كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

بمقاولة أهل البلاغة والخطابة والشعر تشبه بلاغة القول الذي نطق به عن وحي القرآن، إذ لو كانت حالته بعد الوحي حالا معتادا وكانت بلاغة الكلام الذي جاء به كذلك لكان له من المقدمات من حين نشأته ما هو تهيئة لهذه الغاية وكان التخلق بذلك أطوارا وتدرجا. فلا جرم دل عدم تشابه الحالين على أن هذا الحال الأخير حال رباني محض، وان هذا الكلام موحى إليه من عند الله ليس له بذاته عمل فيه.
فما كان هذا الكلام دليلا على المشركين وإبطالا لادعائهم إلا لما بني على تلاوة القرآن فكان ذكر القرآن في الاستدلال هو مناطه، ثم لما فرع عليه جملة: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} إذ كان تذكيرا لهم بحالة قبل أن يتلو عليهم القرآن ولولا ذاك الأمران لعاد الاستدلال مصادرة، أي استدلالا بعين الدعوى لأنهم ينهض لهم أن يقولوا حينئذ: ما أرسلك الله إلينا وقد شاء أن لا يرسلك إلينا ولكنك تقولت على الله ما لم يقله.
فهذا بيان انتظام هذا الدليل من هذه الآية.
وقد آل الدليل بهذا الوجه إلى الاستدلال عليهم بمعجزة القرآن والأمية. ولكلمة {تَلَوْتُهُ} هنا من الوقع ما ليس لغيرها لأنها تتضمن تاليا كلاما، ومتلوا، وباعثا بذلك المتلو.
فبالأول تشير إلى معجزة المقدرة على تلاوة الكتاب مع تحقق الأمية لأن أسلوب الكتب الدينية غير الأسلوب الذي عرفه العرب من شعرائهم وخطبائهم.
وبالثاني تشير إلى القرآن الذي هو معجزة دالة على صدق الآتي به لما فيه من الحقائق والإرشاد الديني الذي هو من شأن أنبياء الأديان وعلمائها، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 48, 49].
وبالثالث تشير إلى أنه كلام من عند الله تعالى، فانتظمت بهذا الاستدلال دلالة صدق النبيء صلى الله عليه وسلم في رسالته عن الله تعالى.
والتلاوة: قراءة المكتوب أو استعراض المحفوظ، فهي مشعرة بإبلاغ كلام من غير المبلغ. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في سورة البقرة[102]، وعند قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} في سورة الأنفال[2].

و {أَدْرَاكُمْ} عرفكم. وفعل الدراية إذا تعلق بذات يتعدى إليها بنفسه تارة وبالباء أيضا، يقال: دريته ودريت به. وقد جاء في هذه الآية على الاستعمال الثاني وهو الأكثر في حكاية سيبويه.
قرأ الجمهور {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} بحرف النفي عطفا على {مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} أي لو شاء الله ما أمرني بتلاوة القرآن عليكم ولا أعلمكم الله به. وقرأه البزي عن ابن كثير في إحدى روايتين عنه بلام ابتداء في موضع لا النافية، أي بدون ألف بعد اللام فتكون عطفا على جواب "لو" فتكون اللام لاما زائدة للتوكيد كشأنها في جواب "لو". والمعنى عليه: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولو شاء لجعلكم تدرون معانيه فلا تكذبوا.
وتفريع جملة: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ} تفريع دليل الجملة الشرطية وملازمتها لطرفيها.
والعمر: الحياة. اشتق من العمران لأن مدة الحياة يعمر بها الحي العالم الدنيوي. ويطلق العمر على المدة الطويلة التي لو عاش المرء مقدارها لكان قد أخذ حظه من البقاء. وهذا هو المراد هنا بدليل تنكير {عُمُراً} وليس المراد لبثت مدة عمري، لأن عمره لم ينته بل المراد مدة قدرها قدر عمر متعارف، أي بقدر مدة عمر أحد من الناس. والمعنى لبثت فيكم أربعين سنة قبل نزول القرآن.
وانتصب {عُمُراً} على النيابة عن ظرف الزمان، لأنه أريد به مقدار من الزمان.
واللبث: الإقامة في المكان مدة. وتقدم في قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ} في سورة البقرة[259].
والظرفية في قوله: {فِيكُمْ} على معنى في جماعتكم، أي بينكم.
و"قبل" و"بعد" إذا أضيفا للذوات كان المراد بعض أحوال الذات مما يدل عليه المقام، أي من قبل نزوله. وضمير "قَبْلِهِ" عائد إلى القرآن.
وتفريع جملة: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} على جملة الشرط وما تفرع عليها تفريع للإنكار والتعجب على نهوض الدليل عليهم، إذ قد ظهر من حالهم ما يجعلهم كمن لا يعقل. ولذلك اختير لفظ {تَعْقِلُونَ} لأن العقل هو أول درجات الإدراك. ومفعول {تَعْقِلُونَ} إما محذوف لدلالة الكلام السابق عليه. والتقدير أفلا تعقلون أن مثل هذا الحال من الجمع بين الأمية والإتيان بهذا الكتاب البديع في بلاغته ومعانيه لا يكون إلا حال من أفاض الله عليه رسالته إذ لا يتأتى مثله في العادة لأحد ولا يتأتى ما يقاربه إلا بعد مدارسة العلماء

ومطالعة الكتب السالفة ومناظرة العلماء ومحاورة أهل البلاغة من الخطباء والشعراء زمنا طويلا وعمرا مديدا، فكيف تأتى ما هو أعظم من ذلك المعتاد دفعة لمن قضى عمره بينهم في بلاده يرقبون أحواله صباح مساء، وما عرف بلدهم بمزاولة العلوم ولا كان فيهم من أهل الكتاب إلا من عكف على العبادة وانقطع عن معاشرة الناس.
وإما أن ينزل {تَعْقِلُونَ} منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول، أي أفلا تكونون عاقلين، أي فتعرفوا أن مثل هذا الحال لا يكون إلا من وحي الله.
[17] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}
لما قامت الحجة عليها بما لا قبل لهم بالتنصل منه أعقبت بالتفريع على افترائهم الكذب وذلك مما عرف من أحوالهم من اتخاذهم الشركاء له كما أشار إليه قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} أي أشركوا - إلى قوله -: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [سورة يونس: 13, 14] وتكذيبهم بآيات الله في قولهم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]. وفي ذلك أيضا توجيه الكلام بصلاحيته لأن يكون إنصافا بينه وبينهم إذ هم قد عرضوا بنسبته إلى الافتراء على الله حين قالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس: 15]، وصرحوا بنفي أن يكون القرآن من عند الله، فلما أقام الحجة عليهم بأن ذلك من عند الله وأنه ما يكون له أن يأتي به من تلقاء نفسه فرع عليه أن المفتري على الله كذبا والمكذبين بآياته كلاهما أظلم الناس لا أحد أظلم منهما، وذلك من مجاراة الخصم ليعثر، يخيل إليه من الكلام أنه إنصاف بينهما فإذا حصحص المعنى وجد انصبابه على الخصم وحده.
والتفريع صالح للمعنيين، وهو تفريع على ما تقدم قبله مما تضمن أنهم أشركوا بالله وكذبوا بالقرآن.
ومحل: "أو" على الوجهين هو التقسيم، وهو إما تقسم أحوال، وإما تقسم أنواع.
والاستفهام إنكاري. والظلم: هنا بمعنى الاعتداء. وإنما كان أحد الأمرين أشد الظلم لأنه اعتداء على الخالق بالكذب عليه وبتكذيب آياته.
وجملة: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} تذييل، وموقعه يقتضي شمول عمومه للمذكورين في الكلام المذيل بفتح التحتية فيقتضي أن أولئك مجرمون، وأنهم لا يفلحون.

والفلاح تقدم في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة البقرة[5].
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد ناظر إلى شمول عموم المجرمين للمخاطبين لأنهم ينكرون أن يكونوا من المجرمين.
وافتتاح الجملة بضمير الشأن لقصد الاهتمام بمضمونها.
[18] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
عطف على جملة: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [يونس: 15] عطف القصة على القصة. فهذه قصة أخرى من قصص أحوال كفرهم أن قالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس: 15] حين تتلى عليهم آيات القرآن، ومن كفرهم أنهم يعبدون الأصنام ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} .
والمناسبة بين القصتين أن في كلتيهما كفرا أظهروه في صورة السخرية والاستهزاء وإيهام أن العذر لهم في الاسترسال على الكفر، فلعلهم "كما أوهموا أنه إن أتاهم قرآن غير المتلوا عليهم أو بدل ما يرومون تبديله آمنوا" كانوا إذا أنذرهم النبيء صلى الله عليه وسلم بعذاب الله قالوا: تشفع لنا إلهتنا عند الله. وقد روى أنه قاله النضر بن الحارث "على معنى فرض ما لا يقع واقعا" "إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى". وهذا كقول العاص بن وائل، وكان مشركا، لخباب بن الأرت، وهو مسلم، وقد تقاضاه أجرا له على سيف صنعه "إذا كان يوم القيامة الذي يخبر به صاحبك "يعني النبيء صلى الله عليه وسلم" فسيكون لي مال فأقضيك منه".
وفيه نزل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77] الآية .
ويجوز أن تكون جملة: {وَيَعْبُدُونَ} الخ عطفا على جملة: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [يونس: 17] فإن عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الافتراء.
وإيثار اسم الموصول في قوله: {مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} لما تؤذن به صلة الموصول من التنبيه على أنهم مخطئون في عبادة ما لا يضر ولا ينفع، وفيه تمهيد لعطف

{وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} لتحقير رأيهم من رجاء الشفاعة من تلك الأصنام، فإنها لا تقدر على ضر ولا نفع في الدنيا فهي أضعف مقدرة في الآخرة.
واختيار صيغة المضارع في {يَعْبُدُونَ} و {يَقُولُونَ} لاستحضار الحالة العجيبة من استمرارهم على عبادتها، أي عبدوا الأصنام ويعبدونها تعجيبا من تصميمهم على ضلالهم ومن قولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فاعترفوا بأن المتصرف هو الله.
وقدم ذكر نفي الضر على نفي النفع لأن المطلوب من المشركين الإقلاع عن عبادة الأصنام وقد كان سدنتها يخوفون عبدتها بأنها تلحق بهم وبصبيانهم الضر، كما قالت امرأة طفيل بن عمرو الدوسي حين أخبرها أنه أسلم ودعاها إلى أن تسلم فقالت: "أما تخشى على الصبية من ذي الشرى1" . فأريد الابتداء بنفي الضر لإزالة أوهام المشركين في ذلك الصادة لكثير منهم عن نبذ عبادة الأصنام.
وقد أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يرد عليهم بتهكم بهم بأنهم قد أخبروا الله بأن لهم شفعاء لهم عنده. ومعنى ذلك أن هذا لما كان شيئا اخترعوه وهو غير واقع جعل اختراعه بمنزلة أنهم أعلموا الله به وكان لا يعلمه فصار ذلك كناية عن بطلانه لأن ما لم يعلم الله وقوعه فهو منتف. ومن هذا قول من يريد نفي شيء عن نفسه: ما علم الله هذا مني وفي ضده قولهم في تأكيد وقوع الشيء: يعلم الله كذا، حتى صار عند العرب من صيغ اليمين.
و {فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} حال من الضمير المحذوف بعد {يَعْلَمُ} العائد على "ما"، إذ التقدير: بما لا يعلمه، أي كائنا في السماوات ولا في الأرض والمقصود من ذكرهما تعميم الامكنة، كما هو استعمال الجمع بين المتقابلات مثل المشرق والمغرب. وأعيد حرف النفي بعد العاطف لزيادة التنصيص على النفي.
والاستفهام في {أَتُنَبِّئُونَ} للإنكار والتوبيخ والإنباء: الإعلام.
وجملة: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى} إنشاء تنزيه، فهي منقطعة عن التي قبلها فلذلك فصلت. وتقدم الكلام على نظيره عند قوله: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} في سورة الأنعام[100].
ـــــــ
(1) الشرى- بفتح الشين المعجمة وألف في آخره- شجر الحنظل. وذو الشرى: صنم كان يعبده بنو دوس. كان بين مكة والطائف. ويسمى أيضاً ذا الكفين.

و"ما" في قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} مصدرية، أي عن إشراكهم، أي تعالى عن أن يكون ذلك ثابتا له.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {تُشْرِكُونَ} بالمثناة الفوقية على أنه من جملة المقول وقرأه الباقون بالتحتية على أنها تعقيب للخطاب بجملة {قُلْ} . وعلى الوجهين فهي مستحقة للفصل لكمال الانقطاع.
[19] {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
جملة معترضة بين جملة: {وَيَعْبُدُونَ} [يونس: 18] وجملة: {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [يونس: 20]. ومناسبة الاعتراض قوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} لأن عبادة الأصنام واختراع صفة الشفاعة لها هو من الاختلاف الذي أحدثه ضلال البشر في العقيدة السليمة التي فطر الله الناس عليها في أول النشأة، فهي مما يشمله التوبيخ الذي في قوله: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18].
وصيغة القصر للمبالغة في تأكيد الخبر لأنه خبر مهم عجيب هو من الحكم العمرانية والحقائق التاريخية بالمكان الأسمى، إذ القصر تأكيد على تأكيد باعتبار اشتماله على صيغتي إثبات للمثبت ونفي عما عداه، فهو أقوى من تأكيد رد الإنكار، ولذلك يؤذن برد إنكار شديد.
وحسن القصر هنا وقوعه عقب الجدال مع الذين غيروا الدين الحق وروجوا نحلتهم بالمعاذير الباطلة كقولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، بخلاف آية سورة البقرة[213]: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} فإنها وقعت في سياق المجادلة مع أهل الكتاب لقوله: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة: 211] وأهل الكتاب لا ينكرون أن الناس كانوا أمة واحدة فآية هذه السورة تشير إلى الوحدة الاعتقادية ولذلك عبر عن التفرق الطارئ عليها باعتبار الاختلاف المشعر بالمذمة والمعقب بالتخويف في قوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ} إلى آخره، وآية سورة البقرة تشير إلى الوحدة الشرعية التي تجمعها الحنيفية الفطرية، ولذلك عبر عن التفرق الذي طرأ عليها بأن الله بعث النبيءين مبشرين ومنذرين، ثم جاء ذكر الاختلاف عرضا عقب ذلك بقوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}

وأريد به الاختلاف بين أتباع الشرائع لقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} [البقرة: 213].
وتقدم القول في: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في سورة البقرة[213] والناس: اسم جمع للبشر وتعريفه للاستغراق. والأمة: الجماعة العظيمة التي لها حال واحد في شيء ما.
والمراد هنا أمة واحدة في الدين. والسياق يدل على أن المراد أنها واحدة في الدين الحق وهو التوحيد لأن الحق هو الذي يمكن اتفاق البشر عليه لأنه ناشئ عن سلامة الاعتقاد من الضلال والتحريف. والإنسان لما أنشئ على فطرة كاملة بعيدة عن التكلف. وإنما يتصور ذلك في معرفة الله تعالى دون الأعمال، لأنها قد تختلف باختلاف الحاجات، فإذا جاز أن يحدث في البشر الضلال والخطأ فلا يكون الضلال عاما على عقولهم، فتعين أن الناس في معرفة الله تعالى كانوا أمة واحدة متفقين على التوحيد لأن الله لما فطر الإنسان فطره على عقل سليم موافق للواقع، ووضع في عقله الشعور بخالق وبأنه واحد وضعا جبليا كما وضع الإلهامات في أصناف الحيوان. وتأيد ذلك بالوحي لأبي البشر وهو آدم عليه السلام.
ثم إن البشر أدخلوا على عقولهم الاختلاف البعيد عن الحق بسبب الاختلاف الباطل والتخيل والأوهام بالأقيسة الفاسدة. وهذا مما يدخل في معنى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 4-6]، فتعين أن المراد في هذه الآية بكون الناس أمة واحدة الوحدة في الحق، وأن المقصود مدح تلك الحالة لأن المقصود من هذه الآية بيان فساد الشرك وإثبات خطأ منتحليه بأن سلفهم الأول لم يكن مثلهم في فساد العقول، وقد كان للمخاطبين تعظيم لما كان عليه أسلافهم، ولأن صيغة القصر تؤذن بأن المراد إبطال زعم من يزعم غير ذلك.
ووقوعه عقب ذكر من يعبدون من دون الله أصناما لا تضرهم ولا تنفعهم يدل على أنهم المقصود بالإبطال، فإنهم كانوا يحسبون أن ما هم عليه من الضلال هو دين الحق، ولذلك صوروا إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام في الكعبة. فقال النبيء صلى الله عليه وسلم يوم الفتح "كذبوا والله إن استقسما بها قط، وقرأ {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] وبهذا الوجه يجعل التعريف في {النَّاسُ} للاستغراق.

ويجوز أن يراد بالناس العرب خاصة بقرينة الخطاب ويكون المراد تذكيرهم بعهد أبيهم إبراهيم عليه السلام إذ كان هو وأبناؤه وذريتهم على الحنيفية والتوحيد كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26-28]، أي في عقبه من العرب، فيكون التعريف للعهد.
وجملة: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} إخبار بأن الحق واحد، وأن ذلك الاختلاف مذموم، وأنه لولا أن الله أراد إمهال البشر إلى يوم الجزاء لأراهم وجه الفصل في اختلافهم باستئصال المبطل وإبقاء المحق. وهذه الكلمة أجملت هنا وأشير إليها في سورة الشورى[14] بقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} .
والأجل: هو أجل بقاء الأمم، وذلك عند انقراض العالم، فالقضاء بينهم إذن مؤخر إلى يوم الحساب. وأصرح من ذلك في بيان معنى: "الكلمة" قوله في سورة هود[118]: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وسيأتي بيانها.
وتقديم المجرور في قوله: { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} للرعاية على الفاصلة.
[20] {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} .
عطف على جملة: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [يونس: 18]، فبعد أن ذكر افتراءهم في جانب الإلهية نفى بهتانهم في جانب النبوة.
والضمير في {عَلَيْهِ} عائد للنبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قبل ذلك في الآية، فإن معرفة المراد من الضمير مغنية عن ذكر المعاد. وقد كان ذكر النبيء صلى الله عليه وسلم بينهم في نواديهم ومناجاتهم في أيام مقامه بينهم بعد البعثة هو شغلهم الشاغل لهم، قد أجرى في كلامهم ضمير الغيبة بدون سبق معاد، علم المتخاطبون أنه المقصود. ونظير هذا كثير في القرآن.
و"لولا" في قوله: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} حرف تحضيض، وشأن التحضيض أن يواجه به المحضض لأن التحضيض من الطلب وشأن الطلب أن يواجه به المطلوب، ولذلك كان تعلق فعل الإنزال بضمير الغائب في هذه الآية مؤولا بأحد وجهين:

إما أن يكون التفاتا، وأصل الكلام: لولا أنزل عليك وهو من حكاية القول بالمعنى كقوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 31] أي قل لهم أقيموا، ونكتة ذلك نكتة الالتفات لتجديد نشاط السامع.
وإما أن يكون هذا القول صدر منهم فيما بينهم ليبين بعضهم لبعض شبهة على انتفاء رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو صدر منهم للمسلمين طمعا في أن يردوهم إلى الكفر.
والآية: علامة الصدق. وأرادوا خارقا للعادة على حسب اقتراحهم مثل قولهم: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء: 93] وقولهم: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48] وهذا من جهلهم بحقائق الأشياء وتحكيمهم الخيال والوهم في حقائق الأشياء، فهم يفرضون أن الله حريص على إظهار صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه يستفزه تكذيبهم إياه فيغضب ويسرع في مجاراة عنادهم ليكفوا عنه، فإن لم يفعل فقد أفحموه وأعجزوه وهو القادر، فتوهموا أن مدعي الرسالة عنه غير صادق في دعواه وما دروا أن الله قدر نظام الأمور تقديرا، ووضع الحقائق وأسبابها، وأجرى الحوادث على النظام الذي قدره، وجعل الأمور بالغة مواقيتها التي حدد لها، ولا يضره أن يكذب المكذبون أو يعاند الجاهلون وقد وضع لهم ما يليق بهم من الزواجر في الآخرة لا محالة، وفي الدنيا تارات، كل ذلك يجري على نظم اقتضتها الحكمة لا يحمله على تبديلها سؤال سائل ولا تسفيه سفيه. وهو الحكيم العليم.
فهم جعلوا استمرار الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوتهم بالأدلة التي أمره الله أن يدعوهم بها وعدم تبديله ذلك بآيات أخرى على حسب رغبتهم جعلوا كل ذلك دليلا على أنه غير مؤيد من الله فاستدلوا بذلك على انتفاء أن يكون الله أرسله، لأنه لو أرسله لأيده بما يوجب له القبول عند المرسل إليهم. وما درى المساكين أن الله إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة بهم وطلبا لصلاحهم، وأنه لا يضره عدم قبولهم رحمته وهدايته. ولذلك أتى في حكاية كلامهم العدول عن اسم الجلالة إلى لفظ الرب المضاف إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: {مِنْ رَبِّهِ} إيماء إلى الربوبية الخاصة بالتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي ربوبية المصطفي "بصيغة اسم الفاعل" للمصطفى "بصيغة المفعول" من بين بقية الخلق المقتضية الغضب لغضبه لتوهمهم أن غضب الله مثل غضب الخلائق يستدعي الإسراع إلى الانتقام وما علموا أسرار الحكمة الإلهية والحكم الإلهي والعلم الأعلى.
وقد أمر الله رسوله بأن يجيب عن اقتراحهم بما هو الحقيقة المرشدة وإن كانت أعلى

من مداركهم جوابا فيه تعريض بالتهديد لهم وهو قوله: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} ، فجاء بفاء التفريع هنا دون بعض نظائره للإشارة إلى تعقيب كلامهم بالجواب شأن المتمكن من حاله المتثبت في أمره.
والغيب: ما غاب عن حواس الناس من الأشياء، والمراد به هنا ما يتكون من مخلوقات غير معتادة في العالم الدنيوي من المعجزات. وتفسير هذا قوله: {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام: 109].
واللام للملك، أي الأمور المغيبة لا يقدر عليها إلا الله. وجاء الكلام بصيغة القصر للرد عليهم في اعتقادهم أن في مكنة الرسول الحق أن يأتي بما يسأله قومه من الخوارق، فجعلوا عدم وقوع مقترحهم علامة على أنه ليس برسول من الله، فلذلك رد عليهم بصيغة القصر الدالة على أن الرسول ليس له تصرف في إيقاع ما سألوه ليعلموا أنهم يرمون بسؤالهم إلى الجراءة على الله تعالى بالإفحام.
وجملة: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} تفريع على جملة: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} أي ليس دأبي ودأبكم إلا انتظار ما يأتي به الله إن شاء، كقول نوح لقومه: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود: 33].
وهذا تعريض بالتهديد لهم أن ما يأتي به الله لا يترقبون منه إلا شرا لهم، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8].
والمعية في قوله: {مَعَكُمْ} مجازية مستعملة في الاشتراك في مطلق الانتظار.
[21] {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ}
لما حكى تمرد المشركين بين هنا أنهم في ذلك لاهون ببطرهم وازدهائهم بالنعمة والدعة فأنساهم ما هم فيه من النعمة أن يتوقعوا حدوث ضده فتفننوا في التكذيب بوعيد الله أفانين الاستهزاء، كما قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل: 11].
وجاء الكلام على طريقة الحكاية عن حالهم، والملقى إليه الكلام هو النبيء صلى الله عليه وسلم

والمؤمنون. وفيه تعريض بتذكير الكفار بحال حلول المصائب بهم لعلهم يتذكرون، فيعدوا عدة الخوف من حلول النقمة التي أنذرهم بها في قوله: {فَانْتَظِرُوا} [يونس: 20] كما في الحديث تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة .
فالمراد ب {النَّاسَ} الناس المعهودون المتحدث عنهم بقرينة السياق على الوجهين المتقدمين في قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} [يونس: 12].
وقد قيل: إن الآية تشير إلى ما أصاب قريشا من القحط سبع سنين بدعاء النبيء صلى الله عليه وسلم ثم كشف الله عنهم القحط وأنزل عليهم المطر، فلما حيوا طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدون له. والقحط الذي أصاب قريشا هو المذكور في سورة الدخان. وقد أنذروا فيها بالبطشة الكبرى. وقال ابن عباس: هي بطشة يوم بدر. فتكون هذه الآية قد نزلت بعد انقراض السبع السنين التي هي كسني يوسف وبعد أن حيوا، فتكون قد نزلت بعد سنة عشر من البعثة أو سنة إحدى عشرة.
والإذاقة: مستعملة في مطلق الإدراك استعارة أو مجازا، كما تقدم في قوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} في سورة العقود[95].
والرحمة: هنا مطلقة على أثر الرحمة، وهو النعمة والنفع، كقوله: {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} .
والضراء: الضر. والمس: مستعمل في الإصابة. والمعنى إذا نالت الناس نعمة بعد الضر، كالمطر بعد القحط، والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض.
و"إذا" في قوله: {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ} للمفاجأة، وهي رابطة لجواب "إذا" الشرطية لوقوعه جملة اسمية وهي لا تصلح للاتصال بإذا الشرطية التي تلازمها الأفعال إن وقعت ظرفا ثم إن وقعت شرطا فلا تصلح لأن تكون جوابا لها، فلذلك أدخل على جملة الجواب حرف "إذا" الفجائية، لأن حرف المفاجأة يدل على البدار والإسراع بمضمون الجملة، فيفيد مفاد فاء التعقيب التي يؤتى بها لربط جواب الشرط بشرطه، فإذا جاء حرف المفاجأة أغنى عنها.
والمكر: حقيقته إخفاء الأضرار وإبرازه في صورة المسالمة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} في سورة آل عمران[54].
و {في} من قوله: {فِي آيَاتِنَا} للظرفية المجازية المراد منها الملابسة، أي مكرهم

المصاحب لآياتنا. ومعنى مكرهم في الآيات أنهم يمكرون مكرا يتعلق بها، وذلك أنهم يوهمون أن آيات القرآن غير دالة على صدق الرسول ويزعمون أنه لو أنزلت عليه آية أخرى لآمنوا بها وهم كاذبون في ذلك وإنما هم يكذبونه عنادا ومكابرة وحفاظا على دينهم في الشرك.
ولما كان الكلام متضمنا التعريض بإنذارهم، أمر الرسول أن يعظهم بأن الله أسرع مكرا، أي منكم، فجعل مكر الله بهم أسرع من مكرمهم بآيات الله.
ودل اسم التفضيل على أن مكر الكافرين سريع أيضا، وذلك لما دل عليه حرف المفاجأة من المبادرة وهي إسراع. والمعنى: أن الله أعجل مكرا بكم منكم بمكركم بآيات الله.
وأسرع: مأخوذ من أسرع المزيد على غير قياس، أو من سرع المجرد بناء على وجوده في الكلام فيما حكاه الفارسي.
وأطلق على تأجيل الله عذابهم اسم المكر على وجه الاستعارة التمثيلية لأن هيئة ذلك التأجيل في خفائه عنهم كهيئة فعل الماكر، وحسنته المشاكلة كما تقدم في أية آل عمران.
وجملة: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} استئناف خطاب للمشركين مباشرة تهديدا من الله، فلذلك فصلت على التي قبلها لاختلاف المخاطب. وتأكيد الجملة لكون المخاطبين يعتقدون خلاف ذلك، إذ كانوا يحسبون أنهم يمكرون بالنبيء صلى الله عليه وسلم وأن مكرهم يتمشى عليه ولا يشعر به فأعلمهم الله بأن الملائكة الموكلين بإحصاء الأعمال يكتبون ذلك. والمقصود من هذا أن ذلك محصي معدود عليهم لا يهمل، وهو إنذار بالعذاب عليه، وهذا يستلزم علم الله تعالى بذلك.
وعبر بالمضارع في {يَكْتُبُونَ} و {يَمْكُرُونَ} للدلالة على التكرر، أي تتكرر كتابتهم كلما يتكرر مكرهم، فليس في قوله: {مَا تَمْكُرُونَ} التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف معادي الضميرين.
وقرأه الجمهور {مَا تَمْكُرُونَ} بتاء الخطاب. وقرأه روح عن يعقوب {مَا يَمْكُرُونَ} بياء الغائب، والضمير ل {الناس} في قوله: { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} . وعلى هذه القراءة فالكلام موجه للنبيء صلى الله عليه وسلم.

[22, 23] {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}
هذه الجملة بدل اشمال من جملة: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} [يونس: 21] إلى آخرها لأن البغي في الأرض اشتمل عليه المكر في آيات الله. والمقصود من هذه الجملة هو قوله: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ} وما سواه تمهيد وإدماج للامتنان. أعقب التهديد على كفران النعمة بذكر بعض تعم الله عليهم ثم ضراء تعقب النعمة للابتلاء والتذكير بخالقهم، ثم كيف تفرج عنهم رحمة بهم فيكفر فريق منهم كلتا النعمتين ولا يتذكر، فكان المقصود أن في ذلك أعظم الآيات على الوحدانية فكيف يقولون: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [يونس: 20] وفي كل شيء له آية، وفي كل ذلك امتنان عليهم بالنعمة وتسجيل لكفرانها ولتوارد الآيات عليهم ولكيلا يغتروا بالإمهال فيحسبوه رضى بكفرهم أو عجزا عن أخذهم، وهذا موقع رشيق جد الرشاقة لهذه الآية القرآنية.
وإسناد التسيير إلى الله تعالى باعتبار أنه سببه لأنه خالق إلهام التفكير وقوى الحركة العقلية والجسدية، فالإسناد مجاز عقلي، فالقصر المفاد من جملة: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} قصر ادعائي. والكلام مستعمل في الامتنان والتعريض بإخلالهم بواجب الشكر.
و {حَتَّى} ابتدائية، وهي غاية للتسيير في البحار خاصة. وإنما كانت غاية باعتبار ما عطف على مدخولها من قوله: {دَعَوُا اللَّهَ} إلى قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، والمغيا هم ما في قوله: {يُسَيِّرُكُمْ} من المنة المؤذنة بأنه تسيير رفق ملائم للناس، فكان ما بعد "حتى" ومعطوفاتها نهاية ذلك الرفق، لأن تلك الحالة التي بعد "حتى" ينتهي عندها السير المنعم به ويدخلون في حالة البأساء والضراء، وهذا النظم نسج بديع في أفانين الكلام.
ومن بديع الأسلوب في الآية أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر

الخطاب الصالحة لجميع السامعين، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين فقال: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} على طريقة الالتفات، أي وجرين بكم. وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى أن قال: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فإن هذا ليس من شيم المؤمنين فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين، فقد أخرج من الخبر من عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلا على القرينة لأن الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين.
وهذا ضرب من الالتفات لم ينبه عليه أهل المعاني وهو كالتخصيص بطريق الرمز.
وقد عدت هذه الآية من أمثلة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في ضمائر الغيبة كلها تبعا "للكشاف" بناء على جعل ضمائر الخطاب للمشركين وجعل ضمائر الغيبة لهم أيضا، وما نحوته أنا أليق.
وابتدئ الإتيان بضمير الغيبة من آخر ذكر النعمة عند قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} للتصريح بأن النعمة شملتهم، وللإشارة إلى أن مجيء العاصفة فجأة في حال الفرح مراد منه ابتلاؤهم وتخويفهم. فهو تمهيد لقوله: {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} .
والسير في البر معروف للعرب. وكذلك السير في البحر. كانوا يركبون البحر إلى اليمن وإلى بلاد الحبشة. وكانت لقريش رحلة الشتاء إلى اليمن وقد يركبون البحر لذلك. وقد وصف طرفة بن العبد السفن وسيرها، وذكرها عمرو بن كلثوم في معلقته، والنابغة في داليته.
وقرأ الجمهور {يُسَيِّرُكُمْ} بتحتية في أوله مضمومة فسين مهملة بعدها تحتية بعدها راء من السير، أي يجعلكم تسيرون. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر {ينشركم} بتحتية مفتوحة في أوله بعدها نون ثم شين معجمة ثم راء من النشر، وهو التفريق على نحو قوله تعالى: {إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 2] وقوله: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]. قال ابن عطية عن عوف بن أبي جميلة وأبي الزغل: كانوا أي أهل الكوفة يقرأون {ينشركم} فنظروا في مصحف عثمان بن عفان فوجدوها: {يُسَيِّرُكُمْ} "أي بتحتية فسين مهملة فتحتية" فأول من كتبها كذلك الحجاج بن يوسف، أي أمر بكتبها في مصاحف أهل الكوفة.

و {حَتَّى} غاية للتسيير. وهي هنا ابتدائية أعقبت بحرف المفاجأة وجوابه، والجملة والغاية هي مفاد جواب: {إِذَا} وهو قوله: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} ، فمجيء الريح العاصف هو غاية التسيير الهنيء المنعم به، إذ حينئذ ينقلب التسيير كارثة ومصيبة.
والفلك: اسم لمركب البحر، واسم جمع له بصيغة واحدة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} في سورة البقرة[164]. وهو هنا مراد به الجمع.
والجري: السير السريع في الأرض أو في البحر، قال تعالى: {سْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} والظاهر أنه حقيقة فيهما.
والريح مؤنثة في كلام العرب، وتقدم في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} في سورة الأعراف[57]. والطيبة: الملائمة الرفيقة بالراكبين.
والطيب: الموصوف بالطيب الشديد. وأصل معنى الطيب الملاءمة فيما يراد من الشيء، كقوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، ويقال: طاب له المقام في مكان كذا. ومنه سمي الشيء الذي له ريح وعرف طيبا.
وجملة: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} جواب {إِذَا} . وفي ذكر جريهن بريح طيبة وفرحهم بها إيماء إلى أن مجيء العاصفة حدث فجأة دون توقع من دلالة علامات النوتية كما هو الغالب. وفيه إيماء إلى أن ذلك بتقدير مراد لله تعالى ليخوفهم ويذكرهم بوحدانيته. وضمير {جَاءَتْهَا} عائد إلى {الْفُلْكِ} لأن جمع غير العاقل يعامل معاملة المفرد المؤنث.
والعاصف: وصف خاص بالريح، أي شديدة السرعة. وإنما لم تلحقه علامة التأنيث لأنه مختص بوصف الريح فاستغنى عن التأنيث، مثل: نافس وحائض ومرضع، فشاع استعماله كذلك، وذكر وصفا للريح فبقي لا تلحقه التاء. وقالوا: إنما لم تلحقه التاء لأنه في معنى النسب، مثل: لابن، وتامر، وفيه نظر.
ومعنى {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} من كل جهة من جهات الفلك، فالابتداء الذي تفيده: "من" ابتداء الأمكنة المتجهة إلى الفلك.
ومعنى {أُحِيطَ بِهِمْ} أخذوا وأهلكوا، فالعرب يقولون: أحاط العدو بالقبيلة إذا تمكن منها وغلبها، لأن الإحاطة بها تدل على الإحداق بها وتطويقها. ولما كان ذلك هزيمة وامتلاكا لها صار ترتيب {أُحِيطَ بِهِمْ} استعارة تمثيلية للهلاك كما تقدم في قوله

تعالى: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19] وقوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} وقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] أي هلكت. فمعنى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} ظنوا الهلاك.
وجملة: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} جواب: {إِذَا} . ومعنى مخلصين له الدين ممحضين له العبادة في دعائهم، أي دعوه ولم يدعوا معه أصنامهم. وليس المراد أنهم أقلعوا عن الإشراك في جميع أحوالهم بل تلك حالتهم في الدعاء عند الشدائد. وهذا إقامة حجة عليهم ببعض أحوالهم، مثل قوله تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40, 41].
وجملة: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} بيان لجملة {دَعَوُا} لأن مضمونها هو الدعاء.
والإشارة ب {هَذِهِ} إلى حالة حاضرة لهم، وهي حالة إشرافهم على الغرق، فالمشار إليه هو الحالة المشاهدة لهم.
وقد أكد وعدهم بالشكر بثلاث مؤكدات: لام توطئة القسم، ونون التوكيد، والتعبير بصيغة {مِنَ الشَّاكِرِينَ} دون لنكونن شاكرين، لما يفيده من كونهم من هذه الزمرة التي ديدنها الشكر، كما تقدم بيان خصوصية مثل هذا التركيب عند قوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في سورة الأنعام[56].
وأتى بحرف "إذا" الفجائية في جواب "لما" للدلالة على تعجيلهم بالبغي في الأرض عقب النجاة.
والبغي: الاعتداء. وتقدم في قوله: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} في سورة الأعراف. والمراد به هنا الإشراك كما صرح به في نظيرها {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]. وسمي الشرك بغيا لأنه اعتداء على حق الخالق وهو أعظم اعتداء، كما يسمى ظلما في آيات كثيرة منها قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. ولا يحسن تفسير البغي هنا بالظلم والفساد في الأرض، إذ ليس ذلك شأن جميعهم فإن منهم حلماء قومهم، ولأنه لا يناسب قوله بعد: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} . ولمعنى هذه الآية في القرآن نظائر، كقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر: 8] الآية.
وزيادة {فِي الْأَرْضِ} لمجرد تأكيد تمكنهم من النجاة. وهو كقوله تعالى: {فَلَمَّا

نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان: 32] أي جعلوا مكان أثر النعمة بالنجاة مكانا للبغي.
وكذلك قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} هو قيد كاشف لمعنى البغي، إذ البغي لا يكون بحق، فهو كالتقييد في قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
استئناف خطاب للمشركين وهم الذين يبغون في الأرض بغير الحق.
وافتتح الخطاب ب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} لاستصغاء أسماعهم. والمقصود من هذا تحذير المشركين ثم تهديدهم.
وصيغة قصر البغي على الكون مضرا بهم كما هو مفاد حرف الاستعلاء تنبيه على حقيقة واقعية وموعظة لهم ليعلموا أن التحذير من الشرك والتهديد عليه لرعي صلاحهم لا لأنهم يضرونه كقوله: {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً } [التوبة: 39]. فمعنى "على" الاستعلاء المجازي المكنى به عن الإضرار لأن المستعلي الغالب يضر بالمغلوب المستعلى عليه، ولذلك يكثر أن يقولوا: هذا الشيء عليك، وفي ضده: هذا الشيء لك، كقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46].ويقول المقر: لك علي كذا. وقال توبة بن الحمير:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاتها أو عليها فجورها
وقال السمؤال اليهودي:
ألي الفضل أم علي إذا حو ... سبت أني على الحساب مقيت
وذلك أن "على" تدل على الإلزام والإيجاب، واللام تدل على الاستحقاق. وفي لحديث: "القرآن حجة لك أو عليك" .
فالمراد بالأنفس أنفس الباغين باعتبار التوزيع بين أفراد معاد ضمير الجماعة المخاطبين في قوله: {بَغْيُكُمْ} وبين أفراد الأنفس، كما في قولهم: "ركب القوم دوابهم" أي، ركب كل واحد دابته. فالمعنى إنما بغي كل أحد على نفسه، لأن الشرك لا يضر إلا بنفس المشرك باختلال تفكيره وعمله ثم بوقوعه في العذاب.
و {مَتَاعٌ} مرفوع في قراءة الجمهور على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي هو متاع

الحياة الدنيا. وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على الحال من "بغيكم". ويجوز أن يكون انتصابه على الظرفية للبغي، لأن البغي مصدر مشتق فهو كالفعل فناب المصدر عن الظرف بإضافته إلى ما فيه معنى المدة. وتوقيت البغي بهذه المدة باعتبار أنه ذكر في معرض الغضب عليهم، فالمعنى أنه أمهلكم إمهالا طويلا فهلا تتذكرون؟ فلا تحسبون الإمهال رضى بفعلكم ولا عجزا وسيؤاخذكم به في الآخرة. وفي كلتا القراءتين وجوه غير ما ذكرنا.
والمتاع: ما ينتفع به انتفاعا غير دائم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأعراف [24]. والمعنى على كلتا القراءتين واحد، أي أمهلناكم على إشراككم مدة الحياة لا غير ثم نؤاخذكم على بغيكم عند مرجعكم إلينا.
وجملة: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} عطفت ب"ثُمَّ" لإفادة التراخي الرتبي لأن مضمون هذه الجملة أصرح تهديدا من مضمون جملة: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} .
وتقديم المجرور في قوله: {إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} لإفادة الاختصاص، أي ترجعون إلينا لا إلى غيرنا تنزيلا للمخاطبين منزلة من يظن أنه يرجع إلى غير الله لأن حالهم في التكذيب بآياته والإعراض عن عبادته إلى عبادة الأصنام كحال من يظن أنه يحشر إلى الأصنام وإن كان المشركون ينكرون البعث من أصله.
وتفريع {فَنُنَبِّئُكُمْ} على جملة: {إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} تفريع وعيد على تهديد. واستعمل الإنباء كناية عن الجزاء لأن الإنباء يستلزم العلم بأعمالهم السيئة، والقادر إذا علم بسوء صنيع عبده لا يمنعه من عقابه مانع. وفي ذكر {كُنْتُمْ} والفعل المضارع دلالة على تكرر عملهم وتمكنه منهم. والوعيد الذي جاءت به هذه الآية وإن كان في شأن أعظم البغي فكان لكل آت من البغي بنصيب حظا من هذا الوعيد.
[24] {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
هذه الآية تتنزل منزلة البيان لجملة {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 23] المؤذنة بأن

تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة، فبينت هذه الآية أن التمتع صائر إلى زوال، وأطنبت فشبهت هيئة التمتع بالدنيا لأصحابها بهيئة الزرع في نضارته ثم في مصيره إلى الحصد.
والمثل: الحال الماثلة على هيئة خاصة، كان التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة. عبر عن ذلك بلفظ المثل الذي شاع في التشبيه المركب كما تقدم في أول سورة البقرة.
وصيغة القصر لتأكيد المقصود من التشبيه وهو سرعة الانقضاء. ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا كحال من يحسب دوامه وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجئ. والمعنى: قصر حالة الحياة الدنيا على مشابهة حالة النبات الموصوف، فالقصر قصر قلب، بني على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس تلك الحالة.
شبهت حالة الحياة في سرعة تقضيها وزوال نعيمها بعد البهجة به وتزايد نضارتها بحال نبات الأرض في ذهابه حطاما ومصيره حصيدا.
ومن بديع هذا التشبيه تضمنه لتشبيهات مفرقة من أطوار الحالين المتشابهين بحيث يصلح كل جزء من هذا التشبيه المركب لتشبيه جزء من الحالين المتشابهين، ولذلك أطنب وصف الحالين من ابتدائه.
فقوله: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} شبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا إذ ليس ثمة سوى الأمل في نعيم العيش ونضارته، فلذلك الأمل يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه ما يؤمل منه من زخرف الأرض ونضارتها.
وقوله: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} شبه به طور ابتداء نضارة العيش وإقبال زهرة الحياة، فذلك يشبه خروج الزرع بعيد المطر فيما يشاهد من بوارق المأمول، ولذلك عطف بفاء التعقيب للإيذان بسرعة ظهور النبات عقب المطر فيؤذن بسرعة نماء الحياة في أول أطوارها. وعبر عنه بالاختلاط بالماء بحيث ظهر قبل جفاف الماء، أي فاختلط النبات بالماء أي جاوره وقارنه.
وقوله: {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} وصف لنبات الأرض الذي منه أصناف يأكلها الناس من الخضروات والبقول، وأصناف تأكلها الأنعام من العشب والكلأ، وذلك يشبه به ما ينعم به الناس في الحياة من اللذات وما ينعم به الحيوان، فإن له حظا في نعيم الحياة بمقدار نطاق حياته.

ولما كان ذلك قد تضمن المأكول والأكل صح أن تشبه به رغبات الناس في تناول لذائذ الحياة على حسب اختلاف مراتب الهمم، وذلك يتضمن تشبيه معالي الأمور من نعم الدنيا التي تسمو إليها الهمم العوالي بالنبات الذي يقتاته الناس، وتشبيه سفاسف الأمور بالنبات الذي يأكله الأنعام، ويتضمن تشبيه الذين يجنحون إلى تلك السفاسف بالأنعام، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} [محمد: 12].
والقول في {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} كالقول في قوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} [يونس: 22]، وهو غاية شبه بها بلوغ الانتفاع بخيرات الدنيا إلى أقصاه ونضوجه وتمامه وتكاثر أصنافه وانهماك الناس في تناولها ونسيانهم المصير إلى الفناء.
وأمر الله: تقديره وتكوينه. وإتيانه: إصابة تلك الأرض بالجوائح المعجلة لها باليبس والفناء.
وفي معنى الغاية المستفاد من "حتى" ما يؤذن بأن بين مبدأ ظهور لذات الحياة وبين منتهاها مراتب جمة وأطوارا كثيرة، فذلك طوي في معنى "حتى".
وقوله: {لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} ترديد في الوقت لإثارة التوقع من إمكان زوال نضارة الحياة في جميع الأزمنة لأن الشيء الموقت بمعين من التوقيت يكون الناس في أمن من حلوله في غير ذلك الوقت.
والزخرف: اسم الذهب. وأطلق على ما يتزين به مما فيه ذهب وتلوين من الثياب والحلي.
وإطلاق أخذ الأرض زخرفها على حصول الزينة فيها استعارة مكنية. شبهت الأرض بالمرأة حين تريد التزين فتحضر فاخر ثيابها من حلي وألوان. والعرب يطلقون على ذلك التناول اسم الأخذ، قال تعالى: {آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، وقال بشار ابن برد:
وخذي ملابس زينة ... ومصبغات وهي أفخر
وذكر {ازَّيَّنَتْ} عقب {زُخْرُفَهَا} ترشيح للاستعارة، لأن المرأة تأخذ زخرفها للتزين. و {ازَّيَّنَتْ} أصله تزينت فقلبت التاء زايا؛ لتدغم في الزاي فسكنت وأدغمت واجتلبت همزة الوصل لأجل النطق بالساكن.
واعلم أن في قوله تعالى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} إشارة لإدارة الاستئصال فهو ينذر بالتهديد للكافرين ويجعل التمثيل أعلق بحياتهم، كقوله تعالى: {حَتَّى

إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] لا سيما وقد ضرب هذا المثل لتمتع الكافرين ببغيهم وإمهالهم عليه، ويزيد تلك الإشارة وضوحا قوله: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} المؤذن بأن أهلها مقصودون بتلك الإصابة.
ومعنى: {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أنهم مستمرون على الانتفاع بها محصلون لثمراتها، فأطلق على التمكن من الانتفاع ودوامه لفظ القدرة على وجه الاستعارة.
والحصيد: المحصود، وهو الزرع المقطوع من منابته. والإخبار عن الأرض بحصيد على طريقة المجاز العقلي وإنما المحصود نباتها. ومعنى {لَمْ تَغْنَ} لم تعمر، أي لم تعمر بالزرع. يقال: غني المكان إذا عمر. ومنه المغنى للمكان المأهول. وضد أغنى أقفر المكان.
والباء: {بِالْأَمْسِ} للظرفية. والأمس: اليوم الذي قبل يومك. واللام فيه مزيدة لتملية اللفظ مثل التي في كلمة الآن. والمراد بالأمس في الآية مطلق الزمن الذي مضى لأن أمس يستعمل بمعنى ما مضى من الزمان، كما يستعمل الغد في معنى المستقبل واليوم في معنى الحال. وجمعها قول زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما غد عم
وجملة: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} إلى آخرها تذييل جامع، أي مثل هذا التفصيل نفصل أي نبين الدلالات كلها الدالة على عموم العلم والقدرة وإتقان الصنع. فهذه آية من الآيات المبينة وهي واحدة من عموم الآيات. وتقدم نظيره في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الأنعام[55].
واللام في: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لام الأجل.
والتفكر: التأمل والنظر، وهو تفعل مشتق من الفكر، وقد مر عند قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} في سورة الأنعام[50]. وفيه تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بالآيات ليسوا من أهل التفكر ولا كان تفصيل الآيات لأجلهم. وتقدم ذكر لفظ القوم غير مرة في هذه السورة.
[25] {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
الجملة معطوفة على جملة: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]، أي

نفصل الآيات التي منها آية حالة الدنيا وتقضيها، وندعو إلى دار السلام دار الخلد. ولما كانت جملة: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} تذييلا وكان شأن التذييل أن يكون كاملا جامعا مستقلا جعلت الجملة المعطوفة عليها مثلها في الاستقلال فعدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار إذ وضع قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو} موضع ندعو لأن الإضمار في الجملة يجعلها محتاجة إلى الجملة التي فيها المعاد.
وحذف مفعول {يَدْعُو} لقصد التعميم، أي يدعو كل أحد. والدعوة هي: الطلب والتحريض. وهي هنا أوامر التكليف ونواهيه.
ودار السلام: الجنة، قال تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، وقد تقدم وجه تسميتها بذلك في سورة الأنعام[127].
والهداية: الدلالة على المقصود النافع، والمراد بها هنا خلق الاهتداء إلى المقصود بقرينة قوله: {مَنْ يَشَاءُ} بعد قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو} المفيد التعميم فإن الدعوة إلى الجنة دلالة عليها فهي هداية بالمعنى الأصلي فتعين أن {يَهْدِي} هنا معناه إيجاد الهداية بمعنى آخر، وهي حصول الاهتداء بالفعل، أي خلق حصوله بأمر التكوين، كقوله: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} وهذا التكوين يقع إما في كل جزيئة من جزيئات الاهتداء على طريقة الأشاعرة، وإما بخلق الاستعداد له بحيث يقدر على الاهتداء عند حصول الأدلة على طريقة المعتزلة وهما متقاربان في الحال، وشؤون الغيب خفية. وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
والصراط المستقيم: الطريق الموصل.
[26] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] لأن الهداية بمن يشاء تفيد مهديا وغير مهدي. ففي هذه الجملة ذكر ما يشتمل عليه كلا الفريقين، ولك أن تجعلها بدل مفصل من مجمل.
ولما أوقع ذكر الذين أحسنوا في جملة البيان علم السامع أنهم هم الذين هداهم الله إلى صراط مستقيم وأن الصراط المستقيم هو العمل الحسن، وأن الحسنى هي دار

السلام. ويشرح هذه الآية قوله تعالى في سورة الأنعام[125-127]: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
والحسنى: في الأصل صفة أنثى الاحسن، ثم عوملت معاملة الجنس فأدخلت عليها لام تعريف الجنس فبعدت عن الوصفية ولم تتبع موصوفها.
وتعريفها يفيد الاستغراق، مثل البشرى، ومثل الصالحة التي جمعها الصالحات. والمعنى: للذين أحسنوا جنس الأحوال الحسنى عندهم، أي لهم ذلك في الآخرة. وبذلك تعين أن ما صدقها الذي أريد بها هو الجنة لأنها أحسن مثوبة يصير إليها الذين أحسنوا وبذلك صيرها القرآن علما بالغلبة على الجنة ونعيمها من حصول الملاذ العظيمة.
والزيادة يتعين أنها زيادة لهم ليست داخلة في نوع الحسنى بالمعنى الذي صار علما بالغلبة، فلا ينبغي أن تفسر بنوع مما في الجنة لأنها تكون حينئذ مما يستغرقه لفظ الحسنى فتعين أنها أمر يرجع إلى رفعة الأقدار، فقيل: هي رضي الله تعالى كما قال: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، وقيل: هي رؤيتهم الله تعالى. وقد ورد ذلك عن النبيء صلى الله عليه وسلم في "صحيح مسلم" و"جامع الترمذي" عن صهيب عن النبيء صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، قالوا: ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة، قال: فيكشف الحجاب، قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه" . وهو أصرح ما ورد في تفسيرها.
والرهق: الغشيان. وفعله من باب فرح.
والقتر: لون هو غبرة إلى السواد. ويقال له قترة والذي تخلص لي من كلام الأئمة والاستعمال أن القترة لون يغشى جلدة الوجه من شدة البؤس والشقاء والخوف. وهو من آثار تهيج الكبد من ارتجاف الفؤاد خوفا وتوقعا.
والذلة: الهوان. والمراد أثر الذلة الذي يبدو على وجه الذليل. والكلام مستعمل في صريحه وكنايته، أي لا تتشوه وجوههم بالقتر وأثر الذلة ولا يحصل لهم ما يؤثر القتر وهيئة الذلة.

وليس معنى نفي القتر والذلة عنهم في جملة أوصافهم مديحا لهم لأن ذلك لا يخطر بالبال وقوعا بعد أن أثبت لهم الحسنى وزيادة بل المعنى التعريض بالذين لم يهدهم الله إلى صراط مستقيم وهم الذين كسبوا السيئات تعجيلا للمساءة إليهم بطريق التعريض قبل التصريح الذي يأتي في قوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} إلى قوله: {مُظْلِمًا} [يونس: 27].
وجملة: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} نتيجة للمقدمة، فبينها وبين التي قبلها كمال الاتصال ولذلك فصلت عنها ولم تعطف.
واسم الإشارة يرجع إلى {الَّذِينَ أَحْسَنُوا} . وفيه تنبيه على أنهم استحقوا الخلود لأجل إحسانهم نظير قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5].
[27] {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
عطف على جملة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26]. وعبر في جانب المسيئين بفعل {كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} دون فعل أساءوا الذي عبر به في جانب الذين أحسنوا للإشارة إلى أن إساءتهم من فعلهم وسعيهم فما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.
والموصول مراد به خصوص المشركين لقوله بعده: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . فإن الخلود في النار لا يقع إلا للكافرين، كما دلت عليه الأدلة المتظافرة خلافا للمعتزلة والخوارج.
وجملة: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} خبر عن {الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} . وتنكير "سيئة" للعموم، أي جزاء كل سيئة بمثلها، وهو وإن كان في سياق الإثبات فالعموم مستفاد من المقام وهو مقام عموم المبتدأ، كقول الحريري:
يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا
أي كل ضر. وذلك العموم مغن عن الرابط بين الجملة الخبرية والمبتدأ، أو يقدر مجرور، أي جزاء سيئة منهم، كما قدر في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] أي فعليه.
واقتصر على الذلة لهم دون زيادة ويرهقهم قتر، لأنه سيجيء ما هو أشد منه وهو قوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} .

وجملة: {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} خبر ثان، أو حال من {الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} ، أو معترضة. وهو تهديد وتأييس.
والعاصم: المانع والحافظ. ومعنى {مِنَ اللَّهِ} من انتقامه وجزائه. وهذا من تعليق الفعل باسم الذات، والمراد بعض أحوال الذات مما يدل عليه السياق مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3].
وجملة: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} الخ بيان لجملة {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} بيان تمثيل، أو حال من الضمير في قوله: {وَتَرْهَقُهُمْ} .
و {أُغْشِيَتْ} معدى غشي إذا أحاط وغطا، فصار بإلهمزة معدى إلى مفعولين من باب كسا. وتقدم في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} في الأعراف[54]، وقوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} في الأنفال[11].
والقطع بفتح الطاء في قراءة الجمهور: جمع قطعة، وهي الجزء من الشيء، سمي قطعة لأنه يقتطع من كل غالبا، فهي فعلة بمعنى مفعولة نقلت إلى الاسمية. وقرأه ابن كثير والكسائي ويعقوب {قِطْعا} بسكون الطاء. وهو اسم للجزء من زمن الليل المظلم، قال تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 81].
وقوله: {مُظْلِماً} حال من الليل. ووصف الليل وهو زمن الظلمة بكونه مظلما لإفادة تمكن الوصف منه كقولهم: ليل أليل، وظل ظليل، وشعر شاعر، فالمراد من الليل الشديد الإظلام باحتجاب نجومه وتمكن ظلمته. شبهت قترة وجوههم بظلام الليل.
وجملة: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هي كجملة {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26].
[28, 29] {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} .
هذه الجملة معطوفة على جملة: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} [يونس: 27] باعتبار كونها معطوفة على جملة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] فإنه لما ذكر في الجملتين السابقتين ما يختص به كل فريق من الفريقين من الجزاء وسماته جاءت هذه الجملة

بإجمال حالة جامعة للفريقين ثم بتفصيل حالة يمتاز بها المشركون ليحصل بذلك ذكر فظيع من أحوال الذين بلغوا الغاية في كسب السيئات، وهي سيئة الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، وبذلك حصلت المناسبة مع الجملة التي قبلها المقتضية عطفها عليها.
والمقصود من الخبر هو ذكر حشرهم جميعا، ثم ما يقع في ذلك الحشر من افتضاح الذين أشركوا، فكان مقتضى الظاهر أن يقال، ونحشرهم جميعا. وإنما زيد لفظ {يَوْمَ} في صدر الجملة لأن ذلك اليوم لما كان هو زمن الحشر وأعمال عظيمة أريد التذكير به تهويلا وموعظة.
وانتصاب {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} إما على المفعولية بتقدير: اذكر، وإما على الظرفية لفعل مقدر يدل عليه قوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ} والتقدير: ونقول للذين أشركوا مكانكم يوم نحشر الناس جميعا. وضمير {نَحْشُرُهُمْ} للذين تقدم الكلام عليهم وهم الذين أحسنوا والذين كسبوا السيئات. وقوله: {جَمِيعاً} حال من الضمير البارز في {نَحْشُرُهُمْ} للتنصيص على إرادة عموم الضمير. وذلك أن الحشر يعم الناس كلهم. ومن نكت ذكر حشر الجميع هنا التنبيه على أن فظيع حال المشركين وافتضاحهم يكون بمرأى ومسمع من المؤمنين، فتكون السلامة من تلك الحالة زيادة في النعمة على المسلمين وتقوية في النكاية للمشركين.
والحشر: الجمع من أمكنة إلى مكان واحد. وتقدم في قوله تعالى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} في سورة الأنعام[111].
وقوله: {مَكَانَكُمْ} منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره: الزموا مكانكم، واستعماله هذا شائع في كلام العرب في الأمر بالملازمة مع التزام حذف العامل فيه حتى صار بمنزلة أسماء الأفعال الموضوعة للأمر، نحو: صه، ويقترن بضمير مناسب للمخاطب من إفراد وغيره، قال عمرو بن الاطنابة:
مكانك تحمدي أو تستريحي
وأمرهم بملازمة المكان تثقيف وحبس. وإذ قد جمع فيه المخاطبون وشركاؤهم علم أن ذلك الحبس لأجل جريمة مشتركة بين الفريقين، وهي كون أحد الفريقين عابدا والآخر معبودا.
وقوله: {أَنْتُمْ} تأكيد للضمير المتصل المقدر في الفعل المقدر، وهو المسوغ

للعطف عليه وبهذا العطف صار الشركاء مأمورين باللبث في المكان.
والشركاء: الأصنام. وصفوا بالشركاء لاعتقاد المخاطبين ذلك، ولذلك أضيف إلى ضميرهم، أي أنتم والذين زعمتم أنهم شركاء. فإضافة شركاء إلى ضمير المخاطبين تهكم.
وعطف {فَزَيَّلْنَا} بفاء التعقيب لإفادة حصول ذلك في عقب وقت الأمر باللبث. ولما كانت الفاء تقتضي الترتيب الزمني في حصول معطوفها إثر المعطوف عليه وكان المقصود هنا أن التزييل حصل مقارنا لإلزامهم المكان عبر عن فعل التزييل بصيغة الماضي لإفادة تحقيق وقوع التزييل كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].
وزيل: مضاعف زال المتعدي. يقال: زاله عن موضعه يزيله بمعنى أزاله فجعلوه يائي العين للتفرقة بينه وبين زال القاصر الذي هو واوي العين، فزيل فعل للمبالغة في الزيل مثل فرق مبالغة في فرق. والمعنى وقع بينهم تفريق قوي بحيث انقطعت جميع الوصل التي كانت بينهم. والتزييل هنا مجازي فيشمل اختلاف القول.
وتعليق التزييل بالأصنام باعتبار خلق معناه فيها حين أنطقها الله بما يخالف زعم عبادها.
وجملة: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ} عطف على جملة: {فَزَيَّلْنَا} فهو في حيز التعقيب، ويجوز جعلها حالا.
ويقول الشركاء هذا الكلام بخلق نطق فيها خارق للعادة يفهمه الناس لإشعار أولئك العابدين بأن أصنامهم تبرأوا منهم، وذلك مما يزيدهم ندامة. وكلام الأصنام يفيد نفي أن يكونوا عبدوهم بل عبدوا غيرهم. وفي استقامة ذلك إشكال لأن الواقع أنهم عبدوهم وعبدوا غيرهم فكيف ينفي كلامهم عبادتهم إياهم وهو كلام خلقه الله فيهم فكيف يكون كذبا. وقد تأول المفسرون هذا بوجوه لا ينثلج لها الصدر.
والذي ظهر لي أن يكون آخر كلام الأصنام مبينا لما أجمله أوله بأنهم نفوا أن يكونوا عبدوهم عبادة كاملة وهي العبادة التي يقصد منها العابد امتثال أمر المعبود وإرضاءه فتقتضي أن يكون المعبود عالما وآمرا بتلك العبادة. ولما كانت الأصنام غير عالمين ولا آمرين استقام نفيهم أن يكون عبدتهم قد عبدوهم تلك العبادة وإنما عبدوا غيرهم ممن أمروهم بالعبادة وهم الشياطين ولذلك قالوا: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} كما تفسره

الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40, 41].
فالمراد بالشركاء الأصنام لا غيرها، ويجوز ان يكون نطقها بجحد عبادة المشركين هو أن خلق لها عقولا فكانت عقولها مستحدثة يومئذ لم يتقرر فيها علم بأن المشركين عبدوها. ويفسر هذا قولهم بعد ذلك {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} .
وجملة: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} مؤكدة بالقسم ليثبتوا البراءة مما ألصق بهم. وجواب القسم {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} . وليس قولهم: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} قسما على كلامهم المتقدم لأن شأن القسم أن يكون في صدر الجملة.
وعطفت حملة القسم بالفاء للدلالة على أن القسم متفرع على الكلام المتقدم لأن إخبارهم بنفي أن يكونوا يعبدونهم خبر غريب مخالف لما هو مشاهد فناسب أن يفرع عليه ما يحققه ويبينه مع تأكيد ذلك بالقسم. والإتيان بفاء التفريع عند تعقيب الكلام بجملة قسمية من فصيح الاستعمال، كقوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 90-93]. ومن خصائصه أنه إذا عطف بفاء التفريع كان مؤكدا لما قبله بطريق تفريع القسم عليه ومؤكدا لما بعده بطريق جواب القسم به. وهذه الآية لم تفسر حق تفسيرها.
والشهيد: الشاهد، وهو المؤيد والمصدق لدعوى مدع، كما تقدم في قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء: 6].
و"كفى" بمعنى أجزأ وأغنى عن غيره. وتقدم في قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً} في سورة النساء[45]. وهو بصيغة خبر مستعمل في إنشاء القسم. والباء مزيدة للتأكيد. وأصله كفى بالله شهيدا.
وانتصب {شَهِيداً} على التمييز لنسبة الكفاية إلى الله لما فيها من الإجمال.
وجملة: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} جواب للقسم."وإنْ" مخففة من "إنّ". واسمها ضمير شأن ملتزم الحذف.
وجملة: {كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} مفسرة لضمير الشأن. واللام فارقة بين "وإنْ" المؤكدة المخففة و"إنْ" النافية.

وتقديم قوله: {عَنْ عِبَادَتِكُمْ} على عامله للاهتمام وللرعاية على الفاصلة.
[30] {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ}
تذييل وفذلكة للجمل السابقة من قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 28] إلى هنا. وهو اعتراض بين الجمل المتعاطفة.
والإشارة إلى المكان الذي أنبأ عنه قوله: {نَحْشُرُهُمْ} [يونس: 28] أي في ذلك المكان الذي نحشرهم فيه. واسم الإشارة في محل نصب على الظرفية. وعامله {تَبْلُو} ، وقدم هذا الظرف للاهتمام به لأن الغرض الأهم من الكلام لعظم ما يقع فيه.
و {تَبْلُو} تختبر، وهو هنا كناية عن التحقق وعلم اليقين. و {أَسْلَفَتْ} قدمت، أي عملا أسلفته. والمعنى أنها تختبر حالته وثمرته فتعرف ما هو حسن ونافع وما هو قبيح وضار إذ قد وضح لهم ما يفضي إلى النعيم بصاحبه، وضده.
وقرأ الجمهور {تَبْلُو} بموحدة بعد المثناة الفوقية. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بمثناة فوقية بعد المثناة الأولى على أنه من التلو وهو المتابعة، أي تتبع كل نفس ما قدمته من عمل فيسوقها إلى الجنة أو إلى النار.
{وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ}
يجوز ان تكون معطوفة على جملة: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} فتكون من تمام التذييل، ويكون ضمير "ردوا" عائدا إلى "كُلُّ نَفْسٍ". ويجوز أن تكون معطوفة على قوله و {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 28] الآية فلا تتصل بالتذييل، أي ونردهم إلينا، ويكون ضمير "ردوا" عائدا إلى الذين أشركوا خاصة. والمعنى تحقق عندهم الحشر الذي كانوا ينكرونه. ويناسب هذا المعنى قوله: {مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} فإن فيه إشعارا بالتورك عليهم بإبطال مواليهم الباطلة.
والرد: الإرجاع. والإرجاع إلى الله الإرجاع إلى تصرفه بالجزاء على ما يرضيه وما لا يرضيه وقد كانوا من قبل حين كانوا في الحياة الدنيا ممهلين غير مجازين.

والمولى: السيد، لأن بينه وبين عبده ولاء عهد الملك. ويطلق على متولي أمور غيره وموفر شؤونه.
والحق: الموافق للواقع والصدق، أي ردوا إلى الإله الحق دون الباطل. والوصف بالحق هو وصف المصدر في معنى إلحاق، أي إلحاق المولوية، أي دون الأولياء الذين زعموهم باطلا.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
هذه الجملة مختصه بالمشركين كما هو واضح.
والضلال: الضياع.
و {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ما كانوا يكذبون من نسبتهم الإلهية إلى الأصنام، فيجوز أن يكون ما صدق "ما" الموصولة الأصنام، فيكون قد حذف العائد مع حرف الجر بدون أن يجر الموصول بمثل ما جر به العائد والحق جوازه، فالتقدير: ما كانوا يكذبون عليه أو له. وضلاله: عدم وجوده على الوصف المزعوم له.
ويجوز أن يكون ما صدق "ما" نفس الافتراء، أي الافتراء الذي كانوا يفترونه. وضلاله: ظهور نفيه وكذبه.
[31] {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}
انتقال من غرض إلى غرض في أفانين إبطال الشرك وإثبات توحد الله تعالى بالإلهية. وهذه الجملة تتنزل الاستدلال لقوله: {مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [يونس: 30] لأنها برهان على أنه المستحق للولاية.
فاحتج على ذلك بمواهب الرزق الذي به قوام الحياة، وبموهبة الحواس، وبنظام التناسل والتوالد الذي به بقاء الأنواع،وبتدبير نظام العالم وتقدير المقدرات، فهذه كلها مواهب من الله وهم كانوا يعلمون أن جميع ما ذكر لا يفعله إلا الله إذ لم يكونوا ينسبون إلى أصنامهم هذه الأمور، فلا جرم أن كان المختص بها هو مستحق الولاية والإلهية.
والاستفهام تقريري. وجاء الاستدلال بطريقة الاستفهام والجواب لأن ذلك في صورة الحوار، فيكون الدليل الحاصل به أوقع في نفوس السامعين، ولذلك كان من طرق

التعليم مما يراد رسوخه من القواعد العلمية أن يؤتى به في صورة السؤال والجواب.
وقوله: {مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} تذكير بأحوال الرزق ليكون أقوى حضورا في الذهن، فالرزق من السماء المطر، والرزق من الأرض النبات كله من حب وثمر وكلأ.
و"أم" في قوله: { أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ} للإضراب الانتقالي من استفهام إلى آخر.
ومعنى: {يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} يملك التصرف فيهما، وهو ملك إيجاد تينك الحاستين وذلك استدلال وتذكير بأنفع صنع وأدقه.
وأفرد {السَّمْعَ} لأنه مصدر فهو دال على الجنس الموجود في جميع حواس الناس. وأما {الْأَبْصَارَ} فجي به جمعا لأنه اسم، فهو ليس نصا في إفادة العموم لاحتمال توهم بصر مخصوص فكان الجمع أدل على قصد العموم وأنفى لاحتمال العهد ونحوه بخلاف قوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] لأن المراد الواحد لكل مخاطب بقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} في سورة الأنعام[46].
وإخراج الحي من الميت: هو تولد أطفال الحيوان من النطف ومن البيض؛ فالنطفة أو البيضة تكون لا حياة فيها ثم تتطور إلى الشكل القابل للحياة ثم تكون فيها الحياة. و"من" في قوله: {مِنَ الْمَيِّتِ} للابتداء. وإخراج الميت من الحي إخراج النطفة والبيض من الحيوان.
والتعريف في {الْحَيَّ} و {الْمَيِّتِ} في المرتين تعريف الجنس.
وقد نظم هذا الاستدلال على ذلك الصنع العجيب بأسلوب الأحاجي والألغاز وجعل بمحسن التضاد، كل ذلك لزيادة التعجيب منه. وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} في سورة آل عمران[27]. غير أن ما هنا ليس فيه رمز إلى شيء.
وقوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} تقدم القول في نظيره في أوائل هذه السورة. وهو هنا تعميم بعد تخصيص ذكر ما فيه مزيد عبرة في أنفسهم كالعبرة في قوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 21, 22].

والفاء في قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} فاء السببية التي من شأنها أن تقترن بجواب الشرط إذا كان غير صالح لمباشرة أداة الشرط، وذلك أنه قصد تسبب قولهم: {اللَّهُ} على السؤال المأمور به النبيء عليه الصلاة والسلام، فنزل فعل {قُلْ} منزلة الشرط فكأنه قيل: إن تقل من يرزقكم من السماء والأرض فسيقولون الله، ومنه قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} [ الإسراء: 51, 52]. وهذا الاستعمال نظير تنزيل الأمر من القول منزلة الشرط في جزم الفعل المقول بتنزيله منزلة جواب الشرط كقوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 31] وقوله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 35]. التقدير: إن تقل لهم أقيموا الصلاة يقيموا وإن تقل لهم قولوا التي هي احسن يقولوا. وهو كثير في القرآن على رأي المحققين من النحاة وعادة المعربين أن يخرجوه على حذف شرط مقدر دل عليه الكلام. والرأيان متقاربان إلا أن ما سلكه المحققون تقدير معنى والتقدير عندهم اعتبار لا استعمال، وما سلكه المعربون تقدير إعراب والمقدر عندهم كالمذكور.
ولو لم ينزل الأمر بمنزلة الشرط لما جاءت الفاء كما في قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84, 85] الآيات.
والفاء في قوله: {فَقُلْ} فاء الفصيحة، أي إن قالوا ذلك فقل أفلا تتقون. والفاء في قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} فاء التفريع، أي يتفرع على اعترافكم بأنه الفاعل الواحد إنكار عدم التقوى عليكم.
ومفعول {تَتَّقُونَ} محذوف، تقديره تتقونه، أي بتنزيهه عن الشريك.
وإنما أخبر الله عنهم بأنهم سيعترفون بأن الرازق والخالق والمدبر هو الله لأنهم لم يكونوا يعتقدون غير ذلك كما تكرر الإخبار بذلك عنهم في آيات كثيرة من القرآن. وفيه تحد لهم فإنهم لو استطاعوا لأنكروا أن يكون ما نسب إليهم صحيحا، ولكن خوفهم عار الكذب صرفهم عن ذلك فلذلك قامت عليهم الحجة بقوله: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} .
[32] {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}
الفاء للتفريع على الإنكار الذي في قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]، فالفرع من جملة المقول. واسم الإشارة عائد إلى اسم الجلالة للتنبيه على أن المشار إليه جدير بالحكم الذي سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف المتقدمة على اسم الإشارة وهي كونه الرازق، الواهب الادراك، الخالق، المدبر، لأن اسم الإشارة قد جمعها. وأومأ إلى

أن الحكم الذي يأتي بعده معلل بمجموعها. واسم الجلالة بيان لاسم الإشارة لزيادة الإيضاح تعريضا بقوة خطئهم وضلالهم في الإلهية. و {رَبُّكُمُ} خبر. و {الْحَقُّ} صفة له. وتقدم الوصف بالحق آنفا في الآية مثل هذه.
والفاء في قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} تفريع للاستفهام الإنكاري على الاستنتاج الواقع بعد الدليل، فهو تفريع على تفريع وتقريع بعد تقريع.
و {مَاذَا} مركب من "ما" الاستفهامية و"ذا" الذي هو اسم إشارة. وهو يقع بعد: "ما" الاستفهامية كثيرا. وأحسن الوجوه أنه بعد الاستفهام مزيد لمجرد التأكيد. ويعبر عن زيادته بأنه ملغى تجنبا من إلزام أن يكون الاسم مزيدا كما هنا. وقد يفيد معنى الموصولية كما تقدم في قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} في سورة البقرة[26]. وانظر ما يأتي عند قوله: {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} في هذه السورة[50].
والاستفهام هنا إنكاري في معنى النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء في قوله: {إِلَّا الضَّلالُ} .
و {بَعْدَ} هنا مستعملة في معنى "غير" باعتبار أن المغاير يحصل إثر مغايرة وعند انتفائه. فالمعنى: ما الذي يكون إثر انتفاء الحق.
ولما كان الاستفهام ليس على حقيقته لأنه لا تردد في المستفهم عنه تعين أنه إنكار وإبطال فلذا وقع الاستثناء منه بقوله: {إِلَّا الضَّلالُ} . فالمعنى لا يكون إثر انتفاء الحق إلا الضلال إذ لا واسطة بينهما. فلما كان الله هو الرب الحق تعين أن غيره مما نسبت إليه الإلهية باطل. وعبر عن الباطل بالضلال لأن الضلال أشنع أنواع الباطل.
والفاء في {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} للتفريع أيضا، أي لتفريع التصريح بالتوبيخ على الإنكار والإبطال.
و {أَنَّى} استفهام عن المكان، أي إلى مكان تصرفكم عقولكم. وهو مكان اعتباري، أي أنكم في ضلال وعماية كمن ضل عن الطريق ولا يجد إلا من ينعت له طريقا غير موصلة فهو يصرف من ضلال إلى ضلال. قال ابن عطية: وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوق كل تفسير براعة وإيجازا ووضوحا.
وقد اشتملت هذه الآيات على تسع فاءات من قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} : الأولى جوابية، والثانية فصيحة، والبواقي تفريعية.

[33] {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
تذييل للتعجيب من استمرارهم على الكفر بعد ما ظهر لهم من الحجج والآيات، وتأييس من إيمانهم بإفادة أن انتفاء الإيمان عنهم بتقدير من الله تعالى عليهم فقد ظهر وقوع ما قدره من كلمته في الازل، والكاف الداخلة قبل اسم الإشارة كاف التشبيه. والمشبه به هو المشار إليه، وهو حالهم وضلالهم، أي كما شاهدت حقت كلمة ربك، يعني أن فيما شاهدت ما يبين لك أن قد حقت كلمة ربك عليهم أنهم لا يؤمنون.
وقوله: {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بدل من "كلمة" أو {من كلمات}. والمراد مضمون جملة: {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .
وقرأ نافع، وابن عامر {كلمات ربك} بالجمع. وقرأها الباقون بالأفراد، والمعنى واحد لأن الكلمة تطلق على مجموع الكلام كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100]، ولأن الجمع يكون باعتبار تعدد الكلمات أو باعتبار تكرر الكلمة الواحدة بالنسبة لأناس كثيرين.
والفسق: الخروج من المسلك الذي شأن الشيء سلوكه، والمراد به فسق عن تلقي دعوة الرسل وإعمال النظر، وتقدم في قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} في سورة البقرة[26].
ثم يجوز أن يكون المرد بالذين فسقوا كل من استمر على فسقه فلا يؤمن، فتكون الجملة تذييلا لما فيها من العموم الشامل لهؤلاء المتحدث عنهم، كقوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد: 17]، ويجوز أن يكون المراد بالذين فسقوا المتحدث عنهم خاصة فيكون من الإظهار في مقام الإضمار لإفادة أنهم مع صفاتهم السابقة قد اتصفوا بالفسق، ولإفادة كون فسقهم علة في أن حقت عليهم كلمة الله، ويكون المشبه به هو الحق المأخوذ من {حَقَّتْ} أي كذلك الحق حقت عليهم كلمة ربك مبالغة في ظهوره حتى أنه إذا أريد تشبيهه وتقريبه لم يشبه إلا بنفسه على طريقة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة[143].
وهي مع ذلك تذييل لما فيه من الفذلكة والتعجيب.
[24] {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى

تُؤْفَكُونَ}
استئناف على طريقة التكرير لقوله قلبه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 31]. وهذا مقام تقرير وتعديد الاستدلال، وهو من دواعي التكرير وهو احتجاج عليهم بأن حال إلهتهم على الضد من صفات الله تعالى فبعد أن أقام عليهم الدليل على انفراد الله تعالى بالرزق وخلق الحواس وخلق الأجناس وتدبير جميع الأمور وأنه المستحق للإلهية بسبب ذلك الانفراد بين هنا أن إلهتهم مسلوبة من صفات الكمال وأن الله متصف بها. وإنما لم يعطف لأنه غرض آخر مستقل، وموقع التكرير يزيده استقلالا.
والاستفهام إنكار وتقرير بإنكار ذلك إذ ليس المتكلم بطالب للجواب ولا يسعهم إلا الاعتراف بذلك فهو في معنى نفي أن يكون من إلهتهم من يبدأ الخلق ثم يعيده، فلذلك أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بأن يرتقي معهم في الاستدلال بقوله: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فصار مجموع الجملتين قصرا لصفة بدء الخلق وإعادته على الله تعالى قصر إفراد، أي دون شركائكم، أي فالأصنام لا تستحق الإلهية والله منفرد بها.
وذكر إعادة الخلق في الموضعين مع أنهم لا يعترفون بها ضرب من الإدماج في الحجاج وهو فن بديع.
وإضافة الشركاء إلى ضمير المخاطبين تقدم وجهه آنفا عند قوله: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} [يونس: 28].
وقوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} كقوله: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]. وأفكه: قلبه. والمعنى: فإلى أي مكان تقلبون. والقلب مجازي وهو إفساد الرأي. و"أنى" هنا استفهام عن مكان مجازي شبهت به الحقائق التي يحول فيها التفكير. واستعارة المكان إليها مثل إطلاق الموضوع عليها والمجال أيضا.
[35] {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
هذا تكرير آخر بعد قوله: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34]. وهذا استدلال بنقصان إلهتهم عن الإرشاد إلى الكمال النفساني بنشر الحق، وبأن الله تعالى هو الهادي إلى الكمال والحق، ومجموع الجملتين مفيد قصر صفة الهداية إلى

الحق على الله تعالى دون إلهتهم قصر إفراد، كما تقدم في نظيره آنفا. ومعلوم أن منة الهداية إلى الحق أعظم المنن لأن بها صلاح المجتمع وسلامة أفراده من اعتداء قويهم على ضعيفهم، ولولا الهداية لكانت نعمة الإيجاد مختلة أو مضمحلة.
والمراد بالحق الدين، وهو الأعمال الصالحة، وأصوله وهي الاعتقاد الصحيح.
وقد أتبع الاستدلال على كمال الخالق ببدء الخلق وإعادته بالاستدلال على كماله بالهداية كما في قول إبراهيم - عليه السلام -: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] وقول موسى - عليه السلام -: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1-3]. وذلك أن الإنسان الذي هو أكمل ما على الأرض مركب من جسد وروح، فالاستدلال على وجود الخالق وكماله بإيجاد الأجساد وما فيها هو الخلق، والاستدلال عليه بنظام أحوال الأرواح وصلاحها هو الهداية.
وقوله: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ} إلى آخره تفريع استفهام تقريري على ما أفادته الجملتان السابقتان من قصر الهداية إلى الحق على الله تعالى دون إلهتهم. وهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه أهل العقول بأن الذي يهدي إلى الحق يوصل إلى الكمال الروحاني وهو الكمال الباقي إلى الأبد وهو الكون المصون عن الفساد فإن خلق الأجساد مقصود لأجل الأرواح، والأرواح مراد منها الاهتداء، فالمقصود الأعلى هو الهداية. وإذ قد كانت العقول عرضة للاضطراب والخطأ احتاجت النفوس إلى هدي يتلقى من الجانب المعصوم عن الخطأ وهو جانب الله تعالى، فلذلك كان الذي يهدي إلى الحق أحق أن يتبع لأنه مصلح النفوس ومصلح نظام العالم البشري، فاتباعه واجب عقلا واتباع غيره لا مصحح له، إذ لا غاية ترجى من اتباعه. وأفعال العقلاء تصان عن العبث.
وقوله: {مَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} أي الذي لا يهتدي فضلا عن أن يهدي غيره، أي لا يقبل الهداية فكيف يهدي غيره فلا يحق له أن يتبع.
والمراد ب {مَّنْ لا يَهِدِّي} الأصنام فإنها لا تهتدي إلى شيء، كما قال إبراهيم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم: 42].
وقد اختلف القراء في قوله: {أَمَّنْ لا يَهِدِّي} فقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بفتح التحتية وفتح إلهاء على أن أصله يهتدي، أبدلت التاء دالا لتقارب

مخرجيهما وأدغمت في الدال ونقلت حركة التاء إلى إلهاء الساكنة "ولا أهمية إلى قراءة قالون عن نافع وإلى قراءة أبي عمرو بجعل فتح إلهاء مختلسا بين الفتح والسكون لأن ذلك من وجوه الأداء فلا يعد خلافا في القراءة".
وقرأ حفص عن عاصم، ويعقوب - بفتح الياء وكسر إلهاء وتشديد الدال - على اعتبار طرح حركة التاء المدغمة واختلاف كسرة على إلهاء على أصل التخلص من التقاء الساكنين. وقرأ أبو بكر عن عاصم - بكسر الياء وكسر إلهاء - بإتباع كسرة الياء لكسرة إلهاء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف - بفتح الياء وسكون إلهاء وتخفيف الدال - على أنه مضارع هدى القاصر بمعنى اهتدى، كما يقال: شرى بمعنى اشترى.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَنْ يُهْدَى} تهكم من تأكيد الشيء بما يشبه ضده. وأريد بالهدي النقل من موضع إلى موضع أي لا تهتدي إلى مكان إلا إذا نقلها الناس ووضعوها في المكان الذي يريدونه لها، فيكون النقل من مكان إلى آخر شبه بالسير فشبه المنقول بالسائر على طريقة المكنية، ورمز إلى ذلك بما هو من لوازم السير وهو الهداية في {لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} .
وجوز بعض المفسرين أن يكون فعل {إِلَّا أَنْ يُهْدَى} بمعنى إهداء العروس، أي نقلها من بيت أهلها إلى بيت زوجها، فيقال: هديت إلى زوجها.
وجملة: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} تفريع استفهام تعجيبي على اتباعهم من لا يهتدي بحال. واتباعهم هو عبادتهم إياهم.
ف {مَا} استفهامية مبتدأ، و {لَكُمْ} خبر، واللام للاختصاص. والمعنى: أي شيء ثبت لكم فاتبعتم من لا يهتدي بنفسه نقلا من مكان إلى مكان.
وقول العرب: مالك? ونحوه استفهام يعامل معاملة الاستفهام في حقيقته ومجازه. وفي الحديث أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال الناس: "ما له! ما له!" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربٌ مَّا له" . فإذا كان المستفهم عنه حالا ظاهرة لم يحتج إلى ذكر شيء بعد "مَا له" كما وقع في الحديث.
وجعل الزجاج هذه الآية منه فقال: {مَا لَكُمْ} : كلام تام، أي أي شيء لكم في عبادة الأوثان.
قال ابن عطية: ووقف القراء {فَمَا لَكُمْ} ثم يبدأ {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .

وإذا كان بخلاف ذلك أتبعوا الاستفهام بحال وهو الغالب كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 25] {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] ولذلك قال بعض النحاة: مثل هذا الكلام لا يتم بدون ذكر حال بعده، فالخلاف بين كلامهم وكلام الزجاج لفظي.
وجملة: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} استفهام يتنزل منزلة البيان لما في جملة: {مَا لَكُمْ} من الإجمال ولذلك فصلت عنها فهو مثله استفهام تعجيبي من حكمهم الضال إذ حكموا بإلهية من لا يهتدي فهو تعجيب على تعجيب. ولك أن تجعل هذه الجملة دليلا على حال محذوفة.
[36] {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}
عطف على جملة: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} [يونس: 35] باعتبار عطف تلك على نظيرتيها المذكورتين قبلها، فبعد أن أمر الله رسوله بأن يحجهم فيما جعلوهم إلهة وهي لا تصرف ولا تدبير ولا هداية لها، أعقب ذلك بأن عبادتهم إياها اتباع لظن باطل، أي لو هم ليس فيه شبهة حق.
والضمير في قوله: {أَكْثَرُهُمْ} عائد إلى أصحاب ضمير {شُرَكَائِكُمْ} [يونس: 35] وضمير {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35].
وإنما عمهم في ضمائر {شُرَكَائِكُمْ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ، وخص بالحكم في اتباعهم الظن أكثرهم، لأن جميع المشركين اتفقوا في اتباع عبادة الأصنام. وبين هنا أنهم ليسوا سواء في الاعتقاد الباعث لهم على عبادتها إيماء إلى أن من بينهم عقلاء فليلين ارتقت مدارك أفهامهم فوق أن يعتقدوا أن للأصنام تصرفا ولكنهم أظهروا عبادتها تبعا للهوى وحفظا للسيادة بين قومهم. والمقصود من هذا ليس هو تبرئة للذين عبدوا الأصنام عن غير ظن بإلهيتها فإنهم شر من الذين عبدوها عن تخيل، ولكن المقصود هو زيادة الاستدال على بطلان عبادتها حتى أن من عبادها فريقا ليسوا مطمئنين لتحقق إلهيتها. وبالتأمل يظهر أن هؤلاء هم خاصة القوم وأهل الأحلام منهم لأن المقام مقام تخطئة ذلك الظن. ففيه إيقاظ لجمهورهم، وفيه زيادة موعظة لخاصتهم ليقلعوا عن الاستمرار في عبادة ما لا تطمئن إليه قلوبهم. وهذا كقوله الآتي: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ}

[يونس: 40].
والظن: يطلق على مراتب الإدراك، فيطلق على الاعتقاد الجازم الذي لا يشوبه شك، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45, 46]؛ ويطلق على الاعتقاد المشوب بشك. ويظهر أنه حقيقة في هذا الثاني وأنه مجاز في الأول لكنه في الأول شائع فصار كالمشترك. وقد تقدم في سورة البقرة عند الكلام على الآية المذكورة. ومنه قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} في سورة الأعراف[66]، وقوله: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} في سورة براءة[118].
وقد أطلق مجازا على الاعتقاد المخطيء، كما في قوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وقول النبيء عليه الصلاة والسلام: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" .
والظن كثر إطلاقه في القرآن والسنة على العلم المخطئ أو الجهل المركب والتخيلات الباطلة، قال النبيء عليه الصلاة والسلام: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" . وقد يطلق على الظن الحصيبي كقوله تعالى: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور: 12] وقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. وهذا المعنى هو المصطلح عليه عند علماء أصول الدين وأصول الفقه. وهو العلم المستند إلى دليل راجح مع احتمال الخطأ احتمالا ضعيفا. وهذا الظن هو مناط التكليف بفروع الشريعة.
فوجه الجمع بين هذه المتعارضات إعمال كل في مورده اللائق به بحسب مقامات الكلام وسياقه، فمحمل قوله هنا: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} أن العلم المشوب بشك لا يغني شيئا في إثبات الحق المطلوب وذلك ما يطلب فيه الجزم واليقين من العلوم الحاصلة بالدليل العقلي لأن الجزم فيها ممكن لمن أعمل رأيه إعمالا صائبا إذ الأدلة العقلية يحصل منها اليقين، فأما ما طريق تحصيله الأدلة الظاهرة التي لا يتأتى اليقين بها في جميع الأحوال فذلك يكتفى فيه بالظن الراجح بعد إعمال النظر وهو ما يسمى بالاجتهاد.
و {ظَنّاً} منصوب على المفعولية به ل {تَّبِعُ} . ولما كان الظن يقتضي مظنونا كان اتباع الظن اتباعا للمظنون، أي يتبعون شيئا لا دليل عليه إلا الظن، أي الاعتقاد الباطل.

وتنكير {ظَنّاً} للتحقير، أي ظنا واهيا. ودلت صيغة القصر على أنهم ليسوا في عقائدهم المنافية للتوحيد على شيء من الحق ردا على اعتقادهم أنهم على الحق.
وجملة: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} تعليل لما دل عليه القصر من كونهم ليسوا على شيء من الحق فكيف يزعمون أنهم على الحق.
والحق: هو الثابت في نفس الأمر. والمراد به هنا معرفة الله وصفاته مما دل عليها الدليل العقلي مثل وجوده وحياته، وما دل عليها فعل الله مثل العلم والقدرة والإرادة .
و {شَيْئاً} مفعول مطلق مؤكد لعامله، أي لا يغني شيئا من الإغناء.
و {مِنَ} للبدلية، أي عوضا عن الحق.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} استئناف للتهديد بالوعيد.
[37] {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
لما كان الغرض الأول في هذه السورة إبطال تعجب المشركين من الإيحاء بالقرآن إلى النبيء صلى الله عليه وسلم وتبيين عدم اهتدائهم إلى آياته البينات الدالة على أنه من عند الله، وكيف لم ينظروا في أحوال الرسول الدالة على أن ما جاء به وحي من الله، وكيف سألوه مع ذلك أن يأتي بقرآن غيره أو يبدل آياته بما يوافق أهواءهم. ثم انتقل بعد ذلك إلى سؤالهم أن تنزل عليه آية أخرى من عند الله غير القرآن، وتخلل ذلك كله وصف افترائهم الكذب في دعوى الشركاء لله وإقامة الأدلة على انفراد الله بالإلهية وعلى إثبات البعث، وإنذارهم بما نال الأمم من قبلهم، وتذكيرهم بنعم الله عليهم وإمهالهم، وبيان خطئهم في اعتقاد الشرك اعتقادا مبينا على سوء النظر والقياس الفاسد، لا جرم عاد الكلام إلى قولهم في القرآن بإبطال رأيهم الذي هو من الظن الباطل أيضا بقياسهم أحوال النبوءة والوحي بمقياس عاداتهم كما قاسوا حقيقة الإلهية بمثل ذلك، فقارعتهم هذه الآية بذكر صفات القرآن في ذاته الدالة على أنه حق من الله وتحدتهم بالإعجاز عن الإتيان بمثله.
فجملة {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} يجوز أن تكون معطوفة على جملة: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً} [يونس: 36] بمناسبة اتباعهم الظن في الأمرين: شؤون الإلهية وفي شؤون النبوءة، ويجوز أن تكون معطوفة على مجموع ما تقدم عطف الغرض

على الغرض والقصة على القصة، وهو مفيد تفصيل ما أجمله ذكر الحروف المقطعة في أول السورة والجمل الثلاث التي بعد تلك الحروف. ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] تكملة للجواب عن قولهم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] وهذا الكلام مسوق للتحدي بإعجاز القرآن، وهي مفيدة المبالغة في نفي أن يكون مفترى من غير الله، أي منسوبا إلى الله كذبا وهو آت من غيره، فإن قوله: {مَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى} أبلغ من أن يقال: ما هو بمفترى، لما يدل عليه فعل الكون من الوجود، أي ما وجد أن يفترى، أي وجوده مناف لافترائه، فدلالة ذاته كافية في أنه غير مفترى، أي لو تأمل المتأمل الفطن تأملا صادقا في سور القرآن لعلم أنه من عند الله وأنه لا يجوز أن يكون من وضع البشر، فتركيب ما كان أن يفترى بمنزلة أن يقال: ما كان ليفترى، بلام الجحود، فحذف لام الجحود على طريقة حذف الجار اطرادا مع "أنْ"، ولما ظهرت "أنْ" هنا حذف لام الجحود وإن كان الغالب أن يذكر لام الجحود وتقدر {أنْ} ولا تذكر، فلما ذكر فعل "كان" الذي شأنه أن يذكر مع لام الجحود استغني بذكره عن ذكر لام الجحود قصدا للإيجاز.
وإنما عدل عن الإتيان بلام الجحود بأن يقال: ما كان هذا القرآن ليفترى، لأن الغالب أن لام الجحود تقع في نفي كون عن فاعل لا عن مفعول بما تدل علبه اللام من معنى الملك.
واعلم أن الإخبار ب {أَنْ} والفعل يساوي الإخبار بالمصدر، وهو مصدر بمعنى المفعول لأن صلة: {أَنْ} هنا فعل مبني للنائب. والتقدير ما كان هذا القرآن افتراء مفتر، فآل إلى أن المصدر المنسبك من"أن" مصدر بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق، وهو أيضا أقوى مبالغة من أن يقال: ما كان مفترى، فحصلت المبالغة من جهتين: جهة فعل "كان" وجهة "أن" المصدرية.
و"من" في قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} للابتداء المجازي متعلقة ب {يُفْتَرَى} أي أن يفتريه على الله مفتر. فقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حال من ضمير {يُفْتَرَى} وهي في قوة الوصف الكاشف.
والافتراء: الكذب، وتقدم في قوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة العقود[103].
ولما نفي عن القرآن الافتراء أخبر عنه بأنه تصديق وتفصيل، فجرت أخباره كلها

بالمصدر تنويها ببلوغه الغاية في هذه المعاني حتى اتحد بأجناسها.
و {صْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} كونه مصدقا للكتب السالفة، أي مبينا للصادق منها ومميزا له عما زيد فيها وأسيء من تأويلها كما قال تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} كما تقدم في سورة العقود[48]. وأيضا هو مصدق "بفتح الدال" بشهادة الكتب السالفة فيما أخذت من العهد على أصحابها أن يؤمنوا بالرسول الذي يجيء مصدقا وخاتما. فالوصف بالمصدر صالح للأمرين لأن المصدر يقتضي فاعلا ومفعولا.
والتفصيل: التبيين بأنواعه. والظاهر أن تعريف {الْكِتَابِ} تعريف الجنس فيستغرق الكتب كلها. ومعنى كون القرآن تفصيلا لها أنه مبين لما جاء مجملا في الكتب السالفة، وناسخ لما لا مصلحة للناس في دوام حكمه، ودافع للمتشابهات التي ضل بها أهل الكتاب، فكل ذلك داخل في معنى التفصيل، وهو معنى قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} في سورة العقود[48]. وهذا غير معنى قوله: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111]في الآية الأخرى.
وجملة: {لا رَيْبَ فِيهِ} مستأنفة ردت مزاعم الذين زعموا أنه مفترى باقتلاع دعوى افترائه، وأنها مما لا يروج على أهل الفطن والعقول العادلة، فالريب المنفي عنه هو أن يكون من أحواله في ذاته ومقارناته ما يثير الريب، ولذلك كان ريب المرتابين فيه ريبا مزعوما مدعى وهم لو راجعوا أنفسهم لوجدوها غير مرتابة. وقد تقدم القول في نظير هذا في طالعة سورة البقرة[2].
وموقع قوله: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} محتمل وجوها أظهرها أنه ظرف مستقر في موضع الخبر عن مبتدإ محذوف هو ضمير القرآن، والجملة استئناف ثان، و"من" ابتدائية تؤذن بالمجيء، أي هو وارد من رب العالمين، أي من وحيه وكلامه، وهذا مقابل قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
[38] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
{أَمْ} للإضراب الانتقالي من النفي إلى الاستفهام الإنكاري التعجيبي، وهو ارتقاء بإبطال دعواهم أن يكون القرآن مفترى من دون الله.

ولما اختصت: {أَمْ} بعطف الاستفهام كان الاستفهام مقدرا معها حيثما وقعت، فالاستفهام الذي تشعر به "أم" استفهام تعجيبي إنكاري، والمعنى: بل أيقولون افتراه بعدما تبين لهم من الدلائل على صدقه وبراءته من الافتراء.
ومن بديع الأسلوب وبليغ الكلام أن قدم وصف القرآن بما يقتضي بعده عن الافتراء وبما فيه من أجل صفات الكتب، وبتشريف نسبته إلى الله تعالى ثم أعقب ذلك بالاستفهام عن دعوى المشركين افتراء ليتلقى السامع هذه الدعوى بمزيد الاشمئزاز والتعجب من حماقة أصحابها فلذلك جعلت دعواهم افتراءه في حيز الاستفهام الإنكاري التعجيبي.
وقد أمر الله نبيه أن يجيبهم عن دعوى الافتراء بتعجيزهم، وأن يقطع الاستدلال عليهم، فأمرهم بأن يأتوا بسورة مثله. والأمر أمر تعجيز، وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سور القرآن، أي تشابهه في البلاغة وحسن النظم. وقد تقدم تقرير هذه المماثلة عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} في سورة البقرة[23].
وقوله: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هو كقوله في آية البقرة[23]: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، ومعنى: {صَادِقِينَ} هنا، أي قولكم أنه افترى، لأنه إذا أمكنه أن يفتريه أمكنكم أنتم معارضته فإنكم سواء في هذه اللغة العربية.
وحذف مفعول {اسْتَطَعْتُمْ} لظهوره من فعل "ادْعُوا"، أي من استطعتم دعوته لنصرتكم وإعانتكم على تأليف سورة مثل سور القرآن.
[39] {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}
{بَلْ} إضراب انتقالي لبيان كنه تكذيبهم، وأن حالهم في المبادرة بالتكذيب قبل التأمل أعجب من أصل التكذيب إذ أنهم بادروا إلى تكذيبه دون نظر في أدلة صحته التي أشار إليها قوله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 37].
والتكذيب: النسبة إلى الكذب، أو الوصف بالكذب سواء كان عن اعتقاد أم لم يكنه.

واختيار التعبير عن القرآن بطريق الموصولية في قوله: {بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} لما تؤذن به صلة الموصول من عجيب تلك الحالة المنافية لتسليط التكذيب، فهم قد كذبوا قبل ان يختبروا، وهذا من شأن الحماقة والجهالة.
والإحاطة بالشيء: الكون حوله كالحائط، وقد تقدم آنفا في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22]. ويكنى بها عن التمكن من الشيء بحيث لا يفوت منه. ومنه قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110] وقوله: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن: 28] أي علمه، فمضى {بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} بما لم يتقنوا علمه.
والباء للتعدية. وشأنها مع فعل الإحاطة أن تدخل على المحاط به وهو المعلوم، وهو هنا القرآن. وعد عن أن يقال بما لم يحيطوا به علما أو بما لم يحط علمهم به إلى {بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} للمبالغة إذ جعل العلم معلوما. فأصل العبارة قبل النفي أحاطوا بعلمه أي أتقنوا علمه أشد إتقان فلما نفي صار لم يحيطوا بعلمه، أي وكان الحق أن يحيطوا بعلمه لأن توفر أدلة صدقه يحتاج إلى زيادة تأمل وتدقيق نظر بحيث يتعين على الناظر علم أدلته ثم إعادة التأمل فيها وتسليط علم على علم ونظر على نظر بحيث تحصل الإحاطة بالعلم. وفي هذا مبالغة في فرط احتياجه إلى صدق التأمل، ومبالغة في تجهيل الذين بادروا إلى التكذيب من دون تأمل في شيء حقيق بالتأمل بعد التأمل.
والمعنى أنهم سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره وقبل أن يتدبروه. وأنما يكون مثل هذا التكذيب عن مكابرة وعداوة لا عن اعتقاد كونه مكذوبا. ثم إن عدم الإحاطة بعلمه متفاوت: فمنه عدم بحت وهو حال الدهماء، ومنه عدم في الجملة وهو ما يكون بضرب من الشبهة والتردد أو يكون مع رجحان صدقه ولكن لا يحيط بما يؤدي إليه التكذيب من شديد العقاب. ونظير هذه الآية في سورة النمل[84] {قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وجملة: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} معطوفة على الصلة، أي كذبوا بما لما يأتهم تأويله. وهذا ارتقاء في وصفهم بقلة الأناة والتثبت، أي لو انتظروا حتى يأتيهم تأويل القرآن، أي ما يحتاج منه إلى التأويل بل هم صمموا على التكذيب قبل ظهور التأويل.
والتأويل: مشتق من آل إذا رجع إلى الشيء. وهو يطلق على تفسير اللفظ الذي خفي معناه تفسيرا يظهر المعنى، فيؤول واضحا بعد أن كان خفيا، ومنه قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]الآية. وهو بهذا الإطلاق قريب من معنى التفسير. وقد مر في

سورة آل عمران وفي المقدمة الأولى من هذا التفسير. ويطلق التأويل على اتضاح ما خفي من معنى لفظ أو إشارة، كما في قوله تعالى: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100] وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] أي ظهور ما أنذرهم به من العذاب. والتأويل الذي في هذه الآية يحتمل المعنيين ولعل كليهما مراد، أي لما يأتهم تأويل ما يدعون أنهم لم يفهموه من معاني القرآن لعدم اعتيادهم بمعرفة أمثالها، مثل حكمة التشريع، ووقوع البعث، وتفضيل ضعفاء المؤمنين على صناديد الكافرين، وتنزيل القرآن منجما، ونحو ذلك. فهم كانوا يعتبرون الأمور بما ألفوه في المحسوسات وكانوا يقيسون الغائب على الشاهد فكذبوا بذلك وأمثاله قبل أن يأتيهم تأويله. ولو آمنوا ولازموا النبيء صلى الله عليه وسلم لعلموها واحدة بعد واحدة. وأيضا لما يأتهم تأويل ما حسبوا عدم التعجيل به دليلا على الكذب كما قالوا: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ظنا أنهم إن استغضبوا الله عجل لهم بالعذاب فظنوا تأخر حصول ذلك دليلا على أن القرآن ليس حقا من عنده. وكذلك كانوا يسألون آيات من الخوارق، كقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] الآية. ولو أسلموا ولازموا النبيء صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام لعلموا أن الله لا يعبأ باقتراح الضلال.
وعلى الوجهين فحرف {لَمَّا} موضوع لنفي الفعل في الماضي والدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم، وذلك يقتضي أن المنفي بها متوقع الوقوع، ففي النفي بها هنا دلالة على أنه سيجيء بيان ما أجمل من المعاني فيما بعد، فهي بذلك وعد، وأنه سيحل بهم ما توعدهم به، كقوله: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [الأعراف: 53] الآية. فهي بهذا التفسير وعيد.
وجملة: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} استئناف، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لمن يتأتى منه السماع. والإشارة ب {كَذَلِكَ} إلى تكذيبهم المذكور، أي كان تكذيب الذين من قبلهم كتكذيبهم، والمراد بالذين من قبلهم الأمم المكذبون رسلهم كما دل عليه المشبه به.
ومما يقصد من هذا التشبيه أمور:
أحدها: أن هذه عادة المعاندين الكافرين ليعلم المشركون أنهم مماثلون للأمم التي كذبت الرسل فيعتبروا بذلك.
الثاني: التعريض بالنذارة لهم بحلول العذاب بهم كما حل بأولئك الأمم التي عرف

السامعون مصيرها وشاهدوا ديارها.
الثالث: تسلية النبيء صلى الله عليه وسلم بأنه ما لقي من قومه إلا مثل ما لقي الرسل السابقون من أقوامهم.
ولذلك فرع على جملة التشبيه خطاب النبيء صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي عاقبة الأمم التي ظلمت بتكذيب الرسل كما كذب هؤلاء.
والأمر بالنظر في عاقبة الظالمين مقصود منه قياس أمثالهم في التكذيب عليهم في ترقب أن يحل بهم من المصائب مثل ما حل بأولئك لتعلم عظمة ما يلاقونك به من التكذيب فلا تحسبن أنهم مفلتون من العذاب. والنظر هنا بصري.
و {كَيْفَ} يجوز أن تكون مجردة عن الاستفهام، فهي اسم مصدر للحالة والكيفية، كقولهم: كن كيف شئت. ومنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} في سورة آل عمران[6]. ف {كَيْفَ} مفعول به لفعل: {انْظُرْ} ، وجملة: {كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} صفة: {كَيْفَ} . والمعنى انظر بعينك حالة صفتها كان عاقبة الظالمين، وهي حالة خراب منازلهم خرابا نشأ من اضمحلال أهلها.
ويجوز أن تكون: {كَيْفَ} اسم استفهام، والمعنى فانظر هذا السؤال، أي جواب السؤال، أي تدبره وتفكر فيه. و {كَيْفَ} خبر {كَانَ} . وفعل النظر معلق عن العمل في مفعولية بما في {كَيْفَ} من معنى الاستفهام.
[40] {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ}
عطف على جملة: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] لأن الإخبار عن تكذيبهم بأنه دون الإحاطة بعلم ما كذبوا به يقتضي أن تكذيبهم به ليس عن بصيرة وتأمل. وما كان بهاته المثابة كان حال المكذبين فيه متفتوتا حتى يبلغ إلى أن يكون تكذيبا مع اعتقاد نفي الكذب عنه، ولذلك جاء موقع هذه الآية عقب الأخرى موقع التخصيص للعام في الظاهر أو البيان للمجمل من عدم الإحاطة بعلمه، كما تقدم بيانه في قوله: {بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]. فكان حالهم في الإيماء بالقرآن كحالهم في اتباع الأصنام إذ قال فيهم: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً} [يونس: 36]، فأشعر لفظ {أَكْثَرُهُمْ} بأن منهم من يعلم بطلان عبادة الأصنام ولكنهم يتبعونها مشايعة لقومهم ومكابرة للحق، وكذلك حالهم في التكذيب بنسبة القرآن إلى الله، فمنهم من يؤمن به ويكتم إيمانه مكابرة وعداء،ومنهم

من لا يؤمنون به ويكذبون عن تقليد لكبرائهم. والفريقان مشتركان في التكذيب في الظاهر كما أنبأت عنه: "من" التبعيضية، وضمير الجمع عائد إلى ما عادت إليه ضمائر {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [يونس: 38] فمعنى يؤمن به يصدق بحقيته في نفسه ولكنه يظهر تكذيبه جمعا بين إسناد الإيمان إليهم وبين جعلهم بعضا من الذين يقولون: {افْتَرَاهُ} .
واختيار المضارع للدلالة على استمرار الإيمان به من بعضهم مع المعاندة، واستمرار عدم الإيمان به من بعضهم أيضا.
وجملة: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} معترضة في آخر الكلام على رأي المحققين من علماء المعاني، وهي تعريض بالوعيد والإنذار، وبأنهم من المفسدين، للعلم بأنه ما ذكر {الْمُفْسِدِينَ} هنا إلا لأن هؤلاء منهم وإلا لم يكن لذكر {الْمُفْسِدِينَ} مناسبة، فالمعنى: وربك أعلم بهم لأنه أعلم بالمفسدين الذين هم من زمرتهم.
[41] {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}
لما كان العلم بتكذيبهم حاصلا مما تقدم من الآيات تعين أن التكذيب المفروض هنا بواسطة أداة الشرط هو التكذيب في المستقبل، أي الاستمرار على التكذيب. وذلك أن كل ما تبين به صدق القرآن هو مثبت لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أتى به، أي إن أصروا على التكذيب بعد ما قارعتهم به من الحجة فاعلم أنهم لا تنجع فيهم الحجج وأعلن لهم بالبراءة منهم كما تبرؤوا منك.
ومعنى: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} المتاركة. وهو مما أجري مجرى المثل، ولذلك بني على الاختصار ووفرة المعنى، فأفيد فيه معنى الحصر بتقديم المعمول وبالتعبير بالإضافة ب {عَمَلِي} و {عَمَلُكُمْ} ، ولم يعبر بنحو لي ما أعمل ولكم ما تعملون، كما عبر به بعد.
والبريء: الخلي عن التلبس بشيء وعن مخالطته. وهو فعيل من برأ المضاعف على غير قياس. وفعل برأ مشتق من بريء بكسر الراء من كذا، إذا خلت عنه تبعته والمؤاخذة به.

وهذا التركيب لا يراد به صريحه وإنما يراد به الكناية عن المباعدة. وقد جاء هذا المكنى به مصرحا به في قوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216]، ولذلك فجملة {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ} إلى آخرها بيان لجملة {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} ولذلك فصلت.
وإنما عدل عن الإتيان بالعمل مصدرا كما أتي به في قوله: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} إلى الإتيان به فعلا صلة لـ {مَا} الموصولة للدلالة على البراءة من كل عمل يحدث في الحال والاستقبال، وأما العمل الماضي فلكونه قد انقضى لا يتعلق الغرض بذكر البراءة منه. ولو عبر بالعمل لربما توهم أن المراد عمل خاص لأن المصدر المضاف لا يعم، ولتجنب إعادة اللفظ بعينه في الكلام الواحد لأن جملة البيان من تمام المبين، ولأن هذا اللفظ أنسب بسلاسة النظم، لأن في "ما" في قوله: {مِمَّا أَعْمَلُ} من المد ما يجعله أسعد بمد النفس في آخر الآية والتهيئة للوقف على قوله: {مِمَّا تَعْمَلُونَ} ، ولما في {تَعْمَلُونَ} من المد أيضا، ولأنه يراعي الفاصلة.
وهذا من دقائق فصاحة القرآن الخارجة عن الفصاحة المتعارفة بين الفصحاء.
[42, 43] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} .
لما سبق تقسيم المشركين بالنسبة إلى اعتقادهم في الأصنام إلى من يتبع الظن ومن يوقن بأن الأصنام لا شيء، وتقسيمهم بالنسبة لتصديق القرآن إلى قسمين: من يؤمن بصدقه ومن لا يؤمن بصدقه؛ كمل في هذه الآية تقسيمهم بالنسبة للتلقي من النبيء صلى الله عليه وسلم إلى قسمين: قسم يحضرون مجلسه ويستمعون إلى كلامه، وقسم لا يحضرون مجلسه وإنما يتوسمونه وينظرون سمته. وفي كلا الحالين مسلك عظيم إلى الهدى لو كانوا مهتدين؛ فإن سماع كلام النبيء وإرشاده ينير عقول القابلين للهداية، فلا جرم أن كان استمرار المشركين على كفرهم مع سماعهم كلام النبيء أو رؤية هديه مؤذنا ببلوغهم الغاية في الضلالة ميئوسا من نفوذ الحق إليهم، وليس ذلك لقصور كلامه عن قوة الإبلاغ إلى الاهتداء، كما أن التوسم في سمته الشريف ودلائل نبوءته الواضحة في جميع أحواله كاف في إقبال النفس عليه بشراشرها، فما عدم انتفاع الكفار الذين يعاينون ذاته الشريفة بمعاينتها إلا لشدة بغضهم إياه وحسدهم، وقد أفاد سياق الكلام أنهم يستمعون إليه وينظرون إليه ولا ينتفعون

بذلك من جهة أن المستمعين إليه والناظرين إليه هنا استمروا على الكفر كما دل عليه قوله: {وَمِنْهُمْ} في الموضعين، فطويت جملة ولا ينتفعون أو نحوها للإيجاز بدلالة التقسيم. وجيء بالفعل المضارع دون اسم الفاعل للدلالة على تكرر الاستماع والنظر. والحرمان من الاهتداء مع ذلك التكرر أعجب.
فجملة {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} تفريع على جملة: {مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} مع ما طوي فيها. وفي هذا التفريع بيان لسبب عدم انتفاعهم بسماع كلام النبيء صلى الله عليه وسلم، وتسلية له وتعليم للمسلمين، فقربت إليهم هذه الحالة الغريبة بأن أولئك المستمعين بمنزلة صم لا يعقلون في أنهم حرموا التأثر بما يسمعون من الكلام فساووا الصم الذين لا يعقلون في ذلك، وهذه استعارة مصرحة إذ جعلهم نفس الصم.
وبني على ذلك استفهام عن التمكن من إسماع هؤلاء الصم وهدي هؤلاء العمي مع أنهم قد ضموا إلى صممهم عدم العقل وضموا إلى عماهم عدم التبصر. وهذان الاستفهامان مستعملان في التعجيب من حالهم إذ يستمعون إلى دعوة النبيء صلى الله عليه وسلم ولا يعقلونها، وإذ ينظرون أعماله وسيرته ولا يهتدون بها، فليس في هذين الاستفهامين معنى الإنكار على محاولة النبيء إبلاغهم وهديهم لأن المقام ينبو عن ذلك.
وهذه المعاني المجازية تختلف باختلاف المقام والقرائن، فلذلك لم يكن الاستفهامان إنكارا، ولذلك لا يتوهم إشكال بأن موقع "لو" الوصلية هنا بعدما هو بمعنى النفي بحيث تنتقض المبالغة التي اجتلبت لها "لو" الوصلية، بل المعنى بالعكس.
وفي هذين الاستفهامين ترشيح لاستعارة الصم والعمي لهؤلاء الكافرين، أي أن الله لما خلق نفوسهم مفطورة على المكابرة والعناد وبغضاء من أنعم الله عليه وحسده كانت هاته الخصال حوائل بينهم وبين التأثر بالمسموعات والمبصرات فجيء بصيغة الاستفهام التعجيبي المشتملة على تقوى الخبر بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ} وقوله: {أَفَأَنْتَ تَهْدِي} دون أن يقال: أتسمع الصم وأتهدي العمي، فكان هذا التعجيب مؤكدا مقوى.
و"لو" في قوله: {وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} وقوله: {وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} ، وصلية دالة على المبالغة في الأحوال، وهي التي يكون الذي بعدها أقصى ما يعلق به الغرض.
ولذلك يقدرون لتفسير معناها جملة قبل جملة "لو" مضمونها ضد الجملة التي دخلت عليها "لو"، فيقال هنا: أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون بل ولو كانوا لا يعقلون.

ولما كان الغرض هنا التعجيب من حالهم إذ لم يصلوا إلى الهدى كان عدم فهمهم وعدم تبصرهم كناية عن كونهم لا يعقلون وكونهم لا بصائر لهم. فمعنى: {لا يَعْقِلُونَ} ليس لهم إدراك العقول، أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم فإن الأصم العاقل ربما تفرس في مخاطبه واستدلال بملامحه.
وأما معنى: {لا يُبْصِرُونَ} فإنهم لا بصيرة لهم يتبصرون بها. وهو الذي فسر به "الكشاف" وهو الوجه، إذ بدونه يكون معنى: {لا يُبْصِرُونَ} مساويا لمعنى العمى فلا تقع المبالغة ب"لو" الوصيلة موقعها، إذ يصير أفأنت تهدي العمي ولو كانوا عميا. ومقتضى كلام "الكشاف" أنه يقال: أبصر إذ استعمل بصيرته وهي التفكير والاعتبار بحقائق الأشياء. وكلام "الأساس" يحوم حوله. وأياما كان فالمراد بقوله: {لا يُبْصِرُونَ} معنى التأمل، أي ولو انضم إلى عمى العمي عدم التفكير كما هو حال هؤلاء الذين ينظرون إليك سواء كان ذلك مدلولا لفعل {يُبْصِرُونَ} بالوضع الحقيقي أو المجازي. فبهذا النظم البديع المشتمل على الاستعارة في أوله وعلى الكناية في آخره وعلى التعجيب وتقويته في وسطه حصل تحقيق أنهم لا ينتفعون بأسماعهم ولا بأبصارهم وأنهم لا يعقلون ولا يتبصرون في الحقائق.
وقد علم أن هذه الحالة التي اتصفوا بها هي حالة أصارهم الله إليها بتكوينه وجعلها عقابا لهم في تمردهم في كفرهم وتصلبهم في شركهم وإعراضهم عن دعوة رسوله ولذلك جعلهم صما وعميا. فليس المعنى أن الله هو الذي يسمعهم ويهديهم لا أنت لأن هذا أمر معلوم لا يحتاج للعبارة.
وقد أورد الشيخ ابن عرفة سؤالا عن وجه التفرقة بين قوله: {مَنْ يَسْتَمِعُونَ} وقوله: {مَنْ يَنْظُرُ} إذ جيء بضمير الجمع في الأول وبضمير المفرد في الثاني. وأجاب عنه بأن الإسماع يكون من الجهات كلها وأما النظر فإنما يكون من الجهة المقابلة. وهو جواب غير واضح لأن تعدد الجهات الصالحة لأحد الفعلين لا يؤثر إذا كان المستمعون والناظرون متحدين ولأن الجمع والأفراد هنا سواء لأن مفاد "من" الموصولة فيهما هو من يصدر منهم الفعل وهم عدد وليس الناظر شخصا واحدا.
والوجه أن كلا الاستعمالين سواء في مراعاة لفظ "من" ومعناها، فلعل الابتداء بالجمع في صلة "من" الأولى الإشارة إلى أن المراد ب"من" غير واحد معين وأن العدول عن الجمع في صلة "من" الثانية هو التفنن وكراهية إعادة صيغة الجمع لثقلها لا سيما بعد

أن حصل فهم المراد، أو لعل اختلاف الصيغتين للمناسبة مع مادة فعلي "يستمع". "وينظر". ففعل "ينظر" لا تلائمه صيغة الجمع لآن حروفه أثقل من حروف "يَستمع" فيكون العدول استقصاء لمقتضى الفصاحة.
[44] {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
تذييل، وشمل عموم الناس المشركين الذين يستمعون ولا يهتدون وينظرون ولا يعتبرون. والمقصود من هذا التذييل التعريض بالوعيد بأن سينالهم ما نال جميع الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب رسل الله. وعموم {النَّاسَ} الأول على بابه وعموم {النَّاسَ} الثاني مراد به خصوص الناس الذين ظلموا أنفسهم بقرينة الخبر. وإنما حسن الإتيان في جانب هؤلاء العموم تنزيلا للكثرة منزلة الإحاطة لأن ذلك غالب حال الناس في ذلك الوقت.
وهذا الاستدراك أشعر بكلام مطوي بعد نفي الظلم عن الله، وهو أن الله لا يظلم الناس بعقابه من لم يستوجب العقاب ولكن الناس يظلمون فيستحقون العقاب، فصار المعنى أن الله لا يظلم الناس بالعقاب ولكنهم يظلمون أنفسهم بالاعتداء على ما أراد منهم فيعاقبهم عدلا لأنهم ظلموا فاستوجبوا العقاب.
وتقديم المفعول على عامله لإفادة تغليطهم بأنهم ما جنوا بكفرهم إلا على أنفسهم وما ظلموا الله ولا رسله فما أضروا بعملهم إلا أنفسهم.
وقرأ الجمهور بتشديد نون {لَكِنَّ} ونصب {النَّاسَ} وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتخفيف النون ورفع {النَّاسَ} .
[45] {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} .
عطف على {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ} [يونس: 28] عطف القصة على القصة عودا إلى غرض من الكلام بعد تفصيله وتفريعه وذم المسوق إليهم وتقريعهم فإنه لما جاء فيما مضى ذكر يوم الحشر إذ هو حين افتضاح ضلال المشركين ببراءة شركائهم منهم أتبع ذلك بالتقريع على عبادتهم الأصنام مع وضوح براهين الوحدانية لله تعالى. وإذ كان القرآن قد أبلغهم ما كان يعصمهم من ذلك الموقف الذليل لو اهتدوا به

أتبع ذلك بالتنويه بالقرآن وإثبات أنه خارج عن طوق البشر وتسفيه الذين كذبوه وتفننوا في الإعراض عنه واستوفي الغرض حقه عاد الكلام إلى ذكر يوم الحشر مرة أخرى إذ هو حين خيبة أولئك الذين كذبوا بالبعث وهم الذين أشركوا وظهر افتضاح شركهم في يوم الحشر فكان مثل رد العجز على الصدر.
وانتصب {يَوْمَ} على الظرفية لفعل {خَسِرَ} . والتقدير: وقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله يوم نحشرهم، فارتباط الكلام هكذا: وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون وقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله يوم نحشرهم. وتقديم الظرف على عامله للاهتمام لأن المقصود الأهم تذكيرهم بذلك اليوم وإثبات وقوعه مع تحذيرهم ووعيدهم بما يحصل لهم فيه.
ولذلك عدل عن الأظمار إلى الموصولية في قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} دون قد خسروا، للإيماء إلى أن سبب خسرانهم هو تكذيبهم بلقاء الله وذلك التكذيب من آثار الشرك فارتبط بالجملة الأولى وهي جملة: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ} إلى قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 28- 30].
وقرأ الجمهور: {نَحْشُرُهُمْ} بنون العظمة، وقرأه حفص عن عاصم بياء الغيبة، فالضمير يعود إلى اسم الجلالة في قوله قبله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} [يونس: 44].
وجملة: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} إما معترضة بين جملة: {نَحْشُرُهُمْ} وجملة: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} ، وإما حال من الضمير المنصوب في {نَحْشُرُهُمْ} .
و {كَأَنْ} مخففة: "كأنَّ" المشددة النون التي هي إحدى أخوات "إن"، وهي حرف تشبيه، وإذا خففت يكون اسمها محذوفا غالبا، والتقدير هنا: كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من النهار. وقد دل على الاسم المحذوف ما تقدم من ضمائرهم.
والمعنى تشبيه المحشورين بعد أزمان مضت عليهم في القبور بأنفسهم لو لم يلبثوا في القبور إلا ساعة من النهار.
و {مِنَ النَّهَارِ} "مِنَ" فيه تبعيضية صفة ل {سَاعَةً} وهو وصف غير مراد منه التقييد إذ لا فرق في الزمن القليل بين كونه من النهار أو من الليل وإنما هذا وصف خرج مخرج الغالب لأن النهار هو الزمن الذي تستحضره الأذهان في المتعارف، مثل ذكر لفظ الرجل في الإخبار عن أحوال الإنسان كقوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف: 46]. ومن

هذا ما وقع في الحديث وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، والمقصود ساعة من الزمان وهي الساعة التي يقع فيها قتال أهل مكة من غير التفات إلى تقييد بكونه في النهار وإن كان صادف أنه في النهار.
والساعة: المقدار من الزمان، والأكثر أن تطلق على الزمن القصير إلا بقرينة، وتقدم عند قوله تعالى: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} في سورة الأعراف[34].
ووجه الشبه بين حال زمن لبثهم في القبور وبين لبث ساعة من النهار وجوه: هي التحقق والحصول، بحيث لم يمنعهم طول الزمن من الحشر، وأنهم حشروا بصفاتهم التي عاشوا عليها في الدنيا فكأنهم لم يفنوا. وهذا اعتبار بعظيم قدرة الله على إرجاعهم.
والمقصود من التشبيه التعريض بإبطال دعوى المشركين إحالتهم البعث بشبهة أن طول اللبث وتغير الأجساد ينافي إحياءها: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} [النازعات: 10, 11].
وجملة: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} حال من الضمير المنصوب في {نَحْشُرُهُمْ} .
والتعارف: تفاعل من عرف، أي يعرف كل واحد منهم يومئذ من كان يعرفه في الدنيا ويعرفه الآخر كذلك.
والمقصود من ذكر هذه الحال كالمقصود من ذكر حالة {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} لتصوير أنهم حشروا على الحالة التي كانوا عليها في الدنيا في أجسامهم وإدراكهم زيادة في بيان إبطال إحالتهم البعث بشبهة أنه ينافي تمزق الأجسام في القبور وانطفاء العقول بالموت.
فظهر خسرانهم يومئذ بأنهم نفوا البعث فلم يستعدوا ليومه بقبول ما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
[46] {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}
كان ذكر تكذيبهم الذي جاء في صدر السورة بقوله: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} ، ثم الوعيد عليه بعذاب يحل بهم، والإشارة إلى أنهم كذبوا بالوعيد في قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} إلى قوله: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 11- 14] منذرا

بترقب عذاب يحل بهم في الدنيا كما حل بالقرون الذين من قبلهم، وكان معلوما من خلق النبيء صلى الله عليه وسلم رأفته بالناس ورغبته أن يتم هذا الدين وأن يهتدي جميع المدعوين إليه، فربما كان النبيء يحذر أن ينزل بهم عذاب الاستئصال فيفوت اهتداؤهم. وكان قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس: 11] تصريحا بإمكان استبقائهم وإيماء إلى إمهالهم. جاء هذا الكلام بيانا لذلك وإنذارا بأنهم إن أمهلوا فأبقي عليهم في الدنيا فإنهم غير مفلتين من المصير إلى عقاب الآخرة حين يرجعون إلى تصرف الله دون حائل.
وجاء الكلام على طريقة إبهام الحاصل من الحالين لإيقاع الناس بين الخوف والرجا وإن كان المخاطب به النبيء صلى الله عليه وسلم.
والمراد ب {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} هو عذاب الدنيا فإنهم أوعدوا بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} . فالمعنى إن وقع عذاب الدنيا بهم فرأيته أنت أو لم يقع فتوفاك الله فمصيرهم إلينا على كل حال.
فمضمون {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قسيم لمضمون {نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} .
والجملتان معا جملتا شرط، وجواب الشرط قوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} .
ولما جعل جواب الشرطين إرجاعهم إلى الله المكنى به عن العقاب الآجل، تعين أن التقسيم الواقع في الشرط ترديد بين حالتين لهما مناسبة بحالة تحقق الإرجاع إلى عذاب الله على كلا التقديرين، وهما حالة التعجيل لهم بالعذاب في الدنيا وحالة تأخير العذاب إلى الآخرة. وأما إرادة الرسول تعذيبهم وتوفيه بدون إرائته فلا مناسبة لهما بالإرجاع إلى الله على كلتيهما إلا باعتبار مقارنة إحداهما لحالة التعجيل ومناسبة الأخرى لحالة التأخير.
وإنما كني عن التعجيل بأن يريه الله الرسول للإيماء إلى أن حالة تعجيل العذاب لا يريد الله منها إلا الانتصاف لرسوله بأن يريه عذاب معانديه، ولذلك بني على ضد ذلك ضد التعجيل فكني بتوفيه عن عدم تعجيل العذاب بل عن تأخيره إذ كانت حكمة التعجيل هي الانتصاف للرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما جعل مضمون جملة: {نَتَوَفَّيَنَّكَ} قسيما لمضمون جملة: {نُرِيَنَّكَ} تعين أن إراءته ما أوعدوا به من عذاب الدنيا إنما هو جزاء عن تكذيبهم إياه وأذاهم له انتصارا له حتى يكون أمره جاريا على سنة الله في المرسلين، كما قال نوح: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا

كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 26]، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى عقبه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} [يونس: 47] الآية وقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 4]. وقد أراه الله تعالى بعض الذي توعدهم بما لقوا من القحط سبع سنين بدعوته عليهم، وبما أصابهم يوم بدر من الإهانة، وقتل صناديدهم، كما أشار إليه قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [يونس: 10- 16].
والدخان هو ما كانوا يرونه في سنين القحط من شبه الدخان في الارض. والبطشة الكبرى: بطشة يوم بدر.
وتأمل قوله: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} وقوله: {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} .
ثم كف الله عنهم عذاب الدنيا إرضاء له أيضا إذ كان يود استبقاء بقيتهم ويقول: لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده.
فأما الكفر بالله فجزاؤه عذاب الآخرة.
فطوي في الكلام جمل دلت عليها الجمل المذكورة إيجازا محكما وصارت قوة الكلام هكذا: وإما نعجل لهم بعض العذاب فنرينك نزوله بهم، أو نتوفينك فنؤخر عنهم العذاب بعد وفاتك، أي لانتفاء الحكمة في تعجيله فمرجعهم إلينا، أي مرجعهم ثابت إلينا دوما فنحن أعلم بالحكمة المقتضية نفوذ الوعيد فيهم في الوقت المناسب في الدنيا إن شئنا في حياتك أو بعدك أو في الآخرة.
وكلمة {إِمَّا} هي "إن" الشرطية و"ما" المؤكدة للتعليق الشرطي. وكتبت في المصحف بدون نون وبميم مشددة محاكاة لحالة النطق، وقد أكد فعل الشرط بنون التوكيد فإنه إذا أريد توكيد فعل الشرط بالنون وتعينت زيادة "ما" بعد "إن" الشرطية فهما متلازمان عند المبرد والزجاج وصاحب "الكشاف" في تفسير قوله تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} في سورة غافر[77]، فلا يقولون إن: تكرمني أكرمك بنون التوكيد ولكن تقولون: إن تكرمني بدون نون التوكيد كما أنه لا يقال: إما تكرمني بدون نون التوكيد ولكن تقول: إن تكرمني. وشذ قول الأعشى:
فإما تريني ولي لمة ... فإن الحوادث أودى بها

ثم أكد التعليق الشرطي تأكيدا ثانيا بنون التوكيد وتقديم المجرور على عامله وهو مرجعهم للاهتمام. وجملة: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} اسمية تفيد الدوام والثبات، أي ذلك أمر في تصرفنا دوما.
وجملة: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} معطوفة على جملة: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} . وحرف {ثُمَّ} للتراخي الرتبي كما هو شأن "ثم" في عطفها الجمل. والتراخي الرتبي كون الجملة المعطوفة بها أعلى رتبة من المعطوفة عليها فإن جملة: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} لاشتمالها على التعريض بالجزاء على سوء أفعالهم كانت أهم مرتبة في الغرض وهو غرض الإخبار بأن مرجعهم إلى الله، لأن إرجاعهم إلى الله مجمل واطلاعه على أفعالهم المكنى به عن مؤاخذتهم بها هو تفصيل للوعيد المجمل، والتفصيل أهم من الإجمال. وقد حصل بالإجمال ثم بتفصيله تمام تقرير الغرض المسوق له الكلام وتأكيد الوعيد. وأما كون عذاب الآخرة حاصلا بعد إرجاعهم إلى الله بمهلة جمع ما فيه من تكلف تقرر تلك المهلة هو بحيث لا يناسب حمل الكلام البليغ على التصدي لذكره.
وقوله: {اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} خبر مستعمل في معناه الكنائي، إذ هو كناية عن الوعيد بالجزاء على جميع ما فعلوه في الدنيا بحيث لا يغادر شيئا.
والشهيد: الشاهد، وحقيقته: المخبر عن أمر فيه تصديق للمخبر، واستعمل هنا في العالم علم تحقيق.
وعبر بالمضارع في قوله: {يَفْعَلُونَ} للإشارة إلى أنه عليم بما يحدث من أفعالهم، فأما ما مضى فهو بعلمه أجدر.
[47] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
عطف على جملة: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [يونس: 46]، وهي بمنزلة السبب لمضمون الجملة التي قبلها. وهذه بينت أن مجيء الرسول للامة هو منتهى الإمهال، وأن الأمة إن كذبت رسولها استحقت العقاب على ذلك. فهذا إعلام بأن تكذيبهم الرسول هو الذي يجر عليهم الوعيد بالعقاب، فهي ناظرة إلى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص: 59] وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].

وجملة: {لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} ليست هي المقصود من الإخبار بل هي تمهيد للتفريع المفرع عليها بقوله: {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ} الخ، فلذلك لا يؤخذ من الجملة الأولى تعين أن يرسل رسول لكل أمة لأن تعيين الأمة بالزمن أو بالنسب أو بالموطن لا ينضبط، وقد تخلو قبيلة أو شعب أو عصر أو بلاد عن مجيء رسول فيها ولو كان خلوها زمنا طويلا. وقد قال الله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46]. فالمعنى: ولكل أمة من الأمم ذوات الشرائع رسول معروف جاءها مثل عاد وثمود ومدين واليهود والكلدان. والمقصود من هذا الكلام ما تفرع عليه من قوله: {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} .
والفاء للتفريع و"إذا" للظرفية مجردة عن الاستقبال، والمعنى: أن في زمن مجيء الرسول يكون القضاء بينهم بالقسط. وتقديم الظرف على عامله وهو "قضي" للتشويف إلى تلقي الخبر.
وكلمة "بين" تدل على توسط في شيئين أو أشياء، فتعين أن الضمير الذي أضيفت إليه هنا عائد إلى مجموع الأمة ورسولها، أي قضي بين الأمة ورسولها بالعدل، أي قضي الله بينهم بحسب عملهم مع رسولهم.
والمعنى: أن الله يمهل الأمة على ما هي فيه من الضلال فإذا أرسل إليها رسولا فإرساله أمارة على أن الله تعالى أراد إقلاعهم عن الضلال فانتهى أمد الإمهال بإبلاغ الرسول إليهم مراد الله منهم فإن أطاعوه رضي الله عنهم وربحوا، وإن عصوه وشاقوه قضى الله بين الجميع بجزاء كل قضاء حق لا ظلم فيه وهو قضاء في الدنيا.
وقد أشعر قوله: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ} بحدوث مشاقة بين الكافرين وبين المؤمنين وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا تحذير من مشاقة النبيء صلى الله عليه وسلم وإنذار لأهل مكة بما نالهم. وقد كان من بركة النبيء صلى الله عليه وسلم ورغبته أن أبقى الله على العرب فلم يستأصلهم، ولكنه أراهم بطشته وأهلك قادتهم يوم بدر، ثم ساقهم بالتدريج إلى حظيرة الإسلام حتى عمهم وأصبحوا دعاته للأمم وحملة شريعته للعالم.
ولم أشعر قوله: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ} بأن القضاء قضاء زجر لهم على مخالفة رسولهم وأنه عقاب شديد يكاد من يراه أو يسمعه أن يجول بخاطره أنه مبالغ فيه أتي بجملة {وَهُمْ

لا يُظْلَمُونَ} ، وهي حال مؤكدة لعاملها الذي هو {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} للإشعار بأن الذنب الذي قضي عليهم بسببه ذنب عظيم.
[48, 49] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} .
عطف على جملة: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [يونس: 46]، والمناسبة أنه لما بينت الآية السالفة أن تعجيل الوعيد في الدنيا لهم وتأخيره سواء عند الله تعالى، إذ الوعيد الأتم هو وعيد الآخرة، أتبعت بهذه الآية حكاية لتهكمهم على تأخير الوعيد.
وحكي قولهم بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة، كقوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38] للدلالة على تكرر صدوره منهم، وأطلق الوعد على الموعود به، فالسؤال عنه باسم الزمان مؤول بتقدير يدل عليه المقام، أي متى ظهوره.
والسؤال مستعمل في الاستبطاء، وهو كناية عن عدم اكتراثهم به وأنهم لا يأبهون به لينتقل من ذلك إلى أنهم مكذبون بحصوله بطريق الإيماء بقرينة قولهم: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي أن كنتم صادقين في أنه واقع فعينوا لنا وقته، وهم يريدون أننا لا نصدقك حتى نرى ما وعدتنا كناية عن اعتقادهم عدم حلوله وأنهم لا يصدقون به. والوعد المذكور هنا ما هددوا به من عذاب الدنيا.
والخطاب بقولهم: {إِنْ كُنْتُمْ} للرسول، فضمير التعظيم للتهكم كما في قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] وقوله: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7] وقول أبي بكر بن الأسود الكناني:
يخبرنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام
وهذا المحمل هو المناسب لجوابهم بقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ} . ويجوز أن يكون الخطاب للنبي وللمسلمين، جمعوهم في الخطاب لأن النبيء أخبر به والمسلمين آمنوا به فخاطبوهم بذلك جميعا لتكذيب النبيء وإدخال الشك في نفوس المؤمنين به. وإنما خص الرسول عليه الصلاة والسلام بالأمر بجوابهم لأنه الذي أخبرهم بالوعيد وأما المؤمنون فتابعون له في ذلك.
ومعنى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً} : لا أستطيع، كما تقدم في قوله تعالى:

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} في سورة العقود[76].
وقدم الضر على النفع لأنه أنسب بالغرض لأنهم أظهروا استبطاء ما فيه مضرتهم وهو الوعيد ولأن استطاعة الضر أهون من استطاعة النفع فيكون ذكر النفع بعده ارتقاء.
والمقصود من جمع الأمرين الإحاطة بجنسي الأحوال. وتقدم في سورة الأعراف وجه تقديم النفع على الضر في نظير هذه الآية.
وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} استثناء منقطع بمعنى لكن، أي لكن نفعي وضري هو ما يشاءه الله لي. وهذا الجواب يقتضي إبطال كلامهم بالأسلوب المصطلح على تلقيبه في فن البديع بالمذهب الكلامي، أي بطريق برهاني، لأنه إذا كان لا يستطيع لنفسه ضرا ولا نفعا فعدم استطاعته ما فيه ضر غيره بهذا الوعد أولى من حيث إن أقرب الأشياء إلى مقدرة المرء هو ما له اختصاص بذاته، لأن الله أودع في الإنسان قدرة استعمال قواه وأعضائه، فلو كان الله مقدرا إياه على إيجاد شيء من المنافع والمضار في أحوال الكون لكان أقرب الأشياء إلى إقداره ما له تعلق بأحوال ذاته، لأن بعض أسبابها في مقدرته، فلا جرم كان الإنسان مسيرا في شؤونه بقدرة الله لأن معظم أسباب المنافع والمضار من الحوادث منوط بعضه ببعض، فموافقاته ومخالفاته خارجة عن مقدور الإنسان، فلذلك قد يقع ما يضره وهو عاجز عن دفعه. فكان معنى الجواب: أن الوعد من الله لا مني وأنا لا أقدر على إنزاله بكم لأن له أجلا عند الله.
وجملة: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} من المقول المأمور به، وموقعها من جملة: {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً} موقع العلة لأن جملة: {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} اقتضت انتفاء القدرة على حلول الوعد.
وجملة: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} تتضمن أن سبب عدم المقدرة على ذلك هو أن الله قدر آجال أحوال الأمم. ومن ذلك أجل حلول العقاب بهم بحكمة اقتضت تلك الآجال فلا يحل العقاب بهم إلا عند مجيء في ذلك الأجل، فلا يقدر أحد على تغيير ما حدده الله.
وصورة الاستدلال بالطريق البرهاني أن قضية {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} قضية كلية تشمل كل أمة. ولما كان المخاطبون من جملة الأمم كانوا مشمولين لحكم هذه القضية فكأنه قيل لهم: أنتم أمة من الأمم ولكل أمة أجل فأنتم لكم أجل فترقبوا حلوله.
وجملة: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} صفة ل "أجل"، أي

أجل محدود لا يقبل التغير. وقد تقدم الكلام على نظيرها في سورة الأعراف.
و {إِذَا} في هذه الآية مشربة معنى الشرط، فلذلك اقترنت جملة عاملها بالفاء الرابطة للجواب معاملة للفعل العامل في "إذا" معاملة جواب الشرط.
[50, 51] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} .
هذا جواب ثان عن قولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 4] باعتبار ما يتضمنه قولهم من الوعد بأنهم يؤمنون إذا حق الوعد الذي توعدهم به، كما حكي عنهم في الآية الأخرى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 90- 2]، وهذا الجواب إبداء لخلل كلامهم واضطراب استهزائهم، وقع هذا الأمر بأن يجيبهم هذا الجواب بعد أن أمر بأن يجيبهم بقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [يونس: 49]، وهذا الجواب واقع موقع التسليم الجدلي بعد أن يجاب المخطئ بالإبطال. وحاصل هذا الجواب إن قدر حصول ما سألتم تعيين وقته ونزول كسف من السماء بكم أو نحوه ماذا يحصل من فائدة لكم في طلب تعجيل حصوله إذ لا تخلون عن أن تكونوا تزعمون أنكم تؤمنون حينئذ فذلك باطل لأن العذاب يعاجلكم بالهلاك فلا يحصل إيمانكم. وهذا كما قال بعض الواعظين: نحن نريد أن لا نموت حتى نتوب ونحن لا نتوب حتى نموت.
ووقع في خلال هذا الجواب تفنن في تخييل التهويل لهذا العذاب الموعود بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً} تخييلا يناسب تحقق وقوعه فإن هاذين الوقتين لا يخلو حلول الحوادث عن أحدهما، على أنه ترديد لمعنى العذاب العاجل تعجيلا قريبا أو أقل قربا، أي أتاكم في ليل هذا اليوم الذي سألتموه أو في صبيحته، على أن في ذكر هذين الوقتين تخييلا ما لصورة وقوع العذاب استحضارا له لديهم على وجه يحصل به تذكيرهم انتهازا لفرصة الموعظة، كالتذكير به في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 47].
والبيات: اسم مصدر التبييت، ليلا كالسلام للتسليم. وذلك مباغتة. وانتصب {بَيَاتاً} على الظرفية بتقدير مضاف، أي وقت بيات.
وجواب شرط {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} محذوف دل عليه قوله: {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ

الْمُجْرِمُونَ} الذي هو ساد مسد مفعولي "أَرَأَيْتُمْ" إذ علقه عن العمل الاستفهام ب"ماذا".
و {مَاذَا} كلمتان هما "ما" الاستفهامية و"ذا". أصله إشارة مشار به إلى مأخوذ من الكلام الواقع بعده. واستعمل "ذا" مع "ما" الاستفهامية في معنى الذي لأنهم يراعون لفظ الذي محذوفا. وقد يظهر كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 55]. وهذا الاستفهام مستعمل في الإنكار عليهم، وفي التعجيب من تعجلهم العذاب بنية أنهم يؤمنون به عند نزوله.
و"مِن" للتبعيض. والمعنى ما الذي يستعجله المجرمون من العذاب، أي لا شيء من العذاب بصالح لاستعجالهم إياه لأن كل شيء منه مهلك حائل بينهم وبين التمكن من الإيمان وقت حلوله.
وفائدة الإشارة إليه تهويله أو تعظيمه أو التعجيب منه كقوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [البقرة: 26]، فالمعنى ما هذا العذاب العظيم في حال كونه يستعجله المجرمون، فجملة {يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ} في موضع الحال من اسم الإشارة، أي أن مثله لا يستعجل بل شأنه أن يستأخر.
و"من" بيانية، والمعنى معها على معنى ما يسمى في فن البديع بالتجرد.
واعلم أن النحاة يذكرون استعمال: "ماذا" بمعنى: "ما الذي" وإنما يعنون بذلك بعض مواضع استعماله وليس استعمالا مطردا. وقد حقق ابن مالك في "الخلاصة" إذ زاد قيدا في هذا الاستعمال فقال:
ومثل ما، ذا بعد ما استفهام ... أو من إذا لم تلغ في الكلام
يريد إذا لم يكن مزيدا. وإنما عبر بالإلغاء فرارا من إيراد أن الأسماء لا تزاد. والحق أن المراد بالزيادة أن اسم الإشارة غير مفيد معناه الموضوع له ولا هو بمفيد تأسيس معنى في الكلام ولكنه للتقوية والتأكيد الحاصل من الإشارة إلى ما يتضمنه الكلام، وقد أشار إلى استعمالاته صاحب "مغنى اللبيب" في فصل عقده ل"ماذا" وأكثر من المعاني ولم يحرر انتساب بعضها من بعض. وانظر ما تقدم عند قوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: 32] المتقدم آنفا، وقوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} في سورة البقرة[].
والمجرمون: أصحاب الجرم وهو جرم الشرك. والمراد بهم الذين: {يَقُولُونَ مَتَى هَذَا

الْوَعْدُ} [يونس: 48]، وهم مشركو مكة فوقع الإظهار في مقام الإضمار عوض أن يقال ماذا يستعجلون منه لقصد التسجيل عليهم بالإجرام، وللتنبيه على خطئهم في استعجال الوعيد لأنه يأتي عليهم بالإهلاك فيصيرون إلى الآخرة حيث يفضون إلى العذاب الخالد فشأنهم أن يستأخروا الوعد لا أن يستعجلوه، فدل ذلك على أن المعنى لا يستعجلون منه إلا شرا.
وعطفت جملة: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} بحرف المهلة للدلالة على التراخي الرتبي كما هو شأن "ثم" في عطفها الجمل، لأن إيمانهم بالعذاب الذي كانوا ينكرون وقوعه حين وقوعه بهم أغرب وأهم من استعجالهم به. وهمزة الاستفهام مقدمة من تأخير كما هو استعمالها مع حروف العطف المفيدة للتشريك. والتقدير: ثم أ إذا ما وقع، وليس المراد الاستفهام عن المهلة.
والمستفهم عنه هو حصول الإيمان في وقت وقوع العذاب، وهذا الاستفهام مستعمل في الإنكار بمعنى التغليط وإفساد رأيهم، فإنهم وعدوا بالإيمان عند نزول العذاب استهزاء منهم فوقع الجواب بمجاراة ظاهر حالهم وبيان أخطائهم، أي أتؤمنون بالوعد عند وقوعه على طريقة الأسلوب الحكيم، كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وكلمة {آلْآنَ} استفهام إنكاري عن حصول إيمانهم عند حلول ما توعدهم، فعبر عن وقت وقوعه باسم الزمان الحاضر وهو "الآن" حكاية للسان حال منكر عليهم في ذلك الوقت استحضر حال حلول الوعد كأنه حاضر في زمن التكلم، وهذا الاستحضار من تخييل الحالة المستقبلة واقعة. ولذلك يحسن أن نجعل "الآن" استعارة مكنية بتشبيه الزمن المستقبل بزمن الحال، ووجه الشبه الاستحضار. ورمز إلى المشبه به بذكر لفظ من روادفه، وهو اسم الزمن الحاضر.
وجملة: {وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} ترشيح، وإما تقدير قول في الكلام، أي يقال لهم إذا آمنوا بعد نزول العذاب آلآن آمنتم، كما ذهب إليه أكثر المفسرين، فذلك تقدير معنى لا تقدير نظم وإعراب لأن نظم هذا الكلام أدق من ذلك.
ومعنى: {تَسْتَعْجِلُونَ} تكذبون، فعبر عن التكذيب بالاستعجال حكاية لحاصل قولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48] الذي هو في صورة الاستعجال، والمراد منه التكذيب.

وتقديم المجرور للاهتمام بالوعد الذي كذبوا به، وللرعاية على الفاصلة.
[52] {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} .
معطوفة على جملة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً} [يونس: 50] الآية. و"ثم" للتراخي الرتبي، فهذا عذاب أعظم من العذاب الذي في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً } [يونس: 50] فإن ذلك عذاب الدنيا وأما عذاب الخلد فهو عذاب الآخرة وهذا أعظم من عذاب الدنيا، فذلك موقع عطف جملته بحرف "ثم".
وصيغة المضي في قوله: {قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} مستعملة في معنى المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه مثل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].
والذين ظلموا هم القائلون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48]. وأظهر في مقام الإضمار لتسجيل وصف الظلم عليهم وهو ظلم النفس بالإشراك. ومعنى ظلموا: أشركوا.
والذوق: مستعمل في الإحساس، وهو مجاز مشهور بعلاقة الإطلاق.
والاستفهام في {هَلْ تُجْزَوْنَ} إنكاري بمعنى النفي، ولذلك جاء بعده الاستثناء {إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} .
وجملة: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} استئناف بياني لأن جملة: {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} تثير سؤالا في نفوسهم عن مقدار ذلك العذاب فيكون الجواب على أنه على قدر فظاعة ما كسبوه من الأعمال مع إفادة تعليل تسليط العذاب عليهم.
[53] {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .
هذا حكاية فن من أفانين تكذيبهم، فمرة يتظاهرون باستبطاء الوعد استخفافا به، ومرة يقبلون على الرسول في صورة المستفهم الطالب فيسألونه: أهذا العذاب الخالد، أي عذاب الآخرة، حق.
فالجملة معطوفة على جملة: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48] ، وضمير الجمع عائد إليهم فهم المستنبئون لا غيرهم، وضمير "هو" عائد إلى: {عَذَابَ الْخُلْدِ} [يونس: 52].
والحق: الثابت الواقع، فهو بمعنى حاق، أي ثابت، أي أن وقوعه ثابت، فأسند

الثبوت لذات العذاب بتقدير مضاف يدل عليه السياق إذ لا توصف الذات بثبوت.
وجملة: {أَحَقٌّ هُوَ} استفهامية معلقة فعل {يَسْتَنْبِئُونَكَ} عن العمل في المفعول الثاني، والجملة بيان لجملة {يَسْتَنْبِئُونَكَ} لأن مضمونها هو الاستثناء.
والضمير يجوز كونه مبتدأ، و {أَحَقٌّ} خبر مقدم.
واستعملوا الاستفهام تبالها، ولذلك اشتمل الجواب المأمور به على مراعاة الحالتين فاعتبر أولا ظاهر حال سؤالهم فأجيبوا على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيها على أن الأولى بهم سؤال الاسترشاد تغليطا لهم واغتناما لفرصة الإرشاد بناء على ظاهر حال سؤالهم، ولذلك أكد الجواب بالتوكيد اللفظي إذ جمع بين حرف {إِي} وهو حرف جواب يحقق به المسؤول عنه، وبين الجملة الدالة على ما دل عليه حرف الجواب، وبالقسم، وإن، ولام الابتداء، وكلها مؤكدات.
والاعتبار الثاني اعتبار قصدهم من استفهامهم فأجيبوا بقوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} . فجملة {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} معطوفة على جملة جواب القسم فمضمونها من المقسم عليه. ولما كان المقسم عليه جوابا عن استفهامهم كان مضمون {مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} جوابا عن الاستفهام أيضا باعتبار ما أضمروه من التكذيب، أي هو واقع وأنتم مصابون به غير مفلتين منه. وليس فعل {يَسْتَنْبِئُونَكَ} مستعملا في التظاهر بمعنى الفعل كما استعمل قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} [التوبة: 64]، كما تقدم في براءة لأن حقيقة الاستنباء واقعة هنا إذ قد صرحوا بصورة الاستفهام.
و {إِي} بكسر الهمزة: حرف جواب لتحقيق ما تضمنه سؤال سائل، فهو مرادف نعم ، ولكن من خصائص هذا الحرف أنه لا يقع إلا وبعده القسم.
والمعجزون: الغالبون، أي وما أنتم بغالبين الذي طلبكم، أي بمفلتين. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} في سورة الأنعام [134].
[54] {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ}
الأظهر أن هذه الجملة من بقية القول، فهي عطف على جملة: {إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} .

[يونس: 53] إعلاما لهم بهول ذلك العذاب عساهم أن يحذروه، ولذلك حذف المتعلق الثاني لفعل "افْتَدَتْ" لأنه يقتضي مفديا به ومفديا منه، أي لافتدت به من العذاب.
والمعنى أن هذا العذاب لا تتحمله أية نفس على تفاوت الأنفس في احتمال الآلام، ولذلك ذكر: {كُلِّ نَفْسٍ} دون أن يقال ولو أن لكم ما في الأرض لافتديتم به.
وجملة: {أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ} واقعة موقع شرط "لو".
و{مَا فِي الْأَرْضِ} اسم "أن". و {لِكُلِّ نَفْسٍ} خبر "أن" وقدم على الاسم للاهتمام بما فيه من العموم بحيث ينص على أنه لا تسلم نفس من ذلك. وجملة: {ظَلَمَتْ} صفة ل {لِنَفْسٍ } . وجملة: {لافْتَدَتْ بِهِ} جواب "لو".
فعموم {كُلِّ نَفْسٍ} يشمل نفوس المخاطبين مع غيرهم.
ومعنى {ظَلَمَتْ} أشركت، وهو ظلم النفس: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
و {مَا فِي الْأَرْضِ} يعم كل شيء في ظاهر الأرض وباطنها لأن الظرفية ظرفية جمع واحتواء.
و"افتدى" مرادف فدى. وفيه زيادة تاء الافتعال لتدل على زيادة المعنى، أي لتكلفت فداءها به.
{وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
جملة مستأنفة معطوفة عطف كلام على كلام. وضمير {أَسَرُّوا} عائد إلى {كُلِّ نَفْسٍ} باعتبار المعنى مع تغليب المذكر على المؤنث، وعبر عن الإسرار المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد مضى، والمعنى: وسيسرون الندامة قطعا. وكذلك قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} .
والندامة: الندم، وهو أسف يحصل في النفس على تفويت شيء ممكن عمله في الماضي، والندم من هواجس النفس، فهو أمر غير ظاهر ولكنه كثير، أي يصدر عن صاحبه قول أو فعل يدل عليه، فإذا تجلد صاحب الندم فلم يظهر قولا ولا فعلا فقد أسر الندامة، أي قصرها على سره فلم يظهرها بإظهار بعض آثارها، وإنما يكون ذلك من شدة الهول؛ فإنما أسروا الندامة لأنهم دهشوا لرؤية ما لم يكونوا يحتسبون فلم يطيقوا صراخا ولا عويلا.

وجملة: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} عطف على جملة: {وَأَسَرُّوا} مستأنفة.
ومعنى: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ} قضي فيهم، أي قضي على كل واحد منهم بما يستحقه بالعدل، فالقضاء بالعدل وقع فيهم، وليس المعنى أنه قضي بين كل واحد وآخر لأن القضاء هنا ليس قضاء نزاع ولكنه قضاء زجر وتأنيب، إذ ليس الكلام هنا إلا على المشركين وهم صنف واحد، بخلاف قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [يونس: 47] فإن ذلك قضاء بين المرسل إليهم وبين الرسل كما قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6, 7].
وجملة: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} حالية.
[55, 56] {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
تذييل تنهية الكلام المتعلق بصدق الرسول والقرآن وما جاء به من الوعيد وترقب يوم البعث ويوم نزول العذاب بالمشركين. وقد اشتمل هذا التذييل على مجمل تفصيل ذلك الغرض، وعلى تعليله بأن من هذه شؤونه لا يعجز عن تحقيق ما أخبر بوقوعه.
فكان افتتاحه بأن الله هو المتوحد بملك ما في السماوات والأرض فهو يتصرف في الناس وأحوالهم في الدنيا والآخرة تصرفا لا يشاركه فيه غيره؛ فتصرفه في أمور السماء شامل للمغيبات كلها، ومنها إظهار الجزاء بدار الثواب ودار العذاب؛ وتصرفه في أمور الأرض شامل لتصرفه في الناس. ثم أعقب بتحقيق وعده، وأعقب بتجهيل منكريه، وأعقب بالتصريح بالمهم من ذلك وهو الإحياء والإماتة والبعث.
وافتتح هذا التذييل بحرف التنبيه، وأعيد فيه حرف التنبيه للاستيعاء لسماعه، وللتنبيه على أنه كلام جامع هو حوصلة الغرض الذي سمعوا تفصيله آنفا.
وتأكيد الخبر بحرف {إِنَّ} للرد على المشركين لأنهم لما جعلوا لله شركاء فقد جعلوها غير مملوكة لله. ولا يدفع عنهم ذلك أنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} لأن ذلك اضطراب وخبط.
وقدم خبر {إِنَّ} على اسمها للاهتمام باسمه تعالى ولإفادة القصر لرد اعتقادهم

الشركة كما علمت.
وأكد بحرف التوكيد بعد حرف التنبيه في الموضعين للاهتمام به، ولرد إنكار منكري بعضه والذين هم بمنزلة المنكرين بعضه الآخر.
واللام في {اللَّهِ} للملك، و"ما" اسم موصول مفيد لعموم كل ما ثبتت له صلة الموصول من الموجودات الظاهرة والخفية.
ووعد الله: هو وعده بعذاب المشركين، وهو وعيد، ويجوز أن يكون وعده مرادا به البعث، قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فسمى إعادة الخلق وعدا.
وأظهر اسم الجلالة في الجملة الثانية دون الإتيان بضميره لتكون الجملة مستقلة فتجري مجرى المثل والكلام الجامع.
ووقع الاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} لأن الجملتين اللتين قبله أريد بهما الرد على معتقدي خلافهما فصارتا في قوة نفي الشك عن مضمونهما، فكأنه قيل: لا شك يحق في ذلك، ولكن أكثرهم لا يعلمون فلذلك يشكون.
وتقييد نفي العلم بالأكثر إشارة إلى أن منهم من يعلم ذلك ولكنه يجحده مكابرة، كما قال في الآية السابقة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} ، فضمير {أَكْثَرَهُمْ} للمتحدث عنهم فيما تقدم.
[57] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}
استئناف أو اعتراض، يجوز أن يكون لابتداء غرض جديد وهو خطاب جميع الناس بالتعريف بشأن القرآن وهديه، بعد أن كان الكلام في جدال المشركين والاحتجاج عليهم بإعجاز القرآن على أنه من عند الله وأن الآتي به صادق فيما جاء به من تهديدهم وتخويفهم من عاقبة تكذيب الأمم رسلها، وما ذيل به ذلك من الوعيد وتحقيق ما توعدوا به، فالكلام الآن منعطف إلى الغرض المفتتح بقوله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} [يونس: 37- 43]. فعاد الكلام إلى خطاب جميع الناس لما في القرآن من المنافع الصالحة لهم، والإشارة إلى اختلافهم في مقدار الانتفاع به، ولذلك

كان الخطاب هنا عاما لجميع الناس ولم يأت فيه ما يقتضي وجيهه لخصوص المشركين من ضمائر تعود إليهم أو أوصاف لهم أو صلات موصول. وعلى هذا الوجه فليس في الخطاب ب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى أن القرآن موعظة لجميع الناس وإنما انتفع بموعظته المؤمنون فاهتدوا وكان لهم رحمة.
ويجوز أن يكون خطابا للمشركين بناء على الأكثر في خطاب القرآن ب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فيكون ذكر الثناء على القرآن بأنه هدى ورحمة للمؤمنين إدماجا وتسجيلا على المشركين بأنهم حرموا أنفسهم الانتفاع بموعظة القرآن وشفائه لما في الصدور، فانتفع المؤمنون بذلك.
وافتتاح الكلام ب {قَدْ} لتأكيده، لأن في المخاطبين كثيرا ممن ينكر هذه الأوصاف للقرآن.
والمجيء: مستعمل مجازا في الإعلام بالشيء، كما استعمل للبلوغ أيضا، إلا أن البلوغ أشهر في هذا وأكثر، يقال: بلغني خبر كذا، ويقال أيضا: جاءني خبر كذا أو أتاني خبر كذا. وإطلاق المجيء عليه في هذه الآية أعز.
والمراد بما جاءهم وبلغهم هو ما أنزل من القرآن وقرئ عليهم، وقد عبر عنه بأربع صفات هي أصول كماله وخصائصه وهي: أنه موعظة، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه هدى، وأنه رحمة للمؤمنين.
والموعظة: الوعظ، وهو كلام فيه نصح وتحذير مما يضر. وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء[63]، وعند قوله تعالى: {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} في سورة الأعراف[145]. ووصفها ب {مِنْ رَبِّكُمْ} للتنبيه على أنها بالغة غاية كمال أمثالها.
والشفاء تقدم عند قوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} في سورة براءة[14]. وحقيقته: زوال المرض والألم، ومجازه: زوال النقائص والضلالات وما فيه حرج على النفس، وهذا هو المراد هنا.
والمراد بالصدور النفوس كما هو شائع في الاستعمال.
والهدى تقدم في قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} في طالع سورة البقرة[2]، وأصله:

الدالة على الطريق الموصل إلى المقصود. ومجازه: بيان وسائل الحصول على المنافع الحقة.
والرحمة تقدمت في تفسير البسملة.
وقد أومأ وصف القرآن بالشفاء إلى تمثيل حال النفوس بالنسبة إلى القرآن، وإلى ما جاء بحال المعتل السقيم الذي تغير نظام مزاجه عن حالة الاستقامة فأصبح مضطرب الأحوال خائر القوى فهو يترقب الطبيب الذي يدبر له بالشفاء، ولا بد للطبيب من موعظة للمريض يحذره بها مما هو سبب نشء علته ودوامها، ثم ينعت له الدواء الذي به شفاؤه من العلة، ثم يصف له النظام الذي ينبغي له سلوكه لتدوم له الصحة والسلامة ولا ينتكس له المرض، فإن هو انتصح بنصائح الطبيب أصبح معافى سليما وحيي حياة طيبة لا يعتوره ألم ولا يشتكي وصبا، وقد كان هذا التمثيل لكماله قابلا لتفريق تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها، فزواجر القرآن ومواعظه يشبه بنصح الطبيب على وجه المكنية، وإبطاله العقائد الضالة يشبه بنعت الدواء للشفاء من المضار على وجه التصريحية، وتعاليمه الدينية وآدابه تشبه بقواعد حفظ الصحة على وجه المكنية،وعبر عنها بالهدى، ورحمته للعالمين تشبه بالعيش في سلامة على وجه المكنية.
ومعلوم أن ألفاظ المكنية يصح أن تكون مستعملة في حقائق معانيها كما هنا، ويصح أن تجعل تخييلا كأظفار المنية. ثم إن ذلك يتضمن تشبيه باعث القرآن بالطبيب العليم بالأدواء وأدويتها، ويقوم من ذلك تشبيه هيئة تلقي الناس للقرآن وانتفاعهم به ومعالجة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بتكرير النصح والإرشاد بهيئة المرضى بين يدي الطبيب وهو يصف لهم ما فيه برؤهم وصلاح أمزجتهم فمنهم القابل المنتفع ومنهم المتعاصي الممتنع.
فالأوصاف الثلاثة الأول؛ ثابتة للقرآن في ذاته سواء في ذلك من قبلها وعمل بها، ومن أعرض عنها ونبذها، إلا أن وصفه بكونه هدى لما كان وصفا بالمصدر المقتضي للمبالغة بحيث كأنه نفس الهدى كان الأنسب أن يراد به حصول الهدى به بالفعل فيكون في قران الوصف الرابع. والوصف الرابع وهو الرحمة خاص بمن عمل بمقتضى الأوصاف الثلاثة الأول فانتفع بها فكان القرآن رحمة له في الدنيا والآخرة. وهو ينظر إلى قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء: 82].
فقيد {لِلْمُؤْمِنِينَ} متعلق ب {رَحْمَةٌ} بلا شبهة وقد خصه به جمهور المفسرين. ومن

المحققين من جعله قيدا ل {هُدىً وَرَحْمَةً} ناظرا إلى قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] فإنه لم يجعله هدى لغير المتقين وهم المؤمنون.
والوجه أن كونه موعظة وصف ذاتي له، لأن الموعظة هي الكلام المحذر من الضر ولهذا عقبت بقوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} فكانت عامة لمن خوطب ب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} . وأما كونه شفاء فهو في ذاته صالح للشفاء ولكن الشفاء بالدواء لا يحصل إلا لمن استعمله.
وأما كونه هدى ورحمة فإن تمام وصف القرآن بهما يكون بالنسبة لمن حصلت له حقيقتهما وأما لمن لم تحصل له آثارهما فوصف القرآن بهما بمعنى صلاحيته لذلك وهو الوصف بالقوة في اصطلاح أهل المنطق. وقد وقع التصريح في الآية الأخرى بأنه {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، وصرح في آية البقرة[2] بأنه {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ، فالأظهر أن قيد {لِلْمُؤْمِنِينَ} راجع إلى {هُدىً وَرَحْمَةً} معا على قاعدة القيد الوارد بعد مفردات، وأما رجوعه إلى {شِفَاءٌ} فمحتمل، لأن وصف {شِفَاءٌ} قد عقب بقيد {لِمَا فِي الصُّدُورِ} فانقطع عن الوصفين اللذين بعده، ولأن تعريف: {الصُّدُورِ} باللام يقتضي العموم، فليحمل الشفاء على معنى الدواء الذي هو صالح للشفاء للذي يتناوله. وهو إطلاق كثير. وصدر به "اللسان" و"القاموس"، وجعلوا منه قوله تعالى في شأن العسل {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69].
وأما تعليق فعل المجيء بضمير الناس في قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ} فباعتبار كونهم المقصود بإنزال القرآن في الجملة. ثم وقع التفصيل بالنسبة لما اختلفت فيه أحوال تلقيهم وانتفاعهم، كما دل عليه قوله بعده: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] أي المؤمنون. وعبر عن الهدى بالفضل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء: 174, 175] فعمم في مجيء البرهان وإنزال النور جميع الناس، وخصص في الرحمة والفضل والهداية المؤمنين، وهذا منتهى البلاغة وصحة التقسيم.
[58] {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يتفرع على كون القرآن هدى ورحمة للمؤمنين تنبيههم إلى أن ذلك فضل من الله عليهم ورحمة بهم يحق لهم أن يفرحوا بهما، وأن يقدروا قدر نعمتهما، وأن يعلموا أنها

نعمة تفوق نعمة المال التي حرم منها أكثر المؤمنين ومنحها أكثر المشركين، فكانت الجملة حقيقة بأن تفتتح بفاء التفريع.
وجيء بالأمر بالقول معترضا بين الجملة المفرعة والجملة المفرع عليها تنويها بالجملة المفرعة، بحيث يؤمر الرسول أمرا خاصا بأن يقولها وإن كان جميع ما ينزل عليه من القرآن مأمورا بأن يقوله.
وتقدير نظم الكلام: قل لهم فليفرحوا بفضل الله وبرحمته بذلك ليفرحوا.
فالفاء في قوله: {فَلْيَفْرَحُوا} فاء التفريع، و {بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} مجرور متعلق بفعل: {فَلْيَفْرَحُوا} قدم على متعلقه للاهتمام به للمسلمين ولإفادة القصر، أي بفضل الله وبرحمته دون مما سواه مما دل عليه قوله: {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ، فهو قصر قلب تعريضي بالرد على المشركين الذين ابتهجوا بعرض المال فقالوا: نحن أكثر أموالا وأولادا.
والإشارة في قوله: {فَبِذَلِكَ} للمذكور، وهو مجموع الفضل والرحمة، واختير للتعبير عنه اسم الإشارة لما فيه من الدلالة على التنويه والتعظيم مع زيادة التمييز والاختصار. ولما قصد توكيد الجملة كلها بما فيها من صيغة القصر قرن اسم الإشارة بالفاء تأكيدا لفاء التفريع التي في: {فَلْيَفْرَحُوا} لأنه لما قدم على متعلقه قرن بالفاء لإظهار التفريع في ابتداء الجملة، وقد حذف فعل: "ليَفْرَحُوا" فصار مفيدا مفاد جملتين متماثلتين مع إيجاز بديع. وتقدير معنى الكلام: قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته لا سواهما فليفرحوا بذلك لا سواه.
والفرح: شدة السرور.
ولك أن تجعل الكلام استئنافا ناشئا مما تقدم من النعمة على المؤمنين بالقرآن. ولما قدم المجرور وهو: {بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} حصل بتقديمه معنى الشرط فقرنت الجملة بعده بالفاء التي تربط الجواب لقصد إفادة معنى الشرط. وهذا كثير في الاستعمال كقوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، وقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "ففيهما فجاهد" . وقوله: "كما تكونوا يول عليكم" بجزم: "تكونوا" وجزم: "يول". فالفاء في قوله: {فَبِذَلِكَ} رابطة للجواب، والفاء في قوله: {فَلْيَفْرَحُوا} مؤكدة للربط.
ولم يختلف المفسرون في أن القرآن مراد من فضل الله ورحمته. وقد روي حديث

عن أنس بن مالك عن النبيء صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله" "يعني أن هداكم إلى اتباعه". ومثله عن أبي سعيد الخدري والبراء موقوفا، وهو الذي يقتضيه اللفظ فإن الفضل هو هداية الله التي في القرآن، والرحمة هي التوفيق إلى اتباع الشريعة التي هي الرحمة في الدنيا والآخرة.
وجملة: {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} مبينة للمقصود من القصر المستفاد من تقديم المجرورين. وأفرد الضمير بتأويل المذكور كما أفرد اسم الإشارة. والضمير عائد إلى اسم الاشارة، أي ذلك خير مما يجمعون.
و {مَا يَجْمَعُونَ} مراد به الأموال والمكاسب لأن فعل الجمع غلب في جمع المال. قال تعالى: {الذي جمع مالا وعدده} [الهمزة: 2]. ومن المعتاد أن جامع المال يفرح بجمعه.
وضمير {يَجْمَعُونَ} عائد إلى: {النَّاسُ} في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ} بقرينة السياق وليس عائدا إلى ما عاد إليه ضمير {يَفْرَحُوا} فإن القرائن تصرف الضمائر المتشابهة إلى مصارفها، كقول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
ضمير "أحرزوا" عائد إلى المشركين الذين عاد إليهم الضمير في قوله: "جمعهم". وضمير "جمعوا" عائد إلى المسلمين، أي لولا نحن لغنم المشركون ما جمعه المسلمون من الغنائم، ومنه قوله تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} في سورة الروم[9].
وعلى هذا الوجه يظهر معنى القصر أتم الظهور، وهو أيضا المناسب لحالة المسلمين وحالة المشركين يومئذ، فإن المسلمين كانوا في ضعف لأن أكثرهم من ضعاف القوم أو لأن أقاربهم من المشركين تسلطوا على أموالهم ومنعوهم حقوقهم إلجاء لهم إلى العود إلى الكفر. وقد وصف الله المشركين بالثروة في آيات كثيرة كقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل: 11] وقال: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 14, 15] وقال: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران: 196, 197]، فلعل المشركين كانوا يحتقرون المسلمين كما حكي عن قوم نوح قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27]. وقد قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 52,

53] حين قال له المشركون: لو طردت هؤلاء العبيد من مجلسك لجلسنا إليك، فكمدهم الله بأن المسلمين خير منهم لأنهم كملت عقولهم بالعقائد الصحيحة والآداب الجليلة. وهذا الوجه هو المناسب للإتيان بالمضارع في قوله: {يَجْمَعُونَ} المقتضي تجدد الجمع وتكرره، وذلك يقتضي عنايتهم بجمع الأموال ولم يكن المسلمون بتلك الحالة.
والمعنى أن ذلك خير مما يجمعه المشركون مع اتصافهم بالشرك لأنهم وإن حصلوا ما به بعض الراحة في الدنيا فهم شرار النفوس خساس المدارك.
وقرأ الجمهور: {تَجْمَعُونَ} - بياء الغيبة - فالضمير عائد على معلوم من الكلام، أي مما يجمع المشركون من الأموال. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب: {ممَِّا تَجْمَعُونَ} بتاء الخطاب - فيكون خطابا للمشركين الذين شملهم الخطاب في أول الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57]، فإنه بعد أن عمم الخطاب خص المؤمنين بالذكر وبالجدارة بالفرح، فبقي الخطاب لمن عدا المسلمين وهم المشركون إذ ليس ثم غير هذين الفريقين من الناس هنالك. ولا يناسب جعل الخطاب للمسلمين إذ ليس ذلك من شأنهم كما تقدم آنفا، ولأنه لا يظهر منه معنى التفضيل إلا بالاعتبار لأن المسلمين قد نالوا الفضل والرحمة فإذا نالوا معهما المال لم ينقص ذلك من كمالهم بالفضل والرحمة.
وقد أجملت الآية وجه تفضيل هذا الفضل والرحمة على ما يجمعونه لقصد إعمال النظر في وجوه تفضيله، فإنها كثيرة، منها واضح وخفي. وينبئ بوجه تفضيله في الجملة إضافته الفضل والرحمة إلى الله وإسناد فعل {يَجْمَعُونَ} إلى ضمير {النَّاسُ} [يونس: 57]. وهذا الفضل أخروي ودنيوي. أما الأخروي فظاهر، وأما الدنيوي فلأن كمال النفس وصحة الاعتقاد وتطلع النفس إلى الكمالات وإقبالها على الأعمال الصالحة تكسب الراحة في الدنيا وعيشة هنيئة. قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27, 28] فجعل رضاها حالا لها وقت رجوعها إلى ربها. قال فخر الدين: "والمقصود من الآية الإشارة إلى أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية، فيجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية لأن اللذات الجسمانية ليست غير دفع الآلام عند جمع من الحكماء والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به. وعلى تقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية فإنها لا تكون خالصة البتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره وهي لا تكون باقية، فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من

خوف فواتها أكثر وأشد".
ثم إن عدم دوامها يقتضي قصر مدة التمتع بها بخلاف اللذات الروحانية.
[59] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} .
استئناف أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمشركين. وافتتاحه ب {قُلْ} لقصد توجه الأسماع إليه. ومناسبة وقوعه عقب ما تقدم أن الكلام المتقدم حكى تكذيبهم بالقرآن وادعاءهم أنه مفترى وأنه ليس بحق، ثم إبطال أن يكون القرآن مفترى على الله لأنه اشتمل على تفصيل الشريعة وتصديق الكتب السالفة، ولأنه أعجز مكذبيه عن معارضته. فلما استوفى ذلك بأوضح حجة، وبانت لقاصد الاهتداء المحجة، لا جرم دالت النوبة إلى إظهار خطل عقولهم واختلال تكذيبهم، فإنه بعد أن كان تكذيبا بما لم يحيطوا بعلمه فقد ارتبكوا في دينهم بما يلزمهم منه مماثلة الحالة التي أنكروها، فإنهم قد وضعوا دينا فجعلوا بعض أرزاقهم حلالا لهم وبعضها حراما عليهم فإن كان ذلك حقا بزعمهم فمن الذي أبلغهم تلك الشرائع عن الله ولماذا تقبلوها عمن شرعها لهم ولم يكذبوه وهم لا يستطيعون أن يلتزموا ذلك، وإن كان ذلك من تلقاء أنفسهم فقد افتروا على الله فلزمهم ما ألصقوه بالنبيء صلى الله عليه وسلم فعلق بهم وبرأ الله منه رسوله، فهذا الاستدلال من الطريق المسمى بالقلب في علم الجدل.
ثم إن اختيار الاستدلال عليهم بشيء من تشريعهم في خصوص أرزاقهم يزيد هذا الاستدلال مناسبة بآخر الكلام الذي قبله ليظهر ما فيه من حسن التخلص إليه وذلك أن أخر الكلام المتقدم جملة: {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، أي من أموالهم. وتلك الأموال هي التي رزقهم الله إياها فجعلوا منها حلالا ومنها حراما وكفروا نعمة الله إذ حرموا على أنفسهم من طيبات ما أعطاهم ربهم، وحسبهم بذلك شناعة بهم ملصقة، وأبوابا من الخير في وجوههم مغلقة.
والاستفهام في: {أَرَأَيْتُمْ} و {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} تقريري باعتبار إلزامهم بأحد الأمرين: إما أن يكون الله أذن لهم، أو أن يكونوا مفترين على الله، وقد شيب التقرير في ذلك بالإنكار على الوجهين.
والرؤية علمية، و {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} هو المفعول الأول لـ "رأيتم"، وجملة:

{فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ} الخ معطوفة على صلة الموصول بفاء التفريع، أي الذي أنزل الله لكم فجعلتم منه. والاستفهام في: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} مفعول ثان لـ {رأيتم}، ورابط الجملة بالمفعول محذوف، تقديره: أذنكم بذلك، دل عليه قوله: {فجعلتم منه حراما وحلالا} .
و {قُلْ} الثاني تأكيد لـ {قُلْ} الأول معترض بين جملة الاستفهام الأولى وجملة الاستفهام الثانية لزيادة إشراف الأسماع عليه. وهي معادلة بهمزة الاستفهام لأنها بين الجملتين المعمولتين لفعل: {أَرَأَيْتُمْ} . وفعل الرؤية معلق على العمل في المفعول الثاني لأن الأصح جواز التعليق عن المفعول الثاني. وزعم الرضي أن الرؤية بصرية. وقد بسطت القول في ذلك عند قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} الآية في سورة الواقعة[58, 59].
و {أَمْ} متصلة وهي معادلة لهمزة الاستفهام لأن الاستفهام عن أحد الأمرين.
والرزق: ما ينتفع به. وتقدم في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في سورة البقرة[3] وفي قوله: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} في الأعراف[50].
وعبر عن إعطاء الرزق بالإنزال لأن معظم أموالهم كانت الثمار والأعناب والحبوب، وكلها من آثار المطر الذي هو نازل من السحاب بتكوين الله، فأسند إنزاله إلى الله بهذا الاعتبار، ومعظم أموالهم الأنعام، وحياتها من العشب والكلأ وهي من أثر المطر، قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24, 32]. وقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] أي سبب رزقكم وهو المطر. وقد عرف العرب بأنهم بنو ماء السماء. وهو على المجاز في كلمة "بني" لأن الابن يطلق مجازا على الملازم للشيء. وقد عبر عن إعطاء الأنعام بالإنزال في قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] بهذا الاعتبار.
والمجعول حراما هو ما حكى الله بعضه عنهم في قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها} وقوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} في سورة الأنعام[138, 139].
ومحل الإنكار ابتداء هو جعلهم بعض ما رزقهم الله حراما عليهم. وأما عطف

{حَلالاً} على {حَرَاماً} فهو إنكار بالتبع لأنهم لما عمدوا إلى بعض ما أحل الله لهم فجعلوه حراما وميزوه من جملة الرزق فقد جعلوا الحلال أيضا حلالا، أي بجعل جديد إذ قالوا هو حلال فجعلوا أنفسهم مهيمنين على أحكام الله إذ عمدوا إلى الحلال منها فقلبوه حراما وأبقوا بعض الحلال على الحل، فلولا أنهم أبقوه على الحل لما بقي عندهم حلالا ولتعطل الانتفاع به فلذلك أنكر عليهم جعل بعض الرزق حراما وبعضه حلالا، وإلا فانهم لم يجعلوا ما كان حراما حلالا إذ لم يكن تحريم في الجاهلية.
وقوله: {حَلالاً} عطف على {حَرَاماً} والتقدير: ومنه حلالا، لأن جميع ما رزقهم الله لا يعدو بينهم هذين القسمين، وليس المعنى فجعلتم بعضه حراما وحلالا، وبعضه ليس بحرام ولا حلال لأن ذلك لا يستقيم.
وتقديم اسم الجلالة وهو مسند إليه على خبره الفعلي في قوله: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} لتقوية الحكم مع الاهتمام. وتقديم المجرور على عامله في قوله: {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} للاهتمام بهذا المتعلق تشنيعا لتعليق الافتراء به. وأظهر اسم الجلالة لتهويل الافتراء عليه.
وحذف متعلق: {أَذِنَ} لظهوره. والتقدير: الله أذن لكم بذلك الجعل.
[60] {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}
عطف على جملة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} [يونس: 59]، فهو كلام غير داخل في القول المأمور به، ولكنه ابتداء خطاب لجميع الناس. و {مَا} للاستفهام. والاستفهام مستعمل في التعجيب من حالهم. والمقصود به التعريض بالمشركين ليستفيقوا من غفلتهم ويحاسبوا أنفسهم.
ولذلك كان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير "هم" مضافا إليه الظن إما ضمير خطاب أو غيبة. فيقال: وما ظنكم أو وما ظنهم، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى الإتيان بالموصول بالصلة المختصة بهم للتنبيه على أن الترديد بين أن يكون الله أذن لهم فيما حرموه وبين أن يكونوا مفترين عليه قد انحصر في القسم الثاني، وهو كونهم مفترين إذ لا مساغ لهم في ادعاء أنه أذن لهم، فإذا تعين أنهم مفترون فقد صار الافتراء حالهم المختص بهم. وفي الموصول إيذان بعلة التعجيب من ظنهم بأنفسهم يوم القيامة.

وحذف مفعولا الظن لقصد تعميم ما يصلح له، أي ما ظنهم بحاله وبجزائهم وبأنفسهم. وانتصب {الْكَذِبَ} على المفعول المطلق، واللام فيه لتعريف الجنس، كأنه قيل كذبا، ولكنه عرف لتفظيع أمره، أي هو الكذب المعروف عند الناس المستقبح في العقول.
و {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} منصوب على الظرفية وعامله الظن، أي ما هو ظنهم في ذلك اليوم أي إذا رأوا الغضب عليهم يومئذ ماذا يكون ظنهم أنهم لاقون، وهذا تهويل.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} تذييل للكلام المفتتح بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57]. وفيه قطع لعذر المشركين، وتسجيل عليهم بالتمرد بأن الله تفضل عليهم بالرزق والموعظة والإرشاد فقابلوا ذلك بالكفر دون الشكر وجعلوا رزقهم أنهم يكذبون في حين قابله المؤمنون بالفرح والشكر فانتفعوا به في الدنيا والآخرة.
[61] {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
معطوفة على جملة: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [يونس: 60] عطف غرض على غرض، لأن فصل الغرض الأول بالتذييل دليل على أن الكلام قد نقل إلى غرض آخر، وذلك الوعد بالثواب للرسول على ما هو قائم به من تبليغ أمر الله وتدبير شؤون المسلمين وتأييد دين الإسلام، وبالثواب للمسلمين على اتباعهم الرسول فيما دعاهم إليه. وجاء هذا الوعد بطريقة التعريض بحصول رضى الله تعالى في قوله: {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} لأنهم يعلمون أن عملهم وعمل النبيء ما كان إلا في مرضاة الله، فهو كقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} . ويتضمن ذلك تنويها بالنبيء صلى الله عليه وسلم في جليل أعماله وتسلية على ما يلاقيه من المشركين من تكذيب وأذى، لأن اطلاع الله على ذلك وعلمه بأنه في مرضاته كاف في التسلية، كقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، ولذلك توجه الخطاب ابتداء إلى النبيء صلى الله عليه وسلم ثم توجه إليه وإلى من معه من المسلمين.
و {مَا} الأولى و {مَا} الثانية نافيتان.

والشأن: العمل المهم والحال المهم. و"في" للظرفية المجازية التي بمعنى شدة التلبس.
وضمير "منه" إما عائد إلى " {شأن} "، أي وما تتلو من الشأن قرآنا فتكون "من" مبينة ل "ما" الموصولة أو تكون بمعنى لام التعليل، أي تتلو من أجل الشأن قرآنا. وعطف {وَمَا تَتْلُو} من عطف الخاص على العام للاهتمام به، فإن التلاوة أهم شؤون الرسول - عليه الصلاة السلام -.
وإما عائد إلى {قُرْآنٍ} ، أي وما تتلو من القرآن قرآنا، فتكون {مِنْهُ} للتبعيض، والضمير عائد إلى مؤخر لتحصيل التشويق إليه حتى يتمكن في نفس السامع. وواو "تتلو" لام الكلمة، والفعل متحمل لضمير مفرد لخطاب النبيء صلى الله عليه وسلم.
فيكون الكلام قد ابتدئ بشؤون النبيء صلى الله عليه وسلم التي منها ما هو من خواصه كقيام الليل، وثني بما هو من شؤونه بالنسبة إلى الناس وهو تلاوة القرآن على الناس، وثلث بما هو من شؤون الأمة في قوله: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} فإنه وإن كان الخطاب فيه شاملا للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تقديم ذكر شأن في أول الآية يخصص عموم الخطاب في قوله: {تَعْمَلُونَ} فلا يبقى مرادا منه إلا ما يعمله بقية المسلمين.
ووقع النفي مرتين بحرف "ما" ومرة أخرى بحرف "لا" لأن حرف "ما" أصله أن يخلص المضارع للحال، فقصد أولا استحضار الحال العظيم من شأن النبيء صلى الله عليه وسلم ومن قراءته القرآن، ولما نفي عمل الأمة جيء بالحرف الذي الأصل فيه تخليصه المضارع للاستقبال للتثنية من أول الكلام على استمرار ذلك في الأزمنة كلها.
ويعلم من قرينة العموم في الأفعال الثلاثة بواسطة النكرات الثلاث المتعلقة بتلك الأفعال والواقعة في سياق النفي أن ما يحصل في الحال وما يحصل في المستقبل من تلك الأفعال سواء، وهذا من بديع الإيجاز والإعجاز. وكذلك الجمع بين صيغ المضارع في الأفعال المعممة {تَكُونَ – تَتْلُو – وتَعْمَلُونَ} وبين صيغة الماضي في الفعل الواقع في موضع الحال منها {إِلَّا كُنَّا} للتنبيه على أن ما حصل ويحصل وسيحصل سواء في علم الله تعالى على طريقة الاحتباك كأنه قيل: وما كنتم وتكون وهكذا، إلا كنا ونكون عليكم شهودا.
و {مِنْ عَمَلِ} مفعول {تَعْمَلُونَ} فهو مصدر بمعنى المفعول وأدخلت عليه "من"

للتنصيص على التعميم ليشمل العمل الجليل والحقير والخير والشر.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الشأن وعموم التلاوة وعموم العمل، أي إلا في حالة علمنا بذلك، فجملة {كُنَّا عَلَيْكُمْ} في موضع الحال. ووجود حرف الاستثناء أغنى عن اتصال جملة الحال بحرف "قد" لأن الربط ظاهر بالاستثناء.
والشهود: جمع شاهد. وأخبر بصيغة الجمع عن الواحد وهو الله تعالى تبعا لضمير الجمع المستعمل للتعظيم، ومثله قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]. ونظيره في ضمير جماعة المخاطبين في خطاب الواحد في قول جعفر بن علبة الحارثي:
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ... لشيء ولا أني من الموت أفرق
وذلك استعارة بتشبيه الواحد بالجماعة في القوة لأن الجماعة لا تخلو من مزايا كثيرة موزعة في أفرادها.
والشاهد: الحاضر، وأطلق على العالم بطريقة المجاز المرسل ولذلك عدي بحرف "على".
و {إِذْ} ظرف، أي حين تفيضون.
والإفاضة في العمل: الاندفاع فيه، أي الشروع في العمل بقوة واهتمام، وهذه المادة مؤذنة بأن المراد أعمالهم في مرضاة الله ومصابرتهم على أذى المشركين. وخصت هذه الحالة وهذا الزمان بالذكر بعد تعميم الأعمال اهتماما بهذا النوع فهو كذكر الخاص بعد العام، كأنه قيل: ولا تعملون من عمل ما وعمل عظيم تفيضون فيه إلا كنا عليكم شهودا حين تعملونه وحين تفيضون فيه.
وجملة: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} الخ عطف على جملة: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} ، وهي بمنزلة التذييل لما فيها من زيادة التعميم في تعلق علم الله تعالى بجميع الموجودات بعد الكلام على تعلقه بعمل النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
والعزوب: البعد، وهو مجاز هنا للخفاء وفوات العلم، لأن الخفاء لازم للشيء البعيد، ولذلك علق باسم الذات دون صفة العلم فقال: {عَنْ رَبِّكَ} .
وقرأ الجمهور: {يَعْزُبُ} - بضم الزاي -، وقرأه الكسائي - بكسر الزاي - وهما

وجهان في مضارع "عزب".
و"من" في قوله: {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} مزيدة لتأكيد عموم النفي الذي في {مَا يَعْزُبُ} .
والمثقال: اسم آلة لما يعرف به مقدار ثقل الشيء فهو وزن مفعال من ثقل، وهو اسم لصنج مقدر بقدر معين يوزن به الثقل.
والذرة: النملة الصغيرة، ويطلق على الهباءة التي ترى في ضوء الشمس كغبار دقيق جدا، والظاهر أن المراد في الآية الأول. وذكرت الذرة مبالغة في الصغر والدقة للكناية بذلك عن إحاطة العلم بكل شيء فإن ما هو أعظم من الذرة يكون أولى بالحكم.
والمراد بالأرض والسماء هنا العالم السفلي والعالم العلوي. والمقصود تعميم الجهات والأبعاد بأخصر عبارة. وتقديم الأرض هنا لأن ما فيها أعلق بالغرض الذي فيه الكلام وهو أعمال الناس فإنهم من أهل الأرض بخلاف ما في سورة سبأ [3] {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ } فإنه لما كان المقام لذكر علم الغيب والغيب ما غاب عن الناس ومعظمه في السماء لاءم ذلك أن قدمت السماء على الأرض.
وعطف {وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ} على {ذَرَّةٍ} تصريحا بما كني عنه بمثقال ذرة من جميع الأجرام.
و {أَصْغَرَ} بالفتح في قراءة الجمهور ممنوعا من الصرف لأنه معطوف على {ذَرَّةٍ} المجرور على أن {لا} مقحمة لتأكيد النفي. وجوز أن يكون العطف عطف جملة وتكون {لا} نافية للجنس {وأَصْغَرَ} اسمها مبنيا على الفتح فيكون ابتداء كلام.
وقرأ حمزة وخلف ويعقوب {وَلا أَصْغَرُ - وَلا أَكْبَرُ} برفعهما باعتبار عطف {أَصْغَرَ} على محل {مِثْقَالُ} لأنه فاعل {يَعْزُبُ} في المعنى، وكسرته كسرة جر الحرف الزائد وهو وجه من فصيح الاستعمال، أو باعتبار عطف الجملة على الجملة وتكون {لا} نافية عاملة عمل ليس و {أَصْغَرَ} اسمها.
والاستثناء على الوجهين الأولين من قراءتي نصب {أَصْغَرَ} ورفعه استثناء منقطع بمعنى "لكن"، أي لا يعزب ذلك ولكنه حاضر في كتاب، وجوز أن يكون استثناء متصلا من عموم أحوال عزوب مثقال الذرة وأصغر منها وأكبر. وتأويله أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضده. والمعنى لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في حال كونه

في كتاب مبين، أي إلا معلوما مكتوبا ويعلم السامع أن المكتوب في كتاب مبين لا يمكن أن يعزب، فيكون انتفاء عزوبه حاصلا بطريق برهاني.
والمجرور على هذا كله في محل الحال، وعلى الوجهين الأخيرين من القراءتين يكون الاستثناء متصلا والمجرور ظرفا مستقلا في محل خبر "لا" النافية فهو في محل رفع أو في محل نصب، أي لا يوجد أصغر من الذرة ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
والكتاب: علم الله، استعير له الكتاب لأنه ثابت لا يخالف الحق بزيادة ولا نقصان. ومبين: اسم فاعل من أبان بمعنى بان، أي واضح بين لا احتمال فيه.
[62 - 64] {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
استئناف للتصريح بوعد المؤمنين المعرض به في قوله: {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} [يونس: 61] الآية، وبتسلية النبيء صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من الكفار من أذى وتهديد، إذ أعلن الله للنبي والمؤمنين بالأمن من مخافة أعدائهم، ومن الحزن من جراء ذلك، ولمح لهم بعاقبة النصر، ووعدهم البشرى في الآخرة وعدا لا يقبل التغيير ولا التخلف تطمينا لنفوسهم، كما أشعر به قوله عقبه: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} .
وافتتاح الكلام بأداة التنبيه إيماء إلى أهمية شأنه، كما تقدم في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} في سورة البقرة [12]، ولذلك أكدت الجملة ب {إِنَّ} بعد أداة التنبيه.
وفي التعبير ب {وْلِيَاءَ اللَّهِ} دون أن يؤتى بضمير الخطاب كما هو مقتضى وقوعه عقب قوله: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} [يونس: 61] يؤذن بأن المخاطبين قد حق لهم أنهم من أولياء الله مع إفادة حكم عام شملهم ويشمل من يأتي على طريقتهم.
وجملة: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} خبر {إِنَّ} .
والخوف: توقع حصول المكروه للمتوقع، فيتعدى بنفسه إلى الشيء المتوقع حصوله. فيقال: خاف الشيء، قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران: 175]. وإذا كان توقع حصول المكروه لغير المتوقع يقال للمتوقع: خاف عليه، كقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ

عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 135].
وقد اقتضى نظم الكلام نفي جنس الخوف لأن "لا" إذا دخلت على النكرة دلت على نفي الجنس، وأنها إذا بني الاسم بعدها على الفتح كان نفي الجنس نصا وإذا لم يبن الاسم على الفتح كان نفي الجنس ظاهرا مع احتمال أن يراد نفي واحد من ذلك الجنس إذا كان المقام صالحا لهذا الاحتمال، وذلك في الأجناس التي لها أفراد من الذوات مثل رجل، فأما أجناس المعاني فلا يتطرق إليها ذلك الاحتمال فيستوي فيها رفع اسم "لا" وبناؤه على الفتح، كما في قول إحدى نساء حديث أم زرع "زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة" فقد رويت هذه الأسماء بالرفع وبالبناء على الفتح.
فمعنى {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أنهم بحيث لا يخاف عليهم خائف، أي هم بمأمن من أن يصيبهم مكروه يخاف من إصابة مثله، فهم وإن كانوا قد يهجس في نفوسهم الخوف من الأعداء هجسا من جبلة تأثر النفوس عند مشاهدة بوادر المخافة، فغيرهم ممن يعلم حالهم لا يخاف عليهم لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سليما من التأثر بالمظاهر، فحالهم حال من لا ينبغي أن يخاف، ولذلك لا يخاف عليهم أولياؤهم لأنهم يأمنون عليهم من عاقبة ما يتوجسون منه خيفة، فالخوف الذي هو مصدر في الآية يقدر مضافا إلى فاعله وهو غيرهم لا محالة، أي لا خوف يخافه خائف عليهم، وهم أنفسهم إذا اعتراهم الخوف لا يلبث أن ينقشع عنهم وتحل السكينة محله، كما قال تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 25 , 26] ، وقال لموسى: {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} [طه: 77]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} . وكان النبيء صلى الله عليه وسلم يوم بدر يدعو الله بالنصر ويكثر من الدعاء ويقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض" . ثم خرج وهو يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر [القمر: 45].
ولهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية تغير الأسلوب في قوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فأسند فيه الحزن المنفي إلى ضمير {أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} مع الابتداء به، وإيراد الفعل بعده مسندا مفيدا تقوي الحكم، لأن الحزن هو انكسار النفس من اثر حصول المكروه عندها فهو لا توجد حقيقته إلا بعد حصوله، والخوف يكون قبل حصوله، ثم هم وإن كانوا يحزنون لما يصيبهم من أمور في الدنيا كقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون" فذلك حزن وجداني لا يستقر بل يزول بالصبر، ولكنهم لا يلحقهم الحزن الدائم وهو حزن

المذلة وغلبة العدو عليهم وزوال دينهم وسلطانهم، ولذلك جيء في جانب نفي الحزن عنهم بإدخال حرف النفي على تركيب مفيد لتقوي الحكم بقوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} لأن جملة: {هُمْ يَحْزَنُونَ} يفيد تقديم المسند إليه فيها تقوي الحكم الحاصل بالخبر الفعلي، فالمعنى لا يحصل لهم خوف متمكن ثابت يبقى فيهم ولا يجدون تخلصا منه.
فالكلام يفيد أن الله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه وأن لا يحل بهم ما يحزنهم. ولما كان ما يخاف منه من شأنه أن يحزن من يصيبه كان نفي الحزن عنهم مؤكدا لمعنى نفي خوف خائف عليهم. وجمهور المفسرين حملوا الخوف والحزن المنفيين على ما يحصل لأهل الشقاوة في الآخرة بناء على أن الخوف والحزن يحصلان في الدنيا، كقوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67]. وقد علمت ما يغني عن هذا التأويل، وهو يبعد عن مفاد قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} .
والولي: الموالي، أي المحالف والناصر. وكلها ترجع إلى معنى الولي بسكون اللام ، وهو القرب وهو في معنى الولي كلها قرب مجازى. وتقدم في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} في سورة الأنعام [14]. وهو قرب من الجانبين، ولذلك فسروه هنا بأنه الذي يتولى الله بالطاعة ويتولاه الله بالكرامة. وقد بين أولياء الله في هذه الآية بأنهم الذين آمنوا واتقوا، فاسم الموصول وصلته خبر وما بينهما اعتراض، أو يجعل جملة: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} خبر {إِنَّ} ويجعل اسم الموصول خبر مبتدأ محذوف حذفا جاريا على الاستعمال، كما سماه السكاكي في حذف المسند إليه. وأياما كان فهذا الخبر يفيد أن يعرف السامع كنه معنى أولياء الله اعتناء بهم على نحو ما قيل في قول أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
ودل قوله: {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} على أن التقوى ملازمة لهم أخذا من صيغة {كَانُوا} وأنها متجددة منهم أخذا من صيغة المضارع في قوله: {يَتَّقُونَ} . وقد كنت أقول في المذاكرات منذ سنين خلت في أيام الطلب أن هذه الآية هي أقوى ما يعتمد عليه في تفسير حقيقة الولي شرعا وأن على حقيقتها يحمل معنى قوله في الحديث القدسي الذي رواه الترمذي عن النبيء صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب" .
وإشارة الآية إلى تولي الله إياهم بالكرامة بقوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} .
وتعريف {الْبُشْرَى} تعريف الجنس فهو صادق ببشارات كثيرة.

و {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} حال من {الْبُشْرَى} . والمعنى: أنهم يبشرون بخيرات قبل حصولها: في الدنيا بما يتكرر من البشارات الواردة في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الآخرة بما يتلقونه من الملائكة وما يسمعونه من أمر الله بهم إلى النعيم المقيم، كقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [البقرة:25].
وروى الترمذي عن أبي الدرداء أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فقال: "ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت فهي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" قال الترمذي: "وليس فيه عطاء بن يسار" أي ليس في الحديث أن أبا صالح يرويه عن عطاء بن يسار كما هو المعروف في رواية أبي صالح إلى أبي الدرداء،
ومحمل هذا الخبر أن الرؤيا الصالحة من جملة البشرى في الحياة الدنيا لأنها تؤذن صاحبها بخير مستقبل يحصل في الدنيا أحرى الآخرة، أو كأن السائل سأل عن بشرى الحياة فأما بشرى الآخرة فكانت معروفة بقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} [التوبة: 21] الآية ونحوها من الآيات.
وفي الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه كان يقول في هذه الآية: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له. ومن البشرى الوعد بأن لهم عاقبة النصر على الأعداء، وتمكينهم من السلطان في الدنيا، وأن لهم النعيم الخالد في الآخرة. ومقابلة الحزن بالبشرى من محسنات الطباق.
وجملة: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} مبينة لمعنى تأكيد الوعد الذي تضمنه قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} ، تذكيرا لهم بأن ما وعدهم الله به من البشائر مثل النصر وحسن العاقبة أمر ثابت لا يتخلف لأنه من كلمات الله، وقد نفي التبديل بصيغة التبرئة الدالة على انتفاء جنس التبديل.
والتبديل: التغيير والإبطال، لأن إبطال الشيء يستلزم إيجاد نقيضه.
و {كَلِمَاتِ اللَّهِ} الأقوال التي أوحى بها إلى الرسول في الوعد المشار إليه، ويؤخذ من عموم {كَلِمَاتِ اللَّهِ} وعموم نفي التبديل أن كل ما هو تبديل منفي من أصله.

روي أن الحجاج خطب فذكر عبد الله بن الزبير فقال: "إنه قد بدل كتاب الله".وكان ابن عمر حاضرا فقال له ابن عمر: لا تطيق ذلك أنت ولا ابن الزبير: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} .
وجملة {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} مؤكدة لجملة {لَهُمُ الْبُشْرَى} ومقررة لمضمونها فلذلك فصلت.
والإشارة بذلك إلى المذكور من مضمون الجمل الثلاث المتقدمة، واختيار اسم الإشارة لأنه أجمع لما ذكر، وفيه كمال تمييز له لزيادة تقرير معناه. وذكر ضمير الفصل بعد اسم الإشارة لزيادة التأكيد ولإفادة القصر، أي هو الفوز العظيم لا غيره مما يتقلب فيه المشركون في الحياة الدنيا من رزق ومنعة وقوة، لأن ذلك لا يعد فوزا إذا عاقبته المذلة والإهانة في الدنيا وبعده العذاب الخالد في الآخرة، كما أشار إليه قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196, 197].
[65] {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
الجملة معطوفة على جملة: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] عطف الجزئي على الكلي لأن الحزن المذكور هنا نوع من أنواع الحزن المنفي في قوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بفاء التفريع لأن دفع هذا الحزن يتفرع على ذلك النفي ولكن عدل إلى العطف بالواو ليعطي مضمون الجملة المعطوفة استقلالا بالقصد إليه فيكون ابتداء كلام مع عدم فوات معنى التفريع لظهوره من السياق. والحزن المنهي عن تطرقه هو الحزن الناشئ عن أذى المشركين محمدا صلى الله عليه وسلم بأقوالهم البذيئة وتهديداتهم. ووجه الاقتصار على دحضه أن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يكن يلقى من المشركين محزنا إلا أذى القول البذئي.
وصيغة: {لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وظاهر صيغته أنه نهي عن أن يحزن النبيء صلى الله عليه وسلم كلام المشركين، مع أن شأن النهي أن يتوجه الخطاب به إلى من فعل الفعل المنهي عنه، ولكن المقصود من مثل هذا التركيب نهي النبيء عليه الصلاة والسلام عن أن يتأثر بما شأنه أن يحزن الناس من أقوالهم، فلما وجه الخطاب إليه بالنهي عن عمل هو

من عمل غيره تعين أن المراد بذلك الكناية عن نهيه هو عن حصول ذلك الحزن في نفسه بأن يصرف عن نفسه أسبابه وملزوماته فيؤول إلى معنى لا تترك أقوالهم تحزنك، وهذا كما يقولون: لا أرينك تفعل كذا، ولا أعرفنك تفعل كذا، فالمتكلم ينهى المخاطب عن أن يراه المتكلم فاعلا كذا. والمراد نهيه عن فعل ذلك حتى لا يراه المتكلم فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. والمعنى: لا تفعلن كذا فأراك تفعله. ومعنى: {لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} لا تحزن لقولهم فيحزنك.
ومعلوم أن أقوال المشركين التي تحزن النبيء هي أقوال التكذيب والاستهزاء، فلذلك حذف مفعول القول لأن المصدر هنا نزل منزلة مصدر الفعل اللازم.
وجملة: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} تعليل لدفع الحزن عنه، ولذلك فصلت عن جملة النهي كأن النبيء يقول: كيف لا أحزن والمشركون يتطاولون علينا ويتوعدوننا وهم أهل عزة ومنعة، فأجيب بأن عزتهم كالعدم لأنها محدودة وزائلة والعزة الحق لله الذي أرسلك. وهي أيضا في محل استئناف بياني. وكل جملة كان مضمونها علة للتي قبلها تكون أيضا استئنافا بيانيا، فالاستئناف البياني أعم من التعليل. وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بها، ولأنه يفيد مفاد لام التعليل وفاء التفريع في مثل هذا المقام الذي لا يقصد فيه دفع إنكار من المخاطب.
ويحسن الوقف على كلمة: {قَوْلُهُمْ} لكي لا يتوهم بعض من يسمع جملة: { إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} فيحسبه مقولا لقولهم فيتطلب لماذا يكون هذا القول سببا لحزن الرسول صلى الله عليه وسلم. وكيف يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم من قولهم: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} وإن كان في المقام ما يهدي السامع سريعا إلى المقصود.
ونظير هذا الإيهام ما حكي أن ابن قتيبة "وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة" ذكر قراءة أبي حيوة: {أَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} - بفتح همزة "أن" - وأعرب بدلا من "قولهم" فحكم أن هذه القراءة كفر. حكى ذلك عنه ابن عطية. وأشار إلى ذلك في "الكشاف" فقال: "ومن جعله بدلا من "قولهم" ثم أنكره فالمنكر هو تخريجه".
ولعل ابن قتيبة أراد أن كسر الهمزة وإن كان محتملا لأن تكون الجملة بعدها معمولة ل: {قَوْلُهُمْ} لأن شأن "إن" بعد فعل القول أن لا تكون بفتح الهمزة لكن ذلك احتمال غير متعين لأنه يحتمل أيضا أن تكون الجملة استئنافا، والسياق يعين الاحتمال الصحيح.

فأما إذا فتحت الهمزة كما قرأ أبو حيوة فقد تعينت أن تكون معمولة لما ذكر قبلها وهو لفظ {قَوْلُهُمْ} ولا محمل لها عنده إلا أنها أي المصدر المنسبك. منها بدل من كلمة {قَوْلُهُمْ} ، فيصير المعنى: أن الله نهى نبيه عن أن يحزن من قول المشركين { الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} وكيف وهو أنما يدعوهم لذلك. وإذ كان النهي عن شيء يقتضي تجويز تلبس المنهي بالشيء المنهى عنه اقتضى ذلك تجويز تلبس النبيء عليه الصلاة والسلام بالحزن لمن يقول هذا القول وهذا التجويز يؤول إلى كفر من يجوزه على طريقة التكفير باللازم، ومقصده التشنيع على صاحب هذه القراءة.
وإنما بنى ابن قتيبة كلامه على ظاهر لفظ القرآن دون تقدير حرف قبل "أنّ" لعله راعى أن التقدير خلاف الأصل أو أنه غير كاف في دفع الإيهام. فالوجه أن ابن قتيبة هول ما له تأويل، ورد العلماء عليه رد أصيل.
والتعريف في {الْعِزَّةَ} تعريف الجنس المفيد للاستغراق بقرينة السياق.
واللام في قوله: {لِلَّهِ} للملك. وقد أفاد جعل جنس العزة ملكا لله أن جميع أنواعها ثابت لله، فيفيد أن له أقوى أنواعها وأقصاها. وبذلك يفيد أن غير الله لا يملك منها إلا أنواعا قليلة، فما من نوع من أنواع العزة يوجد في ملك غيره فإن أعظم منه من نوعه ملك لله تعالى. فلذلك لا يكون لما يملكه غير الله من العزة تأثير إذا صادم عزة الله تعالى، وأنه لا يكون له تأثير إلا إذا أمهله الله، فكل عزة يستخدمها صاحبها في مناواة من أراد الله نصره فهي مدحوضة مغلوبة، كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] وإذ قد كان النبيء عليه الصلاة والسلام يعلم أن الله أرسله وأمره بزجر المشركين عما هم فيه كان بحيث يؤمن بالنصر إذا أعلمه الله بأنه مراده، ويعلم أن ما للمشركين من عزة هو في جانب عزة الله تعالى كالعدم.
و {جَمِيعاً} حال من {الْعِزَّةَ} موكدة مضمون الجملة قبلها المفيد لاختصاصه تعالى بجميع جنس العزة لدفع احتمال إرادة المبالغة في ملك ذلك الجنس.
وجملة {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} مستأنفة وإجراء هذا الخبر على اسم الجلالة الواقع ركنا في الجملة التعليلية يجر معنى التعليل إلى هذه الجملة فتفيد الجملة تعليلا آخر أو تكملة للتعليل الأول، لأنه إذا تذكر المخاطب أن صاحب العزة يعلم أقوالهم وأحوالهم زاد ذلك قوة في دفع الحزن من أقوالهم عن نفسه لأن الذي نهاه عن الحزن من أقوالهم وتطوالهم أشد منهم قوة ومحيط علمه بما يقولونه وبأحوالهم. فهو إذا نهاك عن الحزن من

أقوالهم ما نهاك الا وقد ضمن لك السلامة منهم مع ضعفك وقوتهم لأنه يمدك بقوته وهو أعلم بتكوين أسباب نصرك عليهم.
والمراد ب {السَّمِيعُ} العالم بأقوالهم التي من شأنها أن تسمع، وبـ {الْعَلِيمُ} ما هو أعم من أحوالهم التي ليست بمسموعات فلا يطلق على العلم بها اسم "السميع".
[66] {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}
المقصود بتوجيه هذا الكلام هم المشركون لتأسيسهم من كل احتمال لانتصارهم على النبيء عليه الصلاة والسلام والمسلمين، فإن كثيرا منهم حين يفهم ما في الآيات الخمس السابقة من قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [يونس: 61] إلى هنا من التصريح بهوان، شأنهم عند الله وعند رسوله ومن التعريض باقتراب حلول الغلبة عليهم يخامرهم بعض الشك في صدق الرسول وأن ما توعدهم به حق، ثم يغالطون أنفسهم ويسلون قلوبهم بأنه إن تحقق ذلك سيجدون من آلهتهم وساطة في دفع الضر عنهم ويقولون في أنفسهم: لمثل هذا عبدناهم، وللشفاعة عند الله أعدناهم, فسيق هذا الكلام لقطع رجائهم منهم بالاستدلال على أنهم دون ما يظن بهم.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ومناسبة وقوعها عقب جملة: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} أن أقوالهم دحضت بمضمون هذه الجملة. وأما وقوعها عقب جملة: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [يونس: 65] فلأنها حجة على أن العزة لله لأن الذي له من في السماوات ومن في الأرض تكون له العزة الحق.
وافتتاح الجملة بحرف التنبيه مقصود منه إظهار أهمية العلم بمضمونها وتحقيقه ولذلك عقب بحرف التأكيد، وزيد ذلك تأكيدا بتقديم الخبر في قوله: {لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} وباجتلاب لام الملك.
و {مَنْ} الموصولة شأنها أن تطلق على العقلاء وجيء بها هنا مع أن المقصد الأول إثبات أن آلهتهم لله تعالى، وهي جمادات غير عاقلة، تغليبا ولاعتقادهم تلك الآلهة عقلاء وهذا من مجاراة الخصم في المناظرة لإلزامه بنهوض الحجة عليه حتى على لازم اعتقاده. والحكم بكون الموجودات العاقلة في السماوات والأرض ملكا لله تعالى يفيد بالأحرى أن تلك الحجارة ملك الله لأن من يملك الأقوى أقدر على أن يملك الأضعف

فإن من العرب من عبد الملائكة، ومنهم من عبدوا المسيح، وهم نصارى العرب.
وذكر السماوات والأرض لاستيعاب أمكنة الموجودات فكأنه قيل: ألا إن لله جميع الموجودات.
وجملة: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} الخ معطوفة على جملة: {لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} . وهي كالنتيجة للجملة الأولى إذ المعنى أن جميع الموجودات ملك لله، واتباع المشركين أصنامهم اتباع خاطئ باطل.
و"ما" نافية لا محالة، بقرينة تأكيدها ب "إنْ" النافية، وإيراد الاستثناء بعدهما.
و {شُرَكَاءَ} مفعول {يَدْعُونَ} الذي هو صلة {الَّذِينَ} .
وجملة: {إِنْ َتَّبِعُونَ} توكيد لفظي لجملة {يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ} وأعيد مضمونها قضاء لحق الفصاحة حيث حصل من البعد بين المستثنى والمستثنى منه بسبب الصلة الطويلة ما يشبه التعقيد اللفظي وذلك لا يليق بأفصح كلام مع إفادة تلك الإعادة مفاد التأكيد لأن المقام يقتضي الإمعان في إثبات الغرض.
و {الظَّنَّ} مفعول لكلا فعلي {يَتَّبِعُ ، و َيتْبِعُونَ} فانهما كفعل واحد.
وليس هذا من التنازع لأن فعل التوكيد اللفظي لا يطلب عملا لأن المقصود منه تكرير اللفظ دون العمل فالتقدير: وما يتبع المشركون الا الظن وإن هم إلا يخرصون.
والظن: هنا اسم منزل منزلة اللازم لم يقصد تعليقه بمظنون معين، أي شأنهم اتباع الظنون.
والمراد بالظن هنا العلم المخطئ.
وقد بينت الجملة التي بعدها أن ظنهم لا دليل عليه بقوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} .
والخرص: القول بالحزر والتخمين. وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأنعام[116] وهو قوله: [67] {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} .
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} جملة معترضة بين جملة: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [يونس: 66] وجملة: {قَالُوا اتَّخَذَ

اللَّهُ وَلَداً} [يونس: 68] جاءت مجيء الاستدلال على فساد ظنهم وخرصهم بشواهد خلق الليل والنهار المشاهد في كل يوم من العمر مرتين وهم في غفلة عن دلالته، وهو خلق نظام النهار والليل.
وكيف كان النهار وقتا ينتشر فيه النور فيناسب المشاهدة لاحتياج الناس في حركات أعمالهم إلى إحساس البصر الذي به تتبين ذوات الأشياء وأحوالها لتناول، الصالح منها في العمل ونبذ غير الصالح للعمل.
وكيف كان الليل وقتا تغشاه الظلمة فكان مناسبا للسكون لاحتياج الناس فيه إلى الراحة من تعب الأعمال التي كدحوا لها في النهار. فكانت الظلمة باعثة الناس على الراحة ومحددة لهم إبانها بحيث يستوي في ذلك الفطن والغافل.
ولما قابل السكون في جانب الليل بالإبصار في جانب النهار، والليل والنهار ضدان دل ذلك على أن علة السكون عدم الإبصار وأن الإبصار يقتضي الحركة فكان في الكلام احتباك.
ووصف النهار بمبصر مجاز عقلي للمبالغة في حصول الإبصار فيه حتى جعل النهار هو المبصر. والمراد: مبصرا فيه الناس.
ومن لطائف المناسبة أن النور الذي هو كيفية زمن النهار شيء وجودي فكان زمانه حقيقيا بأن يوصف بأوصاف العقلاء، بخلاف الليل فان ظلمته عدمية فاقتصر في العبرة به على ذكر الفائدة الحاصلة فيه وهي أن يسكنوا فيه.
وفي قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} طريق من طرق القصر وهو تعريف المسند والمسند إليه. وهو هنا قصر حقيقي وليس إضافيا كما توهمه بعض الكاتبين إذ جعله قصر تعيين، وهم معترفون به لا يستطيعون دفع هذا الاستدلال، فالمقصود الاستدلال على انفراده تعالى بخصائص الإلهية التي منها الخلق والتقدير، وأن آلهتهم انتفت عنها خصائص الالهية، وقد حصل مع الاستدلال امتنان على الناس بجعل الليل والنهار على هذا النظام. وهذا الامتنان مستفاد من قوله: {جَعَلَ لَكُمُ} ومن تعليل خلق الليل بعلة سكون الناس فيه، وخلق النهار بعلة إبصار الناس، وكل الناس يعلمون ما في سكون الليل من نعمة وما في إبصارهم بالنهار من نعمة كذلك، فان في العمل بالنهار نعما جمة من تحصيل رغبات، ومشاهدة محبوبات، وتحصيل أموال وأقوات، وأن في السكون بالليل نعما جمة من

استجمام القوى المنهوكة والإخلاد إلى محادثة الأهل والأولاد، على أن في اختلاف الأحوال، ما يدفع عن المرء الملال.
وفي إدماج الاستدلال بالامتنان تعريض بأن الذين جعلوا لله شركاء جمعوا وصمتين هما: وصمة مخالفة الحق، ووصمة كفران النعمة.
وجملة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} مستأنفة. والآيات: الدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى بالإلهية، فان النظام الذي نشأ عنه الليل والنهار مشتمل على دقائق كثيرة من العلم والحكمة والقدرة وإتقان الصنع.
فمن تلك الآيات: خلق الشمس، وخلق الأرض، وخلق النور في الشمس وخلق الظلمة في الأرض، ووصول شعاع الشمس إلى الأرض، ودوران الأرض كل يوم بحيث يكون نصف كرتها مواجها للشعاع ونصفها الآخر محجوبا عن الشعاع وخلق الإنسان، وجعل نظام مزاجه العصبي متأثرا بالشعاع نشاطا، وبالظلمة فتورا، وخلق حاسة البصر، وجعلها مقترنة بتأثر الضوء؛ وجعل نظام العمل مرتبطا بحاسة البصر؛ وخلق نظام المزاج الإنساني مشملا على قوى قابلة للقوة والضعف ثم مدفوعا إلى استعمال قواه بقصد وبغير قصد بسبب نشاطه العصبي، ثم فاقدا بالعمل نصيبا من قواه محتاجا إلى الاعتياض بقوى تخلفها بالسكون والفتور الذي يلجئه إلى تطلب الراحة. وأية آيات أعظم من هذه، وأية منة على الإنسان أعظم من إيداع لله فيه دواعي تسوقه إلى صلاحه وصلاح نوعه بداع من نفسه.
ووصف {قَوْمٍ} بأنهم {يَسْمَعُونَ} إشارة إلى أن تلك الآيات والدلائل تنهض دلالتها للعقول بالتأمل فيها، وأن توجه التفكير إلى دلائلها غير محتاج إلا إلى التنبيه عليها ولفته إليها، فلما كان سماع تذكير الله بها هو الأصل الأصيل في استخراج دلالتها أو تفريع مدلولاتها على تفاوت الأذهان في الفطنة وترتيب الأدلة جعل آيات دلالتها حاصلة للذين يسمعون.
ويجوز أن يكون المراد يسمعون تفاصيل تلك الدلائل في تضاعيف سور القرآن. وعلى كلا الاحتمالين فالوصف بالسمع تعريض بأن الذين لم يهتدوا بها ولا تفطنوا لدلالتها بمنزلة الصم، كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} .
[68] {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي

الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}
بيان لجملة {ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض} [يونس: 66] إلى آخرها، وفي هذا البيان إدماج بحكاية فن من فنون كفرهم مغاير لادعاء شركاء لله، لأن هذا كفر خفي من دينهم، ولأن الاستدلال على إبطاله مغاير للاستدلال على إبطال الشركاء.
فضمير {قَالُوا} عائد إلى: {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [يونس: 66] أي قال المشركون: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} . وليس المراد من الضمير غيرهم من النصارى لأن السورة مكية والقرآن المكي لم يتصد لإبطال زيغ عقائد أهل الكتاب، ذلك أن كثيرا منهم كانوا يزعمون أن لله بنات هم الملائكة، وهم بناته من سرورات نساء الجن، ولذلك عبدت فرق من العرب الجن قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41].
والاتخاذ: جعل شيء لفائدة الجاعل، وهو مشتق من الأخذ لأن المتخذ يأخذ الشيء الذي يصطفيه. وقد تقدم في قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} في سورة الأنعام[74]، وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} في الأعراف[146]، فالاتخاذ يصدق على أخذ شيء موجود للاستئثار به، ويصدق على تكوين شيء للانتفاع به. وهو هنا صالح للمعنيين لأن منهم من يعتقد تولد الولد عن الله تعالى، ومنهم من يعتقد أن الله تبنى بعض مخلوقاته.
والولد: اسم مصوغ على وزن فعل مثل عمد وعرب. وهو مأخوذ من الولادة، أي النتاج. يقال: ولدت المرأة والناقة، ولعل أصل الولد مصدر ممات على وزن فعل مثل الفرح. ومن أجل ذلك أطلق على الواحد والجمع كما يوصف بالمصدر. يقال: هؤلاء ولد فلان. وفي الحديث "أنا سيد ولد آدم" والمراد هنا الجمع لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله استولدها من سروات الجن قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} [النحل: 57].
وجملة: {سُبْحَانَهُ} إنشاء تنزيه للرد عليهم، فالجملة جواب لذلك المقال ولذلك فصلت عن التي قبلها. وهو اسم مصدر ل"سبح" إذا نزه، نائب عن الفعل، أي نسبحه. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا} في سورة البقرة، أي تنزيها لله عن هذا لأن ما قالوه يستلزم تنقيص الله تعالى، ولذلك بينت جملة التنزيه بجملة {هُوَ

الْغَنِيُّ} بيانا لوجه التنزيه، أي هو الغني عن اتخاذ الولد، لأن الإلهية تقتضي الغنى المطلق عن كل احتياج إلى مكمل نقص في الذات أو الأفعال، واتخاذ الولد إما أن ينشأ عن اندفاع طبيعي لقضاء الشهوة عن غير قصد التوليد وكونها نقصا غير خفي، وإما أن ينشأ عن القصد والتفكير في إيجاد الولد، وذلك لا يكون إلا لسد ثلمة نقص من حاجة إلى معنى في الحياة أو خلف بعد الممات. وكل ذلك مناف للإلهية التي تقتضي الاتصاف بغاية الكمال في الذات والصفات والأفعال.
والغني: الموصوف بالغنى، فعيل للمبالغة في فعل "غني" عن كذا إذا كان غير محتاج، وغنى الله هو الغنى المطلق. وفسر في أصول الدين الغنى المطلق بأنه عدم الافتقار إلى المخصص وإلى المحل، فالمخصص هو الذي يعين للممكن إحدى صفتي الوجود أو العدم عوضا عن الأخرى، فبذلك ثبت للإله الوجود الواجب، أي الذي لا يتصور انتفاؤه ولذلك انتفى عنه التركيب من أجزاء وأبعاض ومن أجل ذلك امتنع أن ينفصل عنه شيء منه، والولد ينشأ من جزء منفصل عن الوالد، فلا جرم أن كان الغني منزها عن الولد من جهة الانفصال، ثم هو أيضا لا يجوز أن يتخذ بعض المخلوقات ولدا له بالتبني لأجل كونه غنيا عن الحاجات التي تبعث على اتخاذ الولد من طلب معونة أو إيناس أو خلف، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وقال: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101].
وجملة: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} مقررة لوصف الغنى بأن ما في السماوات وما في الأرض ملكه، فهو يسخر كل موجود لما خلقه لأجله، فلا يحتاج إلى إعانة ولد، ولا إلى ترفيع رتبة أحد استصناعا له كما يفعل الملوك لقواد جيوشهم وأمراء أقطارهم وممالكهم لاكتساب مودتهم وإخلاصهم. وهذا مساو للاستدلال على نفي الشريك في قوله آنفا: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [يونس: 66] ودل قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} على أن صفة العبودية تنافي صفة البنوة وذلك مثل قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26].
ويؤخذ من هذا أن الولد لا يسترق لأبيه ولا لأمه ولذلك يعتق الولد على من يملكه من أب أو أم وإن عليا.
وجملة: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} جواب ثان لقولهم: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} فلذلك

فصلت كما فصلت جملة {سُبْحَانَهُ} ، فبعد أن أستدل على إبطال قولهم، سجل عليهم أنهم لا حجة لهم في قولهم ذلك.
و {إِنْ} حرف نفي.
و {مِنْ} مزيدة لتأكيد النفي بالاستغراق، أي استغراق نفي جميع أنواع الحجة قويها وضعيفها، عقليها وشرعيها.
و"عند" هنا مستعملة مجازا. شبه وجود الحجة للمحتج بالكون في مكانه، والمعنى: لا حجة لكم.
و {سُلْطَانٍ} محله رفع بالابتداء، وخبره {عِنْدَكُمْ} واشتغل آخر المبتدأ عن الضمة بكسرة حرف الجر الزائدة.
والسلطان: البرهان والحجة، لأنه يكسب المستدل به سلطة على مخالفه ومجادله. وقد تقدم عند قوله تعالى: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} في سورة الأعراف[71].
والباء للملابسة، وهي في موضع صفة ل {سُلْطَانٍ} ، أي سلطان ملابس لهذا. والإشارة إلى المقول.
والمعنى: لا حجة لكم تصاحب مقولكم بأن الله اتخذ ولدا.
وجملة: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} جواب ثالث ناشئ عن الجوابين لأنهم لما أبطل قولهم بالحجة. ونفي أن تكون لهم على قولهم حجة كانوا أحرياء بالتوبيخ والتشنيع بأنهم يجترئون على جناب الله فيصفون الله بما لا يعلمون، أي بما لا يوقنون به، ولكونها جوابا فصلت.
فالاستفهام مستعمل في التوبيخ، لأن المذكور بعده شيء ذميم، واجتراء عظيم وجهل كبير مركب.
[69, 70] {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} .
استئناف افتتح بأمر النبيء صلى الله عليه وسلم أن يقول لتنبيه السامعين إلى وعي ما يرد بعد الآمر بالقول بأنه أمر مهم بحيث يطلب تبليغه، وذلك أن المقول قضية عامة يحصل منها وعيد للذين قالوا: اتخذ الله ولدا، على مقالتهم تلك، وعلى أمثالها كقولهم: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} وقولهم: ما كان لآلهتهم من الحرث والأنعام لا يصل إلى الله وما كان لله من ذلك يصل إلى آلهتهم، وقولهم: {لَنْ

نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] وأمثال ذلك. فذلك كله افتراء على الله، لأنهم يقولونه على أنه دين، وماهية الدين أنه وضع إلهي فهو منسوب إليه، ويحصل من تلك القضية وعيد لأمثال المشركين من كل من يفتري على الله ما لم يقله، فالمقول لهم ابتداءا هم المشركون.
والفلاح: حصول ما قصده العامل من عمله بدون انتقاض ولا عاقبة سوء. وتقدم في طالع سورة البقرة[5]. فنفي الفلاح هنا نفي لحصول مقصودهم من الكذب وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم.
وجملة: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} استئناف بياني، لأن القضاء عليه بعدم الفلاح يتوجه عليه أن يسأل سائل كيف نراهم في عزة وقدرة على أذى المسلمين وصد الناس عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيجاب السائل بأن ذلك تمتيع في الدنيا لا يعبأ به، وإنما عدم الفلاح مظهره الآخرة، ف: {مَتَاعٌ} خبر مبتدأ محذوف يعلم من الجملة السابقة، أي أمرهم متاع.
والمتاع: المنفعة القليلة في الدنيا إذ يقيمون بكذبهم سيادتهم وعزتهم بين قومهم ثم يزول ذلك.
ومادة "متاع" مؤذنة بأنه غير دائم كما تقدم في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في أوائل سورة الأعراف[24].
وتنكيره مؤذن بتقليله، وتقييده بأنه في الدنيا مؤكد للزوال وللتقليل، و"ثم" من قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} للتراخي الرتبي لأن مضمونه هو محقة أنهم لا يفلحون فهو أهم مرتبة من مضمون لا يفلحون.
والمرجع: مصدر ميمي بمعنى الرجوع. ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى وقت نفاذ حكمه المباشر فيهم.
وتقديم {إِلَيْنَا} على متعلقه وهو المرجع للاهتمام بالتذكير به واستحضاره كقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} إلى قوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} ويجوز أن يكون المرجع كناية عن الموت.
وجملة: {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ} بيان لجملة {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} . وحرف "ثم" هذا مؤكد لنظيره الذي في الجملة المبينة على أن المراد بالمرجع الحصول في نفاذ حكم الله.

والجمل الأربع هي من المقول المأمور به النبيء صلى الله عليه وسلم تبليغا عن الله تعالى.
وإذاقة العذاب إيصاله إلى الإحساس، أطلق عليه الإذاقة لتشبيهه بإحساس الذوق في التمكن من أقوى أعضاء الجسم حاسية لمس وهو اللسان.
والباء في {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} للتعليل.
وقوله: {كَانُوا يَكْفُرُونَ} يؤذن بتكرر ذلك منهم وتجدده بأنواع الكفر.
[71] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ}
انتقال من مقارعة المشركين بالحجج الساطعة على بطلان دينهم، وبالدلائل الواضحة على تفنيد أكاذيبهم وتكذيبهم وما تخلل ذلك من الموعظة والوعيد بالعذاب العاجل والآجل والإرهاب، إلى التعريض لهم بذكر ما حل بالأمم المماثلة أحوالها لأحوالهم، استقصاء لطرائق الحجاج على أصحاب اللجاج؛ فإن نوحا عليه السلام مع قومه مثل لحال محمد صلى الله عليه وسلم مع المشركين من قومه في ابتداء الأمر وتطوره، ففي ذكر عاقبة قوم نوح عليه السلام تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلا ثم يؤخذون أخذة رابية، كما متع قوم نوح زمنا طويلا ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا، فذكر قصة نوح مع قومه عظة للمشركين وملقيا بالوجل والذعر في قلوبهم، وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بأنهم إسوة بالأنبياء، والصالحين من أقوامهم، وكذلك قصة موسى عليه السلام عقبها كما ينبئ عن ذلك قوله في نهاية هذه القصص {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] الآيات. وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] الآيات.
وبهذا يظهر حسن موقع "إذْ" من قوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} إلى آخره، فإن تقييد النبأ بزمن قوله: {لِقَوْمِهِ} إيماء إلى أن محاورته قومه وإصرارهم على الإعراض هو محل العبرة، لأنه وجه الشبه بين المشركين وبين قوم نوح عليه السلام في صم آذانهم عن دعوة رسولهم، وقوله ذلك لهم إنما كان بعد أن كرر دعاءهم زمنا طويلا فكان ذلك آخر جدل بينه وبينهم، والنبيء صلى الله عليه وسلم قد دعا أهل مكة سنين وقت نزول هذه السورة ثم حاورهم وجادلهم ولأن ذلك الزمن هو أعظم موقف وقفه نوح عليه السلام مع قومه، وكان هو

الموقف الفاصل الذي أعقبه العذاب بالغرق.
و {إذ} اسم للزمن الماضي، وهو هنا بدل اشتمال من {نَبَأَ} أو من {نُوحٍ} . وفي ذكر قصة نوح عليه السلام وما بعدها تفصيل لما تقدم إجماله من قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [يونس: 13].
وضمير {عَلَيْهِمْ} عائد إلى: {الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [يونس: 69].
والتلاوة: القراءة. وتقدمت في سورة الأنفال.
والنبأ: الخبر. وتقدم في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} في سورة الأنعام[34].
والتعريف بنوح عليه السلام وتاريخه مضى في أول آل عمران.
وتعريف قوم نوح بطريق الإضافة إلى ضمير نوح في قوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} إذ ليس ثمة طريق لتعريفهم غير ذلك إذ لم يكن لتلك الأمة اسم تعرف به، فإنهم كانوا أمة واحدة في الأرض فلم يحصل داع إلى تسميتهم باسم جد أو أرض إذ لم يكن ما يدعو إلى تمييزهم إذ ليس ثمة غيرهم، ألا ترى إلى حكاية الله عن هود في قوله لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]، ولما حكى عن صالح إذ قال لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف: 74].
وظرف: {إِذْ} وما أضيف إليه في موضع الحال من {نَبَأَ نُوحٍ} .
وافتتاح خطاب نوح قومه ب {يَا قَوْمِ} إيذان بأهمية ما سيلقيه إليهم، لأن النداء طلب الإقبال. ولما كان هنا ليس لطلب إقبال قومه إليه لأنه ما ابتدأ خطابهم إلا في مجمعهم تعين أن النداء مستعمل مجازا في طلب الإقبال المجازي، وهو توجيه أذهانهم إلى فهم ما سيقوله.
واختيار التعبير عنهم بوصف كونهم قومه تحبيب لهم في نفسه ليأخذوا قوله مأخذ قول الناصح المتطلب الخير لهم، لأن المرء لا يريد لقومه إلا خيرا. وحذفت ياء المتكلم من المنادى المضاف إليها على الاستعمال المشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم.
ومعنى {نْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} شق عليكم وأحرجكم.
والكبر: وفرة حجم الجسم بالنسبة لأمثاله من أجسام نوعه، ويستعار الكبر لكون

وصف من أوصاف الذوات أو المعاني أقوى فيه منه في أمثاله من نوعه، فقد يكون مدحا كقوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، ويكون ذما كقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5]، ويستعار الكبر للمشقة والحرج، كقوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] وقوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35] وكذلك هنا.
والمقام مصدر ميمي مرادف للقيام. وقد استعمل هنا في معنى شأن المرء وحاله كما في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمان: 46], وقوله: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً} [مريم: 73] أي خير حالة وشأنا. وهو استعمال من قبيل الكناية، لأن مكان المرء ومقامه من لوازم ذاته، وفيهما مظاهر أحواله.
وخص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله، لأن ذلك من أهم شؤونه مع قومه، فعطفه من عطف الخاص على العام. فمعنى: {كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي} سئمتم أحوالي معكم وخاصة بتذكيري بآيات الله.
وتجهم الحق على أمثالهم شنشنة المتوغلين في الفساد المأسورين للهوى إذ تقع لديهم الدعوة إلى الإقلاع عنه والتثويب بهم إلى الرشاد موقعا مر المذاق من نفوسهم، شديد الإيلام لقلوبهم، لما في منازعة الحق نفوسهم من صولة عليها لا يستطيعون الاستخفاف بها ولا يطاوعهم هواهم على الإذعان إليها، فيتورطون في حيرة ومنازعة نفسانية تثقل عليهم، وتشمئز منها نفوسهم، وتكدر عليهم صفو انسياقهم مع هواهم. وإضافة التذكير إلى ضميره من إضافة المصدر إلى فاعله.
والباء في: {بِآياتِ اللَّهِ} لتأكيد تعدية المصدر إلى مفعوله الثاني، والمفعول الأول محذوف، والتقدير: تذكيري إياكم.
و {آياتِ اللَّهِ} مفعول ثان للتذكير. يقال: ذكرته أمرا نسيه، فتعديته بالباء لتأكيد التعدية كقوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] ، وقول مسور بن زيادة الحارثي:
أذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتلي
ولذلك قالوا في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] أن الباء لتأكيد اللصوق أي لصوق الفعل بمفعوله.
وآيات الله: دلائل فضله عليهم، ودلائل وحدانيته، لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا

تلك الدلائل، فكان يذكرهم بها، وذلك يبرمهم ويحرجهم.
وجملة: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} جواب شرط: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} باعتبار أن ذلك الشرط تضمن أن إنكاره عليهم قد بلغ من نفوسهم ما لا طاقة لهم بحمله، وأنهم متهيئون لمدافعته فأنبأهم أن احتمال صدور الدفاع منهم، وهم في كثرة ومنعة وهو في قلة وضعف، لا يصده عن استمرار الدعوة، وأنه وإن كان بينهم وحيدا فذلك يوهنه لأنه متوكل على الله. ولأجل هذا قدم المجرور على عامله في قوله: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} أي لا على غيره.
والتوكل: التعويل على من يدبره أمره. وقد مر عند قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران [159].
والفاء في {فأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} للتفريع على جملة: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} فللجملة المفرعة حكم جواب الشرط لأنها مفرعة على جملة الجواب، ألا ترى أنه لولا قصده المبادرة بإعلامهم أنه غير مكترث بمناواتهم لكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول: إن كان كبر عليكم مقامي الخ، فأجمعوا أمركم فإني على الله توكلت، كما قال هود لقومه: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 55, 56].
وإجماع الأمر: العزم على الفعل بعد التردد بين فعله وفعل ضده. وهو مأخوذ من الجمع الذي هو ضد التفريق، لأن المتردد في ماذا يعمله تكون عنده أشياء متفرقة فهو يتدبر ويتأمل فإذا استقر رأيه على شيء منها فقد جمع ما كان متفرقا. فالهمزة فيه للجعل، أي جعل أمره جمعا بعد أن كان متفرقا.
ويقولون: جاؤوا وأمرهم جميع، أي مجموع غير متفرق بوجوه الاختلاف.
والأمر: هو شأنهم من قصد دفعه وأذاه وترددهم في وجوه ذلك ووسائله.
و {وَشُرَكَاءَكُمْ} منصوب في قراءة الجمهور على أنه مفعول معه. والواو بمعنى "مع" أي أجمعوا أمركم ومعكم شركاؤكم الذين تستنصرون بهم.
وقرأ يعقوب {وَشُرَكَاءَكُمْ} مرفوعا عطفا على ضمير {فَأَجْمِعُوا} ، وسوغه الفصل بين الضمير وما عطف عليه بالمفعول. والمعنى: وليجمع شركاؤكم أمرهم.
وصيغة الأمر في قوله: {فَأَجْمِعُوا} مستعملة في التسوية، أي أن عزمهم لا يضيره

بحيث هو يغريهم بأخذ الأهبة التامة لمقاومته. وزاد ذكر شركائهم للدلالة على أنه لا يخشاها لأنها في اعتقادهم أشد بطشا من القوم، وذلك تهكم بهم، كما في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195].
وعطف جملة: {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} ب {ثُمَّ} الدالة على التراخي في الرتبة لما تتضمنه الجملة الثانية من الترقي في قلة مبالاته بما يهيئونه له من الضر بحيث يتصدى لهم تصدي المشير بما يسهل لهم البلوغ إلى الإضرار به الذي ينوونه وإزالة العوائق الحائلة دون مقصدهم. وجاء بما ظاهره نهي أمرهم عن أن يكون غمة عليهم مبالغة في نهيهم عن التردد في تبين الوصول إلى قصدهم حتى كأن شأنهم هو المنهي عن أن يكون التباسا عليهم، أي اجتهدوا في أن لا يكون ذلك.
والغمة: اسم مصدر للغم. وهو الستر. والمراد بها في مثل هذا التركيب الستر المجازي، وهو انبهام الحال، وعدم تبين السداد فيه، ولعل هذا التركيب جرى مجرى المثل فقد قال طرفة من قبل:
لعمرك ما أمري علي بغمة ... نهاري ولا ليلي علي بسرمد
وإظهار لفظ الأمر في قوله: {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} مع أنه عين الذي في قوله: {فأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} لكون هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فيقتضي أن لا تغير ألفاظه.
و"ثم" في قوله: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} للتراخي في الرتبة، فإن رتبة إنفاذ الرأي بما يزمعون عليه من أذاه أقوى من تدبير ذلك، ومن رتبة إجماع الرأي عليه فهو ارتقاء من الشيء إلى أعلى منه، فعطف ب"ثم" التي تفيد التراخي في الرتبة في عطفها الجمل.
و {اقْضُوا} أمر من القضاء، فيجوز أن يكون من القضاء بمعنى الإتمام والفصل، أي انفذوا ما ترونه من الإضرار بي. ويجوز أن يكون من القضاء بمعنى الحكم، وهو قريب من الوجه الأول، أي أنفذوا حكمكم.
وعدي ب"إلى" دون "على" لأنه ضمن معنى الإبلاغ والإيصال تنصيصا على معنى التنفيذ بالفعل، لأن القضاء يكون بالقول فيعقبه التنفيذ أو الإرجاء أو العفو، ويكون بالفعل، فهو قضاء بتنفيذ، ويسمى عند الفقهاء بالقضاء الفعلي.
وقوله: {وَلا تُنْظِرُونِ} تأكيد لمدلول التضمين المشار إليه بحرف "إلى". والإنظار

التأخير، وحذفت ياء المتكلم من {تُنْظِرُونِ} للتخفيف، وهو حذف كثير في فصيح الكلام، وبقاء نون الوقاية مشعر بها.
[72] {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
الفاء لتفريغ الكلام على الكلام فجملة الشرط وجوابه مفرعتان على الجملتين السابقتين، ولما كان توليهم عن دعوته قد وقع واستمر تعين أن جعل التولي في جملة الشرط مراد به ما كان حصل ليرتب عليه جواب الشرط الذي هو شيء قد وقع أيضا. وإنما قصد إقرارهم به قطعا لتعللاتهم واستقصاء لقطع معاذيرهم. والمعنى: فأن توليتم فقد علمتم أني ما سألتكم أجرا فتتهموني برغبة في نفع ينجر لي من دعوتكم حتى تعرضوا عنها شحا بأموالكم أو اتهاما بتكذيبي، وهذا إلزام لهم بأن توليهم لم يكن فيه احتمال تهمتهم إياه بتطلب نفع لنفسه. وبذلك برأ نفسه من أن يكون سببا لتوليهم، وبهذا تعين أن المعلق بهذا الشرط هو التحقق بين مضمون جملة الشرط وجملة الجزاء لا وقوع جملة الجزاء عند وقوع جملة الشرط. وذلك مثل قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} في آخر سورة العقود[116]. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} في سورة الأعراف[87].
وجملة: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} تعميم لنفي تطلبه أجرا على دعوتهم سواء منهم أم من غيرهم، فالقصر حقيقي وبه يحصل تأكيد جملة: {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} مع زيادة التعميم. وطريق جزمه بأن الله يؤجره على ذلك هو وعد الله إياه به بما أوحى إليه.
وأتى بحرف "على" المفيد لكونه حقا له عند الله بناء على وعد الله إياه وأعلمه بأن الله لا يخلف وعده، فصار بالوعد حقا على الله التزم الله به.
والأجر: العوض الذي يعطى لأجل عمل يعمله آخذ العوض.
وجملة: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} معطوفة على جملة الجواب، والتقدير فإن توليتم فأمرت أن أكون من المسلمين، أي أمرني الله أن أتبع الدين الحق ولو كنت وحدي. وهذا تأييس لهم بأن إجماعهم على التولي عنه لا يفل حده ولا يصده عن مخالفة دينهم الضلال.

وبني فعل {أُمِرْتُ} للمجهول في اللفظ للعلم به، إذ من المعلوم من سياق الكلام أن الذي أمره هو الله تعالى.
وقوله: {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي من الفئة التي يصدق عليها هذا الوصف وهو الإسلام، أي توحيد الله دون عبادة شريك، لأنه مشتق من إسلام العبادة وتخليصها لله تعالى دون غيره. كما في قوله تعالى: { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20].
وقد سمي التوحيد ودين الحق الخالص إسلاما في مختلف العصور وسمي الله به سنن الرسل فحكاه عن نوح عليه السلام هنا وعن إبراهيم بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، وعن إسماعيل {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128]، ويعقوب وبنيه إذ حكى عنهم: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، وعن يوسف {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} [يوسف: 101]، وعن موسى قال: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 8]، وعن سليمان {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [البقرة: 31]، وعن عيسى والحواريين {قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]. وقد تقدم بيان ذلك مفصلا عند قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} في سورة البقرة[128].
وقوله: {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أقوى في الدلالة على الاتصاف بالإسلام من أن أكون مسلما، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} في سورة البقرة، وعند قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في سورة براءة[119].
[73] {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} .
الفاء للتفريع الذكري، أي تفريع ذكر هذه الجمل السابقة لأن الشأن أن تكون لما بعد الفاء مناسبة لما قبلها تقتضي أن يذكر بعدها فيؤتى بالفاء للإشارة إلى تلك المناسبة، كقوله تعالى: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} ، وإلا فان تكذيب قوم نوح حصل قبل أن يقول لهم: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} [يونس: 71] الخ، لأنه ما قال لهم ذلك إلا وقد رأى منهم تجهم دعوته.
ولك أن تجعل معنى فعل: {كَذَّبُوهُ} الاستمرار على تكذيبه مثل فعل {آمَنُوا} في

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136]، فتكون الفاء لتفريغ حصول ما بعدها على حصول ما قبلها.
وأما الفاء التي في جملة: {فَنَجَّيْنَاهُ} فهي للترتيب والتعقيب، لأن تكذيب قومه قد استمر إلى وقت إغراقهم وإنجاء نوح عليه السلام ومن اتبعه. وهذا نظم بديع وإيجاز معجز إذ رجع الكلام إلى التصريح بتكذيب قومه الذي لم يذكر قبل بل أشير له ضمنا بقوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} [يونس: 71] الآية، فكان كرد العجز على الصدر. ثم أشير إلى استمراره في الأزمنة كلها حتى انتهى بإغراقهم، فذكر إنجاء نوح وإغراق المكذبين له، وبذلك عاد الكلام إلى ما عقب مجادلة نوح الأخيرة قومه المنتهية بقوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72] فكان تفننا بديعا في النظم مع إيجاز بهيج.
وتقدم ذكر إنجائه قبل ذكر الإغراق الذي وقع الإنجاء منه للإشارة إلى أن إنجاءه أهم عند الله تعالى من إغراق مكذبيه، ولتعجيل المسرة للمسلمين السامعين لهذه القصة.
والفلك: السفينة. وتقدم عند قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} في سورة البقرة[164].
والخلائف: جمع خليفة وهو اسم للذي يخلف غيره. وتقدم عند قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة[30]. وصيغة الجمع هنا باعتبار الذين معه في الفلك تفرع على كل زوجين منهم أمة.
وتعريف قوم نوح بطريق الموصولية في قوله: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} للإيماء إلى سبب تعذيبهم بالغرق، وأنه التكذيب بآيات الله إنذارا للمشركين من العرب ولذلك ذيل بقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} ، أي المنذرين بالعذاب المكذبين بالإنذار.
والنظر: هنا نظر عين، نزل خبرهم لوضوحه واليقين به منزلة المشاهد.
والخطاب ب {انْظُرْ} يجوز أن يكون لكل من يسمع فلا يراد به مخاطب معين ويجوز أن يكون خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم فخص بالخطاب تعظيما لشأنه بأن الذين كذبوه يوشك أن يصيبهم من العذاب نحو مما أصاب قوم نوح عليه السلام وفي ذلك تسلية له على ما يلاقيه من أذاهم وإظهار لعناية الله به.

[74] {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}
{ثُمَّ} للتراخي الرتبي، لأن بعثة رسل كثيرين إلى أمم تلقوهم بمثل ما تلقى به نوحا قومه أععجب من شأن قوم نوح حيث تمالأت تلك الأمم على طريقة واحدة من الكفر. وليست "ثم" لإفادة التراخي في الزمن للاستغناء عن ذلك بقوله: {مِنْ بَعْدِهِ} .
وقد أبهم الرسل في هذه الآية. ووقع في آيات أخرى التصريح بأنهم: هود وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب. وقد يكون هنالك رسل آخرون كما قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164]، ويتعين أن يكون المقصود هنا من كانوا قبل موسى لقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى} [يونس: 75]. وفي الآية إشارة إلى أن نوحا أول الرسل.
والبينات: هي الحجج الواضحة الدلالة على الصدق. والفاء للتعقيب، أي أظهروا لهم المعجزات بإثر إرسالهم. والباء للملابسة، أي جاءوا قومهم مبلغين الرسالة ملابسين البينات.
وقد قوبل جمع الرسل بجمع "البينات" فكان صادقا ببينات كثيرة موزعة على رسل كثيرين، فقد يكون لكل نبي من الأنبياء آيات كثيرة، وقد يكون لبعض الأنبياء آية واحدة مثل آية صالح وهي الناقة.
والفاء في قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} للتفريع، أي فترتب على ذلك أنهم لم يؤمنوا.
وصيغ النفي بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفاء الإيمان عنهم بأقصى أحوال الانتفاء. حتى كأنهم لم يوجدوا لأن يؤمنوا بما كذبوا به، أي لم يتزحزحوا عنه. ودلت صيغة الجحود على أن الرسل حاولوا إيمانهم محاولة متكررة.
ودل قوله: {بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أن هنالك تكذيبا بادروا به لرسلهم، وأنهم لم يقلعوا عن تكذيبهم الذي قابلوا به الرسل، لأن التكذيب إنما يكون لخبر مخبر فقوله: {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} مؤذن بحصول التكذيب فلما كذبوهم جاؤوهم بالبينات على صدقهم فاستمروا على التكذيب فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل. وهذا من إيجاز الحذف لجمل كثيرة. وهذا يقتضي تكرر الدعوة وتكرر البينات وإلا لما كان لقوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} وقع لأن التكذيب الذي حصل أول مرة إذا لم يطرأ عليه ما

من شأنه أن يقلعه كان تكذيبا واحدا منسيا. وهذا من بلاغة معاني القرآن.
وبذلك يظهر وقع قوله عقبه: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} فان الطبع مؤذن بأن قلوبهم قد ورد عليها ما لو خلت عند وروده عن الطبع عليها لكان شأنه أن يصل بهم إلى الإيمان، ولكن الطبع على قلوبهم حال دون تأثير البينات في قلوبهم.
وقد جعل الطبع الذي وقع على قلوب هؤلاء مثلا لكيفيات الطبع على قلوب المعتدين فقوله: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} ، أي مثل هذا الطبع العجيب نطبع على قلوب المعتدين فتأملوه واعتبروا به.
والطبع: الختم. وهو استعارة لعدم دخول الإيمان قلوبهم. وتقدم في قوله تعالى: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} في سورة البقرة[7].
والاعتداء: افتعال من عدا عليه، إذا ظلمه، فالمعتدين مرادف الظالمين، والمراد به المشركون لأن الشرك اعتداء، فإنهم كذبوا الرسل فاعتدوا على الصادقين بلمزهم بالكذب وقد جاء في نظير هذه الآية من سورة الأعراف[101] {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} 1 فهذا التحالف للتفنن في حكاية هذه العبرة في الموضعين.
[75] {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ بِآياتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} .
{ثُمَّ} للتراخي الرتبي لأن بعثة موسى وهارون عليهما السلام كانت أعظم من بعثة من سبقهما من الرسل، وخصت بعثة موسى وهارون بالذكر لأنها كانت انقلابا عظيما وتطورا جديدا في تاريخ الشرائع وفي نظام الحضارة العقلية والتشريعية فإن الرسل الذين كانوا قبل موسى إنما بعثوا في أمم مستقلة، وكانت أديانهم مقتصرة على الدعوة إلى إصلاح العقيدة، وتهذيب النفوس، وإبطال ما عظم من مفاسد في المعاملات، ولم تكن شرائع شاملة لجميع ما يحتاج إليه من نظم الأمة وتقرير حاضرها ومستقبلها.
فأما بعثة موسى فقد أتت بتكوين أمة، وتحريرها من استعباد أمة أخرى إياها، وتكوين وطن مستقل لها، وتأسيس قواعد استقلالها، وتأسيس جامعة كاملة لها، ووضع نظام سياسة الأمة، ووضع سياسة يدبرون شؤونها، ونظام دفاع يدفع المعتدين عليها من
ـــــــ
(1) في المطبوعة (كذلك نطبع على قلوب الكافرين) وهو خطأ.

الأمم، ويمكنها من اقتحام أوطان أمم أخرى، وإعطاء كتاب يشتمل على قوانين حياتها الاجتماعية من كثير نواحيها، فبعثة موسى كانت أول مظهر عام من مظاهر الشرائع لم يسبق له نظير في تاريخ الشرائع ولا في تاريخ نظام الأمم، وهو مع تفوقه على جميع ما تقدمه من الشرائع قد امتاز بكونه تلقينا من الله المطلع على حقائق الأمور، المريد إقرار الصالح وإزالة الفاسد.
وجعل موسى وهارون مبعوثين كليهما من حيث إن الله استجاب طلب موسى أن يجعل معه أخاه هارون مؤيدا ومعربا عن مقاصد موسى فكان بذلك مأمورا من الله بالمشاركة في أعمال الرسالة، وقد بينته سورة القصص، فالمبعوث أصالة هو موسى وأما هارون فبعث معينا له وناصرا، لأن تلك الرسالة كانت أول رسالة يصحبها تكوين أمة.
وفرعون ملك مصر، وقد مضى الكلام عليه عند قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} في سورة الأعراف[103]، وعلى صفة إرسال موسى الى فرعون وملئه، وفرعون هذا هو منفطاح الثاني أحد فراعنة العائلة التاسعة عشرة من الأسر التي ملكت بلاد القبط. والمراد بالملأ خاصة الناس وسادتهم وذلك أن موسى بعث الى بني إسرائيل وبعث إلى فرعون وأهل دولته ليطلقوا بني إسرائيل.
والسين والتاء في {اسْتَكْبَرُوا} للمبالغة في التكبر، والمراد أنهم تكبروا عن تلقي الدعوة من موسى، لأنهم احتقروه وأحالوا أن يكون رسولا من الله وهو من قوم مستعبدين استعبدهم فرعون وقومه، وهذا وجه اختيار التعبير عن إعراضهم عن دعوته بالاستكبار كما حكى الله عنهم فقالوا: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47]. وتفريع: {اسْتَكْبَرُوا} على جملة: {بَعَثْنَا} يدل على أن كل إعراض منهم وإنكار في مدة الدعوة والبعثة هو استكبار.
وجملة: {وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} في موضع الحال، أي وقد كان الإجرام دأبهم وخلقهم فكان استكبارهم على موسى من جملة إجرامهم.
والإجرام: فعل الجرم، وهو الجناية والذنب العظيم.وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} في سورة الأعراف[40].
وقد كان الفراعنة طغاة جبابرة فكانوا يعتبرون أنفسهم آلهة للقبط وكانوا قد وضعوا شرائع لا تخلو عن جور، وكانوا يستعبدون الغرباء، وقد استعبدوا بني إسرائيل وأذلوهم

قرونا فإذا سألوا حقهم استأصلوهم ومثلوا بهم وقتلوهم، كما حكى الله عنهم {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ، وكان القبط يعتقدون أوهاما ضالة وخرافات، فلذلك قال الله تعالى: {وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} ، أي فلا يستغرب استكبارهم عن الحق والرشاد، ألا ترى إلى قولهم في موسى وهارون {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] فأغراهم الغرور على أن سموا ضلالهم وخورهم طريقة مثلى.
وعبر ب {قَوْماً مُجْرِمِينَ} دون كانوا مجرمين للوجه الذي تقدم في سورة البقرة وفي مواضع من هذه السورة.
[76, 77] {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} أي لما رأوا المعجزات التي هي حق ثابت وليست بتخيلات وتمويهات، وعلموا أن موسى صادق فيما ادعاه، تدرجوا من مجرد الإباء المنبعث عن الاستكبار إلى البهتان المنبعث عن الشعور بالمغلوبية.
والحق: يطلق اسما على ما قابل الباطل وهو العدل الصالح، ويطلق وصفا على الثابت الذي لا ريبة فيه، كما يقال: أنت الصديق الحق. ويلازم الإفراد لأنه مصدر وصف به. والذي أثبت له المجيء هنا هو الآيات التي أظهرها موسى إعجازا لهم لقوله قبله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا} [الأعراف: 103] فكان جعل الحق جائيا بتلك الآيات صالحا لمعنيي الحق، لأن تلك الآيات لما كانت ثابتة لا ريبة فيها كانت في ذاتها حقا فمجيئها حصولها وظهورها المقصود منه إثبات صدق موسى في رسالته فكان الحق جائيا معها، فمجيئه ثبوته كقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] وبهذا يظهر أن لكلمة: {الحق} هنا من الوقع في الدلالة على تمام المعنى المراد، ولكلمة: {مِنْ عِنْدِنَا} ما ليس لغيرهما في الإيجاز، وهذا من حد الإعجاز.
وبهذا تبين أن الآية دالة على أن آيات الصدق ظهرت وأن المحجوجين أيقنوا بصدق موسى وأنه جاء بالحق.
واعتذارهم عن ظهور الآيات بأنها سحر هو اعتذار المغلوب العديم الحجة الذي

قهرته الحجة وبهره سلطان الحق، فلم يبق له منتشب من المعارضة المقبولة فهو يهرع إلى انتحال معارضات بمعاذير لا تدخل تحت التمحيص ولا تثبت في محك النقد.
"ولا بد للمغلوب من بارد العذر".
وإذ قد اشتهر بين الدهماء من ذوي الأوهام أن السحر يظهر الشيء في صورة ضده، ادعى هؤلاء أن ما ظهر من دلائل صدق موسى هو سحر ظهر به الباطل في صورة الحق بتخييل السحر.
ومعنى إدعاء الحق سحرا أن دلائله من قبيل التخيلات والتمويهات، فكذلك مدلوله هو مدلول السحر وهو إنشاء تخيل باطل في نفوس المسحورين، وقد حملهم استشعارهم وهن معذرتهم على أن أبرزوا دعواهم في صورة الكلام المتثبت صاحبه فأكدوا الكلام بما دل عليه حرف التوكيد ولام الابتداء {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} ، وزادوا ذلك ترويجا بأن وصفوا السحر بكونه مبينا، أي شديد الوضوح. والمبين اسم فاعل من أبان القاصر، مرادف بان: ظهر.
والإشارة بقوله: {إِنَّ هَذَا} إلى ما هو مشاهد بينهم حين إظهار المعجزة مثل انقلاب العصا حية، وخروج اليد بيضاء، أي أن هذا العمل الذي تشاهدونه سحر مبين.
وجملة: {قَالَ مُوسَى} مجاوبة منه عن كلامهم ففصلت من العطف على الطريقة التي استخرجناها في حكاية الأقوال، كما تقدم في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} ، ونظائره الكثيرة. تولى موسى وحده دون هارون مجادلتهم لأنه المباشر للدعوة أصالة، ولأن المعجزات ظهرت على يديه.
واستفهام {أَتَقُولُونَ } إنكاري. واللام في {لِلْحَقِّ} لام التعليل. وبعضهم يسميها لام البيان. وبعضهم يسميها لام المجاوزة بمعنى "عن".
وجملة: {أَسِحْرٌ هَذَا} مستأنفة للتوبيخ والإنكار، أنكر موسى عليهم وصفهم الآيات الحق بأنها سحر. والإشارة تفيد التعريض بجهلهم وفساد قولهم، بأن الإشارة إلى تلك الآيات كافية في ظهور حقيقتها وأنها ليست من السحر في شيء. ولذلك كان مفعول {أَتَقُولُونَ} محذوفا لدلالة الكلام عليه وهو {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} فالتقدير: أتقولون هذا القول للحق لما جاءكم. وقريب منه قوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ

وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران: 183] وقوله: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81].
ولما نفى موسى عن آيات الله أن تكون سحرا ارتقى فأبان لهم فساد السحر وسوء عاقبة معالجيه تحقيرا لهم، لأنهم كانوا ينوهون بشأن السحر. فجملة {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} معطوفة على جملة: {أَسِحْرٌ هَذَا} .
فالمعنى: هذا ليس بسحر وإنما أعلم أن الساحر لا يفلح، أي لو كان ساحرا لما شنع حال الساحرين، إذ صاحب الصناعة لا يحقر صناعته لأنه لو رآها محقرة لما التزمها.
[78] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}
الكلام على جملة: {قَالُوا أَجِئْتَنَا} مثل الكلام على جملة: {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ} [يونس: 77]
والاستفهام في {أَجِئْتَنَا} بنوا إنكارهم على تخطئة موسى فيما جاء به، وعلى سوء ظنهم به وبهارون في الغاية التي يتطلبانها مما جاء به موسى. وإنما واجهوا موسى بالخطاب لما تقدم من أنه الذي باشر الدعوة وأظهر المعجزة، ثم أشركاه مع أخيه هارون في سوء ظنهم بهما في الغاية من عملهما.
و {تَلْفِتَنَا} مضارع لفت من باب ضرب متعديا: إذا صرف وجهه عن النظر إلى شيء مقابل لوجهه. والفعل القاصر منه ليس إلا لا لمطاوعة. يقال: التفت. وهو هنا مستعمل مجازا في التحويل عن العمل أو الاعتقاد إلى غيره تحويلا لا يبقى بعده نظر إلى ما كان ينظره، فأصله استعارة تمثيلية ثم غلبت حتى صارت مساوية الحقيقة.
وقد جمعت صلة {مَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} كل الأحوال التي كان آباؤهم متلبسين بها.
واختير التعبير ب {وَجَدْنَا} لما فيه من الإشارة إلى أنهم نشأوا عليها وعقلوها، وذلك مما يكسبهم تعلقا بها، وأنها كانت أحوال آبائهم وذلك مما يزيدهم تعلقا بها تبعا لمحبة آبائهم لأن محبة الشيء تقتضي محبة أحواله وملابساته.
وفي ذلك إشارة إلى أنها عندهم صواب وحق لأنهم قد اقتدوا بآبائهم كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. وقال عن قوم إبراهيم - عليه السلام -:

{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، وقد جاءهم موسى لقصد لفتهم عما وجدوا عليه آباءهم فكان ذلك محل الإنكار عندهم لأن تغيير ذلك يحسبونه إفسادا {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 127].
والإتيان بحرف "على" للدلالة على تمكن آبائهم من تلك الأحوال وملازمتهم لها.
وعطف {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ} على الفعل المعلل به، والمعطوف هو العلة في المعنى لأنهم أرادوا أنهم تفطنوا لغرض موسى وهارون في مجيئها إليهم بما جاءوا به، أي أنهما يحاولان نفعا لأنفسهما لا صلاحا للمدعوين، وذلك النفع هو الاستحواذ على سيادة مصر بالحيلة.
والكبرياء: العظمة وإظهار التفوق على الناس.
والأرض: هي المعهودة بينهم، وهي أرض مصر، كقوله: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الأعراف: 110]. ولما كانوا ظنوا تطلبهما للسيادة أتوا في خطاب موسى بضمير المثنى المخاطب لأن هارون كان حاضرا فالتفتوا عن خطاب الواحد إلى خطاب الاثنين. وإنما شركوا هارون في هذا الظن من حيث إنه جاء مع موسى ولم يباشر الدعوة فظنوا أنه جاء معه لينال من سيادة أخيه حظا لنفسه.
وجملة: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} عطف على جملة: {أَجِئْتَنَا} . وهي في قوة النتيجة لتلك الجملة بما معها من العلة، أي لما تبين مقصدكما فما نحن لكما بمؤمنين. وتقديم {لَكُمَا} على متعلقه لأن المخاطبين هما الأهم من جملة النفي لأن انتفاء إيمانهم في زعمهم كان لأجل موسى وهارون إذ توهموهما متطلبي نفع لأنفسهما. فالمراد من ضمير التثنية ذاتاهما باعتبار ما انطويا عليه من قصد إبطال دين آباء القبط والاستيلاء على سيادة بلادهم.
وصيغت جملة: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} اسمية دون أن يقولوا وما نؤمن لكما لإفادة الثبات والدوام وأن انتفاء إيمانهم بهما متقرر متمكن لا طماعية لأحد في ضده.
[79 - 82] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}

جملة: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} عطف على جملة: {قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} [يونس: 76]، فهذه الجملة في حكم جواب ثان لحرف "لما" حكي أولا ما تلقى به فرعون وملؤه دعوة موسى ومعجزته من منع أن يكون ما جاء به تأييدا من عند الله. ثم حكي ثانيا ما تلقى به فرعون خاصة تلك الدعوة من محاولة تأييد قولهم: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} ليثبتوا أنهم قادرون على الإتيان بمثلها مما تحصيل أسبابه من خصائص فرعون، لما فيه من الأمر لخاصة الأمة بالاستعداد لإبطال ما يخشى منه.
والمخاطب بقوله: {ائْتُونِي} هم ملأ فرعون وخاصته الذين بيدهم تنفيذ أمره.
وأمر بإحضار جميع السحرة المتمكنين في علم السحر لأنهم أبصر بدقائقه، وأقدر على إظهار ما يفوق خوارق موسى في زعمه، فحضورهم مغن عن حضور السحرة الضعفاء في علم السحر لأن عملهم مظنة أن لا يوازي ما أظمره موسى من المعجزة فإذا أتوا بما هو دون معجزة موسى كان ذلك مروجا لدعوة موسى بين دهماء الأمة.
والعموم في قوله: {بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} عموم عرفي، أي بكل ساحر تعلمونه وتظفرون به، أو أريد: {بِكُلِّ} معنى الكثرة ، كما تقدم في قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ} في سورة البقرة[45].
وجملة: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} عطف على جملة: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} ، عطف مجيء السحرة وقول موسى لهم على جملة: {قَالَ فِرْعَوْنُ} بفاء التعقيب للدلالة على الفور في إحضارهم وهو تعقيب بحسب المتعارف في الإسراع بمثل الشيء المأمور به، والمعطوف في المعنى محذوف لأن الذي يعقب قوله: {ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ} هو إتيانهم بهم، ولكن ذلك لقلة جدواه في الغرض الذي سيقت القصة لأجله حذف استغناء عنه بما يقتضيه ويدل عليه دلالة عقلية ولفظية من قوله: {جَاءَ السَّحَرَةُ} على طريقة الإيجاز. والتقدير: فأتوه بهم فلما جاءوا قال لهم موسى. والتعريف في: {السَّحَرَةُ} تعريف العهد الذكري.
وإنما أمرهم موسى بأن يبتدئوا بإلقاء سحرهم إظهارا لقوة حجته لأن شأن المبتدئ بالعمل المتباري فيه أن يكون أمكن في ذلك العمل من مباريه، ولا سيما الأعمال التي قوامها التمويه والترهيب، والتي يتطلب المستنصر فيها السبق إلى تأثر الحاضرين وإعجابهم، وقد ذكر القرآن في آيات أخرى أن السحرة خيروا موسى بين أن يبتدئ هو بإظهار معجزته وبين أن يبتدئوا، وأن موسى اختار أن يكونوا المبتدئين.

وفعل الأمر في قوله: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} مستعمل في التسوية المراد منها الاختيار وإظهار قلة الاكتراث بأحد الأمرين.
والإلقاء: رمي شيء في اليد إلى الأرض. وإطلاق الإلقاء على عمل السحر لأن أكثر تصاريف السحرة في أعمالهم السحرية يكون برمي أشياء إلى الأرض. وقد ورد في آيات كثيرة أنهم ألقوا حبالهم وعصيهم، وأنها يخيل من سحرهم أنها تسعى، وكان منتهى أعمال الساحر أن يخيل الجماد حيا.
و {مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} قصد به التعميم البدلي، أي شيء تلقونه، وهذا زيادة في إظهار عدم الاكتراث بمبلغ سحرهم، وتهيئة للملأ الحاضرين أن يعلموا أن الله مبطل سحرهم على يد رسوله.
ولا يشكل أن يأمرهم موسى بإلقاء السحر بأنه أمر بمعصية لأن القوم كانوا كافرين والكافر غير مخاطب بالشرائع الإلهية، ولأن المقصود من الأمر بإلقائه إظهار بطلانه فذلك بمنزلة تقرير شبهة الملحد ممن يتصدى لإبطالها بعد تقريرها مثل طريقة عضد الدين الأيجي في كتابه "المواقف".
وقد طوي ذكر صورة سحرهم في هذه الآية، لأن الغرض من العبرة في هذه الآية وصف إصرار فرعون وملئه على الإعراض عن الدعوة، وما لقيه المستضعفون الذين آمنوا بموسى عليه السلام من اعتلاء فرعون عليهم وكيف نصر الله رسوله والمستضعفين معه، وكيف كانت لهم العاقبة الحسنى ولمن كفروا عاقبة السوء، ليكونوا مثلا للمكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يعرج بالذكر إلا على مقالة موسى - عليه السلام - حين رأى سحرهم الدالة على يقينه بربه ووعده، وبأن العاقبة للحق. وذلك أهم في هذا المقام من ذكر اندحاض سحرهم تجاه معجزة موسى عليه السلام، ولأجل هذا لم يذكر مفعول {أَلْقُوا} لتنزيل فعل {أَلْقُوا} منزلة اللازم، لعدم تعلق الغرض ببيان مفعوله.
ومعنى {جِئْتُمْ بِهِ} أظهرتموه لنا، فالمجيء قد استعمل مجازا في الإظهار، لأن الذي يجيء بالشيء يظهره في المكان الذي جاءه، فالملازمة عرفية. وليس المراد أنهم جاؤوا من بقاع أخرى مصاحبين للسحر، لأنه وإن كان كثير من السحرة أو كلهم قد أقبلوا من مدن عديدة، غير أن ذلك التقدير لا يطرد في كل ما يعبر فيه بنحو: جاء بكذا، فانه وإن استقام في نحو: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] لا يستقيم في نحو: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ} [النور: 11].

ونظم الكلام على هذا الأسلوب بجعل {مَا جِئْتُمْ بِهِ} مسندا إليه دون أن يجعل مفعولا لفعل {سَيُبْطِلُهُ} ، وبجعله اسما مبهما، ثم تفسيره بجملة {جِئْتُمْ بِهِ} ثم بيانه بعطف البيان لقصد الاهتمام بذكره والتشويق إلى معرفة الخبر، وهو جملة: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} ثم مجيء ضمير السحر مفعولا لفعل {سَيُبْطِلُهُ} ، كل ذلك إطناب وتخريج على خلاف مقتضى الظاهر، ليتقرر الإخبار بثبوت حقيقة في السحر له ويتمكن في أذهان السامعين فضل تمكن ويقع الرعب في نفوسهم.
وقوله: {السِّحْرُ} قرأه الجمهور بهمزة وصل في أوله هي همزة "ال"، فتكون "{ما" في قوله: {مَا جِئْتُمْ بِهِ} اسم موصول، والسحر عطف بيان لاسم الموصول. وقرأه أبو عمرو، وأبو جعفر: {آلسِّحْرُ} بهمزة استفهام في أوله وبالمد لتسهيل الهمزة الثانية، فتكون "ما" في قوله: {مَا جِئْتُمْ بِهِ} استفهامية ويكون "آلسحر" استفهاما مبينا ل "ما" الاستفهامية. وهو مستعمل في التحقير. والمعنى: أنه أمر هين يستطيعه ناس كثيرون.
و {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} خبر "ما" الموصولة على قراءة الجمهور، واستئناف بياني على قراءة أبي عمرو ومن وافقه وتأكيد الخبر ب "إن" زيادة في إلقاء الروع في نفوسهم.
وإبطاله: إظهار أنه تخييل ليس بحقيقة، لأن إظهار ذلك إبطال لما أريد منه، أي أن الله سيبطل تأثيره على الناس بفضح سره، وأشارت علامة الاستقبال إلى قرب إبطاله، وقد حصل ذلك العلم لموسى عليه السلام بطريق الوحي الخاص في تلك القضية، أو العام باندراجه تحت قاعدة كلية، وهي مدلول {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} .
فجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} معترضة، وهي تعليل لمضمون جملة: {إن الله سيبطله} ، وتذييل للكلام بما فيه نفي الإصلاح. وتعريف {الْمُفْسِدِينَ} بلام الجنس، من التعميم في جنس الإصلاح المنفي وجنس المفسدين ليعلم أن سحرهم هو من قبيل عمل المفسدين، وإضافة {عَمَلَ} إلى: {الْمُفْسِدِينَ} يؤذن بأنه عمل فاسد، لأنه فعل من شأنهم الإفساد فيكون نسجا على منوالهم وسيرة على معتادهم، والمراد بإصلاح عمل المفسدين الذي نفاه أنه لا يؤيده. وليس المراد نفي تصييره صالحا، لأن ماهية الإفساد لا تقبل أن تصير صلاحا حتى ينفى تصييرها كذلك عن الله، وإنما إصلاحها هو إعطاؤها الصلاح، فإذا نفي الله إصلاحها فذلك بتركها وشأنها، ومن شأن الفساد أن يتضاءل مع الزمان حتى يضمحل.
ولما قدم قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} علم أن المراد من كفي إصلاحه تسليط أسباب

بطلانه عليه حتى يبطل تأثيره، وأن عدم إصلاح أعمال أمثالهم هو إبطال أغراضهم منها كقوله تعالى: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8] أي يظهر بطلانه.
وإنما كان السحرة مفسدين لأن قصدهم تضليل عقول الناس ليكونوا مسخرين لهم ولا يعلموا أسباب الأشياء فيبقوا ءالة فيما تأمرهم السحرة، ولا يهتدوا إلى إصلاح أنفسهم سبيلا. أما السحرة الذين خاطبهم موسى عليه السلام فإفسادهم أظهر لأنهم يحاولون إبطال دعوة الحق والدين القويم وترويج الشرك والضلالات.
وجملة: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ} معطوفة على جملة: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} أي سيبطله ويحق الحق، أي يثبت المعجزة.
والإحقاق: التثبيت. ومنه سمي الحق حقا لأنه الثابت.
وإظهار اسم الجلالة في هذه الجملة مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لقصد تربية المهابة في نفوسهم. والباء في {كَلِمَاتِهِ} للسببية.
والكلمات: مستعارة لتعلق قدرته تعالى بالإيجاد وهو التعلق المعبر عنه بالتكوين الجاري على وفق إرادته وعلى وفق علمه. وهي استعارة رشيقة، لأن ذلك التعلق يشبه الكلام في أنه ينشأ عنه إدراك معنى ويدل على إرادة المتكلم،وعلى علمه.
وجملة: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} في موضع الحال، و"لو" وصلية، وهي تقتضي أن الحالة التي بعدها غاية فيما يظن فيه تخلف حكم ما قبلها، كما تقدم عند قوله تعالى: {ولو افتدى به} في سورة آل عمران[91]، فيكون غير ذلك من الأحوال أجدر وأولى بتحقيق الحكم السابق معه.وإنما كانت كراهية المجرمين إحقاق الحق غاية لما يظن فيه تخلف الإحقاق لأن تلك الكراهية من شأنها أن تبعثهم على معارضة الحق الذي يسوءهم ومحاولة دحضه وهم جماعة أقوياء يصعب عليهم الصعب فأعلمهم أن الله خاذلهم.
وأراد "بالمجرمين" فرعون وملأه فعدل عن ضمير الخطاب إلى الاسم الظاهر لما فيه من وصفهم بالإجرام تعريضا بهم. وإنما لم يخاطبهم بصفة الإجرام بأن يقول: وإن كرهتم أيها المجرمون عدولا عن مواجهتهم بالذم، وقوفا عند أمر الله تعالى إذ قال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه: 44] فأتى بالقضية في صورة قضية كلية وهو يريد أنهم من جزئياتها بدون تصريح بذلك. وهذا بخلاف مقام النبيء محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال الله له: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] لأن ذلك كان بعد تكرير دعوتهم، وموسى - عليه السلام -

كان في ابتداء الدعوة. ولأن المشركين كانوا محاولين من النبيء أن يعبد آلهتهم، فكان في مقام الإنكار بأبلغ الرد عليهم، وموسى كان محاولا فرعون وملأه أن يؤمنوا، فكان في مقام الترغيب باللين.
[83] {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} .
تفريع على ما تقدم من المحاورة، أي فتفرع على ذلك أن فرعون وملأه لم يؤمنوا بموسى لأن حصر المؤمنين في ذرية من قوم موسى يفيد أن غيرهم لم يؤمنوا وهو المقصود، فكانت صيغة القصر في هذا المقام إيجازا. والتقدير: تفرع على ذلك تصميم على الإعراض.
وقد طوي ما حدث بين المحاورة وبين تصميمهم على الإعراض، وهو إلقاء موسى عصاه والتقامها ما ألقوه من سحرهم، لعدم تعلق الغرض ببيان ذلك إذ المقصود الإفضاء إلى أنهم صمموا على الإعراض لأن ذلك محل تمثيل أعمالهم بحال مشركي أهل مكة.
وفعل {آمَنَ} أصله أأمن بهمزتين: إحداهما أصلية في الكلمة لأن الكلمة مشتقة من الأمانة، والثانية همزة مزيدة للتعدية، أي جعله ذا أمانة، أي غير كاذب فصار فعل {آمَنَ} بمعنى صدق، وحقه أن يعدى إلى المفعول بنفسه ولكن عدي باللام للتفرقة بين: "آمن" بمعنى صدق من الأمانة وبين "آمن" بمعنى جعله في أمن، أي لا خوف عليه منه.
وهذه اللام سماها ابن مالك لام التبيين وتبعه ابن هشام، وهي تدخل على المفعول لتقوية معنى المفعولية، ويؤكد قصد التقوية في مثل فعل "آمن" بمعنى صدق دفع أن يلتبس بفعل "آمنه" إذا جعله في أمن وسيأتي في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} في سورة الإسراء[90].
وقد يعدى بالباء لتضمنه معنى صدق كما في قوله تعالى: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس: 90].
والذرية: الأبناء وتقدم في قوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} في سورة آل عمران[34]. أي فما آمن بما جاء به موسى إلا أبناء بني إسرائيل ولم تبلغ دعوته بقية قومه أو لم يؤمر بالتبليغ إليهم حينئذ.

و"على" في قوله: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} بمعنى "مع" مثل وآتى المال على حبه أي آمنوا مع خوفهم، وهي ظرف مستقر في موضع الحال من "ذرية"، أي في حال خوفهم المتمكن منهم. وهذا ثناء عليهم بأنهم آمنوا ولم يصدهم عن الإيمان خوفهم من فرعون.
والمعنى: أنهم آمنوا عند ظهور معجزته، أي أعلنوا الإيمان به في ذلك الموطن لأن الإيمان لا يعرف إلا بإظهاره ولا فائدة منه إلا ذلك الإظهار. أي من الحاضرين في ذلك المشهد من بني إسرائيل فان عادة هذه المجامع أن يغشاها الشباب واليافعون فعبر عنهم بالذرية أي الأبناء، كما يقال: الغلمان، فيكونون قد آمنوا من تلقاء أنفسهم، وكل هذا لا يقتضي أن بقية قومه كفروا به، إذ يحتمل أن يكونوا آمنوا به بعد ذلك لما بلغتهم دعوته لأنه يكون قد ابتدأ بدعوة فرعون مبادرة لامتثال الأمر من الله بقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 43] فيكون المأمور به ابتداء هو دعوة فرعون وتخليص بني إسرائيل من الأسر.
و"الملأ" تقدم آنفا في هذه القصة، وأضيف الملأ إلى ضمير الجمع وهو عائد إلى الذرية، أي على خوف من فرعون وعلى خوف من قومهم، وهم بقية القوم الذين لم يحضروا ذلك المشهد خشية أن يغضبوا عليهم ويؤذنهم لإيمانهم بموسى لما يتوقعون من مؤاخذة فرعون بذلك جميع قبيلتهم على عادة الجبابرة في أخذ القبيلة بفعلة من بعض رجالها.
و"الفتن" إدخال الروع والاضطراب على العقل بسبب تسليط ما لا تستطيع النفس تحمله، وتقدم في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة[191]. فهذا وجه تفسير الآية.
وجملة: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} في موضع الحال فهي عطف على قوله: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} وهي تفيد معنى التعليل لخوفهم من فرعون، أي أنهم محقون في خوفهم الشديد، فبعد أن أثنى عليهم بأنهم آمنوا في حال شدة الخوف زاد فبين أنهم أحقاء بالخوف، وفي هذا زيادة ثناء على قوة إيمانهم إذ آمنوا في حال خوفهم من الملك مع قدرته على أذاهم، ومن ملئهم، أي قومهم، وهو خوف شديد، لأن آثاره تتطرق المرء في جميع أحواله حتى في خلوته وخويصته لشدة ملابسة قومه إياه في جميع تقلباته بحيث لا يجد مفرا منهم، ثم اتبعه ببيان اتساع مقدرة فرعون بيان تجاوزه الحد في الجور، ومن هذه حالته لا يزعه عن إلحاق الضر بأضداده وازع.
وتأكيد الخبر ب"إن" للاهتمام بتحقيق بطش فرعون.

والعلو: مستعار للغلبة والاستبداد، كقوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ} وقوله: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31].
والإسراف: تجاوز حد الاعتدال المعروف في فعل، فهو تجاوز مذموم، وأشهر موارده في الإنفاق، ولم يذكر متعلق الإفراط فتعين أن يكون إسرافا فيما عرف به ملوك زمانهم من الصفات المكروهة عند الناس الملازمة للملوك في العادة.
وقوله: {مِنَ الْمُسْرِفِينَ} أبلغ في وصفه بالإسراف من أن يقال: وإنه لمسرف لما تقدم عند قوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في الأنعام[56].
[84 - 86] {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
عطف بقية القصة على أولها فهو عطف على جملة: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} [يونس: 79]، وهذا خطاب موسى لجميع قومه وهم بنو إسرائيل الذين بمصر، وهو يدل على أنه خاطبهم بذلك بعد أن دعاهم وآمنوا به كما يؤذن به قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} . والغرض منه تثبيت الذين آمنوا به في حضرة فرعون على توكلهم، وأمر من عداهم الذين خاف ذريتهم أن يؤنبوهم على إظهار الإيمان بأن لا يجبنوا أبناءهم، وأن لا يخشوا فرعون، ولذلك قال: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} .
والمعنى: إن كنتم آمنتم بالله حقا كما أظهرته أقوالكم فعليه اعتمدوا في نصركم ودفع الضر عنكم ولا تعتمدوا في ذلك على أنفسكم بمصانعة فرعون ولا على فرعون بإظهار الولاء له.
وأراد إثارة صدق إيمانهم وإلهاب قلوبهم بجعل إيمانهم معلقا بالشرط محتمل الوقوع، حيث تخوفوا من فرعون أن يفتنهم فأرادوا أن يكتموا إيمانهم تقية من فرعون وملئهم، وإنما جعل عدم اكتراثهم ببطش فرعون علامة على إيمانهم لأن الدعوة في أول أمرها لا تتقوم إلا بإظهار متبعيها جماعتهم، فلا تغتفر فيها التقية حينئذ. وبذلك عمل المسلمون الأولون مثل بلال، وعمار، وأبي بكر، فأعلنوا الإيمان وتحملوا الأذى، وإنما سوغت التقية للآحاد من المؤمنين بعد تقوم جامعة الإيمان فذلك محل قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106].

فتقديم المجرور على متعلقه في قوله: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} لإفادة القصر، وهو قصر إضافي يفسره قوله: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83]، فآل المعنى إلى نهيهم عن مخافة فرعون.
والتوكل: تقدم آنفا في قصة نوح.
وجملة: {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} شرط ثان مؤكد لشرط {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} ، فحصل من مجموع الجملتين أن حصول هذا التوكل متوقف على حصول إيمانهم وإسلامهم، لمزيد الاعتناء بالتوكل وأنه ملازم للإيمان والإسلام، ومبين أيضا للشرط الأول، أي إن كان إيمانكم إيمان مسلم لله، أي مخلص له غير شائب إياه بتردد في قدرة الله ولا في أن وعده حق، فحصل من مجموع الشرطين ما يقتضي تعليق كل من الشرطين على الشرط الآخر.
وهذا من مسألة تعليق الشرط على الشرط، والإيمان تصديق الرسول فيما جاء به وهو عمل قلبي، ولا يعتبر شرعا إلا مع الإسلام، والإسلام: النطق بما يدل على الإيمان ولا يعتبر شرعا إلا مع الإيمان، فالإيمان انفعال قلبي نفساني، والإسلام عمل جسماني، وهما متلازمان في الاعتداد بهما في اتباع الدين إذ لا يعلم حصول تصديق القلب إلا بالقول والطاعة، وإذ لا يكون القول حقا إلا إذا وافق ما في النفس، قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرلت: 14]. وقد ورد ذلك صريحا في حديث سؤال جبريل في "الصحيحين".
وليس المراد أنهم إن لم يتوكلوا كانوا مؤمنين غير مسلمين، ولا أنهم إن توكلوا كانوا مسلمين غير مؤمنين، لأن ذلك لا يساعد عليه التدين بالدين. ومن ثم كان قوله: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} جوابا للشرطين كليهما. أي يقدر للشرط الثاني جواب مماثل لجواب الشرط الأول. هذا هو محمل الآية وما حاوله كثير من المفسرين خروج عن مهيع الكلام.
وقد كان صادق إيمانهم مع نور الأمر النبوي الذي واجههم به نبيهم مسرعا بهم إلى التجرد عن التخوف والمصانعة، وإلى عقد العزم على التوكل على الله، فلذلك بادروا بجوابه بكلمة {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} مشتملة على خصوصية القصر المقتضي تجردهم عن التوكل على غير الله تعالى.
وأشير إلى مبادرتهم بأن عطفت جملة قولهم ذلك على مقالة موسى بفاء التعقيب خلافا للأسلوب الغالب في حكاية جمل الأقوال الجارية في المحاورات أن تكون غير

معطوفة، فخولف مقتضى الظاهر لهذه النكتة.
ثم ذيلوا كلمتهم بالتوجه إلى الله بسؤالهم من أن يقيهم ضر فرعون، ناظرين في ذلك إلى مصلحة الدين قبل مصلحتهم لأنهم إن تمكن الكفرة من إهلاكهم أو تعذيبهم قويت شوكة أنصار الكفار فيقولون في أنفسهم: لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ما أصابهم فيفتتن بذلك عامة الكفرة ويظنون أن دينهم الحق.
والفتنة: تقدم تفسيرها آنفا. وسموا ذلك فتنة لأنها تزيد الناس توغلا في الكفر، والكفر فتنة.
والفتنة مصدر. فمعنى سؤالهم أن لا يجعلهم الله فتنة هو أن لا يجعلهم سبب فتنة، فتعدية فعل {تَجْعَلْنَا} إلى ضميرهم المخبر عنه بفتنة تعدية على طريقة المجاز العقلي، وليس الخبر بفتنة من الإخبار بالمصدر إذ لا يفرضون أن يكونوا فاتنين ولا يسمح المقام بأنهم أرادوا لا تجعلنا مفتونين للقوم الظالمين.
ووصفوا الكفار ب {الظَّالِمِينَ} لأن الشرك ظلم، ولأنه يشعر بأنهم تلبسوا بأنواع الظلم: ظلم أنفسهم، وظلم الخلائق، ثم سألوا ما فيه صلاحهم فطلبوا النجاة من القوم الكافرين، أي من بطشهم وإضرارهم.
وزيادة {رَحْمَتِكَ} للتبرؤ من الإدلال بإيمانهم لأن المنة لله عليهم، قال تعالى: {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
وذكر لفظ القوم في قوله: {لْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وقوله: {مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} للوجه الذي أشرنا إليه في أواسط البقرة، وفي هذه السورة غير مرة.
[87] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يجوز أن يكون عطفا على جملة: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ} ، ويجوز أن يكون عطف قصة على قصة، أي على مجموع الكلام السابق، لأن مجموعه قصص هي حكاية أطوار موسى وقومه.
ووقع الوحي بهذا الأمر إلى موسى وهارون عليهما السلام لأنه من الأعمال الراجعة إلى تدبير أمر الأمة، فيمكن الاشتراك فيها بين الرسول ومؤازره.

والتبوؤ: اتخاذ مكان يسكنه، وهو تفعل من البوء، أي الرجوع، كأن صاحب المسكن يكلف نفسه الرجوع إلى محل سكنه ولو كان تباعد عنه في شؤون اكتسابه بالسير إلى السوق أو الصيد أو الاحتطاب أو قطف الثمار أو نحو ذلك، وتقدم عند قوله تعالى: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} في آل عمران[121]. فمعنى {تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا} اجعلا قومكما متبوئين بيوتا.
وفاعل هذا الفعل في الأصل هو الساكن بالمباءة، وإنما أسند هنا إلى ضمير موسى وهارون - عليهما السلام - على طريقة المجاز العقلي، إذ كانا سبب تبوؤ قومهما للبيوت. والقرينة قوله: {لِقَوْمِكُمَا} إذ جعل التبوؤ لأجل القوم.
ومعنى تبوؤ البيوت لقومهما أن يأمرا قومهما باتخاذ البيوت على الوصف الذي يأمرانهم به. وإذ قد كان لبني إسرائيل ديار في مصر من قبل، إذ لا يكونون قاطنين مصر بدون مساكن، وقد كانوا ساكنين أرض "جاسان" قرب مدينة "منفيس" قاعدة المملكة يومئذ في جنوب البلاد المصرية، كما بيناه في سورة البقرة، لا جرم أن تكون البيوت المأمور بتبوئها غير البيوت التي كانوا ساكنيها.
واضطرب المفسرون في المراد من هذه البيوت وذكروا روايات غير ملائمة لحالة القوم يومئذ. فقيل: أريد بالبيوت بيوت العبادة أي مساجد يصلون فيها، وربما حمل على هذا التفسير من تأوله وقوع قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} عقبه، وهذا بعيد لأن الله علم أن بني إسرائيل مفارقون مصر قريبا بإذنه. وقيل: البيوت بيوت السكنى وأمسكوا عن المقصود من هذه البيوت. وهذا القول هو المناسب للتبوؤ لأن التبوؤ السكنى، والمناسب أيضا لإطلاق البيوت، وكونها بمصر.
فالذي يظهر بناء عليه أن هذه البيوت خيام أو أخصاص أمرهم الله باتخاذها تهيئة للارتحال وهي غير ديارهم التي كانوا يسكنونها في"جاسان" قرب مدينة فرعون وقد جاء في التوراة ما يشهد بهذا التأويل في الفصل الرابع من سفر الخروج إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل إلى البادية ليعملوا عيد الفصح ثلاثة أيام وأن ذلك أول ما سأله موسى من فرعون، وأن فرعون منعهم من ذلك، وأن موسى كرر طلب ذلك من فرعون كل ذلك يمنعه كما في الفصل السابع والفصل الثامن من سفر الخروج، وقد صار لهم ذلك عيدا بعد خروجهم.
وقوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي هذه الخيام أو الأخصاص التي تتخذونها

تجعلونها مفتوحة إلى القبلة. قاله ابن عطية عن ابن عباس.
والقبلة: اسم في العربية لجهة الكعبة. وتلك الجهة هي ما بين المشرق والمغرب لأن قبلة بلاد مصر كقبلة المدينة ما بين المشرق والمغرب وهي الجنوب، فيجوز أن يكون التعبير عن تلك الجهة بالقبلة في الآية حكاية لتعبير موسى عنها بما يدل على معنى التوجه إلى الجهة التي يصلون إليها، وهي قبلة إبراهيم، فيكون أمر بني إسرائيل يومئذ جاريا على الملة الحنيفية قبل أن ينسخ بالاستقبال إلى صخرة القدس ويجوز أن يكون موسى قد عبر بما يفيد معنى الجنوب فحكيت عبارته في القرآن باللفظ المرادف له الشائع في التعبير عن الجنوب عند العرب وهو كلمة قبلة.
والحكمة في جعل البيوت إلى القبلة أن الشمس تدخلها من أبوابها في غالب أوقات النهار في جميع الفصول وفي ذلك منافع كثيرة.
والذين فسروا البيوت بأنها بيوت السكنى فسروا قبلة: إما بمعنى متقابلة، وإما بمعنى اجعلوا بيوتكم محل صلاتكم، وكلا التفسيرين بعيد عن الاستعمال.
وأما الذين تأولوا البيوت بالمساجد فقد فسروا القبلة بأنها قبلة الصلاة، أي جهة الكعبة.
وعن ابن عباس: كانت الكعبة قبلة موسى. وعن الحسن: كانت الكعبة قبلة كل الأنبياء. وهذا التفسير يلائم تركيب {اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} لأن التركيب اقتضى أن المجعول قبلة هو البيوت أنفسها لا أن تجعل الصلاة فيها إلى جهة القبلة فإذا افتقدنا التأويلات كلها لا نجدها إلا مفككة متعسفة خلا التفسير الذي عولنا عليه، وقد اختلفوا فيه فهدانا الله إليه.
وأسند فعل {اجْعَلُوا} إلى ضمير الجماعة لأن ذلك الجعل من عمل موسى وأخيه وقومهما إذ كل أحد مكلف بأن يجعل بيته قبلة.
وأمرهم بإقامة الصلاة، أي التي فرضها الله عليهم على لسان موسى، والتي كانوا يصلونها من قبل مجيء موسى اتباعا لإبراهيم عليه السلام وأبنائه. والظاهر أن الداعي إلى أمرهم بإقامة الصلاة أن اتخاذ البيوت كان في حالة رحيل فكانت حالتهم مظنة الشغل عن إقامة الصلوات فلذلك أمروا بالمحافظة على إقامة الصلاة في مدة رحلتهم.
وعطف جملة: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} على ما قبلها يؤذن بأن ما أمروا به من اتخاذ

البيوت أمر بحالة مشعرة بترقب أخطار وتخوف فإنهم قالوا: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} فأمر موسى أن يبشرهم بحسن العاقبة، وأنهم منصورون على عدوهم وناجون منه والمؤمنون هم قوم موسى الذين ذكروا في قوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} وفي قوله: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس: 84, 85].
[88] {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}.
عطف بقية ما جرى في القصة مما فيه عبرة وموعظة. وهذا مقدمة لخبر خروج موسى ومن معه من أرض مصر. فهذه المقدمة لتعريف كرامة موسى عليه السلام على ربه بأن استجاب له دعاءه، وأنفذ برسالته مراده تعالى من إنقاذ بني إسرائيل من الاستعباد.
ومهد موسى لدعائه تمهيدا يدل على أن ما سأله من الله لزجر فرعون وملئه إنما هو لمصلحة الدين لا للانتقام منه لقومه ولنفسه، فسأل الله سلب النعمة عن فرعون وملئه وحلول العذاب بهم لخضد شوكتهم وتذليل تجبرهم ليرجعوا عن ضلالهم ويسهل قبولهم الإيمان.
ولما كانت النعمة مغرية بالطغيان لأهل الجهالة والخباثة جعل موسى إمداد فرعون بالنعمة مغريا لفرعون بالاسترسال على الإعراض عن الدين فكان دعاء موسى عليهم استصلاحا لهم وتطلبا لإيمانهم بوسائل التشديد عليهم، ولكن الله علم من قلوبهم ما لم يعلمه موسى وقضى عليهم بالاستئصال.
وافتتح الدعاء بالنداء لمناسبته لمقام الدعاء. ونودي الله بوصف الربوبية تذللا لإظهار العبودية.
وقوله: {إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً} توطئة للدعاء عليهم فليس المقصود به حقيقة الإخبار ضرورة أن موسى يوقن بأن الله يعلم ذلك فتعين أن الخبر مستعمل في التمهيد لطلب سلب النعمة عنهم في قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} . ثم الانتقال إلى الدعاء بسلب ما أوتوه.

فاقتران الخبر بحرف "إن" في قوله: {إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ} الخ مقصود به الاهتمام بهذا المعنى الذي استعمل فيه الخبر إذ ليس المقام مقام دفع تردد أو دفع إنكار.
وقد تردد المفسرون في محل اللام في قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} . والذي سلكه أهل التدقيق منهم أن اللام لام العاقبة. ونقل ذلك عن نحاة البصرة: الخليل وسيبويه، والأخفش، وأصحابهما، على نحو اللام في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} فاللام الموضوعة للتعليل مستعارة لمعنى الترتب والتعقيب الموضوع له فاء التعقيب على طريقة الاستعارة التبعية في متعلق معنى الحرف فشبه ترتب الشيء على شيء آخر ليس علة فيه بترتب المعلول على العلة للمبالغة في قوة الترتب حتى صار كأنه مقصود لمن ظهر عنده أثره، فالمعنى: إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا فضلوا بذلك وأضلوا.
وللمفسرين وجوه خمسة أخرى:
أحدها: أن يكون للتعليل، وأن المعنى: إنك فعلت ذلك استدراجا لهم، ونسب إلى الفراء، وفسر به الطبري.
الثاني: أن الكلام على حذف حرف، والتقدير: لئلا يضلوا عن سبيلك أي فضلوا. حكاه الفخر.
الثالث: أن اللام لام الدعاء. روي هذا عن الحسن. واقتصر عليه في "الكشاف". وقاله ابن الأنباري. وهو أبعد الوجوه وأثقلها.
الرابع: أن يكون على حذف همزة الاستفهام. والتقدير: ليضلوا عن سبيلك آتيناهم زينة وأموالا تقريرا للشنعة عليهم، قاله ابن عطية. ويكون الاستفهام مستعملا في التعجب، قاله الفخر.
الخامس: تأويل معنى الضلال بأنه الهلاك، قاله الفخر. وهي وجوه ضعيفة متفاوتة الضعف فلا نطيل بتقريرها.
والزينة: ما يتزين به الناس، وما يحسن في أنظارهم من طرائف الدنيا، كالحلي والجواهر والمباني الضخمة. قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] وقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] وقال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6].

والأموال: ما به قوام المعاش، فالزينة تلهيهم عن اتباع المواعظ، وتعظم شأنهم في أنظار قومهم، والأموال يسخرون بها الرعية لطاعتهم، وقد كان للفراعنة من سعة الرزق ورفاهية العيش ما سار ذكره في الآفاق. وظهرت مثل منه في أهرامهم ونواويسهم.
وأعيد النداء بين الجملة المعللة والجملة المعللة لتأكيد التذلل والتعرض للإجابة ولإظهار التبرؤ من قصد الاعتراض.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب {لِيُضِلُّوا} بفتح الياء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بضم الياء على معنى سعيهم في تضليل الناس.
والمعنى الحاصل من القراءتين متحد لأنهم إذا ضلوا في أنفسهم وهم قادة قومهم كان ضلالهم تضليلا لغيرهم، وكذلك إذا أضلوا الناس فإنهم ما أضلوهم إلا وهم ضالون مثلهم. وقد علمت آنفا أن الزينة سبب ضلالهم والأموال سبب إضلال الناس.
وأعيد النداء ثالث مرة لزيادة تأكيد التوجه والتضرع.
وجملة: {اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} هي المقصود من هذا الكلام، والنداء يقوم مقام وصل الجملة بما قبلها بمنزلة حرف العطف.
والطمس: المحو والإزالة. وقد تقدم في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} في سورة النساء. وفعله يتعدى بنفسه كما في آية سورة النساء[47]، ويعدى بحرف "على" كما هنا. وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} في سورة يس[66]. ولعل تعديته ب "على" لإرادة تمكن الفعل من المفعول، أو لتضمين الطمس معنى الاعتلاء بآلة المحو والإزالة، فطمس الأموال إتلافها وإهلاكها.
وأما قوله: {وَاشْدُدْ} فأحسب أنه مشتق من الشد، وهو العسر. ومنه الشدة للمصيبة والتحرج، ولو أريد غير ذلك لقيل: واطبع، أو واختم، أو نحوهما، فيكون شد بمعنى أدخل الشد أو استعمله مثل جد في كلامه، أي استعمل الجد.
وحرف "على" مستعار لمعنى الظرفية استعارة تبعية لإفادة تمكن الشدة. والمعنى: أدخل الشدة في قلوبهم.
والقلوب: النفوس والعقول. والمعنى: أنه يدعو عليهم بالأنكاد والأحزان التي

تجعل قلوبهم في ضيق وحرج أي اجعلهم في عناء وبلبلة بال ما داموا في الكفر. وهذا حرص منه عليه السلام على وسائل هدايتهم رجاء أنهم إذا زالت عنهم النعم وضاقت صدورهم بكروب الحياة تفكروا في سبب ذلك، فعجلوا بالنوبة إلى الله كما هو معتاد النفوس الغافلة قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} [الزمر: 8].
ويجوز أن يكون {اشْدُدْ} من الشد، وهو الهجوم. يقال: شد عليه، إذا هجم، وذلك أن قلوبهم في حالة النعمة والدعة آمنة ساكنة فدعا الله أن يشد عليهم بعذابه، تمثيلا لحال إصابة نفوسهم بالأكدار والأحزان بحال من يشد على عدوه ليقتله وهو معنى قوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] أي طوعهم لحكمك وسخرهم.
وبهذا يظهر أن موقع الفاء في قوله: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أن تكون فاء السببية في جواب الدعاء، أي افعل بهم ذلك ليؤمنوا. والفعل منصوب بأن مضمرة إضمارا واجبا بعد فاء السببية.
فقوله: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ} في قوة أن يقال: فيؤمنوا حين يرون العذاب لا قبل ذلك.
وإنما عدل عن إيقاع جواب الدعاء بصيغة إثبات الإيمان، إلى إيراده بصيغة نفي مغيا بغاية هي رؤية العذاب سلوكا لأسلوب بديع في نظم الكلام لأنه أراد أن يجمع بين ترتيب الجواب على الدعاء وبين ما استبان له من طبع نفوسهم بطبع أنهم لا تنفع فيهم الحجج وأن قساوة قلوبهم وشراسة نفوسهم لا تذللها إلا الآلام الجسدية والنفسانية، وكل ذلك علاج بما هو مظنة إيصالهم من طرق الضغط والشدة حيث لم تجد فيهم وسائل الحجة، فقال: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أي أن شأنهم ذلك، وهذا إيجاز بديع إذ جمع في هذا التركيب جواب الدعاء وبيان علة الدعاء عليهم بذلك. وأصل الكلام: فيؤمنوا فإنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب الأليم.
والمقصود من جواب فعل الدعاء هو غاية الجواب التي بعد حتى، فتلك هي مصب الجواب. وهذا الوجه في تفسير الآية وجه لا ترهقه غبرة الإشكال، ولا يعسر معه المنال، ويجوز أن يكون قوله: {فَلا يُؤْمِنُوا} الخ عطفا على قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} وجملة الدعاء بينهما معترضة.
والمعنى: ليضلوا عن سبيلك فيستمر ضلالهم حتى يروا العذاب الأليم. وهذا تأويل

المبرد والزجاج. والمراد بالعذاب الأليم عذاب الفقر والجوع وعذاب النكد في النفس.
والرؤية مستعملة في الإحساس على وجه المجاز المرسل، أو مستعملة كناية عن حلول العذاب بهم لأن المشاهدة ملازمة لحلول الشيء المشاهد.
[89] {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
جواب من الله لكلام موسى جرى على طريقة حكاية المحاورات أن لا تعطف جملها كما تقدم غير مرة.
وافتتاح الجملة ب {قَدْ} والفعل الماضي يفيد تحقيق الحصول في المستقبل، فشبه بالمضي.
وأضيفت الدعوة إلى ضمير التثنية المخاطب به موسى وهارون وإن كانت الدعوة إنما حكيت عن موسى عليه السلام وحده لأن موسى عليه السلام دعا لما كان هارون مواطئا له وقائلا بمثله لأن دعوتهما واحدة. وقيل: كان موسى عليه السلام يدعو وهارون عليه السلام يؤمن.
ومعنى إجابة الدعوة إعطاء ما سأله موسى ربه أن يسلب عن فرعون وملئه النعم، ويوالي عليهم المصائب حتى يسأموا مقاومة دعوة موسى وتنحط غلواؤهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] وقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف: 133].
وفرع على إجابة دعوتهما مرهما بالاستقامة، فعلم أن الاستقامة شكر على الكرامة فإن إجابة الله دعوة عبده إحسان للعبد وإكرام وتلك نعمة عظيمة تستحق الشكر عليها وأعظم الشكر طاعة المنعم.
وإذ قد كان موسى وهارون مستقيمين، وناهيك باستقامة النبوءة كان أمرهما بالاستقامة مستعملا في الأمر بالدوام عليها. وأعقب حثهما على الاستقامة بالنهي عن اتباع طريق الذين لا يعلمون وإن كان ذلك مشمولا للاستقامة تنبيها على توخي السلامة من العدول عن طريق الحق اهتماما بالتحذير من الفساد.
والاستقامة: حقيقتها الاعتدال، وهي ضد الاعوجاج، وهي مستعملة كثيرا في معنى ملازمة الحق والرشد، لأنه شاع تشبيه الضلال والفساد بالاعوجاج والالتواء. وقيل للحق:

طريق مستقيم. وقد تقدم في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، فكان أمرهما بالاستقامة جامعا لجميع خصال الخير والصلاح.
وفي حديث أبي عمرة الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال: قل: "آمنت بالله ثم استقم" . ومن الاستقامة أن يستمرا على الدعوة إلى الدين ولا يضجرا.
والسبيل: الطريق، وهو هنا مستعمل للسيرة والعمل الغالب.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعَانِّ} قرأه الجمهور بتشديد النون مكسورة. وهما نونان: إحداهما نون المثنى والأخرى نون التوكيد. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر: {وَلا تَتَّبِعَانِّ} بنون خفيفة مكسورة. وهي نون رفع المثنى لا نون التوكيد، فتعين أن تكون "لا" على هاته القراءة نافية غير ناهية، والجملة في موضع الحال والواو واو الحال، لأن جملة الحال المضارعة المفتتحة بحرف نفي يجوز اقترانها بالواو وعدمه.
[90] {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
معطوفة على جملة: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} عطف الغرض على التمهيد، أي، أمرناهما باتخاذ تلك البيوت تهيئة للسفر ومجاوزة البحر.
وجاوزنا، أي قطعنا بهم البحر، والباء للتعدية، أي أقطعناهم البحر بمعنى جعلناهم قاطعين البحر. وتقدم نظيره في سورة الأعراف[138]. ومجاوزتهم البحر تقتضي خوضهم فيه، وذلك أن الله جعل لهم طرائق في البحر يمرون منها.
و {أَتْبَعَهُمْ} بمعنى لحقهم. يقال: تبعه فأتبعه إذا سار خلفه فأدركه. ومنه {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . وقيل: أتبع مرادف تبع.
والبغي: الظلم، مصدر بغى. وتقدم عند قوله تعالى: {وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} في الأعراف[33].
والعدو: مصدر عدا. وهو تجاوز الحد في الظلم، وهو مسوق لتأكيد البغي. وإنما

عطف لما فيه من زيادة المعنى في الظلم باعتبار اشتقاق فعل عدا.
والمعنى: أن فرعون دخل البحر يتقصى آثارهم فسار في تلك الطرائق يريد الإحاطة بهم ومنعهم من السفر، وإنما كان اتباعه إياهم ظلما وعدوانا إذ ليس له فيه شائبة حق، لأن بني إسرائيل أرادوا مفارقة بلاد فرعون وليست مفارقة أحد بلده محظورة إن لم يكن لأحد عليه حق في البقاء، فإن لذي الوطن حقا في الإقامة في وطنه فإذا رام مغادرة وطنه فقد تخلى عن حق له، وللإنسان أن يتخلى عن حقه، فلذلك كان الخلع في الجاهلية عقابا، وكان النفي والتغريب في الإسلام عقوبة لا تقع إلا بموجب شرعي، وكان الإمساك بالمكان عقابا، ومنه السجن، فليس الخروج من الوطن طوعا بعدوان. فلما رام فرعون منع بني إسرائيل من الخروج وشد للحاق بهم لردهم كرها كان في ذلك ظالما معتديا، لأنه يبتغي بذلك إكراههم على البقاء ولأن غرضه من ذلك تسخيرهم.
و {حَتَّى} ابتدائية لوقوع {إِذَا} الفجائية بعدها. وهي غاية للإتباع، أي استمر إتباعه إياهم إلى وقت إدراك الغرق إياه، كل ذلك لا يفتأ يجد في إدراكهم إلى أن أنجى الله بني إسرائيل فاخترقوا البحر، ورد الله غمرة الماء على فرعون وجنوده، فغرقوا وهلك فرعون غريقا، فمنتهى الغاية هو الزمان المستفاد من "إذا"، والجملة المضافة هي إليها وفي ذلك إيجاز حذف. والتقدير: حتى أدركه الغرق فإذا أدركه الغرق قال آمنت، لأن الكلام مسوق لكون الغاية وهي إدراك الغرق إياه فعند ذلك انتهى الإتباع، وليست الغاية هي قوله: {آمَنْتُ} وإن كان الأمران متقارنين.
والإدراك: اللحاق وانتهاء السير. وهو يؤذن بأن الغرق دنا منه تدريجيا بهول البحر ومصارعته الموج، وهو يأمل النجاة منه، وأنه لم يظهر الإيمان حتى أيس من النجاة وأيقن بالموت، وذلك لتصلبه في الكفر.
وتركيب الجملة إيجاز، لأنها قامت مقام خمس جمل:
جملة تفيد أن فرعون حاول اللحاق ببني إسرائيل إلى أقصى أحوال الإمكان والطمع في اللحاق.
وجملة تفيد أنه لم يلحقهم.
وهاتان مستفادان من "حتى"، وهاتان منة على بني إسرائيل.
وجملة تفيد أنه غمره الماء فغرق، وهذه مستفادة من قوله: {أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} وهي

عقوبة له وكرامة لموسى - عليه السلام -.
وجملة تفيد أنه لم يسعه إلا الإيمان بالله لأنه قهرته أدلة الإيمان. وهذه مستفادة من ربط جملة إيمانه بالظرف في قوله: {إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} . وهذه منقبة للإيمان وأن الحق يغلب الباطل في النهاية.
وجملة تفيد أنه ما آمن حتى أيس من النجاة لتصلبه في الكفر ومع ذلك غلبه الله. وهذه موعظة للكافرين وعزة لله تعالى.
وقد بني نظم الكلام على جملة: {إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} ، وجعل ما معها كالوسيلة إليها، فجعلت "حتى" لبيان غاية الإتباع وجعلت الغاية أن قال: {آمَنْتُ} لأن إتباعه بني إسرائيل كان مندفعا إليه بدافع حنقه عليهم لأجل الدين الذي جاء به رسولهم ليخرجهم من أرضه، فكانت غايته إيمانه بحقهم. ولذلك قال: {الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} ليفيد مع اعترافه بالله تصويبه لبني إسرائيل فيما هدوا إليه، فجعل الصلة طريقا لمعرفته بالله، ولعدم علمه بالصفات المختصة بالله إلا ما تضمنته الصلة إذ لم يتبصر في دعوة موسى تمام التبصر، ولذلك احتاج أن يزيد {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لأنه كان يسمع من موسى دعوته لأن يكون مسلما فنطق بما كان يسمعه وجعل نفسه من زمرة الذين يحق عليهم ذلك الوصف، ولذلك لم يقل: أسلمت، بل قال أنا من المسلمين، أي يلزمني ما التزموه. جاء بإيمانه مجملا لضيق الوقت عن التفصيل ولعدم معرفته تفصيله.
وسيأتي قريبا في تفسير الآية التي بعد هذه تحقيق صفة غرق فرعون، وما كان في بقاء بدنه بعد غرقه.
وقرأ الجمهور: {آمَنْتُ أَنَّهُ} بفتح همزة "أنه" على تقدير باء الجر محذوفة. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بكسر الهمزة على اعتبار "إن" واقعة في أول جملة، وأن جملتها بدل من جملة: {آمَنْتُ} بحذف متعلق فعل {آمَنْتُ} لأن جملة البدل تدل عليه.
[91, 92] {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}
مقول لقول حذف لدلالة المقام عليه، تقديره: قال الله. وهو جواب لقوله: {آمَنْتُ} لأنه قصد بقوله ذلك طلب الإنجاء من الغرق اعترافا لله بالربوبية، فكأنه وجه

إليه كلاما. فأجابه الله بكلام.
وقال الله هذا الكلام له على لسان الملك الموكل بتعذيبه تأييسا له من النجاة في الدنيا وفي الآخرة، تلك النجاة التي هي مأمولة حين قال: {آمَنْتُ} [يونس: 90] إلى آخره، فإنه ما آمن إلا وقد تحقق بجميع ما قاله موسى، وعلم أن ما حل به كان بسبب غضب الله، ورجا من اعترافه له بالوحدانية أن يعفو عنه وينجيه من الغرق. ويدل على ذلك قول الله عقب كلامه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} كما سيأتي.
والاستفهام في: {الْآنَ} إنكاري. والآن: ظرف لفعل محذوف دل عليه قوله: {آمَنْتُ} [يونس: 90] تقديره: الآن تؤمن، أي هذا الوقت. ويقدر الفعل مؤخرا، لأن الظرف دل عليه، ولأن محط الإنكار هو الظرف.
والإنكار مؤذن بأن الوقت الذي علق به الإنكار ليس وقتا ينفع فيه الإيمان لأن الاستفهام الإنكاري في قوة النفي، فيكون المعنى: لا إيمان الآن.
والمنفي هو إيمان ينجي من حصل منه في الدنيا والآخرة. وإنما لم ينفعه إيمانه لأنه جاء به في وقت حصول الموت. وهو وقت لا يقبل فيه إيمان الكافر ولا توبة العاصي، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18].
و"الآن" اسم ظرف للزمان الحاضر. وقد تقدم عند قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} في سورة الأنفال[66].
وجملة: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} في موضع الحال من معمول "تؤمن" المحذوف، وهي مؤكدة لما في الاستفهام من معنى الإنكار، فإن إيمانه في ذلك الحين منكر، ويزيده إنكارا أن صاحبه كان عاصيا لله ومفسدا للدين الذي أرسله الله إليه، ومفسدا في الأرض بالجور والظلم والتمويه بالسحر.
وصيغة {كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أبلغ في الوصف بالإفساد من وكنت مفسدا، كما تقدم آنفا، وبمقدار ما قدمه من الآثام والفساد يشدد عليه العذاب.
والفاء التي في قوله: {فَالْيَوْمَ} فاء الفصيحة، تفصح عن شرط مقدر في الكلام يدل عليه السياق. والمعنى: فإن رمت بإيمانك بعد فوات وقته أن أنجيك من الغرق فاليوم ننجيك ببدنك، والكلام جار مجرى التهكم، فإطلاق الإنجاء على إخراجه من البحر

استعارة تهكمية.
وليس مسوغها التهكم المحض كما هو الغالب في نوعها، بل فيها علاقة المشابهة، لأن إخراجه إلى البر كاملا بشكته يشبه الإنجاء، ولكنه ضد الإنجاء، فكان بالمشابهة، استعارة، وبالضدية تهكما، والمجرور في قوله: {بِبَدَنِكَ} حال.
والأظهر أن الباء من قوله: {بِبَدَنِكَ} مزيدة للتأكيد، أي تأكيد آية إنجاء الجسد، فيكون قوله: "بدنك" في معنى البدل المطابق من الكاف في {نُنَجِّيكَ} كزيادة الباء في قول الحريري: "فاذا هو أبو زيد بعينه ومينه".
والبدن: الجسم بدون روح وهذا احتراس من أن يظن المراد الإنجاء من الغرق. والمعنى: ننجيك وأنت جسم. كما يقال: دخلت عليه فإذا هو جثة، لأنه لو لم يكن المقصود الاقتصار على تلك الحالة لما كان داع للبليغ أن يزيد ذلك القيد، فإن كل زيادة في الكلام البليغ يقصد منها معنى زائد، وإلا لكانت حشوا في الكلام والكلام البليغ موزون، ولغة العرب مبنية على أساس الإيجاز.
و {لِمَنْ خَلْفَكَ} أي من وراءك. والوراء: هنا مستعمل في معنى المتأخر والباقي، أي من ليسوا معك. والمراد بهم من يخلفه من الفراعنة ومن معهم من الكهنة والوزراء، أي لتكون ذاته آية على أن الله غالب من أشركوا به، وأن الله أعظم وأقهر من فرعون وآلهته في اعتقاد القبط، إذ يرون فرعون الإله عندهم طريحا على شاطئ البحر غريقا. فتلك ميتة لا يستطيعون معها الدجل بأنه رفع إلى السماء، أو أنه لم يزل يتابع بني إسرائيل، أو نحو ذلك من التكاذيب لأنهم كانوا يزعمون أن فرعون لا يغلب، وأن الفراعنة حين يموتون إنما ينقلون إلى دار الخلود. ولذلك كانوا يموهون على الناس فيبنون له البيوت في الأهرام ويودعون بها لباسه وطعامه ورياشه وأنفس الأشياء عنده، فموته بالغرق وهو يتبع أعداءه ميتة لا تؤول بشيء من ذلك، فلذلك جعل كونه آية لمن خلفه علة لإخراجه من غمرة الماء ميتا كاملا، فهم مضطرون إلى الاعتراف بأنه غرق إذا نظروا في تلك الآية.
ولم يعدم فرعون فائدة من إيمانه، فإن الله بحكمته قدر له الخروج من غمرات الماء، فلم يبق في الماء أكلة للحيتان ولكن لفظته الأمواج، وتلك حالة أقل خزيا من حالات سائر جيشه بها ظهر نفع ما له بما حصل لنفسه من الإيمان في آخر أحواله.

وكلمة {فَالْيَوْمَ} مستعملة في الآن لأن اسم اليوم أطلق على جزء من زمن الحال مجازا بعلاقة الكلية والجزئية.
وجملة: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} تذييل لموعظة المشركين، والواو اعتراضية، أو واو الحال.
والمراد منه: دفع توهم النقص عن آيات الله عند ما يحرم كثير من الناس الاهتداء بها، فهي في ذاتها دلائل هدى سواء انتفع بها بعض الناس أم لم ينتفعوا فالتقصير منهم.
واعلم أن هذه الآية أصرح آية في القرآن دلالة علة أن فرعون الذي أرسل إليه موسى والذي أتبع بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر قد أصابه الغرق. وقد أشارت إليه آية سورة الأعراف وآية سورة البقرة.
وفرعون هذا هو منفطاح الثاني، ويقال له "مَيْرنْبَتَا" بباء فارسية أو "منفتاح"، أو "منيفتا" وهو ابن رعمسيس الثاني المعروف عند اليونان باسم "سَيْزُوستريس"، من ملوك العائلة التاسعة عشرة من الأسر الفرعونية، وكانوا في حدود سنة 1491قبل المسيح.
قال ابن جريج: كان فرعون هذا قصيرا أحمر فلا نشك في أن منفطاح الثاني مات غريقا في البحر، وأنه خرجت جثته بعد الغرق فدفن في وادي الملوك في صعيد مصر. فذكر المنقبون عن الآثار أنه وجد قبره هناك، وذلك يومئ إلى قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} . ووجود قبر له إن صح بوجه محقق، لا ينافي أن يكون مات غريقا، وإن كان مؤرخو القبط لم يتعرضوا لصفة موته، وما ذلك إلا لأن الكهنة أجمعوا على إخفائها كيلا يتطرق الشك إلى الأمة فيما يمجد به الكهنة كل فرعون من صفات بنوة الآلهة.
وخلفته في ملك مصر ابنته المسماة "طوسير" لأنه تركها وابنا صغيرا.
وقد جاء ذكر غرق فرعون في التوراة في الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج بعبارات مختلفة الصراحة والإغلاق.
ومن دقائق القرآن قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} وهي عبارة لم يأت فيما كتب من أخبار فرعون، وإنها لمن الإعجاز العلمي في القرآن إذ كانت الآية منطبقة على الواقع التاريخي. والظاهر أن الأمواج ألقت جثته على الساحل الغربي من البحر الأحمر فعثر عليه الذين خرجوا يتقصون آثاره ممن بقوا بعده بمدينة مصر

لما استبطأوا رجوعه ورجوع جيشه، فرفعوه إلى المدينة وكان عبرة لهم.
[93] {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
عطف على الجمل الماضية فإن جميع تلك الجمل مقصود منها موعظة الكفار من العرب بأحوال من سبقهم من الأمم في مشابهة كفرهم بكفرهم وبما حل بهم من أنواع العذاب جزاء كفرهم كما قال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر: 43].
فلما ضرب الله مثل السوء أتبعه بمثل الصلاح بحال الذين صدقوا الرسول واتبعوه، وكيف كانت عاقبتهم الحسنى ليظهر الفرق بين مصيري فريقين جاءهم رسول فآمن به فريق وكفر به فريق، ليكون ذلك ترغيبا للمشركين في الإيمان، وبشارة للمؤمنين من أهل مكة.
فالمراد ببني إسرائيل القوم المتحدث عنهم بقوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ} الآية وترتيب الإخبار يقتضي أن الله بوأهم مبوأ صدق عقب مجاوزتهم البحر وغرق فرعون وجنوده، فإنهم دخلوا بعد ذلك صحراء التيه وأمنوا على أنفسهم وأقبلوا على تزكية نفوسهم وإصلاح شؤونهم، ورزقوا المن والسلوى، وأعطوا النصر على الأمم التي تعرضت لهم تحاول منعهم من امتلاك الأرض الطيبة.
فما زالوا يتدرجون في مدارج الخير والإنعام فذلك مبوأ الصدق.
والرزق: من الطيبات.
فمعنى {فَمَا اخْتَلَفُوا} أولئك ولا من خلفهم من أبنائهم وأخلافهم.
والتبوؤ تقدم آنفا، والمبوأ: مكان البوء، أي الرجوع، والمراد المسكن كما تقدم، وإضافته إلى "صدق" من إضافة الموصوف إلى الصفة، ويجوز أن يكون المبوأ مصدرا ميميا. والصدق هنا بمعنى الخالص في نوعه. وتقدم عند قوله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]. والمراد بمبوأ الصدق ما فتح الله عليهم من بلاد فلسطين وما فيها من خصب وثراء قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137].
وتفريع قوله: {فَمَا اخْتَلَفُوا} على: {بَوَّأْنَا} وما عطف عليه تفريع ثناء عليهم بأنهم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68