كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} في سورة النساء [101].
والابتغاء من فضل الله طلب الرزق قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] أي التجارة في مدح الحج، فقوله تعالى: {يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} مراد بالضرب في الأرض فيه السفر للتجارة لأن السير في الأسفار يكون في الليل كثير ويكون في النهار فيحتاج المسفر للنوم في النهار.
وفرع عليه مثل ما فرع على الذي قبله فقال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي من القرآن.
وقد نيط مقدار القيام بالتيسير على جميع المسلمين وإن اختلفت الأعذار.
وهذه الآية اقتضت رفع وجوب قيام الليل عن المسلمين إن كان قد وجب عليهم من قبل على أحد الاحتمالين، أو بيان لم يوجب عليهم وكانوا قد التزموه فبين لهم أن ما التزموه من التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك غير لازم لهم. وعلل عدم وجوبه عليهم بأن الأمة يكثر فيها أصحاب الأعذار التي يشق معها قيام الليل فلم يجعله الله واجبا عليهم أو رفع وجوبه. ولولا اعتبار المظنة العامة لأبقي حكم القيام ورخص لأصحاب العذر في مدة العذر فقط فتبين أن هذا تعليل الحكم الشرعي على قول عائشة أم المؤمنين: "إن الصلاة فرضت ركعتين ثم زيد في ثلاث من الصلوات في الحضر وأبقيت صلاة السفر"، وعلة بقاء الركعتين هو مظنة المشقة في السفر.
وأوجب الترخص في قيام الليل أنه لم يكن ركنا من أركان الإسلام فلم تكن المصلحة الدينية قوية فيه.
وأما حكم القيام فهو ما دل عليه قوله: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:2] وما دلت عليه أدلة التحريض عليه من السنة. وقد مضى ذلك كله. فهذه الآية صالحة أن تكون أصلا للتعليل بالمظنة وصالحة لأن تكون أصلا تقاس عليه الرخصة العامة التي تراعى فيها مشقة غالب الأمة مثل رخصة بيع السلم دون الأحوال الفردية والجزئية.
وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} تذكير بأن الصلوات الواجبة هي التي تحرصون على إقامتها وعدم التفريط فيها كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].
وفي هذا التعقيب بعطف الأمر بإقامة الصلاة إيماء إلى أن الصلوات الخمس ما

يرفع التبعة عن المؤمنين وأن قيام الليل نافلة لهم وفيه خير كثير وقد تضافرت الآثار على هذا ما هو في كتب السنة.
وعطف {وَآتُوا الزَّكَاةَ} تتميم لأن الغالب أنه لم يحل ذكر الصلاة من ذكر الزكاة معها حتى استنبط أبو بكر رضي الله عنه من ذلك أن مانع الزكاة يقاتل عليها، فقال لعمر رضي الله عنه "لأقاتلن بين من فرق بين الصلاة والزكاة".
وإقراض الله هو الصدقات غير الواجبة، شبه إعطاء الصدقة للفقير بقرض يقرضه الله لأن الله وعد على الصدقة بالثواب الجزيل فشابه حال معطي الصدقة مستجيبا رغبة الله فيه بحال من أقرض مستقرضا في أنه حقيق بأن يرجع إليه ما أقرضه، وذلك في الثواب الذي يعطاه يوم الجزاء.
ووصف القرض بالحسن يفيد الصدقة المراد بها وجه الله تعالى والسالمة من المن والأذى، والحسن متفاوت.
والحسن في كل نوع هو ما فيه الصفات المحمودة في ذلك النوع في بابه، ويعرف المحمود من الصدقة من طريق الشرع بما وصفه القرآن في حسن الصدقات وما ورد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
وقد تقدم في سورة البقرة [245] قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} وفي سورة التغابن [17] {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} .
{وَمَا تُقَدِّمُوا ِلأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} .
تذييل لما سبق من الأمر في قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} ، فإن قوله: {مِنْ خَيْرٍ} يعم جميع فعل الخير.
وفي الكلام إيجاز حذف. تقدير المحذوف: وافعلوا الخير وما تقدموا لأنفسكم منه تجدوه عند الله، فاستغني عن المحذوف بذكر الجزاء على الخير.
و {ما} شرطية. ومعنى تقديم الخير: فعله في الحياة، شبه فعل الخير في مدة الحياة لرجاء الانتفاع بثوابه في الحياة الآخرة بتقديم العازم على السفر ثقله وأدواته وبعض أهله إلى المحل الذي يروم الانتهاء إليه ليجد ما ينتفع به وقت حصوله.
و {مِنْ خَيْرٍ} بيان لإبهام {ما} الشرطية.

والخير: هو ما وصفه الدين بالحسن ووعد على فعله بالثواب.
ومعنى {تَجِدُوهُ} يجدوا جزاءه وثوابه، وهو الذي قصده فاعله، فكأنه وجد نفس الذي قدمه، وهذا استعمال كثير في القرآن والسنة أن يعبر عن عوض الشيء وجزائه باسم المعوض عنه والمجازى به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يكنز المال ولا يؤدي حقه "مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمتيه يقول: أنا مالك أنا كنزك" .
وضمير الغائب في {تَجِدُوهُ} هو المفعول الأول ل"تجدوا" ومفعوله الثاني {خيرا} .
والضمير المنفصل الذي بينهما ضمير فعل، وجاز وقوعه بين معرفة ونكرة خلافا للمعروف في حقيقة ضمير الفصل من وجوب وقوعه بين معرفتين لأن أفعل من كذا أشبه المعرفة في أنه لا يجوز دخول حرف التعريف عليه.
و {خيرا} : اسم تفضيل، أي خيرا مما تقدمونه إذ ليس المراد أنكم تجدونه من جنس الخير، بل المراد مضاعفة الجزاء، لما دل عليه قوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن:17] وغير ذلك من كثير من الآيات.
وأفاد ضمير الفصل هنا لمجرد التأكيد لتحقيقه.
وعطف {وَأَعْظَمَ أَجْرًا} على {خيرا} أو هو منسحب عليه تأكيد ضمير الفصل1.
وانتصب {أجرا} على أنه تمييز نسبة لـ {أعظم} لأنه في معنى الفعل. فالتقدير: وأعظم أجره، كما تقول: وجدته منبسطا كفا، والمعنى: أن أجره خير وأعظم مما قدمتموه.
{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
يجوز أن تكون الواو للعطف فيكون معطوفا على جملة {وَمَا تُقَدِّمُوا ِلأَنْفُسِكُمْ} الخ، فيكون لها حكم التذييل إرشاد لتدارك ما عسى أن يعرض من التفريط في بعض ما أمره الله بتقديمه من خير فإن ذلك يشمل الفرائض التي يقتضي التفريط في بعضها توبة منه.
ـــــــ
1 ضمير الفصل هنا وقع بين معرفة وهو الضمير المفعول الأول لفعل "تجده"، وبين ما هو بمنزلة المعرفة وهو اسم التفضيل لشبهه بالمعرفة في امتناع دخول حرف التعرف عليه كما ذكره في "المفصل" "والكشاف" .

ويجوز أن تكون الواو للاستئناف وتكون الجملة استئنافا بيانيا ناشئا عن الترخيص في ترك بعض القيام إرشادا من الله لما يسد مسد قيام الليل الذي يعرض تركه بأن يستغفر المسلم ربه إذا انتبه من أجزاء الليل، وهو مشمول لقوله تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "ينزل ربنا كل ليلة1 إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" . وقال: "من تعار2 من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة لا بالله العلي العظيم ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له" .
وجملة {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل للآمر بالاستغفار، أي لأن الله كثير المغفرة شديد الرحمة. والمقصود في هذا التعليل الترغيب والتحريض على الاستغفار بأنه مرجو الإجابة. وفي الإتيان بالوصفين الدالين على المبالغة في الصفة إيماء إلى الوعد بالإجابة.
ـــــــ
1 هذا من المتشابه، وتأويله: أنه ينزل رضاه على عباده.
2 التعارر: التقلب على الفراش ليلا بعد نوم حين يتنبه النائم فيبدل جنبا عوض جنب.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المدثرتسمى في كتب التفسير "سورة المدثر" وكذلك سميت في المصاحف التي رأيناها ومنها كتب في القيروان في القرن الخامس.
وأريد بالمدثر النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحالة التي ندي بها، كما سميت بعض السور بأسماء الأنبياء الذين ذكروا فيها.
وأما تسمية باللفظ الذي وقع فيها، ونظيره ما تقدم في تسمية "سورة المزمل"، ومثله ما تقدم في سورة المجادلة من احتمال فتح الدال أو كسرها.
وهي مكية حكى الاتفاق على ذلك ابن عطية والقرطبي ولم يذكرها في الإتقان في السور التي بعضها مدني. وذكر الآلوسي أن صاحب التحرير "محمد بن النقيب المقدسي المتوفى سنة 698 له تفسير" ذكر قول مقاتل أو قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً} [المدثر:31] الخ نزل بالمدينة اه. ولم نقف على سنده في ذلك ولا رأينا ذلك لغيره وسيأتي.
قيل إنها ثانية السور نزولا وإنها لم ينزل قبلها إلا سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] وهو الذي جاء في حديث عائشة في الصحيحين في صفة بدأ الوحي "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ثم قالت: ثم فتر الوحي". فلم تذكر نزول وحي بعد آيات {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} .
وكذلك حديث جابر بن عبد الله من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن من طرق كثيرة وبألفاظ يزيد بعضها على بعض. وحاصل ما يجتمع من طرقه: قال جابر بن عبد الله وهو

يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه رعبا فأتيت خديجة فقلت: دثروني فدثروني زاد غير ابن شهاب من روايته وصبوا علي ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا" . قال النووي: صب الماء لتسكين الفزع. فأنزل الله {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1-5] ثم حمي الوحي وتتابع اه.
ووقع في صحيح مسلم عن جابر أنها أول القرآن سورة المدثر وهو الذي يقول في حديثه أن رسول الله يحدث عن فترة الوحي وإنما تقع الفترة بين شيئين فتقتضي وحيا نزل قبل سورة المدثر وهو ما بين في حديث عائشة.
وقد تقدم في صدر سورة المزمل قول جابر بن زيد: أن سورة القلم نزلت بعد سورة العلق وأن سورة المزمل ثالثة وأن سورة المدثر أربعة.
وقال جابر بن زيد: نزلت بعد المدثر سورة الفاتحة. ولا شك أن سورة المدثر نزلت قبل المزمل وأن عناد المشركين كان قد تزايد بعد نزول سورة المدثر فكان التعرض لهم في سورة المزمل أوسع.
وقد وقع في حديث جابر بن عبد الله في صحيح البخاري وجامع الترمذي من طريق ابن شهاب إن نزول هذه السورة كان قبل أن تفرض الصلاة.
والصلاة فرضت بعد فترة الوحي سواء كانت خمسة أو أقل وسواء كانت واجبة كما هو ظاهر قولهم: فرضت أم كانت مفروضة بمعنى مشروعة وفترة الوحي مختلف في مدتها اختلافا كثيرا فقيل كانت سنتين ونصفا، وقيل: أربعين يوما، وقيل: خمسة عشر يوما، والأصح أنها كانت أربعين يوما. فيظهر أن المدثر نزلت في السنة الأولى من البعثة وأن الصلاة فرضت عقب ذلك كما يشعر به ترتيب ابن إسحاق في سوق حوادث سيرته.
وعد أهل المدينة في عدهم الأخير الذي أرسوا عليه وأهل الشام آيها خمس وخمسين وعدها أهل البصرة والكوفة وأهل المدينة في عدهم الأول الذي رجعوا عنه ستا وخمسين.

أغراضها
جاء فيها من الأغراض تكريم النبي صلى الله عليه وسلم والأمر بإبلاغ دعوة الرسالة.
وإعلان وحدانية الله بالإلهية.
والأمر بالتطهر الحسي والمعنوي.
ونبذ الأصنام.
والإكثار من الصدقات.
والأمر بالصبر.
وإنذار المشركين بهول البعث.
وتهديد من تصدى للطعن في القرآن وزعم أنه قول البشر وكفر الطاعن نعمة الله عليه فأقدم على الطعن في آياته مع علمه بأنها حق.
ووصف أهوال جهنم.
والرد على المشركين الذين استخفوا بها وزعموا قلة عدد حفظتها.
وتحدي أهل الكتاب بأنهم جهلوا عدد حفظتها.
وتأييسهم من التخلص من العذاب.
وتمثيل ضلالهم في الدنيا.
ومقابلة حالهم بحال المؤمنين أهل الصلاة والزكاة والتصديق بيوم الجزاء.
[1-2] {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ} .
نودي النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه حالة خاصة تلبس بها حين نزول السورة وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال: "دثروني دثروني، أو قال زملوني، أو قال: زملوني" فدثروني، على اختلاف الروايات، والجمع بينها ظاهر فدثرته فنزلت {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .
وقد مضى عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] ما في هذا النداء من

التكرمة والتلطف.
و {المدثر} : اسم فاعل من تدثر، إذا لبس الدثار، فأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق كما وقع في فعل ادعى.
والدثار: بكسر الدال: الثوب الذي يلبس فوق الثوب الذي يلبس مباشرا للجسد الذي يسمى شعارا. وفي الحديث الأنصار شعار والناس دثار.
فالوصف ب {المدثر} حقيقة، وقيل هو مجاز على معنى: المدثر بالنبوة، كما يقال ارتدى بالمجد وتأزر به على نحو ما قيل في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، أي يا أيها اللابس خلعة النبوة ودثارها.
وقيام المأمور به ليس مستعملا في حقيقته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حين أوحي إليه بهذا نائما ولا مضطجعا ولا هو مأمور بأن ينهض على قدميه وإنما هو مستعمل في الأمر بالمبادرة والإقبال والتهمم بالإنذار مجازا أو كناية.
وشاع هذا الاستعمال في فعل القيام حتى صار معنى الشروع في العمل من معاني مادة القيام مساويا للحقيقة وجاء بهذا المعنى في كثير من كلامهم، وعد ابن مالك في التسهيل فعل قام من أفعال الشروع. فاستعمال فعل القيام في معنى الشروع قد يكون كناية عن لازم القيام من العزم والتهمم كما في الآية، قال في الكشاف: قم قيام عزم وتصميم.
وقد يراد المعنى الصريح مع المعنى الكنائي نحو قول مرة بن محكان التميمي من شعراء الحماسة:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة ... ضمي إليك رجال الحي والغربا
فإذا اتصلت بفعل القيام الذي هو بهذا المعنى الاستعمال جملة حصل من مجموعهما معنى الشروع في الفعل بجد وأنشدوا قول حسان بن المنذر:
على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد
وقول الشاعر، وهو من شواهد النحو ولم يعرف قائله:
فقام يذود الناس عنها بسيفه ... وقال ألا لا من سبيل إلى هند
وأفادت فاء {فَأَنذِرْ} تعقيب إفادة التحفز والشروع في الأمر بإيقاع الإنذار.

ففعل {قم} منزل منزلة اللازم، وتفريع {فَأَنذِرْ} عليه يبين المراد من الأمر بالقيام.
والمعنى: يا أيها المدثر من الرعب لرؤية ملك الوحي لا تخف وأقبل على الإنذار.
والظاهر: أن هذه الآية أول ما نزل في الأمر بالدعوة لأن سورة العلق لم تتضمن أمرا بالدعوة. وصدر سورة المزمل تضمن أنه مسبوق بالدعوة لقوله فيه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} [المزمل:15]، وقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل:11]. وإنما كان تكذيبهم بعد أن أبلغهم أنه رسول من الله إليهم وابتدئ بالأمر بالإنذار لأن الإنذار يجمع معاني التحذير من فعل شيء لا يليق وعواقبه فالإنذار حقيق بالتقديم قبل الأمر بمحامد الفعال لأن التخلية مقدمة على التحلية ودرء المفاسد مقدم جلب المصالح، ولأن غالب أحوال الناس يومئذ محتاجة إلى الإنذار والتحذير.
ومفعول {أنذر} محذوف لإفادة العموم، أي أنذر الناس كلهم وهم يومئذ جميع الناس ما عدا خديجة رضي الله عنها فإنها آمنت فهي جديرة بالبشارة.
[3] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} .
انتصب {ربك} على المفعولية لفعل {كبر} قدم على عامله إفادة الاختصاص، أي لا تكبر غيره، وهو قصر إفراد، أي دون الأصنام.
والواو عطفت جملة {رَبَّكَ فَكَبِّرْ} على جملة {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2].
ودخلت الفاء على "كبر" إيذانا بشرط محذوف يكون "كبر" جوابه، وهو شرط عام إذ لا دليل على شرط مخصوص وهيئ لتقدير الشرط بتقدم المفعول. لأن تقديم المعمول قد ينزل منزلة الشرط كقول النبي صلى الله عليه وسلم "ففيهما فجاهد" "يعني الأبوين".
فالتقدير: مهما يكن شيء فكبر ربك.
والمعنى: أن لا يفتر عن الإعلان بتعظيم الله وتوحيده في كل زمان وكل حال وهذا من الإيجاز. وجوز ابن جني أن تكون الفاء زائدة قال: هو كقولك زيدا فاضرب، تريد: زيدا اضرب.
وتكبير الرب تعظيمه ففعل "كبر" يفيد معنى نسبة مفعوله إلى أصل مادة اشتقاقه وذلك من معاني صيغة فعل، أي أخبر عنه بخبر التعظيم، وهو تكبير مجازي بتشبيه الشيء المعظم بشيء كبير في نوعه بجامع الفضل على غيره في صفات مثله.

فمعنى {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} : صف ربك بصفات التعظيم، وهذا يشمل تنزيهه عن النقائص فيشمل توحيده بالإلهية وتنزيهه عن الولد، ويشمل وصفه بصفات الكمال كلها.
ومعنى "كبر": كبره في اعتقادك: وكبره بقولك تسبيحا وتعليما. ويشمل هذا المعنى أن يقول الله أكبر لأنه إذا قال هذه الكلمة أفاد وصف الله بأنه أكبر من كل كبير، أي أجل وأنزه من كل جليل، ولذلك جعلت هذه الكلمة افتتاحا للصلاة.
وأحسب أن في ذكر التكبير إيماء إلى شرع الصلاة التي أولها التكبير وخاصة اقترانه بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] فإنه إيماء إلى شرع الطهارة، فلعل ذلك إعداد لشرع الصلاة، ووقع في رواية معمر عن الزهري عند مسلم أن قال: وذلك قبل أن تفرض الصلاة. فالظاهر أن الله فرض عليه الصلاة عقب هذه السورة وهي غير الصلوات الخمس فقد ثبت أنه صلى في المسجد الحرام.
[4] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} .
هو في النظم مثل نظم {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي لا تترك تطهير ثيابك.
وللثياب إطلاق صريح وهو ما يلبسه اللابس، وإطلاق كنائي فيكنى بالثياب عن ذات صاحبها كقول عنترة:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه
كناية عن طعنه بالرمح
وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف وإزالة النجاسات وإطلاق مجازي وهو التزكية قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33].
والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معا فتحصل أربعة معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك. وقد وردت أحاديث في ذلك يقوي بعضها بعضا وأقواها ما رواه الترمذي "إن الله نظيف يحب النظافة" . وقال: هو غريب.
والطهارة لجسده بالأولى.

ومناسبة التطهير بهذا المعنى لأنه يعطف على {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} لأنه لما أمر بالصلاة أمر بالتطهر لها لأن الطهارة مشروعة للصلاة.
وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلا في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه.
والمعنى المركب من الكنائي والمجازي هو الأعلق بإضافة النبوة عليه. وفي كلام العرب: فلان نقي الثياب. وقال غيلان بن سلمة الثقفي:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
وأنشدوا قول أبي كبشة وينسب إلى امرئ القيس:
ثياب عوف طهارى نقية ... وأوجههم بيض المسافر غران
ودخول الفاء على فعل {فطهر} كما تقدم عند قوله: {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} .
وتقديم {ثيابك} على فعل "طهر" للاهتمام به في الأمر بالتطهير.
[5] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} .
{الرجز} : يقال بكسر الراء وضمها وهما لغتان فيه والمعنى واحد عند جمهور أهل اللغة. وقال أبو العلية والربيع والكسائي: الرجز بالكسر العذاب والنجاسة والمعصية، وبالضم الوثن. ويحمل الرجز هنا على ما يشتمل الأوثان وغيرها من آكل الميتة والدم.
وتقديم {الرجز} على فعل "اهجر" للاهتمام مهيع الأمر بتركه.
والقول في {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} كالقول في {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} .
والهجر: ترك المخالطة وعدم الاقتراب من الشيء. والهجر هنا كناية عن ترك التلبس بالأحوال الخاصة بأنواع الرجز لكل نوع بما يناسبه في عرف الناس.
والأمر بهجر الرجز يستلزم أن لا يعبد الأصنام وأن ينفي عنها الإلهية.
[6] {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} .
مناسبة عطف {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} على الأمر بهجر الرجز أن المن في العطية كثير من خلق أهل الشرك فلما أمره الله بهجر الرجز نهاه عن أخلاق أهل الرجز نهيا يقتضي

الأمر بالصدقة والإكثار منها بطريق الكناية فكأنه قال: وتصدق وأكثر من الصدقة ولا تمنن، أي لا تعد ما عطيته كثيرا فتمسك عن الازدياد فيه، أو تتطرق إليك ندامة على ما أعطيت.
والسين والتاء في قوله: {تَسْتَكْثِرُ} للعد، أي بعد ما أعطيته كثيرا.
وهذا من بديع التأكيد لحصول المأمور به جعلت الصدقة كالحاصلة، أي لأنها من خلقه صلى الله عليه وسلم إذ كان أجود الناس وقد عرف بذلك من قبل رسالته لأن الله هيأه لمكارم الأخلاق فقد قالت له خديجة في حديث بدء الوحي "إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم". ففي هذه الآية إيماء إلى التصديق، كما كان فيها إيماء إلى الصلاة، ومن عادة القرآن الجمع بين الصلاة والزكاة.
والمن: تذكير المنعم المنعم عليه بإنعامه.
والاستكثار: عد الشيء كثيرا، أي لا تستعظم ما تعطيه.
وهذا النهي يفيد تعميم كل استكثار كيفما كان ما يعطيه من الكثرة. وللأسبقين من المفسرين تفسيرات لمعناه {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} ليس شيء منها بمناسب، وقد أنهاها القرطبي إلى حد عشر.
و {تَسْتَكْثِرُ} جملة في وضع في موضع الحال من ضمير {تَمْنُنْ} وهي حال مقدورة.
[7] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} .
تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم على ما تحمل ما يلقاه من أذى المشركين وعلى مشاق الدعوة.
والصبر: ثبات النفس وتحملها المشاق والآلام ونحوها.
ومصدر الصبر وما يشتق منه يتضمن معنى التحمل للشيء الشاق.
ويعدى فعل الصبر إلى اسم الذي يتحمله الصابر بحرف "على"، يقال: صبر على الأذى. ويتضمن معنى الخضوع للشيء الشاق فيعدي إلى اسم ما يتحمله الصابر باللام. ومناسبة المقام ترجح إحدى التعديتين، فلا يقال: اصبر على الله، ويقال: اصبر على حكم الله، أو لحكم الله. فيجوز أن تكون اللام في قوله: {لِرَبِّكَ} لتعدية فعل الصبر على تقدير مضاف. أي اصبر لأمره وتكاليف وحيه كما قال {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} في

سورة الطور [48] وقوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} في سورة الإنسان [24] فيناسب نداءة ب {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] لأنه تدثر من شدة وقع رؤية الملك، وترك ذكر المضاف لتذهب النفس إلى كل ما هو من شأن المضاف إليه مما يتعلق بالمخاطب.
ويجوز أن تكون اللام للتعليل، وحذف متعلق فعل الصبر، أي اصبر لأجل ربك على كل ما يشق عليك.
وتقديم {لربك} على "اصبر" للاهتمام بالأمور التي يصبر لأجلها مع الرعاية على الفاصلة، وجعل بعضهم اللام في {لربك} لام التعليل، أي اصبر على أذاهم لأجله، فيكون في معنى: إنه يصبر توكلا على أن الله يتولى جزاءهم، وهذا مبني على أن سبب نزول السورة ما لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين.
والصبر تقدم عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} في [البقرة: 45]
وفي التعبير أن الله بوصف "ربك" إيماء إلى أن هذا الصبر بر بالمولى وطاعة له.
فهذه ست وصايا أوصى الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في مبدأ رسالته وهي من جوامع كلامه أراد الله بها تزكية رسوله وجعلها قدوة لأمته.
[8-10] {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} .
الفاء لتسبب هذا الوعيد عن الأمر بالإنذار في قوله: {فَأَنذِرْ} [المدثر:2]، أي فأنذر المنذرين وأنذرهم وقت النقر في الناقور وما يقع يومئذ بالذين انذروا فأعرضوا عن التذكرة، إذ الفاء يجب أن تكون مرتبطة بالكلام الذي قبلها.
ويجوز أن يكون معطوفا على {فَاصْبِرْ} [المدثر:7] بناء على أنه أمر بالصبر على أذى المشركين.
و {الناقور} : البوق الذي ينادى به الجيش ويسمى الصور وهو قرن كبير، أو شبهه ينفخ فيه النافخ لنداء ناس يجتمعون إليه من جيش ونحوه، وقال خفاف بن ندبة:
إذا ناقورهم يوم تبدى ... أجاب الناس من غرب وشرق
ووزنه فاعول وهو زنة لما يقع به الفعل من النقر وهو صوت اللسان مثل الصفير

فقوله نقر، أي صوت، أي صوت مصوت. وتقدم ذكر الصور في سورة الحاقة.
و"إذا" اسم زمان أضيف إلى جملة {نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} وهو ظرف وعامله ما دل عليه قوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} لأنه من قوة فعل، أي عسر الأمر على الكافرين.
وفاء {فذلك} لجزاء "إذا" لأن "إذا" يتضمن معنى شرط.
والإشارة إلى مدلول "إذا نقر"، أي فذلك الوقت يوم عسير.
و {يومئذ} بدل من اسم الإشارة وقع لبيان اسم الإشارة على نحو ما يبين بالاسم المعروف ب"ال" في نحو {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2].
ووصف اليوم بالعسير باعتبار ما يحصل فيه من العسر على الحاضرين فيه، فهو وصف مجازي عقلي. وإنما العسير ما يقع فيه من الأحداث.
و {عَلَى الْكَافِرِينَ} متعلق ب {عسير} .
ووصف اليوم ونحوه من أسماء الزمان بصفات أحداثه مشهور في كلامهم، قال السموأل، أو الحارثي:
وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر معلومة وحجول
وإنما الغرر و الحجول مستعارة لصفات لقائهم العدو في أيامهم. وفي المقامة الثلاثين لا عقد هذا العقد المبجل، في هذا اليوم الأخر المحجل، إلا الذي جال وجاب، وشب في الكدية وشاب وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} في سورة فصلت [16].
و {غَيْرُ يَسِيرٍ} تأكيد لمعنى {عسير} بمرادفه. وهذا من غرائب الاستعمال كما يقال: عاجلا غير آجل، قال طالب بن أبي طالب:
فليكن المغلوب غير الغالب ... وليكن المسلوب غير السالب
وعليه من غير التأكيد قوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام:140] {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:56]. وأشار الزمخشري إلى أن فائدة هذا التأكيد يشعر به لفظ {غير} من المغايرة فيكون تعريضا بأن له حالة أخرى، وهي اليسر، أي على المؤمنين، ليجمع بين وعيد الكافرين وإغاظتهم، وبشارة المؤمنين.

[11-16] {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} .
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا}
لما جرى ذكر الكافرين في قوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المدثر: 9-10]. وأشير إلى ما يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من الكافرين بقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] انتقل الكلام إلى ذكر زعيم من زعماء الكافرين ومدبر مطاعنهم في القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} الخ. استئناف يؤذن بأن حدثا كان سببا لنزول هذه الآية عقب الآيات التي قبلها، وذلك حين فشا في مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاوده الوحي بعد فترة وأنه أمر بالإنذار، ويدل على هذا ما رواه ابن إسحاق أنه اجتماع نفر من قريش فيهم أبو لهب، وأبو سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، والعصي بن وائل، والمطعم بن عدي. فقالوا: إن وفود العرب ستقدم عليكم في الموسم وهم يتساءلون عن أمر محمد وقد اختلفتم في الإخبار عنه. فمن قائل يقول: مجنون وآخر يقول: كاهن، وآخر يقول: شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسموا محمد باسم واحد تجتمعون عليه وتسميه العرب به فقام رجل منهم فقال: شاعر، فقال الوليد بن المغيرة: سمعت كلام أبي الأبرص يعني عبيد بن الأبرص وأمية بن أبي الصلت، وعرفت الشعر كلهو وما يشبه كلام محمد كلام شاعر، فقالوا: كاهن فقال الوليد: ما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه. والكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط، فقام آخر فقال: مجنون، فقال الوليد: لقد عرفنا الجنون فإن المجنون يخنق فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، فقالوا: ساحر، قال الوليد: لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده، وانصرف الوليد إلى بيته فدخل عليه أبو جهل فقال: ما لك يا أبا عبد شمس أصبأت? فقال الوليد: فكرت في أمر محمد وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: سحر جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته فقال ابن إسحاق: فأنزل الله في الوليد بن المغيرة قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} الآيات.

وعن أبي نصر القشيري أنه قال: قيل بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول كفار مكة: أنت ساحر فوجد من ذلك غما وحم فتدثر بثيابه فقال الله تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2].
وأيا ما كان فقد وقع الاتفاق على أن هذا القول صدر عن الوليد بن المغيرة وأنه المعني بقوله تعالى: {وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} فإن كان قول الوليد صدر منه بعد نزول صدر هذه السورة فجملة {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} مستأنفة استئنافا ابتدائيا ولمناسبة ظاهرة، وإن كان قول الوليد هو سبب نزول السورة، كان متصلا بقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] على أنه تعليل للأمر بالصبر بأن الله يتولى جزاء هذا القائل، وما بينهما اعتراض، ويؤيد هذا أن ابتداء الوحي كان في رمضان وأن فترة الوحي دامت أربعين يوما على الأصح سواء نزل وحي بين بدء الوحي وفترته مدة أيام، أو لم ينزل بعد بدئه شيء ووقعت فترته فيكون قد أشرف شهر ذي القعدة على الانصرام فتلك مدة اقتراب الموسم فاخذ المشركون بالاستعداد لما يقولونه للوفود إذا استخبروهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وتصدير الجملة بفعل {ذرني} إيماء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كان مهتما ومغتما مما اختلقه الوليد بن المغيرة، فاتصاله بقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} يزداد وضوحا.
وتقدم ما في النحو {ذرني} وكذا، من التهديد والوعيد للمذكور بعد واو المعية، في تفسير قوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} في سورة القلم [44].
وجيء بالموصول وصلته في قوله: {وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} لإدماج تسجيل كفران الوليد النعمة في الوعيد والتهديد.
وانتصب {وحيدا} على الحال من {من} الموصولة.
والوحيد: المنفرد عن غيره في مكان أو حال مما يدل عليه سياق الكلام، أو شهرة أو قصة، وهو فعيل من وحد من باب كرم وعلم، إذا انفرد.
وكان الوليد بن المغيرة يلقب في قريش بالوحيد لتوحده وتفرده باجتماع مزايا له لم تجتمع لغيره من طبقته وهو كثرة الولد وسعة المال، ومجده ومجد أبيه من قبله، وكان مرجع قريش في أمورهم لأنه كان أسن من أبي جهل وأبي سفيان، فلما اشتهر بلقب الوحيد كان هذا الكلام إيماء إلى الوليد بن المغيرة المشتهر به. وجاء هذا الوصف بعد فعل {خَلَقْتُ} ليصرف هذا الوصف عما كان مرادا به فينصرف إلى ما يصلح لأن يقارن فعل {خَلَقْتُ} أي أوجدته وحيدا عن المال والبنين والبسطة، فيغير عن غرض المدح

والثناء الذي كانوا يخصونه به، إلى غرض الافتقار إلى الله الذي هو حال كل مخلوق فتكون من قبيل قوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] الآية.
وعطف على ذلك {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً} عطف الخاص على العام.
والممدود: اسم مفعول من مد الذي بمعنى: أطال، بأن شبهت كثرة المال بسعة مساحة الجسم، أو من مد الذي بمعنى: زاد في الشيء من مثله، كما يقال: مد الوادي النهر، أي مالا مزيدا في مقداره ما يكتسبه صاحبه من المكاسب. وكان الوليد من أوسع قريش ثراء. وعن ابن عباس: كان مال الوليد بين مكة والطائف من الإبل والغنم والعبيد والجواري والجنان وكانت غلة ماله ألف دينار أي في السنة.
وامتن الله عليه بنعمة البنين ووصفهم بشهود جمع شاهد، أي حاضر، أي لا يفارقونه بل مستأنس بهم لا يشتغل باله بمغيبهم وخوف معاطب السفر عليهم فكانوا بغنى عن طلب الرزق بتجارة أو غارة، وكانوا يشهدون معه المحافل فكانوا فخرا له، قيل: كان له عشرة بنين وقيل ثلاثة عشر ابنا، والمذكور منهم سبعة، وهم: الوليد بن الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاصي، وقيس أو أبو قيس، وعبد شمس وبه يكنى. ولم يذكر ابن حزم في جمهرة الأنساب: العاصي، واقتصر على ستة.
والتمهيد: مصدر مهد بتشديد الهاء الدال على قوة المهد. والمهد: تسوية الأرض وإزالة ما يقض جنب المضطجع عليها، ومهد الصبي تسمية بالمصدر.
والتمهيد هنا مستعار لتيسير أموره ونفاذ كلمته في قومه بحيث لا يعسر عليه مطلب ولا يستعصي عليه أمر.
وأكد {مَهَّدْتُ} بمصدره على المفعولية المطلقة ليتوسل بتنكيره لإفادة تعظيم ذلك التمهيد وليس يطرد أن يكون التأكيد لرفع احتمال المجاز.
ووصف في هذه الآية بما له من النعمة والسعة لأن الآية في سياق الامتنان عليه توطئة لتوبيخه وتهديده بسوء في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة. فأما في آية سورة القلم فقد وصفه بما فيه من النقائص في قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ} [القلم:10] الخ بناء على قول من قال: إن المراد به الوليد بن المغيرة وقد علمت أنها احتمال لأن تلك الآية في مقام التحذير من شره وغدره.
و {ثم} في قوله: {ثُمَّ يَطْمَعُ} للتراخي الرتبي، أي وأعظم من ذلك أنه يطمع في

الزيادة من تلك النعم وذلك بما يعرف من يسر أموره. وهذا مشعر باستبعاد حصول المطموع فيه وقد صرح به بقوله: {كلا} .
والطمع: طلب الشيء العظيم وجعل متعلق طمعه زيادة مما جعل الله له لأنهم لم يكونوا يسندون الرزق إلى الأصنام أو لأنه طمع في زيادة النعمة غير متذكر أمها من عند الله فيكون إسناد الزيادة إلى ضمير الجلالة إدماجا بتذكيره بأن ما طمع فيه هو من عند الذي كفر هو بنعمته فأشرك به غيره في العبادة.
ولهذه النكتة عدل عن أن يقال: يطمع في الزيادة، أو يطمع أن يزاد.
و {كلا} ردع وإبطال لطمعه في الزيادة من النعم وقطع لرجائه.
والمقصود إبلاغ هذا إليه مع تطمين النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوليد سيقطع عنه مدد الرزق لئلا تكون نعمته فتنة لغيره من المعاندين فيغريهم حاله بأن عنادهم لا يضرهم لأنهم لا يحسبون حياة بعد هذه كما حكى الله من قول موسى عليه السلام: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88].
وفي هذا الإبطال والردع إيذان بأن كفران النعمة سبب لقطعها قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. ولهذا قال الشيخ ابن عطاء الله من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها.
{إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} .
يجوز أن تكون هذه الجملة تعليلا للردع والإبطال، أي لأن شدة معاندته لآياتنا كانت كفرانا للنعمة فكانت سببا لقطعها عنه إذ قد تجاوز حد الكفر إلى المناواة والمعاندة فإن الكافر يكون منعما عليه على المختار وهو قول الماتريدي والمعتزلة خلافا للأشعري، واختار المحققون أنه خلاف لفظي.
ويجوز أن تكون مستأنفة ويكون الوقف عند قوله تعالى: {كلا} .
والعنيد: الشديد العناد وهو المخالفة للصواب وهو فعيل من: عند يعند كضرب، إذا نازع وجادل الحق البين.
وعناده: هو محاولته الطعن في القرآن ومحاولته للتمويه بأنه سحر، أو شعر، أو كلام

كهانة، مع تحققه بأنه ليس في شيء من ذلك كما أعلن به لقريش، قبل أن يلومه أبو جهل ثم أخذه بأحد تلك الثلاثة، وهو أن يقول: هو سحر، تشبثا بأن فيه خصائص الشعر من التفريق بين المرء ومن هو شديد الصلة.
[17-25] {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ، يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} .
جملة {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} معترضة بين {إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} وبين {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} ، قصد بهذا الاعتراض تعجيل الوعيد له مساءة له وتعجيل المسرة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} مبينة لجملة {إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} فهي تكملة وتبيين لها.
والإرهاق: الإتعاب وتحميل ما لا يطاق، وفعله رهق كفرح، قال تعالى: {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} في سورة الكهف [73].
والصعود: العقبة الشديدة التصعد الشاقة على الماشي وهي فعول مبالغة من صعد، فإن العقبة صعدة، فإذا كانت عقبة أشد تصعدا من العقبات المعتادة قيل لها: صعود.
وكأن أصل هذا الوصف أن العقبة وصفت بأنها صاعدة على طريقة المجاز العقلي ثم جعل ذلك الوصف اسم جنس لها.
وقوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} تمثيل لضد الحالة المجملة في قوله: {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} ، أي سينقلب حاله من حال راحة وتنعم إلى حالة سوأى في الدنيا ثم إلى العذاب الأليم في الآخرة، وكل ذلك إرهاق له.
قيل: إنه طال به النزع فكانت تتصاعد نفسه ثم لا يموت وقد جعل له من عذاب النار ما أسفر عنه عذاب الدنيا.
وقد وزع وعيده على ما تقتضيه أعماله فإنه لما ذكر عناده وهو من مقاصده السيئة الناشئة عن محافظته على رئاسته وعن حسده النبي صلى الله عليه وسلم وذلك من الأغراض الدنيوية عقب بوعيده بما يشمل عذاب الدنيا ابتداء. ولما ذكر طعنه في القرآن بقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} وأنكر أنه وحي من الله بقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} أردف بذكر عذاب الآخرة بقوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26].

وعن النبي صلى الله عليه وسلم "أن صعودا جبل في جهنم يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا" . رواه الترمذي وأحمد عن أبي سعيد الخدري. وقال الترمذي: هو حديث غريب. فجعل الله صفة صعود علما على ذلك الجبل في جهنم. وهذا تفسير بأعظم ما دل عليه قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} .
وجملة {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} إلى آخرها بدل من جملة {إِنَّهُ كَانَ ِلأَيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:16] بدل اشتمال.
وقد وصف حاله في تردده وتأمله بأبلغ وصف. فابتدئ بذكر تفكيره في الرأي الذي سيصدر عنه وتقديره.
ومعنى {فَكَّرَ} أعمل فكره وكرر نظر رأيه ليبتكر عذرا يموهه ويروجه على الدهماء في وصف القرآن بوصف كلام الناس ليزيل منهم اعتقاد أنه وحي أو حي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
و {قَدَّرَ} جعل قدرا لما يخطر بخاطره أن يصف به القرآن ليعرضه على ما يناسب ما ينحله القرآن من أنواع كلام البشر أو ما يسم به النبي صلى الله عليه وسلم من الناس المخالفة أحوالهم للأحوال المعتادة في الناس مثال ذلك أن يقول في نفسه، نقول: محمد مجنون، ثم يقول: المجنون يخنق ويتخالج ويوسوس وليس محمد كذلك، ثم يقول في نفسه: هو شاعر، فيقول في نفسه: لقد عرفت الشعر وسمعت كلام الشعراء، ثم يقول في نفسه: كاهن، فيقول في نفسه: ما كلامه بزمزمة كاهن ولا بسجعه، ثم يقول في نفسه: نقول هو ساحر فإن السحر يفرق بين المرء وذويه ومحمد يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فقال للناس: نقول إنه ساحر. فهذا معنى {قَدَّرَ} .
وقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} كلام معترض بين {فَكَّرَ} و {قَدَّرَ} وبين {ثُمَّ نَظَرَ} وهو إنشاء شتم مفرع على الإخبار عنه بأنه فكر وقدر لأن الذي ذكر يوجب الغضب عليه.
فالفاء لتفريع ذمه عن سيئ فعله ومثله في الاعتراض قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43-44].
والتفريع لا ينافي الاعتراض لأن الاعتراض وضع الكلام بين كلامين متصلين مع قطع النظر عما تألف منه الكلام المعترض فإن ذلك يجري على ما يتطلبه معناه. والداعي إلى الاعتراض هو التعجيل بفائدة الكلام للاهتمام بها. ومن زعموا: أن الاعتراض لا يكون

بالفاء فقد توهموا.
و {قتل} : دعاء عليه بأن يقتله قاتل، أي دعاء عليه بتعجيل موته لأن حياته حياة سيئة. وهذا الدعاء مستعمل في التعجيب من ماله والرثاء له كقوله: {قَاتَلَهُمْ اللَّهُ} [التوبة30] وقولهم: عدمتك، وثكلته أمه، وقد يستعمل مثله في التعجيب من حسن الحال يقال: قاتله الله ما أشجعه. وجعله الزمخشري كناية عن كونه بلغ مبلغا يحسده عليه المتكلم حتى يتمنى له الموت. وأنا أحسب أن معنى الحسد غير ملحوظ وإنما ذلك مجرد اقتصار على ما في تلك الكلمة من التعجب أو التعجيب لأنها صارت في ذلك كالأمثال. والمقام هنا متعين للكناية عن سوء حاله لأن ما قدره ليس مما يغتبط ذوو الألباب على إصابته إذ هو قد ناقض قوله ابتداء إذ قال: ما هو بعقد السحرة ولا نفثهم وبعد أن فكر قال {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} فناقض نفسه.
وقوله: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} تكيد لنظيره المفرع بالفاء. والعطف ب {ثم} يفيد أن جملتها أرقى رتبة من التي قبلها في الغرض المسوق له الكلام. فإذا كان المعطوف بها عين المعطوف عليه أفادت أن معنى المعطوف عليه ذو درجات متفاوتة مع أن التأكيد يكسب الكلام قوة. وهذا كقوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4-5].
و {كَيْفَ قَدَّرَ} في الموضعين متحد المعنى وهو اسم استفهام دال على الحالة التي يبينها متعلق {كيف} .
والاستفهام موجه إلى سامع غير معين يستفهم المتكلم سامعه استفهاما عن حالت تقديره، وهو استفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالإنكار على وجه المجاز المرسل.
و {كيف} في محل نصب على الحال مقدمة على صاحبها لأن لها الصدر وعاملها {قَدَّرَ} .
وقوله: {ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} عطف على {وقَدَّرَ} وهي ارتقاء متوال فيما اقتضى التعجيب من حاله والإنكار عليه. فالتراخي تراخي رتبة لا تراخي زمن لأن نظره وعبوسه وبسره وإدباره واستكباره مقارنة لتفكيره وتقديره.
والنظر هنا: نظر العين ليكون زائدا على ما أفاده {فَكَّرَ وَقَدَّرَ} . والمعنى: نظر في وجوه الحاضرين يستخرج آرائهم في انتحال ما يصفون به القرآن.
وعبس: قطب وجهه لما استعصى عليه ما يصف به القرآن ولم يجد مغمزا مقبولا.

و {بسر} : معناه كلح وجهه وتغير لونه خوفا وكمدا حين لم يجد ما يشفي غليله من مطعن في القرآن لا ترده العقول، قال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، َظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} في سورة القيامة [24-25].
والإدبار: هنا يجوز أن يكون مستعارا لتغيير التفكير الذي كان يفكره ويقدره يائسا من أن يجد ما فكر في انتحاله فانصرف إلى الاستكبار والأنفة من أن يشهد للقرآن بما فيه من كمال اللفظ والمعنى.
ويجوز أن يكون مستعارا لزيادة إعراضه عن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} حكاية عن فرعون في سورة النازعات [22].
وصفت أشكاله التي تشكل بها لما أجهد نفسه لاستنباط ما يصف به القرآن وذلك تهكم بالوليد.
وصيغة الحصر في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} مشعرة بأن استقراء أحوال القرآن بعد السبر والتقسيم أنتج له أنه من قبيل السحر، فهو قصر تعيين لأحد الأقوال التي جالت في نفسه لأنه قال: ما هو بكلام شاعر ولا بكلام كاهن ولا بكلام مجنون، كما تقدم في خبره.
ووصف هذا السحر بأنه مأثور، أي مروي عن الأقدمين، يقول هذا ليدفع به اعتراضا يرد عليه أن أقوال السحرة وأعمالهم ليست مماثلة للقرآن ولا لأحوال الرسول فزعم أنه أقوال سحرية غير مألوفة.
وجملة {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} بدل اشتمال من جملة {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} بأن السحر يكون أقوالا وأفعالا فهذا من السحر القولي. وهذه الجملة بمنزلة النتيجة لما تقدم، لأن مقصوده من ذلك كله أن القرآن ليس وحيا من الله.
وعطف قوله: {فقال} بالفاء لأن هذه المقالة لما خطرت بباله بعد اكتداد فكره لم يتمالك أن نطق بها فكان نطقه بها حقيقا بأن يعطف بحرف التعقيب.
[26-30] {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} .
جملة {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}

[المدثر:17] إلى آخر الآيات فذكر وعيده بعذاب الآخرة.
ويجوز أن تكون بدلا من جملة {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} 1. والإصلاء: جعل الشيء صاليا، أي مباشرا حر النار. وفعل صلي يطلق على إحساس حرارة النار، فيكون لأجل التدفئ كقول الحارث بن حلزة:
فتنورت نارها من بعيد ... بخزازى أيان منك الصلاء
أي أنت بعيد من التدفئ بها وكما قال حميد بن ثور:
لا تصطلي النار إلا مجمرا أرجا ... قد كسرت في يلنجوج له وقصا
ويطلق على الاحتراق بالنار قال تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} في سورة أبي لهب [3] وقال {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى} في سورة الليل [14-15]، وقال {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} في سورة النساء [10] والأكثر إذا ذكر لفعل هذه المادة مفعول ثان من أسماء النار أن يكون الفعل بمعنى الإحراق كقوله تعالى: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} في سورة النساء [30]. ومنه قوله هنا {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} .
وسقر: علم لطبقة من جهنم، عن ابن عباس: أنه الطبق السادس من جهنم. قال ابن عطية: سقر هو الدرك السادس من جهنم على ما روي اه. واقتصر عليه ابن عطية. وجرى كلام جمهور المفسرين بما يقتضي أنهم يفسرون سقر بما يرادف جهنم.
وسقر ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه اسم بقعة من جهنم أو اسم جهنم وقد جرى ضمير سقر على التأنيث في قوله تعالى: {لا تُبْقِي} إلى قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} . وقيل سقر معرب نقله في الإتقان عن الجواليقي ولم يذكر الكلمة المعربة ولا من أية لغة هو.
و {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} جملة حالية من {سَقَرُ} ، أي سقر التي حالها لا ينبئك به منبئ وهذا تهويل لحالها.
و {مَا سَقَرُ} في محل مبتدأ وأصله سقر ما، أي ما هي، فقدم {ما} لأنه اسم استفهام وله الصدارة.
فإن {ما} الأولى استفهامية. والمعنى: أي شيء يدريك، أي يعلمك.
ـــــــ
1 في المطبوعة: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} والمثبت من "الكشاف" (4/183) ط. دار الفكر.

و {ما} الثانية استفهامية في محل رفع خبر عن {سَقَرُ} .
وجملة {لا تُبْقِي} بدل اشتمال من التهويل الذي أفادته جملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} ، فإن من أهوالها أنها تهلك كل من يصلاها. والجملة خبر ثان عن سقر.
وحذف مفعول {تبقى} لقصد العموم، أي لا تبقي منهم أحدا أو لا تبقي من أجزائهم شيئا.
وجملة {وَلا تَذَرُ} عطف على {لا تُبْقِي} فهي في معنى الحال. ومعنى {لا تَذَرُ} ، أي لا تترك من يلقى فيها، أي لا تتركه غير مصلي بعذابها. وهذه كناية عن إعادة حياته بعد إهلاكه كما قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
و {لَوَّاحَةٌ} : خبر ثالث عن {سَقَرُ} . و {لَوَّاحَةٌ} فعالة، من اللوح وهو تغيير الذات من ألم ونحوه وقال الشاعر، وهو من شواهد الكشاف ولم أقف على قائله:
تقول ما لاحك يا مسافر ... يا ابنة عمي لاحني الهواجر
والبشر: يكون جمع بشرة، وهي جلد الإنسان، أي تغير ألوان الجلود فتجعلها سوداء، ويكون اسم جمع للناس لا واحد له من لفظه.
وقوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} خبر رابع عن {سَقَرُ} من قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} .
ومعنى {عليها} على حراستها، ف"على" للاستعلاء المجازي بتشبيه التصرف والولاية بالاستعلاء كما يقال: فلان على الشرطة، أو على بيت المال، أي يلي ذلك والمعنى: أن خزنة سقر تسعة عشر ملكا.
وقال جمع: إن عدد تسعة عشر: هم نقباء الملائكة الموكلين بجهنم.
وقيل: تسعة عشر صنفا من الملائكة وقيل تسعة عشر صفا. وفي تفسير الفخر : ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوها: أحدها قول أهل الحكمة إن سبب فساد النفس هو القوى الحيوانية والطبيعية أما الحيوانية فهي الخمس الظاهرة والخمس الباطنة، والشهوة والغضب، فمجموعها اثنتا عشرة. وأما القوى الطبيعية فهي: المجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولدة، فهذه سبعة، فتلك تسعة عشرة. فلما كان منشأ الآفات هو هذه التسع عشرة كان عدد الزبانية كذلك اه.
والذي أراه أن الملائكة التسعة عشر موزعون على دركات سقر أو جهنم لكل درك

ملك فلعل هذه الدركات معين كل درك منها لأهل شعبة من شعب الكفر، ومنها الدرك الأسفل الذي ذكره الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} في سورة النساء [145] فإن الكفر أصناف منها إنكار وجود الله، ومنها الوثنية، ومنها الشرك بتعدد الآلهة، ومنها عبادة الكواكب، ومنها عبادة الشياطين والجن، ومنها عبادة الحيوان، ومنها إنكار رسالة الرسل، ومنها المجوسية المانوية والمزدكية والزندقة، وعبادة البشر مثل الملوك، والإباحية ولو مع إثبات الإله الواحد.
وفي ذكر هذا العدد تحد لأهل الكتابين يبعثهم على تصديق القرآن إذ كان ذلك مما استأثر به علماؤهم كما سيأتي قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر:31].
وقرأ الجمهور {تِسْعَةَ عَشَرَ} بفتح العين من {عشر} . وقرأ أبو جعفر {تسعة عشر} بسكون العين من {عشر} تخفيفا لتوالي الحركات فيما هو كالاسم الواحد. ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم هذه القراءة فإنها متواترة.
[31] {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} .
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} .
روى الطبري عن ابن عباس وجابر بن زيد إن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم1 أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم? فقال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} ، أي ما جعلناهم رجالا فيأخذ كل رجل رجلا، فمن ذا يغلب الملائكة اه.
وفي "تفسير القرطبي" عن السدي: أن أبا الأشد بن كلدة الجمحي قال مستهزئا: لا
ـــــــ
1 الدهم بفتح الدال وسكون الهاء: الجماعة الكثيرة، ويقال: الدهماء.

يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة وبمنكبي الأيسر تسعة ثم تمرون إلى الجنة، وقيل: قال الحارث بن كلدة: أنا أكفيكم سبعة عشرة واكفوني أنتم اثنين، يريد التهكم مع إظهار فرط قوته بين قومه.
فالمراد من {أَصْحَابَ النَّارِ} خزنتها، وهم المتقدم ذكرهم بقوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30].
والاستثناء من عموم الأنواع، أي ما جعلنا خزنة النار من نوع إلا من نوع الملائكة.
وصيغة القصر تفيد قلب اعتقاد أبي جهل وغيره ما توهموه أو تظاهروا بتوهمه أن المراد تسعة عشر رجلا فطمع أن يخلص منهم هو وأصحابه بالقوة فقد قال أبو الأشد بن أسيد الجمحي: لا يبلغون ثوبي حتى أجهضهم عن جهنم، أي أنحيهم.
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} تتميم في إبطال توهم المشركين حقارة عدد خزنة النار، وهو كلام جار على تقدير الأسلوب الحكيم إذ الكلام قد أثار في النفوس تساؤلا عن فائدة جعل خزنة جهنم تسعة عشر وهلا كانوا آلافا ليكون مرآهم أشد هولا على أهل النار، أو هلا كانوا ملكا واحدا فإن قوى الملائكة تأتي كل عمل يسخرها الله له، فكان جواب هذا السؤال: أن هذا العدد قد أظهر لأصناف الناس مبلغ فهم الكفار للقرآن. وإنما حصلت الفتنة من ذكر عددهم في الآية السابقة. فقوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} تقديره: وما جعلنا ذكر عدتهم إلا فتنة، ولاستيقان الذين أوتوا الكتاب، وازدياد الذين آمنوا إيمانا، واضطراب الذين في قلوبهم مرض فيظهر ضلال الضالين واهتداء المهتدين. فالله جعل عدة خزنة النار تسعة عشر لحكمة أخرى غير ما ذكر هنا اقتضت ذلك الجعل يعلمها الله.
والاستثناء مفرغ لمفعول ثان لفعل {جعلنا} تقديره جعلنا عدتهم فتنة لا غير، ولما كانت الفتنة حالا من أحوال الذين كفروا لم تكن مراد منها ذاتها بل عروضها للذين كفروا فكانت حالا لهم.
والتقدير: ما جعلنا ذكر عدتهم لعلة وغرض إلا لغرض فتنة الذين كفروا؛ فانتصب {فتنة} على أنه مفعول ثان لفعل {جعلنا} على الاستثناء المفرغ، وهو قصر قلب للرد على الذين كفروا إذ اعتقدوا أن عدتهم أمر هين.
وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الخ. علة ثانية لفعل {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا

فِتْنَةً} . ولولا أن كلمة {فِتْنَةً} منصوبة على المفعول به لفعل {جَعَلْنَا} . لكان حق {لِيَسْتَيْقِنَ} أن يعطف على {فِتْنَةً} ولكنه جاء في نظم الكلام متعلقا بفعل {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً} .
ويجوز أن يكون {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} متعلقا بفعل {جَعَلْنَا} وب {فِتْنَةً} ، على وجه التنازع فيه، أي ما جعلنا عدتهم للذين كفروا إلا فتنة لهم إذ لم يحصل لهم من ذكرها إلا فساد التأويل، وتلك العدة مجعولة لفوائد أخرى لغير الذين كفروا الذين يفوضون معرفة ذلك إلى علم الله وإلى تدبر مفيد.
والاستيقان: قوة اليقين، فالسين والتاء فيه للمبالغة. والمعنى: ليستيقنوا صدق القرآن حيث يجدون هذا العدد مصدقا لما في كتبهم.
والمراد ب {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اليهود حين يبلغهم ما في القرآن متن مثل ما في كتبهم أو أخبارهم. فكان اليهود يترددون على مكة في التجارة ويتردد عليهم أهل مكة للميرة في خيبر وقريظة ويثرب فيسأل بعضهم بعضا عما يقول محمد صلى الله عليه وسلم ويود المشركون لو يجدون عند اليهود ما يكذبون به أخبار القرآن ولكن ذلك لم يجدوه ولو وجدوه لكان أيسر ما يطعنون به في القرآن.
والاستيقان من شانه أن يعقبه الإيمان إذا صادف عقلا بريئا من عوارض الكفر كما وقع لعبد الله بن سلام وقد لا يعقبه الإيمان لمكابرة أو حسد أو إشفاق من فوات جاه أو مال كما كان شأن كثير من اليهود الذين قال الله فيهم {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] ولذلك اقتصرت الآية على حصول الاستيقان لهم.
روى الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل يعلم نبيكم عدد خزنة النار?. قالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا. فجاء رجل إلى النبي فقال: يا محمد غلب أصحابكم اليوم، قال: "وبم غلبوا" قال سألهم اليهود: هل يعلم نبيكم عدد خزنت النار، قال: "فما قالوا?" قال: قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا، قال: "أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون?" فقالوا: قالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا إلى أن قال جابر: فلما جاءوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنه جهنم? قال. "هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة عشرة وفي مرة تسع بإشارة الأصابع" قالوا: نعم إلخ. وليس في هذا ما يلجىء إلى اعتبار هذه الآية نازلة بالمدينة كما روي عن قتادة لأن المراجعة بين

المشركين واليهود في أخبار القرآن مألوفة من وقت كون النبي صلى الله عليه وسلم في مكة.
قال أبو بكر ابن العربي في العارضة : حديث جابر صحيح والآية التي فيها {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] مكية بإجماع، فكيف تقول اليهود هذا ويدعوهم النبي للجواب وذلك كان بالمدينة، فيحتمل أن الصحابة قالوا: لا نعلم، لأنهم لم يكونوا قرأوا الآية ولا كانت انتشرت عندهم أي لأنهم كانوا من الأنصار الذين لم يتلقوا هذه الآية من سورة المدثر لبعد عهد نزولها بمكة والذين كانوا يجتمعون باليهود ويسألهم اليهود هم الأنصار. قال: ويحتمل أن الصحابة لم يمكنهم لأن يعينوا أن التسعة عشر هم الخزنة دون أن يعينهم الله حتى صرح به النبي صلى الله عليه وسلم اه. فقد ظهر مصداق قوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بعد سنين من وقت نزوله.
ومعنى {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} أنهم لا يؤمنون به في جملة ما يؤمنون به من الغيب فيزداد في عقولهم جزئي في جزئيات حقيقية إيمانه بالغيب، فهي زيادة كمية لا كيفية لأن حقيقة الإيمان التصديق والجزم وذلك لا يقبل الزيادة، وبمثل هذا يكون تأويل كل ما ورد في زيادة الإيمان من أقوال الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.
وقوله: {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} عطف على {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، أي لينتفي عنهم الريب فلا تعتروهم شبهة من بعد علمه لأنه إيقان عن دليل. وإن كان الفريقان في العمل بعلمهم متفاوتين، فالمؤمنون علموا وعملوا، والذين أوتوا الكتاب علموا وعاندوا فكان علمهم حجة عليهم وحسرة في نفوسهم.
والمقصود من ذكره التمهيد لذكر مكابرة الذين في قلوبهم مرض والكافرين في سوء فهمهم لهذه العدة تمهيدا بالتعريض قبل التصريح، لأنه إذا قيل {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} شعر الذين في قلوبهم مرض والكافرون بأنهم لما ارتابوا في ذلك فقد كانوا دون مرتبة الذين أوتوا الكتاب لأنهم لا ينازعون في أن الذين أوتوا الكتاب أرجح منهم عقولا وأسد قولا، ولذلك عطف عليه {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} ، أي ليقولوا هذا القول إعرابا عما في نفوسهم من الطعن في القرآن غير عالمين بتصديق الذين أوتوا الكتاب.
واللام لام العاقبة مثل التي في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8].

والمرض في القلوب: هو سوء النية في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم الذين لم يزالوا في تردد بين أن يسلموا وأن يبقوا على الشرك مثل الأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة، وليس المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون لأن المنافقين ما ظهروا إلا في المدينة بعد الهجرة والآية مكية.
و {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ} استفهام إنكاري فإن "ما" استفهامية، و"ذا" أصله اسم إشارة فإذا وقع بعد "ما" أو "من" الاستفهاميتين أفاد معنى الذي، فيكون تقديره: ما الأمر الذي أراده الله بهذا الكلام في حال أنه مثل، والمعنى: لم يرد الله هذا العدد الممثل به، وقد كني بنفي إرادة الله العدد عن إنكار أن يكون الله قال ذلك، والمعنى: لم يرد الله العدد الممثل به فكنوا بنفي إرادة الله وصف هذا العدد عن تكذيبهم أن يكون هذا العدد موافقا للواقع لأنهم ينفون فائدته وإنما أرادوا تكذيب أن يكون هذا وحيا من عند الله.
والإشارة بهذا إلى قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30].
و {مثلا} منصوب على الحال من هذا، والمثل: الوصف، أي بهذا العدد وهو تسعة عشر، أي ما الفائدة في هذا العدد دون غيره مثل عشرين.
والمثل: وصف الحالة العجيبة، أي ما وصفه من عدد خزنة النار كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد:15] الآية.
وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} في سورة البقرة [26].
{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
اسم الإشارة عائد إلى ما تضمنه الكلام المتقدم من قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} إلى قوله: {مثلا} بتأويل ما تضمنه الكلام، بالمذكور، أي مثل ذلك الضلال الحاصل للذين في قلوبهم مرض وللكافرين، والحاصل للذين أوتوا الكتاب بعد أن استيقنوا فلم يؤمنوا يضل الله من يشاء أن يضله من عباده، مثل ذلك الهدى الذي اهتداه المؤمنون فزادهم إيمانا مع إيمانهم يهدي الله من يشاء.
والغرض من هذا التشبيه تقريب المعنى المعقول وهو تصرف الله تعالى بخلق أسباب الأحوال العارضة للبشر، إلى المعنى المحسوس المعروف في واقعة الحال، تعليما

للمسلمين وتنبيها للنظر في تحصيل ما ينفع نفوسهم.
ووجه الشبه هو السببية في اهتداء من يهتدي وضلال من يضل، في أن كلا من المشبه والمشبه به جعله الله سببا وإرادة لحكمة اقتضاها علمه تعالى فتفاوت الناس في مدى إفهامهم فيه بين مهتد ومرتاب مختلف المرتبة في ريبه، ومكابر كافر وسيء فهم كافر.
وهذه الكلمة عظيمة في اختلاف تلقي العقول للحقائق وانتفاعهم بها أو ضده بحسب اختلاف قرائحهم وفهومهم وتراكيب جبلاتهم المتسلسلة من صواب إلى مثله، أو من تردد واضطراب إلى مثله، أو من حنق وعناد إلى مثله، فانطوى التشبيه من قوله: {كذلك} على أحوال وصور كثيرة تظهر في الخارج.
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى باعتبار أنه موجد الأسباب الأصلية في الجبلات، واقتباس الأهواء وارتباط أحوال العالم بعضها ببعض، ودعوة الأنبياء والصلحاء إلى الخير، ومقاومة أيمة الضلال لتلك الدعوات. تلك الأسباب التي دلت بالضالين إلى ضلالهم وبالمهتدين إلى هداهم. وكل من خلق الله. فما على الأنفس المريدة الخير والنجاة إلا التعرض لأحد المهيعين بعد التجرد والتدبر {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286].
ومشيئة الله في ذلك تعلق علمه بسلوك المهتدين والضالين.
ومحل {كذلك} نصب بالنيابة عن المفعول المطلق لأن الجار والمجرور هنا صفة لمصدر محذوف دلت عليه الصفة، والتقدير: يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إضلالا وهديا وكذلك الإضلال والهدي. وليس هذا من قبيل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143].
وقدم وصف المفعول المطلق للاهتمام بهذا التشبيه لما يرشد إليه من تفصيل عند التدبر فيه، وحصل من تقديمه محسن الجمع ثم التقسيم إذ جاء تقسيمه بقوله: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} .
كلمة جامعة لإبطال التخرصات التي يتخرصها الضالون ومرضى القلوب عند سماع

الأخبار عن عالم الغيب وأمور الآخرة من نحو: ما هذا به أبو جهل في أمر خزنة جهنم يشمل ذلك وغيره، فلذلك كان لهذه الجملة حكم التذييل.
والجنود: جمع جند وهو اسم لجماعة الجيش واستعير هنا للمخلوقات التي جعلها الله لتنفيذ أمره لمشابهتها الجنود في تنفيذ المراد.
وإضافة رب إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إضافة تشريف، وتعريض بأن من شأن تلك الجنود أن بعضها يكون به نصر النبي صلى الله عليه وسلم. ونفي العلم هنا نفي للعلم التفصيلي بأعدادها وصفاتها وخصائصها بقرينة المقام، فإن العلم بعدد خزنة جهنم قد حصل للناس بإعلام من الله لكنهم لا يعلمون ما وراء ذلك.
{وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} .
وفيه معان كثيرة أعلاها أن يكون هذا تتمة لقوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} على أن يكون جاريا على طريقة الأسلوب الحكيم، أي أن النافع لكم أن تعلموا أن الخبر عن خزنة النار بأنهم تسعة عشر فائدته أن يكون ذكرى للبشر ليتذكروا دار العقاب بتوصيف بعض صفاتها لأن في ذكر الصفة عونا على زيادة استحضار الموصوف، فغرض القرآن الذكرى، وقد اتخذه الضالون ومرضى القلوب لهوا وسخرية ومراء بالسؤال عن جعلهم تسعة عشر ولم لم يكونوا عشرين أو مآت أو آلافا.
وضمير {هي} على هذا الوجه راجع إلى {عدتهم} .
ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكلام السابق وتأنيث ضميره لتأويله بالقصة أو الصفة أو الآيات القرآنية.
والمعنى: نظير المعنى على الاحتمال الأول.
ويحتمل أن يرجع إلى {سقر} وإنما تكون {ذكرى} باعتبار الوعيد بها وذكر أهوالها.
والقصر متوجه إلى مضاف محذوف يدل عليه السياق تقديره: وما ذكرها أو وصفها أو نحو ذلك.
ويحتمل أن يرجع ضمير {هي} إلى {جُنُودَ رَبِّكَ} والمعنى المعنى، والتقدير التقدير، أي وما ذكرها أو عدة بعضها.

وجوز الزجاج أن يكون الضمير راجعا إلى نار الدنيا، أي أنها تذكر الناس بنار الآخرة، يريد أنه من قبيل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة: 71-73]. وفيه محسن الاستخدام.
وقيل المعنى: وما عدتهم إلا ذكرى للناس ليعلموا غنى الله عن الأعوان والجند فلا يظلوا في استقلال تسعة عشر تجاه كثرة أهل النار.
وإنما حملت الآية هذه المعاني بحسن موقعها في هذا الموضع وهذا من بلاغة نظم القرآن. ولو وقعت أثر قوله: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:29] لتمحض ضمير {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى} للعود إلى سقر، وهذا من الإعجاز بمواقع جمل القرآن كما في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
وبين لفظ البشر المذكور هنا ولفظ البشر المتقدم في قوله: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} لتجنيس التام.
[32-37] { كَلاَّ وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ، إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيرًا لِلْبَشَرِ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} .
{كَلاَّ}
{كلا} حرف ردع وإبطال. والغالب أن يقع بعد كلام من متكلم واحد أو من متكلم وسامع مثل قوله تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِي} [الشعراء: 61-62] فيفيد الردع عما تضمنه الكلام المحكي قبله. ومنه قوله تعالى: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} في سورة مريم [79]، ويجوز تقديمه على الكلام إذا أريد التعجيل بالردع والتشويق إلى سماع ما بعده، وهو هنا محتمل لأن يكون إبطالا لما قبله من قولهم: فإذا أراد الله بهذا مثلا، فيكون ما بينهما اعتراضا ويكون قوله: {والقمر} ابتداء كلام فيحسن الوقوف على {كلا} . ويحتمل أن يكون حرف إبطال مقدما على الكلام الذي بعده من قوله: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} وتقديم اهتمام لإبطال ما يجيء بعده من مضمون قوله: {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} ، أي من حقهم أن ينتذروا بها فلم ينتذر أكثرهم على نحو معنى قوله: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] فيحسن أن توصل في القراءة بما بعدها.
{وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ

شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}
الواو المفتتح بها هذه الجملة واو القسم، يجوز أن يكون تذييلا لما لما قبله مؤكدا لما أفادته {كلا} من الإنكار والإبطال لمقالتهم في شأن عدة خزنة النار، فتكون جملة {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} تعليلا للإنكار الذي أفادته {كلا} ويكون ضمير {إنها} عائد إلى {سَقَرَ} [المدثر:26] أي هي جديرة بأن يتذكر بها فلذلك كان من لم يتذكر بها حقيقا بالإنكار عليه وردعه.
وجملة القسم على هذا الوجه معترضة وتعليلها، ويحتمل أن يكون القسم صدرا للكلام الذي بعده وجملة {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} جواب القسم والضمير راجع إلى {سَقَرَ} ، أي أن سقر لأعظم الأهوال، فلا تجزي في معاد ضمير {إنها} جميع الاحتمالات التي جرت في ضمير {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى} .
وهذه ثلاثة أيمان لزيادة التأكيد فإن التأكيد اللفظي إذا أكد بالتكرار يكرر ثلاث مرات غالبا، أقسم بمخلوق عظيم، وبحالين عظيمين من آثار قدرة الله تعالى.
ومناسبة القسم ب {وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} أن هذه الثلاثة تظهر بها أنوار في خلال الظلام فناسبت حالي الهدي والضلال من قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ومن قوله: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} ففي هذا القسم تلويح إلى تمثيل حال الفريقين من الناس عند نزول القرآن بحال اختراق النور في الظلمة.
وإدبار الليل: اقتراب تقضيه عند الفجر، وإسفار الصبح: ابتداء ظهور ضوء الفجر.
وكل من {إذ} و {إذا} واقعان اسمي زمان منتصبان على الحال من الليل ومن الصبح، أي أقسم به في هذه الحالة العجيبة الدالة على النظام المحكم المتشابه لمحو الله ظلمات الكفر بنور الإسلام قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1].
وقد أجريت جملة {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} مجرى المثل.
ومعنى {إحدى} أنها المتوحدة المتميزة من بين الكبر في العظم لا نظير لها كما يقال: هو أحد الرجال لا يراد: أنه واحد منهم، بل يراد: أنه متوحد فيهم بارز ظاهر، كما تقدم في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11]. وفي المثل "هذة إحدى حظيات لقمان".

وقرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب وخلف {إِذْ أَدْبَرَ} بسكون ذال {إذ} وبفتح همزة {أدبر} وإسكان داله، أقسم بالليل في حالة إدباره التي مضت وهي حالة متجددة تمضي وتحضر وتستقبل، فأي زمن اعتبر معها فهي حقيقة بأن يقسم بكونها فيه، ولذلك أقسم بالصبح إذا أسفر مع اسم الزمن المستقبل. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والكسائي وأبو جعفر {إذا دبر} بفتح الذال المعجمة من {إذا} بعدها ألف، وبفتح الدال المهملة من دبر على أنه فعل مضي مجرد، يقال: دبر: بمعنى أدبر، ومنه وصفه بالدابر في قولهم:أمس الدابر، كما يقال: قبل بمعنى أقبل، فيكون القسم بالحالة المستقبلة من إدبار الليل بعد نزول الآية، على وزان {إذا أسفر} في قراءة الجميع، وكل ذلك مستقيم فقد حصل في قراءة نافع وموافقيه تفنن في القسم.
و {الكبر} : جمع الكبرى في نوعها، جمعوه هذا الجمع على غير قياس بابه لأن فعلى حقها أن تجمع جمع سلامة على كبريات، وأما بنية فعل فإنها جمع تكسير لفعلة كغرفة وغرف، لكنهم حملوا المؤنث بالألف على المؤنث بالهاء لأنهم تأولوه بمنزلة اسم للمصيبة العظيمة ولم يعتبروه الخصلة الموصوفة بالكبر، أي أنثى الأكبر فلذلك جعلوا ألف التأنيث التي فيه بمنزلة هاء التأنيث فجمعوه كجمع المؤنث بالهاء من وزن فعلة ولم يفعلوا ذلك في أخواته مثل عظمى.
وانتصب {نذيرا} على الحال من ضمير {إنها} ، أي إنها لعظمى العظائم في حال إنذارها للبشر وكفى بها نذيرا.
والنذير: المنذر، وأصله وصف بالمصدر لأن {نذيرا} جاء في المصادر كما جاء النكير، والمصدر إذا وصف به أو أخبر به يلزم الإفراد والتذكير، وقد كثر الوصف ب"النذير" حتى صار بمنزلة الاسم للمنذر.
وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} بدل مفصل من مجمل من قوله: {للبشر} ، وأعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كقوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف:75]، وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 27-28] وقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا ِلأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة:114]. والمعنى: إنها نذير لمن شاء أن يتقدم إلى الإيمان والخير لينتذر بها، ولمن شاء أن يتأخر عن الإيمان والخير فلا يرعوي بنذارتها لأن التقدم مشي إلى جهة الأمام فكأن المخاطب يمشي إلى جهة الداعي إلى الإيمان وهو كناية عن قبول ما يدعو

إليه، وبعكسه التأخر، فحذف متعلق {يتقدم} و {يتأخر} لظهوره من السياق.
ويجوز أن يقدر: لمن شاء أن يتقدم إليها، أي إلى سقر بالإقدام على الأعمال التي تقدمه إليها، أو يتأخر عنها بتجنب ما من شأنه أن يقربه منها.
وتعليق {نذيرا} بفعل المشيئة إنذار لمن لا يتذكر بأن عدم تذكره ناشئ عن عدم مشيئته فتبعته عليه لتفريطه على نحو قول المثل يداك أوكتا وفوك نفخ، وقد تقدم في سورة المزمل [19] قوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} . وفي ضمير {منكم} التفات من الغيبة إلى الخطاب لأن مقتضى الظاهر أن يقال: لمن شاء منهم، أي من البشر.
[38-48] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ، فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} .
استئناف بياني للسامع عقبى الاختيار الذي في قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] أي كل إنسان رهن بما كسب من التقدم أو التأخر أو غير ذلك فهو على نفسه بصيرة ليكسب ما يفضي به إلى النعيم أو إلى الجحيم.
ورهينة: خبر عن {كُلُّ نَفْسٍ} وهو بمعنى مرهونة.
والرهن: الوثاق والحبس ومنه الرهن في الدين، وقد يطلق على الملازمة والمقارنة، ومنه: فرسا رهان، وكلا المعنيين يصح الحمل عليه هنا على اختلاف الحال، وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت من المحقوق به، فالرهن مشعر بالأخذ بالشدة ومنه رهائن الحرب الذين يأخذهم الغالب من القوم المغلوبين ضمانا لئلا يخيس القوم بشروط الصلح وحتى يعطوا ديات القتلى فيكون الانتقام من الرهائن.
وبهذا يكون قوله: {كُلُّ نَفْسٍ} مرادا به خصوص أنفس المنذرين من البشر فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة، أي قرينة ما تعطيه مادة رهينة من معنى الحبس والأسر.
والباء للمصاحبة لا للسببية.

وظاهر هذا أنه كلام منصف وليس بخصوص تهديد أهل الشر.
و {رهينة} : مصدر بزون فعيلة كالشتيمة فهو من المصادر المقترنة بهاء كهاء التأنيث مثل الفعولة والفعالة، وليس هو من باب فعيل الذي هو وصف بمعنى المفعول مثل قتيلة، إذ لو قصد الوصف لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا جرى على موصوفه كما هنا، والإخبار بالمصدر للمبالغة على حد قول مسور بن زيادة الحارثي:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل
ألا تراه أثبت الهاء في صفة المذكر وإلا لما كان موجب للتأنيث.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} استثناء منقطع.
و {أَصْحَابَ الْيَمِينِ} : هم أهل الخير جعلت علاماتهم في الحشر بجهات اليمين في مناولة الصحف وفي موقف الحساب وغير ذلك. فاليمين هو جهة أهل الكرامة في الاعتبار كجهة يمين العرش أو يمين مكان القدس يوم الحشر لا يحيط بها وصفنا وجعلت علامة أهل الشر الشمال في تناول صحف أعمالهم وفي مواقفهم وغير ذلك.
وقوله: {فِي جَنَّاتٍ} يجوز أن يكون متعلقا بقوله: {يَتَسَاءَلُونَ} قدم للاهتمام، و {يَتَسَاءَلُونَ} حال من {أَصْحَابَ الْيَمِينِ} وهو مناط التفصيل الذي جيء لأجله بالاستثناء المنقطع.
ويجوز أن يكون في جنات خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم في جنات. والجملة استئناف بياني لمضمون جملة الاستثناء ويكون يتساءلون حالا من الضمير المحذوف.
ومعنى {يَتَسَاءَلُونَ} يجوز أن يكون على ظاهر صيغة التفاعل للدلالة على صدور الفعل من جانبين، أي يسأل أصحاب اليمين بعضهم بعضا عن شأن المجرمين، وتكون جملة {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} بيانا لجملة {يَتَسَاءَلُونَ} . وضمير الخطاب في قوله: {سَلَكَكُمْ} يؤذن بمحذوف. والتقدير: فيسألون المجرمين ما سلككم في سقر، وليس التفاتا، أو يقول بعض المسؤولين لأصحابهم جوابا لسائليهم قلنا لهم: ما سلككم في سقر.
ويجوز أن تكون صيغة التفاعل مستعملة في معنى تكرير الفعل أي يكثر سؤال كل أحد منهم سؤالا متكررا أو هو من تعداد السؤال لأجل تعداد السائلين.

قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ} في أول سورة النساء: [1] هو كقولك تداعينا. ونقل عنه أيضا أنه قال هنا إذا كان المتكلم مفردا يقال: دعوت، وإذا كان المتكلم متعددا يقال: تداعينا، ونظيره، رميته، وترامينا. ورأيت الهلال وتراءيناه ولا يكون هذا تفاعلا من الجانبين اه. ذكره صاحب الكشاف في سورة النساء، أي هو فعل من جانب واحد ذي عدد كثير؛ وعلى هذا يكون مفعول {يَتَسَاءَلُونَ} محذوفا يدل عليه قوله: {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} .
والتقدير: يتساءلون المجرمين عنهم، أي عن سبب حصولهم في سقر، ويدل عليه بيان جملة {يَتَسَاءَلُونَ} بجملة {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ، فإن ما سلككم في بيان للتساؤل.
وأصل معنى سلكه أدخله يبن أجزاء شيء حقيقة ومنه جاء سلك العقد، واستعير هنا للزج بهم، وتقدم في سورة الحجر [12] قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} وفي قوله: {يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} في سورة الجن [17] والمعنى: ما زج بكم في سقر.
فإن كان السؤال على حقيقته والاستفهام مستعملا في أصل معناه كان الباعث على السؤال:
إما نسيان كانوا علموه في الدنيا من أسباب الثواب والعقاب فيبقى عموم {يتساءلون} الراجع إلى أصحاب اليمين وعموم المجرمين على ظاهره، فكل من أصحاب اليمين يشرف على المجرمين من أعالي الجنة فيسألهم عن سبب ولوجهم النار فيحصل جوابهم وذلك إلهام من الله ليحمده أهل الجنة على ما أخذوه به من أسباب نجاتهم مما أصاب المجرمين ويفرحوا بذلك.
وإما أن يكون سؤالا موجها من بعض أصحاب اليمين إلى ناس كانوا يظنونهم من أهل الجنة فرأوهم في النار من المنافقين أو المرتدين بعد موت أصحابهم، فيكون المراد بأصحاب اليمين بعضهم وبالمجرمين بعضهم وهذا مثل ما في قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ} الآيات في سورة الصافات [27-28] وقوله فيها: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ} إلى قوله: {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:51-55].
وإن كان السؤال ليس على حقيقته وكان الاستفهام مستعملا في التنديم، أو التوبيخ فعموم أصحاب اليمين وعموم المجرمين على حقيقته.

وأجاب المجرمون بذكر أسباب الزج بهم في النار لأنهم ما ظنوا إلا ظاهر الاستفهام، فذكروا أربعة أسباب هي أصول الخطايا وهي: أنهم لم يكونوا من أهل الصلاة فحرموا أنفسهم من التقرب إلى الله.
وأنهم لم يكونوا من المطعمين المساكين وذلك اعتداء على ضعفاء الناس بمنعهم حقهم في المال.
وأنهم كانوا يخوضون خوض المعهود الذي لا يعدو عن تأييد الشرك وأذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وأنهم كذبوا بالجزاء فلم يتطلبوا ما ينجيهم. وهذا كناية عن عدم إيمانهم، سلكوا بها طريق الإطناب المناسب لمقام التحسر والتلهف على ما فات، فكأنهم قالوا لأنا لم نكن من المؤمنين لأن أهل الإيمان اشتهروا بأنهم أهل الصلاة، وبأنهم في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، وبأنهم يؤمنون بالآخرة وبيوم الدين ويصدقون الرسل وقد جمعها قوله تعالى في سورة البقرة [2-4] {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} .
وأصل الخوض الدخول في الماء، ويستعار كثيرا للمحادثة المتكررة، وقد اشتهر إطلاقه في القرآن على الجدال واللجاج غير المحمود قال تعالى: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91] وغير ذلك، وقد جمع الإطلاقين قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68].
وباعتبار مجموع الأسباب الأربعة في جوابهم فضلا عن معنى الكناية، لم يكن في الآية ما يدل للقائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
ويوم الدين: يوم الجزاء والجزاء.
و {اليقين} : اسم مصدر يقن كفرح، إذا علم علما لا شك معه ولا تردد.
وإتيانه مستعار لحصوله بعد إن لم يكن حاصلا، شبه الحصول بعد الانتفاء بالمجيء بعد المغيب.
والمعنى: حتى حصل لنا العلم بأن ما كنا نكذب به ثابت، فقوله: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} على هذا الوجه غاية لجملة {نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} .

ويطلق اليقين أيضا على الموت لأنه معلوم حصوله لكل حي فيجوز أن يكون مرادا هنا كما في قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. فتكون جملة {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} غاية للجمل الأربع التي قبلها من قوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى {بِيَوْمِ الدِّينِ} .
والمعنى: كنا نفعل ذلك مدة حياتنا كلها.
وفي الأفعال المضارعة في قوله {لم نك، ونخوض، ونكذب} إيذان بأن ذلك ديدنهم ومتجدد منهم طول حياتهم.
وفي الآية إشارة إلى أن المسلم الذي أضاع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مستحق حظا من سقر على مقدار إضاعته وعلى ما أراد الله من معادلة حسناته وسيئاته، وظواهره وسرائره، وقبل الشفاعة وبعدها.
وقد حرم الله هؤلاء المجرمين الكافرين أن تنفعهم الشفاعة فعسى أن تنفع الشفاعة المؤمنين على أقدارهم.
وفي قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} إيماء إلى ثبوت الشفاعة لغيرهم يوم القيامة على الجملة وتفصيلها في صحاح الأخبار.
وفاء {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} تفريع على قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ، أي فهم دائمون في الارتهان في سقر.
[49-51] {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَة، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} .
تفريع للتعجيب من إصرارهم على الإعراض على ما فيه تذكرة على قوله: {وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].
وجيء باسم التذكرة الظاهر دون أن يؤتى بضميره نحو: أن يقال: عنها معرضين، لئلا يختص الإنكار والتعجيب بإعراضهم عن تذكرة الإنذار بسقر، بل المقصود التعميم لإعراضهم عن كل تذكرة وأعظمها تذكرة القرآن كما هو المناسب للإعراض قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27].
و {مَا لَهُمْ} استفهام مستعمل في التعجيب من غرابة حالهم بحيث تجدر أن يستفهم

عنها المستفهمون وهو مجاز مرسل بعلاقة الملازمة، و {لهم} خبر عن "ما" الاستفهامية. والتقدير: ما ثبت لهم، و {مُعْرِضِينَ} حال من ضمير {لهم} ، أي يستفهم عنهم في هذه الحالة العجيبة.
وتركيب: ما لك ونحوه، لا يخلو من حال تلحق بضميره مفردة أو جملة نحو {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} في سورة يوسف [11]. وقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة الانشقاق. وقوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} في سورة الصافات [154] وسورة القلم [36]. {عَنِ التَّذْكِرَةِ} متعلق ب {مُعْرِضِينَ} .
وشبهت حالة إعراضهم المتخيلة بحالة فرار حمر نافرة مما ينفرها.
والحمر: جمع حمار، وهو الحمار الوحشي، وهو شديد النفار إذا أحس بصوت القانص وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس.
وقد كثر وصف النفرة وسرعة السير والهرب بالوحش من حمر أو بقر وحش إذا أحسسن بما يرهبنه كما قال لبيد في تشبيه راحلته في سرعة سيرها بوحشية لحقها الصياد:
فتوجست رز الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها
وقد كثر ذلك في شعر العرب في الجاهلية والإسلام كما في معلقة طرفة، ومعلقة لبيد، ومعلقة الحارث، وفي أراجيز الحجاج ورؤية ابنه وفي شعر ذي الرمة.
والسين والتاء في {مُسْتَنْفِرَة} للمبالغة في الوصف مثل: استكمل واستجاب واستعجب واستسخر واستنبط، أي نافرة نفارا قويا فهي تعدو بأقصى سرعة العدو.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {مُسْتَنْفِرَة} بفتح الفاء، أي استنفرها مستنفر، أي أنفرها، فهو من استنفر المتعدي بمعنى أنفره. وبناء الفعل للنائب يفيد الإجمال ثم التفصيل بقوله: {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} .
وقرأها الجمهور بكسر الفاء، أي استفرت هي مثل: استجاب فيكون جملة {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} بيانا لسبب نفورها.
وفي تفسير الفخر عن أبي علي الفارسي قال محمد بن سلام: سألت أبا سوار الغنوي وكان أعرابيا فصيحا فقلت: كأنهم حمر ماذا فقال: مستنفرة: بفتح الفاء فقلت له:

إنما هو فرت من قسورة. فقال: أفرت? قلت: نعم قال: فمستنفرة إذن، فكسر الفاء.
و {قسورة} قيل هو اسم جمع قسور وهو الرامي، أو هو جمع على خلاف القياس إذ ليس قياس فعلل أن يجمع على فعللة. وهذا تأويل جمهور المفسرين عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهما فيكون التشبيه جاريا على مراعاة الحالة المشهورة في كلام العرب.
وقيل: القسورة مفرد، وهو الأسد، وهذا مروي عن أبي هريرة وزيد بن أسلم وقال ابن عباس: إنه الأسد بالحبشية، فيكون اختلاف قول ابن عباس اختلافا لفظيا، وعنه: أنه أنكر أن يكون قسور اسم الأسد، فلعله أراد أنه ليس في أصل العربية. وقد عده ابن السبكي في الألفاظ الواردة في القرآن بغير لغة العرب في أبيات ذكر فيها ذلك، وقال ابن سيده: القسور الأسد والقسورة كذلك، أنثوه كما قالوا: أسامة، وعلى هذا فهو تشبيه مبتكر لحالة إعراض مخلوط برعب مما تضمنته قوارع القرآن فاجتمع في هذه الجملة تمثيلان.
وإيثار لفظ {قسورة} هنا لصلاحيته للتشبيهين مع الرعاية على الفاصلة.
[52] {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً} .
إضراب انتقالي لذكر حالة أخرى من أحوال عنادهم إذ قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وغيرهما من كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نؤمن لك حتى يأتي إلى كل رجل منا كتاب فيه من الله إلى فلان بن فلان، وهذا من أفانين تكذيبهم بالقرآن أنه منزل من الله.
وجمع "صحف" إما لأنهم سألوا أن يكون كل أمر أو نهي تأتي الواحد منهم في شأن صحيفة باسمه وكانوا جماعة متفقين جمع لذلك فكأن الصحف جميعها جاءت لكل امرئ منهم.
والمنشرة: المفتوحة المقروءة أي لا نكتفي بصحيفة مطوية لا نعلم ما كتب فيها و {منشرة} مبالغة في منشورة. والمبالغة واردة على ما يقتضيه فعل "نشر" المجرد من كون الكتاب مفتوحا واضحا من الصحف المتعارفة. وفي حديث الرجم فنشروا التوراة.
[53] {كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} .
{كَلَّا} إبطال لظاهر كلامهم ومرادهم منه وردع عن ذلك، أي لا يكون لهم ذلك.

ثم أضرب على كلامهم بإبطال آخر بحرف الإضراب فقال: {بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} أي ليس ما قالوه إلا تنصلا فلو أنزل عليهم كتاب ما آمنوا وهم لايخافون الآخرة، أي لا يؤمنون بها فكني عن عدم الإيمان بالآخرة بعدم الخوف منها، لأنهم لو آمنوا بها لخافوها إذ الشأن أن يخاف عذابها إذا كانت إحالتهم الحياة الآخرة أصلا لتكذيبهم بالقرآن.
[54-56] {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} .
{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} .
{كَلَّا} ردع ثان مؤكد للردع الذي قبله، أي لا يؤتون صحفا منشورة ولا يوزعون إلا بالقرآن.
وجملة {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} تعليل للردع عن سؤالهم أن تنزل عليهم صحف منشرة، بأن هذا القرآن تذكرة عظيمة، وهذا كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50-51]. فضمير {إنه} للقرآن، وهو معلوم من المقام، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. وتنكير {تذكرة} للتعظيم.
وقوله: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} تفريع على أنه تذكرة ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} في سورة المزمل [19].
وهذا تعريض بالترغيب في التذكر، أي التذكر طوع مشيئتكم فإن شأتم فتذكروا.
والضمير الظاهر في {ذكره} يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {إنه} وهو القرآن فيكون على الحذف والإيصال وأصله: ذكر به.
ويجوز أن يعود إلى الله تعالى وإن لم يتقدم لاسمه ذكر في هذه الآيات لأنه مستحضر من المقام على نحو قوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [المزمل:19].
وضمير {شاء} راجع إلى {من} ، أي من أراد أن يتذكر ذكر بالقرآن وهو مثل قوله آنفا {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] وقوله في سورة المزمل [19] {فَمَنْ

شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} .
وهو إنذار للناس بأن التذكر بالقرآن يحصل إذا شاؤوا التذكر به. والمشيئة تستدعي التأمل فيما يخلصهم من المؤاخذة على التقصير وهم لا عذر لهم في إهمال ذلك، وقد تقدم في سورة المزمل.
وجملة {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} معترضة في آخر الكلام لإفادة تعلمهم بهذه الحقيقة، والواو اعتراضية.
والمعنى: أن تذكر من شاءوا أن يتذكروا لا يقع إلا مشروطا بمشيئة الله أن يتذكروا. وقد تكرر هذا في القرآن تكررا ينبه على أنه حقيقة واقعة كقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29] وقال هنا: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} فعلمنا أن للناس مشيئة هي مناط التكاليف الشرعية والجزاء في الدنيا والآخرة وهي المعبر عنها عند أهل التحقيق من المتكلمين بالكسب كما حققه الأشعري، وعند المعتزلة بالقدرة الحادثة، وهما عبارتان متقاربتان، وأن لله تعالى المشيئة العظمى التي لا يمانعها مانع ولا يقسرها قاسر، فإذا لم يتوجه تعلقها إلى إرادة أحد عباده لم يحصل له مراد.
وهذه المشيئة هي المعبر عنها بالتوفيق إذا تعلقت بإقدار العبد على الداعية إلى الطاعة وامتثال الوصايا الربانية، وبالخذلان إذا تعرضت بتركه في ضلالة الذي أوبقته فيه آراؤه الضالة وشهواته الخبيثة الموبقة له في الإعراض عن شرائع الله ودعوة رسله، وإذا تعلقت بانتشال العبد من أوحال الضلال وبإنارة سبيل الخير لبصيرته سميت لطفا مثل تعلقها بإيمان عمر بن الخطاب وصلاحه بعد أن كان في عناد، وهذا تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
وهذا حاصل ما يتمخض من الجمع بين أدلة الشريعة المقتضية أن الأمر لله، والأدلة التي اقتضت المؤاخذة على الضلال، وتأويلها الأكبر في قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 78-79] ولله في خلقه سر جعل بينهم وبين كنهه حجابا، ورمز إليه بالوعد والوعيد ثوابا وعقابا.

وقرأ نافع ويعقوب {وَمَا يَذْكُرُونَ} بمثناة فوقية على الالتفات، وقرأه الجمهور بتحتية على الغيبة، فالمعنى: أنهم يغلب عليهم الاستمرار من عدم الذكرى بهذه التذكرة إلا أن يشاء الله التوفيق لهم ويلطف بهم فيخلق انقلابا في سجية من يشاء توفيقه واللطف به. وقد شاء الله ذلك فيمن آمنوا قبل نزول هذه الآية ومن آمنوا بعد نزولها.
{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} .
جملة واقعة في موقع التعليل لمضمون جملة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} تقوية للتعريض بالترغيب في التذكر والتذكر يفضي إلى التقوى.
فالمعنى: فعليكم بالتذكر واتقوا الله تعالى لأن الله هو أهل التقوى.
وتعريف جزأي الجملة في قوله: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} يفيد قصر مستحق انتقاء العباد إياه على الله تعالى وأن غيره لا يستحق أن يتقى. ويتجنب غضبه كما قال {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37].
فأما أن يكون القصر قصرا إضافيا للرد على المشركين الذين يخشون غضب الأصنام ويطلبون رضاها أو يكون قصرا ادعائيا لتخصيصه تعالى بالتقوى الكاملة الحق وإلا فإن بعض التقوى مأمور بها كتقوى حقوق ذوي الأرحام في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] وقد يقال: إن ما ورد الأمر به من التقوى في الشريعة راجع إلى تقوى الله، وهذا من متممات القصر الادعائي.
وأهل الشيء: مستحقه.
وأصله: أنه ملازم الشيء وخاصته وقرابته وزوجه ومنه {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} [هود: 81].
ومعنى أهل المغفرة: أن المغفرة من خصائصه وأنه حقيق بأن يغفر لفرط رحمته وسعة كرمه وإحسانه ومنه بيت الكشاف في سورة المؤمن:
ألا يا ارحموني يا إله محمد ... فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل
وهذا تعريض بالتحريض للمشركين أن يقلعوا عن كفرهم بأن الله يغفر لهم ما أسلفوه قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [لأنفال: 38]، وبالتحريض للعصاة أن يقلعوا عن الذنوب قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].

روى الترمذي عن سهيل عن ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية "قال الله تعالى "أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له" قال الترمذي: حسن غريب. وسهيل ليس بالقوي، وقد انفرد بهذا الحديث عن ثابت.
وأعيدت كلمة {أهل} في الجملة المعطوفة دون أن يقال: والمغفرة، إلى اختلاف المعنى بين أهل الأول وأهل الثاني على طريقة إعادة فعل وأطيعوا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59].

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القيامةعنونت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة ب"سورة القيامة" لوقوع القسم بيوم القيامة في أولها ولم يقسم به فيما نزل قبلها من السور.
وقال الآلوسي: يقال لها "سورة لا أقسم"، ولم يذكرها صاحب الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت الحادية والثلاثين في عداد نزول سور القرآن. نزلت بعد سورة القارعة وقبل سورة الهمزة.
وعدد آيها عند أهل العدد من معظم الأمصار تسعا وثلاثين آية، وعدها أهل الكوفة أربعين.
أغراضها
اشتملت على إثبات البعث.
والتذكير بيوم القيامة وذكر أشراطه.
وإثبات الجزاء على الأعمال التي عملها الناس في الدنيا.
واختلاف أحوال أهل السعادة وأهل الشقاء وتكريم أهل السعادة.
والتذكير بالموت وأنه أول مراحل الآخرة.
والزجر عن إيثار منافع الحياة العاجلة على ما أعد لأهل الخير من نعيم الآخرة.

وفي "تفسير أبن عطية" عن عمر أبن الخطاب ولم يسنده: أنه قال "من سأل عن القيامة أو أراد أن يعرف حقيقة وقوعها فليقرأ هذه السورة".
وأدمج في آيات {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} إلى {وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16-17] لأنها في أثناء نزول هذه السورة كما سيأتي.
[1-4] {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} .
افتتاح السورة بالقسم مؤذن بأن ما سيذكر بعده أمر مهم لتستشرف له نفس السامع كما تقدم في عدة مواضع من أقسام القرآن.
وكونوا القسم بيوم القيامة براعة استهلال لأن غرض السورة بيوم القيامة.
وفيه أيضا كون المقسم به هو المقسم على أحواله تنبيها على زيادة مكانته عند المقسم في قول أبي تمام:
وثناياك إنها اغريض ... ولئال تؤم وبرق وميض
كما تقدم عند قوله تعالى: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} في سورة الزخرف [1-3].
وصيغة {لا أُقْسِمُ} صيغة قسم، أدخل حرف النفي على فعل {أُقْسِمُ} لقصد المبالغة في تحقيق حرمة المقسم به بحيث يوهم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول: لا أقسم به، أي ولا أقسم بأعز منه عندي، وذلك كناية عن تأكيد القسم وتقدم عند قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} في سورة الواقعة [75].
وفيه محسن بديعي من قبيل ما يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهذا لم نذكره في ما مضى ولم يذكره أحد.
والقسم {بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} باعتباره ظرفا بما يجري فيه من عدل الله وإفاضة فضله وما يحضره من الملائكة والنفوس المباركة.
وتقد الكلام على {يَوْمِ الْقِيَامَةِ} غير مرة منها قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} في سورة البقرة [85].

وجواب القسم يؤخذ من قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} لأنه دليل الجواب إذ التقدير: لنجمع عظام الإنسان أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه.
وفي "الكشاف" قالوا أنه "أي لا أقسم" في الإمام بغير ألف وتبرأ منه بلفظ "قالوا" لأنه مخالف للموجود في المصاحف. وقد نسب إلى البزي عن أبن كثير أنه قرأ {لا أُقْسِمُ} الأول دون ألف وهي رواية عنه ذكره الشيخ علي النوري في غيث النفع ولم يذكرها الشاطبي. واقتصر أبن عطية على نسبتها إلى أبن كثير دون تقيد، فتكون اللام لام قسم. والمشهور عن أبن كثير خلاف ذلك، وعطف قوله: {ولا أُقْسِمُ} تأكيدا للجملة المعطوف عليها، وتعريف {النفس} تعريف الجنس، أي الأنفس اللوامة. والمراد نفوس المؤمنين. ووصف اللوامة مبالغة لأنها تكثر لوم صاحبها على التقصير في التقوى والطاعة. وهذا اللوم هو المعبر عنه في الاصطلاح بالمحاسبة، ولومها يكون بتفكيرها وحديثها النفسي. قال الحسن ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه على ما فات ويندم، على الشر لم فعله وعلى الخير لم لا لم يستكثر منه فهذه نفوس خيرة حقيقة أن تشرف بالقسم بها وما كان يوم القيامة إلا لكرامتها.
والمراد اللوامة في الدنيا لوما تنشأ عنه التوبة والتقوى وليس المراد لوم الآخرة إذ {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24].
ومناسبة القسم بها مع يوم القيامة إنها النفوس ذات الفوز في ذلك اليوم. وعن بعض المفسرين أن {لا أُقْسِمُ} مراد منه عدم القسم ففسر النفس اللوامة بالتي تلوم على فعل الخير.
وقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} الخ دليل على جواب القسم إذ تقدير الجواب لنجمعن عظامكم ونبعثكم للحساب.
وتعريف {الإنسان} تعريف الجنس، ووقوعه في سياق الإنكار الذي هو في معنى النفي يقتضي العموم، وهو عموم عرفي منظور فيه إلا غالب الناس يومئذ إذ كان المؤمنون قليلا. فالمعنى: أيحسب الإنسان الكافر.
وجملة {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} مركبة من حرف {أن} المفتوحة الهمزة المخففة النون التي هي أخت {إن} المكسورة.
واسم {أن} ضمير شأن محذوف.

والجملة الواقعة بعد {أن} خبر عن ضمير الشأن، فسيبويه يجعل {أن} مع اسمها وخبرها سادة مسد مفعولي فعل الظن. والأخفش يجعل {أن} مع جزئيها في مقام المفعول الأول أي لأنه مصدر ويقدر مفعولا ثانيا. وذلك أن من خواص أفعال القلوب جواز دخول "أن" المفتوحة المهمزة بعدها فيستغني الفعل ب"أن" واسمها وخبرها على مفعوليه.
وجيء بحرف {لن} الدال على تأكيد النفي لحكاية اعتقاد المشركين استحالة جمع العظام بعد رمامها وتشتتها.
قال القرطبي: نزلت في عدي بن ربيعة الصواب ابن أبي ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد حدثني عن يوم القيامة فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عدي: "لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك أو يجمع الله العظام" فنزلت هذه الآية، ألا قلت: إن سبب النزول لا يخصص الإنسان بهذا السائل.
والعظام: كناية عن الجسد كله، وإنما خصت بالذكر لحكاية أقواله: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يّس: 78] {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الاسراء: 49] {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} [النازعات:11] فهم احتجوا باستحالة قبول العظام للإعادة بعض البلى، على أن استحالة إعادة اللحم والعصب والفؤاد بالأولى. فإثبات إعادة العظام اقتضى إلى إعادة بقية الجسم مساو لإعادة العظم وفي ذلك كفاية من الاستدلال مع الإيجاز.
ثم إن كانت إعادة الخلق لجمع أجزاء أجسامهم المتفرقة من ذرات الله أعلم بها، وهو أحد قولين لعلمائنا، ففعل {نجمع} محمول على حقيقته. وإن كان البعث بخلق أجسام أخرى على سور الأجسام الفانية سواء كان خلقا مستأنفا أو مبتدأ من إعجاب الأذناب على ما ورد في بعض الأخبار وهما قولان لعلمائنا. ففعل {نجمع} مستعار للخلق الذي هو على صورة الجسم الذي بلي. ومناسبة استعارته مشاكلة أقوال المشركين التي أريد إبطالها لتجنب الدخول معهم في تصوير كيفية البعث، ولذلك لا ترى في آيات القرآن إلا إجمالها ومن ثم اختلف علماء الإسلام في كيفية إعادة الأجسام عند البعث. واختار إمام الحرمين التوقف، وآيات القرآن ورد فيها ما يصلح للأمرين.
و {بلى} حرف إبطال للنفي الذي دل عليه {لَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} فمعناه بل تجمع عظامه على اختلاف المحملين في معنى الجمع.
و {قادرين} حال من الضمير في الفعل المحذوف بعد {بلى} الذي يدل عليه قوله:

{أَلَّنْ نَجْمَعَ} ، أي بل نجمعها في حال قدرتنا على أن نسوي بنانه.
ويجوز أن يكون {بلى} إبطالا للنفيين: النفي الذي أفاده الاستفهام الإنكاري من قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ} ، والنفي الذي في مفعول {يحسب} ، وهو إبطال بزجر، أي بل ليحسبنا قادرين، لأن مفاد {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} أن لا نقدر على جمع عظامه فيكون {قادرين} مفعولا ثانيا ليحسبنا المقدر، وعدل في متعلق {قادرين} عن أن يقال: قادرين على جمع عظامه إلى قادرين على أن نسوي بنانه لأنه أوفر معنى وأوفق بإرادة إجمال كيفية البعث والإعادة.
ولمراعاة هذه المعاني عدل عن رفع: قادرون، بتقدير: نحن قادرون فلم يقرأ بالرفع.
والتسوية: تقويم الشيء وإتقان الخلق قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] وقال في هذه السورة {فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 38]. وأريد بالتسوية إعادة خلق البنان مقومة متقنة، فالتسوية كناية عن الخلق لأنها تستلزمه فإنه ما سوي إلا وقد أعيد خلقه قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2].
والبنان أصابع اليدين والرجلين أو أطراف تلك الأصابع. وهو اسم جمع بنانه.
وإذا كانت هي أصغر الأعضاء الواقعة في نهاية الجسد كانت تسويتها كناية عن تسوية جمع الجسد لظهور أن تسوية أطراف الجسد تقتضي تسوية ما قبلها كما تقول: قلعت الريح أوتاد الخيمة كناية عن قلعها الخيمة كلها فإنه قد يكنى بأطراف الشيء عن جميعه.
ومنه قولهم: لك هذا الشيء بأسره، أي مع الحبل الذي يشد به، كناية عن جمع الشيء. وكذلك قولهم: هو لك برمته، أي بحبله الذي يشد به.
[5] {بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} .
بل إضراب انتقالي إلى ذكر حال آخر من أحوال فجورهم، فموقع الجملة بعد {بل} بمنزلة الاستئناف الابتدائي للمناسبة بين معنى الجملتين، أي لما دعوا إلى الإقلاع عن الإشراك وما يستدعيه من الآثام وأنذروا بالعقاب عليه يوم القيامة كانوا مصممين على الاسترسال في الكفر.
والفجور: فعل السوء الشديد ويطلق على الكذب، ومنه وصفت اليمين الكاذبة

بالفاجرة، فيكون فجر بمعنى كذب وزنا ومعنى، فيكون قاصرا ومتعديا مثل فعل كذب. مخفف الذال روي عن ابن عباس أنه قال يعني الكافر يكذب بما أمامه. وعن ابن قتيبة: أن أعرابيا سأل عمر بن الخطاب أن يحمله على راحلة وشكا دبر راحلته فاتهمه عمر فقال الأعرابي:
ما مسها من نقب ولا دبر ... أقسم بالله أبو حفص عمر
فاغفر له اللهم إن كان فجر
قال: يعني إن كان نسبني إلى الكذب.
وقوله: {يُرِيدُ الْأِنْسَانُ} يجوز أن يكون إخبارا عما في نفوس أهل الشرك من محبة الاسترسال فيما هم عليه من الفسق والفجور.
ويجوز أن يكون استفهاما إنكاريا موافقا لسياق ما قبله من قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} .
وأعيد لفظ {الْأِنْسَانُ} إظهارا في مقام الإضمار لأن المقام لتقريعه والتعجيب في ضلاله.
وكرر لفظ {الْأِنْسَانُ} في هذه السورة خمس مرات لذلك، مع زيادة ما في تكرره في المرة الثانية والمرتين والرابعة والخامسة من خصوصية لتكون تلك الجمل الثلاث التي ورد ذكره فيها مستقلة بمفادها.
واللام في قوله: {لِيَفْجُرَ} هي اللام التي يكثر وقوعها بعد مادتي الأمر والإرادة نحو {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] وقول كثير:
أريد لأنسى حبها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل مكان
وينتصب الفعل بعدها ب"أن" مضمرة، لأن أصل هذه اللام لام التعليل ولذلك قيل هي لام التعليل وقيل زائدة. وعن سيبويه أن الفعل الذي قبل هذه اللام مقدر بمصدر مرفوع على الابتداء وأن اللام وما بعدها خبره، أي إرادتهم للفجور. واتفقوا على أن لا مفعول للفعل الواقع بعدها، ولهذا الاستعمال الخاص بها. قال النحاس سماها بعض القراء لام أن. وتقدم الكلام عليها في مواضع منها عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء [26].

وأمام: أصله اسم الذي هو قبالة من أضيف هو إليه وهو ضد خلف، ويطلق مجازا على الزمان المستقبل. قال ابن عباس: يكذب بيوم الحساب، وقال عبد الرحمن بن زيد: يكذب بما أمامه سفط.
وضمير {أمامه} يجوز أن يعود إلى الإنسان، أي في مستقبله، أي من عمره فيمضي قدما راكبا رأسه لا يقلع عما هو فيه من الفجور فينكر البعث فلا يزع نفسه عما لا يريد أن يزعها من الفجور. وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس وأصحابه.
ويجوز أن يكون {أمامه} أطلق على اليوم المستقبل مجازا. وإلى هذا نحا ابن عباس في رواية عنه وعبد الرحمن بن زيد، ويكون {يَفْجُرَ} بمعنى يكذب، أي يكذب باليوم المستقبل.
[6] {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} .
يجوز أن تكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها على أنها بدل اشتمال منها لأن إرادته الاسترسال على الفجور يشتمل على التهكم بيوم البعث أو على أنها بدل مطابق على تفسير {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة: 5] بالتكذيب بيوم البعث.
ويجوز أن تكون مستأنفة للتعجيب من حال سؤالهم عن وقت يوم القيامة وهو سؤال استهزاء لاعتقادهم استحالة وقوعه.
و {أيان} اسم استفهام عن الزمان البعيد لأن أصلها: أن آن كذا، ولذلك جاء في بعض لغات العرب مضمون النون وإنما فتحوا النون ونما فتحوا النون في اللغة الفصحى لأنهم جعلوا الكلمة كلها ظرفا فصارت {أيان} بمعنى "متى". وتقدم عند قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} في الأعراف [187]. فالمعنى أنهم يسألون تعيين وقت معروف مضبوط بعد السنين ونحوها، أو بما يتعين به عند السائلين من حدث يحل معه هذا اليوم. فهو طلب تعيين أمد لحلول اليوم يقوم فيه الناس.
[7-13] {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ، كَلَّا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} .
عدل عن أن يجابوا بتعيين وقت ليوم القيامة إلى أن يهددوا بأهواله، لأنهم لم يكونوا

جادين في سؤالهم فكان من مقتضى حالهم أن ينذروا بما يقع من الأهوال عند حلول هذا اليوم مع تضمين تحقيق وقوعه فإن كلام القرآن إرشاد وهدى ما يترك فرصة للهدي والإرشاد إلا انتهزها، وهذا تهديد في ابتدائه جاء في صورة التعيين لوقت يوم القيامة إيهاما بالجواب عن سؤالهم كأنه حمل لكلامهم على خلاف الاستهزاء على طريقة الأسلوب الحكيم. وفيه تعريض بالتوبيخ على أن فرطوا في التوقي من ذلك اليوم واشتغلوا بالسؤال عن وقته. وقريب منه ما روي أن رجلا من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة? فقال له: "ماذا أعددت لها" .
فإن هذه الأحوال المذكورة في الآية مما يقع عند حلول الساعة وقيام القيامة فكان ذلك شيئا من تعيين وقته بتعيين أشراطه.
والفاء لتفريع الجواب عن السؤال.
و {برق} قرأه الجمهور بكسر الراء، ومعناه: دهش وبهت، يقال: برق يبرق فهو برق من باب فرح فهو من أحوال الإنسان.
وإنما أسند في الآية إلى البصر على سبيل المجاز العقلي تنزيلا له منزلة مكان البرق لأنه إذا بهت شخص بصره. كما أسند الأعشى البرق إلى الأعين في قوله:
كذلك فاعل ما حييت إذا شتوا ... وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
وقرأه نافع وأبو جعفر بفتح الراء من البريق بمعنى اللمعان، أي لمع البصر من شدة شخوصه، ومضارعه يبرق بضم الراء. وإسناده إلى البصر حقيقة.
ومآل معنى القرائتين واحد وهو الكناية عن الفزع والرعب كقوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الانبياء: 97]، فلا وجه لترجيح الطبري قراءة الجمهور على قراءة نافع وأبي جعفر، لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من مقتضى التفسير.
والتعريف في {البصر} للجنس المراد به الاستغراق، أي أبصار الناس كلهم من الشدة الحاصلة في ذلك الوقت، على أنهم متفاوتون في الرعب الحاصل لهم على تفاوتهم فيما يعرضون عليه من طرائق منازلهم.
وخسوف القمر أريد به انطماس نوره انطماسا مستمرا بسبب تزلزله من مداره حول الأرض الدائرة حول الشمس بحيث لا ينعكس عليه نورها ولا يلوح للناس نيرا، وهو ما

دل عليه قوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} ، فهذا الخسوف ليس هو خسوفه المعتاد عندما تحول الأرض بين القمر وبين مسامتته الشمس.
ومعنى جمع الشمس والقمر: التصاق القمر بالشمس فتلتهمه الشمس لأن القمر منفصل من الأرض التي هي من الأجرام الدائرة حول الشمس كالكواكب ويكون ذلك بسبب اختلال الجاذبية التي وضع الله عليها النظام الشمسي.
و {إِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} ظرف متعلق ب {يَقُولُ الْأِنْسَانُ} ، وإنما قدم على عامله للاهتمام بالظرف المقصود من سياق مجاوبة قوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة:6].
وطوي التصريح بأن ذلك حلول يوم القيامة اكتفاء بذكر ما يدل عليه وهو قولهم {أَيْنَ الْمَفَرُّ} فكأنه قيل:حل يوم القيامة وحضرت أهواله يقول الإنسان يومئذ ثم تأكد بقوله إلى {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} .
و {يومئذ} ظرف متعلق ب {يقول} أيضا، أي يوم إذ يبرق البصر ويخسف القمر ويجمع الشمس والقمر، فتنوين "إذ" تنوين عوض عن الجملة المحذوفة التي دلت عليها الجملة التي أضيف إليها "إذ".
وذكر {يومئذ} مع أن قوله: {إِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} الخ مغن عنه للاهتمام ذكر ذلك اليوم الذي كانوا ينكرون وقوعه ويستهزئون فيسألون عن وقته،وللتصريح بأن حصول هذه الأحوال الثلاثة في وقت واحد.
و {الإنسان} : هو المتحدث عنه من قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} ،أي يقول الإنسان الكافر يومئذ: أين المفر.
و {المفر} : بفتح الميم وفتح الفاء مصدر،والاستفهام مستعمل في التمني،أي ليت لي فرارا في مكان نجاة، ولكنه لا يستطيعه.
و {أين} ظرف مكان.
و {كلا} ردع وإبطال لما تضمنه {أَيْنَ الْمَفَرُّ} من الطمع في أن يجد للفرار سبيلا.
و {الوزر} :المكان الذي يلجأ إليه للتوقي من إصابة مكروه مثل الجبال والحصون.
فيجوز أن يكون {كَلَّا لا وَزَرَ} كلاما مستأنفا من جانب الله تعالى جوابا لمقالة الإنسان، أي لا وزر لك، فينبغي الوقف على {المفر} . ويجوز أن يكون من تمام مقالة

الإنسان، أي يقول: أين المفر? ويجيب نفسه بإبطال طعمه فيقول {كَلَّا لا وَزَرَ} أي لا وزر لي، وذلك بأن نظر في جهاته فلم يجد إلا النار كما ورد في الحديث، فيحسن أن يوصل {أَيْنَ الْمَفَرُّ} بجملة {كَلَّا لا وَزَرَ} .
وأما قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} فهو كلام من جانب الله تعالى خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا بقرينة قوله: {يَوْمَئِذٍ} ، فهو اعتراض وإدماج للتذكير بملك ذلك اليوم.
وفي إضافة "رب" إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه ناصره يومئذ بالانتقام من الذين لم يقبلوا دعوته.
و {المستقر} : مصدر ميمي من استقر إذا قر في المكان ولم ينتقل، والسين والتاء للمبالغة في الوصف.
وتقديم المجرور لإفادة الحصر، أي إلى ربك لا إلى ملجأ آخر. والمعنى: لا ملجأ يومئذ للإنسان إلا منتهيا إلى ربك، وهذا كقوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].
وجملة {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} مستأنفة استئنافا بيانيا أثاره قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} ، أو بدل اشتمال من مضمون تلك الجملة، أي إلى الله مصيرهم وفي مصيرهم ينبأون بما قدموا وما أخروا.
وينبغي أن يكون المراد ب {الإنسان} الكافر جريا على سياق الآيات السابقة لأنه المقصود بالكلام وإن كان كل إنسان ينبأ يومئذ بما قدم وأخر من أهل الخير ومن أهل الشر قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران: 30] الآية.واختلاف مقامات الكلام يمنع من حمل ما يقع فيها من الألفاظ على محمل واحد، فإن في القرآن فنونا من التذكير لا تلزم طريقة واحدة. وهذا مما يغفل عن مراعاته بعض المفسرين في حملهم معاني الآيات المتقاربة المغزى على محامل متماثلة.
وتنبئة الإنسان بما قدم وأخر كناية عن مجازاته على ما فعله: إن خيرا فخير وإن سوءا فسوء، إذ يقال له: هذا جزاء الفعلة الفلانية فيعلم من ذلك فعلته ويلقى جزاءها، فكان الإنباء من لوازم الجزاء قال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7] ويحصل في ذلك الإنباء تقريع وفضح لحاله.
والمراد ب {ما قدم} : ما فعله و ب {ما أخر} : ما تركه مما أمر بفعله أو نهي عن

فعله في الحالين فخالف ما كلف به ومما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء "فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت" .
[14-15] {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} .
إضراب انتقالي، وهو للترقي من مضمون {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} إلى الإخبار بأن الكافر يعلم ما فعله لأنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، إذ هو قرأ كتاب أعماله فقال: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25-26]، {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف: 49]. وقال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الاسراء:14].
ونظم قوله: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} صالح لإفادة معنيين:
أولهما أن يكون {بَصِيرَةٌ} بمعنى مبصر شديد المراقبة فيكون {بَصِيرَةٌ} خبرا عن {الإنسان} . و {عَلَى نَفْسِهِ} متعلقا ب {بَصِيرَةٌ} ، أي الإنسان بصير بنفسه. وعدي بحرف {على} لتضمينه معنى المراقبة وهو معنى قوله في الآية الأخرى {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} . وهاء {بَصِيرَةٌ} تكون للمبالغة مثل هاء علامة ونسابة، أي الإنسان عليم بصير قوي العلم بنفسه يومئذ.
والمعنى الثاني: أن يكون {بَصِيرَةٌ} مبتدأ ثانيا، والمراد به قرين الإنسان من الحفظة وعلى نفسه خبر المبتدأ الثاني مقدما عليه، ومجموع الجملة خبرا عن {الإنسان} ، و {بَصِيرَةٌ} حينئذ يحتمل أن يكون معنى بصير، أي مبصر والهاء للمبالغة كما تقدم في المعنى الأول، وتكون تعدية {بَصِيرَةٌ} ب {على} لتضمينه معنى الرقيب كما في المعنى الأول.
ويحتمل أن تكون {بَصِيرَةٌ} صفة لموصوف محذوف، تقديره: حجة بصيرة، وتكون {بَصِيرَةٌ} مجازا في كونها بينة كقوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الاسراء: من الآية102]. ومنه قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الاسراء: 59] والتأنيث لتأنيث الموصوف.
وقد جرت هذه مجرى المثل لإيجازها ووفرة معانيها.

وجملة {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} في موضع الحال من المبتدأ وهو الإنسان، وهي حالة أجدر بثبوت معنى عاملها عند حصولها.
و {لو} هذه وصلية كما تقدم عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في آل عمران [91]. والمعنى: هو بصيرة على نفسه حتى في حال إلقائه معاذيره.
والإلقاء: مراد به الإخبار الصريح على وجه الاستعارة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} في سورة النحل [86].
والمعاذير: اسم جمع معذرة، وليس جمعا لأن معذرة حقه أن يجمع على معاذر، ومثل المعاذير قولهم: المناكير، اسم جمع منكر. وعن الضحاك أن معاذير هنا جمع معذار بكسر الميم وهو الستر بلغة اليمن يكون الإلقاء مستعملا في المعنى الحقيقي، أي الإرخاء. وتكون الاستعارة في المعاذير بتشبيه جحد الذنوب كذبا بإلقاء الستر على الأمر المراد حجبه.
والمعنى: أن الكافر يعلم يومئذ أعماله التي استحق العذاب عليها ويحاول أن يتعذر وهو يعلم أن لا عذر له ولو أفصح عن جميع معاذيره.
و {معاذيره} : جمع معرف بالإضافة يدل على العموم. فمن هذه المعاذير قولهم: {رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99-100] ومنها قولهم {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ} [المائدة: 19] وقولهم: {هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [لأعراف: 38] ونحو ذلك من المعاذير الكاذبة.
[16-19] {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .
هذه الآية وقعت هنا معترضة. وسبب نزولها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه يريد أن يحفظه مخافة أن يتفلت منه، أو من شدة رغبته في حفظه فكان يلاقي من ذلك شدة فأنزل الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} . قال: جمعه في صدرك ثم نقرأه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه قال فاستمع له وأنصت، ثم إن علينا لنبينه بلسانك، أي تقرأه اهـ.

فلما نزل هذا الوحي في أثناء السورة للغرض الذي نزل فيه ولم يكن سورة مستقلة كان ملحقا بالسورة وواقعا بين الآي التي نزل بينها.
فضمير {به} عائد على القرآن كما هو المعروف في آيات كثيرة.
وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} ، أي إذا قرأه جبريل عنا، فأسندت القراءة إلى ضمير الجلالة على طريقة المجاز العقلي، والقرينة واضحة.
ومعنى {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، أي أنصت إلى قراءتنا.
فضمير {قُرْآنَهُ} راجع إلى ما رجع إليه ضمير الغائب في {لا تُحَرِّكْ بِهِ} وهو القرآن بالمعنى الاسمي، فيكون وقوع هذه الآية في هذه السورة مثل وقوع {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} في سورة مريم [64]، ووقوع {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} في أثناء أحكام الزوجات في سورة البقرة [238]. قالوا: فنزلت هذه الآية في أثناء سورة القيامة: هذا ما لا خلاف فيه بين أهل الحديث وأيمة التفسير. وذكر الفخر عن القفال أنه قال: إن قوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} ليس خطابا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله: {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ} فكان ذلك للإنسان حالما ينبأ بقبائح أفعاله فيقال له: اقرأ كتابك، فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه فيقال له: لا تحرك به لسانك لتعجل به فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار، ثم أن علينا بيان مراتب عقوبته، قال القفال: فهذا وجهه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به اه.
وأقول: إن كان العقل لا يدفعه فإن الأسلوب العربي ومعاني الألفاظ تنبو عنه.
والذي يلوح لي في موقع هذه الآية هنا دون أن تقع فيما سبق نزوله من السور قبل هذه السورة: إن سور القرآن حين كانت قليلة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخشى تفلت بعض الآيات عنه فلما كثرت السور فبلغت زهاء ثلاثين حسب ما عده سعيد بن جبير في ترتيب نزول السور، صار النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن ينسى بعض آياتها، فلعله صلى الله عليه وسلم أخذ يحرك لسانه بألفاظ القرآن عند نزوله احتياطا لحفظه وذلك من حرصه على تبليغ ما أنزل إليه بنصه. فلما تكفل الله بحفظه أمره أن لا يكلف نفسه تحريك لسانه، فالنهي عن تحريك لسانه نهي رحمة وشفقة لما كان يلاقيه في ذلك من الشدة.
و"قرآن" في الموضعين مصدر بمعنى القراءة مثل الغفران والفرقان، قال حسان في

رثاء عثمان بن عفان:
يقطع الليل تسبيحا وقرآنا ولفظ
{علينا} في الموضعين للتكفل والتعهد.
و {ثم} في {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} للتراخي في الرتبة، أي التفاوت في رتبة الجملة المعطوف عليها وهي قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ، وبين رتبة الجملة المعطوفة وهي {إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . ومعنى الجملتين: أن علينا جمع الوحي وأن تقرأه وفوق ذلك أن تبينه للناس بلسانك، أي نتكفل لك بأن يكون جمعه وقرآنه بلسانك، أي عن ظهر قلب لا بكتابة تقرأها بل أن يكون محفوظا في الصدور بينا لكل سامع لا يتوقف على مراجعة ولا على إحضار مصحف من قرب أو بعد.
فالبيان هنا بيان ألفاظه وليس بيان معانيه لأن بيان معانيه ملازم لورود ألفاظه.
وقد احتج بهذه الآية بعض علمائنا الذين يرون جواز تأخير البيان عن المبين متمسكين بأن {ثم} للتراخي وهو متمسك ضعيف لأن التراخي الذي أفادته {ثم} إنما هو تراخ في الرتبة لا في الزمن، ولأن {ثم} قد عطفت مجموع الجملة ولم تعطف لفظ {بيانه} خاصة، فلو أريد الاحتجاج بالآية للزم أن يكون تأخير البيان حقا لا يخلو عنه البيان وذلك غير صحيح.
[20-21] {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} .
رجوع إلى مهيع الكلام الذي بنيت عليه السورة كما يرجع المتكلم إلى وصل كلامه بعد أن قطعه عارض أو سائل، فكلمة {كَلَّا} ردع وإبطال. يجوز أن يكون إبطالا لما سبق في قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} إلى قوله: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فأعيد {كَلَّا} تأكيدا لنظيره ووصلا للكلام بإعادة آخر كلمة منه.
والمعنى: أن مزاعمهم باطلة.
وقوله: {بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} إضراب أبطالي يفصل ما أجمله الرد ب {كَلَّا} من إبطال ما قبلها وتكذيبه، أي لا معاذير لهم في نفس الأمر ولكنهم أحبوا العاجلة، أي شهوات الدنيا وتركوا الآخرة، والكلام مشعر بالتوبيخ ومناط التوبيخ هو حب العاجلة مع نبذ الآخرة فأما لو أحب أحد العاجلة وراعى الآخرة، أي جرى على الأمر والنهي

الشرعيين لم يكن مذموما. قال تعالى فيما حكاه عن الذين أوتوا العلم من قوم قارون {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].
ويجوز أن يكون إبطالا لما تضمنه قوله: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فهو استئناف ابتدائي. والمعنى: أن معاذيرهم باطلة ولكنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، أي ثرا شهواتهم العاجلة ولم يحسبوا للآخرة حسابا.
وقرأ الجمهور {تحبون} و {تذرون} بتاء فوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في موعظة المشركين مواجهة بالتفريع لأنه ذلك أبلغ فيه. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمر ويعقوب بياء تحتية على نسق ضمائر الغيبة السابقة، والضمير عائد إلى {الإنسان} في قوله: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] جاء ضمير جمع لأن الإنسان مراد به الناس المشركون، وفي قوله: {بَلْ تُحِبُّونَ} ما يرشد إلى تحقيق معنى الكسب الذي وفق إلى بيانه الشيخ أبو الحسن الأشعري وهو الميل والمحبة للفعل أو الترك.
[22-25] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .
المراد ب {يومئذ} يوم القيامة الذي تكرر ذكره بمثل هذا ابتداء من قوله: {يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة:10] وأعيد مرتين.
والجملة المقدرة المضاف إليها "إذ"، والمعوض عنها التنوين تقديرها: يوم إذ برق البصر.
وقد حصل من هذا تخلص إلى إجمال حال الناس يوم القيامة بين أهل سعادة وأهل شقاوة.
فالوجوه الناضرة وجوه أهل السعادة والوجوه الباسرة وجوه أهل الشقاء، وذلك بين من كلتا الجملتين.
وقد علم الناي المعني بالفريقين مما سبق نزوله من القرآن كقوله في سورة عبس [40-42] {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} فعلم أن أصل أسباب السعادة الإيمان بالله وحده وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم والإيمان بما جاء به

الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن أصل أسباب الشقاء الإشراك بالله وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ونبذ ما جاء به.
وقد تضمن صدر هذه السورة ما ينبئ بذلك كقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3] وقوله: {بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة:5].
وتنكير {وجوه} للتنويع والتقسيم كقوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] وقول الشاعر وهو من أبيات كتاب الآداب ولم يعزه ولا عزاه صاحب "العباب" في شرحه:
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر
وقول أبي الطيب:
فيوما بخيل تطرد الروم عنهم ... ويوم بجود تطرد الفقر والجدبا
فالوجوه الناضرة الموصوفة بالنضرة بفتح النون وسكون الضاد هي حسن الوجه من أثر النعمة والفرح، وفعله كنصر وكرم وفرح، ولذلك يقال: ناضر ونضير ونضر، وكني بنضرة الوجوه عن فرح أصحابها ونعيمهم قال تعالى في أهل السعادة {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] لأن ما يحصل في النفس من الانفعالات يظهر أثره.
وأخبر عنها خبرا ثانيا بقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وظاهر لفظ {نَاظِرَةٌ} أنه من نظر بمعنى: عاين ببصره إعلانا بتشريف تلك الوجوه انها تنظر إلى جانب الله تعالى نظرا خاصا لا يشاركها فيه من يكون دون رتبتهم، فهذا معنى الآية بإجماله ثابت بظاهر القرآن وقد أيدتها الأخبار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة إن أناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة? قال: "هل تضارن في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوا?" قلنا: لا. قال: "فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارن في رؤيتهما" .
وفي رواية "فإنكم ترونه كذلك" وساق الحديث في الشفاعة.
وروى البخاري بن جرير بن عبد الله قال كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته وربما قال سترون ربكم عيانا" .

وروى مسلم عن صهيب بن سنان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم? فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار، فيكشف الحجاب فما يعطون شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم" .
فدلالة الآية على أن المؤمنين يرون بأبصارهم رؤية متعلقة بذات الله على الإجمال دلالة ضمنية لاحتمالها تأويلات تأولها المعتزلة بأن المقصود رؤية جلاله وبهجة قدسه التي لا تخول رؤيتها لغير أهل السعادة.
ويلحق هذا بمتشابه الصفات وإن كان مقتضاه ليس إثبات صفة، ولكنه يؤول إلى الصفة ويستلزمها بأنه آيل إلى اقتضاء جهة للذات، ومقدار يحاط بجميعه أو ببعضه، إذا كانت الرؤيا بصرية فلا جرم أن يعد الوعد برؤية أهل الجنة ربهم تعالى من قبيل المتشابه.
ولعلماء الإسلام في ذلك أفهام مختلفة، فأما صدر الأمة وسلفها فإنهم جروا على طريقتهم التي تخلقوا بها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان بما ورد من هذا القبيل على إجماله، وصرف أنظارهم عن التعمق في حقيقته وإدراجه تحت أقسام الحكم العقلي، وقد سمعوا هذا ونظائره كلها أو بعضها أو قليلا منها، فيما شغلوا أنفسهم به ولا طلبوا تفصيله، ولكنهم انصرفوا إلى ما هم أحق بالعناية وهو التهمم بإقامة الشريعة وبثها وتقرير سلطانها، مع الجزم بتنزيه الله تعالى على اللوازم العارضة لتلك الصفات، جاعلين أمامهم المرجوع إليه في كل هذا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، أو ما يقارب هذا من دلائل التنزيه الخاصة بالتنزيه عن بعض ما ورد الوصف به مثل قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] بالنسبة إلى مقامنا هذا، مع اتفاقهم على أن عدم العلم بتفصيل ذلك لا يقدح في عقيدة الإيمان، فلما نبع في علماء الإسلام تطلب معرفة حقائق الأشياء وألجأهم البحث العلمي إلى التعمق في معاني القرآن ودقائق عباراته وخصوصيات بلاغته، لم يروا طريقة السلف مقنعة لإفهام أهل العلم من الخلف لأن طريقتهم في العلم طريقة تحميص وهي اللائقة بعصرهم، وقارن ذلك ما حدث في فرق الأمة الإسلامية من النحل الاعتقادية، وإلقاء شبه الملاحدة من المنتمين إلى الإسلام وغيرهم وحدا بهم ذلك إلى الغوص والتعمق لإقامة المعارف على أعمدة لا تقبل التزلزل، ولدفع شبه المتشككين ورد مطاعن الملحين، فسلكوا مسالك الجمع بين المتعارضات من أقوال ومعان وإقرار كل حقيقة في نصابها، وذلك بالتأويل الذي يقتضيه المقتضي ويعضده الدليل.

فسلكت جماعات مسالك التأويل الإجمالي بأن يعتقدوا تلك المتشابهات على إجمالها ويوقنوا بالتنزيه عن ظواهرها ولكنهم لا يفصلون صرفها عن ظواهرها يجملون التأويل وهذه الطائفة تدعى السلفية لقرب طريقتها من طريقة السلف في المتشابهات، وهذه الجماعات متفاوتة في مقدار تأصيل أصولها تفاوتا جعلها فرقا فمنهم الحنابلة، والظاهرية، الخوارج الأقدمون غير الذين التزموا طريقة المعتزلة.
ومنهم أهل السنة الذين كانوا قبل الأشعري مثل المالكية وأهل الحديث الذين تمسكوا بظواهر ما جاءت به الأخبار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم مع التقييد بأنها مؤولة عن ظواهرها بوجه الإجمال. وقد غلا قوم من الآخذين بالظاهر مثل الكرامية والمشبهة فألحقوا بالصنف الأول.
ومنهم فرق النظارين في التوفيق بين قواعد العلوم العقلية وبين ما جاءت به أقوال الكتاب والسنة وهؤلاء هم المعتزلة، والأشاعرة، والماتردية.
فأقوالهم في رؤية أهل الجنة ربهم ناسجة على هذا المنوال:
فالسلف أثبتوها دون بحث والمعتزلة نفوها وتأولوا الأدلة بنحو المجاز والاشتراك، وتقدير محذوف لمعارضتها الأصول القطعية عندهم فرجحوا ما رأوه قطعيا وألغوها.
والأشاعرة أثبتوها وراموا الاستدلال لها بأدلة تفيد القطع وتبطل قول المعتزلة ولكنهم لم يبلغوا من ذلك المبلغ المطلوب.
وما جاء به كل فريق من حجاج لم يكن سالما من اتجاه نقوض ومنوع ومعارضات، وكذلك ما أثاره كل فريق على مخالفيه من معارضات لم يكن خالصا من اتجاه منوع مجردة أو مع المستندات، فطال الأخذ والرد. ولم يحصل طائل ولا انتهى إلى حد.
ويحسن أن نفوض كيفيتها إلى علم الله تعالى كغيرها من المتشابه الراجع إلى شؤون الخالق تعالى.
وهذا معنى قول سلفنا إنها رؤية بلا كيف وهي كلمة حق جامعة، وإن اشمأز منها المعتزلة.
هذا ما يتعلق بدلالة الآية على رؤية أهل الجنة ربهم وأما ما يتعلق بأصل جواز رؤية الله تعالى فقد مضى القول فيها عند قوله تعالى: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} في سورة الأعراف [143].

وتقديم المجرور من قوله: {إِلَى رَبِّهَا} على عامله للاهتمام بهذا العطاء العجيب وليس للاختصاص لأنهم ليرون بهجات كثيرة في الجنة.
وبين {ناضرة} و {ناظرة} جناس محرف قريب من التام.
وسوغ الابتداء بالنكرة في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} أنها أريد بها التفصيل والتقسيم لمقابلته بقوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} ، على حد قول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر
وأما الوجوه الباسرة فنوع ثان من وجوه الناس يومئذ هي وجوه أهل الشقاء. وأعيد لفظ {يومئذ} تأكيد للاهتمام بالتذكير بذلك اليوم.
و {باسرة} : كالحة من تيقن العذاب، وتقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} في سورة المدثر [22].
فجملة {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} استئناف بياني لبيان سبب بسورها.
و {فاقرة} : داهية عظيمة، وهو نائب فاعل {يُفْعَلَ بِهَا} ولم يقترن الفعل بعلامة التأنيث لأن مرفوعه ليس مؤنثا حقيقيا، مع وقوع الفصل بين الفعل ومرفوعه، وكلا الأمرين يسوغ ترك علامة التأنيث. وإفراد {فاقرة} إفراد الجنس، أي نوعا عظيما من الداهية.
والمعنى: أنهم أيقنوا بأن سيلاقوا دواهي لا يكتنه كنهها.
[26-30] {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}
ردع ثان على قول الإنسان {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 6]، مؤكد للردع الذي قبله في قوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة:20]. ومعناه زجر عن إحالة البعث فإنه واقع غير بعيد فكل أحد يشاهده حين الاحتضار للموت كما يؤذن به قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} ، أتبع توصيف أشراط القيامة المباشرة لحلوله بتوصيف أشراط حلول التهيؤ الأول للقائه من مفارقة الحياة الأولى.
وعن المغيرة بن شعبة يقولون: القيامة القيامة، وإنما قيامة أحدهم موته، وعن علقمة

أنه حضر جنازة فلما دفن قال: "أما هذا فقد قامت قيامته"، فحالة الاحتضار هي آخر أحوال الحياة الدنيا يعقبها مصير الروح إلى تصرف الله تعالى مباشرة.
وهو ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل: ارتدوا وتنهبوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة وتنتقلون إلى الآجلة، فيكون ردعا على محبة العاجلة وترك العناية في الآخرة، فليس مؤكدا للردع الذي في قوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة:20] بل هو ردع على ما تضمنه ذلك الردع من إيثار العاجلة على الآخرة.
و {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} متعلق بالكون الذي يقدر في الخبر وهو قوله: {إِلَى رَبِّكَ} . والمعنى: المساق يكون إلى ربك إذا بلغت التراقي.
وجملة {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} بيان للردع وتقريب لإبطال الاستعباد المحكي عن منكري البعث بقوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة:6].
و {إذا} ظرف مضمن معنى الشرط، وهو منتصب بجوابه أعنى قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} .
وتقديم {إِلَى رَبِّكَ} على متعلقة وهو {الْمَسَاقُ} للاهتمام به لأنه مناط الإنكار منهم.
وضمير {بَلَغَتِ} راجع إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معلوم من فعل {بَلَغَتْ} ونم ذكر {التَّرَاقِيَ} فإن فعل {بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} يدل أنها روح الإنسان. والتقدير: إذا بلغت الروح أو النفس. وهذا التقدير يدل عليه الفعل الذي أسند إلى الضمير بحسب عرف أهل اللسان، ومثله قول حاتم الطائي:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
أي إذا حشرجت النفس. ومن هذا الباب قول العرب أرسلت يريدون: أرسلت السماء المطر، ويجوز أن يقدر في الآية ما يدل عليه الواقع.
والأنفاس: جمع نفس بفتح الفاء، وهو أنسب بالحقائق.
و {التَّرَاقِيَ} : جمع ترقوة بفتح الفوقية وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو مخففة وهاء تأنيث وهي ثغرة النحر، ولكل إنسان ترقوتان عن يمينه وعن شماله.
فالجمع هنا مستعمل في التثنية لقصد تخفيف اللفظ وقد أمن اللبس، لأن في تثنية

ترقوة شيئا من الثقل لا يناسب أفصح كلام، وهذا مثل ما جلء في قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} في سورة التحريم [4].
ومعنى {بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} : أن الروح بلغت الحنجرة حيث تخرج الأنفاس الأخيرة فلا يسمع صوتها إلا في جهة الترقوة وهي آخر حالات الاحتضار، ومثله قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] الآية.
واللام في {التَّرَاقِيَ} مثل اللام في {المساق} فيقال: هي عوض عن المضاف إليه، أي بلغت روحه تراقيه، أي الإنسان.
ومعنى {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} وقال قائل: من يرقي هذا رقيات لشفائه? أي سأل أهل المريض عن وجدان أحد يرقي، وذلك عند توقع اشتداد المرض به. والبحث عن عارف برقية المريض عادة عربية ورد ذكرها في حديث السرية الذين أتوا على حي من أحياء العرب إذ لدغ سيد ذلك الحي فعرض لهم رجل من أهل الحي، فقال: هل فيكم من راق? إن في الماء رجلا لديغا أو سليما. رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس في الرقيا بفاتحة الكتاب.
والرقيا بالقصر، ويقال بهاء تأنيث: هي كلام خاص معتقد نفعه يقول قائل عند المريض واضعا يده في وقت القراءة على موضع الوجع من المريض أو على رأس المريض، أو يكتبه الكاتب في خرقة، أو ورقة وتعلق على المريض، وكانت من خصائص التطبب يزعمون أنها تشفي من صرع الجنون ومن ضر السموم ومن الحمى.
ويختص بمعرفتها ناس يزعمون أنهم يتلقونها من عارفين فلذلك سموا الراقي ونحوه عرافا، قال رؤبة بن العجاج:
بذلت لعرافة اليمامة حكمه ... وعرافي نجد إن هما شفياني
فما تركا من عوذة يعرفانها ... ولا رقية بها رقياني
وقال النابغ يذكر حال من لدغته أفعى:
تناذرها الراقون من سوء سمعها ... تطلقه طورا وطورا تراجع
وكان الراقي ينفث على المرقي ويتفل، وشار إليه في المقامة التاسعة والثلاثين بقوله ثم إنه طمس المكتوب على غفلة، وتفل عليه مائة تفلة.

وأصل الرقية: ما ورثه العرب من طلب البركة بأهل الصلاح والدعاء إلى الله، فأصلها وارد من الأديان السماوية، ثم طرأ عليها سوء الوضع عند أهل الضلالة فألحقوها بالسحر أو بالطب، ولذلك يخلطونها من أقوال ربما كانت غير مفهومة، ومن أشياء كأحجار أو أجزاء من عظم الحيوان أو شعره، فاختلط أمرها بالأمم الجاهلة، وقد جاء في الإسلام الاستشفاء بالقرآن والدعوات المأثورة المتقلبة من أربابها وذلك من قبيل الدعاء.
والضمير المستتر في {ظن} عائد إلى الإنسان في قوله: {بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ} [القيامة: 5] أي الإنسان الفاجر.
والظن: العلم المقارب لليقين، وضمير {أنه} ضمير شأن، أي وأيقن أنه، أي الأمر العظيم الفراق، أي فراق الحياة.
وقوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} إن حمل على ظاهره، فالمعنى التفاف ساقي المحتضر بعد موته إذ تلف الأكفان على ساقيه ويقرن بينهما في ثوب الكفن فكل ساق منها ملتفة صحبة الساق الأخرى، فالتعريف عوض عن المضاف إليه، وهذا نهاية وصف الحالة التي تهيأ بها لمصيره إلى القبر الذي هو أول مراحل الآخرة.
ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا فإن العرب يستعملون الساق مثلا في الشدة وجد الأمر تمثيلا بساق الساعي أو الناهض لعمل عظيم، يقولون: قامت الحرب على ساق.
وأنشد ابن عباس في قول الراجز:
صبرا عناق إنه لشرباق ... قد سن لي قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق
وتقدم في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} في سورة القلم [42].
فمعنى {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} طرأت مصيبة على مصيبة.
والخطاب في قوله: {إِلَى رَبِّكَ} التفات عن طريق خطاب الجماعة في قوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة:20] لأنه لما كان خطابا لغير معين حسن التفنن فيه.
والتعريف في {المساق} تعريف الجنس الذي يعم الناس كلهم بما فيهم الإنسان الكافر المردود عليه. ولك أن تعبر عن اللام بأنها عوض عن المضاف إليه، أي مساق

الإنسان الذي يسأل: {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 6].
و {المساق } : مصدر ميمي ل"ساق"، وهو تسيير ماش أمام مسيره إلى حيث يريد مسيره، وضده القود، وهو هنا مجاز مستعمل في معنى الإحضار والإيصال إلى حيث يلقى جزاء ربه.
وسلك في الجمل التي بعد {إذا} مسلك الإطناب لتهويل حالة الاحتضار على الكافر وفي ذلك إيماء إلى أن الكافر يتراءى له مصيره في حالة احتضاره وقد دل عليه حديث عبادة بن الصامت في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" ، قالت عائشة أو بعض أزواجه: "إنا نكره الموت" . قال: "ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه" .
[31-35] {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى، أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} .
تفريع على قوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة:6].
فالضمير عائد إلى الإنسان في قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3] أي لجهله البعث لم يستعد له.
وحذف مفعول {كذب} ليشمل كل ما كذب به المشركون، والتقدير: كذب الرسول والقرآن وبالبعث، وتولى عن الاستجابة لشرائع الإسلام.
ويجوز أن يكون الفاء تفريعا وعطفا على قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} ، أي فقد فارق الحياة وسيق إلى لقاء الله خاليا من العدة لذلك اللقاء.
وفي الكلام على كلا الوجهين حذف يدل عليه السياق تقديره: فقد علم أنه قد خسر وتندم على ما أضاعه من الاستعداد لذلك اليوم.
وقد ورد ذلك في قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 21-24].

وفعل {صدق} مشتق من التصديق، أي تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن وهو المناسب لقوله: {وَلَكِنْ كَذَّبَ} .
والمعنى: فلا آمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وبعض المفسرين فسر {صدق} بمعنى أعطى الصدقة، وهو غير الجار على قياس التصريف إذ حقه أن يقال: تصدق، على أنه لا يساعد الاستدراك في قوله: {وَلَكِنْ كَذَّبَ} .
وعطف {وَلا صَلَّى} على نفي التصديق تشويها له بأن حاله مبائن لأحوال أهل الإسلام. والمعنى: فلم يؤمن ولم يسلم.
و {لا} نافية دخلت على الفعل الماضي والأكثر في دخولها على الماضي أن يعطف عليها نفي آخر وذلك حين يقصد المتكلم أمرين مثل ما هنا وقول زهير:
فلا هو أخفاها ولم يتقدم
وهذا معنى قول الكسائي "لا" بمعنى "لم" ولكنه يقرن بغيره يقول العرب: لا عبد الله خارج ولا فلان، ولا يقولون: مررت برجل لا محسن حتى يقال: ولا مجمل اه فإذا يعطف عليه نفي آخر فلا يؤتى بعدها بفعل مضي إلا في إرادة الدعاء نحو "لا فض فوك" وشذ ما خالف ذلك. وأما قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] فإنه على تأويل تكرير النفي لأن مفعول الفعل المنفي بحرف {لا} وهو العقبة يتضمن عدة أشياء منفية بينها قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ} إلى قوله: {مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 12-17]. فلما كان ذلك متعلق الفعل المنفي كان الفعل في تأويل تكرير النفي كأنه قيل: فك رقبة ولا أطعم يتيما ولا أطعم مسكينا ولا آمن.
وجملة {وَلَكِنْ كَذَّبَ} معطوفة على جملة {فَلا صَدَّقَ} .
وحرف {لكن} المخفف النون بالأصالة أي الذي لم يكن مخفف النون المشددة أخت "إن" هو حرف استدراك، أي نقض لبعض ما تضمنته الجملة التي قبله إما لمجرد توكيد المعنى بذكر نقيضه مثل قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وأما لبيان إجمال في النفي الذي قبله نحو {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40].
وحرف {ولكن} المخفف لا يعمل إعرابا فهو حرف ابتداء ولذلك أكثر وقوعه بعد واو العطف وجملة {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أفادت معنيين: أحدهما توكيد قوله: {فَلا

صَدَّقَ} بقوله: {كذب} ، وثانيهما زيادة بيان معنى {فَلا صَدَّقَ} بأنه تولى عمدا لأن عدم التصديق له أحوال، ونظيره في غير الاستدراك قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34].
والتكذيب: تكذيبه بالبعث وبالقرآن وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
والتولي: الإعراض عن دعوته إلى النظر والتدبر في القرآن.
وفاعل {صدق} والأفعال المذكورة بعده ضمائر عائدة على الإنسان المتقدم ذكره.
و {يتمطى} : يمشي المطيطاء بضم الميم وفتح الطاء بعدها ياء ثم طاء مقصورة وممدودة وهي تبختر.
وأصل {يتمطى} : يتمطط، أي لأن المتبختر يمد خطاه وهي مشية المعجب بنفسه. وهنا انتهى وصف الإنسان المكذب.
والمعنى: أنه أهمل الاستعداد للآخرة ولم يعبأ بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب إلى أهله مزدهيا بنفسه غير مفكر في مصيره.
قال ابن عطية: قال جمهور المتأولين هذه الآية كلها من قوله: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} نزلت في ابن جهل بن هشام، قال: ثم كادت هذه الآية تصرح به في قوله تعالى: {يتمطى} فإنها كانت مشية بني مخزوم وكان أبو جهل يكثر منها اه. وفيه نظر سيأتي قريبا.
فقوله: {أَوْلَى لَكَ} وعيد، وهي كلمة توعد تجري مجرى المثل في لزوم هذا اللفظ لكن تلحقه علامات الخطاب والغيبة والتكلم، والمراد به ما يراد بقولهم: ويل لك، من دعاء على المجرور باللام بعدها، أي دعاء بأن يكون المكروه أدنى شيء منه.
{فأولى} : اسم تفضيل من ولي، وفاعله ضمير محذوف عائد على مقدر معلوم في العرف، فيقدره كل سامع بما يدل على المكروه قال الأصمعي معناه: قاربك ما تكره، قالت الخنساء:
هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
وكان القانص إذا أفلته الصيد يخاطب الصيد بقوله: {أَوْلَى لَكَ} وقد قيل: إن منه قوله تعالى: {فَأَوْلَى لَهُمْ} من قوله: {فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} في سورة

القتال [20-21] على أحد تأويلين يجعل {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} مستأنفا وليس فاعلا لاسم التفضيل. وذهب أبو علي الفارسي إلى أن {أولى} علم لمعنى الويل وأن وزنه أفعل من الويل وهو الهلاك، فأصل تصريفه أويل لك، أي أشد هلاكا لك فوقع فيه القلب "لطلب التخفيف" بأن أخرت الياء إلى آخر الكلمة وصار أولى بوزن أفلح، فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا فقالوا: أولى في صورة وزن فعلى.
والكاف خطاب للإنسان المصرح به غير مرة في الآيات السابقة بطريق الغيبة إظهارا وإضمارا، وعدل هنا عن طريق الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات لمواجهة الإنسان بالدعاء لأن المواجهة أوقع في التوبيخ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: أولى له.
وقوله: {فأولى} تأكيد ل {أَوْلَى لَكَ} جيء فيه بفاء التعقيب للدلالة على أنه يدعى عليه بأن يعقبه المكروه ويعقب بدعاء آخر.
قال قتادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد فاستقبله أبو جهل على باب بني مخزوم فاخذ رسول الله فلبب أبا جهل بثيابه وقال له: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} قال أبو جهل يتهددني محمد أي يستعمل كلمة الدعاء في إرادة التهديد فوالله إني لأعز أهل الوادي. وأنزل الله تعالى {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} كما قال لأبي جهل.
وقوله: {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} تأكيد للدعاء عليه ولتأكيده السابق.
وجيء بحرف {ثم} لعطف الجملة دلالة على أن هذا التأكيد ارتقاء في الوعيد، وتهديد بأشد مما أفاده التهديد وتأكيده كقوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3-4].
وأحسب أن المراد: كل إنسان كافر كما يقتضيه أول الكلام من قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} إلى قوله: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 3-14]، وما أبو جهل إلا من أولهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم توعده باللفظ الذي أنزله الله تهديدا لأمثاله.
وكلمات المتقدمين في كون الشيء سبب نزول شيء من القرآن كلمات فيها تسامح.
[36] {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} .
استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وهو ما ابتدئ به فارتبط بقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3] فكأنه قيل: أيحسب أن

لن نجمع عظامه ويحسب أن نتركه في حالة العدم.
وزيد هنا أن مقتضى الحكمة الإلهية إيقاعه بقوله: {أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} كما ستعلمه.
والاستفهام إنكاري مثل الذي سبقه في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3].
وأصل معنى الترك: مفارقة الشيء شيئا اختياريا من التارك، ويطلق مجازا على إهمال أحد شيئا وعدم عنايته بأحواله وبتعهده، وهو هنا مستعمل في المعنى المجازي.
والمراد بما يترك عليه الإنسان هنا ما يدل عليه السياق، أي حال العدم دون إحياء مما دل عليه قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3] وقوله: {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13].
وعدل عن بناء فعل يترك للفاعل فبني للنائب إيجازا لأجل العلم بالفاعل من قوله السابق: {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} فكأنه قال: أيحسب الإنسان أن نتركه دون بعث وأن نهمل أعماله سدى.
فجاء ذكر {سدى} هنا على طريقة الإدماج فيما سبق له الكلام، إيماء إلى أن مقتضى حكمة خلق الإنسان أن لا يتركه خالقه بعد الموت فلا يحييه ليجازيه على ما عمله في حياته الأولى.
وفي إعادة {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ} تهيئة لما سيعقبه من دليل إمكان البعث من جانب المادة بقوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً} [القيامة: 37] إلى آخر السورة.
فقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} تكرير وتعداد للإنكار على الكافرين تكذيبهم بالبعث، ألا ترى أنه وقع بعد وصف يوم القيامة وما فيه من الحساب على ما قدم الإنسان وأخر.
ومعنى هذا مثل قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
و {سدى} بضم السين والقصر: اسم بمعنى المهمل ويقال: سدى بفتح السين والضم أكثر وهو اسم يستوي فيه المفرد والجمع يقال: إبل سدى، وجمل سدى ويشتق منه فعل فيقال: أسدى إبله وأسديت إبلي، وألفه منقلبة عن الواو.

ولم يفسر صاحب "الكشاف" هذه الكلمة وكذلك الراغب في المفردات ووقع {سدى} في موضع الحال من ضمير {يترك} .
فإن الذي خلق الإنسان في أحسن تأويل وأبدع تركيبه ووهبه القوى العقلية التي لم يعطها غيره من أنواع الحيوان ليستعملها في منافع لا تنحصر أو في ضد ذلك من مفاسد جسيمة، ولا يليق بحكمته أن يهمله مثل الحيوان فيجعل الصالحين كالمفسدين والطائعين لربهم كالمجرمين، وهو العليم القدير المتمكن بحكمته وقدرته أن يجعل إليه المصير، فلو أهمله لفاز أهل الفساد في عالم كساد، ولم يلاق الصالحون من صلاحهم إلا الأنكاد، ولا يناسب حكمة الحكيم إهمال الناس يهيمون في كل وادي، وتركهم مضربا لقول المثل "فإن الريح للعادي".
ولذلك قال في جانب الاستدلال على وقوع البعث {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3]، أي لا نعيد خلقه ونبعثه للجزاء كما أبلغناهم، وجاء في جانب حكمته بما يشابه الأسلوب السابق فقال: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} مع زيادة فائدة بما دلت عليه جملة {أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} ، أي لا يحسب أن يترك غير مرعي بالتكليف كما تترك الإبل، وذلك يقتضي المجازاة. وعن الشافعي: لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن السدى الذي لا يؤمر ولا ينهى اه. وقد تبين من هذا أن قوله: {أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} كناية عن الجزاء لأن التكليف في الحياة الدنيا مقصود منه الجزاء في الآخرة.
[37-40] {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} .
استئناف هو علة وبيان للإنكار المسوق للاستدلال بقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ} [القيامة: 36] الذي جعل تكريرا وتأييد لمضمون قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} الآية، أي أن خلق الإنسان من مادة ضعيفة وتدرجه في أطوار كيانه دليل على إثبات القدرة على إنشائه إنشاء ثانيا بعد تفرق أجزائه واضمحلالها، فيتصل معنى الكلام هكذا: أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ويعد ذلك متعذرا. ألم نبدأ خلقه إذ كوناه نطفة ثم تطور خلقه أطوارا فماذا يعجزنا أن نعيد خلقه ثانيا كذلك، قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الانبياء: 104].

وهذه الجمل تمهيد لقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} .
وهذا البيان خاص بأحد معنيي الترك في الآية وهو تركه دون إحياء وأكتفي ببيان هذا عن بيان المعنى الآخر الذي قيده قوله: {سُدىً} [القيامة: 36]،أي تركه بدون جزاء على أعماله لأن فائدة الإحياء أن يجازي على عمله.والمعنى: أيحسب أن يترك فانيا ولا تجدد حياته.
ووقع وصف {سُدىً} في خلال ذلك موقع الاستدلال على لزوم بعث الناس من جانب الحكمة، وانتقل بعده إلى بيان إمكان البعث من جانب المادة،فكان وقوعه إدماجا.
فالإنسان خلق من ماء وطور أطوارا حتى صار جسدا حيا تام الخلقة والإحساس فكان بعضه من صنف الذكور وبعضه من صنف الإناث،فالذي قدر على هذا الخلق البديع لا يعجزه إعادة خلق كل واحد كما خلقه أول مرة بحكمة دقيقة وطريقة أخرى لا يعلمها إلا هو.
والنطفة: القليل من الماء سمي بها ماء التناسل، وتقدم في سورة فاطر.
وأختلف في تفسير معنى {تمنى} فقال كثير من المفسرين معناه:تراق.ولم يذكر في كتب اللغة أن فعل: منى أو أمنى يطلق بمعنى أراق سوى أن بعض أهل اللغة قال في تسمية"منى" التي بمكة إنها سميت كذلك لأنها تراق بها دماء الهدي،ولم يبينوا هل هو فعل مجرد أو بهمزة التعدية.
وأحسب هذا من التلفيقات المعروفة من أهل اللغة من طلبهم إيجاد أصل لاشتقاق الأعلام وهو تكلف صراح، فاسم"منى" علم مرتجل، وقال ثعلب:سميت من قولهم: منى الله عليه الموت، أي قدره لأنها تنحر فيها الهدايا ومثله عن أبن شميل وعن أبن عيينة. وفسر بعضهم {تمنى} بمعنى تخلق من قولهم منى الله الخلق،أي خلقهم. والأظهر قول بعض المفسرين أنه مضارع أمنى الرجل فيكون كقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} في سورة الواقعة [58].
والعلقة:القطعة الصغيرة من الدم المتعقد.
وعطف فعل {كَانَ عَلَقَةً} بحرف "ثم" للدلالة على التراخي الرتبي فإن كونه علقة

أعجب من كونه نطفة لأنه صار علقة بعد أن كان ماء فاختلط بما تفرزه رحم الأنثى من البويضات فكان من البويضات فكان من مجموعهما علقة كما تقدم في فائدة التقييد بقوله في سورة النجم [46] {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} .
ولما كان تكوينه علقة هو مبدأ خلق الجسم عطف عليه قوله: {فخلق} بالفاء، لأن العلقة يعقبها أن تصير مضغة إلى أن يتم خلق الجسد وتنفخ فيه الروح.
وضمير {خلق} عائد إلى {رَبِّكَ} [القيامة: 30]. وكذلك عطف {فسوى} بالفاء.
والتسوية: جعل الشىء سواء،أي معدلا مقوما قال تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] وقال {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2]، أي فجعله جسدا من عظم ولحم.
ومفعول "خلق" ومفعول "سوى" محذوفان لدلالة الكلام عليهما، أي فخلقه فسواه.
وعقب ذلك بخلقه ذكرا أو أنثى زوجين ومنهما يكون التناسل أيضا.
وقرأ الجمهور {تمنى} بالفوقية على أنه وصف ل {نطفة} . وقرأه حفص ويعقوب بالتحتية على أنه وصف {مني} .
وجملة {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} واقعة موقع النتيجة من الدليل لأن خلق جسم الإنسان من عدم وهو أمر ثابت بضرورة المشاهدة، أحق بالاستبعاد من إعادة الحياة إلى الجسم بعد الموت سواء بقي الجسم غير ناقص أو نقص بعضه أو معظمه فهو إلى بث الحياة فيه وإعادة ما فني من أجزائه أقرب من إيجاد الجسم من عدم.
والاستفهام إنكار للمنفي إنكار تقرير بالإثبات وهذا غالب استعمال الاستفهام التقريري أن تقع على نفي ما يراد إثباته ليكون ذلك كالتوسعة على المقرر إن أراد إنكارا كناية عن ثقة المتكلم بأن المخاطب لا يستطيع الإنكار.
وقد جاء في هذا الختام بمحسن رد العجز على الصدر، فإن السورة افتتحت بإنكار أن يحسب المشركون استحالة البعث، ويسلسل الكلام في ذلك بأفانين من الإثبات والتهديد والتشريط والاستدلاال، إلا أن أفضى إلى استنتاج أن الله قادر على أن يحيي الموتى وهو المطلوب الذي قدم في قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:3-4].
وتعميم الموتى في قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} بعد جريان

أسلوب الكلام عل خصوص الإنسان الكافر أو خصوص كافر معين، يجعل جملة {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} تذييلا.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإنسانسميت في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "سورة هل أتى على الإنسان". روى البخاري في باب القراءة في الفجر من صحيحه عن أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ب {ألم} السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ}" [الانسان: 1].
واقتصر صاحب "الإتقان" على تسمية هذه السورة "سورة الإنسان" عند ذكر السور المكية والمدنية، ولم يذكرها في عداد السور التي لها أكثر من اسم.
وتسمى "سورة الدهر" في كثير من المصاحف.
وقال الخفاجي تسمى "سورة الأمشاج"، لوقوع لفظ الأمشاج فيها ولم يقع في غيرها من القرآن.
وذكر الطبرسي: أنها تسمى"سورة الأبرار"، لأن فيها ذكر نعيم الأبرار وذكرهم بهذا اللفظ ولم أره لتغييره.
فهذه خمسة أسماء لهذه السورة.
واختلف فيها فقيل هي مكية، وقيل مدنية، وقيل بعضها مكي وبعضها مدني، فعن أبن عباس وابن أبي طلحة وقتادة ومقاتل: هي مكية، وهو قول ابن مسعود لأنه كذلك رتبها في مصحفه فيما رواه أبو داود كما سيأتي قريبا.وعلى هذا اقتصر معظم التفاسير ونسبه الخفاجي إلى الجمهور.
وروى مجاهد عن أبن عباس: أنها مدنية، وهو قول جابر بن زيد وحكي عن قتادة أيضا. وقال الحسن وعكرمة والكلبي: هي مدنية إلا قوله: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان:24] إلى آخرها، أو قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ} [الانسان:24]

الخ. ولم يذكر هؤلاء أن تلك الآيات من أية سورة كانت تعد في مكة إلى أن نزلت سورة الإنسان بالمدينة وهذا غريب. ولم يعينوا أنه في أية سورة كان مقروءا.
والأصح أنها مكية فإن أسلوبها ومعانيها جارية على سنن السور المكية ولا أحسب الباعث على عدها في المدني إلا ما روي من أن آية {يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الانسان: 8] نزلت في إطعام علي أبن أبي طالب بالمدينة مسكينا ليلة،ويتيما أخرى، وأسيرا أخرى، ولم يكن للمسلمين أسرى بمكة حملا للفظ أسير على معنى أسير الحرب، أو ما روي انه نزل في أبي الدحداح وهو أنصاري، وكثيرا ما حملوا نزول الآية على مثل تنطبق عليها معانيها فعبروا عنها بأسباب نزول كما بيناه في المقدمة الخامسة.
وعدها جابر بن زيد الثامنة والتسعين في ترتيب نزول السور. وقال: نزلت بعد سورة الرحمان وقبل سورة الطلاق. وهذا جري على ما رآه أنها مدنية.
فإذا كان الأصح أنها مكية أخذا بترتيب مصحف ابن مسعود فتكون الثلاثين أو الحادية والثلاثين وجديرة بأن تعد سورة القيامة أو نحو ذلك حسبما ورد في ترتيب أبن مسعود.
روى أبو داود في باب تحزيب القرآن من سننه عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ النظائر السورتين وعد سورا فقال: و {هَلْ أَتَى} و {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} في ركعة" . قال أبو داود: هذا تأليف ابن مسعود"أي تأليف مصحفه": واتفق العادون على عد آيها إحدى وثلاثين.
أغراضها
التذكير بأن كل إنسان كون بعد أن لم يكن فكيف يقضي باستحالة إعادة تكوينه بعد عدمه.
وإثبات أن الإنسان محقوق بإفراد الله بالعبادة شكرا لخالقه ومحذر من الإشراك به.
وإثبات الجزاء على الحلين مع شيء من وصف ذلك الجزاء بحالتيه والإطناب في وصف جزاء الشاكرين.
وأدمج في خلال ذلك الامتنان على الناس بنعمة الإيجاد ونعمة الإدراك والامتنان بما أعطيه الإنسان من التمييز بين الخير والشر وإرشاده إلى الخير بواسطة الرسل فمن

الناس من شكر نعمة الله ومنهم من كفرها فعبد غيره.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على القيام بأعباء الرسالة والصبر على ما يلحقه في ذلك، والتحذير من أن يلين للكافرين، والإشارة إلى أن الاصطفاء للرسالة نعمة عظيمة يستحق الله الشكر عليها بالاضطلاع بها اصطفاه له وبإقبال على عبادته.
والأمر بالإقبال على ذكر الله والصلاة في أوقات من النهار.
[1] {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} .
استفهام تقريري والاستفهام من أقسام الخطاب وهو هنا موجه إلى غير معين ومستعمل في تحقيق الأمر المقرر به على طريق الكناية لأن الاستفهام طلب الفهم، والتقرير يقتضي حصول العلم بما تقرر به إلى إيماء إلى استحقاق الله أن يعترف الإنسان له بالوحدانية في الربوبية إبطالا لإشراك المشركين.
وتقديم هذا الاستفهام لما فيه من تشويق إلى معرفة ما يأتي بعده من الكلام.
فجملة {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} تمهيد وتوطئة للجملة التي بعدها وهي {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الانسان: 2] الخ.
و {هل} حرف يفيد الاستفهام ومعنى التحقيق، وقال جمع أصل {هل} إنها في الاستفهام مثل {قد} في الخبر، وبملازمة {هل} الاستفهام كثر في الكلام حذف حرف الاستفهام معها فكانت فيه بمعنى {قد} ، وخصت بالاستفهام فلا تقع في الخبر، ويتطرق إلى الاستفهام بها ما يتطرق إلى الاستفهام من الاستعمالات. وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} في سورة البقرة [210].
وقد علمت أن حمل الاستفهام على معنى التقرير يحصل هذا المعنى.
والمعنى: هل يقر كل إنسان موجود أنه كان معدوما زمانا طويلا، فلم يكن شيئا يذكر، أي لم يكن يسمى ولا يتحدث عنه بذاته وإن كان قد يذكر بوجه العموم في نحو قول الناس: المعدوم متوقف وجوده على فاعل. وقول الواقف: حبست على ذريتي، ونحوه فإن ذلك ليس ذكرا لمعين ولكنه حكم على الأمر المقدر وجوده. وهم لا يسعهم إلا الإقرار بذلك، أكتفي بتوجيه هذا التقرير إلى كل سامع.
وتعريف {الإنسان} للاستغراق مثل قوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ

آمَنُوا} [العصر: 2-3] الآية، أي هل أتى على كل إنسان حين كان فيه معدوما.
و {الدهر} : الزمان الطويل أو الزمان المقارن لوجود العالم الدنيوي.
والحين: مقدار مجمل من الزمان يطلق على ساعة وعلى أكثر، وقد قيل إن أقصى ما يطلق عليه الحين أربعون سنة ولا أحسبه.
وجملة {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} يجوز أن تكون نعتا لـ {حين} بتقدير ضمير رابط بمحذوف لدلالة لفظ {حين} على أن العائد مجرور بحرف الظرفية حذف مع جاره كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] إذ التقدير: لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، فالتقدير هنا: لم يكن فيه الإنسان شيئا مذكورا، أي كان معدوما في زمن سبق.
ويجوز أن تكون الجملة حالا من {الإنسان} ، وحذف العائد كحذفه في تقدير النعت.
والشيء: اسم للموجود.
والمذكور: المعين الذي هو بحيث يذكر، أي يعبر عنه بخصوصه ويخبر عنه بالأخبار والأحوال. ويتعلق لفظه الدال عليه بالأفعال.
فأما المعدوم فلا يذكر لأنه لا تعين له فلا يذكر إلا بعنوانه العام كما تقدم آنفا، وليس هذا هو المراد بالذكر هنا.
ولهذا نجعل {مذكورا} وصفا لـ {شيئا} أريد به تقييد {شيئا} ، أي شيئا خاصا وهو الموجود المعبر عنه باسمه المعين له.
[2] {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} .
استئناف بياني مترتب على التقرير الذي دل عليه {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} لما فيه من التشويق.
والتقرير يقتضي الإقرار بذلك لا محالة لأنه معلوم بالضرورة، فالسماع يتشوف لما يرد بعد هذا التقرير فقيل له إن الله خلقه بعد أن كان معدوما فأوجد نطفة كانت معدومة ثم استخرج منها إنسانا، فثبت تعلق الخلق بالإنسان بعد عدمه.

وتأكيد الكلم بحرف "إن" لتنزيل المشركين منزلة من ينكر أن الله خلق الإنسان لعدم جريهم على موجب العلم حيث عبدوا أصناما لم يخلقوهم.
والمراد ب {الإنسان} مثل ما أريد به من قوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} [الانسان:1] أي كل نوع الإنسان.
وأدمج في ذلك كيفية خلق الإنسان من نطفة التناسل لما في تلك الكيفية من دقائق العلم الإلهي والقدرة والحكمة.
وقد تقدم معنى النطفة في سورة القيامة.
و {أمشاج} : مشتق من المشج وهو الخلط، أي نطفة مخلوطة قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يّس:36] وذلك تفسير معنى الخلط الذي أشير إليه هنا.
وصيغة {أمشاج} ظاهرها صيغة جمع وعلى ذلك حملها الفراء وابن السكيت والمبرد، فهي إما جمع مشج بكسر فسكون بوزن عدل، أي ممشوج، أي مخلوط مثل ذبح، وهذا ما اقتصر عليه في "اللسان" و "القاموس" ، أو جمع مشج بفتحتين مثل سبب وأسباب أو جمع مشج بفتح فكسر مثل كتف وأكتاف.
والوجه ما ذهب إليه صاحب "الكشاف" :أن {أمشاج} مفرد كقولهم: برمة أعشار وبرد أكياش بهمزة كاف وتحتية ألف وشين معجمة الذي أعيد غزله مرتين. قال ولا يصح أن يكون أمشاج جمع مشج بل هما أي مشج وأمشاج مثلان في الإفراد اه. وقال بعض الكاتبين: إنه خالف كلام سيبويه. وأشار البيضاوي إلى ذلك، وأحسب أنه لم ير كلام سيبويه صريحا في منع أن يكون {أمشاج} مفردا لأن أثبت الإفراد في كلمة أنعام والزمخشري معروف بشدة متابعة سيبويه.
فإذا كان {أمشاج} في هذه الآية مفردا كان على سورة الجمع كما في الكشاف . فوصف {نطفة} به غير محتاج إلى تأويل، وإذا كان جمعا كما جرا عليه كلام الفراء وابن السكيت والمبرد، كان وصف النطفة به باعتبار ما تشتمل عليه النطفة من أجزاء مختلفة الخواص، فلذلك يصير كل جزء من النطفة عضوا فوصفوا النطفة بجمع الاسم للمبالغة أي شديدة الاختلاط.
وهذه الأمشاج منها ما هو أجزاء كيميائية نباتية أو ترابية ومنها ما هو عناصر قوى

الحياة.
وجملة {نبتليه} في موضع الحال من الإنسان وهي حالة مقدرة، أي مريدين ابتلاءه في المستقبل، أي بعد بلوغه طور العقل والتكليف، وهذه الحال كقولهم: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا.
وقد وقعت هذه الحال معترضة بين جملة {خلقنا} وبين {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} لأن الابتلاء، أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى السبيل الخير، فكان مقتضى الظاهر أن يقع {نبتليه} بعد جملة {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الانسان: 3]، ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة.
وجيء بجملة {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} بيانا لجملة {نبتليه} تفننا في نظم الكلام.
وحقيقة الابتلاء: الاختبار لتعرف حال الشيء وهو هنا كناية عن التكليف بأمر عظم لأن الأمر العظيم يظهر تفاوت المكلفين به في الوفاء بإقامته.
وفرع على خلقه {من نطفة} أنه جعله {سميعا بصيرا} ، وذلك إشارة إلى ما خلقه الله له من الحواس التي كانت أصل تفكيره وتدبيره، ولذلك جاء وصفه بالسميع البصير بصيغة المبالغة ولم يقل فجعلناه: سامعا مبصرا، لأن سمع الإنسان وبصره أكثر تحصيلا وتمييزا في المسموعات والمبصرات من سمع وبصر الحيوان، فبالسمع يتلقى الشرائع ودعوة الرسل وبالبصر ينظر في أدلة وجود الله وبديع صنعه.
وهذا تخلص إلى ما ميز الله به الإنسان من جعله تجاه التكليف وأتباع الشرائع وتلك خصيصية الإنسان التي بها ارتكزت مدينته وأنتظم جامعاته، ولذلك أعقبت هذه الجملة بقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} : الآيات.
[3] {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} .
استئناف بياني لبيان ما نشأ عن جملة {نبتليه} ولتفصيل جملة {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} ، وتخلص إلى الوعيد على الكفر والوعد على الشكر.
وهداية السبيل: تمثيل لحال المرشد. و { السبيل} : الطريق الجادة إلى ما فيه النفع بواسطة الرسل إلى العقائد الصحية والأعمال الصالحة التي هي سبب فوزه بالنعيم الأبدي، بحال من يدل السائر على الطريق المؤدية إلى مقصده من سيره.

وهذا التمثيل ينحل إلى تشبيهات أجزاء الحالة المركبة المشبهة بأجزاء الحالة المشبه بها، فالله تعالى كالهادي، والإنسان يشبه السائر المتحير في الطريق، وأعمال الدين تشبه الطريق، وفوز المتتبع لهدي الله يشبه البلوغ إلى المكن المطلوب.
وفي هذا النداء على أن الله أرشد الإنسان إلى الحق وأن بعض الناس أدخلوا على أنفسهم ضلال الاعتقاد ومفاسد الأعمال فمن برأ نفسه من ذلك فهو الشاكر وغيره الكفور، وذلك تقسيم بحسب حال الناس في أول البعثة، ثم ظهر من خلطوا عملا صالحا وأخر سيئا.
وتأكيد الخبر ب"إن" للرد على المشركين الذين يزعمون أن ما يدعوهم إليه القران باطل.
و {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} حالان من ضمير الغيبة فيه {هديناه} ، وهو ضمير {الإنسان} .
و {إما} حرف تفصيل، وهو حرف بسيط عند الجمهور. وقال سيبويه: هو مركب من حرف "إن" الشرطية و"ما" النافية. وقد تجردت "إن" بالتركيب على الشرطية كما تجردت "ما" عن النفي، فصار مجموع {إما} حرف تفصيل ولا عمل لها في الاسم بعدها ولا تمنع العامل الذي قبلها عن العمل في معموله الذي بعدها فهي في ذلك مثل {آل} حرف التعريف. وقدر بعض النحاة {إما} الثانية حرف عطف وهو تحكم إذ جعلوا الثانية عاطفة وهي أخت الأولى، وإنما العاطف الواو وإما مقحمة بين الاسم ومعموله كما في قول تأبط شرا:
هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم والموت بالحر أجدر
فإن الاسمين بعد "إما" في موضوعين من البيت مجروران بالإضافة ولذلك حدثت النون من قوله: هما خطتا، وذلك أفصح كما جاء في هذه الآية.
قال ابن جني أما من جر "إسار" فإنه حذف النون للإضافة ولم يعتد "إما" فاصلا بين المضاف والمضاف إليه وعلى هذا تقول: هما إما غلاما زيد وإما عمروا وأجود من هذا أن تقول: هما خطتا إسار ومنة وإما خطتا دم ثم قال: وأما الرفع فطريق المذهب، وظاهره أمره أنه على لغة من حذف النون لغير الإضافة فقد حكي ذلك الخ.
ومقتضى كلامه أن البيت روي بالوجهين الجر والرفع وقريب منه كلام المرزوقي

وزاد فقال وحذف النون إذا رفعت إسار استطالة للاسم كأنه استطال خطتا ببدله وهو قوله: إما إسار الخ.
والمعنى: إنا هديناه السبيل في حال أنه متردد أمره بين أحد هذين الوصفين وصف شاكر ووصف كفور، فأحد الوصفين على الترديد مقارن لحال إرشاده إلى السبيل، وهي مقارنة عرفية، أي عقب التبليغ والتأمل، فإن أخذ بالهدى كان شاكرا وإن أعرض كان كفورا كمن لم يأخذ بإرشاد من يهديه الطريق فيأخذ في طريق يلقي به السباع أو اللصوص، وبذلك تم التمثيل الذي في قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} .
[4] {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} .
أريد التخلص إلى جزاء الفريقين الشاكر والكفور.
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن قوله: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الانسان: 3] يثير تطلع السامعين إلى معرفة آثار هذين الحالين المتردد حاله بينهما، فابتدأ بجزاء الكافر لأن ذكره أقرب.
وأكد الخبر عن الوعيد بحرف التأكيد لإدخال الروع عليهم لأن المتوعد إذا أكد كلامه بمؤكد فقد أذن بأنه لا هوادة له في وعيده.
وأصل {أعتدنا} أي أعددنا، بدالين، أي هيئنا للكافرين، يقال: اعتد كما يقال: أعد، قال تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31].
وقد تردد أيمة اللغة في أن أصل الفعل بدالين أو بتاء ودال فلم يجزموا بأيهما الأصل لكثرة ورود فعل: أعد وفعل اعتد في الكلام والأظهر أنهما فعلان نشئا من لغتين غير أن الاستعمال خص الفعل ذا التاء بعدة الحرب فقالوا: عتاد الحرب ولم يقولوا عداد.
وأما العدة بضم العين فتقع على كل ما يعد ويهيأ، يقال: أعد لكل حال عدة. ويطلق العتاد على ما يعد من الأمور.
والأكثر أنه إذا أريد الإدغام جيء بالفعل الذي عينه دال وإذا وجد مقتضى فك الإدغام لموجب مثل ضمير المتكلم جيء بالفعل الذي عينه تاء.
والسلاسل: القيود المصنوعة من حلق الحديد يقيد بها الجناة والأسرى.

والأغلال: جمع غل بضم الغين، وهو حلقة كبيرة من حديد توضع في رقبة المقيد، وتناط بها السلسلة قال تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر: 71] فالأغلال والسلاسل توضع لهم عند سوقهم إلى جهنم.
والسعير: النار المسعرة، أي التي سعرها الموقدون بزيادة الوقود ليشتد التهابها فهو في الأصل وصف بمعنى اسم المفعول جعل علما على جهنم. وقد تقدم عند قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} في سورة الإسراء [97].
وكتب {سَلاسِلا} في المصحف الإمام في جميع النسخ التي أرسلت إلى الأمصار بألف بعد اللام الثانية ولكن القراء اختلفوا في قراءتها، فنافع والكسائي وهشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر قرأوا {سَلاسِلا} منونا في الوصل ووقفوا عليه كما يوقف على المنون المنصوب، وإذا كان حقه أن يمنع من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجمع تعين أن قراءته بالتنوين لمراعاة مزاوجته مع الاسمين الذين بعده وهما {أَغْلالُ} و {سعيرا} ، والمزاوجة طريقة في فصيح الكلام، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم لنساء "ارجعن مأزورات غير مأجورات" فجعل "مأزورات" مهموزا وحقه أن يكون بالواو لكنه همز مزاوجة مأجورات، وكذلك قوله في حديث سؤال الملكين الكافر فيقال له: "لا دريت ولا تليت" ، وكان الأصل أن يقال: ولا تلوت. ومنه قول ابن مقبل أو القلاح:
هتاك أخبية ولاج أبوبة ... يخالط البر منه الجد واللينا
فقوله أبوبه جمع باب وحقه أن يقول أبواب.
وهذه القراءة متينة يعضدها رسم المصحف وهي جارية على طريقة عربية فصيحة. وقرأه الباقون بدون تنوين في الوصل.
واختلفوا في قراءته إذا وقفوا عليه فأكثرهم قرأه في الوقف بدون ألف فيقول {سلاسل} في الوقف. وقرأه أبو عمرو ورويس عن يعقوب بالألف على اعتباره منون في الوصل.
قرأه البزي عن ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر وحفص عن عاصم في الوقف بجواز الوجهين بالألف وبتركها.
فأما الذين لم ينونوا {سَلاسِلا} في الوصل ووقفوا عليه بألف بعد لامه الثانية.
وهما أبو عمرو ورويس عن يعقوب فمخالفة روايتهم برسم المصحف محمولةعلى أن

الرسم جرى على اعتبار حالة الوقف وذلك كثير فكتابة الألف بعد اللام لقصد التنبيه على إشباع الفتحة عند الوقف لمزاوجة الفواصل في الوقف لأن الفواصل كثيرا ما تعطي أحكام القوافي والأسجاع.
وبعد فالقراءات روايات مسموعة ورسم المصحف سنة مخصوصة به وذكر الطيبي: أن بعض العلماء اعتذر عن اختلاف القراء في قوله: {سَلاسِلا} بأنه من الاختلاف في كيفية الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة وأن الاختلاف في ذلك لا ينافي التواتر.
[5-6] {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} .
هذا استئناف بياني ناشئ عن الاستئناف الذي قبله من قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا} [الانسان: 4] الخ. فإن من عرف ما عد للكفور من الجزاء يتطلع إلى معرفة ما أعد للشاكر من الثواب.
وآخر تفصيله عن تفصيل جزاء الكفور مع أن {شَاكِراً} [الانسان: 3] مذكور قبل {كَفُوراً} [الانسان: 3]، على طريقة اللف والنشر المعكوس ليتسع المجال لإطناب الكلام على صفة جزاء الشاكرين وما فيه من الخير والكرامة، تقريبا للموصوف من المشاهدة المحسوسة.
وتأكيد الخبر عن جزاء الشاكرين لدفع إنكار المشركين أن يكون المؤمنين خيرا منهم في عالم الخلود، والإفادة الاهتمام بهذه البشارة بالنسبة إلى المؤمنين.
و {الأبرار} : هم الشاكرون، عبر عنهم بالأبرار زيادة في الثناء عليهم.
و {الأبرار} : جمع بر بفتح الباء، وجمع بار أيضا مثل شاهد وإشهاد، والبار أو البر المكثر من البر بكسر الباء وهو فعل الخير، ولذلك كان البر من أوصاف الله تعالى قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28].
ووصف بر أقوى من بار في الاتصاف بالبر، ولذلك يقال: الله بر، ولم يقل: الله بار.
ويجمع بر على بررة. ووقع في "مفردات الراغب" : أن بررة أبلغ أبرار.
وابتدأ في وصف نعيمهم بنعيم لذة الشرب من خمر الجنة لما للذة الخمر من الاشتهار بين الناس، وكانوا يتنافسون في تحصيلها.

والكأس: بالهمز الإناء المجعول للخمر فلا يسمى كأسا إلا كان فيه خمر، وقد تسمى الخمر كأسا على وجه المجاز المرسل بهذا الاعتبار كما سيجيء قريبا قوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً} [الانسان: 17] فيجوز أن يراد هنا آنية الخمر فتكون {من} للابتداء وإفراد كأس للنوعية، ويجوز أن تراد الخمر فتكون {من} للتبعيض.
وعلى التقديرين فكأس مراد به الجنس وتنوينه لتعظيمه في نوعه.
والمزاج: بكسر الميم ما يمزج به غيره، أي يخلط وكانوا يمزجون الخمر بالماء إذا كانت الخمر معتقة شديدة ليخففوا من حدتها وقد ورد ذكر مزج الخمر في أشعار العرب كثيرا.
وضمير {مزاجها} عائد إلى {كأس} .
فإذا أريد بالكأس إناء الخمر فالإضافة لأدنى ملابسة، أي مزاج ما فيها، وإذا أريدت الخمر فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله.
والكافور: زيت يستخرج من شجرة تشبه الدفلة تنبت في بلاد الصين وجاوة يتكون فيها إذا طالت مدتها نحوا من مائتي سنة فيغلى حطبها ويستخرج منه زيت يسمى الكافور. وهو ثخن قد يتصلب فيصير كالزبد وإذا يقع حطب شجرة الكافور في الماء صار نبيذا يتخمر فيصير مسكرا.
والكافور أبيض اللون ذكي الرائحة منعش.
فقيل أن المزاج هنا مراد به الماء والإخبار عنه بأنه كافور من قبيل التشبيه البليغ، أي في اللون أو ذكاء الرائحة، ولعل الذي دعا بعض المفسرين إلى هذا إن المتعارف بين الناس في طيب الخمر أن يوضع المسك في جوانب الباطية قال النابغة:
وتسقى إذا ما شئت غير مصرد ... بزوراء في حافاتها المسك كارع
ويختم على آنية الخمر بخاتم من مسك كما في قوله تعالى في صفة أهل الجنة {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 25-26]. وكانوا يجعلون الفلفل في الخمر لحسن رائحته ولذعة حرارته لذعة لذيذة في اللسان، كما قال أمرؤ القيس:
صبحن سلافا من رحيق مفلفل
ويحتمل أن يكونوا يمزجون الخمر بماء فيه الكافور أوبزيته فيكون المزاج في الآية

على حقيقته مما تمزج به الخمر ولعل ذلك كان من شأن أهل الترف لأن الكافور ثمين وهو معدود في العطور.
ومن المفسرين من قال: إن كافور اسم عين في الجنة لأجل قوله عقبه {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} وستعلم حق المراد منه.
وإقحام فعل {كان} في جملة الصفة بقوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} لإفادة أن ذلك مزاجها لا يفارقها إذ كان معتاد الناس في الدنيا ندرة ذلك المزاج لغلاء ثمنه وقلة وجدانه.
وانتصب {عينا} عن البدل من {كافورا} أي ذلك الكافور تجري به عين في الجنة من ماء محلول فيه أو من زيته مثل قوله: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد: 15]. وعدي فعل {يشرب} بالباء وهي باء الإلصاق لأن الكافور يمزج به شرابهم. فالتقدير: عينا يشرب عباد الله خمرهم بها، أي مصحوبا بمائها، وذهب الأصمعي إلى أن الباء في قوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} بمعنى "من" التبعيضية ووافقه الفارسي وابن قتيبة وابن مالك، وعد في كتبه ذلك من معاني الباء ونسب إلى الكوفيين.
و {عِبَادُ اللَّهِ} مراد بهم: الأبرار. وهو إظهار في مقام الإضمار للتنويه بهم بإضافة عبوديتهم إلى الله تعالى إضافة تشريف.
والتفجير: فتح الأرض عن الماء أي استنباط الماء الغزير وأطلق هنا على الاستقاء منها بلا حد ولا نضوب فكان كل واحد يفجر لنفسه ينبوعا وهذا من الاستعارة.
وأكد فعل {يفجرونها تفجيرا} ترشيحا للاستعارة.
[7] {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} .
اعتراض بين جملة {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الانسان: 5] الخ وبين جملة {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان: 15] الخ. وهذا الاعتراض استئناف بياني هو جواب عن سؤال من شأن الكلام السابق أن يثيره في نفس السامع المغتبط بأنه ينال مثل ما نالوا من النعيم والكرامة في الآخرة. فيهتم بأن يفعل مثلما فعلوا، فذكر بعض أعمالهم الصالحة التي هي من آثار الإيمان مع التعريض لهم بالاستزادة منها في الدنيا.
والكلام إخبار عنهم صادر في وقت نزول هذه الآيات، بعضه وصف لحالهم في

الآخرة وبعضه وصف لبعض حالهم في الدنيا الموجب لنوال ما نالوه في الآخرة، فلا حاجة إلى قول الفراء: إن في الكلام إضمارا. وتقديره: كانوا يوفون بالنذر.
وليست الجملة حالا من {الْأَبْرَارَ} [الانسان: 5]وضميرهم لأن الحال قيد لعاملها فلو جعلت حالا لكانت قيدا لـ {يَشْرَبُونَ} [الانسان: 5]، وليس وفاؤهم بالنذر بحاصل في وقت شربهم من خمر الجنة بل هو بما أسلفوه في الحياة الدنيا.
والوفاء: أداء ما وجب على المؤدي وافيا دون نقص ولا تقصير فيه.
والنذر: ما يعتزمه المرء ويعقد عليه نيته، قال عنترة:
والناذرين إذ لم ألقهما دمي
والمراد به هنا ما عقدوا عليه عزمهم من الإيمان والامتثال وهو ما استحقوا به صفة {الْأَبْرَارَ} [الانسان: 5].
ويجوز أن يراد ب {النذر} ما ينذرونه من فعل الخير المتقرب به إلى الله، أي ينشئون النذور بها ليوجبوها على أنفسهم.
وجيء بصيغة المضارع للدلالة على تجدد وفائهم بما عقدوا عليه ضمائرهم من الإيمان والعمل الصالح، وذلك مشعر بأنهم يكثرون نذر الطاعات وفعل القربات ولولا ذلك لما كان الوفاء بالنذر موجا الثناء عليهم.
والتعريف في "النذر" تعريف الجنس فهو يعم كل نذر.
وعطف على {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قوله: {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} لأنهم لما وصفوا بالعمل بما ينذرونه أتبع ذلك بذكر حسن نيتهم وتحقق إخلاصهم في أعمالهم لأن الأعمال بالنيات فجمع لهم بهذا صحة الاعتقاد وحسن الأعمال.
وخوفهم اليوم مجاز عقلي جرى في تعليق اليوم بالخوف لأنهم إنما يخافون ما يجري في ذلك اليوم من الحساب والجزاء على الأعمال السيئة بالعقاب فعلق فعل الخوف بزمان الأشياء المخوفة.
وانتصب {يوما} على المفعول به لـ {يَخَافُونَ} ولا يصح نصبه على الظرفية لأن المراد بالخوف خوف في الدنيا من ذنوب تجر إليهم العقاب في ذلك اليوم. وليس المراد أنهم يخافون في ذلك اليوم فإنهم في ذلك اليوم آمنون.

ووصف اليوم بأن له شرا مستطيرا وصفا مشعرا بعلة خوفهم إياه. فالمعنى: إنهم يخافون شر ذلك اليوم فيتجنبون ما يفضي بهم إلى شره من الأعمال المتوعد عليها بالعقاب.
والشر: العذاب والجزاء السوء.
والمستطير: هو اسم فاعل من استطار القاصر، والسين والتاء في استطار للمبالغة وأصله طار مثل استكبر. والطيران مجازي مستعار لانتشار الشيء وامتداده تشبيها له بانتشار الطير في الجو، ومنه قولهم: الفجر المستطير وهو الفجر الصادق الذي ينتشر ضوءه في الأفق ويقال: استطار الحريق إذ انتشر وتلاحق.
وذكر فعل {كان} للدلالة على تمكن الخبر من المخبر عنه وإلا فإن شر ذلك اليوم ليس واقعا في الماضي وإنما يقع بعد مستقبل بعيد، ويجوز أن يجعل ذلك من التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه.
وصيغة {يَخَافُونَ} دالة على تجدد خوفهم شر ذلك اليوم على نحو قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} .
[8-10] {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً، إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} .
خصص الإطعام بالذكر لما في إطعام المحتاج من إيثاره على النفس كما أفاد قوله: {عَلَى حُبِّهِ} .
والتصريح بلفظ الطعام مع أنه معلوم من فعل {يُطْعِمُون} توطئة ليبنى عليه الحال وهو {عَلَى حُبِّهِ} فإنه لو قيل: ويطعمون مسكينا ويتيما وأسيرا لفات في قوله {عَلَى حُبِّهِ} من معنى إيثار المحاويج على النفس، على أن ذكر الطعام بعد {يُطْعِمُون} يفيد تأكيدا مع استحضار هيئة الإطعام حتى كأن السامع يشاهد الهيئة.
و {عَلَى حُبِّهِ} في موضع الحال من ضمير {يُطْعِمُون} .
و {على} بمعنى "مع"، وضمير {حبه} راجع للطعام، أي يطعمون الطعام مصحوبا بحبه. أي مصاحبا لحبهم إياه وحب الطعام هو اشتهاؤه.
فالمعنى: أنهم يطعمون طعاما هم محتاجون إليه.

ومجيء {على} بمعنى "مع" ناشئ عن تمجز في الاستعلاء، وصورته أن مجرور حرف {على} في مثله أفضل من معمول متعلقها فنزل منزلة المعتلي عليه.
والمسكين: المحتاج. واليتيم: فاقد الأب وهو مظنة الحاجة لأن أحوال العرب كانت قائمة على اكتساب الأب للعائلة بكدحه فإذا فقد الأب تعرضت العائلة للخصاصة.
وأما الأسير فإذ قد كانت السورة كلها مكية قبل عزة المسلمين، فالمراد من الأسير العبد من المسلمين إذ كان المشركون قد أجاعوا عبيدهم الذين أسلموا مثل بلال وعمار وأمه وربما سيبوا بعضهم إذا أضجرهم تعذيبهم وتركوهم بلا نفقة.
والعبودية تنشأ من الأسر فالعبد أسير ولذلك يقال له العاني أيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم "فكوا العاني" وقال عن النساء "إنهن عوان عندكم" على طريقة التشبيه وقال سحيم عبد بني الحسحاس:
رأت قتبا رثا وسحق عمامة ... وأسود هما ينكر الناس عانيا
يريد عبدا. وذكر القرطبي عن الثعلبي: قال أبو سعيد الخدري قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} فقال: "المسكين الفقير، واليتيم: الذي لا أب له، والأسير: المملوك والمسجون" . ولم أقف على سند هذا الحديث.
وبهذا تعلم أن لا شاهد في هذه الآية لجعل السورة نزلت بالمدينة وفي الأسارى الذين كانوا في أسر المسلمين في غزوة بدر.
وجملة {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} إلى آخرها مقول قول محذوف تقديره: يقولون لهم، أي للذين يطعمونهم فهو في موضع الحال من ضمير {يُطْعِمُون} ، وجملة {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} مبينة لمضمون جملة {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} .
وجملة {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا} إلى آخرها واقعة موقع التعليل لمضمون جملة {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} .
والمعنى: إنهم يقولون ذلك لهم تأنيسا لهم ودفعا لانكسار النفس الحاصل عند الإطعام، أي ما نطعمكم إلا استجابة لما أمر الله، فالمطعم لهم هو الله.
فالقول قول باللسان، وهم ما يقولونه إلا وهو مضمر في نفوسهم. وعن مجاهد أنه قال: ما تكلموا به ولكن علمه الله فأثنى به عليهم.

فالقصر المستفاد من {إنما} قصر قلب مبني على تنزيل المطعمين منزلة من يضن أن من أطعمهم يمن عليهم ويريد منهم الجزاء والشكر بناء على المتعارف عندهم في الجاهلية. والمراد بالجزاء: ما هو عوض عن العطية من خدمة وإعانة، وبالشكور ذكرهم بالمزية.
والشكور: مصدر بوزن الفعول كالقعود والجلوس، وإنما اعتبر بوزن الفعول الذي هو مصدر فعل اللازم لأن فعل الشكر لا يتعدى للمشكور بنفسه غالبا بل باللام يقال: شكرت لك قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي} [البقرة: 152].
وأما قوله: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} فهو مقول لقول يقولونه في نفوسهم أو ينطق به بعضهم مع بعض وهو حال من ضمير {يَخَافُونَ} [الانسان: 7] أي يخافون ذلك اليوم في نفوسهم قائلين {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} ، فحكى وقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} وقولهم {إِنَّا نَخَافُ} الخ. على طريقة اللف والنشر المعكوس والداعي إلى عكس النشر مراعاة حسن تنسيق النظم ليكون الانتقال من ذكر الإطعام إلى ما يقولونه للمطعمين والانتقال من ذكر خوف يوم الحساب إلى بشارتهم بوقاية الله إياهم من شر ذلك اليوم وما يلقونه فيه من النضرة والسرور والنعيم.
فيجوز أن يكون {من ربنا} ظرفا مستقرا وحرف {من} ابتدائية وهو من حال {يوما} قدم عليه، أي نخاف يوما عبوسا قمطريرا حال كونه من أيام ربنا، أي من أيام تصاريفه.
ويجوز أن تكون {من} تجريدية كقولك: لي من فلان صديق حميم. ويكون يوما منصوبا على الظرفية وتنويه للتعظيم، أي نخافه في يوم شديد.
وعبوسا: منصوبا على المفعول بفعل {نخاف} ، أي نخاف غضبان شديد الغضب هو ربنا، فيكون في التجريد تقوية للخوف إذ هو كخوف من شيئين وتلك نكتة التجريد، أو يكون {عبوسا} حالا {مِنْ رَبِّنَا} .
ويجوز أن تجعل {من} لتعدية فعل {نخاف} كما عدي في قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً} [البقرة: 182]. وينتصب يوما على المفعول به لفعل {نخاف} فصار لفعل {نخاف} معمولان. و {عبوسا} صفة ل {يوما} ، والمعنى: نخاف عذاب يوم هذه صفته، ففيه تأكيد الخوف بتكرير متعلقة ومرجع التكرير إلى كونه خوف الله لأن اليوم يوم عدل الله وحكمه.

والعبوس: صفة مشبهة لمن هو شديد العبس، أي كلوح الوجه وعدم انطلاقه، ووصف اليوم بالعبوس على معنى الاستعارة، شبه اليوم الذي تحدث فيه حوادث تسوءهم برجل يخالطهم شرس الأخلاق عبوسا في معاملته.
والقمطرير: الشديد الصعب من كل شيء. وعن ابن عباس القمطرير المقبض بين عينيه مشتق من قمطر القاصر إذا اجتمع، أو قمطر المتعدي إذا شد القربة بوكاء ونحوه، ومنه سمي السفط الذي توضع فيه الكتب قمطرا وهو كالمحفظة. وميم قمطرير أصلية فوزنه فعلليل مثل خندريس وزنجبيل، يقال: قمطر للشر، إذا تهيأ له وجمع نفسه.
والجمهور جعلوا {قمطريرا} وصف {يوما} ومنهم من جعلوه وصف {عبوسا} أي شديد العبوس.
وهذه الآية تعم جميع الأبرار وعلى ذلك التحم نسجها، وقد تلقفها القصاصون والدعاة ووضعوا لها قصصا مختلفة وجاؤوا بأخبار موضوعة وأبيات مصنوعة فمنهم من زعم أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنهما في قصة طويلة ذكرها الثعلبي والنقاش وساقها القرطبي بطولها ثم زيفها. وذكر عن الحكيم الترمذي أنه قال في نوادر الأصول: هذا حديث مزوق مزيف وأنه يشبه أن يكون من أحاديث أهل السجون.
وقيل نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري، وقيل في رجل غيره من الأنصار، وقد استوفي ذلك كله القرطبي في تفسيره فلا طائل تحت اجتلابه، وصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله أهل لأن ينزل القرآن فيهم إلا أن هذه الأخبار ضعيفة موضوعة.
[11-14] {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً، وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً، مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} .
تفريع على قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} إلى {قَمْطَرِيراً} [الانسان: 7-10].
وفي هذا التفريع تلوين للحديث عن جزاء الأبرار وأهل الشكور، وهذا برزخ للتخلص إلى عود الكلام على حسن جزاءهم أن الله وقاهم شر ذلك اليوم وهو الشر لمستطير المذكور آنفا، وقاهم إياه جزاء على خوفهم إياه وأنه لقاهم نظرة وسرورا جزاء

على ما فعلوا من خير.
وأدمج في ذلك قوله: {بِمَا صَبَرُوا} الجامع لأحوال التقوى والعمل الصالح كله لأن جميعه لا يخلوا عن تحمل النفس لترك محبوب أو فعل ما فيه كلفة، ومن ذلك إطعام الطعام على حبه.
و {لقاهم} معناه: جعلهم يلقون نضرة وسرورا، أي جعل لهم نظرة وهي حسن البشرة، وذلك يحصل من فرح النفس ورفاهية العيش قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] فمثل إلقاء النضرة على وجوههم بزج أحد إلى لقاء أحد على طريقة التمثيل.
وضمير الغائبة و {نضرة} مفعولا "لقى" من باب كسا.
وبين "وقاهم" و {لقاهم} الجناس المحرف.
وجملة {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} ، عطف على جملة {فوقاهم} وجملة {ولقاهم} لتماثل الجمل الثلاث في الفعلية والمضي وهما محسنان من محسنات الوصل.
والحرير: اسم لخيوط من مفرزات دودة مخصوصة، وتقدم الكلام عليه في سورة فاطر.
وكان الجزاء برفاهية العيش إذ جعلهم في أحسن المساكن وهو الجنة، وكساهم أحسن الملابس وهو الحرير الذي لا يلبسه إلا أهل فرط اليسار، فجمع لهم حسن الظرف الخارج وحسن الظرف المباشر وهو اللباس.
والمراد بالحرير هنا: ما ينسج منه.
و {متكئين} : حال من ضمير الجمع في {جزاهم} ، أي هم في الجنة متكئون على الأرائك.
والاتكاء: جلسة بين الجلوس والاضطجاع يستند فيها الجالس على مرفقه وجنبه ويمد رجليه وهي جلسة ارتياح، وكانت من شعار الملوك وأهل البذخ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فلا آكل متكئا" وتقدم ذلك في سورة يوسف [31] عند قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} .
و {الأرائك} : جمع أريكة بوزن سفينة. والأريكة: سرير عليه وسادة معها ستر وهو حجلته، والحجلة بفتحتين وبتقديم الحاء المهملة على الجيم: كلة تنصب فوق السرير لتقي

الحر والشمس، ولا يسمى السرير أريكة إلا إذا كان معه حجلة.
وقيل: كل ما يتوسد ويفترش مما له حشو يسمى أريكة وإن لم تكن له حجلة، وفي الإتقان عن ابن الجوزي: أن الأريكة السرير بالحبشية فزاده السيوطي على أبيات ابن السبكي وابن حجر في جمع المعرب في القرآن.
وجملة {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} حال ثانية من ضمير الغائب في {جزاهم} أو صفة {جنة} .
والمراد بالشمس: حر أشعتها، فنفي رؤية الشمس في قوله: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً} فيكون نفي رؤية الشمس كناية عن نفي وجود الشمس الذي يلزمه انتفاء حر شعاعها فهو من الكناية التلويحية كقوله:
ولا ترى الضب فيها ينجحر
أي لا ضب بها فتراه ولا يكون انجحاره.
والزمهرير: اسمك للبرد القوي في لغة الحجاز، والزمهرير: اسم البرد.
والمعنى: أن هواء الجنة معتدل لا ألم فيه بحال. وفي كلام الرابعة من نساء حديث أم زرع زوجي كليل تهامة، ولا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة.
وقال ثعلب: الزمهرير اسم القمر في لغة طيء، وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر
والمعنى على هذا: أنهم لا يرون في الجنة ضوء الشمس ولا ضوء القمر، أي ضوء النهار وضوء الليل لأن ضياء الجنة من نور واحد خاص بها. وهذا معنى آخر غير نفي الحر والبرد.
ومن الناس من يقول: المراد بالشمس حقيقتها وبالزمهرير البرد وأن في الكلام احتباكا، والتقدير: لا يرون فيها شمسا ولا قمرا ولا حرا ولا زمهريرا وجعلوه مثالا للاحتباك في المحسنات البديعية، ولعل مراده: أن المعنى أن نورها معتدل وهواءها معتدل.
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} انتصب {دانية} عطفا على {متكئين} لأن هذا حال سببي من أحوال المتكئين، أي ظلال شجر الجنة قريبة منهم. و {ظلالها} فاعل {دانية} وضمير

{ظلالها} عائد إلى {جنة} .
ودنو الظلال: قربها منهم وإذ لم يعهد وصف الظل بالقرب يظهر أن دنو الظلال كناية عن تدلي الأدواح التي من شأنها أن تظلل الجنات في معتاد الدنيا ولكن الجنة لا شمس فيها فيستظل من حرها، فتعين أن تركيب {دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} مثل يطلق على تدلي أفنان الجنة لأن الظل المظلل للشخص لا يتفاوت بدنو ولا بعد، وقد يكون {ظلالها} مجازا مرسلا عن الأفنان بعلاقة اللزوم.
والمعنى: أن أدواح الجنة قريبة من مجالسهم وذلك مما يزيدها بهجة وحسنا وهو في معنى قوله تعالى {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:23].
ولذلك عطف عليه جملة {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} ، أي سخرت لهم قطوف تلك الألواح وسهلت لهم بحيث لا التواء فيها ولا صلابة تتعب قاطفها ولا يتمطون إليها بل يجتنونها بأسهل تناول.
فاستعير التذليل للتيسير كما يقال: فرس ذلول: أي مطواع لراكبه، وبقرة ذلول، أي ممرنة على العمل، وتقدم في سورة البقرة.
والقطوف: جمع قطف بكسر القاف وسكون الطاء، وهو العنقود من التمر أو العنب، سمي قطفا بصيغة من صيغ المفعول مثل ذبح، لأنه يقصد قطفه فإطلاق القطف عليه مجاز باعتبار المآل شاع في الكلام. وضمير {قطوفها} عائد إلى {جنة} أو إلى {ظلالها} باعتبار الظلال كناية عن الأشجار.
و {تذليلا} مصدر مؤكد لذلك، أي تذليلا شديدا منتهيا.
[15-16] {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا، قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} .
عطف على جملة {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الانسان: 5] الخ كما اقتضاه التناسب بين جملة {يشربون} وجملة {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} في الفعلية والمضارعية، وذلك من أحسن أحوال الوصل، عاد الكلام إلى صفة مجالس شرابهم.
وهذه الجملة بيان لما أجمل في جملة {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الانسان: 5]. وإنما عطف عليها لما فيها من مغايرة مع الجملة المعطوف عليها من صفة آنية الشراب،

فلهذه المناسبة أعقب ذكر مجالس أهل الجنة ومتكآتهم، بذكر ما يستتبعه مما تعارفه أهل الدنيا من أحوال أهل البذخ والترف واللذات بشرب الخمر إذ يدير عليهم آنية الخمر سقاة. وإذ قد كان ذلك معروفا ولم تكن حاجة إلى ذكر فاعل الطواف فبني للنائب.
وهذا وعد لهم بإعطاء متمناهم في الدنيا مع مزيد عليه من نعيم الجنة ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.
والطواف: مشي مكرر حول شيء أو بين أشياء، فلما كان أهل المتكأ جماعة كان دوران السقاء بهم طوافا. وقد سموا سقي الخمر: إدارة الخمر أو إدارة الكأس. والساقي: مدير الكأس، أو مدير الجام أو نحو ذلك.
والآنية: جمع إناء ممدودا بوزن أفعلة مثل كساء وأكسية ووعاء وأوعية اجتمع في أول الجمع همزتان مزيدة وأصلية فخففت ثانيتهما ألفا.
والإناء: اسم لكل وعاء يرتفق به، وقال الراغب: ما يوضع فيه الشيء اه فيظهر انه يطلق على كل وعاء يقصد للاستعمال والمداولة للأطعمة والأشربة ونحوهما سواء كان من خشب أو معدن أو فخار أو أديم أو زجاج، يوضع فيه ما يشرب. أو يؤكل، أو يطبخ فيه، والظاهر أنه لا يطلق على ما يجعل للخزن فليست القربة بإناء ولا الباطية بإناء، والكأس إناء والكوز إناء والإبريق إناء والصحفة إناء.
والمراد هنا آنية مجالس شرابهم كما يدل عليه ذكر الأكواب وذلك في عموم الآنية وما يوضع معه من نقل أو شواء أو نحو ذلك كما قال تعالى في آية الزخرف [71] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} .
وتشمل الآنية الكؤوس وذكر الآنية بعد {كَأْسٍ} [الانسان: 5] من قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الانسان: 5] من ذكر العام بعد الخاص إلا إذا أريد الكأس بالخمر.
والأكواب: جمع كوب بضم الكاف بعده واو ساكنة. والكوب: كوز لا عروة له ولا خرطوم له، وتقدم في سورة الزخرف.
وعطف {أكواب} على "آنية" من عطف الخاص على العام لأن الأكواب تحمل فيها الخمر لإعادة ملء الكؤوس. ووصفت هنا بأنها من فضة، أي تأتيهم آنيتهم من فضة في بعض الأوقات ومن ذهب في أوقات أخرى كما دل عليه قوله في سورة الزخرف [71] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} لأن للذهب حسنا وللفضة حسنا فجعلت

آنيتهم من المعدنين النفيسين لئلا يفوتهم ما في كل من الحسن والجمال، أو يطاف عليهم بآنية من فضة وآنية من ذهب متنوعة متزاوجة لأن ذلك أبهج منظرا مثل ما قاله مرة {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان: 21]، ومرة {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف: 31] وذلك لإدخال المسرة على أنفسهم بحسن المناظر فإنهم كانوا يتمنونها في الدنيا لعزة وجودها أو وجود الكثير منها، وأوثر ذكر آنية الفضة هنا لمناسبة تشبيهها بالقوارير في البياض.
والقوارير: جمع قارورة، وأصل القارورة إناء شبه كوز، قيل: لا تسمى قارورة إلا إذا كانت من زجاج، وقيل مطلقا وهو الذي ابتدأ به صاحب القاموس .
وسميت قارورة اشتقاقا من القرار وهو المكث في المكان وهذا وزن غريب.
والغالب أن اسم القارورة للإناء من الزجاج، وقد يطلق على ما كان من زجاج وإن لم يكن إناء كما في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44] وقد فسر قوله: {قواريرا} في هذه الآية بأنها شبيهة بالقوارير في صفاء اللون والرقة حتى كأنها تشف عما قريب.
والتنافس في رقة آنية الخمر معروف عند شاربيها قال الأعشى:
تريك القذى من دونها وهي دونه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطق
وفعل {كانت} هنا تشبيه بليغ، والمعنى: إنها مثل القوارير في شفيفها، وقرينة ذلك قوله: {مِنْ فِضَّةٍ} ، أي هي من جنس الفضة في لون القوارير لأن قوله: {مِنْ فِضَّةٍ} حقيقة فإنه قال قبله {بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} .
ولفظ {قوارير} الثاني، يجوز أن بكون تأكيدا لفظيا لنضيره لزيادة تحقيق أن لها رقة الزجاج فيكون الوقف على {قوارير} الأول.
ويجوز أن يكون تكريرا لإفادة التصنيف فإن حسن التنسيق في آنية الشراب من مكملات رونق مجلسه، فيكون التكرير مثل ما في قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] وقول الناس: قرأت الكتاب بابا بابا فيكون الوقف على {قوارير} الثاني.
وكتب في المصحف {قَوَارِيرَا، قَوَارِيرَ} بألف آخر تلك الكلمتين التي هي علامة تنوين.
وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر {قواريرا} الأول والثاني منونين

وتنوين الأول لمراعاة الكلمات الواقعة في الفواصل السابقة واللاحقة من قوله: {كَافُوراً} [الانسان: 5] إلى قوله: {تقديرا} وتنوين الثاني للمزاوجة مع نظيره وهؤلاء وقفوا عليهما بالألف مثل أخواتهما وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {سَلاسِلا وَأَغْلالاً} [الانسان: 4].
وقرأ ابن كثير وخلف ورويس عن يعقوب {قواريرا} الأول بالتنوين ووقفوا عليه بالألف وهو جار على التوجيه الذي وجهنا به قراءة نافع والكسائي. وقرأ {قواريرا} الثاني بغير تنوين على الأصل ولم تراع المزاوجة ووقفا عليه بالسكون.
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم بترك التنوين فيهما لمنع الصرف وعدم مراعاة الفواصل ولا المزاوجة.
والقراءات رواية متواترة لا يناكدها رسم للمصحف فلعل الذين كتبوا المصاحف لم تبلغهم إلا قراءة أهل المدينة.
وحدث خلف عن يحيى بن آدم عن ابن إدريس قال في المصاحف الأول ثبت {قواريرا} الأول بالألف والثاني بغير ألف، يعني المصاحف التي في الكوفة فإن عبد الله بن إدريس كوفي. وقال أبو عبيد: رأيت في مصحف عثمان {قواريرا} الأول بالألف وكان الثاني مكتوبا بالألف فحكت فرأيت أثرها هناك بينا. وهذا كلام لا يفيد إذ لو صح لما كان يعرف من الذي كتبه بالألف، ولا من الذي محا الألف ولا متى كان ذلك فيما بين زمن كتابة المصاحف وزمن أبي عبيد، ولا يدري ماذا عني بمصحف عثمان أهو مصحفه الذي اختص به أم هو مصحف من المصاحف التي نسخت في خلافته ووزعها على الأمصار?.
وقرأ يعقوب بغير تنوين فيهما في الوصل.
وأما في الوقف فحمزة وقف عليهما بدون ألف. وهشام عن ابن عامر وقفا عليهما بالألف على أنه صلة للفتحة، أي إشباع للفتحة ووقف أبو عمر وحفص وابن ذكوان عن ابن عامر ورويس عن يعقوب على الأول بالألف وعلى الثاني بدون ألف ووجهه ما وجهت به قراءة ابن كثير وخلف.
وقوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} يجوز أن يكون ضمير الجمع عائد إلى {الْأَبْرَارَ} [الانسان: 5] أو {عِبَادُ اللَّهِ} [الانسان: 6] الذي عادت إليه الضمائر المتقدمة في قوله: {يُفَجِّرُونَهَا} [الانسان: 6] و {يُوفُونَ} [الانسان: 7] إلى آخر الضمائر فيكون معنى التقدير رغبتهم أن تجيء

على وفق ما يشتهون.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى نائب الفاعل المحذوف المفهوم من بناء {يطاف} للنائب، أي الطائفون عليهم بها قدروا الآنية والأكواب، أي قدروا ما فيها من الشراب على حسب ما يطلبه كل شارب منهم ومآله إلى معنى الاحتمال الأول. وكان مما يعد في العادة من حذق الساقي أن يعطي كل أحد من الشرب ما يناسب رغبته.
و {تقديرا} مفعول مطلق مؤكد لعامله للدلالة على وفاء التقدير وعدم تجاوزه المطلوب ولا تقصيره عنه.
[17-18] {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً، عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} .
أتبع وصف الآنية ومحاسنها بوصف الشراب الذي يحويه وطيبه، فالكأس كأس الخمر وهي من جملة عموم الآنية المذكورة فيما تقدم ولا تسمى آنية الخمر كأسا إلا إذا فيها خمر فكون الخمر فيها وهو مصحح تسميتها كأسا، ولذلك حسن تعديه فعل السقي إلى الكأس لأن مفهوم الكأس يتقوم بما في الإناء من الخمر، ومثل قول هذا قول الأعشى:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
يريد: وخمر شربت.
والقول في إطلاق الكأس على الإناء أو على ما فيه كالقول في نظيره المتقدم في قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الانسان:5].
ومعنى الآية أن هذه سقية أخرى، أي مرة يشربون من كأس مزاجها الكافور ومرة يسقون كأسا مزاجها الزنجبيل.
وضمير {فيها} للجنة من قوله: {جَنَّةً وَحَرِيراً} [الانسان: 12].
وزنجبيل: كلمة معربة وأصلها بالكاف الأعجمية عوض الجيم. قال الجواليقي والثعالبي: هي فارسية، وهو اسم لجذور مثل جذور السعد بضم السين وسكون العين تكون في الأرض كالجزر الدقيق واللفت الدقيق لونها إلى بياض لها نبات له زهر، وهي ذات رائحة عطرية طيبة وطعمها شبيه بطعم الفلفل، وهو ينبت ببلاد الصين والسند وعمان والشحر، وهو أصناف أحسنها ما ينبت ببلاد الصين، ويدخل في الأدوية والطبخ كالأفاوية ورائحته بهارية حريف. وهو منبه ويستعمل منقوعا في الماء ومربى بالسكر.

وقد عرفه العرب وذكره شعراء العرب في طيب الرائحة.
أي يمزجون الخمر بالماء المنقوع فيه الزنجبيل لطيب رائحته وحس طعمه.
وانتصب {عينا} على البدل من {زنجبيلا} كما تقدم في قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الانسان:5-6].
ومعنى كون الزنجبيل عينا: أن منقوعة أو الشراب المستخرج من كثير كالعين على نحو قوله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15]، أي هو كثير جدا وكان يعرف في الدنيا بالعزة.
و {سلسبيل} : وصف قبل مشتق من السلاسة وهي السهولة واللين فيقال: ماء سلسل، أي عذب بارد قيل زيدت فيه الباء والياء أي زيدتا في أصل الوضع على غير قياس.
قال التبريزي في شرح الحماسة في قول البعيث بن حريث:
خيال لأم السلسبيل ودونها ... مسيرة شهر للبريد المذبذب
قال أبو العلاء: السلسبيل الماء السهل المساغ. وعندي أن هذا الوصف ركب من مادتي السلاسلة والسبالة، يقال: سبلت السماء، إذا أمطرت، فسبيل فعيل بمعنى مفعول، ركب من كلمتي السلاسلة والسبيل لإرادة سهولة شربه ووفرة جريه. وهذا من الاشتقاق الأكبر وليس اشتقاق تصريفي.
فهذا وصف من لغة العرب عند محققي أهل اللغة. وقال ابن الإعرابي: لم اسمع هذه اللفظة إلا في القرآن، فهو عنده من مبتكرات القرآن الجارية على أساليب الكلام العربي، وفي حاشية الهمذاني على الكشاف نسبة بيت البعث المذكور آنفا مع بيتين بعده إلى أمية بن أبي الصلت وهو عزو غريب لم يقله غيره.
ومعنى {تسمى} على هذا الوجه، أنها توصف بهذا الوصف حتى صار كالعلم لها كما قال تعالى: {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [لنجم: 27] أي يصفونهم بأنهم إناث، ومنه قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] أي لا مثيل له. فليس المراد أنه علم.
ومن المفسرين من جعل التسمية على ظاهرها وجعل {سلسبيلا} علما على هذه العين، وهو أنسب بقوله تعالى: {تسمى} . وعلى قول ابن الأعرابي والجمهور: لا

إشكال في تنوين {سلسبيلا} . وأما الجواليقي: إنه أعجمي سمي به، يكون تنوينه للمزاوجة مثل تنوين {سَلاسِلا} [الانسان: 4].
وهذا الوصف ينحل في السمع إلى كلمتين: سل، سبيلا، أي اطلب طريقا. وقد فسره بذلك بعض المفسرين وذكر أنه جعل علما لهذه العين من قبيل العلم المنقول عن جملة مثل: تأبط شرا، وذرى حبا. وفي الكشاف أن هذا تكلف وابتداع.
[19] {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} .
هذا طواف آخر غير طواف السقاة المذكور آنفا بقوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان:15] الخ فهذا طواف لأداء الخدمة فيشمل طواف السقاة وغيرهم.
و {ولدان} : جمع وليد، وأصل وليد فعيل بمعنى مفعول ويطلق الوليد على الصبي مجازا مشهورا بعلاقة ما كان، لقصد تقريب عهده بالولادة، وأحسن ما يتخذ للخدمة الولدان لأنهم أخف حركة وأسرع مشيا ولأن المخدوم لا يتحرج إذا أمرهم أو نهاهم.
ووصفوا بأنهم {مخلدون} للاحتراس مما يوهمه اشتقاق {ولدان} من أنهم يشبون ويكتهلون، أي لا تتغير صفاتهم فهم ولدان دوما وإلا فإن خلود الذوات في الجنة معلوم فما كان ذكره إلا لأنه تخليد خاص.
وقال أبو عبيدة {مخلدون} : محلون بالخلدة بوزن قردة. واحدها خلد كقفل وهو اسم للقرط في لغة حمير.
وشبهوا باللؤلؤ المنثور تشبيها مقيدا فيه المشبه بحال خاص لأنهم شبهوا به في حسن المنظر مع التفرق.
وتركيب {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ} مفيد للتشبيه المراد به التشابه والخطاب في {رأيت} خطاب لغير معين، أي إذا رآه الرائي.
والقول في معنى الطواف تقدم عند قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان:15] الآية.
[20] {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} .
الخطاب لغير معين، و {ثم} إشارة إلى المكان ولا يكون إلا ظرفا والمشار إليه هنا

ما جرى ذكره أعني الجنة المذكورة في قوله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً} [الانسان: 12].
وفعل {رأيت} الأول منزل منزلة اللازم يدل على حصول الرؤية فقط لا تعلقها بمرئي، أي إذا وجهت نظرك. و {رأيت} الثاني جواب {إذا} ، أي إذا فتحت عينك ترى نعيما.
والتقييد ب {إذا} أفاد معنى الشرطية فدل على أن رؤية النعيم لا تتخلف عن بصر المبصر هنالك فأفاد معنى: لا ترى إلا نعيما، أي بخلاف ما يرى في جهات الدنيا.
وفي قوله: {وَمُلْكاً كَبِيراً} تشبيه بليغ، أي مثل أحوال الملك الكبير المتنعم ربه.
وفائدة هذا التشبيه تقريب المشبه لمدارك العقول.
والكبير مستعار للتعظيم وهو زائد على النعيم بما فيه من رفعة وتذليل للمصاعب.
[21] {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} .
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} .
هذه أشياء من شعار الملوك في عرف الناس زمانئذ، فهذا مرتبط بقوله: {وَمُلْكاً كَبِيراً} [الانسان:20].
وقرأ نافع وحمزة وأبو جعفر {عاليهم} بسكون الياء على أن الكلام جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لجملة {رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الانسان: 20]، ف {عاليهم} مبتدأ و {ثِيَابُ سُنْدُسٍ} فاعله ساد مسد الخبر وقد عمل في فاعله وإن لم يكن معتمدا على نفي أو استفهام و وصف، وهي لغة خبير بنو لهب وتكون الجملة في موضع البيان لجملة {رَأَيْتَ نَعِيماً} [الانسان: 20].
وقرأ بقية العشرة {عاليهم} بفتح التحتية على أنه حال مفرد لـ {الْأَبْرَار} [الانسان: 5]، أي تلك حالة أهل الملك الكبير.
وإضافة {ثياب} إلى {سندس} بيانية مثل: خاتم ذهب، وثوب خز. أي منه.
والسندس: الديباج الرقيق.

والإستبرق: الديباج الغليظ وتقدما عند قوله تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} في سورة الكهف [31] وهما معربان.
فأما السندس فمعرب عن اللغة الهندية وأصله "سندون" بنون في آخره، قيل: إن سبب هذه التسمية أنه جلب إلى الإسكندر، وقيل له: إن اسمه "سندون" فصيره للغة اليونان سندوس لأنهم يكثرون تنهية الأسماء بحرف السين وصيره العرب سندسا. وفي "اللسان" : أن السندس يتخذ من المرعزي كذا ضبطه مصححه، والمعروف المرعز كما في "التذكرة" و "شفاء الغليل" . وفي "التذكرة" المرعز، ما نعم وطال من الصوف اه. فلعله صوف حيوان خاص فيه طول أو هو من نوع الشعر، والظاهر أنه لا يكون إلا أخضر اللون لقول يزيد بن حذاق العبدي يصف مرعى فرسه:
وداويتها حتى شتت حبشية ... كأن عليها سندسا وسدوسا
أي في أرض شديدة الخضرة كلون الحبشي. وفي اللسان: السدوس الطيلسان الأخضر. ولقول أبي تمام يرثي محمد بن حميد النبهاني الطوسي:
تردى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
وأما الإستبرق فنسج من نسج الفرس واسمه فارسي، وأصله في الفارسية: استقره.
والمعنى: أن فوقهم ثيابا من الصنفين يلبسون هذا وذاك جمعا بين محاسن كليهما، وهي أفخر لباس الملوك وأهل الثروة.
ولون الأخضر أمتع للعين وكان من شعار الملوك. قال النابغة يمدح ملوك غسان:
يصونون أجسادا قديما نعيمها ... بخالصة الأردان خضر المناكب
والظاهر أن السندس كان لا يصبغ إلا أخضر اللون.
وقرأ نافع وحفص {خضر} بالرفع على الصفة لـ {ثياب} . و {إستبرق} بالرفع أيضا على أنه معطوف على {ثياب} بقيد كونها من سندس فمعنى عاليهم إستبرق: أن الإستبرق لباسهم.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم {خضر} بالجر نعتا لـ {سندس} ، و {إستبرق} بالرفع عطفا على {ثياب} .
وقرأ ابن عامر وأبو عمروا وأبو جعفر ويعقوب {خضر} بالرفع و {إستبرق} بالجر

عطفا على {سندس} بتقدير: وثياب إستبرق.
وقرأ حمزة والكسائي {خضر} بالجر نعتا لـ {سندس} باعتبار أنه بيان للثياب فهو في معنى الجمع. وقرأ و {إستبرق} بالجر عطفا على {سندس} .
والأساور: جمع سور وهو حلي شكله أسطواني فارغ الوسط يلبسه النساء في معاصمهن ولا يلبسه الرجال إلا الملوك، وقد ود في الحديث ذكر السواري كسرى.
والمعنى: أن حال رجال أهل الجنة حال الملوك ومعلوم أن النساء يتخلين بأصناف الحلي.
ووصفت الأساور هنا بأنها {مِنْ فِضَّةٍ} . وفي سورة الكهف [31] بأنها {مِنْ فِضَّةٍ} في قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} ، أي مرة يحلون هذه ومرة أخرى، أو يحلونهما جميعا بأن تجعل متزاوجة لأن ذلك أبهج منظرا كما ذكرناه في تفسير قوله: {كَانَتْ قَوَارِيرَا، قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان:15-16].
{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}
هذا احتراس مما يوهمه شربهم من الكأس الممزوجة بالكافور والزنجبيل من أن يكون فيها ما في أمثالها المعروفة في الدنيا ومن المغول وسوء القول والهذيان، فعبر عن ذلك بكون شرابهم طهورا بصيغة المبالغة في الطهارة وهي النزاهة من الخبائث، أي منزها عما في غيره من الخباثة والفساد.
وأسند سقيه إلى ربهم إظهارا لكرامتهم، أي أمر هو بسقيهم كما يقال: أطعمهم رب الدار وسقاهم.
[22] {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} .
هذا الكلام مقبول قول محذوف قرينته الخطاب إذ ليس بصلح لهذا الخطاب مما تقدم من الكلام إلا أن يكون المخاطبون هم الأبرار الموصوف نعيمهم.
والقول المحذوف يقدر فعلا في موضع الحال من ضمير الغائب قس {سَقَاهُمْ} [الانسان:21]، نحو: يقال لهم، أو يقول لهم ربهم، أو يقدر اسما هو حال من ذلك الضمير نحو: مقولا لهم هذا اللفظ، أو قائلا هذا اللفظ.

والإشارة إلى ما يكون حاضرا لديهم من ألوان النعيم الموصوف فيما مضى من الآيات.
والمقصود من ذلك الثناء عليهم بما أسلفوا من تقوى الله وتكرمتهم بذلك وتنشيط أنفسكم بأن ما أنعم به عليهم هو حق لهم جزاء على عملهم.
وإقحام فعل {كان} للدلالة على تحقيق كونه جزاء لا منا عليهم بما لم يستحقوا، فإن من تمام الإكرام عند الكرام أن يتبعوا كرامتهم بقول ينشط له المكرم ويزيل عنه ما يعرض من خجل ونحوه، أي هو جزاء حقا لا مبالغة في ذلك.
وعطف على ذلك قوله: {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} علاوة على إيناسهم بأن ما أغدق عليهم كان جزاء لهم على ما فعلوا بأن سعيهم الذي كان النعيم جزاء عليه، هو سعي مشكور، أي مشكور ساعيه، فأسند المشكور إلى السعي على طريقة المجاز العقلي مثل قولهم: سيل مفعم.
ولك أن تجعل {مشكورا} مفعولا حقيقة عقلية لكن على طريقة الحذف والإيصال، أي مشكورا عليه.
وإقحام فعل {كان} كإقحام نظيره آنفا.
[23-24] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} .
من هنا يبتدئ ما لا خلاف في أنه مكي من هذه السورة.
وعلى كلا القولين فهذا استئناف ابتدائي ويجيء على قول الجمهور أن السورة كلها مكية وهو الأرجح، أنه استئناف للانتقال من الاستدلال على ثبوت البعث بالحجة والترهيب والوعيد للكافرين به والترغيب والوعد للمؤمنين به بمرهبات ومرغبات هي من الأحوال التي تكون بعد البعث، فلما استوفى ذلك ثني عنان الكلام إلى تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والربط على قلبه لدفاع أن تلحقه آثار الغم على تصلب قومه في كفرهم وتكذيبهم بما أنزل عليه مما شأنه أن يوهن العزيمة البشرية، فذكره الله بأنه نزل عليه الكتاب لئلا يعبأ بتكذيبهم.
وفي إيراد هذا بعد طول الكلام في أحوال الآخرة، قضاء لحق الاعتناء بأحوال

الناس في الدنيا فابتدئ بحال أشرف الناس وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بحال الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين من {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [الانسان: 27] و {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الانسان: 29] فأدخلهم في رحمته.
وتأكيد الخبر ب"أن" للاهتمام به.
وتأكيد الضمير المتصل بضمير منفصل في قوله: {إِنَّا نَحْنُ} لتقرير مدلول الضمير تأكيدا لفظيا للتنبيه على عظمة ذلك الضمير ليفضي بع إلى زيادة الاهتمام بالخبر إذ يتقرر أنه فعل من ذلك الضميران له لأنه لا يفعل إلا فعلا منوطا بحكمة وأقصى الصواب.
وهذا من الكناية الرمزية. وبعد فالخبر بمجموعه مستعمل في لازم معناه وهو التثبيت والتأييد فمجموعه كناية رمزية.
وإيثار فعل {نزلنا} الدال على تنزيله منجما آيات وسورا تنزيلا مفرقا إدماج للإيمان إلى أن ذلك كان من حكمة الله تعالى التي أومأ إليها تأكيد الخبر ب"أن" وتأكيد الضمير المتصل بالضمير المنفصل، فأجمع فيه تأكيد على تأكيد وذلك يفيد مفاد القصر إذ ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيدا على تأكيد كما قال السكاكي، فالمعنى: ما نزل عليك القرآن إلا أنا.
وفيه تعريض بالمشركين الذين قالوا {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] فجعلوا تنزيله مفرقا شبهة في أنه ليس من عند الله.
والمعنى: ما أنزله منجما إلا أنا واقتضت حكمتي أن أنزله عليك منجما.
وفرع على هذا التمهيد أمره بالصبر على أعباء الرسالة وما يلقاه فيها من أذى المشركين، وشد عزيمته أن لا تخور.
وسمى ذلك حكما لأن الرسالة عند الله لا خيرة للمرسل في قبولها والاضطلاع بأمورها، ولأن ما يحف بها من مصاعب إصلاح الأمة وحملها على ما فيه خيرها في العاجل والآجل، وتلقي أصناف الأذى في خلال ذلك حتى يتم ما أمر الله به، كالحكم على الرسول بقبول ما يبلغ منتهى الطاقة إلى أجل معين عند الله.
وعدي فعل "اصبر" باللام لتضمين الصبر معنى الخضوع والطاعة للأمر الشاق، وقد يعدى بحرف "على" كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل: 10]. ومناسبة مقام

الكلام ترجح إحدى التعديتين كما تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} في سورة المدثر [7].
ولما كان من ضروب إعراضهم عن قبول دعوته ضرب فيه رغبات منهم مثل أن يترك قرعهم بقوارع التنزيل من تأفين رأيهم وتحقير دينهم وأصنامهم، وربما عرضوا عليه الصهر معهم، أو بذل المال منهم، أعقب أمره بالصبر على ما هو من ضروب الإعراض من صلابة وشدة، بأن نهاه عن أن يطيعهم في الضرب الآخر من ضروب الإعراض الواقع في قالب اللين والرغبة.
وفي هذا النهي تأكيد للأمر بالصبر لأن النهي عنه يشمل كل ما يرفع موجبات الصبر المراد هنا.
والمقصود من هذا النهي تأييسهم من استجابته لهم حين يقرأ عليهم هذه الآية لأنهم يحسبون أن ما عرضوه عليه سيكون صارفا له عما هو قائم به من الدعوة إذ هم بعداء عن إدراك ماهية الرسالة ونزاهة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والطاعة: امتثال الطلب بفعل المطلوب وبالكف عن المنهي عنه فقد كان المشركون يعمدون إلى الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ما يرغبون، مثل طرد ضعفاء المؤمنين من المجلس، والإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله بما يشايع أحوالهم، وأن يكف عما لا يريدون وقوعه من تحقير آلهتهم، والجهر بصلاته، فحذره الله من الاستماع إلى قولهم وإياسهم من حصول مرغوبهم.
ومقتضى الظاهر أن يقول: ولا تطعهم، أو ولا تطع منهم أحدا، فعدل عنه إلى {آثِماً أَوْ كَفُوراً} للإشارة بالوصفين إلى أن طاعتهم تفضي إلى ارتكاب إثم أو كفر، لأنهم في ذلك يأمرونه وينهونه غالبا فهم لا يمرون إلا بما يلائم صفاتهم.
فالمراد بالآثم والكفور: الصنفان من الموصوفين وتعليق الطاعة المنهي عنها بهذين النوعين مشعر بأن الوصفين علة في النهي.
والآثم والكفور متلازمان فكان ذكر أحد الوصفين مغنيا عن الآخر ولكن جمع بينهما لتشويه حال المتصف بهما قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].
وفي ذكر هذين الوصفين إشارة أيضا إلى زعيمين من زعماء الكفر والعناد وهما عتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، لأن العتبة اشتهر بارتكاب المآثم والفسوق، والوليد اشتهر

بشدة الشكيمة في الكفر والعتو. وقد كانا كافرين فأشير إلى كل واحد منهما بما هو علم فيه بين بقية المشركين من كثرة المآثم لأولهما. والمبالغة في الكفر لثانيهما، فلذلك صيغت له صيغة المبالغة "كفور".
قيل عرض عتبة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوة الناس إلى الإسلام ويزوجه ابنته وكانت من أجمل نساء قريش. وعرض الوليد علية أن يعطيه من المال ما يرضيه ويرجع عن الدعوة، وكان الوليد من أكثر قريش مالا وهو الذي قال الله في شأنه {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} [المدثر:12]. فيكون في إيثار هذين الوصفين بالذكر إدماج لذمهما والتلميح لقصتهما.
وأيا ما كان فحرف {أو} لم يعد أصل معناه من عطف تشريك أحد شيئين أو أشياء في خبر أو طلب، وهذا التشريك يفيد تخييرا، أو إباحة، أو تقسيما، أو شكا، أو تشكيكا بحسب المواقع وبحسب عوامل الإعراب لتدخل {أو} التي تضمر بعدها "أن" فتنصب المضارع. وكون المشرك بها واحدا من متعدد ملازما لمواقعها كلها.
فمعنى الآية نهي عن طاعة أحد هذين الموصوفين ويعلم أن طاعة كليهما منهي عنها بدلالة الفحوى لأنه إذا أطاعهما معا فقد تحقق منه طاعة أحدهما وزيادة.
وموقع {منهم} موقع الحال من {آثما} فإنه صفة {آثما} فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالا.
و"من" للتبعيض. والضمير المجرور بها عائد للمشركين، ولم يتقدم لهم ذكر لأنهم معلومون من سياق ادعوة أو لأنهم المفهوم من قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} أي لا كما يزعم المشركون أنك جئت به من تلقاء نفسك، ومن قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} ، أي على أذى المشركين.
ويؤول معناه: ولا تطع أحدا من المشركين.
[25-26] {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} .
أي أقبل على شأنك من الدعوة إلى الله وذكر الله بأنواع الذكر. وهذا إرشاد إلى ما فيه عون له على الصبر على ما يقولون.

والمراد بالبكرة والأصيل استغراق أوقات النهار، أي لا يصدك إعراضهم عن معاودة الدعوة وتكريرها طرفي النهار. ويدخل في ذكر الله الصلوات مثل قوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114-115] وكذلك النوافل التي هي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بين مفروض منها وغير مفروض. فالأمر في قوله: {واذكر} مستعمل في مطلق الطلب من وجوب ونفل.
وذكر اسم الرب يشمل تبليغ الدعوة ويشمل عبادة الله في الصلوات المفروضة والنوافل ويشمل الموعظة بتخويف عقابه ورجاء ثوابه.
وقوله: {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} يشمل أوقات النهار كلها المحدودة منها كأوقات الصلوات وغير المحدود كأوقات النوافل، والدعاء والاستغفار.
و {بكرة} هي أول النهار، {وأصيلا} عشيا.
وقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} إشارة إلى أن الليل وقت تفرغ من بث الدعوة كما تقدم في قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} إلى قوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 2-20] الآية وهذا خاص بصلاة الليل فرضا ونفلا.
وقوله: {وسبحه} جملة معطوفة على جملة {مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} فتعين أن التسبيح التنفل.
والتسبيح: التنزيه بالقول وبالاعتقاد، ويشمل الصلوات والأقوال الطيبة والتدبر في دلائل صفات الله وكمالاته، وغلب إطلاق مادة التسبيح على الصلاة النافلة، وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48]، أي من الليل. وعن عبد الملك بن حبيب: {وسبحه} هنا صلاة التطوع في الليل، وقوله: {طويلا} صفة {ليلا} وحيث وصف الليل بالطول بعد الأمر بالتسبيح فيه، علم أن {ليلا} أريد به أزمان الليل لأنه مجموع الوقت المقابل للنهار، لأنه لو أريد ذلك المقدار كله لم يكن في وصفه بالطول جدوى، فتعين أن وصف الطول تقييد للأمر بالتسبيح، أي سبحه أكثر الليل، فهو في معنى قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} إلى {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 2-4] أو يتنازعه كل من {اسجد} و {سبحه} .
وانتصب {ليلا} على الظرفية لـ {سبحه} .
وعن ابن عباس وابن زيد: أن هاتين الآيتين إشارة إلى الصلوات الخمس وأوقاتها

بناء أن الأصيل يطلق على وقت الظهر فيكون قوله: {وسبحه} إشارة إلى قيام الليل.
وهذه الآية جاءت على وفق قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97-98] وقوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً، وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل: 8-10].
[27] {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} .
تعليل للنهي عن إطاعتهم في قوله: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان: 24]، أي لأن خلقهم الانصباب على الدنيا مع الإعراض عن الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث فلو أعطاهم لتخلق بخلقهم قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} [النساء: 89] الآية. فموقع {إن} موقع التعليل وهي بمنزلة فاء السببية كما نبه عليه الشيخ عبد القاهر.
و {هؤلاء} إشارة إلى حاضرين في ذهن المخاطب لكثرة الحديث عنهم، وقد استقريت من القرآن أنه إذا أطلق {هؤلاء} دون سبق ما يكون مشارا إليه فالمقصود به المشركون، وقد ذكرت ذلك في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} في سورة الأنعام [89] وقوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} في سورة هود [109].
وقد تنزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محبة الدنيا فقال "ما لي وللدنيا" فليس له محبة لأمورها عدا النساء والطيب كما قال "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب" .
فأما النساء فالميل إليهن مركوز في طبع الذكور، وما بالطبع لا يتخلف، وفي الأنس بهن انتعاش للروح فتناوله محمود إذا وقع على الوجه المبرأ من الإيقاع في فساد وما هو الأمثل تناول الطعام وشرب الماء قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38].
وأما الطيب فلأنه مناسب للتزكية النفسية.
وصيغة المضارع في {يحبون} تدل على تكرر ذلك، أي أن ذلك دأبهم وديدنهم لا يشاركون مع حب العاجلة حب الآخرة.

و {العاجلة} : صفة لموصوف محذوف معلوم من المقام تقديره: الحياة العاجلة، أو الدار العاجلة. والمراد بها مدة الحياة الدنيا.
وكثر في القرآن إطلاق العاجلة على الدنيا كقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20-21] فشاع بين المسلمين تسمية الدنيا بالعاجلة.
ومتعلق {يحبون} مضاف محذوف، تقديره: نعيم أو منافع لأن الحب لا يتعلق بذات الدنيا.
وفي إيثار ذكر الدنيا بوصف العاجلة توطئة للمقصود من الذم لأن وصف العاجلة يؤذن بأنهم آثروها لأنها عاجلة. وفي ذلك تعريض بتحميقهم إذ رضوا بالدون لأنه عاجل وليس ذلك من شيم أهل التبصر، فقوله: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} واقع موقع التكميل لمناط ذمهم وتحميقهم لأنهم لو أحبوا الدنيا مع الاستعداد للآخرة لما كانوا مذمومين قال تعالى حكاية لقول الناصحين لقارون {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. وهذا نظير قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] إذ كان مناط الذم فيه هو أن قصروا أنفسهم على علم أمور الدنيا مع الإعراض عن العلم بالآخرة.
ومثلوا بحال من يترك شيئا وراءه فهو لا يسعى إليه وإنما يسعى إلى ما بين يديه.
وإنما أعرضوا عنه لأنهم لا يؤمنون بحلوله فكيف يسعون إليه.
وصيغة المضارع في {يذرون} تقتضي أنهم مستمرون على ذلك وأن ذلك متجدد فيهم ومتكرر لا يتخلفون عن ذلك الترك لأنهم لا يؤمنون بحلول ذلك اليوم، فالمسلمون لا يذرون وراءهم هذا اليوم لأنهم لا يخلون من عمل له على تفاوت بينهم في التقوى.
واليوم الثقيل: هو يوم القيامة، وصف بالثقيل على وجه الاستعارة لشدة ما يحصل فيه من المتاعب والكروب فهو كالشيء الثقيل الذي لا يستطاع حمله.
والثقل: مستعار للشدة والعسر قال تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [لأعراف: 187] وقال {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5].
[28] {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} .
لما كان الإخبار عنهم بأنهم {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الانسان: 27] يتضمن أنهم

ينكرون وقوع ذلك اليوم كما قدمناه وكان الباعث لهم على إنكاره شبهة استحالة إعادة الأجساد بعد بلاها وفنائها، وكان الكلام السابق مسوقا مساق الذم لهم والإنكار عليهم جيء هنا بما هو دليل للإنكار عليهم وإبطال لشبهتهم ببيان إمكان إعادة خلقهم يعيده الذي خلقهم أول مرة كما قال تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الاسراء: 51] وغير ذلك من الآيات الحائمة حول هذا المعنى.
وافتتاح الجملة بالمبتدإ المخبر عنه بالخبر الفعلي دون أن تفتتح ب {خَلَقْنَاهُمْ} أو نحن خالقون، لإفادة تقوي الخبر وتحقيقه بالنظر إلى المعنيين بهذا الكلام وإن لم يكن خطابا لهم ولكنهم هم المقصود منه.
وتقوية الحكم بناء على تنزيل أولئك المخلوقين منزلة من يشك في أن الله خلقهم حيث لم يجرؤوا على موجب العلم فأنكروا أن الله يعيد الخلق بعد البلى فكأنهم يسندون الخلق الأول لغيره. وتقوي الحكم يترتب عليه أنه إذا شاء بدل أمثالهم بإعادة أجسادهم فلذلك لم يحتج إلى تأكيد جملة {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} استغناء بتولد معناها عن معنى التي قبلها وإن كان هو أولى بالتقوية على مقتضى الظاهر. وهذا التقوي هنا مشعر بأن كلاما يعقبه هو مصب التقوي، ونظيره في التقوي والتفريع قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} إلى قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} فإن المفرع هو {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} وما اتصل به. وجملة {فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} معترضة وقد مضى في سورة الواقعة [57-61].
ف {أمثالهم} : هي الأجساد الثانية إذ هي أمثال لأجسادهم الموجودة حين التنزيل.
والشد: الإحكام وإتقان ارتباط أجزاء الجسد بعضها ببعض بواسطة العظام والأعصاب والعروق إذ بذلك يستقل الجسم.
والأسر: الربط وأطلق هنا على الإحكام والإتقان على وجه الاستعارة.
والمعنى: أحكمنا ربط أجزاء أجسامهم فكانت مشدودا بعضها على بعض.
وقوله: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ} إخبار بأن الله قادر على أن يبدلهم بناس آخرين.
فحذف مفعول {شئنا} لدلالة جواب {إذا} عليه كما هو الشأن في فعل المشيئة غالبا.

واجتلاب {إذا} في هذا التعليق لأن شأن {إذا} أن يفيد اليقين بوقوع ما قيد بها بخلاف حرف {إن} فهو إيماء إلى أن حصول هذه المشيئة مستقرب الوقوع.
فيجوز أن يكون هذا بمنزلة النتيجة لقوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ} الخ، ويحمل الشرط على التحقق قال تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذريات:6].
ويجوز أن يكون قوله: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ} تهديدا لهم على إعراضهم وجحودهم للبعث، أي لو شئنا لأهلكناهم وخلقنا خلقا آخر مثلهم كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [ابراهيم: 19].
ويكون {إذا} مراد به تحقق التلازم بين شرط {إذا} وجوابها، أي الجملة المضاف إليها، والجملة المتعلق بها.
وفعل التبديل يقتضي مبدلا ومبدلا به وأيهما اعتبرته في موضع الآخر صح لأن كل مبدل هو أيضا مبدل به ذلك الشيء، ولا سيما إذا لم يكن في المقام غرض ببيان المرغوب في اقتناءه والمسموح ببذله من الشيئين المستبدلين، فحذف من الكلام هنا متعلق {بدلنا} وهو المجرور بالباء لأنه أولى بالحدث، وأبقي المفعول.
وقد تقدم نظيره في سورة الواقعة [61] في قوله: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} ، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ} في سورة المعارج [40-41] فالتقدير: بدلنا منهم.
والأمثال: جمع مثل وهو المماثل في ذات أو صفة، فيجوز أن يراد أمثالهم في أشكال أجسادهم وهو التبديل الذي سيكون في المعاد.
ويجوز أن يراد أمثالهم في أنهم أمم، على الوجه الأول فهو يدل على أن البعث يحصل بخلق أجسام على مثال الأجساد التي كانت في الحياة الدنيا للأرواح التي كانت فيها.
وانتصب {تبديلا} على المفعول المطلق الموكد لعامله للدلالة على أنه تبديل حقيقي، وللتوصل بالتنوين إلى تعظيمه وعجوبته.
[29] {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} .
استئناف ابتدائي للانتقال من بسط التذكير والاستدلال إلى فذلكة الغرض وحوصلته،

إشعارا بانتهاء المقصود وتنبيها إلى فائدته، ووجه الانتفاع به، والحث على التدبر فيه، واستثمار ثمرته، وباعتبار ما تفرع عن هذه الجملة من قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ} الخ يقوى موقع الفذلكة للجملة وتأكيد الكلام بحرف {إن} لأن حال المخاطبين عدم اهتمامهم بها فهم ينكرون أنها تذكرة.
والإشارة إلى الآيات المتقدمة أو إلى السورة ولذلك أتي باسم الإشارة المؤنث.
والتذكرة: مصدر ذكره مثل التزكية، أي أكلمه كلاما يذكره به ما عسى أن يكون نسيه أطلقت هنا على الموعظة بالإقلاع عن عمل سيء والإقبال على عمل صالح وعلى وضوح الخير والشر لمن تذكر، أي تبصر بتشبيه حالة المعرض عن الخير المشغول عنه بحالة الناسي له لأن شأنه ألا يفرط فيه إلا من كان ناسيا لما فيه من نفع له.
وفرع عليه الحث على سلوك سبيل مرضاة الله بقوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} ، أي ليس بعد هذه التذكرة إلا العمل بها إذا شاء المتذكر أن يعمل بها.
ففي قوله: {من شاء} حث على المبادرة بذلك لأن مشيئة المرء في مكنته فلا يمنعه منها إلا سوء تدبيره.
وهذا حث وتحريض فيه تعريض للمشركين بأنهم أبوا أن يتذكروا عنادا وحسدا.
واتخاذ السبيل: سلوكه، عبر عن السلوك بالاتخاذ على وجه الاستعارة بتشبيه ففي قوله: {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} استعارتان لأن السبيل مستعار لسبب الفوز بالنعيم والزلفى.
ويتعلق قوله: {إِلَى رَبِّهِ} ب {سبيلا} ، أي سبيلا مبلغة إلى الله، ولا يختلف العقلاء في شرف ما يوصل إلى الرب أي إلى إكرامه لأن ذلك قرارة الخيرات ولذلك عبر برب مضافا إلى ضمير {مَنْ شَاءَ} إذ سعادة العبد في الحظوة عند ربه.
وهذه السبيل هي التوبة فالتائب مثل الذي كان ضالا، أو آبقا فاهتدى إلى الطريق التي يرجع منها إلى مقصده، أو سلك الطريق إلى مولاه.
وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة المزمل.
[30] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} .
لما ناط اختيارهم سبيل مرضاة الله بمشيئتهم أعقبه بالتنبيه إلى الإقبال على طلب

مرضاة الله للتوسل برضاه إلى تيسير سلوك سبل الخير لهم لأنهم إذا كانوا منه بمحل الرضى والعناية لطف بهم ويسر لهم ما يعسر على النفوس من المصابرة على ترك الشهوات المهلكة، قال تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7] فإذا لم يسعوا إلى مرضاة ربهم وكلهم إلى أحوالهم التي تعودوها فاقتحمت بهم مهامه العماية إذ هم محفوفون بأسباب الضلال بما استقرت عليه جبلاتهم من إيثار الشهوات والاندفاع مع عصائب الضلالات، وهو الذي أفاده قوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7]، أي نتركه وشأنه فتتيسر عليه العسرى، أي تلحق به بلا تكلف ومجاهدة.
فجملة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} يجوز أن تكون عطفا على جملة { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الانسان: 29] أو حالا من {مَنْ يَشَاءُ} [الانسان: 31] وهي على كلا والوجهين تتميم واحتراس.
وحذف مفعول {تشاءون} لإفادة العموم، والتقدير: وما تشاءون شيئا أو مشيئا وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة، أي ما تشاءون شيئا في وقت من الأوقات أو في حال من الأحوال.
وقد علل ارتباط حصول مشيئتهم بمشيئة الله، بأن الله عليم حكيم، أي عليم بوسائل إيجاد مشيئتهم الخير، حكيم بدقائق ذلك مما لا تبلغ إلى معرفة دقائقه بالكنه عقول الناس، لأن هنالك تصرفات علوية لا يبلغ الناس مبلغ الاطلاع على تفصيلها ولكن حسبهم الاهتداء بآثارها وتزكية أنفسهم للصد عن الإعراض عن التدبر فيها.
و {ما} نافية، والاستثناء من عموم الأشياء المشيئة وأحوالها وأزمانها، ولما كان ما بعد أداة الاستثناء حرف مصدر تعين أن المستثنى يقدر مصدرا، أي إلا شيء الله بمعنى مشيئته، وهو صالح لاعتبار المعنى المصدري ولاعتبار الحالة، ولاعتبار الزمان، لأن المصدر صالح لإرادة الثلاثة باختلاف التأويل فإن قدر مضاف كان المعنى: إلا حال مشيئة الله، أو إلا زمن مشيئته، وإن لم يقدر مضاف كان المعنى: لا مشيئة لكم في الحقيقة إلا تبعا لمشيئة الله.
وإيثار اجتلاب {أن} المصدرية من إعجاز القرآن.
ويجوز أن يكون فعلا {تشاءون} و {يَشَاءَ اللَّهُ} منزلين منزلة اللازم فلا يقدر لهما مفعولان على طريقة قول البحتري:

أن يرى مبصر ويسمع واع
ويكون الاستثناء من أحوال، أي وما تحصل مشيئتكم من حال من الأحوال إلا في حال حصول مشيئة الله. وفي هذا كله إشارة إلى دقة كنه مشيئة العبد تجاه مشيئة الله وهو المعنى الذي جمع الأشعري التعبير عنه بالكسب، فقيل فيه أدق من كسب الأشعري. ففي الآية تنبيه الناس إلى هذا المعنى الخفي ليرقبوه في أنفسهم فيجدوا آثاره الدالة عليه قائمة متوافرة، ولهذا أطنب وصف هذه المشيئة بالتذييل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} فهو تذييل أو تعليل لجملة {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الانسان: 31]، أي لأنه واجب له العلم والحكمة فهو أعلم، فمن شاء أن يدخله في رحمته ومن شاء أبعده عنها.
وهذا إطناب لم يقع مثله في قوله تعالى في سورة عبس [11-12] {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} لأن حصول التذكر من التذكرة أقرب وأمكن، من العمل بها المعبر عنه بالسبيل الموصلة إلى الله تعالى فلذلك صرفت العناية والاهتمام إلى ما يلوح بوسيلة اتخاذ تلك السبيل.
وفعل {كان} يدل على أن وصفه تعالى بالعلم والحكمة وصف ذاتي لأنهما واجبان له.
وقد حصل من صدر هذه الآية ونهايتها ثبوت مشيئتين: إحداهما مشيئة العباد، والأخرى مشيئة الله، وقد جمعتهما هذه الآية فكانت أصلا للجمع بين متعارض الآيات القرآنية المقتضي بعضها بانفراد نوط التكاليف بمشيئة العباد وثوابهم وعقابهم على الأفعال التي شاءوها لأنفسهم، والمقتضي بعضها الآخر مشيئة الله في أفعال عباده.
فأما مشيئة العباد فهي إذا حصلت تحصل مباشرة بانفعال النفوس لفاعلية الترغيب والترهيب، وأما مشيئة الله انفعال النفوس فالمراد بها آثار المشيئة الإلهية التي إن حصلت فحصلت مشيئة العبد علمنا أن الله شاء لعبده ذلك وتلك الآثار هي مجموع أمور تتظاهر وتتجمع فتحصل منها مشيئة العبد.
وتلك الآثار هي ما في نظام العالم والبشر من آثار قدرة الله تعالى وخلقه من تأثير الزمان والمكان وتكوين الخلقة وتركيب الجسم والعقل، ومدى قابلية التفهم والفهم وتسلط المجتمع والبيئة والدعاية والتلقين على جميع ذلك، مما في ذلك كله من إصابة أو خطأ، فإذا استتبت أسباب قبول الهدى من مجموع تلك الآثار وتلاءم بعضها مع بعض أو رجح

خيرها على شرها عرفنا مشيئة الله لأن تلك مشيئته من مجموع نظام العالم ولأنه تعالى عالم بأنها تستب لفلان، فعلمه بتوفرها مع كونها آثار نظامه في الخلق وهو معنى مشيئته، وإذا تعاكست وتنافر بعضها مع بعض ولم يرجح خيرها على شرها بل رجح شرها على خيرها بالنسبة للفرد من الناس تعطل وصول الخير إلى نفسه فلم يشأه، عرفنا أن الله لم يشأ له قبول الخير وعرفنا أن الله عالم بما حف بذلك الفرد، فذلك معنى أن الله لم يشأ له الخير، أو بعبارة أخرى أنه شاء له أن يشاء الشر، ولا مخلص للعبد من هذه الربقة إلا إذا توجهت إليه عناية من الله ولطف فكون كائنات إذا دخلت تلك الكائنات فيما هو حاف بالعبد من الأسباب ولأحوال غيرت أحوالها وقلبت آثارهما رأسا على عقب، فصار العبد إلى صلاح بعد أن كان مغمورا بالفساد فتتهيأ للعبد حالة جديدة مخالفة لما كان حافا به، مثل ما حصل لعمر بن الخطاب من قبول عظيم الهدى وتوغله فيه في حين كان متلبسا بسابغ الضلالة والعناد.
فمثل هذا يكون تكرمة من الله للعبد وعناية به، وإنما تحصل هذه العناية بإرادة من الله خاصة: إما لأن حكمته اقتضت ذلك للخروج بالناس من شر إلى خير كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين" وإما بإجابة دعوة داع استجيب له فقد أسلم عمر بن الخطاب عقب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة ودخل في الإسلام عقب قول النبي صلى الله عليه وسلم له "أما آن لك يا ابن الخطاب أن تسلم" ألا ترى أن الهداية العظمى التي أوتيها محمد صلى الله عليه وسلم كانت أثرا من دعوة إبراهيم عليه السلام بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة: 129] الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم "أنا دعوة إبراهيم" .
فهذا ما أمكن من بيان هاتين المشيئتين بحسب المستطاع ولعل في ذلك ما يفسر قول الشيخ أبي الحسن الأشعري في معنى الكسب والاستطاعة إنها سلامة الأسباب والآلات.
وبهذا بطل مذهب الجبرية لأن الآية أثبتت مشيئة للناس وجعلت مشيئة الله شرطا فيها لأن الاستثناء في قوة الشرط، فللإنسان مشيئته لا محالة.
وأما مذهب المعتزلة فغير بعيد من قول الأشعري إلا في العبارة بالخلق أو بالكسب، وعبارة الأشعري أرشق وأعلق بالأدب مع الله الخالق، وإلا في تحقيق معنى مشيئة الله، والفرق بينها وبين الأمر أو عدم الفرق وتفصيله في علم الكلام.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب {وَمَا تَشَاءُونَ} بتاء الخطاب على

الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وخلف بياء الغائب عائدا إلى {فَمَنْ شَاءَ} [الانسان: 29].
[31] {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} .
يجوز أن تكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ} [الانسان: 30] إذ يتساءل السامع على أثر مشيئة الله في حال من اتخذ إلى ربه سبيلا ومن لم يتخذ إليه سبيلا، فيجاب بأنه يدخل في رحمته من شاء أن يتخذ إليه سبيلا وأنه أعد لمن لم يتخذ إليه سبيلا عذابا أليما وأولئك هم الظالمون.
ويجوز أن تكون الجملة خبر {إن} في قوله: {إِنَّ اللَّهَ} [الانسان: 30] وتكون جملة {كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الانسان: 30] معترضة بين اسم {إن} وخبرها أوحالا، وهي على التقديرين منبئة بأن إجراء وصفي العليم الحكيم على اسم الجلالة مراد به التنبيه على أن فعله كله من جزاء برحمة أو بعذاب جار على حسب علمه وحكمته.
وانتصب {الظالمين} على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه المذكور على طريقة الاشتغال والتقدير: أوعد الظالمين، أو كافأ، أو نحو ذلك مما يقدره السامع مناسبا للفعل المذكور بعده.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المرسلات
لم ترد لها تسمية صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضاف لفظ سورة إلى جملتها الأولى.
وسميت في عهد الصحابة سورة "والمرسلات عرفا" ففي حديث عبد الله بن مسعود في "الصحيحين" قال: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية" الحديث.
وفي "الصحيح" عن ابن عباس قال: قرأت سورة والمرسلات عرفا فسمعتني أم الفضل امرأة العباس فبكت وقالت: بني أذكرتني بقرائتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب.
وسميت "سورة المرسلات"، روى أبو داود عن ابن مسعود "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ النظائر السورتين في ركعة الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة" ثم قال وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة فجعل هذه الألفاظ بدلا من قوله السورتين وسماها المرسلات لأن الواو التي في كلامه واو العطف مثل أخواتها في كلامه.
واشتهرت في المصاحف باسم "المرسلات" وكذلك في التفاسير وفي " صحيح البخاري" .
وذكر الخفاجي وسعد الله الشهير بسعدي في "حاشيتيهما" على البيضاوي أنها تسمى "سورة العرف" ولم يسنداه، ولم يذكرها صاحب "الإتقان" في عداد السور ذات أكثر من اسم.

وفي "الإتقان" عن "كتاب ابن الضريس" عن ابن عباس في عد السور التي نزلت بمكة فذكرها باسم المرسلات . وفيه عن "دلائل النبوة" للبيهقي عن عكرمة والحسن في عد السور التي نزلت بمكة فذكرها باسم المرسلات.
وهي مكية عند جمهور المفسرين من السلف، وذلك ظاهر حديث ابن مسعود المذكور آنفا، وهو يقتضي أنها من أوائل سور القرآن نزولا لأنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم مختف في غار بمنى مع بعض أصحابه.
وعن ابن عباس وقتادة: أن آية { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] مدنية نزلت في المنافقين، ومحمل ذلك أنه تأويل ممن رواه عنه نظرا إلى أن الكفار الصرحاء لا يؤمرن بالصلاة، وليس في ذلك حجة لكون الآية مدنية فإن الضمير في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} [المرسلات:48] وارد على طريقة الضمائر قبله وكلها عائدة إلى الكفار وهم المشركون. ومعنى {قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} : كناية عن أن يقال لهم أسلموا. ونظيره قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] فهي في المشركين وقوله: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 4346].
وعن مقاتل نزلت {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} في شأن وفد ثقيف حين أسلموا بعد غزوة هوازن وأتوا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا نجبي فإنها مسبة علينا. فقال لهم: "لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود " .
وهذا أيضا أضعف، وإذا صح ذلك فإنما أراد مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم الآية.
وهي السورة الثالثة والثلاثون في عداد ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. وأتفق العادون على عد آيها خمسين.
أغراضها
اشتملت على الاستدلال على وقوع البعث عقب فناء الدنيا ووصف بعض أشراط ذلك.
والاستدلال على إمكان إعادة الخلق بما سبق من خلق الإنسان وخلق الأرض.
ووعد منكريه بعذاب الآخرة ووصف أهواله.

والتعريض بعذاب لهم في الدنيا كما استؤصلت أمم مكذبة من قبل. ومقابلة ذلك بجزاء الكرامة للمؤمنين.
وإعادة الدعوة إلى الإسلام والتصديق بالقرآن لظهور دلائله.
[1-7] {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً، فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً، وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً، فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} .
قسم بمخلوقات عظيمة دالة على عظيم علم الله تعالى وقدرته.
والمقصود من هذا القسم تأكيد الخبر، وفي تطويل القسم تشويق السامع لتلقي المقسم عليه.
فيجوز أن يكون المراد بموصوفات هذه الصفات نوعا واحدا، ويجوز أن يكون نوعين أو أكثر من المخلوقات العظيمة. ومشى صاحب الكشاف على أن المقسم بها كلهم ملائكة.
ولم يختلف أهل التأويل أن {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} للملائكة.
وقال الجمهور: العاصفات: الرياح ولم يحك الطبري فيه مخالفا. وقال القرطبي: قيل العاصفات: الملائكة.
و {الْفَارِقَاتِ} لم يحك الطبري إلا أنهم الملائكة أو الرسل. وحكى القرطبي عن مجاهد: أنها الرياح.
وفيما عدا هذه من الصفات اختلف المتأولون فمنهم من حملوها على أنها الملائكة ومنهم من حمل على أنها الرياح.
ف {المرسلات} قال ابن مسعود وأبو هريرة ومقاتل وأبو صالح والكلبي ومسروق: هي الملائكة. وقال ابن عباس وقتادة: هي الرياح، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضا ولعله يجيز التأويلين وهو الأوفق بعطفها بالفاء.
و {الناشرات} قال ابن عباس والضحاك وأبو صالح: الملائكة. وقال ابن مسعود ومجاهد الرياح وهو عن أبي صالح أيضا.
ويتحصل من هذا أن الله أقسم بجنسين من مخلوقاته العظيمة مثل قوله: {وَالسَّمَاءِ

ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج:2]، ومثله تكرر في القرآن.
ويتجه في توزيعها أن الصفات التي عطفت بالفاء تابعة لجنس ما عطفت هي عليه، والتي عطفت بالواو يترجح أنها صفات جنس آخر.
فالأرجح أن المرسلات والعاصفات صفتان للرياح، وأن ما بعدها صفات للملائكة، والواو الثانية للعطف وليست حرف قسم. ومناسبة الجمع بين هذين الجنسين في القسم أن كليهما من الموجودات العلوية لأن الأصل في العطف بالواو أن يكون المعطوف بها ذاتا غير المعطوف عليه. وما جاء بخلاف ذلك فهو خلاف الأصل مثل قول الشاعر أنشده الفراء.
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
أراد صفات ممدوح واحد.
ولنتكلم على هذه الصفات:
فأما {المرسلات} فإذا جعل وصفا للملائكة كان المعني بهم المرسلين إلى الرسل والأنبياء مثل جبريل في إرساله بالوحي وغيره من الملائكة الذين يبعثهم الله إلى بعض أنبيائه بتعليم أو خبر أو نصر كما في قوله تعالى عن زكريا: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39] الآية، أو {المرسلات} بتنفيذ أمر الله بالعذاب مثل المرسلين إلى قوم لوط، و {عرفا} حال مفيدة معنى التشبيه البليغ، أي مثل عرف الفرس في تتابع الشعر بعضه ببعض، يقال: هم كعرف الضبع، إذا تألبوا، ويقال: جاءوا عرفا واحدا. وهو صالح لوصف الملائكة ولوصف الريح.
وفسر {عرفا} بأنه اسم، أي الشعر الذي على رقبة الفرس ونصبه على الحال على طريقة التشبيه البليغ أي كالعرف في تتابع البعض لبعض وفسر بأنه مصدر بمعنى المفعول، أي معروف "ضد المنكر"، وأن نصبه على المفعول لأجله، أي لأجل الإرشاد والصلاح.
{فَالْعَاصِفَاتِ} تفريع على {المرسلات} ، أي ترسل فتعصف، والعصف يطلق على قوة هبوب الريح فإن أريد بالمرسلات وصف الرياح فالعصف حقيقة وإن أريد بالمرسلات وصف الملائكة فالعصف تشبيه لنزولهم في السرعة بشدة الريح وذلك في المبادرة في سرعة الوصول بتنفيذ ما أمروا به.

و {عصفا} مؤكد للوصف تأكيدا لتحقيق الوصف، إذ لا داعي لإرادة رفع احتمال المجاز.
والنشر: حقيقته ضد الطي ويكثر استعماله مجازا في الإظهار والإيضاح وفي الإخراج.
ف {الناشرات} إذا جعل وصفا للملائكة جاز أن يكون نشرهم الوحي أي تكرير نزولهم لذلك، وأن يكون النشر كناية عن الوضوح، أي بالشرائع البينة.
وإذ جعل وصفا للرياح فهو نشر السحاب في الأجواء فيكون عطفه بالواو دون الفاء للتنبيه على أنه معطوف على {المرسلات} لا على {العاصفات} لأن العصف حالة مضرة والنشر حالة نفع.
والقول في تأكيد {نشرا} وتنوينه كالقول في {عصفا} .
والفرق: التمييز بين الأشياء، فإذا كان وصفا للملائكة فهو صالح للفرق الحقيقي مثل تمييز أهل الجنة عن أهل النار يوم الحساب، وتمييز الأمم المعذبة في الدنيا عن الذين نجاهم الله من العذاب، مثل قوم نوح عن نوح، وعاد عن هود، وقوم لوط عن لوط وأهله عدا امرأته، وصالح للفرق المجازي، وهو أنهم يأتون بالوحي الذي يفرق بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر.
وإن جعل وصفا للرياح فهو من آثار النشر، أي فرقها جماعات السحب على البلاد.
ولتفرع الفرق بمعنييه عن النشر بمعاينة عطف {الفارقات} على {الناشرات} بالفاء.
وأكد بالمفعول المطلق كما أكد ما قبله في قوله: {عصفا} و {نشرا} ، وتنوينه كذلك.
والملقيات: الملائكة الذين يبلغون الوحي وهو الذكر.
والإلقاء مستعار لتبليغ الذكر من العالم العلوي إلى أهل الأرض بتشبيهه بإلقاء شيء من اليد إلى الأرض.
وإلقاء الذكر تبليغ المواعظ إلى الرسل ليبلغوها إلى الناس وهذا الإلقاء متفرع على الفرق لأنهم يخصون كل ذكر بمن هو محتاج إليه، فذكر الكفار بالتهديد والوعيد بالعذاب، وذكر المؤمنين بالثناء والوعد بالنعيم.
وهذا معنى {عُذْراً أَوْ نُذْراً} . فالعذر: الإعلام بقبول إيمان المؤمنين بعد الكفر،

وتوبة التائبين بعد الذنب.
والنذر: اسم مصدر أنذر، إذا حذر.
و {عذرا} قرأه الجمهور بسكون الذال، وقرأه روح عن يعقوب بضمها على الاتباع لحركة العين.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {نذرا} بضم الذال وهو الغالب فيه.
وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بإسكان الذال على الوجهين المذكورين في {عذرا} ، وعلى كلتا القراءتين فهو اسم مصدر بمعنى الإنذار.
وانتصب {عُذْراً أَوْ نُذْراً} على بدل الاشتمال من {ذكرا} . و {أو} في قوله: {أَوْ نُذْراً} للتقسيم.
وجملة {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} جواب لقسم وزيدت تأكيدا ب {أن} لتقوية تحقيق وقوع الجواب.
و {إنما} كلمتان هما "إن" التي هي حرف تأكيد و"ما" الموصولة وليست هي "إنما" التي هي أداة حصر، والتي "ما" فيها زائدة. وقد كتبت هذه متصلة "إن" ب"ما" لأنهم لم يكونوا يفرقون في الرسم بين الحالتين، والرسم اصطلاح، ورسم المصحف سنة في المصاحف ونحن نكتبها مفصولة في التفسير وغيره.
و {مَا تُوعَدُونَ} : هو البعث للجزاء وهم يعلمون الصلة فلذلك جيء في التعبير عنه بالموصولية.
والخطاب للمشركين، أي ما توعدكم الله به من العقاب بعد البعث واقع لا محالة وإن شككتم فيه أو نفيتموه.
والواقع: الثابت: وأصل الوقع الساقط على الأرض فاستعير للشيء المحقق تشبيها بالمستقر.
[8-14] {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، وإذا السماء فرجت، وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ، وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} .

الفاء للتفريع على قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7] لأنه لما أفاد وقوع البعث وكان المخاطبون ينكرونه ويتعللون بعدم التعجيل بوقوعه، بين لهم ما يحصل قبله وزيادة في تهويله عليهم. والإنذار بأنه مؤخر إلى أن تحصل تلك الأحداث العظيمة، وفيه كناية رمزية على تحقيق وقوعه لأن الأخبار عن أمارات حلول ما يوعدون ويستلزم التحذير من التهاون به، ولذلك ختمت هذه الأخبار بقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:19].
وكررت كلمة {إذا} في أوائل الجمل المعطوفة على هذه الجملة بعد حروف العطف مع إغناء حرف العطف عن إعادة {إذا} كما في قوله: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْأِنْسَانُ} [القيامة: 7-10] الآية، لإفادة الاهتمام بمضمون كل جملة من هذه الجمل ليكون مضمونها مستقلا في جعله علامة على وقوع ما يوعدون.
وطمس النجوم: زوال نورها، وأن نور معظم ما يلوح للناس من النجوم سببه انعكاس أشعة الشمس عليها حين احتجاب ضوء الشمس على الجانب المظلم من الأرض، فطمس النجوم يقتضي طمس نور الشمس، أي زوال التهابها بأن تبرد حرارتها، أو بأن تعلو سطحها طبقة رمادية بسبب انفجارات من داخلها، أو تتصادم مع أجرام سماوية أخرى لاختلال نظام الجاذبية فتندك وتتكسر قطعا فيزول التهابها.
ومعنى {فرجت} تفرق ما كان ملتحما من هيكلها، يقال: فرج الباب إذا فتحه. والفرجة: الفتحة في الجدار ونحوه. فإذا أريد بالسماء الجنس الصادق بجميع السماوات على طريقة العموم الحقيقي، أو الصادق بسماوات مشهورة على طريقة العموم العرفي وهي السماوات السبع التي يعبر أهل الهيئة عنها بالكواكب السيارة جاز أن يكون فرج السماوات حدوث أخاديد عظيمة في الكواكب زيادة عن طمس نورها.
وإذا أريد بالسماء فرد معين معهود وهي ما نشاهده كالقبة الزرقاء في النهار وهي كرة الهواء، فمعنى {فرجت} : فساد عناصر الجو بحيث تصير فيه طرائق مختلفة الألوان تبدو كأنها شقوق في كرة الهواء كما في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] وكل ذلك مفض إلى انقراض العالم الدنيوي بجميع نظامه ومجموع أجسامه.
والنسف: قلع أجزاء الشيء بعضها عن بعض وتفريقها مثل الهدم.
ونسف الجبال: دكها ومصيرها ترابا مفرقا، كما قال تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} [المزمل: 14].

وبناء هذه الأفعال الثلاثة بصيغة المبني للمجهول لأن المقصود الاعتبار بحصول الفعل لا بتعيين فاعله على أنه من المعلوم أن فاعلها هو الله تعالى إذ لا يقدر عليه غيره.
وجملة {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} عطف على الجمل المتقدمة فهي تقييد لوقت حادث يحصل وهي مما جعل مضمونها علامة على وقوع ما يوعدون به فيلزم أن يكون مضمونها مستقبل الحصول وفي نظم هذه الجملة غموض ودقة. فأما {أقتت} فأصله وقتت بالواو في أوله، يقال: وقت وقتا، إذا عين وقتا لعمل ما، مشتقا من الوقت وهو الزمان، فلما بني للمجهول ضمت الواو وهو ضم لازم احتراز من ضمة {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] لأن ضمة الواو ضمة عارضة، فجاز إبدالها همزة لأن الضم على الواو ثقيل فعدل عن الواو إلى الهمزة. وقرأه الجمهور {أقتت} بهمزة وتشديد القاف. وقرأه أبو عمرو وحده بالواو وتشديد القاف، وقرأه أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف.
وشأن {إذا} أن تكون لمستقبل الزمان فهذا التأقيت للرسل توقيت سيكون في المستقبل، وهو علامة على أن ما يوعدون يحصل مع العلامات الأخرى.
ولا خلاف في أن {أقتت} مشتق من الوقت كما علمت آنفا، وأصل اشتقاق هذا الفعل المبني للمجهول أن يكون معناه: جعلت وقتا، وهو أصل إسناد الفعل إلى مرفوعه، وقد يكون بمعنى: وقت لها وقت على طريقة الحذف والإيصال.
وإذا كان {إذا} ظرفا للمستقبل وكان تأجيل الرسل قد حصل قبل نزول هذه الآية، تعين تأويل {أقتت} على معنى: حان وقتها، أي الوقت المعين للرسل وهو الوقت الذي أخبرهم الله بأن ينذروا أممهم بأنه يحل في المستقبل غير المعين، وذلك عليه قوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ} فإن التأجيل يفسر التوقيت.
وقد اختلفت أقوال المفسرين الأولين في محمل معنى هذه الآية فعن ابن عباس أقتت: جمعت أي ليوم القيامة قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة: 109]، وعن مجاهد والنخعي {أقتت} أجلت. قال أبو علي الفارسي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا.
قال في "الكشاف" : والوجه أن يكون معنى {وقتت} بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره يوم القيامة اه. وهذا صريح في أنه يقال: وقت بمعنى أحضر في الوقت المعين، وسلمه شراح "الكشاف" وهو معنى مغفول عنه في بعض كتب اللغة أو مطوي بخفاء في بعضها.

ويجيء على القول أن يكون قوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} استئنافا، وتجعل "أي" اسم استفهام مستعمل للتهويل كما درج عليه جمهور المفسرين الذين صرحوا ولم يجملوا. والذي يظهر لي أن تكون "أي" موصولة دالة على التعظيم والتهويل وهو ما يعبر عنه بالدال على معنى الكمال وتكون صفة لموصوف محذوف يدل عليه ما أضيفت إليه "أي" وتقديره: ليوم أي يوم، أي ليوم عظيم. ويكون معنى {أقتت} حضر ميقاتها الذي وقت لها، وهو قول ابن عباس جمعت، وفي "اللسان" عن الفراء: أقتت جمعت لوقتها، وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة: 109] وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41].
ويكون اللام في قوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} لام التعليل، أي جمعت لأجل اليوم الذي أجلت إليه، وجملة {أجلت} صفة ليوم، وحذف العائد لظهوره، أي أجلت إليه.
وقوله: {ليوم الفصل} بدل من {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} بإعادة الحرف الذي جر به المبدل منه كقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114] أي أحضرت الرسل ليوم عظيم هو يوم الفصل.
والظاهر أن المبدل منه والبدل دليلا على جواب "إذا" من قوله: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} الخ، إذ يعلم أن المعنى إذا حصل جميع ما ذكر فذلك وقوع ما توعدون.
وجملة {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ} قد علمت آنفا الوجه الوجيه في معناها. ومن المفسرين من جعلها مقول محذوف: يقال يوم القيامة، ولا داعي إليه.
و {الفصل} : تمييز الحق من الباطل بالقضاء والجزاء إذ بذلك يزول الالتباس والاشتباه والتمويه الذي كان لأهل الضلال في الدنيا فتتضح الحقائق على ما هي عليه في الواقع.
وجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} في موضع الحال من يوم الفصل، والواو واو الحال والرابط لجملة الحال إعادة اسم صاحب الحال عوضا عن ضميره، مثل: {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 1-2]. والأصل: وما أدراك ما هو، وإنما أظهر في مقام الإضمار لتقوية استحضار يوم الفصل قصدا لتهويله.
و {ما} استفهامية مبتدأ و {أدراك} خبر، أي أعلمك. و {مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} استفهام علق به فعل {أدراك} عن العمل في مفعولين، و {ما} الاستفهامية مبتدأ أيضا و {يَوْمُ

الْفَصْلِ} خبر عنها والاستفهامان مستعملان في معنى التهويل والتعجيب.
[15] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
حمل هذه الجملة عن نظائرها الآتية في هذه السورة يقتضي أن تجعل استئنافا لقصد تهديد المشركين الذين يسمعون القرآن، وتهويل يوم الفصل في نفوسهم ليحذروه، وهو متصل في المعنى بجملة {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7] اتصال أجزاء النظم، فموقع جملة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ابتداء الكلام، وموقع جملة {إِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] التأخر، وإنما قدمت لتؤذن بمعنى الشرط. وقد حصل من تغيير النظم على هذا الوجه أن صارت جملة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} بمنزلة التذييل، فحصل في هذا النظم أسلوب رائع، ومعان بدائع. وبعض المفسرين جعل هذه الجملة جواب "إذا"، أي يتعلق "إذا" بالاستقرار الذي في الخبر وهو {لِلْمُكَذِّبِينَ} . والتقدير: إذا حصل كذا وكذا حل الويل للمكذبين وهو كالبيان لقوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} ، فيحصل تأكيد الوعيد، ولا يرد على هذا عرو الجواب عن الفاء الرابطة للجواب لأن جواب "إذا" جواب صوري وإنما هو متعلق "إذا" عومل معاملة الجواب في المعنى.
ثم أن هذه الجملة صالحة لمعنى الخبرية ولمعنى الإنشاء لأن تركيب "ويل له" يستعمل إنشاء بكثرة.
والويل: أشد السوء والشر.
وعلى جملة الأول يكون المراد بالمكذبين كذبوا بالقرآن وعلى الوجه الثاني في معنى الجملة جميع الذين كذبوا الرسل وجاءوهم به، وبذلك العموم أفادت الجملة مفاد التذييل، ويشمل ذلك المشركين الذين كذبوا بالقرآن والبعث إذ هم المقصود من هذه المواعظ وهم الموجه إليهم هذا الكلام فخوطبوا بقوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} .
[16] {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} .
استئناف بخطاب موجه إلى المشركين الموجودين الذين أنكروا البعث معترض بين أجزاء كلام المخاطب به أهل الشرك في المحشر.
ويتضمن استدلالا على المشركين الذين في الدنيا، بأن الله انتقم من الذين كفروا بيوم البعث من الأمم سابقهم ولاحقهم ليحذروا أن يحل بهم ما حل بأولئك الأولين

والآخرين.
والاستفهام للتقرير استدلالا على إمكان البعث بطريقة قياس التمثيل.
والمراد بالأولين الموصوفون بالأولية أي السبق في الزمان، وهذا يقر به كل جيل منهم مسبوق بجيل كفروا.
فالتعريف في {الأولين} تعريف العهد، والمراد بالأولين جميع أمم الشرك الذين قالوا قبل مشركي عصر النبوة.
والإهلاك: الإعدام والإماتة. وإهلاك الأولين له حالتان حالة غير اعتيادية تنشأ عن غضب الله تعالى، وهو إهلاك الاستئصال مثل إهلاك عاد وثمود، وحالة اعتيادية وهي ما سن الله عليه نظام هذا العالم من حياة وموت.
وكلتا الحالتين يصح أن تكون مرادا هنا، فأما الحالة غير الاعتيادية فهي تذكير بالنظر الدال على أن الله لا يرضى عن الذين كذبوا بالبعث.
وأما الحالة الاعتيادية فدليل على الذي أحيا الناس يميتهم فلا يتعذر أن يعيد إحياءهم.
[17-18] {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ، كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} .
حرف "ثم" للتراخي الرتبي لأن التهديد أهم من الإخبار عن أهل المحشر، لأنه الغرض من سوق هذا كله، ولأن إهلاك الآخرين اشد من إهلاك الأولين لأنه مسبوق بإهلاك آخر.
ووقعت جملة {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} موقع البيان لجملة {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [المرسلات:17]، وهو كالتذييل يبين سبب وقوع إهلاك الأولين وأنه سبب لإيقاع الإهلاك بكل مجرم، أي تلك سنة الله في معاملة المجرمين فلا محيص لكم عنها.
وذكر وصف {المجرمين} إيماء إلى أن سبب عقابهم بالإهلاك هو إجرامهم.
والإشارة في قوله: {كذلك} إلى الفعل المأخوذ من {نفعل} ، أي مثل ذلك الفعل نفعل.

و"المجرمون" من ألقاب المشركين في اصطلاح القرآن قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] وسيأتي في هذه السورة {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46].
[19] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
تقرير لنظيره المتقدم تأكيدا للتهديد وإعادة لمعناه.
التهديد: من مقامات التكرير كقول الحارث بن عياد:
قربا مربط النعامة مني
الذي كرره مرارا متوالية في قصيدته اللامية التي أثارت حرب البسوس.
فعلى الوجه الأول في موقع جملة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} يقدر الكلام المعوض عنه تنوين {يومئذ} يوم إذ يقال لهم {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} [المرسلات:16].
والمراد بالمكذبين: المخاطبون فهو إظهار في مقام الإضمار لتسجيل أنهم مكذبون، والمعنى: ويل يومئذ لكم.
وعلى الوجه الثاني في موقع الجملة يقدر المحذوف المعرض عنه التنوين: يوم إذ {النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] الخ، فتكون الجملة تأكيدا لفظيا لنظيرتها التي تقدمت. والمراد بالمكذبين جميع المكذبين الشامل للسامعين.
وعلى الاعتبارين فتقرير معنى الجملتين حاصل لأن اليوم يوم واحد ولأن المكذبين يصدق بالأحياء وبأهل المحشر.
[20-23] {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فقدرنا فنعم القادرون} .
تقرير أيضا يجري فيه ما تقدم في قوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} ، جيء به على طريقة تعداد الخطاب في مقام التوبيخ والتقريع.
وكل من التقرير والتقريع في مقتضيات ترك العطف لشبهه بالتكرير في أنه تكرير معنى وإن لم يكن تكرير لفظ، والتكرير شبيه بالأعداد المسرودة فكان حقه ترك العطف فيه.

وقد جاء هنا التقرير على ثبوت الإيجاد بعد العدم إيجادا متقنا دالا على كمال الحكمة والقدرة ليفضى بذلك التقرير إلى التوبيخ على إنكار البعث والإعادة وإلى إثبات البعث بإمكانه بإعادة الخلق كما بدئ أول مرة وكفى بذلك مرجحا لوقوع هذا الممكن لأن القدرة تجري على وفق الإرادة بترجيح جانب إيجاد الممكن على عدمه.
والماء: هو ماء الرجل. والمهين: الضعيف فعيل من مهن، إذا ضعف، وميمه أصلية وليس هو من مادة هان.
وهذا الوصف كناية رمزية عن عظيم قدرة الله تعالى إذ خلق من هذا الماء الضعيف إنسانا شديد القوة عقلا وجسما.
وحرف {من} للابتداء لأن تكوين الإنسان نشأ من ذلك الماء كما تقول هذه النخلة من نواة توزرية.
وجعل خلق الإنسان من ماء الرجل لأنه لا يتم تخلقه إلا بذلك الماء إذا لاقى بويضات الدم في الرحم، فاقتصرت الآية على ما هو مشهور بين الناس لأنهم لا يعلمون أكثر من ذلك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تكوين الجنين من ماء المرأة وماء الرجل.
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} تفصيل لكيفية الخلق على سبيل الإدماج مع مناسبته لأن له دخلا في تبيين إن كان الإعادة إذ شديد القدرة لا يعجزه شيء، ولذلك ذيله بقوله: {فنعم القادرون} على التفسيرين الآتيين.
والقرار: محل القرور والمكث.
و {مكين} : صفة لـ {قرار} ، أي مكان متمكن في ذلك فهو فعيل من مكن مكانة، إذا ثبت ورسخ.
ووصف القرار بالمكين على طريقة المجاز العقلي، أي مكين الحال والمستقر فيه. فالتقدير: مكين فيه. والمراد بالقرار المكين: الرحم.
والقدر: بفتح الدال المقدار المعين المضبوط، والمراد مقدار من الزمان وهو مدة الحمل.
وقرأ نافع والكسائي وأبو جعفر {فقدرنا} بتشديد الدال. وقرأه الباقون يتخفيف الدال من قدر المتعدي وهما بمعنى واحد، يقال: قدر بالتشديد تقديرا فهو مقدر، وقدر

بالتخفيف قدرا فهو قادر، إذا جعل الشيء على مقدار مناسب لما جعل له.
والمعنى: فقدرنا الخلق كقوله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:19] وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2].
والفاء في قوله: {فقدرنا} للتفريع على قوله: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} ، أي جعلناه في الرحم إلى انتهاء أمد الحمل فقدرنا أطوار خلقكم حتى أخرجناكم أطفالا.
والفاء في {فنعم القادرون} للتفريع على "قدرنا" أي تفريع إنشاء ثناء، أي فدل تقديرنا على أننا نعم القادرون، أي كان تقديرنا تقدير أفضل قادر، وهذا تنويه بذلك الخلق العجيب بالقدرة.
و {القادرون} : اسم فاعل من قدر اللازم إذا كان ذا قدرة وبذلك يكون الكلام تأسيسا لا تأكيدا، أي فنعم القادرون على الأشياء.
وعلامة الجمع للتعظيم مثل نون "قدرنا" فإن القدرة لما أتت بما هو مقتضى الحكمة كانت قدرة جديرة بالمدح.
[24] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
هو نحو ما تقدم في نظيره الموالي هو له.
[25-27] {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً، وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} .
جاء هذا التقرير على سنن سابقيه في عدم العطف لأنه على طريقة التكرير للتوبيخ، وهو تقرير لهم بما أنعم الله به عليهم من خلق الأرض بما فيها مما فيه منافعهم كما قال تعالى: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:33].
ومحل الامتنان هو قوله: {أحياء} ، وأما قوله: {وأمواتا} فتتميم وإدماج.
وكفات: اسم للشيء الذي يكفت فيه، أي يجمع ويضم فيه، فهو اسم جاء على صيغة الفعال من كفت، إذا جمع، ومنه سمي الوعاء: كفاتا، كما سمي ما يعي الشيء: وعاء، وما يضم الشيء: الضمام.

و {أحياء} مفعول {كفاتا} لأن {كفاتا} فيه معنى الفعل كأنه قيل كافتة أحياء. وقد يقولون منصوب بفعل مقدر دل عليه {كفاتا} وكل ذلك متقارب.
و {أمواتا} عطف عليه وهو إدماج وتتميم لأن فيه مشاهدة الملازمة بين الأحياء والأموات تدل على أن الحياة هي المقصود من الخلقة.
وهذا تقرير لهم بالاعتراف بالأحوال المشاهدة في الأرض الدالة على تفرد الله تعالى بالإلهية.
وتنوين {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} للتعظيم مرادا به التكثير ولذلك لم يؤت بهما معرفين باللام، وفائدة ذكر هذين الجمعين ما في معنييهما من التذكير بالحياة والموت.
وقد تصدى الكلام لإثبات البعث بشواهد ثلاثة:
أحدهما: بحال الأمم البائدة في انقراضها.
الثاني: بحال تكوين الإنسان.
الثالث: مصير الكل إلى الأرض وفي كل ذلك إبطال لإحالتهم وقوع البعث لأنهم زعموا استحالته فأبطلت دعواهم بإثبات إمكان البعث فإنه إذا ثبت الإمكان بطلت الاستحالة فلم يبق إلا النظر في أدلة ترجيح وقوع ذلك الممكن.
وفي الآية امتنان يجعل الأرض صالحة لدفن الأموات، وقد ألهم الله لذلك ابن آدم حين قتل أخاه كما تقدم ذكره في سورة المائدة، فيؤخذ من الآية وجوب الدفن في الأرض إلا إذا تعذر ذلك كالذي يموت في سفينة بعيدة عن مراسي الأرض أو لا تستطيع الإرساء، أو كان الإرساء يضر بالراكبين أو يخاف تعفن الجثة فإنها يرمى بها في البحر وتثقل بشيء لترسب إلى غريق الماء. وعليه فلا يجوز إحراق الميت كما يفعل مجوس الهند، وكان يفعله بعض الرومان، ولا وضعه لكواسر الطير كما كان يفعل مجوس الفرس، وكان أهل الجاهلية يتمدحون بالميت الذي تأكله السباع أو الضباع وهو الذي يموت في فلاة، قال تأبط:
لا تدفنوني إن دفني محرم ... عليكم ولكن خامري أم عامر
وهذا من جهالة الجاهلية وكفران النعمة.
واحتج ابن القاسم من أصحاب مالك بهذه الآية لكون القبر حرزا فأوجب القطع

على من سرق من القبر كفنا أو ما يبلغ ربع دينار، وقال مالك: القبر حوز للميت كما أن البيت حوز للحي.
وفي "مفاتيح الغيب" عن تفسير القفال: أن ربيعة استدل بها على ذلك.
والرواسي: جمع رأس، أي جبالا رواسي، أي ثوابت في الأرض قال السموأل:
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل
وجمع على فواعل لوقوعه صفة لمذكور غير عاقل وهذا امتنان بخلق الجبال لأنهم كانوا يأوون إليها وينتفعون بما فيها من كلأ وشجر قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا، مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:33].
والشامخات: المرتفعات.
وعطف {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} لمناسبة ذكر الجبال لأنها تنحدر منها المياه تجري في أسافلها وهي الأودية وتقر في قرارات وحياض وبحيرات.
والفرات: العذب وهو ماء المطر.
وتنوين {شَامِخَاتٍ} و {مَاءً فُرَاتاً} للتعظيم لدلالة ذلك على عظيم القدرة.
[28] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
تكرير للتوبيخ والتقريع مثل نظيرة الواقع ثانيا في هذه السورة.
[29-31] {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} .
هذا خطاب للمكذبين في يوم الحشر فهو مقول قول محذوف دل عليه صيغة الخطاب بالانطلاق دون وجود مخاطب يؤمر به الآن.
والضمير المقدر مع القول المحذوف عائد إلى المكذبين، أي يقال للمكذبين.
والأمر بانطلاقهم مستعمل في التسخير لأنهم تنطلق بهم ملائكة العذاب قسرا.
وما كانوا به يكذبون هو جهنم وعبر عنه بالموصول وصلته لما تتضمنه الصلة من النداء على خطئهم وضلالهم على طريقة قول عبده بن الطبيب:

إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
وجملة {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ} إلى آخرها، بدل اشتمال أو مطابق من جملة {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
وأعيد فعل {انطلقوا} على طريقة التكرير لقصد التوبيخ أو الإهانة والدفع، ولأجله أعيد فعل {انطلقوا} ، وحرف {إلى} .
ومقتضى الظاهر أن يقال انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ظل ذي ثلاث شعب، فإعادة العامل في البدل للتأكيد في مقام التقريع.
وأريد بالظل دخان جهنم لكثافته، فعبر عنه بالظل تهكما بهم لأنهم يتشوقون ظلا يأوون إلى برده.
وأفرد {ظل} هنا لأنه جعل لهم ذلك الدخان في مكان واحد ليكونوا متراصين تحته لأن ذلك التراص يزيدهم ألما.
وقرأ الجمهور {انطلقوا} الثاني بكسر اللام مثل {انطلقوا} الأول، وقرأه رويس عن يعقوب بفتح اللام على صيغة الفعل الماضي على معنى أنهم أمروا بالانطلاق إلى النار فانطلقوا إلى دخانها، وإنما لم يعطف بالفاء لقصد الاستئناف ليكون خبرا آخر عن حالهم.
والشعب: اسم جمع شعبة وهي الفريق من الشيء والطائفة منه، أي ذي ثلاث طوائف وأريد بها طوائف من الدخان فإن النار إذا عظم اشتعالها تصاعد دخانها من طرفيها ووسطها لشدة انضغاطه في خروجه منها.
فوصف الدخان بأنه ذو ثلاث شعب لأنه يكون كذلك يوم القيامة. وقد قيل في سبب ذلك: إن شعبة منه عن اليمين وشعبة عن اليسار وشعبة من فوق، قال الفخر: وأقول هذا غير مستبعد لأن الغضب عن يمينه والشهوة عن شماله والقوة الشيطانية في دماغه، ومنبع جميع الآفات الصادرة عن الإنسان في عقائده وفي أعماله ليس إلا هذه الثلاثة، ويمكن أن يقال ها هنا ثلاث درجات وهي: الحس، والخيال، والوهم. وهي مانعة للروح من الاستنارة بأنوار عالم القدس اه.
والظليل: القوي في ظلاله، اشتق له وصف من اسمه لإفادة كماله فيما يراد منه مثل: ليل أليل، وشعر شاعر، أي ليس هو مثل ظل المؤمنين قال تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57]. وفي هذا تحسير لهم وهو في معنى قوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ،

لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:44].
وجر {ظليل} على النعت لـ {ظل} ، وأقحمت {لا} فصارت من جملة الوصف ولا يظهر فيها إعراب كما تقدم في قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة: 68] وشأن لا إذا أدخلت في الوصف أن تكرر فلذلك أعيدت في قوله: {وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} .
والإغناء: جعل الغير غنيا، أي غير محتاج في ذلك الغرض، وتعديته ب"من" على معنى البدلية أو لتضمينه معنى:يبعد، ومثله قوله تعالى: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67]. وبذلك سلب عن هذا الظل خصائص الظلال لأن شأن الظل أن ينفس عن الذي يأوي إليه ألم الحر.
[32-33] {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} .
يجوز أن يكون هذا من تمام ما يقال للمكذبين الذين قيل لهم {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات:29]، فإنهم بعد أن حصل لهم اليأس مما ينفس عنهم ما يلقون من العذاب، وقيل لهم: انطلقوا إلى دخان جهنم ربما شاهدوا ساعتئذ جهنم تقذف بشررها فيروعهم المنظر، أو يشاهدونها عن بعد لا تتضح منه الأشياء وتظهر عليهم مخائل توقعهم أنهم بالغون إليه فيزداد روعا وتهويلا، فيقال لهم: أن جهنم {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} .
ويجوز أن يكون اعتراضا في أثناء حكاية حالهم، أو في ختام حكاية حالهم.
فضمير {إنها} عائد إلى جهنم التي دل عليها قوله: {مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} كما يقال للذي يساق إلى القتل وقد رأى رجلا بيده سيف فاضطرب لرويته فيقال له: إنه الجلاد.
وإجراء تلك الأوصاف في الإخبار عنها لزيادة الترويع والتهويل، فإن كانوا يرون ذلك الشرر لقربهم منه فوصفه لهم لتأكيد الترويع والتهويل بتظاهر السمع مع الرؤية. وإن كانوا على بعد منه فالوصف للكشف عن حاله الفظيعة.
وتأكيد الخبر ب"إن" للاهتمام به لأنهم حينئذ لا يشكون في ذلك سواء رأوه أو أخبروا به.
والشرر: اسم جمع شررة: وهي القطعة المشتعلة من دقيق الحطب يدفعها لهب النار

في الهواء من شدة التهاب النار.
والقصر: البناء العالي. والتعريف فيه للجنس، أي كالقصور لأنه شبه به جمع، وهذا التعريف مثل تعريف الكتاب في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [الحديد: 25]، أي الكتب. وعن ابن عباس: الكتاب أكثر من الكتب، أي كل شررة كقصر، وهذا تشبيه في عظم حجمه.
وقوله: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} تشبيه في حجمه ولونه وحركته في تطايره بجمالات صفر. وضمير {كأنه} عائد إلى شرر.
والجمالات: بكسر الجيم جمع جمالة وهي اسم جمع طائفة من الجمال، أي تشبه طوائف من الجمال متوزعة فرقا، وهذا تشبيه مركب لأنه تشبيه في هيئة الحجم مع لونه مع حركته. والصفرة: لون الشرر إذا ابتعد عن لهيب ناره.
وقرأ الجمهور {جِمَالَتٌ} بكسر الجيم وألف بعد اللام فهو جمع جمالة. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف {جمالة} بكسر الجيم بدون ألف بعد اللام وهو جمع جمل مثل حجر وحجارة.
وقرأه رويس عن يعقوب {جِمَالَات} بضم الجيم وألف بعد اللام جمع جمالة بالضم وهي حبل تشد به السفينة، ويسمى القلس بقاف مفتوحة ولام ساكنة والتقدير: كأن الواحدة منها جمالة، و {صفر} على هذه القراءة نعت لـ {جِمَالَتٌ} أو ل"شرر".
قال صاحب "الكشاف" : وقال أبو العلاء يعني المعري في صفة نار قوم مدحهم بالكرم:
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكل شرارة كطراف
شبه الشرارة بالطراف وهو بيت الأدم في العظم والحمرة وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن ولتبجحه بما سول له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله حمراء توطئة لها ومناداة عليها وتنبيها للسامعين على مكانها، ولقد عمي جمع الله له عمى الدارين عن قوله عز وعلا {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} فإنه بمنزلة قوله كبيت أحمر وعلى أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيها من جهتين من جهة العظم ومن جهة الطول في الهواء فأبعد الله إغرابه في طرافه وما نفخ شدقيه من استطرافه اه.
وأقول: هذا الكلام ظن سوء بالمعري لم يشم من كلامه، ولا نسبه إليه أحد من

أهل نبزه وملامه، زاد به الزمخشري في طنبور أصحاب النقمة، لنبز المعري ولمزه نغمة.
قال الفخر: كان الأولى لصاحب "الكشاف" أن لا يذكر ذلك أي لأنه ظن سواء بلا دليل.
وقال الطيبي: وليس كذلك لأنه لا يخفى على مثل المعري: أن الكلام بآخره لأن الله شبه الشرارة: أولا حين تنفصل عن النار بالقصر في العظم، وثانيا حين تأخذ في الارتفاع والانبساط فتنشق عن أعداد لا نهاية لها بالجمالات في التفرق واللون والعظم والثقل، ونظر في ذلك إلى الحيوان وأن تلك الحركات اختيارية وكل ذلك مفقود في بيته.
[34] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
تكرير لقصد تهديد المشركين الأحياء والقول فيه كالقول في نظيره الواقع ثانيا في هذه السورة.
[35-36] {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} .
إن كانت الإشارة على ظاهرها كان المشار إليه هو اليوم الحاضر وهو يوم الفصل فتكون الجملة من تمام ما يقال لهم في ذلك اليوم بعد قوله: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات:29] فيكون في الانتقال من خطابهم بقوله: {انطلقوا} إلى إجراء ضمائر الغيبة عليهم، التفات يزيده حسنا أنهم قد استحقوا الإعراض عنهم بعد إهانتهم بخطاب {انطلقوا} .
وهذا الوجه أنسب بقوله تعالى بعده {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات:38]، وموقع الجملة على هذا التأويل موقع تكرير التوبيخ الذي أفاده قوله: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} وهو من جملة ما يقال لهم في ذلك اليوم، واسم الإشارة مستعمل في حقيقته للقريب.
وإن كانت الإشارة إلى المذكور في اللفظ وهو يوم الفصل المتحدث عنه بأن فيه الويل للمكذبين، كان هذا الكلام موجها إلى الذين خوطبوا بالقرن كلهم إنذارا للمشركين منهم وإنعاما على المؤمنين، فكانت ضمائر الغيبة جارية على أصلها وكانت عائدة على المكذبين من قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:34] وتكون الجملة معترضة بين جملة {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، وجملة {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ}

[المرسلات:38]. واسم الإشارة الذي هو إشارة إلى القريب مستعمل في مشار إليه بعيد باعتبار قرب الحديث عنه على ضرب من المجاز أو التسامح.
واسم الإشارة مبتدأ و {يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} خبر عنه.
وجملة {لا يَنْطِقُونَ} مضاف إليها {يوم} ، أي هو يوم يعرف بمدلول هذه الجملة، وعدم تنوين {يوم} لأجل إضافته إلى الجملة كما يضاف "حين". والأفصح في هذه الأزمان ونحوه إذا أضيف إلى جملة مفتتحة ب {لا} النافية أن يكون معربا، وهو لغة مضر العليا. وأما مضر السفلى فهم يبنونه على الفتح دائما.
وعطف {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} على جملة {لا يَنْطِقُونَ} ، أي لا يؤذن إذنا يتفرع عليه اعتذارهم، أي لا يؤذن لهم في الاعتذار. فالاعتذار هو المقصود بالنفي، وجعل نفي الإذن لهم توطئة لنفي اعتذارهم، ولذلك جاء {فَيَعْتَذِرُونَ} مرفوعا ولم يجيء منصوبا على جوانب النفي إذ ليس المقصود نفي الإذن وترتب نفي اعتذارهم على نفي الإذن لهم إذ لا محصول لذلك، فلذلك لم يكن نصب {فَيَعْتَذِرُونَ} مساويا للرفع بل ولا جائزا بخلاف نحو {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] فإن نفي القضاء عليهم وهم في العذاب مقصود لذاته لأنه استمرار في عذابهم ثم أجيب بأنه لو قضي عليهم لماتوا، أي فقدوا الإحساس، فمعنى الجوابية هنالك مما يقصد. ولذا فلا حاجة هنا إلى ما ادعاه أبو البقاء أن {فَيَعْتَذِرُونَ} استئناف تقديره: فهم يعتذرون، ولا إلى ما قاله ابن عطية تبعا للطبري: إنه ينصب لأجل تشابه رؤوس الآيات، وبعد فإن مناط النصب في جواب النفي قصد المتكلم جعل الفعل جوابا للنفي لا مجرد وجود فعل مضارع بعد فعل منفي.
واعلم أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين الآيات التي جاء فيها ما يقضي أنهم يعتذرون نحو قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11] لأن وقت انتفاء نطقهم يوم الفصل.
وأما نطقهم المحكي في قوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} فذلك صراخهم في جهنم بعد انقضاء يوم الفصل، وبنحو هذا أجاب ابن عباس نافع بن الأزرق حين قال نافع: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال الله {وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وقال {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] فقال ابن عباس: لا يتساءلون في النفخة الأولى حين نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض فلا يتساءلون حينئذ، ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. والذي يجمع الجواب عن تلك الآيات

وعن أمثالها هو أنه يجب التنبيه إلى مسألة الوحدات في تحقق التناقض.
[37] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
تكرير لتهديد المشركين متصل بقوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} الآية على أول الوجهين في موقع ذلك، أو هو وارد لمناسبة قوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} على ثاني الوجهين المذكورين فيه فيكون تكريرا لنظيره الواقع بعد قوله: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} إلى قوله: {صفر} اقتضى تكريره عقبه أن جملة {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} الخ تتضمن حالة من أحوالهم يوم الحشر لم يسبق ذكرها فكان تكرير {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} بعدها لوجود مقتضي تكرير الوعيد للسامعين.
[38-39] {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} .
تكرير لتوبيخهم بعد جملة {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، شيع به القول الصادر بطردهم وتحقيرهم، فإن المطرود يشيع بالتوبيخ، فهو مما يقال لهم يومئذ، ولم تعطف بالواو لأنها وقعت موقع التذييل للطرد، وذلك من مقتضيات الفصل سواء كان التكرير بإعادة اللفظ والمعنى، أم كان بإعادة المعنى والغرض.
والإشارة إلى المشهد الذي يشاهدونه من حضور الناس ومعدات العرض والحساب لفصل القضاء بالجزاء.
والإخبار عن اسم الإشارة بأنه {يَوْمُ الْفَصْلِ} باعتبار أنهم يتصورون ما كانوا يسمعون في الدنيا من محاجة عليهم لإثبات يوم يكون فيه الفصل وكانوا ينكرون ذلك اليوم وما يتعذرون بما يقع فيه، فصارت صورة ذلك اليوم حاضرة في تصورهم دون إيمانهم به فكانوا الآن متهيئين لأن يوقنوا بأن هذا هو اليوم الذي كانوا يوعدون بحلوله، وقد عرف ذلك اليوم من قبل بأنه يوم الفصل [المرسلات:13]، أي القضاء وقد رأوا أهبة القضاء.
وجملة {جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} بيان للفصل بأنه الفصل في الناس كلهم لجزاء المحسنين والمسيئين كلهم، فلا جرم جمع في ذلك اليوم الأولون والآخرون قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 49-50].
والمخاطبون بضمير {جَمَعْنَاكُمْ} : المشركون الذين سبق الكلام لتهديدهم وهم المكذبون بالقرآن، لأن عطف {وَالْأَوَّلِينَ} على الضمير يمنع من أن يكون الضمير لجميع

المكذبين مثل الضمائر التي قبله، لأن الأولين من جملة المكذبين فلا يقال لهم: {جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} ، فتعين أن يختص بالمكذبين بالقرآن.
والمعنى: جمعناكم والسابقين قبلكم من المكذبين.
وقد أنذروا بما حل بالأولين أمثالهم من عذاب الدنيا في قوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} [المرسلات:16]. فأريد توقيفهم يومئذ على صدق ما كانوا ينذرون به في الحياة الدنيا من مصيرهم إلى ما صار إليه أمثالهم، فلذلك لم يتعلق الغرض بذكر الأمم التي جاءت من بعدهم.
وباعتبار هذا الضمير فرع عليه قوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} فكان تخلصا إلى توبيخ الحاضرين على ما يكيدون به للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] وأن كيدهم زائل وأن سوء العقبى عليهم.
وفرع على ذلك {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} ، أي فإن كان لكم كيد اليوم كما كان لكم في الدنيا، أي كيد بديني ورسولي فافعلوه.
والأمر للتعجيز، والشرط للتوبيخ والتذكير بسوء صنيعهم في الدنيا، والتسجيل عليهم بالعجز عن الكيد يومئذ حيث مكنوا من البحث عما عسى أن يكون لهم من الكيد فإذا لم يستطيعوه بعد ذلك فقد سجل عليهم العجز، وهذا من العذاب الذي يعذبونه إذ هو من نوع العذاب النفساني وهو أوقع على العاقل من العذاب الجسماني.
[40] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
تكرير للوعيد والتهديد وهو متصل بما قبله كاتصال نظيره المذكور آنفا.
[41-44] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .
يجوز أن يكون هذا ختام الكلام الذي هو تقريع للمشركين حكي لهم فيه نعيم المؤمنين الذي لا يشاهده المشركون لبعدهم عن مكانه فيحكي لهم يومئذ فيما يقال لهم ليكون ذلك أشد حسرة عليهم وتنديما لهم على ما فرطوا فيه مما بادر إليه المتقون المؤمنون ففازوا، فيكون هذا من جملة القول الذي حذف فعله عند قوله: {انْطَلِقُوا}

[المرسلات: 29] الخ.
ويجوز أن يكون هذا ابتداء كلام مستأنف انتقل به إلى ذكر نعيم المؤمنين المتقين تنويها بشأنهم وتعريضا لترغيب من المشركين الموجودين في الإقلاع عنه لينالوا كرامة المتقين.
و {ظلال} : جمع ظل، وهي ظلال كثيرة لكثرة شجر الجنة كثرة المستظلين بظلها، ولأن كل واحد منهم ظلا يتمتع فيه هو ومن إليه، وذلك أوقع في النعيم.
والتعريف في {المتقين} للاستغراق فلكل واحد من المتقين كون في ظلال.
و {في} للظرفية وهي ظرفية حقيقية بالنسبة للظلال لأن المستظل يكون مظروفا في الظل، وظرفية مجازية بالنسبة للعيون والفواكه تشبيها لكثرة ما حولهم من العيون والفواكه بإحاطة الظروف، وقوله: {مِمَّا يَشْتَهُونَ} صفة {فواكه} . وجمع {فواكه} الفواكه وغيرها، فالتبعيض الذي دل عليه حرف "من" تبعيض من أصناف الشهوات لا من أصناف الفواكه فأفاد أن تلك الفواكه مضمومة إلى ملاذ أخرى مما اشتهوه.
وجملة {كُلُوا وَاشْرَبُوا} مقول قول محذوف، وذلك المحذوف من موقع الحال من {المتقين} ، والتقدير: مقولا لهم كلوا واشربوا.
والمقصود من ذلك القول كرامتهم بعرض تناول النعيم عليهم كما يفعله المضيف بضيوفه فالأمر في {كُلُوا وَاشْرَبُوا} مستعمل في العرض.
و {هنيئا} دعاء تكريم كما يقال للشارب أو الطعام في الدنيا: هنيئا مريئا، كقوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} في سورة النساء [4].
و {هنيئا} وصف لموصوف غير مذكور دل عليه فعل {كُلُوا وَاشْرَبُوا} وذلك الموصوف مفعول مطلق من {كُلُوا وَاشْرَبُوا} مبين للنوع لقصد الدعاء مثل: سقيا، ورعيا بالدعاء بالخير، وتبا وسحقا في ضده.
والباء في {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} للسببية، أي لإفادة تسبب ما بعدها في وقوع متعلقه، أي كلوا واشربوا بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة وذلك من إكرامهم بأن جعل ذلك الإنعام حقا لهم.
وجملة {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ويجوز أن تكون مما يقال للمتقين بعد أن قيل

لهم {كُلُوا وَاشْرَبُوا} الخ مسوقة إليهم مساق زيادة الكرامة بالثناء عليهم، أي هذا النعيم الذي أنعمت به عليكم هو سنتنا في جزاء المحسنين فإذا قد كنتم من المحسنين فذلك جزاء لكم نلتوه بأنكم من أصحاب الحق في مثله، ففي هذا هز من أعطاف المنعم عليهم.
والمعنى عليه: أن هذه الجملة تقال لكل متق منهم، أو لكل جماعة منهم مجتمعة على نعيم الجنة، وليعلموا أيضا أن أمثالهم في الجنات الأخرى لهم من الجزاء مثل ما هم ينعمون به.
ويجوز أن تكون الجملة موجهة إلى المكذبين الموجودين بعد أن وصف لهم ما ينعم به المتقون إثر قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} الخ، قصد منها التعريض بأن حرمانهم من مثل ذلك النعيم هم الذين قضوا به على أنفسهم إذ أبوا أن يكونوا من المحسنين تكملة لتنديمهم وتحسيرهم الذي بودئوا به من قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} إلى آخره، أي إنا كذلك نجزي المحسنين دون أمثالكم المسيئين.
وموقع الجملة على كلا الاعتبارين موقع التعليل لما قبلها على كلا التقديرين فيما قبلها، ومن أجل الإشعار بهذا التعليل افتتحت ب {إن} مع خلو المقام عن التردد في الخبر إذ الموقف يومئذ موقف الصدق والحقيقة، فلذلك كانت {إن} متمحضة لإفادة الاهتمام بالخبر وحينئذ تصير مغنية غناء فاء التسبب وتفيد مفاد التعليل والربط كما تقدمت الإشارة إليه عند قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] وتفصيله عند قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} في سورة آل عمران [96].
والإشارة بقوله: {كذلك} إلى النعيم المشاهد إن كانت الجملة التي فيها إشارة موجهة إلى { الْمُتَّقِينَ} ، أو الإشارة إلى النعيم الموصوف في قوله: {فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} إن كانت الجملة المشتملة على اسم الإشارة موجهة إلى المكذبين.
والجملة على كل تقدير تفيد معنى التذييل بما اشتملت عليه من شبه عموم كذلك، ومن عموم المحسنين، فاجتمع فيها التعليل التذييل.
[45] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
هي على الوجه الأول في جملة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} تكرير لنظائرها. واليوم المضاف إلى "إذ" ذات تنوين العوض هو يوم صدور تلك المقالة.

وأما على الوجه الثاني من جملة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41] الخ فهي متصلة بتلك الجملة لمقابلة ذكر نعيم المؤمنين المطنب في وصفه بذكر ضده للمشركين بإيجاز حاصل من كلمة {ويل} لتحصل مقابلة الشيء بضده ولتكون هذه الجملة تأكيدا لنظائرها، واليوم المضاف إلى "إذ" يوم غير مذكور ولكنه مما يقتضيه كون المتقين في ظلال وعيون وفواكه ليعلم بأن ذلك يكون لهم في يوم القيامة.
[46] {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} .
خطاب للمشركين الموجودين الذين خوطبوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7] وهو استئناف ناشئ عن قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات:44] إذ يثير في نفوس المكذبين المخاطبين بهذه القوارع ما يكثره خطوره في نفوسهم من أنهم في هذه الدنيا في نعمة محققة وأن ما يوعدون به غير واقع فقيل لهم {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً} .
فالأمر في قوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا} مستعمل في الإمهال والإنذار، أي ليس أكلكم وتمتعكم بلذات الدنيا بشيء لأنه تمتع قليل ثم مأواكم العذاب الأبدي قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196-197].
وجملة {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} خبر مستعمل في التهديد والوعيد بالسوء، أي أن إجرامكم مهو بكم إلى العذاب، وذلك مستفاد من مقابلة وصفهم بالإجرام بوصف {الْمُتَّقِينَ} [المرسلات: 41] بالإحسان إذ الجزاء من جنس العمل، فالجملة واقعة موقع التعليل.
وتأكيد الخبر ب"إن" لرد إنكارهم كونهم مجرمين.
[47] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
هو مثل نظيره المذكور ثانيا في هذه السورة.
ويزيد على ذلك بأن له ارتباطا خاصا بجملة {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً} لما في {تَمَتَّعُوا قَلِيلاً} من الكناية عن ترقب سوء عاقبة لهم فيقع قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 46] موقع البيان لتلك الكناية، أي كلوا وتمتعوا قليلا الآن وويل لكم يوم القيامة.

[48] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} .
يجوز أن يكون عطفا على قوله: {لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 47]، والتقدير: والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، فإن {ال} الداخلة على الأوصاف المشتقة بمنزلة اسم الموصول غالبا، ولذلك جعلها النحاة في عداد أسماء الموصول وجعلوا الوصف الداخلة عليه صلة لها.
ويجوز أن يكون عطفا على جملة {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً} [المرسلات: 46] والانتقال من الخطاب إلى الغيبة التفات.
وعلى كلا الوجهين فهو من الإدماج لينعى عليهم مخالفتهم المسلمين في الأعمال الدالة على الإيمان الباطن فهو كناية عن عدم إيمانهم لأن الصلاة عماد الدين ولذلك عبر عن المشركين ب {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5].
والمعنى: إذا قيل لهم آمنوا واركعوا لا يؤمنون ولا يركعون كما كني عن عدم الإيمان لما حكي عنهم في الآخرة {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] إلى آخره.
ويجوز أن يكون عطفا على قوله: {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات: 46].
وعلى الوجوه كلها يفيد تهديدهم لأنه معطوف على التكذيب أو على الإجرام، وكلاهما سبب للتهديد بجزاء السوء في يوم الفصل.
وليس في الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لعدم تعين معنى المصلين للذين يقيمون الصلاة.
[49] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
هذه الجملة مثل نظيرها الموالية هي له، إذ يجوز أن تكون متصلة بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] ويكون التعبير ب"المكذبين" إظهار في مقام الإضمار لقصد وصفهم بالتكذيب. والتقدير: ويل يومئذ لهم أو لكم فهي تهديد ناشئ عن جملة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} ، ويكون اليوم المشار إليه ب {يومئذ} الزمان الذي يفيده {إذا} من قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} الذي يجازى فيه بالويل للمجرمين الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، أي لا يؤمنون، وتفيد مع ذلك تقريرا

وتأكيدا لنظيرها المذكور ثانيا في هذه السورة.
[50] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} .
الفاء فصيحة تنبئ عن شرط مقدر تقديره: إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي حديث بعده يؤمنون، وقد دل على تعيين هذا المقدر ما تكرر في آيات {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 49] فإن تكذيبهم بالقرآن وما جاء فيه من وقوع البعث.
والاستفهام مستعمل في الإنكار التعجيبي من حالهم، أي إذا لم يصدقوا بالقرآن مع وضوح حجته فلا يؤمنون بحديث غيره.
والمقصود أن القرآن بالغ الغاية في وضوح الدلالة ونهوض الحجة فالذين لا يؤمنون به لا يؤمنون بكلام يسمعونه عقب ذلك.
وقوله: {بعده} يجوز أن يجعل صفة حديث فهو ظرف مستقر، والمراد بالبعدية: تأخر الزمان، ويقدر معنى بالغ أو مسموع بعد بلوغ القرآن أو سماعه سواء كان حديثا موجودا قبل نزول القرآن، أو حديثا يوجد بعد القرآن، فليس المعنى أنهم يؤمنون بحديث جاء قبل القرآن مثل التوراة والإنجيل وغيرهما من المواعظ والأخبار، بل المراد أنهم لا يؤمنون بحديث غيره بعد أن لم يؤمنوا بالقرآن لأنه لا يقع إليهم كلام أوضح دلالة وحجة من القرآن.
ويجوز أن يكون {بعده} متعلقا ب {يؤمنون} فهو ظرف لغو ويبقى لفظ {حديث} منفيا بلا قيد وصف أنه بعد القرآن، والمعنى: لا يؤمنون بعد القرآن بكل حديث.
وضمير {بعده} عائد إلى القرآن ولم يتقدم ما يدل عليه في هذه السورة ليكون معادا للضمير ولكنه اعتبر كالمذكور لأنه ملحوظ لأذهانهم كل يوم من أيام دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم به.
وتقدم نظير هذه الآية في أواخر سورة الأعراف فضمه إلى ما هنا.
ويجوز أن يكون ضمير {بعده} عائدا إلى القول المأخوذ من {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] فإن أمرهم بالركوع الذي هو كناية عن الإيمان كان بأقوال القرآن.

المجلد الثلاثون
سورة النبأ...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النبأ
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة "سورة النبإ" لوقوع كلمة "النبأ" في أولها.
وسميت في بعض المصاحف وفي "صحيح البخاري" وفي "تفسير ابن عطية" و"الكشاف" "سورة عم يتساءلون". وفي "تفسير القرطبي" سماها "سورة عم"، أي بدون زيادة "يتساءلون" تسمية لها بأول جملة فيها.
وتسمى "سورة التساؤل" لوقوع "يتساءلون" في أولها. وتسمى "سورة المعصرات" لقوله تعالى فيها {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:14]. فهذه خمسة أسماء. واقتصر "الإتقان" على أربعة أسماء: عم، والنبأ، والتساؤل، والمعصرات. وهي مكية بالاتفاق.
وعدت السورة الثمانين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة المعارج وقبل سورة النازعات.
وفيما روي عن ابن عباس والحسن ما يقتضي أن هذه السورة نزلت في أول البعث، روي عن ابن عباس كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}.
وعن الحسن لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1-2] يعني الخبر العظيم.
وعد آيها أصحاب العدد من أهل المدينة والشام والبصرة أربعين. وعدها أهل مكة وأهل الكوفة إحدى وأربعين آية.

أغراضها
اشتملت هذه السورة على وصف خوض المشركين في شأن القرآن وما جاء به مما يخالف معتقداتهم، ومع ذلك إثبات البعث، وسؤال بعضهم بعضا عن الرأي في وقوعه مستهزئين بالإخبار عن وقوعه.
وتهديدهم على استهزائهم.
وفيها إقامة الحجة على إمكان البعث بخلق المخلوقات التي هي من أعظم من خلق الإنسان بعد موته وبالخلق الأول للإنسان وأحواله.
ووصف الأهوال الحاصلة عند البعث من عذاب الطاغين مع مقابلة ذلك بوصف نعيم المؤمنين.
وصفة يوم الحشر إنذارا للذين جحدوا به والإيماء إلى أنهم يعاقبون بعذاب قريب قبل عذاب يوم البعث.
وأدمج في ذلك أن علم الله تعالى محيط بكل شيء ومن جملة الأشياء أعمال الناس.
[1-3] {عَمَّ يَتَسَاءَلُون، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}.
افتتاح الكلام بالاستفهام عن تساؤل جماعة عن نبأ عظيم افتتاح تشويق ثم تهويل لما سيذكر بعده، فهو من الفواتح البديعة لما فيها من أسلوب عزيز غير مألوف ومن تشويق بطريقة الأجمال ثم التفصيل المحصلة لتمكن الخبر الآتي بعده في نفس السامع أكمل تمكن.
وإذا كان هذا الافتتاح مؤذنا بعظيم أمر كان مؤذنا بالتصدي لقول فصل فيه، ولما كان في ذلك إشعار بأهم ما فيه خوضهم يومئذ يجعل افتتاح الكلام به من براعة الاستهلال.
ولفظ {عَمَّ} مركب من كلمتين هما حرف "عن" الجار، و"ما" التي هي اسم استفهام بمعنى: أي شيء، ويتعلق {عَمَّ} بفعل {يَتَسَاءَلُونَ} فهذا مركب. وأصل ترتيبه: يتساءلون عن ما، فقدم اسم الاستفهام لأنه لا يقع إلا في صدر الكلام المستفهم به، وإذا قد كان

اسم الاستفهام مقترنا بحرف الجر الذي تعدى به الفعل إلى اسم الاستفهام وكان الحرف لا ينفصل عن مجروره قدما معا فصار {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}.
وقد جرى الاستعمال الفصيح على أن "ما" الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر يحذف الألف المختومة هي به تفرقة بينها وبين "ما" الموصولة.
وعلى ذلك جرى استعمال نطقهم، فلما كتبوا المصاحف جروا على تلك التفرقة في النطق فكتبوا "ما" الاستفهامية بدون ألف حيثما وقعت مثل قوله تعالى {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات:43] {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر:54] {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] فلذلك لم يقرأها أحد بإثبات الألف ألا في الشاذ.
ولما بقيت كلمة "ما" بعد حذف ألفها على حرف واحد جروا في رسم المصحف على أن ميمها الباقية تكتب متصلة بحرف "عن" لأن "ما" لما حذف ألفها بقيت على حرف واحد فأشبه حروف التهجي، فلما كان حرف الجر الذي قبل "ما" مختوما بنون والتقت النون مع ميم "ما"، والعرب ينطقون بالنون الساكنة التي بعدها ميم ميما ويدغمونها فيها، فلما حذفت النون في النطق جرى رسمهم على كتابة الكلمة محذوفة النون تبعا للنطق، ونظيره قوله تعالى {مِمَّ خُلِقَ} وهو اصطلاح حسن.
والتساؤل: تفاعل وحقيقة صيغة التفاعل تفيد صدور معنى المادة المشتقة منها من الفاعل إلى المفعول وصدور مثله من المفعول إلى الفاعل، وترد كثيرا لإفادة تكرر وقوع ما اشتقت منه نحو قولهم: ساءل، بمعنى: سأل، قال النابغة:
أسائل عن سعدى وقد مر بعدنا ... على عرصات الدار سبع كوامل
وقال رويشد بن كثير الطائي:
يأيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت
وتجيء لإفادة قوة صدور الفعل من الفاعل نحو قولهم: عافاك الله، وذلك إما كناية أو مجاز ومحمله في الآية على جواز الاحتمالات الثلاثة وذلك من إرادة المعنى الكنائي مع المعنى الصريح، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وكلا الاعتبارين صحيح في الكلام البليغ فلا وجه لمنعه.
فيجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضا سؤال متطلع للعلم لأنهم حينئذ لم يزالوا في شك من صحة ما أنبئوا به ثم استقر أمرهم على الإنكار.

ويجوز أن تكون مستعملة في المجاز الصوري يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء وقوع ما يتساءلون عنه على طريقة استعمال فعل "يحذر" في قوله تعالى {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} [التوبة:64] فيكونون قصدوا بالسؤال الاستهزاء.
وذهب المفسرون فريقين في كلتا الطريقتين يرجح كل فريق ما ذهب إليه. والوجه حمل الآية على كلتيهما لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب، فعن ابن عباس لما نزل القرآن كانت قريش يتحدثون فيما بينهم فمنهم مصدق ومنهم مكذب.
وعن الحسن وقتادة مثل قول ابن عباس، وقيل هو سؤال استهزاء أو تعجب وإنما هم موقنون بالتكذيب.
فأما التساؤل الحقيقي فأن يسأل أحد منهم غيره عن بعض أحوال هذا النبأ فيسأل المسؤول سائله سؤالا عن حال آخر من أحوال النبأ، إذ يخطر لكل واحد في ذلك خاطر غير الذي خطر للآخر فيسأل سؤال مستثبت، أو سؤال كشف عم معتقده، أو ما يوصف به المخبر بهذا النبأ كما قال بعضهم لبعض {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8] وقال بعض آخر {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} إلى قوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النمل: 67-68].
وأما التساؤل الصوري فأن يسأل بعضهم بعضا عن هذا الخبر سؤال تهكم واستهزاء فيقول أحدهم: هل بلغك خبر البعث? ويقول له الآخر: هل سمعت ما قال? فإطلاق لفظ التساؤل حقيقي لأنه موضوع لمثل تلك المساءلة وقصدهم منه غير حقيقي بل تهكمي.
والاستفهام بما في قوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ليس استفهاما حقيقيا بل هو مستعمل في التشويق إلى تلقي الخبر نحو قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء:221].
والموجه إليه الاستفهام من قبيل خطاب غير المعين.
وضمير {يَتَسَاءَلُونَ} يجوز أن يكون ضمير جماعة الغائبين مرادا به المشركون ولم يسبق لهم ذكر في هذا الكلام ولكن ذكرهم متكرر في القرآن فصاروا معروفين بالقصد من بعض ضمائره وإشاراته المبهمة، كالضمير في قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] "يعني الشمس" {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي} [القيامة:26] "يعني الروح"، فإن جعلت الكلام من باب الالتفات فالضمير ضمير جماعة المخاطبين.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68