كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

والمقصود منها التنويه بالقرآن والعناية به لينتقل من ذلك إلى الكناية بأن الذي أنزله عليك بهذه المثابة لا يترك نصرك وتأييدك.
والعدول عن اسم الجلالة أو عن ضميره إلى الموصولية لما تؤذن به الصلة من تحتم إفراده بالعبادة، لأنه خالق المخاطبين بالقرآن وغيرهم مما هو أعظم منهم خلقا. ولذلك وصف {السَّمَاوَاتِ} بـ {الْعُلَى} صفة كاشفة زيادة في تقرير معنى عظمة خالقها. وأيضا لما كان ذلك شأن منزل القرآن لا جرم كان القرآن شيئا عظيما، كقول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
و {الرَّحْمَنُ} يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف لازم الحذف تبعا للاستعمال المسند إليه كما سماه السكاكي ويجوز أن يكون مبتدأ. واختر وصف {الرَّحْمَنُ} لتعليم الناس به لأن المشركين أنكروا تسميته تعالى الرحمان: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: من الآية60]. وفي كره هنا وكثرة التذكير به في القرآن بعث على إفراده بالعبادة شكر على إحسانه بالرحمة البالغة.
وجملة {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} حال من {الرَّحْمَنُ} أو خبر ثان عن المبتدأ المحذوف.
والاستواء: الاستقرار. قال تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: من الآية28] الآية. وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: من الآية44].
والعرش: عالم عظيم من العوالم العليا، فقيل هو أعلى سماء من السماوات وأعظمها. وقيل غير ذلك. ويسمى: الكرسي أيضا على الصحيح. وقيل: الكرسي غير العرش.
وأياما كان فذكر الاستواء عليه زيادة في تصوير عظمة الله تعالى وسعة سلطانه بعد قوله {مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} .
وأما ذكر الاستواء فتأويله أنه تمثيل لشأن عظمة الله بعظمة أعظم الملوك الذين يجلسون على العروش وقد عرف العرب من أولئك ملوك الفرس وملوك الروم وكان هؤلاء مضرب الأمثال عندهم في العظمة.
وحسن التعبير بالاستواء مقارنته بالعرش الذي هو مما يستوي عليه في المتعارف. فكان ذكر الاستواء كالترشيح لإطلاق العرش على السماء العظمى، فالآية من المتشابه

البين تأويله باستعمال العرب وبما تقرر في العقيدة: أن ليس كمثله شيء.
وقيل: الاستواء يستعمل بمعنى الاستيلاء. وأنشدوا قول الأخطل:
قد استوى بشر على العراق ... بغير سيف ودم مهراق
وهو مولد. ويحتمل أنه تمثيل كالآية. ولعله انتزعه من هذه الآية.
وتقدم القول في هذا عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [لأعراف: من الآية54] في سورة الأعراف. وإنما أعدنا بعضه هنا لأن هذه الآية هي المشتهرة بين أصحابنا الأشعرية.
وفي تقييد الأبي على تفسير ابن عرفة : واختار عز الدين بن عبد السلام عدم تكفير من يقول بالجهة. قيل لابن عرفة: عادتك تقول في الألفاظ الموهمة الواردة في الحديث كما في حديث السوداء وغيرها، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم دليل على عدم تكفير من يقول بالتجسيم، فقال: هذا صعب ولكن تجاسرت على قوله اقتداء بالشيخ عز الدين لأنه سبقني لذلك.
وأتبع ما دل على عظمة سلطانه تعالى بما يزيده تقريرا وهو جملة {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} الخ. فهي بيان لجملة {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . والجملتان تدلان على عظيم قدرته لآن ذلك هو المقصود من سعة السلطان.
وتقديم المجرور في قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} للقصر، ردا على زعم المشركين أن لآلهتهم تصرفات في الأرض، وأن للجن اطلاعا على الغيب، ولتقرير الرد ذكرت أنحاء الكائنات، وهي السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
والثرى: التراب. وما تحته: هو باطن الأرض كله.
وجملة {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} عطف على جملة {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
[7] {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}
عطف على جملة {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لدلالة هذه الجملة على سعة علمه تعالى كما دلت الجملة المعطوف عليها على عظيم سلطانه وقدرته. وأصل النظم: ويعلم السر وأخفى إن تجهر بالقول؛ فموقع قوله: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} موقع الاعتراض بين جملة {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وجملة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . فصيغ النظم في قالب الشرط والجزاء زيادة في تحقيق حصوله على طريقة ما يسمى بالمذهب الكلامي، وهو سوق الخبر في صيغة الدليل على وقوعه تحقيقا له.

والمعنى: أنه يعلم السر وأخفى من السر في الأحوال التي يجهر فيها القائل بالقول لإسماع مخاطبه، أي فهو لا يحتاج إلى الجهر لأنه يعلم السر وأخفى. وهذا أسلوب متبع عند البلغاء شائع في كلامهم بأساليب كثيرة. وذلك في كل شرط لا يقصد به التعليق بل يقصد التحقيق كقول أبي كبير الهذيلي:
فأتت به حوش الفؤاد مبطنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل
أي سهدا في كل وقت حين ينام غيره ممن هو هوجل. وقول بشامة بن حزن النهشلي:
إذا الكماة تنحو أن يصيبهم ... حد الظبات وصلناها بأيدينا
وقول إبراهيم بن كنيف النبهاني:
فإن تكن الأيام جالت صروفها ... ببؤسى ونعمى والحوادث تفعل
فما لينت منا قناة صليبة ... وما ذللتنا للتي ليس تجمل
وقول القطامي:
فمن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال بادية ترانا
فالخطاب في قوله: {وَإِنْ تَجْهَرْ} يجوز أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يعم غيره. ويجوز أن يكون لغير معين ليعم كل مخاطب.
واختير في إثبات سعة علم الله تعالى خصوص علمه بالمسموعات لأن السر أخفى الأنبياء عن علم الناس في العادة. ولما جاء القرآن مذكرا بعلم الله تعالى توجهت أنظار المشركين إلى معرفة مدى علم الله تعالى وتجادلوا في ذلك في مجامعهم. وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول? قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا?، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا أي وهو بعيد عنا فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22]. وقد كثر في القرآن أن الله يعلم ما يسر الناس وما يعلنون ولا أحسب هذه الآية إلا ناظرة إلى مثل ما نظرت الآية الآنفة الذكر، وقال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ

الصُّدُورِ} [هود:5]
يبقى النظر في توجيه الإتيان بهذا الشرط بطريقة الاعتراض، وتوجيه اختيار فرض الشرط بحالة الجهر دون حالة السر مع أن الذي يتراءى للناظر أن حالة السر أجدر بالذكر في مقام الإعلام بإحاطة علم الله تعالى بما لا يحيط به علم الناس، كما ذكر في الخبر المروي عن ابن مسعود في الآية الآنفة الذكر.
وأحسب لفرض الشرط بحالة الجهر بالقول خصوصية بهذا السياق اقتضاها اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر بالقرآن في الصلاة أو غيرها، فيكون مورد هذه الآية كمورد قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [لأعراف: من الآية205] فيكون هذا مما نسخة قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: من الآية94]، وتعليم للمسلمين باستواء الجهر والسر في الدعاء، وإبطال لتوهم المشركين أن الجهر أقرب إلى علم الله من السر، كما دل عليه الخبر المروي عن أبي مسعود المذكور آنفا.
والقول: مصدر، وهو تلفظ الإنسان بالكلام، فيشمل القراءة والدعاء والمحاورة، والمقصود هنا ما له مزيد مناسبة بقوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}
وجواب شرط {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} محذوف يدل عليه قوله: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} والتقدير: فلا تشق على نفسك فإن الله يعلم السر وأخفى. أي فلا مزية للجهر به.
وبهذا تعلم أن ليس مساق الآية لتعليم الناس كيفية الدعاء، فقد ثبت في السنة الجهر بالدعاء والذكر، فليس من الصواب فرض تلك المسألة هنا إلا على معنى الإشارة.
و {أخفى} اسم تفضيل، وحذف المفضل عليه لدلالة المقام عليه، أي وأخفى من السر. والمراد بأخفى منه: ما يتكلم اللسان من حديث النفس ونحوه من الأصوات التي هي أخفى من كلام السر.
[8] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}
تذييل لما قبله لأن ما قبله تضمن صفات من فعل الله تعالى ومن خلقه ومن عظمته فجاء هذا التذييل بما يجمع صفاته.
واسم الجلالة خبر لمبتدأ محذوف. والتقدير: هو الله، جريا على ما تقدم عند قوله

تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]
وجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} حال من اسم الجلالة. وكذلك جملة {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
والأسماء: الكلمات الدالة على الاتصاف بحقائق. وهي بالنسبة إلى الله: إما علم وهو اسم الجلالة خاصة. وإما وصف مثل الرحمان والجبار وبقية الأسماء الحسنى.
وتقديم المجرور في قوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} للاختصاص. أي لا لغيره لأن غيره إما أن يكون اسمه مجردا من المعاني المدلولة للأسماء مثل الأصنام، وإما أن تكون حقائقها فيه غير بالغة منتهى كمال حقيقتها كاتصاف البشر بالرحمة والملك، وإما أن يكون الاتصاف بها كذبا لا حقيقة، كاتصاف البشر بالكبر، إذ ليس أهلا للكبر والجبروت والعزة.
ووصف {الأسماء} ب {الْحُسْنَى} لأنها دالة على حقائق كاملة بالنسبة إلى المسمى بها تعالى وتقدس. وذلك ظاهر في غير اسم الجلالة، وأما في اسم الجلالة الذي هو الاسم العلم فلأنه مخالف للأعلام من حيث إنه في الأصل وصف دال على الانفراد بالإلهية لأنه دال على الإله، وعرف باللام الدالة على انحصار الحقيقة عنده. فكان جامعا لمعنى وجوب الوجود، واستحق العبادة لوجود أسباب استحقاقها عنده.
وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} في سورة الأعراف [180].
[9-10] {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً}
أعقب تثبيت الرسول على التبليغ والتنويه بشأن القرآن بالنسبة إلى من أنزله ومن أنزل عليه يذكر قصة موسى عليه السلام ليتأسى به في الصبر على تحمل أعباء الرسالة ومقاساة المصاعب. وتسلية له بأن الذين كذبوه سيكون جزاؤهم جزاء من سلفهم من المكذبين، ولذلك جاء في عقب قصة موسى قوله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً *مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً *خَالِدِينَ فِيهِ} طه:99-101]. وجاء بعد ذكر قصة آدم وأنه لم يكن له عزم {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه: من الآية130] الآيات.

فجملة {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} عطف على جملة {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} . الغرض هو مناسبة العطف كما تقدم قريبا وهذه القصة تقدم بعضها في سورة الأعراف وسورة يونس.
والاستفهام مستعمل في التشويق إلى الخبر مجازا وليس مستعملا في حقيقته سواء كانت هذه القصة قد قصت على النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أم كان هذا أول قصصها عليه. وفي قوله: {إِذْ رَأَى نَاراً} زيادة في التشويق كما يأتي قريبا.
وأوثر حرف {هَلْ} في هذا المقام لما فيه من معنى التحقيق لأن {هَلْ} في الاستفهام مثل "قد" في الإخبار.
والحديث: الخبر. وهو اسم للكلام الذي يحكى به أمر حدث في الخارج، ويجمع على أحاديث على غير قياس. قال الفراء: واحد الأحاديث أحدوثة ثم جعلوه جمعا للحديث اه. يعني استغنوا به عن صيغة فعلاء.
و {إذ} ظرف الحديث. وقد تقدم نظائره. وخص هذا الظرف بالذكر لأنه يزيد تشويقا إلى استعلام كنه الخبر، لأن رؤية النار تحتمل أحوالا كثيرة.
ورؤية النار تدل على أن ذلك كان بليل، وأنه كان بحاجة إلى النار، ولذلك فرع عليه: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} ... الخ.
والأهل: الزوج والأولاد. وكانوا معه بقرينة الجمع في قوله: {امْكُثُوا} . وفي سفر الخروج من التوراة فأخذ موسى امرأته وبنيه وأركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر.
وقرأ الجمهور بكسر هاء ضمير {أَهْله} على الأصل. وقرأه حمزة، وخلف بضم الهاء تبعا لضمة همزة الوصل في {امْكُثُوا} .
والإيناس: الإبصار البين الذي لا شبهة فيه.
وتأكيد الخبر بإن لقصد الاهتمام به بشارة لأهله إذ كانوا في الظلمة.
والقبس: ما يؤخذ اشتعاله من اشتعال شيء ويقبس، كالجمرة من مجموع الجمر والفتيلة ونحو ذلك، وهذا يقتضي أنه كان في ظلمة ولم يجد ما يقتدح به. وقيل: اقتدح

زنده فصلد، أي لم يقدح.
ومعنى {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} : أو ألقى عارفا بالطريق قاصدا السير فيما أسير فيه فيهديني إلى السبيل. قيل: كان موسى قد خفي عليه الطريق من شدة الظلمة وكان يحب أن يسير ليلا.
و {أَوْ} هنا للتخيير، لأن إتيانه بقبس أمر محقق، فهو إما أن يأخذ القبس لا غير. وإما أن يزيد فيجد صاحب النار قاصدا الطريق مثله فيصحبه.
وحرف {على} في قوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} مستعمل في الاستعلاء المجازي، أي شدة القرب من النار قربا أشبه الاستعلاء، وذلك أن مشعل النار يستدني منها للاستنارة بضوئها أو للاصطلاء بها. قال الأعشى:
وبات على النار الندى والمحلق
وأراد بالهدى صاحب الهدى.
وقد أجرى الله على لسان موسى معنى هذه الكلمة إلهاما إياه أنه سيجد عند تلك النار هدى عظيما، ويبلغ قومه منه ما فيه نفعهم.
وإظهار النار لموسى رمز رباني لطيف؛ إذ جعل اجتلابه لتلقي الوحي باستدعاء بنور في ظلمة رمزا على أنه سيتلقى ما به إنارة ناس بدين صحيح بعد ظلمة الضلال وسوء الاعتقاد.
[11-13] {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}
بني فعل النداء للمجهول زيادة في التشويق إلى استطلاع القصة، فإبهام المنادي يشوق سامع الآية إلى معرفته فإذا فاجأه {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} علم أن المنادي هو الله تعالى فتمكن في النفس كمال التمكن. ولأنه أدخل في تصوير تلك الحالة بأن موسى ناداه مناد غير معلوم له، فحكي نداؤه بالفعل المبني للمجهول.
وجملة {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} بيان لجملة {نُودِيَ} وبهذا النداء علم موسى أن الكلام موجه إليه من قبل الله تعالى لأنه كلام غير معتاد والله تعالى لا يغير العوائد التي قررها في الأكوان إلا لإرادة الإعلام بأن له عناية خاصة بالمغير، فالله تعالى خلق أصواتا خلقا غير

معتاد غير صادرة عن شخص مشاهد، ولا موجهة له بواسطة ملك يتولى هو تبليغ الكلام لأن قوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} ظاهر في أنه لم يبلغ إليه ذلك بواسطة الملائكة، فلذلك قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: من الآية164]، إذ علم موسى أن تلك الأصوات دالة على مراد الله تعالى. والمراد التي تدل عليه تلك الأصوات الخارقة للعادة هو ما نسميه بالكلام النفسي. وليس الكلام النفسي هو الذي سمعه موسى لأن الكلام النفسي صفة قائمة بذات الله تعالى منزه عن الحروف والأصوات والتعلق بالأسماع.
والإخبار عن ضمير المتكلم بأنه رب المخاطب لتسكين روعة نفسه من خطاب لا يرى مخاطبة فإن شأن الرب الرفق بالمربوب.
وتأكيد الخبر بحرف "إن" لتحقيقه لأجل غرابته دفعا لتطرق الشك عن موسى في مصدر هذا الكلام.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير "أني" بفتح الهمزة على حذف باء الجر. والتقدير: نودي بأني أنا ربك. والتأكيد حاصل على كلتا القراءتين.
وتفريع الأمر بخلع النعلين على الإعلام بأنه ربه إشارة إلى أن ذلك المكان قد حله التقديس بإيجاد كلام من عند الله فيه.
والخلع: فصل شيء عن شيء كان متصلا به.
والنعلان: جلدان غلظان يجعلان تحت الرجل ويشدان برباط من جلد لوقاية الرجل ألم المشي على التراب والحصى، وكانت النعل تجعل على مثال الرجل.
وإنما أمره الله بخلع نعليه تعظيما منه لذلك المكان الذي سيسمع فيه الكلام الإلهي. وروى الترمذي 1 عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت نعلاه من جلد حمار ميت" . أقول: وفيه أيضا زيادة خشوع. وقد اقتضى كلا المعنيين قوله تعالى: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} . فحرف التوكيد مفيد هنا التعليل كما هو شأنه في كل مقام لا يقتضي التأكيد. وهذه خصوصية من جهات فلا يؤخذ منها حكم يقتضي نزع النعل عند الصلاة.
والواد: المفرج بين الجبال والتلال. وأصله بياء في آخره. وكثر تخفيفه بحذف الياء كما في هذه الآية فإذا ثني لزمته الياء يقال: واديان ولا يقال وادان، وكذلك إذا
ـــــــ
1 في لبس الصوف من كتاب اللباس.

أضيف يقال: بواديك ولا يقال بوادك.
والمقدس: المطهر المنزه. وتقدم في قوله تعالى: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: من الآية30] في أول البقرة. وتقديس الأمكنة يكون بما يحل فيها من الأمور المعظمة وهو هنا حلول الكلام الموجه من قبل الله تعالى.
واختلف المفسرون في معنى {طُوىً} وهو بضم الطاء وبكسرها، ولم يقرأ في المشهور إلا بضم الطاء، فقيل: اسم لذلك المكان، وقيل: هو اسم مصدر مثل هدى، وصف بالمصدر بمعنى اسم المفعول، أي طواه موسى بالسير في تلك الليلة، كأنه قيل له: إنك بالواد المقدس الذي طويته سيرا، فيكون المعنى تعيين أنه هو ذلك الواد. وأحسن منه على هذا الوجه أن يقال هو أمر لموسى بأن يطوي الوادي ويصعد إلى أعلاه لتلقي الوحي. وقد قيل: إن موسى صعد أعلى الوادي. وقيل: هو بمعنى المقدس تقديسين، لأن الطي هو جعل الثوب على شقين. ويجيء على هذا الوجه أن تجعل التثنية كناية عن التكرير والتضعيف مثل {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: من الآية4] فالمعنى: المقدس تقديسا شديدا. فاسم المصدر مفعول مطلق مبين للعدد، أي المقدس تقديسا مضاعفا.
والظاهر عندي: أن {طُوىً} اسم لصنف من الأدوية يكون ضيقا بمنزلة الثوب المطوي أو غائرا كالبئر المطوية، والبئر تسمى طويا. وسمي واد بظاهر مكة ذا طوى بتثليث الطاء، وهو مكان يسن للحاج أو المعتمر القادم إلى مكة أن يغتسل عنده.
وقد اختلف في {طُوىً} هل ينصرف أو يمنع من الصرف بناء على أنه اسم أعجمي أو لأنه معدول عن طاو، مثل عمر عن عامر.
وقرأ الجمهور {طوى} بلا تنوين على منعه من الصرف. وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف منونا، لأنه اسم واد مذكر.
وقوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} أخبر عن اختيار الله تعالى موسى بطريق المسند الفعلي المفيد تقوية الحكم، لأن المقام ليس مقام إفادة التخصيص، أي الحصر نحو: أنا سعيت في حاجتك، وهو يعطي الجزيل. وموجب التقوي وغرابة الخبر ومفاجأته به دفعا لتطرق الشك في نفسه.
والاختيار: تكلف طلب ما هو خير. واستعملت صيغة التكلف في معنى إجادة طلب الخير.

وفرع على الإخبار باختياره أن أمر بالاستماع للوحي لأنه أثر الاختيار إذ لا معنى للاختيار إلا اختياره لتلقي ما سيوحي الله.
والمراد: ما يوحي إليه حينئذ من الكلام، وأما ما يوحي إليه في مستقبل الأيام فكونه مأمورا باستماعه معلوم بالأحرى.
وقرأ حمزة وحده {وأنا اخترناك} بضميري التعظيم.
واللام في {لِمَا يُوحَى} للتقوية في تعدية فعل {اسْتَمِعْ} إلى مفعوله، فيجوز أن تتعلق بـ {اخْتَرْتُكَ} أي اخترتك للوحي فاستمع، معترضا بين الفعل والمتعلق به. ويجوز أن يضمن استمع معنى أصغ.
[14-16] {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}
هذا ما يوحى المأمور باستماعه. فالجملة بدل من {ما يُوحَى} بدلا مطابقا.
ووقع الأخبار عن ضمير المتكلم باسمه العلم الدال على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد. وذلك أول ما يجب علمه من شؤون الإلهية، وهو أن يعلم الاسم الذي جعله الله علما عليه لأن ذلك هو الأصل لجميع ما سيخاطب به من الأحكام المبلغة عن ربهم.
وفي هذا إشارة إلى أن أول ما يتعارف به المتلاقون أن يعرفوا أسماءهم. فأشار الله إلى أنه عالم باسم كليمه وعلم كليمه اسمه، وهو الله.
وهذا الاسم هو علم الرب في اللغة العربية. واسمه تعالى في اللغة العبرانيه يهوه أو أهيه المذكور في الإصحاح الثالث من سفر الخروج في التوراة، وفي الإصحاح السادس. وقد ذكر اسم {الله} في مواضع من التوراة مثل الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج في الفقرة السادسة عشرة. ولعله من تعبير المترجمين وأكثر تعبير التوراة إنما هو الرب أو الإله.
ولفظ "أهية" أو "يهوه" قريب الحروف من كلمة إله في العربية.

ويقال: إن اسم الجلالة في العبرانية لاهم. ولعل الميم في آخره هي أصل التنوين في إله.
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد لدفع الشك عن موسى، نزل منزلة الشاك لأن غرابة الخبر تعرض السامع للشك فيه.
وتوسيط ضمير الفصل بقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} لزيادة تقوية الخبر،وليس بمفيد للقصر، إذ لا مقتضى له هنا لأن المقصود الإخبار بأن المتكلم هو المسمى الله، فالحمل حمل مواطاة لا حمل اشتقاق. وهو كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: من الآية17] [المائدة:72].
وجملة {لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} خبر ثان عن اسم "إن". والمقصود منه حصول العلم لموسى بوحدانية الله تعالى.
ثم فرع على ذلك الأمر بعبادته. والعبادة تجمع معنى العمل الدال على التعظيم من قول وفعل وإخلاص بالقلب. ووجه التفريع أن انفراده تعالى بالإلهية يقتضي استحقاقه أن يعبد.
وخص من العبادات بالذكر إقامة الصلاة لأن الصلاة تجمع أحوال العبادة. وإقامة الصلاة: إدامتها، أي عدم الغفلة عنها.
والذكر يجوز أن يكون التذكير بالعقل، ويجوز أن يكون الذكر باللسان.
واللام في {لِذِكْرِي} للتعليل، أي أقم الصلاة لأجل أن تذكرني، لأن الصلاة تذكر العبد بخالقه. إذ يستشعر أنه واقف بين يدي الله لمناجاته. ففي هذا الكلام إيماء إلى حكمة مشروعية الصلاة وبضميمته إلى قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: من الآية45] يظهر أن التقوى من حكمة مشروعية الصلاة لأن المكلف إذا ذكر أمر الله ونهيه فعل ما أمره واجتنب ما نهاه عنه والله عرف موسى حكمة الصلاة مجملة وعرفها محمدا صلى الله عليه وسلم مفصلة.
ويجوز أن يكون اللام أيضا للتوقيت، أي أقسم الصلاة عند الوقت الذي جعلته لذكري. ويجوز أن يكون الذكر الذكر اللساني لأن ذكر اللسان يحرك ذكر القلب ويشتمل على الثناء على الله والاعتراف بما له من الحق، أي الذي عينته لك. ففي الكلام إيماء إلى ما في أوقات الصلاة من الحكمة. وفي الكلام حذف يعلم من السياق.

وجملة {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} مستأنفة لابتداء إعلام بأصل ثان من أصول الدين بعد أصل التوحيد، وهو إثبات الجزاء.
والساعة: علم بالغلبة على ساعة القيامة أو ساعة الحساب.
وجملة {أَكَادُ أُخْفِيهَا} في موضع الحال من {السَّاعَةَ} أو معترضة بين جملة وعلتها.
والإخفاء: الستر وعدم الإظهار، وأريد به هنا المجاز عن عدم الإعلام.
والمشهور في الاستعمال أن "كاد" تدل على مقاربة وقوع الفعل المخبر به عنها، فالفعل بعدها في حيز الانتفاء، فقوله تعالى: {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: من الآية19] يدل على أن كونهم لبدا غير واقع ولكنه اقترب من الوقوع.
ولما كانت الساعة مخفية الوقوع، أي مخفية الوقت، كان قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} غير واضح المقصود، فاختلفوا في تفسيره على وجوه كثيرة أمثلها ثلاثة.
فقيل: المراد إخفاء الحديث عنها، أي من شدة إرادة إخفاء وقتها، أي يراد ترك ذكرها ولعل توجيه ذلك أن المكذبين بالساعة لم يزدهم تكرر ذكرها في القرآن إلا عنادا على إنكارها.
وقيل: وقعت {أَكَادُ} زائدة هنا بمنزلة زيادة كان في بعض المواضع تأكيدا للإخفاء. والمقصود: أنا أخفيها فلا تأتي إلا بغتة.
وتأول أبو علي الفارسي معنى {أُخْفِيهَا} بمعنى أظهرها، وقال: همزة {أخفيها} للإزالة مثل همزة أعجم الكتاب، وأشكى زيدا، أي أزيل خفاءها. والخفاء: ثوب تلف فيه القربة مستعار للستر.
فالمعنى: أكاد أظهرها، أي أظهر وقوعها، أي وقوعها قريب. وهذه الآية من غرائب استعمال "كاد" فيضم إلى استعمال نفيها في قوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: من الآية71] في سورة البقرة.
وقوله: {لِتُجْزَى} يتعلق ب {آتِيَةٌ} وما بينهما اعتراض. وهذا تعليم بحكمة جعل يوم للجزاء.
واللام في {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} متعلق ب {آتِيَةٌ}

ومعنى {بِمَا تَسْعَى} بما تعمل، فإطلاق السعي على العمل مجاز مرسل، كما تقدم في قوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الاسراء: من الآية19] في سورة الإسراء.
وفرع على كونها آتية وأنها مخفاة التحذير من أن يصده عن الإيمان بها قوم لا يؤمنون بوقوعها اغترارا بتأخر ظهورها، فالتفريع على قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أوقع لأن ذلك الإخفاء هو الذي يشبه به الذين أنكروا البعث على الناس، قال تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الاسراء: من الآية51] وقال: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].
وصيغ نهي موسى عن الصد عنها في صيغة نهي من لا يؤمن بالساعة عن أن يصد موسى عن الإيمان بها، مبالغة في نهي موسى عن أدنى شيء يحول بينه وبين الإيمان بالساعة، لأنه لما وجه الكلام إليه وكان النهي نهي غير المؤمن عن أن يصد موسى، علم أن المراد نهي موسى عن ملابسة صد الكافر عن الإيمان بالساعة، إي لا تكن لين الشكيمة لمن يصدك ولا تصغ إليه فيكون لينك له مجرئا إياه على أن يصدك، فوقع النهي عن المسبب. والمراد النهي عن السبب، وهذا الأسلوب من قبيل قولهم: لا أعرفنك تفعل كذا ولا أرينك هاهنا.
وزيادة {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} للإيماء بالصلة إلى تعليل الصد، أي لا داعي لهم للصد عن الإيمان بالساعة إلا اتباع الهوى دون دليل ولا شبهة، بل الدليل يقتضي الإيمان بالساعة كما أشار إليه قوله: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}
وفرع على النهي أنه إن صد عن الإيمان بالساعة ردي، أي هلك. والهلاك مستعارا لأسوأ الحال كما في قوله تعالى: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة براءة [42].
والتفريع ناشئ على ارتكاب المنهي لا على النهي. ولذلك جيء بالتفريع بالفاء ولم يقع بالجزاء المجزوم، فلم يقل: ترد، لعدم صحة حلول "إن" مع "لا" عوضا عن الجزاء. وذلك ضابط صحة جزم الجزاء بعد النهي.
وقد جاء خطاب الله تعالى لموسى عليه السلام بطريقة الاستدلال على كل حكم، وأمر أو نهي، فابتدئ بالإعلام بأن الذي يكلمه هو الله، وأنه لا إله إلا هو، ثم فرع عليه الأمر في قوله: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ثم عقب بإثبات الساعة، وعلل بأنها

لتجزي كل نفس بما تسعى، ثم فرع عليه النهي عن أن يصده عنها من لا يؤمن بها، ثم فرع على النهي أنه إن ارتكب ما نهي عنه هلك وخسر.
[17 – 21] {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}
بقية ما نودي به موسى. والجملة معطوفة على الجمل قبلها انتقالا إلى محاورة أراد الله منها أن يري موسى كيفية الاستدلال على المرسل إليهم بالمعجزة العظيمة، هي انقلاب العصا حية تأكل الحيات التي يظهرونها.
وإبراز انقلاب العصا حية في خلال المحاورة لقصد تثبيت موسى، ودفع الشك عن أن يتطرقه لو أمره بذلك دون تجربة لأن مشاهد الخوارق تسارع بالنفس بادئ ذي بدء إلى تأويلها وتدخل عليها الشك في إمكان استتار المعتاد بساتر خفي أو تخييل، فلذلك ابتدئ بسؤاله عما بيده ليوقن أنه ممسك بعصاه حتى إذا انقلبت حية لم يشك في أن تلك الحية هي التي كانت عصاه. فالاستفهام مستعمل في تحقيق حقيقة المسؤول عنه.
والقصد من ذلك زيادة اطمئنان قلبه بأنه في مقام الاصطفاء، وأن الكلام الذي سمعه كلام من قبل الله بدون واسطة متكلم معتاد ولا في صورة المعتاد، كما دل عليه قوله بعد ذلك: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 23].
فظاهر الاستفهام أنه سؤال عن شيء أشير إليه، وبينت الإشارة بالظرف المستقر وهو قوله: {بِيَمِينِكَ} ، ووقع الظرف حالا من اسم الإشارة، أي ما تلك حال كونها بيمينك?.
ففي هذا إيماء إلى أن السؤال عن أمر غريب في شأنها، ولذلك أجاب موسى عن هذا الاستفهام ببيان ماهية المسؤول عنه جريا على الظاهر، وببيان بعض منافعها استقصاء لمراد السائل أن يكون قد سأل عن وجه اتخاذه العصا بيده لأن شأن الواضحات أن لا يسأل عنها إلا والسائل يريد من سؤاله أمرا غير ظاهر، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "أي يوم هذا? سكت الناس وظنوا أنه سيسميه بغير اسمه. وفي رواية أنهم قالوا: "الله ورسوله أعلم. فقال: أليس يوم الجمعة?.." إلى آخره.
فابتدأ موسى ببيان الماهية بأسلوب يؤذن بانكشاف حقيقة المسؤول عنه، وتوقع أن

السؤال عنه توسل لتطلب بيان وراءه، فقال: {هِيَ عَصَايَ} بذكر المسند إليه، مع أن غالب الاستعمال حذفه في مقام السؤال للاستغناء عن ذكره في الجواب بوقوعه مسؤولا عنه، فكان الإيجاز يقتضي أن يقول: عصاي. فلما قال: {هِيَ عَصَايَ} كان الأسلوب أسلوب كلام من يتعجب من الاحتياج إلى الإخبار، كما يقول سائل لما رأى رجلا يعرفه وآخر لا يعرفه: من هذا معك? فيقول. فلان، فإذا لقيهما مرة أخرى وسأله: من هذا معك? أجابه: هو فلان، ولذلك عقب موسى جوابه ببيان الغرض من اتخاذها لعله أن يكون هو قصد السائل فقال: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . ففصل ثم أجمل لينظر مقدار اقتناع السائل حتى إذا استزاده بيانا زاده.
والباء في قوله: {بِيَمِينِكَ} للظرفية أو الملابسة.
والتوكؤ: الاعتماد على شيء من المتاع، والاتكاء كذلك، فلا يقال: توكأ على الحائط ولكن يقال: توكأ على وسادة، وتوكأ على عصا.
والهش: الخبط، وهو ضرب الشجرة بعصا ليتساقط ورقها، وأصله متعد إلى الشجرة فلذلك ضمت عينه في المضارع، ثم كثر حذف مفعوله وعدي إلى ما لأجله يوقع الهش بعلى لتضمين "أهش" معنى أسقط. على غنمي الورق فتأكله، أو استعملت على بمعنى الاستعلاء المجازي كقولهم: هو وكيل على فلان.
ومآرب: جمع مأربة، مثلث الراء: الحاجة، أي أمور احتاج إليها. وفي العصا منافع كثيرة روي بعضها عن ابن عباس. وقد أفرد الجاحظ من كتاب البيان والتبيين بابا لمنافع العصا. ومن أمثال العرب: هو خير من تفارق العصا. ومن لطائف معنى الآية ما أشار إليه بعض الأدباء من أن موسى أطنب في جوابه بزيادة على ما في السؤال لأن المقام مقام تشريف ينبغي فيه طول الحديث.
والظاهر أن قوله: {مَآرِبُ أُخْرَى} حكاية لقول موسى بمماثله، فيكون إيجازا بعد الإطناب، وكان يستطيع أن يزيد من ذكر فوائد العصا. ويجوز أن يكون حكاية لقول موسى بحاصل معناه، أي عد منافع أخرى، فالإيجاز من نظم القرآن لا من كلام موسى عليه السلام.
والضمير المشترك في {قَالَ أَلْقِهَا} عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلم الذي في قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ} ؛ دعا إلى الالتفات وقوع هذا الكلام حوارا مع قول

موسى {هِيَ عَصَايَ} .. إلخ.
وقوله: {أَلْقِهَا} يتضح به أن السؤال كان ذريعة إلى غرض سيأتي، وهو القرينة على أن الاستفهام في قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} مستعمل في التنبيه إلى أهمية المسؤول عنه كالذي يجيء في قوله {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه:83]
والحية: اسم لصنف من الحنش مسموم إذا عض بنابيه قتل المعضوض، ويطلق على الذكر.
ووصف الحية ب {تَسْعَى} لإظهار أن الحياة فيها كانت كاملة بالمشي الشديد. والسعي: المشي الذي فيه شدة، ولذلك خص غالبا بمشي الرجل دون المرأة.
وأعيد فعل {قَالَ خُذْهَا} بدون عطف لوقوعه في سياق المحاورة.
والسيرة في الأصل: هيئة السير، وأطلقت على العادة والطبيعة، وانتصب {سِيرَتَهَا} بنزع الخافض، أي سنعيدها إلى سيرتها الأولى التي كانت قبل أن تنقلب حية، أي سنعيدها عصا كما كانت أول مرة.
والغرض من إظهار ذلك لموسى أن يعرف أن العصا تطبعت بالانقلاب حية، فيتذكر ذلك عند مناظرة السحرة لئلا يحتاج حينئذ إلى وحي.
[22-23] {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى}
هذه معجزة أخرى علمه الله إياها حتى إذا تحدى فرعون وقومه عمل مثل ذلك أمام السحرة. فهذا تمرين على معجزة ثانية متحد الغرض مع إلقاء العصا.
والجناح: العضد وما تحته إلى الإبط، أطلق عليه ذلك تشبيها بجناح الطائر.
والضم: الإلصاق، أي ألصق يدك اليمنى التي كنت ممسكا بها العصا. وكيفية إلصاقها بجناحه أن تباشر جلد جناحه بأن يدخلها في جيب قميصه حتى تماس بشرة جنبه، كما في آية سورة سليمان {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: من الآية12]. جعل الله تغير لون جلد يده عند مماستها جناحه تشريفا لأكثر ما يناسب من أجزاء حسمه بالفعل والانفعال.

و {بَيْضَاءَ} حال من ضمير {تَخْرُجْ} و {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} حال من ضمير {بَيْضَاءَ} .
ومعنى {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير مرض مثل البرص والبهق بأن تصير بيضاء ثم تعود إلى لونها المماثل لون بقية بشرته. وانتصب {آيَةً} على الحال من ضمير {تَخْرُجْ} .
والتعليل في قوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} راجع إلى قوله {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} فاللام متعلقة ب {تَخْرُجْ} لأنه في معنى نجعلها بيضاء فتخرج بيضاء أو نخرجها لك بيضاء. وهذا التعليل راجع إلى تكرير الآية، أي كررنا الآيات لنريك بعض آياتنا فتعلم قدرتنا على غيرها، ويجوز أن يتعلق {لِنُرِيَكَ} بمحذوف دل عليه قوله: {أَلْقِهَا} وما تفرع عليه. وقوله {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} وما بعده، وتقدير المحذوف: فعلنا ذلك لنريك من آياتنا.
و {مِنْ آيَاتِنَا} في موضع المفعول الثاني ل {نُرِيَكَ} فتكون (من) فيها سما بمعنى بعض على رأي التفتزاني. وتقدم عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: من الآية8] في سورة البقرة، ويسير إليه كلام الكشاف هنا.
و {الْكُبْرَى} صفة لـ {آيَاتِنَا} والكبر: مستعار لقوة الماهية. أي آياتنا القوية الدلالة على قدرتنا أو على أنا أرسلناك.
[24-36] {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}
لما أظهر الله له الآيتين فعلم بذلك أنه مؤيد من الله تعالى، أمره الله بالأمر العظيم الذي من شأنه أن يدخل الروع في نفس المأمور به وهو مواجهة أعظم ملوك الأرض يومئذ بالموعظة ومكاشفته بفساد حاله، وقد جاء في الآيات الآتية {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى* قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45-46]
والذهاب المأمور به ذهاب خاص، قد فهمه موسى من مقدمات الإخبار باختياره، وإظهار المعجزات له، أو صرح له به وطوى ذكره هنا على طريقة الإيجاز، على أن التعليل الواقع بعد ينبئ به.

فجملةِ {إنَّهُ طَغَى} تعليل للأمر بالذهاب إليه، وإنما صلحت للتعليل لأن المراد ذهاب خاص، وهو إبلاغ ما أمر الله بإبلاغه إليه من تغيره عما هو عليه من عبادة غير الله. ولما علم موسى ذلك لم يبادر بالمراجعة في الخوف من ظلم فرعون، بل تلقى الأمر وسأل الله الإعانة عليه، بما يؤول إلى رباطة جأشه وخلق الأسباب التي تعينه على تبليغه، وإعطاءه فصاحة القول للإسراع بالإقناع بالحجة.
وحكي جواب موسى عن كلام الرب بفعل القول غير معطوف جريا على طريقة المحاورات.
ورتب موسى الأشياء المسؤولة في كلامه على حسب ترتيبها في الواقع على الأصل في ترتيب الكلام ما لم يكن مقتض للعدل عنه.
فالشرح، حقيقته: تقطيع ظاهر شيء لين. واستعير هنا لإزالة ما في نفس الإنسان من خواطر تكدره أو توجب تردده في الإقدام على عمل ما تشبيها بتشريح اللحم بجامع التوسعة.
والقلب: يراد به في كلامهم والعقل فالمعنى: أزل عن فكري الخوف ونحوه، مما يعترض الإنسان من عقبات تحول بينه وبين الانتفاع بإقدامه وعزامته، وذلك من العسر، فسأل تيسير أمره، أي إزالة الموانع الحافة بما كلف به.
والأمر هنا: الشأن، وإضافة {أمر} إلى ضمير المتكلم لإفادة مزيد اختصاصه به وهو أمر الرسالة كما في قوله الآتي: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}
والتيسير: جعل الشيء يسيرا، أي ذا يسر. وقد تقدم عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: من الآية185] في البقرة.
ثم سأل سلامة آلة التبليغ وهو اللسان بأن يرزقه فصاحة التعبير والمقدرة على أداء مراده بأوضح عبارة، فشبه حبسه السان بالعقدة في الحبل أو الخيط ونحوهما لأنها تمنع سرعة استعماله.
والعقدة: موضع ربط بعض الخيط أو الحبل ببعض آخر منه، وهي بزنة فعلة بمعنى مفعول كقصة وغرفة، أطلقت على عسر النطق بالكلام أو ببعض الحروف على وجه الاستعارة لعدم تصرف اللسان عند النطق بالكلمة وهي استعارة مصرحة، ويقال لها حبسة.

يقال: عقد اللسان كفرح، فهو أعقد إذا كان لا يبين الكلام. واستعار لإزالتها فعل الحل المناسب العقدة على طريقة الاستعارة المكنية.
وزيادة {لِي} بعد {اشْرَحْ} وبعد {يَسِّرْ} إطناب كما أشار إليه صاحب المفتاح لأن الكلام مفيد بدونه. ولكن سلك الإطناب لما تفيده اللام من معنى العلة، أي اشرح صدري لأجلي ويسر أمري لأجلي، وهي اللام الملقبة لام التبيين التي تفيد تقوية البيان، فإن قوله: {صدري} و {أمري} واضح أن الشرح والتيسير متعلقان به فكان قوله: {لي} فيها زيادة بيان كقوله {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وهو هنا ضرب من الإلحاح في الدعاء لنفسه.
وأما تقديم هذا المجرور على متعلقه فليحصل الإجمال ثم التفصيل فيفيد مفاد التأكيد من أجل تكرر الإسناد.
ولم يأت بذلك مع قوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} لأن ذلك سؤال يرجع إلى رسالة الله إلى فرعون فليست فائدتها راجعة إليه حتى يأتي لها بلام التبيين.
وتنكير {عُقْدَةً} للتعظيم، أي عقدة شديدة.
و {مِنْ لِسَانِي} صفة ل {عُقْدَةً} وعدل عن أن يقول: عقدة لساني، بالإضافة ليتأتى التنكير المشعر بأنها عقدة شديدة.
وفعل {يَفْقَهُوا} مجزوم في جواب الأمر على الطريقة المتبعة في القرآن من جعل الشيء المطلوب بمنزلة الحاصل عقب الشرط كقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: من الآية30] أي إن نقل لهم غضوا يغضوا، أي شأنهم الامتثال. والفقه: الفهم.
والوزير: فعيل بمعنى فاعل، من وازر على غير قياس، مثل حكيم من أحكم، وهو مشتق من الأزر، وهو المعونة، والمؤازرة كذلك، والكل مشتق من الأزر، أي الظهر، كما سيأتي قريبا، فحقه أن يكون أزيرا بالهمزة إلا أنهم قلبوا همزته واو حملا على موازر الذي هو بمعناه الذي قلبت همزته واو الانضمام ما قبلها.فلما كثر في الكلام قولهم: موازر ويوازر بالواو نطقوا بنظيره في المعنى بالواو بدون موجب للقلب إلا الحمل على النظير في النطق، أي اعتياد النطق بهمزته واوا، أي جعل معينا من أهلي.
وخص هارون لفرط ثقته به ولأنه كان فصيح اللسان مقوالا، فكونه من أهله مظنة

النصح له، وكونه أخاه أقوى في المناصحة، وكونه الأخ الخاص لأنه معلوم عنده بأصالة الرأي.
وجملة {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} على قراءة الجمهور بصيغة الأمر في فعلي {اشْدُدْ} ، و {أَشْرِكْ} بيان لجملة {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً} . سأل الله أن يجعله معينا له في أعماله، وسأله أن يأذن له بأن يكون شريكا لموسى في أمره، أي أمر رسالته.
وقرأ ابن عامر بصيغة المتكلم بفتح الهمزة المقطوعة في {اشْدُدْ} وبضم همزة {أَشْرِكْه} فالفعلان إذن مجزومان في جواب الدعاء كما جزم {يَفْقَهُوا قَوْلِي} .
و {هَارُونَ} مفعول أول لفعل {اجْعَلْ} ، قدم عليه المفعول الثاني للاهتمام.
والشد: الإمساك بقوة.
والأزر: أصله الظهر. ولما كان الظهر مجمع حركة الجسم وقوام استقامته أطلق اسمه على القوة إطلاقا شائعا يساوي الحقيقة فقيل الأزر للقوة.
وقيل: آزره إذا أعانه وقواه. وسمي الإزار إزارا لأنه يشد به الظهر، وهو في الآية مراد به الظهر ليناسب الشد، فيكون الكلام تمثيلا لهيئة المعين والمعان بهيئة مشدود الظهر بحزام ونحوه وشاده.
وعلل موسى عليه السلام سؤاله تحصيل ما سأله لنفسه ولأخيه، بأن يسبحا الله كثيرا ويذكر الله كثيرا. ووجه ذلك أن فيما سأله لنفسه تسهيلا لأداء الدعوة بتوفر آلاتها ووجود العون عليها،وذلك مظنة تكثيرها.
وأيضا فيما سأله لأخيه تشريكه في الدعوة ولم يكن لأخيه من قبل، وذلك يجعل من أخيه مضاعفة لدعوته، وذلك يبعث أخاه أيضا على الدعوة. ودعوة كل منهما تشتمل على التعريف بصفات الله وتنزيهه فهي مشتملة على التسبيح، وفي العودة حث على العمل بوصايا الله تعالى عباده، وإدخال الأمة في حضرة الإيمان والتقوى. وفي ذلك إكثار من ذكر الله بإبلاغ أمره ونهيه. ألا ترى إلى قوله تعالى بعد هذه الآيات {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42]، أي لا تضعفا في تبليغ الرسالة، فلا جرم كان في تحصيل ما دعا به إكثار من تسبيهما وذكرهما الله.
وأيضا في التعاون على أداء الرسالة تقليل من الاشتغال بضرورات الحياة، إذ يمكن

أن يقتسما العمل الضروري لحياتهما فيقل زمن اشتغالهما بالضروريات وتتوفر الأوقات لأداء الرسالة. وتلك فائدة عظيمة لكليهما في التبليغ.
والذي ألجأ موسى إلى سؤال ذلك علمه بشدة فرعون وطغيانه ومنعه الأمة من مفارقة ضلالهم، فعلم أن في دعوته فتنه للداعي فسأل الإعانة على الخلاص من تلك الفتنة ليتوفر للتسبيح والذكر كثيرا.
وجملة {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} تعليل لسؤاله شرح صدره وما بعده، أي لأنك تعلم حالي وحال أخي، وأني ما دعوتك بما دعوت إلا لأننا محتاجان لذلك، وفيه تفويض إلى الله تعالى بأنه أعلم بما فيه صلاحهم، وأنه ما سأل سؤاله إلا بحسب ما بلغ إليه علمه.
وقوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} وعد له بالإجابة،وتصديق له فيما توسمه من المصالح فيما سأله لنفسه ولأخيه.
والسؤال بمعنى المسؤول. وهو وزن فعل بمعنى مفعول كالخبر بمعنى المخبوز، والأكل بمعنى المأكول. وهذا يدل على أن العقدة زالت عن لسانه، ولذلك لم يحك فيما بعد أنه أقام هارون بمجادلة فرعون. ووقع في التوراة في الإصحاح السابع من سفر الخروج: "فقال الرب لموسى أنت تتكلم بكل ما أمرك به وهارون أخوك يكلم فرعون".
[37-41] {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ}
جملة {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ} معطوفة على جملة {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} لأن جملة {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} تتضمن منة عليه، فعطف عليها تذكير بمنة عليه أخرى في وقت ازدياده ليعلم أنه لما كان بمحل العناية من ربه من أول أوقات وجوده فابتدأه بعنايته قبل سؤاله فعنايته به بعد سؤاله أحرى، ولأن تلك العناية الأولى تمهيد لما أراد الله به من الاصطفاء والرسالة، فالكرم يقتضي أن الابتداء بالإحسان يستدعي الاستمرار عليه. فهذا

طمأنة لفؤاده وشرح لصدره ليعلم أنه سيكون مؤيدا في سائر أحواله المستقبلة، كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَىووجدك عائلا فأغنى} [الضحى:5-8].
وتأكيد الخبر بلام القسم و"قد" لتحقيق الخبر، لأن موسى عليه السلام قد علم ذلك، فتحقيق الخبر له تحقيق للازمه المراد منه، وهو أن عناية الله به دائمة لا تنقطع عنه زيادة في تطمين خاطره بعد قوله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} [طه: 36].
والمرة: فعلة من المرور، غلبت على معنى الفعلة الواحدة من عمل معين يعرف بإضافة أو بدلالة المقام. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: من الآية13] في سورة براءة. وانتصاب {مَرَّةً} هنا على المفعولية المطلقة لفعل {مَنَنَّا} ، أي مرة من المن. ووصفها بأخرى هنا باعتبار أنها غير هذه المنة.
و {إِذْ} ظرف للمنة.
والوحي، هنا: وحي الإلهام الصادق. وهو إيقاع معنى في النفس ينثلج له نفس الملقى إليه بحيث يجرم بنجاحه فيه وذلك من توفيق الله تعالى. وقد يكون بطريق الرؤيا الصالحة التي يقذف في نفس الرائي أنها صدق.
و {مايوحى} موصول مفيد أهمية ما أوحي إليها. ومفيد تأكيد كونه إلهاما من قبل الحق.
و {أَنِ} تفسير لفعل {أَوْحَيْنَا} لأنه معنى القول دون حروفه أو تفسير ليوحى.
والقذف: أصله الرمي، وأطلق هنا على الوضع في التابوت. تمثيلا لهيئة المخفي عمله. فهو يسرع وضعه من يده كهيئة من يقذف حجرا ونحوه.
والتابوت: الصندوق. وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: من الآية248] في سورة البقرة.
واليم: البحر، والمراد به نهر النيل.
والساحل: الشاطئ، ولام الأمر في قوله {فَلْيُلْقِه} دالة على أمر التكوين، أي سخرنا اليم لأن يلقيه بالساحل، ولا يبتعد به إلى مكان بعيد، والمراد ساحل معهود، وهو

الذي بقصده آل فرعون للسباحة.
والضمائر الثلاثة المنصوبة يجوز أن تكون عائدة إلى موسى لأنه المقصود وهو حاضر في ذهن أمه الموحى إليها، وقذفه في التابوت وفي اليم وإلقاؤه في الساحل كلها أفعال متعلقة بضميره، إذ لا فرق في فعل الإلقاء بين كونه مباشرا أو في ضمن غيره، لأنه هو المقصود بالأفعال الثلاثة. ويجوز جعل الضميرين الأخيرين عائدين إلى التابوت ولا لبس في ذلك.
وجزم {يَأْخُذْهُ} في جواب الأمر على طريقة جزم قوله: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 28] المتقدم آنفا.
والعدو: فرعون، فهو عدو الله لأنه انتحل لنفسه الإلهية، وعدو موسى تقديرا في المستقبل، وهو عدوه لو علم أنه من غلمان إسرائيل لأنه اعتزم على قتل أبنائهم.
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}
عطف على جملة {أَوْحَيْنَا} أي حين أوحينا أي حين أو حينا إلى أمك ما كان به سلامتك من الموت، وحين ألقيت عليك محبة لتحصل السرقة لواجدة في اليم، فيحرص على حياته ونمائه ويتخذه ولدا كما جاء في الآية الأخرى {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص: من الآية9] ؛ لأن فرعون قد غلب على ظنه أنه من غلمان إسرائيل وليس من أبناء القبط، أو لأنه يخطر بباله الأخذ بالاحتياط.
وإلقاء المحبة مجاز في تعلق المحبة به، أي خلق المحبة في قلب المحب بدون سبب عادي حتى كأنه وضع باليد لا مقتضى له في العادة.
ووصف المحبة بأنها من الله للدلالة على أنها محبة خارقة للعادة لعدم ابتداء أسباب المحبة العرفية من الإلف والانتفاع، ألا ترى قول امرأة فرعون: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص: من الآية9] مع قولها: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص: من الآية9]. فكان قرة عين لها قبل أن ينفعها وقبل اتخاذه ولدا.
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي*إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ}
جملة {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} عطف على جملة {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ} الخ. جعل

الأمران إتماما لمنة واحدة لأن إنجاءه من القتل لا يظهر أثره إلا إذا أنجاه من الموت بالذبول لترك الرضاعة، ومن الإهمال المفضي إلى الهلاك أو الوهن إذا ولي تربيته من لا يشفق عليه الشفقة الجبلية. والتقدير: وإذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله لأجل أن تصنع على عيني.
والصنع: مستعار للتربية والتنمية، تشبيها لذلك بصنع شيء مصنوع، ومنه يقال لمن أنعم عليه أحد نعمة عظيمة: هو صنيعة فلان.
وأخت موسى: مريم ابنة عمران. وفي التوراة: أنها كانت نبية كما في الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج. وتوفيت مريم سنة ثلاث من خروج بني إسرائيل من مصر في برية صين كما في الإصحاح التاسع عشر من سفر العدد. وذلك سنة 1417 قبل المسيح.
وقرأه الجمهور بكسر اللام على أنها لام كي وبنصب فعل {تُصْنَعَ} ، وقرأه أبو جعفر بسكون اللام على أنها لام الأمر ويجزم الفعل على أنه أمر تكويني، أي وقلنا: لتصنع.
وقوله: {عَلَى عَيْنِي} "على" منه للاستيلاء المجازي، أي المصاحبة المتمكنة، ف(على)هنا بمعنى باء المصاحبة قال تعالى: {فإنك بأعيننا} [الطور:48].
والعين: مجاز في المراعاة والمراقبة كقوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} ، وقول النابغة:
عهدتك ترعاني بعين بصيرة ... وتبعث حراسا علي وناظرا
ووقع اختصار في حكاية قصة مشي أخته، وفصلت في سورة القصص.
والاستفهام في {هَلْ أَدُلُّكُمْ} للعرض. وأرادت ب {مَنْ يَكْفُلُهُ} أمه. فلذلك قال: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} .
وهذه منة عليه لإكمال نمائه، وعلى أمه بنجاته فلم تفارق ابنها إلا ساعات قلائل، أكرمها الله بسبب ابنها.
وعطف نفي الحزن على قرة العين لتوزيع المنة، لأن قرة عينها برجوعه إليها، وانتفاء حزنها بتحقيق سلامته من الهلاك ومن الغرق وبوصوله إلى أحسن مأوى. وتقديم

قرة العين على انتفاء الحزن مع أنها أخص فيغني ذكرها عن ذكر انتفاء الحزن؛ روعي فيه مناسبة تعقيب {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} . بما فيه من الحكمة، ثم أكمل بذكر الحكمة في مشي أخته فتقول {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} في بيتها، وكذلك كان شأن المراضع ذوات الأزواج كما جاء في حديث حليمة، وكذلك ثبت في التوراة في سفر الخروج.
{وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}
جملة {وَقَتَلْتَ} عطف على جملة {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} لأن المذكور في جملة {وَقَتَلْتَ نَفْساً} منة أخرى ثالثة.
وقدم ذكر قتله النفس على ذكر الإنجاء من الغم لتعظيم المنة، حيث افتتحت القصة بذكر جناية عظيمة التبعة، وهي قتل النفس ليكون لقوله: {فَنَجَّيْنَاكَ} موقع عظيم من المنة، إذ أنجاه من عقوبة لا ينجو من مثلها مثله.
وهذه النفس هي نفس القبطي من قوم فرعون الذي اختصم مع رجل من بني إسرائيل في المدينة فاستغاث الإسرائيلي بموسى لينصره فوكز موسى القبطي فقضى عليه كما قص ذلك في سورة القصص.
والغم: الحزن. والمعني به ما خامر موسى من خوف الاقتصاص منه، لأن فرعون لما بلغه الخبر أضمر الاقتصاص من موسى للقبطي إذ كان القبط سادة الإسرائيليين، فليس اعتداء إسرائيلي على قبطي بهين بينهم. ويظهر أن فرعون الذي تبنى موسى كان قد هلك قبل ذلك.
والفتون: مصدر فتن، كالخروج، والثبور، والشكور، وهو مفعول مطلق لتأكيد عامله وهو {فَتَنَّاكَ} وتنكيره للتعظيم، أي فتونا قويا عظيما.
والفتون كالفتنة: هو اضطراب حال المرء في مدة من حياته. وتقدم عند قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة [191]. ويظهر أن الفتون أصل مصدر فتن بمعنى اختبر، فيكون في الشر وفي الخير. وأما الفتنة فلعلها خاصة باختبار المضر. ويظهر أن التنوين في {فُتُوناً} للتقليل، وتكون جملة {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} كالاستدراك على قوله: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} ، أي نجيناك وحصل لك خوف، كقوله {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: من الآية18] فذلك الفتون.

والمراد بهذا الفتون خوف موسى من عقاب فرعون وخروجه من البلد المذكور في قوله تعالى {فأصبح في المدينة خائفا يترقب} إلى قوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ*فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:20-21]
وذكر الفتون بين تعداد المنن إدماج للإعلام بأن الله لم يمهل دم القبطي الذي قتله موسى، فإنه نفس معصومة الدم إذ لم يحصل ما يوجب قتله لأنهم لم ترد إليهم دعوة إلهية حينئذ، فحين أنجى الله موسى من المؤاخذة بدمه في شرع فرعون ابتلى موسى بالخوف والغربة عتابا له على إقدامه على قتل النفس، كما قال في الآية الأخرى: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص: 15 - 16]. وعباد الله الذين أراد بهم خيرا ورعاهم بعنايته يجعل لهم من كل حالة كمالا يكسبونه، ويسمى مثل ذلك بالابتلاء، فكان من فتون موسى بقضية القبطي أن قدر له الخروج إلى أرض مدين ليكتسب رياضة نفس وتهيئة ضمير لتحمل المصاعب، ويتلقى التهذيب من صهره الرسول شعيب عليه السلام. ولهذا المعنى عقب ذكر الفتون بالتفريع في قوله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} ، فبين له كيف كانت عاقبة الفتون.
أو يكون الفتون مشتركا بين محمود العاقبة وضده مثل الابتلاء في قوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ} [الأعراف: 168]، أي واختبرناك اختبارا. والاختبار: تمثيل لحال تكليفه بأمر التبليغ بحال من يختبر، ولهذا اختير هنا دون الفتنة.
وأهل مدين: قوم شعيب، ومدين: اسم أحد أبناء إبراهيم عليه السلام سكنت ذريته في موطن تسمى الأيكة على شاطئ البحر الأحمر جنوب عقبة أيلة، وغلب اسم القبيلة على الأرض وصار علما للمكان فمن ثم أضيف إليه أهل. وقد تقدم في سورة الأعراف.
ومعنى {جِئْتَ} حضرت لدينا. وهو حضوره بالواد المقدس لتلقي الوحي.
و "على" للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه.
والقدر: تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدر بحيث لم يكن على سبيل

المصادفة، فيكون غير ملائم أو في ملاءمته خلل، قال النابغة:
فريع قلبي وكانت نظرة عرضت
يوما وتوفيق أقدار لأقدار
أي موافقة ما كنت أرغبه.
فقوله: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} يفيد أن ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدرا من الله تقديرا مناسبا متدرجا، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدرها الله وحددها تحيدا منظما لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير.
فهذا تقدير خاص، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلمه الله منه.
وليس المراد القدر العام الذي قدره الله لتكوين جميع الكائنات، فإن ذلك لا يشعر بمزية لموسى عليه السلام. وقد انتبه إلى هذا المعنى جرير بذوقه السليم فقال في مدح عمر بن عبد العزيز:
أتى الخلافة إذ كانت له قدرا
كما أتى ربه موسى على قدر
ومن هنا ختم الامتنان بما هو الفذلكة، وذلك جملة {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} الذي هو بمنزلة رد العجز على الصدر على قوله {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} الآية، وهو تخلص بديع إلى الغرض المقصود وهو الخطاب بأعمال الرسالة المبتدأ من قوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} ومن قوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24].
والاصطناع: صنع الشيء باعتناء: واللام للأجل، أي لأجل نفسي. والكلام تمثيل لهيئة الاصطفاء لتبليغ الشريعة بهيئة من يصطنع شيئا لفائدة نفسه فيصرف فيه غاية إتقان صنعه.
[42] {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} .
رجوع إلى المقصد بعد المحاورة، فالجملة بيان لجملة {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} ، أو هي استئناف بياني لأن قوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] يؤذن بأنه اختاره وأعده لأمر عظيم، لأن الحكيم لا يتخذ شيئا لنفسه إلا مريدا جعله مظهرا لحكمته، فيترقب لمخاطب تعيينها، وقد أمره هنا بالذهاب إلى فرعون وأن يذهب أخوه معه. ومعنى

ذلك أنه يبلغ أخاه أن الله أمره بمرافقته، لأن هارون لم يكن حاضرا حين كلم الله موسى في البقعة المباركة من الشجرة. ولأنه لم يكن الوقت وقت الشروع في الذهاب إلى فرعون، فتعين أن الأمر لطلب حصول الذهاب المستقبل عند الوصول إلى مصر بلد فرعون وعند لقائه أخاه هارون وإبلاغه أمر الله إياه، فقرينة عدم إرادة الفور هنا قائمة.
والباء للمصاحبة لقصد تطين موسى بأنه سيكون مصاحبا لآيات الله، أي الدلائل التي تدل على صدقة لدى فرعون.
ومعنى {وَلا تَنِيَا} لا تضعفا. يقال: ونى يني ونى، أي ضعف في العمل أي لا تن أنت وأبلغ هارون أن لا يني، فصيغة النهي مستعملة في حقيقتها ومجازها.
[43-44] {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}
يجوز أن يكون انتقال إلى خطاب موسى وهارون. فيقتضي أن هارون كان حاضرا لهذا الخطاب. وهو ظاهر قوله بعده {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} . وكان حضور هارون عند موسى بوحي من الله أوحاه إلى هارون في أرض جاسان حيث منازل بني إسرائيل من أرض قرب طيبة. قال في التوراة وفي الإصحاح الرابع من سفر الخروج وقال أي الله هاهو هارون خارجا لاستقبالك فتكلمه أيضا. وفيه أيضا وقال الرب لهارون اذهب إلى البرية لاستقبال موسى فذهب والتقيا في جبل الله أي جبل حوريب، فيكون قد طوي ما حدث بين تكليم الله تعالى موسى في الوادي عند النار وما بين وصول موسى مع أهله إلى جبل حوريب في طريقه إلى أرض مصر، ويكون قوله {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} الخ، جوابا عن قول الله تعالى لهما {اذْهَب إِلَى فِرْعَوْنَ} ، الخ. ويكون فصل جملة {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} الخ.. لوقوعها في أسلوب المحاورة.
ويجوز أن تكون جملة {اذْهَبا إِلَى فِرْعَوْنَ} بدلا من جملة {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} فيكون قوله {اذهبا} أمرا لموسى بأن يذهب وأن يأمر أخاه بالذهاب معه وهارون غائب. وهذا أنسب لسياق الجمل. وتكون جملة {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا، وقد طوى ما بين خطاب الله موسى وما بين حكاية {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} الخ. والتقدير: فذهب موسى ولقي أخاه هارون، وأبلغه أمر الله له بما أمره، فقالا ربنا إننا نخاف الخ.

وجملة {إِنَّهُ طَغَى} تعليل للأمر بأن يذهبان إليه. فعلم أنه لقصد كفه عن طغيانه.
وفعل {طغى} رسم في المصحف آخره ألفا ممالة، أي بصورة الياء للإشارة إلى أنه من طغي مثل رضي. ويجوز فيه الواو فيقال: يطغوا مثل يدعوا.
والقول اللين: الكلام الدال على معاني الترغيب والعرض واستدعاء الامتثال، بأن يظهر المتكلم للمخاطب أن له من سداد الرأي ما يتقبل به الحق ويميز به بين الحق والباطل مع تجنب أن يشتمل الكلام على تسفيه رأي المخاطب أو تجهيله.
فشبه الكلام المشتمل على المعاني الحسنة بالشيء اللين.
واللين، حقيقة من صفات الأجسام، وهو: رطوبة ملمس الجسم وسهولة ليه، وضد اللين الخشونة. ويستعار اللين لسهولة المعاملة والصفح. وقال عمرو بن كلثوم:
فإن قناتنا يا عمرو أعيت ... على الأعداء قبلك أن تلينا
واللين من شعار الدعوة إلى الحق، قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: من الآية125] وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: من الآية159]. ومن اللين في دعوة موسى لفرعون قوله تعالى] فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى وقوله: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: من الآية47]، إذ المقصود من دعوة الرسل حصول الاهتداء لا إظهار العظمة وغلظة القول بدون جدوى. فإذا لم ينفع اللين مع المدعو وأعرض واستكبر جاز في موعظته الإغلاظ معه، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: من الآية46]، وقال تعالى عن موسى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48].
والترجي المستفاد من "لعل"؛ إما تمثيل لشأن الله في دعوة فرعون بشأن الراجي، وإما أن يكون إعلاما لموسى وفرعون بأن يرجوا ذلك، فكان النطق بحرف الترجي على لسانهما، كما تقول للشخص إذا أشرت عليه بشيء: فلعله يصادفك تيسير، وأنت لا تريد أنك ترجو ذلك ولكن بطلب رجاء من المخاطب. وقد تقدمت نظائره في القرآن غير مرة.
والتذكر: من الذكر بضم الذال أي النظر، أي لعله ينظر نظر المتبصر فيعرف الحق أو يخشى حلول العقاب به فيطيع عن خشية. لا عن تبصر. وكان فرعون من أهل الطغيان واعتقاد أنه على الحق. فالتذكير: أن يعرف أنه على الباطل، والخشية: أن يتردد في ذلك فيخشى أن يكون على الباطل فيحتاط لنفسه بالأخذ بما دعاه إليه موسى.

وهنا انتهى تكليم الله تعالى موسى عليه السلام.
[45-48] {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}
فصلت الجملتان لوقوعهما موقع المحاورة بين موسى مع أخيه وبين الله تعالى على كلا الوجهين اللذين ذكرناهما آنفا، أي جمعا أمرهما وعزم موسى وهارون على الذهاب إلى فرعون فناجيا ربهما {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} ، لأن غالب التفكير في العواقب والموانع يكون عند العزم على الفعل والآخذ في التهيؤ له، ولذلك أعيد أمرهما بقوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ}
و {يَفْرُطَ} معناه يعجل ويسبق، ويقال: فرط يفرط من باب نصر. والفارط: الذي يسبق الواردة إلى الحوض للشرب. والمعنى: نخاف أن يعجل بعقابنا بالقتل أو غيره من العقوبات قبل أن نبلغه ونحجه.
والطغيان: التظاهر بالتكبر. وتقدم آنفا عند قوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} ، أي نخاف أن يخامره كبره فيعد ذكرنا إلها دونه تنقيصا له وطعنا في دعواه الإلهية فيطغى، أي يصدر منه ما هو أثر الكبر من التحقير والإهانة. فذكر الطغيان بعد الفرط إشارة إلى أنهما لا يطيقان ذلك، فهو انتقال من الأشد إلى الأضعف لأن {نَخَافُ} يؤول إلى معنى النفي. وفي النفي يذكر الأضعف بعد الأقوى بعكس الإثبات ما لم يوجد ما يقتضي عكس ذلك.
وحذف متعلق {يَطْغَى} فيحتمل أن حذفه لدلالة نظيره عليه، وأوثر بالحذف لرعاية الفواصل. والتقدير: أو أن يطغي علينا. ويحتمل أن متعلقه ليس نظير المذكور قبله بل هو متعلق آخر لكون التقسيم التقديري دليلا عليه، لأنها لما ذكر متعلق {يَفْرُطَ عَلَينَا} وكان الفرط شاملا لأنواع العقوبات حتى الإهانة بالشتم لزم أن يكون التقسيم بـ"أو" منظورا فيه إلى حالة أخرى وهي طغيانه على من لا يناله عقابه، أي أن يطغي على الله بالتنقيص كقوله،: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: من الآية38] وقوله: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص: من الآية38]، فحذف متعلق {يطغي} حينئذ لتنزيهه على التصريح به في هذا المقام، والتقدير: أو أن يطغي عليك فيتصلب في كفره ويعسر صرفه عنه. وفي التحرز من ذلك

غيرة على جانب الله تعالى، وفيه أيضا تحرز من رسوخ عقيدة الكفر في نفس الطاغي فيصير الرجاء في إيمانه بعد ذلك أضعف منه فيما قبل، وتلك مفسدة في نظر الدين. وحصلت مع ذلك رعاية الفاصلة.
قال الله: {لا تَخَافَا} أي لا تخافا حصول شيء من الأمرين. وهو نهى مكنى به عن نفسي وقوع المنهي عنه.
وجملة {إنني معكما} تعليل للنهي عن الخوف الذي هو في معنى النفي، والمعية معية حفظ.
و {أَسْمَعُ وَأَرَى} حالان من ضمير المتكلم، أي أنا حافظكما من كل ما تخافانه، وأنا أعلم الأقوال والأعمال فلا داع عملا أو قولا تخافانه.
ونزل فعلا {أَسْمَعُ وَأَرَى} منزلة اللازمين إذ لا غرض لبيان مفعولهما بل المقصود: أني لا يخفي علي شيء. وفرغ عليه إعادة الأمر بالذهاب إلى فرعون.
والإتيان: الوصول والحلول، أي فحلا عنده، لأن الإتيان اثر الذهاب المأمور به الخطاب السابق، وكانا قد اقتربا من مكان فرعون لأنهما في مدينته، فلذا أمرا بإتيانه ودعوته.
وجاءت تثنية رسول على الأصل في مطابقة الوصف الذي يجرى عليه في الإفراد وغيره.
وفعول الذي بمعنى مفعول تجوز فيه المطابقة، كقولهم ناقة طروقة الفحل، وعدم المطابقة كقولهم: وحشية خلوج، أي اختلج ولدها. وجاء الوجهان في نحو {رسول} وهما وجهان مستويان. ومن مجيئه غير مطابق قوله تعالى في سورة الشعراء {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16] وسيجيء تحقيق ذلك هنالك إن شاء الله.
وأدخل فاء التفريع على طلب إطلاق بني إسرائيل لأنه جعل طلب إطلاقهم كالمستقر المعلوم عند فرعون، إما لأنه سبقت إشاعة عزمها على الحضور عند فرعون لذلك المطلب، وإما لأنه جعله لأهميته كالمقرر. وتفريع ذلك على كونهما مرسلين من الله ظاهر، لأن المرسل من الله تجب طاعته.
وخصا الرب بالإضافة إلى ضمير فرعون قصدا لأقصى الدعوة،لأن كون الله ربهما

معلوم من قولهما: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} وكونه رب الناس معلوم بالأحرى لأن فرعون علمهم أنه هو الرب.
والتعذيب الذي سألاه الكف عنه هو ما كان فرعون يسخر له بني إسرائيل من الأعمال الشاقة في الخدمة، لأنه كان يعد بني إسرائيل كالعبيد والخول جزاء إحلالهم بأرضه.
وجملة {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} فيها بيان لجملة {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} فكانت الأولى إجمالا والثانية بيانا. وفيها معنى التعليل لتحقيق كونهما مرسلين من الله بما يظهره الله على يد أحدهما من دلائل الصدق. وكلا الغرضين يوجب فصل الجملة عن التي قبلها.
واقتصر على أنهما مصاحبان لآية إظهارا لكونهما مستعدين لإظهار الآية إذا أراد فرعون ذلك، فأما إن آمن بدون احتياج إلى إظهار الآية يكن إيمانه أكمل، ولذلك حكي في سورة الأعراف قول فرعون: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [لأعراف:106] وهذه الآية هي انقلاب العصا حية، وقد تبعها آيات أخرى.
والاقتصار على طلب إطلاق بني إسرائيل يدل على أن موسى أرسل لإنقاذ بني إسرائيل وتكوين أمة مستقلة، بأن يبث فيهم الشريعة المصلحة لهم والمقيمة لاستقلالهم وسلطانهم، ولم يرسل لخطاب القبط بالشريعة ومع ذلك دعا فرعون وقومه إلى التوحيد لأنه يجب عليه تغيير النكر الذي هو بين ظهرانيه.
وأيضا لأن ذلك وسيلة إلى إجابته طلب إطلاق بني إسرائيل. وهذا يؤخذ مما في هذه الآية وما في آية سورة الإسراء وما في آية سورة النازعات والآيات الأخرى.
والسلام: السلامة والإكرام. وليس المراد به هنا التحية، إذ ليس شم معين يقصد التحية. ولا يراد تحية فرعون لأنهما إنما تكون في ابتداء المواجهة لا في أثناء الكلام، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى هرقل وغيره: "أسلم تسلم" .
و"على" للتمكن، أي سلامة من اتبع الهدى ثابتة لهم دون ريب. وهذا احتراس ومقدمة للإنذار الذي في قوله {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، فقوله: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} تعريض بأن يطلب فرعون الهدى الذي جاء به موسى عليه السلام.
وقوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا} تعريض لإنذاره على التكذيب قبل حصوله منه ليبلغ

الرسالة على أتم وجه قبل ظهور لرأي فرعون في ذلك حتى لا يجابهه بعد ظهور رأيه بتصريح توجيه الإنذار إليه.وهذا أسلوب القول اللين الذي أمرهما الله به.
وتعريف {الْعَذَابَ} تعريف الجنس، فالمعرف بمنزلة النكرة، كأنه قيل: إن عذابا على من كذب.
وإطلاق السلام والعذاب دون تقيد بالدنيا أو الآخرة تعميم للبشرة والنذارة، قال تعالى في سورة النازعات {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات:25-26]
وهذا كله كلام الله الذي أمرهما بتبليغه إلى فرعون، كما يدل لذلك تعقيبه بقوله تعالى {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} على أسلوب حكاية المحاورات. وما ذكر من أول القصة إلى هنالم يتقدم في السور الماضية.
[49-50] {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}
هذا حكاية جواب فرعون عن الكلام الذي أمر الله موسى وهارون بإبلاغه فرعون، ففي الآية حذف جمل دل عليها السياق قصدا للإيجاز. والتقدير: فأتياه فقالا له ما أمرا به، فقال:فمن ربكما?.
ولذلك جاءت حكاية قول فرعون بجملة مفصول على طريقة حكاية المحاورات التي استقريناها من أسلوب القرآن وبيناها في سورة البقرة وغيرها.
ووجه فرعون الخطاب إليهما بالضمير المشترك، ثم خص موسى بالإقبال عليه بالنداء، لعلمه بأن موسى هو الأصل بالرسالة وأن هارون تابع له، وهذا وإن لم يحتو عليه كلامهما فقد تعين أن يكون فرعون علمه من كيفية دخولهما عليه ومخاطبته، ولأن موسى كان معروفا في بلاط فرعون لأنه ربيه أو ربي أبيه فله سابقة اتصال بدار فرعون، كما دل عليه قوله له المحكي في آية سورة الشعراء {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18]. ولعل موسى هو الذي تولى الكلام وهارون بصدقه بالقول أو بالإشارة.
وإضافته الرب إلى ضميرهما لأنهما قالا له: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:47].

وأعرض عن أن يقول: فمن ربي? إلى قوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا} إعراضا عن الاعتراف بالمربوبية ولو بحكاية قولهما، لئلا يقع ذلك في سمع أتباعه وقومه فيحسبوا أنه متردد في معرفة ربه، أو أنه اعترف بأن له ربا. وتولى موسى الجواب لأنه خص بالسؤال بسبب النداء له دون غيره.
وأجاب موسى بإثبات الربوبية لله لجميع الموجودات جريا على قاعدة الاستدلال بالكلية على الجزئية بحيث ينتظم من مجموعهما قياس، فإن فرعون من جملة الأشياء، فهو داخل في عموم {كُلَّ شَيْءٍ} .
و{كُلَّ شَيْءٍ} مفعول أول ل {أَعْطَى}. و {خَلْقَهُ} مفعوله الثاني.
والخلق: مصدر بمعنى الإيجاد وجيء بفعل الإعطاء للتنبيه على أن الخلق والتكوين نعمة، فهو استدلال على الربوبية وتذكير بالنعمة معا.
ويجوز أن يكون الخلق بالمعنى الأخص، وهو الخلق على شكل مخصوص، فهو بمعنى الجعل، أي الذي أعطى كل شيء من الموجودات شكله المختص به، فكونت بذلك الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص من آثار ذلك الخلق.
ويجوز أن يكون {كُلَّ شَيْءٍ} مفعولا ثانيا ل {أَعْطَى} ومفعوله الأول {خَلْقَهُ} ، أي أعطى خلقه ما يحتاجونه، كقوله {فأخرجنا به نبات كل شيء} . فتركيب الجملة صالح للمعنيين.
والاستغراق المستفاد من "كل" عرفي، أي كل شي من شأنه أن يعطاه أصناف الخلق ويناسب المعطي، أو هو استغراق على قصد التوزيع بمقابلة الأشياء بالخلق، مثل: ركب القوم دوابهم.
والمعنى: تأمل وانظر هل أنت أعطيت الخلق أو لا، فلا شك أنه يعلم أنه ما أعطى كل شيء خلقه، فإذا تأمل علم أن الرب هو الذي أفاض الوجود والنعم على الموجودات كلها، فآمن به بعنوان هذه الصفة وتلك المعرفة الموصلة إلى الاعتقاد الحق.
و {ثُمَّ} للترتيب بمعنييه الزمني والرتبي، أي خلق الأشياء ثم هدى إلى ما خلقهم لأجله، وهداهم إلى الحق بعد أن خلقهم، وأفاض عليهم النعم، على حد قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8-10] أي طريقي الخير والشر، أي فرقنا بينهما بالدلائل الواضحة.

قال الزمخشري في الكشاف : ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقي الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق.
[51-52] {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}
والبال: كلمة دقيقة المعنى، تطلق على الحال المهم، ومصدره البالة بتخفيف اللام، قال تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: من الآية2]، أي حالهم. وفي الحديث "كل أمر ذي بال.." الخ، وتطلق على الرأي يقال: خطر كذا ببالي. ويقولون: ما ألقى له بالا، وإيثار هذه الكلمة هنا من دقيق الخصائص البلاغية.
أراد فرعون أن يحاج موسى بما حصل للقرون الماضية الذين كانوا على ملة فرعون، أي قرون أهل مصر، أي ما حالهم، أفتزعم أنهم اتفقوا على ضلالة. وهذه شنشنة من لا يجد حجة فيعمد إلى التشغيب بتخييل استبعاد كلام خصمه، وهو في معنى قول فرعون وملئه في الآية الأخرى {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: من الآية78]
ويجوز أن يكون المعنى أن فرعون أراد التشغيب على موسى حين نهضت حجته بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى: هل هم في عذاب بمناسبة قول موسى: {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48]، فإذا قال: إنهم في عذاب، ثارت ثائرة أبنائهم فصاروا أعداء لموسى، وإذا قال: هم في سلام، نهضت حجة فرعون لأنه متابع لدينهم. ولأن موسى لما أعلمه بربه وكان ذلك مشعرا بالخلق الأول خطر ببال فرعون أن يسأله عن الاعتقاد في مصير الناس بعد الفناء، فسأل: ما بال القرون الأولى? وما شأنهم وما الخبر عنهم? وهو سؤال تعجيز وتشغيب.
وقول موسى في جوابه {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} صالح للاحتمالين، فعلى الاحتمال الأول يكون موسى صرفه عن الخوض فيما لا يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء لا البحث عن الأموات الذين أفضوا إلى عالم الجزاء. وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذراري المشركين فقال: " الله أعلم بما كانوا عاملين" .
وعلى الاحتمال الثاني يكون موسى قد عدل عن ذكر حالهم خيبة لمراد فرعون وعدولا عن الاشتغال بغير الغرض الذي جاء لأجله.

والحاصل أن موسى تجنب التصدي للمجادلة والمناقضة في غير ما جاء لأجله لأنه لم يبعث بذلك. وفي هذا الإعراض فوائد كثيرة وهو عالم بمجمل أحوال القرون الأولى وغير عالم بتفاصيل أحوالهم وأحوال أشخاصهم.
وإضافة {عِلْمُهَا} من إضافة المصدر إلى مفعوله. وضمير {عِلْمُهَا} عائد إلى {الْقُرُونِ الْأُولَى} لأن لفظ الجمع يجوز أن يؤنث ضميره.
وقوله {فِي كِتَابٍ} يحتمل أن يكون الكتاب مجازا في تفصيل العلم تشبيها له بالأمور المكتوبة، وأن يكون كناية عن تحقيق العلم لأن الأشياء المكتوبة تكون محققة كقول الحارث بن حلزة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
ويؤكد هذا المعنى قوله {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} .
والضلال: الخطأ في العلم، شبه بخطأ الطريق. والنسيان: عدم تذكر الأمر المعلوم في ذهن العالم.
[53-54] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى}
هذه جمل ثلاث معترضة في أثناء قصة موسى.
فالجملة الأولى منها مستأنفة ابتدائية على عادة القرآن من تفنن لأغراض لتجديد نشاط الأذهان. ولا يحتمل أن تكون من كلام موسى إذ لا يناسب ذلك تفريع قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً} فقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} خبر لمبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم الأرض مهادا، والضمير عائد إلى الرب المفهوم من {ربي} [طه: 25]، أي هو رب موسى.
وتعريف جزأي الجملة يفيد الحصر، أي الجاعل الأرض مهادا فكيف تعبدون غيره. وهذا قصر حقيقي غير مقصود به الرد على المشركين ولكنه تذكير بالنعمة وتعريض بأن غيره ليس حقيقا بالإلهية.

وقرأ الجمهور {مِهادا} بكسر الميم وهو اسم بمعنى الممهود مثل الفراش واللباس. ويجوز أن يكون جمع مهد، وهو اسم لما يمهد للصبي، أي يوضع عليه ويحمل فيه، فيكون بوزن كعاب جمعا لكعب. ومعنى الجمع على اعتبار كثرة البقاع.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {مَهْداً} بفتح الميم وسكون الهاء، أي كالمهد الذي يمهد للصبي، وهو اسم بمصدر مهده، على أن المصدر بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق، ثم شاع ذلك فصار اسما لما يمهد.
ومعنى القراءتين واحد، أي جعل الأرض ممهوه مسهلة للسير والجلوس والاضطجاع بحيث لا نتوء فيها ألا نادرا يمكن تجنبه، كقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح:19-20]
{وسَلَكَ} فعل مشتق من السلوك والسلك الذي هو الدخول مجتازا وقاطعا في السير في الطريق تشبيها للسائر بالشيء الداخل في شيء آخر. يقال: سلك طريقا. فحق هذا الفعل أن يتعدى إلى مفعول واحد وهو المدخول فيه، ويستعمل متعديا بمعنى أسلك. وحقه أن يكون تعديه بهمزة التعدية فيقال: أسلك المسمار في اللوح، أي جعله سالكا إياه، إلا أنه كثر في الكلام تجريده من الهمزة كقوله تعالى {نسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجن: 17]. وكثر كون الاسم الذي كان مفعولا ثانيا يصير مجرورا بـ"في" كقوله تعالى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] بمعنى أسلككم سقر. وقوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الشعراء [200]. وقوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: من الآية21] في سورة الزمر. وقال الأعشى:
كما سلك السكي في الباب فيتق
أي أدخل المسمار في الباب نجار، فصار فعل سلك يستعمل قاصرا ومتعديا.
فأما قوله هنا: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} فهو سلك المتعدي، أي أسلك فيها سبلا، أي جعل سبلا سالكة في الأرض، أي داخلة فيها، أي متخللة. وذلك كناية عن كثرتها في جهات الأرض.
والمراد بالسبل: كل سبيل يمكن السير فيه سواء كان من أصل خلقة الأرض كالسهول والرمال، أو كان من أثر فعل الناس مثل الثنايا التي تكرر السير فيها فتعبدت وصارت طرقا يتابع الناس السير فيها.

ولما ذكر منة خلق الأرض شفعها بمنة إخراج النبات منها بما ينزل عليها من السماء من ماء. وتلك منة تنبئ عن خلق السماوات حيث أجرى ذكرها لقصد ذلك التذكير، ولذا لم يقل: وصببنا الماء على الأرض، كما في آية {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّا} [عبس:25-26]. وهذا إدماج بليغ.
والعدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله: {فَأَخْرَجْنَا} التفات. وحسنه هنا أنه بعد أن حج المشركين بحجة انفراده بخلق الأرض وتسخير السماء مما لا سبيل بهم إلى نكرانه ارتقى إلى صيغة المتكلم المطاع فإن الذي خلق الأرض وسخر السماء حقيق بأن تطيعه القوى والعناصر، فهو يخرج النبات من الأرض بسبب ماء السماء، فكان تسخير النبات أثرا لتسخير أصل تكوينه من ماء السماء وتراب الأرض.
ولملاحظة هذه النكتة تكرر في القرآن مثل هذا الالتفات عند ذكر الإنبات كما في قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: من الآية99]، وقوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} [فاطر: من الآية27]، وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} ، ومنها قوله في سورة الزخرف: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} [الزخرف: من الآية11] وقد نبه إلى ذلك في الكشاف ، ولله دره. ونظائره كثيرة في القرآن.
والأزواج: جمع زوج. وحقيقة الزوج أنه اسم لكل فرد من اثنين من صنف واحد. فكل أحد منهما هو زوج باعتبار الآخر، لأنه يصير بسبق الفرد الأول إياه زوجا. ثم غلب على الذكر والأنثى المقترنين من نوع الإنسان أو من الحيوان، قال تعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [المؤمنون: من الآية27، وقال: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة:39] وقال: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} . ولما شاعت فيه ملاحظة معنى اتحاد النوع تطرقوا من ذلك إلى استعمال لفظ الزوج في معنى النوع بغير قيد كونه ثانيا لآخر، على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يّس:36]، ومنه قوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان: من الآية10]. وفي الحديث "من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة..." الحديث، أي من أنفق نوعين مثل الطعام والكسوة، ومثل الخيل والرواحل. وهذا الإطلاق هو المراد هنا. أي فأنبتنا به أنواعا من نبات. وتقدم في سورة الرعد.

والنبات: مصدر سمي به النابت، فلكونه مصدرا في الأصل استوى فيه الواحد والجمع.
وشتى: جمع شتيت بوزن فعلى، مثل: مريض ومرضي.
والشتيت: المشتت، أي المبعد. وأريد به هنا التباعد في الصفات من الشكل واللون والطعم، وبعضها صالح للإنسان وبعضها للحيوان.
والجملة الثانية {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} مقول قول محذوف هو حال من ضمير {فَأَخْرَجْنَا} ، والتقدير: قائلين: كلوا وارعوا أنعامكم. والأمر للإباحة مراد به المنة. والتقدير: كلوا منها وارعوا أنعامكم منها. وهذا من مقابلة الجمع بالجمع لقصد التوزيع.
وفعل "رعى" يستعمل قاصرا ومتعديا. يقال: رعت الدابة ورعاها صاحبها. وفرق بينهما في المصدر فمصدر القاصر: الرعي، ومصدر المتعدي: الرعاية. ومنه قول النابغة:
رأيتك ترعاني بعين بصيرة
والجملة الثالثة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} معترضة مؤكدة للاستدلال؛ فبعد أن أشير إلى ما في المخلوقات المذكورة آنفا من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته، والمنة بها على الإنسان لمن تأمل، جمعت في هذه الجملة وصرح بما في جميعها من الآيات الكثيرة. وكل من الاعتراض والتوكيد مقتض لفصل الجملة.
وتأكيد الخبر بحرف "إن" لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين، لأنهم لم ينظروا في دلالة تلك المخلوقات على وحدانية الله، وهم يحسبون أنفسهم من أولي النهي، فما كان عدم اهتدائهم بتلك الآيات إلا لأنهم لم يعدوها آيات. لا جرم أن ذلك المذكور مشتمل على آيات جمة يتفطن لها ذوو العقول بالتأمل والتفكر، وينتبهون لها بالتذكير.
والنهى: اسم جمع نهية بضم النون وسكون الهاء، أي العقل، سمي نهية لأنه سبب انتهاء المتحلي به عن كثير من الأعمال المفسدة والمهلكة، ولذلك أيضا سمي بالعقل وسمي بالحجر.
[55] {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}

مستأنفة استئنافا ابتدائيا. وهذا إدماج للتذكير بالخلق الأول ليكون دليلا على إمكان الخلق الثاني بعد الموت. والمناسبة متمكنة؛ فإن ذكر خلق الأرض ومنافعها يستدعي إكمال ذكر المهم للناس من أحوالها، فكان خلق أصل الإنسان من الأرض شبيها بخروج النبات منها. وإخراج الناس إلى الحشر شبيه بإخراج النبات من الأرض. قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح:17-18].
وتقديم المجرورات الثلاثة على متعلقاتها؛ فأما المجرور الأول والمجرور الثالث فللاهتمام بكون الأرض مبدأ الخلق الأول والخلق الثاني. وأما تقديم {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} فللمزاوجة مع نظيريه.
ودل قوله تعالى: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} على أن دفن الأموات في الأرض هو الطريقة الشرعية لمواراة الموتى سواء كان شقا في الأرض أو لحدا، لأن كليهما إعادة في الأرض؛ فما يأتيه بعض الأمم غير المتدينة من إحراق الموتى بالنار، أو إغراقهم في الماء، أو وضعهم في صناديق فوق الأرض، فذلك مخالف لسنة الله وفطرته، لأن الفطرة اقتضت أن الميت يسقط على الأرض فيجب أن يوارى فيها. وكذلك كانت أول مواراة في البشر حين قتل أحد ابني آدم أخاه. كما قال تعالى في سورة العقود: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} [المائدة: من الآية31] فجاءت الشرائع الإلهية بوجوب الدفن في الأرض.
والتارة: المرة، وجمعها تارات. وأصل ألفها الواو. وقال ابن الأعرابي: أصل ألفها همزة فلما كثر استعمالهم لها تركوا الهمزة. وقال بعضهم: ظهر الهمز في جمعها على فعل فقالوا: تئر بالهمز. ويظهر أنها اسم جامد ليس له أصل مشتق منه.
والإخراج: هو إخراجها إلى الحشر بعد إعادة هياكل الأجسام في داخل الأرض، كما هو ظاهر قوله {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} ، ولذلك جعل الإخراج تارة ثانية للخلق الأول من الأرض. وفيه إيماء إلى أن إخراج الأجساد من الأرض بإعادة خلقها كما خلقت في المرة الأولى، قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الانبياء: من الآية104]
[56] {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى}
رجوع إلى قصص موسى عليه السلام مع فرعون. وهذه الجملة بين الجمل التي حكت محاورة موسى وفرعون وقعت هذه كالمقدمة لإعادة سوق ما جرى بين موسى

وفرعون من المحاورة. فيجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} باعتبار ما يقدر قبل المعطوف عليها من كلام حذف اختصارا، تقديره: فأتياه فقالا ما أمرناهما أن يقولاه قال فمن ربكما الخ. المعنى: فأتياه وقالا ما أمرناهما وأريناه آياتنا كلها على يد موسى عليه السلام.
ويجوز أن تكون الجملة معترضة بين ما قبلها، والواو اعتراضية.
وتأكيد الكلام بلام القسم و "قد" مستعمل في التعجيب من تصلب فرعون في عناده، وقصد منها بيان شدته في كفره وبيان أن لموسى آيات كثيرة أظهرها الله لفرعون فلم تجد في إيمانه.
وأجملت وعممت فلم تفصل، لأن المقصود هنا بيان شدة تصلبه في كفره بخلاف آية سورة الأعراف التي قصد منها بيان تعاقب الآيات ونصرتها.
وإراءة الله إياه الآيات: إظهارها له بحيث شاهدها.
وإضافة "آيات" إلى ضمير الجلالة هنا يفيد تعريفا لآيات معهودة، فإن تعريف الجمع بالإضافة يأتي لما يأتي له التعريف باللام يمون للعهد ويكون للاستغراق، والمقصود هنا الأول، أي أرينا فرعون آياتنا التي جرت على يد موسى، وهي المذكورة في قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: من الآية12] وهي انقلاب العصا حية، وتبدل لون اليد بيضاء، وسنو القحط، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطوفان، وانفلاق البحر. وقد استمر تكذيبه بعد جميعها حتى لما رأى انفلاق البحر اقتحمه طمعا للظفر ببني إسرائيل.
وتأكيد الآيات بأداة التوكيد {كلها} لزيادة التعجيب من عناده ونظيره قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا} في سورة القمر [القمر:41-42].
وظاهر صنيع المفسرين أنهم جعلوا جملة {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا} عطفا على جملة {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} ، وجملة {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا} بيانا لجملة {فَكَذَّبَ وَأَبَى} فيستلزم ذلك أن يكون عزم فرعون على إحضار السحرة متأخرا عن إرادة الآيات كلها فوقعوا في إشكال صحة التعميم في قوله تعالى {آيَاتِنَا كُلَّهَا} وكيف يكون ذلك قبل اعتراف السحرة بأنهم غلبوا مع أن كثيرا من الآيات إنما ظهر بعد زمن طويل مثل: سني القحط، والدم، وانفلاق البحر. وهذا الحمل لا داعي إليه لأن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا.

[57-59] {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً}
هذه الجملة متصلة بجملة {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} وجواب موسى عنها. وافتتاحها بفعل {قال} وعدم عطفه لا يترك شكا في أن هذا من تمام المحاورة.
وقوله: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ} يقتضي أنه أراه آية انقلاب العصا حية، وانقلاب يده بيضاء. وذلك ما سماه فرعون سحرا. وقد صرح بهذا المقتضى في قوله تعالى حكاية عنهما قال: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ...} الآية في سورة الشعراء [29-35]. وقد استغنى عن ذكره هنا بما في جملة {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} من العموم الشامل لآية انقلاب العصا حية.
وإضافته السحر إلى ضمير موسى قصد منها تحقير شأن هذا الذي سماه سحرا.
وأسند الإتيان بسحر مثله إلى ضمير نفسه تعظيما لشأنه. ومعنى إتيانه بالسحر: إحضار السحرة بين يديه، أي فلنأتينك بسحر ممن شأنهم أن يأتوا بالسحر، إذ السحر لا بد له من ساحر.
والمماثلة في قوله: {مِثْلِهِ} مماثلة في جنس السحر لا في قوته.
وإنما جعل فرعون العلة في مجيء موسى إليه: أنها قصده أن يخرجهم من أرضهم قياسا منه على الذين يقومون بدعوة ضد الملوك أنهم إنما يبغون بذلك إزالتهم عن الملك وحلولهم محلهم، يعني أن موسى عرته نفسه فحسب أنه يستطيع اقتلاع فرعون من ملكه، أي حسبت أن إظهار الخوارق يطوع لك الأمة فيجعلونك ملكا عليهم وتخرجني من أرضي. فضمير المتكلم المشارك مستعمل في التعظيم لا في المشاركة، لأن موسى لم يصدر عنه ما يشم منه إخراجهم من أرضهم.
ويجوز أن يكون ضمير المتكلم المشارك مستعملا في الجماعة تغليبا، ونزل فرعون

نفسه واحدا منها. وأراد بالجماعة جماعة بني إسرائيل حيث قال له موسى {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} [طه: 47]، أي جئت لتخرج بعض الأمة من أرضنا وتطمع أن يتبعك جميع الأمة بما تظهر لهم من سحرك.
والاستفهام في {أَجِئْتَنَا} إنكاري، ولذلك فرع عليه القسم على أن يأتيه بسحر مثله. والقسم من أساليب إظهار الغضب.
واللام لام القسم، والنون لتوكيده. وقصد فرعون من مقابلة عمل موسى بمثله أن يزيل ما يخالج نفوس الناس من تصديق موسى وكونه على الحق، لعل ذلك يفضي بهم إلى الثورة على فرعون وإزالته من ملك مصر.
وفرع على ذلك طلب تعيين موعد بينه وبين موسى ليحضر له فيه القائمين بسحر مثل سحره.
والموعد هنا يجوز أن يراد به المصدر الميمي، أي الوعد وأن يراد به مكان الوعد، وهذا إيجاز في الكلام.
وقوله: {مَكَاناً} بدل اشتمال من {مَوْعِداً} بأحد معنييه، لأن الفعل يقتضي مكانا وزمانا فأبدل منه مكانه.
وقوله: {لا نُخْلِفُهُ} في قراءة الجمهور برفع الفعل صفة ل {مَوْعِداً} باعتبار معناه المصدري. وقرأه أبو جعفر بجزم الفاء من {نخلفه} على أن "لا" ناهية. والنهي تحذير من إخلافه.
و {سوَىً} قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي بكسر السين. وقرأه عاصم، وحمزة، وابن عامر، ويعقوب، وخلف بضم السين وهما لغتان. فالكسر بوزن فعل، قال أبو علي: وزن فعل يقل في الصفات، نحو: قوم عدى. وقال أبو عبيده، وأبو حاتم، والنحاس: كسر السين هو اللغة العالية الفصيحة، وهو اسم وصف مشتق من الاستواء: فيجوز أن يكون الاستواء استواء التوسط بين جهتين. وأنشد أبو عبيده لموسى بن جابر الحنفي:
وإن أبانا كان حل ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
"الفزر: لقب لسعد بن زيد مناة بن تميم هو بكسر الفاء".

والمعنى: قال مجاهد: إنه مكان نصف، وكأن المراد أنه نصف من المدينة لئلا يشق الحضور فيه على أهل أطراف المدينة. وعن ابن زيد: المعنى مكانا مستويا، أي ليس فيه مرتفعات تحجب العين، أراد مكانا منكشفا للناظرين ليشهدوا أعمال موسى وأعمال السحرة.
ثم تعيين الموعد غير المخلف يقتضي زمانه لا محالة، إذ لا يتصور الإخلاف إلا إذا كان الوعد وقت معين ومكان معين، فمن ثم طابقه جواب موسى بقوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً}
فيقتضي أن محشر الناس في يوم الزينة كان مكانا معروفا. ولعله كان بساحة قصر فرعون، لأنهم يجتمعون بزينتهم ولهوهم بمرأى منه ومن أهله على عادة الملوك في المواسم.
فقوله: {يَوْمُ الزِّينَةِ} تعيين للوقت، وقوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ} تعيين للمكان، وقوله: {ضُحىً} تقييد لمطلق الوقت.
والضحى: وقت ابتداء حرارة الشمس بعد طلوعها.
ويوم الزينة كان يوم عيد عظيم عند القبط، وهو يوم كسر الخليج أو الخلجان، وهي المنافذ والترع المجعولة على النيل لإرسال الزائد من مياهه إلى الأرضين البعيدة عن مجراه للشقي، فتنطلق المياه في جميع النواحي التي يمكن وصولها إليها ويزرعون عليها.
وزيادة المياه في النيل هو توقيت السنة القبطية، وذلك هو أول يوم من شهر "توت" القبطي. وهو "أيلول" بحسب التاريخ الاسكندري، وذلك قبل حلول الشمس في برج الميزان بثمانية عشر يوما، أي قبل فصل الخريف بثمانية عشر يوما، فهو يوافق اليوم الخامس عشر من شهر تشرين "سبتمبر". وأول أيام شهر "توت" هو يوم النيروز عند الفرس، وذلك مبني على حساب انتهاء زيادة النيل لا على حساب بروج الشمس.
واختار موسى هذا الوقت وهذا المكان لأنه يعلم أن سيكون الفلج له، فأحب أن يكون ذلك في وقت أكثر مشاهدا وأوضح رؤية.
[60-60] {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}

تفريع التولي وجمع الكيد على تعيين موسى للموعد إشارة إلى أن فرعون بادر بالاستعداد لهذا الموعد ولم يضع الوقت للتهيئة له.
والتولي: الانصراف، وهو هنا مستعمل في حقيقة، أي انصرف عن ذلك المجلس إلى حيث يرسل الرسل إلى المدائن لجمع من عرفوا بعلم السحر، وهذا كقوله تعالى في سورة النازعات: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى*فَحَشَرَ فَنَادَى} [النازعات: 23]
ومعنى جمع الكيد: تدبير أسلوب مناظرة موسى، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه، وإقناع الحاضرين بأن موسى ليس على شيء.
وهذا أسلوب قديم في المناظرات: أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجة خصمه بكل وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير، ومباداته بما يفت في عضده ويشوش رأيه حتى يذهب منه تدبيره.
فالجمع هنا مستعمل في معنى إعداد الرأي، واستقصاء ترتيب الأمر، كقوله: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71]، أي جمع رأيه وتدبيره الذي يكيد به موسى. ويجوز أن يكون المعنى فجمع أهل كيده، أي جمع السحرة، على حد قوله تعالى: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:38]
والكيد: إخفاء ما به الضر إلى وقت فعله. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} في سورة الأعراف [183].
ومعنى {ثُمَّ أَتَى} ثم حضر الموعد، وثم للمهلة الحقيقية والرتبية معا، لأن حضوره للموعد كان بعد مضي مهلة الاستعداد، ولأن ذلك الحضور بعد جمع كيده أهم من جمع الكيد، لأن فيه ظهور أثر ما أعده.
وجملة {قَالَ لَهُمْ مُوسَى} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن قوله: {ثُمَّ أَتَى} يثير سؤالا في نفس السامع أن يقول: فماذا حصل حين أتى فرعون ميقات الموعد. وأراد موسى مفاتحة السحرة بالموعظة.
وضمير {لَهُمْ} عائد إلى معلوم من قوله: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} أي بأهل سحر، أو يكون الخطاب للجميع، لأن ذلك المحضر كان بمرأى ومسمع من فرعون وحاشيته، فيكون معاد الضمير ما دل عليه قوله {فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} أي جمع رجال كيده.

والخطاب بقوله: {وَيْلَكُمْ} يجوز أن يكون أراد به حقيقة الدعاء، فيكون غير جار على ما أمر به من إلانة القول لفرعون: إما لأن الخطاب بذلك لم يكن مواجها به فرعون بل واجه به السحرة خاصة الذين اقتضاهم قوله تعالى: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} ، أي قال موسى لأهل كيد فرعون؛ وإما لأنه لما رأى أن إلانة القول له غير نافعة، إذ لم يزل على تصميمه على الكفر، أغلظ القول زجرا له بأمر خاص من الله في تلك الساعة تقييدا لمطلق الأمر بإلانة القول، كما أذن لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآيات في سورة الحج [39]؛ وإما لأنه لما رأى تمويههم على الحاضرين أن سحرهم معجزة لهم من آلهتهم ومن فرعون ربهم الأعلى وقالوا: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44] رأى واجبا عليه تغيير المنكر بلسانه بأقصى ما يستطيع، لأن ذلك التغيير هو المناسب لمقام الرسالة.
ويجوز أن تكون كلمة {وَيْلَكُمْ} مستعملة في التعجب من حال غريبة، أي أعجب منكم وأحذركم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: " ويل أمه مسعر حرب" فحكي تعجب موسى باللفظ العربي الدال على العجب الشديد.
والويل: اسم للعذاب والشر، وليس له فعل.
وانتصب {وَيْلَكُمْ} إما على إضمار فعل على التحذير أو الإغراء، أي الزموا ويلكم، أو احذروا ويلكم؛ وإما على إضمار حرف النداء فإنهم يقولون: يا ويلنا، ويا ويلتنا، وتقدم عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة [79].
والافتراء: اختلاق الكذب. والجمع بينه وبين {كَذِباً} للتأكيد، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة المائدة [103].
والافتراء الذي عناه موسى هو ما يخيلونه للناس من الشعوذة، ويقولون لهم: انظروا كيف تحرك الحبل فصار ثعبانا، ونحو ذلك من توجيه التخيلات بتمويه أنها حقائق، أو قولهم: ما نفعله تأييد من الله لنا، أو قولهم: إن موسى كاذب وساحر، أو قولهم: إن فرعون إلههم، أو آلهة فرعون آلهة. وقد كانت مقالات كفرهم أشتاتا.
قرأ الجمهور {فيُسْحِتَكُمْ} بفتح الياء مضارع سحته: إذا استأصله، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، ورويس عن يعقوب بضم الياء التحتية من أسحته، وهي لغة نجد وبني تميم، وكلتا اللغتين فصحى.

وجملة {قَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} في موضع الحال من ضمير {لا تَفْتَرُوا} وهي مسوقة مساق التعليل للنهي، أي اجتنبوا الكذب على الله فقد خاب من افترى عليه من قبل. بعد أن وعظهم فنهاهم عن الكذب على الله وأنذرهم عذابه ضرب لهم مثلا بالأمم البائدة الذين افتروا الكذب على الله فلم ينجحوا فيما افتروا لأجله.
و {من} الموصولة للعموم.
وموقع هذه الجملة بعد التي قبلها كموقع القضية الكبرى من القياس الاقتراني.
وفي كلام موسى إعلان بأنه لا يتقول على الله ما لم يأمره به لأنه يعلم أنه يستأصله بعذاب ويعلم خيبة من افترى على الله، ومن كان يعلم ذلك لا يقدم عليه.
[62-64] {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}
أي تفرع على موعظة موسى تنازعهم الأمر بينهم، وهذا يؤذن بأن منهم من تركت فيه الموعظة بعض الأثر، ومنهم من خشي الانخذال، فلذلك دعا بعضهم بعضا للتشاور فيما ذا يصنعون.
والتنازع: تفاعل من النزع، وهو الجذب من البئر، وجذب الثوب من الجسد، وهو مستعمل تمثيلا في اختلاف الرأي ومحاولة كل صاحب رأي أن يقنع المخالف له بأن رأيه هو الصواب. فالتنازع: التخالف.
والنجوى: الحديث السري، أي اختلوا وتحادثوا سرا ليصدروا عن رأي لا يطلع عليه غيرهم، فجعل النجوى معمولا لـ {أَسَرُّوا} يفيد المبالغة في الكتمان، كأنه قيل: أسروا سرهم، كما يقال: شعر شاعر.
وزاده مبالغة قوله: {بينهم} المقتضي أن النجوى بين طائفة خاصة لا يشترك معهم فيها غيرهم.
وجملة {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} بدل اشتمال من جملة {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} لأن إسرار النجوى يشتمل على أقوال كثيرة ذكر منها هذا القول، لأنه القول الفصل بينهم والرأي الذي أرسوا عليه، فهو زبدة مخيض النجوى. وذلك شأن التشاور وتنازع الآراء أن

يسفر عن رأي يصدر الجميع عنه.
وإسناد القول إلى ضمير جمعهم على معنى: قال بعضهم: هذان لساحران، فقال جميعهم: نعم هذان لساحران، فأسند هذا القول إلى جميعهم، أي مقالة تداولوا الخوض في شأنها فأرسوا عليها وقال بعضهم لبعض: نعم هو كذلك، ونطقوا بالكلام الذي استقر عليه رأيهم، وهو تحققهم أن موسى وأخاه ساحران.
واعلم أن جميع القراء المعتبرين قرأوا بإثبات الألف في اسم الإشارة من قوله: "هاذان" ما عدا أبا عمرو من العشرة وما عدا الحسن البصري من الأربعة عشر. وذلك يوجب اليقين بأن إثبات الألف في لفظ هذان أكثر تواترا بقطع النظر عن كيفية النطق بكلمة "إن" مشددة أو مخففة، وأن أكثر مشهور القراءات المتواترة قرأوا بتشديد نون "إن" ما عدا ابن كثير وحفصا عن عاصم فهما قرءا "إن" بسكون النون على أنها مخففة من الثقيلة.
وإن المصحف الإمام ما رسموه إلا اتباعا لأشهر القراءات المسموعة المروية من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقراء أصحابه، فإن حفظ القرآن في صدور القراء أقدم من كتابته في المصاحف، وما كتب في أصول المصاحف إلا من حفظ الكاتبين، وما كتب المصحف الإمام إلا من مجموع محفوظ الحفاظ وما كتبه كتاب الوحي في مدة نزول الوحي.
فأما قراءة الجمهور {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} بتشديد نون "إن" وبالألف في {هَذَانِ} وكذلك في {لَسَاحِرَانِ} فللمفسرين في توجيهها آراء بلغت الستة. وأظهرها أن تكون {إن} حرف جواب مثل: نعم وأجل، وهو استعمال من استعمالات "إن" أي اتبعوا لما استقر عليه أمرهم بعد النجوى كقول عبد الله بن قيس الرقيات:
ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت فقلت إنه
أي أجل أو نعم، والهاء في البيت هاء السكت، وقول عبد الله بن الزبير لأعرابي استجداه فلم يعطه، فقال الأعرابي: لعن الله ناقة حملتني إليك. قال ابن الزبير: أن وراكبيها. وهذا التوجيه من مبتكرات أبي إسحاق الزجاج ذكره في تفسيره . وقال: عرضته على عالمينا وشيخينا وأستاذينا محمد بن يزيد يعني المبرد، وإسماعيل بن إسحاق بن حماد يعني القاضي الشهير فقبلاه وذكرا أنه أجود ما سمعاه في هذا.
وقلت: لقد صدقا وحققا. وما أورده ابن جني عليه من الرد فيه نظر.

وفي التفسير الوجيز للواحدي سأل إسماعيل القاضي "هو ابن إسحاق بن حماد" ابن كيسان عن هذه المسألة، فقال ابن كيسان: لما لم يظهر في المبهم إعراب في الواحد ولا في الجمع "أي في قولهم هذا وهؤلاء إذ هما مبنيان" جرت التثنية مجرى الواحد إذ التثنية يجب أن لا تغير. فقال له إسماعيل: ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول فيه حتى يؤنس به? فقال له ابن كيسان: فليقل به القاضي حتى يؤنس به، فتبسم.
وعلى هذا التوجيه يكون قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} حكاية لمقال فريق من المتنازعين، وهو الفريق الذي قبل هذا الرأي لأن حرف الجواب يقتضي كلاما سبقه.
ودخلت اللام على الخبر: إما على تقدير كون الخبر جملة حذف مبتدأها وهو مدخول اللام في التقدير، ووجود اللام ينبئ بأن الجملة التي وقعت خبرا عن اسم الإشارة جملة قسمية؛ وإما على رأي من يجيز دخول اللام على خبر المبتدأ في غير الضرورة.
ووجهت هذه القراءة أيضا بجعل "إن" حرف توكيد وإعراب اسمها المثنى جرى على لغة كنانة وبالحارث بن كعب الذين يجعلون علامة إعراب المثنى الألف في أحوال الإعراب كلها، وهي لغة مشهورة في الأدب العربي ولها شواهد كثيرة منها قول المتلمس:
فأطرق إطراق الشجاع ولو درى ... مساغا لنأباه الشجاع لصمما
وقرأه حفص بكسر الهمزة وتخفيف نون "إن" مسكنة على أنها مخففة "إن" المشددة. ووجه ذلك أن يكون اسم "إن" المخففة ضمير شأن محذوفا على المشهور. وتكون اللام في {لَسَاحِرَانِ} اللام الفارقة بين "إن" المخففة وبين "إن" النافية.
وقرأ ابن كثير بسكون نون "إن" على أنها مخففة من الثقيلة وبإثبات الألف في "هذان" وبتشديد نون {هاذان}.
وأما قراءة أبي عمرو وحده {إن هذين} بتشديد نون "إن" وبإلياء بعد ذال "هذين". فقال القرطبي: هي مخالفة للمصحف. وأقول: ذلك لا يطعن فيها لأنها رواية صحيحة ووافقت وجها مقبولا في العربية.
ونزول القرآن بهذه الوجوه الفصيحة في الاستعمال ضرب من ضروب إعجازه لتجري تراكيبه على أفانين مختلفة المعاني متحدة المقصود. قلا التفات إلى ما روي من ادعاء أن كتابة "إن هاذان" خطأ من كاتب المصحف، وروايتهم ذلك عن أبان بن عثمان بن عفان

عن أبيه، وعن عروة بن الزبير عن عائشة، وليس في ذلك سند صحيح. حسبوا أن المسلمين أخذوا قراءة القرآن من المصاحف وهذا تغفل، فإن المصحف ما كتب إلا بعد أن قرأ المسلمون القرآن نيفا وعشرين سنة في أقطار الإسلام، وما كتبت المصاحف إلا من حفظ الحفاظ، وما أخذ المسلمون القرآن إلا من أفواه حفاظه قبل أن تكتب المصاحف، وبعد ذلك إلى اليوم فلو كان في بعضها خطأ في الخط لما تبعه القراء، ولكان بمنزلة ما ترك من الألفات في كلمات كثيرة وبمنزلة كتابة ألف الصلاة، والزكاة، والحياة، والربا بالواو في موضع الألف وما قرأوها إلا بألفاتها.
وتأكيد السحرة كون موسى وهارون ساحرين بحرف "إن" لتحقيق ذلك عند من يخامره الشك في صحة دعوتهما.
وجعل ما أظهره موسى من المعجزة بين يدي فرعون سحرا لأنهم يطلقون السحر عندهم على خوارق العادات، كما قالت المرأة التي شاهدت نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم لقومها: جئتكم من عند أسحر الناس، وهو في كتاب المغازي من صحيح البخاري .
والقائلون: قد يكون بعضهم ممن شاهد ما أتى به موسى في مجلس فرعون، أو ممن بلغهم ذلك بالتسامع والاستفاضة.
والخطاب في قوله: {أَنْ يُخْرِجَاكُمْ} لملئهم. ووجه اتهامه بذلك هو ما تقدم عند قوله تعالى: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} [طه: 57]. ونزيد هنا أن يكون هذا من النجوى بين السحرة، أي يريدان الاستئثار بصناعة السحر في أرضكم فتخرجوا من الأرض بإهمال الناس لكم وإقبالهم على سحر موسى وهارون.
والطريقة: السنة والعادة؛ شبهت بالطريق الذي يسير فيه السائر، لجامع الملازمة.
والمثلى: مؤنث الأمثل. وهو اسم تفصيل مشتق من المثالة، وهي حسن الحالة يقال: فلان أمثل قومه، أي أقربهم إلى الخير وأحسنهم حالا.
وأرادوا من هذا إثارة حمية بعضهم غيرة على عوائدهم، فإن لكل أمة غيرة على عوائدها وشرائعها وأخلاقها. ولذا فرعوا على ذلك أمرهم بأن يجمعوا حيلهم وكل ما في وسعهم أن يغلبوا به موسى.
والباء في {بطريقتكم} لتعدية فعل {يذهبا} . والمعنى: يذهبانها، وهو أبلغ في تعلق

الفعل بالمفعول من نصب المفعول. وتقدم عند قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] في أول سورة البقرة.
وقرأ الجمهور {فأجمعوا} بهمزة قطع وكسر الميم أمرا من: أجمع أمره، إذا جعله متفقا عليه لا يختلف فيه.
وقرأ أبو عمرو {فاجمعوا} بهمزة وصل وبفتح الميم أمرا من جمع، كقوله فيما مضى {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه: 60]. أطلق الجمع على التعاضد والتعاون، تشبيها للشيء المختلف بالمتفرق، وهو مقابل قوله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ} .
وسموا عملهم كيدا لأنهم تواطئوا على أن يظهروا للعامة أن ما جاء به موسى ليس بعجيب، فهم يأتون بمثله أو أشد منه ليصرفوا الناس عن سماع دعوته فيكيدوا له بإبطال خصيصية ما أتى به.
والظاهر أن عامة الناس تسامعوا بدعوة موسى، وما أظهره الله على يديه من المعجزة، وأصبحوا متحيرين في شأنه، فمن أجل ذلك اهتم السحرة بالكيد له، وهو ما حكاه قوله تعالى في آية سورة الشعراء {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:38-40]
ودبروا لإرهاب الناس وإرهاب موسى وهارون بالاتفاق على أن يأتوا حين يتقدمون لإلقاء سحرهم مصطفين لأن ذلك أهيب لهم.
ولم يزل الذين يرومون إقناع العموم بأنفسهم يتخيرون لذلك بهاء الهيئة وحسن السمت وجلال المظهر. فكان من ذلك جلوس الملوك على جلود الأسود، وربما لبس الأبطال جلود النمور في الحرب. وقد فسر به فعل تنمروا في قول ابن معد يكرب:
قوم إذا لبسوا الحديد ... تنمروا حلقا وقدا
وقيل: إن ذلك المراد من قولهم الجاري مجرى المثل لبس لي فلان جلد النمر. وثبت في التاريخ المستند للآثار أن كهنة القبط في مصر كانوا يلبسون جلود النمور.
والصف: مصدر معنى الفاعل أو المفعول، أي صافين أو مصفوفين، إذا ترتبوا واحدا حذو الآخر بانتظام بحيث لا يكونون مختلطين، لأنهم إذا كانوا الواحد حذو الآخر وكان الصف منهم تلو الآخر كانوا أبهر منظرا، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]. وكان جميع سحرة البلاد المصرية قد أحضروا بأمر فرعون

فكانوا عددا كثيرا. فالصف هنا مراد به الجنس لا الوحدة، أي ثم ائتوا صفوفا، فهو كقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} [النبأ: من الآية38] وقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22]
وانتصب {صفا} على الحال من فاعل {ائتوا} . والمقصود الإتيان إلى موضع إلقاء سحرهم وشعوذتهم، لأن النتاجي والتآمر كان في ذلك اليوم بقرينة قولهم {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} .
وجملة {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} تذييل للكلام يجمع ما قصدوه من تآمرهم بأن الفلاح يكون لمن غلب وظهر في ذلك الجمع. فـ {استعلى} مبالغة في علا، أي علا صاحبه وقهره. فالسين والتاء للتأكيد مثل استأخر.
وأرادوا الفلاح في الدنيا لأنهم لم يكونوا يؤمنون بأن أمثال هذه المواقف مما يؤثر في حال الحياة الأبدية وإن كانوا يؤمنون بالحياة الثانية.
[65-66] {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}
تقدمت هذه القصة ومعانيها في سورة الأعراف سوى أن الأولية هنا مصرح بها في أحد الشقين. فكانت صريحة في أن التخيير يتسلط على الأولية في الإلقاء، وسوى أنه صرح هنا بأن السحر الذي ألقوه كان بتخييل أن حبالهم وعصيهم ثعابين تسعى لأنها لا يشبهها في شكلها من أنواع الحيوان سوى الحيات والثعابين.
والمفاجأة المستفادة من {إذا} دلت على أنهم أعدوها للإلقاء وكانوا يخشون أن يمر زمان تزول به خاصياتها فلذلك أسرعوا بإلقائها.
وقرأ الجمهور {يخيل} بتحتية في أول الفعل على أن فاعله المصدر من قوله: {أَنَّهَا تَسْعَى} . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، وروح عن يعقوب "تخيل" بفوقية في أوله على أن الفعل رافع لضمير {حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} ، أي هي تخيل إليه.
و {أَنَّهَا تَسْعَى} بدل من الضمير المستتر بذل اشتمال.
وهذا التخييل الذي وجده موسى من سحر السحرة هو أثر عقاقير يشربونها تلك الحبال والعصي، وتكون الحبال من صنف خاص، والعصي من أعواد خاصة فيها فاعلية

لتلك العقاقير، فإذا لاقت شعاع الشمس اضطربت تلك العقاقير فتحركت الحبال والعصي. قيل: وضعوا فيها طلاء الزئبق. وليس التخييل لموسى من تأثير السحر في نفسه لأن نفس الرسول لا تتأثر بالأوهام، ويجوز أن تتأثر بالمؤثرات التي يتأثر منها الجسد كالمرض، ولذلك وجب تأويل ظاهر حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في سحر النبي صلى الله عليه وسلم وأخبار الآحاد لا تنقض القواطع. وليس هذا محل ذكره وقد حققته في كتابي المسمى النظر الفسيح على صحيح البخاري.
و {من} في قوله: {مِنْ سِحْرِهِمْ} للسببية كما في قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح:25].
[67-69] {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}
أوجس: أضمر واستشعر. وانتصاب {خِيفَةً} على المفعولية، أي وجد في نفسه. وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى: {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: من الآية70] في سورة هود.
و { خِيفَةً} اسم هيئة من الخوف، أريد به مطلق المصدر. وأصله خوفة، فقلبت الواو ياء لوقوعها أثر كسرة.
وزيادة {فِي نَفْسِهِ} هنا للإشارة إلى أنها خيفة تفكر لم يظهر أثرها على ملامحه. وإنما خاف موسى من أن يظهر أمر السحرة فيساوي ما يظهر على يديه من انقلاب عصاه ثعبانا، لأنه يكون قد ساواهم في عملهم ويكونون قد فاقوه بالكثرة، أو خشي أن يكون الله أراد استدراج السحرة مدة فيملي لهم بظهور غلبهم عليه ومده لما تكون له العاقبة فخشي ذلك. وهذا مقام الخوف، وهو مقام جليل مثله مقام النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر إذ قال: "اللهم إني أسألك نصرك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض" .
والدليل على هذا قوله تعالى: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} . فتأكيد الجملة بحرف التأكيد وتقوية تأكيدها بضمير الفصل وبالتعريف في {الأعلى} دليل على أن ما خامره من الخوف إنما هو خوف ظهور السحرة عند العامة ولو في وقت ما. وهو وإن كان موقنا بأن الله ينجز له ما أرسله لأجله لكنه لا مانع من أن يستدرج الله الكفرة مدة قليلة لإظهار ثبات إيمان المؤمنين، كما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران:196، 197]

وعبر عن العصا بـ {ما} الموصولة تذكيرا له بيوم التكليم إذ قال له {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] ليحصل له الاطمئنان بأنها صائرة إلى الحالة التي صارت إليها يومئذ، ولذلك لم يقل له: وألق عصاك.
والتلقف: الابتلاع. وقرأه الجمهور بجزم {تلقف} في جواب قوله: {وألق} . وقرأه ابن ذكوان برفع {تلقف} على الاستئناف.
وقرأ الجمهور {تلقف} بفتح اللام وتشديد القاف.
وقرأه حفص بسكون اللام وفتح القاف من لقف كفرح.
وجملة {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} مستأنفة ابتدائية، وهي مركبة من "إن" و "ما" الموصولة. و {كَيْدُ سَاحِرٍ} خبر "إن". والكلام إخبار بسيط لا قصر فيه. وكتب "إنما" في المصحف موصولة "إن" بـ"ما" الموصولة كما توصل بـ"ما" الكافة في نحو {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة:173] ولم يكن المتقدمون يتوخون الفروق في رسم الخط.
وقرأ الجمهور {كَيْدُ سَاحِرٍ} بألف بعد السين. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف {كَيْدُ سَاحِرٍ} بكسر السين.
وجملة {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} من تمام الجملة التي قبلها، فهي معطوفة عليها وحال من ضمير {إِنَّمَا صَنَعُوا} ، أي لا ينجح الساحر حيث كان، لأن صنعته تنكشف بالتأمل وثبات النفس في عدم التأثر بها. وتعريف {السَّاحِرُ} تعريف الجنس لقصد الجنس المعروف، أي لا يفلح بها كل ساحر.
واختير فعل {أَتَى} دون نحو: حيث كان، أو حيث حل، لمراعاة كون معظم أولئك السحرة مجلوبون من جهات مصر، وللرعاية على فواصل الآيات الواقعة على حرف الألف المقصورة.
وتعميم {حَيْثُ أَتَى} لعموم الأمكنة التي يحضرها، أي بسحره.
وتعليق الحكم بوصف الساحر يقتضي أن نفي الفلاح عن الساحر في أمور السحر لا في تجارة أو غيرها. وهذا تأكيد للعموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، لأن عموم الأشياء يستلزم عموم الأمكنة التي تقع فيها.
[70-71] {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ

أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}
الفاء عاطفة على محذوف يدل عليه قوله: {وَأَلقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه: 69]. والتقدير: فألقي فتلقفت ما صنعوا، كقوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63].
والإلقاء: الطرح على الأرض. وأسند الفعل إلى المجهول لأنهم لا ملقي لهم إلا أنفسهم، فكأنه قيل: فألقوا أنفسهم سجدا، فإن سجودهم كان إعلانا باعترافهم أن موسى مرسل من الله. ويجوز أن يكون سجودهم تعظيما لله تعالى.
ويجوز أن يكون دلالة على تغلب موسى عليهم فسجدوا تعظيما له.
ويجوز أن يريدوا به تعظيم فرعون، جعلوه مقدمة لقولهم: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} حذرا من بطشه.
وسجد: جمع ساجد.
وجملة: {قالوا} يصح أن تكون في موضع الحال، أي ألقوا قائلين. ويصح أن تكون بدل اشتمال من جملة {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} فإن سجودهم اشتمل على إيمانهم، وأن تكون مستأنفة ابتدائية لافتتاح المحاورة بينهم وبين فرعون.
وإنما آمنوا بالله حينئذ لأنهم أيقنوا أن ما جرى على يد موسى ليس من جنس السحر لأنهم أئمة السحر فعلموا أنه آية من عند الله.
وتعبيرهم عن الرب بطريق الإضافة إلى هارون وموسى لأن الله لم يكن يعرف بينهم يومئذ إلا بهذه النسبة لأن لهم أربابا يعبدونها ويعبدها فرعون.
وتقديم هارون على موسى هنا وتقديم موسى على هارون في قوله تعالى في سورة الأعراف [121، 122]: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} لا دلالة فيه على تفضيل ولا غيره، لأن الواو العاطفة لا تفيد أكثر من مطلق الجمع في الحكم المعطوف فيه، فهم عرفوا الله بأنه رب هذين الرجلين؛ فحكي كلامهم بما يدل على ذلك؛ إلا ترى أنه حكي في سورة الأعراف [121] قول السحرة: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ولم يحك ذلك هنا، لأن حكاية الأخبار لا تقتضي الإحاطة بجميع المحكي وإنما المقصود موضع العبرة في ذلك المقام بحسب الحاجة.

ووجه تقديم هارون هنا الرعاية على الفاصلة، فالتقديم وقع في الحكاية لا في المحكي، إذ وقع في الآية الأخرى {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ*رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [لأعراف:122] ويجوز أن يكون تقديم هارون في هذه الآية من حكاية قول السحرة، فيكون صدر منهم قولان، قدموا في أحدهما اسم هارون اعتبارا بكبر سنه، وقدموا اسم موسى في القول الآخر اعتبارا بفضله على هارون بالرسالة وكلام الله تعالى، فاختلاف العبارتين باختلاف الاعتبارين.
ويقال: آمن له، أي حصل عنده الإيمان لأجله. كمه يقال: آمن به، أي حصل الإيمان عنده بسببه، وأصل الفعل أن يتعدى بنفسه لأن آمنه بمعنى صدقه. ولكنه كاد أن لا يستعمل في معنى التصديق ألا بأحد هذين الحرفين.
وقرأ قالون وورش من طريق الأزرق، وأبن عامر، وأبو عمرو، وأبوجعفر، وروح عن يعقوب {آمنتم} بهمزة واحدة بعدها مدة وهي المدة الناشئة عن تسهيل الهمز الأصلية في فعل آمن، على أن الكلام استفهام.
وقرأه ورش عن طريق الأصفهاني، وابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب بهمزة واحدة على أن الكلام خبر، فهو خبر مستعمل في التوبيخ.
وقرأه حمزة، والكساءي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بهمزتين على الاستفهام أيضا.
ولما رأى فرعون إيمان السحرة تغيظ ورام عقابهم ولكنه علم أن العقاب على الأيمان بموسى بعد أن فتح باب المناظرة معه نكث لأصول المناظرة فاختلق للتشفي من الذين آمنوا علة إعلانهم الإيمان قبل استئذان فرعون، فعد ذلك جرأة عليه، وأوهم أنهم لو استأذنوه لأذن لهم، واستخلص من تسرعهم بذلك أنهم تواطؤا مع موسى من قبل فأظهروا العجز عند مناظرته. ومقصد فرعون من هذا إقناع الحاضرين بأن موسى لم يأت بما يعجز السحرة إدخالا للشك على نفوس الذين شاهدوا الآيات. وهذه شنشنة من قديم الزمان اختلاق المغلوب بارد العذر. ومن هذا القبيل اتهام المحكوم عليهم الحاكمين بالارتشاء، واتهام الدول المغلوبة في الحروب قواد الجيوش بالخيانة.
وضمير {له} عائد إلى موسى مثل ضمير {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} .

ومعنى {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لكم} قبل أن أسوغ لكم أن تؤمنوا به.يقال: أذن له، إذ أباح له شيئا.
والتقطيع: شدة القطع. ومرجع المبالغة إلى الكيفية، وهي ما وصفه بقوله: {مِنْ خِلاَفٍ} أي مختلفة، بأن لا تقطع على جانب واحد بل من جانبين مختلفين، أي تقطع اليد ثم الرجل من الجهة المخالفة لجهة اليد المقطوعة ثم اليد الأخرى ثم الرجل الأخرى. والظاهر: أن القطع على هذه الكيفية كان شعارا لقطع المجرمين، فيكون ذكر هذه الصفة حكاية للواقع لا للاحتراز عن قطع بشكل آخر، إذ لا أثر لهذه الصفة في تفظيع ولا في شدة إيلام إذا كان ذلك يقع متتابعا.
وأما ما جاء في الإسلام في عقوبة المحارب فإنما هو قطع عضو واحد عند كل حرابة فهو من الرحمة في العقوبة لئلا يتعطل انتفاع المقطوع بباقي أعضائه من جراء قطع يد ثم رجل من جهة واحدة، أو قطع يد بعد يد وبقاء الرجلين.
و"من" في قوله: {مِنْ خِلاَفٍ} للابتداء، أي يبدأ القطع من مبدأ المخالفة بين المقطوع. والمجرور في موضع الحال، وقد تقدم نظيره في سورة الأعراف وفي سورة المائدة.
والتصليب: مبالغة في الصلب. والصلب: ربط الجسم على عود منتصب أو دقه عليه بمسامير، وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء157] في سورة النساء. والمبالغة راجعة إلى الكيفية أيضا بشدة الدق على الأعواد.
ولذلك عدل عن حرف الاستعلاء إلى حرف الظرفية تشبيها لشدة تمكن المصلوب من الجذع بتمكن الشيء الواقع في وعائه.
والجذوع: جمع جذع بكسر الجيم وسكون الذال وهو عود النخلة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]. وتعدية فعل {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} بحرف "في" مع أن الصلب يكون فوق الجذع لا داخله ليدل على أنه صلب متمكن يشبه حصول المظروف في الظرف، فحرف "في" استعارة تبعية تابعة لاستعارة متعلق معنى "في" لمتعلق معنى "على".
وأينا: استفهام عن مشتركين في شدة التعذيب. وفعل {لتعلمن} معلق عن العمل الاستفهام في آخره. وأراد بالمشتركين نفسه ورب موسى سبحانه لأنه علم من قولهم: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [الشعراء: 47] أن الذي حملهم على الإيمان به ما قدم لهم

موسى من الموعظة حين قال لهم بمسمع من فرعون {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: من الآية61]، أي وستجدون عذابي أشد من العذاب الذي حذرتموه. وهذا من عروره. ويدل على أن ذلك مراد فرعون ما قابل به المؤمنون قوله: {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} بقولهم {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: من الآية73]، أي خير منك وأبقى عملا من عملك، فثوابه خير من رضاك وعذابه أشد من عذابك.
[72-73] {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
أظهروا استخفافهم بوعيده وبتعذيبه، إذ أصبحوا أهل إيمان ويقين، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرفت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته. ولنا في عمر بن الخطاب ونحوه ممن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم مثل صدق.
والإيثار: التفضيل. وتقدم في قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: من الآية91] في سورة يوسف. والتفضيل بين فرعون وما جاءهم من البينات مقتض حذف مضاف يناسب المقابلة بالبينات، أي لن نؤثر طاعتك أو دينك على ما جاءنا من البينات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى، وبذلك يلتئم عطف {وَالَّذِي فَطَرَنَا} ، أي لا نؤثرك في الربوبية على الذي فطرنا.
وجيء بالموصول للإيماء إلى التعليل، لأن الفاطر هو المستحق بالإيثار.
وأخر {الَّذِي فَطَرَنَا} عن {مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} لأن البينات دليل على أن الذي خلقهم أراد منهم الإيمان بموسى ونبذ عبادة غير الله، ولأن فيه تعريضا بدعوة فرعون للإيمان بالله.
وصيغة الأمر في قوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} مستعملة في التسوية، لأن {ما أنت قاض} ما صدقه ما توعدهم له من تقطيع الأيدي والأرجل والصلب، أي سواء علينا ذلك بعضه أو كله أو عدم وقوعه، فلا نطلب منك خلاصا منه جزاء طاعتك فافعل ما أنت فاعل والقضاء هنا التنفيذ والإنجاز فإن عذابك لا يتجاوز هذه الحياة ونحن نرجو من ربنا الجزاء الخالد.

وانتصب {هَذِهِ الْحَيَاةِ} على النيابة عن المفعول فيه، لأن المراد بالحياة مدتها.
والقصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة، أي أنك مقصور على القضاء في هذه الحياة الدنيا لا يتجاوزه إلى القضاء في الآخرة، فهو قصر حقيقي.
وجملة {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا} في محل العلة لما تضمنه كلامهم.
ومعنى {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} أنه اكرههم على تحديهم موسى بسحرهم فعلموا أن فعلهم باطل وخطيئة لأنه استعمل لإبطال إلهية الله، فبذلك كان مستوجبا طلب المغفرة.
وجملة {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} في موضع الحال، أو معترضة في آخر الكلام للتذييل. والمعنى: أن الله خير لنا بأن نؤثره منك. والمراد: رضى الله، وهو أبقى منك، أي جزاؤه في الخير والشر أبقى من جزائك فلا يهولنا قولك: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} ، فذلك مقابلة لوعيده مقابلة تامة.
[74-76] {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}
هذه الجمل معترضة بين حكاية قصة السحرة وبين ذكر قصة خروج بني إسرائيل، ساقها الله موعظة وتأييدا لمقالة المؤمنين من قوم فرعون. وقيل: هي من كلام أولئك المؤمنين. ويبعده أنه لم يحك نظيره عنهم في نظائر هذه القصة.
والمجرم: فاعل الجريمة، وهي المعصية والفعل الخبيث. والمجرم في اصطلاح القرآن هو الكافر، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29].
واللام في {لَهُ جَهَنَّمَ} لام الاستحقاق، أي هو صائر إليها لا محالة، ويكون عذابه متجددا فيها؛ فلا هو ميت لأنه يحس بالعذاب ولا هو حي لأنه في حالة الموت أهون منها، فالحياة المنفية حياة خاصة وهي الحياة الخالصة من العذاب والآلام. وبذلك لم يتناقض نفيها مع نفي الموت، وهو كقول عباس بن مرداس:
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع

وليس هذا من قبيل قوله: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة: من الآية68] ولا قوله: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور: من الآية35]
وأما خلود غير الكافرين في النار من أهل الكبائر فإن قوله: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} جعلها غير مشمولة لهذه الآية. ولها أدلة أخرى اقتضت خلود الكافر وعدم خلود المؤمن العاصي. ونازعنا فيها المعتزلة والخوارج. وليس هذا موضع ذكرها وقد ذكرناها في مواضعها من هذا التفسير.
والإتيان باسم الإشارة في قوله: {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ} للتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما سبق اسم الإشارة.
وتقدم معنى {عدن} وتفسير {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72]
والتزكي: التطهر من المعاصي.
[77] {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى}
افتتاح الجملة بحرف التحقيق للاهتمام بالقصة ليلقي السامعون إليها أذهانهم. وتغيير الأسلوب في ابتداء هذه الجملة مؤذن بأن قصصا طويت بين ذكر القصتين، فلو اقتصر على حرف العطف لتوهم أن حكاية القصة الأولى لم تزل متصلة فتوهم أن الأمر بالخروج وقع مواليا لانتهاء محضر السحرة، مع أن بين ذلك قصصا كثيرة ذكرت في سورة الأعراف وغيرها، فإن الخروج وقع بعد ظهور آيات كثيرة لإرهاب فرعون كلما هم بإطلاق بني إسرائيل للخروج. ثم نكل إلى أن أذن لهم بآخرة فخرجوا ثم ندم على ذلك فأتبعهم.
فجملة {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} ابتدائية، والواو عاطفة قصة على قصة وليست عاطفة بعض أجزاء قصة على بعض آخر.
و {اسر} أمر من السرى بضم السين وفتح الراء وتقدم في سورة الإسراء أنه يقال: سرى وأسرى. وإنما أمره الله بذلك تجنبا لنكول فرعون عليهم. والإضافة في قوله: {بِعِبَادِي} لتشريفهم وتقريبهم والإيماء إلى تخليصهم من استعباد القبط وأنهم ليسوا عبيدا لفرعون.

والضرب: هنا بمعنى الجعل كقولهم: ضرب الذهب دنانير. وفي الحديث: " واضربوا إلي معكم بسهم" ، وليس هو كقوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63] لأن الضرب هناك متعد إلى البحر وهنا نصب طريقا.
واليبس بفتح المثناة والموحدة. ويقال: بسكون الموحدة: وصف بمعنى اليابس. وأصله مصدر كالعدم والعدم، وصف به للمبالغة ولذلك لا يؤنث فقالوا: ناقة يبس إذا جف لبنها.
و {لا تخاف} مرفوع في قراءة الجمهور، وعد لموسى اقتصر على وعده دون بقية قومه لأنه قدوتهم فإذا لم يخف هو تشجعوا وقوي يقينهم، فهو خبر مراد به البشرى. والجملة في موضع الحال.
وقرأ حمزة وحده {لا تخف} على جواب الأمر الذي في قوله: {فاضرب} ، وكلمة {تخف} مكتوبة في المصاحف بدون ألف لتكون قراءتها بالوجهين لكثرة نظائر هذه الكلمة ذات الألف في وسطها في رسم المصحف ويسميه المؤدبون المحذوف.
وأما قوله: {وَلا تَخْشَى} فالإجماع على قراءته بألف في آخره. فوجه قراءة حمزة فيها مع أنه قرأ بجزم المعطوف عليه أن تكون الألف للإطلاق لأجل الفواصل مثل ألف: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: من الآية67] وألف {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: من الآية10]، أو أن تكون الواو في قوله: {وَلا تَخْشَى} للاستئناف لا للعطف.
و {الدرك} بفتحتين اسم مصدر الإدراك، أي لا تخاف أن يدركك فرعون.
والخشية: شدة الخوف. وحذف مفعوله لإفادة العموم، أي لا تخشى شيئا، وهو عام مراد به الخصوص، أي لا تخشى شيئا مما يخشى من العدو ولا من الغرق.
[78-79] {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}
الفاء فصيحة عاطفة على مقدر يدل عليه الكلام السابق، أي فسرى بهم فأتبعهم فرعون، فإن فرعون بعد أن رأى آيات غضب الله عليه وعلى قومه وأيقن أن ذلك كله تأييد لموسى أذن لموسى وهارون أن يخرجا بني إسرائيل، وكان إذن فرعون قد حصل ليلا لحدوث موتان عظيم في القبط في ليلة الشهر السابع من أشهر القبط وهو شهر برمهات

وهو الذي اتخذه اليهود رأس سنتهم بإذن من الله وسموه تسري فخرجوا من مدينة رعمسيس قاصدين شاطئ البحر الأحمر. وندم فرعون على إطلاقهم فأراد أن يلحقهم ليرجعهم إلى مدينته، وخرج في مركبته ومعه ستمائة مركبة مختارة ومركبات أخرى تحمل جيشه.
وأتبع: مرادف تبع. والباء في {بجنوده} للمصاحبة.
واليم: البحر. وغشيانه إياهم: تغطيته جثثهم، أي فغرقوا.
وقوله: {مَا غَشِيَهُمْ} يفيد ما أفاده قوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ} إذ من المعلوم أنهم غشيهم غاش، فتعين أن المقصود منه التهويل، أي بلغ من هول ذلك الغرق أنه لا يستطاع وصفه. قال في الكشاف "هو من جوامع الكلم التي تستقل مع قتلها بالمعاني الكثيرة". وهذا الجزء من القصة تقدم في سورة يونس.
وجملة {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} في موضع الحال من الضمير في {غشيهم} . والإضلال: الإيقاع في الضلال، وهو خطأ الطريق الموصل. ويستعمل بكثرة في معنى الجهالة وعمل ما فيه ضر وهو المراد هنا. والمعنى: أن فرعون أوقع قومه في الجهالة وسوء العاقبة بما بث فيهم من قلب الحقائق والجهل المركب، فلم يصادفوا السداد في أعمالهم حتى كانت خاتمتها وقوعهم غرقى في البحر بعناده في تكذيب دعوة موسى عليه السلام.
وعطف {وَمَا هَدَى} على {أضل} : إما من عطف الأعم على الأخص لأن عدم الهدى يصدق بترك الإرشاد من دون إضلال؛ وإما أن يكون تأكيدا لفظيا بالمرادف مؤكدا لنفي الهدى عن فرعون لقومه فيكون قوله: {وَمَا هَدَى} تأكيدا ل {أضل} بالمرادف كقوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: من الآية21] وقول الأعشى: حفاة لا نعال لنا من قوله:
إما ترينا حفاة لا نعال لنا ... إنا كذلك ما نحفى وننتعل
وفي الكشاف : إن نكتة ذكر {وَمَا هَدَى} التهكم بفرعون في قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: من الآية29] اه. يعني أن في قوله: {وما هدى} تلميحا إلى قصة قوله المحكي في سورة غافر {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: من الآية29] وما في هذه من قوله {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} ، أي هي هدي، فيكون من التلميح إلى لفظ وقع في قصة مفضيا إلى التلميح إلى القصة كما في قول مهلهل:

لو كشف المقابر عن كليب
فخبر بالذنائب أي زير
يشير إلى قول كليب له على وجه الملامة: أنت زير نساء.
[80-82] {يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}
هذه الجمل معترضة في أثناء القصة مثل ما تقدم آنفا في قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} الآية. وهذا خطاب لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تذكيرا لهم بنعم أخرى.
وقدمت عليها النعمة العظيمة، وهي خلاصهم من استعباد الكفرة.
وقرأ الجمهور {قد أنجيناكم} {وواعدناكم} بنون العظمة. وقرأهما حمزة، والكسائي، وخلف {قد أنجيتكم} {ووعدتكم} بتاء المتكلم.
وذكرهم بنعمة نزول الشريعة وهو ما أشار إليه قوله: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} . والمواعدة: اتعاد من جانبين، أي أمرنا موسى بالحضور للمناجاة فذلك وعد من جانب الله بالمناجاة، وامتثال موسى لذلك وعد من جانبه، فتم معنى المواعدة، كما قال تعالى في سورة البقرة {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51]
ويظهر أن الآية تشير إلى ما جاء في الإصحاح 19 من سفر الخروج: في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر جاءوا إلى برية سيناء هنالك نزل إسرائيل مقابل الجبل. وأما موسى فصعد إلى الله فناداه الرب من الجبل قائلا: هكذا نقول لبيت يعقوب أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين وأنا حملتكم على أجنحة النسور، إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة...:إلخ.
وذكر الطور تقدم في سورة البقرة.
وجانب الطور: سفحه. ووصفه بالأيمن باعتبار جهة الشخص المستقبل مشرق الشمس، وإلا فليس للجبل يمين وشمال معينان، وإنما تعرف بمعرفة أصل الجهات وهو مطلع الشمس، فهو الجانب القبلي باصطلاحنا. وجعل محل المواعدة الجانب القبلي وليس هو من الجانب الغربي الذي في سورة القصص {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} (القصص: من الآية30)، وقال فيها: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ

إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص: من الآية44] فهو جانب غربي، أي من جهة مغرب الشمس من الجبل، وهو الذي آنس موسى منه نارا.
وانتصب {جَانِبَ الطُّورِ} على الظرفية المكانية لأنه لاتساعه بمنزلة المكان المبهم.
ومفعول المواعدة محذوف، تقديره: المناجاة.
وتعدية {وَوَاعَدْنَاكُمْ} إلى ضمير جماعة بني إسرائيل وإن كانت مواعدة لموسى ومن معه الذين اختارهم من قومه باعتبار أن المقصد من المواعدة وحي أصول الشريعة التي تصير صلاحا. للأمة فكانت المواعدة مع أولئك كالموعدة مع جميع الأمة.
وقرأ الجميع {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ} الخ؛ فباعتبار قراءة حمزة، والكسائي، وخلف {قد أنجيتكم وواعدتكم} بتاء المفرد تكون قراءة {ونزلنا} بنون العظمة قريبا من الالتفات وليس عينه، لأن نون العظمة تساوي تاء المتكلم.
والسلوى تقدم في سورة البقرة. وكان ذلك في نصف الشهر الثاني من خروجهم من مصر كما في الإصحاح 16 من سفر الخروج.
وجملة {كلوا} مقول محذوف. تقديره: وقلنا أو قائلين. وتقدم نظيره في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور {مَا رَزَقْنَاكُمْ} بنون العظمة. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف {ما رزقتكم} بتاء المفرد.
والطغيان: أشد الكبر. ومعنى النهي عن الطغيان في الرزق: النهي عن ترك الشكر عليه وقلة الاكتراث بعبادة المنعم.
وحرف "في" الظرفية استعارة تبعية؛ شبه ملابسة الطغيان للنعمة بحلول الطغيان فيها تشبيها للنعمة الكثيرة بالوعاء المحيط بالمنعم عليه على طريقة المكنية، وحرف الظرفية قرينتها.
والحلول: النزول والإقامة بالمكان؛ شبهت إصابة آثار الغضب إياهم بحلول الجيش ونحوه بديار قوم.
وقرأ الجمهور {فَيَحِلَ عَلَيكُمْ} بكسر الحاء وقرأوا {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} بكسر اللام الأولى على أنهما فعلا حل الدين يقال: حل الدين إذا آن أجل أدائه. وقرأه الكسائي بالضم في الفعلين على أنه من حل بالمكان يحل إذا نزل به. كذا في الكشاف

ولم يتعقبوه.
وهذا مما أهمله ابن مالك في لامية الأفعال . ولم يستدركه شارحها بحرق اليمني في الشرح الكبير . ووقع في المصباح ما يخالفه ولا يعول عليه. وظاهر القاموس أن حل بمعنى نزل يستعمل قاصرا ومتعديا، ولم أقف لهم على شاهد في ذلك.
وهوى: سقط من علو، وقد استعير هنا للهلاك الذي لا نهوض بعده، كما قالوا: هوت أمه، دعاء عليه، وكما يقال: ويل أمه، ومنه: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9] فأريد هوي مخصوص، وهو الهوي من جبل أو سطح بقرينة التهديد.
وجملة {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} إلى آخرها استطراد بعد التحذير من الطغيان في النعمة بالإرشاد إلى ما يتدارك به الطغيان إن وقع بالتوبة والعمل الصالح. ومعنى {تاب} : ندم على كفره وآمن وعمل صالحا.
وقوله: {ثم اهتدى} {ثم} فيه للتراخي في الرتبة؛ استعيرت للدلالة على التباين بين الشيئين في المنزلة كما كانت للتباين بين الوقتين في الحدوث. ومعنى {اهتدى} : استمر على الهدى وثبت عليه، فهو كقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الاحقاف:13]
والآيات تشير إلى ما جاء في الإصحاح من سفر الخروج "الرب إله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الإحسان غافر الإثم والخطيئة ولكنه لن يبرئ إبراء".
[83-85] {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}
عطف على جملة {اسْرِ بِعِبَادِي} [طه:77] الواقعة تفسيرا لفعل {أَوْحَينَا إِلَى مُوسَى} [طه:77]، فقوله: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ} هو مما أوحى الله به إلى موسى. والتقدير: وأن: ما أعجلك اله. وهو إشارة إلى ما وقع لهم أيام مناجاة موسى في الطور في الشهر الثالث لخروجهم من مصر. وهذا الجزء من القصة لم يذكر في سورة الأعراف.
والإعجال: جعل الشيء عاجلا.
والاستفهام مستعمل في اللوم. والذي يؤخذ من كلام المفسرين وتشير إليه الآية: أن موسى تعجل مفارقة قومه ليحضر إلى المناجاة قبل الإبان الذي عينه الله له، اجتهادا منه

ورغبة في تلقي الشريعة حسبما وعده الله قبل أن يحيط بنو إسرائيل بجبل الطور، ولم يراع في ذلك إلا السبق إلى ما فيه خير لنفسه ولقومه، فلامه الله على أن غفل عن مراعاة ما يحف بذلك من ابتعاده عن قومه قبل أن يوصيهم الله بالمحافظة على العهد ويحذرهم مكر من يتوسم فيه مكرا، فكان في ذلك بمنزلة أبي بكر حين دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم راكعا فركع ودب إلى الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "زادك الله حرصا ولا تعد" .
وقريب من تصرف موسى – عليه السلام – أخذ المجتهد بالدليل الذي له معارض دون علم بمعارضة، وكان ذلك سبب افتتان قومه بصنع صنم يعبدونه.
وليس في كتاب التوراة ما يشير إلى أكثر من صنع بني إسرائيل العجل من ذهب اتخذوه إلها في مدة مغيب موسى، وأن سبب ذلك استبطاؤهم رجوع موسى {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91].
وقوله هنا: {هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} يدل على أنهم كانوا سائرين خلفه وأنه سبقهم إلى المناجاة.
واعتذر عن تعجله بأنه عجل إلى استجابة أمر الله مبالغة في إرضائه، فقوله تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} فيه ضرب من الملام على التعجل بأنه تسبب عليه حدوث فتنة في قومه ليعلمه أن لا يتجاوز ما وقت له ولو كان لرغبة في ازدياد من الخير.
والأثر بفتحتين: ما يتركه الماشي على الأرض من علامات قدم أو حافر أو خف. ويقال: إثر بكسر الهمزة وسكون الثاء وهما لغتان فصيحتان كما ذكر ثعلب. فمعنى قولهم: جاء على إثره، جاء مواليا له بقرب مجيئه، شبه الجائي الموالي بالذي يمشي على علامات أقدام من مشى قبل أن يتغير ذلك الأثر بأقدام أخرى، ووجه الشبه هو موالاته وأنه لم يسبقه غيره.
والمعنى: هم أولاء سائرون على مواقع أقدامي، أي موالون لي في الوصول. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي" ، تقديره: يحشرون سائرين على آثار قدمي.
وقرأ الجمهور {على أثري} بفتحتين. وقرأه رويس عن يعقوب بكسر الهمزة وسكون الثاء.
واستعمل تركيب {هم أولاء} مجردا عن حرف التنبيه في أول اسم الإشارة خلافا

لقوله في سورة النساء: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ} [النساء: 109]
وتجريد اسم الإشارة من هاء التنبيه استعمال جائز وأقل منه استعماله بحرف التنبيه مع الضمير دون اسم الإشارة، نحو قول عبد بني الحسحاس:
ها أنا دون الحبيب يا وجع
وتقدم عند قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران: من الآية119] في سورة آل عمران.
وإسناد الفتن إلى الله باعتبار أنه مقدره وخالق أسبابه البعيدة. وأما إسناده الحقيقي فهو الذي في قوله: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} لأنه السبب المباشر لضلالهم المسبب لفتنتهم.
و {السَّامِرِيُّ} يظهر أن ياءه ياء نسبة، وأن تعريفه باللام للعهد. فأما النسبة فأصلها في الكلام العربي أن تكون إلى القبائل والعشائر؛ فالسامري نسب إلى اسم أبي قبيلة من بني إسرائيل أو غيرهم يقارب اسمه لفظ سامر، وقد كان من الأسماء القديمة "شومر" و "شامر" وهما يقاربان اسم سامر لا سيما مع التعريب. وفي أنوار التنزيل : السامري نسبة إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها: السامرة اه. أخذنا من كلام البيضاوي أن السامري منسوب إلى قبيلة وأما قوله "من بني إسرائيل" فليس بصحيح. لأن السامرة أمة من سكان فلسطين في جهة نابلس في عهد الدولة الرومية البيزنطية وكانوا في فلسطين قبل مصير فلسطين بيد بني إسرائيل ثم امتزجوا بالإسرائيليين واتبعوا شريعة موسى عليه السلام مع تخالف في طريقتهم عن طريقة اليهود. فليس هو منسوبا إلى مدينة السامرة القريبة من نابلس لأن مدينة السامرة بناها الملك عمري ملك مملكة إسرائيل سنة 925 قبل المسيح، وجعلها قصبة مملكته، وسماها "شوميرون" لأنه بناها على جبل اشتراه من رجل اسمه شامر بوزنتين من الفضة، فعربتفي العربية إلى سامرة، وكان الهود يعدونها مدينة كفر وجور، لأن عمري بانيها وابنه آخاب قد أفسدوا ديانة التوراة وعبدا الأصنام المنعانية. وأمر الله النبي إلياس بتوبيخهما والتثوير عليهما، فلا جرم لم تكن موجودة زمن موسى ولا كانت ناحيتها من أرض بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام.
ويحتمل أن يكون السامري نسبا إلى قرية اسمها السامرة من قرى مصر، كما قال بعض أهل التفسير، فيكون فتى قبطيا اندس في بني إسرائيل لتعلقه بهم في مصر أو لصناعة يصنعها لهم. وعن سعيد بن جبير: كان السامري من أهل كرمان، وهذا يقرب أن يكون السامري تعربب كرماني بتبديل بعض الحروف وذلك كثير في التعريب.

ويجوز أن تكون الياء من السامري غير ياء نسب بل حرفا من اسم مثل: ياء علي وكرسي، فيكون اسما أصليا أو منقولا في العبرانية، وتكون اللام في أوله زائدة.
وذكر الزمخشري والقرطبي خليطا من القصة: أن السامري اسمه موسى بن ظفر بفتح الظاء المعجمة وفتح الفاء وأنه ابن خالة موسى عليه السلام أو ابن خاله، وأنه كفر بدين موسى بعد أن كان مؤمنا به، وزاد بعضهم على بعض تفاصيل تشمئز النفس منها.
واعلم أن السامريين لقب لطائفة من اليهود يقال لهم أيضا السامرة، لهم مذهب خاص مخالف لمذهب جماعة اليهودية في أصول الدين، فهم لا يعظمون بيت المقدس وينكرون نبوءة أنبياء بني إسرائيل عدا موسى وهارون ويوشع، وما كانت هذه الشذوذات فيهم إلا من بقايا تعاليم الإلحاد التي كانوا يتلقونها في مدينة السامرة المبنية على التساهل والاستخفاف بأصول الدين والترخص في تعظيم آلهة جيرتهم الكنعانيين أصهار ملوكهم، ودام ذلك الشذوذ فيهم إلى زمن عيسى عليه السلام. ففي إنجيل متى إصحاح 10 وفي إنجيل لوقا إصحاح 9 ما يقتضي أن بلدة السامريين كانت منحرفة على اتباع المسيح، وأنه نهى الحواريين عن الدخول إلى مدينتهم.
ووقعت في كتاب الخروج من التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين زلة كبرى، إذ زعموا أن هارون صنع العجل لهم لما قالوا له: اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأنا لا نعلم ماذا أصاب موسى في الجبل فصنع لهم عجلا من ذهب. وأحسب أن هذا من آثار تلاشي التوراة الأصلية بعد الأسر البابلي، وأن الذي أعاد كتبها لم يحسن تحرير هذه القصة. ومما نقطع به أن هارون معصوم من ذلك لأنه رسول.
[86] {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي}
الغضب: انفعال للنفس وهيجان ينشأ عن إدراك ما يسوءها ويسخطها دون خوف، والوصف منه غضبان.
والأسف: انفعال للنفس ينشأ من إدراك ما يحزنها وما تكرهه مع انكسار الخاطر. والوصف منه أسف. وقد اجتمع الانفعالان في نفس موسى لأنه يسوءه وقوع ذلك في أمته وهو لا يخافهم، فانفعاله المتعلق بحالهم غضب، وهو أيضا يحزنه وقوع ذلك وهو في

مناجاة الله تعالى التي كان يأمل أن تكون سبب رضى الله عن قومه فإذا بهم أتوا بما لا يرضي الله فقد انكسر خاطره بين يدي ربه.
وهذا ابتداء وصف قيام موسى في جماعة قومه وفيهم هارون وفيهم السامري، وهو يقرع أسماعهم بزواجر وعظه، فابتدأ بخطاب قومه كلهم، وقد علم أن هارون لا يكون مشايعا لهم، فلذلك ابتدأ بخطاب قومه ثم وجه الخطاب إلى هارون بقوله، قال: {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ} [طه: 92]
وجملة {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ} مستأنفة بيانية.
وافتتاح الخطاب بـ {يَا قَوْمِ} تمهيد للوم لأن انجرار الأذى للرجل من قومه أحق في توجيه الملام عليهم، وذلك قوله {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} .
والاستفهام في {أَلَمْ يَعِدْكُمْ ربكم} انكاري ؛ نزلوا منزلة من زعم أن الله لم يعدهم وعدا حسنا لأنهم أجروا أعمالهم على حال من يزعم ذلك فأنكر عليهم زعمهم. ويجوز أن يكون تقريريا، وشأنه أن يكون على فرض النفي كما تقدم غير مرة.
والوعد الحسن هو: وعده موسى بإنزال التوراة، ومواعدته ثلاثين ليلة للمناجاة، وقد أعلمهم بذلك، فهو وعد لقومه لأن ذلك لصلاحهم، ولأن الله وعدهم بأن يكون ناصرا لهم على عدوهم وهاديا لهم في طريقهم، وهو المحكي في قوله: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} [طه: من الآية80]
والاستفهام في {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} مفرع على قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ} ، وهو استفهام إنكاري، أي ليس العهد بوعد الله إياكم بعيدا. والمراد بطول العهد طول المدة، أي بعدها، أي لم يبعد زمن وعد ربكم إياكم حتى يكون لكم يأس من الوفاء فتكفروا وتكذبوا من بلغكم الوعد وتعبدوا ربا غير الذي دعاكم إليه من بلغكم الوعد فتكون لكم شبهة عذر في الإعراض عن عبادة الله ونسيان عهده.
والعهد: معرفة الشيء وتذكره، وهو مصدر. يجوز أن يكون أطلق على المفعول كإطلاق الخلق على المخلوق، أي طال المعهود لكم وبعد زمنه حتى نسيتموه وعملتم بخلافه. ويجوز أن يبقى على أصل المصدر وهو عهدهم الله على الامتثال والعمل بالشريعة. وتقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: من الآية27] وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} في سورة البقرة [27و40].

و {أم} إضراب إبطالي. والاستفهام المقدر بعد {أم} في قوله: {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [طه: 86] إنكاري أيضا، إذ التقدير: بل أردتم أن يحل عليكم غضب، فلا يكون كفركم إذن إلا إلقاء بأنفسكم في غضب الله كحال من يحب أن يحل عليه غضب من الله.
ففي قوله: {أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} استعارة تمثيلية، إذ شبه حالهم في ارتكابهم أسباب حلول غضب الله عليهم بدون داع إلى ذلك بحال من يحب حلول غضب الله عليه؛ إذ الحب لا سبب له.
وقوله: {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} تفريع على الاستفهام الإنكاري الثاني. ومعنى {موعدي} هو وعد الله على لسانه، فإضافته إلى ضميره لأنه الواسطة فيه.
[87 - 88] {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}
{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا}
وقعت جملة {قالوا} غير معطوفة لأنها جرت في المحاورة جوابا عن كلام موسى عليه السلام. وضمير {قالوا} عائد إلى القوم وإنما القائل بعضهم، تصدوا مجيبين عن القوم كلهم وهم كبراء القوم وأهل الصلاح منهم.
وقوله: {بملكنا} قرأه نافع، وعاصم، وأبو جعفر بفتح الميم. وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب بكسر الميم. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بضم الميم. وهي وجوه ثلاثة في هذه الكلمة، ومعناها: بإرادتنا واختيارنا، أي لإخلاف موعدك، أي ما تجرأنا ولكن غرهم السامري وغلبهم دهماء القوم. وهذا إقرار من المجيبين بما فعله دهماؤهم.
والاستدراك راجع إلى ما أفاده نفي أن يكون إخلافهم العهد عن قصد للضلال. والجملة الواقعة بعده وقعت بإيجاز عن حصول المقصود من التنصل من تبعة نكث العهد.
ومحل الاستدراك هو قوله: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} وما قبله تمهيد له، فعطفت الجمل قبله بحرف الفاء واعتذروا بأنهم غلبوا على رأيهم بتضليل السامري.

فأدمجت في هذا الاعتذار الإشارة إلى قضية صوغ العجل الذي عبدوه واغتروا بما موه لهم من أنه إلههم المنشود من كثرة ما سمعوا من رسولهم أن الله معهم أو أمامهم، ومما جاش في خواطرهم من الطمع في رؤيته تعالى.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب {حملنا} بضم الحاء وتشديد الميم مكسورة. أي جملنا من حملنا، أو حملنا أنفسنا.
وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة، وأبو عمرو، والكسائي، وروح عن يعقوب بفتح الحاء وفتح الميم مخففة.
والأوزار: الأثقال. والزينة: الحلي والمصوغ. وقد كان بنو إسرائيل حين أزمعوا الخروج قد احتالوا على القبط فاستعار كل واحد من جاره القبطي حليا فضة وذهبا وأثاثا، كما في الإصحاح 12 من سفر الخروج. والمعنى: أنهم خشوا تلاشي تلك الزينة فارتأوا أن يصوغوها قطعة واحدة أو قطعتين ليتأتى لهم حفظها في موضع مأمون.
والقذف: الإلقاء. وأريد به هنا الإلقاء في نار السامري للصوغ، كما يومئ إليه الإصحاح 32 من سفر الخروج. فهذا حكاية جوابهم لموسى عليه السلام مجملا مختصرا شأن المعتذر واه أن يكون خجلان من عذره فيختصر الكلام.
{فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}
ظاهر حال الفاء التفريعية أن يكون ما بعدها صادرا من قائل الكلام المفرع عليه. والمعنى: فمثل قذفنا زينة القوم، أي في النار، ألقي السامري شيئا من زينة القوم فأخرج لهم عجلا. والمقصود من هذا التشبيه التخلص إلى قصة صوغ العجل الذي عبدوه.
وضميرا الغيبة في قوله: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} وقوله: {فقالوا} عائدان إلى غير المتكلمين. علق المتكلمون الإخراج والقول بالغائبين للدلالة على أن المتكلمين مع موسى لم يكونوا ممن اعتقد إلهية العجل ولكنهم صانعوا دهماء القوم، فيكون هذا من حكاية قول القوم لموسى. وعلى هذا درج جمهور المفسرين، فيكون من تمام المعذرة التي اعتذر بها المجيبون لموسى، ويكون ضمير {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} التفاتا قصد القائلون به التبري من أن يكون إخراج العجل لأجلهم، أي أخرجه لمن رغبوا في ذلك.
وجعل بعض المفسرين هذا الكلام كله من جانب الله، وهو اختيار أبي مسلم،

فيكون اعتراضا وإخبارا للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمة. وموقع الفاء يناكد هذا لأن الفاء لا ترد للاستئناف على التحقيق، فتكون الفاء للتفريع تفريع أخبار على أخبار.
والمعنى: فمثل ذلك القذف الذي قذفنا ما بأيدينا من زينة القوم ألقى السامري ما بيده من النار ليذوب ويصوغها فأخرج لهم من ذلك عجلا جسدا. فإن فعل {ألقى} يحكي حالة مشبهة بحالة قذفهم مصوغ القبط. والقذف والإلقاء مترادفان، شبه أحدهما بالآخر.
والجسد: الجسم ذو الأعضاء سواء كان حيا أم لا؛ لقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} [صّ: من الآية34]. قيل: هو شق طفل ولدته إحدى نسائه كما ورد في الحديث. قال الزجاج: الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما هو الجثة، أي أخرج لهم صورة عجل مجسدة بشكله وقوائمه وجوانبه، وليس مجرد صورة منقوشة على طبق من فضة أو ذهب. وفي سفر الخروج أنه كان من ذهب.
والإخراج: إظهار ما كان محجوبا. والتعبير بالإخراج إشارة إلى أنه صنعه بحيلة مستورة عنهم حتى أتمه.
والخوار: صوت البقر. وكان الذي صنع لهم العجل عارفا بصناعة الحيل التي كانوا يصنعون بها الأصنام ويجعلون في أجوافها وأعناقها منافذ كالزمارات تخرج منها أصوات إذا أطلقت عندها رياح بالكير ونحوه.
وصنع لهم السامري صنما على صورة عجل لأنهم كانوا قد اعتادوا في مصر عبادة العجل ايبيس، فلما رأوا ما صاغه السامري في صورة معبود عرفوه من قبل ورأوه يزيد عليه بأن له خوارا، رسخ في أوهامهم الآفنة أن ذلك هو الإله الحقيقي الذي عبروا عنه بقولهم {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} ، لأنهم رأوه من ذهب أو فضة، فتوهموا أنه أفضل من العجل إيبيس. وإذ قد كانوا يثبتون إلها محجوبا عن الأبصار وكانوا يتطلبون رؤيته، فقالوا لموسى: {أرنا الله جهرة} [النساء: 153]، حينئذ توهموا أن هذه ضالتهم المنشودة. وقصة اتخاذهم العجل في كتاب التوراة غير ملائمة للنظر السليم.
وتفريع {فنسي} يحتمل أن يكون تفريعا على {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ} تفريع علة على معلول، فالضمير عائد إلى السامري، أي قال السامري ذلك لأنه نسي ما كان تلقاه من هدي؛ أو تفريع معلول على علة، أي قال ذلك، فكان قوله سببا في نسيانه ما كان عليه من هدي إذ طبع الله على قلبه بقوله ذلك فحرمه التوفيق من بعد.

والنسيان: مستعمل في الإضاعة، كقوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه: 126] وقوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5]
وعلى هذا يكون قوله: {فنسي} من الحكاية لا من المحكي، والضمير عائد إلى السامري فينبغي على هذا أن يتصل بقوله: {أَفَلا يَرَوْنَ} [طه: 89] ويكون اعتراضا. وجعله جمع من المفسرين عائدا إلى موسى، أي فنسي موسى إلهكم وإلهه، أي غفل عنه، وذهب إلى الطور يفتش عليه وهو بين أيديكم، وموقع فاء التفريع يبعد هذا التفسير.
والنسيان: يكون مستعملا مجازا في الغفلة.
[89] {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً}
يجوز أن يكون اعتراضا وليس من حكاية كلام القوم، فهو معترض بين جملة {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه:87] وجملة {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواأَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ} [طه: من الآية92-93] الخ، فتكون الفاء لتفريع كلام متكلم على كلام غيره، أي لتفريع لإخبار لا لتفريع المخبر به، والمخبر متعدد، ويجوز أن يكون من حكاية كلام الذين تصدوا لخطاب موسى عليه السلام من بين قومه وهم كبراؤهم وصلحاؤهم ليعلم أنهم على بصيرة من التوحيد.
والاستفهام: إنكاري، نزلوا منزلة من لا يرى العجل لعدم جريهم على موجب البصر، فأنكر عليهم عدم رؤيتهم ذلك مع ظهوره، أي كيف يدعون الإلهية للعجل وهم يرون أنه لا يتكلم ولا يستطيع نفعا ولا ضرا.
والرؤية هنا بصرية مكنى بها أو مستعملة في مطلق الإدراك فآلت إلى معنى الاعتقاد والعلم، ولا سيما بالنسبة لجملة {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} فإن ذلك لا يرى بالبصر بخلاف {أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} ورؤية انتفاء الأمرين مراد بها رؤية أثر انتفائهما بدوام عدم التكلم وانتفاء عدم نفعهم وضرهم، لأن الإنكار مسلط على اعتقادهم أنه إلههم فيقتضي أن يملك لهم ضرا ونفعا.
ومعنى {يرجع} يرد، أي يجيب القول، لأن ذلك محل العبرة من فقدانه صفات العاقل لأنهم يدعونه ويثنون عليه ويمجدونه وهو ساكت لا يشكر لهم ولا يعدهم باستجابة، وشأن الكامل إذا سمع ثناء أو تلقى طلبة أن يجيب. ولا شك أن في ذلك الجمع العظيم من هو بحاجة إلى جلب نفع أو دفع ضر، وأنهم يسألونه ذلك فلم يجدوا ما

فيه نفعهم أو دفع ضر عنهم مثل ضر عدو أو مرض. فهم قد شاهدوا عدم عنائه عنهم. ولأن شواهد حاله من عدم التحرك شاهدة بأنه عاجز عن أن ينفع أو يضر، فلذلك سلط الإنكار على عدم الرؤية لأن حاله مما يرى.
ولام {لهم} متعلق ب {يملك} الذي هو في معنى يستطيع كما تقدم في قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة: 76] في سورة العقود [76].
وقدم الضر على النفع قطعا لعذرهم في اعتقاد إلهيته، لأن عذر الخائف من الضر أقوى من عذر الراغب في النفع.
و"أن" في قوله: {ألا يرجع} مخففة من "أن" المفتوحة المشددة واسمها ضمير شأن محذوف، والجملة المذكورة بعدها هي الخبر، فـ {يرجع} مرفوع باتفاق القراءات ما عدا قراءات شاذة. وليست "أن" مصدرية لأن "أن" المصدرية لا تقع بعد أفعال العلم ولا بعد أفعال الإدراك.
[90-91] {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}
الجملة في موضع الحال من ضمير {أَفَلا يَرَوْنَ} [طه: 89] على كلا الاحتماليين، أي كيف لا يستدلون على عدم استحقاق العجل الإلهية، بأنه لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا فيقلعون عن عبادة العجل، وتلك دلالة عقلية، في حال أن هارون قد وعظهم ونبههم إلى ذلك إذ ذكرهم بأنه فتنة فتنهم بها السامري، وأن ربهم هو الرحمان لا ما لا يملك لهم نفعا فضلا عن الرحمة، وأمرهم بأن يتبعوا أمره، وتلك دلالة سمعية.
وتأكيد الخبر بحرف التحقيق ولام القسم لتحقيق إبطال ما في كتاب اليهود من أن هارون هو الذي صنع لهم العجل، وأنه لم ينكر عليهم عبادته. وغاية الأمر أنه كان يستهزئ بهم في نفسه، وذلك إفك عظيم في كتابهم.
والمضاف إليه "قبل" محذوف دل عليه المقام، أي من قبل أن يرجع إليهم موسى وينكر عليهم.
وافتتاح خطابه بـ {يَا قَوْمِ} تمهيد لمقام النصيحة.

ومعنى {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} : ما هو إلا فتنة لكم، وليس ربا، وإن ربكم الرحمان الذي يرحمكم في سائر الأحوال، فأجابوه بأنهم لا يزالون عاكفين على عبادته حتى يرجع موسى فيصرح لهم بأن ذلك العجل ليس هو ربهم.
ورتب هارون خطابه على حسب الترتيب الطبيعي لأنه ابتدأه بزجرهم عن الباطل وعن عبادة ما ليس برب، ثم دعاهم إلى معرفة الرب الحق، ثم دعاهم إلى اتباع الرسول إذ كان رسولا بينهم، ثم دعاهم إلى العمل بالشرائع، فما كان منهم إلا التصميم على استمرار عبادتهم العجل فأجابوا هارون جوابا جازما.
و {عليه} متعلق ب {عاكفين} قدم على متعلقة لتقوية الحكم، أو أرادوا: لن نبرح نخصه بالعكوف لا نعكف على غيره.
والعكوف: الملازمة بقصد القربة والتعبد، وكان عبدة الأصنام يلزمونها ويطوفون بها.
[92-94] {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}
انتقل موسى من محاورة قومه إلى محاورة أخيه، فجملة {قَالَ يَا هَارُونُ} تابعة لجملة {قال يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه: 86]. ولجملة {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طه: 87] وقد وجدت مناسبة لحكاية خطابه هارون بعد أن وقع الفصل بين أجزاء الحكاية بالجمل المعترضة التي منها جملة {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ من قبل} الخ...، فهو استطراد في خلال الحكاية للإشعار بعذر هارون كما تقدم. ويحتمل أن تكون عطفا على جملة {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ} الخ..، على احتمال كون تلك من حكاية كلام قوم موسى.
علم موسى أن هارون مخصوص من قومه بأنه لم يعبد العجل، إذ لا يجوز عليه ذلك لأن الرسالة تقتضي العصمة، فلذلك خصه بخطاب يناسب حاله بعد أن خاطب عموم الأمة بالخطاب الماضي. وهذا خطاب التوبيخ والتهديد على بقائه بين عبدة الصنم.
والاستفهام في قوله: {مَا مَنَعَكَ} إنكاري، أي لا مانع لك من اللحاق بي، لأنه أقامه خليفة عنه فيهم فلما لم يمتثلوا أمره كان عليه أن يرد الخلافة إلى من استخلفه.

و {إِذْ رَأَيْتَهُمْ} متعلق ب {منعك} . و"أن" مصدرية، و"لا" حرف نفي، وهي مؤذنة بفعل محذوف يناسب معنى النفي. والمصدر الذي تقتضيه "أن" هو مفعول الفعل المحذوف. وأما مفعول {منعك} فمحذوف يدل عليه {منعك} ويدل عليه المذكور.
والتقدير: ما منعك أن تتبعني واضطرك إلى أن لا تتبعني، فيكون في الكلام شبه احتباك. والمقصود تأكيد وتشديد التوبيخ بإنكار أن يكون لهارون مانع حينئذ من اللحاق بموسى ومقتض لعدم اللحاق بموسى، كما يقال: وجد السبب وانتفى المانع.
ونظيره قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [لأعراف:12] في سورة الأعراف فارجع إليه.
والاستفهام في قوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} مفرع على الإنكار. فهو إنكار ثان على مخالفة أمره، مشوب بتقرير للتهديد.
وقوله في الجواب {يَا ابْنَ أُمَّ} نداء لقصد الترقيق والاستشفاع. وهو مؤذن بأن موسى حين وبخه أخذ بشعر لحية هارون. ويشعر بأنه يجذبه إليه ليلطمه، وقد صرح به في الأعراف بقوله تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} .
وقرأ الجمهور {يَا ابْنَ أُمَّ} بفتح الميم. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بكسر الميم وأصله: يا ابن أمي، فحذفت ياء المتكلم تخفيفا، وهو حذف مخصوص بالنداء. والقراءتان وجهان في حذف ياء المتكلم المضاف إليها لفظ أم ولفظ "عم" في النداء.
وعطف الرأس على اللحية لأن أخذه من لحيته أشد ألما وأنكى في الإذلال.
وابن الأم: الأخ. وعدل عن "يا أخي" إلى "ابن أم" لأن ذكر الأم تذكير بأقوى أواصر الأخوة، وهي آصرة الولادة من بطن واحد والرضاع من لبان واحد.
واللحية بكسر اللام ويجوز، فتح اللام في لغة الحجاز: اسم للشعر النابت بالوجه على موضع اللحيين والذقن، وقد أجمع القراء على كسر اللام من {لحيتي} .
واعتذر هارون عن بقائه بين القوم بقوله: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ} ، أي أن تظن ذلك بي فتقوله لوما وتحميلا لتبعة الفرقة التي ظن أنها واقعة لا محالة إذا أظهر هارون غضبه عليهم لأنه يستتبعه طائفة من الثابتين على الإيمان ويخالفهم الجمهور فيقع انشقاق

بين القوم وربما اقتتلوا فرأى من المصلحة، يظهر الرضى عن فعلهم ليهدأ الجمهور ويصبر المؤمنون اقتداء بهارون. ورأى في سلوك هذه السياسة تحقيقا لقول موسى له: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [لأعراف: 142] في سورة الأعراف. وهو الذي أشار إليه هنا بقوله {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} . فهو من جملة حكاية قول موسى الذي قدره هارون في ظنه.
وهذا اجتهاد منه في سياسة الأمة إذ تعارضت عنده مصلحتان مصلحة حفظ العقيدة ومصلحة حفظ الجامعة من الهرج. وفي أثنائها حفظ الأنفس والأموال والأخوة بين الأمة فرجح الثانية. وإنما رجحها لأنه رآها أدوم فإن مصلحة حفظ العقيدة يستدرك فواتها الوقتي برجوع موسى وإبطاله عبادة العجل حيث غيوا عكوفهم على العجل برجوع موسى. بخلاف مصلحة حفظ الأنفس والأموال واجتماع الكلمة إذا انثلمت عسر تداركها.
وتضمن هذا قوله {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} . وكان اجتهاده ذلك مرجوحا لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه. لأن مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع. كما بيناه في كتاب أصول نظام الاجتماع الإسلامي . ولذلك لم يكن موسى خافيا عليه أن هارون كان من واجبه أن يتركهم وضلالهم وأن يلتحق بأخيه مع علمه بما يفضي إلى ذلك من الاختلاف بينهم، فإن حرمة الشريعة بحفظ أصولها وعدم التساهل فيها، وبحرمة الشريعة يبقى نفوذها في الأمة والعمل بها كما بينته في كتاب مقاصد الشريعة .
وفي قوله تعالى: {بين بني} جناس، وطرد وعكس.
وهذا بعض ما اعتذر به هارون، وحكي عنه في سورة الأعراف أنه اعتذر بقوله: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف: من الآية150]
[95-96] {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ *قال بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}
التفت موسى بتوجيه الخطاب إلى السامري الذي كان سببا في إضلال القوم، فالجملة ناشئة عن قول القوم {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً} [طه: 88] الخ، فهي ابتداء خطاب. ولعل موسى لم يغلظ له القول كما أغلظ لهارون لأنه كان جاهلا بالدين فلم يكن في ضلاله عجب. ولعل هذا يؤيد ما قيل: إن السامري لم يكن من بني إسرائيل ولكنه كان من القبط أو من كرمان فاندس في بني إسرائيل. ولما كان موسى

مبعوثا لبني إسرائيل خاصة ولفرعون وملئه لأجل إطلاق بني إسرائيل، كان اتباع غير الإسرائيليين لشريعة موسى أمرا غير واجب على غير الإسرائيليين ولكنه مرغب فيه لما فيه من الاهتداء، فلذلك لم يعنفه موسى لأن الأجدر بالتعنيف هم القوم الذين عاهدوا الله على الشريعة.
ومعنى {مَا خَطْبُكَ} ما طلبك، أي ماذا تخطب، أي تطلب، فهو مصدر. قال ابن عطية: وهي كلمة أكثر ما تستعمل في المكاره، لأن الخطب هو الشأن المكروه. كقوله تعالى: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المُرْسَلُونَ} [الذاريات: 31]، فالمعنى: ما هي مصيبتك التي أصبت بها القوم وما غرضك مما فعلت.
وقوله: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} إلى قوله {فنبذتها} إن حملت كلمات بصرت بما لم يبصروا به. وقبضت قبضة، وأثر، ونبذتها على حقائق مدلولاتها كما ذهب إليه جمهور المفسرين كان المعنى أبصرت ما لم يبصروه، أي نظرت ما لم ينظروه، بناء على أن بصرت، وأبصرت كلاهما من أفعال النظر بالعين، إلا أن بصر بالشيء حقيقته صار بصيرا به أو بصيرا بسببه، أي شديد الإبصار، فهو أقوى من أبصرت، لأنه صيغ من فعل بضم العين الذي تشتق منه الصفات المشبهة الدالة على كون الوصف شجية، قال تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص: 11] في سورة القصص.
ولما كان المعنى هنا جليا عن أمر مرئي تعين حمل اللفظ على المجاز باستعارة بصر الدال على قوة الإبصار إلى معنى العلم القوي بعلاقة الإطلاق عن التقييد، كما في قوله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [قّ: من الآية22] وكما سميت المعرفة الراسخة بصيرة في قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]. وحكى في لسان العرب عن اللحياني: إنه لبصير بالأشياء، أي عالم بها، وبصرت بالشيء: علمته. وجعل منه قوله تعالى: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} ، وكذلك فسرها الأخفش في نقل لسان العرب وأثبته الزجاج. فالمعنى: علمت ما لم يعلموه وفطنت لما لم يفطنوا له، كما جعله في الكشاف أول وجهين في معنى الآية. ولذلك طريقتان: إما جعل بصرت مجازا، وإما جعله حقيقة.
وقرأ الجمهور {يبصروا} بتحتية على أنه رافع لضمير الغائب. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بفوقية على أنه خطاب لموسى ومن معه.
والقبضة: بفتح القاف الواحدة: من القبض، وهو غلق الراحة على شيء، فالقبضة مصدر بمعنى المفعول. وضد القبض: البسط.

والنبذ: إلقاء ما في اليد.
والأثر، حقيقته: ما يتركه الماشي من صورة قدمه في الرمل او التراب. وتقدم آنفا عند قوله تعالى: {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه:84]
وعى حمل الكلمات على حقائقها يتعين صرف الرسول عن المعنى المشهور. فيتعين حمله على جبريل فإنه رسول من الله إلى الأنبياء. فقال جمهور المفسرين: المراد بالرسول جبريل. ورواه قصة قالوا: إن السامري فتنه الله. فأراه الله جبريل راكبا فرسا فوطئ حافر الفرس مكانا فإذا هو مخضر بالنبات، فعلم السامري أن أثر جبريل إذا القي في جماد صار حيا، فأخذ قبضة من ذلك التراب وصنع عجلا وألقى بقبضة عليه فصار جسدا، أي حيا. له خوار كخوار العجل. فعبر عن ذلك الإلقاء بالنبذ. وهذا الذي ذكروه لا يوجد في كتب الإسرائيليين ولا ورد به أثر من السنة وإنما هي أقوال لبعض السلف ولعلها تسربت للناس من روايات القصاصين.
فإذا صرفت هذه الكلمات الست إلى معان مجازية كان بصرت بمعنى علمت واهتديت، أي اهتديت إلى علم ما لم يعلموه، وهو علم صناعة التماثيل والصور الذي به صنع العجل، وعلم الحيل الذي أوجد به خوار العجل. وكانت القبضة بمعنى النصيب القليل، وكان الأثر بمعنى التعليم، أي الشريعة، وكان { نبذت} بمعنى أهملت ونقضت، أي كنت ذا معرفة إجمالية من هدي الشريعة فانخلعت عنها الكفر. ويذلك يصح أن يحمل لفظ الرسول على المعنى الشائع المتعارف وهو من أوحي إليه بشرع من الله وأمر بتبليغه.
وكان المعنى: إني بعملي العجل للعبادة نقضت اتباع شريعة موسى، والمعنى: أنه اعترف أمام موسى بصنعه العجل واعترف بأنه جهل فضل، واعتذر بأن ذلك سولته له نفسه.
وعلى هذا المعنى فسر أبو مسلم الأصفهاني ورجحه الزمخشري بتقديمه في الذكر على تفسير الجمهور واختاره الفخر.
والتسويل: تزين ما ليس بزين.
والتشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} تشبيه الشيء بنفسه، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]، أي كذلك التسويل سولت لي نفسي،أي تسويلا لا يقبل التعريف بأكثر من ذلك.

[97] {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفا}
لم يزد موسى في عقاب السامري على أن خلعه من الأمة، إما لأنه لم يكن من أنفسهم فلم يكن بالذي تجري عليه أحكام الشريعة، وإما لأن موسى أعلم بأن السامري لا يرجى صلاحه، فيكون ممن حقت عليه كلمة العذاب، مثل الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ *وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:97]، ويكون قد أطلع الله موسى على ذلك بوحي أو إلهام، مثل الذي قاتل قتالا شديدا مع المسلمين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما إنه من أهل النار" ، ومثل المنافقين الذين أعلم الله بهم محمدا صلى الله عليه وسلم وكان النبي عليه الصلاة والسلام أعلم حذيفة بن اليمان ببعضهم.
فقوله {فاذهب} الأظهر أنه أمر له بالانصراف والخروج من وسط الأمة، ويجوز أن يكون كلمة زجر، كقوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} [الاسراء: 63]، وكقول الشاعر مما أنشده سيبويه في كتابه ولم يعزه:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما وبك لأيام من عجب
ويجوز أن يكون مرادا به عدم الاكتراث بحاله كقول النبهاني من شعراء الحماسة :
فإن كنت سيدنا سدتنا
وإن كنت للخال فاذهب فخل
أما قوله: {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ} فهو إخبار بما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة، فجعل حظه في حياته أن يقول لا مساس، أي سلبه الله الأنس الذي في طبع الإنسان فعوضه به هوسا ووسواسا وتوحشا، فأصبح متباعدا عن مخالطة الناس، عائشا وحده لا يترك أحد يقترب منه، فإذا لقيه إنسان قال له: لا مساس، يخشى أن يمسه، أي لا تمسني ولا أمسك، أو أراد لا اقتراب مني، فإن المس يطلق على الاقتراب كقوله: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [لأعراف: 73] وهذا أنسب بصيغة المفاعلة، أي مقاربة بيننا، فكان يقول ذلك، وهذه حالة فظيعة أصبح بها سخرية.
ومساس بكسر الميم في قراءة جميع القراء وهو مصدر ماسه بمعنى مسه، و"لا" نافية للجنس، و {مساس} اسمها مبني على الفتح.

وقوله: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً} اللام في {لك} استعارة تهكمية، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الاسراء: 7] أي فعليها. وتوعده بعذاب الآخرة فجعله موعدا له، أي موعد الحشر والعذاب، فالموعد مصدر، أي وعد لا يخلف، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . وهنا توعد بعذاب الآخرة.
وقرأ الجمهور {لَنْ تُخْلَفَهُ} بفتح اللام مبنيا للمجهول للعلم بفاعله، وهو الله تعالى، أي لا يؤخره الله عنك، فاستعير الإخلاف للتأخير لمناسبة الموعد.
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب بكسر اللام مضارع أخلف وهمزته للوجدان. يقال: أخلف الوعد إذا وجده مخلفا، وإما على جعل السامري الذي بيده إخلاف الوعد وأنه لا يخلفه. وذلك على طريق التهكم تبعا للتهكم الذي أفاده لام الملك.
وبعد أن أوعد موسى السامري بين له وللذين اتبعوه ضلالهم بعبادتهم العجل بأنه لا يستحق الإلهية لأنه للامتهان والعجز، فقال: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} . فجعل الاستدلال بالنظر إشارة إلى أنه دليل بين لا يحتاج المستدل به إلى أكثر من المشاهدة فإن دلالة المحسوسات أوضح من دلالة المعقولات.
وأضاف الإله إلى ضمير السامري تهكما بالسامري وتحقيرا له، ووصف ذلك الإله المزعوم بطريق الموصولية لما تدل عليه الصلة من التنبيه على الضلال والخطأ، أي الذي لا يستحق أن يعكف عليه.
وقوله: {ظلت} بفتح الظاء في القراءات المشهورة، وأصله: ظللت، حذفت من اللام الأولى تخفيفا من توالي اللامين وهو حذف نادر عند سيبويه وعند غيره هو قياس.
وفعل "ظل" من أخوات "كان". وأصله الدلالة على اتصاف اسمه بخبره في وقت النهار، وهو هنا مجاز في معنى دام بعلاقة الإطلاق بناء، على أن غالب الأعمال يكون في النهار.
والعكوف: ملازمة العبادة وتقدم آنفا. وتقديم المجرور في قوله: {عَلَيْهِ عَاكِفاً} للتخصيص، أي الذي اخترته للعبادة دون غيره، أي دون الله تعالى.
وقرأ الجمهور {لَنُحَرِّقَنَّهُ} بضم النون الأولى وفتح الحاء وكسر الراء مشددة. والتحريق: الإحراق الشديد، أي لنحرقنه إحراقا لا يدع له شكلا. وأراد به أن يذيبه بالنار

حتى يفسد شكله ويصير قطعا.
وقرأ ابن جماز عن أبي جعفر {لنُحْرِقنه} بضم النون الأولى وبإسكان الحاء وتخفيف الراء. وقرأه ابن وردان عن أبي جعفر بفتح النون الأولى وإسكان الحاء وضم الراء لأنه يقال: أحرقه وحرقه.
والنسف: تفريق وإذراء لأجزاء شيء صلب كالبناء والتراب.
وأراد باليم البحر الأحمر المسمى بحر القلزم، والمسمى في التوراة: بحر سوف، وكانوا نازلين حينئذ على ساحله في سفح الطور.
وثم للتراخي الرتبي، لأن نسف العجل أشد في إعدامه من تحريقه وأذل له.
وأكد "ننسفنه" بالمفعول المطلق إشارة إلى أنه لا يتردد في ذلك ولا يخشى غضبه كما يزعمون أنه إله.
[98] {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}
هذه الجملة من حكاية كلام موسى عليه السلام فموقعها موقع التذييل لوعظه. وقد التفت من خطاب السامري إلى خطاب الأمة إعراضا عن خطابه تحقيرا له، وقصدا لتبينهم على خطئهم، وتعليمهم صفات الإله الحق، واقتصر منها على الوحدانية وعموم العلم لأن الوحدانية تجمع جميع الصفات، كما قرر في دلالة كلمة التوحيد عليها في كتب علم الكلام.
وأما عموم العلم فهو إشارة إلى علم الله تعالى بجميع الكائنات الشاملة لأعمالهم ليرقبوه في خاصتهم.
واستعير فعل {وسع} لمعنى الإحاطة التامة، لأن الإناء الواسع يحيط بأكثر أشياء مما هو دونه.
وانتصب {علما} على أنه تمييز نسبة السعة إلى الله تعالى، فيؤول المعنى: وسع علمه كل شيء، أي لا يقتصر عن الاطلاع على أخفى الأشياء، كما أفاد لفظ {كل} المفيد للعموم. وتقدم قريب منه عند قوله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} في سورة البقرة [255]

[99-100] {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً}
جملة مستأنفة تذييلية أفادت التنويه بقصة رسالة موسى وما عقبها من الأعمال التي مع بني إسرائيل ابتداء من قوله {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً} [طه:9-10]، أي مثل القصص نقص عليك من أنباء القرون الماضية. والإشارة راجعة إلى القصة المذكورة.
والمراد بقوله: {نقص} قصصنا، وإنما صيغ المضارع لاستحضار الحالة الحسنة في ذلك القصص.
والتشبيه راجع إلى تشبيهها بنفسها كناية عن كونها إذا أريد تشبيهها وتقريبها بما هو أعرف منها في بابها لم يجد مريد ذلك طريقا لنفسه في التشبيه إلا أن يشبهها بنفسها، لأنها لا يفوقها غيرها في بابها حتى تقرب به، على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] في سورة البقرة، ونظائره كثيرة في القرآن.
و "من" في قوله: {مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} تبعيضية، وهي صفة لمحذوف تقديره: قصصا من أنباء ما قد سبق. ولك أن تجعل من اسما بمعنى بعض، فتكون مفعول {نقص} .
والأنباء: الأخبار. و "ما" الموصولة ما صدقها الأزمان، لأن الأخبار تضاف إلى أزمانها، كقولهم: أخبار أيام العرب، والقرون الوسطى.وهي كلها من حقها في الموصولية أن تعرف بـ"ما" الغالبة في غير العاقل. ومعلوم أن المقصود ما فيها من أحوال الأمم، فلو عرفت بـ"من" الغالبة في العقلاء لصح ذلك وكل ذلك واسع.
وقوله: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} إيماء إلى أن ما يقص من أخبار الأمم ليس المقصود به قطع حصة الزمان ولا إيناس السامعين بالحديث إنما المقصود منه العبرة والتذكرة وإيقاظ لبصائر المشركين من العرب إلى موضع الاعتبار من هذه القصة، وهو إعراض الأمة عن هدي رسولها وانصياعها إلى تضليل المضللين من بينها. فللإيماء إلى هذا قال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً* خَالِدِينَ فِيهِ} .

وتنكير {ذكرا} للتعظيم، أي آتيناك كتابا عظيما. وقوله: {من لدنا} توكيد لمعنى {آتيناك} وتنويه بشأن القرآن بأنه عطية كانت مخزونة عند الله فخص بها خير عباده.
والوزر: الإثم. وجعل محمولا تمثيل لملاقاة المشقة من جراء الإثم، أي من العقاب عنه، فهنا مضاف مقدر وقرينته الحال في قوله {خَالِدِينَ فِيهِ} ، وهو حال من اسم الموصول أو الضمير المنصوب بحرف التوكيد، وما صدقها، متحد وإنما اختلف بالإفراد والجمع رعيا للفظ "من" مرة ولمدلولها مرة،وهو الجمع المعرضون، فقال: {مَنْ أَعْرَضَ} ثم قال {خَالِدِينَ} .
وجملة {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} حال ثانية، أي ومسوءين به. و {ساء} هنا هو أحد أفعال الذم مثل "بئس". وفاعل {ساء} ضمير مستتر مبهم يفسره التمييز الذي بعده وهو {حملا} . والحمل بكسر الحاء اسم بمعنى المحمول كالذبح بمعنى المذبوح. والمخصوص بالذم محذوف لدلالة لفظ {وزرا} عليه. والتقدير: وساء لهم حملا وزرهم، وحذف المخصوص في أفعال المدح والذم شائع كقوله تعالى {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] أي سليمان هو الأواب.
واللام في قوله {وَسَاءَ لَهُمْ} لام التبيين، وهي مبينة للمفعول في المعنى، لأن أصل الكلام: ساءهم الحمل، فجيء باللام لزيادة تبيين تعلق الذم بحمله. فاللام لبيان تعلق بهم سوء الحمل.
والحمل بكسر الحاء المحمول مثل الذبح.
[102-104] {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً}
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} بدل من يوم القيامة في قوله: {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} [طه:101]، وهو اعتراض بين جملة {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} [طه:99] وما تبعها وبين جملة {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِياً} [طه:113]. تخص لذكر البعث والتذكير به والنذارة بما يحصل للمجرمين يومئذ.
والصور: قرن عظيم يجعل في داخله سداد لبعض فضائه فإذا نفخ فيه النافخ بقوة

خرج منه صوت قوي، وقد اتخذ للإعلام بالاجتماع للحرب، وتقدم عند قوله تعالى: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [73].
وقرأ الجمهور {ينفخ} بياء الغيبة مبنيا للمجهول، أي بنفخ نافخ، وهو الملك الموكل بذلك. وقرأه أبو عمرو وحده {ننفخ} بنون العظمة وضم الفاء. وإسناد النفخ إلى الله مجاز عقلي باعتبار أنه الآمر به، مثل: بنى الأمير القلعة.
والمجرمون: المشركون والكفرة.
والزرق: جمع أزرق، وهو الذي لونه الزرقة. والزرقة: لون كلون السماء إثر الغروب، وهو في جلد الإنسان قبيح المنظر لأنه يشبه لون ما أصابه حرق نار. وظاهر الكلام أن الزرقة لون أجسادهم فيكون بمنزلة قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، وقيل: المراد لون عيونهم، فقيل: لأن زرقة العين مكروهة عند العرب. والأظهر على هذا المعنى أن يراد شدة زرقة العين لأنه لون غير معتاد، فيكون كقول بشار:
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
وقيل: المراد بالزرق العمي، لأن العمى بلون العين بزرقة. وهو محتمل في بيت بشار أيضا.
والتخافت: الكلام الخفي من خوف ونحوه. وتخافتهم لأجل ما يملأ صدورهم من هول ذلك اليوم كقوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه: 108].
وجملة {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} مبينة لجملة {يتخافتون} ، وهم قد علموا أنهم كانوا أمواتا ورفاتا فأحياهم الله فاستيقنوا ضلالهم إذ كانوا ينكرون الحشر.
ولعلهم أرادوا الاعتذار لخطئهم في إنكار الإحياء بعد انقراض أجزاء البدن مبالغة في المكابرة، فزعموا أنهم ما لبثوا في القبور إلا عشر ليال فلم يصيروا رفاتا، وذلك لما بقي في نفوسهم من استحالة الإحياء بعد تفرق الأوصال، فزعموا أن إحياءهم ما كان إلا برد الأرواح إلى الأجساد، فالمراد باللبث: المكث في القبور، كقوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} في سورة المؤمنين [112، 113]، وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} في سورة الروم: [55]
و "إذ" ظرف، أي يتخافتون في وقت يقول فيه أمثلهم طريقة. والأمثل: الأرجح

الأفضل. والمثالة: الفضل، أي صاحب الطريقة المثلى لأن النسبة في الحقيقة للتمييز.
والطريقة: الحالة والسنة والرأي. والمراد هنا الرأي، وتقدم في قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] في هذه السورة، ولم يأت المفسرون في معنى وصف القائل: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} بأنه أمثل طريقة بوجه تطمئن له النفس.
والذي أراه: أنه يحتمل الحقيقة والمجاز؛ فإن سلكنا به مسلك الحمل على الحقيقة كان المعنى أنه أقربهم إلى اختلاق الاعتذار عن خطئهم في إنكارهم البعث بأنهم ظنوا البعث واقعا بعد طول المكث في الأرض طولا تتلاشى فيه أجزاء الأجسام، فلما وجدوا أجسادهم كاملة مثل ما كانوا في الدنيا قال بعضهم: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} . فكان ذلك القول عذرا لأن عشر الليالي تتغير في مثلها الأجسام. فكان الذي قال: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} أقرب إلى رواج الاعتذار. فالمراد: أنه الأمثل من بينهم في المعاذير، وليس المراد أنه مصيب.
وإن سلكنا به مسلك المجاز فهو تهكم بالقائل في سوء تقديره من لبثهم في القبور، فلما كان كلا التقديرين متوغلا في الغلط مؤذنا بجهل القدرين واستفهام الأمر عليهم دالا على الجهل بعظيم قدرة الله تعالى الذي قضى الأزمان الطويلة والأمم العظيمة وأعادهم بعد القرون الغابرة. فكان الذي قدر زمن المكث في القبور بأقل قدر أو غل في الغلط فعبر عنه بـ {أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} تهكما به وبهم معا إذ استوى الجميع في الخطأ.
وجملة {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} معترضة بين فعل {يتخافتون} وظرفية {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ} ، أي أنهم يقولون ذلك سرا ونحن أعلم به وأننا نخبر عن قولهم يومئذ خبر العليم الصادق.
[105-107] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً *لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً}
لما جرى ذكر البعث ووصف ما سينكشف للذين أنكروه من خطئهم في شبهتهم بتعذر إعادة الأجسام بعد تفرق أجزائها ذكرت أيضا شبهة من شبهاتهم كانوا يسألون بها النبي صلى الله عليه وسلم سؤال تعنت لا سؤال استهداء، فكانوا يحيلون انقضاء هذا العالم ويقولون: فأين تكون هذه الجبال التي نراها. وروي أن رجلا من ثقيف سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهم أهل جبال لأن موطنهم الطائف وفيه جبل كرى. وسواء كان سؤالهم استهزاء أم

استرشادا. فقد أنبأهم الله بمصير الجبال إبطالا لشبهتهم وتعلما للمؤمنين. قال القرطبي: جاء هنا أي قوله {فَقُلْ يَنْسِفُهَا} بفاء وكل سؤال في القرآن {قل} أي كل جواب في لفظ منه مادة سؤال بغير فاء إلا هذا، لأن المعنى إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط، وقد علم أنهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال. وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال ا هـ.
وأكد {ينسفها نسفا} لإثبات أنه حقيقة لا استعارة. فتقدير الكلام: ونحشر المجرمين يومئذ رزقا... إلى آخره، وننسف الجبال نسفا، فقل ذلك للذين يسألونك عن الجبال.
والنسف: تفريق وإذراء، وتقدم آنفا.
والقاع: الأرض السهلة.
والصفصف: الأرض المستوية التي لا نتوء فيها.
ومعنى {يَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} أنها تندك في مواضعها وتسوى مع الأرض حتى تصير في مستوى أرضها، وذلك يحصل بزلزال أو نحوه، قال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} [الواقعة:4-6].
وجملة {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} حال مؤكدة لمعنى {قَاعاً صَفْصَفاً} لزيادة تصوير حالة فيزيد تهويلها، والخطاب في {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً} لغير معين يخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم سائليه.
والعوج بكسر العين وفتح الواو: ضد الاستقامة، ويقال بفتح العين والواو، كذلك فهما مترادفان على الصحيح من أقوال أئمة اللغة. وهو ما جزم به عمرو واختاره المرزوقي في شرح الفصيح . وقال جماعة: مكسور العين يجري على الأجسام غير المنتصبة كالأرض وعلى الأشياء المعنوية كالدين. و مفتوح العين يوسف به الأشياء المنتصبة كالحائط والعصا، وهو ظاهر ما في لسان العرب عن الأزهري، وقال فريق: مكسور العين توصف به المعاني، و مفتوح العين توصف به الأعيان. وهذا أضعف الأقوال، وهو منقول عن ابن دريد في الجمهرة وتبعه في الكشاف هنا، وكأنه مال إلى ما فيه من التفرقة في الاستعمال، وذلك من الدقائق التي يميل إليها المحققون. ولم يعرج عليه صاحب القاموس، وتعسف صاحب الكشاف تأويل الآية على اعتباره خلافا

لظاهرها. وهو يقتضي عدم صحة إطلاقه في كل موضع. وتقدم هذا اللفظ في أول سورة الكهف فانظره.
والأمت: النتوء اليسير، أي لا ترى فيها وهدة ولا نتوءا ما.
والمعنى: لا ترى في مكان نسفها عوجا ولا أمتا.
[108-112] {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً}
جملة {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} في معنى المفرعة على جملة {يَنْسِفُهَا} [طه: 105]. و {يَوْمَئِذٍ} ظرف متعلق بـ {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} . وقدم الظرف على عامله للاهتمام بذلك اليوم، وليكون تقديمه قائما مقام العطف في الوصل، أي يتبعون الداعي يوم ينسف ربك الجبال، أي إذا نسفت الجبال نودوا للحشر فحضروا يتبعون الداعي لذلك.
والداعي، قيل: هو الملك إسرافيل عليه السلام يدعو بنداء التسخير والتكوين، فتعود الأجساد والأرواح فيها وتهطع إلى المكان المدعو إليه. وقيل: الداعي الرسول، أي يتبع كل قوم رسولهم.
و {لا عِوَجَ لَهُ} حال من {الداعي} . واللام على كلا القولين في المراد من الداعي للأجل، أي لا عوج لأجل الداعي، أي لا يروغ المدعوون في سيرهم لأجل الداعي بل يقصدون متجهين إلى صوبه. ويجيء على قول من جعل المراد بالداعي بل يقصدون متجهين إلى صوبه. ويجيء على قول من جعل المراد بالداعي الرسول أن يراد بالعوج الباطل تعريضا بالمشركين الذين نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم العوج كقولهم {إِنْ تَتَّبِعُونَ إَلاَّ رَجُلاً مَسْحُورا} [الفرقان:8]، ونحو ذلك من أكاذيبهم، كما عرض بهم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]
فالمصدر المنفي أريد منه نفي جنس العوج في اتباع الداعي، بحيث لا يسلكون غير الطريق القويم، أو لا يسلك بهم غير الطريق القويم، أو بحيث يعلمون براءة رسولهم من العوج.

وبين قوله: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً} [طه: 107] وقوله: {لا عِوَجَ لَهُ} مراعاة النظير، فكما جعل الله الأرض يومئذ غير معوجة ولا ناتئة كما قال: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:14] كذلك جعل سير الناس عليها لا عوج فيه ولا مراوغة.
والخشوع: الخضوع، وفي كل شيء من الإنسان مظهر من الخشوع؛ فمظهر الخشوع في الصوت: الإسرار به، فلذلك فرع عليه قوله: {فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} .
والهمس: الصوت الخفي.
والخطاب بقوله: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً} وقوله: {فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} خطاب لغير معين، أي لا يرى الرائي ولا يسمع السامع.
وجملة {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ} في موضع الحال من ضمير {يتبعون} وإسناد الخشوع إلى الأصوات مجاز عقلي، فإن الخشوع لأصحاب الأصوات؛ أو استعير الخشوع لانخفاض الصوت وإسراره، وهذا الخشوع من هول المقام.
وجملة {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} كجملة {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} في معنى التفريع على {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} . أي لا يتكلم الناس بينهم إلا همسا ولا يجرأون على الشفاعة لمن يهمهم نفعه. والمقصود من هذا أن جلال الله والخشية منه يصدان عن التوسط عنده لنفع أحد إلا بإذنه. وفيه تأييس للمشركين من أن يجدوا شفعاء لهم عند الله.
واستثناء {مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} من عموم الشفاعة باعتبار أن الشفاعة تقتضي شافعا، لأن المصدر فيه معنى الفعل فيقتضي فاعلا، أي إلا أن يشفع من أذن له الرحمان في أن يشفع، فهو استثناء تام وليس بمفرغ.
واللام في {أَذِنَ لَهُ} لام تعدية فعل {أذن} ، مثل قوله {قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم} [الأعراف:123]. وتفسير هذا ما ورد في حديث الشفاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: فيقال لي: سل تعطه واشفع تشفع.
وقوله: {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} عائد إلى {مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} وهو الشافع. واللام الداخلة على ذلك الضمير لام التعليل، أي رضي الرحمان قول الشافع لأجل الشافع، أي إكراما له كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} . فإن الله ما أذن للشافع بأن يشفع إلا وقد أراد قبول شفاعته، فصار الإذن بالشفاعة وقبولها عنوانا على كرامة الشافع عند الله تعالى.

والمجرور متعلق بفعل {رضي} . وانتصب {قولا} على المفعولية لفعل {رضي} لأن {رضي} هذا يتعدى إلى الشيء المرضي به بنفسه وبالباء.
وجملة {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} مستأنفة بيانية لجواب سؤال من قد يسأل بيان ما يوجب رضى الله عن العبد الذي يأذن بالشفاعة فيه. فبين بيانا إجماليا بأن الإذن بذلك يجري على ما يقتضيه علم الله بسائر العبيد وبأعمالهم الظاهرة، فعبر عن الأعمال الظاهرة بما بين أيديهم لأن شأن ما بين الأيدي أن يكون واضحا، وعبر عن السرائر بما خلفهم لأن شأن ما يجعل خلف المرء أن يكون محجوبا. وقد تقدم ذلك في آية الكرسي، فهو كناية عن الظاهرات والخفيات، أي فيأذن لمن أراد تشريفه من عباده المقربين بأن يشفع في طوائف مثل ما ورد في الحديث "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان" ، أو بأن يشفع في حالة خاصة مثل ما ورد في حديث الشفاعة العظمى في الموقف لجميع الناس بتعجيل حسابهم.
وجملة {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} تذييل للتعليم بعظمة علم الله تعالى وضآلة علم البشر، نظير ما وقع في آية الكرسي.
وجملة {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} معطوفة على جملة {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} ، أي ظهر الخضوع في الأصوات والعناء في الوجوه.
والعناء: الذلة، وأصله الأسر، والعاني: الأسير. ولما كان الأسير ترهقه ذلة في وجهه أسند العناء إلى الوجوه على سبيل المجاز العقلي، والجملة كلها تمثيل لحال المجرمين الذين الكلام عليهم من قوله {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [طه: 102]، فاللام في {الوجوه} عوض عن المضاف إليه، أي وجوههم، كقوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 39] أي لهم. وأما وجوه أهل الطاعات فهي وجوه يومئذ ضاحكة مستبشرة.
ويجوز أن يجعل التعريف في {الوجوه} على العموم. ويراد بـ {عنت} خضعت، أي خضع جميع الناس إجلالا لله تعالى.
والحي:الذي ثبت له وصف الحياة، وهي كيفية حاصلة لأرقى الموجودات، وهي قوة للموجود بها بقاء ذاته وحصول إدراكه أبدا أو إلى أمد ما. والحياة الحقيقية هي حياة الله تعالى لأنها ذاتية غير مسبوقة بضدها ولا منتهية.

والقيوم: القائم بتدبير الناس، مبالغة في القيم. أي الذي لا يفوته تدبير شيء من الأمور. وتقدم {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} في سورة البقرة.
وجملة {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} ؛ أما معترضة في آخر الكلام تفيد التعليل أن جعل التعريف في {الوجوه} عوضا عن المضاف إليه، أي وجوه المجرمين. والمعنى: إذ قد خاب كل من حمل ظلما؛ وإما احتراس لبيان اختلاف عاقبة عناء الوجوه، فمن حمل ظلما فقد خاب يومئذ واستمر عناؤه. ومن عمل صالحا عاد عليه ذلك الخوف بالأمن والفرح. والظلم: ظلم النفس.
وجملة {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الخ: شرطية مفيدة قسيم مضمون جملة {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} . وصيغ هذا القسيم في صيغة الشرط تحقيقا للوعد، و {فَلاَ يَخَافُ} جواب الشرط، واقترانه بالفاء علامة على أن الجملة غير صالحة لموالاة أداة الشرط، فتعين؛ إما أن تكون {لا} التي فيها ناهية، وإما أن يكون الكلام على نية الاستئناف. والتقدير: فهو لا يخاف.
وقرأ الجمهور {فَلاَ يَخَافُ} بصيغة المرفوع بإثبات ألف بعد الخاء، على أن الجملة استئناف غير مقصود بها الجزاء، كأن انتفاء خوفه أمر مقرر لأنه مؤمن ويعمل الصالحات. وقرأه ابن كثير بصيغة الجزم بحذف الألف بعد الخاء، على أن الكلام نهي مستعمل في الانتفاء. وكتبت في المصحف بدون ألف فاحتملت القراءتين. وأشار الطيبي إلى أن الجمهور توافق قوله تعالى {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} في أن كلتا الجملتين خبرية. وقراة ابن كثير تفيد عدم التردد في حصول أمنه من الظلم والهضم، أي في قراءة الجمهور خصوصية لفظية وفي قراءة ابن كثير خصوصية معنوية.
ومعنى {فَلاَ يَخَافُ ظلما} لا يخاف جزاء الظالمين لأنه آمن منه بإيمانه وعمله الصالحات.
والهضم: النقص، أي لا ينقصون من جزائهم الذي وعدوا به شيئا كقوله: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود:109].
ويجوز أن يكون الظلم بمعنى النقص الشديد كما في قوله: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} [الكهف:33]، أي لا يخاف إحباط عمله، وعليه يكون الهضم بمعنى النقص الخفيف، وعطفه على الظلم على هذا التفسير احتراس.

[113-114] {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}
عطف على جملة {كَذَلِكَ نَقُص عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه: 99]، والغرض واحد، وهو التنويه بالقرآن. فابتدئ بالتنويه به جزئيا بالتنويه بقصصه، ثم عطف عليه التنويه به كليا على طريقة تشبه التذييل لما في قوله: {أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} من معنى عموم ما فيه.
والإشارة بـ {كذلك} نحو الإشارة في قوله {كَذَلِكَ نَقُص عَلَيكَ} ، أي كما سمعته لا يبين بأوضح من ذلك.
و {قرآنا} حال من الضمير المنصوب في {أنزلناه} , وقرآن تسمية بالمصدر. والمراد المقروء، أي المتلو، وصار القرآن علما بالغلبة على الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بألفاظ معينة متعبدا بتلاوتها يعجز الإتيان بمثل سورة منها. وسمي قرآنا لأنه نظم على أسلوب تسهل تلاوته. ولوحظ هنا المعنى الاستقاقي قبل الغلبة وهو ما تفيده مادة قرأ من يسر تلاوته؛ وما ذلك إلا لفصاحة تأليفه وتناسب حروفه. والتنكير يفيد الكمال، أي أكمل ما يقرأ.
و {عربيا} صفة {قرآنا} . وهذا وصف يفيد المدح، لأن اللغة العربية أبلغ اللغات وأحسنها فصاحة وانسجاما. وفيه تعريض بالامتنان على العرب، وتحميق للمشركين منهم حيث أعرضوا عنه وكذبوا به، قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الانبياء:10]
والتصريف: التنويع والتفنين. وقد تقدم عند قوله تعالى أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون في سورة الأنعام، وقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} في سورة الإسراء: [41].
وذكر الوعيد هنا للتهديد، ولمناسبة قوله قبله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه: 111].
والتقوى: الخوف. وهي تستعمل كناية عن الطاعة لله، أي فعلنا ذلك رجاء أن يؤمنوا ويطيعوا. والذكر هنا بمعنى التذكر، أي فعلنا ذلك رجاء أن يؤمنوا ويطيعوا. والذكر هنا بمعنى التذكر، أي يحدث لهم القرآن تذكرا ونظرا فيما يحق عليهم أن يختاروه لأنفسهم.

وعبر بـ {يحدث} إيماء إلى أن الذكر ليس من شأنهم قبل نزول القرآن، فالقرآن أوجد فيهم ذكرا لم يكن من قبل، قال ذو الرمة:
ولما جرت في الجزل جريا كأنه
سنا الفجر أحدثنا لخالقها شكرا
و "لعل" للرجاء، أي أن حال القرآن أن يقرب الناس من التقوى والتذكر، بحيث يمثل شأن من أنوله وأمر بما فيه بحال من يرجو فيلفظ بالحرف الموضوع لإنشاء الرجاء. فحرف "لعل" استعارة تبعية تنبئ عن تمثيلية مكنية. وقد مضى معنى "لعل" في القرآن عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]
وجملة {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} معترضة بين جملة {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ} وبين جملة {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} . وهذا إنشاء ثناء على الله منزل القرآن وعلى منة هذا القرآن، وتلقين لشكره على ما بين لعباده من وسائل الإصلاح وحملهم عليه بالترغيب والترهيب وتوجيهه إليهم بأبلغ كلام وأحسن أسلوب فهو مفرع على ما تقدم من قوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} إلى آخرها.....
والتفريع مؤذن بأن ذلك الإنزال والتصريف ووسائل الإصلاح كل ذلك ناشئ عن جميل آثار يشعر جميعها بعلوه وعظمته وأنه الملك الحق المدبر لأمور مملوكاته على أتم وجوه الكمال وأنفذ طرق السياسة.
وفي وصفه بالحق إيماء إلى أن ملك غيره من المتسمين بالملوك لا يخلو من نقص كما قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: من الآية26]. وفي الحديث: "فيقول الله أنا الملك أين ملوك الأرض" ، أي أحضروهم هل تجدون منهم من ينازع في ذلك، كقول الخليفة معاوية حين خطب في المدينة يا أهل المدينة أين علماؤكم.
والجمع بين اسم الجلالة واسمه "الملك" إشارة إلى أن إعظامه وإجلاله مستحقان لذاته بالاسم الجامع لصفات الكمال، وهو الدال على انحصار الإلهية وكمالها.
ثم أتبع بـ"الحق" للإشارة إلى أن تصرفاته واضحة الدلالة على أن ملكه ملك حق لا تصرف فيه إلا بما هو مقتضي الحكمة.
والحق: الذي ليس في ملكه شائبة عجز ولا خضوع لغيره. وفيه تعريض بأن ملك غيره زائف.

وفي تفريع ذلك على إنزال القرآن إشارة أيضا إلى أن القرآن قانون ذلك الملك، وأن ما جاء به هو السياسة الكاملة الضامنة صلاح أحوال متبعيه في الدنيا والآخرة.
وجملة {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} ناشئة على ما تقدم من التنويه بالقرآن وما اشتمل عليه من تصاريف إصلاح الناس. فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على صلاح الأمة شديد الاهتمام بنجاتهم لا جرم خطرت بقلبه الشريف عقب سماع تلك الآيات رغبة أو طلبة في الإكثار من نزول القرآن وفي التعجيل به إسراعا بعظة الناس وصلاحهم، فعلمه الله أن يكل الأمر إليه فإنه أعلم بحيث يناسب حال الأمة العام.
ومعنى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي من قبل أن يتم وحي ما قضي وحيه إليك، أي ما نفذ إنزاله فإنه هو المناسب، فالمنهي عنه هو سؤال التعجيل أو الرغبة الشديدة في النفس التي تشبه الاستبطاء لا مطلق مودة الازدياد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن قصة موسى مع الخضر عليه السلام "وددنا أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما أو من خبرهما" .
ويجوز أن يكون معنى العجلة بالقرآن العجلة بقراءته حال إلقاء جبريل آياته. فعن ابن عباس: كان النبي يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل حرصا على الحفظ وخشية من النسيان فأنزل الله {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} الآية. وهذا كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16] كما في صحيح البخاري . وعلى هذين التأويلين يكون المراد بقضاء وحيه إتمامه وانتهاؤه، أي انتهاء المقدار الذي هو بصدد النزول.
وعن مجاهد وقتادة أن معناه: لا تعجل بقراءة ما أنزل إليك لأصحابك ولا تمله عليهم حتى تتبين لك معانيه. وعلى هذا التأويل يكون قضاء الوحي تمام معانيه. وعلى كلا التفسيرين يجري اعتبار موقع قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} .
وقرأ الجمهور {يقضى} بتحتية في أوله مبنيا للنائب، ورفع {وحيه} على أنه نائب الفاعل, وقرأ يعقوب بنون العظمة وكسر الضاد وبفتحة على آخر {نقضي} وبنصب {وحيه} .
وعطف جملة {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} يسير إلى أن المنهي عنه استعجال مخصوص وأن الباعث على الاستعجال محمود. وفيه تلطف مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ أتبع نهيه عن التعجل

الذي يرغبه بالإذن له بسؤال الزيادة من العلم، فإن ذلك مجمع كل زيادة سواء كانت بإنزال القرآن أم بغيره من الوحي والإلهام إلى الاجتهاد تشريعا وفهما، إيماء إلى أن رغبته في التعجل رغبة صالحة كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر حين دخل المسجد فوجد النبي راكعا فلم يلبث أن يصل إلى الصف بل ركع ودب إلى الصف راكعا فقال له: " زادك الله حرصا ولا تعد" .
[115] {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}
لما كانت قصة موسى عليه السلام مع فرعون ومع قومه ذات عبرة للمكذبين والمعاندين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وعاندوه، وذلك المقصود من قصصها كما أشرنا إليه آنفا عند قوله: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} [طه:99-100]. فكأن النبي صلى الله عليه وسلم استحب الزيادة من هذه القصص ذات العبرة رجاء أن قومه يفيقون من ضلالتهم كما أشرنا إليه قريبا عند قوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} ؛ أعقبت تلك القصة بقصة آدم عليه السلام وما عرض له به الشيطان، تحقيقا لفائدة قوله {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} فالجملة عطف قصة على قصة والمناسبة ما سمعت.
والكلام معطوف على جملة {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه: من الآية99]. وافتتاح الجملة بحرف التحقيق ولام القسم لمجرد الاهتمام بالقصة تنبيها على قصد التنظير بين القصتين في التفريط في العهد، لأن في القصة الأولى تفريط بني إسرائيل في عهد الله، كما قال فيها: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} [طه: 96]، وفي قضى آدم تفريطا في العهد أيضا. وفي كون ذلك من عمل الشيطان كما قال في القصة الأولى {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه: 96] وقال في هذه: {فَوَسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120]. وفي أن في القصتين نسيانا لما يجب الحفاظ عليه وتذكره فقال في القصة الأولى {فنسي} [طه: 16] وقال في هذه القصة {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} .
وعليه فقوله: {مِنْ قَبْلُ} حذف ما أضيف إليه {قبل} . وتقديره: من قبل إرسال موسى أو من قبل ما ذكر، فإن بناء {قبل} على الضم علامة حذف المضاف إليه ونية معناه. والذي ذكر: إما عهد موسى الذي في قوله تعالى {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] وقوله: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16]؛ وإما عهد الله

لبني إسرائيل الذي ذكرهم به موسى عليه السلام لما رجع إليهم غضبان أسفا، وهو ما في قوله: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} [طه: من الآية86] والمراد بالعهد إلى آدم: العهد إليه في الجنة التي أنسي فيها.
والنسيان: أطلق هنا على إهمال العمل بالعهد عمدا، كقوله في قصة السامري {فنسي} ، فيكون عصيانا، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [لأعراف:21]، وقد مضت في سورة الأعراف. وهذا العهد هو المبين في الآية بقوله: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: من الآية117] الآية.
والعزم: الجزم بالفعل وعدم التردد فيه، وهو مغالبة ما يدعو إليه الخاطر من الانكفاف عنه اعسر عمله أو إيثار ضده عليه. وتقدم قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: من الآية227] في سورة البقرة. والمراد هنا: العزم على امتثال الأمر وإلغاء ما يحسن إليه عدم الامتثال، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: من الآية159] وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: من الآية35] وهم نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وموسى، وداوود، وعيسى عليهم السلام.
واستعمل نفي وجدان العزم عند آدم في معنى عدم وجود العزم من صفته فيما عهد إليه تمثيلا لحال طلب حصوله عنده بحال الباحث على عزمه فلم يجده عنده بعد البحث.
[116] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى}
هذا بيان لجملة {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} [طه: 115] إلى آخرها، فكان مقتضى الظاهر أن لا يكون معطوفا بالواو بل أن يكون مفصولا، فوقوع هذه الجملة معطوفة اهتمام بها لتكون قصة مستقلة فتلفت إليها أذهان السامعين، فتكون الواو عاطفة قصة آدم على قصة موسى عطفا على قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً} [طه: 10]، ويكون التقدير: واذكر إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، وتكون جملة {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} تذييلا لقصة هارون مع السامري وقوله: {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل هارون. والمعنى: أن هارون لم يكن له عزم في الحفاظ على ما عهد إليه موسى، وانتهت القصة بذلك التذييل، ثم عطف على قصة موسى قصة آدم تبعا لقوله: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه: 99].

[117-119] { فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}
{فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ}
قصة خلق آدم وسجود الملائكة له وإباء الشيطان من السجود تقدمت في سورة البقرة وسورة الأعراف، فلنقتصر على بيان ما اختصت به هاته السورة من الأفانين والتراكيب.
فقوله: {إِنَّ هَذَا} إشارة إلى الشيطان إشارة مرادا منها التحقير، كما حكى الله في سورة الأنبياء من قول المشركين {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36]، وفي سورة الأعراف {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُما عَدُوٌ} عبر عنه باسمه.
وقوله: {عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} هو كقوله في الأعراف [22]: {وأقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لكما عَدُوٌ مُِبينٌ} ، فذكرت عداوته لهما جملة هنالك وذكرت تفصيلا هنا، فابتدئ في ذكر متعلق عداوته بآدم لأن آدم هو منشأ عداوة الشيطان لحسده، ثم أتبع بذكر زوجه لأن عداوته إياها تبع لعداوته آدم زوجها، وكانت عداوته متعلقة بكليهما لاتحاد علة العداوة، وهي حسده إياهما على ما وهبهما الله من علم الأسماء الذي هو عنوان الفكر الموصل إلى الهدى وعنوان التعبير عن الضمير الموصل للإرشاد، وكل ذلك مما يبطل عمل الشيطان ويشق عليه في استهوائهما واستهواء ذريتهما، ولأن الشيطان رأى نفسه أجدر بالتفضيل على آدم فحنق لما أمر بالسجود لآدم.
{فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}
قوله: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ} تفريع على الإخبار بعداوة إبليس له ولزوجه: بأن نهيا نهي تحذير عن أن يتسبب إبليس في خروجهما من الجنة، لأن العدو لا يروقه صلاح حال عدوه. ووقع النهي في صورة نهي عن عمل هو من أعمال الشيطان لا من أعمال آدم كناية عن نهي آدم عن التأثر بوسائل إخراجهما من الجنة، كما يقال: لا أعرفنك تفعل كذا، كناية عن: لا تفعل، أي لا تفعل كذا حتى أعرفه منك. وليس المراد النهي عن أن يبلغ إلى المتكلم خبر فعل المخاطب.
وأسند ترتب الشقاء إلى آدم خاصة دون زوجه إيجازا، لأن في شقاء أحد الزوجين

شقاء الآخر لتلازمهما في الكون مع الإيماء إلى أن شقاء الذكر أصل شقاء المرأة، مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة.
وجملة {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} تعليل للشقاء المترتب على الخروج من الجنة المنهي عنه، لأنه لما كان ممتعا في الجنة برفاهية العيش من مأكل وملبس ومشرب واعتدال جو مناسب للمزاج كان الخروج منها مقتضيا فقدان ذلك.
و {تضحى} مضارع ضحي: كرضي، إذا أصابه حر الشمس في وقت الضحى. ومصدره الضحو، وحر الشمس في ذلك الوقت هو مبدأ شدته. والمعنى: لا يصيبك ما ينافر مزاجك، فالاقتصار على انتفاء الضحو هنا امتفاء، أي ولا تصرد. وآدم لم يعرف الجوع والعرى والظمأ والضحو بالوجدان، وإنما عرفها بحقائقها ضمن تعليمه الأسماء كلها كما تقدم في سورة البقرة.
وجمع له في هذا الخبر أصول كفاف الإنسان في معيشته إيماء إلى أن الاستكفاء منها سيكون غاية سعي الإنسان في حياته المستقبلية، لأن الأحوال التي تصاحب التكوين تكون إشعارا بخصائص المكون في مقوماته، كما ورد في حديث الإسراء من توفيق النبي صلى الله عليه وسلم لاختيار اللبن على الخمر فقيل له: لو اخترت الخمر لغوت أمتك.
وقد قرن بين انتفاء الجوع واللباس في قوله: {أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} ، وقرن بين انتفاء الظمأ وألم الجسم في قوله: {لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} لمناسبة بين الجوع والعرى، في أن الجوع خلو باطن الجسم عما يقيه تألمه وهو لفح الحر وقرص البر، ولمناسبة بين الظمأ وبين حرارة الشمس في أن الأول ألم حرارة الباطن والثاني ألم حرارة الظاهر، فهذا اقتضى عدم اقتران ذكر الظمأ والجوع، وعدم اقتران ذكر العري بألم الحر وإن كان مقتضى الظاهر جمع النظيرين في كليهما، إذ جمع النظائر من أساليب البديع في نظم الكلام بحسب الظاهر لولا أن عرض هنا ما أوجب تفريق النظائر.
ومن هذا القبيل في تفريق النظائر قصة أدبية طريفة جرت بين سيف الدولة وبين أبي الطيب المتنبي ذكرها المعري في معجزة أحمد شرحه على ديوان أبي الطيب إجمالا، وبسطها الواحدي في شرحه على الديوان وهي: أن أبا الطيب لما أنشد سيف الدولة قصيدته التي طالعها:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم
قال في أثنائها يصف موقعة بين سيف لبدولة والروم في ثغر الحدث:
وقفت ما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
فاستعادها سيف الدولة منه بعد ذلك فلما أنشده هذين البيتين. قال له سيف الدولة: إن صدري البيتين لا يلائنان عجزيهما وكان ينبغي أن تقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله:
كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ووجه الكلام على ما قال العلماء بالشعر أن يكون عجز البيت الأول للثاني وعجز البيت الثاني للأول ليستقيم الكلام فيكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكر، ويكون سباء الخمر للذة مع تبطن الكاعب. فقال أبو الطيب: أدام الله عز الأمير، إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امروء القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعرف أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك لأن البزاز لا يعرف إلا جملته والحائك يعرف جملته وتفصيله لأنه أخرجه من الغزلية إلى الثوبية. وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لما ذكرت الموت أتبعته بذكر الردى لتجانسه ولما كان وجه المهزوم لا يخلو أن يكون عبوسا وعينه من أن تكون باكية قلت:
ووجهك وضاح وثغرك باسم
لأجمع بين الأضداد في المعنى.
ومعنى هذا أن امرأ القيس خالف مقتضى الظاهر في جمع شيئين مشتهري المناسبة فجمع شيئين متناسبين مناسبة دقيقة، وأن أبا الطيب خالف مقتضى الظاهر من جمع النظيرين ففرقهما لسلوك طريقة أبدع، وهي طريقة الطباق بالتضاد وهو أعرق في صناعة البديع.

وجعلت المنة على آدم بهذه النعم مسوقة في سياق انتفاء أضدادها ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة تحذيرا منها لكي يتحامى من يسعى إلى إرزائه منها.
وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم {وإنك لا تظمأ} بكسر همزة "إن" عطفا للجملة على الجملة. وقرأ الباقون {وأَنَّكَ} بفتح الهمزة عطفا على {أَلاََّ تَجوعَ} عطف المفرد على المفرد، أي أن لك نفي الجوع والعري ونفي الظمأ والضحو.
وقد حصل تأكيد الجميع على القراءتين بـ"إن" وبإختها، وبين الأسلوبين تفنن.
[120] {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى}
قوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} تقدم مثله في الأعراف. والفاء لتعقيب مضمون جملتها على مضمون التي قبلها، وهو تعقيب نسبي بما يناسب مدة تقلب في خلالها بخيرات الجنة حتى حدسه الشيطان واشتد حسده.
وتعدية فعل "وسوس" هنا بحرف "إلى" وباللام في سورة الأعراف [20] {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} باعتبار كيفية تعليق المجرور بذلك الفعل في قصد المتكلم، فإنه فعل قاصر لا غنى له عن التعدية بالحرف، فتعديته بحرف "إلى" هنا باعتبار انتهاء الوسوسة إلى آدم وبلوغها إياه، وتعديته باللام في الأعراف باعتبار أن الوسوسة كانت لأجلهما.
وجملة {قَالَ يَا آدَمُ} [طه: 117] بيان لجملة {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} . وهذه الآية مثال للجملة المبينة لغيرها في علم المعاني.
وهذا القول خاطر ألقاه الشيطان في نفس آدم بطريق الوسوسة وهي الكلام الخفي، إما بألفاظ نطق بها الشيطان سرا لآدم لئلا يطلع عليه الملائكة فيحذروا آدم من كيد الشيطان. فيكون إطلاق القول عليه حقيقة؛ وإما بمجرد توجه أراده الشيطان كما يوسوس للناس في الدنيا، فيكون إطلاق القول عليه مجازا باعتبار المشابهة.
و {هَلْ أَدُلُّكَ} استفهام مستعمل في العرض، وهو أنسب المعاني المجازية للاستفهام لقربه من حقيقته.
والافتتاح بالنداء ليتوجه إليه.
والشجرة هي التي نهاه الله عن الأكل منها دون جميع شجر الجنة، ولم يذكر النهي

عنها هنا وذكر في قصة سورة البقرة. وهذا العرض متقدم على الإغراء بالأكل منها المحكي في قوله تعالى في سورة الأعراف [20] {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} ، ولم يدله الشيطان على شجرة الخلد بل كذبه ودله على شجرة أخرى بآية أن آدم لم يخلد، فحصل لآدم توهم أنه إذا أكل من الشجرة التي دله عليها الشيطان أن يخلد في الحياة.
والدلالة: الإرشاد إلى شيء مطلوب غير ظاهر لطالبه، والدلالة على الشجرة لقصد الأكل من ثمرتها.
وسماها هنا {شَجَرَةَ الخُلْدِ} بالإجمال للتشويق إلى تعيينها حتى يقبل عليها، ثم عينها له عقب ذلك بما أنبا به قوله تعالى: {فَأَكَلا مِنْهَا} [طه: 121].
وقد أفصح هذا عن استقرار محبة الحياة في جبلة البشر.
والملك: التحرر من حكم الغير، وهو يوهم آدم أنه يصير هو المالك للجنة المتصرف فيها غير مأمور لآمر.
واستعمل البلى مجازا في الانتهاء، لأن الثوب إذا بلي فقد انتهى لبسه.
[121-122] {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}
تفريع على ما قبله وثم جملة محذوفة دل عليها العرض، أي فعمل آدم بوسوسة الشيطان فأكل من الشجرة وأكلت حواء معه.
واقتصار الشيطان على التسويل لآدم وهو يريد أن يأكل آدم وحواء، لعلمه بأن اقتداء المرأة بزوجها مركوز في الجبلة. وتقدم معنى {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} في سورة الأعراف [22].
وقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} عطف على {فَأَكَلا مِنْهَا} ، أي أكلا معا، وتعمد آدم مخالفة نهي الله تعالى إياه عن الأكل من تلك الشجرة، وإثبات العصيان لآدم دون زوجه يدل على أن آدم كان قدوة لزوجه فلما أكل من الشجرة تبعته زوجه. وفي هذا المعنى قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6]
والغوايه: ضد الرشد، فهي عمل فاسد أو اعتقاد باطل. وإثبات العصيان لآدم دليل

على أنه لم يكن يومئذ نبيا. ولأنه كان في عالم غير عالم التكليف وكانت الغواية كذلك، فالعصيان والغواية يومئذ: الخروج عن الامتثال في التربية كعصيان بعض العائلة أمر كبيرها، وإنما كان شنيعا لأنه عصيان أمر الله.
وليس في هذه الآية مستند لتجويز المعصية على الأنبياء ولا لمنعها، لأن ذلك العالم لم يكن عالم تكليف.
وجملة {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} معترضة بين جملة {وَعَصَى آدَمُ} وجملة {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} ، لأن الاجتباء والتوبة عليه كانا بعد أن عوقب آدم وزوجه بالخروج من الجنة كما في سورة البقرة، وهو المناسب لترتب الإخراج من الجنة على المعصية دون أن يترتب على التوبة.
وفائدة هذا الاعتراض التعجيل ببيان مآل آدم إلى صلاح.
والاجتباء: الاصطفاء. وتقدم عند قوله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] في الأنعام، وقوله: {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: من الآية121] في النحل.
والهداية: الإرشاد إلى النفع. والمراد بها إذا ذكرت مع الاجتباء في القرآن النبوءة كما في هذه الآيات الثلاث.
[123-127] {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}
استئناف بياني، لأن الإخبار عن آدم بالعصيان والغواية يثير في نفس السامع سؤالا عن جزاء ذلك. وضمير {قال} عائد إلى {ربه} [طه: 121] من قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} . والخطاب لآدم وإبليس.
والأمر في {اهبطا} أمر تكوين، لأنهما عاجزان عن الهبوط إلى الأرض بتكوين من الله إذ كان قرارهما في عالم الجنة بتكوينه تعالى.

و {جميعا} يظهر أنه اسم لمعنى كل أفراد ما يوصف {بجميع} ، وكأنه اسم مفرد يدل على التعدد مثل: فريق، ولذلك يستوي فيه المذكر وغيره والواحد وغيره، قال تعالى { فكيدوني جميعا} . ونصبه على الحال. وهو هنا حال من ضمير {اهبطا} .
وجملة {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} حال ثانية من ضمير {اهبطا} . فالمأمور بالهبوط من الجنة آدم وإبليس وأما حواء فتبع لزوجها.
والخطاب في قوله: {بعضكم} خطاب لآدم وإبليس. وخوطبا بضمير الجمع لأنه أريد عداوة نسليهما، فإنهما أصلان لنوعين نوع الإنسان ونوع الشيطان.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}
تفريع جملة {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} على الأمر بالهبوط من الجنة إلى الدنيا إنباء بأنهم يستقبلون في هذه الدنيا سيرة غير التي كانوا عليها في الجنة لأنهم أودعوا في عالم خليط خيره بشره، وحقائقه بأوهامه، بعد أن كانوا في عالم الحقائق المحضة والخير الخالص، وفي هذا إنباء بطور طرأ على أصل الإنسان في جبلته كان معدا له من أصل تركيبه.
والخطاب في قوله: {يأتينكم} لآدم باعتبار أنه أصل لنوع الإنسان إشعارا له بأنه سيكون منه جماعة، ولا يشمل هذا الخطاب إبليس لأنه مفطور على الشر والضلال إذ قد أنباه الله بذلك عند إبايته السجود لآدم، فلا يكلفه الله باتباع الهدى، لأن طلب الاهتداء ممن أعلمه الله بأنه لا يزال في ضلال يعد عبثا ينزه عنه فعل الحكيم تعالى. وليس هذا مثل أمر أبي جهل وأضرابه بالإسلام إذ أمثال أبي جهل لا يوقن بأنهم لا يؤمنون، ولم يرد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الشيطان للإسلام ولا دعا الشياطين. وأما الحديث الذي رواه الدارقطني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن"، قالوا: وإياك يا رسول الله? قال: "وإياي ولكن الله أعانني فأسلم" . فلا يقتضي أنه دعاه للإسلام ولكن الله ألهم قرينه إلى أن يأمره بالخير، والمراد بالقرين: شيطان قرين، والمراد بالهدى: الإرشاد إلى الخير.

وفي هذه الآية وصاية الله آدم وذريته باتباع رسل الله والوحي الإلهي. وبذلك يعلم أن طلب الهدى مركوز في الجبلة البشرية حتى قال كثير من علماء الإسلام: إن معرفة الإله الواحد كائنة في العقول أو شائعة في الأجيال والعصور. وإنه لذلك لم يعذر أهل الشرك في مدد الفتر التي لم تجئ فيها رسل للأمم. وهذه مسألة عظيمة وقد استوعبها علماء الكلام، وحررناها في رسالة النسب النبوي .
وقد تقدم تفسير نظير الجملتين الأولين في سورة البقرة.
وأما قوله: {فَلا يَضِلُّ} فمعناه: أنه إذا اتبع الهدى الوارد من الله على لسان رسله سلم من أن يعتريه شيء من ضلال، وهذا مأخوذ من دلالة الفعل في حيز النفي على العموم كعموم النكرة في سياق النفي، أي فلا يعتريه ضلال في الدنيا، بخلاف من اتبع ما فيه هدى وارد من غير الله فإنه وإن استفاد هدى في بعض الأحوال لا يسلم من الوقوع في الضلال في أحوال أخرى. وهذا حال متبعي الشرائع غير الإلهية وهي الشرائع الوضعية فإن واضعيها وإن أفرغوا جهودهم في تطلب الحق لا يسلمون من الوقوع في ضلالات بسبب غفلات، أو تعارض أدلة، أو انفعال بعادات مستقرة، أو مصانعة لرؤساء أو أمم رأوا أن من المصلحة طلب مرضاتهم. وهذا سقراط وهو سيد حكماء اليونان قد كان يتذرع لإلقاء الأمر بالمعروف في أثينا بأن يفرغه في قوالب حكايات على ألسنة الحيوان، ولم يسلم من الخنوع لمصانعة اللفيف فإنه مع كونه لا يرى تأليه آلهتهم لم يسلم من أن يأمر قبل موته بقربان ديك لعطارد رب الحكمة. وحالهم بخلاف حال الرسل الذين يتلقون الوحي من علام الغيوب الذي لا يضل ولا ينسى، وأيدهم الله. وعصمهم من مصانعة أهل الأهواء، وكونهم تكوينا خاصا مناسبا لما سبق في علمه من مراده منهم، وثبت قلوبهم على تحمل الأهواء، ولا يخافون في الله لومة لائم. وإن الذي ينظر في القوانين الوضعية نظرة حكيم يجدها مشتملة على مراعاة أوهام وعادات.
والشقاء المنفي في قوله: {وَلا يَشْقَى} هو شقاء الآخرة لأنه إذا سلم من الضلال في الدنيا سلم من الشقاء في الآخرة.
وبدل لهذا مقابلة ضده في قوله {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} ، إذ رتب على الإعراض عن هدي الله اختلال حاله في الدنيا والآخرة، فالمعيشة مراد بها مدة المعيشة، أي مدة الحياة.
والضنك: مصدر ضنك، من باب كرم ضناكة وضنكا، ولكونه مصدرا لم يتغير لفظه

باختلاف موصوفه، فوصف به هنا {معيشة} وهي مؤنث. والضنك: الضيق، يقال: مكان ضنك، أي ضيق. ويستعمل مجازا في عسر الأمور في الحياة، قال عنترة:
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا ... أشدد وإن نزلوا بضنك أنزل
أي بمنزل ضنك، أي فيه عسر على نازله. وهو هنا بمعنى عسر الحال من اضطراب البال وتبلبله. والمعنى: أن مجامع همه ومطامح نظره تكون إلى التحيل في إيجاد الأسباب والوسائل لمطالبه، فهو متهالك على الازدياد خائف على الانتقاص غير ملتفت إلى الكمالات ولا مأنوس بما يسعى إليه من الفضائل، يجعله الله في تلك الحالة وهو لا يشعر، وبعضهم يبدو للناس في حالة حسنة ورفاهية عيش ولكن نفسه غير مطمئنة.
وجعل الله عقابه يوم الحشر أن يكون أعمى تمثيلا لحالته الحسية يومئذ بحالته المعنوية في الدنيا، وهي حالة عدم النظر في وسائل الهدى والنجاة. وذلك المعنى عنوان على غضب الله عليه وإقصائه عن رحمته؛ فـ {أعمى} الأول مجاز و {أعمى} الثاني حقيقة.
وجملة {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
وجملة {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ} الخ. واقعة في طريق المحاورة فلذلك فصلت ولم تعطف.
وفي هذه الآية دليل على أن الله أبلغ الإنسان من يوم نشأته التحذير من الضلال والشرك، فكان ذلك مستقرا في الفطرة حتى قال كثير من علماء الإسلام: بأن الإشراك بالله من الأمم التي يكون في الفتر بين الشرائع مستحق صاحبه العقاب، وقال جماعة من أهل السنة والمعتزلة قاطبة: أن معرفة الله واجبةبالعقل1. ولا شك أن المقصود من ذكرها في القرآن تنبيه المخاطبين بالقرآن إلى الحذر من الإعراض عن ذكر الله، وإنذار لهم بعاقبة مثل حالهم.
والإشارة في {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آياتنا} راجعة إلى العمى المضمن في قوله: {لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} ، أي مثل ذلك الحال التي تساءلت عن سببها كنت نسيت آياتنا حين أتتك، وكنت تعرض عن النظر في الآيات حين تدعى إليه فكذلك الحال كان عقابك عليه جزاء وفاقا.
وقد ظهر من نظم الآية أن فيها ثلاثة احتباكات، وأن تقدير الأول: ونحشره يوم القيامة أعمى وننساه، أي تقصيه من رحمتنا. وتقدير الثاني والثالث: قال كذلك أتتك آياتنا
ـــــــ
1 في المطبوع "بالفعل".

فنسيتها وعميت عنها فكذلك اليوم تنسى وتحشر أعمى.
والنسيان في الموضعين مستعمل كناية أو استعارة في الحرمان من حظوظ الرحمة.
وجملة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} الخ... تذييل، يجوز أن تكون من حكاية ما يخاطب الله به من يحشر يوم القيامة أعمى قصد منها التوبيخ له والتنكيل، فالواو عاطفة الجملة على التي قبلها. ويجوز أن تكون تذييلا للقصة وليست من الخطاب المخاطب به من يحشر يوم القيامة أعمى قصد منها موعظة السامعين ليحذوا من أن يصيروا إلى مثل ذلك المصير، فالواو اعتراضية لأن التذييل اعتراض في آخر الكلام، والواو الاعتراضية راجعة إلى الواو العاطفة إلا أنها عاطفة مجموع كلام على مجموع كلام آخر لا على بعض الكلام المعطوف عليه.
والمعنى: ومثل ذلك الجزاء نجزي من أسرف، أي كفر ولم يؤمن بآيات ربه.
فالإسراف: الاعتقاد الضال وعدم الإيمان بالآيات ومكابرتها وتكذيبها.
والمشار إليه بقوله: {وكذلك} هو مضمون قوله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} أي وكذلك نجزي في الدنيا الذين أسرفوا ولم يؤمنوا بالآيات.
وأعقبه بقوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} وهذا يجوز أن يكون تذييلا للقصة وليس من حكاية خطاب الله للذي حشره يوم القيامة أعمى. فالمراد بعذاب الآخرة مقابل عذاب الدنيا المفاد من قوله {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} الآية، والواو اعتراضية. ويجوز أن تكون الجملة من حكاية خطاب الله للذي يحشره أعمى، فالمراد بعذاب الآخرة العذاب الذي وقع فيه المخاطب، أي أشد من عذاب الدنيا وأبقى منه لأنه أطول مدة.
[128] {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى}
تفريع على الوعيد المتقدم في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} [طه: 127]. جعل الاستفهام الإنكاري التعجيبي مفرعا على الإخبار بالجزاء بالمعيشة الضنك لمن أعرض عن توحيد الله لأنه سبب عليه لا محالة، تعجيبا من حال غفلة المخاطبين المشركين عما حل بالأمم المماثلة لهم في الإشراك والإعراض عن كتب

الله وآيات الرسل.
فضمائر جمع الغائبين عائدة إلى معروف من مقام التعريض بالتحذير والإنذار بقرينة قوله {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} ، فإنه لا يصلح إلا أن يكون حالا لقوم أحياء يومئذ.
والهداية هنا مستعارة للإرشاد إلى الأمور العقلية بتنزيل العقلي منزلة الحسي، فيؤول معناها إلى معنى التبيين، ولذلك عدي فعلها باللام، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} في سورة الأعراف [100].
وجملة {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} معلقة فعل {يهد} عن العمل في المفعول لوجود اسم الاستفهام بعدها، أي ألم يرشدهم إلى جواب {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} ، أي كثرة إهلاكنا القرون. وفاعل {يهد} ضمير دل عليه السياق وهو ضمير الجلالة. والمعنى: أفلم يهد الله لهم جواب {كَمْ أَهْلَكْنَا} ويجوز أن يكون الفاعل مضمون جملة {كَمْ أَهْلَكْنَا} والمعنى: أفلم يبين لهم هذا السؤال، على أن مفعول {يهد} محذوف تنزيلا للفعل منزلة اللازم، أي يحصل لهم التبيين.
وجملة {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} حال من الضمير المجرور باللام، لأن عدم التبيين في تلك الحالة أشد غرابة وأحرى بالتعجيب.
والمراد بالقرون: عاد وثمود. فقد كان العرب يمرون بمساكن عاد في رحلاتهم إلى اليمن ونجران وما جاورها، وبمساكن ثمود في رحلاتهم إلى الشام. وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بديار ثمود في مسيرهم إلى تبوك.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} في موضع التعليل للإنكار والتعجيب من حال غفلتهم عن هلاك تلك القرون. فحرف التأكيد للاهتمام بالخبر وللإيذان بالتعليل.
والنهي بضم النون والقصر جمع نهية بضم النون وسكون الهاء: اسم العقل. وقد يستعمل النهى مفردا بمعنى العقل. وفي هذا تعريض بالذين لم يهتدوا بتلك الآيات بأنهم عديمو العقول، كقوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
[129 - 130] {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً النهار * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ

النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}
جملة {وَلَوْلا كَلِمَةٌ} عطف على جملة {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [طه: 128] باعتبار ما فيها من التحذير والتهديد والعبرة بالقرون الماضية، بأنهم جديرون بأن يحل بهم مثل ما حل بأولئك. فلما كانوا قد غرتهم أنفسهم بتكذيب الوعيد لما رأوا من تأخر نزول العذاب بهم فكانوا يقولون {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سبأ: 29] عقب وعيدهم بالتنبيه على ما يزيل غرورهم إن سبب التأخير كلمة سبقت من الله بذلك لحكم يعلمها. وهذا في معنى قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ:29-30]
والكلمة: مستعملة هنا فيما شأنه أن تدل عليه الكلمات اللفظية من المعاني، وهو المسمى عند الأشاعرة بالكلام النفسي الراجع إلى علم الله تعالى بما سيبرزه للناس من أمر التكوين أو أمر التشريع، أو الوعظ.وتقدم قوله تعالى: {ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في سورة هود [110].
فالكلمة هنا مراد بها: ما علمه الله من تأجيل حلول العذاب بهم،فالله تعالى بحكمته أنظر قريشا فلم يعجل لهم العذاب لأنه أراد أن ينشر الإسلام بمن يؤمن منهم وبذرياتهم. وفي ذلك كرامة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بتيسير أسباب بقاء شرعه وانتشاره لأنه الشريعة الخاتمة. وخص الله منهم بعذاب السيف والأسر من كانوا أشداء في التكذيب والإعراض حكمة منه تعالى، كما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [لأنفال: 34].
واللزم بكسر اللام مصدر لازم، كالخصام، استعمل مصدرا لفعل لزم الثاني لقصد المبالغة في قوة المعنى كأنه حاصل من عدة ناس. ويجوز أن يكون وزن فعال بمعنى فاعل، مثل لزاز في قول لبيد:
منا لزاز كريهة جذامها
وسداد في قول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
أي لكان الإهلاك الشديد لازما لهم.

فانتصب {لزاما} على أنه خبر {كان}، واسمها ضمير راجع إلى الإهلاك المستفاد من {كَمْ أَهْلَكْنَا} ، أي لكان الإهلاك الذي أهلك مثله من قبلهم من القرون، وهو الاستئصال، لازما لهم.
{وَأَجَلٌ مُسَمّىً} عطف على {كلمة} . والتقدير: لولا كلمة وأجل مسمى يقع عنده الهلاك لكان إهلاكهم لزاما. والمراد بالأجل:ما سيكشف لهم من حلول العذاب: إما في الدنيا بأن حل برجال منهم وهو عذاب البطشة الكبرى يوم بدر، وإما في الآخرة وهو ما سيحل بمن ماتوا كفار منهم. وفي معناه قوله تعالى {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:77].
ويظهر أنه شاع في عصر الصحابة تأويل اسم اللزام أنه عذاب توعد الله به مشركي قريش. وقيل: هو عذاب يوم بدر. ففي "صحيح البخاري" عن ابن مسعود قال خمس قد مضين: للدخان، والقمر، والروم، والبطشة، والزام {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} . يريد بذلك إبطال أن يكون اللزام مترقبا في آخر الدنيا. وليس في القرآن ما يحوج إلى تأويل اللزام بهذا كما علمت.
وفرع على ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقولون من التكذيب وبالوعيد لتأخير نزوله بهم. والمعنى: فلا تستعجل لهم العذاب واصبر على تكذيبهم ونحوه الشامل له الموصول في قوله: {مَا يَقُولُونَ} .
وأمره بأن يقبل على مزاولة تزكية نفسه وتزكية أهله بالصلاة، والإعراض عما منع الله الكفار برفاهية العيش، ووعده بأن العاقبة للمتقين.
فالتسبيح هنا مستعمل في الصلاة لاشتمالها على تسبيح الله وتنزيهه.
والباء في قوله: {بِحَمْدِ ربك} للملابسة، وهي ملابسة الفاعل لفعله، أي سبح حامدا ربك، فموقع المجرور موقع الحال.
والأوقات الذكورة هي أوقات الصلااة، وهي وقت الصبح قبل طلوع الشمس. ووقتان قبل غروبها وهما الظهر والعصر، وقيل المراد صلاة العصر. وأما الظهر فهي قوله {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} كما سيأتي.
و {من} في قوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} ابتدائية متعلقة بفعل {فسبح}، وذلك وقتا المغرب والعشاء. وهذا كله من المجمل الذي بينته السنة المتواترة.

وأدخلت الفاء على {فسبح} لأنه لما قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام شابه تقديم أسماء الشرط المفيدة معنى الزمان. فعومل الفعل معاملة جواب الشرط كقوله صلى الله عليه وسلم: "ففيهما فجاهد" ، أي الأبوين، وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} وقد تقدم في سورة الإسراء [79].
ووجه الاهتمام بآناء الليل أن الليل وقت تميل فيه النفوس إلى الدعة فيخشى أن تتساهل في أداء الصلاة فيه.
وآناء الليل: ساعاته، وهو جمع إني بكسر الهمزة وسكون النون وياء في آخره. ويقال: إنو بواو في آخره. ويقال: إنى بألف في آخره مقصورا. ويقال: أناء بفتح الهمزة في أوله وبمد في آخره. وجمع ذلك على آناء بوزن أفعال.
وقوله: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} بالنصب عطف على قوله: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} ، وطرف الشيء منتهاه. قيل: المراد أول النهار وآخره، وهما وقتا الصبح والمغرب، فيكون من عطف البعض على الكل للاهتمام بالبعض، كقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]. وقيل: المراد طرف سير الشمس في قوس الأفق، وهو بلوغ سيرها وسط الأفق المعبر عنه بالزوال، وهما طرفان طرف النهاية وطرف الزوال، وهو انتهاء النصف الأول وابتداء النصف الثاني من القوس، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: من الآية114]. وعلى هذا التفسير يتجه أن يكون ذكر الطرفين معا لوقت صلاة واحدة أن وقتها ما بين الخروج من أحد الطرفين والدخول في الطرف الآخر وتلك حصة دقيقة.
وعلى التفسيرين فللنهار طرفان لا أطراف، كما قال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} فالجمع في قوله {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} من إطلاق اسم الجمع على المثنى، وهو متسع فيه في العربية عند أمن اللبس، كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].
والذي حسنه هنا مشاكلة الجمع للجمع في قوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} .
وقرأ الجمهور {لَعَلَّكَ تَرْضَى} بفتح التاء بصيغة البناء للفاعل، أي رجاء لك أن تنال من الثواب عند الله ما ترضى به نفسك.
ويجوز أن يكون المعنى: لعل في ذلك المقدار الواجب من الصلوات ما ترضى به نفسك دون زيادة في الواجب رفقا بك وبأمتك. ويبينه قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" .

وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم {ترضى} بضم التاء أي يرضيك ربك، وهو محتمل للمعنيين.
[131] {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
أعقب أمره بالصبر على ما يقولونه بنهيه عن الإعجاب بما ينعم به من تنعم من المشركين بأموال وبنين في حين كفرهم بالله بأن ذلك لحكم يعلمها الله تعالى، منها إقامة الحجة عليهم، كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55، 56]
وذكر الأزواج هنا لدلالته على العائلات والبيوت، أي إلى ما متعناهم وأزواجهم به من المتع؛ فكل زوج ممتع بمتعة في زوجه مما يحسن في نظر كل من محاسن قرينه وما يقارن ذلك من محاسن مشتركة بين الزوجين كالبنين والرياش والمنازل والخدم.
ومد العينين: مستعمل في إطالة النظر للتعجيب لا للإعجاب؛ شبه ذلك بمد اليد لتناول شيء مشتهى. وقد تقدم نظيره في آخر سورة الحجر.
والزهرة بفتح الزاي وسكون الهاء: واحدة الزهر، وهو نور الشجر والنبات. وتستعار للزينة المعجبة المبهتة، لأن منظر الزهرة يزين النبات ويعجب الناظر، فزهرة الحياة: زينة الحياة، أي زينة أمور الحياة من اللباس والأنعام والجنان والنساء والبنين، كقوله تعالى: {فَمَتَاع الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِيْنَتَهَا} [القصص: 60].
وانتصب {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} على الحال من اسم الموصول في قوله: {مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} .
وقرأ الجمهور {زهرة} بسكون الهاء. وقرأه يعقوب بفتح الهاء وهي لغة.
{لنفتنهم} متعلق بـ {متعنا} . و "في" للظرفية المجازية، أي ليحصل فتنتهم في خلاله، ففي كل صنف من ذلك المتاع فتنة مناسبة له. واللام للعلة المجازية التي هي عاقبة الشيء، مثل قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 68]
وإنما متعهم الله بزهرة الدنيا لأسباب كثيرة متسلسلة عن نظم الاجتماع فكانت لهم فتنة في دينهم، فجعل الحاصل بمنزلة الباعث.

والفتنة: اضطراب النفس وتبلبل البال من خوف أو توقع أو التواء الأمور، وكانوا لا يخلون من ذلك، فلشركهم يقذف الله في قلوبهم الغم والتوقع، وفتنتهم في الآخرة ظاهرة. فالظرفية هنا كالتي في قول سبرة ابن عمرو الفقعسي:
نحابي بها أكفاءنا ونهينها
...
ونشرب في أثمانها ونقامر
وقوله تعالى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} في سورة النساء [5].
وجملة {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} تذييل، لأن قوله: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ} إلى آخره يفيد أن ما يبدو للناظر من حسن شارتهم مشوب ومبطن بفتنة في النفس وشقاء في العيش وعقاب عليه في الآخرة، فذيل بأن الرزق الميسر من الله للمؤمنين خير من ذلك وأبقى في الدنيا ومنفعته باقية في الآخرة لما يقارنه في الدنيا من الشكر.
فإضافة {وَرِزْقُ رَبِّكَ} إضافة تشريف، وإلا فإن الرزق كله من الله، ولكن رزق الكافرين لما خالطه وحف به حال أصحابه من غضب الله عليهم، ولما فيه من التبعة على أصحابه في الدنيا والآخرة لكفر انهم النعمة جعل كالمنكور انتسابه إلى الله، وجعل رزق الله هو السالم من ملابسة الكفران ومن تبعات ذلك.
و {خير} تفضيل، والخيرية حقيقة اعتبارية تختلف باختلاف نواحيها. فمنها: خير لصاحبه في العاجل شر عليه في الآجل، ومنها خير مشوب بشرور وفتن، وخير صاف من ذلك، ومنها ملائم ملاءمة قوية، وخير ملائم ملاءمة ضعيفة، فالتفضيل باعتبار توفر السلامة من العواقب السيئة والفتن كالمقرون بالقناعة، فتفضيل الخيرية جاء مجملا يظهر بالتدبر.
{وأبقى} تفضيل على ما متع به الكافرون لأن في رزق الكافرين بقاء، وهو أيضا يظهر بقاؤه بالتدبر فيما يحف به وعواقبه.
[132] {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}
ذكر الأهل هنا مقابل لذكر الأزواج في قوله {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} فإن من أهل الرجل أزواجه، أي متعتك ومتعة أهلك الصلاة فلا تلفتوا إلى زخارف الدنيا. وأهل الرجل يكونون أمثل من ينتمون إليه.

ومن آثار العمل بهذه الآية في السنة ما في صحيح البخاري : أن فاطمة رضي الله عنها بلغها أن سبيا جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتت تشتكي إليه ما تلقى من الرحى تسأله خادما من السبي فلم تجده. فأخبرت عائشة بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذت وعلي مضجعهما فجلس في جانب الفراش وقال لها ولعلي: "ألا أخبركما بخير لكما مما سألتما تسبحان وتحمدان وتكبران دبر كل صلا ثلاثا وثلاثين فذلك خير لكما من خادم" .
وأمر الله رسوله بما هو أعظم مما يأمر به أهله وهو أن يصطبر على الصلاة. والاصطبار: الانحباس، مطاوع صبره، إذا حبسه، وهو مستعمل مجازا في إكثاره من الصلاة في النوافل. قال تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1-2] الآيات، وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الاسراء: 79]
وجملة {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً} معترضة بين التي قبلها وبين جملة {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} جعلت تمهيدا لهاته الأخيرة.
والسؤال: الطلب التكليفي، أي ما كلفناك إلا بالعبادة، لأن العبادة شكر الله على ما تفضل به على الخلق ولا يطلب الله منهم جزاء آخر. وهذا إبطال لما تعوده الناس من دفع الجبايات والخراج للملوك وقادة القبائل والجيوش. وفي هذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، فجملة {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} مبينة لجملة {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . والمعنى: أن رزق ربك خير وهو مسوق إليك.
والمقصود من هذا الخطاب ابتداء هو النبي صلى الله عليه وسلم، ويشمل أهله والمؤمنين لأن المعلل به هذه الجملة مشترك في حكمة جميع المسلمين.
وجملة {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} عطف على جملة {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً} المعلل بها أمره بالاصطبار للصلاة، أي إنا سألناك التقوى والعاقبة.
وحقيقة العاقبة: أنها كل ما يعقب أمرا ويقع في آخره من خير وسر، إلا أنها غلب استعمالها في أمور الخير. فالمعنى: أن التقوى تجيء في نهايتها عواقب خير.
واللام للملك تحقيقا لإرادة الخير من العاقبة لأن شأن لام الملك أن تدل على نوال

الأمر المرغوب، وإنما يطرد ذلك في عاقبة خير الآخرة. وقد تكون العاقبة في خير الدنيا أيضا للتقوى.
وهذه الجملة تذييل لما فيها من معنى العموم. أي لا تكون العاقبة إلا للتقوى. فهذه الجملة أرسلت مجرى المثل.
[133] {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}
رجوع إلى التنويه بشأن القرآن، وبأنه أعظم المعجزات. وهو الغرض الذي انتقل منه إلى أغراض مناسبة من قوله {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [طه: 113]
والمناسبة في الانتقال هو ما تضمنه قوله {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه: 130] فجيء هنا بشنع من أقوالهم التي أمر الله رسوله بأن يصبر عليها في قوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} فمن أقوالهم التي يقصدون منها التعنت والمكابرة أن قالوا: لولا يأتينا بآية من عند ربه فتؤمن برسالته، كما قال تعالى {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الانبياء: 5].
ولولا حرف تحضيض. وجملة {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} في موضع الحال، والواو للحال، أي قالوا ذلك في حال أنهم أتتهم بينة ما في الصحف الأولى. فالاستفهام إنكاري؛ أنكر به نفي إتيان آية لهم الذي اقتضاه تحضيضهم على الإتيان بآية.
والبينة: الحجة.
و {الصُّحُفِ الْأُولَى} : كتب الأنبياء السابقين. كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18-19]
والصحف: جمع صحيفة. وهي قطعة من ورق أو كاغد أو خرقة يكتب فيها. ولما كان الكتاب مجموع صحف أطلق الصحف على الكتب.
ووجه اختيار {الصُّحُفِ} هنا على الكتب أن في كل صحيفة من الكتب علما، وأن جميعه حواه القرآن، فكان كل جزء من القرآن آية ودليلا.

وهذه البينة هي محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه القرآن، لأن الرسول موعود به في الكتب السالفة، ولأن في القرآن تصديقا لما في تلك الكتب من أخبار الأنبياء ومن المواعظ وأصول التشريع. وقد جاء به رسول أمي ليس من أهل الكتاب ولا نشأ في قوم أهل علم ومزاولة للتاريخ مع مجيئه بما هو أوضح من فلق الصبح من أخبارهم التي لم يستطع أهل الكتاب إنكارها، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، وكانوا لا يحققون كثيرا منها بما طرأ عليهم من التفرق وتلاشي أصول كتبهم وإعادة كتابة كثير منها بالمعنى على حسب تأويلات سقيمة.
وأما القرآن فما حواه من دلائل الصدق والرشاد، وما امتاز به عن سائر الكتب من البلاغة والفصاحة البالغتين حد الإعجاز، وهو ما قامت به الحجة على العرب مباشرة وعلى غيرهم استدلالا. وهذا مثل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ *رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} [البينة:1-2]
وقرأ نافع، وحفص، وابن جاز عن أبي جعفر {تأتهم} بتاء المضارع للمؤنث. وقرأه الباقون بتحتية المذكر لأن تأنيث {بينة} غير حقيقي، وأصل الإسناد التذكير لأن التذكير ليس علامة ولكنه الأصل في الكلام.
[134] {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}
الذي يظهر أن جملة {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} معطوفة على جملة {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133]، وأن المعنى على الارتقاء في الاستدلال عليهم بأنهم ضالون حين أخروا الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وجعلوه متوقفا على أن يأتيهم بآية من ربه، لأن ما هم متلبسون به من الإشراك بالله ضلال بين قد حجبت عن إدراك فساده العادات واشتغال البال بشؤون دين الشرك، فالإشراك وحده كاف في استحقاقهم العذاب ولكن الله رحمهم فلم يؤاخذهم به إلا بعد أن أرسل إليهم رسولا يوقظ عقولهم. فمجيء الرسول بذلك كاف في استدلال العقول على فساد ما هم فيه، فكيف يسألون بعد ذلك إتيان الرسول لهم بآية على صدقه فيما دعاهم إليه من نبذ الشرك لو سلم لهم جدلا أن ما جاءهم من البينة ليس هو بآية، فقد بطل عذرهم من أصله، وهو قولهم: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} وهذا كقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ

مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 156]. فالضمير في قوله: {مِنْ قَبْلِهِ} عائد إلى القرآن الذي الكلام عليه، أو على الرسول باعتبار وصفه بأنه بينة، أو على إتيان البينة المأخوذ من {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133].
وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان بوحدانية خالق الخلق يقتضيه العقل لولا حجب الضلالات والهوى، وأن مجيء الرسل لإيقاظ العقول والفطر، وأن الله لا يؤاخذ أهل الفترة على الإشراك حتى يبعث إليهم رسولا، وأن قريشا كانوا أهل فترة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} : أنهم يقولون ذلك يوم الحساب بعد أن أهلكهم الله الإهلاك المفروض، لأن الإهلاك بعذاب الدنيا يقتضي أنهم معذبون في الآخرة.
و"لولا" حرف تحضيض، مستعمل في اللوم أو الاحتجاج لأنه قد فات وقت الإرسال، فالتقدير: هلا كنت أرسلت إلينا رسولا وانتصب {فنتبع} على جواب التحضيض باعتبار تقدير حصوله فيما مضى.
والذل: الهوان. والخزي: الافتضاح، أي الذل بالعذاب. والخزي في حشرهم مع الجناة كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87].
[135] {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى}
جواب عن قولهم: {لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} وما بينهما اعتراض. والمعنى: كل فريق متربص فأنتم تتربصون بالإيمان، أي تؤخرون الإيمان إلى أن تأتيكم آية من ربي، ونحن نتربص أن يأتيكم عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، وتفرع عليه جملة {فتربصوا}. ومادة الفعل المأمور به مستعملة في الدوام بالقرينة، نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]، أي فدوموا على تربصكم.
وصيغة الأمر فيه مستعملة في الإنذار، ويسمى المتاركة، أي نترككم وتربصكم لأنا

مؤمنون بسوء مصيركم. وفي معناه قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} [السجدة: 30] وفي ما يقرب من هذا جاء قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52]
وتنوين { كل} تنوين عوض عن المضاف إليه المفهوم من المقام، كقول الفضل بن عباس اللهبي:
كل له نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
والتربص: الانتظار. تفعل من البص، وهو انتظار حصول حدث من خير أو شر، وقد تقدم في سورة براء.
وفرغ على المتاركة إعلامهم بأنهم يعلمون في المستقبل من من الفريقين أصحاب الصراط المستقيم ومن هم المهتدون. وهذا تعريض بأن المؤمنين هم أصحاب الصراط المستقيم المهتدون، لأن مثل هذا الكلام لا يقوله في مقام المحاجة والمتاركة إلا الموقن بأنه المحق. وفعل "تعلمون" معلق عن العمل لوجود الاستفهام.
والصراط: الطريق. وهو مستعار هنا للدين والاعتقاد، كقوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]
والسوي: فعيل بمعنى مفعول، أي الصراط السوى، وهو مشتق من التسوية.
والمعنى : يحتمل أنهم يعلمون ذلك في الدنيا عند انتشار الإسلام وانتصار المسلمين، فيكون الذين يعلمون ذلك من يبقى من الكفار المخاطبين حين نزول الآية سواء ممن لم يسلموا مثل أبي جهل، وصناديد المشركين اللذين شاهدوا نصر الدين يوم بدر، أو من أسلموا مثل أبي سفيان، وخالد بن الوليد، ومن شاهدوا عزة الإسلام. ويحتمل أنهم يعلمون ذلك في الآخرة علم اليقين.
وقد جاءت خاتمة هذه السورة كأبلغ خواتم الكلام لإيذانها بانتهاء المحاجة وانطواء بساط المقارعة.
ومن محاسنها: أن فيها شبيه رد العجز على الصدر لأنها تنظر إلى فاتحة السورة.

وهي قوله: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى* إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:2]، لأن الخاتمة تدل على أنه قد بلغ كل ما بعث به من الإرشاد والاستدلال، فإذا لم يهتدوا به فكفاه انثلاج صدر أنه أدى الرسالة والتذكرة فلم يكونوا من أهل الخشية فتركهم وضلالهم حتى يتبين لهم أنه الحق.

المجلد السابع عشر
سورة الأنبياء...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنبياء
سماها السلف "سورة الأنبياء". ففي" صحيح البخاري "عن عبد الله بن مسعود قال: "بنو إسرائيل،والكهف، ومريم، طه، والأنبياء، هن من العتاق الأول وهن من تلادي". ولا يعرف لها اسم غير هذا.
ووجه تسميتها سورة الأنبياء أنها ذكر فيها أسماء ستة عشر نبيا ومريم ولم يأت في سورة القرآن مثل هذا العدد من أسماء الأنبياء في سور القرآن عدا ما في سورة الأنعام. فقد ذكر فيها أسماء ثمانية عشر نبيا في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} إلى قوله: {وَيُونُسَ وَلُوطاً} فإن كانت سورة الأنبياء هذه نزلت قبل سورة الأنعام فقد سبقت بالتسمية بالإضافة إلى الأنبياء، وإلا فاختصاص سورة الأنعام بذكر أحكام الأنعام أوجب تسميتها بذلك الاسم فكانت سورة الأنبياء أجدر من بقية سور القرآن بهذه التسمية، على أن من الحقائق المسلمة أن وجه التسمية لا يوجبها.
وهي مكية بالاتفاق. وحكي ابن عطية والقرطبي الإجماع على ذلك ونقل السيوطي في "الإتقان" استثناء قوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، ولم يعزه إلى قائل. ولعله أخذه من رواية عن مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن المعنى ننقصها بفتح البلدان، أي بناء على أن المراد من الرؤية في الآية الرؤية البصرية، وأن المراد من الأرض أرض الحجاز، وأن المراد من النقص نقص سلطان الشرك منها. وكل ذلك ليس بالمتعين ولا بالراجح.وسيأتي بيانه في موضعه. وقد تقدم بيانه في نظيرها من سورة الرعد التي هي أيضا مكية بالأرجح أن سورة الأنبياء مكية كلها.

وهي السورة الحادية والسبعون في ترتيب النزول نزلت بعد حم السجدة وقبل سورة النحل، فتكون من أواخر السور النازلة قبل الهجرة. ولعلها نزلت بعد إسلام من أسلم من أهل المدينة كما يقتضيه قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ، كما سيأتي بيانه، غير أن ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس أن قوله تعالى في سورة الزخرف: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} ، أن المراد بضرب المثل هو المثل الذي ضربه ابن الزبعرى لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} كما يأتي يقتضي أن سورة الأنبياء نزلت قبل سورة الزخرف. وقد عدت الزخرف ثانية وستين في النزول.
وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة مائة وإحدى عشرة وفي عد أهل الكوفة مائة واثنتا عشرة.
أغراض السورة:
والأغراض التي ذكرت في هذه السور هي:
الإنذار بالبعث، وتحقيق وقوعه وإنه لتحقق وقوعه كان قريبا.
وإقامة الحجة عليه بخلق السماوات والأرض عن عدم وخلق الموجودات من السماء.
والتحذير من التكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله.
والتذكير بأن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو إلا كأمثاله من الرسل وما جاء إلا بمثل ما جاء به الرسل من قبله.
وذكر كثير من أخبار الرسل عليهم السلام.
والتنويه بشأن القرآن وأنه نعمة من الله على المخاطبين وشأن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وأنه رحمة للعالمين.
والتذكير بما أصاب الأمم السالفة من جراء تكذيبهم رسلهم وأن وعد الله للذين كذبوا واقع ولا يغرهم تأخيره فهو جاء لا محالة.
وحذرهم من أن يغتروا بتأخيره كما اغتر الذين من قبلهم حتى أصابهم بغتة، وذكر

من أشراط الساعة فتح يأجوج ومأجوج.
وذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من الدلالة على الخالق.
ومن الإيماء إلى أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أتقن وأحكم لتجزي كل نفس بما كسبت وينتصر الحق على الباطل.
ثم ما في ذلك الخلق من الدلائل على وحدانية الخالق إذا لا يستقيم هذا النظام بتعدد الآلهة.
وتنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن الأولاد والاستدلال على وحدانية الله تعالى.
وما يكرهه على فعل ما لا يريد.
وأن جميع المخلوقات صائرون إلى الفناء.
وأعقب ذلك تذكيرهم بالنعمة الكبرى عليهم وهي نعمة الحفظ.
ثم عطف الكلام إلى ذكر الرسل والأنبياء.
وتنظير أحوالهم وأحوال أممهم بأحوال محمد صلى الله عليه وسلم وأحوال قومه.
وكيف نصر الله الرسل على أقوامهم واستجاب دعواتهم.
وأن الرسل كلهم جاءوا بدين الله وهو دين واحد في أصوله قطعه الضالون قطعا.
وأثنى على الرسل وعلى من آمنوا بهم.
وأن العاقبة للمؤمنين في خير الدنيا وخير الآخرة، وأن الله سيحكم بين الفريقين بالحق ويعين رسله على تبليغ شرعه.
[1] {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} .
افتتاح الكلام بهذه الجملة أسلوب بديع في الافتتاح لما فيه من غرابة الأسلوب وإدخال الروع على المنذرين، فإن المراد بالناس مشركو مكة، ولاقتراب مبالغة في القرب، فصيغة الافتعال الموضوعة للمطاوعة مستعملة في تحقيق الفعل أي اشتد قرب وقوعه بهم.
وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب استعارة تمثيلية شبه حال إظلال الحساب لهم

بحالة شخص يسعى ليقرب من ديار ناس، ففيه تشبيه هيئة الحساب المعقولة بهيئة محسوسة، وهي هيئة المغير والمعجل في الإغارة على القوم فهو يلح في السير تكلفا للقرب من ديارهم وهم غافلون عن تطلب الحساب إياهم كما يكون قوم غارين معرضين عن اقتراب العدو منهم، فالكلام تمثيل.
والمراد من الحساب إما يوم الحساب، ومعنى اقترابه أنه قريب عند الله لأنه محقق الوقوع. أو قريب بالنسبة إلى ما مضى من مدة بقاء الدنيا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ، أو اقترب الحساب كناية عن اقتراب موتهم لأنهم إذا ماتوا رأوا جزاء أعمالهم. وذلك من الحساب. وفي هذا تعريض بالتهديد لقرب هلاكهم وذلك بفنائهم يوم بدر.
أو المراد بالحساب المؤاخذة بالذنب كما في قوله تعالى: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} وعليه فالاقتراب مستعمل في حقيقته أيضا فهو من استعمال اللفظ في حقيته ومجازه.
واللام في قوله: {لِلنَّاسِ} إن أبقيت على معناها الأصلي من الاختصاص فذكرها تأكيد لمعنى اللام المقدرة في الإضافة في قوله: {حِسَابُهُمْ} لأن تقديره: حساب لهم، والضمير عائد إلى {اِلنَّاسِ} فصار قوله: {لِلنَّاسِ} مساويا للضمير الذي أضيف إليه "حساب" فكأنه قيل: اقترب حساب للناس لهم فكان تأكيدا لفظيا. وكما تقول: أزف للحي رحيلهم، أصله أزف الرحيل للحي ثم صار أزف للحي رحيلهم، ومنه قول العرب: لا أبا لك، أصله لا أباك، فكانت لام "لك" مؤكدة لمعنى الإضافة لإمكان إغناء الإضافة عن ذكر اللام. قال الشاعر:
أبالموت الذي لا بد أني ... ملاق لا أباك تخوفيني
وأصل النظم: اقترب للناس الحساب. وإنما نظم التركيب على هذا النظم بأن قدم ما يدل على المضاف إليه وعرف {اِلنَّاسِ} تعريف الجنس ليحصل ضرب من الإبهام ثم يقع بعده التبيين. ولما في تقديم الجار والمجرور من الاهتمام بأن الاقتراب للناس ليعلم السامع أن المراد تهديد المشركين لأنهم الذين يكنى عنهم بالناس كثيرا في القرآن، وعند التقديم احتيج إلى تقدير مصاف فصار مثل: اقترب حساب للناس الحساب، وحذف المضاف لدلالة مفسره عليه. ولما كان الحساب حساب الناس المذكورين جيء بضمير الناس ليعود إلى لفظ الناس فيحصل تأكيد آخر وهذا نمط بديع من نسج الكلام، ويجوز أن تكون اللام بمعنى "من" أو بمعنى "إلى" متعلقة بـ {اقْتَرَبَ} فيكون المجرور ظرفا

لغوا، وعن ابن مالك أنه مثل لانتهاء الغاية بقولهم: "تقريب منك".
وجملة: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} حال من {الناس} ، أي اقترب منهم الحساب في حال غفلتهم وإعراضهم. والمراد بالناس المشركون لأنهم المقصود بهذا الكلام كما يدل عليه ما بعده.
والغفلة: الذهول عن الشيء وعن طرق علمه، وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} في سورة الأنعام وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} في سورة الأعراف.
والإعراض: صرف العقل عن الاشتغال بالشيء. وتقدم في قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء، وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} في سورة الأنعام.
ودلت "فِي" على الظرفية المجازية التي هي شدة تمكن الوصف منهم، أي وهم غافلون أشد الغفلة حتى كأنهم منغمسون فيها أو مظروفون في محيطها، ذلك أن غفلتهم عن يوم الحساب متأصلة فيهم بسبب سابق كفرهم. والمعنى: أنهم غافلون عن الحساب وعن اقترابه.
وإعراضهم هو إبايتهم التأمل في آيات القرآن التي تذكرهم بالبعث وتستدل لهم عليه، فمتعلق الإعراض غير متعلق الغفلة لأن المعرض عن الشيء لا يعد غافلا عنه، أي أنهم لما جاءتهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وإنذارهم بيوم القيامة استمروا على غفلتهم عن الحساب بسبب إعراضهم عن دلائل التذكير به. فكانت الغفلة عن الحساب منهم غير مقلوعة من نفوسهم بسبب تعطيلهم ما شأنه أن يقلع الغفلة عنهم بإعراضهم عن الدلائل المثبتة للبعث.
[2-3] { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ}
جملة مبينة لجملة {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}.
لبيان تمكن الغفلة منهم وإعراضهم، بأنهم إذا سمعوا في القرآن تذكيرا لهم بالنظر والاستدلال استغلوا عنه باللعب

واللهو فلم يفقهوا معانيه وكان حظهم منه سماع ألفاظه كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة.
والذكر: القرآن أطلق عليه اسم الذكر الذي هو مصدر لإفادة قوة وصفه بالتذكير.
والمحدث: الجديد، أي الجديد نزوله متكررا، وهو كناية عن عدم انتفاعهم بالذكر كلما جاءهم بحيث لا يزالون بحاجة إلى إعادة التذكير وإحداثه مع قطع معذرتهم لأنه لو كانوا سمعوا ذكرا واحدا فلم يعبأوا به لانتحلوا لأنفسهم عذرا كانوا ساعتئذ في غفلة. فلما تكرر حدثان إتيانه تبين لكل منصف أنهم معرضون عنه صدا.
ونظير هذا قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} في سورة الشعراء، وليس المراد بمحدث ما قابل القديم في اصطلاح علم الكلام لعدم مناسبته لسباق النظم.
ومسألة صفة كلام الله تعالى تقدم الخوض فيها عند قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} في سورة النساء.
وجملة: {اسْتَمَعُوهُ} حال من ضمير النصب في {يَأْتِيهِمْ} وهذا الحال مستثنى من عموم أحوال أي ما يأتيهم ذكر في حال إلا في حال استماعهم.
وجملة: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حال لازمة من ضمير الرفع في {اسْتَمَعُوهُ} مفيدة لجملة: {اسْتَمَعُوهُ} لأن جملة: {اسْتَمَعُوهُ} حال باعتبار أنها مقيدة بحال أخرى هي المقصودة من التقييد وإلا لصار الكلام ثناء عليهم. وفائدة هذا الترتيب بين الجملتين الحاليتين الزيادة لقطع معذرتهم المستفاد من قوله: {مُحْدَثٍ} كما علمت.
و {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} حال من المبتدأ في جملة: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} وهي احتراس لجملة: {اسْتَمَعُوهُ} أي استماعا لا وعي معه.
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} .
جملة مستأنفة يجوز أن تكون عطفا على جملة: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} إلى آخرها لأن كلتا الجملتين مسوقة لذكر أحوال تلقي المشركين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم

بالتكذيب والبهتان والتآمر على رفضها. فالذين ظلموا هم المراد بالناس كما تقدم.
وواو الجماعة عائد إلى ما عاد إليه ضمائر الغيبة الراجعة إلى {لِلنَّاسِ} وليست جملة: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} عطفا على جملة: {اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} لأن مضمونها ليس في معنى التقييد لما يأتيهم من ذكر.
و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من واو الجماعة لزيادة تقرير أنهم المقصود من النجوى. ولما في الموصول من الإيماء إلى سبب تناجيهم بما ذكر وأن سبب ذلك كفرهم وظلمهم أنفسهم، وللنداء على قبح ما هم متصفون به.
وجملة: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} بدل من {النَّجْوَى} لأن ذلك هو ما تناجوا به. فهو بدل مطابق. وليست هي كجملة: {قالوا إن هذان لساحران} من جملة: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} في سورة طه فإن تلك بدل بعض من كل لأن ذلك القول هو آخر ما أسفرت عليه النجوى.
ووجه إسرارهم بذلك الكلام قصدهم أن لا يطله المسلمون على ما تآمروا به لئلا يتصدى الرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم لأنهم علموا أن حجتهم في ذلك واهية يرومون بها أن يضللوا الدهماء، أو أنهم أسروا بذلك لفريق رأوا منهم مخائل التصديق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لما تكاثر بمكة الذين أسلموا فخشوا أن يتتابع دخول الناس في الإسلام فاختلوا بقوم ما زالوا على الشرك وناجوهم بذلك ليدخلوا الشك في قلوبهم.
والنجوى: المحادثة الخفية. والإسرار: هو الكتمان والكلام الخفي جدا. وقد تقدم الجمع بينهما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} في سورة براءة، وتقدم وجه جعل النجوى مفعولا لـ {أَسَرُّوا} في قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} في سورة طه، أي جعلوا نجواهم مقصودة بالكتمان وبالغوا في إخفائها لأن شأن التشاور في المهم كتمانه كيلا يطلع عليه المخالف فيفسده.
والاستفهام في قوله: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إنكاري يقتضي أنهم خاطبوا من قارب أن يصدق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أي فكيف تؤمنون بنبوءته وهو أحد منكم.
وكذلك الاستفهام في قوله: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} إنكاري وأراد بالسحر الكلام الذي يتلوه عليكم.
والمعنى: أنه لما كان بشرا مثلكم فما تصديقكم لنبوءته إلا من أثر سحر سحركم به

فتأتون السحر بتصديقكم بما يدعوكم إليه.
وأطلق الإتيان على القبول والمتابعة على طريق المجاز أو الاستعارة، لأن الإتيان لشيء يقتضي الرغبة فيه، ويجوز أن يراد بالإتيان هنا حضور النبي صلى الله عليه وسلم لسماع دعوته فجعلوه إتيانا، لأن غالب حضور المجالس أن يكون بإتيان إليها، وجعلوا كلامه سحرا فنهوا من ناجوهم عن الاستماع إليه. وهذا كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} في سورة فصلت.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} في موضع الحال، أي تأتون السحر وبصركم سليم، وأرادوا به العلم البديهي، فعبروا عنه بالبصر لأن المبصرات لا يحتاج إدراكها إلى تفكير.
[4] {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
أطلع الله رسوله على نجواهم فلم يتم لهم ما أرادوا من الإسرار بها فيعد أن حكى ما تناجوا به أمره أن يخبرهم بأن الله الذي علم نجواهم يعلم كل قول في السماء والأرض من جهر أو سر، فالتعريف في {الْقَوْلَ} للاستغراق، وبذلك كان هذا تذييلا، وأعلمهم بأنه المتصف بتمام العلم للمسموعات وغيرها بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وقرأ الجمهور {قُلْ} بصيغة الأمر. وقرأ حمزة والكسائي، وحفص، وخلف {قَالَ} بصيغة الماضي، وكذلك هي مرسومة في المصحف الكوفي قاله أبو شامة، أي قال الرسول لهم، حكى الله ما قاله الرسول لهم، وإنما قاله عن وحي فكان في معنى قراءة الجمهور {قَلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ} لأنه إذا أمر بأن يقوله فقد قاله.
وإنما لم يقل يعلم السر لمراعاة العلم بأن الذي قالوه من قبيل السر وأن إثبات علمه بكل قول يقتضي إثبات علمه بالسر وغيره بناء على متعارف الناس. وأما قوله في سورة الفرقان: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فلم يتقدم قبله ذكر للإسرار، وكان قول الذين كفروا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} صادرا منهم تارة جهرا وتارة سرا فأعلمهم الله باطلاعه على سرهم. ويعلم منه أنه مطلع على جهرهم بطريقة الفحوى.
[5] {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} .

{بَلْ} الأولى من كلام الله تعالى إضراب انتقال من حكاية قول فريق منهم {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} إلى حكاية قول آخر من أقوال المشركين، وهو زعمهم أن ما يخبر عنه ويحكيه هو أحلام يراها فيحكيها، فضمير {قَالُوا} لجماعة المشركين لا لخصوص القائلين الأولين.
و {بَلْ} الثانية يجوز أن تكون من الكلام المحكي عنهم وهي إضراب انتقال فيما يصفون به القرآن. والمعنى: بل افتراه واختلقه من غير أحلام، أي هو كلام مكذوب.
ثم انتقلوا فقالوا {هُوَ شَاعِرٌ} أي كلامه شعر، فحرف "بل" الثالثة إضراب منهم عن كلامهم وذلك مؤذن باضطرابهم وهذا الاضطراب ناشئ عن ترددهم مما ينتحلونه من الاعتلال عن القرآن. وذلك شأن المبطل المباهت أن يتردد في حجته كما قيل: الباطل لجلج، أي ملتبس متردد فيه.
ويجوز أن تكون "بل" الثانية والثالثة مثل "بل" الأولى للانتقال في حكاية أقوالهم. والتقدير: بل قالوا افتراه بل قالوا هو شاعر، وحذف فعل القول لدلالة القول الأول عليهما، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المحكي كلام جماعات من المشركين انتحلت كل جماعة اعتلالا.
والأضغاث: جمع ضغث بكسر الضاد، وهو الحزمة من أعواد أو عشب أو حشيش مختلط ثم أطلق على الأخلاط مطلقا كما في سورة يوسف [44] {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} أرادوا أن ما يخبركم به من أنه أوحي إليه ومن أخبار البعث والحساب ويوم القيامة هو أحلام يراها.
وفرعوا على ترددهم أو فرع كل فريق على مقالته نتيجة واحدة وهي المطالبة أن يأتيهم بمعجزة دل على صدقة غير هذا القرآن من نوع ما يحكى عن الرسل السابقين أنهم أتوا به مثل انقلاب العصا حية.
ومن البهتان أن يسألوا الإتيان بآية يكون الادعاء بأنها سحر أروج في مثلها فإن من أشهر أعمال السحرة إظهار ما يبدو أنه خارق عادة. وقديما قال آل فرعون في معجزات موسى: إنها سحر، بخلاف آية إعجاز القرآن.
ودخلت لام الأمر على فعل الغائب لمعنى إبلاغ الأمر إليه، أي فقولوا له: ائتنا بآية. والتشبيه في قوله: {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} في موضع الحال من ضمير {يَأْتِنَا} أي

حالة كون هذا البشر حين يأتي بالآية يشبه رسالته رسالة الأولين، والمشبه ذات والمشبه به معنى الرسالة وذلك واسع في كلام العرب. قال النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي
على وعل من ذي المطارة عاقل.
أي عل مخافة وعل أو حالة كون الآية كما أرسل الأولون، أي به.
[6] {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}.
استئناف ابتدائي جوابا على قولهم: {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} ، والمعنى: أن الأمم التي أرسل إليها الأولون ما أغنت فيهم الآيات التي جاءتهم كما وددتم أن تكون لكم مثلها فما آمنوا، ولذلك حق عليهم الإهلاك فشأنكم أيها المشركون كشأنهم. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} في سورة الإسراء.
وإنما أمسك الله الآيات الخوارق عن مشركي مكة لأنه أراد استبقاءهم ليكون منهم مؤمنون وتكون ذرياتهم حملة هذا الدين في العالم، ولو أرسلت عليهم الآيات البينة لكانت سنة الله أن يعقبها عذاب الاستئصال للذين لا يؤمنون بها.
و"ما" نافيه. و "من" في قوله تعالى: {مِنْ قَرْيةٍ} مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من حرف {مَا}.
ومتعلق {آمَنَتْ} محذوف دل عليه السياق، أي ما آمنت بالآيات قرية.
وجملة: {أَهْلَكْنَاهَا} صفة لـ {قَرْيةٍ} وردت مستطردة للتعريض بالوعيد بأن المشركين أيضا يترقبون الإهلاك.
وذكرت القرية هنا مرادا بها أهلها ليبنى عليها الوصف بإهلاكها لأن الإهلاك أصاب أهل القرى وقراهم، فلذلك قيل {أَهْلَكْنَاهَا} دون {أَهْلَكْنَاهُمْ} كما في سورة الكهف: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ} .
وفرعت جملة: {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} على جملة: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ} مقترنة باستفهام الإنكار، أي فهم لا يؤمنون لو أتيناهم بآية كما اقترحوا كما لم يؤمن الذين من قبلهم الذين جعلوهم مثالا في قولهم: {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} وهذا أخذ لهم بلازم قولهم.

[7] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
عطف جواب على جواب. والمقصود من هذا إبطال مقصودهم من قولهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إذ أرادوا أنه ليس بأهل للامتياز عنهم بالرسالة عن الله تعالى، فبين خطأهم في استدلالهم بأن الرسل الأولين الذين اعترفوا برسالتهم ما كانوا إلا بشرا وأن الرسالة ليست إلا وحيا من الله لمن اختاره من البشر.
وقوله: {إِلَّا رِجَالاً} يقتضي أن ليس في النساء رسلا وهذا مجمع عليه. وإنما الخلاف في نبوءة النساء مثل مريم أخت موسى ومريم أم عيسى. ثم عرض بجهلهم وفضح خطأهم فأمرهم أن يسألوا أهل الذكر، أي العلم بالكتب والشرائع السالفة من الأحبار والرهبان.
وجملة: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} الخ معترضة بين الجمل المتعاطفة.
وتوجيه الخطاب لهم بعد كون الكلام جرى على أسلوب الغيبة التفات، ونكتته أن الكلام لما كان في بيان الحقائق الواقعة أعرض عنهم في تقريره وجعل من الكلام الموجه إلى كل سامع وجعلوا فيه معبرا عنهم بضمائر الغيبة، ولما أريد تجهيلهم وإلجاؤهم إلى الحجة عليهم غير الكلام إلى الخطاب تسجيلا عليهم وتقريعا لهم بتجهيلهم.
[8] {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} .
الجسد: الجسم الذي لا حياة فيه، وهو يرادف الجثة. هذا قول المحققين من أئمة اللغة مثل أبي إسحاق الزجاج في تفسير قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً} . وقد تقدم هناك، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} . قيل هو شق غلام لا روح فيه ولدته إحدى نسائه، أي ما جعلناهم أجراما غير منبثة فيها الأرواح بحيث تنفي عنهم صفات البشر التي خاصتها أكل الطعام، وهذا رد لما يقولونه {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} مع قولهم هنا: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} .
وذكر الجسد يقيد التهكم بالمشركين لأنهم لما قالوا {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} ، وسألوا أن يأتي بما أرسل به الأولون كان مقتضى أقوالهم أن الرسل الأولين

كانوا في صور الآدميين لكنهم لا يأكلون الطعام وأكل الطعام من لوازم الحياة، فلزمهم لما قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام أن يكونوا قائلين بأن شأن الرسل أن يكونوا أجسادا بلا أرواح، وهذا من السخافة بمكانة.
وأما قوله: {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} فهو زيادة استدلال لتحقيق بشريتهم استدلالا بما هو واقع من عدم كفاءة أولئك الرسل كما هو معلوم بالمشاهدة، لقطع معاذير الضالين، فإن زعموا أن قد كان الرسل الأولون مخالفين للبشر فماذا يصنعون في لحاق الفناء إياهم. فهذا وجه زيادة {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} .
وأتي في نفي الخلود عنهم بصيغة {مَا كَانُوا} تحقيقا لتمكن عدم الخلود منهم.
[9] {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} .
{ثُمَّ} عاطفة الجملة على الجمل السابقة فهي للترتيب الرتبي. والمعنى: وأهم مما ذكر أنا صدقناهم الوعد فأنجيناهم وأهلكنا الذين كذبوهم. ومضمون هذا أهم في الغرضين التبشير والإنذار. فالتبشير للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الله صادقه وعده من النصر، والإنذار لمن ماثل أقوام الرسل الأولين.
والمراد بالوعد وعدهم النصر على المكذبين بقرينة قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ} المؤذن بأنه وعد عذاب لأقوامهم، فالكلام مسوق مساق التنويه بالرسل الأولين، وهو تعريض بوعيد الذين قالوا {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} . وفي هذا تقريع للمشركين، أي إن كان أعجبكم ما أتى به الأولون فسألتم من رسولكم مثله فإن حالكم كحال الذين أرسلوا إليهم فترقبوا مثل ما نزل بهم ويترقب رسولكم مثل ما لقي سلفه. وهذا كقوله تعالى: {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} في سورة يونس.
وانتصب الوعد بـ {صَدَقْنَاهُمْ} على التوسع بنزع حرف الجر. وأصل الاستعمال أن يقال: صدقناهم في الوعد، لأن "صدق" لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. وهذا الحذف شائع في الكلام ومنه في مثل هذا ما في المثل: "صدقني سن بكره"1.
ـــــــ
1 في "مجمع الأمثال" للميداني يضرب مثلا في الصدق. وأصله أن رجلا ساوم آخر في بكر وهو الفتى من الإبل, وقال: ما سنه؟ قال: بازل, الكهل من الإبل فنفر البعير فدعاه صاحبه هدع هدع وهو صوت تسكن به الصغار من الإبل, فقال المساوم: "صدقني سن بكرة".

والإتيان بصيغة المستقبل في قوله تعالى: {مَنْ نَشَاءُ} احتباك، والتقدير: فأنجيناهم ومن شئنا وننجي رسولنا ومن نشاء منكم، وهو تأميل لهم أن يؤمنوا لأن من المكذبين يوم نزول هذه الآية من آمنوا فيما بعد إلى يوم فتح مكة.
وهذا من لطف الله بعباده في ترغيبهم في الإيمان، ولذلك لم يقل: ونهلك المسرفين، بل عاد إلى صيغة المضي الذي هو حكاية لما حل بالأمم السالفة وبقي المقصود من ذكر الذين أهلكوا وهو التعريض بالتهديد والتحذير أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك مع عدم التصريح بالوعيد.
والمسرفون: المفرطون في التكذيب بالإصرار والاستمرار عليه حتى حل بهم العذاب.
[10] {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
استئناف جواب عن قولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} بإيقاظهم إلى أن الآية التي جاءتهم هي أعظم من الآيات التي أرسل بها الأولون، وتجهيلا لألبابهم التي لم تدرك عظم الآية التي جاءتهم كما أنبأ بذلك موقع هذه الجملة في هذا المكان.
وفي ضمير ذلك تحقيق لكون القرآن حقا، وتذكير بما يشتمل عليه من المنافع التي عموا عنها فيما حكي عنهم أول السورة بقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} كما أنبأ بذلك ظاهر معنى الآية.
ولقصد هذا الإيقاظ صدرت الجملة بما يفيد التحقيق من لام القسم وحرف التحقيق وجعل إنزال الكتاب إليهم كما اقتضته تعدية فعل {أَنْزَلْنَا} بحرف "إلى" شأن تعدية فعل الإنزال أن يكون المجرور بـ"إلى" هو المنزل إليه فجعل الإنزال إليهم لكونهم بمنزلة من أنزل إليه نظرا إلى أن الإنزال كان لأجلهم ودعوتهم. وذلك أبلغ من أن يقال: لقد أنزلنا لكم.
وتنكير {كِتَاباً} للتعظيم إيماء إلى أنه جمع خصلتين عظيمتين: كونه كتاب هدى، وكونه آية ومعجزة للرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو مدانيه.
والذكر يطلق على التذكير بما فيه الصلاح، ويطلق على السمعة والصيت كقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} . وقد أوثر هذا المصدر هنا وجعل معرفا

بالإضافة إلى ضمير المخاطبين ليكون كلاما موجها فيصح قصد المعنيين معا من كلمة "الذكر" بان مجيء القرآن مشتملا على أعظم الهدى، هو تذكير لهم بما به نهاية إصلاحهم، ومجيئه بلغتهم، وفي قومهم، وبواسطة واحد منهم، سمعة عظيمة لهم كما قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ}.
وقد فسر السلف هذه الآية بالمعنيين. وفي تفسير الطبري هنا قال جماعة: معنى {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أنه الشرف، أي فيه شرفكم. وقال ابن عطية: يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما تذكر عظام الأمور. وقد فسر بمثل ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} .
وعلى المعنيين يكون لتفريع قوله تعالى: {أَفَلَا تَعْقِلُونْ} أحسن موقع لأن الاستفهام الإنكاري لنفي عقلهم متجه على كلا المعنيين فإن من جاءه ما به هديه فلم يهتد ينكر عليه سوء عقله، ومن جاءه ما به مجده وسمعته فلم يعبأ به ينكر عليه سوء قدره للأمور حق قدرها كما يكون الفضل في مثله مضاعفا.
وأيضا فهو متفرع على الإقناع بإنزال القرآن آية تفوق الآيات التي سألوا مثلها وهو المفاد من الاستئناف ومن تأكيد الجملة بالقسم وحرف التحقيق قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} في سورة العنكبوت، وذلك لإعجازه اللفظي والمعنوي.
[11-14 ]{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
عطف على قوله: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أو على قوله تعالى: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} ، وهو تعريض بالتهديد.
ومناسبة موقعها أنه بعد أن أخبر أنه صدق رسله وعده وهو خبر يفيد ابتداء التنويه بشأن الرسل ونصرهم وبشأن الذين آمنوا بهم. وفيه تعريض بنصر محمد صلى الله عليه وسلم وذكر إهلاك المكذبين له تبعا لذلك، فأعقب ذلك بذكر إهلاك أمم كثيرة من الظالمين ووصف ما حل بهم ليكون ذلك مقصودا بذاته ابتداء اهتماما به ليقرع أسماعهم، فهو تعريض بإنذار

المشركين بالانقراض بقاعدة قياس المساواة، وأن الله ينشئ بعدهم أمة مؤمنة كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} في سورة إبراهيم.
و"كم" اسم، له حق صدر الكلام لأن أصله اسم استفهام عن العدد، وشاع استعماله للإخبار عن كثرة الشيء على وجه المجاز لأن الشيء الكثير من شأنه أن يستفهم عنه، والتقدير: قصمنا كثيرا من القرى ف"كم" هنا خبرية. وهي واقعة في محل نصب بفعل { قصمنا} .
وفي "كم" الدالة على كثرة العدد إيماء إلى أن هذه الكثرة تستلزم عدم تخلف إهلاك هذه القرى، وبضميمة وصف تلك الأمم بالظلم أي الشرك إيماء إلى سبب الإهلاك فحصل منه ومن اسم الكثرة معنى العموم، فيعلم المشركون التهديد بأن ذلك حال بهم لا محالة بحكم العموم، وأن هذا ليس مرادا به قرية معينة، فما روي عن ابن عباس: أن المراد بالقرية حضوراء بفتح الحاء مدينة باليمن قتلوا نبيا اسمه شعيب بن ذي مهدم في زمن أرمياء نبي بني إسرائيل فسلط الله عليهم بختنصر فأفناهم. فإنما أراد أن هذه القرية ممن شملتهم هذه الآية، والتقدير: قصمنا كثيرا. وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} في سورة الأنعام.
وأطلق القرية على أهلها كما يدل عليه قوله تعالى: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} .
ووجه اختيار لفظ {قَرْيةٍ} هنا نظير ما قدمناه آنفا في قوله تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} .
وحرف "من" في قوله تعالى: {مِن قَرْيَةٍ} لبيان الجنس، وهي تدخل على ما فيه معنى التمييز وهي هنا تمييز لإبهام "كم".
والقصم: الكسر الشديد الذي لا يرجى بعده التئام ولا انتفاع. واستعير للاستئصال والإهلاك القوي كإهلاك عاد وثمود وسبأ.
وجملة: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } معترضة بين جملة: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} وجملة: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} الخ. فجملة: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} الخ تفريع على جملة: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} .
وضمير {منها} عائد إلى {قرية}.

والإحساس: الإدراك بالحس فيكون برؤية ما يزعجهم أو سماع أصوات مؤذنة بالهلاك كالصواعق والرياح.
والبأس: شدة الألم والعذاب. وحرف "من" في قوله: {مِنْهَا يَرْكُضُونَ} يجوز أن يكون للابتداء، أي خارجين منها، ويجوز أن يكون للتعليل بتأويل {يَرْكُضُونَ} معنى "يهربون"، أي من البأس الذي أحسوا به فلا بد من تقدير مضاف، أي من بأسنا الذي أحسوه في القرية. وذلك بحصول أشراط إنذار مثل الزلازل والصواعق.
والركض: سرعة سير الفرس، وأصله الضرب بالرجل فيسمى به العدو، لأن العدو يقتضي قوة الضرب بالرجل وأطلق الركض في هذه الآية على سرعة سير الناس على وجه الاستعارة تشبيها لسرعة سيرهم بركض الأفراس.
و"منها" ظرف مستقر في موضع الحال من الضمير المنفصل المرفوع.
ودخلت "إذا" الفجائية في جواب "لما" للدلالة على أنهم ابتدروا الهروب من شدة الإحساس بالبأس تصويرا لشدة الفزع. وليست "إذا" الفجائية برابطة للجواب بالشرط لأن هذا الجواب لا يحتاج إلى رابط، و"إذا" الفجائية قد تكون رابطة للجواب خلفا من الفاء الرابطة حيث يحتاج إلى الرابط لأن معنى الفجاءة يصلح للربط ولا يلازمه.
وجملة: {لا تَرْكُضُوا} معترضة وهي خطاب للراكضين بتخيل كونهم كالحاضرين المشاهدين في وقت حكاية قصتهم، ترشيحا لما اقتضى اجتلاب حرف المفاجأة وهذا كقول مالك بن الريب:
دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي
بذي الطبسين فالتقت ورائيا.
أي لما دعاه الهوى، أي ذكره أحبابه وهو غاز بذي الطبسين التفت وراءه كالذي يدعوه داع من خلفه فتخيل الهوى داعيا وراءه.
وتكون هذه الجملة معترضة بين جملة: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} ، وبين جملة: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
ويجوز جعل الجملة مقول قول محذوف خوطبوا به حينئذ بأن سمعوه بخلق من الله تعالى أو من ملائكة العذاب. وهذا ما فسر به المفسرون ويبعده استبعاد أن يكون ذلك واقعا عند كل عذاب أصيبت به كل قرية. وأيا ما كان فالكلام تهكم بهم.

والإتراف: إعطاء الترف، وهو النعيم ورفه العيش، أي ارجعوا إلى ما أعطيتم من الرفاهية وإلى مساكنكم.
وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} من جملة التهكم. وذكر المفسرون في معنى {تُسْأَلُونْ} احتمالات ستة. أظهرها: أن المعنى: ارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعيم لتروا ما آل إليه فلعلكم يسألكم سائل عن حال ما أصابكم فتعلموا كيف تجيبون لأن شأن المسافر أن يسأله الذين يقدم إليهم عن حال البلاد التي تركها من خصب ورخاء أو ضد ذلك، وفي هذا تكملة للتهكم.
وجملة: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا} إن جعلت جملة: {لا تَرْكُضُوا} معترضة على ما قررته آنفا تكون هذه مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} كأن سائلا سأل عما يقولونه حين يسرعون هاربين لأن شأن الهارب الفزع أن تصدر منه أقوال تدل على الفزع أو الندم عن الأسباب التي أحلت به المخاوف فيجاب بأنهم أيقنوا حين يرون العذاب أنهم كانوا ظالمين فيقرون بظلمهم وينشئون التلهف والتندم بقولهم {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
وإن جعلت جملة: {لَا تَرْكُضُوا} مقول قول محذوف على ما ذهب إليه المفسرون كانت جملة: {قَالَوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} جوابا لقول من قال لهم {لَا تَرْكُضُوا} على وجه التهكم بهم ويكون فصل الجملة لأنها واقعة في موقع المحاورة كما بيناه غير مرة، أي قالوا: قد عرفنا ذنبنا وحق التهكم بنا. فاعترفوا بذنبهم. قال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} في سورة الملك.
[15] {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} .
تفريع على جملة: {قَالَوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ، فاسم تلك إشارة إلى القول المستفاد من قوله تعالى: {قَالَوا يَا وَيْلَنَا} ، وتأنيثه لأنه اكتسب التأنيث من الإخبار عنه بدعواهم، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة يدعون بها على أنفسهم.
وهذا الوجه يرجح التفسير الأول لمعنى قوله تعالى: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} لأن شأن الأقوال التي يقولها الخائف أن يكررها إذ يغيب رأيه فلا يهتدي للإتيان بكلام آخر، بخلاف الكلام المسوق جوابا فإنه لا داعي إلى إعادته.
والمعنى: فما زالوا يكررون مقالتهم تلك حتى هلكوا عن آخرهم.

وسمي ذلك القول دعوى لأن المقصود منه هو الدعاء على أنفسهم بالويل، والدعاء يسمى دعوى كما في قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} في سورة يونس. أي فما زال يكرر دعاؤهم بذلك فلم يكفوا عنه إلى أن صيرناهم كالحصيد، أي أهلكناهم.
وحرف "حتى" مؤذن بنهاية ما اقتضاه قوله تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} .
والحصيد: فعيل بمعنى مفعول، أي المحصود. وهذه الصيغة تلازم الإفراد والتذكير إذا جرت على الموصوف بها كما هنا.
والحصد: جز الزرع والنبات بالمنجل لا باليد. وقد شاع إطلاق الحصيد على الزرع المحصود بمنزلة الاسم الجامد.
والخامد: اسم فاعل من خمدت النار تخمد بضم الميم إذا زال لهيبها.
شبهوا بزرع حصد، أي بعد أن كان قائما على سوقه خضرا، فهو يتضمن تشبيههم قبل هلاكهم بزرع في حسن المنظر والطلعة، كما شبه بالزرع في قوله تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} في سورة الفتح. ويقال للناشئ: أنبته الله نباتا حسنا قال تعالى: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} في سورة آل عمران. فللإشارة إلى الشبهين شبه البهجة وشبه الهلك أوثر تشبيههم حين هلاكهم بالحصيد.
وكذلك شبهوا حين هلاكهم بالنار الخامدة فتضمن تشبيههم قبل ذلك بالنار المشبوبة في القوة والبأس كما شبه بالنار في قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} في سورة المائدة وقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} في سورة البقرة. فحصل تشبيهان بليغان وليسا باستعارتين مكنيتين لأن ذكر المشبه فيهما مانع من تقوم حقيقة الاستعارة خلافا للعلامتين التفتزاني والجرجاني في شرحيهما للمفتاح متمسكين بصيغة جمعهم في قوله تعالى: {جَعَلْنَاهُمْ} ، فجعلا ذلك استعارتين مكنيتين إذ شبهوا بزرع حين انعدامه ونار ذهبت قوتها وحذف المشبه بهما ورمز إليهما بلازم كل منهما وهو الحصد والخمود فكان {حَصِيدَاً} وصفا في المعنى للضمير المنصوب في {جَعَلْنَاهُمْ} ، فالحصيد هنا وصف ليس منزلا منزلة الجامد كالذي في قوله تعالى: {وَحَب الحَصِيدْ} ، وبذلك لم يكن قوله تعالى: {حَصِيدَاً} من قبيل التشبيه البليغ إذ لم يشبهوا بحصيد زرع بل أثبت لهم أنهم محصودون استعارة مكنية مثل نظيره في قوله تعالى: {خَامِدينْ} الذي هو استعارة لا محالة كما هو مقتضى مجيئه بصيغة الجمع المذكر، ومبنى الاستعارة على

تناسي التشبيه. وهذا تكلف منهما ولم أدر ماذا دعاهما إلى ارتكاب هذا التكلف.
وانتصب {حَصِيداً خَامِدِينَ} على أن كليهما مفعول ثان مكرر لفعل الجعل كما يخبر عن المبتدأ بخبرين وأكثر، فإن مفعولي "جعل" أصلهما المبتدأ والخبر وليس ثانيهما وصفا لأولهما كما هو ظاهر.
[16-17] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ}
كثر في القرآن الاستدلال بإيقان نظام خلق السماوات والأرض وما بينهما على أن لله حكمة في خلق المخلوقات وخلق نظمها وسننها وفطرها، بحيث تكون أحوالها وآثارها وعلاقة بعضها ببعض متناسبة مجارية لما تقتضيه الحكمة ولذلك قال تعالى: في سورة الحجر: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} . وقد بينا هنالك كيفية ملابسة الحق لكل أصناف المخلوقات وأنواعها بما يغني عن إعادته هنا.
وكثر أن ينبه القرآن العقول إلى الحكمة التي اقتضت المنسبة بين خلق ما قي السماوات والأرض ملتبسا بالحق، وبين جزاء المكلفين على أعمالهم على القانون الذي أقامته الشرائع لهم في مختلف أجيالهم وعصورهم وبلدانهم إلى أن عمتهم الشريعة العامة الخاتمة شريعة الإسلام، والى الحكمة التي اقتضت تكوين حياة أبدية تلقي فيها النفوس جزاء ما قدمته في هذه الحياة الزائلة جزاء وفاقا.
فلذلك كثر أن تعقب الآيات المبينة لما في الخلق من الحق بالآيات التي تذكر الجزاء والحساب، والعكس، كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} في آخر سورة المؤمنين، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} آخر الحجر، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} في سورة ص، وقوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ َمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} في سورة الدخان، وقوله

تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} في سورة الأحقاف إلى غير هذه الآيات.
فكذلك هذه الآية عقب بها ذكر القوم المهلكين، والمقصود من ذلك إيقاظ العقول إلى الاستدلال بما في خلق السماوات والأرض وما بينهما من دقائق المناسبات وإعطاء كل مخلوق ما به قوامه، فإذا كانت تلك سنة الله في خلق العوالم ظرفها ومظروفها، استدل بذلك على أن تلك السنة لا تختلف في رتب المسببات على أسبابها فيما يأتيه جنس المكلفين من الأعمال، فإذا ما لاح لهم تخلف سبب عن سببه أيقنوا أنه تخلف مؤقت فإذا علمهم الله على لسان شرائعه بأنه ادخر الجزاء الكامل على الأعمال إلى يوم آخر آمنوا به، وإذا علمهم أنهم لا يفرقون ذلك بالموت بل إن لهم حياة آخرة وأن الله باعثهم بعد الموت أيقنوا بها، وإذا علمهم أنه ربما عجل لهم بعض الجزاء في الحياة الدنيا أيقنوا به.
ولذلك كثر تعقيب ذكر نظام خلق السماوات والأرض بذكر الجزاء الآجل والبعث وإهلاك بعض الأمم الظالمة، أو تعقيب ذكر البعث والجزاء الآجل والعاجل بذكر نظام خلق السماوات والأرض.
وحسبك تعقيب ذلك بالتفريع بالفاء في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الآيات ختام سورة آل عمران.
ولأجل هذا طرد أو كاد أن يطرد ذكر لفظ {وَمَا بَيْنَهُمَا} بعد ذكر خلق السماوات والأرض في مثل هذا المقام لأن تخصيص ما بينهما بالذكر يدل على الاهتمام به لأن أشرفه نوع الإنسان المقصود بالعبرة والاستدلال وهو مناط التكليف. فليس بناء الكلام على أن يكون الخلق لعبا منظورا فيه إلى رد اعتقاد معتقد ذلك ولكنه بني على النفي أخذا لهم بلازم غفلتهم عن دقائق حكمة الله بحيث كانوا كقائلين بكون هذا الصنع لعبا.
واللعب: العمل أو القول الذي لا يقصد به تحصيل فائدة من مصلحة أو دفع مفسدة ولا تحصيل نفع أو دفع ضر، وإنما يقصد به إرضاء النفس حين تميل إلى العبث كما قيل: لابد للعاقل من حمقة يعيش بها. ويرادفه العبث واللهو، وضده: الجد. واللعب من الباطل إذ ليس في عمله حكمة فضده الحق أيضا.

وانتصب {لَاعِبِينْ} على الحال من ضمير {خَلَقْنَا} وهي حال لازمة إذا لا يستقيم المعنى بدونها.
وجملة: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} مقررة لمعنى جملة: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} ، تقرير بالاستدلال على مضمون الجملة، وتعليلا لنفي أن يكون خلق السماوات والأرض لعبا، أي عبثا بأن اللعب ليس من شأننا أو على الفرض والتنازل لو أردنا اللهو لكان ما يلهو به حاصلا في أشرف الأماكن من السماوات فإنها أشد اختصاصا بالله تعالى إذ جعل سكانها عبادا له مخلصين، فلذلك عبر عنها باسم الظرف المختص وهو "لدن" مضافا إلى ضمير الجلالة بقوله تعالى: من {لَدُنَّا} أي غير العوالم المختصة بكم بل لكان في عالم الغيب الذي هو أشد اختصاصا بنا إذ هو عالم الملائكة المقربين. فالظرفية المفادة من "لدن" ظرفية مجازية. وإضافة "لدن" إلى ضمير الجلالة دلالة على الرفعة والتفضيل كقوله تعالى: {رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} في سورة القصص وقوله تعالى: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} في آل عمران، أي لو أردنا أن نتخذ لهوا كان اتخاذه في عالم شهادتكم. وهذا استدلال باللزوم العرفي لأن شأن من يتخذ شيئا للتفكه به أن يستأثر به ولا يبيحه لغيره وهو مبني على متعارف عقول المخاطبين من ظنهم أن العوالم العليا أقرب إلى الله تعالى.
وجملة: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} إن جعلت "إن" شرطية فارتباطها بالتي قبلها ارتباط الشرط بجزائه المحذوف الدال عليه جواب "لو" وهو جملة "لاتخذناه" فيكون تكريرا للتلازم، وإن جعلت "إن" حرف نفي كانت الجملة مستأنفة لتقرير الامتناع المستفاد من "لو" أي ما كنا فاعلين لهوا.
[18] {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}
"بل" للإضراب عن اتخاذ اللهو وعن أن يكون الخلق لعبا إضراب إبطال وارتقاء، أي بل نحن نعمد إلى باطلكم فنقذف بالحق عليه كراهية للباطل بله أن نعمل عملا هو باطل ولعب.
والقذف، حقيقته: رمي جسم على جسم. واستعير هنا لإيراد ما يزيل ويبطل الشيء من دليل أو زجر أو إعدام أو تكوين ما يغلب، لأن ذلك مثل رمي الجسم المبطل بشيء

يأتي عليه ليتلفه أو يشتته، فالله يبطل الباطل بالحق بأن يبين للناس بطلان الباطل على لسان رسله، وبأن أوجد في عقولهم إدراكا للتميز بين الصلاح والفساد، وبأن يسلط بعض عباده على المبطلين لاستئصال المبطلين، وبأن يخلق مخلوقات يسخرها لإبطال الباطل، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} في سورة الأنفال.
والدمغ: كسر الجسم الصلب الأجوف، وهو هنا ترشيح لاستعارة القذف لإيراد ما يبطل، وهو استعارة أيضا حيث استعير الدمغ لمحق الباطل وإزالته كما يزيل القذف الجسم المقذوف، فالاستعارتان من استعارة المحسوسين للمعقولين.
ودل حرف المفاجأة على سرعة محق الحق الباطل عند وروده لأن للحق صولة فهو سريع المفعول إذا ورد ووضح، قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} إلى قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} في سورة الرعد.
والزاهق: المنفلت من موضعه والهالك، وفعله كسمع وضرب، والمصدر الزهوق. وتقدم في قوله تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} في سورة براءة وقوله تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} في سورة الإسراء.
وعندما انتهت مقارعتهم بالحجج الساطعة لإبطال قولهم في الرسول وفي القرآن ابتداء من قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} إلى قوله تعالى: {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} . وما تخلل ذلك من المواعظ والقوارع والعبر. ختم الكلام بشتمهم وتهديدهم بقوله تعالى: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}، أي مما تصفون به محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن.
والويل: كلمة دعاء بسوء. وفيها في القران توجيه لأن الويل اسم للعذاب.
[19-20] {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ }
عطف على جملة "لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا" مبينة أن كل من في السماوات والأرض عباد الله تعالى مخلوقون لقبول تكليفه والقيام بما خلقوا

لأجله، وهو تخلص إلى إبطال الشرك بالحجة الدامغة بعد الإضافة في إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية القران.
فاللام في {وله} للملك، والمجرور باللام خبر مقدم. و {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} مبتدأ، وتقديم المجرور للاختصاص، أي له من في السماوات والأرض لا لغيره وهو قصر إفراد ردا على المشركين الذين جعلوا لله شركاء في الإلهية.
و {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعم العقلاء وغيرهم وغلب اسم الموصول الغالب في العقلاء لأنهم المقصود الأول.
وقوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ} يجوز أن يكون معطوفا على {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيكون من عطف الخاص على العام للاهتمام به. ووجه الاهتمام ظاهر وتكون جملة: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} حالا من المعطوف عليه.
ويجوز أن يكون "من" مبتدأ وجملة "لا يستكبرون عن عبادته" خبرا.
وما صدق "من" جماعة كما دل عليه قوله تعالى: {لا يَسْتَكْبِرُونَ} بصيغة الجمع.
{وَمَنْ عِنْدَهُ} هم المقربون في العوالم المفضلة وهم الملائكة.وعلى كلا الوجهين في موقع جملة: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} يكون المقصود منها التعريض بالذين يستكبرون عن عبادة الله ويعبدون الأصنام وهم المشركين.
والاستحسار: مصدر كالحسور وهو التعب، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالاستكبار والاستنكار والاستيخار، أي لا يصدر منهم الاستحسار الذي هو التعب الشديد الذي يقتضيه عملهم العظيم، أي لا يقع منهم ما لو قام بعملهم غيرهم لاستحسر ثقل ذلك العمل، فعبر بالاستحسار هنا الذي هو الحسور القوي لأنه المناسب للعمل الشديد، ونفيه من قبيل نفي المقيد بقيد خرج مخرج الغالب في أمثاله. فلا يفهم من نفي الحسور القوي أنهم قد يحسرون حسورا ضعيفا.وهذا المعنى قد يعبر عنه أهل المعاني بأن المبالغة في النفي لا في المنفي.
وجملة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} بيان لجملة: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} لأن من لا يتعب من عمل لا يتركه فهو يواظب عليه ولا يعيا منه.
والليل والنهار: ظرفان. والأصل في الظرف أن يستوعبه الواقع فيه، أي يسبحون

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68