بعد اسم الإشارة من الحكم لأجل ما ذكر قبله من الأوصاف، أي هم أصحاب الجحيم لأنهم سعوا في آياتنا معاجزين. ومن أحسن ما يفسر هذه الآية ما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان1 فالنجاء النجاء، فأطاعته طائفة من قومه فأدلجوا2 وانطلقوا على مهلهم3. وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق".
[52-54] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
عطف على جملة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، لأنه لما أفضى الكلام السابق إلى تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتأنيس نفسه فيما يلقاه من قومه من التكذيب بأن تلك شنشنة الأمم الظالمة من قبلهم فيما جاء عقب قوله: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الخ، وأنه مقصور على النذارة فمن آمن فقد نجا ومن كفر فقد هلك، أريد الانتقال من ذلك إلى تفصيل تسليته وتثبيته بأنه لقي ما لقيه سلفه من الرسل والأنبياء "عليهم السلام" وأنه لم يسلم أحد منهم من محاولة الشيطان أن يفسد بعض ما يحاولونه من هدي الأمم وأنهم لقوا من أقوامهم مكذبين ومصدقين سنة الله في رسله "عليهم السلام".
فقوله: {مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} نص في العموم، فأفاد أن ذلك لم يعد أحد من
ـــــــ
1 العريان: المجرد من الثياب - والنذير العريان مثل أصله: أن أحد القوم إذا رأى عدوا يريد غرة قومه ولم يجد شيئا يشير به نزع ثوبه فألوى به أي لوح.
2 أدلجوا بهمزة قطع مفتوحة وبسكون الدال أي: ساروا في دلجة الليل, أي: ظلامه.
3 المهل - بفتحتين - عدم العجلة, أي: انطلقوا غير فزعين.

الأنبياء والرسل.
وعطف {نَبِيٍّ} على {رَسُولٍ} دال على أن للنبي معنى غير معنى الرسول.
فالرسول: هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة. والنبي: من أوحى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقة أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشرائع كلها فالنبي أعم من الرسول، وهو التحقيق.
والتمني: كلمة مشهورة. وحقيقتها: طلب الشيء العسير حصوله. والأمنية: الشيء المتمنى. وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلهم صالحين مهتدين. والاستثناء من عموم أحوال تابعه لعموم أصحابها وهو {مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} ، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلا في حال إذا تمنى أحدهم أمنية ألقي الشيطان فيها الخ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأن أماني الأنبياء خير محض والشيطان دأبه الإفساد وتعطيل الخير.
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافي، أي دون أن نرسل أحد منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره.
والإلقاء حقيقته: رمي الشيء من اليد. واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيها للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس. ومنه قوله تعالى: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} وقوله: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} وكقوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} على ما حققناه فيما مضى.
ومفعول {أَلْقَى} محذوف دل عليه المقام لأن الشيطان إنما يلقي الشر والفساد. فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنى الهدي والصلاح. وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دل على أنه إلقاء الضلال والفساد. فالتقدير: أدخل الشيطان في نفوس القوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد.
ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول ألقاء ما يضادها، كمن يمكر فيلقي السم في السم، فإلقاء الشيطان بوسوسته: أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان، ويلقي في قلوب أئمة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم. ويروج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البرهان، والله تعالى يعيد الإرشاد ويكرر الهدي على لسان النبي. ويفضح وساوس الشيطان وسوء فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ

الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}. فالله يهديه وبيانه ينسخ ما يلقي الشيطان، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح، ويزيد آيات دعوة رسله بيانا، وذلك هو إحكام آياته، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رين على قلبه. وقد تقدم معنى الآيات المحكمات في آل عمران.
وقد فسر كثير من المفسرين {تَمَنَّى} بمعنى قرأ. وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتا نسبوه إلى حسان بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها. وأياما كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواء، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر. فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدم امتثال النبي بإلقاء شيء لخلطه وإفساده.
وعندي في صحة إطلاق لفظ المنية على القراءة شك عظيم، فإنه وإن كان قد ورد تمنى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الخير:
تمنى كتاب الله أول ليله ... تمنى داود الزبور على مهل
فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية.
ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنى هدي قومه أو حرص على ذلك فلقي العناد، وتمنى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يقصر النبي من حرصه أو أن يضجره، وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر ان ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلف به الدأب على الدعوة والحرص على الرشد. فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوحا إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
و {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} للترتيب الرتبي، لأن إحكام الآيات وتقريرها أهم من نسخ ما يلقي الشيطان بالإحكام يتضح الهدى ويزداد ما يلقيه الشيطان نسخا.

وجملة: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} معترضة.
ومعنى هذه الآية: أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان، كما حكي الله عن المشركين قولهم: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا} فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حكيت عنهم في تفاصيل القرآن، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدون عن دعوة رسلهم، وذلك هو الصبر الذي في قوله: {لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} وقوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} . وكلما أفسد الشيطان دعوة الرسل أمر الله رسله فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن. فبتلك المعاودة ينسخ ما ألقاه الشيطان وتثبت الآيات السالفة. فالنسخ: الإزالة، والإحكام: التثبيت. وفي كلتا الجملتين حذف مضاف، أي ينسخ آثارها ما يلقي الشيطان، ويحكم آثار آياته.
واللامان في قوله: {لِيَجْعَلَ} وفي قوله: {وَلِيَعْلَمَ} متعلقتان بفعل {ينسخ الله} فإن النسخ يقتضي منسوخا. وفي "يجعل" ضمير عائد إلى الله في قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ}.
والجعل، هنا: جعل نظام ترتب المسببات على أسبابها، وتكوين تفاوت المدارك ومراتب درجاتها. فالمعنى: أن الله مكن الشيطان من ذلك الفعل بأصل فطرته من يوم خلق فيه داعية الإضلال، ونسخ ما يلقيه الشيطان بواسطة رسله وآياته ليكون من ذلك فتنة ضلال كفر وهدي إيماء بحسب اختلاف القابليات. فهذا كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}.
ولام {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} مستعار لمعنى الترتب مثل اللام في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} . وهي مستعارة لمعنى التعقيب الذي حقه أن يكون بحرف الفاء، أي تحصل عقب النسخ الذي فعله الله فتنة من أفتن من المشركين بانصرافهم عن التأمل في أدلة نسخ ما يلقيه الشيطان، وعن استماع ما أحكم الله به آياته، فيستمر كفرهم ويقوى.

وأما لام {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فهي على أصل معنى التعليل، أي ينسخ ما يلقي الشيطان لإرادة أن يعلم المؤمنون انه الحق برسوخ ما تمناه الرسول والأنبياء لهم من الهدي كما يحصل لهم بما يحكم الله من آياته ازدياد الهدى في قلوبهم.
{وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هم المترددون في قبول الإيمان. {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} هم الكافرون المصممون على الكفر. والفريقان هم المراد بـ {الظَّالمِينَ} في قوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . فذكر {الظَّالِمِينَ} إظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن علة كونهم في شقاق بعيد هي ظلمهم. أي كفرهم.
والشقاق: الخلاف والعداوة.
والبعيد هنا مستعمل في معنى: البالغ حدا قويا في حقيقته. تشبيها لانتشار الحقيقة فيه بانتشار المسافة في المكان البعيد كما في قوله تعالى: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} أي دعاء كثير ملح.
وجملة: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} معترضة بين المتعاطفات.
و {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} هم المؤمنون بقرينة مقابلته بـ {الذين في قلوبهم مرض} وبقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . فالمراد بالعلم الوحي والكتب التي أوتيها أصحاب الرسل السابقين فإنهم بها يصيرون من أهل العلم.
وإطلاق {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} على المؤمنين تكرار في القرآن.
وهذا ثناء على أصحاب الرسل بأنهم أوتوا العلم، وهو علم الدين الذي يبلغهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن نور النبوءة يشرق في قلوب الذين يصحبون الرسول. وذلك تجد من يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون قبل الإيمان جلفا فإذا آمن انقلب حكيما، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
وضمير {أَنَّهُ الحَقُّ} عائد إلى العلم الذي أوتوه، أي ليزدادوا يقينا بأن الوحي الذي أوتوه هو الحق لا غيره مما ألقاه الشيطان لهم من التشكيك والشبه والتضليل، فالقصر المستفاد من تعريف الجزأين قصر إضافي. ويجوز أن يكون ضمير {أنه} عائدا إلى ما

تقدم من قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ} إلى قوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} ، أي أن المذكور هو الحق، كقول رؤية:
فيها خطوط من سواد وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق
أي كان المذكور.
وقوله: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ} معناه: فيزدادوا إيمانا أو فيؤمنوا بالناسخ والمحكم كما آمنوا بالأصل.
والإخبات: الاطمئنان والخشوع. وتقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} ، أي فيستقر ذلك في قلوبهم كقوله تعالى: {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
وبما تلقيت في تفسير هذه الآية من الانتظام البين الواضح المستقل بدلالته والمستغني بنهله عن علالته، والسالم من التكلفات والاحتياج إلى ضميمة القصص ترى أن الآية بمعزل عما ألصقه بها الملصقون والضعفاء في علوم السنة، وتلقاء منهم فريق من المفسرين حبا في غرائب النوادر دون تأمل ولا تمحيص، من أن الآية نزلت في قصة تتعلق سورة النجم فلم يكتفوا بما أفسدوا من معنى هذه الآية حتى تجاوزوا بهذا الإلصاق إلى إفساد معاني سورة النجم، فذكروا في ذلك روايات عن سعيد بن جبير، وابن شهاب، ومحمد بن كعب القرطبي، وأبي العالية، والضحاك وأقربها رواية عن ابن شهاب وابن جبير والضحاك قالوا: "إن النبي صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قريش كثير أهله من مسلمين وكافرين، فقرأ عليهم سورة النجم فلما بلغ قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} القي الشيطان بين السامعين عقب ذلك قوله: {تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى} ففرح المشركون بان ذكر آلهتهم بخير. وكان في آخر تلك السورة سجدة من سجود التلاوة. فلما سجد في آخر السورة سجد كل من حضر من المسلمين والمشركين. وتسامع الناس بان قريشا أسلموا حتى شاع ذلك ببلاد الحبشة. فرجع من مهاجرة الحبشة نفر منهم عثمان بن عفان إلى المدينة. وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر بأن الشيطان ألقى. فأعلمه جبريل عليه السلام فاغتم لذلك فنزل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} الآية تسلية له.
وهي قصة يجدها السامع ضغثا على إبالة، ولا يلقي إليها النحرير باله. وما رويت

إلا بأسانيد واهية ومنتهاها إلى ذكر قصة، وليس في أحد أسانيدها سماع صحابي لشيء في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وسندها إلى ابن عباس سند مطعون. على أن ابن عباس يوم نزلت سورة النجم كان لا يحضر مجالي النبي صلى الله عليه وسلم وهي أخبار آحاد تعارض أصول الدين لأنها تخالف أصل عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا التباس عليه في تلقي الوحي. ويكفي تكذيبا لها قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}. وفي معرفة الملك. فلو رووها الثقات لوجب رفضها وتأويلها فكيف وهي ضعيفة واهية. وكيف يروج على ذي مسكة من عقل أن يجتمع في كلام واحد تسفيه المشركين في عبادتهم الأصنام بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} إلى قوله: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فيقع في خلال ذلك مدحها بأنها الغرانيق العلى وأن شفاعتهم لترتجى. وهل هذا إلا كلام يلعن بعضه بعضا. وقد اتفق الحاكون أن النبي صلى الله عليه وسلم قرا سورة النجم كلها حتى خاتمتها {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} لأنهم إنما سجدوا حين سجد المسلمون، فدل على أنهم سمعوا السورة كلها وما بين آية {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} وبين آخر السورة آيات كثيرة في إبطال الأصنام وغيرها من معبودات المشركين، وتزييف كثير لعقائد المشركين فكيف يصح أن المشركين سجدوا من أجل الثناء على آلهتهم. فإن لم تكن تلك الأخبار مكذوبة من أصلها فإن تأويلها: أن بعض المشركين وجدوا ذكر اللات والعزى فرصة للدخل لاختلاق كلمات في مدحهن، وهي هذه الكلمات وروجوها بين الناس تأنيسا لأوليائهم من المشركين وإلقاء للريب في قلوب ضعفاء الإيماء.
وفي "شرح الطيبي على الكشاف" نقلا عن بعض المؤرخين: أن كلمات الغرانيق.. أي هذه الجمل من مفتريات ابن الزبعرى. ويؤيد هذا ما رواه الطبري عن الضحاك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه قصة آلهة العرب أي قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} الخ فجعل يتلو: اللات والعزى أي الآية المشتملة على هذا فسمع أهل مكة نبي الله يذكر آلهتهم ففرحوا ودونوا يستمعون فألقى الشيطان: تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجي فإن قوله "دنوا يستمعون فألقى الشيطان" الخ يؤذن بأنهم لم يسمعوا أول السورة ولا آخرها وأن شيطانهم ألقى تلك الكلمات. ولعل ابن الزبعرى كانت له مقدرة على محاكاة الأصوات وهذه مقدرة توجد في بعض الناس. وكنت أعرف فتى من أترابنا ما يحاكي صوت أحد إلا ظنه السامع أنه صوت المحاكى.
وأما تركيب تلك القصة على الخبر الذي ثبت فيه أن المشركين سجدوا في آخر

سورة النجم لما سجد المسلمون، وذلك مروي في الصحيح، فلذلك من تخليط المؤلفين.
وكذلك تركيب تلك القصة على آية سورة الحج. وكم بين نزول سورة النجم التي هي من أوائل السور النازلة بمكة وبين نزول سورة الحج التي بعضها من أول ما نزل بالمدينة وبعضها من آخر ما نزل بمكة.
وكذلك ربط تلك القصة بقصة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة. وكم بين مدة نزول سورة النجم وبين سنة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة.
فالوجه: أن هذه الشائعة التي أشيعت بين المشركين في أول الإسلام. إنما هي من اختلافات المستهزئين من سفهاء الأحلام بمكة مثل ابن الزبعرى، وأنهم عمدوا إلى آية ذكرت فيها اللات والعزى ومناة فركبوا عليها كلمات أخرى لإلقاء الفتنة في الناس وإنما خصوا سورة النجم بهذه المرجفة لأنهم حضروا قراءتها في المسجد الحرام وتعلقت بأذهانهم وتطلبا لإيجاد المعذرة لهم بين قومهم على سجودهم فيها الذي جعله الله معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد سرى هذا التعسف إلى إثبات معنى في اللغة، فزعموا أن {تمنى} بمعنى: قرأ، والأمنية: القراءة، وهو ادعاء لا يوثق به ولا يوجد له شاهد صريح في كلام العرب. وأنشدوا بيتا لحسان بن ثابت في رثاء عثمان رضي الله عنه:
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقي حمام المقادر
وهو محتمل أن معناه تمنى أن يقرأ القرآن في أول الليل على عادته فلم يتمكن من ذلك بتشغيب أهل الحصار عليه وقتلوه آخر الليل. ولهذا جعله تمنيا لأنه أحب ذلك فلم يستطع. وربما أنشدوه برواية أخرى فظن أنه شاهد آخر. وربما توهموا الرواية الثانية بيتا آخر. ولم يذكر الزمخشري هذا المعنى في الأساس . وقد قدمنا ذلك عند قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} في سورة البقرة.
وجملة: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} معترضة. والواو للاعتراض. والذين أوتوا العلم هم المؤمنون. وقد جمع لهم الوصفان كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} في سورة الروم، وكما في سورة سبأ {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} . فإظهار لفظ {الذِينَ آمَنُوُا} في مقام ضمير {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} لقصد مدحهم بوصف الإيمان، والإيماء إلى أن إيمانهم هو سبب هديهم. وعكسه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي

مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . فالمراد بالهدى في كلتا الآيتين عناية الله بتيسيره وإلا فإن الله هدى الفريقين بالدعوة والإرشاد فمنهم من اهتدى ومنهم من كفر.
وكتب في المصحف {لَهَادِ} بدون ياء بعد الدال واعتبار بحالة الوصل على خلاف الغالب. وفي الوقف يثبت يعقوب الياء بخلاف البقية.
[55] {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}
لما حكى عن الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أن ما يلقيه لهم الشيطان من إبطال ما جاءت به الرسل يكون عليهم فتنة، خص في هذه الآية الكافرين بالقرآن بعد أن عمهم مع جملة الكافرين بالرسل، فخصهم بأنهم يستمر شكهم فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويترددون في الإقدام على الإسلام إلى أن يحال بينهم وبينه بحلول الساعة بغتة أو بحلول عذاب بهم قبل الساعة، فالذين كفروا هنا هم مشركو العرب بقرينة المضارع في فعل {لا يزال} وفعل {حَتَّى تَأْتِيَهُمْ} الدالين على استمرار ذلك في المستقبل.
ولأجل ذلك قال جمع من المفسرين: إن ضمير {فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} عائد إلى القرآن المفهوم من المقام. والأظهر أنه عائد إلى ما عاد عليه ضمير {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ}.
و {الساعة} علم بالغلبة على يوم القيامة في اصطلاح القرآن، واليوم: يوم الحرب. وقد شاع إطلاق اسم اليوم على وقت الحرب. ومنه دعيت حروب العرب المشهورة "أيام العرب".
والعقيم: المرأة التي لا تلد؛ استعير العقيم للمسؤوم لأنهم يعدون المرأة التي لا تلد مشؤومة.
فالمعنى: يأتيهم يوم يستأصلون فيه قتلا. وهذا إنذار بيوم بدر.
[56-59] {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ

حَلِيمٌ}
آذنت الغاية التي في قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} أن ذلك وقت زوال مرية الذي كفروا، فكان ذلك منشأ سؤال سائل عن صورة زوال المرية, وعن ماذا يلقونه عند زوالها، فكان المقام أن يجاب السؤال بجملة: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} إلى آخر ما فيها من التفصيل، فهي استئناف بياني.
فقوله "يومئذ" تقدير مضافة الذي عوض عنه التنوين: يوم إذ تزول مريتهم بحلول الساعة وظهور أن ما وعدهم الله هو الحق، أو يوم إذ تأتيهم الساعة بغتة.
وجملة: {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} اشتمال من جملة: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
والحكم بينهم: الحكم فيما اختلفوا فيه من أدعاء كل فريق أنه على الحق وأن ضده على الباطل، الدال عليه قوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} وقوله: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} فقد يكون الحكم بالقول، وقد يكون بظهور آثار الحق لفريق وظهور آثار الباطل لفريق. وقد فصل الحكم بقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخ، وهو تفصيل لأثر الحكم يدل على تفصيل أصله، أي ذلك حكم الله بينهم في ذلك اليوم.
وأريد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات عمومه. وخص بالذكر منهم الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا تنويها بشأن الهجرة، ولأجلها استوى أصحابها في درجات الآخرة سواء منهم من قتل في سبيل الله أو مات في غير قتال بعد أن هاجر من دار الكفر.
والتعريف في {الملك} تعريف الجنس. فذلت جملة: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} على أن ماهية الملك مقصورة يومئذ على الكون ملكا لله. كما تقدم في قوله تعالى: {الحَمْدُ لِلَّهِ} ، أي لا ملك لغيره يومئذ.
والمقصود بالكلام هو جملة: {يَحْكُمُ بَينَهُمْ} إذ هم البدل. وإنما قدمت جملة: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} تمهيدا لها وليقع البيان بالبدل بعد الإبهام الذي في المبدل منه.
وافتتح الخبر عن الذين كفروا باسم الإشارة في قوله: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} للتنبيه على أنهم استحقوا العذاب المهين لأجل ما تقدم من صفتهم بالكفر والتكذيب بالآيات.

والمهين: المذل، أي لهم عذاب مشتمل على ما فيه مذلتهم كالضرب بالمقامع ونحوه.
وقرن {فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} بالفاء لما تضمنه التقسيم من معنى حرف التفصيل وهو "أما"، كأنه قيل: وأما الذين كفروا، لأنه لما تقدم ثواب الذين آمنوا كان المقام مثيرا لسؤال من يترقب مقابلة ثواب المؤمنين بعقاب الكافرين وتلك المقابلة من مواقع حرف التفصيل.
والرزق: العطاء، وهو كل ما يتفضل به من أعيان ومنافع. ووصفه بالحسن لإفادة أنه يرضيهم بحيث لا يتطلبون غيره لأنه لا أحسن منه.
وجملة: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} بدل من جملة: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} ، وهي بدل اشتمال، لأن كرامة المنزل من جملة الإحسان في العطاء بل هي أبهج لدى أهل الهمم، ولذلك وصف المدخل بـ {يَرْضَوْنَهُ}.
ووقعت جملة: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} معترضة بين البدل والمبدل منه. وصريحها الثناء على الله، وكنايتها التعريض بأن الرزق الذي يرزقهم الله هو خير الأرزاق لصدوره من خير الرازقين.
وأكدت الجملة بحرف التوكيد ولامه وضمير الفصل تصويرا لعظمة رزق الله تعالى. وجملة: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} تذييل، أي عليم بما تجشموه من المشاق في شان هجرتهم من ديارهم وأهلهم وأموالهم، وهو حليم بهم فيما لاقوه فهو يجازيهم بما لقوه من أجله. وهذه الآية تبين مزية المهاجرين في الإسلام.
وقرأ نافع {مدخلا} بفتح الميم على أنهه اسم مكان من دخل المجرد لأن الإدخال يقتضي الدخول. وقرأ الباقون بضم الميم جريا على فعل {لَيُدْخِلَنَّهُمْ} المزيد وهو أيضا اسم مكان للإدخال.
[60] {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}
اسم الإشارة للفصل بين الكلامين لفتا لأذهان السامعين إلى ما سيجيء من الكلام لأن ما بعده غير صالح لأن يكون خبرا عن اسم الإشارة. وقد تقدم نظيره عند قوله:

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}.
وجملة: {وَمَنْ عَاقَبَ} الخ، معطوفة على جملة: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.
والغرض منها التهيئة للجهاد والوعد بالنصر الذي أشير إليه سابقا بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} إلى قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، فأنه قد جاء معترضا في خلال النعي على تكذيب المكذبين وكفر هو النعم، فأكمل الغرض الأول بما فيه من انتقالات، ثم عطف الكلام إلى الغرض الذي جرت منه لمحة فعاد الكلام هنا إلى الوعد بنصر الله القوم المعتدي عليهم كما وعدهم بأن يدخلهم في الآخرة مدخلا يرضونه.
وجيء بإشارة الفصل للتنبيه على أهمية ما بعده.
وما صدق "من" الموصولة العموم لقوله فيما سلف {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} ، فنبه على أن القتال المأذون فيه هو قتال جزاء على اعتداء سابق كما دل عليه أيضا قوله: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} وتغيير أسلوب الجمع الذي في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} إلى أسلوب الإفراد في قوله: {وَمَنْ عَاقَبَ} للإشارة إلى إرادة العموم مكن هذا الكلام ليكون بمنزلة القاعدة الكلية لسنة من سنن الله تعالى في الأمم.
ولما أتى في الصلة هنا بفعل {عَاقَبَ} مع قصد شمول عموم الصلة للذين أذن لهم بأنهم ظلموا علم السامع أن القتال المأذون لهم به قتال جزاء على ظلم سابق.
وفي ذلك تحديد لقانون العقاب أن يكون مماثلا للعدوان المجزي عليه، اي أن لا يكون أشد منه.
وسمي اعتداء المشركين على المؤمنين عقابا في قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} لأن الذي دفع المعتدين إلى الاعتداء قصد العقاب على خروجهم عن دين الشرك ونبذ عبادة أصنامهم. ويعلم أن ذلك العقاب ظلم بقوله فيما مضى {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}.
ومعنى {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} المماثلة في الجنس فإن المشركين آذوا المسلمين

وأرغموهم على مغادرة موطنهم فيكون عقابهم على ذلك بإخراج من يمكنهم أن يخرجوه من ذلك الوطن، ولا يستطيعون ذلك إلا بالجهاد لأن المشركين كانوا أهل كثرة وكانوا مستعصمين ببلدهم فإلجاء من يمكن إلجاؤه إلى مفارقة وطنه، إما بالقتال فهو إخراج كامل، أو بالأسر.
و {ثم} من قوله: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} عطف على جملة: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} ، فـ"ثم" للتراخي الرتبي فإن البغي عليه أهم من كونه عاقب بمثل ما عوقب به إذ كان مبدوءا بالظلم كما يقال البادئ أظلم. فكان المشركون محقوقين بأن يعاقبوا لنهم بغوا على المسلمين. ومعنى الآية في معنى قوله: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
وكان هذا شرعا لأصول الدفاع عن البيضة، وأما آيات الترغيب في العفو فليس هذا مقام تنزيلها وإنما هي في شرع معاملات الأمة بعضها مع بعض، وقد أكد لهم الله نصره إن هم امتثلوا لما أذنوا به وعاقبوا بمثل ما عوقبوا به. وللمفسرين في تقرير هذه الآية تكلفات تنبئ عن حيرة في تلئيم معانيها.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} تعليل للاقتصار على الإذن في العقاب بالمماثلة في قوله: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} دون الزيادة في الانتقام مع أن البادئ أظلم بأن عفو الله ومغفرته لخلقه قضيا بحكمته أن لا يأذن إلا بمماثلة العقاب للذنب لأن ذلك هو أوفق بالحق. ومما يؤثر عن كسرى أنه قيل له: بم دام ملككم? فقال: لأننا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب، فليس ذكر وصفي { عَفُوٌّ غَفُورٌ} إيماء إلى الترغيب في العفو عن المشركين.
ويجوز أن يكون تعليلا للوعد بجزاء المهاجرين اتباعا للتعليل في قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} لأن الكلام مستمر في شأنهم.
[61] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
ليس اسم الإشارة مستعملا في الفصل بين الكلامين مثل شبيهه الذي قبله، بل الإشارة هنا إلى الكلام السابق الدال على تكفل النصر، فإن النصر يقتضي تغليب أحد الضدين على ضده وإقحام الجيش في الجيش الآخر في الملحمة، فضرب له مثلا بتغليب

مدة النهار على مدة الليل في بعض السنة، وتغليب مدة الليل على مدة النهار في بعضها، لما تقرر من اشتهار التضاد بين الليل والنهار، أي الظلمة والنور. وقريب منها استعارة التلبيس للإقحام في الحرب في قول المرار السلمي:
وكتيبة لبستها بكتيبة حتى ... إذا التبست نفضت لها يدي
فخبر اسم الإشارة هنا هو قوله: {بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ} الخ.
ويجوز أن يكون اسم الإشارة تكريرا لشبيهه السابق لقصر توكيده لأنه متصل به لأن جملة: {بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الخ، مرتبطة بجملة: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} الخ. ولذلك يصح جعل {بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الخ متعلقا بقوله: {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} .
والإيلاج: الإدخال. مثل به اختفاء ظلام الليل عند ظهور نور النهار وعكسه تشبيها لذلك التصيير بإدخال جسم في جسم آخر، فإيلاج الليل في النهار: غشيان ضوء النهار على ظلمة الليل. وإيلاج النهار في الليل: غشيان ظلمة الليل على ما كان من ضوء النهار. فالمولج هو المختفي. فإيلاج الليل انقضاؤه. واستعارة الإيلاج لذلك استعارة بديعة لأن تقلص ظلمة الليل يحصل تدريجا. وكذلك تقلص ضوء النهار يحصل تدريجا، فأشبه ذلك إيلاج شيء في شيء إذ يبدو داخلا فيه شيئا فشيئا.
والباء للسببية. أي لا عجب في النصر الموعود به المسلمون على الكافرين مع قلة المسلمين، فإن القادر على تغليب النهار على الليل حينا بعد أن كان أمرهما على العكس حينا آخر قادر على تغليب الضعيف على القوي، فصار حاصل المعنى: ذلك بأن الله قادر على نصرهم.
والجمع بين ذكر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل للإيماء إلى تقلب أحوال الزمان فقد يصير المغلوب غالبا ويصير ذلك الغالب مغلوبا. مع ما فيه من التنبيه على تمام القدرة بحيث تتعلق بالأفعال المتضادة ولا تلزم طريقة واحدة كقدرة الصناع من البشر. وفيه إدماج التنبيه بأن العذاب الذي استبطأه المشركون منوط بحلول أجله، وما الأجل إلا إيلاج ليل في نهار ونهار في ليل.
وفي ذكر الليل والنهار في هذا المقام إدماج تشبيه الكفر بالليل والإسلام بالنهار لأن الكفر ضلالة اعتقاد، فصاحبه مثل الذي يمشي في ظلمة، ولأن الإيمان نور يتجلى به

الحق والاعتقاد الصحيح، فصاحبه كالذي يمشي النهار. ففي هذا إيماء إلى أن الإيلاج المقصود هو ظهور النهار بعد ظلمة الليل. أي ظهور الدين الحق بعد ظلمة الإشراك. ولذلك ابتدئ في الآية بإيلاج الليل في النهار، أي دخول ظلمة الليل تحت ضوء النهار.
وقوله: {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} تتميم لإظهار صلاحية القدرة الإلهية. وتقدم في سورة آل عمران {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} .
وعطف {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} على السبب للإشارة إلى علم الله بالأحوال كلها فهو ينصر من ينصره بعلمه وحكمته ويعد بالنصر من علم أنه ناصره لا محالة، فلا يصدر منه شيء إلا عن حكمة.
[62] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
اسم الإشارة هنا تكرير لاسم الإشارة الذي سبقه ولذلك لم يعطف. ثم أخبر عنه بسبب آخر لنصر المؤمنين على المشركين بأن الله هو الرب الحق الذي إذا أراد فعل وقدر فهو ينصر أولياءه وأن ما يدعوه المشركون من دون الله هو الباطل فلا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون. وهذا على حمل الباء في قوله: {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} على معنى السببية، وهو محمل المفسرين. وسيأتي في سورة لقمان في نظيرها: أن الأظهر حمل الباء على الملابسة ليلتئم عطف {وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}.
والحق: المطابق للواقع، أي الصدق، مأخوذ من حق الشيء إذا ثبت. والمعنى: أنه الحق في الإلهية. فالقصر في هذه الجملة المستفاد من ضمير الفصل قصر حقيقي.
وأما القصر في قوله: {وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} المستفاد من ضمير الفصل فهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بباطل غيرها حتى كأنه ليس من الباطل. وهذا مبالغة في تحقير أصنامهم لأن المقام مقام مناضلة وتوعد، وإلا فكثير من أصنام وأوثان غير العرب باطل أيضا.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر {تَدْعُونَ} بالتاء الفوقية على الالتفات إلى خطاب المشركين لأن الكلام السابق الذي جرت عليهم فيه ضمائر الغيبة مقصود منه إسماعهم والتعريض باقتراب الانتصار عليهم. وقرأ البقية بالتحتية على طريقة

الكلام السابق.
وعلو الله: مستعار للجلال والكمال التام.
والكبر: مستعار لتمام القدرة، أي هو العلي الكبير دون الأصنام التي تعبدونها إذ ليس لها كمال ولا قدرة ببرهان المشاهدة.
[63] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}
انتقال إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس بمناسبة ما جرى من قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الآية. والمقصود: التعريض بشكر الله على نعمه وأن لا يعبدوا غيره كما دل عليه التذييل عقب تعداد هذه النعم بقوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ} ، أي الإنسان المشرك. وفي ذلك كله إدماج الاستدلال على انفراده بالخلق والتدبير فهو الرب الحق المستحق للعبادة. والمناسبة هي ما جرى من أن لله هو الحق وأن ما يدعونه الباطل، فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
والخطاب لكل من تصلح منه الرؤية لأن المرئي مشهور.
والاستفهام: إنكاري، نزلت غفلة كثير من الناس عن الاعتبار بهذه النعمة والاعتداد بها منزلة عدم العلم بها. فأنكر ذلك لعدم على الناس الذين أهملوا الشكر والاعتبار.
وإنما حكي الفعل المستفهم عنه الإنكاري مقترنا بحرف "لم" الذي يخلصه إلى المضي، وحكي متعلقة بصيغة الماضي في قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وهو الإنزال بصيغة الماضي كذلك ولم يراع فيهما معنى تجدد ذلك لأن موقع إنكار عدم العلم بذلك هو كونه أمرا متقررا ماضيا لا يدعى جهله.
و {تصبح} بمعنى تصير فإن خمسا من أخوات "كان" تستعمل بمعنى: صار.
واختير في التعبير عن النبات الذي هو مقتضى الشكر لما فيه من إقامة أقوات الناس والبهائم بذكر لونه الأخضر لأن ذلك اللون ممتع للأبصار فهو أيضا موجب شكر على ما خلق الله من جمال المصنوعات في المرأى كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} .
وإنما عبر عن مصير الأرض خضراء بصيغة {تصبح مخضرة} مع أن ذلك مفرع على

فعل {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} الذي هو بصيغة الماضي لأنه قصد من المضارع استحضار تلك الصورة العجيبة الحسنة، ولإفادة بقاء أثر إنزال المطر زمانا بعد زمان كما تقول: أنعم فلان علي فأروح وأغدو شاكرا له.
وفعل {تصبح} مفرع على فعل {أنزل} فهو مثبت في المعنى. وليس مفرعا على النفي ولا على الإستفهام، فلذلك لم ينصب بعد الفاء لأنه لم يقصد بالفاء جواب للنفي إذ ليس المعنى: ألم تر فتصبح الأرض. قال سيبويه وسألته يعني الخليل: عن {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} فقال: هذا واجب أي الرفع واجب وهو تنبيه كأنك قلت: أتسمع: أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا اهـ.
قال في الكشاف: "لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه "أي الكلام" إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار. مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر. وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب" اه.
والمخضرة: التي صار لونها الخضرة. يقال: اخضر الشيء، كما يقال: اصفر الثمر واحمر، واسود الأفق. وصيغة افعل مما يصاغ للاتصاف بالألوان.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} في موقع التعليل للإنزال، أي أنزل الماء المتفرع عليه الاخضرار لأنه لطيف، أي رفيق بمخلوقاته، ولأنه عليم بترتيب المسببات على أسبابها.
[64] {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
الجملة خبر ثان عن اسم الجلالة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} للتنبيه على اختصاصه بالخالقية والملك الحق ليعلم من ذلك أنه المختص بالمعبودية فيرد زعم المشركين أن الأصنام له شركاء في الإلهية وصرف عبادتهم إلى أصنامهم. والمناسبة هي ذكر إنزال المطر وإنبات العشب فما ذلك إلا بعض ما في السماوات وما في الأرض.
وإنما لم تعطف الجملة على التي قبلها مع اتحادهما في الغرض لأن هذه تتنزل من الأولى منزلة التذييل بالعموم الشامل لما تضمنته الجملة التي قبلها، ولأن هذه لا تتضمن تذكيرا بنعمة.
وجملة: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} عطف على جملة: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي

الْأَرْضِ} وتقديم المجرور للدلالة على القصر. أي له ذلك لا لغيره من أصنامكم، إن جعلت القصر إضافيا، أو لعدم الاعتداد بغنى غيره ومحموديته إن جعلت القصر ادعائيا.
ونبه بوصف الغنى على أنه غير مفتقر إلى غيره، وهو معنى الغنى في صفاته تعالى أنه عدم الافتقار بذاته وصفاته لا إلى محل ولا إلى مخصص بالوجود دون العدم والعكس تنبيها على أن افتقار الأصنام إلى من يصنعها ومن ينقلها من مكان إلى آخر ومن ينفض عنها القتام والقذر دليل على انتفاء الإلهية عنها.
وأما وصف {الْحَمِيدُ} بمعنى المحمود كثيرا، فذكره لمزاوجة وصف الغنى لأن الغني مفيض على الناس فهم يحمدونه.
وفي ضمير الفصل إفادة أنه المختص بوصف الغنى دون الأصنام وبأنه المختص بالمحمودية فإن العرب لم يكونوا يوجهون الحمد لغير الله تعالى. وأكد الحصر بحرف التوكيد وبلام الابتداء تحقيقا لنسبة القصر إلى المقصور كقول عمرو بن معد يكرب "إني أنا الموت". وهذا التأكيد لتنزيل تحققهم اختصاصه بالغنى أو المحمودية منزلة الشك أو الإنكار لأنهم لم يجروا على موجب علمهم حين عبدوا غيره وإنما يعبد من وصفه الغنى.
[65] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
هذا من نسق التذكير بنعم الله واقع موقع قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً}، فهو من عداد الامتنان والاستدلال، فكان كالتكرير لغرض، ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف. وهذا تذكير بنعمة تسخير الحيوان وغيره. وفيه إدماج الاستدلال على انفراده بالتسخير. والتقدير: فهو الرب الحق.
وجملة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} مستأنفة كجملة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}.
والخطاب هنا والاستفهام كلاهما كما في الآية السابقة.
والتسخير: تسهيل الانتفاع بدون مانع وهو يؤذن بصعوبة الانتفاع لولا ذلك التسخير. وأصله تسهيل الانتفاع بما فيه إرادة التمنع مثل تسخير الخادم وتسهيل استخدام الحيوان الداجن من الخيل، والإبل. والبقر، والغنم ونحوها، بان جعل الله فيها طبع

الخوف من الإنسان مع تهيئتها للإلف بالإنسان. ثم أطلق على تسهيل الانتفاع بما في طبعه أو في حاله ما يعذر الانتفاع به لولا ما ألهم الله إليه الإنسان من وسائل التغلب عليها بتعرف نواميسه وأحواله وحركاته وأوقات ظهوره، وبالاحتيال على تملكه مثل صيد الوحش ومغاصات اللؤلؤ والمرجان، ومثل آلات الحفر والنقر للمعادن، ومثل التشكيل في صنع الفلك والعجل. ومثل التركيب والتصهير في صنع البواخر والمزجيات والصياغة. ومثل الإرشاد إلى ضبط أحوال المخلوقات العظيمة من الشمس والقمر والكواكب والأنهار والأودية والأنواء والليل والنهار، باعتبار كون تلك الأحوال تظهر على وجه الأرض، وما لا يحصى مما ينتفع به الإنسان مما على الأرض فكل ذلك داخل في معنى التسخير.
وقد تقدم القول في التسخير آنفا في هذه السورة. وتقدم في سورة الأعراف وسورة إبراهيم وغيرهما. وفي كلامنا هنا زيادة إيضاح لمعنى التسخير، وجملة: {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} في موضع الحال من {الفُلْكِ} . وإنما خص هذا بالذكر لأن ذلك الجري في البحر هو مظهر التسخير إذ لولا الإلهام إلى صنعها على الصفة المعلومة لكان حظها من البحر الغرق.
وقوله: {بِأَمْرِهِ} هو أمر التكوين إذ جعل البحر صالحا لحملها، وأوحى إلى نوح عليه السلام معرفة صنعها، ثم تتابع إلهام الصناع لزيادة إتقانها.
والإمساك: السد، وهو ضد الإلقاء. وقد ضمن معنى المنع هنا وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} فيقدر حرف جر لتعدية فعل الإمساك بعد هذا التضمين فيقدر "عن" أو"من".
ومناسبة عطف إمساك السماوات على تسخير ما في الأرض وتسخير الفلك أن إمساك السماء عن أن تقع على الأرض ضرب من التسخير لما في عظمة المخلوقات السماوية من مقتضيات تغلبها على المخلوقات الأرضية وحطمها إياها لولا ما قدر الله تعالى لكل نوع منها من سنن ونظم تمنع من تسلط بعضها على بعض، كما أشار إليه قوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . فكما سخر الله للناس ما ظهر على وجه الأرض من موجودات مع ما في طبع كثير منها من مقتضيات إتلاف الإنسان، وكما سخر لهم الأحوال التي تبدو للناس من مظاهر الأفق مع كثرتها وسعتها وتباعدها، ومع ما في تلك الأحوال من مقتضيات تعذر الضبط، كذلك سخر لمصلحة الناس ما في السماوات من الموجودات بالإمساك

المنظم المنوط بما قدره الله كما أشار إليه قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، أي تقديره.
ولفظ {السماء} في قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ} يجوز أن يكون بمعنى ما قابل الأرض في اصطلاح الناس فيكون كلا شاملا للعوالم العلوية كلها التي لا نحيط بها علما كالكواكب السيارة وما الله أعلم به وما يكشفه للناس في متعاقب الأزمان.
ويكون وقوعها على الأرض بمعنى الخرور والسقوط فيكون المعنى أن الله بتدبير علمه وقدرته جعل للسماء نظاما يمنعها من الخرور على الأرض، فيكون قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ} امتنانا على الناس بالسلامة مما يفسد حياتهم، ويكون قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} احتراسا جمعا بين الامتنان والتخويف، ويكون الناس شاكرين مستزيدين من النعم خائفين من غضب ربهم أن يأذن لبعض السماء بالوقوع على الأرض. وقد أشكل الاستثناء بقوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} فقيل في دفع الإشكال: إن معناه إلا يوم القيامة بأذن الله لها في الوقوع على الأرض. ولكن لم يرد في الآثار أنه يقع سقوط السماء وإنما ورد تشقق السماء وانفطارها. وفيما جعلنا ذلك احتراسا دفع للإشكال لأن الاحتراس أمر فرضي فلا يقتضي الاستثناء وقوع المستثنى.
ويجوز أن يكون لفظ {السماء} بمعنى المطر، كقول معاوية بن مالك:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وقول زيد بن خالد الجهني في حديث الموطأ : "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على إثر سماء كانت من الليل" ، فيكون معنى الآية: أن الله بتقديره جعل لنزول المطر على الأرض مقادير قدر أسبابها، وأنه لو استمر نزول المطر على الأرض لتضرر الناس فكان في إمساك نزوله باطراد منه على الناس، وكان تقدير نزوله عند تكوين الله إياه منة أيضا. فيكون هذا مشتملا على ذكر نعمتين: نعمة الغيث، ونعمة السلامة من طغيان المياه.
ويجوز أن يكون لفظ السماء قد أطلق على جميع الموجودات العلوية التي يشملها لفظ {السماء} الذي هو ما علا الأرض فأطلق على ما يحويه، كما أطلق لفظ الأرض على سكانها في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} . فالله يمسك ما في السماوات من الشهب ومن كريات الأثير والزمهرير عن اختراق كرة الهواء. ويمسك ما فيها من القوى كالمطر والبرد والثلج والصواعق من الوقوع على

الأرض والتحك بها إلا بإذن الله فيما اعتاد الناس إذنه به من وقوع المطر والثلج والصواعق والشهب وما لم يعتادوه من تساقط الكواكب. فيكون موقع {وَيُمْسُكُ السَّمَاءَ} بعد قوله تعالى: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} كموقع قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} في سورة الجاثية.
ويكون في قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} إدماجا بين الامتنان والتخويف: فإن من الإذن بالوقوع على الأرض ما هو مرغوب للناس، ومنه ما هو مكروه. وهذا المحمل الثالث أجمع لما في المحملين الآخرين وأوجز، فهو لذلك أنسب بالإعجاز.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} استثناء من عموم متعلقات فعل {يمسك} وملابسات مفعوله وهو كلمة {السماء} على اختلاف محامله، أي يمنع ما في السماء من الوقوع على الأرض في جميع أحواله إلا وقوعا ملابسا لإذن من الله. هذا ما ظهر لي في معنى الآية.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يعود قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد أي يدل بدلالة الاقتضاء على تقدير هذا المتعلق أخذا من قوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ونحوه فكأنه أراد: إلا بإذنه فيمسكها اهـ. يريد أن حرف الاستثناء قرينة على المحذوف.
والإذن. حقيقته: قول يطلب به فعل شيء. واستعير هنا للمشيئة والتكوين، وهما متعلق الإرادة والقدرة.
وقد استوعبت الآية العوالم الثلاثة: البر، والبحر، والجو.
وموقع جملة: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} موقع التعليل للتسخير والإمساك باعتبار الاستثناء لأن في جميع ذلك رأفة بالناس بتيسير منافعهم الذي في ضمنه دفع الضر عنهم.
والرؤوف: صيغة مبالغة من الرأفة أو صفة مشبهة. وهي صفة تقتضي صرف الضر.
والرحيم: وصف من الرحمة. وهي صفة تقتضي النفع لمحتاجه. وقد تتعاقب الصفتان، والجمع بينهما يفيد ما تختص به كل صفة منهما ويؤكد ما تجتمعان عليه.

[66] {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ}
{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}
بعد أن أدمج الاستدلال على البعث بالمواعظ والمنن والتذكير بالنعم أعيد الكلام على البعث هنا بمنزلة نتيجة القياس، فذكر الملحدون بالحياة الأولى التي لا ريب فيها، وبالإماتة التي لا يرتابون فيها، وبان بعد الإماتة إحياء آخر كما أخذ من الدلائل السابقة. وهذا محل الاستدلال، فجملة: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} عطف على جملة: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ} لأن صدر هذه من جملة النعم فناسب أن تعطف على سابقتها المتضمنة امتنانا واستدلالا كذلك.
{إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ}
تذييل يجمع المقصد من تعداد نعم المنعم بجلائل النعم المقتضية انفراده باستحقاق الشكر واعتراف الخلق له بوحدانية الربوبية.
وتوكيد الخبر بحرف "إن" لتنويلهم منزلة المنكر أنهم كفرا.
والتعريف في {الإنسان} تعريف الاستغراق العرفي المؤذن بأكثر أفراد الجنس من باب قولهم: جمع الأمير الصاغة، أي صاغة بلده، وقوله تعالى: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} . وقد كان أكثر العرب يومئذ منكرين للبعث، أو أريد بالإنسان خصوص المشرك كقوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً}.
والكفور: مبالغة في الكافر، لأن كفرهم كان عن تعنت ومكابرة.
ويجوز كون الكفور مأخوذا من كفر النعمة وتكون المبالغة باعتبار آثار الغفلة عن الشكر، وحينئذ يكون الاستغراق حقيقيا.
[67] {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ}
هذا متصل في المعنى بقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا

رَزَقَهُمْ} الآية. وقد فصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قوله: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} إلى هنا، فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} الآية ليبنى عليه قوله: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} . فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة، بان الله ما جعل لأهل كل ملة سبقت إلا منسكا واحدا يتقربون فيه إلى الله لأن المتقرب إليه واحد. وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكل صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعزى، قال النابغة:
وما هريق على الأنصاب من جسد
"أي دم". وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} كما تقدم آنفا.
فالجملة استئناف. والمناسبة ظاهرة ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة.
والمنسك بفتح الميم وفتح السين: اسم مكان النسك بصمهما كما تقدم. وأصل النسك العبادة ويطلق على القربان، فالمراد بالمنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان. والضمير في {نَاسِكُوهُ} منصوب على نزع الخافض، أي ناسكون فيه.
وفي الموطأ : "أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة فكانوا يتجادلون بقول هؤلاء: نحن أصوب، ويقول هؤلاء: نحن أصوب، فقال الله تعالى {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} الآية، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم اهـ.
قال الباجي في المنتقى : "وهو قول ربيعة". وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه، أي نزلت في سنة تسع. والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة.
وفرع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي صلى الله عليه وسلم في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها، فالنهي ظاهرة موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما أعطيه

من الحجج كاف في قطع منازعة معارضيه، فالمعارضون هم المقصود بالنهي، ولكن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول صلى الله عليه وسلم من الحجج وجه إليه النهي عن منازعتهم إياه، كأنه قيل: فلا تترك لهم ما ينازعونك به، وهو من باب قول العرب: لا أعرفنك تفعل كذا، أي لا تفعل فاعرفك، فجعل المتكلم النهي موجها إلى نفسه. والمراد نهي السامع عن أسبابه، وهو نهي للغير بطريق الكناية.
وقال الزجاج: هو نهي للرسول عن منازعتهم لأن صيغة المفاعلة تقتضي حصول الفعل من جانبي فاعله ومفعوله. فيصح نهي كل من الجانبين عنه. وإنما أسند الفعل هنا لضمير المشركين مبالغة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن منازعته إياهم كإثبات الشيء بدليله. وحاصل معنى هذا الوجه أنه أمر للرسول بالإعراض عن مجادلتهم بعد ما سيق لهم من الحجج.
واسم {الأمر} هنا مجمل مراد به التوحيد بالقرينة، ويحتمل أن المشركين كانوا ينازعون في كونهم على ضلال بأنهم على ملة إبراهيم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر الحج الذي هو من مناسكهم، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ادعاء أنهم على الحق وملة إبراهيم.فكان قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} كشفا لشبهتهم بان الحج منسك حق، وهو رمز التوحيد، وأن ما عداه باطل طارئ عليه فلا ينازعن في أمر الحج بعد هذا، وهذا المحمل هو المناسب لتناسق الضمائر العائدة على المشركين مما تقدم إلى قوله: {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ، ولأن هذه السورة نزل بعضها بمكة في آخر مقام النبي صلى الله عليه وسلم بها وبالمدينة في أول مقامه بها فلا منازعة بين النبي وبين أهل الكتاب يومئذ، فيبعد تفسير المنازعة بمنازعة أهل الكتاب.
وقوله: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} عطف على جملة: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ}. عطف على انتهاء المنازعة في الدين أمر بالدوام على الدعوة وعدم الاكتفاء بظهور الحجة لأن المكابرة تجافي الاقتناع، ولأن في الدوام على الدعوة فوائد للناس أجمعين. وفي حذف مفعول {ادع} إيذان بالتعميم.
وجملة: {إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} تعليل للدوام على الدعوة وأنها قائمة مقام فاء التعليل لا لرد الشك. و {على} مستعارة للتمكن من الهدى.
ووصف الهدى بالمستقيم استعارة مكنية، شبه الهدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالا، فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال

إلى الكمال النفساني الذي هو غاية الأديان. وفي هذا الخبر تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتجديد لنشاطه في الاضطلاع بأعباء الدعوة.
[68-69] {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
عطف على جملة: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} . والمعنى: إن تبين عدم اقتناعهم بالأدلة التي تقطع المنازعة وأبوا إلا دوام المجادلة تشغيبا واستهزاء فقل: الله أعلم بما تعملون.
وفي قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} تفويض أمرهم إلى الله تعالى، وهو كناية عن قطع المجادلة معهم، وإدماج بتعريض بالوعيد والإنذار بكلام موجه صالح لما يتظاهرون به من تطلب الحجة. ولما في نفوسهم من إبطال العناد كقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} .
والمراد بـ {مَا تَعْمَلُونَ} ما يعملونه من أنواع المعارضة والمجادلة بالباطل لدحضوا به الحق وغير ذلك.
وجملة {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كلام مستأنف ليس من المقول. فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وليس خطابا للمشركين بقرينة قوله: {بَيْنَكُمْ} . والمقصود تأييد الرسول والمؤمنين.
وما كانوا فيه يختلفون: هو ما عبر عنه بالأمر في قوله: {فلا ينازعنك في الأمر}.
[70] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
استئناف لزيادة تحقيق التأييد الذي تضمنه قوله: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. أي فهو لا يفوته شيء من أعمالكم فيجازي كلا على حساب عمله. فالكلام كناية عن جزاء كل بما يليق به.
و {مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} يشمل ما يعمله المشركون وما كانوا يخالفون فيه.

والاستفهام إنكاري أو تقريري، أي أنك تعلم ذلك. وهذا الكلام كناية عن التسلية أي فلا تضق صدرا مما تلاقيه منهم.
وجملة: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} بيان للجملة قبلها. أي يعلم ما في السماء والأرض علما مفصلا لا يختلف، لأن شأن الكتاب أن لا تتطرق إليه الزيادة والنقصان.
واسم الإشارة إلى العمل في قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أو إلى {ما} في قوله: {مَاكُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
والكتاب هو ما به حفظ جميع الأعمال: إما على تشبيه تمام الحفظ بالكتابة، وإما على الحقيقة، وهو جائز أن يجعل الله لذلك كتابا لائقا بالمغيبات.
وجملة: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} بيان لمضمون الاستفهام من الكتانة عن الجزاء.
واسم الإشارة عائد إلى مضمون الاستفهام من الكناية فتأويله بالمذكور. ولك أن تجعلها بيانا لجملة: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} واسم الإشارة عائد إلى العلم المأخوذ من فعل {يَعْلَمُ} ، أي أن علم الله بما في السماء والأرض لله حاصل دون اكتساب، لأن علمه ذاتي لا يحتاج إلى مطالعة وبحث.
وتقديم المجرور على متعلقه وهو {يَسِيرٌ} للاهتمام بذكره للدلالة على إمكانة في جانب علم الله تعالى.
[71] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}
يجوز أن يكون الواو حرف عطف وتكون الجملة معطوفة على الجملة السابقة بما تفرع عليها عطف غرض على غرض.
ويجوز أن يكون الواو للحال والجملة بعدها حالا من الضمير المرفوع في قوله: {جَادَلُوكَ} . والمعنى: جادلوك في الدين مستمرين على عبادة ما لا يستحق العبادة بعد ما رأوا من الدلائل. وتتضمن الحال تعجيبا من شأنهم في مكابرتهم وإصرارهم.
والإتيان بالفعل المضارع المفيد للتجدد على الوجهين لأن في الدلائل التي تحف بهم والتي ذكروا ببعضها في الآيات الماضية ما هو كاف لإقلاعهم عن عبادة الأصنام لو كانوا يريدون الحق.

و {مِن دُونِ} يفيد أنهم يعرضون عن عبادة الله، لأن كلمة {دُونِ} وإن كانت اسما للمباعدة قد يصدق بالمشاركة بين ما تضاف إليه وبين غيره. فكلمة {دُونِ} إذا دخلت عليها {مِن} صارت تفيد معنى ابتداء الفعل من جانب مباعد لما أضيف إليه {دُونِ} فاقتضى أن المضاف إليه غير مشارك في الفعل. فوجه ذلك أنهم لما أشربت قلوبهم الإقبال على عبادة الأصنام وإدخالها في شؤون قرباتهم حتى الحج إذ قد وضعوا في شعائره أصناما بعضها وضعوها في الكعبة وبعضها فوق الصفا والمروة جعلوا كالمعطلين لعبادة الله أصلا.
والسلطان: الحجة. والحجة المنزلة: هي الأمر الإلهي الوارد على ألسنة رسله وفي شرائعه، أي يعبدون ما لا يجدون عذرا لعبادته من الشرائع السالفة. وقصارى أمرهم أنهم اعتذروا بتقدم آبائهم بعبادة أصنامهم، ولم يدعوا أن نبيا أمر قومه بعبادة صنم ولا أن دينا إلهيا رخص في عبادة الأصنام.
{وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} ، أي ليس لهم به اعتقاد جازم لأن الاعتقاد الجازم لا يكون إلا عن دليل، والباطل لا يمكن حصول دليل عليه. وتقديم انتفاء الدليل الشرعي على انتفاء الدليل العقلي لأن الدليل الشرعي أهم.
و {مَا} التي في قوله {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} نافية. والجملة عطف على جملة: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي يعبدون ما ذكر وما لهم نصير فلا تنفعهم عبادة الأصنام. فالمراد بالظالمين المشركون المتحدث عنهم، فهو من الإظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن سبب انتفاء النصير لهم هو ظلمهم، أي كفرهم. وقد أفاد ذلك ذهاب عبادتهم الأصنام باطلا لأنهم عبدوها رجاء النصر. ويفيد بعمومه أن الأصنام لا تنصرهم فأغنى عن موصول ثالث هو من صفات الأصنام كأنه قيل: وما لا ينصرهم، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} .
[72] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}
عطف على جملة: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} لبيان

جرم آخر من أجرامهم مع جرم عبادة الأصنام. وهو جرم تكذيب الرسول والتكذيب بالقرآن.
والآيات هي القرآن لا غيره من المعجزات لقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ}.
والمنكر: إما الشيء الذي تنكره الأنظار والنفوس فيكون هنا اسما، أي دلائل كراهيتهم وغضبهم وعزمهم على السوء، وإما مصدر ميمي بمعنى الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام. والمحملان آيلان إلى معنى أنهم يلوح على وجوههم الغيظ والغضب عندما يتلى عليهم القرآن ويدعون إلى الإيمان. وهذا كناية عن امتلاء نفوسهم من الإنكار والغيظ حتى تجاوز أثره بواطنهم على وجوههم. كما في قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} كناية عن وفرة نعيمهم وفرط مسرتهم به. ولأجل هذه الكناية عدل عن التصريح بنحو: أشتد غيظهم، أو يكادون يتميزون غيظا، ونحو قوله: {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}.
وتقييد الآيات بوصف البينات لتفظيع إنكارهم إياها. إذ ليس فيها ما يعذر به منكروها.
والخطاب في قوله: {تَعْرِفُ} لكل من يصلح للخطاب بدليل قوله: {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}.
والتعبير بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهار في مقام الإضمار. ومقتضى الظاهر أن يكون {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} . أي وجوه الذين يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا. فخولف مقتضى الظاهر للتسجيل عليهم بالإيماء إلى أن علة ذلك هو ما يبطنونه من الكفر.
والسطو: البطش، أي يقاربون أن يصولوا على الذين يتلون عليهم الآيات من شدة الغضب والغيظ من سماع القرآن.
{والذِينَ يَتلُونَ} يجوز أن يكون مرادا به النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق اسم الجمع على الواحد كقوله: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} ، أي كذبوا الرسول.
ويجوز أن يراد به من يقرأ عليهم القرآن من المسلمين والرسول. أما الذين سطوا عليهم من المؤمنين فلعلهم غير الذين قرأوا عليهم القرآن، أو لعل السطو عليهم كان بعد نزول هذه الآية فلا إشكال في ذكر فعل المقاربة.

وجملة: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} في موضع بدل الاشتمال لجملة: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوالمُنكَرَ} لأن الهم بالسطو مما يشتمل عليه المنكر.
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
استئناف ابتدائي يفيد زيادة إغاظتهم بأن أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم ما يفيد أنهم صائرون إلى النار.
والتفريع بالفاء ناشئ من ظهور أثر المنكر على وجوههم فجعل دلالة ملامحهم بمنزلة دلالة الألفاظ. ففرع عليها ما هو جواب عن كلام فيزيدهم غيظا.
ويجوز كون التفريع على التلاوة المأخوذة من قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} أي اتل عليهم الآيات المنذرة والمبينة لكفرهم، وفرع عليها وعيدهم بالنار.
والاستفهام مستعمل في الاستئذان، وهو استئذان تهكمي لأنه قد نبأهم بذلك دون أن ينتظر جوابهم.
وشر: اسم تفضيل، أصله أشر. كثر حذف الهمزة تخفيفا، كما حذفت في خبر بمعنى أخير.
والإشارة بـ {ذَلِكُمُ} إلى ما أثار منكرهم وحفيظتهم، أي بما هو أشد شرا عليكم في نفوسكم مما سمعتموه فأغضبكم، أي فإن كنتم غاضبين لما تلي عليكم من الآيات فازدادوا غضبا بهذا الذي أنبئكم به.
وقوله: {النَّارُ} خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} .والتقدير: شر من ذلكم النار.
فالجملة استئناف بياني، أي إن سألتم عن الذي هو أشد شرا فاعلموا أنه النار.
وجملة {وَعَدَهَا اللَّهُ} حال من النار، أو هي استئناف.
والتعبير عنهم بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهار في مقام الإضمار، أي وعدها الله إياكم لكفركم.
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس مصيرهم هي، فحرف التعريف عوض عن المضاف إليه، فتكون الجملة إنشاء ذم معطوفة على جملة الحال على تقدير القول. ويجوز أن يكون التعريف للجنس فيفيد العموم، أي بئس المصير هي لمن صار إليها، فتكون الجملة تذييلا

لما فيها من عموم الحكم للمخاطبين وغيرهم وتكون الواو اعتراضية تذييلية.
[73] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}
أعقبت تضاعيف الحجج والمواعظ والإنذارات التي اشتملت عليها السورة مما فيه مقنع للعلم بان إله الناس واحد وأن ما يعبد من دونه باطل، أعقبت تلك كلها بمثل جامع لوصف حال تلك المعبودات وعابديها.
والخطاب بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} للمشركين لأنهم المقصود بالرد والزجر وبقرينة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} على قراءة الجمهور {تَدْعُونَ} بتاء الخطاب.
فالمراد بـ {النَّاسِ} هنا المشركون على ما هو المصطلح الغالب في القرآن. ويجوز أن يكون المراد بـ {النَّاسِ} جميع الناس من مسلمين ومشركين.
وفي افتتاح السورة بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وتنهيتها بمثل ذلك شبه برد العجز على الصدر. ومما يزيده حسنا أن يكون العجز جامعا لما في الصدر وما بعده. حتى يكون كالنتيجة للاستدلال والخلاصة للخطبة والحوصلة للدرس.
وضرب المثل: ذكره وبيانه؛ استعير الضرب للقول والذكر تشبيها بوضع الشيء بشدة، أي ألقي إليكم مثل. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة.
وبني فعل "ضرب" بصيغة النائب فلم يذكر له فاعل بعكس ما في المواضع الأخرى التي صرح فيها بفاعل ضرب المثل نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة و {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً} في سورة النحل و {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً} في سورة الزمر {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ} في سورة النحل. إذ أسند في تلك المواضع وغيرها ضرب المثل إلى الله، ونحو قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} في سورة النحل. {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} في سورة يس، إذ أسند الضرب إلى المشركين. لأن المقصود هنا نسج التركيب على إيجاز صالح لإفادة احتمالين:

أحدهما: أن يقدر الفاعل الله تعالى وأن يكون المثل تشبيها تمثيليا، أي أوضح الله تمثيلا يوضح حال الأصنام في فرط العجز عن إيجاد أضعف المخلوقات كما هو مشاهد لكل أحد.
والثاني: أن يقدر الفاعل المشركين ويكون المثل بمعنى المماثل، أي جعلوا أصنامهم مماثلة لله تعالى في الإلهية.
وصيغة الماضي في قوله: {ضُرِبَ} مستعملة في تقريب زمن الماضي من الحال على الاحتمال الأول، نحو قوله تعالى: {لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} . أي لو شارفوا أن يتركوا. أي بعد الموت.
وجملة: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى آخرها يجوز أن تكون بيانا لفعل ضرب على الاحتمال الأول في التقدير، أي بين تمثيل عجيب.
ويجوز أن تكون بيانا للفظ {مثل} لما فيها من قوله: {تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} على الاحتمال الثاني.
وفرع على ذلك المعنى من الإيجاز قوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} لاسترعاء الأسماع إلى مفاد هذا المثل مما يبطل دعوى الشركة لله في الإلهية. أي استمعوا استماع تدبر.
فصيغة الأمر في {استمعوا له} مستعملة في التحريض على الاحتمال الأول، وفي التعجيب على الاحتمال الثاني. وضمير له عائد على المثل على الاحتمال الأول لأن المثل على ذلك الوجه من قبيل الألفاظ المسموعة، وعائد على الضرب المأخوذ من فعل {ضرب} على الاحتمال الثاني على طريقة {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، أي استمعوا للضرب، أي لما يدل على الضرب من الألفاظ، فيقدر مضاف بقرينة {استمعوا} لأن المسموع لا يكون إلا ألفاظا، أي استمعوا لما يدل على ضرب المثل المتعجب منه في حماقة ضاربيه.واستعملت صيغة الماضي في {ضرب} مع أنه لما يقل لتقريب زمن الماضي من الحال كقوله: {لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} ، أي لو قاربوا أن يتركوا. وذلك تنبيه للسامعين بان يتهيأوا لتلقي هذا المثل، لما هو معروف لدى البلغاء من استشرافهم للأمثال ومواقعها.
والمثل: شاع في تشبيه حالة بحالة، كما تقدم في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ

نَاراً} في سورة البقرة، فالتشبيه في هذه الآية ضمني خفي ينبئ عنه قوله: {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} وقوله: {لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} . فشبهت الأصنام المتعددة المتفرقة في قبائل العرب وفي مكة بالخصوص بعظماء، أي عند عابديها. وشبهت هيئتها في العجز بهيئة ناس تعذر عليهم خلق أضعف المخلوقات، وهو الذباب، بله المخلوقات العظيمة كالسماوات والأرض. وقد دل إسناد نفي الخلق إليهم على تشبيههم بذوي الإرادة لأن نفي الخلق بمقتضى محاولة إيجاده، وذلك كقوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} كما تقدم في سورة النحل. ولو فرض أن الذباب سلبهم شيئا لم يستطيعوا أخذه منه، ودليل ذلك مشاهدة عدم تحركهم، فكما عجزت عن إيجاد أضعف الخلق وعن دفع أضعف المخلوقات عنها فكيف عجزت عن إيجاد أضعف الخلق وعن دفع أضعف المخلوقات عنها فكيف توسم بالإلهية. ورمز إلى الهيئة المشبه بها يذكر لوازم أركان التشبيه من قوله: {لَنْ يَخْلُقُوا} وقوله: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً} إلى آخره. لا جرم حصل تشبيه هيئة الأصنام في عجزها بما دون هيئة أضعف المخلوقات فكانت تمثيلية مكنية.
وفسر صاحب الكشاف المثل هنا بالصفة الغربية تشبيها لها ببعض الأمثال السائرة. وهو تفسير بما لا نظير له ولا استعمال يعضده اقتصادا منه في الغوص عن المعنى لا ضعفا عن استخراج حقيقة المثل فيها وهو جذيعها المحكك. وعذيقها الموجب ولكن أحسبه صادف منه وقت سرعة في التفسير أو شغلا بأمر خطير، وكم ترك الأول للأخير.
وفرع على التهيئة لتلقي هذا المثل الأمر بالاستماع له وإلقاء الشراشر لوعيه وترقب بيان إجماله توخيا للتفطن لما يتلى بعد.
وجملة: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} إلخ بيان لـ {مَثَلٌ} على كلا الاحتمالين السابقين في معنى {ضُرِبَ مَثَلٌ} ، فإن المثل في معنى القول فصح بيانه بهذا الكلام.
وأكد إثبات الخبر بحرف توكيد الإثبات وهو "إن"، وأكد ما فيه من النفي بحرف توكيد النفي "لن" لتنويل المخاطبين منزلة المنكرين لمضمون الخبر، لأن جعلهم الأصنام آلهة يقتضي إثباتهم الخلق إليها وقد نفي عنها الخلق في المستقبل لأنه أظهر في إقحام الذين ادعوا لها الإلهية لأن نفي أن تخلق في المستقبل يقتضي نفي ذلك في الماضي بالأحرى لأن الذي يفعل شيئا يكون فعله من بعد أيسر عليه.
وقرأ الجمهور: {تَدْعُونَ} بتاء الخطاب على أن المراد بالناس في قوله: {يَا أَيُّهَا

النَّاسُ} خصوص المشركين. وقرأه يعقوب بياء الغيبة على أن يقصد بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} جميع الناس وأنهم علموا بحال فريق منهم وهم أهل الشرك. والتقدير: إن الذين يدعون هم فريق منكم.
والذباب: اسم جمع ذبابة، وهي حشرة طائرة معروفة، وتجمع على ذبان بكسر الذال وتشدد النون ولا يقال في العربية للواحدة ذبابة.
وذكر الذباب لأنه من أحقر المخلوقات التي فيها الحياة المشاهدة. وأما ما في الحديث في المصورين قال الله تعالى "فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة" فهو في سياق التعجيز لأن الحبة لا حياة فيها والذرة فيها حياة ضعيفة.
وموقع {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} موقع الحال، والواو واو الحال، و"لو" فيه وصيلة. وقد تقدم بيان حقيقتها عند قوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران، أي لن يستطيعوا ذلك الخلق وهم مفترقون، بل ولو اجتمعوا من مفترق القبائل وتعاونوا على خلق الذباب لن يخلقوه.
والاستنقاذ: مبالغة في الإنقاذ مثل الاستحياء والاستجابة.
وجملة: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} تذييل وفذلكة للغرض من التمثيل، أي ضعف الداعي والمدعو، إشارة إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} الخ. أي ضعفتم أنتم في دعوتهم آلهة وضعفت الأصنام عن صفات الإله.
وهذه الجملة كلام أرسل مثلا، وذلك من بلاغة الكلام.
[74] {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}
تذييل للمثل بان عبادتهم الأصنام مع الله استخفاف بحق إلهيته تعالى إذ أشركوا معه في أعظم الأوصاف أحقر الموصوفين، وإذ استكبروا عند تلاوة آياته تعالى عليهم، وإذ هموا بالبطش برسوله.
والقدر: العظمة: وفعل قدر يفيد أنه عامل بقدره. فالمعنى: ما عظموه حق تعظيمه إذ أشركوا معه الضعفاء العجز وهو الغالب القوي. وقد تقدم تفسيره في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} في سورة الأنعام.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} تعليل لمضمون الجملة قبلها، فإن ما أشركوهم مع الله

في العبادة كل ضعيف ذليل فما قدروه حق قدره لأنه قوي عزيز فكيف يشاركه الضعيف الذليل. والعدول عن أن يقال: ما قدرتم الله حق قدره. إلى أسلوب الغيبة، التفات تعريضا بهم بأنهم ليسوا أهلا للمخاطبة توبيخا لهم، وبذلك يندمج في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} تهديد لهم بأنه ينتقم منهم على وقاحتهم.
وتوكيد الجملة بحرف التوكيد ولام الابتداء مع أن مضمونها مما لا يختلف فيه التنزيل علمهم بذلك منزلة الإنكار لأنهم لم يجروا على موجب العلم حين أشركوا مع القوي العزيز ضعفاء أذلة.
والقوي: من أسمائه تعالى. وهو مستعمل في القدرة على كل مراد له. والعزيز: من أسمائه، وهو بمعنى: الغالب لكل معاند.
[75] {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
لما نفت الآيات السابقة أن يكون للأصنام التي يعبدها المشركون مزية في نصرهم بقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} ، وقوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ونعى على المشركين تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} ، وقد كان من دواعي التكذيب أنهم أحالوا أن يأتيهم رسول من البشر {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} ، أي يصاحبه، {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} أعقب إبطال أقوالهم بأن الله يصطفي من شاء اصطفاه من الملائكة ومن الناس دون الحجارة، وأنه يصطفيهم ليرسلهم إلى الناس، أي لا ليكونوا شركاء. فلا جرم أبطل قوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} جميع مزاعمهم في أصنامهم.
فالجملة استئناف ابتدائي. والمناسبة ما علمت.
وتقديم المسند إليه وهو اسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي} دون أن يقول: يصطفي، لإفادة الاختصاص، أي الله وحده هو الذي يصطفي لا أنتم تصطفون وتنسبون إليه.
والإظهار في مقام الإضمار هنا حيث لم يقل: هو يصطفي من الملائكة رسلا، لأن

اسم الجلالة أصله الإله، أي الإله المعروف الذي لا إله غيره، فاشتقاقه مشير إلى أن مسماه جامع كل الصفات العلى تقريرا للقوة الكاملة والعزة القاهرة.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} تعليل لمضمون جملة: {اللَّهُ يَصْطَفِي} لأن المحيط علمه بالأشياء هو الذي يختص بالاصطفاء. وليس لأهل العقول ما بلغت بهم عقولهم من الفطنة والاختيار أن يطلعوا على خفايا الأمور فيصطفوا للمقامات العليا من قد تخفى عنهم نقائصهم بله اصطفاء الحجارة الصماء.
والسميع البصير: كناية عن عموم العلم بالأشياء بحسب المتعارف في المعلومات أنها لا تعدو المسموعات والمبصرات.
[76] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}
جملة مقررة لمضمون جملة: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . وفائدتها زيادة على التقرير أنها تعريض بوجوب مراقبتهم ربهم في السر والعلانية لأنه لا تخفى عليه خافية.
و {مَا بَينَ أَيْدِيِهِمْ} مستعار لما يظهرونه، {وَمَا خَلْفَهُمْ} هو ما يخفونه لأن الشيء الذي يظهره صاحبه يجعله بين يديه والشيء الذي يخفيه يجعله وراءه.
ويجوز أن يكون {مَا بَينَ أَيْدِيِهِمْ} مستعارا لما سيكون من أحوالهم لأنها تشبه الشيء الذي هو تجاه الشخص وهو يمشي إليه.
{وَمَا خَلْفَهُمْ} مستعار لما مضى وعبر من أحوالهم لأنها تشبه ما تركه السائر وراءه وتجاوزه.
وضمير {أَيْدِيِهِمْ} و {خَلْفَهُمْ} عائدان: إما إلى المشركين الذين عاد إليهم ضمير: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} ، وإما إلى الملائكة والناس. وإرجاع الأمور إرجاع القضاء في جزائها من ثواب وعقاب إليه يوم القيامة.
وبني فعل {تُرْجَعُ} إلى النائب لظهور من هو فاعل الإرجاع فإنه لا يليق إلا بالله تعالى، فهو يمهل الناس في الدنيا وهو يرجع الأمور إليه يوم القيامة.
وتقديم المجرور لإفادة الحصر الحقيقي، أي إلى الله لا إلى غيره يرجع الجزاء لأنه ملك يوم الدين. والتعريف في {الْأُمُورُ} للاستغراق، أي كل أمر. وذلك جمع بين البشارة والنذارة تبعا لما قبله من قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.

[77] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
لما كان خطاب المشركين فاتحا لهذه السورة وشاغلا لمعظمها عدا ما وقع اعتراضا في خلال ذلك. فقد خوطب المشركون بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} أربع مرات، فعند استيفاء ما سيق إلى المشركين من الحجج والقوارع والنداء على مساوي أعمالهم. ختمت السورة بالإقبال على خطاب المؤمنين بما يصلح أعمالهم وينوه بشأنهم.
وفي هذا الترتيب إيماء إلى أن الاشتغال بإصلاح الاعتقاد مقدم على الاشتغال بإصلاح الأعمال.
والمراد بالركوع والسجود الصلوات. وتخصيصهما بالذكر من بين أعمال الصلاة لأنهما أعظم أركان الصلاة إذ بهما إظهار الخضوع والعبودية. وتخصيص الصلاة بالذكر قبل الأمر ببقية العبادات المشمولة لقوله: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} تنبيه على أن الصلاة عماد الدين.
والمراد بالعبادة: ما أمر الله الناس أن يتعبدوا به مثل الصيام والحج.
وقوله: {وافعلوا الخير} أمر بإسداء الخير إلى الناس من الزكاة، وحسن المعاملة: كصلة الرحم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسائر مكارم الأخلاق، وهذا مجمل بينته وبينت مراتبه أدلة أخرى.
والرجاء المستفاد من {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} مستعمل في معنى تقريب الفلاح لهم إذا بلغوا بأعمالهم الحد الموجب للفلاح فيما حدد الله تعالى. فهذه حقيقة الرجاء. وأما ما يستلزمه الرجاء من تردد الراجي في حصول المرجو فذلك لا يخطر بالبال لقيام الأدلة التي تحيل الشك على الله تعالى.
واعلم أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} إلى {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} اختلف الأئمة في كون ذلك موضع سجدة من سجود القرآن. والذي ذهب إليه الجمهور أن ليس ذلك موضع سجدة وهو قول مالك في "الموطأ" و "المدونة" ، وأبي حنيفة، والثوري.

وذهب جمع غفير إلى أن ذلك موضع سجدة، وروى الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وفقهاء المدينة، ونسبه ابن العربي إلى مالك في رواية المدنيين من أصحابه عنه. وقال ابن عبد البر في الكافي : "ومن أهل المدينة قديما وحديثا من يرى السجود في الثانية من الحج" قال: وقد رواه ابن وهب عن مالك. وتحصيل مذهبه أنها إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء، فلم ينسبه إلى مالك إلا من رواية ابن وهب، وكذلك ابن رشد في المقدمات : فما نسبة ابن العربي إلى المدنيين من أصحاب مالك غريب.
وروى الترمذي عن ابن لهيعة عن مشرح1 عن عقبة بن عامر قال: " قلت: يا رسول الله فضلت سورة الحج لأن فيها سجدتين? قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما"اهـ. قال أبو عيسى: "هذا حديث إسناده ليس بالقوي" اهـ، أي من أجل أن ابن لهيعة ضعفه يحيى بن معين. وقال مسلم: تركه وكيع، والقطان، وابن مهدي. وقال أحمد: احترقت كتبه فمن روى عنه قديما أي قبل احتراق كتبه قبل.
[78] {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}
الجهاد بصيغة المفاعلة حقيقة عرفية في قتال أعداء المسلمين في الدين لأجل إعلاء كلمة الإسلام أو للدفع عنه كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" . وأن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين قفل من غزوة تبوك قال لأصحابه: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" ، وفسره لهم بمجاهدة العبد هواه2، فذلك محمول على المشاكلة بإطلاق الجهاد على منع داعي النفس إلى المعصية.
ومعنى "في" التعليل، أي لأجل الله، أي لأجل نصر دينه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "دخلت
ـــــــ
1 مشرح - بميم مكسورة فشين معجمة ساكنة هو ابن عاهان المعافري تابعي توفى سنة 120هـ.
2 رواه البيهقي عن جابر بن عبد الله بسند ضعيف.

امرأة النار في هرة" أي لأجل هرة، أي لعمل يتعلق بهرة كما بينة بقوله: "حبستها لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها ترمم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلا".
وانتصب حق جهاده على المفعول المطلق المبين للنوع، وأضيفت الصفة إلى الموصوف، وأصله: جهاده الحق، وإضافة جهاد إلى ضمير الجلالة لأدنى ملابسة، أي حق الجهاد لأجله، وقرينة المراد تقدم حرف في كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} .
والحق بمعنى الخالص، أي الجهاد الذي لا يشوبه تقصير.
والآية أمر بالجهاد. ولعلها أول آية جاءت في الأمر بالجهاد لأن السورة بعضها مكي وبعضها مدني ولأنه تقدم آنفا قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} . فهذا الآن أمر بالأخذ في وسائل النصر، فالآية نزلت قبل وقعة بدر لا محالة.
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}
جملة: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} إن حملت على أنها واقعة موقع العلة لما أمروا به ابتداء من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} الخ، أي لأنه لما اجتباكم، كان حقيقا بالشكر له بتلك الخصال المأمور بها.
والاجتباء: الاصطفاء والاختبار، أي هو اختاركم لتلقي دينه ونشره ونصره على معانديه. فيظهر أن هذا موجه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصالة ويشركهم فيه كل من جاء بعدهم بحكم اتحاد الوصف في الأجيال كما هو الشان في مخاطبات التشريع.
وإن حمل قوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} على معنى التفضيل على الأمم كان ملحوظا فيه تفضيل مجموع الأمة على مجموع الأمم السابقة الراجع إلى تفضيل كل طبقة من هذه الأمة على الطبقة المماثلة لها من الأمم السالفة.
وقد تقدم مثل هذين المحملين في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}

وأعقب ذلك بتفضيل هذا الدين المستتبع تفضيل أهله بأن جعله دينا لا حرج فيه لأن ذلك يسهل العمل به مع حصول مقصد الشريعة من العمل فيسعد أهله بسهولة امتثاله. وقد امتن الله تعالى بهذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن، منها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . ووصفه الدين بالحنيف، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة".
والحرج: الضيق، أطلق على عسر الأفعال تشبيها للمعقول بالمحسوس ثم شاع ذلك حتى صار حقيقة عرفية كما هنا.
والملة: الدين والشريعة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في سورة النحل. وقوله: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي} في سورة يوسف.
وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} زيادة في التنويه بهذا الدين وتحضيض على الأخذ به بأنه اختص بأنه دين جاء به رسولان إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم وهذا لم يستتب لدين آخر، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا دعوة أبي إبراهيم"1 أي بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}. وإذ قد كان هذا هو المقصود فمحمل الكلام أن هذا الدين دين إبراهيم، أي أن الإسلام احتوى على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ومعلوم أن للإسلام أحكاما كثيرة ولكنه اشتمل على ما لم يشتمل عليه غيره من الشرائع الأخرى من دين إبراهيم، جعل كأنه عين ملة إبراهيم، فعلى هذا الاعتبار يكون انتصاب {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} على الحال من {الدين} باعتبار أن الإسلام حوى ملة إبراهيم.
ثم إن كان الخطاب موجها إلى الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فإضافة أبوة إبراهيم إليهم باعتبار غالب الأمة، لأن غالب الأمة يومئذ من العرب المضرية وأما الأنصار فإن نسبهم لا ينتمي إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنهم من العرب القحطانيين؛ على أن أكثرهم كانت لإبراهيم عليهم ولادة من قبل الأمهات.
وإن كان الخطاب لعموم المسلمين كانت إضافة أبوة إبراهيم لهم على معنى التشبيه في الحرمة واستحقاق التعظيم كقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، ولأنه أبو النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد له مقام الأبوة للمسلمين وقد قرئ قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ
ـــــــ
1 رواه أبو داود الطيالسي عن عبادة بن الصامت.

أُمَّهَاتُهُمْ} بزيادة وهو أبوهم.
ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التعظيم كأنه قال: ملة أبيك إبراهيم.
والضمير في {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} عائد إلى الجلالة كضمير {هُوَ اجْتَبَاكُم} فتكون الجملة استئنافا ثانيا، أي هو اجتباكم وخصكم بهذا الاسم الجليل فلم يعطه غيركم ولا يعود إلى إبراهيم.
و {قبل} إذا بني على الضم كان على تقدير مضاف إليه منوي بمعناه دون لفظه. والاسم الذي أضيف إليه {قبل} محذوف. وبني {قبل} على الضم إشعارا بالمضاف إليه. والتقدير: من قبل القرآن. والقرينة قوله: {وَفِي هَذَا} ، أي وفي هذا القرآن.
والإشارة في قوله: {وَفِي هَذَا} إلى القرآن كما في قوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، أي وسماكم المسلمين في القرآن. وذلك في نحو قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وقوله: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}.
واللام في قوله: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} يتعلق بقوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} أو بقوله: {اجْتَبَاكُمْ} أي ليكون الرسول، أي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدا على الأمة الإسلامية بأنها آمنت به، وتكون الأمة الإسلامية شاهدة على الناس، أي على الأمم بأن رسلهم بلغوهم الدعوة فكفر بهم الكافرون. ومن جملة الناس القوم الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقدمت شهادة الرسول للأمة هنا، وقدمت شهادة الأمة في آية البقرة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ؛ لأن آية هذه السورة في مقام التنويه بالدين الذي جاء به الرسول. فالرسول هنا أسبق إلى الحضور فكان ذكر شهادته أهم، وآية البقرة صدرت بالثناء على الأمة فكان ذكر شهادة الأمة أهم.
{فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}
تفريع على جملة: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} وما بعدها، أي فاشكروا الله بالدوام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله.

والاعتصام: افتعال من الصم. وهو المنع من الضر والنجاة، قال تعالى: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ، وقال النابغة:
يظل من خوفه الملاح معتصما ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد.
والمعنى: اجعلوا الله ملجأكم ومنجاكم. وجملة: {هُوَ مَولاكُمْ} مستأنفة معللة للأمر بالاعتصام بالله لأن المولى يعتصم به ويرجع إليه لعظيم قدرته وبديع حكمته.
والمولى: السيد الذي يراعي صلاح عبده.
وفرع عليه إنشاء الثناء على الله بأنه أحسن مولى وأحسن نصير. أي نعم المدبر لشؤونكم، ونعم الناصر لكم. ونصير: صيغة مبالغة في النصر. أي نعم المولى لكم ونعم النصير لكم. وأما الكافرون فلا يتولاهم تولي العناية ولا ينصرهم.
وهذا الإنشاء يتضمن تحقيق حسن ولاية الله تعالى وحسن نصره. وبذلك الاعتبار حسن تفريعه على
الأمر بالاعتصام به.
وهذا من براعة الختام. كما هو بين لذوي الأفهام.

المجلد الثامن عشر
سورة المؤمنين...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المؤمنون
ويقال سورة المؤمنون.
فالأول على اعتبار إضافة السورة إلى المؤمنين لافتتاحها بالإخبار عنهم بأنهم أفلحوا. ووردت تسميتها بمثل هذا فيما رواه النسائي: عن عبد الله بن السائب قال: "حضرت رسول الله يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة فخلع نعليه فوضعهما عن يساره فافتتح سورة المؤمنين فلما جاء ذكر موسى أو عيسى أخذته سعلة فركع" .
والثاني على حكاية لفظ {الْمُؤْمِنُونَ} الواقع أولها في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فجعل ذلك اللفظ تعريفا للسورة.
وقد وردت تسمية هذه السورة سورة المؤمنين في السنة. روى أبو داود: عن عبد الله بن السائب قال: "صلى بنا رسول الله الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر موسى وعيسى أخذت النبي سعلة فحذف فركع" .
ومما جرى على الألسنة أن يسموها سورة قد أفلح. ووقع ذلك في كتاب الجامع من العتبية في سماع ابن القاسم. قال ابن القاسم: أخرج لنا مالك مصحفا لجده فتحدثنا أنه كتبه على عهد عثمان بن عفان وغاشيته من كسوة الكعبة فوجدنا.. إلى أن قال.. وفي قد أفلح كلها الثلاث لله أي خلافا لقراءة: سيقولون الله. ويسمونها أيضا سورة الفلاح.
وهي مكية بالاتفاق. ولا اعتداد بتوقف من توقف في ذلك بأن الآية التي ذكرت فيها الزكاة وهي قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} تعين أنها مدنية؛ لأن الزكاة فرضت في المدينة. فالزكاة المذكورة فيها هي الصدقة لا زكاة النصب المعينة في

الأموال. وإطلاق الزكاة على الصدقة مشهور في القرآن. قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7,6] وهي من سورة مكية بالاتفاق، وقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55,54] ولم تكن زكاة النصب مشروعة في زمن إسماعيل.
وهي السورة السادسة والسبعون في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة {الطور} وقبل سورة {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} .
وآياتها مائة وسبع عشرة في عد الجمهور. وعدها أهل الكوفة مائة وثمان عشرة، فالجمهور عدوا {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} آية، وأهل الكوفة عدوا {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 11,10] آية وما بعدها آية أخرى، كما يؤخذ من كلام أبي بكر ابن العربي في العارضة في الحديث الذي سنذكره عقب تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
أغراض السورة
هذه السورة تدور آيها حول محور تحقيق الوحدانية وإبطال الشرك ونقض قواعده، والتنويه بالإيمان وشرائعه.
فكان افتتاحها بالبشارة للمؤمنين بالفلاح العظيم على ما تحلوا به من أصول الفضائل الروحية والعملية التي بها تزكية النفس واستقامة السلوك.
وأعقب ذلك بوصف خلق الإنسان أصله ونسله الدال على تفرد الله تعالى بالإلهية لتفرده بخلق الإنسان ونشأته ليبتدئ الناظر بالاعتبار في تكوين ذاته ثم بعدمه بعد الحياة. ودلالة ذلك الخلق على إثبات البعث بعد الممات وأن الله لم يخلق الخلق سدى ولعبا.
وانتقل إلى الاعتبار بخلق السماوات ودلالته على حكمة الله تعالى.
وإلى الاعتبار والامتنان بمصنوعات الله تعالى التي أصلها الماء الذي به حياة ما في هذا العالم من الحيوان والنبات وما في ذلك من دقائق الصنع، وما في الأنعام من المنافع ومنها الحمل.
ومن تسخير المنافع للناس وما أوتيه الإنسان من آلات الفكر والنظر. وورد ذكر الحمل على الفلك فكان منه تخلص إلى بعثه نوح وحدث الطوفان.

وانتقل إلى التذكير ببعثة الرسل للهدى والإرشاد إلى التوحيد والعمل الصالح، وما تلقاها به أقوامهم من الإعراض والطعن والتفرق، وما كان من عقاب المكذبين، وتلك أمثال لموعظة المعرضين عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فأعقب ذلك بالثناء على الذين آمنوا واتقوا.
وبتنبيه المشركين على أن حالهم مماثل لأحوال الأمم الغابرة وكلمتهم واحدة فهم عرضة لأن يحل بهم ما حل بالأمم الماضية المكذبة. وقد أراهم الله مخائل العذاب لعلهم يقلعون عن العناد فأصروا على إشراكهم بما ألقى الشيطان في عقولهم.
وذكروا بأنهم يقرون إذا سئلوا بأن الله مفرد بالربوبية ولا يجرون على مقتضى إقرارهم أنهم سيندمون على الكفر عندما يحضرهم الموت وفي يوم القيامة.
وبأنهم عرفوا الرسول وخبروا صدقه وأمانته ونصحه المجرد عن طلب المنفعة لنفسه الإ ثواب الله فلا عذر لهم بحال في إشراكهم وتكذيبهم الرسالة، ولكنهم متبعون أهواءهم معرضون عن الحق.
وما تخلل ذلك من جوامع الكلم.
وختمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغض عن سوء معاملتهم ويدفعها بالتي هي أحسن، ويسأل المغفرة للمؤمنين، وذلك هو الفلاح الذي ابتدئت به السورة.
[1] {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} .
افتتاح بديع لأنه من جوامع الكلم فإن الفلاح غاية كل ساع إلى عمله، فالإخبار بفلاح المؤمنين دون ذكر متعلق بفعل الفلاح يقتضي في المقام الخطابي تعميم ما به الفلاح المطلوب، فكأنه قيل: قد أفلح المؤمنون في كل ما رغبوا فيه.
ولما كانت همة المؤمنين منصرفة إلى تمكن الإيمان والعمل الصالح من نفوسهم كان ذلك إعلاما بأنهم نجحوا فيما تعلقت به هممهم من خير الآخرة وللحق من خير الدنيا، ويتضمن بشارة برضى الله عنهم ووعدا بأن الله مكمل لهم مايتطلبونه من خير.
وأكد هذا الخبر بحرف قد الذي إذا دخل على الفعل الماضي أفاد التحقيق أي التوكيد. فحرف قد في الجملة الفعلية يفيد مفاد إن واللام في الجملة الاسمية، أي يفيد توكيدا قويا.
ووجه التوكيد هنا أن المؤمنين كانوا مؤملين مثل هذه البشارة فيما سبق لهم من رجاء

فلاحهم كالذي في قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، فكانوا لا يعرفون تحقق أنهم أتوا بما أرضى ربهم ويخافون أن يكونوا فرطوا في أسبابه وما علق عليه وعده إياهم، بله أن يعرفوا اقتراب ذلك، فلما أخبروا بأن ما ترجوه قد حصل حقق لهم بحرف التحقيق وبفعل المضي المستعمل في معنى التحقق. فالإتيان بحرف التحقيق لتنزيل ترقبهم إياه لفرط الرغبة والانتظار منزلة الشك في حصوله. ولعل منه: قد قامت الصلاة، إشارة إلى رغبة المصلين في حلول وقت الصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرحنا بها يا بلال" وشأن المؤمنين التشوق إلى عبادتهم كما يشاهد في تشوق كثير إلى قيام رمضان.
وحذف المتعلق للإشارة إلى أنهم أفلحوا فلاحا كاملا.
والفلاح: الظفر بالمطلوب من عمل العامل. وقد تقدم في أول البقرة. ونيط الفلاح بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب الأعظم في الفلاح فإن الإيمان وصف جامع للكمال لتفرع جميع الكمالات عليه.
[2] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .
إجراء الصفات على {الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] بالتعريف بطريق الموصول وبتكريره للإيماء إلى وجه فلاحهم وعلته، أي أن كل خصلة من هاته الخصال هي من أسباب فلاحهم. وهذا يقتضي أن كل خصلة من هذه الخصال سبب للفلاح لأنه لم يقصد أن سبب فلاحهم مجموع الخصال المعدودة هنا فإن الفلاح لا يتم إلا بخصال أخرى مما هو مرجع التقوى، ولكن لما كانت كل خصلة من هذه الخصال تنبئ عن رسوخ الإيمان من صاحبها اعتبرت لذلك سببا للفلاح، كما كانت أضدادها كذلك في قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 46,42] على أن ذكر عدة أشياء لا يقتضي الاقتصار عليها في الغرض المذكور.
والخشوع تقدم في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} في سورة البقرة [45] وفي قوله: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} في سورة الأنبياء [90]. وهو خوف يوجب تعظيم المخوف منه، ولاشك أن الخشوع، أي الخشوع لله، يقتضي التقوى فهو سبب فلاح.
وتقييده هنا بكونه في الصلاة لقصد الجمع بين وصفهم بأداء الصلاة وبالخشوع

وخاصة إذا كان في حال الصلاة لأن الخشوع لله يكون في حالة الصلاة وفي غيرها، إذ الخشوع محله القلب فليس من أفعال الصلاة ولكنه يتلبس به المصلي في حالة صلاته. وذكر مع الصلاة لأن الصلاة أولى الحالات بإثارة الخشوع وقوته ولذلك قدمت، ولأنه بالصلاة أعلق فإن الصلاة خشوع لله تعالى وخضوع له، ولأن الخشوع لما كان لله تعالى كان أولى الأحوال به حال الصلاة لأن المصلي يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يدي ربه فيخشع له. وهذا من آداب المعاملة مع الخالق تعالى وهي رأس الآداب الشرعية ومصدر الخيرات كلها.
ولهذا الاعتبار قدم هذا الوصف على بقية أوصاف المؤمنين وجعل مواليا للإيمان فقد حصل الثناء عليهم بوصفين.
وتقديم {فِي صَلاتِهِمْ} على {خَاشِعُونَ} للاهتمام بالصلاة للإيذان بأن لهم تعلقا شديدا بالصلاة لأن شأن الإضافة أن تفيد شدة الاتصال بين المضاف والمضاف إليه لأنها على معنى لام الاختصاص. فلو قيل: الذين إذا صلوا خشعوا، فات هذا المعنى، وأيضا لم يتأت وصفهم بكونهم خاشعين إلا بواسطة كلمة أخرى نحو: كانوا خاشعين. وإلا يفت ما تدل عليه الجملة الاسمية من ثبات الخشوع لهم ودوامه، أي كون الخشوع خلقا لهم بخلاف نحو: الذين خشعوا، فحصل الإيجاز، ولم يفت الإعجاز.
[3] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} .
العطف من عطف الصفات لموصوف واحد كقول بعض الشعراء وهو من شواهد النحو:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
وتكرير الصفات تقوية للثناء عليهم.
والقول في تركيب جملة {هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:2] كالقول في {هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، وكذلك تقديم {عَنِ اللَّغْوِ} على متعلقه.
وإعادة اسم الموصول دون اكتفاء بعطف صلة على صلة للإشارة إلى أن كل صفة من الصفات موجبة للفلاح فلا يتوهم أنهم لا يفلحون حتى يجمعوا بين مضامين الصلاة كلها، ولما في الإظهار في مقام الإضمار من زيادة تقرير للخبر في ذهن السامع.

واللغو: الكلام الباطل. وتقدم في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} في البقرة [225]، وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} في سورة مريم [62].
والإعراض: الصد أي عدم الإقبال على الشيء، من العرض بضم العين وهو الجانب، لأن من يترك الشيء يوليه جانبه ولا يقبل عليه فيشمل الإعراض إعراض السمع عن اللغو. وتقدم عند قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء [63]، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} في سورة الأنعام [68]، وأهمه الإعراض عن لغو المشركين عند سماع القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وقال تعالى {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72]. ويشمل الإعراض عن اللغو بالألسنة، أي أن يلغوا في كلامهم.
وعقب ذكر الخشوع بذكر الإعراض عن اللغو لأن الصلاة في الأصل الدعاء، وهو من الأقوال الصالحة، فكان اللغو مما يخطر بالبال عند ذكر الصلاة بجامع الضدية، فكان الإعراض عن اللغو بمعنيي الإعراض مما تقتضيه الصلاة والخشوع لأن من اعتاد القول الصالح تجنب القول الباطل ومن اعتاد الخشوع لله تجنب قول الزور. وفي الحديث إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم.
والإعراض عن جنس اللغو من خلق الجد ومن تخلق بالجد في شؤونه كملت نفسه ولم يصدر منه إلا الأعمال النافعة، فالجد في الأمور من خلق الإسلام كما أفصح عن ذلك قول أبي خراش الهذلي بذكر الإسلام:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
ولإعراض عنه يقتضي بالأولى اجتناب قول اللغو ويقتضي تجنب مجالس أهله.
واعلم أن هذا أدب عظيم من آداب المعاملة مع بعض الناس وهم الطبقة غير المحترمة لأن أهل اللغو ليسوا بمرتبة التوقير فالإعراض عن لغوهم ربء عن التسفل معهم.
[4] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .
أصل الزكاة أنها اسم مصدر زكى المشدد، إذا طهر النفس من المذمات. ثم

أطلقت على إنفاق المال لوجه الله مجازا لأن القصد من ذلك المال تزكية النفس أو لأن ذلك يزيد في مال المعطي. فأطلق اسم المسبب على السبب. وأصله قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. وأطلقت على نفس المال المنفق من إطلاق اسم المصدر على المفعول لأنه حاصل به وهو المتعين هنا بقرينة تعليقه ب {فَاعِلُونَ} المقتضي أن الزكاة مفعول. وأما المصدر المتعين فلا يكون مفعولا به لفعل من مادة ف.ع.ل لان صوغ الفعل من مادة ذلك المصدر يغني الإتيان بفعل مبهم ونصب مصدره على المفعولية به. فلو قال أحد: فعلت مشيا، إذا أراد أن يقول: مشيت، كان خارجا عن تركيب العربية ولو كان مفيدا. ولو قال أحد: فعلت مما تريده، لصح التركيب قال تعالى {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 59]، أي هذا المشاهد من الكسر والحطم، أي هذا الحاصل بالمصدر. وليس المراد المصدر لأنه لا يشار إليه ولا سيما بعد غيبة فاعله.
والمراد بالفعل هنا الفعل المناسب لهذا المفعول وهو الإيتاء، فهو كقوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة: 55] فلا حاجة إلى تقدير أداء الزكاة.
وإنما أوثر هنا الاسم الأعم وهو {فَاعِلُونَ} لأن مادة ف.ع.ل مشتهرة في إسداء المعروف. واشتق منها الفعال بفتح الفاء، قال محمد بن بشير الخارجي:
إن تنفق المال أو تكلف مساعيه ... يشقق عليك وتفعل دون ما فعلا
وعلى هذا الاعتبار جاء ما نسب إلى أمية بن أبي الصلت:
المطعمون الطعام في السنة الغاز ... ثمة والفاعلون للزكوات
أنشده في الكشاف. وفي نفسي من صحة نسبته تردد لأني أحسب استعمال الزكاة في معنى المال المبذول لوجه الله إلا من مصطلحات القرآن فلعل اللبيب مما نحل من الشعر على ألسنة الشعراء. قال ابن قتيبة في كتاب الشعر والشعراء وعلماؤنا لا يرون شعر أمية حجة على الكتاب.
واللام على هذا الوجه لام التقوية لضعف العامل بالفرعية وبالتأخير عن معموله.
وقال أبو مسلم والراغب: اللام للتعليل وجعلا الزكاة تزكية النفس. ومعنى {فَاعِلُونَ} فاعلون الأفعال الصالحات فحذف معمول {فَاعِلُونَ} بدلالة علته عليه.
وفي الكشاف أن الزكاة هنا مصدر وهو فعل المزكي، أي إعطاء الزكاة وهو الذي

يحسن أن يتعلق ب {فَاعِلُونَ} لأنه ما من مصدر إلا ويعبر عن معناه بمادة فعل، فيقال للضارب: فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل. وإنما حاول بذلك إقامة تفسير الآية فغلب جانب الصناعة اللفظية على جانب المعنى وجوز الوجه الآخر على شرط تقدير مضاف، وكلا الاعتبارين غير ملتزم.
وعقب ذكر الصلاة بذكر الزكاة لكثرة التآخي بينهما في آيات القرآن، وإنما فصل بينهما هنا بالإعراض عن اللغو للمناسبة التي سمعت آنفا.
وهذا من آداب المعاملة مع طبقة أهل الخصاصة وهي ترجع إلى آداب التصرف في المال. والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما تقدم آنفا.
[7,5] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .
الحفظ: الصيانة والإمساك. وحفظ الفرج معلوم، أي عن الوطء. والاستثناء في قوله {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} الخ استثناء من عموم متعلقات الحفظ التي دل عليها حرف {عَلَى} ، أي حافظونها على كل ما يحفظ عليه إلا المتعلق الذي هو أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فضمن حافظون معنى عدم البذل، يقال: احفظ علي عنان فرسي كما يقال: أمسك علي كما في آية: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:37]. والمراد حل الصنفين من بين بقية أصناف النساء. وهذا مجمل تبينه تفاصيل الأحكام في عدد الزوجات وما يحل منهن بمفرده أو الجمع بينه. وتفاصيل الأحوال من حال حل الانتفاع أو حال عدة فذلك كله معلوم للمخاطبين. وكذلك في الإماء.
والتعبير عن الإماء باسم {مَا} الموصولة الغالب استعمالها لغير العاقل جرى على خلاف الغالب وهو استعمال كثير لاحتاج معه إلى تأويل.
وقوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} تصريح بزائد على حكم مفهوم الاستثناء، لأن الاستثناء لم يدل على أكثر من كون عدم الحفظ على الأزواج والمملوكات لا يمنع الفلاح فأريد زيادة بيان أنه أيضا لا يوجب اللوم الشرعي، فيدل هذا بالمفهوم على أن عدم الحفظ على من سواهن يوجب اللوم الشرعي ليحذره المؤمنون.
والفاء في قوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} تفريع للتصريح على مفهوم الاستثناء الذي هو

في قوة الشرط فأشبه التفريع عليه جواب الشرط فقرىء بالفاء تحقيقا للاشتراط.
وزيد ذلك التحذير تقريرا بأن فرع عليه {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} لأن داعية غلبة شهوة الفرج على حفظ صاحبه إياه غريزة طبيعية يخشى أن تتغلب على حافظها، فالإشارة بذلك إلى المذكور في قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي وراء الأزواج والمملوكات، أي غير ذينك الصنفين.
وذكر حفظ الفرج هنا عطفا على الإعراض عن اللغو لأن من الإعراض عن اللغو ترك اللغو بالأحرى كما تقدم آنفا؛ لأن زلة الصالح قد تأتيه من انفلات أحد هذين العضوين من جهة ما أودع في الجبلة من شهوة استعمالهما فلذلك ضبطت الشريعة استعمالهما بأن يكون في الأمور الصالحة التي أرشدت إليها الديانة. وفي الحديث: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" .
واللوم: الإنكار على الغير ما صدر منه من فعل أو قول لا يليق عند الملائم، وهو مرادف العذل وأضعف من التعنيف.
و {وَرَاءَ} منصوب على المفعول به. وأصل الوراء اسم المكان الذي في جهة الظهر، ويطلق على الشيء الخارج عن الحد المحدود تشبيها للمتجاوز الشيء بشيء موضوع خلف ظهر ذلك الشيء لأن ما كان من أعلاق الشخص يجعل بين يديه وبمرأى منه وما كان غير ذلك ينبذ وراء الظهر، وهذا التخيل شاع عنه هذا الإطلاق بحيث يقال: هو وراء الحد، ولو كان مستقبله. ثم توسع فيه فصار بمعنى غير أو ما عدا كما هنا، أي فمن ابتغوا بفروجهم شيئا غير الأزواج وما ملكت أيمانهم.
وأتي لهم باسم الإشارة في قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} لزيادة تمييزهم بهذه الخصلة الذميمة ليكون وصفهم بالعدوان مشهورا مقررا كقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} في سورة البقرة. والعادي هو المعتدي، أي الظالم لأنه عدا على الأمر.
وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الحكم، أي هم البالغون غاية العدوان على الحدود الشرعية.
والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما مر.
[8] {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} .

هذه صفة أخرى من جلائل صفات المؤمنين تنحل إلى فضيلتين هما فضيلة أداء الأمانة التي يؤتمنون عليها وفضيلة الوفاء بالعهد.
فالأمانة تكون غالبا من النفائس التي يخشى صاحبها عليها التلف فيجعلها عند من يظن فيه حفظها، وفي الغالب يكون ذلك على انفراد بين المؤتمن والأمين، فهي لنفاستها قد تغري الأمين عليها بأن لا يردها وبأن يجحدها ربها، ولكون دفعها في الغالب عريا عن الإشهاد تبعث محبتها الأمين على التمسك بها وعدم ردها، فلذلك جعل الله ردها من شعب الإيمان.
وقد جاء في الحديث عن حذيفة بن اليمان قال: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة" ، وحدثنا عن رفعها قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة" ، فيقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" اه.
الوكت: سواد يكون في قشر التمر. والمجل: انتفاخ في الجلد الرقيق يكون شبه قشر العنبة ينشأ من مس النار الجلد ومن كثرة العمل باليد، وقوله: مثقال حبة من خردل من إيمان هو مصدر آمنه، أي وما في قرارة نفسه من إيمان الناس إياه فلا يأتمنه إلا مغرور.
وقد تقدم الكلام على الأمانة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} في سورة النساء. وجمع {الْأَمَانَاتِ} باعتبار تعدد أنواعها وتعدد القائمين بالحفظ تنصيصا على العموم.
وقرأ الجمهور: {لأماناتهم} بصيغة الجمع، وقرأه ابن كثير {لأمانتهم} بالإفراد باعتبار المصدر مثل {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .
والعهد: التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامل كل واحد من الجانبين الآخر به. وسمي عهدا لأنهم يتحالفان بعهد الله، أي بأن يكون الله رقيبا عليهما في ذلك لايفيتهم المؤاخذة على تخلفه، وتقدم عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}

في سورة البقرة.
والوفاء بالعهد من أعظم خلق الكريم لدلالته على شرف النفس وقوة العزيمة، فإن المرائين قد يلتزم كل منهما للآخر عملا عظيما فيصادف أن يتوجه الوفاء بذلك الالتزام على أحدهما فيصعب عليه أن يتجشم عملا لنفع غيره بدون مقابل ينتفع به هو فتسول له نفسه الختر بالعهد شحا أو خورا في العزيمة، فلذلك كان الوفاء بالعهد علامة على عظم النفس قال تعالى {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} .
والرعي: مراقبة شيء بحفظه من التلاشي وبإصلاح ما يفسد منه، فمنه رعي الماشية، ومنه رعي الناس، ومنه أطلقت المراعاة على ما يستحقه ذو الأخلاق الحميدة من حسن المعاملة. والقائم بالرعي راع.
فرعي الأمانة: حفظها. ولما كان الحفظ مقصودا لأجل صاحبها كان ردها إليه أولى من حفظها.
ورعي العهد مجاز، أي ملاحظته عند كل مناسبة.
والقول في تقديم {لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ} على {رَاعُونَ} كالقول في نظائره السابقة، وكذلك إعادة اسم الموصول.
والجمع بين رعي الأمانات ورعي العهد لأن العهد كالأمانة لأن الذي عاهدك قد ائتمنك على الوفاء بما يقتضيه ذلك العهد.
وذكرهما عقب أداء الزكاة لأن الزكاة أمانة الله عند الذين أنعم عليهم بالمال، ولذلك سميت: حق الله، حق المال، وحق المسكين.
[9] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .
ثناء على المؤمنين بالمحافظة على الصلوات، أي بعدم إضاعتها أو إضاعة بعضها. والمحافظة مستعملة في المبالغة في الحفظ إذ ليست المفاعلة هنا حقيقية كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} وتقدم معنى الحفظ قريبا.
وجيء بالصلوات بصيغة الجمع للإشارة إلى المحافظة على أعدادها كلها تنصيصا على العموم.
وإنما ذكر هذا مع ما تقدم من قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}

لأن ذكر الصلاة هنالك جاء تبعا للخشوع فأريد ختم صفات مدحهم بصفة محافظتهم على الصلوات ليكون لهذه الخصلة كمال الاستقرار في الذهن لأنها آخر ما قرع السمع من هذه الصفات.
وقد حصل بذلك تكرير ذكر الصلاة تنويها بها. وردا للعجز على الصدر تحسينا للكلام الذي ذكرت فيه تلك الصفات لتزداد النفس قبولا لسماعها ووعيها فتتأسى بها.
والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول وإضافة الصلوات إلى ضميرهم مثل القول في نظيره ونظائره.
وقرأ الجمهور {صَلَوَاتِهِمْ} بصيغة الجمع، وقرأه حمزة والكسائي وخلف على {صَلاتِهِمْ} بالإفراد.
وقد جمعت هذه الآية أصول التقوى الشرعية لأنها أتت على أعسر ما تراض له النفس من أعمال القلب والجوارح.
فجاءت بوصف الإيمان وهو أساس التقوى لقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} .
ثم ذكرت الصلاة وهي عماد التقوى والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر لما فيها من تكرر استحضار الوقوف بين يدي الله ومناجاته.
وذكرت الخشوع وهو تمام الطاعة لأن المرء قد يعمل الطاعة للخروج من عهدة التكليف غير مستحضر خشوعا لربه الذي كلفه بالأعمال الصالحة، فإذا تخلق المؤمن بالخشوع اشتدت مراقبته ربه فامتثل واجتنب. فهذان من أعمال القلب.
وذكرت الإعراض عن اللغو، واللغو من سوء الخلق المتعلق باللسان الذي يعسر إمساكه فإذا تخلق المؤمن بالإعراض عن اللغو فقد سهل عليه ما هو دون ذلك. وفي الإعراض عن اللغو خلق للسمع أيضا كما علمت.
وذكرت إعطاء الصدقات وفي ذلك مقاومة داء الشح {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

وذكرت حفظ الفرج. وفي ذلك خلق مقاومة اطراد الشهوة الغريزية بتعديلها وضبطها والترفع بها عن حضيض مشابهة البهائم فمن تخلق بذلك فقد صار كبح الشهوة ملكة له وخلقا.
وذكرت أداء الأمانة وهو مظهر للإنصاف وإعطاء ذي الحق حقه ومغالبة شهوة النفس لأمتعة الدنيا.
وذكرت الوفاء بالعهد وهو مظهر لخلق العدل في المعاملة والإنصاف من النفس بأن يبذل لأخيه ما يحب لنفسه من الوفاء.
وذكرت المحافظة على الصلوات وهو التخلق بالعناية والوقوف عند الحدود والمواقيت وذلك يجعل انتظام أمر الحياتين ملكة وخلقا راسخا.
وأنت إذا تأملت هذه الخصال وجدتها ترجع إلى حفظ ما من شأن النفوس إهماله مثل الصلاة والخشوع وترك اللغو وحفظ الفرج وحفظ العهد، وإلى بذل ما من شأن النفوس إمساكه مثل الصدقة وأداء الأمانة.
فكان في مجموع ذلك أعمال ملكتي الفعل والترك في المهمات، وهما منبع الأخلاق الفاضلة لمن تتبعها.
روى النسائي: أن عائشة قيل لها: كيف كان خلق رسول الله ? قالت: كان خلقه القرآن، وقرأت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى انتهت إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} . وقد كان خلق أهل الجاهلية على العكس من هذا، فيما عدا حفظ العهد غالبا، قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} ، وقال في شأن المؤمنين مع الكافرين: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ، وقال {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ، وقد كان البغاء والزنى فاشيين في الجاهلية.
[11,10] {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
جيء لهم باسم الإشارة بعد أن أجريت عليهم الصفات المتقدمة ليفيد أسم الإشارة

أن جدارتهم بما سيذكر بعد اسم الإشارة حصلت من اتصافهم بتلك الصفات على نحو قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} بعد قوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} إلى آخره في سورة البقرة. والمعنى: أولئك هم الأحقاء بأن يكونوا الوارثين بذلك.
وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الخبر عنهم بذلك. وحذف معمول {الوَارِثُونَ} ليحصل إبهام وإجمال فيترقب السامع بيانه فبين بقوله {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} قصدا لتفخيم هذه الوراثة. والإتيان في البيان باسم الموصول الذي شأنه أن يكون معلوما للسامع بمضمون صلته إشارة إلى أن تعريف {الوَارِثُونَ} تعريف العهد كأنه قيل: هم أصحاب هذا الوصف المعروفون به.
واستعيرت الوراثة للاستحقاق الثابت لآن الإرث أقوى الأسباب لاستحقاق المال، قال تعالى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
والفردوس: اسم من أسماء الجنة في مصطلح القرآن، أو من أسماء أشرف جهات الجنات. وأصل الفردوس: البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم حارثة بن سراقة لما أصابه سهم غرب يوم بدر فقلته وقالت أمه: إن كان في الجنة أصبر وأحتسب فقال لها: "ويحك أهبلت أو جنة واحدة هي، إنها لجنان كثيرة وإنه لفي الفردوس" .
وقد ورد في فضل هذه الآيات عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة" ثم قرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى ختم عشر آيات. قال ابن العربي في العارضة: قوله {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} هي العاشرة. رواه الترمذي وصححه.
[14,12] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}
الواو عاطفة غرضا على غرض ويسمى عطف القصة على القصة، فللجملة حكم الاستيناف لأنها عطف على جملة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} التي هي ابتدائية. وهذا شروع في الاستدلال على انفراد الله تعالى بالخلق وبعظيم القدرة التي لا يشاركه فيها غيره، وعلى أن الإنسان مربوب لله تعالى وحده، والاعتبار بما في خلق الإنسان وغيره من

دلائل القدرة ومن عظيم النعمة. فالمقصود منه إبطال الشرك لأن ذلك الأصل الأصيل في ضلال المعرضين عن الدعوة المحمدية.
ويتضمن ذلك امتنانا على الناس بأنهم أخرجهم من مهانة العدم إلى شرف الوجود وذلك كله ليظهر الفرق بين فريق المؤمنين الذين جروا في إيمانهم على ما يليق بالاعتراف بذلك وبين فريق المشركين الذين سلكوا طريقا غير بينة فحادوا عن مقتضى الشكر بالشرك.
وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق مراعى فيه التعريض بالمشركين المنزلين منزلة من ينكر هذا الخبر لعدم جريهم على موجب العلم.
والخلق: الإنشاء والصنع، قد تقدم في قوله: {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} في آل عمران. والمراد بالإنسان يجوز أن يكون النوع الإنسان ي. وفسر به ابن عباس ومجاهد، فالتعريف للجنس. وضمير {جَعَلْنَاهُ} عائد إلى الإنسان.
والسلالة: الشيء المسلول، أي المنتزع من شيء آخر، يقال: سللت السيف،إذا أخرجته من غمده. فالسلالة خلاصة من شيء، ووزن فعالة? يؤذن بالقلة مثل القلامة والصبابة.
ومن ابتدائية، أي خلقناه منفصلا وآتيا من سلالة، فتكون السلالة على هذا مجموع ماء الذكر والأنثى المسلول من دمهما.
وهذه السلالة هي ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دما؛ فدم الذكر حين يمر على غدتي التناسل الأنثيين تفرز منه الأنثيان مادة دهنية شحمية تحتفظ بها وهي التي تتحول إلى مني حين حركة الجماع، فتلك السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية التي أصلها من الأرض. ودم المرأة إذا مر على قناة الرحم ترك فيها بويضات دقيقة هي بذر الأجنة. ومن اجتماع تلك المادة الدهنية التي في الأنثيين مع البويضة من البويضات التي في قناة الرحم يتكون الجنين فلا جرم هو مخلوق من سلالة من طين.
وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السلالتين في الرحم. سميت سلالة الذكر نطفة لأنها تنطف، أي تقطر في الرحم في قناة معروفة وهو القرار المكين.
فنطفة منصوب على الحال وقوله: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} هو المفعول الثاني ل {جَعَلْنَاهُ} . و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي لأن ذلك الجعل أعظم من خلق السلالة. فضمير

{جَعَلْنَاهُ} عائد إلى الإنسان باعتبار أنه من السلالة، فالمعنى: جعلنا السلالة في قرار مكين، أي وضعناها فيه حفظا لها، ولذلك غير في الآية التعبير عن فعل الخلق إلى فعل الجعل المتعدي بفي بمعنى الوضع.
والقرار في الأصل: مصدر قر إذا ثبت في مكانه. وقد سمي به هنا المكان نفسه. والمكين: الثابت في المكان بحيث لا يقلع من مكانه، فمقتضى الظاهر أن يوصف بالمكين الشيء الحال في المكان الثابت فيه. وقد وقع هنا وصفا لنفس المكان الذي استقرت فيه النطفة، على طريقة المجاز العقلي للمبالغة، وحقيقته مكين حاله. وقد تقدم قوله تعالى: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} في سورة الكهف وقوله {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} في سورة الحج.
ويجوز أن يراد بالإنسان في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ} آدم. وقال بذلك قتادة فتكون السلالة الطينة الخاصة التي كون الله منها آدم وهي الصلصال الذي ميزه من الطين في مبدإ الخليقة، فتلك الطينة مسلولة سلا خاصا من الطين ليتكون منها حي، وعليه فضمير {جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} على هذا الوجه عائد إلى الإنسان باعتبار كونه نسلا لآدم فيكون في الضمير استخدام، ويكون معنى هذه الآية كمعنى قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} .
وحرف ثم في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} للترتيب الرتبي إذ كان خلق النطفة علقة أعجب من خلق النطفة إذ صير الماء السائل دما جامدا فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عوامل أودعها الله في الرحم.
ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن العلقة فإنه وضع بديع لهذا الاسم إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة هو كائن حي له قوة امتصاص القوة من دم الأم بسبب التصاقه بعروق في الرحم تدفع إليه قوة الدم. والعلقة: قطعة من دم عاقد.
والمضغة: القطعة الصغيرة من اللحم مقدار اللقمة التي تمضغ. وقد تقدم في أول سورة الحج كيفية تخلق الجنين.
وعطف جعل العلقة مضغة بالفاء لأن الانتقال من العلقة إلى المضغة يشبه تعقيب شيء عن شيء إذ اللحم والدم الجامد متقاربان فتطورهما قريب وإن كان مكث كل طور

مدة طويلة.
وخلق المضغة عظاما هو تكوين العظام في داخل تلك المضغة وذلك ابتداء تكوين الهيكل الإنساني من عظم ولحم، وقد دل عليه قوله: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} بفاء التفريع على الوجه الذي قرر في عطف {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ} بالفاء.
فمعنى {فَكَسَوْنَا} أن اللحم كان كالكسوة للعظام ولا يقتضي ذلك أن العظام بقيت حينا غير مكسوة، وفي الحديث الصحيح: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح" الحديث، فإذا نفخ فيه الروح فقد تهيأ للحياة والنماء وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} لأن الخلق المذكور قبله كان دون حياة ثم نشأ فيه خلق الحياة وهي حالة أخرى طرأت عليه عبر عنها بالإنشاء. وللإشارة إلى التفاوت الرتبي بين الخلقين عطف هذا الإنشاء بثم الدالة على أصل الترتيب في عطف الجمل بثم.
وهذه الأطوار التي تعرضت لها الآية سبعة أطوار فإذا تمت فقد صار المتخلق حيا. وفي شرح الموطأ: تناجى رجلان في مجلس عمر بن الخطاب وعلي حاضر فقال لهما عمر: ما هذه المناجاة ? فقال أحدهما: إن إليهود يزعمون أن العزل هو الموؤدة الصغرى، فقال علي: لا تكون موؤدة تمر عليها التارات السبع {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية، فقال عمر لعلي: صدقت أطال الله بقاءك. فقيل: إن عمر أول من دعا بكلمة أطال الله بقاءك.
وقرأ الجمهور {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ} بصيغة جمع {الْعِظَامَ} فيهما، وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصمعظما..والعظم بصيغة الإفراد.
وفرع على حكاية هذا الخلق العجيب إنشاء الثناء على الله تعالى بأنه أحسن الخالقين أي أحسن المنشئين إنشاء، لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه.
ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر كان الثناء المعقب به ثناء على بديع قدرة الخالق مشتقا من البركة وهي الزيادة.
وصيغة تفاعل صيغة مطاوعة في الأصل وأصل المطاوعة قبول أثر الفعل، وتستعمل في لازم ذلك وهو التلبس بمعنى الفعل تلبسا مكينا لأن شأن المطاوعة أن تكون بعد معالجة الفعل فتقتضي ارتساخ معنى الفعل في المفعول القابل له حتى يصير ذلك المفعول

فاعلا فيقال: كسرته فتكسر، فلذلك كان تفاعل إذا جاء بمعنى فعل دالا على المبالغة كما صرح به الرضي في شرح الشافية، ولذلك تتفق صيغ المطاوعة وصيغ التكلف غالبا في نحو: تثنى، وتكبر، وتشامخ، وتقاعس. فمعنى تبارك الله أنه موصوف بالعظمة في الخير، أي عظمة ما يقدره من خير للناس وصلاح لهم.
وبهذا الاعتبار تكون الجملة تذييلا لأن تبارك لما حذف متعلقه كان عاما فيشمل عظمة الخير في الخلق وفي غيره. وكذلك حذف متعلق الخالقين يعم خلق الإنسان وخلق غيره كالجبال والسماوات.
[16,15] {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}
إدماج في أثناء تعداد الدلائل على تفرد الله بالخلق على اختلاف أصناف المخلوقات لقصد إبطال الشرك. وثم للترتيب الرتبي لأن أهمية التذكير بالموت في هذا المقام أقوى من أهمية ذكر الخلق لأن الإخبار عن موتهم توطئة للجملة بعده وهي قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} وهو المقصود.فهو كقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وهذه الجملة لها حكم الجملة الابتدائية وهي معترضة بين التي قبلها وبين جملة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} . ولكون ثم لم تفد مهلة في الزمان هنا صرح بالمهلة في قوله بعد ذلك. والإشارة إلى الخلق المبين آنفا، أي بعد ذلك التكوين العجيب والنماء المحكم أنتم صائرون إلى الموت الذي هو تعطيل أثر ذلك الإنشاء ثم مصيره إلى الفساد والاضمحلال. وأكد هذا الخبر بإن واللام مع كونهم لا يرتابون فيه لأنهم لما أعرضوا عن التدبر فيما بعد هذه الحياة كانوا بمنزلة من ينكرون أنهم يموتون.
وتوكيد خبر {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} لأنهم ينكرون البعث. ويكون ما ذكر قبله من الخلق الأول دليلا على إمكان الخلق الثاني كما قال تعالى {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، فلم يحتج إلى تقوية التركيز بأكثر من حرف التأكيد وإن كان إنكارهم البعث قويا.
ونقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات، ونكتته هنا أن المقصود التذكير بالموت وما بعده على وجه التعريض بالتخويف وإنما يناسبه الخطاب.
[17] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}

انتقال من الاستدلال بخلق الإنسان إلى الاستدلال بخلق العوالم العلوية لأن أمرها أعجب، وإن كان الإنسان إلى نظيره أقرب، فالجملة عطف على جملة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} . وانما ذكر هذا عقب قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} للتنبيه على أن الذي خلق هذا العالم العلوي ما خلقه إلا الحكمة، وأن الحكيم لايهمل ثواب الصالحين على حسناتهم، ولا جزاء المسيئين على سيئاهم، وأن جعله تلك الطرائق فوقنا بحيث نراها ليدلنا على أن لها صلة بنا لأن عالم الجزاء كائن فيها ومخلوقاته مستقرة فيها، فالإشارة بهذا الترتيب مثل الإشارة بعكسه في قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} .
والطرائق: جمع طريقة وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث. والمراد بها هنا طرائق سير الكواكب السبعة وهي أفلاكها، أي الخطوط الفرضية التي ضبط الناس بها سموت سير الكواكب. وقد أطلق على الكواكب اسم الطارق في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} من أجل أنه ينتقل في سمت يسمى طريقة فإن الساير في طريق يقال له: طارق، ولا شك أن الطرائق تستلزم سائرات فيها، فكان المعنى: خلقنا سيارات وطرائقها.
وذكر فوقكم للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها.
ولأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها في التوقيت ولذلك عقب بجملة {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} المشعر بأن في ذلك لطفا بالخلق وتيسيرا عليهم في شؤون حياتهم، وهذا امتنان. فالواو في جملة {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} للحال، والجملة في موضع الحال. وفيه تنبيه للنظر في أن عالم الجزاء كائن بتلك العوالم قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} .
والخلق مفعول سمي بالمصدر، أي ما كنا غافلين عن حاجة مخلوقاتنا يعني البشر. ونفي الغفلة كناية عن العناية والملاحظة، فأفاد ذلك أن في خلق الطرائق السماوية لما خلقت له لطفا بالناس أيضا إذ كان نظام خلقها صالحا لانتفاع الناس به في مواقيتهم وأسفارهم في البر والبحر كما قال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . وأعظم تلك الطرائق طريقة الشمس مع ما زادت به من النفع بالإنارة وإصلاح الأرض والأجساد فصار المعنى: خلقنا فوقكم سبع طرائق لحكمة لا

تعلمونها وما أهملنا في خلقها رعي مصالحكم أيضا.
والعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} دون أن يقال: وما كنا عنكم غافلين، لما يفيده المشتق من معنى التعليل، أي ما كنا عنكم غافلين لأنكم مخلوقاتنا فنحن نعاملكم بوصف الربوبية، وفي ذلك تنبيه على وجوب الشكر والإقلاع عن الكفر.
[20,18] {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}
مناسبة عطف إنزال ماء المطر على جملة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} أن ماء المطر ينزل من صوب السماء، أي من جهة السماء.
وفي إنزال ماء المطر دلالة على سعة العلم ودقيق القدرة، وفي ذلك أيضا منة على الخلق فالكلام اعتبار وامتنان من قوله: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ} إلى آخره. ومعنى هذه الآية تقدم في سورة الأنعام وسورة الرعد وسورة النحل.
وإنزال الماء هو إسقاطه من السحب ماء وثلجا وبردا على السهول والجبال.
والقدر هنا: التقدير والتعيين للمقدار في الكم وفي النوبة، فيصح أن يحمل على صريحه، أي بمقدار معين مناسب للإنعام به لأنه إذا أنزل كذلك حصل به الري والتعاقب، وكذلك ذوبان الثلوج النازلة. ويصح أن يقصد مع ذلك الكناية عن الضبط والإتقان. وليس المراد بالقدر هنا المعنى الذي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وتؤمن بالقدر خيره وشره" .
والإسكان: جعل الشيء في مسكن، والمسكن: محل القرار، وهو مفعل اسم مكان مشتق من السكون.
وأطلق الإسكان على الإقرار في الأرض على طريق الاستعارة. وهذا الإقرار على نوعين: إقرار قصير مثل إقرار ماء المطر في القشرة الظاهرة من الأرض عقب نزول الأمطار على حسب ما تقتضيه غزارة المطر ورخاوة الأرض وشدة الحرارة أو شدة البرد. وهو ما ينبت به النبات في الحرث والبقل في الربيع وتمتص منه الأشجار بعروقها فتثمر إثمارها وتخرج به عروق الأشجار وأصولها من البزور التي في الأرض.

ونوع آخر هو إقرار طويل وهو إقرار المياه التي تنزل من المطر وعن ذوب الثلوج النازلة فتتسرب إلى دواخل الأرض فتنشأ منها العيون التي تنبع بنفسها أو تفجر بالحفر آبارا.
وجملة {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} معترضة بين الجملة وما تفرع عليها، وفي هذا تذكير بأن قدرة الله تعالى صالحة للإيجاد والإعدام.
وتنكير ذهاب للتفخيم والتعظيم، ومعنى التعظيم هنا تعدد أحوال الذهاب به من تغويره إلى أعماق الأرض بانشقاق الأرض بزلزال ونحوه، ومن تجفيفه بشدة الحرارة، ومن إمساك إنزاله زمنا طويلا.
وفي معناه قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} . وفي الكشاف: وهوأي ما في هاته الآية أبلغ في الإيعاد من قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} . فبين صاحب التقريب1 للأبلغية ثمانية عشر وجها:
الأول: أن ذلك على الفرض والتقدير وهذا على الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع.
الثاني: التوكيد بإن.
الثالث: اللام في الخبر.
الرابع: أن في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم.
الخامس: أن الغائر قد يكون باقيا بخلاف الذاهب.
السادس: ما في تنكير ذهاب من المبالغة.
السابع: إسناده ههنا إلى مذهب بخلافه ثمت حيث قيل غورا.
الثامن: ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة.
التاسع: ما في قادرون من الدلالة على القدرة عليه والفعل الواقع من القادر ابلغ.
ـــــــ
1 هو محمد السيرافي القالي من أهل أواخر القرن السامع .

العاشر: ما في جمعه.
الحادي عشر: ما في لفظ به من الدلالة على أن يمسكه فلا مرسل له.
الثاني عشر: إخلاؤه من التعقيب بإطماع وهنالك ذكر الإتيان المطمع.
الثالث عشر: تقديم ما في الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلق له أو متعلقه على المذهبين البصري والكوفي.
الرابع عشر: ما بين الجملتين الاسمية والفعلية من التفاوت ثباتا وغيره.
الخامس عشر: ما في لفظ أصبح من الدلالة على الانتقال والصيرورة.
السادس عشر: أن الإذهاب ههنا مصرح به وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام.
السابع عشر: أن هنالك نفي ماء خاص أعني المعين بخلافه ههنا.
الثامن عشر: اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكدا وزاد الألوسي في تفسيره فقال: التاسع عشر: إخباره تعالى نفسه به من دون أمر للغير ههنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك.
العشرون:عدم تخصيص مخاطب ههنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك.
الحادي والعشرون: التشبيه المستفاد من جعل الجملة حالا فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمة. الثاني والعشرون: إسناد القدرة إليه تعالى مرتين.
ونقل الألوسي عن عصريه المولى محمد الزهاوي وجوها وهي:
الثالث والعشرون: تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى لأن ذهب به يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول، وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك.
الرابع والعشرون: أنه ليس الوقت للذهاب معينا هنا بخلافه في {إِنْ أَصْبَحَ} فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي أصبح ناقصا.

الخامس والعشرون: أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل أي ما دل عليه لفظ غورا.
السادس والعشرون: أن الإيعاد هنا بما لم يبتلوا به قط بما هنالك.
السابع والعشرون: أن الموعد به هنا إن وقع فهم هالكون البتة.
الثامن والعشرون: أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفا في تأميل امتناع الموعد به وهناك حيث أسند الإصباح غورا إلى الماء، ومعلوم أن الماء لا يصبح غورا بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم أيضا احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنعة المقدم فيأمنوا وقوعه.
التاسع والعشرون: أن الموعد به هنا يحتمل في بادئ النظر وقوعه حالا بخلافه هناك فإن المستقبل متعين لوقوعه لمكان أن. وظاهر أن التهديد لمحتمل الوقوع في الحال أهول، ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون.
الثلاثون: أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فأنه يحتمل ولو علم بعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه: إن أصبح ماؤكم غورا فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى.
وأنا أقول: عني هؤلاء النحارير ببيان التفاوت بين الآيتين ولم يتعرض أحدهم للكشف عن وجه وتوفير الخصائص في هذه الآية دون الآية الأخرى مما يوازنها، وليس ذلك لخلو الآية عن نكت الإعجاز ولا عجز الناظرين عن استخراج أمثالها؛ ولكن ما يبين من الخصائص البلاغية في القرآن ليس يريد من يبينه أن ما لاح له ووفق إليه هو قصارى ما أودعه الله في نظم القرآن من الخصائص والمعاني ولكن مبلغ ماصا دف لوحه للناظر المتدبر، والعلماء متفاوتون في الكشف عنه على قدر القرائح والفهوم فقد يفاض على أحد من إدراك الخصائص البلاغية في بعض الآيات ولا يفاض عليه مثله أو على مثله في غيرها. وإنما يقصد أهل المعاني بإفاضة القول في بعض الآيات أن تكون نموذجا لاستخراج أمثال تلك الخصائص في آيات اخرى. كما فعل السكاكي في بيان خصائص قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الآية من مبحث الفصاحة والبلاغة من المفتاح، وأنه قال في منتهى كلامه ولا تظنن الآية مقصورة على ما ذكرت فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت لأن المقصود لم يكن إلا الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي

المعاني والبيان.
وقد نقول: إن آية سورة المؤمنين قصد منها الإنذار والتهديد بسلب تلك النعمة العظيمة، وأما آية سورة الملك فالقصد منها الاعتبار بقدرة الله تعالى على سلبها، فاختلاف المقامين له أثر في اختلاف المقتضيات فكانت آية سورة المؤمنين آثر بوفرة الخصائص المناسبة لمقام الإنذار والتهديد دون تعطيل لاستخراج خصائص فيها لعلنا نلم بها حين نصل إليها.
على أن سورة الملك نزلت عقب نزول سورة المؤمنين وقد يتداخل نزول بعضها مع نزول بعض سورة المؤمنين، فلما أشبعت آية سورة المؤمنين بالخصوصيات التي اقتضاها المقام اكتفي عن مثلها في نظيرتها من سورة الملك فسلك في الثانية مسلك الإيجاز لقرب العهد بنظيرها.
وإنشاء الجنات من صنع الله تعالى أول إنبات الجنات في الأرض ومن بعد ذلك أنبتت الجنات بغرس البشر وذلك أيضا من صنع الله بما أودع في العقول من معرفة الغرس والزرع والسقي وتفجير المياه واجتلابها من بعد، فكل هذا الإنشاء من الله تعالى.
والجنة: المكان ذو الشجر. وأكثر إطلاقه على ما كان فيه نخل وكرم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} الآية في سورة البقرة.
وما ذكر هنا من أصناف الشجر الثلاثة هو أكرم الشجر وأنفعه ثمرا وهو النخيل والأعناب والزيتون، وتقدم الكلام على النخيل والأعناب والزيتون في سورة النحل.
والفواكه: جمع فاكهة، وهي الطعام الذي يتفكه بأكله، أي يتلذذ بطعمه من غير قصد القوت، فإن قصد به القوت قيل له طعام. فمن الأطعمة ما هو فاكهة وطعام كالتمر والعنب لأنه يؤكل رطبا ويابسا، ومنها ما هو فاكهة وليس بطعام كاللوز والكمثرى، ومنها ما هو طعام غير فاكهة كالزيتون، ولذلك أخر ذكر شجرة الزيتون عن ذكر أخويها لأنه أريد الامتنان بما في ثمرتهما من التفكه والقوت فتكون منة بالحاجي والتحسيني.
ووصف الفواكه بكثيرة باعتبار اختلاف الأصناف كالبسر والرطب والتمر، وكالزيت والعنب والرطب، وأيضا باعتبار كثرة إثمار هذين الشجرين.
{وَشَجَرَةً} عطف على {جَنَّاتٍ} أي وأخرجنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء

وهي شجرة الزيتون، وجملة {تَخْرُجُ} صفة لشَجَرَةً. وتخصيصها بالذكر مع طي كون الناس منها يأكلون تنويه بشأنها، وإيماء إلى كثرة منافعها لأن من ثمرتها طعاما وإصلاحا ومداواة، ومن أعوادها وقود وغيره. وفي الحديث: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة" .
وطور سيناء: جبل في صحراء سيناء الواقعة بين عقبة أيله وبين مصر، وهي من بلاد فلسطين في القديم وفيه ناجى موسى ربه تعالى، وتقدم الكلام عليه في سورة الأعراف عند قوله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} . وغلب عليه اسم الطور بدون إضافة، وطور سيناء أو طور سينين. ومعنى الطور الجبل. وسيناء قيل اسم شجر يكثر هنالك. وقيل اسم حجارة. وقيل هو اسم لذلك المكان. قيل هو اسم نبطي وقيل هو اسم حبشي ولا يصح. وإنما اغتر من قاله بمشابهة هذا الاسم لوصف الحسن في اللغة الحبشية وهو كلمة سناه. ومثل هذا التشابه قد أثار أغلاطا.
وسكنت ياء سيناء سكونا ميتا وبه قرأ الجمهور. ويجوز فيها الفتح وسكون الياء سكونا حيا، وبه قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، وهو في القراءتين ممدود، وهو فيهما ممنوع من الصرف فقيل للعلمية والعجمة على قراءة الكسر لأن وزن فعلاء إذا كان عينه أصلا لاتكون ألفه للتأنيث بل للالحاق وألف الإلحاق لاتمنع الصرف، وعلى قراءة الفتح فمنعه لأجل ألف التأنيث لأن وزن فعلاء من أوزان ألف التأنيث.
وقوله: {تخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} يقتضي أن لها مزيد اختصاص بطور سيناء. وقد غمض وجه ذاك. والذي أراه أن الخروج مستعمل في معنى النشأة والتخلق كقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} وقوله: {يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} . وذلك أن حقيقة الخروج هو البروز من المكان ولما كان كل مخلوق يبرز بعد العدم وكان المكان لازما لكل حادث شبه ظهور الشيء بعد أن كان معدوما بخروج الشيء من المكان الذي كان محجوبا فيه. وهي استعارة شائعة في القرآن.
فيظهر أن المعنى أن الله خلق أول شجر الزيتون في طور سيناء، وذلك أن الأجناس والأنواع الموجودة على الكرة الأرضية لابد لها من مواطن كان فيها ابتداء وجودها قبل وجودها في غيرها لأن بعض الأمكنة تكون أسعد لنشأة بعض الموجودات من بعض آخر لمناسبة بين طبيعة المكان وطبيعة الشيء الموجود فيه من حرارة أو برودة أو اعتدال،

وكذلك فصول السنة كالربيع لبعض الحيوان والشتاء لبعض آخر والصيف لبعض غيرها فالله تعالى يوجد الموجودات في الأحوال المناسبة لها فالحيوان والنبات كله جار على هذا القانون.
ثم إن البشر إذا نقلوا حيوانا أو نباتا من أرض إلى أرض أو أرادوا الانتفاع به في فصل غير فصله ورأوا عدم صلاحية المكان أو الزمان المنقول إليهما يحتالون له بما يكمل نقصه من تدفئة في شدة برد أو تبريد بسبح في الماء في شدة الحر حتى لا يتعطل تناسل ذلك المنقول إلى غير مكانه، فكما أن بعض الحيوان أو النبات لا يعيش طويلا في بعض المناطق الملائمة لطباعه كالغزال في بلاد الثلوج فكذلك قد يكون بعض الأماكن من المنطقة الملائمة للحيوان أو النبات أصلح به من بعض جهات تلك المنطقة، فلعل جو طور سيناء لتوسطه بين المناطق المتطرفة حرا وبردا ولتوسط ارتفاعه بين النجود والسهول يكون أسعد بطبع فصيلة الزيتون كما قال تعالى: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} ، فالله تعالى هيأ لتكوينها حين أراد تكوينها ذلك المكان كما هيأ لتكوين آدم طينة خاصة فقال: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} . ثم يكون الزيتون قد نقل من أول مكان ظهر فيه إلى أمكنة أخرى نقله إليها ساكنوها للانتفاع به فنجح في بعضها ولم ينجح في بعض.
وقد ثبت في التوراة أن شجرة الزيتون كانت موجودة قبل الطوفان وبعده. ففي الإصحاح الثامن من سفر التكوين: أن نوح أرسل حمامة تبحث عن مكان غيضت عنه مياه الطوفان فرجعت الحمامة عند المساء تحمل في منقارها ورقة زيتون خضراء فعلم نوح أن الماء أخذ يغيض عن الأرض. ومعلوم أن ابتداء غيض الماء إنما ينكشف عن أعالي الجبال أول الأمر فلعل ورقة الزيتون التي حملتها الحمامة كانت من شجرة في طور سيناء.
وأياما كان فقد عرف نوح ورقة الزيتون فدل على أنهم كانوا يعرفون هذه الشجرة قبل الطوفان. ولكن لم يرد ذكر استعمال زيت الزيتون في طعام في التاريخ القديم إلا في عهد موسى عليه السلام أيام كان بنو إسرائيل حول طور سيناء؛ فقد استعمل الزيت لإنارة خيمة الاجتماع بوحي الله لموسى1، وسكب موسى دهن المسحة على رأس هارون أخيه حين أقامه كاهنا لبني إسرائيل2.
ـــــــ
1 الإصحاح /25/ من سفر الخروج.
2 الإصحاح /9/ من سفر الخروج.

ويجوز أن يكون معنى {تخْرُجُ} تظهر وتعرف، فيكون أول اهتداء الناس إلى منافع هذه الشجرة وانتقالهم إياها كان من الزيتون الذي بطور سيناء. وهذا كما نسمي الديك الرومي في بلدنا بالديك الهندي لأن الناس عرفوه من بلاد الهند، وكما تسمى بعض السيوف في بلاد العرب بالمشرفية لأنها عرفت من مشارف الشام، وبعض الرماح الخطية لأنها ترد إلى بلاد العرب من مرفأ يقال له: الخط، وبعض السيوف بالمهند لأنه يجلب من الهند، وقد كان الزيت يجلب إلى بلاد العرب من الشام ومن فلسطين.
وأياما كان فليس القصد من ذكر أنها تخرج من طور سيناء إلا التنبيه على أنه منبتها الأصلي وإلا فإن الامتنان بها لم يكن موجها يومئذ لسكان طور سيناء. وما كان هذا التنبيه إلا للتنويه بشرف منبتها وكرم الموطن الذي ظهرت فيه، ولم تزل شجرة الزيتون مشهورة بالبركة بين الناس. ورأيت في لسان العرب عن الأصمعي عن عبد الملك بن صالح: أن كل زيتونة بفلسطين من غرس أمم يقال لهم اليونانيون 1 ه. والظاهر أنه يعني به زيتون زمانهم الذي أخلفوا به أشجارا قديمة بادت.
وفي أساطير اليونان ميثولوجيا أن منيرفا ونبتون الربين في اعتقاد اليونان تنازعا في تعيين أحدهما ليضع اسما لمدينة بناها ككرابيسفحكمت الأرباب بينهما بأن هذا الشرف لا يناله إلا من يصنع أنفع الأشياء. فأما نبتون فأوجد فرسا بحريا عظيم القوة، وأما مينيرفا فصنعت شجرة الزيتون بثمرتها، فحكم الأرباب لها بأنها أحق، فلذلك وضعوا للمدينة اسم اثينا الذي هو اسم منيرفا. وزعموا أن هيركول لما رجع من بعض غزواته جاء معه بأغصان من الزيتون فغرسها في جبل أولمبوس وهو مسكن آلهتهم في زعمهم.
فقد كان زيت الزيتون مستعملا عند اليونان من عهد هوميروس إذ ذكر في الإلياذة أن أخيل سكب زيتا على شلو فطر قليوس وشلو هكتور.
وكان الزيت نادرا في معظم بلاد العرب إذ كان يجلب إلى بلاد العرب من الشام.
وقد ضرب الله بزيت الزيتونة مثلا لنوره في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} .
والتعبير بالمضارع في قوله: {تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} لاستحضار الصورة العجيبة المهمة التي كونت بها تلك الشجرة في أول تكوينها حتى كأن السامع يبصرها خارجة

بالنبات في طور سيناء. وذلك كقوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} . وهذا أنسب بالوجه الأول في تفسير معنى {تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} .
ومعنى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أنها تنبت ملابسة للدهن فالباء للملابسة.
وهذه الآية مثال لباء الملابسة. والملابسة معنى واسع. فملابسة نبات شجرة الزيتون للدهن والصبغ ملابسة بواسطة ملابسة ثمرتها للدهن والصبغ؛ فإن ثمرتها تشتمل على الزيت وهو يكون دهنا وصبغا للآكلين. فأما كونه دهنا فهو أنه يدهن به الناس أجسادهم ويرجلون به شعورهم ويجعلون فيه عطورا فيرجلون به الشعور، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدهن بالزيت في رأسه.
والدهن بضم الدال: اسم لما يدهن به، أي يطلى به شيء، ويطلق الدهن على الزيت باعتبار أنه يطلى به الجسد للتداوي والشعر للترجيل.
والصبغ، بكسر الصاد: ما يصبغ به أي يغير به اللون. ثم توسع في إطلاقه على كل مائع يطلى به ظاهر جسم ما، ومنه قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} وسمي الزيت صبغا لأنه يصبغ به الخبز. وعطف صبغ على الدهن باعتبار المغايرة في ما تدل عليه مادة اشتقاق الوصف فإن الصبغ ما يصبغ به والدهن ما يدهن والصبغ أخص؛ فهو من باب عطف الخاص على العام للاهتمام، وكانوا يأدمون به الطعام وذلك صبغ للطعام. أخرج الترمذي في سننه عن عمر بن الخطاب وعن أبي أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة" .
وقرأ الجمهور تنبت بفتح التاء وضم الموحدة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس ويعقوب بضم التاء وكسر الموحدة على لغة من يقول: أنبت بمعنى نبت، أو على حذف المفعول، أي تنبت هي ثمرها، أي تخرجه.
[22,21] {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} .
هذا العطف مثل عطف جملة {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ} ففيه كذلك استدلال ومنة.
والعبرة: الدليل لأنه يعبر من معرفته إلى معرفة أخرى. والمعنى: إن في الأنعام

دليلا على انفراد الله تعالى بالخلق وتمام القدرة وسعة العلم. والأنعام تقدم أنها الإبل في غالب عرف العرب.
وجملة {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} بيان لجملة {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} فلذلك لم تعطف لأنها في موقع المعطوف عطف البيان.
والعبرة حاصلة من تكوين ما في بطونها من الألبان الدال عليه {نُسْقِيكُمْ} . وأما {نُسْقِيكُمْ} بمجرده فهو منة. وقد تقدم نظير هذه الآية مفصلا في سورة النحل.
وجملة {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} وما بعدها معطوفة على جملة {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} فإن فيه بقية بيان العبرة وكذلك الجمل بعده. وهذه المنافع هي الأصواف والأوبار والأشعار والنتاج.
وأما الأكل منها فهو عبرة أيضا إذ أعدها الله صالحة لتغذية البشر بلحومها لذيذة الطعم، وألهم إلى طريقة شيها وصلقها وطبخها، وفي ذلك منة عظيمة ظاهرة.
وكذلك القول في معنى {وَعَلَيْهَا... تُحْمَلُونَ} فإن في ذلك عبرة بإعداد الله تعالى إياها لذلك وفي ذلك منة ظاهرة. والحمل صادق بالركوب وبحمل الأثقال.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح النون، وقرأه الباقون عدا أبا جعفر بضم النون يقال: سقاه وأسقاه بمعنى، وقرأه أبو جعفر بتاء التأنيث مفتوحة على أن الضمير للأنعام.
وعطف {وَعَلَى الْفُلْكِ} إدماج وتهيئة للتخلص إلى قصة نوح.
[25,23] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} .
لما كان الاستدلال والامتنان اللذان تقدما موجهين إلى المشركين الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واعتلوا لذلك بأنهم لا يؤمنون برسالة بشر مثلهم وسألوا إنزال ملائكة ووسموا الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنون، فلما شابهوا بذلك قوم نوح ومن جاء بعدهم ناسب

أن يضرب لهم بقوم نوح مثل تحذيرا مما أصاب قوم نوح من العذاب. وقد جرى في أثناء الاستدلال والامتنان ذكر الحمل في الفلك فكان ذلك مناسبة للانتقال فحصل بذلك حسن التخلص، فيعتبر ذلك قصص الرسل إما استطرادا في خلال الاستدلال على الوحدانية، وإما انتقالا كما سيأتي عند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} .
وتصدير الجملة بلام القسم تأكيد للمضمون التهديدي من القصة، فالمعنى تأكيد الإرسال إلى نوح وما عقب به ذلك.
وعطف مقالة نوح على جملة إرساله بفاء التعقيب لإفادة أدائه رسالة ربه بالفور من أمره وهو شأن الامتثال.
وأمره قومه بأن يعبدوا الله يقتضي أنهم كانوا معرضين عن عبادة الله بأن أقبلوا على عبادة أصنامهم ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر حتى أهملوا عبادة الله ونسوها. وكذلك حكيت دعوة نوح قومه في أكثر الآيات بصيغة أمر بأصل عبادة الله دون الأمر بقصر عبادتهم على الله مع الدلالة على أنهم ما كانوا ينكرون وجود الله ولذلك عقب كلامه بقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
ويدل على هذا قولهم {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} فهم مثبتون لوجود الله. فجملة {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} في موقع التعليل للأمر بعبادته وهو تعليل أخص من المعلل، وهو أوقع لما فيه من الإيجاز لاقتضائه معنى: اعبدوا الله وحده. فالمعنى: اعبدوا الله الذي تركتم عبادته وهو إلهكم دون غيره فلا يستحق غيره العبادة فلا تعبدوا أصنامكم معه.
و {غَيْرُهُ} نعت ل {إِلَهٍ} قرأه الجمهور بالرفع على اعتبار محل المنعوت ب غير لأن المنعوت مجرور بحرف جر زائد. وقرأه الكسائي بالجر على اعتبار اللفظ المجرور بالحرف الزائد.
وفرع على الأمر بإفراده بالعبادة استفهام إنكار على عدم اتقائهم عذاب الله تعالى. وقد خولفت في حكاية جواب الملإ من قومه الطريقة المألوفة في القرآن في حكاية المحاورات وهي ترك العطف التي جرى عليها قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة. فعطف هنا جواب الملإ من قومه بالفاء لوجهين:

أحدهما: أنهم لم يوجهوا الكلام إليه بل تركوه وأقبلوا على قومهم يفندون لهم ما دعاهم إليه نوح.
والثاني: ليفاد أنهم أسرعوا لتكذيبه وتزييف دعوته قبل النظر. ووصف الملإ بأنهم الذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو الذي أنطقهم بهذا الرد على نوح، وهو تعريض بأن مثل ذلك الرد لا نهوض له ولكنهم روجوا به كفرهم خشية على زوال سيادتهم.
وقوله: {مِن قَومِهِ} صفة ثانية.
وقول الملأ من قومه {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} خاطب به بعضهم بعضا إذ الملأ هم القوم ذوو السيادة والشارة، أي فقال عظماء القوم لعامتهم.
وإخبارهم بأنه بشر مثلهم مستعمل كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة بدليل من ذاته، أوهموهم أن المساواة في البشرية مانعة من الوساطة بين الله وبين خلقه، وهذا من الأوهام التي أضلت أمما كثيرة. واسم الإشارة منصرف إلى نوح وهو يقتضي أن كلام الملإ وقع بحضرة نوح في وقت دعوته، فعدلوا من اسمه العلم إلى الإشارة لأن مقصودهم تصغير أمره وتحقيره لدى عامتهم كيلا يتقبلوا قوله. وقد تقدم نظير هذا في سورة هود.
وزادت هذه القصة بحكاية قولهم: {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} فإن سادة القوم ظنوا أنه ما جاء بتلك الدعوة إلا حبا في أن يسود على قومهم فخشوا أن تزول سيادتهم وهم بجهلهم لا يتدبرون أحوال النفوس ولا ينظرون مصالح الناس ولكنهم يقيسون غيرهم على مقياس أنفسهم.
فلما كانت مطامح أنفسهم حب الرئاسة والتوسل إليها بالانتصاب لخدمة الأصنام توهموا أن الذي جاء بإبطال عبادة الأصنام إنما أراد منازعتهم سلطانهم.
والتفضل: تكلف الفضل وطلبه، والفضل أصله الزيادة ثم شاع في زيادة الشرف والرفعة، أي أن يكون أفضل الناس لأنه نسبهم كلهم إلى الضلال.
وقولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} عطف على جملة {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} بعد أن مهدوا له بأن البشرية مانعة من أن يكون صاحبها رسولا لله, وحذف مفعول فعل المشيئة لظهوره من جواب لو، أي لو شاء الله إرسال رسول لأنزل ملائكة رسلا. وحذف مفعول المشيئة جائز إذا دلت عليه القرينة، وذلك من الإيجاز. ولا يختص بالمفعول الغريب مثلما قال صاحب المفتاح: ألا ترى قول المعري:

وإن شئت فازعم أن من فوق ظهرها ... عبيدك واستشهد إلهك يشهد.
وهل أغرب من هذا الزعم لو كانت الغرابة مقتضية ذكر مفعول المشيئة. فلما دل عليه مفعول جواب الشرط حسن حذفه من فعل الشرط.
وجملة {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} مستأنفة قصدوا بها تكذيب الدعوة بعد تكذيب الداعي، فلذلك جيء بها مستأنفة غير معطوفة تنبيها على أنها مقصودة بذاتها وليست تكملة لما قبلها، بخلاف أسلوب عطف جملة {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} إذ كان مضمونها من تمام غرض ما قبلها.
فالإشارة بهذا إلى الكلام الذي قاله نوح، إي ما سمعنا بأن ليس لنا إله غير الله في مدة أجدادنا، فالمقصود بالإشارة معنى الكلام لا نفسه، وهو استعمال شائع. ولما كان حرف الظرفية يقتضي زمنا تعين أن يكون مدخوله على تقدير مضاف، أي في مدة آبائنا لأن الآباء لا يصلح للظرفية. والآباء الأولون هم الأجداد.
ولما كان السماع المنفي ليس سماعا بآذانهم لكلام في زمن آبائهم بل المراد ما بلغ إلينا وقوع مثل هذا في زمن آبائنا، عدي فعل {سَمِعْنَا} بالباء لتضمينه معنى الاتصال. جعلوا انتفاء علمهم بالشيء حجة على بطلان ذلك الشيء، وهو مجادلة سفسطائية إذ قد يكون انتفاء العلم عن تقصير في اكتساب المعلومات، وقد يكون لعدم وجود سبب يقتضي حدوث مثله بأن كان الناس على حق فلم يكن داع إلى مخاطبتهم بمثل ذلك، وقد كان الناس من زمن آدم على الفطرة حتى حدث الشرك في الناس فأرسل الله نوحا فهو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض كما ورد في حديث الشفاعة.
وجملة {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} استئناف بياني لأن جميع ما قالوه يثير في نفوس السامعين أن يتساءلوا إذا كان هذا حال دعوته في البطلان والزيف فماذا دعاه إلى القول بها? فيجاب بأنه أصابه خلل في عقله فطلب ما لم يكن ليناله مثله على الناس كلهم بنسبتهم إلى الضلال فقد طمع فيما لا يطمع عاقل في مثله فدل طمعه في ذلك على أنه مجنون.
والتنوين في {جِنَّةٌ} للنوعية، أي هو متلبس بشيء من الجنون، وهذا اقتصاد منهم في حاله حيث احترزوا من أن يورطوا أنفسهم في وصفه بالخبال مع أن المشاهد من حاله ينافي ذلك فأوهموا قومهم أن به جنونا خفيفا لا تبدوا آثاره واضحة.

وقصروه على صفة المجنون وهو قصر إضافي، أي ليس برسول من الله.
وفرعوا على ذلك الحكم أمرا لقومهم بانتظار ما ينكشف عنه أمره بعد زمان: إما شفاء من الجنة فيرجع إلى الرشد، أو ازدياد الجنون به فيتضح أمره فتعلموا أن لا اعتداد بكلامه.
والحين: اسم للزمان غير المحدود.
والتربص: التوقف عن عمل يراد عمله والتريث فيه انتظارا لما قد يغني عن العمل أو انتظارا لفرصة تمكن من إيقاعه على أتقن كيفية لنجاحه، وهو فعل قاصر يتعدى إلى المفعول بالباء التي هي للتعدية ومعناها السببية، أي كان تربص المتربص بسبب مدخول الباء. والمراد: بسبب ما يطرأ عليه من أحوال، فهو على نية مضاف حذف لكثرة الاستعمال. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} في سورة براءة فانظره مع ما هنا.
[27,26] {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} .
استئناف بياني لأن ما حكي عن صدهم الناس عن تصديق دعوة نوح وما لفقوه من البهتان في نسبته إلى الجنون، مما يثير سؤال من يسأل عماذا صنع نوح حين كذبه قومه فيجاب بأنه قال: {رَبِّ انْصُرْنِي} الخ.
ودعاؤه بطلب النصر يقتضي أنه عد فعلهم معه اعتداء عليه بوصفه رسولا من عند ربه.
والنصر: تغليب المعتدى عليه على المعتدي، فقد سأل نوح نصرا مجملا كما حكي هنا، وأعلمه الله أنه لا رجاء في إيمان قومه إلا من آمن منهم كما جاء في سورة هود، فلا رجاء في أن يكون نصره برجوعهم إلى طاعته وتصديقه وإتباع ملته، فسأل نوح حين ذاك نصرا خاصا وهو استئصال الذين لم يؤمنوا كما جاء في سورة نوح {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} . فالتعقيب الذي في قوله تعالى: هنا {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} تعقيب بتقدير جمل محذوفة كما علمت، وهو

إيجاز في حكاية القصة كما في قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} الخ في سورة الشعراء.
والباء في {بِمَا كَذَّبُونِ} سببية في موضع الحال من النصر المأخوذ من فعل الدعاء، أي نصرا كائنا بسبب تكذيبهم، فجعل حظ نفسه فيما اعتدوا عليه ملغى واهتم حظ الرسالة عن الله لأن الاعتداء على الرسول استخفاف بمن أرسله.
وجملة {أَنِ اصْنَعِ} جملة مفسرة لجملة {أوْحَيْنَا} لأن فعل {أوْحَيْنَا} فيه معنى القول دون حروفه، وتقدم نظير جملة {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} في سورة هود.
وفرع على الأمر بصنع الفلك تفصيل ما يفعله عند الحاجة إلى استعمال الفلك فوقت له استعماله بوقت الاضطرار إلى إنجاء المؤمنين والحيوان.
وتقدم الكلام على معنى {فَارَ التّّنورُ} ومعنى {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} في سورة هود.
والزوج: اسم لكل شيء له شيء آخر متصل به بحيث يجعله شفعا في حالة ما. وتقدم في سورة هود.
وإنما عبر هنالك بقوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} وهنا بقوله: {فَاسْلُكْ فِيهَا} لأن آية سورة هود حكت ما خاطبه الله به عند حدوث الطوفان وذلك وقت ضيق فأمر أن يحمل في السفينة من أراد الله إبقاءهم، فأسند الحمل إلى نوح تمثيلا للإسراع بإركاب ما عين له في السفينة حتى كأن حاله في إدخاله إياهم حال من يحمل شيئا ليضعه في موضع، وآية هذه السورة حكت ما خاطبه الله به من قبل حدوث الطوفان إنباء بما يفعله عند حدوث الطوفان فأمره بأنه حينئذ يدخل في السفينة من عين الله إدخالهم، مع ما في ذلك من التفنن في حكاية القصة.
ومعنى {اسْلُكْ} أدخل، وفعل سلك يكون قاصرا بمعنى دخل ومتعديا بمعنى أدخل ومنه قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} . وقول الأعشى:.
كما سلك السكي في الباب فيتق

وتقدم الكلام على مثل قوله: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} في سورة هود.
وقرأ الجمهور {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} بإضافة {كُلٍّ} إلى {زَوْجَيْنِ} . وقرأه حفص بالتنوين كل على أن يكون {زَوْجَيْنِ} مفعول {فَاسْلُكْ} ، وتنوين كل تنوين عوض يشعر بمحذوف أضيف إليه كل. وتقديره: من كل ما أمرتك أن تحمله في السفينة.
[29,28] {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} .
الاستواء: الاعتلاء. وتقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سورة الأعراف.
وإطلاق الاستواء على الاستقرار في داخل السفينة مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق وإلا فحقيقة الاستقرار في الفلك أنه دخول. وأتي بحرف الاستعلاء دون حرف الظرفية لأنه الذي يتعدى به معنى الاعتلاء إيذانا بالتمكن من الفلك فهو ترشيح للمجاز.
والتنجية من القوم الظالمين: الإنجاء من أذاهم والكون فيهم لأن في الكون بيهنم مشاهدة كفرهم ومناكرهم وذلك مما يؤذي المؤمن.
والظلم يجوز أن يراد به الشرك كما قال تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، ويجاوز أن يراد به الاعتداء على الحق لأن الكافرين كانوا يؤذون نوحا والمؤمنين بشتى الأذى باطلا وعدوانا وإنما كان ذلك إنجاء لأنهم قد استقلوا بجماعتهم فسلموا من الاختلاط بأعدائهم.
وقد ألهمه الله بالوحي أن يحمد ربه على ما سهل له من سبيل النجاة وأن يسأله نزولا في منزل مبارك عقب ذلك الترحل، والدعاء لذلك يتضمن سؤال سلامة من غرق السفينة. وهذا كالمحامد التي يعلمها الله محمدا صلى الله عليه وسلم يوم الشفاعة، فيكون في ذلك التعليم إشارة إلى أنه سيتقبل ذلك منه.
وجملة {وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} في موضع الحال. وفيها معنى تعليل سؤاله ذلك.
وقرأ الجمهور {مُنْزَلاً} بضم الميم وفتح الزاي وهو اسم مفعول من أنزله على حذف المجرور، أي منزلا فيه. ويجوز أن يكون مصدرا، أي إنزالا مباركا. والمعنيان

متلازمان. وقرأه أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وكسر الزاي، وهو اسم لمكان النزول.
[30] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} .
لما ذكر هذه القصة العظيمة أعقبها بالتنبيه إلى موضع العبرة منها للمسلمين فأتى بهذا الاستئناف لذلك.
والإشارة إلى ما ذكر من قصة نوح مع قومه وما فيها. والآيات: الدلالات، أي لآيات كثيرة منها ما هي دلائل على صدق رسالة نوح وهي إجابة دعوته وتصديق رسالته وإهلاك مكذبيه، ومنها آيات لأمثال قوم نوح من الأمم المكذبين لرسلهم، ومنها آيات على عظيم قدرة الله تعالى في إحداث الطوفان وإنزال من في السفينة منزلا مباركا، ومنها آيات على علم الله تعالى وحكمته إذ قدر لتطهير الأرض من الشرك مثل هذا الاستيصال العام لأهله، وإذ قدر لإبقاء الأنواع مثل هذا الصنع الذي أنجى به من كل نوع زوجين ليعاد التناسل.
وعطف على جملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات} جملة {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} لأن مضمون {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} يفيد معنى: إن في ذلك لبلوى، فكأنه قيل: إن في ذلك لآيات وابتلاء وكنا مبتلين، أي وشأننا ابتلاء أوليائنا. فإن الابتلاء من آثار الحكمة الإلهية لترتاض به نفوس أوليائه وتظهر مغالبتها للدواعي الشيطانية فتحمل عواقب البلوى، ولتتخبط نفوس المعاندين وينزوي بعض شرها زمانا.
والمعنى: أن ماتقدم قبل الطوفان من بعد بعثة نوح من تكذيب قومه وآذاهم إياه والمؤمنين معه إنما كان ابتلاء من الله لحكمته تعالى ليميز الله للناس الخبيث من الطيب ولو شاء الله لآمن بنوح قومه ثم لو شاء الله لنصره عليهم من أول يوم وهذه سنة إلهية.وفي هذا المعنى ما جاء في حديث أبي سفيان أن هرقل قال له وكذلك الأنبياء تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وفي القرآن: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
والابتلاء تقدم في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} وقوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} في سورة البقرة.
وفي قوله: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} تسلية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من المشركين، وتعريض بتهديد المشركين بأن ما يواجهون به الرسول صلى الله عليه وسلم لا بقاء له وإنما هو بلوى تزول عنه وتحل بهم ولكل حظ يناسبه.

ولكون هذا مما قد يغيب عن الألباب نزل منزلة الشيء المتردد فيه فأكد بإن المخففة وبفعل كنا.
واللام هي الفارقة بين إن المؤكدة المخففة عند إهمال عملها وبين إن النافية.
[32,31] {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} .
تعقيب قصة نوح وقومه بقصة رسول آخر، أي أخرى، وما بعدها من القصص يراد منه أن ما أصاب قوم نوح على تكذيبهم له لم يكن صدفة ولكنه سنة الله في المكذبين لرسله ولذلك لم يعين القرن ولا القرون بأسمائهم.
والقرن: الأمة. والأظهر أن المراد به هنا ثمود لأنه الذي يناسبه قوله في آخر القصة {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} ، لأن ثمود أهلكوا بالصاعقة ولقوله: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} مع قوله في سورة الحجر {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} فكان هلاكهم في الصباح. ولعل تخصيصهم بالذكر هنا دون عاد خلافا لما تكرر في غير هذه الآية لأن العبرة بحالهم أظهر لبقاء آثار ديارهم بالحجر كما قال تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وقوله: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً} أي جعل الرسول بينهم وهو منهم، أي من قبيلتهم. وضمير الجمع عائد إلى قرنا لأنه في تأويل الناس كقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} .
وعدي فعل أرسلنا بفي دون إلى لإفادة أن الرسول كان منهم ونشأ فيهم لأن القرن لما لم يعين باسم حتى يعرف أن رسولهم منهم أو واردا إليهم مثل لوط لأهل سدوم، ويونس لأهل نينوى، وموسى للقبط. وكان التنبيه على أن رسولهم منه مقصودا إتماما للمماثلة بين حالهم وحال الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم. وكلام رسولهم مثل كلام نوح.
وأن تفسير لما تضمنه {أَرْسَلْنَا} من معنى القول.
[38,33] {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ

الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} .
عطفت حكاية قول قومه على حكاية قوله ولم يؤت بها مفصولة كما هو شأن حكاية المحاورات كما بيناه غير مرة في حكاية المحاورات بقال ونحوها دون عطف. وقد خولف ذلك في الآية السابقة للوجه الذي بيناه، وخولف أيضا في سورة الأعراف وفي سورة هود إذ حكي جواب هؤلاء القوم رسولهم بدون عطف.
ووجه ذلك أن كلام الملأ المحكي هنا غير كلامهم المحكي في السورتين لأن ما هنا كلامهم الموجه إلى خطاب قومهم إذ قالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} إلى آخره خشية منهم أن تؤثر دعوة رسولهم في عامتهم، فرأوا الاعتناء لأن يحولوا دون تأثر نفوس قومهم بدعوة رسولهم أولى من أن يجاوبوا رسولهم كما تقدم بيانه آنفا في قصة نوح.
وبهذا يظهر وجه الإعجاز في المواضيع المختلفة التي أورد فيها صاحب الكشاف سؤالا ولم يكن في جوابه شافيا وتحير شراحه فكانوا على خلاف.
وإنما لم يعطف قول الملأ بفاء التعقيب كما ورد في قصة نوح آنفا لأن قولهم هذا كان متأخرا عن وقت مقالة رسولهم التي هي فاتحة دعوته بأن يكونوا أجابوا كلامه بالرد والزجر فلما استمر على دعوتهم وكررها فيهم وجهوا مقالتهم المحكية هنا إلى قومهم ومن أجل هذا عطف جملة جوابهم ولم تأت على أسلوب الاستعمال في حكاية أقوال المحاورات.
وأيضا لأن كلام رسولهم لم يحك بصيغة قول بل حكي بأن التفسيرية لما تضمنه معنى الإرسال في قوله: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} .
وقد حكى الله في آيات أخرى عن قوم هود وعن قوم صالح أنهم أجابوا دعوة رسولهم بالرد والزجر كقول قوم هود {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} ، وقول قوم صالح {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ

آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} .
وقوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} {الَّذِينَ كَفَرُوا} نعت ثان ل {الْمَلَأُ} فيكون على وزان قوله في قصة نوح: { فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} . وإنما أخر النعت هنا ليتصل به الصفتان المعطوفتان من قوله: {وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ} .
واللقاء: حضور أحد عند آخر. والمراد لقاء الله تعالى للحساب كقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في سورة البقرة وعند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} في سورة الأنفال.
وإضافة لقاء إلى الآخرة على معنى في أي اللقاء في الآخرة.
والإتراف: جعلهم أصحاب ترف. والترف: النعمة الواسعة. وقد تقدم عند قوله: {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} في سورة الأنبياء.
وفي هذين الوصفين إيماء إلى أنهما الباعث على تكذيبهم رسولهم لأن تكذيبهم بلقاء الآخرة ينفي عنهم توقع المؤاخذة بعد الموت، وثروتهم ونعمتهم تغريهم بالكبر والصلف إذ ألفوا أن يكونوا سادة لا تبعا، قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} ، ولذلك لم يتقبلوا ما دعاهم إليه رسولهم من اتقاء عذاب يوم البعث وطلبهم النجاة باتباعهم ما يأمرهم به فقال بعضهم لبعض {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} .
و{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة لتوهمهم أن البشرية تنافي أن يكون صاحبها رسولا من الله فأتوا بالملزوم وأرادوا لازمه.
وجملة {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} في موقع التعليل والدليل للبشرية لأنه يأكل مثلهم ويشرب مثلهم ولا يمتاز فيما يأكله وما يشربه.
وحذف متعلق {تَشْرَبُونَ} وهو عائد الصلة للاستغناء عنه بنظيره الذي في الصلة المذكورة قبلها.
واللام في {وَلََئِنْ أَطَعْتُمْ} موطئة للقسم، فجملة {إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} جواب القسم، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم. وأقحم حرف الجزاء في جواب

القسم لما في جواب القسم من مشابهة الجزاء لاسيما متى اقترن القسم بحرف شرط.
والاستفهام في قوله: {أَيَعِدُكُمْ} للتعجب، وهو انتقال من تكذيبه في دعوى الرسالة إلى تكذيبه في المرسل به.
وقوله: {أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} إلى آخره مفعول {يَعِدُكُمُ} أي يعدكم إخراج مخرج إياكم. والمعنى: يعدكم إخراجكم من القبور بعد موتكم وفناء أجسامكم.
وأما قوله: {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} فيجوز أن يكون إعادة لكلمة أنكم الأولى اقتضى إعادتها بعد ما بينها وبين خبرها. وتفيد إعادتها تأكيدا للمستفهم عنه استفهام استبعاد تأكيدا لاستبعاده. وهذا تأويل الجرمي والمبرد.
ويجوز أن يكون {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} مبتدأ. ويكون قوله: {إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً} خبرا عنه مقدما عليه وتكون جملة {إِذَا مِتُّمْ} إلى قوله: {مُخْرَجُونَ} خبرا عن أن من قوله {أَنَّكُمْ} الأولى.
وجعلوا موجب الاستبعاد هو حصول أحوال تنافي أنهم مبعوثون بحسب قصور عقولهم، وهي حال الموت المنافي للحياة، وحال الكون ترابا وعظاما المنافي لإقامة الهيكل الإنسان ي بعد ذلك.
وأريد بالإخراج إخراجهم أحياء بهيكل إنساني كامل أي مخرجون للقيامة بقرينة السياق.
وجملة {هَيْهَاتَ} بيان لجملة {يَعِدُكُمُ} فلذلك فصلت ولم تعطف.
و {هَيْهَاتَ} كلمة مبنية على فتح الآخر وعلى كسره أيضا. وقرأها الجمهور بالفتح، وقرأها أبو جعفر بالكسر. وتدل على البعد. وأكثر ما تستعمل مكررة مرتين كما في هذه الآية أو ثلاثا كما جاء في شعر لحميد الأرقط وجرير يأتيان.
واختلف فيها أهي فعل أم اسم؛ فجمهور النحاة ذهبوا إلى أن هيهات اسم فعل للماضي من البعد، فمعنى هيهات كذا: بعد. فيكون ما يلي هيهات فاعلا. وقيل هي اسم للبعد، أي فهي مصدر جامد وهو الذي اختاره الزجاج في تفسيره. قال الراغب: قالب البعض: غلط الزجاج في تفسيره واستهواه اللام في قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} .

وقيل: هيهات ظرف غير متصرف، وهو قول المبرد. ونسبه في لسان العرب إلى أبي علي الفارسي. قال: قال ابن جني: كان أبو علي يقول في هيهات: أنا أفتى مرة بكونها اسما سمي به الفعل مثل صه ومه، وأفتى مرة بكونها ظرفا على قدر ما يحضرني في الحال.
وفيها لغات كثيرة وأفصحها أنها بهاءين وتاء مفتوحة فتحة بناء، وأن تاءها تثبت في الوقف وقيل بوقف عليها هاء، وأنها لا تنون تنوين تنكير.
وقد ورد ما بعد هيهات مجرورا باللام كما في هذه الآية، وورود مرفوعا كما في قول جرير:
فهيهات هيهات العقيق وأهله ... وهيهات خل بالعقيق نحاوله
وورد مجرورا بمن في قول حميد الأرقط:
هيهات من مصبحها هيهات ... هيهات حجر من صنيبعات
فالذي يتضح في استعمال هيهات أن الأصل فيما بعدها أن يكون مرفوعا على تأويل هيهات بمعنى فعل ماض من البعد كما في بيت جرير، وأن الأفصح أن يكون ما بعدها مجرورا باللام فيكون على الاستغناء عن فاعل اسم الفعل للعلم به مما يسبق هيهات من الكلام لأنها لا تقع غالبا إلا بعد كلام، وتجعل اللام للتبيين، أي إيضاح المراد من الفاعل، فيحصل بذلك إجمال ثم تفصيل يفيد تقوية الخبر. وهذه اللام ترجع إلى لام التعليل. وإذا ورد ما بعدها مجرورا بمن فمن بمعنى عن أي بعد عنه أو بعدا عنه.
على أنه يجوز أن تؤول هيهات مرة بالفعل وهو الغالب ومرة بالمصدر فتكون اسم مصدر مبنيا جامدا غير مشتق. ويكون الإخبار بها كالإخبار بالمصدر، وهو الوجه الذي سلكه الزجاج في تفسير هذه الآية ويشير كلام الزمخشري إلى اختياره.
وجاء هنا فعل {تُوعَدُونَ} من أوعد وجاء قبله فعل {أَيَعِدُكُمْ} وهو من وعد مع أن الموعود به شيء واحد. قال الشيخ ابن عرفة: لأن الأول راجع إليهم في حال وجودهم فجعل وعدا، والثاني راجع إلى حالتهم بعد الموت والانعدام فناسب التعبير عنه بالوعيد اه.
وأقول: أحسن من هذا أنه عبر مرة بالوعد ومرة بالوعيد على وجه الاحتباك، فإن

إعلامهم بالبعث مشتمل على وعد بالخير إن صدقوا وعلى وعيد إن كذبوا، فذكر الفعلان على التوزيع إيجازا.
وقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} يجوز أن يكون بيانا للاستبعاد الذي في قوله: {هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} واستدلالا وتعليلا له، ولكلا الوجهين كانت الجملة مفصولة عن التي قبلها.
وضمير {هِيَ} عائد إلى ما لم يسبق في الكلام بل عائد على مذكور بعده قصدا للإبهام ثم التفصيل ليتمكن المعنى في ذهن السامع. وهذا من مواضع عود الضمير على ما بعده إذا كان ما بعده بيانا له، ولذلك يجعل الاسم الذي بعد الضمير عطف بيان. ومنه قول الشاعر أنشده في الكشاف المصراع الأول وأثبته الطيبي كاملا:
هي النفس ما حملتها تتحمل ... وللدهر أيام تجور وتعدل
وقول أبي العلاء:
هو الهجر حتى ما يلم خيال ... وبعض صدود الزائرين وصال
ومبين الضمير هنا قوله: {إِلَّا حَيَاتُنَا} فيكون الاسم الذي بعد إلا عطف بيان من الضمير. والتقدير: إن حياتنا إلا حياتنا الدنيا. ووصفها بالدنيا وصف زائد على البيان فلا يقدر مثله في المبين.
وليس هذا الضمير ضمير القصة والشأن لعدم صلاحية المقام له. ولأنه في الآية مفسر بالمفرد لا بالجملة وكذلك في بيت أبي العلاء.
ولأن دخول لا النافية يأبى من جعله ضمير شأن إذ لا معنى لأن يقال: لا قصة إلا حياتنا، فدخلت عليه لا النافية للجنس لأنه في معنى اسم جنس لتبيينه باسم الجنس وهو {حَيَاتُنَا} فالمعنى: ليست الحياة إلا حياتنا هذه، أي لا حياة بعدها.
والدنيا: مؤنث الأدنى، أي القريبة بمعنى الحاضرة.
وضمير {حَيَاتُنَا} مراد به جميع القوم الذي دعاهم رسولهم. فقولهم: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} معناه: يموت هؤلاء القوم ويحيا قوم بعدهم. ومعنى {نَحْيَا} : نولد، أي يموت من يموت ويولد من يولد، أو المراد: يموت من يموت فلا يرجع ويحيا من لم يمت إلى أن يموت. والواو لا تفيد ترتيبا بين معطوفها والمعطوف عليه. وعقبوه بالعطف في قوله:

{وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أي لا نحيا حياة بعد الموت.
وهو عطف على جملة {نَمُوتُ وَنَحْيَا} باعتبار اشتمالها على إثبات حياة عاجلة وموت، فإن الاقتصار على الأمرين مفيد للانحصار في المقام الخطابي مع قرينة قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} . وأفاد صوغ الخبر في الجملة الاسمية تقوية مدلولة وتحقيقه.
ثم جاءت جملة {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} نتيجة عقب الاستدلال، فجاءت مستأنفة لأنها مستقلة على ما تقدمها فهي تصريح بما كني عنه آنفا في قوله: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} وما بعده من تكذيب دعوته، فاستخلصوا من ذلك أن حاله منحصر في أنه كاذب على الله فيما ادعاه من الإرسال. وضمير {إِنْ هُوَ} عائد إلى اسم الإشارة من قوله: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} .
فجملة {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} صفة ل {رَجُلٌ} وهي منصب الحصر فهو من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب إضافيا، أي لا كما يزعم أنه مرسل من الله.
وإنما أجروا عليه أنه رجل متابعة لوصفه بالبشرية في قولهم {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تقريرا لدليل المماثلة المنافية للرسالة في زعمهم، أي زيادة على كونه رجلا مثلهم فهو رجل كاذب.
والافتراء: الاختلاق. وهو الكذب الذي لا شبهة فيه للمخبر. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة المائدة.
وإنما صرحوا بأنهم لا يؤمنون به مع دلالة نسبته إلى الكذب على أنهم لا يؤمنون به إعلانا بالتبري من أن ينخدعوا لما دعاهم إليه، وهو مقتضى حال خطاب العامة.
والقول في إفادة الجملة الاسمية التقوية كالقول في {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} .
[40,39] {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}
استئناف بياني لأن ما حكي من صد الملإ الناس عند اتباعه وإشاعتهم عنه أنه مفتر على الله وتلفيقهم الحجج الباطلة على ذلك مما يثير سؤال سائل عما كان من شأنه وشأنهم بعد ذلك، فيجاب بأنه توجه إلى الله الذي أرسله بالدعاء بأن ينصره عليهم. وتقدم القول في نظيره آنفا في قصة نوح.
وجاء جواب دعاء هذا الرسول غير معطوف لأنه جرى على أسلوب حكاية

المحاورات الذي بيناه في مواضع منها قوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة.
و{عَمَّا قَلِيلٍ} أفاد عن المجاوزة، أي مجاوزة معنى متعلقها الاسم المجرور بها. ويكثر أن تفيد مجاوزة معنى متعلقها الاسم المجرور بها فينشأ منها معنى بعد نحو {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} فيقال: إنها تجيء بمعنى بعد كما ذكره النحاة وهم جروا على الظاهر وتفسير المعنى إذ لا يكون حرف بمعنى اسم، فإن معاني الحروف ناقصة ومعاني الأسماء تامة. فمعنى {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} : أن إصباحهم نادمين يتجاوز زمنا قليل، أي من زمان التكلم وهو تجاوز مجازي بحرف عن مستعار لمعنى بعد استعارة تبعية.
و {مَا} زائدة للتوكيد.
و {قَلِيلٍ} صفة لموصوف محذوف دل عليه السياق أو فعل الإصباح الذي هو من أفعال الزمن فوعد الله هذا الرسول نصرا عاجلا.
وندمهم يكون عند رؤية مبدأ الاستئصال ولا ينفعهم ندمهم بعد حلول العذاب.
والإصباح هنا مراد به زمن الصباح لا معنى الصيرورة بدليل قوله في سورة الحجر {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} .
[41] {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
تقتضي الفاء تعجيل إجابة دعوة رسولهم.
والأخذ مستعار للإهلاك.
والصيحة: صوت الصاعقة، وهذا يرجع أو يعين أن يكون هؤلاء القرن هم ثمود قال تعالى {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} وقال في شأنهم في سورة الحجر {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} .
وإسناد الأخذ إلى الصيحة مجاز عقلي لأن الصيحة سبب الأخذ أو مقارنة سببه فإنها تحصل من تمزق كرة الهواء عند نزول الصاعقة.
والباء في {بَالحَقِّ} للملابسة، أي أخذتهم أخذا ملابسا للحق، أي لا اعتداء فيه

عليهم لأنهم استحقوه بظلمهم.
والغثاء: ما يحمله السيل من الأعواد اليابسة والورق. والكلام على التشبيه البليغ للهيئة فهو تشبيه حالة بحالة، أي جعلناهم كالغثاء في البلى والتكدس في موضع واحد فهلكوا هلكة واحدة.
وفرع على حكاية تكذيبهم دعاء عليهم وعلى أمثالهم دعاء شتم وتحقير بأن يبعدوا تحقيرا لهم وكراهية، وليس مستعملا في حقيقة الدعاء لأن هؤلاء بعدوا بالهلاك. وانتصب بعدا على المفعولية المطلقة بدلا من فعله مثل: تبا وسحقا، أي أتبه الله وأسحقه.
وعكس هذا المعنى قول العرب لا تبعد بفتح العين أي لا تفقد. قال مالك بن الريب:
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا
والمراد بالقوم الظالمين الكافرون {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . واختير هذا الوصف هنا لأن هؤلاء ظلموا أنفسهم بالإشراك وظلموا هودا لأنه تعمد الكذب على الله إذ قالوا {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} .
والتعريف في {الظَّالِمِينَ} للاستغراق فشملهم، ولذلك تكون الجملة بمنزلة التذييل.
واللام في {لِلقَومِ الظَّالِمِينَ} للتبيين وهي مبينة للمقصود بالدعاء زيادة في البيان كما في قولهم: سحقا لك وتبا له، فإنه لو قيل: فبعدا، لعلم أنه دعاء عليه فبزيادة اللام يزيد بيان المدعو عليهم وهي متعلقة بمحذوف مستأنف للبيان.
[43,42] {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} القرون: الأمم، وهذا كقوله تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} .
وهي الأمم الذين لم ترسل إليهم رسل وبقوا على إتباع شريعة نوح أو شريعة هود أو شريعة صالح. أو لم يؤمروا بشرع لأن الاقتصار على ذكر الأمم هنا دون ذكر الرسل ثم ذكر الرسل عقب هذا يومئ إلى أن هذه إما أمم لم تأتهم رسل لحكمة اقتضت تركهم على ذلك لأنهم لم يتأهلوا لقبول شرائع، أو لأنهم كانوا على شرائع سابقة.

وجملة {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} معترضة بين المتعاطفة. وهي استئناف بياني لما يؤذن به قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً} من كثرتها ولا يؤذن به وصفهم ب {آخَرِين} من جهل الناس بهم، ولما يؤذون به عطف جملة {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} من انقراض هذه القرون بعد الأمة التي ذكرت قصتها آنفا في قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين} دون أن تجيئهم رسل، فكان ذلك كله مما يثير سؤال سائل عن مدة تعميرهم ووقت انقراضهم. فيجاب بالإجمال لأن لكل قرن منهم أجلا عينه الله يبقى إلى مثله ثم ينقرض ويخلفه قرن آخر يأتي بعده، أو يعمر بعده قرن كان معاصرا له، وأن ما عين لكل قرن لا يتقدمه ولا يتأخر عنه كقوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} .
والسبق: تجاوز السائر وتركه مسائره خلفه، وعكسه التأخر. والمعنى واضح. والسين والتاء في {يَسْتَأْخِرُونَ} زائدتان للتأكيد مثل: استجاب. وضمير {يَسْتَأْخِرُونَ} عائد إلى {أُمَّةٍ} باعتبار الناس.
[44] {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} الرسل الذين جاءوا من بعد، أي من بعد هذه القرون منهم إبراهيم ولوط ويوسف وشعيب، ومن أرسل قبل موسى، ورسل لم يقصصهم الله على رسوله.
والمقصود بيان اطراد سنة الله تعالى في استئصال المكذبين رسله المعاندين في آياته كما دل عليه قوله: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} .
و {تَتْرَا} قرأه الجمهور بألف في آخره دون تنوين فهو مصدر على وزن فعلى مثل دعوى وسلوى، وألفه للتأنيث مثل ذكرى، فهو ممنوع من الصرف. وأصله: وترى بواو في أوله مشتقا من الوتر وهو الفرد. وظاهر كلام اللغويين انه لا فعل له، أي فردا فردا، أي فردا بعد فرد فهو نظير مثنى. وأبدلت الواو تاء إبدالا غير قياسي كما أبدلت في تجاه للجهة المواجهة وفي تولج لكناس الوحش وتراث للموروث.
ولا يقال تترى إلا إذا كان بين الأشياء تعاقب مع فترات وتقطع. ومنه التواتر وهو تتابع الأشياء وبينها فجوات. والوتيرة: الفترة عن العمل. وأما التعاقب بدون فترة فهو التدارك. يقال: جاءوا متداركين، أي متتابعين.

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر منونا وهي لغة كنانة. وهو على القراءتين منصوب على الحال من {رُسُلِنَا} .
واعلم أن كلمة {تَتْرَا} كتبت في المصاحف كلها بصورة الألف في آخرها على صورة الألف الأصلية مع أنها في قراءة الجمهور ألف تأنيث مقصورة وشأن ألف التأنيث المقصورة أن تكتب بصورة الياء مثل تقوى ودعوى، فلعل كتاب المصاحف راعوا كلتا القراءتين فكتبوا الألف بصورتها الأصلية لصلوحية نطق القارئ على كلتا القراءتين. على أن أصل الألف أن تكتب بصورتها الأصلية، وأما كتابتها في صورة الياء حيث تكتب كذلك فهو إشارة إلى أصلها أو جواز إمالتها فخولف ذلك في هذه اللفظة لدفع اللبس.
ومعنى الآية: ثم بعد تلك القرون أرسلنا رسلا، أي أرسلناهم إلى أمم أخرى، لأن إرسال الرسول يستلزم وجود أمة وقد صرح به في قوله: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} . والمعنى: كذبه جمهورهم وربما كذبه جميعهم.
وفي حديث ابن عباس عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد..." الحديث.
وإتباع بعضهم بعضا إلحاقهم بهم في الهلاك بقرينة المقام وبقرينة قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} ، أي صيرناهم أحدوثات يتحدث الناس بما أصابهم. إنما يتحدث الناس بالشيء الغريب النادر مثله. والأحاديث هنا جمع أحدوثة، وهي اسم لما يتلهى الناس بالحديث عنه. ووزن الأفعولة يدل على ذلك مثل الأعجوبة والأسطورة.
وهو كناية عن إبادتهم، فالمعنى: جعلناهم أحاديث بائدين غير مبصرين.
والقول في {فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} مثل الكلام على {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ؛ إلا أن الدعاء نيط هنا بوصف أنهم لا يؤمنون ليحصل من مجموع الدعوتين التنبيه على مذمة الكفر وعلى مذمة عدم الإيمان بالرسل تعريضا بمشركي قريش، على أنه يشمل كل قوم لا يؤمنون برسل الله لأن النكرة في سياق الدعاء تعم كما في قول الحريري: يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا.
[48,45] {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}

فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}
الآيات: المعجزات، وإضافتها إلى ضمير الجلالة للتنويه بها وتعظيمها. والسلطان المبين: الحجة الواضحة التي لقنها الله موسى فانتهضت على فرعون وملئه. والباء للملابسة، أي بعثناه ملابسا للمعجزات والحجة.
وملأ فرعون: أهل مجلسه وعلماء دينه وهم السحرة. وإنما جعل الإرسال إليهم دون بقية أمة القبط لأن دعوة موسى وأخيه إنما كانت خطابا لفرعون وأهل دولته الذين بيدهم تصريف أمور الأمة لتحرير بني إسرائيل من استعبادهم إياهم قال تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} . ولم يرسلا بشريعة إلى القبط. وأما الدعوة إلى التوحيد فمقدمة لإثبات الرسالة لهم.
وعطف {فَاسْتَكْبَرُوا} بفاء التعقيب يفيد أنهم لم يتأملوا الدعوة والآيات والحجة ولكنهم أفرطوا في الكبرياء، فالسين والتاء للتوكيد، أي تكبروا كبرياء شديدة بحيث لم يعيروا آيات موسى وحجته أذنا صاغية.
وجملة {وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ} معترضة بين فعل استكبروا وما تفرع عليه من قوله فقالوا في موضع الحال من فرعون وملئه، أي فاستكبروا بأن أعرضوا عن استجابة دعوة موسى وهارون وشأنهم الكبرياء والعلو، أي كان الكبر خلقهم وسجيتهم. وقد بينا عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} من سورة البقرة أن إجراء وصف على لفظ قوم أو الإخبار بلفظ قوم متبوع باسم فاعل إنما يقصد منه تمكن ذلك الوصف من الموصوف بلفظ قوم أو تمكنه من أولئك القوم. فالمعنى هنا: أن استكبارهم على تلقي دعوة موسى وآياته وحجته إنما نشأ عن سجيتهم من الكبر وتطبعهم. فالعلو بمعنى التكبر والجبروت. وسيجيء بيانه عند قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} في سورة القصص.
وبين ذلك بالتفريع بقوله: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} فهو متفرع على قوله: {فَاسْتَكْبَرُوا} ، أي استكبر فرعون وملؤه عن اتباع موسى وهارون، فأفصحوا عن سبب استكبارهم عن ذلك بقولهم: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} . وهذا ليس من قول فرعون ولكنه قول بعض الملإ لبعض، ولما كانوا قد تراضوا عليه نسب إليهم جميعا. وأما فرعون فكان مصغيا لرأيهم ومشورتهم وكان له قول

آخر حكي في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} فإن فرعون كان معدودا في درجة الآلهة لأنه وإن كان بشرا في الصورة لكنه اكتسب الإلهية بأنه ابن الآلهة.
والاستفهام في {أَنُؤْمِنُ} إنكاري، أي ما كان لنا أن نؤمن بهما وهما مثلنا في البشرية وليسا بأهل لأن يكونا ابنين للآلهة لأنهما جاءا بتكذيب إلهية الآلهة، فكان ملأ فرعون لضلالهم يتطلبون لصحة الرسالة عن الله أن يكون الرسول مباينا للمرسل إليهم، فلذلك كانوا يتخيلون آلهتهم أجناسا غريبة مثل جسد آدمي ورأس بقرة أو رأس طائر أو رأس ابن آوى أو جسد أسد ورأس آدمي، ولا يقيمون وزنا لتباين مراتب النفوس والعقول وهي أجدر بظهور التفاوت لأنها قرارة الإنسانية. وهذه الشبهة هي سبب ضلالة أكثر الأمم الذين أنكروا رسلهم.
واللام في قوله: {لِبَشَرَينِ} لتعدية فعل {نُؤْمِنُ} . يقال للذي يصدق المخبر فيما أخبر به: آمن له، فيعدى فعل آمن باللام على اعتبار أنه صدق بالخبر لأجل المخبر، أي لأجل ثقته في نفسه. فأصل هذه اللام لام العلة والأجل. ومنه قوله تعالى: {فآمن له لوط} وقوله: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} . وأما تعدية فعل الإيمان بالباء فإنها إذا علق به ما يدل على الخبر تقول: آمنت بأن الله واحد. وبهذا ظهر الفرق بين قولك: آمنت بمحمد وقولك: آمنت لمحمد. فمعنى الأول: أنك صدقت شيئا. ولذلك لا يقال: آمنت لله وإنما يقال: آمن بالله. وتقول: آمن بمحمد وآمنت لمحمد. ومعنى الأول يتعلق بذاته وهو الرسالة ومعنى الثاني أنك صدقته فيما جاء به.
و {مِثْلِنَا} وصف {لِبَشَرَيْنِ} وهو مما يصح التزام إفراده وتذكيره دون نظر إلى مخالفة صيغه موصوفه كما هنا. ويصح مطابقته لموصوفه كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} .
وهذا طعن في رسالتهما من جانب حالهما الذاتي ثم أعقبوه بطعن من جهة منشئهما وقبيلهما فقالوا و {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} ، أي وهم من فريق هم عباد لنا وأحط منا فكيف يسوداننا.
وقوله: {عَابِدُونَ} جمع عابد، أي مطيع خاضع. وقد كانت بنو إسرائيل خولا للقبط وخدما لهم قال تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} .

وتفرع على قولهم التصميم على تكذيبهم إياهما المحكي بقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا} أي أرسى أمرهم على أن كذبوهما، ثم فرع على تكذيبهم أن كانوا من المهلكين إذ أهلكهم الله بالغرق، أي فانتظموا في سلك الأقوام الذين أهلكوا. وهذا أبلغ من أن يقال: فأهلكوا، كما مر بنا غير مرة.
والتعقيب هنا تعقيب عرفي لأن الإغراق لما نشأ عن التكذيب فالتكذيب مستمر إلى حين الإهلاك.
وفي هذا تعريض بتهديد قريش على تكذيبهم رسولهم صلى الله عليه وسلم لأن في قوله: {مِنَ الْمُهْلَكِينَ} إنما إلى أن الإهلاك سنة الله في الذين يكذبون رسله.
[49] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}
لما ذكرت دعوة موسى وهارون لفرعون وملئه وما ترتب على تكذيبهم من إهلاكهم أكملت قصة بعثة موسى بالمهم منها الجاري ومن بعثة من سلف من الرسل المتقدم ذكرهم وهو إيتاء موسى الكتاب لهداية بني إسرائيل لحصول اهتدائهم ليبني على ذلك الاتعاظ بخلافهم على رسلهم في قوله بعد ذلك {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} فإن موعظة المكذبين رسولهم بذلك أولى. وهنا وقع الإعراض عن هارون لأن رسالته قد انتهت لاقتصاره على تبليغ الدعوة لفرعون وملئه إذ كانت مقام محاجة واستدلال فسأل موسى ربه إشراك أخيه هارون في تبليغها لأنه أفصح منه لسانا في بيان الحجة والسلطان المبين.
والتعريف في {الْكِتَابَ} للعهد. وهو التوراة.
ولذلك كان ضمير {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} ظاهر العود إلى غير مذكور في الكلام بل إلى معلوم من المقام وهم القوم المخاطبون بالتوراة وهم بنو إسرائيل فانتساق الضمائر ظاهر في المقام دون حاجة إلى تأويل قوله: {آتَيْنَا مُوسَى} بمعنى: آتينا قوم موسى، كما سلكه في الكشاف.
ولعل للرجاء، لأن ذلك الكتاب من شأنه أن يترقب من إيتائه اهتداء الناس به.
[50] {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}
لما كانت آية عيسى العظمى في ذاته في كيفية تكوينه كان الاهتمام بذكرها هنا، ولم

تذكر رسالته لأن معجزة تخليقه دالة على صدق رسالته. وأما قوله: {وَأُمَّهُ} فهو إدماج لتسفيه اليهود فيما رموا به مريم عليها السلام فإن ما جعله الله آية لها ولابنها جعلوه مطعنا ومغمزا فيهما.
وتنكير {آيَةً} للتعظيم لأنها آية تحتوي على آيات. ولما كان مجموعها دالا على صدق عيسى في رسالته جعل مجموعها آية عظيمة على صدقه كما علمت. آيَةً
وأما قوله: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} فهو تنويه بهما إذ جعلهما الله محل عنايته ومظهر قدرته ولطفه.
والإيواء: جعل الغير آويا، أي ساكنا. وتقدم عند قوله: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} في سورة هود وعند قوله: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} في سورة هود.
والربوة بضم الراء: المرتفع من الأرض. ويجوز في الراء الحركات الثلاث. وتقدم في قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} في البقرة. والمراد بهذا الإيواء وحي الله لمريم أن تنفرد بربوة حين اقترب مخاضها لتلد عيسى في منعزل من الناس حفظا لعيسى من أذاهم.
والقرار: المكث في المكان، أي هي صالحة لأن تكون قرارا، فأضيفت الربوة إلى المعنى الحاصل فيها لأدنى ملابسة وذلك بما اشتملت عليه من النخيل المثمر فتكون في ظله ولا تحتاج إلى طلب قوتها.
والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، وهو وصف جرى على موصوف محذوف، أي ماء معين، لدلالة الوصف عليه كقوله: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} . وهذا في معنى قوله في سورة مريم {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} .
[51] {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .
يتعين تقدير قول محذوف اكتفاء بالمقول، وهو استئناف ابتدائي، أي قلنا: يا أيها الرسل كلوا. والمحكي هنا حكي بالمعنى لأن الخطاب المذكور هنا لم يكن موجها للرسل في وقت واحد بضرورة اختلاف عصورهم. فالتقدير: قلنا لكل رسول ممن مضى ذكرهم

كل من الطيبات واعمل صالحا إني بما تعمل عليم.
وذلك على طريقة التوزيع لمدلول الكلام وهي شائعة في خطاب الجماعات. ومنه: ركب القوم دوابهم.
والغرض من هذا بيان كرامة الرسل عند الله ونزاهتهم في أمورهم الجسمانية والروحانية، فالأكل من الطيبات نزاهة جسمية والعمل الصالح نزاهة نفسانية.
والمناسبة لهذا الاستئناف هي قوله: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} وليحصل من ذلك الرد على اعتقاد الأقوام المعللين تكذيبهم رسلهم بعلة أنهم يأكلون الطعام كما قال تعالى في الآية السابقة: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} ، وقال: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} ، وليبطل بذلك ما ابتدعه النصارى من الرهبانية. وهذه فوائد من الاستدلال والتعليم كان لها في هذا المكان الوقع العظيم.
والأمر في قوله: {كُلُوا} للإباحة، وإن كان الأكل أمرا جبليا للبشر إلا أن المراد به هنا لازمه وهو إعلام المكذبين بأن الأكل لا ينافي الرسالة وأن الذي أرسل الرسل أباح لهم الأكل.
وتعليق {مِنَ الطيِّبَاتِ} بكسب الإباحة المستفادة من الأمر شرط أن يكون المباح من الطيبات، أي أن يكون المأكول طيبا. ويزيد في الرد على المكذبين بأن الرسل إنما يجتنبون الخبائث ولا يجتنبون ما أحل الله لهم من الطيبات. والطيبات: ما ليس بحرام ولا مكروه.
وعطف العمل الصالح على الأمر بأكل الطيبات إيماء إلى أن همة الرسل إنما تنصرف إلى الأعمال الصالحة، وهذا كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} والمراد به ما تناولوه من الخمر قبل تحريمها.
وقوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تحريض على الاستزادة من الأعمال الصالحة لأن ذلك يتضمن الوعد بالجزاء عنها وأنه لا يضيع منه شيء، فالخبر مستعمل في التحريض.
[52] {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}

يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} الخ، فيكون هذا مما قيل للرسل. والتقدير: وقلنا لهم: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية. ويجوز أن تكون عطفا على قصص الإرسال المبدوءة من قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} لأن تلك القصص إنما قصت عليهم ليهتدوا بها إلى أن شأن الرسل منذ ابتداء الرسالة هو الدعوة إلى توحيد الله بالإلهية. وعلى هذا الوجه يكون سياقها كسياق آية سورة الأنبياء {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية.
وفي هذه الآية ثلاث قراءات بخلاف آية سورة الأنبياء. فتلك اتفق القراء على قراءتها بكسر همزة إن. فأما هذه الآية فقرأ الجمهور {وَأَنَّ} بفتح الهمزة وتشديد النون، فيجوز ان تكون خطابا للرسل وأن تكون خطابا للمقصودين بالنذارة على الوجهين وفتح الهمزة بتقدير لام كي متعلقة بقوله: {فَاتَّقُونِ} عند من لا يرى وجود الفاء فيه مانعا من تقديم معموله، أو متعلقة بمحذوف دل عليه {فَاتَّقُونِ} عند من يمنع تقديم المعمول على العامل المقترن بالفاء، كما تقدم في قوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} في سورة النحل.
والمعنى عليه: ولكون دينكم دينا واحدا لا يتعدد فيه المعبود. وكوني ربكم فاتقون ولا تشركوا بي غيري، خطابا للرسل والمراد أممهم، أو خطابا لمن خاطبهم القرآن.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بكسر همزة إن وتشديد النون، فكسر همزة إن إما لأنها واقعة في حكاية القول على الوجه الأول، وإما لأنها مستأنفة على الوجه الثاني. والمعنى كما تقدم في معنى قراءة الجمهور.
وقرأ بن عامر بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها مخففة من أن المفتوحة واسمها ضمير شأن محذوف وخبرها الجملة التي بعدها. ومعناه كمعنى قراءة الجمهور سواء.
واسم الإشارة مراد به شريعة كل من الأنبياء أو شريعة الإسلام على الوجهين في المخاطب بهذه الآية.
وتأكيد الكلام بحرف إن على القراءات كلها للرد على المشركين من أمم الرسل أو المشركين المخاطبين بالقرآن.
وتقدم تفسير نظيرها في سورة الأنبياء؛ إلا أن الواقع هنا {فَاتَّقُونِ} وهناك

{فَاعْبُدُونِ} فيجوز أن الله أمرهم بالعبادة وبالتقوى ولكن حكي في كل سورة أمرا من الأمرين، ويجوز أن يكون الأمران وقعا في خطاب واحد، فاقتصر على بعضه في سورة الأنبياء وذكر معظمه في سورة المؤمنين بحسب ما اقتضاه مقام الحكاية في كلتا السورتين. ويحتمل أن يكون كل أمر من الأمرين: الأمر بالعبادة والأمر بالتقوى، قد وقع في خطاب مستقل تماثل بعضه وزاد الآخر عليه بحسب ما اقتضاه مقام الخطاب من قصد إبلاغه للأمم كما في سورة الأنبياء، أو من قصد اختصاص الرسل كما في سورة المؤمنين. ويرجح هذا أنه قد ذكر في سورة المؤمنين خطاب الرسل بالصراحة.
وأياما كان من الاحتمالين فوجه ذلك أن آية سورة الأنبياء لم تذكر فيها رسالات الرسل إلى أقوامهم بالتوحيد عدا رسالة إبراهيم في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} ثم جاء ذكر غيره من الرسل والأنبياء مع الثناء عليهم وطال البعد بين ذلك وبين قصة إبراهيم فكان الأمر بعبادة الله تعالى، أي إفراده بالعبادة الذي هو المعنى الذي اتحدت فيه الأديان. أولى هنالك لأن المقصود من ذلك الأمر أن يبلغ إلى أقوامهم، فكان ذكر الأمر بالعبادة أولى بالمقام في تلك السورة لأنه الذي حظ الأمم منه أكثر. إذ الأنبياء والرسل لم يكونوا بخلاف ذلك قط فلا يقصد أمر الأنبياء بذلك إذ يصير من تحصيل الحاصل إلا إذا أريد به الأمر بالدوام.
وأما آية هذه السورة فقد جاءت بعد ذكر ما أرسل به الرسل إلى أقوامهم من التوحيد وإبطال الشرك فكان حظ الرسل من ذلك أكثر كما يقتضيه افتتاح الخطاب ب {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} فكان ذكر الأمر بالتقوى هنا أنسب بالمقام لأن التقوى لا حد لها، فالرسل مأمورون بها وبالازدياد منها كما قال تعالى في حق نبيه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} ثم قال في حق الأمة: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} الآية. وقد مضى في تفسير سورة الأنبياء شيء من الإشارة إلى هذا ولكن ما ذكرناه هنا أبسط فضمه إليه وعول عليه.
وقد فات في سورة الأنبياء أن نبين عربية قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} فوجب أن نشبع القول فيه هنا. فالإشارة بقوله: {هَذِهِ} إلى أمر مستحضر في الذهن بينه الخبر والحال، ولذلك أنث اسم الإشارة، أي هذه الشريعة التي أوحينا إليك هي شريعتك. ومعنى هذه الإخبار أنك تلتزمها ولا تنقص منها ولا تغير منها شيئا، ولأجل هذا المراد جعل الخبر ما حقه أن يكون بيانا لاسم الإشارة لأنه لم يقصد به بيان اسم الإشارة

بل قصد به الإخبار عن اسم الإشارة لإفادة الاتحاد بين مدلولي اسم الإشارة وخبره فيفيد أنه هو هو لا يغير عن حاله.
قال الزجاج: ومثل هذه الحال من لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر. ففي قولك: هذا زيد قائما، لا يقال إلا لمن يعرفه فيفيده قيامه، ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيدا عند عدم القيام وليس بصحيح.
وبهذا يعلم بأنه ليس المقصود من الإخبار عن اسم الإشارة حقيقته بل الخبر مستعمل مجازا في معنى التحريض والملازمة، وهو يشبه لازم الفائدة وإن لم يقع في أمثلتهم، ومنه قوله تعالى: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} فإن سارة قد علمت أن الملائكة عرفوا أن إبراهيم بعلها إذ قد بشروها بإسحاق. وإنما المعنى: وهذا الذي ترونه هو بعلي الذي يترقب منه النسل المبشر به، أي حاله ينافي البشارة، ولذلك يتبع مثل هذا التركيب بحال تبين المقصود من الإخبار كما في هذه الآية. وقد تقدم ذكر لطيفة في تلك الآية.
[53] {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}
جيء بفاء التعقيب لإفادة أن الأمم لم يتريثوا عقب تبليغ الرسل إياهم {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} أن تقطعوا أمرهم بينهم فاتخذوا آلهة كثيرة فصار دينهم متقطعا قطعا لكل فريق صنم وعبادة خاصة به. فضمير تقطعوا عائد إلى الأمم المفهوم من السياق الذين هم المقصود من قوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} . وضمير الجمع عائد إلى أمم الرسل يدل عليه السياق.
فالكلام مسوق مساق الذم. ولذلك قد تفيد الفاء مع التعقيب معنى التفريع، أي فتفرع على ما أمرناهم به من التوحيد أنهم أتوا بعكس المطلوب منهم، فيفيد الكلام زيادة على الذم تعجيبا من حالهم. ومما يزيد معنى الذم تذييله بقوله كل حزب بما لديهم فرحون أي وهم ليسوا بحال من يفرح.
والتقطع أصله مطاوع قطع. واستعمل فعلا متعديا بمعنى قطع بقصد إفادة الشدة في حصول الفعل، ونظيره تخوفه السير، أي تنقصه، وتجهمه الليل وتعرفه الزمن. فالمعنى: قطعوا أمرهم بينهم قطعا كثيرة، أي تفرقوا على نحل كثيرة فجعل كل فريق منهم لنفسه دينا. ويجوز أن يجعل تقطعوا قاصرا أسند التقطع إليهم على سبيل الإبهام ثم ميز بقوله أمرهم كأنه قيل: تقطعوا أمرا، فإن كثيرا من نحاة الكوفة يجوزون كون التمييز معرفة.

وقد بسطنا القول في معنى {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} في سورة الأنبياء.
والأمر هنا بمعنى الشأن والحال وما صدقه أمور دينهم.
والزبر بضم الزاي وضم الموحدة كما قرأ به الجمهور جمع زبور وهو الكتاب. استعير اسم الكتاب للدين لأن شأن الدين أن يكون لأهله كتاب، فيظهر أنها استعارة تهكمية إذ لم يكن لكل فريق كتاب ولكنهم اتخذوا لأنفسهم أديانا وعقائد لو سجلت لكانت زبرا.
وقرأه أبو عمرو بخلاف عنه {زبرا} بضم الزاء وفتح الموحدة وهو جمع زبرة بمعنى قطعة.
وجملة {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} تذييل لما قبله لأن التقطع يقتضي التحزب فذيل بأن كل فريق منهم فرح بدينه، ففي الكلام صفة محذوفة ل {حِزْبٍ} أي كل حزب منهم، بدلالة المقام.
والفرح: شدة المسرة، أي راضون جذلون بأنهم اتخذوا طريقتهم في الدين. والمعنى: أنهم فرحون بدينهم عن غير دليل ولا تبصر بل لمجرد العكوف على المعتاد، وذلك يومئ إليه {لَدَيْهِمْ} المقتضي أنه متقرر بينهم من قبل، أي بالدين الذي هو لديهم فهم لا يرضون على من خالفهم ويعادونه، وذلك يفضي إلى التفريق والتخاذل بين الأمة الواحدة وهو خلاف مراد الله ولذلك ذيل به قوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} . وقديما كان التحزب مسببا لسقوط الأديان والأمم وهو من دعوة الشيطان التي يلبس فيها الباطل في صورة الحق.
والحزب: الجماعة المجتمعون على أمر من اعتقاد أو عمل، أو المتفقون عليه.
[54] {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}
انتقال بالكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم. وضمير الجمع عائد إلى معروف من السياق وهم مشركو قريش فإنهم من جملة الأحزاب الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا، أو هم عينهم: فمنهم اتخذ إلهه العزى. ومنهم من اتخذ مناة، ومنهم من اتخذ ذا الخلصة إلى غير ذلك.
والكلام ظاهره المتاركة، والمقصود منه الإملاء لهم وإنذارهم بما يستقبلهم من سوء

العاقبة في وقت ما. ولذلك نكر لفظ {حِينٍ} المجعول غاية لاستدراجهم، أي زمن مبهم، كقوله: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} .
والغمرة حقيقتها: الماء الذي يغمر قامة الإنسان بحيث يغرقه. وتقدم في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} في سورة الأنعام. وإضافتها إلى ضميرهم باعتبار ملازمتها إياهم حتى قد عرفت بهم، وذلك تمثيل الحال اشتغالهم بما هم فيه من الازدهار وترف العيش عن التدبر فيما يدعوهم إليه الرسول لينجيهم من العقاب بحال قوم غمرهم الماء فأوشكوا على الغرق وهم يحسبون أنهم يسبحون.
[56,55] {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} الأشبه أن تكون هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} باعتبار أن جملة {فَذَرْهُمْ} تشتمل على معنى عدم الاكتراث بما هم فيه من الأحوال التي ألهتهم عن النظر في دعوة الإسلام وغرتهم بأنهم بمحل الكرامة على الله بما خولهم من العزة والترف، وما تشتمل عليه من التوعد بأن ذلك له نهاية ينتهون إليها وأن الله أعطاهم ما هم فيه زمن النعمة استدراجا لهم. وهذا كقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} وقوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} .
والاستفهام في {أَيَحْسَبُونَ} إنكاري وتوبيخ على هذا الحسبان سواء كان هذا الحسبان حاصلا لجميع المشركين أم غير حاصل لبعض لأن حالهم حال من هو مظنة هذا الحسبان فينكر عليه هذا الحسبان لإزالته من نفسه أو لدفع حصوله فيها.
و {أنَّمَا} هنا كلمتان أن المؤكدة وما الموصوله وكتبتا في المصحف متصلتين كما تكتب إنما المكسورة التي هي أداة حصر لأن الرسم القديم لم يكن منضبطا كل الضبط وحقها أن تكتب مفصولة.
والإمداد: إعطاه المدد وهو العطاء. و {مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} بيان لما الموصولة.
والمسارعة: التعجيل، وهي هنا مستعارة لتوخي المرغوب والحرص على تحصيله. وفي حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. أي يعطيك ما

تحبه لأن الراغب في إرضاء شخص يكون متسارعا في إعطائه مرغوبه، ويقال: فلان يجري في حظوظك. ومتعلق {نُسَارِعُ} محذوف تقديره: نسارع لهم به، أي بما نمدهم به من مال وبنين. وحذف لدلالة {نُمِدُّهُمْ بِهِ} عليه.
وظرفية في مجازية. جعلت {الخَيْرَاتِ} بمنزلة الطريق يقع فيه المسارعة بالمشي فتكون في قرينة مكنية. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} وقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} كلاهما في سورة العقود، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} في سورة الأنبياء.
والخيرات: جمع خير بالألف والتاء، وهو من الجموع النادرة مثل سرادقات. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} في سورة براءة، وتقدم في سورة الأنبياء.
وبل إضراب عن المظنون لا على الظن كما هو ظاهر بالقرينة، أي لسنا نسارع لهم بالخيرات كما ظنوا بل لا يشعرون بحكمة ذلك الإمداد وأنها لاستدراجهم وفضحهم بإقامة الحجة عليهم.
[61,57] {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ.وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}
هذا الكلام مقابل ما تضمنته الغمرة من قوله {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} من الإعراض عن عبادة الله وعن التصديق بآياته، ومن إشراكهم آلهة مع الله، ومن شحهم عن الضعفاء وإنفاق مالهم في اللذات، ومن تكذيبهم بالبعث. كل ذلك مما شملته الغمرة فجيء في مقابلها بذكر أحوال المؤمنين ثناء عليهم، ألا ترى إلى قوله بعد هذا {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} .
فكانت هذه الجملة كالتفصيل لإجمال الغمرة مع إفادة المقابلة بأحوال المؤمنين. واختير أن يكون التفصيل بذكر المقابل لحسن تلك الصفات وقبح أضدادها تنزيها للذكر عن تعداد رذائلهم، فحصل بهذا إيجاز بديع، وطباق من ألطف البديع، وصون للفصاحة من كراهة الوصف الشنيع.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68