كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

لا يتجاوز إليه.
وعلى هذا التأويل يكون المراد بالجسد الصنم لأنه صورة بلا روح كما سمى الله العجل الذي عبده بنو إسرائيل جسدا في قوله: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [طه:88].
ويكون معنى إلقائه على كرسيه نصبه في بيوت زوجاته المشركات بقرب من مواضع جلوسه إذ يكون له في كل بيت منها كرسي يجلس عليه.
وعطف {ثُمَّ أَنَابَ} بحرف {ثم} المفيد للتراخي الرتبي لأن رتبة الإنابة أعظم ذكر في قوله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ صّ:32].والإنابة:التوبة.
وجملة {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} بدل اشتمال من جملة {أَنَابَ} لأن الإنابة تشتمل على ترقب العفو عما عسى أن يكون قد صدر منه مما لا يرضى الله تعالى صدوره من أمثاله.
وإردافه طلب المغفرة باستيهاب ملك لا ينبغي لأحد من بعده لأنه توقع من غضب الله أمرين: العقاب في الآخرة،وسلب النعمة في الدنيا إذ قصر في شكرها،وكان سليمان يومئذ في ملك عظيم فسؤال موهبة الملك مراد به استدامة ذلك الملك وصيغة الطلب ترد لطلب الدوام مثل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136].وتنكير {مُلْكاً} للتعظيم.
وارتقى سليمان في تدرج سؤاله إلى أن وصف ملكا أنه لا ينبغي لأحد من بعده،أي لا يتأتى لأحد من بعده،أي لا يعطيه الله أحدا يبتغيه من بعده.فكنى بـ {لا يَنْبَغِي} عن معنى لا يعطى لأحد، أي لا تعطيه من بعدي.
ففعل {يَنْبَغِي} مطاوع بغاه،يقال:بغاه فانبغى له وليس للملك اختيار وانبغاء وإنما الله هو المعطى والميسر فإسناد إلى الملك مجاز عقلي،وحقيقته:انبغاء سببه.وهذا من التأدي في دعائه إذ لم يقل:لا تعطه أحدا من بعدي.
وسأل الله أن لا يقيم له منازعا في ملكه وأن يبقى له ذلك الملك إلى موته،فاستجاب فكان سليمان يخشى ظهور عبده "يربعام بن نباط" من سبط أفرايم عليه إذ كان أظهر الكيد لسليمان فطلبه سليمان ليقتله فهرب إلى "شيشق" فرعون مصر وبقي في مصر إلى وفاة سليمان.فهذا أيضا مما حمل سليمان أن يسال الله تثبيت ملكه وأن لا يعطيه أحدا غيره.
وكان لسليمان عدوان آخران هما "هدد" الأدومي و "رزون" من أهل صرفة

فقيمن في تخوم مملكة إسرائيل فخشي أن يكون الله هيأهما لإزالة ملكه.
واستعمل {مِنْ بَعْدِي} في معنى:من دوني،كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23]،فيكون معنى {لا يَنْبَغِي} أنه لا ينبغي لأحد غيري،أي في وقت حياتي فهذا دعاء بأن لا يسلط أحد على ملكه مدة حياته.
وعلى هذا التفسير لا يكون في سؤاله هذا الملك شيء من الاهتمام بأن لا ينال غيره مثل ما ناله هو فلا يرد على ذلك أن مثل هذا يعد من الحسد.
ويجوز أن يبقى {مِنْ بَعْدِي} على ظاهره،أي بعد حياتي.فمعنى {لا يَنْبَغِي} :لا ينبغي مثله لأحد بعد وفاتي.وتأويل ذلك أنه قصد من سؤاله الإشفاق من أن يلي مثل ذلك الملك من ليس له من النبوة والحكمة والعصمة ما يضطلع به لأعباء ملك مثل ذلك الملك ومن ليس له من النفوذ على أمته ما لسليمان على أمته فلا يلبث ان يحسد على الملك فينجم في الأمة منازعون للملك على ملكه،فينتفي أيضا على هذا التأويل إيهام أنه سأل ذلك غيرة على نفسه أن يعطى أحد غيره مثل ملكه مما تشم منه رائحة الحسد.
وقد تضمنت دعوته شيئين:هما أن يعطى ملكا عظيما،وأن لا يعطى غيره مثله في عظمته.وقد حكى الله دعاء سليمان وهو سر بينه وبين ربه إشعار بأنه ألهمه إياه،وأنه استجاب له دعوته تعريفا برضاه عنه وبأنه جعل استجابته مكرمة توبته.ومعنى ذلك أنه لا يأتي ملك بعده له من السلطان جميع ما لسليمان فإن ملك سليمان عم التصرف في الجن وتسخير الريح والطير،ومجموع ذلك لم يحصل لأحد من بعده.
وفي "الصحيح" عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأوردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان:"رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرددته خاسئا" .
وجملة {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} علة للسؤال كله وتمهيد الإجابة،فقامت "إن"مقام حرف التفريع ودلت صيغة المبالغة في {الْوَهَّابُ} على انه تعالى يهب الكثير والعظيم لأن المبالغة تفيد شدة الكيفية أو كلتيهما بقرينة مقام الدعاء،فمغفرة الذنب من المواهب العظيمة لما يرتب عليه من درجات الآخرة وإعطاء مثل هذا الملك هو هبة عظيمة.و {أَنْتَ} ضمير فصل،وأفاد الفصل به قصرا فصار المعنى:أنت القوي الموهبة

لا غيرك،لأن الله يهب ما لا يملك غيره أن يهبه.
[36ـ38] {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}
اقتضت الفاء وترتيب الجمل أن تسخير الريح وتسخير الشياطين كانا بعد أن سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من يعده أن أعطاه هاتين الموهبتين زيادة في قوة ملكه وتحقيقا لاستجابة دعوته نه إنما سأل ملكا لا ينبغي لأحد غيره ولم يسأل الزيادة فيما أعطيه من الملك.ولعل الله أراد أن يعطيه هاتين الموهبتين وأن لا يعطيهما أحدا بعده حتى إذا أعطى أحدا بعده ملكا مثل ملكه فيما عدا هاتين الموهبتين لم يكن قد أخلف إجابته.
والتسخير الإلجاء إلى عمل بدون اختيار،وهو مستعار هنا لتكوين أسباب نصرف الريح إلى الجهات التي يريد سليمان توجيه سفنه إليها لتكون معينة سفنه على سرعة سيرها،ولئلا تعاكس وجهة سفنه، وتقدم في قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} في سورة سبأ[12].
وقرأ أبو جعفر {الرِّيَاحَ} بصيغة الجمع.
وتقدم في قوله: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} في سورة الأنبياء[81].
والام في {له} للعلة،أي لأجله،أي ذلك التسخير كرامة من الله له بأن جعل تصريف الرياح مقدرا على نحو رغبته.
والأمر في قوله: {بِأَمْرِهِ} مستعار للرغبة أو للدعاء بأن يدعو الله أن تكون الريح متجهة إلى صوب كذا حسب خطة أسفار سفائنه،أو يرغب ذلك في نفسه،فيصرف الله الريح إلى ما يلائم رغبته وهو العليم بالخفيات.
والرُّخاء:اللينة التي لا زعزعة في هبوبها.وانتصب {رُخَاءً} على الحال من ضمير {تَجْرِي} أي تجري بأمره لينة مساعدة لسير السفن وهذا من التسخير لأن شأن الريح أن تتقلب كيفيات هبوبها،وأكثر ما تهب أن تهب شديدة عاصفة،وقد قال تعالى في سورة الأنبياء[81] {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} ومعناه:سخرنا لسليمان الريح التي شأنها العصوف،فمعنى {فَسَخَّرْنَا لَهُ} جعلناها له رخاء. فانتصب {عَاصِفَةً} في آية سورة الأنبياء على الحال من {الرِّيحَ} وهي حال منتقلة.ولما أعقبه بقوله {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} علم

أن عصفها يصير إلى لين بأمر سليمان،أي دعائه،أو بعزمه،أو برغبته لأنه لا تصلح له أن تكون عاصفة بحال من الأحوال،فهذا وجه دفع التنافي بين الحالين في الآيتين.
و {أَصَابَ} معناه قصد،وهو مشتق من الصوب،أي الجهة،أي تجري إلى حيث أي جهة قصد السير غليها.حكى الأصمعي عن العرب:"أصاب الصواب فأخطأ الجواب"أي أراد الصواب فلم يصب.
وقيل:هذا استعمال لها في لغة حمير،وقيل في لغة هجر.
و {الشَّيَاطِينَ} جمع شيطان،وحقيقته الجني،ويستعمل مجازا للبالغ غاية المقدرة والحذق في العمل الذي يعمله.ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112]، فسخر الله النوع الأول لسليمان تسخيرا خارقا للعادة على وجه المعجزة فهو مسخر له في الأمور الروحانية والتصرفات الخفية وليس من شأن جنسهم إيجاد الصناعات المتقنة كالبناء،وسخر النوع الثاني له تسخير إذلال ومغلوبية لعظم سلطانه وإلقاء مهابته في قلوب المم فكانوا يأتون طوعا للانضواء تحت سلطانه كما فعلت بلقيس وقد تقدم في سورة سبا.فيجوز أن يكون {الشَّيَاطِينَ} مستعملا في حقيقته ومجازه.
و {كُلَّ بَنَّاءٍ} بدل من {الشَّيَاطِينَ} بدل بعض من كل، أي كل بناء وغواص منهم، أي من الشياطين.
و {كُلَّ} هنا مستعملة في معنى الكثير،وهو استعمال وارد في القرآن والكلام الفصيح،قال تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يو نس:97]وقال: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل:69].وقال النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي
وتقدم عند قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} في سورة الأنعام[25].
والبنَّاء:الذي يبني وهو اسم فاعل مصوغ على زنة المبالغة للدلالة على معنى الصناعة مثل نجار وقصار وحداد.
والغواص:الذي يغوص في البحر لاستخراج محار اللؤلؤ،وهو أيضا مما صيغ على وزن المبالغة للدلالة على الصناعة،قال النابغة:
أو درّة صدفية غوَّاصها ... بَهَج مَتَى يَرها يَهِلَّ ويَسْجُدِ
قال تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء:82].
وقد بلغت الصناعة في ملك سليمان مبلغا من الإتقان والجودة والجلال،وناهيك

ببناء هيكل أورشليم وهو الذي سمي في الإسلام المسجد الأقصى وما جلب إليه من المواد إقامته من الممالك المجاورة له،وكذلك الصرح الذي أقامه وأدخلت عليه فيه مملكة سبأ.
و {آخَرِينَ} عطف على {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} فهو من جملة بدل البعض.وجمع آخر بمعنى مغاير،فيجوز أن تكون المغايرة في النوع من غير نوع الجن،ويجوز أن تكون المغايرة في الصفة،أي غير ينائين وغواصين. وقد كان يجلب من الممالك المجاورة له والداخلة تحت ظل سلطانه ما يحتاج غليه في بناء القصور والحصون والمدن وكانت مملكته عظيمة وكل الملوك يخشون بأسه ويصانعونه.
والمقرَّن:اسم مفعول من قرنه مبالغة في قرنه أي جعله قرينا لغيره لا ينفك أحدهما عن الآخر.
و {الْأَصْفَادِ} :جمع صفد بفتحتين وهو القيد.يقال:صفده،إذا قيده.
وهذا صنف ممن عبر عنهم بالشياطين شديد الشكيمة يخشى تفلته ويرام أن يستمر يعمل أعمالا لا يجيدها غيره فيصفد في القيود ليعمل تحت حراسة الحراس.وقد كان أهل الرأي من الملوك يجعلون أصحاب الخصائص في الصناعات محبوسين حيث لا يتصلون بأحد لكيلا يستهويهم جواسيس ملوك آخرين يستصنعونهم ليتخصص أهل تلك المملكة بخصائص تلك الصناعات فلا تشاركها فيها مملكة أخرى وبخاصة في صنع آلات الحرب من سيوف ونبال وقسي ودرق ومجان وخوذ وبيضات ودروع، فيجوز أن يكون معنى {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} حقيقته،ويجوز أن يكون تمثيلا لمنع الشياطين من التفلت.
وقد كان ملك سليمان مشتهرا بصنع الدروع السابغات المتقنة.يقال:دروع سليمانية.قال النابغة:
وكل صَموت نثلة تُبَّعِيّة ... ونَسْج سُلَيم كلَّ قمصاء ذائل
أراد نسج سليمان،أي نسج صنّاعه.
[39] {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
والإشارة إلى التسخير المستفاد من {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} [صّ:36}إلى قوله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ} [صّ:37]أي هذا التسخير عطاؤنا.والإضافة لتعظيم شأن المضاف لانتسابه إلى المضاف إليه فكأنه قيل:هذا عطاء عظيم أعطيناكه. والعطاء مصدر بمعنى المعطى مثل

الخلق بمعنى المخلوق.
و"امنن"أمر مستعمل في الإذن والإباحة،وهو مشتق من المن المكنى به عن الإنعام،أي فأنعم على من شئت بالإطلاق،أو أمسك في الخدمة من شئت.
فالمن:كناية عن الإطلاق بلازم اللازم،كقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [بمحمد:4].
وجملتا {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} معترضتان بين قوله: {عَطَاؤُنَا} وقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} ،وهو تفريع مقدم من تأخير.
والتقديم لتعجيل المسرة بالنعمة،ونظيره قوله تعالى من بعد: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [صّ:57]وقول عنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم
وقول بشارة:
كقائلة إن الحمار فنحِّه ... عن القَتِّ أهلُ السمسم المتهذب
مجازا وكناية في التحديد والتقدير،أي هذا عطاؤنا غير محدد ولا مقتر فيه،أي عطاؤنا واسعا وافيا لا تضييق فيه عليك.
ويجوز أن يكون {بِغَيْرِ حِسَابٍ} حالا من ضمير "امنن أو أمسك".ويكون الحساب بمعنى المحاسبة المكنى بها عن المؤاخذة.والمعنى:امنن أو أمسك لا مؤاخذة عليك فيمن مننت عليه بالإطلاق إن كان مفسدا،ولا فيمن أمسكته في الخدمة إن كان صالحا.
[40] {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}
تقدم نظيره آنفا في قصة داود وبيان نكتة التأكيد بحرف {إن} .
[41ـ42] {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}
هذا مثل ثان ذكر به النبي صلى الله عليه وسلم إسوة به في الصبر على أذى قومه والالتجاء إلى الله في كشف الضر،وهو معطوف على {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [صّ:17]ولكونه مقصودا

بالمثل أعيد معه فعل {اذْكُرْ} كما نبهنا عليه في قوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} [صّ:17]،وقد تقدم الكلام على نظير صدر هذه الآية في سورة الأنبياء.
وترجمة أيوب عليه السلام تقدمت في سورة الأنعام.
وإذ كانت تعدية فعل {اذْكُرْ} إلى اسم أيوب على تقدير مضاف لأن المقصود تذكر الحالة الخاصة به كان قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} بدل اشتمال من أيوب لأن زمن ندائه ربه مما تشتمل عليه أحوال أيوب. وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله لأنه مظهر توكله على الله واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه.
والنداء:نداء دعاء لأن الدعاء يفتتح بـ:يا رب ،ونحوه.
و {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} متعلق بـ {نَادَى} بحذف الباء المحذوفة مع "أن"،أي نادى:بأني مسني الشيطان، وهو في الأصل جملة مبينة لجملة {نَادَى رَبَّهُ} ولولا وجود "أن"المفتوحة التي تصير الجملة في موقع المفرد لكانت جملة مبينة لجملة {نَادَى} ،ولما احتاجت إلى تقدير حرف الجر ليتعدى إليها فعل {نَادَى} وخاصة حيث خلت الجملة من حرف نداء.فقولهم:إنها مجرورة بباء مقدرة جرى على اعتبارات الإعراب تفرقة بين موقع "أن" المفتوحة وموقع "إن" المكسورة ولهذا الفرق بين الفتح والكسر اطرد وجها فتح الهمزة وكسرها في نحو "خير القول أني أحمد".
وقد ذكرنا في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} في سورة الأنفال[9]رأينا في كون "أن" المفتوحة الهمزة المشددة النون مركبة من"أن"التفسيرية "وأن"الناسخة.
والخبر مستعمل في الدعاء والشكاية،كقوله: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا} [آل عمران:36]،وقد قال في آية سورة الأنبياء[83] {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
والنُصْب،بضم النون وسكون الصاد:المشقة والتعب،وهي لغة في نصب بفتحتين،وتقدم النصب في سورة الكهف.وقرأ أبو جعفر {بِنُصُبٍ} بضم الصاد وهو ضم إتباع لضم النون.
والعذاب:الألم.والمراد به المرض يعني:أصابني الشيطان بتعب وألم.وذلك من ضر حل بجسده وحاجة أصابته في ماله كما في الآية الأخرى {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83].
وظاهر إسناد المس بالنصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مس أيوب بهما،أي

أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب،ففي سورة الأنبياء[83] {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} فأسند المس إلى الضر،والضر هو النصب والعذاب.وترددت أفهام المفسرين في معنى إسناد المس بالنصب والعذاب إلى الشيطان،فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مكرر آيات القرآن وليس النصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها.وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله: {بِنُصْبٍ} على أنها باء التعدية لتعدية فعل {مَسَّنِيَ} ،أو باء الآلة مثل:ضربه بالعصا،أو يؤول النصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى.
والوجه عندي:أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النصب والعذاب مسببين لمس الشيطان إياه، أي مسني بوسواس سببه نصب وعذاب،فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النصب والعذاب عنده ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقا لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك.أو نحمل الباء على المصاحبة،أي مسني بوسوسة مصاحبة لضر وعذاب،ففي قول أيوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلا للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
وتنوين "نصب وعذاب" للتعظيم أو للنوعية،وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله.
وجملة {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} الخ مقولة لقول محذوف،أي قلنا له اركض برجلك،وذلك إيذان بأن هذا استجابة لدعائه.
والركض:الضرب في الأرض بالرجل،فقوله: {بِرِجْلِكَ }زيادة في بيان معنى الفعل مثل {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38]وقد سمى الله ذلك استجابة في سورة الأنبياء إذ قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} .
وجملة {هَذَا مُغْتَسَلٌ} مقولة لقول محذوف دل عليه المقول الأول،وفي الكلام حذف دلت عليه الإشارة.فالتقدير:فركض الأرض فنبع ماء فقلنا له:هذا مغتسل بارد وشراب.فالإشارة إلى ماء لأنه الذي يغتسل به ويشرب.

ووصْف الماء بذلك في سياق الثناء عليه مشير إلى أن ذلك الماء فيه شفاؤه إذا اغتسل به وشرب منه ليتناسب قول الله له مع ندائه ربه لظهور أن القول عقب النداء هو قول استجابة الدعاء من المدعو.
و {مُغْتَسَلٌ} اسم مفعول من فعل اغتسل،أي مغتسل به فهو على حذف حرف الجر وإيصال المغتسل القاصر إلى المفعول مثل قوله:
تمَرُّون الديارَ ولم تعُوجوا
ووصفه بـ {بَارِدٌ} إيماء إلى أن به زوال ما بأيوب من الحمى من القروح.قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء" ،أي نافع شاف،وبالتنوين استغني عن وصف {شَرَابٌ} إذ من المعلوم أن الماء شراب فلولا إرادة التعظيم بالتنوين لكان الإخبار عن الماء بأنه شراب إخبارا بأمر معلوم،ومرجع تعظيم {شَرَابٌ} إلى كونه عظيما لأيوب وهو شفاء ما به من مرض.
[43] {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
اقتصار أيوب في دعائه على التعريض بإزالة النصب والعذاب يشعر بأنه لم يصب بغير الضر في بدنه. ويحتمل أن يكون قد أصابه تلف المال وهلاك العيال كما جاء في كتاب أيوب من كتب اليهود فيكون اقتصاره على النصب والعذاب في دعائه لأن في هلاك الأهل والمال نصبا وعذابا للنفس.ولم يتقدم في هذه الآية ولا في آية سورة الأنبياء أن أيوب رزئ أهله فيجوز أن يكون معنى {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} أن الله أبقى له أهله فلم يصب فيهم بما يكره وزاده بنين وحفدة.
ويكون فعل {وَهَبْنَا} مستعملا في حقيقته ومجازه. ويؤيد هذا المحمل وقوع كلمة {مَعَهُمْ} عقب كلمة {وَمِثْلَهُمْ} فإن "مع" تشعر بان الموهوب لاحق بأهله ومزيد فيهم فليس في الآية تقدير مضاف في قوله {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} .
وليس في الأخبار الصحيحة ما يخالف هذا إلا أقوالا عن المفسرين ناشئة عن أفهام مختلفة.ويحتمل ن يكون مما أصابه أنه هلك وأولاده في مده في مدة ضره كما جاء في كتاب "أيوب" من كتب اليهود وأقوال بعض السلف من المفسرين فيتعين تقدير مضاف،أي وهبنا له عوض أهله.وألفاظ الآية تنبو عن هذا الوجه الثاني.
ومعنى {وَمِثْلَهُمْ} مماثلهم.والمراد:مماثل عددهم،أي ضعف عدد أهله من بنين وحفدة.

وتقدم نظير هذه الآية في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} في سورة الأنبياء[84].وما بين الآيتين من تغيير يسير هو مجرد تفنن في التعبير لا يقتضي تفاوتا في البلاغة.وأما ما بينهما من مخالفة في قوله هنا: {وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وقوله في سورة الأنبياء {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} ,فأما قوله هنا: {وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} فإن الذكرى التذكير بما خفي أو بما يخفى وأولوا الألباب هم أهل العقول،أي تذكرة لأهل النظر والاستدلال.فإن في قصة أيوب مجملها ومفصلها ما إذا سمعه العقلاء المعتبرون بالحوادث والقائسون على النظائر استدلوا على أن صبره قدوة لكل من هو في حرج ن ينتظر الفرج،فلما كانت قصص الأنبياء في هذه السورة مسوقة للاعتبار بعواقب الصابرين وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون مأمورين بالاعتبار بها من قوله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} كما تقدم حق أن يشار إليهم "بأولي الألباب".
وأما الذي في سورة الأنبياء فإنه جيء به شاهدا على أن النبوة لا تنافي البشرية وأن الأنبياء تعتريهم من الأحداث ما يعتري البشر مما لا ينقص منهم في نظر العقل والحكمة وأنهم إنما يقومون بأمر الله، ابتداء من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً يُُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7]وأنهم معرضون لأذى الناس مما لا يخل بحرمتهم الحقيقية وأقصى ذلك الموت.من قوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].
وإذ كان المشركون يقولون: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]،وحاولوا قتله غير مرة فعصمه الله،ثم من قوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10]ثم قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:49,48]،وذكر من الأنبياء من ابتلي من قومه فصبر، وكيف كانت عاقبة صبرهم واحدة مع اختلاف الأسباب الداعية إليه.فكانت في ذلك آيات للعابدين،أي الممتثلين أمر الله المجتنبين نهيه،فإن مما أمر به الله الصبر على ما يلحق المرء من ضر لا يستطيع دفعه لكون دفعه خارجا عن طاقته فختم بخاتمة إن في ذلك لآيات للعابدين.
[44] {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}

{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}
مقول لقول محذوف دلت عليه صيغة الكلام،والتقدير:وقلنا خذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث، وهو قول غير القول المحذوف في قوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [صّ:42]لأن ذلك استجابة دعوة وهذا إفتاء برخصة،وذلك له قصته،وهذا له قصة أخرى أشارت إليها الآية إجمالا ولم يرد في تعيينها أثر صحيح ومجملها أن زوج أيوب حاولت عملا ففسد عليه صبره من استعانة ببعض الناس على مواساته فلما علم بذلك غضب وأقسم ليضربنها عددا من الضرب ثم ندم وكان محبا لها،وكانت لائذة به في مدة مرضه فلما سري عنه أشفق على امرأته من ذلك ولم يكن في دينهم كفارة اليمين فأوحى الله إليه أن يضربها بحزمة فيها عدد من الأعواد بعدد الضربات التي أقسم عليها رفقا بزوجه لأجله وحفظا ليمينه من حنثه إذ لا يليق الحنث بمقام النبوة.وليست هذه القضية ذات أثر في الغرض الذي سيقت لأجله قصة أيوب من الأسوة وإنما ذكرت هنا تكملة لمظهر لطف الله بأيوب جزاء على صبره.
ومعاني الآية ظاهرة في أن هذا الترخيص رفق بأيوب،وأنه لم يكن مثله معلوما في الدين الذي يدين به أيوب إبقاء على تقواه،وإكراما له لحبه زوجه،ورفقا بزوجه لبرها به،فهو رخصة لا محالة في حكم الحنث في اليمين.
فجاء علماؤنا ونظروا في الأصل المقرر في المسألة المفروضة في أصول الفقه وهي:أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا إذا حكاه القرآن أو السنة الصحيحة،ولم يكن في شرعنا ما ينسخه من نص أو أصل من أصول الشريعة الإسلامية.فأما الذين لم يروا أن شرع من قبلنا شرع لنا وهم أبو بكر الباقلاني من المالكية وجهور الشافعية وجميع الظاهرية فشأنهم في هذا ظاهر،وأما الذين أثبتوا أصل الاقتداء بشرع من قبلنا بقيوده المذكورة وهم مالك وأبو حنيفة والشافعي فتخطوا للبحث في أن هذا الحكم الذي في هذه الآية هل يقرر مثله في فقه الإسلام في الإفتاء في الأيمان وهل يتعدى به إلى جعله أصلا للقياس في كل ضرب يتعين في الشرع له عدد إذا قام في المضروب عذر يقتضي الترخيص بعد البناء على إثبات القياس على الرخص؟،وهل يتعدى به إلى جعله أصلا للقياس أيضا لإثبات أصل مماثل وهو التحيل بوجه شرعي للتخلص من واجب تكليف شرعي؟،واقتحموا ذلك على ما في حكاية قصة أيوب من إجمال لا يتبصر به الناظر في صفة يمينه ولا لفظه ولا نيته إذ ليس من مقصد القصة.

فأما في الإيمان فقد كفانا الله التكلف بأن شرع لنا كفارات الأيمان.وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني فعلت الذي هو خير" ،فصار ما في شرعنا ناسخا لما شرع لأيوب فلا حاجة إلى الخوض فيها،ومذهب الحنفية العمل بذلك استنادا لكونه شرعا لمن قبلنا وهو قول الشافعي.
وقال مالك:"هذه خاصة بأيوب أفتى الله بها نبيا".وحكى القرطبي عن الشافعي:"أنه خصه بما إذا حلف ولم تكن له نية كأنه أخرجه مخرج أقل ما يصدق عليه لفظ الضرب والعدد".وأما القياس على فتوى أيوب في كل ضرب معين بعدد في غير اليمين،أي في باب الحدود والتعزيرات فهو تطوح في القياس لاختلاف الجنس بين الأصل والفرع،ولاختلاف مقصد الشريعة من الكفارات ومقصدها من الحدود والتعزيرات، ولترتب المفسدة على إهمال الحدود والتعزيرات دون الكفارات.ولا شك أن مثل هذا التسامح في الحدود يفضي إلى إهمالها ومصيرها عبثا.وما وقع في "سن أبي داود" من حديث أبي أمامة عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار:"أن رجلا منهم كان مريضا مضني فدخلت عليه جارية فهش لها فوقع عليها فاستفتوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: "لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة".ورواه غير أبي داود بأسانيد مختلفة وعبارات مختلفة.وما هي إلا قصة واحدة فلا حجة فيه لأنه تطرقته احتمالات.
أولها:أن ذلك الرجل كان مريضا مضني ولا يقام الحد على مثله.
الثاني:لعل المرض قد أخل بعقله إخلالا أقدمه على الزنى فكان المرض شبهة تدرأ الحد عنه.
الثالث:أنه خبر آحاد لا ينقض به التواتر المعنوي الثابت في إقامة الحدود.
الرابع:حمله على الخصوصية.ومذهب الشافعي أنه يعمل بذلك في الحد للضرورة كالمرض وهو غريب لأن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف متضافرة على أن المريض والحمل ينتظران في إقامة الحد عليهما حتى يبرآ،ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تضرب الحامل بشماريخ،فماذا يفيد هذا الضرب الذي لا يزجر مجرما،ولا يدفع مأثما،وفي "أحكام الجصاص" عن أبي حنيفة مثل ما للشافعي.وحكى الخطابي:"أن أبا حنيفة ومالكا اتفقا على أنه لا حد إلا الحد المعروف".فقد اختلف النقل عن أبي حنيفة.

{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}
علة لجملة {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ}[صّ:42]وجملة {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} [صّ:43]،أي أنعمنا عليه بجبر حاله، لأنا وجدناه صابرا على ما أصابه فهو قدوة للمأمور بقوله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10] صلى الله عليه وسلم،فكانت "إَنْ" مغنية عن فاء التفريغ.
ومعنى {وَجَدْنَاهُ} أنه ظهر في صبره ما كان في علم الله منه.
وقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} مثل قوله في سليمان: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [صّ:30]،فكان سليمان أوابا لله من فتنة الغني والنعيم،وأيوب أوابا لله من فتنة الضر والاحتياج،وكان الثناء عليهما متماثلا لاستوائهما في الأوبة وإن اختلفت الدواعي.قال سفيان:"أثنى الله على عبدين ابتليا:أحدهما صابر، والآخر شاكر،ثناء واحدا.فقال لأيوب ولسليمان {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ".
[45ـ47] {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}
القول فيه كالقول في نظائره لغة ومعنى.وذكر هؤلاء الثلاثة ذكر اقتداء وائتساء بهم،فأما إبراهيم عليه السلام فيما عرف من صبره على أذى قومه،وإلقائه في النار،وابتلائه بتكليف ذبح ابنه،وأما ذكر إسحاق ويعقوب فاستطراد بمناسبة ذكر إبراهيم ولما اشتركا به من الفضائل مع أبيهم التي يجمعها اشتراكهم في معنى قوله: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} ليقتدي النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثتهم في القوة في إقامة الذين والبصيرة في حقائق الأمور.
وابتدئ بإبراهيم لتفضيله بمقام الرسالة والشريعة،وعطف عليه ذكر ابنه وعطف على ابنه ابنه يعقوب.وقرأ الجمهور {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} بصيغة الجمع على أن {إِبْرَاهِيمَ} ومن عطف عليه كله عطف بيان.وقرأ ابن كثير {عَبْدَنَا} بصيغة الإفراد على أن يكون {إِبْرَاهِيمَ} عطف بيان من {عَبْدَنَا} ويكون {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} عطف نسق على {عَبْدَنَا}. ومآل القراءتين متحد.
والأيدي:جمع يد بمعنى القوة في الدين.كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} في سورة الذاريات[47].
والأبصار:جمع بصر بالمعنى المجازي،وهو النظر الفكري المعروف بالبصيرة،

أي التبصر في مراعاة أحكام الله تعالى وتوخي مرضاته.
وجملة {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ} علة للأمر بذكرهم لأن ذكرهم يكسب الذاكر الاقتداء بهم في إخلاصهم ورجاء الفوز بما فازوا به من الاصطفاء والأفضلية في الخير.و {أَخْلَصْنَاهُمْ} :جعلناهم خالصين،فالهمزة للتعدية،أي طهرناهم من درن النفوس فصارت نفوسهم نقية من العيوب العارضة للبشر،وهذا الإخلاص هو معنى العصمة اللازمة للنبوة.
والعصمة:قوة يجعلها الله في نفس النبي تصرفه عن فعل ما هو في دينه معصية لله تعالى عمدا أو سهوا،وعما هو موجب للنفرة والاستصغار عند أهل العقول الراجحة من أمة عصره.
وأركان العصمة أربعة:
الأول:خاصية للنفس يخلقها الله تعالى تقتضي ملكة مانعة من العصيان.
والثاني:حصول العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات.
الثالث:تأكيد ذلك العلم بتتابع الوحي والبيان من الله تعالى.
الرابع:العتاب من الله على ترك الأولى وعلى النسيان.
وإسناد الإخلاص إلى الله تعالى لأنه أمر لا يحصل للنفس البشرية إلا بجعل خاص من الله تعالى وعناية لدنية بحيث تنزع من النفس غلبة الهوى في كل حال وتصرف النفس إلى الخير المحض فلا تبقى في النفس إلا نزعات خفيفة تقلع النفس عنها سريعا بمجرد خطورها،قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة".
والباء في {بِخَالِصَةٍ} للسببية تنبيها على سبب عصمتهم.وعبر عن هذا السبب تعبيرا مجملا تنبيها على أنه أمر عظيم دقيق لا يتصور بالكنه ولكن يعرف بالوجه،ولذلك استحضر هذا السبب بوصف مشتق من فعل {أَخْلَصْنَاهُمْ} على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن اقتناعه من أكل لحم الضب:"أني تحضرني من الله حاضرة أي حاضرة" لا توصف،ثم بينت هذه الخالصة بأقصى ما تعبر عنه اللغة وهي أنها {ذِكْرَى الدَّارِ} .
والذكرى:اسم مصدر يدل على قوة معنى المصدر مثل الرجعي والبقيا لأن زيادة المبنى تقتضي زيادة المعنى. والدار المعهودة لأمثالهم هي الدار الآخرة،أي بحيث لا ينسون الآخرة ولا يقبلون على الدنيا، فالدار التي هي محل عنايتهم هي الدار الآخرة،قال

النبي صلى الله عليه وسلم:"فأقول ما لي وللدنيا".
وأشار قوله تعالى: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} إلى أن مبدأ العصمة هو الوحي الإلهي بالتحذير مما لا يرضي الله وتخويف عذاب الآخرة وتحبيب نعيمها فتحدث في نفس النبي صلى الله عليه وسلم شدة الحذر من المعصية وحب الطاعة ثم لا يزال الوحي يتعهده ويوقظه ويجنبه الوقوع فيما نهي عنه فلا يلبث أن تصير العصمة ملكة للنبي يكره بها المعاصي،فأصل العصمة هي منتهى التقوى التي هي ثمرة التكليف،وبهذا يمكن الجمع بين قول أصحابنا:"العصمة عدم خلق المعصية مع بقاء القدرة على المعصية"،وقول المعتزلة:"إنها ملكة تمنع عن إرادة المعاصي"،فالأولون نظروا إلى المبدأ والأخيرون نظروا إلى الغاية،وبه يظهر أيضا أن العصمة لا تنافي التكليف وترتب المدح على الطاعات.
وقرأ نافع وهشام عن ابن عامر وأبو جعفر "خالصة" بدون تنوين لإضافته إلى {ذِكْرَى الدَّارِ} ، والإضافة بيانية لأن {ذِكْرَى الدَّارِ} هي نفس الخالصة،فكأنه قيل:بذكرى الدار،وليست من إضافة الصفة إلى الموصوف ولا من إضافة المصدر إلى مفعوله ولا إلى فاعله،وإنما ذكر لفظ "خالصة" ليقع إجمال ثم يفصل بالإضافة للتنبيه على دقة هذا الخلوص كما أشرنا ليه.والتعريف بالإضافة لأنها أقصى طريق للتعريف في هذا المقام.
وقرأ الجمهور بتنوين "خالصة" فيكون {ذِكْرَى الدَّارِ} عطف بيان أو بدلا مطابقا.وغرض الإجمال والتفصيل ظاهر.وإضافة "خالصة" إلى {ذِكْرَى الدَّارِ} في قراءة نافع من إضافة الصفة إلى الموصوف وإبدالها منها في قراءة الجمهور من إبدال الصفة من الموصوف.
ويجوز أن يكون {ذِكْرَى} مرادف الذكر بكسر الذال،أي الذكر الحسن،كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [مريم:50]وتكون {الدَّارِ} هي الدار الدنيا.
ويجوز أن يكون مرادفا للذكر بضم الذال وهو التذكر الفكري ومراعاة وصايا الدين.و {الدَّارِ} : الدار الآخرة.
وعطف عليه {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} لأنه مما يبعث على ذكرهم بأنهم اصطفاهم الله من بين خلقه فقربهم إليه وجعلهم أخيارا.
و {الْأَخْيَارِ} :جمع خير بتشديد الياء،أو جمع خير بتخفيفها مثل الأموات جمعا لميت وميت،وكلتا الصيغتين تدل على شدة الوصف في الموصوف.
[48] {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ}

فُصل ذكر إسماعيل عن عده مع أبيه إبراهيم وأخيه إسحاق لأن إسماعيل كان جد الأمة العربية،أي معظمها فإنه أبو العدنانيين.وجد للأم لمعظم القحطانيين لأن زوج إسماعيل جُرْهُميّة فلذلك قطع عن عطفه على ذكر إبراهيم وعاد الكلام إليه هنا.
وأما قرنه ذكره بذكر أليسع وذي الكفل بعطف اسميهما على اسمه فوجهه دقيق في البلاغة وليس يكفي في توجيهه ما تضمنه قوله: {وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} ،لأن التماثل في الخيرية ثابت لجمع الأنبياء والمرسلين،فلا يكون ذكرهما بعد ذكر إسماعيل أولى من ذكر غيرهما من ذوي الخيرية الذين شملهم لفظ الأخيار والاصطفاء،فإن شرط قبول العطف بالواو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جامع عقلي أو وهمي أو خيالي كما قال في "المفتاح"،قال ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله:
لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم1
حيث جمع بين مرارة النوى وكريم أبي الحسين وإن كانا مقترنين في تعالى علم الله بهما وذلك مساو لاقتران إسماعيل واليسع وذي الكفل في أنهم من الأخيار في هذه الآية.
فبنا أن نطلب الدقيقة التي حسنت في هذه الآية عطف اليسع وذي الكفل على إسماعيل.فأما عطف اليسع على إسماعيل فلأن اليسع كان مقامه في بني إسرائيل كمقام إسماعيل في بني إبراهيم لأن اليسع كان بمنزلة الابن للرسول إلياس "إيليا" وكان إلياس يدافع ملوك يهودا وملوك إسرائيل عن عبادة الأصنام،وكان اليسع في إعانته كما كان إسماعيل في إعانة إبراهيم،وكان إلياس لما رفع إلى السماء قام اليسع مقامه كما هو مبين في سفر "الملوك الثاني" الإصحاح "1-2".
وأما عطف ذي الكفل على إسماعيل فلأنه مماثل لإسماعيل في صفة الصبر قال الله تعالى في سورة الأنبياء[85] {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} .
وقرأ الجمهور {الْيَسَعَ} بهمزة وصل وبلام واحدة وهي من أصل الاسم في اللغة العبرانية فعربته العرب باللام وليست لام التعريف،فدع عنك ما أطالوا به.وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل وبلامين وتشديد الثانية وهو أقرب إلى أصله العبراني وهو اسم أعجمي معرب،والهمزة واللام،أو واللامان أصلية.
ـــــــ
1 هو أبو الحسين محمد بن الهيثم بن شبابة أحد قواد المتوكل أو الواثق ولأبي تمام مدائح فيه كثيرة.

وتنوين {كُلٌّ} في قوله: {وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} عوض عن المضاف إليه،أي وكل أولئك الثلاثة من الأخيار. وتقدم ذكر اليسع في سورة الأنعام،وذكر ذي الكفل في سورة الأنبياء.
[49ـ52] {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ}
{هَذَا ذِكْرٌ} جملة فصلت الكلام السابق عن الكلام الآتي بعدها قصدا لانتقال الكلام من غرض إلى غرض مثل جملة:أما بعد فكذا ومثل اسم الإشارة المجرد نحو {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [صّ:55]،وقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج:30]، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج:30]في سورة الحج[32].قال في "الكشاف":"وهو كما يقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر:هذا وقد كان كيت وكيت"اهـ.وهذا الأسلوب من الانتقال هو المسمى في عرف علماء الأدب بالاقتضاب وهو طريقة العرب ومن يليهم من المخضرمين،ولهم في مثله طريقتان:أن يذكروا الخبر كما في هذه الآية وقول المؤلفين:هذا باب كذا،وأن يحذفوا الخبر لدلالة الإشارة على المقصود،كقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج:30]،أي ذلك شأن الذين عملوا بما دعاهم إليه إبراهيم وذكروا اسم الله على ذبائحهم ولم يذكروا أسماء الأصنام،وقوله {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} ،أي ذلك مثل الذين أشركوا بالله،وقوله بعد آيات {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [صّ:55]أي هذا مئات المتقين،ومنه قول الكاتب:هذا وقد كان كيت وكيت،وإنما صرح بالخبر في قوله: {هَذَا ذِكْرٌ}للاهتمام بتعيين الخبر،وأن المقصود من المشار إليه التذكر والاقتداء فلا يأخذ السامع اسم الإشارة مأخذ الفصل المجرد والانتقال الاقتضابي،مع إرادة التوجيه بلفظ {ذِكْرٌ} بتحميله معنى حسن السمعة،أي ذكر لأولئك المسمين في الآخرين مع أنه تذكرة للمقتدين على نحو المعنيين في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} في سورة الزخرف[44].
ومن هنا احتمل أن تكون الإشارة بـ {هَذَا}إلى القرآن،أي القرآن ذكر،فتكون الجملة استئنافا ابتدائيا للتنويه بشأن القرآن راجعا إلى غرض قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} .
والواو في {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} الخ،يجوز أن تكون للعطف الذكرى،أي انتهى الكلام

السابق بقولنا {هَذَا} ونعطف عليه {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} الخ.ويجوز أن تكون واو الحال.وتقدم معنى {وَحُسْنَ مَآبٍ} .واللام في {لِلْمُتَّقِينَ} لام الاختصاص،أي لهم حسن مآب يوم الجزاء.وانتصب {جَنَّاتِ عَدْنٍ} على البيان من {وَحُسْنَ مَآبٍ}. والعدن:الخلود.
و {مُفَتَّحَةً} حال من {جَنَّاتِ عَدْنٍ} ،والعامل في الحال ما في {لِلْمُتَّقِينَ} من معنى الفعل وهو الاستقرار فيكون "ال" في {الْأَبْوَابُ} عوضا عن الضمير.والتقدير:أبوابها،على رأي نحاة الكوفة،وأما عند البصريين فـ {الْأَبْوَابُ} بدل من الضمير في {مُفَتَّحَةً} على أنه بدل اشتمال أو بعض والرابط بينه وبين المبدل منه محذوف تقديره:الأبواب منها.وتفتيح الأبواب كناية عن التمكين من الانتفاع بنعيمها لأن تفتيح الأبواب يستلزم الإذن بالدخول وهو يستلزم التخلية بين الداخل وبين الانتفاع بما وراء الأبواب.
وقوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} تقدم قريب منه في سورة يس.
و {يَدْعُونَ} :يأمرون بأن يجلب لهم،يقال:دعا بكذا،أي سأل ان يحضر له.
والباء في قولهم:دعا بكذا،للمصاحبة،والتقدير:دعا مدعوا يصاحبه كذا،قال عدي بن زيد:
ودعَوا بالصَّبوح يوماً فجاءت ... قَينَة في يمينها إبريق
قال تعالى في سورة يس[57] {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} .
وانتصب {مُتَّكِئِينَ} على الحال من "المتقين" وهي حال مقدرة.وجملة {يَدْعُونَ} حال ثانية مقدرة أيضا.
والشراب:اسم للمشروب،وغلب إطلاقه على الخمر إذا لم يكن في الكلام ذكر للماء كقوله آنفا: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [صّ:42].وتنوين {شراب} هنا للتعظيم،أي شراب نفيس في جنسه، كقول أبي خراش الهذلي:
لقد وقعت على لحم
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} : {عِنْدَ} ظرف مكان قريب و {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} صفة لموصوف محذوف، أي نساء قاصرا النظر.وتعريف {الطَّرْفِ} تعريف الجنس الصادق بالكثير،أي قاصرات الأطراف. و {الطَّرْفِ} :النظر بالعين،وقصر الطرف توجيهه إلى منظور غير متعدد،فيجوز أن يكون المعنى:أنهن قاصرات أطرافهن على أزواجهن.فالأطراف المقصورة أطرافهن.وإسناد {قَاصِرَاتُ} إلى ضميرهن إسناد

حقيقي،أي لا يوجهن أنظارهن إلى غيرهم وذلك كناية عن محبتهن على أزواجهن.
ويجوز أن يكون المعنى:أنهن يقصرن أطراف أزواجهن عليهن فلا تتوجه أنظار أزواجهن إلى غيرهن اكتفاء منهم بحسنهن وذلك كناية عن تمام حسنهن في أنظار أزواجهن بحيث لا يتعلق استحسانهم بغيرهن، فالأطراف المقصورة أطراف أزواجهن،وإسناد {قَاصِرَاتُ} إليهن مجاز عقلي إذ كان حسنهن سبب قصر أطراف الأزواج فإنهن ملابسات سبب سبب القصر.
و {أَتْرَابٌ} :جمع تِرْب بكسر التاء وسكون الراء،وهو اسم لمن كان عمره مساويا عمر من يضاف إليه،تقول:هو ترب فلان،وهي ترب فلانة،ولا تلحق لفظ ترب علامة تأنيث.والمراد:أنهن أتراب بعضهن لبعض،وأنهن أتراب لأزواجهن لأن التحاب بين الأقران أمكن.
والظاهر أن {أَتْرَابٌ} وصف قائم بجميع نساء الجنة من مخلوقات الجنة ومن النساء اللاتي كن أزواجا في الدنيا لأصحاب الجنة،فلا يكون بعضهن أحسن شبابا من بعض فلا يلحق بعض أهل الجنة غض إذا كانت نساء غيره أجد شبابا،ولئلا تتفاوت نساء الواحد من المتقين في شرخ الشباب،فيكون النعيم بالأقل شبابا دون النعيم بالأجد منهن.وتقدم الكلام على {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} في سورة الصافات[48].
[53] {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ}
استئناف ابتدائي فيجوز أن يكون كلاما قيل للمتقين وقت نزول الآية فهو مؤكد لمضمون جملة {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}[ صّ:49].والإشارة إذن إلى ما سبق ذكره من وقوله: {لَحُسْنَ مَآبٍ} فاسم الإشارة هنا مغاير لاستعماله المتقدم في قوله: {هَذَا ذِكْرٌ} [صّ:49[.وجيء باسم الإشارة القريب تنزيلا للمشار غليه منزلة المشار إليه الحاضر إيماء إلى أنه محقق وقوعه تبشيرا للمتقين.والتعبير بالمضارع في قوله: {تُوعَدُونَ} على ظاهره.
ويجوز أن يكون كلاما يقال للمتقين في الجنة فتكون الجملة مقول قول محذوف هو في محل حال ثانية من "المتقين".والتقدير:مقولا لهم:هذا ما توعدون ليوم الحساب.والقول:إما من الملائكة مثل قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]،وإما من جانب الله تعالى نظير قوله لضدهم : {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181].

والإشارة إذن إلى ما هو مشاهد عندهم من النعيم.
وقرأ الجمهور: {تُوعَدُونَ} بتاء الخطاب فهو على الاحتمال الأول التفات من الغيبة إلى الخطاب لتشريف المتقين بعز الحضور لخطاب الله تعالى،وعلى الاحتمال الثاني الخطاب لهم على ظاهره.وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحده {يُوعَدُونَ} بياء الغيبة فهو على الاحتمال الأول التفات عن توجيه الخطاب إليهم إلى توجيهه للطاغين لزيادة التنكيل عليهم.والإشارة إلى المذكور من "حسن المآب"، وعلى الاحتمال الثاني كذلك وجه الكلام إلى أهل المحشر لتنديم الطاغين وإدخال الحسرة والغم عليهم. والإشارة إلى النعيم المشاهد.
واللام في {لِيَوْمِ الْحِسَابِ} لام العلة،أي وعدتموه لأجل يوم الحساب.والمعنى لأجل الجزاء يوم الحساب،فلما كان الحساب مؤذنا بالجزاء جعل اليوم هو العلة.وهذه اللام تفيد معنى التوقيت تبعا كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]تنزيلا للوقت منزلة العلة.ولذلك قال الفقهاء:أوقات الصلوات أسباب.
[54] {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}
يجري محمل اسم الإشارة هذا على الاحتمالين المذكورين في الكلام السابق.
والعدول عن الضمير إلى اسم الإشارة لكمال العناية بتمييزه وتوجيه ذهن السامع إليه.وأطلق الرزق على النعمة كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو أن أحدهم قال حين يضاجع أهله:اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ثم ولد لهما ولد لم يمسه شيطان أبدا"فسمى الولد رزقا.
والتوكيد بـ {إن} للاهتمام.والنفاد:الانقطاع والزوال.
[55ـ56] {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ}
اسم الإشارة {هَذَا} مستعمل في الانتقال من غرض إلى غرض تنهية للغرض الذي قبله.والقول فيه كالقول في {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} .والتقدير:هذا شأن المتقين،أو هذا الشأن،أو هذا كما ذكر.
وجملة {يَصْلَوْنَهَا} حال من {جَهَنَّمَ} وهي حال مؤكد لمعنى اللام الذي هو عامل في "الطاغين" فإن معنى اللام أنهم تختص بهم جهنم واختصاصها بهم هو ذوق عذابها لأن

العذاب ذاتي لجهنم.
والطاغي:الموصوف بالطغيان وهو:مجاوز الحد في الكبر والتعاظم.والمراد بهم عظماء أهل الشرك لأنهم تكبروا بعظمتهم على قبول الإسلام،وأعرضوا عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بكبر واستهزاء،وحكموا على عامة قومهم بالابتعاد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين وعن سماع القرآن،وهم:أبو جهل وأمية بن خلف،وعتبة ابن ربيعة،والوليد بن عتبة،والعاصي بن وائل وأضرابهم.
والفاء في {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} لترتيب الإخبار وتسببه على قبله، نظير عطف الجمل بـ"ثم" وهي كالفاء في قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} [الأنفال:17]بعد قوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} في سورة الأنفال[15].وهذا استعمال بديع كثير في القرآن وهو يندرج في استعمالات الفاء العاطفة ولم يكشف عنه في مغنى اللبيب.
والمعنى:جهنم يصلونها،فيتسبب على ذلك أن نذكر ذم هذا المقر لهم،وعبر عن جهنم بـ {الْمِهَادُ} على وجه الاستعارة،شبه ما هم فيه من النار من تحتهم بالمهاد وهو فراش النائم كقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف:41].
[57ـ58] {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}
اسم الإشارة هنا جار على غالب مواقعه وهو نظير قوله: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} [صّ:53]والقول فيه مثله.
وإشارة القريب لتقريب الإنذار والمشار إليه ما تضمنه قوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} [صّ:56]من الصلي ومن معنى العذاب،أو الإشارة إلى شر من قوله: {لَشَرَّ مَآبٍ} [صّ:55].
و {حَمِيمٌ} خبر عن اسم الإشارة.ومعنى الجملة في معنى بدل الاشتمال لأن شر المآب أو العذاب مشتمل على الحميم والغساق وغيره من شكله،والمعنى:أن ذلك لهم لقوله: {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [صّ:55]،فما فصل به شر المآب وعذاب جهنم فهو في المعنى معمول للام.
والغساق:قرأه الجمهور بتخفيف السين.وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتشديدها.قيل هما لغتان وقيل:غساق بالتشديد مبالغة في غساق بمعنى سائل،فهو على هذا وصف لموصوف محذوف وليس اسما لأن الأسماء التي على زنة فعال قليلة في كلامهم.

والغساق:سائل يسيل في جهنم،يقال:غسق الجرح،إذا سال منه ماء أصفر.واحسب أن هذا الاسم بهذا الوزن أطلقه القرآن على سائل كريه يسقونه كقوله: {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف:29].وأحسب أنه لم تكن هذه الزنة من هذه المادة معروفة عند العرب،وبذلك يومئ كلام الراغب.وهذا سبب اختلاف المفسرين في المراد منه.والأظهر:أنه صيغ له هذا الوزن ليكون اسما لشيء يشبه ما يغسق به الجرح،ولذلك سمي بالمهل والصديد في آيات أخرى.
وجملة {فَلْيَذُوقُوهُ} معترضة بين اسم الإشارة والخبر عنه،وهذا من الاعتراض المقترن بالفاء دون الواو، والفاء فيه كالفاء في قوله: {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [صّ:56]وقد تقدمت آنفا.
وموقع الجملة كموقع قوله: {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} [صّ:39]كما تقدم آنفا.
وقوله: {وَآخَرُ} صفة لموصوف محذوف دلت عليه الإشارة بقوله: {هَذَا} وضمير {فَلْيَذُوقُوهُ} ووصف آخر يدل على مغاير.وقوله: {مِنْ شَكْلِهِ} يدل على أنه مغاير له بالذات وموافق في النوع،فحصل من ذلك أنه عذاب آخر أو مذوق آخر.
والشَّكل بفتح الشين:المثل،أي المماثل في النوع،أي وعذاب آخر غير ذلك الذي ذاقوه من الحميم والغساق هو مثل ذلك المشار إليه أو مثل ذلك الذوق في التعذيب والألم.
وأفرد ضمير {شَكْلِهِ} مع أن معاده {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} نظرا إلى إفراد اسم الإشارة،أو إلى إفراد "مذوق" المأخوذ من يذوقوه"،فقوله: {مِنْ شَكْلِهِ} صفة لـ {آخَرُ} .
والأزواج:جمع زوج بمعنى النوع والجنس،وقد تقدم عند قوله: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} في سورة الرعد[3].
والمعنى:وعذاب آخر هو أزواج أصناف كثيرة.ولما كان اسما شائعا في كل مغاير صح وصفه بـ {أَزْوَاجٌ} بصيغة الجمع.
وقرأ الجمهور {وَآخَرُ} بصيغة الإفراد.وقرأه أبو عمرو ويعقوب {وأُخَرَ} بضم الهمزة جمع أخرى على اعتبار تأنيث الموصوف،أي وأزواج أخر من شكل ذلك العذاب.

[59] {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ}
ابتداء كلام حكي به تخاصم المشركين في النار فيما بينهم إذا دخلوها كما دل عليه قوله تعالى في آخره: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} ،وبه فسر قتادة وابن زيد،وجريانه بينهم ليزدادوا مقتا بأن يضاف إلى عذابهم الجسماني عذاب أنفسهم برجوع بعضهم على بعض بالتنديم وسوء المعاملة.
وأسلوب الكلام يقتضي متكلما صادرا منه،وأسلوب المقاولة يقتضي أن المتكلم به هم الطاغون الذين لهم شر المآب لأنهم أساس هذه القضية فالتقدير:يقولون،أي الطاغون بعضهم لبعض:هذا فوج مقتحم معكم،أي يقولون مشيرين إلى فوج من أهل النار أقحم فيهم ليسوا من أكفائهم ولا من طبقتهم وهم فوج الأتباع من المشركين الذين اتبعوا الطاغين في الحياة الدنيا،وذلك ما دل عليه قولهْ: {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} [صّ:60]أي أنتم سبب إحضار هذا العذاب لنا.وهو الموافق لمعنى نظائره في القرآن كقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38]إلى قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} في سورة الأعراف[39]،وقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} في سورة البقرة:[166]وقوله {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} الآيات من سورة الصافات[27].وأوضح من ذلك كله قوله تعالى في آخر هذه الآية {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [صّ:64].
فجملة القول المحذوف في موضع الحال من الطاغين.وجملة {هَذَا فَوْجٌ} إلى آخرها مقول القول المحذوف.
والفوج:الجماعة العظيمة من الناس،وتقدم في قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} في سورة النمل[83].
والاقتحام:الدخول في الناس،و"مع" مؤذنة بأن المتكلمين متبوعون،وأن الفوج المقتحم أتباع لهم، فأدخلوا فيهم مدخل التابع مع المتبوع بعلامات تشعر بذلك.
وجملة {لا مَرْحَباً بِهِمْ} معترضة مستأنفة لإنشاء ذم الفوج.و {لا مَرْحَباً بِهِمْ} نفي لكلمة يقولها المزور لزائره وهي إنشاء دعاء الوافد.و {مَرْحَباً} مصدر بوزن المفعل،وهو الرحب بضم الراء وهو منصوب بفعل محذوف دل عليه معنى الرحب،أي أتيت رحبا،أي مكانا ذا رحب،فإذا أرادوا كراهية الوافد والدعاء عليه قالوا:لا مرحبا به،كأنهم أرادوا النفي بمجموع الكلمة:

لا مرحباً بِغَدٍ ولا أهلاً به ... إن كان تفريق الأحبة في غدِ
وذلك كما يقولون في المدح:حبذا،فإذا أرادوا ذما قالوا:لا حبذا.وقد جمعهما قول كنزة أم شملة المنقري تهجو فيه صاحبة ذي الرمة:
ألا حبّذا أهل الملأ غير أنه ... إذا ذكرت ميَّ فلا حبذا هيا
ومعنى الرحب في هذا كله:السعة المجازية،وهي الفرح ولقاء المرغوب في ذلك المكان بقرينة أن نفس السعة لا تفيد الزائر،وإنما قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يكونوا هم وأتباعهم في مكان واحد جريا على خلق جاهليتهم من الكبرياء واحتقار الضعفاء.
وجملة {إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} خبر ثان عن اسم الإشارة،والخبر مستعمل في التضجر منهم،أي أنهم مضايقوننا في مضيق النار كما أومأ إليه قولهم: {مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ} .
[60] {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ}
فسَمِعَهم الأتباع،فيقولون {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ} إضرابا عن كلامهم.وجيء بحكاية قولهم على طريقة المحاورات فلذلك جرد من حرف العطف،أي أنتم أولى بالشتم والكراهية بأن يقال:لا مرحبا بكم، لأنكم الذين تسببتم لأنفسكم ولنا في هذا العذاب بإغرائكم إيانا على التكذيب والدوام على الكفر.و {بل}للإضراب الإبطالي لرد الشتم عليهم وانهم أولى به منهم.
وذكر ضمير المخاطبين في قوله: {أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ} للتنصل من شتمهم،أي أنتم المشتومون،أي أولى بالشتم منا،وقد استفيد هذا المعنى من حرف الإبطال لا من الضمير لأن الضمير لا مفهوم له ولأن موقعه هنا لا يقتضي حصرا ولا تقويا لأنه مخبر عنه بجملة إنشائية،أي أنتم يقال لكم:لا مرحبا بكم.
وإذا قد كان قول:مرحبا،إنشاء دعاء بالخبر،وكان نفيه إنشاء دعاء بضده،كان قوله:"بهم" بيانا لمن وجه الدعاء لهم،أي إيضاحا للسامع أن الدعاء على أصحاب الضمير المجرور بالباء فكانت الباء فيه للتبيين.قال في "الكشاف":و"بهم" بيان لمدعو عليهم.وقال الهمذاني في شرحه "للكشاف":"يعني:البيان المصطلح،كأن قائلا يقول:بمن يحصل هذا الرحب?فيقول:بهم.وهذا كما في "هيت لك".يعني أن الباء فيه بمعنى لام التبيين.وهذا المعنى أغلفه ابن هشام في معاني الباء."وأشار الهمذاني إلى

أنه متولد من معنى السببية.والأحسن عندي أن يكون متولدا من معنى المصاحبة بطريق الاستعارة التبعية ثم غلب استعمال الباء في مثله في كلامهم فصار كالحقيقة لأنه لما صار إنشاء دعاء لم تبق معه ملاحظة الإخبار بحصول الرحب معهم أو بسببهم كما يتجه بالتأمل.
وجملة {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} علة لقلب سبب الشتم إليهم،أي لأنكم قدمتم العذاب لنا،فضمير النصب في {قَدَّمْتُمُوهُ} عائد إلى العذاب المشاهد،وهو حاضر في الذهن غير مذكور في اللفظ،مثل {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ:32].ووقوع {أَنْتُمْ} قبل {قَدَّمْتُمُوهُ} المسند الفعلي يفيد الحصر،أي لم يضلنا غيركم فأنتم أحقاء بالعذاب.
والتقديم:جعل الشيء قدام غيره،قال تعالى: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران:182,181].فتقديم العذاب لهم جعله قدامهم،أي جعله حيث يجدونه عند وصولهم.وإسناد تقديم العذاب إلى المخاطبين مجاز عقلي لأن الرؤساء كانوا سببا في تقديم العذاب لأتباعهم بإغوائهم وكان العذاب جزاء عن الغواية.وجعل العذاب مقدما وإنما المقدم العمل الذي استحق العذاب،وهذا مجاز عقلي في المفعول فاجتمع في قوله: {قَدَّمْتُمُوهُ} مجازان عقليان.
وقوله: {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} موقعه كموقع قوله آنفا: {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [صّ:56].وهو ذم لإقامتهم في جهنم تشنيعا عليهم فيما تسببوا لأنفسهم فيه.والمعنى:فبئس القرار ما قدمتموه لنا،أي العذاب.والقرار: المكث.
[61] {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ}
{قَالُوا} أي الفوج المقتحم وهو فوج الأتباع،فهذا من كلام الذين قالوا: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ} [صّ:60]لأن قولهم: {مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا} يعين هذا المحمل.ولذلك حق أن يتساءل الناظر عن وجه إعادة فعل {قَالُوا} وعن وجه عدم عطفه على قولهم الأول.
فأما إعادة فعل القول فلإفادة أن القائلين هم الأتباع فأعيد فعل القول تأكيدا للفعل الأول لقصد تأكيد فاعل القول تبعا لأنه محتمل لضمير القائلين.
والمقصود من حكاية قولهم: {هَذَا} تحذير كبراء المشركين من عواقب رئاستهم وزعامتهم التي يجرون بها الويلات على أتباعهم فيوقعونهم في هاوية السوء حتى لا يجد الأتباع لهم جزاء بعد الفوت إلا طلب مضاعفة العذاب لهم.وأما تجريد فعل {قَالُوا} عن العاطف فلأنه قصد به التوكيد اللفظي والتوكيد اللفظي على مثال المؤكد.

ولا تلتبس حكاية هذا القول على هذه الكيفية بحكاية المحاورات فيحسب أنه من كلام الفريق الآخر لأنه الدعاء بعنوان {مَنْ قَدَّمَ لَنَا} ويعين أن قائليه هم القائلون: {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} [صّ:60]،وأن الذين قدموا لهم هم الطاغون.وفي معنى هذه الآية آية سورة الأعراف[38] {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} .
و {مَنْ} في قوله: {مَنْ قَدَّمَ لَنَا} موصولة،وجملة {فَزِدْهُ} خبرعن {مَنْ} ،واقتران الخبر بالفاء جرى على معاملة الموصول معاملة الشرط في قرن خبره بالفاء وهو كثير،وتقدم عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في سورة براءة[34].
والضعف،بكسر الضاد:تستعمل اسم مصدر ضعف وضاعف،فهم اسم التضعيف والمضاعفة،أي تكرير المقدار وتكرير القوة،وهو من الألفاظ المتضايفة المعاني كالنصف والزوج.
ويستعمل اسما بمعنى الشيء المضاعف،وهذا هو قياس زنة فعل بكسر الفاء وسكون العين،فهو بمعنى: الشيء الذي ضوعف لأن زنة فعل تدل على ما سلط عليه فهو نحو ذبح،أي مذبوح.
[62ـ63] {وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ}
عطف على {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ}[صّ:59]على ما قدر فيه من فعل قول محذوف كما تقدم، فهذا من قول الطاغين فإنهم كانوا يحقرون المسلمين.
والاستفهام في {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً} استفهام يلقيه بعضهم لبعض تلهفا على عدم رؤيتهم من عرفوهم من المسلمين مكنى به عن ملام بعضهم لبعض على تحقيرهم المسلمين واعترافهم بالخطأ في حسبانهم.فليس الاستفهام عن عدم رؤيتهم المسلمين في جهنم استفهاما حقيقيا ناشئا عن ضن أنهم يجدون رجال المسلمين معهم إذ لا يخطر ببال الطاغين أن يكون رجال المسلمين معهم،كيف وهم يعلمون أنهم بضد حالهم فلا يتوهمونهم معهم في العذاب،ويجوز أن يكون الاستفهام حقيقيا استفهموا عن مصير المسلمين لأنهم لا يرونهم يومئذ،إذ قد علموا أن الناس صاروا إلى عالم آخر وهو الذي كانوا ينذرون به،ويكون قولهم: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً} الخ تمهيدا لقولهم: {أَتَّخَذْنَاهُمْ

سِخْرِيّاً} على كلتا القراءتين الآتي ذكرهما.
و {الْأَشْرَارِ} :جمع شر الذي هو بمعنى الأشر،مثل الأخيار جمع خير بمعنى الأخير،أو هو:جمع شرير ضد الخير،أي الموصوفين بشر الحالة،أي كنا نحسبهم أشقياء قد خسروا لذة الحياة بإتباعهم الإسلام ورضاهم بشظف العيش،وهم يعنون أمثال بلال،وعمار بن ياسر،وصهيب،وخباب،وسلمان.وليس المراد أنهم يعدونهم أشرار في الآخرة مستحقين العذاب فإنهم لم يكونوا يؤمنون بالبعث.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم {أَتَّخَذْنَاهُمْ} بهمزة قطع هي همزة الاستفهام،وحذفت همزة الوصل من فعل "اتخذنا" لأنها لا تثبت مع همزة الاستفهام لعدم صحة الوقف على همزة الاستفهام، فجملة {أَتَّخَذْنَاهُمْ} بدل من جملة {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً} .و {أم} حرف إضراب،والتقدير:بل زاغت عنهم أبصارنا.
والزيغ:الميل عن الجهة،أي مالت أبصارنا عن جهتهم فلم تنظرهم.
و"أل" في {الْأَبْصَارُ} عوض عن المضاف إليه،أي أبصارنا،فيكون المعنى:أكانا تحقيرنا إياهم في الدنيا خطأ.وكنى عنه باتخاذهم سخريا لأن في فعل {أَتَّخَذْنَاهُمْ} إيماء إلى أنهم ليسوا بأهل للسخرية،وهذا تندم منهم على الاستسخار بهم.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {أَتَّخَذْنَاهُمْ} بهمزة وصل على أن الجملة صفة {رِجَالاً} ثانية وعليه تكون {أم} منقطعة للإضراب عن قولهم: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} أي بل زاغت عنهم الأبصار.
والسخريَّ:اسم مصدر سخر منه،إذا استهزأ به،فالسخري الاستهزاء،وهو دال على شدة الاستهزاء لأن ياءه في الأصل ياء نسب وياء النسب تأتي للمبالغة في الوصف.وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بضم السين.وقراه الباقون بكسر السين كما تقدم في سورة المؤمنين.
[64] {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}
تذييل وتنهية لوصف حال الطاغين وأتباعهم،وعذابهم،وجدالهم.وتأكيد الخبر بحرف التوكيد منظور فيه لما يلزم الخبر من التعويض بوعيد المشركين وإثبات حشرهم وجزائهم بأنه حق،أي ثابت كقوله: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذريات:6].

والإشارة إلى ما حكي عنهم من المقاولة.وسميت المقاولة تخاصما،أي تجادلا وإن لم تقع بينهم مجادلة، فإن الطاغين لم يجيبوا الفوج على قوله: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ} [صّ:60]،ولكن لما اشتملت المقاولة على ما هو أشد من الجدال وهو قول كل فريق للآخر {لا مَرْحَباً بِكُمْ} كان الذم أشد من المخاصمة فأطلق عليه اسم التخاصم حقيقة.وتقدم ذكر الخصام عند قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ} في سورة الحج[19].
وأضيف هذا التخاصم إلى أهل النار كلهم اعتبارا لغالب أهلها لآن غالب أهل النار أهل الضلالات الإعتقادية وهم لا يعدون أن يكونوا دعاة للضلال أو أتباعا للدعاة إليه فكلهم يجري بينهم هذا التخاصم،أما من كان في النار من العصاة فكثير منهم ليس عصيانهم إلا تبعا لهواه مع كونه على علم بان ما يأتيه ضلالة لم يسوله له أحد.
و {أَهْلِ النَّارِ} هم الخالدون فيها،كقولهم:أهل قرية كذا،فإنه لا يشمل المقترب بينهم،على أن وقت نزول هذه الآية لم يكن في مكة غير المسلمين الصالحين وغير المشركين،فوصف أهل النار يوم إذ لا يتحقق إلا في المشركين دون عصاة المسلمين.
وقوله: {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} إما خبر مبتدأ محذوف،تقديره:وهو تخاصم أهل النار،والجملة استئناف لزيادة بيان مدلول اسم الإشارة،أو هو مرفوع على أنه خبر ثان عن {إِنَّ} ،أو على بدل من {لَحَقٌّ} .
[65ـ66] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}
هذا راجع إلى قوله: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [صّ:4]إلى قوله: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [صّ:8]،فلما ابتدرهم الجواب.على ذلك التكذيب بأن نظر حالهم بحال الأمم المكذبة من قبلهم ولتنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال الأنبياء الذين صبروا،واستوعب ذلك بما فيه مقنع عاد الكلام إلى تحقيق مقام الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه فأمره الله أن يقول: {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} مقابل قولهم: {هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} ،وأن يقول: {مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} مقابل إنكارهم التوحيد كقولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [صّ:5]فالجملة استئناف ابتدائي.وذكر صفة الواحد تأكيد لمدلول {مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} إماء إلى رد إنكارهم.وذكر صفة القهار تعريض بتهديد المشركين بأن الله فادر على قهرهم،أي غلبهم.وتقدم الكلام على القهر عند قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ؤفي سورة الأنعام[18].

وإتباع ذلك بصفة {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} تصريح بعموم ربوبيته وأنه لا شريك له في شيء منها.ووصف {الْعَزِيزُ} تمهيد للوصف بـ {الْغَفَّارُ} ،أي الغفار عن عزة ومقدرة لا عن عجز وملق أو مراعاة جانب مساو.والمقصود من وصف {الْغَفَّارُ} هنا استدعاء المشركين إلى التوحيد بعد تهديدهم بمفاد وصف {الْقَهَّارُ} لكي لا ييأسوا من قبول التوبة بسبب كثرة ما سيق إليهم من الوعيد جريا على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكس.
[67ـ69] {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}
إعادة الأمر بالقول هنا مستأنفا.والعدول عن الإتيان بحرف يعطف المقول أعني {هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} على المقول السابق أعني {أَنَا مُنْذِرٌ} [صّ:65]،عدول يشعر بالاهتمام بمقول هنا كي لا يؤتي به تابعا لمقول آخر فيضعف تصعدي السامعين لوعيه.
وجملة {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} يجوز أن تكون في موقع الاستئناف الابتدائي انتقالا من غرض وصف أحوال أهل المحشر إلى غرض قصة خلق آدم وشقاء الشيطان،فيكون ضمير {هُوَ} ضمير شأن يفسره ما بعده وما يبين به ما بعده من قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [صّ:71]جعل هذا كالمقدمة للقصة تشويقا لتلقيها فيكون المراد بالنبأ نبأ خلق آدم وما جرى بعده، ويكون ضمير {يَخْتَصِمُونَ} عائدا إلى الملأ الأعلى لأن الملأ جماعة.ويراد بالاختصام الاختلاف الذي جرى بين الشيطان وبين من بلغ إليه من الملائكة أمر الله بالسجود لآدم،فالملائكة هم الملأ الأعلى وكان الشيطان بينهم فعد منهم قبل أن يطرد من السماء.
ويجوز أن تكون جملة {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} الخ تذييلا للذي سبق من قوله: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [صّ:49]إلى هنا،تذييلا يشعر بالتنويه به وبطلب الإقبال على التدبر فيه والاعتبار به.وعليه يكون ضمير {هُوَ} ضميرا عائدا إلى الكلام السابق على تأويله بالمذكور فلذلك أتي لتعريفه بضمير المفرد.
والمراد بالنبأ:خبر الحشر وما أعد فيه للمتقين من حسن مآب،وللطاغين من شر مئاب،ومن سوء صحبة بعضهم لبعض،وتراشقهم بالتأنيب والخصام بينهم وهم في العذاب،وترددهم في سبب أن لم يجدوا معهم المؤمنين الذين كانوا يعدونهم من

الأشرار.
ووصف النبأ بـ {عَظِيمٌ} تهويل على نحو قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:1ـ3].وعظمة هذا النبأ بين الأنباء من نوعه من أنباء الشر مثل قوله: {فَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]فتم الكلام عند قوله تعالى: {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} .
فتكون جملة {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى} إلى قوله: {نَذِيرٌ مُبِينٌ} استئنافا للاستدلال على صدق النبأ بأنه وحي من الله ولولا أنه وحي لما كان للرسول صلى الله عليه وسلم قبل بمعرفة هذه الأحوال على حد قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44]،ونظائر هذا الاستدلال كثيرة في القرآن.
وتكون جملة {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً} [صّ:71]إلى آخره استئنافا ابتدائيا.
وعلى هذا فضمير {يَخْتَصِمُونَ} عائد إلى أهل النار من قوله: {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [صّ:64]إذ لا تخاصم بين أهل الملأ الأعلى.والمعنى:ما كان لي من علم بعالم الغيب وما يجري فيه من الإخبار بما سيكون إذ يختصم أهل النار في النار يوم القيامة.
وعلى كلا التفسيرين فمعنى {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} أنهم غافلون عن العلم به فقد أعلموا بالنبأ بمعناه الأول وسيعلمون قريبا بالنبأ بمعناه الثاني.
وجيء بالجملة الاسمية في قوله: {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} لإفادة إثبات إعراضهم وتمكنه منهم،فأما إعراضهم عن النبأ بمعناه الأول فظاهر تمكنه من نفوسهم لأنه طالما أنذرهم بعذاب الآخرة ووصفه فلم يكترثوا بذلك ولا ارعووا عن كفرهم.وأما أعراضهم عن النبأ بمعناه الثاني،فتأويل تمكنه من نفوسهم عدم استعدادهم للاعتبار بمغزاه من تحقق أن ما هم فيه هو وسوسة من الشيطان قصدا للشر بهم.
ولعل هذه الآية من هذه السورة هي أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر قصة خلق آدم وسجود الملائكة وإباء إبليس من السجود،فإن هذه السورة في ترتيب نزول سورة نزلت قبلها.
فذلك وجه التوطئة للقصة بأساليب العناية والاهتمام مما خلا غيرها عن مثله وبأنها نبأ كانوا معرضين عنه.وأيا ما كان فقوله: {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} توبيخ لهم وتحميق.
وجملة {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} اعتراض إبلاغ في

التوبيخ على الإعراض عن النبأ العظيم،وحجة على تحقق النبأ بسبب أنه موحى به من الله وليس للرسول صلى الله عليه وسلم سبيل إلى عمله لولا وحي الله إليه به.وذكر فعل {كان} دال على ان المنفي علمه بذلك فيما مضى من الزمن قبل أن يوحى إليه بذلك كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44]وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44].
والباء في قوله: {بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى} على كل المعنيين للنبأ،لتعديه {عِلم} لتضمينه معنى الإحاطة،وهو استعمال شائع في تعدية العلم.ومنه ما في حديث سؤال الملكين في "الصحيح" فيقال له:"ما علمك بهذا الرجل".ويجوز على المعنى الثاني في النبأ أن تكون الباء ظرفية،أي ما كان لي علم كائن في الملأ الأعلى،أي ما كنت حاضرا في الملأ الأعلى فهي كالباء في قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص:44].
والملأ:الجماعة ذات الشأن،ووصفه بـ {الْأَعْلَى} لأن المراد ملأ السماوات وهم الملائكة ولهم علو حقيقي وعلو مجازي بمعنى الشرف.
و {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ظرف متعلق بفعل {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ} أي حين يختصم أهل الملأ الأعلى على أحد التأويلين،أي في حين تنازع الملائكة وإبليس في السماء.والتعبير بالمضارع في موضع المضي لقصد استحضار الحالة،أو حين يختصم الطاغون وأتباعهم في النار بين يدي الملأ الأعلى،أي ملائكة النار أو ملائكة المحشر،والمضارع على أصله من الاستقبال.
والاختصام:افتعال من خصمه،إذا نازعه وخالفه فهو مبالغة في خصم.
وجملة {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} مبينة لجملة {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ،أي ما علمت بذلك النبأ إلا بوحي من الله وإنما أوحى الله إلي ذلك لأكون نذيرا مبينا.
وقد ركبت هذه الجملة من طريقين للقصر:إحداهما طريق النفي والاستثناء،والأخر طريق {أَنَّمَا} المفتوحة الهمزة وهي أخت "إنما" المكسورة الهمزة في معانيها التي منها إفادة الحصر،ولا التفات إلى قول من نفوا إفادتها الحصر فإنها مركبة من "أن" المفتوحة الهمزة و"ما" الكافة وليست "أَن" المفتوحة الهمزة إلا "إِن" المكسورة تُغَيَّر كسرة همزتها

إلى فتحة لتفيد معنى مصدريا مشربا بـ"أن" المصدرية إشرابا بديعا جعل شعاره فتح همزتها لتشابه "أن" المصدرية في فتح الهمزة وتشابه "أن" في تشديد النون،وهذا من دقيق الوضع في اللغة العربية.
وتكون {أَنَّمَا} مفتوحة الهمزة إذا جعلت معمولة لعامل في الكلام.والذي يقتضيه مقام الكلام هنا ان فتح همزة {أَنَّمَا} لأجل لام تعليل مقدرة مجرور بها {أَنَّمَا} . والتقدير:إلا لأنما أنا نذير،أي إلا لعلة الإنذار،أي ما أوحي إلي نبأ الملأ الأعلى إلا لأنذركم به،أي ليس لمجرد القصص.
فالاستثناء من علل،وقد نزل فعل {يُوحَى} منزلة اللازم،أي ما يوحى إلي وحي فلا يقدر له مفعول لقلة جدواه وإيثار جدوى تعليل الوحي.
وبهذا التقدير تكمل المناسبة بين موقع هذه الجملة وموقع جملة {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} المبينة بها جملة {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} ،إذ لا مناسبة لو جعل {أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} مستثنى من نائب فاعل الوحي بان يقدر:إن يوحى إلي شيء إلا أنما أنا نذير مبين،أي ما يوحى إلي شيء إلا كوني نذيرا،وإن كان ذلك التقدير قد يسبق إلى الوهم لكنه بالتأمل يتضح رجحان تقدير العلة عليه.
فأفادت جملة {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} حصر حكمة ما يأتيه من الوحي في حصول الإنذار وحصر صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة النذارة،ويستلزم هذان الحصران حصرا ثالثا، وهو أن إخبار القرآن وحي من الله وليست أساطير الأولين كما زعموا.فحصل في هذه الجملة ثلاثة حصور:اثنان منها بصريح اللفظ،والثالث بكناية الكلام،وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص:46].وهذه الحصور:اثنان منها إضافيان،وهما قصر ما يوحى إليه على علة النذارة وقصر الرسول صلى الله عليه وسلم على صفة النذارة،وكلاهما قلب لاعتقادهم أنهم يسمعون القرآن ليتخذوه لعبا واعتقادهم أن رسول صلى الله عليه وسلم ساحر أو مجنون.وعلم من هذا نبأ خلق آدم قصد به الإنذار من كيد الشيطان.وقرأ أبو جعفر {إِلَّا إِنَّمَا} بكسر همزة {إنما} على تقدير القول،أي ما يوحى إلا هذا الكلام.
[71ـ74] {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ

الْكَافِرِينَ}
موقع {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} صالح لأن يكون استئنافا فإذا جعلنا النبأ بمعنى نبأ أهل المحشر الموعود به فيكون {إِذْ قَالَ} متعلقا بفعل محذوف تقديره:اذكر،على أسلوب قوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [النمل: 7,6]،ونظائره.
فإما على جعل النبأ بمعنى نبأ خلق آدم فإن جملة {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} بدل من {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [صّ:69] بدل بعض من كل لأن مجادلة الملأ الأعلى على كلا التفسيرين المتقدمين غير مقتصرة على قضية قصة إبليس،فقد روى الترمذي بسنده عن مالك ابن يخامر عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا طويلا في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه رأى ربه تعالى فقال له:"يا محمد فِيَم يختصم الملأ الأعلى?قلت:"لا أدري".قالها ثلاثا.ثم قال بعد الثالثة بعد أن فتح الله عليه،قلت:"في الكفارات."قال:ما هن? قلت:"مشي الأقدام إلى الحسنات والجلوس في المسجد". وذكر أشياء من الأعمال الصالحة "ولم يذكر اختصامهم في قضية خلق آدم" .وقال الترمذي:"هو حديث حسن صحيح" وقال عن البخاري:"إنه أصح من غيره مما في معناه ولم يخرجه البخاري في "صحيحه" وليس في الحديث أنه تفسير لهذه الآية، وإنما جعله الترمذي في كتاب التفسير لأن ما ذكر فيه بعض مما يختصم في أهل الملأ الأعلى مراد به اختصام خاص هو ما جرى بينهم في قصتهم خلق آدم والمقاولة بين الله وبين الملائكة لأن قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} يقتضي أنهم قالوا كلاما دل على أنهم أطاعوا الله فيما أمرهم به،بل ورد في سورة البقرة تفصيل ما جرى من قول الملائكة فهو يبين ما أجمل هنا وإن كان متأخرا إذ المقصود من سوق القصة هنا الاتعاظ بكبر إبليس دون ما نشأ عن ذلك.ويجوز أن يكون {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} منصوبا بفعل مقدر،أي اذكر إذ قال ربك للملائكة،وهو بناء على أن ضمير {هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [صّ:67]ليس ضمير شأن بل هو عائد إلى ما قبله وأن {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [صّ:69]مراد به خصومة أهل النار.وقصة خلق آدم تقدم ذكرها في سور كثيرة أشبهها بما هنا ما في سورة الحجر ، وأبينها ما في سورة البقرة.
ووقع في سورة الحجر[31] {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} وفي هذه السورة {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ} فيكون ما في هذه الآية يبين الباعث على الإباية.ووقعت هنا زيادة {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ،وهو بيان لكون المراد في سورة الحجر[31] من قوله: {أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} الإباية من الكون من الساجدين لله،أي المنزهي الله عن الظلم والجهل.

ووقع في هذه السورة {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ،ومعناه أنه كان كافرا ساعتئذ،أي ساعة إبائه من السجود ولم يكن قبل كافر،ففعل {كان} الذي وقع في هذا الكلام حكاية لكفره الواقع في ذلك الوقت.قال الزجاج:" "كان" جار على باب سائر الأفعال الماضية إلا أن فيه إخبارا عن الحالة فيما مضى،إذا قلت:كان زيد عالما،فقد أنبأت عن أن حالته فيما مضى من الدهر هذا،وإذا قلت:سيكون عالما فقد أنبأت عن أن حالة ستقع فيما يستقبل،فهما عبارتان عن الأفعال والأحوال"اهـ.
وقد بدت من إبليس نزعة كانت كامنة في جبلته وهي نزعة الكبر والعصيان،ولم تكن تظهر منه قبل ذلك لأن الملأ الذي كان معهم كانوا على أكمل حسن الخلطة فلم يكن منهم مثير لما سكن في نفسه من طبع الكبر والعصيان.فلما طرأ على ذلك الملأ مخلوق جديد وأمر أهل الملأ الأعلى بتعظيمه كان ذلك موريا زناد الكبر في نفس إبليس فنشأ عنه الكفر بالله وعصيان أمره.
وهذا ناموس خُلُقي جعله الله مبدأ لهذا العالم قبل تعميره،وهو أن تكون الحوادث والمضائق معيار الأخلاق والفضلية،فلا يحكم على نفس بتزكية أو ضدها إلا بعد تجربتها وملاحظتها تصرفاتها عند حلول الحوادث بها.وقد مدح رجل عند عمر بن الخطاب بالخير،فقال عمر:هل أريتموه الأبيض والأصفر?يعني الدراهم والدنانير.وقال الشاعر:
لا تمدحَنَّ امرءاً حتى تُجرّبه ... ولا تذمَّنَّه من قبل تجريب
إن الرجال صناديقُ مقفَّلة ... وما مفاتيحها غَير التجاريب
ووجه كونه من الكافرين أنه امتنع من طاعة الله امتناع طعن في حكمة الله وعمله،وذلك كفر لا محالة،وليس كامتناع أحد من أداء الفرائض إن لم يجحد أنها حق خلافا للخوارج وكذلك المعتزلة.
[75ـ76] {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}
أي خاطب الله إبليس ولا شك أن هذا الخطاب حينئذ كان بواسطة ملك من الملائكة لأن إبليس لما أستكبر قد انسلخ عن صفة الملكية فلم يعد يعد أهلا لتلقي الخطاب من الله ولم يكن أرفع رتبة من الرسل الذين قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:

51]،وبذلك تكون المحاورة المحكية هنا بواسطة ملك فيكون الاختصام بينه وبين الملائكة على جعل ضمير {يَخْتَصِمُونَ} [صّ:69]عائدا إلى الملأ الأعلى كما تقدم.
وجيء بفعل {قال} غير معطوف حسب طريقة المقاولات.وتقدم قريب من هذه الآية في سورة الحجر إلا قوله هنا: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} ،أي ما منعك من السجود،ووقع في سورة الأعراف[12] {أَلَّا تَسْجُدَ} على أن {لا} زائدة.وحكي هنا أن الله قال له: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ،آي خلقا خاصا دفعة ومباشرة لأمر التكوين،فكان تعلق هذا التكوين أقرب من تعلقه بإيجاد الموجودات المرتبة لها أسباب تباشرها من حمل وولادة كما هو المعروف في تخلق الموجودات عن أصولها.ولا شك في آدم فيه عناية زائدة وتشريف اتصال أقرب.فاليدان تمثيل لتكون آدم من مجرد أمر التكوين للطين بهيئة صنع الفخَّاري للإناء من طين إذ يسويه بيديه.وكان السلف يقرون أن اليدين صفة خاصة لله تعالى لورودهما في القرآن مع جزمهم بتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات وعن الجسمية وقصدهم الحذر من تحكيم الآراء في صفات الله.أو أن تحمل العقول القاصرة صفات الله على ما تعارفته {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]وقال مرة: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48].وقد تقدم القول في الآيات المشاهبة في أول سورة آل عمران.
وفي إلقاء هذا السؤال إلى إبليس قطع بمعذرته.والمعنى:أمن أجل أنك تتعاظم بغير حق أم لأنك من أصحاب العلو،والمراد بالعلو الشرف،أي من العالين على آدم فلا يستحق أن تعظمه فأجاب إبليس مما يشق الثاني.فتبين أنه يعد نفسه أفضل من آدم لأنه مخلوق من النار وآدم مخلوق من الطين، يعني والنار أفضل من الطين، أي في رأيه.وعبر عن آدم باسم "ما" الموصولة وهو حينئذ إنسان لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد خلقه وتعليمه الأسماء كما في سورة البقرة.ويؤيد قول أهل التحقيق أن "ما" لا تختص بغير العاقل وشواهد كثيرة في القرآن وغيره من كلام العرب.
وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} قول من الشيطان حكي على طريقة المحاورات.وجملة {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} بيان لجملة {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} .وقد جعل إبليس عذره مبنيا على تأصيل أن النار خير من الطين ولم يرد في القرآن أن الله رد عليه هذا التأصيل لأنه أحقر من ذلك فلعنه وأطرده لأنه ادعي باطلا وعصي ربه استكبارا:وطَرْدُه أجمع لإبطال علمه ودحض دليله،غير أن النور الذي في النار نور عارض قائم بالأجسام الملْتهبة

التي تسمى نارا،وليس للنار قيام بنفسها ولذلك لم تعد أن يكون كيانها مخلوطا بما يلهبها.ومعنى كون الشيطان مخلوقا من النار أن ابتداء تكون الذرة الأصلية لقوام ما هيته من عنصر النار،ثم تمتزج تلك الذرة بعناصر أخرى مثل الهواء وما الله أعلم به.
ومعنى كون آدم مخلوقا من الطين أن ابتداء تكون ذرات جثمانه من عنصر التراب وأدخل على تلك الذرات ما امتزجت به عناصر الهواء والماء والنار وما يتولد على ذلك التركيب من عناصر كيماوية وقوة كهربائية تتقوم بمجموعها ما هية الإنسان.
وتكون {من} في الموضعين ابتدائية لا تبعيضية.
وقد جزم الفلاسفة الأولون والأطباء بأن عنصر النار أشرف من عنصر التراب ـ ويعبر عن بالأرض ـ لأن النار لطيفة مضيئة اللون والتراب كثيف مظلم اللون.
وقال الشيرازي في "شرح كليات القانون":"إن النار وإن ترجحت على الأرض بما ذكر فالأرض راجحة عليها بأنها خير للحيوان والنبات،وغير مفسدة ببردها، بخلاف النار فإنها مفسدة بحرها لكونه في الغاية إلى غير ذلك.
والحق:أن أفضلية العناصر لا تقتضي أفضلية الكائنات المنشأة منها لأن العناصر أجرام بسيطة لا تتكون المخلوقات من مجردها بل المخلوقات تتكون بالتركيب بين العناصر،والأجسام الإنسانية مركبة من العناصر كلها.والروح الآدمي لطيفة نورانية تفوق بها الإنسان على جميع المراكبات بأن كان فيه جزء ملكي شارك به الملائكة،ولذلك طلب منه خالقه تعالى وتقدس أن يلحق نفسه بالملائكة فتحقق ذلك الالتحاق كاملا في الأنبياء والمرسلين ومن أجل ذلك قلنا:إن الأنبياء والرسل أفضل من الملائكة لاستواء الفريقين في تحمض النورانية وتميز فريق الأنبياء بأنهم لحقوا تلك المراتب بالاصطفاء والطاعة، فليس لإبليس دليل في التفضيل على آدم وإنما عرضت له شبهة ضالة ولذلك جوزي على إبائه من السجود إليه بالطرد من الملأ الأعلى.
وإنما بسطنا القول هنا لرد شبه طائفة من الملاحدة الذين يصوبون شبهة إبليس طعنا في الدين لا إيمانا بالشياطين ليعلموا أنه لو سلمنا أن النار أشرف من الطين لما كان ذلك مقتضيا أن يكون ما ينشأ من النار أفضل مما ينشأ من الطين لأن المخلوق كائن مركب من عناصر وأجراء متفاوتة والتركيب قد يدخل على المادة الأولى شرفا وقد يدخل عليها

حَقارة،والتفاضل إنما يتقوم من الكمال في الذات والآثار.
[77ـ78] {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}
عاقبة الله على ما برز من نفسانيته فخالف ما كان من طريقته فأطرده من الملأ الأعلى ومن الجنة، وضمير {قَالَ} عائد إلى الله تعالى على طريقة حكاية المقاولاتوفرع أمره بالخروج من الجنة بالفاء على ما تقدمه من السؤال والجواب لأن جوابه دل على كون خبث في نفسه بدت آثاره في عمله فلم يصلح لمخالطة أهل الملأ الأعلى.وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحجر.
واللعنة:الإبعاد من رحمة الله،وأضيفت إلى الله لتشنيع متعلقها وهو الملعون لأن الملعون من جانب الله هو أشنع ملعون.
وجعل {يَوْمِ الدِّينِ} غاية اللعنة للدلالة على دوامها مدة هذه الحياة كلها ليستغرق الأزمنة كلها، وليس المراد حصول ضد اللعنة له يوم الدين أعني الرحمة لأن يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال فجزاء الملعون العذاب الأليم كما أنبأ بذلك التعبير بـ {يَوْمِ الدِّينِ} دون: {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [صّ:79]، أو {يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [صّ:81].
[79ـ81] {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} أي قال إبليس.وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحجر وتفسيرها هناك مستوفي.
[82ـ83] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}
الفاء لتفريغ كلامه على أمر الله إياه بالخروج من الجنة وعقابه إياه باللعنة الدائمة وهذا التفريغ من تركيب كلام متكلم آخر.وهو الملقب بعطف التلقين في قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} في سورة البقرة[124].
أقسم الشيطان بعزة الله تحقيقا لقيامه بالإغواء دون تخلف،وإنما أقسم على ذلك وهو يعلم عظمة هذا القسم لأنه وجد في نفسه أن الله أقدره على القيام بالإغواء والوسوسة وقد قال في سورة الحجر [39] {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} .

والعزة:القهر والسلطان،وعزة الله هي العزة الكاملة التي لا تختل حقيقتها ولا يتخلف سلطانها،وقسم إبليس بها ناشئ عن علمه بأنه لا يستطيع الإغواء إلا لأن الله أقدره ولولا ذلك لم يستطيع نقض قدرة الله تعالى.
وتقدم تفسير نظير {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} في سورة الحجر[40,39].
[84ـ85[ {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}
أي قال الله تعالى تفريغا،وهذا التفريع نظير التفريع في قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [صّ:82].
وقوبل تأكيد عزمه الذي دل عليه قوله: {فَبِعِزَّتِكَ} [صّ:82]بتأكيد مثله،وهو لفظ {الْحَقَّ} الدال على أن ما بعده حق ثابت لا يخلف،ولم يزد في تأكيد الخبر على لفظ {الْحَقَّ} تذكيرا بأن وعد الله تعالى حق لا يحتاج إلى قسم عليه ترفعا من جلال الله عن أن يقابل كلام الشيطان بقسم مثله.ولذلك زاد هذا المعنى تقريرا بالجملة المعترضة وهي {وَالْحَقَّ أَقُولُ} الذي هو بمعنى:لا إقول إلا الحق،ولا حاجة إلى القسم.
وقرأ الجمهور {فَالْحَقُّ} بالنصب وانتصابه على المفعولية المطلقة بدلا عن فعل من لفظه محذوف تقديره:أحق،أي أوجب وأحقق.وأصله التنكير،فتعريفه باللام تعريف الجنس كالتعريف في:أرسلها العراك،فهو في حكم النكرة وإنما تعريفه حلية لفظية إشارة إلى ما يعرفه السامع من أن الحق ما هو وتقدمه بيانه في أول الفاتحة.
وقرأه عاصم وحمزة بالرفع على أنه لما تعرف باللام غلبت عليه الاسمية فتنوسي كونه نائبا عن الفعل. وهذا الرفع إما على الابتداء،أي فالحق قولي،أو فالحق لأملأن جهنم إلى الخ،على أن تكون جملة القسم قائمة مقام الخبر،وإما على الخبرية،أي فقولي الحق وتكون الجملة {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} مفسر القول المحذوف،ولا خلاف في نصب الحق من قوله: {وَالْحَقَّ أَقُولُ}. وتقدم تفصيل ذلك في أول سورة الفاتحة.
وجملة {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ} الخ مبينة لجملة {فَالْحَقُّ} وهي مؤكد بلام القسم والنون.

وتقديم المفعول في {وَالْحَقَّ أَقُولُ} للاختصاص،أي ولا أقول إلا الحق.
و"مِن" في قوله: {مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ} بيانية وهي التي تدخل على التمييز وينتصب التمييز بتقديمه معناها.وتدخل على تمييز "كم" في نحو {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [صّ:3]،وهي هنا بيان لما دل عليه {لَأَمْلَأَنَّ} من مقدار مبهم فبين بآية {مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ} . ولما كان شأن مدخول "من" البيانة أن يكون نكرة تعين اعتبار كاف الخطاب في معنى اسم الجنس،أي من جنسك الشياطين إذ لا تكون ذات إبليس ملئا لجهنم،وإذ قد عطف عليه {وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي من تبعك من الذين أغوتهم من بني آدم،فلا جائر أن يبقى من عدا هذين من الشياطين والجنة غير ملء لجهنم.
و {أَجْمَعِينَ} توكيد لضمير {مِنْكَ} ول"من" في قوله: {وَمِمَّنْ تَبِعَكَ} .واعلم أن حكاية هذه المقاولة بين كلام الله وبين الشيطان حكاية لما جرى في خلد الشيطان من المدارك المترتبة المتولدة في قرارة نفسه، وما جرى في إدارة الله من المسببات المترتبة على أسبابها من خواطر الشيطان لأن العالم الذي جرت فيه هذه الأسباب ومسبباتها عالم حقيقة لا يجري فيه إلا الصدق ولا مطمع فيه لترويج المواربة ولا الحيلة ولذلك لا تعد خواطر الشيطان المذكور فيه جرأة على جلال الله تعالى ولا تعد مجازاة الله تعالى الشيطان عليه تنازلا من الله لمحاورة عبد بغيض لله تعالى.
وقد ذكرنا في تفسير سورة الحجر ما دلت عليه الأقوال التي جرت من الشيطان بين يدي الله تعالى والأقوال التي ألقاها الله عليه.
[86ـ88] {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}
لما أمر الله رسوله بإبلاغ المواعظ والعبر التي تضمنتها هذه السورة أمره عند انتهائها أن يقرع أسماعهم بهذا الكلام الذي هو كالفذلكة للسورة تنهية لها تسجيلا عليهم أنه ما جاءهم إلا بما ينفعهم وليس طالبا من ذلك جزاء،أي لو سألهم عليه أجرا لراج اتهامهم إياه بالكذب لنفع نفسه،فلما انتفى ذلك وجب أن ينتفي توهم اتهامه بالكذب لأن وازع العقل يصرف صاحبة عن أن يكذب لغير نفع يرجوه لنفسه.
والمعنى عموم نفي سؤاله الأجر منهم من يوم يبعث إلى وقت نزول هذه الآية وهو

قياس استقراء لأنهم إذا استقروا أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما مضى وجدوا انتفاء سؤاله أجرا أمرا عاما بالاستقراء التام الحاصل من جميع أفراد المشركين في جميع مخالطاتهم إياه،فهو أمر متواتر بينهم فهذا إبطال لقوهم: {كَذَّابٌ} [صّ:4]المحكي عنهم في أول السورة وإقامة الحجة على صدق رسالته كما سيجيء.
وضمير {عَلَيْهِ} عائد إلى القرآن المعلوم من المقام فإن مبدأ السورة قوله: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [صّ:1]فهذا من رد العجز على المصدر.
وعطف {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أفاد انتفاء جميع التكلف عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والتكلف:معالجة الكلفة،وهي ما يشق على المرء عمله والتزامه لكونه يحرجه أو يشق عليه،ومادة التفعل تدل على معالجة ما ليس بسهل،فالمتكلف هو الذي يتطلب ما ليس له أو يدعي علم ما لا يعلمه.
فالمعنى هنا:ما أنا بمدع النبوة باطلا من غير أن يوحي إلي وهو رد لقولهم: {كَذَّابٌ} [صّ:4]وبذلك كان كالنتيجة لقوله: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} لأن المتكلف شيئا إنما يطلب من تكلفه نفعا،فالمعنى: وما أنا ممن يدعون ما ليس لهم.ومنه حديث الدارقطني عن ابن عمر قال:"خرج رسول الله في بعض أسفاره فمر على رجل جالس عند مقراة له "أي حوض ماء"،فقال عمر:"يا صاحب المَقَراة أَوَلَغَتْ السباع الليلة في مقراتك?فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا صاحب المقراة لا تخبره،هذا متكلف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور" .وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود أنه قال: "يأيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل:الله علم،قال لرسوله : {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .
وأخذ من قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أن ما جاء به من الدين لا تكلف فيه،أي لا مشقة في تكاليفه وهو معنى سماحة الإسلام،وهذا استرواح مبني على أن من حكمه الله أن يجعل بين طبع الرسول صلى الله عليه وسلم وبين روح شريعته تناسبا ليكون إقباله على تنفيذ شرعه بشراشره لأن ذلك أنفى للحرج عنه في القيام بتنفيذ ما أمر به.
وتركيب {مَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أشد في نفي التكلف من أن يقول:ما أنا بمتكلف،كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة[67].

وجملة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} بدل اشتمال من جملة {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} اشتمال نفي الشيء على ثبوت ضده،فلما نفى بقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أن يكون تقول القرآن على الله،ثبت من ذلك أن القرآن ذكر للناس ذكرهم الله به،أي ليس هو بالأساطير أو الترهات.ولك أن تجعلها تذييلا إذ لا منافاة بينهما هنا.وهذا الإخبار عن موقع القرآن لدى جميع أمة الدعوة لا خصوص المشركين الذين كان في مجادلتهم لأنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجو من معانديه أجرا.وثبت بذلك أنه ليس بمتقول ما لم يوح إليه انتقل إلى إثبات أن القرآن ذكر للناس قاطبة فيدخل في ذلك مشركو أهل مكة وغيرهم من الناس،فكأنه قيل يستغني الله عنكم بأقوام آخرين كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7].
وعموم العالمين يكسب الجملة معنى التذييل للجملتين قبلها.
والقصر الذي اشتملت عليه جملة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} قصر قلب إضافي،أي هو ذكر لا أساطير ولا سحر ولا شعر ولا غير ذلك للرد على المشركين ما وسموا به القرآن من غير صفاته الحقيقية.
وجملة {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} عطف على جملة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} باعتبار ما يشتمل عليه القصر من جانب الإثبات،أي وستعلمون خبر هذا القرآن بعد زمان علما جزما فيزول شككم فيه، فالكلام إخبار عن المستقبل كما هو مقتضى وجود نون التوكيد.
والنبأ:الخبر،وأصل الخبر:الصدق،أي الموافقة للواقع،فإذا قيل:أتاني نبأ كذا،فمعناه الخبر عن حاله في الواقع،فإضافة النبأ إلى ما يضاف إليه على معنى اللام إذ معنى اللام هو أصل معاني الإضافة،قال تعالى : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [صّ:21]،أي ستعلمون صدق وصف هذا القرآن أنه الحق،وهذا كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].وفُسر النبأ بمعنى المفعول،أي ما أنبأ به القرآن من إنذاركم بالعذاب،فهو تهديد.وكلا الاحتمالين واقع فإن من المخاطبين من عجل له عذاب السيف يوم بدر،وبقيتهم رأوا ذلك رأي العين منهم من علموا دخول الناس في الإسلام فماتوا بغيضهم ومنهم من شاهدوا فتح مكة وآمنوا،أو رأوا قبائل العرب تدخل في الدين أفواجا فعلموا نبأ صدق القرآن وما وعد به بعد حين فازدادوا إيمانا.

وحين كل فريق ما مضى عليه من زمن بين هذا الخطاب وبين تحقق الصدق.والحين:الزمن من ساعة إلى أربعين سنة.فختم الكلام بتسجيل التبليغ وأن فائدة ما أبلغهم لهم لا للنبي صلى الله عليه وسلم. وختم بالمواعده لوقت يقيهم بنبيه،وهذا مؤذن بانتهاء الكلام مراعاة حسن الختام.

المجلد الرابع و العشرون
سورة الزمر...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزمر
سميت "سورة الزمر" من عهد النبي صلى الله عليه وسلم،فقد روى الترمذي عن عائشة قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل".وإنما سميت سورة الزمر لوقوع هذا اللفظ فيها دون غيرها من سورة القرآن.
وفي "تفسير القرطبي" عن وهب بن منبه أنه سماها "سورة الغرف" "وتناقله المفسرون".ووجه أنها ذكر فيها لفظ الغرف،أي بهذه الصيغة دون الغرفات،في قوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} [الزمر:20]الآية.وهي مكية كلها عند الجمهور وعن ابن عباس أن قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]الآيات الثلاث.وقيل:إلى سبع آيات نزلت بالمدينة في قصة،وحشي قاتل حمزة،وسنده ضعيف،وقصته عليها مخائل القصص.
وعن عمر بن الخطاب أن تلك الآيات نزلت بالمدينة في هشام بن العاصي بن وائل إذ تأخر عن الهجرة إلى المدينة بعد أن استعد لها.وفي رواية:أن معه عياش ابن أبي ربيعة وكانا تواعدا على الهجرة إلى المدينة ففُتنا فافتتنا.
والأصح أنها نزلت في المشركين كما سيأتي عند تفسيرها،وما نشأ القول بأنها مدنية إلا لما روي فيها من القصص الضعيفة.وقيل:نزل أيضا في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر:10]الآية بالمدينة.
وعن ابن عباس:"أن قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر: 23]الآية نزل بالمدينة.فبلغت الآيات المختلف فيها تسع آيات.
والمتجه:أنها كلها مكية وأن ما يخيل أنه نزل في قصص معينة إن صحت أسانيده أن يكون وقع التمثل به في تلك القصص فأشتبه على بعض الرواة بأنه سبب نزول.

وسيأتي عند قوله تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:10]أنها نزلت قبيل هجرة المؤمنين إلى الحبشة، أي في سنة خمس قبل الهجرة.وهي السورة التاسعة والخمسون في ترتيب النزول على المختار،نزلت بعد سورة سبا وقبل سورة غافر.وعدت آيتها عند المدنيين والمكيين والبصريين اثنتين وسبعين،وعند أهل الشام ثلاثا وسبعين،وعند أهل الكوفة خمسا وسبعين.
أغراضها
ابتدئت هذه السورة بما هو كالمقدمة للمقصود،وذلك بالتنويه بشأن القرآن تنويها تكرر في ستة1 مواضع من هذه السورة لأن القرآن جامع لأغراضها.وأغراضها كثيرة تحوم حول إثبات تفرد الله بالإلهية وإبطال الشرك فيها.وإبطال تعللات المشركين لإشراكهم وأكاذيبهم.ونفي ضرب من ضروب الإشراك إلى زعمهم أن لله ولدا.والاستدلال على وحدانية الله في الإلهية بدلائل تفرده بإيجاد العوالم العلوية والسفلية،وبتدبير نظامها وما تحتوي عليه مما لا ينكر المشركون انفراده به.والخلق العجيب في أطوار تكوين الإنسان والحيوان.والاستدلال عليهم بدليل من فعلهم وهو التجاؤهم إلى الله عندما يصيبهم الضر.والدعوة إلى التدبر فيما يلقى إليهم من القرآن الذي هو أحسن القول.وتنبيههم على كفرانهم شكر النعمة.والمقابلة بين حالهم وبين حال المؤمنين المخلصين لله.وأن دين التوحيد هو الذي جاءت به الرسل من قبل.والتحذير من أن يحل بالمشركين ما حل بأهل الشرك من الأمم الماضية.
وإعلام المشركين بأنهم وشركاءهم لا يعبأ بهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم فالله غني عن عبادتهم،ورسوله لا يخشاهم ولا يخاف أصنامهم لأن الله كفاه إياهم جميعا.وإثبات البعث والجزاء لتجزى كل نفس بما كسبت.وتمثيل البعث بإحياء الأرض بعد موتها.وضرب لهم مثله والإفاقة بعده وأنه يوم الفصل بين المؤمنين والمشركين.وتمثيل حال المؤمنين وحال المشركين في الحياتين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.ودعاء المشركين للإقلاع عن الإسراف على أنفسهم،ودعاء
ـــــــ
1 هي قوله تنزيل {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} الآيتين وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية,وقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} الآيتين,وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} الآية,وقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الآية,وقوله: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} الآية.

المؤمنين للثبات على التقوى ومفارقة دار الكفر.وختمت بوصف حال يوم الحساب.
وتخلل ذلك كله وعيد ووعد،وأمثال،وترهيب وترغيب،ووعظ وإيماء بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]الآية إلى أن شأن المؤمنين أنهم أهل علم وأن المشركين أهل جهالة،وذلك تنويه برفعة العلم ومذمة الجهل.
[1ـ2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}
فاتحة أنيقة في التنويه بالقرآن جعلت مقدمة لهذه السورة لأن القرآن جامع لما حوته وغيره من أصول الدين.
فـ {تَنْزِيلُ} مصدر مراد به معناه المصدري لا معنى المفعول،كيف وقد أضيف إلى الكتاب وأصل الإضافة أن لا تكون بيانية.
وتنزيل:مصدر نزل المضاعف وهو مشعر بأنه أنزله منجما.واختيار هذه الصيغة هنا للرد على الطاعنين لأنهم من جملة ما تعللوا به قولهم: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32]. وقد تقدم الفرق بين المضاعف والمهموز في مثله في المقدمة الأولى.
والتعريف في {الْكِتَابِ} للعهد،وهو القرآن المعهود بينهم عند كل تذكير وكل مجادلة.وأجرى على اسم الجلالة الوصف بـ {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} للإيماء إلى أن ما ينزل منه يأتي على ما يناسب الصفتين، فيكون عزيزا قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41]،أي القرآن،عزيز غالب بالحجة لمن كذب به، وغالب بالفضل لما سواه من الكتب من حيث إن الغلبة تستلزم التفضل والتفوق،وغالب لبلغاء العرب إذ أعجزهم عن معارضة سورة منه،ويكون حكيما مثل صفة منزله.
والحكيم:إما بمعنى الحاكم،فالقرآن أيضا حاكم على معارضيه بالحجة، وحاكم على غيره من الكتب السماوية بما فيه من التفصيل والبيان قال تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48].
وأما بمعنى:المحكم المتقن،فالقرآن مشتمل على البيان الذي لا يحتمل الخطأ،وإما بمعنى الموصوف بالحكمة،فالقرآن مشتمل على الحكمة كاتصاف منزله بها.وهذه

معان مرادة من الآية فيما نرى،على أن في هذين الوصفين إيماء إلى أن القرآن معجز ببلاغة لفظه وإعجازه العلمي،إذا اشتمل على علوم لم يكن للناس علم بها كما بيناه في المقدمة العاشرة.
وفي وصف {الْحَكِيمِ} إيماء إلى أنه أنزله بالحكمة وهي الشريعة {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:269].وفي هذا إرشاد إلى وجوب التدبر في معاني هذا الكتاب ليتوصل بذلك التدبر إلى العلم بأنه حق من عند الله،قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
ومعنى {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} في صفات الله تقدم في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في سورة البقرة[269].
وافتتاح جملة {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} بحرف "إن" مراعى فيه ما استعمل فيه الخبر من الامتنان.فيحمل حرف "إن" على الاهتمام بالخبر.وما أريد به من التعريض بالذين أنكروا أن يكون منزلا من الله فيحمل حرف "إن" على التأكيد استعمالا للمشترك في معنييه.ولما في هذه الآية من زيادة الإعلان بصدق النبي المنزل عليه الكتاب جدير بالتأكيد لأن دليل صدقه ليس في ذاته بل هو قائم بالإعجاز الذي في القرآن وبغيره من المعجزات،فكان مقتضى التأكيد موجودا بخلاف مقتضى الحال في قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} .
فجملة {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} تتنزل منزلة البيان لجملة {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} . وإعادة لفظ {الْكِتَابَ} للتنويه بشأنه جريا على خلاف مقتضى الظاهر بالإظهار في مقام الإضمار.وتعدية {أَنْزَلْنَا} بحرف الانتهاء تقدم في قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في أول البقرة[4].
والباء في {بِالْحَقِّ} للملابسة،وهي ظرف مستقر حالا من {الْكِتَابَ} ،أي أنزلنا إليك القرآن ملابسا للحق في جميع معانيه {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42].
وفرع على المعنى الصريح من قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أن أمر بأن يعبد الله مخلصا له العبادة.وفي هذا التفريع تعريض بما يناسب المعنى التعريضي في المفرع عليه وهو أن المعرض بهم أن يعبدوا الله مخلصين له الدين عليهم أن يدبروا في المعنى المعرض به.

وهذا إيماء إلى أن إنزال الكتاب عليه نعمة كبرى تقتضي أن يقابلها الرسول صلى الله عليه وسلم بالشكر بإفراده بالعبادة،وإيماء إلى أن إشراك المشركين بالله غيره في العبادة كفر لنعمه التي أنعم بها،فإن الشكر صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله،وفي العبادة تحقيق هذا المعنى قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
فالمقصود من الأمر بالعبادة التوطئة إلى تقييد العبادة بحالة الإخلاص من قوله: {مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} ، فالمأمور به عبادة خاصة،ولذلك لم يكن الأمر بالعبادة مستعملا في معنى الأمر بالدوام عليها.ولذلك أيضا لم يؤت في هذا التركيب بصيغة قصر خلاف قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزمر:66]لأن المقصود هنا زيادة التصريح بالإخلاص والرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يعبد غير الله.وقد توهم ابن الحاجب من عدم تقديم المعمول هنا أن تقديم المفعول في قوله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} في آخر هذه السورة لا يفيد القصر وهي زلة عالم.
والإخلاص:الإمْحَاض وعدم الشوب بمغاير،وهو يشمل الإفراد.وسميت السورة التي فيها توحيد الله سورة الإخلاص،أي إفراد الله بالإلهية.وأوثر الإخلاص هنا لإفادة التوحيد وأخص منه وهو أن تكون عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ربه غير مشوبة بحظ دنيوي كما قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57].
والدين:المعاملة.والمراد به هنا معاملة المخلوق ربه وهي عبادته.فالمعنى:مخلصا له العبادة غير خالط بعبادته عبادة غيره.وانتصب {مُخْلِصاً} على الحال من الضمير المستتر في {أَعْبُدَ}.
ولما أفاد قوله: {مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} معنى إفراده بالعبادة لم يكن هنا مقتض لتقديم مفعول {أَعْبُدَ اللَّهَ} على عامله لأن الاختصاص قد استفيد من الحال في قوله: {مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} ،وبذلك يبطل استناد الشيخ ابن الحاجب لهذه الآية في توجيه رأيه بإنكار إفادة تقديم المفعول على فعله التخصيص، وتضعيفه لاستدلال أئمة المعاني بقوله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} آخر السورة[66]بأنه تقديم لمجرد الاهتمام لورود {فَاعْبُدِ اللَّهَ} ،قال في "إيضاح المفصل" في شرح قول صاحب "المفصل" في الديباجة "الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية"،الله أحمد على طريقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]تقديما للأهم، وما قيل:إنه للحصر لا دليل عليه والتمسك فيه بنحو {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} ضعيف لورود

{فَاعْبُدِ اللَّهَ} "اهـ.ونقل عنه أنه كتب في "حاشيته على الإيضاح" هنالك قوله::"لا دليل فيه على الحصر فإن المعبودية من صفاته تعالى الخاصة به،فالاختصاص مستفاد من الحال لا من التقديم"اهـ.
وهو ضغث على إبَّالة فإنه لم يقتصر على منع دليل شهد به الذوق السليم عند أئمة الاستعمال وعلى سند منعه بتوهمه أن التقديم الذي لوحظ في مقام يجب أن يلاحظ في كل مقام،كأن الكلام قد جعل قوالب يؤتى بها في كل مقام،وذلك ينبو عنه اختلاف المقامات البلاغية،حتى جعل الاختصاص بالعبادة مستفادا من القرينة لا من التقديم،كأن القرية لو سلم وجودها تمنع من التعويل على دلالة النطق.
[3] {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}
استئناف للتخلص إلى استحقاقه تعالى الإفراد بالعبادة وهو غرض السورة وأفاد التعليل للأمر بالعبادة الخالصة مستحقا لله وخاصا به كان الأمر بالإخلاص له مصيبا محزه فصار أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له مسببا عن نعمة إنزال الكتاب إليه ومقتضى لكونه مستحق الإخلاص في العبادة اقتضاء الكلية لجزيئاتها.وبهذا العموم أفادت الجملة معنى التذييل فتحملت ثلاثة مواقع كلها تقتضي الفصل.
وافتتحت الجملة بأداة التنبيه تنويها بمضمونها لتتلقاه النفس بشراشرها وذلك هو ما رجح اعتبار الاستئناف فيها،وجعل معنى التعليل حاصلا تبعا من ذكر إخلاص عام بعد إخلاص خاص وموردهما واحد.
واللام في {لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} لام الملك الذي هو بمعنى الاستحقاق،أي لا يحق الدين الخالص،أي الطاعة غير المشوبة إلا له على نحو {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].وتقديم المسند لإفادة الاختصاص فأفاد قوله: {لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أنه مستحقه وأنه مختص به.
والدين:الطاعة كما تقدم. والخالص:السالم من أن يشوبه تشريك غيره في عبادته،فهذا هو المقصود من الآية.

ومما يتفرع على معنى الآية إخلاص المؤمن الموحد في عبادة ربه،أي أن يعبد الله لأجله،أي طلبا لرضاه وامتثالا لأمره وهو آيل إلى أحوال النية في العبادة المشار إليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم :"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" .
وعرف الغزالي الإخلاص:"بأنه تجريد قصد التقرب إلى الله عن جميع الشوائب".والإخلاص في العبادة أن يكون الداعي إلى الإتيان بالمأمور وإلى ترك المنهي إرضاء الله تعالى،وهو معنى قولهم:لوجه الله،أي لقصد الامتثال بحيث لا يكون الحظ الدنيوي هو الباعث على العبادة مثل أن يعبد الله ليمدحه الناس بحيث لو تعطل المدح لترك العبادة.ولذا قيل:الرياء الشرك الأصغر،أي إذا كان هو الباعث على العمل،ومثل ذلك أن يقاتل لأجل الغنيمة فلو أيس منها ترك القتال،فأما إن كان للنفس حظ عاجل وكان حاصلا تبعا للعبادة وليس هو المقصود فهو مغتفر وخاصة إذا كان ذلك لا تخلو عنه النفوس، أو كان مما يعين على الاستزادة من العبادة.
وفي "جامع العتبية" في ما جاء من أن النية الصحيحة لا تبطلها الخَطرة التي لا تُملك.حدث العتبي عن عيسى بن دينار عن ابن وهب عن عطاء الخراساني أن معاذ بن جبل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس من بني سَلمَة إلا مقاتل،فمنهم من القتال طبيعته،ومنهم من يقاتل رياء ومنهم من يقاتل احتسابا،فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة?فقال :"يا معاذ بن جبل من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة" .
قال ابن رشد في "شرحه" :"هذا الحديث فيه نص جلي على أن من كان أصل عمله لله وعلى ذلك عقد نيته لم تضره الخطرات التي تقع في القلب ولا تُملك،على ما قاله مالك خلاف ما ذهب إليه ربيعة،وذلك أنهما سئلا عن الرجل يحب أن يلقى في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق السوق فأنكر ذلك ربيعة ولم يعجبه أن يحب أحد أن يرى في شيء من أعمال الخير.وقال مالك:"إذا كان أول ذلك وأصله لله فلا بأس به إن شاء الله قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39]، وقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84].قال مالك:"وإنما هذا شيء يكون في القلب لا يملك وذلك وسوسة الشيطان ليمنعه من العمل فمن وجد ذلك فلا يكسله عن التمادي على فعل الخير ولا يؤيسه من الأجر وليدفع الشيطان عن نفسه ما استطاع "أي إذا أراد تثبيطه

عن العمل"،ويجدد النية فإن هذا غير مؤاخذ به إن شاء الله" اهـ.
وذكر قبل ذلك عن مالك أنه رأى رجلا من أهل مصر يسأل عن ذلك ربيعة.وذكر أن ربيعة أنكر ذلك.قال مالك:"فقلت له ما ترى في التهجير إلى المسجد قبل الظهر?قال:مازال الصالحون يهجرون.
وفي "جامع المعيار" :سئل مالك عن الرجل يذهب إلى الغزو ومعه فضل مال ليصيب به من فضل الغنيمة "أي ليشتري الناس ما صح لهم من الغنيمة" فأجاب:"لا بأس به ونزع بآية التجارة في الحج قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]وأن ذلك غير مانع ولا قادح في صحة العبادة إذا كان قصده بالعبادة وجه الله ولا يعد هذا تشريكا في العبادة لأن الله هو الذي أباح ذلك ورفع الحرج عن فاعله مع أنه قال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]فدل أن هذا التشريك ليس بداخل بلفظه ولا بمعناه تحت آية الكهف" اهـ.
وأقول:إن القصد إلى العبادة ليتقرب إلى الله فيسأله ما فيه صلاحا في الدنيا أيضا لا ضير فيه،لأن تلك العبادة جعلت وسيلة للدعاء ونحوه وكل ذلك تقرب إلى الله تعالى وقد شرعت صلوات لكشف الضر وقضاء الحوائج مثل صلاة الاستخارة وصلاة الضر والحاجة،ومن المغتفر أيضا أن يقصد العامل من عمله أن يدعو له المسلمون ويذكروه بخير.وفي هذا المعنى قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا له المسلمون حين ودعوه ولمن معه بأن يردهم الله سالمين:
لكنني أسألُ الرحمن مغفرة ... وضربةً ذات فرعٍ يَقذف الزبدا
أو طعنة من يدي حرّان مجهزةً ... بحربة تنفذ الأحشاءَ والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جَدثي ... أرشدك الله من غَاز وقد رشدا
وقد علمت من تقييدنا الحظ بأنه حظ دنيوي أن رجاء الثوب واتقاء العقاب هو داخل في معنى الإخلاص لأنه راجع إلى التقرب لرضى الله تعالى.وينبغي أن تعلم أن فضيلة الإخلاص في العبادة هي قضية أخص من قضية صحة العبادة وأجزائها في ذاتها إذ قد تعرو العبادة عن فضيلة الإخلاص وهي مع ذلك صحيحة مجزئة،فللإخلاص أثر في تحصيل ثواب العمل وزيادته ولا علاقة له بصحة العمل. وفي "مفاتيح الغيب" :"وأما الإخلاص فهو أن يكون الداعي إلى الإتيان بالفعل أو الترك مجرد الانقياد فإن حصل معه داع أخر،فإما أن يكون جانب الداعي إلى الانقياد راجحا على جانب الداعي المغاير، أو معادلا له،أو مرجوحا.وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط،وأما إذا كان الداعي إلى الطاعة

راجحا على جانب الداعي الآخر فقد اختلفوا في أنه هل يفيد أو لا" اهـ.
وذكر أبو إسحاق الشاطبي:"أن الغزالي أي في كتاب النية من الربع الرابع من الإحياء يذهب إلى أن ما كان فيه داعي غير الطاعة مرجوحا أنه ينافي الإخلاص.وعلامته أن تصير الطاعة أخف على العبد بسبب ما فيها من غرض،وأن أبا بكر بن العربي ـ أي في كتاب "سراج المريدين" كما نقله في "المعيار" ـ يذهب إلى أن ذلك لا يقدح في الإخلاص.
ـ قال الشاطبي ـ:"وكان مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما، فالغزالي يلتفت إلى مجرد وجود اجتماع القصدين سواء كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا، وابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك".
فهذه مسألة دقيقة ألحقناها بتفسير الآية لتعلقها بالإخلاص المراد في الآية،وللتنبيه على التشابه العارض بين المقاصد التي تقارن قصد العبادة وبين إشراك المعبود في العبادة بغيره.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
عطف على جملة {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} لزيادة تحقيق معنى الإخلاص لله في العبادة وأنه خلوص كامل لا يشوبه شيء من الإشراك ولا إشراك الذين زعموا أنهم اتخذوا أولياء وعبدهم حرصا على القرب من الله يزعمونه عذرا لهم فقولهم من فساد الوضع وقلب حقيقة العبادة بأن جعلوا عبادة غير الله وسيلة إلى القرب من الله فنقضوا بهذه الوسيلة مقصدها وتطلبوا القربة بما أبعدها،والوسيلة إذا أفضت إلى إبطال المقصد كان التوسل بها ضربا من البعث.
واسم الموصول مراد به المشركون وهو في محل رفع على الابتداء وخبره جملة {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } . وجملة {مَا نَعْبُدُهُمْ} مقول لقول محذوف لأن نظمها يقتضي ذلك إذ ليس في الكلام ما يصلح لأن يعود عليه نون المتكلم ومعه غيره،فتعين أنه ضمير عائد إلى المبتدأ،أي هم المتكلمون به وبما يليه، وفعل القول محذوف وهو كثير،وهذا القول المحذوف يجوز أن يقدر بصيغة اسم الفاعل فيكون حالا من {الَّذِينَ اتَّخَذُوا} أي قائلين:ما نعبدهم،ويجوز أن يقدر بصيغة الفعل.والتقدير:قالوا ما نعبدهم، وتكون الجملة حينئذ بدل اشتمال من جملة {اتَّخَذُوا} فإن اتخاذهم الأولياء اشتمل على هذه المقالة.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} وعيد لهم على قولهم ذلك فعلهم منه إبطال تعللهم في قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} لأن الواقع أنهم عبدوا الأصنام أكثر من عبادتهم الله.فضمير {بَيْنَهُمْ} عائد إلى الذين اتخذوا أولياء.والمراد بـ {مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} اختلاف طرائقهم في عبادة الأصنام وفي أنواعها من الأنصاب والملائكة والجن على اختلاف المشركين في بلاد العرب.
ومعنى الحكم بينهم أنه يبين لهم ضلالهم جميعا يوم القيامة إذ ليس معنى الحكم بينهم مقتضيا الحكم لفريق منهم على فريق آخر بل قد يكون الحكم بين المتخاصمين بإبطال دعوى جميعهم.
ويجوز أن يكون على تقدير معطوف على {بَيْنَهُمْ} مماثل له دلت عليه الجملة المعطوف عليها وهي {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ،لاقتضائها أن الذين أخلصوا الدين لله قد وافقوا الحق فالتقدير يحكم بينهم وبين المخلصين على حد قول النابغة:
فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حُجر إلا ليالٍ قلائلُ
تقديره:بين الخير وبيني بدلالة سياق الرثاء والتلهف.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} استثناء من علل محذوفة،أي ما نعبدهم لشيء إلا لعلة أن يقربونا إلى الله فيفيد قصرا على هذه العلة قصر قلب إضافي،أي دون ما شنعتم علينا من أننا كفرنا نعمة خالقنا إذ عبدنا غيره.وقد قدمنا آنفا من أنهم أرادوا به المعذرة ويكون في أداة الاستثناء استخدام لأن اللام المقدرة قبل الاستثناء لام العاقبة لا لام العلة إذ لا يكون الكفران بالخالق علة لعاقل ولكنه صائر إليه، فالقصر لا ينافي أنهم أعدوهم لأشياء أخر إذا عدوهم شفعاء واستنجدوهم في النوائب،واستقسموا بأزلامهم للنجاح،كما هو ثابت في الواقع.
والزلفى:منزلة القرب،أي ليقربونا إلى الله في منزلة القرب،والمراد به منزلة الكرامة والعناية في الدنيا لأنهم لا يؤمنون بمنازل الآخرة،ويكون منصوبا بدلا من ضمير {لِيُقَرِّبُونَا} بدل اشتمال،أي ليقربوا منزلتنا إلى الله.ويجوز أن يكون {زُلْفَى} اسم مصدر فيكون مفعولا مطلقا،أي قربا شديدا.
وأفاد نظم {هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أمرين أن الاختلاف ثابت لهم،وأنه متكرر متجدد،فالأول من تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي،والثاني من كون المسند فعلا مضارعا.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}

يجوز أن يكون خبرا ثانيا عن قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} وهو كناية عن كونهم كاذبين في قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} وعن كونهم كفارين بسبب ذلك،وكناية عن كونهم ضالين.
ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا لأن قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يثير في نفوس السامعين سؤالا عن مصير حالهم في الدنيا من جراء اتخاذهم أولياء من دونه،فيجاب بأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار،أي يذرهم في ضلالهم ويمهلهم إلى يوم الجزاء بعد أن يبين لهم الدين فخالفوه.
والمراد بـ {مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الذين اتخذوا من دونه أولياء،أي المشركين،فكان مقتضى الظاهر الإتيان بضميرهم،وعدل عنه إلى الإضمار لما في الصلة من وصفهم بالكذب وقوة الكفر.
وهداية الله المنفية عنهم هي:أن يتداركهم الله بلطفه بخلق الهداية في نفوسهم،فالهداية المنفية هي الهداية التكوينية لا الهداية بمعنى الإرشاد والتبليغ وهو ظاهر،فالمراد نفي عناية الله بهم،أي العناية التي بها تيسير الهداية عليهم حتى يهتدوا،أي لا يوفقهم الله بل يتركهم على رأيهم غضبا عليهم.والتعبير عنهم بطريق الموصولية لما في الموصول من الصلاحية لإفادة الإيماء إلى علة الفعل ليفيد أن سبب حرمانهم التوفيق هو كذبهم وشدة كفرهم.
فإن الله إذا أرسل رسوله إلى الناس فبلغهم كانوا عندما يبلغهم الرسول رسالة ربه بمستوى متحد عند الله بما هم عبيد مربوبون ثم يكونون أصنافا في تلقيهم الدعوة،فمنهم طالب هداية بقبول ما فهمه ويسأل عما جهله،ويتدبر وينظر ويسأل،فهذا بمحل الرضى من ربه فهو يعينه ويشرح صدره للخير حتى يشوق صدره للخير حتى يشرق باطنه بنور الإيمان كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125]وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:8 , 7].
ولا جرم أنه كلما توغل العبد في الكذب على الله وفي الكفر به ازداد غضب الله عليه فازداد بعد الهداية الإلهية عنه،كما قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:86].

والتوفيق:خلق القدرة على الطاعة فنفي هداية الله عنهم كناية عن نفي توفيقه ولطفه لأن الهداية مسببة عن التوفيق فعبر بنفي المسبب عن نفي السبب.وكذبهم هو ما اختلقوه من الكفر بتألية الأصنام،وما ينسأ عن ذلك من اختلاق صفات وهمية للأصنام وشرائع يدينون بها لهم.
والكَفَّار:شديد الكفر البليغه،وذلك كفرهم بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبالقرآن بإعراضهم عن تلقيه،والتجرد عن الموانع للتدبر فيه.
وعلم من مقارنة وصفهم بالكذب بوصفهم بالأبلغية في الكفر أنهم متبالغون في الكذب أيضا لأن كذبهم المذموم إنما هو كذبهم في كفرياتهم فلزم من مبالغة الكفر مبالغة الكذب فيه.
[4] {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}
موقع هذه الآية موقع الاحتجاج على أن المشركين كاذبون وكفارون في اتخاذهم أولياء من دون الله، وفي قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]وأن الله حرمهم الهدى وذلك ما تضمنه قوله قبله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]،فقصد إبطال شركهم بإبطال أقواه وهو عدهم في جملة شركائهم شركاء زعموا لهم بنوة الله تعالى،حيث قالوا: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [البقرة:116]فإن المشركين يزعمون اللات والعزى ومناة بنات الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم:19ـ21].
قال في "الكشاف" :"هنالك كانوا يقولون:إن الملائكة وهذه الأصنام "يعني هذه الثلاثة" بنات الله". وذكر البغوي عن الكلبي كان المشركون بمكة يقولون:"الأصنام والملائكة بنات الله فخص الاعتقاد بأهل مكة،والظاهر أن ذلك لم يقولوه في غير اللات والعزى ومناة،لأن أسماءها مؤنثة،وإلا فإن في أسماء كثير من أسماء أصنامهم ما هو مذكر نحو ذي الخلصة،وذكر في "الكشاف" عند ذكر البسملة أنهم كانوا يقولون عند الشروع في أعمالهم:باسم اللات،باسم العزى.
فالمقصود من هذه الآية إبطال إلهية أصنام المشركين على طريقة المذهب الكلامي.واعلم أن هذه الآية والآيات بعدها اشتملت على حجج انفراد الله.
ومعنى الآية:لو كان الله متخذا ولدا لأختار من مخلوقاته ما يشاء اختياره،أي

لاختار ما هو أجدر بالاختيار ولا يختار لبنوته حجارة كما زعمتم لأن شان الاختيار أن يتعلق بالأحسن من الأشياء المختار منها فبطل أن تكون اللات والعزى ومناة بنات الله تعالى،وإذا بطل ذلك عنها بطل عن سائر الأصنام بحكم المساواة أو الأحرى،فتكون {لو} هنا هي الملقبة {لو} الصهبية،أي التي شرطها مفروض فرضا على أقصى احتمال وهي التي يمثلون لها بالمثل المشهور:"نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه"،فكان هذا إبطالا لما تضمنه قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} إلى قوله: {كَفَّارٌ} [الزمر:3].وليس هو إبطالا لمقالة بعض العرب:إن الملائكة بنات الله،لأن ذلك لم يكن من عقيدة المشركين بمكة الذين وجه الخطاب إليهم،ولا إبطالا لبنوة المسيح عند النصارى لأن ذلك غير معتقد عند المشركين المخاطبين ولا شعور لهم به،وليس المقصود محاجة النصارى ولم يتعرض القرآن المكي إلى محاجة النصارى.
واعلم أنه بنى الدليل على قاعدة استحالة الولد على الله تعالى إذ بني القياس الشرطي على فرض اتخاذ الولد لا على فرض التولد،فاقتضى أن المراد باتخاذ الولد التبني لأن إبطال التبني بهذا الاستدلال يستلزم إبطال تولد الابن بالأولى.
وعزز المقصود من ذكر فعل الاتخاذ بتعقيبه بفعل الاصطفاء على طريقة مجاراة الخصم المخطئ ليغير في مهواة خطئه،أي لو كان لأحد من الله نسبة بنوة لكانت تلك النسبة التبني لا غير إذ لا تتعقل بنوة الله غير التبني ولو كان الله متبنيا لاختار ما هو الأليق بالتبني من مخلوقاته دون الحجارة التي زعمتموها بنات لله.وإذا بطلت بنوة تلك الأصنام الثلاثة المزعومة بطلت إلهية سائر الأصنام الأخرى التي اعترفوا بأنها في مرتبة دون مرتبة اللات والعزى ومناة بطريق الأولى واتفاق الخصمين فقد اقتضى الكلام دليلين:طوي أحدهما وهو دليل استحالة الولد بالمعنى الحقيقي عن الله تعالى،وذكر دليل إبطال التبني لما لا يليق أن يتبناه الحكيم.
وهذا وجه تفسير هذه الآية وبيان وقعها مما قبلها وبه تخرج عن نطاق الحيرة التي وقع فيها المفسرون فسلكوا مسالك تعسف في معناها ونظمها وموقعها،ولم يتم لأحد منهم وجه الملازمة بين شرط {لو} وجوابها،وسكت بعضهم عن تفسيرها.فوقع في "الكشاف" ما يفيد أن المقصود نفي زعم المشركين بنوة الملائكة وجعل جواب {لو} محذوفا وجعل المذكور في موضع الجواب إرشادا إلى الاعتقاد الصحيح في الملائكة فقال:"يعني لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع،ولم يصح لكونه "أي ذلك الاتخاذ" محالا

ولم يتأتَّ إلا أن يصطفى من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده وقد فعل ذلك بالملائكة فغركم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم بحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأغراض".فجعل ما هو في الظاهر جواب {لو} مفيدا معنى الاستدراك الذي يعقب المقدم والتالي غالبا،فلذلك فسره بمرادفه وهو الاستثناء الذي هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
وللتفتزاني بحث يقتضي عدم استقامة تقرير "الكشاف" لدليل شرط {لو} وجوابه،واستظهر أن {لو} صهيبية تبعا لتقرير ذكره صاحب "الكشاف". وبعد فإن كلام صاحب الكشاف يجعل هذه الآية منقطعة عن الآيات التي قبلها،فيجعلُها بمنزلة غرض مستأنف مع أن نظم الآية نظم الاحتجاج لا نظم الإفادة،فكان محمل "الكشاف" فيها بعيدا.ومع قطع النظر عن هذا فإن في تقرير الملازمة في الاستدلال خفاء وتعسفا كما أشار إليه الشَقَّار في كتابه "التقريب مختصر الكشاف" .
وقال ابن عطية:"معنى اتخاذ الولد اتخاذ التشريف والتبني وعلى هذا يستقيم قوله: {لاصْطَفَى} وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد يعني اتخاذ النسل فمستحيل أن يتوهم في جهة الله ولا يستقيم عليه قوله {لاصْطَفَى}. ومما يدل على أن معنى أن يتخذ الاصطفاء والتبني قوله: {مِمَّا يَخْلُقُ} أي من محادثاته" اهـ وتبعه عليه الفخر.
وبنى عليه صاحب "التقريب" فقال عقب تعقب كلام "الكشاف" :"والأولى ما قيل:لو أراد أن يتخذ ولدا كما زعمتم لاختار الأفضل "أي الذكور" لا الأنقص و هن الإناث".وقال التفتزاني في "شرح الكشاف":"هذا معنى الآية بحسب الظاهر،وذكر أن صاحب "الكشاف" لم يسلكه للوجه الذي ذكره التفتزاني هناك.والذي سلكه ابن عطية وإن كان أقرب وأوضح من مسلك "الكشاف" في تقرير الدليل لكنه يشاركه في أنه لا يصل الآية بالآيات التي قبلها وينبغي أن لا تقطع بينها الأواصر،وكم ترك الأول للآخر.
وجملة {سُبْحَانَهُ} تنزيه له عما نسبوه إليه من الشركاء بعد أن أبطله بالدليل الامتناعي عودا إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذي فارقه من قوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2].
وجملة {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} دليل للتنزيه المستفاد من {سُبْحَانَهُ} .فجملة {هُوَ اللَّهُ} تمهيد للوصفين، وذكر اسمه العلم لإحضاره في الأذهان بالاسم المختص به فلذلك لم يقل:هو الواحد القهار كما قال بعد: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر:5].وإثبات

الوحدانية له يبطل الشريك في الإلهية على تفاوت مراتبه،وإثبات {الْقَهَّارُ} يبطل ما زعموه من أن أولياءهم تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم.
والقهر:الغلبة،أي هو شديد الغلبة لكل شيء لا يغلبه شيء ولا يصرفه عن إرادته.
[5] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً}
هذه الجملة بيان لجملة {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4]فإن خلق هذه العوالم والتصرف فيها على شدتها وعظمتها يبين معنى الوحدانية ومعنى القهارية،فتكون جملة {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ذات إتصالين:اتصال بجملة {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [الزمر:4]كاتصال التذييل،واتصال بجملة {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} اتصال التمهيد.
وقد انتقل من الاستدلال باقتضاء حقيقة الإلهية نفي الشريك إلى الاستدلال بخلق السماوات والأرض على أنه المنفرد بالخلق إذ لا يستطيع شركاؤهم خلق العوالم.
والباء في {بِالْحَقِّ} للملابسة،أي خلقها خلقا ملابسا للحق وهو هنا ضد العبث،أي خلقهما خلقا ملابسا للحكمة والصواب والنفع لا يشوب خلقهما عبث ولا اختلال قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38ـ39].
وجملة {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ} بيان ثان وهو كتعداد الجمل في مقام الاستدلال أو الامتنان.وأوثر المضارع في هذه الجملة للدلالة على تجدد ذلك وتكرره،أو لاستحضار حالة التكوير تبعا لاستحضار آثارها فإن حالة تكوير الله على النهار غير مشاهدة وإنما المشاهد أثرها وتجدد الأثر يدل على تجدد التأثير.
والتكوير حقيقته:اللف والليُّ،يقال:كور العمامة على رأسه إذا لواها ولفها،ومثلت به هنا هيئة غشيان الليل على النهار في جزء من سطح الأرض وعكس ذلك على

التعاقب بهيئة كور العمامة إذ تغشى اللية اللية التي قبلها.وهو تمثيل بديع قابل للتجزئة بأن تشبه الأرض بالرأس،ويشبه تعاور الليل والنهار عليها بلف طيات العمامة،ومما يزيده إبداعا إيثار مادة التكوير الذي هو معجزة علمية من معجزات القرآن المشار إليها في المقدمة الرابعة والموضحة في المقدمة العاشرة فإن مادة التكوير جائية من اسم الكرة،وهي الجسم المستدير من جميع جهاته على التساوي،والأرض كروية الشكل في الواقع وذلك كان يجهله العرب وجمهور البشر يومئذ فأومأ القرآن إليه بوصف العرضين اللذين يعتريان الأرض على التعاقب وهما النور والظلمة،أو الليل والنهار،إذ جعل تعاورهما تكويرا لأن عرض الكرة يكون كرويا تبعا لذاتها،فلما كان سياق هذه الآية للاستدلال على الإلهية الحق بإنشاء السماوات والأرض اختير للاستدلال على ما يتبع ذلك الإنشاء من خلق العرضين العظيمين للأرض مادة التكوير دون غيرها من نحو الغشيان الذي عبر به في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} في سورة الأعراف[54]،لأن تلك الآية مسوقة للدلالة على سعة التصرف في المخلوقات لأن أولها: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]فكان تصوير ذلك بإغشاء الليل والنهار خاصة لأنه دل على قوة التمكن من تغييره أعراض مخلوقاته،ولذلك اقتصر على تغيير أعظم عرض وهو النور بتسليط الظلمة عليه،لتكون هاته الآية لمن يأتي من المسلمين الذين يطلعون على علم الهيئة فتكون معجزة عندهم.
وعطف جملة {وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} هو من عطف الجزء المقصود من الخبر كقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم:5].
وتسخير الشمس والقمر هو تذليلهما للعمل على ما جعل الله لهما من نظام السير سير المتبوع والتابع،وقد تقدم في سورة الأعراف وغيرها.وعطفت جملة {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} على جملة {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} لأن ذلك التسخير مناسب لتكوير الليل على النهار وعكسه فإن ذلك التكوير من آثار ذلك التسخير فتلك المناسبة اقتضت عطف الجملة التي تضمنته على الجملة التي قبلها.
وجملة {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} في موقع بدل اشتمال من جملة {سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} وذلك أوضح أحوال التسخير.وتنوين {كُلٌّ} للعوض،أي كل واحد.والجري:السير السريع.واللام للعلة.
والأجل هو أجل فنائهما فإن جريهما لما كان فيه تقريب فنائهما جعل جريهما كأنه

لأجل الأجل أي لأجل ما يطلبه ويقتضيه أجل البقاء،وذلك كقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} يّس:38]،فالتنكير في "أجل" للإفراد.
ويجوز أن يكون المراد بالأجل أجل حياة الناس الذي ينتهي بانتهاء الأعمار المختلفة.وليس العمر إلا أوقاتا محدودة وأنفاسا معدودة.وجري الشمس والقمر تحسب به تلك الأوقات والأنفاس،فصار جريهما كأنه لأجل.
قال أسقف نجران:
منع البقاءَ تقلُّبُ الشمس ... وطلوعها من حيث لا تُمسي
وأقوالهم في هذا المعنى كثيرة.
فالتنكير في {أَجَلٍ} للنوعية الذي هو في معنى لآجال مسماة.ولعل تعقيبه بوصف {الْغَفَّارُ} يرجح هذا المحمل كما سيأتي.
والمسمى:المجعول له وسم،أي ما به يعين وهو ما عينه الله لأن يبلغ إليه.وقد جاء في آيات أخرى {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ} [لقمان:29]بحرف انتهاء الغاية،ولام العلة وحرف الغاية متقاربان في المعنى الأصلي وأحسب أن اختلاف التعبير بهما مجرد تفنن في الكلام.
{أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}
استئناف ابتدائي في معنى الوعيد والوعد،فإن وصف {الْعَزِيزُ} كناية عن أنه يفعل ما يشاء لا غالب له فلا تجدي المشركين عبادة أوليائهم،ووصف {الْغَفَّارُ} مؤذن باستدعائهم إلى التوبة باتباع الإسلام.وفي وصف {الْغَفَّارُ} مناسبة لذكر الأجل لأن المغفرة يظهر أثرها بعد البعث الذي يكون بعد الموت وانتهاء الأجل تحريضا على البدار بالتوبة قبل الموت حين يفوت التدارك.وفي افتتاح الجملة بحرف التنبيه إيذان بأهمية مدلولها الصريح والكنائي.
[6] {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} .

انتقال إلى الاستدلال بخلق الناس وهو الخلق العجيب.وأدمج فيه الاستدلال بخلق أصلهم وهو نفس واحدة تشعب منها عدد عظيم وبخلق زوج آدم ليتقوم ناموس التناسل.والجملة يجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير الجلالة،ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا تكريرا للاستدلال.
والخطاب للمشركين بدليل قوله بعده: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ،وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب،ونكتته أنه لما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم بطريق الغيبة أقبل على خطابهم ليجمع في توجيه الاستدلال إليهم بين طريقي التعريض والتصريح.وتقدم نظير هذه الجملة في سورة الأعراف،إلا أن في هذه الجملة عطف قوله: {جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} بحرف {ثم} الدال على التراخي الرتبي لأن مساقها الاستدلال على الوحدانية وإبطال الشريك بمراتبه،فكان خلق آدم دليلا على عظيم قدرته تعالى وخلق زوجه من نفسه دليلا أخر مستقل الدلالة على عظيم قدرته.فعطف بحرف {ثم} الدال على عطف الجمل على التراخي الرتبي إشارة إلى استقلال الجملة المعطوفة بها بالدلالة مثل الجملة المعطوفة هي عليها،فكان خلق زوج آدم منه أدل على عظيم القدرة من خلق الناس من تلك النفس الواحدة ومن زوجها لأنه خلق لم تجر به عادة فكان ذلك الخلق أجلب لعجب السامع من خلق الناس فجيء له بحرف التراخي المستعمل في تراخي المنزلة لا في تراخي الزمن لأن زمن خلق زوج آدم سابق على خلق الناس.فأما آية الأعراف فمساقها مساق الامتنان على الناس بنعمة الإيجاد،فذكر الأصلان للناس معطوفا أحدهما على الآخر بحرف التشريك في الحكم الذي هو الكون أصلا لخلق الناس.
وقد تضمنت الآية ثلاث دلائل على عظم القدرة خلق الناس من ذكر وأنثى بالأصالة وخلق الذكر الأول بالإدماج وخلق الأنثى بالأصالة أيضا.
{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}
استدلال بما خلقه الله تعالى من الأنعام عطف على الاستدلال بخلق الإنسان لأن المخاطبين بالقرآن يومئذ قوام حياتهم بالأنعام ولا تخلو الأمم يومئذ من الحاجة إلى الأنعام ولم تزل الحاجة إلى الأنعام حافة بالبشر في قوام حياتهم.
وهذا اعتراض بين جملة {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وبين {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} لمناسبة أزواج الأنعام لزوج النفس الواحدة.
وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بما فيها من المنافع للناس لما دل عليه قوله:

{لَكُمْ} لأن في الأنعام مواد عظيمة لبقاء الإنسان وهي التي في قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} إلى قوله: {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل:5ـ7]وقوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا} الخ في سورة النحل[80].
والإنزال:نقل الجسم من علو إلى سفل،ويطلق على تذليل الأمر الصعب كما يقال:نزلوا على حكم فلان،لأن الأمر الصعب يتخيل صعب المنال كالمعتصم بقمم الجبال،قال خصاب بن المعلى من شعراء الحماسة:
أنزلني الدهر على حكمه ... من شاهق عال إلى خفض
فإطلاق الإنزال هنا بمعنى التذليل والتمكين على نحو قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد:25]أي سخرناه للناس فألهمناهم إلى معرفة قينة يتخذونه سيوفا ودروعا ورماحا وعتادا مع شدته وصلابته. ويجوز أن يكون إنزال الأنعام إنزالها الحقيقي،أي إنزال أصولها من سفينة نوح كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11]،أي خلقنا أصلكم وهو آدم قال تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]فيكون الإنزال هو الإهباط قال تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 48]،فهذان وجهان حسنان لإطلاق الإنزال،وهما أحسن من تأويل المفسرين إنزال الأنعام بمعنى الخلق،أي لأن خلقها بأمر التكوين ينزل من حضرة القدس إلى الملائكة.
والأزواج:الأنواع،كما في قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3] والمراد أنواع الإبل والغنم والبقر والمعز.
وأطلق على النوع اسم الزوج الذي هو المثنى لغيره لأن كل نوع يتقوم كيانه من الذكر والأنثى وهما زوجان أو أطلق عليها أزواج لأنه أشار إلى ما أنزل من سفينة نوح منها وهو ذكر وأنثى من كل نوع كما تقدم آنفا.
{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ}
بدل من جملة {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وضمير المخاطبين هنا راجع إلى الناس لا غير وهو استدلال بتطور خلق الإنسان على عظيم قدرة الله وحكمته ودقائق صنعته.
والتعبير بصيغة المضارع لإفادة تجدد الخلق وتكرره مع استحضار صورة هذا التطور العجيب استحضارا بالوجه والإجمال الحاصل للأذهان على حسب اختلاف مراتب

إدراكها،ويعلم تفصيله علماء الطب والعلوم الطبيعية وقد بينه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح" .
وقوله: {خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} أي طورا من الخلق بعد طور آخر يخالفه وهذه الأطوار عشرة:
الأول :طور النطفة،وهي جسم مخاطي مستدير أبيض خال من الأعضاء يشبه دودة،طوله نحو خمسة مليمتر.
الثاني :طور العلقة،وهي تتكون بعد ثلاثة وثلاثين يوما من وقت استقرار النطفة في الرحم،وهي في حجم النملة الكبيرة طولها نحو ثلاثة عشر مليمترا يلوح فيها الرأس وتخطيطات من صور الأعضاء. الثالث :طور المضغة وهي قطعة حمراء في حجم النحلة.
الرابع :عند استكمال شهرين يصير طوله ثلاثة سنتيمتر وحجم رأسه بمقدار نصف بقيته ولا يتميز عنقه ولا وجهه ويستمر احمراره.
الخامس :في الشهر الثالث يكون طوله خمسة عشر سنتيمترا ووزنه مائة غرام ويبدو رسم جبهته وأنفه وحواجبه وأظافره ويستمر احمرار جلده.
السادس :في الشهر الرابع يصير طوله عشرين سنتيمترا ووزنه 240 غرامات،ويظهر في الرأس زغب وتزيد أعضاؤه البطنية على أعضائه الصدرية وتتضح أظافره في أواخر ذلك الشهر.
السابع :في الشهر السادس يصير طوله نحو ثلاثين سنتيمترا ووزنه خمسمائة غرام ويظهر فيه مطبقا وتتصلب أظافره.
الثامن:في الشهر السابع يصير طوله ثمانية وثلاثين سنتيمترا ويقل احمرارا جلده ويتكاثف جلده وتظهر على الجلد مادة دهنية دسمة ملتصقة،ويطول شعر رأسه ويميل إلى الشقرة وتتقبب جمجمته من الوسط.
التاسع :في الشهر الثامن يزيد غلظه أكثر من ازدياد طوله ويكون طوله نحو أربعين

صنتيمترا،ووزنه نحو أربعة أرطال أو تزيد،وتقوى حركته.
العاشر :في الشهر التاسع يصير طوله من خمسين إلى ستين سنتيمترا ووزنه من ستة إلى ثمانية أرطال. ويتم عظمه،ويتضخم رأسه،ويكثف شعره،وتبتدئ فيه وظائف الحياة في الجهاز والرئة والقلب، ويصير نماؤه بالغذاء،وتظهر دورة الدم فيه المعروفة بالدورة الجَنِينِية.
و"الظلمات الثلاث":ظلمة بطن الأم،وظلمة الرحم،وظلمة المشيمة،وهي غشاء من جلد يخلق مع الجنين محيطا به ليقيه وليكون به استقلاله مما ينجر إليه من الأغذية من دورته الدموية الخاصة به دون أمه.وفي ذكر هذه الظلمات تنبيه على إحاطة علم الله تعالى بالأشياء ونفوذ قدرته إليها في أشد ما تكون فيه من الخفاء.
وانتصب {خَلْقاً} على المفعولية المطلقة المبينة للنوعية باعتبار وصفه بأنه {مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} ،ويتعلق قوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} بـ {يَخْلُقُكُمْ} .
وقرأ الجمهور {أُمَّهَاتُكُمْ} بضم الهمزة وفتح الميم في حالي الوصل والوقف. وقرأه حمزة في حال الوصل بكسر الهمزة إتباعا لكسرة نون {بُطُونِ} وبكسر الميم إتباعا لكسر الهمزة.وقرأه الكسائي بكسر الميم في حال الوصل مع فتح الهمزة.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}
بعد أن أجري على اسم الله تعالى من الأخبار والصفات القاضية بأنه المتصرف في الأكوان كلها: جواهرها وأعراضها،ظاهرها وخفيها،ابتداء من قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الزمر:5]، ما يرشد العاقل إلى أنه المنفرد بالتصرف المستحق العبادة المنفردة بالإلهية أعقب ذلك باسم الإشارة للتنبيه على أنه حقيق بما يرد بعده من أجل تلك التصرفات والصفات.والجملة فذلكة ونتيجة أنتجتها الأدلة السابقة ولذلك فصلت.
واسم الإشارة لتمييز صاحب تلك الصفات عن غيره تمييزا يفضي إلى ما يرد بعد اسم الإشارة على نحو ما قرر في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة[5].
والمعنى:ذلكم الذي خلق وسخر وأنشأ الناس والأنعام وخلق الإنسان أطوارا هو الله،فلا تشركوا معه غيره إذ لم تبق شبهة تعذر أهل الشرك بشركهم،أي ليس شأنه بمشابه

حال غيره من آلهتكم قال تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} [الرعد:16].
والإتيان باسم العلَم لإحضار المسمى في الأذهان باسم مختص زيادة في البيان لأن حال المخاطبين نزل منزلة حال من لم يعلم أن فاعل تلك الأفعال العظيمة هو الله تعالى.
واسم الجلالة خبر عن اسم الإشارة. وقوله: {رَبُّكُمْ} صفة لاسم الجلالة.
ووصفه بالربوبية تذكير لهم بنعمة الإيجاد والإمداد وهو معنى الربوبية، وتوطئة للتسجيل عليهم بكفران نعمته الآتي في قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7].
وجملة {لَهُ الْمُلْكُ} خبر ثان عن اسم الإشارة.
والملك:أصله مصدر ملك،وهو مثلث الميم إلا أن مضمون الميم خصه الاستعمال بملك البلاد ورعاية الناس،وفيه جاء قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26]، وصاحبه:ملك،بفتح الميم وكسر اللام،وجمعه:ملوك.
وتقديم المجرور لإفادة الحصر الادعائي،أي الملك لله لا لغيره،وأما ملك الملوك فهو لنقصه وتعرضه للزوال بمنزلة العدم،كما تقدم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2]،وفي حديث القيامة:"ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض"،فالإلهية هي الملك الحق،ولذلك كان ادعاؤهم شركاء للإله الحق خطأ، فكان الحصر الادعائي لإبطال ادعاء المشركين.
وجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} بيان لجملة الحصر في قوله: {لَهُ الْمُلْكُ} .وفرع عليه استفهام إنكاري عن انصرافهم عن توحيد الله تعالى،ولما كان الانصراف حالة استفهم عنها بكلمة {أَنَّى} التي هي بمعنى "كيف" كقوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام:101].
والصرف:الإبعاد عن شيء،والمصروف عنه هنا محذوف، تقديره: عن توحيده، بقرينة قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .

وجعلهم مصروفين عن التوحيد ولم يذكر لهم صارفا،فجاء في ذلك بالفعل المبني للمجهول ولم يقل لهم: فأنى تنصرفون،نعيا عليهم بأنهم كالمقودين إلى الكفر غير المستقلين بأمورهم يصرفهم الصارفون، يعني أئمة الكفر أو الشياطين الموسوسين لهم.وذلك إلهاب لأنفسهم ليكفوا عن امتثال أيمتهم الذين يقولون لهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت:26]،عسى أن ينظروا بأنفسهم في دلائل الوحدانية المذكورة لهم.
والمعنى:فكيف يصرفكم صارف عن توحيده بعدما علمتم من الدلائل الآنفة.والمضارع هنا مراد منه زمن الاستقبال بقرينة تفريعه على ما قبله من الدلائل.
[7] {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}
أتبع إنكار انصرافهم عن توحيد الله بعد ما ظهر على ثبوته من الأدلة،بأن أعلموا بأن كفرهم إن أصروا عليه لا يضر الله وإنما يضر أنفسهم.وهذا شروع في الإنذار والتهديد للكافرين ومقابلته بالترغيب والبشارة للمؤمنين فالجملة مستأنفة واقعة موقع النتيجة لما سبق من إثبات توحيد الله بالإلهية.
فجملة {إِنْ تَكْفُرُوا} مبينة لإنكار انصرافهم عن التوحيد،أي إن كفرتم بعد هذا الزمن فاعلموا أن الله غني عنكم.ومعناه:غني عن إقراركم له بالوحدانية،أي غير مفتقر له.وهذا كناية عن كون طلب التوحيد منهم لنفعهم ودفع الضر عنهم لا لنفع الله،وتذكيرهم بهذا ليقبلوا على النظر من أدلة التوحيد.والخبر مستعمل كناية في تنبيه المخاطب على الخطأ من فعله.
وقوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} اعتراض بين الشرطين لقصد الاحتراس من أن يتوهم السامعون أن الله لا يكترث بكفرهم ولا يعبأ به فيتوهموا أنه والشكر سواء عنده،ليتأكد بذلك معنى استعمال الخبر في تنبيه المخاطب على الخطأ.وبهذا تعين أن يكون المراد من قوله: {لِعِبَادِهِ} العباد الذين وجه الخطاب إليهم في قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} ،وذلك جري على أصل استعمال اللغة لفظ العباد، كقوله: {وَيَوْمَ نحْشُرُهُمْ

وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} 1 [الفرقان:17]الآية،وإن كان الغالب في القرآن في لفظ العباد المضاف إلى السم الله تعالى أو ضميره أن يطلق على خصوص المؤمنين والمقربين،وقرينة السياق ظاهرة هنا ظهورا دون ظهورها في قوله: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [الفرقان:17].
والرضى حقيقته:حالة نفسانية تعقب حصول ملائم مع ابتهاج به،وهو على التحقيق فيه معنى ليس في معنى الإرادة لما فيه من الاستحسان والابتهاج ويعبر عنه بترك الاعتراض،ولهذا يقابل الرضى بالسخط،وتقابل الإرادة بالإكراه،والرضى آئل إلى معنى المحبة.
والرضى يترتب عليه نفاسة المرضي عند الراضي وتفضيله واختياره،فإذا أسند الرضى إلى الله تعالى تعين أن يكون المقصود لازم معناه الحقيقي لأن الله منزه عن الانفعالات،كشأن إسناد الأفعال والصفات الدالة في اللغة على الانفعالات مثل:الرحمن والرؤوف،وإسناد الغضب والفرح والمحبة، فيؤول الرضى بلازمه من الكرامة والعناية والإثابة إن عدي إلى الناس،ومن النفاسة والفضل إن عدي إلى أسماء المعاني.وقد فسره صاحب "الكشاف" بالاختيار في قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} في سورة العقود[3].
وفعل الرضى يعدي في الغالب بحرف "عن"،فتدخل على اسم عين لكن باعتبار معنى فيها هو موجب الرضى.وقد يعدى بالباء فيدخل غالبا على اسم معنى نحو:رضيت بحكم فلان،ويدخل على اسم ذات باعتبار معنى يدل عليه تمييز بعده نحو:رضيت بالله ربا،أو نحوه مثل {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة:38]،أو قرينة مقام كقول قريش في وضع الحجر الأسود:هذا محمد قد رضينا به،أي رضينا به حكما إذ هم قد اتفقوا على تحكيم أول داخل.
ويعدى بنفسه،ولعله يراعي فيه التضمين،أو الحذف والإيصال،فيدخل غالبا على اسم معنى نحو: رضيت بحكم فلان بمعنى:أحببت حكمه.وفي هذه الحالة قد يعدى إلى مفعول ثان بواسطة لام الجر نحو: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة3]،أي رضيته لأجلكم وأحببته لكم،أي لأجلكم،أي لمنفعتكم وفائدتكم.وفي هذا التركيب مبالغة في التنويه بالشيء المرضي لدى السامع حتى كأن المتكلم يرضاه لأجل السامع.
ـــــــ
1 في المطبوعة: {ويوم نحشرهم جميعاً فيقول} وهذا خطأ.

فإذا كان قوله: {لِعِبَادِهِ} عاما غير مخصوص وهو من صيغ العموم ثار في الآية إشكال بين المتكلمين في تعلق إرادة الله تعالى بأفعال العباد إذ من الضروري أن من عباد الله كثيرا كافرين،وقد أخبر الله تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر،وثبت بالدليل أن كل واقع هو مراد الله تعالى إذ لا يقع في ملكه إلا ما يريد فأنتج ذلك بطريقة الشكل الثالث أن يقال:كفر الكافر مراد الله تعالى لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]ولا شيء من الكفر بمرضي الله تعالى لقوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ،ينتج القياس بعض ما أراد الله ليس بمرضي له فتعين أن تكون الإرادة والرضى حقيقتين مختلفتين وأن يكون مختلفتين وأن يكون لفظاهما غير مترادفين،ولهذا قال الشيخ أبو الحسن الأشعري:"إن الإرادة غير الرضى،والرضى غير الإرادة والمشيئة،فالإرادة والمشيئة بمعنى واحد والرضى والمحبة والاختيار بمعنى واحد"،وهذا حمل لهذه الألفاظ القرآنية على معان يمكن معها الجمع بين الآيات قال التفتزاني: "وهذا مذهب أهل التحقيق".
وينبني عليها القول في تعلق الصفات الإلهية بأفعال العباد فيكون قوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} راجعا إلى خطاب التكاليف الشرعية،وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]راجعا إلى تعلق الإرادة بالإيجاد والخلق.ويتركب من مجموعهما ومجموع نظائر كل منهما الاعتقاد بأن للعباد كسبا في أفعالهم الاختيارية وأن الله تتعلق أرادته بخلق تلك الأفعال الاختيارية عند توجه كسب العبد نحوها، فالله خالق لأفعال العبد غير مكتسب لها.والعبد مكتسب غير خالق،فإن الكسب عند الأشعري هو الاستطاعة المفسرة عنده بسلامة أسباب الفعل وآلاته،وهي واسطة بين القدرة والجبر، أي هي دون تعلق القدرة وفوق تسخير الجبر جمعا بين الأدلة الدينية الناطقة بمعنى:أن الله على كل شيء قدير،وأنه خالق كل شيء،وبين دلالة الضرورة على الفرق بين حركة المرتعش وحركة الماشي، وجمعا بين أدلة عموم القدرة وبين توجيه الشريعة خطابها للعباد بالأمر بالإيمان والأعمال الصالحة، والنهي عن الكفر والسيئات وترتيب الثواب والعقاب.
وأما الذين رأوا الاتحاد بين معاني الإرادة والمشيئة والرضى وهو قول كثير من أصحاب الأشعري وجميع الماتريدية فسلكوا في تأويل الآية محمل لفظ {لِعِبَادِهِ} على العام المخصوص،أي لعباده المؤمنين واستأنسوا لهذا المحمل بأنه الجاري على غالب استعمال القرآن في لفظة العباد لاسم الله،أو ضميره كقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6]،قالوا:فمن كفر فقد أراد الله كفره ومن آمن فقد أراد الله إيمانه،والتزم

كلا الفريقين الأشاعرة والماتريدية أصله في تعلق إرادة الله وقدرته بأفعال العباد الاختيارية المسمى بالكسب ولم يختلفا إلا في نسبة الأفعال للعباد:أهي حقيقية أم مجازية،وقد عد الخلاف في تشبيه الأفعال بين الفريقين لفظيا.
ومن العجيب تهويل الزمخشري بهذا القول إذ يقول:"ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت الله ما نفاه عن ذاته من الرضى بالكفر فقال:هذا من العام الذي أريد به الخاص الخ"،فكان آخر كلامه ردا لأوله وهل يعد التأويل تضليلا أم هل يعد العام المخصوص بالدليل من النادر القليل.
وأما المعتزلة فهم بمعزل عن ذلك كله لأنهم يثبتون القدرة للعباد على أفعالهم وأن أفعال العباد غير مقدورة لله تعالى ويحملون ما ورد في الكتاب من نسبة أفعال من أفعال العباد إلى الله أو إلى قدرته أنه على معنى أنه خالق أصولها وأسبابها،ويحملون ما ورد من نفي ذلك كما في قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} على حقيقته ولذلك أوردوا هذه الآية للاحتجاج بها.وقد أوردها إمام الحرمين في "الإرشاد" في فصل حشر فيه ما استدل به المعتزلة من ظواهر الكتاب.
وقوله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} عطف على جملة {إِنْ تَكْفُرُوا} والمعنى:وإن تشكروا بعد هذه الموعظة فتعلقوا عن الكفر وتشكروا الله بالاعتراف له بالوحدانية والتنزيه يرض لكم الشكر،أي يجازيكم بلوازم الرضى.والشكر يتقوم من اعتقاد وقول وعمل جزاء على نعمة حاصلة للشاكر من المشكور.والضمير المنصوب في قوله: {يَرْضَهُ} عائد إلى المتصيد من أفعال إن تشكروا.
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
كأن موقع هذه الآية أنه لما ذكر قبلها أن في المخاطبين كافرا وشاكرا وهم في بلد واحد بينهم وشائج القرابة والولاء،فربما تحرج المؤمنين من أن يمسهم إثم من جراء كفر أقربائهم وأوليائهم،أو أنهم خشوا أن يصيب الله الكافرين بعذاب في الدنيا فيلحق منه القاطنين معهم بمكة فأنبأهم الله بأن كفر أولئك لا ينقص إيمان هؤلاء وأراد اطمئنانهم أنفسهم.
وأصل الوزر،بجر الواو:الثقل،وأطلق على الإثم لأنه يلحق صاحبه تعب كتعب حامل الثقل.ويقال: وزر بمعنى حمل الوزر،بمعنى كسب الإثم.وتأنيث {وَازِرَةٌ} و {أُخْرَى} باعتبار إرادة معنى النفس في قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة:48].

والمعنى:لا تحمل نفس وزر نفس أخرى،أي لا تغني نفس عن نفس شيئا من إثمها فلا تطمع نفس بإعانة ذويها وأقربائها،وكذلك لا تخشى نفس صالحة أن تؤاخذ بتبعة نفس أخرى من ذويها أو قرابتها.وفي هذا تعريض بالمتاركة وقطع اللجاج مع المشركين وأن قصارى المؤمنين أن يرشدوا الضلال لا أن يلجئوهم إلى الإيمان،كما تقدم في آخر سورة الأنعام.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
{ثم} للترتيبين الرتبي والتراخي،أي وأعظم من كون الله غنيا عنكم أنه أعد لكم الجزاء على كفركم وسترجعون إليه،وتقدم نظيرها في آخر سورة الأنعام.
وإنما جاء في آية[الأنعام:164] {بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} لأنها وقعت إثر آيات كثيرة تضمنت الاختلاف بين أحوال المؤمنين وأحوال المشركين ولم يجيء مثل ذلك هنا،فلذلك قيل هنا: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ،أي من كفر من كفر وشكر من شكر.
والإنباء:مستعمل مجازا في الإظهار الحاصل به العلم،ويجوز أن يكون مستعملا في حقيقة الإخبار بأن يعلن لهم بواسطة الملائكة أعمالهم،والمعنى:أنه يظهر لكم الحق لا مرية فيه أو يخبركم به مباشرة،وتقدم بيانه في آخر الأنعام،وفيه تعريض بالوعد والوعيد.
وجملة {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليل لجملة {يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لأن العليم بذات الصدور لا يغادر شيئا إلا علمه فإذا أنبأ بأعمالهم كان إنباؤه كاملا.
وذات:صاحبة،مؤنث "ذو" صاحب صفة لمحذوف تقديره الأعمال،أي بالأعمال صاحبة الصدور، أي المستقرة في النوايا فعبر بـ {الصُّدُورِ} عما يحل بها،والصدور مراد بها القلوب المعبر بها عما به الإدراك والعزم،وتقدم في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43].
[8] {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}
{وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}

هذا مثال لتقلب المشركين بين إشراكهم مع الله غيره في العبادة،وبين إظهار احتياجهم إليه،فذلك عنوان على مبلغ كفرهم وأقصاه.والجملة معطوفة على جملة {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [الزمر:6]الآية لاشتراك الجملتين في الدلالة على أن الله منفرد بالتصرف مستوجب للشكر،وعلى أن الكفر به قبيح،وتتضمن الاستدلال على وحدانية إلهية بدليل من أحوال المشركين به فإنهم إذا مسهم الضر لجأوا إليه وحده،وإذا أصابتهم نعمة أعرضوا عن شكره وجعلوا له شركاء.
فالتعريف في {الْأِنْسَانَ} تعريف الجنس ولكن عمومه هنا عموم عرفي لفريق من الإنسان وهم أهل الشرك خاصة لأن قوله: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً} لا يتفق مع حال المؤمنين.
والقول بأن المراد:انسان معين وأنه عتبة بن ربيعة،أو أبو جهل،خروج عن مهيع الكلام،وإنما هذان وأمثالهما من جملة هذا الجنس.وذكر الإنسان إظهار في مقام الإضمار لأن المقصود به المخاطبون بقوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى قوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزمر:7 , 6]،فكان مقتضى الظاهر أن يقال:وإذا مسكم الضر دعوتم ربكم الخ،فعدل إلى الإظهار لما في معنى الإنسان من مراعاة ما في الإنسانية من التقلب والاضطراب إلا من عصمة الله بالتوفيق كقوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم:66]،وقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3]وغير ذلك ولأن في اسم الإنسان مناسبة مع النسيان الآتي في قوله: {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} . وتقدم نظير لهذه الآية في قوله: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} في سورة الروم[33].
والتخويل:الإعطاء والتمليك دون قصد عوض.وعينه واو لا محالة.وهو مشتق من الخول بفتحتين وهو اسم للعبيد والخدم،ولا التفات إلى فعل خال بمعنى:افتخر،فتلك مادة أخرى غير ما اشتق منه فعل خول.
والنسيان:ذهول الحافظة عن الأمر المعلوم سابقا.
وما صدق {مَا} في قوله: {مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} هو الضر،أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه،أي إلى كشفه عنه،ومفعول {يَدْعُو} محذوف دل عليه قوله: {دَعَا رَبَّهُ} ،وضمير {إِلَيْهِ} عائد إلى {مَا} ،أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه، أي إلى كشفه.ويجوز أن يكون {مَا} صادقا على الدعاء كما تدل عليه الصلة ويكون الضمير المجرور بـ"إلى" عائدا إلى {رَبُّهُ} ،أي نسي الدعاء،وضُمِّن الدعاء معنى الابتهال

والتضرع فعدي بحرف "إلى".وعائد الصلة محذوف دل عليه فعل الصلة تفاديا من تكرر الضمائر.والمعنى:نسي عبادة الله والابتهال إليه.
والأنداد:جمع نِدّ بكر النون،وهو الكفء،أي وزاد على نسيان ربه فجعل له شركاء.
واللام في قوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} لام العاقبة،أي لام التعليل المجازي لأن الإضلال لما كان نتيجة الجعل جاز تعليل الجعل به كأنه هو العلة للجاعل.والمعنى:وجعل لله أندادا فضل عن سبيل الله.
وقرأ الجمهور {لِيُضِلَّ} بضم الياء،أي ليضل الناس بعد أن أضل نفسه إذ لا يضل الناس إلا ضال. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بفتح الياء،أي ليضل هو،أي الجاعل وهو إذا ضل أضل الناس.
{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}
استئناف بياني لأن ذكر حالة الإنسان الكافر المعرض عن شكر ربه يثير وصفها سؤال السامع عن عاقبة هذا الكافر،أي قل يا محمد للإنسان الذي جعل لله أندادا،أي قل لكل واحد من ذلك الجنس، أو روعي في الإفراد لفظ الإنسان.والتقدير:قل تمتعوا بكفركم قليلا إنكم من أصحاب النار.وعلى مثل هذين الاعتبارين جاء إفراد كاف الخطاب بعد الخبر عن الإنسان في قوله تعالى: {يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} في سورة القيامة[10ـ12].
والتمتع:الانتفاع الموقت،وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة[الأعراف:24].
والباء في {بِكُفْرِكَ} ظرفية أو للملابسة وليست لتعدية فعل التمتع.ومتعلق التمتع محذوف دل عليه سياق التهديد.والتقدير:تمتع بالسلامة من العذاب في زمن كفرك أو متكسبا بكفرك تمتعا قليلا فأنت آئل إلى العذاب لأنك من أصحاب النار.
ووصف التمتع بالقليل لأن مدة الحياة الدنيا قليل بالنسبة إلى العذاب في الآخرة،وهذا كقوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38].وصيغة الأمر في قوله: {تَمَتَّعْ} مستعملة في الإمهال المراد منه الإنذار والوعيد.
وجملة {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} بيان للمقصود من جملة {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} وهو الإنذار بالمصير إلى النار بعد مدة الحياة.و {من} للتبعيض لأن المشركين بعض الأمم

والطوائف المحكوم عليها بالخلود في النار.
وأصحاب النار:هم الذين لا يفارقونها فإن الصحبة تشعر بالملازمة،فأصحاب النار:المخلدون فيها.
[9] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}
قرأ نافع وابن كثير وحمزة وحدهم {أَمَّنْ} بتخفيف الميم على أن الهمزة دخلت على "من" الموصولة فيجوز أن تكون الهمزة همزة استفهام و"من" مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الكلام قبله من ذكر الكافر في قوله: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً} إلى قوله: {مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8].والاستفهام إنكاري والقرينة على إرادة الإنكار تعقيبه بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} لظهور أن {هل} فيه للاستفهام الإنكاري وبقرينة صلة الموصول.تقديره:أمن هو قانت أفضل أم من هو كافر? والاستفهام حينئذ تقريري ويقدر له معادل محذوف دل عليه قوله عقبه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
وجعل الفراء الهمزة للنداء و {مَنْ هُوَ قَانِتٌ} :النبي صلى الله عليه وسلم،ناداه الله بالأوصاف العظيمة الأربعة لأنها أوصاف له ونداء لمن هم من أصحاب هذه الأوصاف، يعني المؤمنين أن يقولوا: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون،وعليه فإفراد "قل" مراعاة للفظ "من" المنادى.
وقرأ الجمهور {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} بتشديد ميم "مَنْ" على أنه لفظ مركب من كلمتين "أم" و"من" فأدغمت ميم "أم" في ميم "من".وفي معناه وجهان:
أحدهما:أن تكون "أم" معادلة لهمزة استفهام محذوفة مع جملتها دلت عليها "أم" لاقتضائها معادلا.ودل عليها تعقيبه بـ {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين.فالتقدير:أهذا الجاعل لله أندادا الكافر خير أمن هو قانت،والاستفهام حقيقي والمقصود لازمه،وهو التنبيه على الخطأ عند التأمل.
والوجه الثاني:أن تكون "أم" منقطعة لمجرد الإضراب الانتقالي.و"أم" تقتضي استفهاما مقدرا بعدها. ومعنى الكلام:دع تهديدهم بعذاب النار وانتقل بهم إلى هذا

السؤال:الذي هو قانت،وقائم،ويحذر الله ويرجو رحمته.والمعنى:أذلك الإنسان الذي جعل لله أندادا هو قانت الخ،والاستفهام مستعمل في التهكم لظهور أنه لا تتلاقى تلك الصفات الأربع مع صفة جعله لله أندادا.
والقانت:العابد.وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} في سورة [البقرة:283]
والآناء:جمع أَنىً مثل أمعاء ومعى،وأقفاء وقفى،والأنى:الساعة،ويقال أيضا:إنى بكسر الهمزة،كما تقدم في قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} في سورة الأحزاب.وانتصب {آنَاءَ} على الظرف لـ {قَانِتٌ} ،وتخصيص الليل بقنوتهم لأن العبادة بالليل أعون على تمحض القلب لذكر الله،وأبعد على مداخلة الرياء وأدل على إيثار عبادة الله على حظ النفس من الراحة والنوم،فإن الليل أدعى إلى طلب الراحة فإذا آثر المرء العبادة فيه استنار قلبه بحب التقريب إلى الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6]،فلا جرم كان تخصيص الليل بالذكر دالا على أن هذا القانت لا يخلو من السجود والقيام آناء النهار بدلالة فحوى الخطاب قال تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} [المزمل:7]،وبذلك يتم انطباق هذه الصلة على حال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {سَاجِداً وَقَائِماً} حالان مبينان لـ {قَانِتٌ} ومؤكدان لمعناه.وجملة {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} حالان،فالحال الأول والثاني لوصف عمله الظاهر والجملتان اللتان هما ثالث ورابع لوصف عمل قلبه وهو أنه بين الخوف من سيئاته وفلتاته وبين الرجاء لرحمة ربه أن يثيبه على حسناته.وفي هذا تمام المقابلة بين حال المؤمنين الجارية على وفق حال نبيهم صلى الله عليه وسلم وحال أهل الشرك الذين لا يدعون الله إلا في نادر الأوقات،وهي أوقات الاضطرار،ثم يشركون به بعد ذلك،فلا اهتمام لهم إلا بعاجل الدنيا لا يحذرون الآخرة ولا يرجون ثوابها.
والرجاء الخوف من مقامات السالكين،أي أوصافهم الثابتة التي لا تتحول.والرجاء:انتظار ما فيه نعيم وملاءمة للنفس.والخوف:انتظار ما هو مكروه للنفس.والمراد هنا:الملاءمة الأخروية لقوله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} ،أي يحذر عقاب الآخرة فتعين أن الرجاء أيضا المأمول في الآخرة.وللخوف مزيته من زجر النفس عما لا يرضي الله،وللرجاء مزيته من حثها على ما يرضي الله وكلاهما أنيس السالكين.
وإنما ينشأ الرجاء على وجود أسبابه لأنه المرء لا يرجو إلا ما يظنه حاصلا ولا يظن

المرء إلا إذا لاحت له دلائله ولوازمه،لأن الظن ليس بمغالطة والمرء لا يغالط نفسه،فالرجاء يتبع السعي لتحصيل المرجو قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:19]فإن ترقب المرء المنفعة من غير أسبابها فذلك الترقب يسمى غرورا.
وإنما يكون الرجاء أو الخوف ظنا مع تردد في المظنون،أما المقطوع به فهو اليقين واليأس وكلاهما مذموم قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]،وقال: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وقد بسط ذلك حجة الإسلام أبو حامد في كتاب الرجاء والخوف من كتاب الإحياء.ولله در أبي الحسن التهامي إذ يقول:
وإذا رجوتَ المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شَفير هار
وسئل الحسن البصري عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال:"هذا تمن وإنما الرجاء،قوله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} .
وقال بعض المفسرين:"أريد بـ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} أبو بكر"،وقيل:"عمار بن ياسر"،وقيل:"أبو ذر"، وقيل:"ابن مسعود"،وهي روايات ضعيفة ولا جرم أن هؤلاء المعدودين هم من أحق من تصدق عليه هذه الصلة فهي شاملة لهم ولكن محمل الموصول في الآية على تعميم كل من يصدق عليه معنى الصلة.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}
استئناف بياني موقعه كموقع {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} [الزمر:8]أثاره وصف المؤمن الطائع،والمعنى: أعلمهم يا محمد بأن هذا المؤمن العالم بحق ربه ليس سواء للكافر الجاهل بربه.وإعادة فعل {قُلْ} هنا للاهتمام بهذا المقول ولاسترعاء الأسماع إليه.
والاستفهام هنا مستعمل في الإنكار.والمقصود:إثبات عدم المساواة بين الفريقين،وعدم المساواة يكنى به عن التفضيل.والمراد:تفضيل الذين يعلمون على الذين لا يعلمونه،كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} [النساء:95]الآية,فيعرف المفضل بالتصريح كما في آية {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} [النساء:95]أو بالقرينة كما في قوله هنا: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} الخ لظهور أن العلم كمال و لتعقيبه بقوله: {نَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو

الْأَلْبَابِ} . ولهذا كان نفي الاستواء في هذه الآية أبلغ من نفي المماثلة في قول النابغة:
يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم ... وليس جاهل شيء مثل من علما
وفعل {يَعْلَمُونَ} في الموضعين منزل منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول.والمعنى:الذين اتصفوا بصفة العلم،وليس المقصود الذين علموا شيئا معينا حتى يكون من حذف المفعولين اختصارا إذ ليس المعنى عليه،وقد دل على أن المراد الذين اتصفوا بصفة العلم قوله عقبه: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} أي أهل العقول،والعقل والعلم مترادفان،أي لا يستوي الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه وتجري أعمالهم على حسب علمهم،مع الذين لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هي عليه بل تختلط عليهم الحقائق وتجري أعمالهم على غير انتظام،كحال الذين توهموا الحجارة آلهة ووضعوا الكفر موضع الشكر.فتعين أن المعنى:لا يستوي من هو قانت آناء الليل يحذر ربه ويرجوه، ومن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله. وإذ قد تقرر أن الذين جعلوا لله أندادا هم الكفار بحكم قوله {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} ثبت أن الذين لا يستوون معهم هم المؤمنون،أي هم أفضل منهم،وإذ تقرر أن الكافرين من أصحاب النار فقد اقتضى أن المفضلين عليهم هم من أصحاب الجنة.
وعدل عن أن يقول:هل يستوي هذا وذاك،إلى التعبير بالموصول إدماجا للثناء على فريق ولذم فريق بأن أهل الإيمان أهل علم وأهل الشرك أهل جهالة فأغنت الجملة بما فيها من إدماج عن ذكر جملتين، فالذين يعلمون هم أهل الإيمان،قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]والذين لا يعلمون هم أهل الشرك الجاهلون قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64].
وفي ذلك إشارة إلى أن الإيمان أخو العلم لأن كليهما نور ومعرفة حق،وأن الكفر أخو الضلال لأنه والضلال ظلمة وأوهام باطلة.
هذا ووقوع فعل {يَسْتَوِي} في حيز النفي يكسبه عموم النفي لجميع جهات الاستواء.وإذ قد كان نفي الاستواء كناية عن الفضل آل إلى إثبات الفضل للذين يعلمون على وجه العموم،فإنك ما تأملت مقاما اقتحم فيه عالم وجاهل إلا وجدت للعالم فيه من السعادة ما لا تجده ولنضرب لذلك مثلا بمقامات ستة هي جل وظائف الحياة الاجتماعية.
المقام الأول:الاهتداء إلى الشيء المقصود نواله بالعمل به وهو مقام العمل،

فالعالم بالشيء يهتدي إلى طرقه فيبلغ المقصود بيسر وفي قرب ويعلم ما هو من العمل أولى بالإقبال عنه،وغير العالم به يضل مسالكه ويضيع زمانه في طلبه،فإما أن يخيب في سعيه وإما أن يناله بعد أن تتقاذفه الأرزاء وتتنابه النوائب وتختلط عليه الحقائق فربما يتوهم أنه بلغ المقصود حتى إذا انتبه وجد نفسه في غير مراده،ومثله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39].ومن أجل هذا شاع تشبيه العلم بالنور والجهل بالظلمة.
والمقام الثاني :ناشئ عن الأول وهو مقام السلامة من نوائب الخطأ ومزلات المذلات،فالعالم يعصمه علمه من ذلك والجاهل يريد السلامة فيقع في الهلكة،فإن الخطأ قد يوقع في الهلاك من حيث طلب الفوز ومثله قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة:16]إذ مثلهم بالتاجر خرج يطلب فوائد الربح من تجارته فآب بالخسران ولذلك يشبه سعي الجاهل بخبط العشواء،ولذلك لم يزل أهل النصح يسهلون لطلبة العلم الوسائل التي تقيهم الوقوع فيما لا طائل تحته من أعمالهم.
المقام الثالث :مقام أنس الانكشاف فالعالم تتميز عنده المنافع والمضار وتنكشف له الحقائق فيكون مأنوسا بها واثقا بصحة إدراكه وكلما انكشفت له حقيقة كان كمن لقي أنيسا بخلاف غير العالم بالأشياء فإنه في حيرة من أمره حين تختلط عليه المتشابهات فلا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع،فإن اجتهد لنفسه خشي الزلل وإن قلد خشي زلل مقلده،وهذا المعنى يدخل تحت قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20].
المقام الرابع :مقام الغنى عن الناس بمقدار العلم والمعلومات فكلما ازداد علم العالم قوي غناه عن الناس في دينه ودنياه.
المقام الخامس: الالتذاذ بالمعرفة،وقد حصر فخر الدين الرازي اللذة في المعارف وهي لذة لا تقطعها الكثرة.وقد ضرب الله مثلا بالظل إذ قال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:19ـ20]فإن الجلوس في الظل يلتذ به أخل البلاد الحارة.
المقام السادس :صدور الآثار النافعة في مدى العمر مما يكسب ثناء الناس في العاجل وثواب الله في الآجل.فإن العالم مصدر الإرشاد والعلم دليل على الخير وقائد إليه قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].والعلم على مزاولته

ثواب جزيل،قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده" .وعلى بثه مثل ذلك،قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث:صدقة جارية، وعلم بثه في الصدور،وولد صالح يدعو له بخير" .
فهذا التفاوت بين العالم والجاهل في صوره التي ذكرناها مشمول لنفي الاستواء الذي في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وتتشعب من هذه المقامات فروع جمة وهي على كثرتها تنضوي تحت معنى هذه الآية.
وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} واقع موقع التعليل لنفي الاستواء بين العالم وغيره المقصود منه تفضيل العالم والعلم، فإن كلمة "إنما" مركبة من حرفين "إن" و "ما" الكافة أو النافية فكانت "إن" فيه مفيدة لتعليل ما قبلها مغنية غناء فاء التعليل إذ لا فرق بين "إن" المفردة "وإن" المركبة مع "ما"،بل أفادها التركيب زيادة تأكيد وهو نفي الحكم الذي أثبتته "إن" عن غير من أثبتته له.وقد أخذ في تعليل ذلك جانب إثبات التذكير للعالمين،ونفيه من غير العالمين،بطريق الحصر لأن جانب التذكر هو جانب العمل الديني وهو المقصد الأهم في الإسلام لأن به تزكية النفس والسعادة الأبدية قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" .
والألباب:العقول،وأولو الألباب:هم أهل العقول الصحيحة،وهم أهل العلم.فلما كان أهل العلم هم أهل التذكر دون غيرهم أفاد عدم استواء الذين يعلمون والذين لا يعلمون.فليس قوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} كلاما مستقلا.
{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
لما أجري الثناء على المؤمنين بإقبالهم على عبادة الله في أشد الآناء وبشدة مراقبتهم إياه بالخوف والرجاء وبتمييزهم بصفة العلم والعقل والتذكر،بخلاف حال المشركين في ذلك كله،أتبع ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإقبال على خطابهم للاستزادة من ثباتهم ورباطة جأشهم،والتقدير: قل للمؤمنين،بقرينة قوله: {يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ.
وابتداء الكلام بالأمر بالقول للوجه الذي تقدم في نظيره آنفا،وابتداء المقول بالنداء وبوصف العبودية المضاف إلى ضمير الله تعالى،كل ذلك يؤذن بالاهتمام سيقال وبأنه

سيقال لهم عن ربهم،وهذا وضع لهم في مقام المخاطبة من الله وهي درجة عظيمة.وحذفت ياء المتكلم المضاف إليها {عباد} وهو استعمال كثير في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم.
وقرأه العشرة {يَا عِبَادِ} بدون ياء في الوصل والوقف كما في إبراز المعاني لأبي شامة وكما في الدرة المضيئة في القراءات الثلاث المتممة للعشر لعلي الضباع المصري،بخلاف قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53]الآتي في هذه السورة،فالمخالفة بينهما مجرد تفنن.وقد يوجه هذا التخالف بأن المخاطبين في هذه الآية هم عباد الله المتقون،فانتسابهم إلى الله مقرر فاستغني عن إظهار ضمير الجلالة في إضافتهم إليه،بخلاف الآية الآتية،فليس في كلمة {يَا عِبَادِ} من هذه الآية إلا وجه واحد باتفاق العشرة ولذلك كتبها كتاب المصحف بدون ياء بعد الدال.
وما وقع في تفسير ابن عطية من قوله:"وقرأ جمهور القراء {قُلْ يَا عِبَادِيَ} بفتح الياء.وقرأ أبو عمرو أيضا وعاصم والأعشى وابن كثير {يَا عِبَادِ} بغير ياء في الوصل" اهـ.سهو،وإنما أختلف القراء في الآية {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} في هذه السورة[53] فإنها ثبتت فيه ياء المتكلم فاختلفوا كما سنذكره.
والأمر بالتقوى مراد به الدوام على المأمور به لأنهم متقون من قبل،وهو يشعر بأنهم قد نزل بهم من الأذى في الدين ما يخشى عليهم معه أن يقصروا في تقواهم.وهذا الأمر تمهيد لما سيوجه إليهم من أمرهم بالهجرة للسلامة من الأذى في دينهم، وهو ما عرض به في قوله تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} .
وفي استحضارهم بالموصول وصلته إيماء إلى أن تقرر إيمانهم مما يقتضي التقوى والامتثال للمهاجرة. وجملة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} وما عطف عليها استئناف بياني لأن إيراد الأمر بالتقوى للمتصفين بها يثير سؤال سائل عن المقصود من ذلك الأمر فأريد بيانه بقوله: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} ، ولكن جعل قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} تمهيدا له لقصد تعجيل التكافل لهم بموافقة الحسنى في هجرتهم.ويجوز أن تكون جملة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} مسوقة مساق التعليل للأمر بالتقوى الواقع بعدها.
والمراد بالذين أحسنوا:الذين اتقوا الله وهو المؤمنون الموصوفون بما تقدم من قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر:9]الآية،لأن تلك الخصال تدل على الإحسان المفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ،فعدل عن التعبير بضمير

الخطاب بأن يقال:لكم في الدنيا حسنة،إلى الإتيان باسم الموصول الظاهر وهو {الِذِينَ أَحْسَنُوا} ليشمل المخاطبين وغيرهم ممن ثبتت له هذه الصلة.وذلك في معنى:اتقوا ربكم لتكونوا محسنين فإن للذين أحسنوا حسنة عظيمة فكونوا منهم.وتقديم المسند في {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} للاهتمام بالمحسن إليهم وأنهم أحرياء بالإحسان.
والمراد بالحسنة الحالة الحسنة،واستغني بالوصف عن الموصوف على حد قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة:201].وقوله في عكسه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40].وتوسيط قوله: {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} بين {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا } وبين {حَسَنَةٌ} نظم مما اختص به القرآن في مواقع الكلم لإكثار المعاني التي يسمح بها النظم، وهذا من طرق إعجاز القرآن.فيجوز أن يكون قوله: {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} حالا من {حَسَنَةٌ} قدم على صاحب الحال للتنبيه من أول الكلام على أنها جزاؤهم في الدنيا،لقلة خطور ذلك في بالهم ضمن الله لهم تعجيل الجزاء الحسن في الدنيا قبل ثواب الآخرة على نحو ما أثنى على من يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} .وقد جاء في نظير هذه الجملة في سورة النحل[30]قوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} ،أي خير من أمور الدنيا،ويكون الاقتصار على حسنة الدنيا في هذه الآية لأنها مسوقة لتثبيت المسلمين على ما يلاقونه من الأذى، ولأمرهم بالهجرة عن دار الشرك والفتنة في الدين،فأما ثواب الآخرة فأمر مقرر عندهم من قبل ومومى إليه بقوله بعده: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يوفون أجرهم في الآخرة.قال السدي:"الحسنة في الدنيا الصحة والعافية".ويجوز أن يكون في قوله "في الدنيا" متعلقا بفعل {أَحْسَنُوا} على أنه ظرف لغوي،أي فعلوا الحسنات في الدنيا فيكون المقصود التنبيه على المبادرة بالحسنات في الحياة الدنيا قبل الفوات والتنبيه على عدم التقصير في ذلك.
وتنوين {حَسَنَةٌ} للتعظيم وهو بالنسبة لحسنة الآخرة للتعظيم الذاتي،وبالنسبة لحسنة الدنيا تعظيم وصفي،أي حسنة أعظم من المتعارف،وأياما كان فاسم الإشارة في قوله: {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} لتمييز المشار إليه وإحضاره في الأذهان.وعليه فالمراد بـ {حَسَنَةٌ} يحتمل حسنة الآخرة ويحتمل حسنة الدنيا،كما في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} في سورة البقرة[201].وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة النحل قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} ،فألحق بها ما قرر هنا.

وعطف عليه {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} عطف المقصود على التوطئة.وهو خبر مستعمل في التعريض بالحث على الهجرة في الأرض فرارا بدينهم من الفتن بقرينة أن كون الأرض واسعة أمر معلوم لا يتعلق الغرض بإفادته وإنما كني به عن لازم معناه،كما قال إياس بن قبيصة الطائي:
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة ... فهل تعجزنِّي بقعة من بقاعها
والوجه أن تكون جملة {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} معترضة والواو اعتراضية لأن تلك الجملة جرت مجرى المثل.
والمعنى:إن الله وعدهم أن يلاقوا حسنة إذا هم هاجروا من ديار الشرك.وليس حسن العيش ولا ضده مقصورا على مكان معين وقد وقع التصريح بما كني عنه هنا في قوله تعالى: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97].
والمراد:الإيماء إلى الهجرة إلى الحبشة.قال ابن عباس في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} :"يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة".ونكتة الكناية هنا إلقاء الإشارة إليهم بلطف وتأنيس دون صريح الأمر لما في مفارقة الأوطان من الغم على النفس،وأما الآية التي في سورة النساء فإنها حكاية توبيخ الملائكة لمن لم يهاجروا.
وموقع جملة {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} موقع التذييل لجملة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} وما عطف عليها لأن مفارقة الوطن والتغرب والسفر مشاق لا يستطيعها إلا صابر،فذيل الأمر به بتعظيم أجر الصابرين ليكون إعلاما للمخاطبين بأن أجرهم على ذلك عظيم لأنهم حينئذ من الصابرين الذين أجرهم بغير حساب.
والصبر:سكون النفس عند حلول الآلام والمصائب بأن لا تضجر ولا تضطرب لذلك،وتقدم عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} في سورة البقرة[155].وصيغة العموم في قوله: {الصَّابِرِينَ} تشمل كل من صبر على مشقة في القيام بواجبات الدين وامتثال المأمورات واجتناب المنهيات،ومراتب هذا الصبر متفاوتة وبقدرها يتفاوت الأجر.
والتوفية:إعطاء الشيء وافيا،أي تاما.والأجر:الثواب في الآخرة كما هو مصطلح القرآن.
وقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} كناية عن الوفرة والتعظيم لأن الشيء الكثير لا يتصدى لعده،والشيء العظيم لا يحاط بمقداره فإن الإحاطة بالمقدار ضرب من الحساب وذلك

شأن ثواب الآخرة الذي لا يخطر على قلب بشر.
وفي ذكر التوفية وإضافة الأجر إلى ضميرهم تأنيس لهم بأنهم استحقوا ذلك لا منة عليهم فيه وإن كانت المنة لله على كل حال على نحو قوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:25].
والحصر المستفاد من {إنما} منصب على القيد وهو {بِغَيْرِ حِسَابٍ} والمعنى:ما يوفى الصابرون أجرهم إلا بغير حساب،وهو قصر قلب مبني على قلب ظن الصابرين أن أجر صبرهم بمقدار صبرهم،أي أن أجرهم لا يزيد على مقدار مشقة صبرهم.
والهجرة إلى الحبشة كانت سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة.وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأن عمه أبا طالب كان يمنع ابن أخيه من أضرار المشركين ولا يقدر أن يمنع أصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه" ،فخرج معظم المسلمين مخافة الفتنة فخرج ثلاثة وثمانون رجلا وتسع عشرة امرأة سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا. وقد كان أبو بكر الصديق استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له فخرج قاصدا بلاد الحبشة فلقيه ابن الدغِنَة فَصدَّه وجعله في جواره.
ولما تعلقت إرادة الله تعالى بنشر الإسلام في مكة بين العرب لحكمة اقتضت ذلك وعذر بعض المؤمنين فيما لقوه من الأذى في دينهم أذن لهم بالهجرة وكانت حكمته مقتضية بقاء رسوله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المشركين لبث دعوة الإسلام لم يأذن له بالهجرة إلى موطن آخر حتى إذا تم مراد الله من توشج نواة الدين في تلك الأرض التي نشأ فيها رسوله صلى الله عليه وسلم،وأصبح انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بلد آخر أسعد بانتشار الإسلام في الأرض أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة بعد أن هيأ له بلطفه دخول أهلها في الإسلام وكل ذلك جرى بقدر وحكمة ولطف برسوله صلى الله عليه وسلم.
[12,11] {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}
بعد أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب المسلمين بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا} [الزمر:10]أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن يقول قولا يتعين أنه مقول لغير المسلمين.
نقل الفخر عن مقاتل:أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:"ما يحملك على هذا الدين

الذي أتيتنا به،ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى،فأنزل الله {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} .
وحقا فإن إخبار النبي بذلك إذا حمل على صريحه إنما يناسب توجيهه إلى المشركين الذين يبتغون صرفه عن ذلك.ويجوز أن يكون موجها إلى المسلمين الذين أذن الله لهم بالهجرة إلى الحبشة على أنه توجيه لبقائه بمكة لا يهاجر معهم لأن الإذن لهم بالهجرة للأمن على دينهم من الفتن،فلعلهم ترقبوا أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم معهم إلى الحبشة فآذنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله أمره أن يعبد الله مخلصا له الدين،أي أن يوحده في مكة فتكون الآية ناظرة إلى قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:94ـ95]،أي أن الله أمره بأن يقيم على التبليغ بمكة فإنه لو هاجر إلى الحبشة لانقطعت الدعوة وإنما كانت هجرتهم إلى الحبشة رخصة لهم إذ ضعفوا عن دفاع المشركين عن دينهم ولم يرخص ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء قريب من هذه الآية بعد ذكر أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومماته لله،أي فلا يفرق من الموت في سبيل الدين وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام[163,162] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .
فكان قوله: {لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} علة لـ {أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} ،فالتقدير:وأمرت بذلك لأن أكون أول المسلمين،فمتعلق {أُمِرْتُ} محذوف لدلالة قوله: {أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} عليه.
فـ {أَوَّلَ} هنا مستعمل في مجازه فقط إذ ليس المقصود من الأولية مجرد السبق في الزمان فإن ذلك حصل فلا جدوى في الإخبار به،وإنما المقصود أنه مأمور بأن يكون أقوى المسلمين إسلاما بحيث أن ما يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور الإسلام أعظم مما يقوم به كل مسلم كما قال :"إني لأتقاكم لله وأعلمكم به" .
وعطف {وَأُمِرْتُ} الثاني على {أُمِرْتُ} الأول للتنويه بهذا الأمر الثاني ولأنه غاير الأمر الأول بضميمة قيد التعليل فصار ذكر الأمر الأول لبيان المأمور،وذكر الأمر الثاني لبيان المأمور لأجله، ليشير إلى أنه أمر بأمرين عظيمين:أحدهما يشاركه فيه غيره وهو أن يعبد الله مخلصا له الدين،والثاني يختص به وهو أن يعبده كذلك ليكون بعبادته أول المسلمين،أي أمره الله بأن يبلغ الغاية القصوى في عبادة الله مخلصا له الدين،فجعل وجوده متمحضا للإخلاص على أي حال كان كما قال في الآية الأخرى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}

[الأنعام:163,162].
واعلم أنه لما كان الإسلام هو دين الأنبياء في خاصتهم كما تقدم عند قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في سورة البقرة[132]ونظائرها كثيرة،كانت في هذه الآية دلالة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل لشمول لفظ المسلمين للرسل السابقين.
[13] {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
هذا القول متعين لأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورا بأن يواجه به المشركين الذين كانوا يحاولون النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك الدعوة وأن يتابع دينهم.وهما أحد الشقين اللذين وجه الخطاب السابق إليهما،وتعيين كل لما وجه إليه منطو بقرينة السياق وقرينة ما بعده من قوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:15].
وإعادة الأمر بالقول على هذا للتأكيد اهتماما بهذا المقول،وأما على الوجه الثاني من الوجهين المتقدمين في المراد من توجيه المطلب في قوله: {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]الآية فتكون إعادة فعل {قل} لأجل اختلاف المقصودين بتوجيه القول إليهم ن وقد تقدم قول مقاتل:"قال كفار قريش للنبي:"ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى".
[14ـ15] {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}
أمر بأن يعيد التصريح بأنه يعبد الله وحده تأكيدا لقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]،لأهميه،وإن كان مفاد الجملتين واحدا لأنهما معا تفيدان أنه لا يعبد إلا الله تعالى باعتبار تقييد {أَعْبُدَ اللَّهَ} الأول بقيد {مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} وباعتبار تقديم المفعول على {أَعْبُدَ} الثاني فتأكد معنى التوحيد مرتين ليتقرر ثلاث مرات،وتمهيدا لقوله: { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} وهو المقصود.
والفاء في قوله: {فَاعْبُدُوا} الخ لتفريع الكلام الذي بعدها على الكلام قبلها فهو تفريع ذكري.
والأمر في قوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} مستعمل في معنى التخلية،ويعبر عنه بالتسوية.والمقصود التسوية في ذلك عند التكلم فتكون التسوية كناية عن قلة

الاكتراث بفعل المخاطب،أي أن ذلك لا يضرني كقوله في سورة الكهف[29] {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ،أي اعبدوا أي شيء شئتم عبادته من دون الله.وجعلت الصلة هنا فعل المشيئة إيماء إلى أن رائدهم في تعيين معبوداتهم هو مجرد المشيئة والهوى بلا دليل.
{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}
أعقب أمر التسوية في شأنهم بشيء من الموعظة حرصا على إصلاحهم على عادة القرآن،ولوحظ في إبلاغهم هذه الموعظة مقام ما سبق من التخلية بينهم وبين شأنهم جمعا بين الإرشاد وبين التوبيخ، فجيء بالموعظة على طريق التعريض والحديث عن الغائب والمراد المخاطبون.
وافتتح المقول بحرف التوكيد تنبيها على أنه واقع وتعريف {الْخَاسِرِينَ} تعريف الجنس،أي أن الجنس الذين عرفوا بالخسران هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.
وتعريف المسند والمسند إليه من طريق القصر،فيفيد هذا التركيب قصر جنس الخاسرين على الذين خسروا أنفسهم وأهليهم،وهو قصر مبالغة لكمال جنس الخسران في الذين خسروا أنفسهم وأهليهم فخسرا غيرهم كلا خسران،ولهذا يقال في لام التعريف في مثل هذا التركيب إنها دالة على معنى الكمال فليسوا يريدون أن معنى الكمال من معاني لام التعريف.
ولما كان الكلام مسوقا بطريق التعريض بالذين دار الجدال معهم من قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} إلى قوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 7ـ15]،علم أن المراد بالذين خسروا أنفسهم وأهليهم هم الذين جرى الجدال معهم،فأفاد معنى:أن الخاسرين أنتم،إلا أن وجه العدول عن الضمير إلى الموصولية في قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} لإدماج وعيدهم بأنهم يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
ومعنى خسرانهم أنفسهم:أنهم تسببوا لأنفسهم في العذاب في حين حسبوا أنهم سعوا لها في النعيم والنجاح،وهو تمثيل لحالهم في إيقاع أنفسهم في العذاب وهم يحسبون أنهم يلقونها في النعيم،بحال التاجر الذي عرض ماله للنماء والربح فأصيب بالتلف،فأطلق على هذه الهيئة تركيب {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ،وقد تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} في أول سورة الأعراف[9].

وأما خسرانهم أهليهم فهو مثل خسرانهم أنفسهم وذلك أنهم أغروا أهليهم من أزواجهم وأولادهم بالكفر كما أوقعوا أنفسهم فيه فلم ينتفعوا بأهليهم في الآخرة ولم ينفعوهم {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]،وهذا قريب من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6]،فكان خسرانهم خسرانا عظيما.
فقوله: {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} استئناف هو بمنزلة الفذلكة والنتيجة من الكلام السابق لأن وصف {الَّذِينَ خَسِرُوا} بأنهم خسروا أحب ما عندهم وبأنهم الذين انحصر فيهم جنس الخاسرين، يستخلص منه أن خسارتهم أعظم خسارة وأوضحها للعيان،ولذلك أوثرت خسارتهم باسم الخسران الذي هو اسم مصدر الخسارة دال على قوة المصدر والمبالغة فيه.
وأشير إلى العناية والاهتمام بوصف خسارتهم،بأن افتتح الكلام بحرف التنبيه داخلا على اسم الإشارة المفيد تمييز المشار إليه أكمل تمييز،وبتوسط ضمير الفصل المفيد للقصر وهو قصر ادعائي، والقول فيه كالقول في الحصر في قوله: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} .
{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُون}
{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}
بدل اشتمال من جملة {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15]،وخص بالإبدال لأنه أشد خسرانهم عليه لتسلطه على إهلاك أجسامهم.والخسران يشتمل على غير ذلك من الخزي وغضب الله واليأس من النجاة.فضمير {لَهُمْ} عائد إلى مجموع {أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} [الزمر:15].
والظلل:اسم جمع ظلة،وهي شيء مرتفع من بناء أو أعواد مثل الصفة يستظل به الجالس تحته، مشتقة من الظل لأنها يكون لها ظل في الشمس، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} في سورة البقرة[210]،وقوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} في سورة لقمان[32].وهي هنا استعارة للطبقة التي تعلو أهل النار في نار جهنم بقرينة قوله: {مِنَ النَّارِ} ،شبهت بالظلة في العلو والغشيان مع التهكم لأنهم

يتمنون ما يحجب عنهم حر النار فعبر عن طبقات النار بالظلل إشارة إلى أنهم لا واقي لهم من حر النار على نحو تأكيد الشيء بما يشبه ضده،وقوله: {لَهُمْ} ترشيح للاستعارة.
وأما إطلاق الظلل على الطبقات التي تحتهم فهو من باب المشاكلة ولأن الطبقات التي تحتهم من النار تكون ظللا لكفار آخرين لأن جهنم دركات كثيرة.
{ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ}
تذييل للتهديد بالوعيد من قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الزمر:15]الآية، أو استئناف بياني بتقدير سؤال يخطر في نفس السامع لوصف عذابهم بأنه ظل من النار من فوقهم وظلل من تحتهم أن يقول سائل:ما يقع إعداد العذاب لهم في الآخرة بعد فوات تدارك كفرهم? فأجيب بأن الله جعل ذلك العذاب في الآخرة لتخويف الله عباده حين يأمرهم بالاستقامة ويشرع لهم الشرائع ليعلموا أنهم إذا لم يستجيبوا لله ورسله تكون ذلك عاقبتهم.ولما كان وعيد الله خبرا منه ولا يكون إلا صدقا حقق لهم في الآخرة ما توعدهم به في الحياة وتخويف الله به معناه أنه يخوفهم بالإخبار به وبوصفه،أما إذاقتهم إياه فهي تحقيق للوعيد.
ويعلم من هذا بطريق المقابلة جعل الجنة لترغيب عباده في التقوى،إلا أنه طوى ذكره لأن السياق موعظة أهل الشرك فالله جعل الجنة وجهنم إتماما لحكمته ومراده من نظام الحياة الدنيا ليكون الناس فيها على أكمل ما ترتقي إليه النفس الزكية.والظاهر أن الجنة جعلها الله مسكنا لأهل النفوس المقدسة من الملائكة والناس مثل الرسل فلذلك هي مخلوقة من قبل لظهور التكليف،وأما جهنم فيحتمل أنها مقدمة وهو ظاهر حديث:"اشتكت النار إلى ربها فقالت:"أكل بعضي بعضا فأذن لها بنَفَسَيْن نفس في الشتاء ونفس في الصيف".ويحتمل أنها تخلق يوم الجزاء ويتأول الحديث.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ} إشارة إلى ما وصف من الخسران والعذاب بتأويل المذكور.والتخويف مصدر خوفه،إذا جعله خائفا إذا أراه ووصف له شيئا يثير في نفسه الخوف،وهو الشعور بما يؤلم النفس بواسطة إحدى الحواس الخمس.
والعباد المضاف إلى ضمير الجلالة في الموضعين هنا يعم كل عبد من الناس من مؤمن وكافر إذ الجميع يخافون العذاب على العصيان،والعذاب متفاوت وأقصاه الخلود لأهل الشرك،وليس العباد هنا مرادا به أهل القرب لأنه لا يناسب مقام التخويف ولأن

قرينة قوله: {عِبَادَهُ} تدل على أن المنادين جميع العباد، ففرق بينه وبين نحو {يَا عِبَادِي لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الزخرف:68].
{يَا عِبَادِ فَاتَّقُون}
تفريع وتعقيب لجملة {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} لأن التخويف مؤذن بأن العذاب أعد لأهل العصيان فناسب أن يعقب بأمر الناس بالتقوى للتفادي من العذاب.
وقدم النداء على التفريع مع أن مقتضى الظاهر تأخيره عنه كقوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} في سورة البقرة[197] لأن المقام هنا مقام تحذير وترهيب،فهو جدير باسترعاء ألباب المخاطبين إلى ما سيرد من بعد من التفريع على التخويف بخلاف آية البقرة فإنها في سياق الترغيب في إكمال أعمال الحج والتزود للآخرة فلذلك جاء الأمر بالتقوى فيها معطوفا بالواو.
وحذفت ياء المتكلم من قوله: {يَا عِبَادِ} على أحد وجوه خمسة في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم.
[17ـ18] { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}
لما انتهى تهديد المشركين وموعظة الخلائق أجمعين ثني عنان الخطاب إلى جانب المؤمنين فيما يختص بهم من البشارة مقابلة لنذارة المشركين.والجلة معطوفة على جملة {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } [الزمر:15]الآية.
والتعبير عن المؤمنين بـ {الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو {لَهُمُ الْبُشْرَى} ،وهذا مقابل قوله: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:16].
والطاغوت:مصدر أو اسم مصدر طَغا على وزن فَعَلُوت بتحريك العين بوزن رحموت وملكوت. وفي أصله لغتان الواو والياء لقولهم:طغا طُغُوّاً مثل علو،وقولهم:طغوان وطغيان.وظاهر "القاموس" أنه واوي،وإذ كانت لامه حرف علة ووقعت بعدها واو زِنةِ فَعلوت استثقلت الضمة عليها فقدموها على العين ليتأتى قلبها ألفا حيث تحركت وانفتح ما

قبلها فصار طاغوت بوزن فلعوت بتحريك اللام وتاؤه زائدة للمبالغة في المصدر.
ومن العلماء من جعل الطاغوت اسما أعجميا على وزن فاعول مثل جالوت وطالوت وهارون، وذكره في "الإتقان" فيما وقع في القرآن من المعرب وقال:"إنه الكاهن بالحبشية.واستدركه ابن حجر فيما زاده على أبيات ابن السبكي في الأفاظ المعربة الواقعة في القرآن،وقد تقدم ذكره بأخصر مما هنا عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} في سورة النساء[51].
وأطلق الطاغوت في القرآن والسنة على القوي في الكفر أو الظلم،فأطلق على الصنم،وعلى جماعة الأصنام،وعلى رئيس أهل الكفر مثل كعب بن الأشرف.وأما جمعه على طواغيت فذلك على تغليب الاسمية علما بالغلبة إذ جعل الطاغوت لواحد الأصنام وهو قليل،وهو هنا مراد به جماعة الأصنام وقد أجري عليه ضمير المؤنث في قوله: {أَنْ يَعْبُدُوهَا} باعتبار أنه جمع لغير العاقل،وأجري عليه ضمير جماعة الذكور في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} في سورة البقرة[257]باعتبار أنه وقع خبرا عن الأولياء وهو جمع مذكر،وباعتبار تنزيلها منزلة العقلاء في زعم عبادها.و {أَنْ يَعْبُدُوهَا} بدل من {الطَّاغُوتُ} بدل اشتمال.
والإنابة:التوبة وتقدمت في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} في سورة هود[75].والمراد بها هنا التوبة من كل ذنب ومعصية وأعلاها التوبة من الشرك الذي كانوا عليه في الجاهلية.
والبشرى:البشارة،وهي الإخبار بحصول نفع، وتقدمت في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} في سورة يونس[64].والمراد بها هنا:البشرى بالجنة.
وفي تقديم المسند من قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى} إفادة القصر وهو مثل القصر في {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} .
وفرع على قوله {لَهُمُ الْبُشْرَى} قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وهم الذين اجتنبوا الطاغوت،فعدل عن الإتيان بضميرهم بأن يقال:فبشرهم،إلى الإظهار باسم العباد مضاف إلى ضمير الله تعالى،وبالصلة لزيادة مدحهم بصفتين أخريين وهما:صفة العبودية لله،أي عبودية التقرب، وصفة استماع القول واتباع أحسنه.
وقرأ العشرة ما عدا السوسي راوي أبي عمرو كلمة {عِبَادِ} الدال دون ياء

وهو تخفيف واجتزاء بوجود الكسرة على الدال.وقرأها السوسي بياء بعد الدال مفتوحة في الوصل وساكنة في الوقف،ونقل عنه حذف الياء في حالة الوقف وهما وجهان صحيحان في العربية كما في التسهيل،لكن اتفقت المصاحف كتابة {عِبَادِ} هنا بدون ياء بعد الدال وذلك يوهن قراءة السوسي إلا أن يتأول لها بأنها من قبيل الأداء.
والتعريف في {الْقَوْلَ} تعريف الجنس،أي يستمعون الأقوال مما يدعو إلى الهدى مثل القرآن وإرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم،ويستمعون الأقوال التي يريد أهلها صرفهم عن الإيمان من ترهات أئمة الكفر فإذا استمعوا ذلك اتبعوا أحسنه وهو ما يدعو إلى الحق.
والمراد:يتبعون القول الحسن من تلك الأقوال،فاسم التفضيل هنا ليس مستعملا في تفاوت الموصوف به في الفضل على غيره فهو للدلالة على قوة الوصف،مثل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33].أثنى الله عليهم بأنهم أهل نقد يميزون بين الهدى والضلال والحكمة والأوهام نظار في الأدلة الحقيقية نقاد للأدلة السفسطائية.وفي الموصول إيماء إلى أن اتباع أحسن القول سبب في حصول هداية الله إياهم.
وجملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} مستأنفة لاسترعاء الذهن لتلقي هذا الخبر.وأكد هذا الاسترعاء بجعل المسند إليه اسم إشارة ليتميز المشار إليهم.أكمل تميزه مع التنبيه على أنهم كانوا أحرياء بهذه العناية الربانية لأجل ما اتصفوا به من الصفات المذكورة قبل اسم الإشارة وهي صفات اجتنابهم عبادة الأصنام مع الإنابة إلى الله واستماعهم كلام الله واتباعهم إياه نابذين ما يلقى به المشركون من أقوال التضليل.
والإتيان باسم الإشارة عقب ذكر أوصاف أو أخبار طريقة عربية في الاهتمام بالحكم والمحكوم عليه فتارة يشار إلى المحكوم عليه كما هنا وتارة يشار إلى الخبر كما في قوله: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآب} في سورة[صّ:55].
وقد أفاد تعريف الجزأين في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} قصر الهداية عليهم وهو قصر صفة على موصوف وهو قصر إضافي قصر تعيين،أي دون الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.
ومعنى {هَدَاهُمُ اللَّهُ} أنهم أنالوا هذه الفضيلة بأن خلق الله نفوسهم قابلة للهدى الذي يخاطبهم به الرسول صلى الله عليه وسلم فتهيأت نفوسهم لذلك وأقبلوا على سماع الهدى بشراشرهم وسعوا إلى ما يبلغهم إلى رضاه وطلبوا النجاة من غضبه.وليس المراد بهدي الله إياهم أنه وجه

إليهم أوامر إرشاده لأن ذلك حاصل للذين خوطبوا بالقرآن فأعرضوا عنه ولم يتطلبوا البحث عما يرضي الله تعالى فأصروا على الكفر.
وأشارت جملة {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} إلى معنى تهيئتهم للاهتداء بما فطرهم الله عليه من عقول كاملة،وأصل الخلقة ميالة لفهم الحقائق غير مكترثة بالمألوف ولا مراعاة الباطل،على تفاوت تلك العقول في مدى سرعة البلوغ للاهتداء،فمنهم من آمن عند أول دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم مثل خديجة وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب،ومنهم من آمن بعيد ذلك أو بعده،فإشير إلى رسوخ هذه الأحوال في عقولهم بذكر ضمير الفصل مع كلمة {أُولُو} الدالة على أن الموصوف بها ممسك بما أضيفت إليه كلمة {أُولُو} ،وبما دل عليه تعريف {الْأَلْبَابِ} من معنى الكمال،فليس التعريف فيه تعريف الجنس لأن جنس الألباب ثابت لجميع العقلاء.وأشار إعادة اسم الإشارة إلى تميزهم بهذه الخصلة من بين نظرائهم وأهل عصرهم.
وفيه تنبيه على أن حصول الهداية لا بد له من فاعل وقابل،فأشير إلى الفاعل بقوله تعالى: {هَدَاهُمُ اللَّهُ} ،وإلى المقابل بقوله: {هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} .وفي هذه الجملة من القصر ما في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} .
وقد دل ثناء الله على عباده المؤمنين الكمل بأنهم أحرزوا صفة اتباع أحسن القول الذي يسمعونه، على شرف النظر والاستدلال للتفرقة بين الحق والباطل وللتفرقة بين الصواب والخطأ ولغلق المجال في وجه الشبهة ونفي تلبس السفسطة.وهذا منه ما هو واجب على الأعيان وهو ما يكتسب به الاعتقاد الصحيح على قدر قريحة الناظر،ومنه واجب على الكفاية وهو فضيلة وكمال في الأعيان وهو النظر والاستدلال في شرائع الإسلام وإدراك دلائل ذلك والفقه في ذلك والفهم فيه والتهمم برعاية مقاصده في شرائع العبادات والمعاملات،وآداب المعاشرة لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أصدق وجه وأكمله،وإلجام الخائضين في ذلك بعماية وغرور،وإلقام المتنطعين والملحدين.
ومما يتبع ذلك انتفاء أحسن الأدلة وأبلغ الأقوال الموصلة إلى هذا المقصود بدون اختلال ولا اعتلال بتهذيب العلوم ومؤلفاتها،فقد قيل:خذوا من كل علم أحسنه أخذا من قوله تعالى هنا: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} .وعن ابن زيد نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل،وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي،اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم واتبعوا أحسن ما بلغهم من القول.

وعن ابن عباس نزل قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} الآية في عثمان،وعبد الرحمن بن عوف،وطلحة،والزبير،وسعيد بن زيد،وسعد بن أبي وقاص،جاؤوا إلى أبي بكر الصديق حين أسلم فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا.
[19] {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}
لما أفاد الحصر الحصر في قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر:17]والحصران اللذان في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18]أن من سواهم وهم المشركون لا بشرى لهم ولم يهدهم الله ولا ألباب لهم لعدم انتفاعهم بعقولهم،وكان حاصل ذلك أن المشركين محرومون من حسن العاقبة بالنعيم الخالد لحرمانهم من الطاعة التي هي سببه فرع على ذلك استفهام إنكاري مفيد التنبيه على انتفاء الطماعية في هداية الفريق الذي حقت عليه كلمة العذاب،وهم الذين قصد إقصائهم عن البشرى،والهداية والانتفاع بعقولهم،بالقصر المصوغة عليه صيغ القصر الثلاث المتقدمة كما أشرنا إليه.
وقد جاء نظم الكلام على طريقة مبتكرة في الخبر المهتم به بأن يؤكد مضمونه الثابت للخبر عنه، بإثبات نقيض أو ضد ذلك المضمون لضد المخبر عنه ليتقرر مضمون الخبر مرتين مرة بأصله ومرة بنقيضه أو ضده،لضد المخبر عنه كقوله تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [صّ:55]عقب قوله: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [صّ:49].ويكثر أن يقع ذلك بعد الإتيان باسم الإشارة للخبر المتقدم كما في الآية المذكورة أو للمخبر عنه كما في هذه السورة في قوله آنفا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} [الزمر:18]فإنه بعد أن أشير إلى الموصوفين مرتين فرع عليه بعده إثبات ضد حكمهم لمن هم متصفون بضد حالهم.
وبهذا يظهر حسن موقع الفاء لتفريع هذه الجملة على جملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18]لأن التفريع يقتضي اتصالا وارتباطا بين المفرع والمفرع عليه وذلك كالتفريع في قول لبيد:
أفتلك أم وحشيةٌ مَسْبُوعة ... خَذَلت وهاديةُ الصوار قِوامها
إذ فرَّع تشبيها على تشبيه لاختلاف المشبه بهما.
وكلمة {الْعَذَابِ} كلام وعيد الله إياهم بالعذاب في الآخرة.ومعنى {حَقَّ} تحققت في الواقع،أي كانت كلمة العذاب المتوعد بها حقا غير كذب،فمعنى {حَقَّ} هنا تحقق،وحق كلمة العذاب عليهم ضد هدي الله الآخرين،وكونهم في النار ضد كون

الآخرين لهم البشرى،وترتيب المتضادين جرى على طريقة شبه اللف والنشر المعكوس،نظير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7,6]بعد قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5,4]،فإن قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ضد لقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ضد قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
و"من" من قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} روي عن ابن عباس:"أن المراد بها أبو لهب وولده ومن تخلف عن الإيمان من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم"، فيكون "من" مبتدأ حذف خبره.والتقدير:تنقذه من النار،كما دل عليه ما بعده وتكون جملة {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} تذييلا، أي أنت لا تنقذ الذين في النار.والهمزة للاستفهام الإنكاري،والهمزة الثانية كذلك.وإحداهما تأكيد للأخرى التي قبلها للاهتمام بشأن هذا الاستفهام الإنكاري على نحو تكرير "أن" في قول قس بن ساعدة:
لقد علم الحي اليمانون أنني ... إذ قلت:أما بعد،أني خطيبها
والذي درج عليه صاحب " الكشاف" وتبعه شارحوه أن "مَنْ" في قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} شرطية،بناء على أن الفاء في قوله: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} يحسن أن تكون لمعنى غير معنى التفريع المستفاد من التي قبلها وإلا كانت مؤكدة للأولى وذلك ينقص معنى من الآية.ويجوز أن تكون "مَن" الأولى موصولة مبتدأ وخبره {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} ،وتكون الفاء في قوله: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} مؤكدة للفاء الأولى في قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ} الخ فتكون الهمزة والفاء معا مؤكدتين للهمزة الأولى والفاء التي معها لاتصالهما،ولأن جملة {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ} صادقة على ما صدقت عليه جملة {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} ،ويكون الاستفهام الإنكاري جاريا على غالب استعماله من توجهه إلى كلام لا شرط فيه.وأصل الكلام على اعتبار "مَن" شرطية:أمن تحقق عليه كلمة العذاب في المستقبل، فأنت لا تنقذه منه فتكون همزة {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} للاستفهام الإنكاري وتكون همزة {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} افتتح بها الكلام المتضمن الإنكار للتنبيه من أول الأمر على أن الكلام يتضمن إنكارا،كما أن الكلام الذي يشتمل على نفي قد يفتتحونه بحرف نفي قبل أن ينطقوا بالنفي كما في قول مسلم بن معبد الوالبي من بني أسد:
فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا لما بهم أبدا دواء

ويفيد ذكرها توكيد مفاد همزة الإنكار إفادة تبعية.
وأصل الكلام على اعتبار "مَن" الأولى موصولة:الذين تحق عليهم كلمة العذاب أنت لا تنقذهم من النار،فتكون الهمزة في قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} للاستفهام الإنكاري وتكون همزة {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} تأكيدا للهمزة الأولى.
و"مَن" من قوله: {مَنْ فِي النَّارِ} موصولة.و {مَنْ فِي النَّارِ} هم من حق عليهم كلمة العذاب لأن كلمة العذاب هي أن يكونوا من أهل النار فوقع إظهار في مقام الإضمار،والأصل:"أفأنت تنقذه من النار". وفائدة هذا الإظهار تهويل حالتهم لما في الصلة من حرف الظرفية المصور لحالة إحاطة النار بهم،أي أفأنت تريد إنقاذهم من الوقوع في النار وهم الآن في النار لأنه محقق مصيرهم إلى النار،فشبه تحقق الوقوع في المستقبل بتحققه في الحال.وقد صرح بمثل هذا الخبر المحذوف في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} في سورة فصلت[40]وقوله: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} في سورة الملك[22].
والاستفهام تقريري كناية عن عدم التساوي بين هذا وبين المؤمن.
وكلمة {الْعَذَابِ} هي كلام الله المقتضي أن الكافر في العذاب،أين تقدير الله ذلك للكافر في وعيده المتكرر في القرآن.وتجريد فعل {حَقَّ} من تاء التأنيث مع أن فاعله مؤنث للفظ وهو {كَلِمَةُ} ،لأن الفاعل اكتسب التذكير مما أضيف هو إليه نظرا لإمكان الاستغناء عن المضاف بالمضاف إليه،فكأنه قيل: أفمن حق عليه العذاب.وفائدة إقحام {كَلِمَةُ} الإشارة إلى أن ذلك أمر الله ووعيده.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ} مفيد لتقوي الحكم وهو إنكار أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بتكرير دعوته يخلصهم من تحقيق الوعيد أو يحصل لهم الهداية إذا لم يقدرها الله لهم.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تهوينا عليه بعض حرصه على تكرير دعوتهم إلى الإسلام، وحزنه على إعراضهم وضلالهم،وإلا فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يظن أنه ينقذهم من وعيد الله،ولذلك اجتلب فعل الإنقاذ هنا تشبيها لحال النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على هديهم وبلوغ جهده في إقناعهم بتصديق دعوته،وحالهم في انغماسهم في موجبات وعيدهم بحال

من يحاول إنقاذ ساقط في النار قد أحاطت النار بجوانبه استحقاقا قضى به من لا يرد مراده،فحالهم تشبه حال وقوعهم في النار من الآن لتحقق وقوعه،وحذف المركب الدال على الحالة المشبه بها،ورمز إلى معناه بذكر شيء من ملائمات ذلك المركب المحذوف وهو فعل {تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} الذي هو من ملائمات وقوعهم في النار على طريقة التمثيل بالمكنية،أي إجراء الاستعارة المكنية في المركب، ويكون قوله: {تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} قرينة هذه المكنية وهو في ذاته استعارة تحقيقية كما في قوله تعالى: {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} [البقرة:27].
وهذا مما أشار إليه "الكشاف" وبينه التفتزاني فيعد من مبتكرات دقائق أنظارهما،وبه يتم تقسيم الاستعارة التمثيلية إلى قسمين مصرحة ومكنية.وذلك كان مغفولا عنه في علم البيان وبهذا تعلم أن الإنقاذ أطلق على الإلحاح في الإنذار من إطلاق اسم المسبب على السبب،وأن من في النار من هو صائر إلى النار،فلا متمسك للمعتزلة في الاستدلال بالآية على نفي الشفاعة المحمدية لأهل الكبائر، على أننا لو سلمنا أن الآية مسوقة في غرض الشفاعة فإنما نفت الشفاعة لأهل الشرك لأن من في النار يحتمل العهد وهم المتحدث عنهم في هذه الآية.ولا خلاف في أن المشركين لا شفاعة فيهم قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]،على أن المنفي هو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم منقذا لمن أراد الله عدم إنقاذه، فأما الشفاعة فهو سؤال الله أن ينقذه.
وقد اشتملت هذه الآية على نكت بديعة من الإعجاز إذا أفادت أن هذا الفريق من أهل الشرك الذين يكمن الكفر في قلوبهم حقت عليهم كلمة الله بتعذيبهم فهم لا يؤمنون،وأن حالهم الآن كحال من وقع في النار فهو هالك لا محالة،وحال النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على هديهم كحال من رأى ساقطا في النار فاندفع بدافع الشفقة إلى محاولة إنقاذه ولكنه لا يستطيع ذلك فلذلك أنكرت شدة حرصه على تخليصهم فكان إيداع هذا المعنى في جملتين نهاية في الإيجاز مع قرنه بما دل عليه تأكيد الهمزة والفاء في الجملة الثانية من الإطناب في مقام الصراحة.ثم بما أودع في هاتين الجملتين من الاستعارة التمثيلية العجيبة بطريق المكنية ومن الاستعارة المصرحة في قرينة المكنية.
وحاصل نظم هذا التركيب:أفمن حق عليه كلمة العذاب فهو في النار أفأنت تنقذه وتنقذ من في النار.
وقد أشار إلى هذه الحالة الممثلة في هذه الآية حديث أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :"إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفَراش

وهذا الدوابُ التي تقع في النار يقعن فيها فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها،فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها" .
[20] {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ}
أعيدت بشارة الذين اجتنبوا الطاغوت تفصيلا للإجمال الواقع من قبل.وافتتح الإخبار عنهم بحرف الاستدراك لزيادة تقرير الفارق بين حال المؤمنين وحال المشركين والمضادة بينهما،فحرف الاستدراك هنا لمجرد الإشعار بتضاد الحالين ليعلم السامع أنه سيتلقى حكما مخالفا لما سبق كما تقدم في قوله تعالى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} في سورة الأعراف[143]،وقوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} في سورة براءة[46]،فحصل في قضية الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت تقرير على تقرير ابتدئ في الإشارتين في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18]ثم بما أعقب من تفريع حال أضدادهم على ذكر أحوالهم ثم بالاستدراك الفارق بين حالهم وحال أضدادهم.
والمراد بالذين اتقوا ربهم:هم الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وأنابوا إلى الله واتبعوا أحسن القول واهتدوا بهدي الله وكانوا أولي ألباب،فعدل عن الإتيان بضميرهم هنا إلى الموصول لقصد مدحهم بمدلول الصلة وللإيماء إلى أن الصلة سبب للحكم المحكوم به على الموصول وهو نوالهم الغرف.وعدل عن اسم الجلالة إلى وصف الرب المضاف إلى ضمير المتقين لما في تلك الإضافة من تشريفهم برضى ربهم عنهم.
واللام في {لَهُمْ} للاختصاص.والمعنى:أنها لهم في الجنة،أي أعدت لهم في الجنة.
والغُرف:جمع غُرفة بضم الغين وسكون الراء،وهي البيت المرتكز على بيت آخر،ويقال لها العُلِّيَّة "بضم العين وكسرها وبكسر اللام مشددة والتحتية كذلك" وتقدمت الغرفة في آخر سورة الفرقان[57].
ومعنى {مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} أنها موصوفة باعتلاء غرف عليها وكل ذلك داخل في حيز لام الاختصاص، فالغرف التي فوق الغرف هي لهم أيضا لأن ما فوق البناء تابع له وهو المسمى بالهواء في اصطلاح الفقهاء.فالمعنى:لهم أطباق من الغرف،وذلك مقابل ما جعل لأهل النار في قوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16].

وخولف بين الحالتين:فجعل للمتقين غرف موصوفة بأنها فوقها غرف،وجعلت للمشركين ظلل من النار،وعطف عليها أن من تحتهم ظللا للإشارة إلى أن المتقين متنعمون بالتنقل في تلك الغرف،وإلى أن المشركين محبوسون في مكانهم،وأن الظلل من النار من فوقهم ومن تحتهم لتتظاهر الظلل بتوجيه لفح النار إليه من جميع جهاتهم.
والمبنية:المسموكة الجدران بحجر وجِصّ،أو حجر وتراب،أو بطوب مشمس ثم توضع عليها السقف، وهذا نعت لغرف التي فوقها غرف.ويعلم منه أن الغرف المعتلى عليها مبنية بدلالة الفحوى.وقد تردد المفسرون في وجه وصف الغرف مع أن الغرفة لا تكون إلا من بناء،ولم يذهبوا إلى أنه وصف كاشف ولهم العذر في ذلك لقلة جدواه فقيل ذكر المبنية للدلالة على أنها غرف حقيقية لا أشياء مشابهة الغرف فرقا بينهما وبين الظلل التي جعلت للذين خسروا يوم القيامة فإن ظللهم كانت من نار فلا يظن السامع أن غرف المتقين مجاز عن سحابات من الظل أو نحو ذلك لعدم الداعي إلى المجاز هنا بخلافه هنالك لأنه اقتضاه مقام التهكم.
وقال في "الكشاف" :" {مَبْنِيَّةٌ} مثل المنازل اللاصقة للأرض،أي فذكر الوصف تمهيد لقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} لأن المعروف أن الأنهار لا تجري إلا تحت المنازل السفلية أي لم يفت الغرف شيء من محاسن المنازل السفلية".
وقيل:أريد أنها مهيأة لهم من الآن.فهي موجودة لأن اسم المفعول كاسم الفاعل في اقتضائه الاتصاف بالوصف في زمن الحال فيكون إيماء إلى أن الجنة مخلوقة من الآن.
ويجوز عندي أن يكون الوصف احترازا عن نوع من الغرف تكون نحتا في الحجر في الجبال مثل غرف ثمود،ومثل ما يسميه أهل الجنوب التونسي غرفا،وهي بيوت منقورة في جبال "مدنين" و "مطماطة" و "تطاوين" وانظر هل تسمى تلك البيوت غرفا في العربية فإن كتب اللغة لم تصف مسمى الغرفة وصفا شافيا.ويجوز أن يكون {مَبْنِيَّةٌ} وصفا للغرف باعتبار ما دل عليه لفظها من معنى المبني المعتلي فيكون الوصف دالا على تمكن المعنى الموصوف،أي مبنية بناء بالغا الغاية في نوعه كقولهم:ليل أليل،وظل ظليل.
وجريُ الأنهار من تحتها من كمال حسن منظرها للمطل منها.ومعنى {مِنْ تَحْتِهَا} أن الأنهار تمر على ما يجاور تحتها،كما تقدم في قوله تعالى: {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في آل عمران[15]،فأطلق اسم "تحت" على مجاورة.
ويجوز أن يكون المعنى:تجري من تحت أسسها الأنهار،أي تخترق أسسها وتمر

فيها وفي ساحاتها،وذلك من أحسن ما يرى في الديار كديار دمشق وقصر الحمراء بالأندلس وديار أهل الترف في مدينة فاس فيكون إطلاق "تحت" حقيقة.
والمعنى:أن كل غرفة منها يجري تحتها نهر فهو من مقابلة الجمع ليقسم على الآحاد،وذلك بأن يصعد الماء إلى كل غرفة فيجري تحتها.
و {وَعْدَ اللَّهِ} مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لنفسه لأن قوله: {لَهُمْ غُرَفٌ} في معنى: وعدهم الله غرفا وعدا منه.ويجوز انتصابه على الحال من {غُرَفٌ} على حد قوله: {وَعْداً عَلَيْنَا} ، وإضافة {وَعْدَ} إلى اسم الجلالة مؤذنة بأنه وعد موفى به فوقعت جملة {لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} بيانا لمعنى {وَعْدَ اللَّهِ} .
والميعاد:مصدر ميمي بمعنى الوعد.
[21] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
استئناف ابتدائي انتقل به إلى غرض التنويه بالقرآن وما أحتوى عليه من هدى الإسلام،وهو الغرض الذي ابتدئت به السورة وانثنى الكلام منه إلى الاستطراد بقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]إلى هنا،فهذا تمهيد لقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} إلى قوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر:23,22]فمثلت حالة إنزال القرآن واهتداء المؤمنين به والوعد بنماء ذلك الاهتداء،بحالة إنزال المطر ونبات الزرع به واكتماله.وهذا التمثيل قابل لتجزئة أجزائه على أجزاء الحالة المشبه به:فإنزال الماء من السماء تشبيه لإنزال القرآن لإحياء القلوب،وإسلاك الماء ينابيع في الأرض تشبيه لتبليغ القرآن للناس،وإخراج الزرع المختلف الألوان تشبيه لحال اختلاف الناس من طيب وغيره،ونافع وضار،وهياج الزرع تشبيه لتكاثر المؤمنين بين المشركين.وأما قوله تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً} فهو إدماج للتذكير بحالة الممات واستواء الناس فيها من نافع وضار.وفي تعقيب هذا بقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} إلى قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23,22]إشارة إلى العبرة من هذا التمثيل.
وقريب من تمثيل هذه الآية ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيِّةٌ قبلت الماء

فأنبتت الكلأ والعشب الكثير،وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا،وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم،ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".الاستدلال على تفرد اله بالإلهية بدليل من مخلوقاته التي يشاهدها الناس مشاهدة متكررة،فيكون قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} 1متصلا بقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6]المتصل بقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5]،ويكون ما بيناه من تمثيل حال نزول القرآن وانتفاع المؤمنين إدماجا في هذا الاستدلال.وعلى كلا الوجهين أدمج في أثناء الكلام إيماء إلى إمكان إحياء الناس حياة ثانية.
والكلام استفهام تقريري،والخطاب لكل من يصلح للخطاب فليس المراد به مخاطبا معينا.والرؤية بصرية.
وقوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} تقدم نظيره في قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} في سورة الأنعام [99].
و {سَلَكَهُ} أدخله،أي جعله سالكا،أي داخلا،ففعل سلك هنا متعد وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} في سورة طه[53]،وذكرنا هنالك أن فعل سلك يكون قاصرا ومتعديا،وهذا الإدخال دليل ثان.
و {يَنَابِيعَ} جمع ينبوع وهو العين من الماء، تقدم في قوله تعالى: {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} في سورة الإسراء[90].وانتصب {يَنَابِيعَ} على الحال من ضمير {مَاءً} .وتصيير الماء الداخل في الأرض ينابيع دليل ثالث على عظيم قدرة الله.
وعطف بـ {ثُمَّ} قوله: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً} لإفادة التراخي الرتبي بحرف {ثُمَّ} كشأنها في عطف الجمل لأن إخراج الزرع من الأرض بعد إقحالها أوقع في نفوس الناس لأنه أقرب لأبصارهم وأنفع لعيشهم وإذ هو المقصود من المطر.وهذا الإخراج دليل رابع.
والألوان:جمع لون،واللون:كيفية لائحة على ظاهر الجسم في الضوء،وتقدم في
ـــــــ
1 في المطبوعة {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

سورة فاطر[28,27].واختلاف ألوان الزرع بالمعنى الأول أن لكل نوع من الزرع لونا ولنورها ألوانا ولكل صنف من الزرع ألوان مختلفة في أطوار نباته وبلوغه أشده،وهذا الاختلاف مع اتحاد الأرض التي تنبت فيها واتحاد الماء الذي نبت به آية خامسة على عظيم القدرة والانفراد بالتصرف.
ومعنى {يَهِيجُ} يغلظ ويرتفع.وحقيقة الهياج:ثورة الإنسان أو الحيوان،ويستعار الهياج لشدة الشيء من غير الحيوان يقال:هاجت ريح،ومنه هياج الزرع في الآية لأن الزرع تطول سوقه وسنابله فيتم جفافه فإذا تحرك بمرور الريح عليه صار له حفيف وخشخشة سواء في ذلك الحب والكلأ وهذا الطور آية سادسة على الوحدانية.
والحطام:المحطوم،أي المكسور المفتوت،ووزن فُعال بضم الفاء يدل على المفعول كالفُتات والدُقاق، ومثله الفعالة وكالصبابة والقلامة والقمامة.والمعنى:أنه يبلغ من اليبس إلى حد أن يتحطم ويتكسر بحك بعضه بعضا وتساقطه وكسر الريح إياه.وهذا الطور آية سابعة على قدرة الله.وجميعها آيات على دقة صنعه وكيف أودع الأطوار الكثيرة في الشيء الواحد يخلف بعضها بعضا من طور وجوده إلى طور إضمحلاله.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} مبينة للاستفهام التقريري وفذلكة للأطوار المستفهم عنها،فالإشارة بذلك إلى المذكور من الإنزال إلى آخر الأطوار.
والمراد:ذكرى بالدلالة على ما يغفل عنه العاقل.ويجوز أن تكون الذكرى لما يذهل عنه العاقل مما تشتمل عليه هذه الأحوال من مبدئها إلى منتهاها.فمن ذلك أنها تصلح مثالا لتقريب البعث فإن إنزال الماء على الأرض وإنباتها بسببه أمر يتجدد بعد أن صار ما عليها من النبات حطاما،وتخللت زراريعه الأرض فنبتت مرة أخرى بنزول الماء،فكذلك يعود الإنسان بعد فنائه كما أشار إليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح:18,17]فتتضمن الآية إدماج تقريب البعث وإمكانه مع الاستدلال على انفراد الله تعالى بالتصرف،ومن ذلك أنها تصلح مثلا للحياة الدنيا كما في آية سورة يونس وفي سورة الكهف،والمقصود:تشبيه الحالة بالحالة فلا يعتبر التجوز في مفردات هذا المركب بأن يطلب لكل طور من أطوار الدنيا طور يشتبه به من أطوار النبات.ومنها أنها مثل لأطوار الإنسان من طور النطف إلى الشباب إلى الشيخوخة ثم الهلاك، والمقصود تشبيه الحالة بالحالة مع إمكان توزيع تشبيه كل طور من أطوار الحالة المشبهة بطور من أطوار الحالة المشبهة بها وهو أكمل أنواع التمثيلية.

و {أُولِي الْأَلْبَابِ} هم الذين ينتفعون بألبابهم فيهتدون بما نصب لهم من الأدلة،كما تقدم آنفا في قوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9]،وهم الذين استدلوا فآمنوا.وفي هذا التعريض بأن الذين لم يستفيدوا من الأدلة بمنزلة من عدموا العقول.
[23] {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}
تفريع على ما تقدم من قوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ} [الزمرك20]وما ألحق به من تمثيل حالهم في الانتفاع بالقرآن فرع هذا الاستفهام التقريري.
و "من" موصلة مبتدأ،والخبر محذوف دل عليه قوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} مما اقتضاه حرف الاستدراك من مخالفة حال لحال من حق عليه كلمة العذاب.
والتقدير:أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه مثل الذي حق عليه كلمة العذاب فهو في ظلمة الكفر،أو تقديره:مثل من قسا قلبه بدلالة قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} ،وهذا من دلالة اللاحق.
وشرحُ الصدر للإسلام استعارة لقبول العقل هدي الإسلام ومحبته.وحقيقة الشرح أنه:شق اللحم، ومنه سمي علم مشاهدة باطن الأسباب وتركيبه علم التشريح لتوقفه على شق الجلد واللحم والاطلاع على ما تحت ذلك.ولما كان الإنسان إذا تحير وتردد في أمر يجد في نفسه عما يتأثر منه جهازه العصبي فيظهر تأثره في انضغاط نفسه حتى يصير تنفسه عسيرا ويكثر تنهده وكان عضو التنفس في الصدر،شبه ذلك الانضغاط بالضيق والانطباق فقالوا:ضاق صدره قال تعالى عن موسى: {وَيَضِيقُ صَدْرِي} [الشعراء:13]،وقالوا:انطبق صدره وانطبقت أضلاعه وقالوا في ضد ذلك:شرح الله صدره،وجمع بينهما قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} في سورة الأنعام[125]،ومنه قولهم:فلان في انشراح،أي يحس كأن صدره شرح ووسع.
ومن رشاقة ألفاظ القرآن إيثار كلمة {شَرَحَ} للدلالة على قبول الإسلام لأن تعاليم الإسلام وأخلاقه وآدابه تكسب المسلم فرحا بحاله ومسرة برضى ربه واستخفافا للمصائب والكوارث لجزمه بأنه على حق في أمره وأنه مثاب على ضره وأنه راج رحمة ربه في

الدنيا والآخرة ولعدم مخالطة الشك والحيرة ضميره.
فإن المؤمن أول ما يؤمن بأن اله واحدا وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسوله ينشرح صدره بأنه ارتفع درجات عن الحالة التي كان عليها حالة الشرك إن اجتنب عبادة أحجار هو أشرف منها ومعظم ممتلكاته أشرف منها كفرسه وجمله وعبده وأمته وماشيته ونخله، فشعر بعزة نفسه مرتفعا عما انكشف له من مهانتها السابقة التي غسلها عنه الإسلام،ثم أصبح يقرأ القرآن وينطق عن الحكمة ويتسم بمكارم الأخلاق وأصالة الرأي ومحبة فعل الخير لوجه الله لا للرياء والسمعة،ولا ينطوي باطنه على غل ولا حسد ولا كراهية في ذات الله وأصبح يعد المسلمين لنفسه أخوانا،وقد ترك الاكتساب بالغارة والميسر،واستغنى بالقناعة عن الضراعة إلا إلى الله تعالى،وإذا مسه ضر رجا زواله ولم ييأس من تغير حاله،وأيقن أنه مثاب على تحمله وصبره،وإذا مسته نعمة حمد ربه وترقب المزيد،فكان صدره منشرحا بالإسلام متلقيا الحوادث باستبصار غير هياب شجاع القلب عزيز النفس.
واللام في {لِلْإِسْلامِ} لام العلة،أي شرحه لأجل الإسلام،أي لأجل قبوله.وفرع على أن شرح الله صدره للإسلام قوله تعالى: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} فالضمير عائد إلى {من}.
والنور:مستعار للهدى ووضوح الحق لأن النور به تنجلي الأشياء ويخرج المبصر من غياهب الضلالة وتردد اللبس بين الحقائق والأشباح.
واستعيرت {على} استعارة تبعية أو تمثيلية أو تمثيلية للتمكن من النور كما استعيرت في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]على الوجهين المقررين هنالك.و {مِنْ رَبِّهِ} نعت لنور و {من} ابتدائية،أي نور موصوف بأنه جاء به من عند الله فهو نور كامل لا تخالطه ظلمة،وهو النور الذي أضيف إلى اسم الله في قوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} في سورة النور[35].
{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
فرع على وصف حال من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه،ما يدل على حال ضده وهو الذين لم يشرح الله صدورهم للإسلام فكانت لقلوبهم قساوة فطروا عليها فلا تسلك دعوة الخير إلى قلوبهم.وأجمل سوء حالهم بما تدل عليه كلمة {وَيْلٌ} من بلوغهم أقصى غايات الشقاوة والتعاسة،وهذا تقدم تفصيل معانيه عند قوله تعالى:

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة[79].
والقاسي:المتصف بالقساوة في الحال،وحقيقة القساوة:الغلظ والصلابة في الأجسام،وقد تقدمت عند قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74].وقسوة القلب:مستعارة لقلة تأثر العقل بما يسدى إلى صاحبه من المواعظ ونحوها،ويقابل هذه الاستعارة استعارة اللين لسرعة التأثر بالنصائح ونحوها،كما سيأتي في قوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} [الزمر:23].
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} يجوز أن تكون بمعنى "عن" بتضمين {الْقَاسِيَةِ} معنى المعرضة والنافرة، وقد عد مرادف معنى "عن" من معاني {من} ،واستشهد له في "مغني اللبيب" بهذه الآية وبقوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [قّ:22]،وفيه نظر،لإمكان حملها على معنيين شائعين من معاني {من} وهما معنى التعليل في الآية الأولى كقولهم:سقاهم من الغيمة،أي لأجل العطش،قاله الزمخشري. وجعل المعنى:أن قسوة قلوبهم حصلت فيهم من أجل ذكر الله،ومعنى الابتداء في الآية الثانية،أي قست قلوبهم ابتداء من سماع ذكر الله.والمراد بذكر الله القرآن وإضافته إلى الله زيادة تشريف له. والمعنى:أنهم إذا تليت آية اشمأزوا فتمكن الاشمئزاز منهم فقست قلوبهم.
وحاصل المعنى:أن كفرهم يحملهم على كراهية ما يسمعونه من الدعوة إلى الإسلام بالقرآن فكلما سمعوه أعرضوا وعاندوا وتجددت كراهية الإسلام في قلوبهم حتى ترسخ تلك الكراهية في قلوبهم فتصير قلوبهم قاسية.
فكان القرآن أن سبب اطمئنان قلوب المؤمنين قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].وكان سببا في قساوة قلوب الكافرين.وسبب ذلك اختلاف القابلية فإن السبب الواحد تختلف آثاره وأفعاله باختلاف القابلية،وإنما تعرف خصائص الأشياء باعتبار غالب آثارها في غالب المتأثرات،فذكر الله سبب في لين القلوب وإشراقها إذا كانت القلوب سليمة من مرض العناد والمكابرة والكبر،فإذا حل فيها هذا المرض صارت إذا ذكر الله عندها أشد مرضا مما كانت عليه.
وجملة {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما قبله من الحكم بأن قساوة قلوبهم من أجل أن يذكر الله عندهم يثير في نفس السامع أن يتساءل:كيف كان ذكر الله سبب قساوة قلوبهم? فأفيد بأن سبب ذلك هو أنهم متمكنون من الضلالة منغمسون في حمأتها فكان ضلالهم أشد من أن يتقشع حين يسمعون ذكر الله.

وافتتاح هذه الجملة باسم الإشارة عقب ما وصفوا به من من قساوة القلوب لإفادة أن ما سيذكر من حالهم بعد الإشارة إليهم صاروا به أحرياء لأجل ما ذكر قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة[5]،فكان مضمون قوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وهو الضلال الشديد علة لقسوة قلوبهم حسبما اقتضاه وقوع جملته استئنافا بيانيا.وكان مضمونها مفعولا لقسوة قلوبهم حسبما اقتضاه تصدير جملتها باسم الإشارة وعقب وصف المشار إليهم بأوصاف.
وكذلك شأن الأعراض النفسية أن تكون فاعلة ومنفعلة باختلاف المثار وما تتركه من الآثار لأنها علل ومعلولات بالاعتبار لا يتوقف وجود أحد الشيئين منهما على وجود الآخر التوقف المسمى بالدور المعي.
والمبين:الشديد الذي لا يخفى لشدته،فالمبين كناية عن القوة والرسوخ فهو يبين للمتأمل أنه ضلال.
[23] {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
استئناف بياني نشأ بمناسبة المضادة بين مضمون جملة {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].ومضمون هذه الجملة هو أن القرآن يلين قلوب الذين يخشون ربهم لأن مضمون الجملة السابقة يثير سؤال سائل عن وجه قسوة قلوب الضالين من ذكر الله فكانت جملة {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} إلى قوله: {مِنْ هَادٍ} مبينة أن قساوة قلوب الضالين من سماع القرآن إنما هي لرين في قلوبهم وعقولهم لا لنقص في هدايته.وهذا كما قال تعالى في سورة البقرة[2] {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:6ـ7].
وهذه الجملة تكميل للتنويه بالقرآن المفتتح به غرض السورة وسيقفى بثناء آخر عند قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر:27]

الآية،ثم بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} [الزمر:41]ثم بقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55].
وافتتاح الجملة باسم الجلالة يؤذن بتفخيم أحسن الحديث المنزل بأن منزله هو أعظم عظيم،ثم الإخبار عن اسم الجلالة بالخير الفعلي يدل على تقوية الحكم وتحقيقه على نحو قولهم:هو يعطي الجزيل،ويفيد مع التقوية دلالة على الاختصاص،أي اختصاص تنزيل الكتاب بالله تعالى،والمعنى:الله نزل الكتاب لا غيره وضعه،ففيه إثبات أنه منزل من عالم القدس،وذلك أيضا كناية عن كونه وحيا من عند الله لا من وضع البشر.فدلت الجملة على تقو واختصاص بالصراحة،وعلى اختصاص بالكناية،وإذ أخذ مفهوم القصر ومفهوم الكناية وهو المغاير لمنطوقهما كذلك يؤخذ مغاير التنزيل فعلا يليق بوضع البشر،فالتقدير:لا غير الله وضعه،ردا لقول المشركين:هو أساطير الأولين.
والتحقيق الذي درج عليه صاحب "الكشاف" في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15]هو أن التقوى والاختصاص يجتمعان في إسناد الخبر الفعلي إلى المسند إليه،ووافقه على ذلك شراح "الكشاف".
ومفاد هذا التقديم على الخبر الفعلي فيه تحقيق لما تضمنته الإضافة من التعظيم لشأن المضاف في قوله تعالى: {مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]كما علمته آنفا،فالمراد بـ {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} عين المراد بـ {ذِكْرِ اللَّهِ} وهو القرآن،عدل على ذكر ضميره لقصد إجراء الأوصاف الثلاثة عليه.وهي قوله: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الخ،فانتصب {كِتَاباً} على الحال من {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} أو على البدلية من {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} ،وانتصب {مُتَشَابِهاً} على أنه نعت {كِتَاباً} .
الوصف الأول:أنه أحسن الحديث.أي أحسن الخبر،والتعريف للجنس،والحديث:الخبر،سمي حديثا لأن شأن الأخبار أن يكون عن أمر حدث وجد.سمي القرآن حديثا باسم بعض ما أشتمل عليه من أخبار الأمم والوعد والوعيد. وأما ما فيه من الإنشاء من أمر ونهي ونحوهما فأنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبلغه للناس آل إلى أنه إخبار عن أمر الله ونهيه.
وقد سُمي القرآن حديثا في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} في سورة [الأعراف:185]،وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفا} في سورة[الكهف:6].

ومعنى كون القرآن أحسن الحديث أنه أفضل الأخبار لأنه أشتمل على أفضل ما أشتمل عليه الأخبار من المعاني النافعة والجامعة لأصول الإيمان،والتشريع،والاستدلال،والتنبيه على عظم العوالم والكائنات،وعجائب تكوين الإنسان،والعقل،وبث الآداب،واستدعاء العقول للنظر والاستدلال الحق،ومن فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه البالغين حد الإعجاز،ومن كونه مصدقا لما تقدمه من كتب الله ومهيمنا عليها.وفي إسناد إنزاله إلى الله استشهاد على حسنه حيث نزله العليم بنهاية محاسن الأخبار والذكر.
الوصف الثاني :أنه كتاب،أي مجموع كلام مراد قراءته وتلاوته والاستفادة منه،مأمور بكتابته ليبقى حجة على مر الزمان فإن جعل الكلام كتابا يقتضي أهمية ذلك الكلام والعناية بتنسيقه والاهتمام بحفظه على حالته.ولما سمي الله القرآن كتابا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر كتاب الوحي من أصحابه أن يكتبوا كل آية تنزل من الوحي في الموضع المعين لها بين أخواتها استنادا إلى أمر من الله،لأن الله أشار إلى الأمر بكتابته في مواضع كثيرة من أولها قوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ1 مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22ـ23]وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77ـ78].
الصفة الثالثة :أنه متشابه،أي متشابهة أجزاؤه متماثلة في فصاحة ألفاظها وشرف معانيها،فهي متكافئة في الشرف والحسن وهذا كما قالوا:امرأة متناصفة الحسن،أي أنصفت صفاتها بعضها بعضا فلم يزد بعضها على بعض،قال ابن هرمة:
إني غَرِضْتُ إلى تناصف وجهها ... غَرَض المحب إلى الحبيب الغائب
ومنه:قولهم وجه مقسم،أي متماثل الحسن،كأن أجزاءه تقاسمت الحسن وتعادلته،قال أرقم بن علباء اليشكري:
ويوما توافينا بوجه مقسم ... كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم
أي بوجه قسم الحسن على أجزاءه أقساما.
فمعانيه متشابهة في صحتها وأحكامها وابتنائها على الحق والصدق ومصادفة المحز من الحجة وتبكيت الخصوم وكونها صلاحا للناس وهدى. وألفاظه متماثلة في الشرف والفصاحة والإصابة للأغراض من المعاني بحيث تبلغ ألفاظه ومعانيه أقصى ما تحتمله أشرف لغة للبشر وهي اللغة العربية مفردات ونظما،وبذلك كان معجزا لكل بليغ على أن يأتي بمثله،وفي هذا
ـــــــ
1 في المطبوعة {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ} ,وهو خطأ.

إشارة إلى أن جميع آيات القرآن بالغ الطرف الأعلى من البلاغة وأنها متساوية في ذلك بحسب ما يقتضيه حال كل آية منها،وأما تفاوتها في كثرة الخصوصيات وقلتها فذلك تابع لاختلاف المقامات ومقتضيات الأحوال،فإن بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال،والطرف الأعلى من البلاغة هو مطابقة الكلام لجميع ما يقتضيه الحال،فآيات القرآن متماثلة متشابهة في الحسن لدى أهل الذوق من البلغاء بالسليقة أو بالعلم وهو في هذا مخالف لغيره من الكلام البليغ فإن ذلك لا يخلو عن تفاوت ربما بلغ بعضه مبلغ أن لا يشبه بقيته،وهذا المعنى مما يدخل في قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]،فالكاتب البليغ والشاعر المجيد لا يخلو كلام أحد منهما من ضعف في بعضه،وأيضا لا تتشابه أقوال أحد منهما بل تجد لكل منهما قطعا متفاوتة في الحسن والبلاغة وصحة المعاني.وبما قررنا تعلم أن المتشابه هنا مراد به معنى غير المراد في قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7]لاختلاف ما فيه من التشابه.
الصفة الرابعة :كونه مثاني،ومثاني:جمع مُثَنََّى بضم الميم وبتشديد النون جمعا على غير قياس،أو اسم جمع.ويجوز كونه جمع مثنى بفتح الميم وتخفيف النون وهو اسم لجعل المعدود أزواجا اثنين،اثنين،وكلا الاحتمالين يطلق على معنى التكرير.كني عن معنى التكرير بمادة التثنية لأن التثنية أول مراتب التكرير،كما كني بصيغة التثنية عن التكرير في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4]،وقول العرب:لبيك وسعديك،أي إجابات كثيرة ومساعدات كثيرة.
وقد تقدم بيان معنى {مَثَانِيَ} في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} في سورة[الحجر:87]، فالقرآن مثاني لأنه مكرر الأغراض.
وهذا يتضمن امتنانا على الأمة بأن أغراض كتابها مكررة فيه لتكون مقاصده أرسخ في نفوسها، وليسمعها من فاته سماع أمثالها من قبل.ويتضمن أيضا تنبيها على ناحية من نواحي إعجازه،وهي عدم الملل من سماعه وأنه كلما تكرر غرض من أغراضه زاده تكرره قبولا وحلاوة في نفوس السامعين. فكأنه الوجه الحسن الذي قال في مثله أبو نواس:
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
وقد عد عياض في كتاب "الشفاء" من وجوه إعجاز القرآن:أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه،بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة،وترديده يوجب له محبة،لا يزال غضا طريا،وغيره من الكلام ولو بلغ من الحسن والبلاغة مبلغا عظيما يمَل مع الترديد

ويُعادى إذا أعيد،ولذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن :"بأنه لا يخلق على كثرة الرد" .رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب مرفوعا.
وذكر عياض:"أن الوليد بن المغيرة سمع من النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90]الآية فقال : "والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة" .
وبهذا تعلم أن وصف القرآن هنا بكونه مثاني هو غير الوصف الذي في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر:87]لاختلاف ما أريد فيه بالتثنية وإن كان اشتقاق الوصف متحدا.
ووصف {كِتَاباً} وهو مفرد بوصف {مَثَانِيَ} وهو مقتض التعدد يعين أن هذا الوصف جرى عليه باعتبار أجزائه،أي سوره أو آياته باعتبار أن كل غرض منه يكرر،أي باعتبار تباعيضه.
الصفة الخامسة :أنه تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم،وهذا الوصف مرتب على الوصف قبله وهو كون القرآن مثاني،أي مثنى الأغراض،وهو مشتمل على ثلاث جهات: أولاها :وصف القرآن بالجلالة والروعة في قلوب سامعيه،وذلك لما في آياته الكثيرة من الموعظة التي توجل مكنها القلوب،وهو وصف كمال لأنه من آثار قوة تأثير كلامه في النفوس،ولم يزل شان أهل الخطابة والحكمة الحرص على تحصيل المقصود من كلامهم لأن الكلام إنما يواجه به السامعون لحصول فوائد مرجوة من العمل به،وما تبارى الخطباء والبلغاء في ميادين القول إلا للتسابق إلى غايات الإقناع،كما قال قيس بن خارجة،وقد قيل له:"ما عندك "?:"عندي قرى كل نازل،ورضى كل ساخط،وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب،آمر فيها بالتواصل وأنهى عن التقاطع".وقد ذكر أرسطو في الغرض من الخطابة أنه إثارة الأهواء وقال:"إنها انفعالات في النفس تثير فيها حزنا أو مسرة".
وقد اقتضى قوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أن القرآن يشتمل على معان تقشعر منها الجلود وهي المعان الموسومة بالجزالة التي تثير في النفوس روعة وجلالة ورهبة تبعث على امتثال السامعين له وعملهم بما يتلقونه من قوارع القرآن وزواجره،وكني عن ذلك بحالة تقارن انفعال الخشية والرهبة في النفس لأن الإنسان إذا

ارتاع وخشي اقشعر جلده من أثر الانفعال الرهبني،فمعنى {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ} تقشعر من سماعه وفهمه،فإن السماع والفهم يومئذ متقارنان لأن السامعين أهل اللسان.يقال:اقشعر الجلد،إذا تقبض تقبضا شديدا كالذي يحصل عند شدة برد الجسد ورعدته.يقال:اقشعر جلده،إذا سمع أو رأى ما يثير انزعاجه وروعة،فاقشعرار الجلود كناية عن وجل القلوب الذي تلزمه قشعريرة في الجلد غالبا.
وقد عد عياض في "الشفاء" من وجوه إعجاز القرآن:الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لعلو مرتبته على كل كلام من شأنه أن يهابه سامعه،قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
وعن أسماء بنت أبي بكر:"كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم".وخص القشعريرة بالذين يخشون ربهم باعتبار ما سيردف به من قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ} كما يأتي،قال عياض:"وهي،أي الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه، على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه كما قال تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [الإسراء:46].
وهذه الروعة قد اعترت جماعة قبل الإسلام،فمنهم من أسلم لها لأول وهلة.حكي في الحديث الصحيح عن جبير بن مطعم قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} إلى قوله: {الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35ـ37]كاد قلبي أن يطير وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي".
ومنهم من لم يسلم،روي عن محمد بن كعب القرظي قال:"أخبرت أن عتبة ابن ربيعة كلم النبي صلى الله عليه وسلم في كفه عن سب أصنامهم وتضليلهم،وعرض عليه أمورا النبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلما فرغ قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"اسمع ما أقول"،وقرأ عليه {حم} فصلت[1]حتى بلغ قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]فأمسك عتبة على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف" أي عن القراءة.
وأما المؤمن فلا تزال روعته وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذابا وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه،قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .
الجهة الثانية في جهات هذا الوصف :لين قلوب المؤمنين عند سماعه أيضا عقب

وجلها العارض من سماعه قبلُ.
واللين:مستعار للقبول والسرور،وهو ضد للقساوة التي في قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} ،فإن المؤمن إذا سمع آيات الوعيد والتهديد يخشى ربه ويتجنب ما حذر منه فيقشعر جلده فإذا عقب ذلك بآيات البشارة والوعد استبشر وفرح وعرض أعماله على تلك الآيات فرأى نفسه متحلية بالعمل الذي وعد الله عليه بالثواب فاطمأنت نفسه وأنقلب الوجل والخوف رجاء وترقبا، فذلك معنى لين القلوب.
وإنما يبعث هذا اللين في القلوب ما في القرآن من معاني الرحمة وذلك في الآيات الموصوفة معانيها بالسهولة نحو قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]،والموصوفة معانيها بالرقة نحو {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68ـ69]،وقد علم في فن الخطابة أن للجزالة مقاماتها وللسهولة والرقة مقاماتها.
الجهة الثالثة من جهات هذا الوصف:أعجوبة جمعه بين التأثيرين المتضادين:مرة بتأثير الرهبة،ومرة بتأثير الرغبة،ليكون المسلمون في معاملة ربهم جارين على ما يقتضيه جلاله وما يقتضيه حلمه ورحمته. وهذه الجهة اقتضاها الجمع بين الجهتين المصرح بهما وهما جهة القشعريرة وجهة اللين،مع كون الموصوف بالأمرين فريقا واحدا وهم الذين يخشون ربهم،والمقصود وصفهم بالتأثرين عند تعاقب آيات الرحمة بعد آيات الرهبة.قال الفخر:"إن المحققين من أهل الكمال قالوا:"السائرون في مبدأ جلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا،وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا" اهـ.فالآية هنا ذكرت لهم الحالتين لوقوعها بعد قوله: {مَثَانِيَ} كما أشرنا إليه آنفا،وإلا فقد اقتصر على وصف حال المؤمنين بالوجل في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} في سورة الأنفال[5]،فالمقام هنا لبيان تأثير المؤمنين بالقرآن،والمقام هنالك للثناء على المؤمنين بالخشية من اله في غير حالة قراءة القرآن.
وإنما جمع بين الجلود والقلوب في قوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ولم يكتف بأحد الأمرين عن الآخر كما اكتفي في قوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} لأن اقشعرار الجلود حالة طارئة عليها لا يكون إلا من وجل القلوب وروعتها فكني به عن تلك الروعة.

وأما لين الجلود عقب تلك القشعريرة فهو رجوع الجلود إلى حالتها السابقة قبل اقشعرارها،وذلك قد يحصل عن تناس أو تشاغل بعد تلك الروعة،فعطف عليه لين القلوب ليعلم أنه لين خاص ناشئ عن اطمئنان القلوب بالذكر كما قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]وليس مجرد رجوع الجلود إلى حالتها التي كانت قبل القشعريرة.ولم يكتف بذكر القلوب عن لين الجلود لأنه قصد أن لين القلوب أفعمها حتى ظهر أثره على ظاهر الجلود.
و {ذِكْرِ اللَّهِ} وهو أحسن الحديث،وعدل عن ضميره لبعد المعاد،وعدل عن إعادة اسمه السابق لمدحه بأنه ذكر من الله بعد أن مدح بأنه أحسن الحديث.والمراد بـ {ذِكْرِ اللَّهِ} ما في آياته من ذكر الرحمة والبشارة،وذلك أن القرآن ما ذكر موعظة وترهيبا إلا أعقبه بترغيب وبشارة.
وعدي فعل {تَلِينُ} بحرف {إِلَى} لتضمين {تَلِينُ} معنى:تطمئن وتسكن.
{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}
استئناف بياني فإن إجراء تلك الصفات الغر على القرآن الدالة على أنه قد استكمل أقصى ما يوصف به كلام بالغ في نفوس المخاطبين كيف سلكت آثاره إلى نفوس الذين يخشون ربهم مما يثير سؤالا يهجس في نفس السامع أن يقول:كيف لم تتأثر به نفوس فريق المصرين على الكفر وهو يقرع أسماعهم يوما فيوما،فتقع جملة {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} جوابا عن هذا السؤال الهاجس.
فالإشارة إلى مضمون صفات القرآن المذكورة وتأثر المؤمنين بهديه،أي ذلك المذكور هدى الله،أي جعله الله سببا كاملا جامعا لوسائل الهدى،فمن فطر الله عقله ونفسه على الصلاحية لقبول الهدى سريعا أو بطيئا اهتدى به، كذلك ومن فطر الله قلبه على المكابرة،أو على فساد الفهم ضل فلم يهتد حتى يموت على ضلاله،فأطلق على هذا الفطر اسم الهدى واسم الضلال،وأسند كلاهما إلى الله لأنه هو جبار القلوب على فطرتها وخالق وسائل ذلك ومدبر نواميسه وأنظمته.
فمعنى إضافة الهدى إلى الله في قوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} راجع إلى ما هيأه الله للهدى من صفات القرآن فإضافته إليه بأنه أنزله لذلك.ومعنى إسناد الهدى والإضلال إلى الله راجع إلى مراتب تأثر المخاطبين بالقرآن وعدم تأثرهم بحيث كان القرآن مستوفيا لأسباب اهتداء الناس به فكانوا منهم من اهتدى به ومنهم من ضل عنه.

ويجوز أن تكون الإشارة إلى {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وهو الكتاب،أي ذلك القرآن هدى الله،أي دليل هدى الله.ومقصده:اهتدى به من شاء الله اهتداءه،وكفر به من شاء الله ضلاله.
فجملة {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} تذييل للاستئناف البياني.
ومعنى {مَنْ يَشَاءُ} على تقدير:من يشاء هديه،أي من تعلقت مشيئته،وهي إرادته بأنه يهتدي فخلقه متأثرا بتلك المشيئة فقدر له الاهتداء،وفهم من قوله: {مَنْ يَشَاءُ} أنه لا يهدي به من لم يشأ هديه وهو ما دلت عليه المقابلة بقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ,أي من لم يشأ هديه فلم يقلع عن ضلاله فلا سبيل لهديه.
والمعنى:إن ذلك لنقص في الضال لا في الكتاب الذي من شأنه الهدى.
[24] {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}
{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
الجملة اعتراض بين الثناء على القرآن فيما مضى وقوله الآتي: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم:58}.
وجعلها المفسرون تفريعا على جملة {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]بدلالة مجموع الجملتين على فريقين:فريق مهتد،وفريق ضال،ففرع على ذلك هذا الاستفهام المستعمل في معنى مجازي.وجعل المفسرون في الكلام حذفا،وتقدير المحذوف:كمن أمن العذاب أو كمن هو في النعيم.وجعلوا الاستفهام تقريريا أو إنكاريا،والمقصود:عدم التسوية بين من هو في العذاب وهو الضال ومن هو في النعيم وهو الذي هداه الله،وحذف حال الفريق الآخر لظهوره من المقابلة التي اقتضاها الاستفهام بناء على أن هذا التركيب نظير قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر:19]وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} [الزمر:22]،والقول فيه مثل القول في سابقه من الاستفهام وحذف الخبر،وتقديره:أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب،لأن الله أضله كمن أمن من العذاب لأن الله هداه،وهو كقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد:14].والمعنى:أن الذين أهتدوا لا ينالهم العذاب.

ويجوز عندي أن يكون الكلام تفريعا على جملة {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]تفريعا لتعيين ما صدق "من" في قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ويكون {مَنْ يَتَّقِي} خبرا لمبتدأ محذوف، تقديره:أفهو من يتقي بوجهه سوء العذاب،والاستفهام للتقرير.
والاتقاء:تكلف الوقاية وهي الصون والدفع،وفعلها يتعدى إلى مفعولين،يقال:وقى نفسه ضرب السيف،ويتعدى بالباء إلى سبب الوقاية،يقال:وقى بترسه،وقال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
وإذا كان وجه الإنسان ليس من شأنه أن يوقى به شيء من الجسد،إذ الوجه أعز ما في الجسد وهو يوقى ولا يتقى به فإن من جبلة الإنسان إذا توقع ما يصيب جسده ستر وجهه خوفا عليه،فتعين أن يكون الاتقاء بالوجه مستعملا كناية عن عدم الوقاية على طريقة التهكم أو التمليح،فكأنه قيل:من يطلب وقاية وجهه فلا يجد ما يقيه به إلا وجهه،وهذا من إثبات الشيء بما يشبه نفيه،وقريب منه قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف:29].
و {سُوءَ الْعَذَابِ} منصوب على المفعولية لفعل {يَتَّقِي}. وأصله مفعول ثان إذ أصله:وقى نفسه سوء العذاب،فلما صيغ منه الافتعال صار الفعل متعديا إلى مفعول واحد هو الذي كان مفعولا ثانيا.
{وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}
يجوز أن يكون {وَقِيلَ} عطفا على الصلة.والتقدير:أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب،وقيل لهم فإن "من" مراد بها جمع،والتعبير بـ {الظَّالِمِينَ} إظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن ما يلاقونه من العذاب مسبب على ظلمهم،أي شركهم.
والمعنى:أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب فلا يجد وقاية تنجيه من ذوق العذاب فيقال لهم:ذوقوا العذاب.
ويجوز أن يكون المراد بـ {الظَّالِمِينَ} جميع الذين أشركوا بالله من الأمم غير خاص بالمشركين المتحدث عنهم، فيكون {الظَّالِمِينَ} إظهارا على أصله لقصد التعميم،فتكون الجملة في معنى التذييل، أي ويقال لهؤلاء وأشباههم،ويظهر بذلك وجه تعقيبه بقوله تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الزمر:25].

وجاء فعل {وَقِيلَ} بصيغة المضي وهو واقع في المستقبل لأنه لتحقق وقوعه نزل منزلة فعل مضى. ويجوز أن يكون جملة {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} في موضع الحال بتقدير قد ولذلك لا يحتاج إلى تأويل صيغة المضي على معنى الأمر المحقق وقوعه.
والذوق:مستعار لإحساس ظاهر الجسد لأن إحساس الذوق باللسان أشد من إحساس ظاهر الجلد فوجه الشبه قوة الجنس.
والمذوق:هو العذاب فهو جزاء ما اكتسبوه في الدنيا من الشرك وشرائعه،فجعل المذوق نفس ما كانوا يكسبون مبالغة مشيرة إلى أن الجزاء وفق أعمالهم وأن الله عادل في تعذيبهم.
وأوثر {تَكْسِبُونَ} على تعلمون لأن خطابهم كان في حال اتقائهم سوء العذاب ولا يخلو حال المعذب من التبرم الذي هو كالإنكار على معذبه.فجيء بالصلة الدالة على أن ما ذاقوه جزاء ما اكتسبوه قطعا لتبرمهم.
[25ـ26] {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
استئناف بياني لأن ما ذكر قبله من مصير المشركين إلى سوء العذاب يوم القيامة ويوم يقال للظالمين هم وأمثالهم:ذوقوا ما كنتم تكسبون،يثير في نفوس المؤمنين سؤالا عن تمتع المشركين بالنعمة في الدنيا ويتمنون أن يعجل لهم العذاب فكان جوابا عن ذلك قوله: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} ،أي هم مظنة أن يأتيهم العذاب كما أتي العذاب الذين من قبلهم إذ أتاهم العذاب في الدنيا بدون إنذار غير مترقبين مجيئه،على نحو قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس:102]،فكان عذاب الدنيا خزيا يجزي به الله من يشاء من الظالمين،وأما عذاب الآخرة فجزاء يجزي به الله الظالمين على ظلمهم.
والفاء في قوله: {فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ} عائد على {مَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} [الزمر:24]باعتبار أن معنى "من" جمع.وفي هذا تعريض بإنذار المشركين بعذاب يحل بهم في الدنيا وهو

عذاب السيف الذي أخزاهم الله به يوم بدر.فالمراد بالعذاب الذي أتى الذين من قبلهم:هو عذاب الدنيا،لأنه الذي يوصف بالإتيان من حيث لا يشعرون.
و {حَيْثُ} ظرف مكان،أي جاء العذاب الذين من قبلهم من مكان لا يشعرون به،فقوم أتاهم من جهة السماء بالصواعق،وقوم أتاهم من الجو مثل ريح عاد،قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الاحقاف:24]،وقوم أتاهم من تحتهم بالزلازل والخسف مثل قوم لوط،وقوم أتاهم من نبع الماء من الأرض مثل قوم نوح،وقوم عم عليهم البحر مثل قوم فرعون.
وكان العذاب الذي أصاب كفار قريش لم يخطر لهم ببال،وهو قطع السيوف رقابهم وهم في عزة من قومهم وحرمة عند قبائل العرب ما كانوا يحسبون ايديا تقطع رقابهم كحال أبي جهل وهو في الغرغرة يوم بدر حين قال له ابن مسعود:"أنت أبا جهل"?فقال:"وهل أعمد من رجل قتله قومه".
واستعارة الإذاقة لإهانة الخزي تخييلية وهي من تشبيه المعقول بالمحسوس.
وعطف عليه {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} للاحتراس،أي أن عذاب الآخرة هو الجزاء،وأما عذاب الدنيا فقد يصيب الله به بعض الظلمة زيادة خزي لهم.
وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} جملة معترضة في آخر الكلام.ومفعول {يَعْلَمُونَ} دل عليه الكلام المتقدم، أي لو كان هؤلاء يعلمون أن الله أذاق الآخرين الخزي في الدنيا بسبب تكذيبهم الرسل،وأن الله أعد لهم عذابا في الآخرة هو أشد.وضمير {يَعْلَمُونَ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {قَبْلِهِمْ}. وجواب {لو} محذوف دل عليه التعريض بالوعيد في قوله: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية، تقديره:لو كانوا يعلمون أن ما حل بهم سببه تكذيبهم رسلهم كما كذب هؤلاء محمدا صلى الله عليه وسلم.
ووصف عذاب الآخرة بـ {أَكْبَرُ} بمعنى:أشد فهو أشد كيفية من عذاب الدنيا وأشد كمية لأنه أبدي.
[27ـ28] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
عطف على جملة {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} إلى قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]،تتمة للتنويه بالقرآن وإرشاده،وللتعريض بتسفيه أحلام الذين كذبوا به وأعرضوا عن

الاهتداء بهديه.
وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق منظور فيه إلى حال الفريق الذين لم يتدبروا القرآن وطعنوا فيه وأنكروا أنه من عند الله.
والتعريف في {النَّاسِ} للاستغراق،أي لجميع الناس فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم للناس كافة.
وضَرْب المثل:ذِكره ووصفُه،وقد تقدم في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} في سورة البقرة[26].وتنوين {مَثَلٍ} للتعظيم والشرف،أي من كل أشرف الأمثال،فالمعنى:ذكرنا للناس في القرآن أمثالا هي بعض من كل أنفع الأمثال وأشرفها.والمراد:شرف نفعها.
وخصت أمثال القرآن بالذكر من بين مزايا القرآن لأجل لفت بصائرهم للتدبر في ناحية عظيمة من نواحي إعجازه وهي بلاغة أمثاله،فإن بلغاءهم كانوا يتنافسون في جودة الأمثال وإصابتها المحز من تشبيه الحالة بالحالة.وتقدم هذا عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} في سورة الإسراء89]،وتقدم في قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} في سورة الروم[58].
ومعنى الرجاء في {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} منصرف إلى أن حالهم عند ضرب الأمثال القرآنية كحال من يرجو الناس منه أن يتذكر،وهذا مثل نظائر هذا الترجي الواقع في القرآن،وتقدم في سورة البقرة.
ومعنى التذكر:التأمل والتدبر لينكشف لهم ما هم غافلون عنه سواء ما سبق لهم به علم فنسوه وشغلوا عنه بسفساف الأمور،وما لم يسبق لهم علم به مما شأنه أن يستبصره الرأي الأصيل حتى إذا انكشف له كان كالشيء الذي سبق له علمه وذهل عنه،فمعنى التذكر معنى بديع شامل لهذه الخصائص.
وهذا وصفُ القرآن في حد ذاته إن صادف عقلا صافيا ونفسا مجردة عن المكابرة فتذكر به المؤمنون به من قبل،وتذكر به من كان التذكر به سببا في إيمانه بعد كفره بسرعة أو ببطء،وأما الذين لم يتذكروا به فإن عدم تذكرهم لنقص في فطرتهم وتغشية العناد لألبابهم.
وكذلك معنى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
وانتصب {قُرْآناً} على الحال من اسم الإشارة المبين بالقرآن،فالحال هنا موطئة لأنها توطئة للنعت في قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} وإن كان بظاهر لفظ {قُرْآناً} حالا

مؤكدة ولكن العبرة بما بعده،ولذلك قال الزجاج:"إن {عَرَبِيّاً} منصوب على الحال"،أي لأنه نعت للحال.
والمقصود من هذه الحال التورك على المشركين حيث تلقوا القرآن تلقي من سمع كلاما لم يفهمه كأنه بلغة غير لغته لا بعيره بالا كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان:58]
،مع التحدي لهم بأنهم عجزوا عن معارضته وهو من لغتهم،وهو أيضا ثناء على القرآن من حيث إنه كلام باستقامة ألفاظه لأن اللغة العربية أفصح لغات البشر.
والعِوَج بكسر العين أريد به:اختلال المعاني دون الأعيان،وأما العَوج بفتح العين فيشملها،وهذا مختار أئمة اللغة مثل ابن دريد والزمخشري والزجاج والفيروزبادي،وصحح المرزوقي في "شرح الفصيح" أنهما سواء،وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} في سورة الكهف[1]،وقوله: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} في سورة طه[107].
وهذا ثناء على القرآن بكمال معانيه بعد أن أثني عليه باستقامة ألفاظه.
ووجه العدول عن وصفه بالاستقامة إلى وصفه بانتفاء العوج عنه التوسل إلى إيقاع {عِوَجٍ} وهو نكرة في سياق ما هو بمعنى النفي وهو كلمة {غََير} فيفيد انتفاء جنس العوج على وجه عموم النفي، أي ليس فيه عوج قط،ولأن لفظ {عِوَجٍ} مختص باختلال المعاني،فيكون الكلام نصا في استقامة معاني القرآن لأن الدلالة على استقامة ألفاظه ونظمه وقد استفيدت من وصفه بكونه عربيا كما علمته آنفا.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} مثل قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ،وذكر هنا {يَتَّقُونَ} لأنهم إذا تذكروا يسرت عليهم التقوى،ولأن التذكر أنسب بضرب الأمثال لأن في الأمثال عبرة بأحوال الممثل به فهي مفضية إلى التذكر،والاتقاء أنسب بانتفاء العوج لأنه إذا استقامت معانيه واتضحت كان العمل بما يدعو إليه أيسر وذلك هو التقوى.
[29] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
استئناف وهو من قبيل التعرض إلى المقصود بعد المقدمة فإن قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا

لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الزمر:27]توطئة لهذا المثل المضروب لحال أهل الشرك وحال أهل التوحيد،وفي هذا الانتقال تخلص أتبع تذكيرهم بما ضرب لهم في القرآن من كل مثل على وجه إجمال العموم استقصاء في التذكير ومعاودة للإرشاد،وتخلصا من وصف القرءان بأن فيه من كل مثل، إلى تمثيل حال الذين كفروا بحال خاص.
فهذا المثل متصل بقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [الزمر:22]،فهو مثل لحال من شرح الله صدرهم للإسلام وحال من قست قلوبهم.
ومجيء فعل {ضَرَبَ اللَّهُ} بصيغة الماضي مع أن ضرب هذا المثل ما حصل إلا في زمن نزول هذه الآية لتقريب زمن الحال من زمن الماضي لقصد التشويق إلى علم هذا المثل فيجعل كالإخبار عن أمر حصل لأن النفوس أرغب في عمله كقول المثوِّب:قد قامت الصلاة.وفيه التنبيه على أنه أمر محقق الوقوع كما تقدم عند قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً} في سورة النحل[112].
أما صاحب "الكشاف" فجعل فعل {ضَرَبَ} مستعملا في معنى الأمر إذ فسره بقوله:اضرب لهم مثلا وقل لهم ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء،إلى آخر كلامه، فكان ظاهر كلامه أن الخبر هنا مستعمل في الطلب،فقرره شارحوه الطيبي والقزويني والتفتزاني بما حاصل مجموعه:أنه أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍْ} [الزمر:27]علم أنه سينزل عليه مثل من أمثال القرآن فأنبأه الله بصدق ما علمه وجعله لتحققه كأنه ماض.
وليلائم توجيه الاستفهام إليهم بقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاًْ} "فإنه سؤال تبكيت" فتلتئم أطراف نظم الكلام،فعدل عن مقتضى الظاهر من إلقاء ضرب المثل بصيغة الأمر إلى إلقائه بصيغة المضي لإفادة صدق علم النبي صلى الله عليه وسلم،وكل هذا أدق معنى وأنسب ببلاغة القرآن من قول من جعل المضي في فعل {ضَرَبَ} على حقيقته وقال:إن معناه:ضرب المثل في علمه فأخبر به قومك.
فالذي دعا الزمخشري إلى سلوك هذا المعنى في خصوص هذه الآية هو رعي مناسبات اختص بها سياق الكلام الذي وقعت فيه،ولا داعي إليه في غيرها من نظائر صيغتها مما لم يوجد لله فيه مقتض لنحو هذا المحمل،ألا ترى أنه لا يتأتى في نحو قوله: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً} كما في سورة إبراهيم[24]،وقد أشرنا إليه

عند قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً} في سورة[النحل:112].
وقد يقال فيه وفي نظائره:إن العدول عن أن يصاغ بصيغة الطلب كما في قوله: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس:13]، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ} [الكهف:32] {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:45]إلى أن صيغ بصيغة الخبر هو التوسل إلى إسناده إلى الله تنويها بشأن المثل كما أشرنا إليه في سورة النحل.
وإسناد ضرْبِ المثل إلى الله لأنه كون نظمه بدون واسطة ثم أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم،فالقرآن كله من جعل الله سواء في ذلك أمثاله وغيرها،وهو كله مأمور رسوله صلى الله عليه وسلم بتبليغه،فكأنه قال له:ضرب الله مثلا فاضربه للناس وبينه لهم،إذ المقصود من ضرب هذا المثل محاجة المشركين وتبكيتهم به في كشف سوء حالتهم في الإشراك،إذ مقتضى الظاهر أن يجري الكلام على طريقة نظائره كقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس:13]،وكذلك ما تقدم من الأمر في نحو قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر:10]، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} [الزمر:11]، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ} [الزمر:14]، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:15]، {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17].
وقد يُتطلب وجهه التفرقة بين ما صيغ بصيغة الخبر وما صيغ بصيغة الطلب فنفرق بين الصنفين بأن ما صيغ بصيغة الخبر كان في مقام أهم لأنه إما تمثيل لإبطال الإشراك،وإما لوعيد المشركين،وإما لنحو ذلك،خلافا لما صيغ بصيغة الخبر فإنه كائن في مقام العبرة والموعظة للمسلمين أو أهل الكتاب،وهذا ما أشرنا إليه إجمالا في سورة النحل.
وقوله: {رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ} وما بعده في موضع البيان لـ {مَثَلاً}.
وجعل الممثَّل به حالة رجل ليس للاحتراز عن امرأة أو طفل ولكن لأن الرجل هو الذي يسبق إلى أذهان الناس في المخاطبات والحكايات،ولأن ما يراد من الرجال من الأعمال أكثر مما يراد من المرأة والصبي،ولأن الرجل أشد شعورا بما هو فيه من الدعة أو الكد،وأما المرأة والصبي فقد يغفلان ويلهيان.
وجملة {فِيهِ شُرَكَاءُ} نعت لـ {رَجُلاً}, وتقديم المجرور على {شُرَكَاءُ} لأن خبر النكرة يحسن تقديمه عليها إذا وصفت،فإذا لم توصف وجب تقديم الخبر لكراهة الابتداء بالنكرة.
ومعنى {فِيهِ شُرَكَاءُ} : في ملكه شركاء.

والتشاكس:شدة الاختلاف،وشدة الاختلاف في الرجل الاختلاف في استخدامه وتوجيهه.
وقرأ الجمهور {سَلَماً} بفتح السين وفتح اللام بعدها ميم وهو اسم مصدر:سلم له،إذا خلص.وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {سالماً} بصيغة اسم الفاعل وهو من:سلم،إذا خلص،واختار هذه القراءة أبو عبيد ولا وجه له،والحق أنهما سواء كما أيده النحاس وأبو حاتم،والمعنى:أنه لا شركة فيه للرجل.
وهذا تمثيل لحال المشرك في تقسم عقله بين آلهة كثيرين فهو في حيرة وشك من رضى بعضهم عنه وغضب بعض،وفي تردد عبادته إن أرضى بها أحد آلهته،لعله يغضب بها ضده،فرغباتهم مختلفة وبعض القبائل أولى ببعض الأصنام من بعض،قال تعالى: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91]،ويبقى هو ضائعا لا يدري على أيهم يعتمد،فوهمه شعاع،وقلبه أوزاع،بحال مملوك اشترك فيه مالكون لا يخلون من أن يكون بينهم اختلاف وتنازع،فهم يتعاورونه في مهن شتى ويتدافعونه في حوائجهم،فهو حيران في إرضائهم تعبان في أداء حقوقهم لا يستقل لحظة ولا يتمكن من استراحة.
ويقابله تمثيل حال المسلم الموحد يقوم بما كلفه ربه عارفا بمرضاته مؤملا رضاه وجزاءه،مستقر البال، بحال العبد المملوك الخالص لمالك واحد قد عرف مراد مولاه وعلم ما أوجبه عليه ففهمه واحد وقلبه مجتمع.
وكذلك الحال في كل متبع حق ومتبع باطل فإن الحق هو الموافق لما في الوجود والواقع،والباطل مخالف لما في الواقع،فمتبع الحق لا يعترضه ما يشوش عليه باله ولا ما يثقل عليه أعماله،ومتبع الباطل يتعثر به في مزالق الخطى ويتخبط في أعماله بين تناقص وخطأ.
ثم قال: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} ،أي هل يكونان هذان الرجلان المشبهان مستويين حالا بعد ما علمتم من اختلاف حالي المشبهين بهما.
والاستفهام في قوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} يجوز أن يكون تقريريا،ويجوز أن يكون إنكاريا،وجيء فيه بـ {هَلْ} لتحقيق التقرير أو الإنكار.
وانتصب {مَثَلاً} على التمييز لنسبة {يَسْتَوِيَانِ} .
والمثل:الحال.والتقدير: هل يستوي حالاهما،والاستواء يقتضي شيئين فأكثر،وإنما أفرد التمييز المراد به الجنس،وقد عرف التعدد من فاعل {يَسْتَوِيَانِ} ولو أسند الفعل إلى ما وقع به التمييز لقيل:هل يستوي مثلاهما.

وجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} يجوز أن تكون جوابا للاستفهام التقريري بناء على أن أحد الظرفين المقرر عليهما محقق الوقوع لا يسع المقرر عليه إلا الإقرار به فيقدرون:أنهم أقروا بعدم استوائهما في الحالة،أي بأن أحدهما أفضل من الآخر، فإن مثل هذا الاستفهام لا ينتظر السائل جوابا عنه،فلذلك يصح أن يتولى الجواب عنه قبل أن يجيب المسؤول كقوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1ـ2]،وقد يبنى على أن لمسؤول اعترف فيؤتى بما يناسب اعترافه كما هنا،فكأنهم قالوا:لا يستويان،وذلك هو ما يبتغيه المتكلم من استفهامه،فلما وافق جوابهم بغية المستفهم حمد الله على نهوض حجته،فتكون الجملة استئنافا،فموقعها كموقع النتيجة بعد الدليل،وتكون جملة {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} قرينة على أنهم نزلوا منزلة من علم فأقر وأنهم ليسوا كذلك في نفس الأمر.ويجوز أن تكون معترضة إذا جعل الاستفهام إنكاريا فتكون معترضة بين الإنكار وبين الإضراب الانتقالي في قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون عدم استواء الحالتين ولو علموا لاختاروا لأنفسهم الحسنى منهما،ولما أصروا على الإشراك.
وأفاد هذا أن ما انتحلوه من الشرك وتكاذيبه لا يمت إلى العلم بصلة فهو جهالة واختلاق.و {بل} للإضراب الانتقالي.وأسند عدم العلم لأكثرهم لأن أكثرهم عامة أتباع لزعمائهم الذين سنوا لهم الإشراك وشرائعه انتفاعا بالجاه والثناء الكاذب بحيث غشى ذلك على عملهم.
[30ـ31] {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}
لما جرى الكلام من أول السورة في مهيع إبطال الشرك وإثبات الوحدانية للإله،وتوضيح الاختلاف بين حال المشركين وحال الموحدين المؤمنين بما ينبئ بتفضيل حال المؤمنين،وفي مهيع إقامة الحجة على بطلان الشرك وعلى أحقية الإيمان،وإرشاد المشركين إلى التبصر في هذا القرآن،وتخلل في ذلك ما يقتضي أنهم غير مقلعين عن باطلهم،وختم بتسجيل جهلهم وعدم علمهم،ختم هذا الغرض بإحالتهم على حكم الله بينهم وبين المؤمنين يوم القيامة حين لا يستطيعون إنكارا،وحين يلتفتون فلا يرون إلا نارا.
وقدم لذلك تذكيرهم بأن الناس كلهم صائرون إلى الموت فإن الموت آخر ما يذكر به السادر في غلوائه إذا كان قد اغتر بعظمة الحياة ولم يتفكر في اختيار طريق السلامة

والنجاة،وهذا من انتهاز القرآن فرص الإرشاد والموعظة.
فالمقصود هو قوله: {إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} فاغتنم هذا الغرض ليجتلب معه موعظة بما يتقدمه من الحوادث عسى أن يكون لهم بها معتر،فحصلت بهذا فوائد منها تمهيد ذكر يوم القيامة، ومنها التذكير بزوال هذه الحياة،فهذان عامان للمشركين والمؤمنين،ومنها حث المؤمنين على المبادرة للعمل الصالح،ومنها إشعارهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يموت كما مات النبيون من قبله ليغتنموا الانتفاع به في حياته ويحرصوا على ملازمة مجلسه،ومنها أن لا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره،ومنها تعليم المسلمين أن الله سوى في الموت بين الخلق دون رعي لتفاضلهم في الحياة لتكثر السلوة وثقل الحسرة.
فجملتا {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} استئناف،وعطف عليهما {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} بحرف {ثمّ} الدال على الترتيب الرتبي لأن الإنباء بالفصل بينهم يوم القيامة أهم في هذا المقام من الإنباء بأنهم صائرون إلى الموت.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو خبر مستعمل في التعريض بالمشركين إذ كانوا يقولون: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]،والمعنى:أن الموت يأتيك ويأتيهم فما يدري القائلون: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} أن يكونوا يموتون قبلك،وكذلك كان،فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصارع أشد أعدائه في قليب بدر،قال عبد الله بن مسعود:"دعا رسول الله على أبي جهل،وعتبة بن ربيعة،وشيبة بن ربيعة،والوليد بن عتبة،وأمية بن خلف،وعقبة بن أبي معيط،وعمارة بن الوليد، فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عدهم رسول الله صرعى في القليب قليب بدر".
وضمير الغيبة في {وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} للمشركين المتحدث عنهم،وأما المؤمنون فلا غرض هنا للإخبار بأنهم ميتون كما هو بين من تفسير الآية.وتأكيد الخبرين بـ"إن" لتحقيق معنى التعريضي المقصود منها.
والمراد بالميت:الصائر إلى الموت فهو من استعمال الوصف فيمن سيتصف به في المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه مثل استعمال اسم الفاعل في المستقبل كقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
والميت:هو من اتصف بالموت،أي زالت عنه الحياة،ومثله:الميْت بتخفيف

السكون على الياء،والتحقيق أنه لا فرق بينهما خلافا للكسائي والفراء.
وتأكيد جملة {إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} لرد إنكار المشركين البعث.وتقديم {عِنْدَ رَبِّكُمْ} على {تَخْتَصِمُونَ} للاهتمام ورعاية الفاصلة.
والاختصام:كناية عن الحكم بينهم،أي يحكم بينهم فيما اختصمتم فيه في الدنيا من إثبات المشركين آلهة وإبطالهم ذلك،فهو كقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النحل:124].ويجوز أن يكون الاختصام أطلق على حكاية ما وقع بينهم في الدنيا حين تعرض أعمالهم،كما يقال:هذا تخاصم فلان وفلان،في طالع محضر خصومة ومقاولة بينهما يقرأ بين يدي القاضي.
ويجوز أن تصوَّر خصومة بين الفريقين يومئذ ليفتضح المبطلون ويبهج أهل الحق على نحو ما قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [صّ:64].
وعلى الوجه الأول فضمير {إِنَّكُمْ} عائد إلى مجموع ما عاد إليه ضمير {إِنَّكَ} {وَإِنَّهُمْ}.
وعلى الوجهين الأخيرين يجوز أن يكون الضمير كما في الوجه الأول.ويجوز أن يكون عائدا إلى جميع الأمة وهو اختصام الظلامات،وقد ورد تأويل الضمير على هذا المعنى فيما رواه النسائي وغيره عن عبد الله بن عمر قال:"لما نزلت هذه الآية قلنا:"كيف نختصم ونحن أخوان،فلما قتل عثمان وضرب بعضنا وجه بعض بالسيف قلنا:"هذا الخصام الذي وعدنا ربنا".وروى سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري مثل مقالة ابن عمر ولكن أبي سعيد قال:"فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا:"نعم هو ذا".وسواء شملت الآية هذه تخاصم أهل الإيمان وأهل الشرك.
[32] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} أفادت الفاء تفريع ما بعدها على ما قبلها تفريع القضاء عن الخصومة التي في قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31]إذ علمت أن الاختصام كني به عن الحكم بينهم فيما خالفوا فيه وأنكروه،والمعنى:يقضي بينكم يوم القيامة فيكون

القضاء على من كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه إذ هو الذي لا أظلم منه،أي فيكون القضاء على المشركين إذ كذبوا على الله بنسبة الشركاء إليه والبنات،وكذبوا بالصدق وهو القرآن وما صدق {مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} الفريق الذين في قوله: {وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]وهم المعنيون في قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر:24].
وقد كني عن كونهم مدينين بتحقيق أنهم أظلم لأن من العدل أن لا يقر الظالم على ظلمه فإذا وصف الخصم بأنه ظالم علم أنه محكوم عليه كما قال تعالى حكاية عن داود: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [صّ:24].وقد عُدل عن صَوْغ الحكم عليهم بصيغة الإخبار إلى صوغه في صورة الاستفهام للإيماء إلى أن السامع لا يسعه إلا الجواب بأنهم أظلم.
فالاستفهام مستعمل مجازا مرسلا أو كناية مراد به أنهم أظلم الظالمين وأنه لا ظالم أظلم نهم، فآل معناه إلى نفي أن يكون فريق أظلم منهم فإنهم أتوا أصنافا من الظلم العظيم:ظلم الاعتداء على حرمة الرب بالكذب في صفاته إذ زعموا أن له شركاء في الربوبية،والكذب عليه بادعاء أنه أمرهم بما هم عليه من الباطل،وظلم الرسول صلى الله عليه وسلم بتكذيبه،وظلم القرآن بنسبته إلى الباطل،وظلم المؤمنين بالأذى،وظلم حقائق العالم بقلبها وإفسادها،وظلم أنفسهم بإقحامها في العذاب الخالد.
وعدل عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالموصول لما في الصلة من الإيماء إلى وجه كونهم أظلم الناس.وإنما اقتصر في التعليل على أنهم كذبوا على الله وكذبوا بالصدق لأن هذين الكذبين هما جماع ما أتوا به من الظلم المذكور آنفا.
والصدق:ضد الكذب.والمراد بالصدق القرآن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم،ومجيء الصدق إليهم:بلوغه إياهم،أي سماعهم إياه وفهمهم فإنه بلسانهم وجاء بأفصح بيان بحيث لا يعرض عنه إلا مكابر مؤثر حظوظ الشهوة والباطل على حظوظ الإنصاف والنجاة.
وفي الجمع بين كلمة "الصدق" وفعل {كَذَبَ} محسن الطباق.
و {إِذْ جَاءَهُ} متعلق بـ {كَذَبَ} ،و {إِذْ} ظرف زمن ماض وهو مشعر بالمقارنة بين الزمن الذي تدل عليه الجملة المضاف إليها،وحصول متعلقة، فقوله: {إِذْ جَاءَهُ} يدل

على أنه كذب بالحق بمجرد بلوغه إياه بدون مهلة،أي بادر بالتكذيب بالحق عند بلوغه إياه من غير وقفة لإعمال رؤية ولا اهتمام بميز بين حق وباطل.
وجملة {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} مبينة لمضمون جملة {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} أي أن ظلمهم أوجب أن يكون مثواهم في جهنم.
والاستفهام تقريري،وإنما وجه الاستفهام إلى نفي مل المقصود التقرير به جريا على الغالب في الاستفهام التقريري وهي طريقة إرخاء العنان للمقرر بحيث يفتح له باب الإنكار علما من المتكلم بأن المخاطب لا يسعه الإنكار فلا يلبث أن يقر بالإثبات.ويجوز أن يكون الاستفهام إنكاريا ردا لاعتقادهم أنهم ناجون من النار الدال عليه تصميمهم على الإعراض عن التدبر في دعوة القرآن.
والكافرون:هم الذين كفروا بالله فأثبتوا له الشركاء أو كذبوا الرسل بعد ظهور دلالة صدقهم، والتعريف في "الكافرين" للجنس المفيد للاستغراق فشمل الكافرين المتحدث عنهم شمولا أوليا.
وتكون الجملة مفيدة للتذييل أيضا،ويكون اقتضاء مصير الكافرين المتحدث عنهم إلى النار ثابتا بشبه الدليل الذي يعم مصير جميع الجنس الذي هم من أصنافه.وليس في الكلام إظهار في مقام الإضمار.
والمثوى:اسم مكان الثواء،وهو القرار،فالمثوى المقر.
[33ـ35] {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} الذي جاء بالصدق هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.والصدق:القرآن كما تقدم آنفا في قوله: {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزمر:32].
وجملة {وَصَدَّقَ بِهِ} صلة كما موصول محذوف تقديره:والذي صدق به،لأن المصدق غير الذي جاء بالصدق،والقرينة ظاهرة لأن الذي صدق غير الذي جاء بالصدق فالعطف عطف جملة كاملة وليس عطف جملة صلة.
وضمير {بِهِ} يجوز أن يعود على "الصدق" ويجوز أن يعود على الذي {جَاءَ بِالصِّدْقِ} ،والتصديق بكليهما متلازم،وإذ قد كان المصدقون بالقرآن أو بالنبي صلى الله عليه وسلم من ثبت له هذا الوصف كان مرادا به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم جماعة فلا تقع صفتهم صلة

لـ {الَّذِي} لأن أصله للمفرد،فتعين تأويله بفريق،وقرينته {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَْ} ،وإنما أفرد عائد الموصول في قوله: {وَصَدَّقَ} رعيا للفظ {الَّذِي} وذلك كله من الإيجاز.
وروى الطبري بسنده إلى علي بن أبي طالب أنه قال:"الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر"،وقاله الكلبي وأبو العالية،ومحمله على أن أبا بكر أول من صدق النبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَْ } خبر عن اسم الموصول.وجيء باسم الإشارة للعناية بتمييزهم أكمل تمييز.وضمير الفصل في قوله: {هُمُ الْمُتَّقُونَْ} يفيد قصر جنس المتقين على {الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} لأنه لا متقي يومئذ غير الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكلهم متقون لأن المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم لما أشرقت على نفوسهم أنوار الرسول صلى الله عليه وسلم تطهرت ضمائرهم من كل سيئة فكانوا محظوظين من الله بالتقوى قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].والمعنى:أولئك هم الذين تحقق فيهم ما أريد من إنزال القرآن الذي أشير إليه في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:28].
وجملة {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأنهم لما قصر عليهم جنس المتقين كان ذلك مشعرا بمزية عظيمة فكان يقتضي أن يسأل السامع عن جزاء هذه المزية فبين له أن لهم ما يشاءون عند الله.و {مَا يَشَاءُونَ} هو ما يريدون ويتمنون،أي يعطيهم الله ما يطلبون في الجنة.
ومعنى {عِنْدَ رَبِّهِمْ} أن الله ادخر لهم ما يبتغونه،وهذا من صيغ الالتزام ووعد الإيجاب،يقال:لك عندي كذا أي ألتزم لك بكذا،ثم يجوز أن الله يلهمهم أن يشاءوا ما لا يتجاوز قدر ما عين الله من الدرجات في الجنة فإن أهل الجنة متفاوتون في الدرجات.وفي الحديث:"إن الله يقول لأحدهم:تمنَّه،فلا يزال يتمنى حتى تنقطع به الأمني فيقول الله لك ذلك وعشرة أمثاله معه".
ويجوز أن {مَا يَشَاءُونَ} مما بقع تحت أنظارهم في قصور ويحجب الله عنهم ما فوق ذلك بحيث لا يسألون ما هو من عطاء أمثالهم وهو عظيم ويقلع الله من نفوسهم ما ليس من حظوظهم.
ويجوز أن {مَا يَشَاءُونَ} كناية عن سعة ما يعطونه كما ورد في الحديث:"ما لا عين رأت ولا أذن سمعن ولا خطر على قلب بشر"وهذا كما يقول من أسديت إليه بعمل عظيم:لكَ عليَّ حُكْمُك،أو لك عندي ما تسأل،وأنت تريد ما هو غاية الإحسان لأمثاله.
وعدل عن اسم الجلالة إلى وصف {رَبِّهِمْ} في قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} إيماء إلى أنه

يعطيهم عطاء الربوبية والإيثار بالخير.
ثم نوه بهذا الوعد بقوله: {ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} والمشار إليه هو ما يشاءون لما تضمنه من أنه جزاء لهم على التصديق.وأشير إليه باسم الإشارة لتضمنه تعظيما لشأن المشار إليه.
والمراد بالمحسنين أولئك الموصوفون بأنهم المتقون،وكان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضميرهم فيقال: ذلك جزاؤهم،فوقع الإظهار في مقام الإضمار لإفادة الثناء عليهم بأنهم محسنون.
والإحسان:هو كمال التقوى لأنه فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه :"أن تعبد الله كأنك تراه" وأي إحسان وأي تقوى أعظم من نبذهم ما نشأوا عليه من عبادة الأصنام،ومن تحملهم مخالفة أهليهم وذويهم وعداوتهم وأذاهم،ومن صبرهم على مصادرة أموالهم ومفارقة نسائهم تصديقا للذي جاء بالصدق وإيثارا لرضى الله على شهوة النفس ورضي العشيرة.
وقوله: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} اللام للتعليل وهي تتعلق بفعل محذوف دل عليه قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ،والتقدير:وعدهم الله بذلك والتزم لهم ذلك ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا.والمعنى:أن الله وعدهم وعدا مطلقا ليكفر عنه أسوأ ما عملوه،أي ما وعدهم بذلك الجزاء إلا لأنه أراد أن يكفر عنهم سيئات ما عملوا.
والمقصود من هذا الخبر إعلامهم به ليطمئنوا من عدم مؤاخذتهم على ما فرط منهم من الشرك وأحواله.
و {أَسْوَأَ} يجوز أن يكون باقيا على ظاهر اسم التفضيل من اقتضاء مفضل عليه،فالمراد بأسوأ عملهم هو أعظمه سوءا وهو الشرك،سئل النبي صلى الله عليه وسلم:"أي الذنب أعظم?فقال :"أن تدعوا لله ندا وهو خلقك" .وإضافته إلى {الَّذِي عَمِلُوا} إضافة حقيقية،ومعنى كون الشرك مما عملوا باعتبار أن الشرك عما قلبي أو باعتبار ما يستتبعه من السجود للصنم،وإذا كفر عنهم أسوأ الذي عملوا كفر عنهم ما دونه من سيئ أعمالهم بدلالة الفحوى،فأفاد أنه يكفر عنهم جميع ما عملوا من سيئات،فإن أريد بذلك ما سبق قبل الإسلام فالآية تعم كل من صدق بالرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن بعد أن كان كافرا فإن الإسلام يجب ما قبله،وأن أريد بذلك ما عسى أن يعمله أحد منهم من الكبائر في الإسلام كان هذا التكفير خصوصية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فضل الصحبة عظيم.روي عن رسول الله أنه قال :"لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" .

ويجوز أن يكون {أَسْوَأَ} مسلوب المفاضلة وإنما هو مجاز في السوء العظيم على نحو قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]أي العمل الشديد السوء،وهو الكبائر، وتكون إضافته بيانية.وفي هذه الآية دلالة على أن رتبة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم عظيمة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذانهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" .
وقد أوصى أئمة سلفنا الصالح أن لا يذكر من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر،وبالإمساك عما شجر بينهم،وأنهم أحق الناس بأن يلتمس لهم أحسن المخارج فيما جرى بين بعضهم،ويظن بهم أحسن المذاهب،ولذلك اتفق السلف على تفسيق ابن الأشتر النخعي ومن لف لفه من الثوار الذين جاءوا من مصر إلى المدينة لخلع عثمان بن عفان،واتفقوا على أن أصحاب الجمل وأصحاب صفين كانوا متنازعين عن اجتهاد وما دفعهم عليه إلا السعي لصلاح الإسلام والذب عن جامعته من أن تتسرب إليها الفرقة والاختلال،فإنهم جميعا قدوتنا وواسطة تبليغ الشريعة إلينا، والطعن في بعضهم يفضي إلى مخاوف في الدين،ولذلك أثبت علماؤنا عدالة جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وإظهار اسم الجلالة في موضع الإضمار بضمير {رَبِّهِمْ} في قوله: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ} لزيادة تمكن الإخبار بتكفير سيئاتهم تمكينا لاطمئنان نفوسهم بوعد ربهم.
وعطف على الفعل المجعول علة أولى فعل هو علة ثانية وهو {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} .وهو المقصود من التعليل للوعد الذي تضمنه قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} .
والبناء في قوله: {بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} للسببية وهي ظرف ستقر صفة لـ {أَجْرَهُمْ} وليست متعلقة بفعل {يَجْزِيَهُمْ} ,أي يجزيهم أجرا على أحسن أعمالهم.وإذا كان الجزاء على العمل الأحسن بها الوعد وهو {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ,فدل على أنهم يجازون على ما هو دون الأحسن من محاسن أعمالهم، بدلالة إيذان وصف "الأحسن" بأن علة الجزاء هي الحسنية وهي تتضمن أن لمعنى الحسن تأثيرا في الجزاء فإذا كان جزاء أحسن أعمالهم أن لهم ما يشاءون عند ربهم كان جزاء ما هو دون الأحسن من أعمالهم جزاء دون ذلك بأن يجازوا بزيادة وتنفيل على ما استحقوه على أحسن أعمالهم بزيادة تنعم أو كرامة أو نحو ذلك.

وفي مفاتيح الغيب :"أن مقاتلا كان شيخ المرجئة وهم الذين يقولون لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان واحتج بهذه الآية فقال:"إنها تدل على أن من صدق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا.ولا يجوز حمل الأسوأ على الكفر السابق لأن الظاهر من الآية يدل على أن التفكير إنما حصل في حال ما وصفهم الله بالتقوى من الشرك وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد من الأسوأ الكبائر التي يأتي بها بعد الإيمان" اهـ.ولم يجب عنه في مفاتيح الغيب وجوابه:لأن الأسوأ محتمل أن أدلة كثيرة أحرى تعارض الاستدلال بعمومها.
وفي الجمع بين كلمة {أَسْوَأَ} وكلمة {أَحْسَنَ} محسن الطبق.
[36ـ37] {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ}
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}
لما ضرب الله مثلا للمشركين والمؤمنين بمثل رجل فيه شركاء متشاكسون ورجل خالص لرجل،كان ذلك المثل مثيرا لأن يقول قائل المشركين لتتألبن شركاؤنا على الذي جاء يحقرها ويسبها،ومثيرا لحمية المشركين أن ينتصروا لآلهتهم كما قال مشركو قوم إبراهيم: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:68].وربما أنطقتهم حميتهم بتخويف الرسول صلى الله عليه وسلم،ففي "الكشاف" و "تفسير القرطبي" :"أن قريشا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنا نخاف أن تُخْبِلَك آلهتنا وإنا نخشى عليك معرَّتها "بعين بعد الميم بمعنى الإصابة بمكروه يعنون المضرة" لعيبك إياها". وفي تفسير ابن عطية ما هو بمعنى هذا،فلما حكى تكذيبهم النبي عطف الكلام إلى ما هددوه به وخوفوه من شر أصنامهم بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} .
فهذا الكلام معطوف على قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ} [الزمر:29]الآية والمعنى:أن الله الذي أفردته بالعبادة هو كافيك شر المشركين وباطل آلهتهم التي عبدوها من دونه،فقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} تمهيد لقوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} قدم عليه لتعجيل مساءة المشركين بذلك، ويستتبع ذلك تعجيل مسرة الرسول صلى الله عليه وسلم بان الله ضامن له الوقاية كقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:137].
وأصل النظم:ويخوفونك بالذين من دون الله والله كافيك،فغير مجرى النظم لهذا

الغرض،ولك أن تجعل نظم الكلام على ترتيبه في اللفظ فتجعل جملة {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} استئنافا وتصير جملة {وَيُخَوِّفُونَكَ} حالا.
ووقع التعبير عن النبي صلى الله عليه وسلم بالاسم الظاهر وهو {عَبْدَهُ} دون ضمير الخطاب لأن المقصود توجيه الكلام إلى المشركين،وحذف المفعول الثاني لـ {كَافٍ} لظهور أن المقصود كافيك أذاهم، فأما الأصنام فلا تستطيع أذى حتى يكفاه الرسول صلى الله عليه وسلم.والاستفهام إنكار عليهم ظنهم أن لا حامي للرسول صلى الله عليه وسلم من ضر الأصنام.والمراد بـ {عَبْدَهُ} هو الرسول صلى الله عليه وسلم لا محالة وبقرينة {وَيُخَوِّفُونَكَ} .
وفي استحضار الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية وإضافته إلى ضمير الجلالة،معنى عظيم من تشريفه بهذه الإضافة وتحقيق أنه غير مسلمة إلى أعدائه.
والخطاب في {وَيُخَوِّفُونَكَ} للنبي صلى الله عليه وسلم وهو التفات من ضمير الغيبة العائد على {عَبْدَهُ} ،ونكتة هذا الالتفات هو تمحيض قصد النبي بمضمون هذه الجملة بخلاف جملة {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} كما علمت آنفا.
و {الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} هم الأصنام.عبر عنهم وهم حجارة بموصول العقلاء لكثرة استعمال التعبير عنهم في الكلام بصيغ العقلاء.و {مِنْ دُونِهِ} صلة الموصول على تقدير محذوف يتعلق به المجرور دل عليه السياق،تقديره:اتخذوهم من دونه أو عبدوهم من دونه.
ووقع في "تفسير البيضاوي" أن سبب نزول هذه الآية هو خبر توجيه النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى هدم العزى وأن سادن العزى قال لخالد:"أحذركما يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شيء،فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس فانزل الله هذه الآية.وتأول الخطاب في قوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ} بأن تخويفهم خالدا أرادوا به تخويف النبي صلى الله عليه وسلم فتكون هذه الآية مدنية وسياق الآية ناب عنه.ولعل بعض من قال هذا إنما أراد الاستشهاد لتخويف المشركين النبي صلى الله عليه وسلم من أصنامهم بمثال مشهور.
وقرأ الجمهور {بِكَافٍ عَبْدَهُ} .وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف {عِبَادَهُ} بصيغة الجمع أي النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فإنهم لما خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم فقد أرادوا تخويفه وتخويف أتباعه وأن الله كفاهم شرهم.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}
اعتراض بين جملة {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} الآية وجملة {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي

انْتِقَامٍ} قصد من هذا الاعتراض أن ضلالهم داء عياء لأنه ضلال مكون في نفوسهم وجبلتهم قد ثبتته الأيام،ورسخه تعاقب الأجيال،فران بغشاوته على ألبابهم،فلما صار ضلالهم كالمجبول المطبوع أسند إيجاده إلى الله كناية عن تعسر أو تعذر اقتلاعه من نفوسهم.
وأريد من نفي الهادي من قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} نفي حصول الاهتداء،فكني عن عدم حصول الهدى بانتفاء الهادي لأن عدم الاهتداء يجعل هاديهم كالمنفي.وقد تقدم قوله في سورة الأعراف[186] {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} .
والآيتان متساويتان في إفادة نفي جنس الهادي،إلا أن إفادة ذلك هنا بزيادة {مِنْ} تنصيصا على نفي الجنس.وفي آية الأعراف ببناء هادي على الفتح بعد "لا" النافية للجنس فإن بناء اسمها على الفتح مشعر بأن المراد نفي الجنس نصا.والاختلاف بين الأسلوبين تفنن في الكلام وهو من مقاصد البلغاء.
وتقديم {له} على {هَادٍ} للاهتمام بضميرهم في مقام نفي الهادي لهم لأن ضلالهم المحكي هنا بالغ في الشناعة إذا بلغ بهم حد الطمع في تخويف النبي بأصنامهم في حال ظهور عدم اعتداده بأصنامهم لكل كتأمل من حال دعوته،وإذ بلغ بهم اعتقاده مقدرة أصنامهم مع الغفلة عن قدرة الرب الحق،بخلاف آية العراف فإن فيها ذكر إعراضهم عن النظر في ملكوت السماوات والأرض وهو ضلال دون ضلال التخويف من باس أصنامهم.
وأما جملة {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} فقد اقتضاها أن الكلام الذي اعترضت بعده الجملتان اقتضى فريقين:فريقا متمسكا بالأصنام العاجزة عن الأمرين،لما بين أن ضلال الفريق الثاني ضلال مكين ببيان أن هدى الفريق الآخر راسخ متين فلا مطمع للفريق الضال بأن يجروا المهتدين إلى ضلالهم.
{اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ}
تعليل لإنكار انتفاء كفاية الله عن ذلك كإنكار أن الله عزيز ذو انتقام،فلذلك فصلت الجملة عن التي قبلها.والاستفهام تقريري لأن العلم بعزة الله متقرر في النفوس لاعتراف الكل بإلهيته والإلهية تقتضي العزة،ولأن العلم بأنه منتقم متقرر من مشاهدة آثار أخذه لبعض المم مثل عاد وثمود.فإذا كانوا يقرون لله بالوصفين المذكورين فما عليهم إلا أن يعلموا أنه كاف عبده بعزته فلا يقدر أحد على إصابة عبده بسوء،وبانتقامه من الذين يبتغون لعبده الأذى.

والعزيز:صفة مشبهة مشتقة من العز،وهو منعة الجانب وأن لا يناله المتسلط وهو ضد الذل،وتقدم عند قوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في سورة البقرة[209].
والانتقام:المكافأة على الشر بشر وهو مشتق من النقم وهو الغضب كأنه مطاوعه لأنه مسبب عن النقم،وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} في سورة الأعراف[136].وانظر قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} في سورة العقود[95].
[38] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}
اعتراض بين جملة {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ} الزمر:37]،وجملة {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ،فالواو اعتراضية،ويجوز أن يكون معطوفا على جملة {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]وهو تمهيد لما يأتي بعده من قوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ،لأنه قصد به التوطئة إليه بما لا نزاع فيه لأنهم يعترفون بأن الله هو المتصرف في عظائم الأمور،أي خلقهما وما تحويانه،وتقدم نظيره في سورة العنكبوت.
{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}
جاءت جملة {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ} على أسلوب حكاية المقاولة والمجاوبة لكلامهم المحكي بجملة {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ولذلك لم تعطف الثانية بالواو ولا بالفاء،والمعنى:ليقولن الله فقل أفرأيتم ما تدعون من دون الله الخ. والفاء من {أَفَرَأَيْتُمْ} لتفريع الاستفهام الإنكاري على جوابهم تفريعا يفيد محاجتهم على لازم اعترافهم بأن الله هو خالق السماوات والأرض كما في قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64].وهذا تفريع الإلزام على الإقرار،والنتيجة على الدليل فإنهم لما أقروا بأنه خالق السماوات والأرض يلزمهم ان يقروا بأنه المتصرف فيما تحويه السماوات والأرض.والرؤية قلبية،أي أفظننتم.
و {مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} مفعول "رأيتم" الأول والمفعول الثاني محذوف سد مسدة جواب الشرط المعترض بعد المفعول الأول على قاعدة اللغة العربية عند اجتماع

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68