كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

وتفسير غيره، فالشاة تسيب للطواغيت، وما ذكروه من ذبح ولدها أو ابنتها هو من فروع استحقاق تسييبها لتكون الآية شاملة لأحوالها كلها.وعن ابن إسحاق:الوصيلة الشاة تتئم في خمسة أبطن عشرة إناث فما ولدت بعد ذلك فهو للذكور منهم دون النساء إلا أن يموت شيء منها فيشترك في أكله الرجال والنساء.
وفي صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب: "أن الوصيلة من الإبل إذا بكرت الناقة في أول إنتاج الإبل بأنثى ثم تثني بعد بأنثى في آخر العام فكانوا يجعلونها لطواغيتهم.وهذا قاله سعيد من نفسه ولم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم.ووقع في سياق البخاري إيهام اغتر به بعض الشارحين ونبه عليه في فتح الباري.وعلى الوجوه كلها فالوصيلة فعلية بمعنى فاعلة.
والحامي هو فحل الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن فيمنع من أن يركب أو يحمل عليه ولا يمنع من مرعى ولا ماء.ويقولون: إنه حمى ظهره، أي كان سببا في حمايته، فهو حام.قال ابن وهب عن مالك، كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس ويسيبونه، فالظاهر أنه يكون بمنزلة السائبة لا يؤكل حتى يموت وينتفع بوبره للأصنام.
وقوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} الاستدراك لرفع ما يتوهمه المشركون من اعتقاد أنها من شرع الله لتقادم العمل بها منذ قرون.والمراد بالذين كفروا هنا جميع المشركين فإنهم يكذبون في نسبة هذه الأشياء إلى شعائر الله لأنهم جميعا يخبرون بما هو مخالف لما في الواقع.والكذب هو الخبر المخالف للواقع.
والكفار فريقان خاصة وعامة:فأما الخاصة فهم الذين ابتدعوا هذه الضلالات لمقاصد مختلفة ونسبوها إلى الله، وأشهر هؤلاء وأكذبهم هو عمرو بن عامر بن لحي بضم اللام وفتح الحاء المهملة وياء مشددة الخزاعي، ففي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجر قصبه بضم القاف وسكون الصاد المهملة أي إمعاءه في النار، وكان أول من سيب السوائب.ومنهم جنادة بن عوف1.وعن مالك أن منهم رجلا من بني مدلج هو أول من بحر البحيرة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيته مع عمرو في النار". رواه ابن العربي.وفي رواية أن عمرو بن لحي أول من بحر البحيرة وسيب
ـــــــ
1 هو جنادة بن أمية بن عوف من بني نالك بن كنانة وهم نسأة الشهور.وجنادة هذا أدركه الإسلام وهو القائم بالنسي.

السائبة.وأصح الروايات وأشهرها عن رسول الله: أن عمرو بن لحي أول من سيب السوائب ولم يذكر البحيرة.
وأما العامة فهم الذين اتبعوا هؤلاء المضلين عن غير بصيرة، وهم الذين أريدوا بقوله : {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}. فلما وصف الأكثر بعدم الفهم تعين أن الأقل هم الذين دبروا هذه الضلالات وزينوها للناس.
والافتراء:الكذب.وتقدم عند قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} في سورة آل عمران[94].
وفي تسمية ما فعله الكفار من هذه الأشياء افتراء وكذبا ونفي أن يكون الله أمر به ما يدل على أن تلك الأحداث لا تمت إلى مرضاة الله تعالى بسبب من جهتين:إحداهما:أنها تنتسب إلى الآلهة والأصنام، وذلك إشراك وكفر عظيم.الثانية:أن ما يجعل منها لله تعالى مثل السائبة هو عمل ضره أكثر من نفعه، لأن في تسييب الحيوان إضرارا به إذ ربما لا يجد مرعى ولا مأوى، وربما عدت عليه السباع، وفيه تعطيل منفعته حتى يموت حتف أنفه.وما يحصل من در بعضها للضيف وابن السبيل إنما هو منفعة ضئيلة في جانب المفاسد الحافة به.
[104] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}.
الواو للحال.والجملة حال من قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة:]103],.أي أنهم ينسبون إلى الله ما لم يأمر به كذبا، وإذا دعوا إلى اتباع ما أمر الله به حقا أو التدبر فيه أعرضوا وتمسكوا بما كان عليه آباؤهم.فحالهم عجيبة في أنهم يقبلون ادعاء آبائهم أن الله أمرهم بما اختلفوا لهم من الضلالات، مثل البحيرة والسائبة وما ضاهاهما، ويعرضون على دعوة الرسول الصادق بلا حجة لهم في الاولى، وبالإعراض عن النظر في حجة الثانية أو المكابرة فيها بعد علمها.
والأمر في قوله: {تَعَالَوْا} مستعمل في طلب الإقبال، وفي إصغاء السمع، ونظر الفكر، وحضور مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الصد عنه، فهو مستعمل في حقيقته ومجازه.وتقدم الكلام على فعل"تعال"عند الكلام على نظير هذه الآية في سورة النساء.

و {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}: هو القرآن.وعطف {وَإِلَى الرَّسُولِ} لأنه يرشدهم إلى فهم القرآن.وأعيد حرف "الى" لاختلاف معنيي الإقبال بالنسبة إلى متعلقي {تعالوا} فإعادة الحرف قرينة على إرادة معنيي {تعالوا} الحقيقي والمجازي.
وقوله :{قَالُوا حَسْبُنَا} أي كافينا، إذا جعلت"حسب"اسما صريحا و {مَا وَجَدْنَا} هو الخبر، أو كفانا إذا جعلت"حسب"اسم فعل و {مَا وَجَدْنَا} هو الفاعل.وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في سورة آل عمران[173].
و"على"في قوله: {مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} مجاز في تمكن التلبس، وتقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5].
وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} الخ، تقدم القول على نظيره في سورة البقرة عند قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} الآية.
وليس لهذه الآية تعلق بمسألة الاجتهاد والتقليد كما توهمه جمع من المفسرين، لأن هذه الآية في تنازع بين أهل ما أنزل الله وأهل الافتراء على الله، فأما الاجتهاد والتقليد في فروع الإسلام فذلك كله من اتباع ما أنزل الله.فتحميل الآية هذه المسألة إكراه للآية على هذا المعنى.
[105] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
تذييل جرى على مناسبة في الانتقال فإنه لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقبه بتعليم المسلمين حدود انتهاء المناظرة والمجادلة إذا ظهرت المكابرة، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير، فأعلمهم هنا أن ليس تحصيل أثر الدعاء على الخير بمسئولين عنه، بل على الداعي بذل جهده وما عليه إذا لم يصغ المدعو إلى الدعوة، كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
و {عليكم} اسم فعل بمعنى الزموا، وذلك أن أصله أن يقال:عليك أن تفعل كذا، فتكون جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، وتكون"على"دالة على استعلاء مجازي، كأنهم

جعلوا فعل كذا معتليا على المخاطب ومتمكنا منه تأكيدا لمعنى الوجوب فلما كثر في كلامهم قالوا:عليك كذا، فركبوا الجملة من مجرور خبر واسم ذات مبتدأ بتقدير:عليك فعل كذا، لأن تلك الذات لا توصف بالعلو على المخاطب، أي التمكن، فالكلام على تقدير.وذلك كتعلق التحريم والتحليل بالذوات في قوله :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة:1]ومن ذلك ما روي: "عليكم الدعاء وعلي الإجابة" ومنه قولهم:"علي ألية، وعلي نذر".ثم كثر الاستعمال فعاملوا"على"معاملة فعل الأمر فجعلوها بمعنى أمر المخاطب بالملازمة ونصبوا الاسم بعدها على المفعولية.وشاع ذلك في كلامهم فسماها النحاة اسم فعل لأنها جعلت كالاسم لمعنى أمر مخصوص، فكأنك عمدت إلى فعل"الزم"فسميته"على"وأبرزت ما معه من ضمير فألصقته بـ"على"في صورة الضمير الذي اعتيد أن يتصل بها، وهو ضمير الجر فيقال:عليك وعليكما وعليكم.ولذلك لا يسند إلى ضمائر الغيبة لأن الغائب لا يؤمر بصيغة الأمر بل يؤمر بواسطة لام الأمر.
فقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} هو بنصب {أنفسكم} أي الزموا أنفسكم، أي احرصوا على أنفسكم.والمقام يبين المحروص عليه، وهو ملازمة الاهتداء بقرينة قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وهو يشعر بالإعراض عن الغير وقد بينه بقوله: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ}.
فجملة {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} تتنزل من التي قبلها منزلة البيان فلذلك فصلت، لأن أمرهم بملازمة أنفسهم مقصود منه دفع ما اعتراهم من الغم والأسف على عدم قبول الضالين للاهتداء، وخشية أن يكون ذلك لتقصير في دعوتهم، فقيل لهم:عليكم أنفسكم، أي اشتغلوا بإكمال اهتدائكم، ففعل {يضركم} مرفوع.
وقوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ظرف يتضمن معنى الشرط يتعلق بـ {يضركم}. وقد شمل الاهتداء جميع ما أمرهم به الله تعالى.ومن جملة ذلك دعوة الناس إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو قصروا في الدعوة إلى الخير والاحتجاج له وسكتوا عن المنكر لضرهم من ضل لأن إثم ضلاله محمول عليهم.
فلا يتوهم من هذه الآية أنها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن جميع ذلك واجب بأدلة طفحت بها الشريعة.فكان ذلك داخلا في شرط {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. ولما في قوله :{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} من الإشعار بالإعراض عن فريق آخر وهو المبين {مَنْ ضَلَّ}، ولما في قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} من خفاء

تفاريع أنواع الاهتداء عرض لبعض الناس قديما في هذه الآية فشكوا في أن يكون مفادها الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وقد حدث ذلك الظن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.أخرج الترمذي عن أبي أمية الشعباني أنه قال:سألت عنها أبا ثعلبة الخشني، فقال لي:سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام". وحدث في زمن أبي بكر:أخرج أصحاب السنن أن أبا بكر الصديق بلغه أن بعض الناس تأول الآية بسقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله أن يعمهم بعقابه، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده". وعن ابن مسعود أنه قرئت عنده هذه الآية فقال: "إن هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة"أي النصيحة"ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم"يريد أن لا يجب عليهم قتال لتقبل نصيحتهم".وعنه أيضا:"إذا اختلفت القلوب وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه".وعن عبد الله بن عمر أنه قال:"إنها"أي هذه الآية"ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله قال: "ألا ليبلغ الشاهد الغائب" فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم".
فما صدق هذه الآية هو ما صدق قول النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" فإن معنى الاستطاعة التمكن من التغيير دون ضر يلحقه أو يلحق عموم الناس كالفتنة.فالآية تفيد الإعراض عن ذلك إذا تحقق عدم الجدوى بعد الشروع في ذلك، ويلحق بذلك إذا ظهرت الكابرة وعدم الانتصاح كما دل عليه حديث أبي ثعلبة الخشني، وكذلك إذا خيف حصول الضر للداعي بدون جدوى، كما دل عليه كلام ابن مسعود المذكور آنفا.
وقوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} عذر للمهتدي ونذارة للضال.وقدم المجرور للاهتمام بمتعلق هذا الرجوع وإلقاء المهابة في نفوس السامعين، وأكد ضمير المخاطبين

بقوله: {جميعا} للتنصيص على العموم وأن ليس الكلام على التغليب.والمراد بالإنباء بما كانوا يعملون الكناية عن إظهار أثر ذلك من الثواب للمهتدي الداعي إلى الخير، والعذاب للضال المعرض عن الدعوة.
والمرجع مصدر ميمي لا محالة، بدليل تعديته بـ{إلى}، وهو مما جاء من المصادر الميمية بكسر العين على القليل، لأن المشهور في الميمي من يفعل بكسر العين أن يكون مفتوح العين.
[106ـ108] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
استؤنفت هذه الآي استئنافا ابتدائيا لشرع أحكام التوثق للوصية لأنها من جملة التشريعات التي تضمنتها هذه السورة، تحقيقا لإكمال الدين، واستقصاء لما قد يحتاج إلى عمله المسلمون.وموقعها هنا سنذكره.
وقد كانت الوصية مشروعة بآية البقرة[180] {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} وتقدم القول في ابتداء مشروعيتها وفي مقدار ما نسخ من حكم تلك الآية وما أحكم في موضعه هنالك.وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوصية وأمر بها، فكانت معروفة متداولة منذ عهد بعيد من الإسلام.وكانت معروفة في الجاهلية كما تقدم في سورة البقرة.وكان المرء يوصي لمن يوصي له بحضرة ورثته وقرابته فلا يقع نزاع بينهم بعد موته مع ما في النفوس من حرمة الوصية والحرص على إنفاذها حفظا لحق الميت إذ لا سبيل له إلى تحقيق حقه، فلذلك استغنى القرآن عن شرع التوثق لها بالإشهاد، خلافا لما تقدم به من بيان التوثق في التبايع بآية {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282]والتوثق في الدين بآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:282]الخ فأكملت هذه الآية بيان التوثق للوصية اهتماما بها ولجدارة الوصية بالتوثيق لها لضعف الذياد عنها لأن البيوع والديون فيها جانبان عالمان بصورة ما انعقد فيها ويذبان عن مصالحهما فيتضح الحق من

خلال سعيهما في إحقاق الحق فيها بخلاف الوصية فإن فيها جانبا واحدا وهو جانب الموصى له لان الموصي يكون قد مات وجانب الموصى له ضعيف إذ لا علم له بما عقد الموصي ولا بما ترك، فكانت معرضة للضياع كلها أو بعضها.
وقد كان العرب في الجاهلية يستحفظون وصاياهم عند الموت إلى أحد يثقون به من أصحابهم أو كبراء قبيلتهم أو من حضر احتضار الموصي أو من كان أودع عند الموصي خبر عزمه.فقد أوصى نزار بن معد وصية موجزة وأحال أبناءه على الأفعى الجرهمي أن يبين لهم تفصيل مراده منها.
وقد حدثت في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام حادثة كانت سببا في نزول هذه الآية.ولعل حدوثها كان مقارنا لنزول الآي التي قبلها فجاءت هذه الآية عقبها في هذا الموضع من السورة.
ذلك أنه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية:هي أن رجلين أحدهما تميم الداري اللخمي والآخر عدي بن بداء، كانا من نصارى العرب تاجرين، وهما من أهل"دارين"وكانا يتجران بين الشام ومكة والمدينة.فخرج معهما من المدينة بديل بن أبي مريم مولى بني سهم وكان مسلما بتجارة إلى الشام، فمرض بديل"قيل في الشام وقيل في الطريق برا أو بحرا"وكان معه في أمتعته جام من فضة مخوص بالذهب قاصدا به ملك الشام، فلما اشتد مرضه أخذ صحيفة فكتب فيها ما عنده من المتاع والمال ودسها في مطاوي أمتعته ودفع ما معه إلى تميم وعدي وأوصاهما بأن يبلغاه مواليه من بني سهم.وكان بديل مولى للعاصي بن وائل السهمي، فولاؤه بعد موته لابنه عمرو ابن العاصي.وبعض المفسرين يقول:"إن ولاء بديل لعمرو بن العاصي والمطلب بن وداعة".ويؤيد قولهم أن المطلب حلف مع عمرو بن العاصي على أن الجام لبديل بن أبي مريم:فلما رجعا باعا الجام بمكة بألف درهم ورجعا إلى المدينة فدفعا ما لبديل إلى مواليه.فلما نشروه وجدوا الصحيفة، فقالوا لتميم وعدي:"أين الجام؟فأنكرا أن يكون دفع إليهما جاما".ثم وجد الجام بعد مدة يباع بمكة فقام عمرو ابن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على الذي عنده الجام فقال:"إنه ابتاعه من تميم وعدي".وفي رواية أن تميما لما أسلم في سنة تسع تأثم مما صنع فأخبر عمرو بن العاصي بخبر الجام ودفع له الخمسمائة الدرهم الصائرة اليه من ثمنه، وطالب عمرو عديا ببقية الثمن فأنكر أن يكون باعه.وهذا أمثل ما روي في سبب نزول هذه الآية.وقد ساقه البخاري تعليقا في كتاب الوصايا.ورواه الترمذي في كتاب التفسير، وقال:"ليس إسناده بصحيح".وهو وإن لم يستوف شروط

الصحة فقد اشتهر وتلقى بالقبول، وقد أسنده البخاري في تاريخه.
واتفقت الروايات على أن الفريقين تقاضوا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية في ذلك، فحلف عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على أن تميما وعديا أخفيا الجام وأن بديلا صاحبه وما باعه ولا خرج من يده.ودفع لهما عدي خمسمائة درهم وهو يومئذ نصراني.وعدي هذا قيل:أسلم، وعده ابن حبان وابن منده في عداد الصحابة، وقيل:مات نصرانيا، ورجح ذلك ابن عطية، وهو قول أبي نعيم، ويروى عن مقاتل، ولم يذكره ابن عبد البر في الصحابة.واحتمل ان يكون نزولها قبل الترافع بين الخصم في قضية الجام، وأن يكون نزولها بعد قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في تلك القضية لتكون تشريعا لما يحدث من أمثال تلك القضية.
و {بينكم} أصل"بين"اسم مكان مبهم متوسط بين شيئين يبينه ما يضاف هو اليه، وهو هنا مجاز في الأمر المتعلق بعدة أشياء، وهو مجرور بإضافة {شهادة} إليه على الاتساع.وأصله"شهادةٌ"بالتنوين والرفع"بينكم"بالنصب على الظرفية.فخرج"بين"عن الظرفية إلى مطلق الاسمية كما خرج عنها في قوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام:94]في قراءة جماعة من العشرة برفع {بينكم}.
وارتفع {شهادة} على الابتداء، وخبره {اثنان}. و {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ظرف زمان مستقبل.وليس في"إذا"معنى الشرط، والظرف متعلق بـ {شهادة} لما فيه من معنى الفعل، أي ليشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان، يعني يجب عليه أن يشهد بذلك ويجب عليهما أن يشهدا لقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282].و {حِينَ الْوَصِيَّةِ} بدل من {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} بدلا مطابقا، فإن حين حضور الموت هو الحين الذي يوصي فيه الناس غالبا.جيء بهذا الظرف الثاني ليتخلص بهذا البدل إلى المقصود وهو الوصية.
وقد كان ا لعرب إذا رأوا علامة الموت على المريض يقولون:"أوص"، وقد قالوا ذلك لعمر بن الخطاب حين أخبر الطبيب أن جرحه في أمعائه.ومعنى حضور الموت حضور علاماته لان تلك حالة يتخيل فيها المرء أن الموت قد حضر عنده ليصيره ميتا، وليس المراد حصول الغرغرة لأن ما طلب من الموصي أن يعمله يستدعي وقتا طويلا، وقد تقدم عند قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً} في سورة البقرة[180].

وقوله: {اثنان} خبر عن {شهادة} ، أي الشهادة على الوصية شهادة اثنين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه، والقرينة واضحة والمقصود الإيجاز.فما صدق {اثنان} شاهدان، بقرينة قوله {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}، وقوله: {ذَوَا عَدْلٍ}. وهذان الشاهدان هما وصيان من الميت على صفة وصيته وإبلاغها، إلا أن يجعل الموصي وصيا غيرهما فيكونا شاهدين على ذلك.والعدل والعدالة متحدان، أي صاحبا اتصاف بالعدالة.
ومعنى {منكم} من المؤمنين، كما هو مقتضى الخطاب بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، لأن المتكلم إذا خاطب مخاطبه بوصف ثم أتبعه بما يدل على بعضه كان معناه أنه بعض أصحاب الوصف، كما قال الأنصار يوم السقيفة:"منا أمير ومنكم أمير".فالكلام على وصية المؤمنين.وعلى هذا درج جمهور المفسرين، وهو قول أبى موسى الأشعري، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة، والأئمة الأربعة.وهو الذي يجب التعويل عليه، وهو ظاهر الوصف بكلمة {منكم} في مواقعها في القرآن.
وقال الزهري، والحسن، وعكرمة:معنى قوله {منكم} من عشيرتكم وقرابتكم.ويترتب على التفسير الأول أن يكون معنى مقابله وهو {مِنْ غَيْرِكُمْ} أنه من غير أهل ملتكم.فذهب فريق ممن قالوا بالتفسير الأول إلى إعمال هذا وأجازوا شهادة غير المسلم في السفر في الوصية خاصة، وخصوا ذلك بالذمي، وهو قول أحمد، والثوري، وسعيد بن المسيب، ونسب إلى ابن عباس، وأبي موسى.وذهب فريق إلى أن هذا منسوخ بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، ونسب إلى زيد بن أسلم.وقد تم الكلام على الصورة الكاملة في شهادة الوصية بقوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} الآيات..تفصيل للحالة التي تعرض في السفر.و"أو"للتقسيم لا للتخيير، والتقسيم باعتبار اختلاف الحالين:حال الحاضر وحال المسافر، ولذلك اقترن به قوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ، فهو قيد لقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}.
وجواب الشرط في قوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} محذوف دل عليه قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، والتقدير:إن أنتم ضربتم في الأرض فشهادة آخرين من غيركم، فالمصير إلى شهادة شاهدين من غير المسلمين عند من يراه مقيد بشرط: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}. والضرب في الأرض:السير فيها.والمراد به السفر.وتقدم عند قوله

تعالى: {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} في سورة آل عمران[156].
ومعنى {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} حلت بكم، والفعل مستعمل في معنى المشارفة والمقاربة، كما في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً} [النساء:9]، أي لو شارفوا أن يتركوا ذرية.وهذا استعمال من استعمال الأفعال.ومنه قولهم في الإقامة:قد قامت الصلاة.
وعطف قوله {فَأَصَابَتْكُمْ} على {ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ، فكان من مضمون قوله قبله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أعيد هنا لربط الكلام بعد ما فصل بينه من الظروف والشروط.
وضمير الجمع في {أصابتكم} كضمير الجمع في {ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}.
والمصيبة:الحادثة التي تحل بالمرء من شر وضر، وتقدم عند قوله تعالى: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} في سورة النساء72].
وجملة {تَحْبِسُونَهُمَا} حال من {آخران} عند من جعل قوله :{مِنْ غَيْرِكُمْ} بمعنى من غير أهل دينكم.وأما عند من جعله بمعنى من غير قبيلتكم فإنه حال من{اثنان} ومن{آخران}لأنهما متعاطفان بـ"أو".فهما أحد قسمين، ويكون التحليف عند الاسترابة.والتحليف على هذا التأويل بعيد إذ لا موجب للاسترابة في عدلين مسلمين.
وضمير الجمع في {تَحْبِسُونَهُمَا} كضميري{ضربتم ـ وأصابتكم}.وكلها مستعملة في الجمع البدلي دون الشمولي، لأن جميع المخاطبين صالحون لأن يعتريهم هذا الحكم وإنما يحل ببعضهم.فضمائر جمع المخاطبين واقعة موقع مقتضى الظاهر كلها.وإنما جاءت بصيغة الجمع لإفادة العموم، دفعا لأن يتوهم أن هذا التشريع خاص بشخصين معينين لأن قضية سبب النزول كانت في شخصين؛ أو الخطاب والجمع للمسلمين وحكامهم.
والحبس:الإمساك أي المنع من الانصراف.فمنه ما هو بإكراه كحبس الجاني في بيت أو إثقافه في قيد.ومنه ما يكون بمعنى الانتظار، كما في حديث عتبان بن مالك: "فغدا علي رسول الله وأبو بكر إلى أن قال وحبسناه على خزير صنعناه"، أي أمسكناه.وهذا هو المراد في الآية، أي تمسكونهما ولا تتركونهما يغادرانكم حتى يتحملا الوصية.وليس المراد به السجن أو ما يقرب منه، لأن الله تعالى قال :{وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282].

وقوله: {مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} توقيت لإحضارهما وإمساكهما لأداء هذه الشهادة.والإتيان بـ"من"الابتدائية لتقريب البعدية، أي قرب انتهاء الصلاة.وتحتمل الآية أن المراد بالصلاة صلاة من صلوات المسلمين، وبذلك فسرها جماعة من أهل العلم، فمنهم من قال:هي صلاة العصر.وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحلف تميما الداري وعدي بن بداء في قضية الجام بعد العصر، وهو قول قتادة وسعيد، وشريح، والشعبي.ومنهم من قال:"الظهر"، وهو عن الحسن.وتحتمل من بعد صلاة دينهما على تأويل من غيركم بمعنى من غير أهل دينكم.ونقل عن السدي، وابن عباس،:"أي تحضرونهما عقب أدائهما صلاتهما لأن ذلك قريب من إقبالهما على خشية الله والوقوف لعبادته".
وقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} عطف على {تَحْبِسُونَهُمَا} فعلم أن حبسهما بعد الصلاة لأجل أن يقسما بالله.وضمير {يُقْسِمَانِ} عائد إلى قوله: {آخران}. فالحلف يحلفه شاهدا الوصية اللذان هما غير مسلمين لزيادة الثقة بشهادتهما لعدم الاعتداد بعدالة غير المسلم.
وقوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} تظافرت أقوال المفسرين على أن هذا شرط متصل بقوله :{تَحْبِسُونَهُمَا} وما عطف عليه.واستغني عن جواب الشرط لدلالة ما تقدم عليه ليتأتى الإيجاز، لأنه لو لم يقدم لقيل:أو آخران من غيركم فإن ارتبتم فيهما تحبسونهما إلى آخره.فيقتضي هذا التفسير أنه لو لم تحصل الريبة في صدقهما لما لزم إحضارهما من بعد الصلاة وقسمهما، فصار ذلك موكولا لخيرة الولي.وجملة الشرط معترضة بين فعل القسم وجوابه.
والوجه عندي أن يكون قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} من جملة الكلام الذي يقوله الشاهدان، ومعناه أن الشاهدين يقولان:إن ارتبتم في شهادتنا فنحن نقسم بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم الشهادة، أي يقولان ذلك لاطمئنان نفس الموصي، لأن العدالة مظنة الصدق مع احتمال وجود ما ينافيها مما لا يطلع عليه فأكدت مظنة الصدق بالحلف؛ فيكون شرع هذا الكلام على كل شاهد ليستوي فيه جميع الأحوال بحيث لا يكون توجيه اليمين في بعض الأحوال حرجا على الشاهدين اللذين توجهت عليهما اليمين من أن اليمين تعريض بالشك في صدقهما، فكان فرض اليمين من قبل الشرع دافعا للتحرج بينهما وبين الولي، لأن في كون اليمين شرطا من عند الله معذرة في المطالبة بها، كما قال جمهور فقهائنا في يمين القضاء التي تتوجه على من يثبت حقا على ميت أو غائب من أنها لازمة قبل الحكم مطلقا ولو أسقطها الوارث الرشيد.ولم أقف على من عرج على هذا المعنى

من المفسرين إلا قول الكواشي في تلخيص التفسير:"وبعضهم يقف على {يقسمان} ويبتدئ {بالله} قسما ولا أحبه"، وإلا ما حكاه الصفاقسي في"معربه"عن الجرجاني:"أن هنا قولا محذوفا تقديره:فيقسمان بالله ويقولان".ولم يظهر للصفاقسي ما الذي دعا الجرجاني لتقدير هذا القول.ولا أراه حمله عليه إلا جعل قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} من كلام الشاهدين.
وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم، فإن القسم أولى بالجواب لأنه مقدم على الشرط.
وقوله: {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} الخ، ذلك هو المقسم عليه.ومعنى {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} لا نعتاض بالأمر الذي أقسمنا عليه ثمنا، أي عوضا، فضمير به، عائد إلى القسم المفهوم من {يقسمان} وقد أفاد تنكير {ثمنا} في سياق النفي عموم كل ثمن.والمراد بالثمن العوض، أي لا نبدل ما أقسمنا عليه بعوض كائنا ما كان العوض، ويجوز أن يكون ضمير {به} عائدا إلى المقسم عليه وهو ما استشهدا عليه من صيغة الوصي بجميع ما فيها.
وقوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} حال من قوله: {ثمنا} الذي هو بمعنى العوض، أي ولو كان العوض ذا قربى، أي ذا قربى منا، و"لو"شرط يفيد المبالغة فإذا كان ذا القربى لا يرضيانه عوضا عن تبديل شهادتهما فأولى ما هو دون ذلك.وذلك أن أعظم ما يدفع المرء إلى الحيف في عرف القبائل هو الحمية والنصرة للقريب، فذلك تصغر دونه الرشى ومنافع الذات.والضمير المستتر في {كان} عائد إلى قوله: {ثمنا}. ومعنى كون الثمن، أي العوض، ذا قربى أنه إرضاء ذي القربى ونفعه فالكلام على تقدير مضاف، وهو من دلالة الاقتضاء لأنه لا معنى لجعل العوض ذات ذي القربى، فتعين أن المراد شيء من علائقه يعينه المقام.ونظيره :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23].وقد تقدم وجه دلالة مثل هذا الشرط بـ"لو"وتسميتها وصلية عند قوله تعالى: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} من سورة آل عمران[91].
وقوله: {وَلا نَكْتُمُ} عطف على {لانَشْتَرِي}، لأن المقصود من إحلافهما أن يؤديا الشهادة كما تلقياها فلا يغيرا شيئا منها ولا يكتماها أصلا.
وإضافة الشهادة إلى اسم الجلالة تعظيم لخطرها عند الشاهد وغيره لأن الله لما أمر بأدائها كما هي وحض عليها أضافها إلى اسمه حفظا لها من التغيير، فالتصريح باسمه تعالى تذكير للشاهد به حين القسم.

وفي قوله: {وَلا نَكْتُمُ} دليل على أن المراد بالشهادة هنا معناها المتعارف، وهو الإخبار عن أمر خاص يعرض في مثله الترافع.وليس المراد بها اليمين كما توهمه بعض المفسرين فلا نطيل برده فقد رده اللفظ.
وجملة: {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأنها جواب سؤال مقدر بدليل وجود{إذن}، فإنه حرف جواب:استشعر الشاهدان سؤالا من الذي حلفا له بقولهما:لا نشتري به ثمنا ولا نكتم شهادة الله، يقول في نفسه:لعلكما لا تبران بما أقسمتما عليه، فأجابا:إنا إذن لمن الآثمين، أي إنا نعلم تبعة عدم البر بما أقسمنا عليه أن نكون من الآثمين، أي ولا نرضى بذلك.
والآثم:مرتكب الإثم.وقد علم أن الإثم هو الحنث بوقوع الجملة استئنافا مع"إذن"الدالة على جواب كلام يختلج في نفس أولياء الميت.
وقوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ} الآية، أي إن تبين أنهما كتما أو بدلا وحنثا في يمينهما، بطلت شهادتهما، لأن قوله: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} فرع عن بطلان شهادتهما، فحذف ما يعبر عن بطلان شهادتهما إيجازا كقوله: {اضْرِبْ1 بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة:60]أي فضرب فانفجرت.
ومعنى {عثر} اطلع وتبين ذلك، وأصل فعل عثر أنه مصادفة رجل الماشي جسما ناتئا في الأرض لم يترقبه ولم يحذر منه فيختل به اندفاع مشيه، فقد يسقط وقد يتزلزل.ومصدره العثار والعثور، ثم استعمل في الظفر بشيء لم يكن مترقبا الظفر به على سبيل الاستعارة.وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة، فخصوا في الاستعمال المعنى الحقيقي بأحد المصدرين وهو العثار، وخصوا المعنى المجازي بالمصدر الآخر، وهو العثور.
ومعنى {اسْتَحَقَّا إِثْماً} ثبت أنهما ارتكبا ما يأثمان به، فقد حق عليهما الإثم، أي وقع عليهما، فالسين والتاء للتأكيد.والمراد بالإثم هو الذي تبرءا منه في قوله :{لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} فالإثم هو أحد هذين بأن يظهر أنهما استبدلا بما استؤمنا عليه عوضا لأنفسهما أو لغيرهما، أو بأن يظهر أنهما كتما الشهادة، أي بعضها.وحاصل الإثم أن يتضح ما يقدح في صدقهما بموجب الثبوت.
ـــــــ
1 في المطبوعة "أن اضرب بعصاك..."الموافقة للآية 160 من الأعراف,والمثبت هو الموافق للشرح.

وقوله: {فآخران} أي رجلان آخران، لأن وصف آخر يطلق على المغاير بالذات أو بالوصف مع المماثلة في الجنس المتحدث عنه، والمتحدث عنه هنا {اثنان}. فالمعنى فاثنان آخران يقومان مقامهما في إثبات الوصية.ومعنى يقومان مقامهما، أي يعوضان تلك الشهادة.فإن المقام هو محل القيام، ثم يراد به محل عمل ما ولو لم يكن فيه قيام، ثم يراد به العمل الذي من شأنه أن يقع في محل يقوم فيه العامل، وذلك في العمل المهم.قال تعالى: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي} [يونس:71].فمقام الشاهدين هو إثبات الوصية.و {من} في قوله: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} تبعيضية، أي شخصان آخران يكونان من الجماعة من الذين استحق عليهم.
والاستحقاق كون الشيء حقيقا بشيء آخر، فيتعدى إلى المفعول بنفسه، كقوله: {اسْتَحَقَّا إِثْماً}، وهو الشيء المستحق.وإذا كان الاستحقاق عن نزاع يعدى الفعل إلى المحقوق ب {على} الدالة على الاستعلاء بمعنى اللزوم له وإن كره، كأنهم ضمنوه معنى وجب كقوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:105].ويقال:استحق زيد على عمرو كذا، أي وجب لزيد حق على عمرو، فأخذه منه.
وقرأ الجمهور: {استحق عَلَيْهِمُ} بالبناء للمجهول فالفاعل المحذوف في قوله :{اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} هو مستحق ما، وهو الذي انتفع بالشهادة واليمين الباطلة، فنال من تركة الموصي ما لم يجعله له الموصي وغلب وارث الموصي بذلك.فالذين استحق عليهم هم أولياء الموصي الذين لهم ماله بوجه من وجوه الإرث فحرموا بعضه.وقوله: {عليهم} قائم مقام نائب فاعل {استحق}.
وقوله: {الأوليان} تثنية أولى، وهو الأجدر والأحق، أي الأجدران بقبول قولهما.فما صدقه هو ما صدق {الآخران} ومرجعه إليه فيجوز، أن يجعل خبرا عن {آخران} ، فإن {آخران} لما وصف بجملة {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} صح الابتداء به، أي فشخصان آخران هما الأوليان بقبول قولهما دون الشاهدين المتهمين.وإنما عرف باللام لأنه معهود للمخاطب ذهنا لأن السامع إذا سمع قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} ترقب أن يعرف من هو الأول ى بقبول قوله في هذا الشأن، فقيل له:آخران هما الأوليان بها.ويجوز أن يكون {الأوليان} مبتدأ و {آخَرَانِ يَقُومَانِ} خبره.وتقديم الخبر لتعجيل الفائدة، لأن السامع يترقب الحكم بعد قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} فإن ذلك العثور على كذب الشاهدين يسقط شهادتهما ويمينهما، فكيف يكون القضاء في ذلك، فعجل الجواب.

ويجوز أن يكون بدلا من {آخران} أو من الضمير في {يقومان} أو خبر مبتدأ محذوف، أي هما الأوليان.ونكتة التعريف هي على الوجوه كلها.
وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب، وخلف، {الأوّلين} بتشديد الواو مفتوحة وبكسر اللام وسكون التحتية جمع أول الذي هو مجاز بمعنى المقدم والمبتدأ به.فالذين استحق عليهم هم أولياء الموصي حيث استحق الموصى له الوصية من مال التركة الذي كان للأولياء، أي الورثة لولا الوصية، وهو مجرور نعت"للذين استحق عليهم".
وقرأ حفص عن عاصم {استحق} بصيغة البناء للفاعل فيكون {الأوليان} هو فاعل {استحق} ،وقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} تفريع على قوله: {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا}.
ومعنى {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أنهما أولى بأن تقبل شهادتهما من اللذين عثر على أنهما استحقا إثما.ومعنى {أحق} أنها الحق، فصيغة التفضيل مسلوبة المفاضلة.
وقوله: {وَمَا اعْتَدَيْنَا} توكيد للأحقية، لأن الأحقية راجعة إلى نفعهما بإثبات ما كتمه الشاهدان الأجنبيان، فلو لم تكن كذلك في الواقع لكانت باطلا واعتداء منهما على مال مبلغي الوصية.والمعنى:وما اعتدينا على الشاهدين في اتهامهما بإخفاء بعض التركة.
وقوله: {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي لو اعتدينا لكنا ظالمين.والمقصود منه الإشعار بأنهما متذكران ما يترتب على الاعتداء والظلم، وفي ذلك زيادة وازع.
وقد تضمن القسم على صدق خبرهما يمينا على إثبات حقهما فهي من اليمين التي يثبت بها الحق مع الشاهد العرفي، وهو شاهد التهمة التي عثر عليها في الشاهدين اللذين يبلغان الوصية.
والكلام في"إذن"هنا مثل الكلام في قوله: {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ}.
والمعنى أنه إن اختلت شهادة شاهدي الوصية انتقل إلى يمين الموصى له سواء كان الموصى له واحدا أم متعددا.وإنما جاءت الآية بصيغة الاثنين مراعاة للقضية التي نزلت فيها، وهي قضية تميم الداري وعدي بن بداء، فإن ورثة صاحب التركة كانا اثنين هما:عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة، وكلاهما من بني سهم، وهما موليا بديل بن أبي مريم السهمي صاحب الجام.فبعض المفسرين يذكر أنهما موليا بديل.وبعضهم يقول:إن مولاه هو عمرو بن العاصي.والظاهر من تحليف المطلب ابن أبي وداعة أن له ولاء من بديل، إذ لا يعرف في الإسلام أن يحلف من لا ينتفع باليمين.فإن كان صاحب

الحق واحدا حلف وحده وإن كان أصحاب الحق جماعة حلفوا جميعا واستحقوا.ولم يقل أحد أنه إن كان صاحب الحق واحدا يحلف معه من ليس بمستحق، ولا إن كان صاحب الحق ثلاثة فأكثر أن يحلف اثنان منهم ويستحقون كلهم.فالاقتصار على اثنين في أيمان الأول يين ناظر إلى قصة سبب النزول، فتكون الآية على هذا خاصة بتلك القضية.ويجري ما يخالف تلك القضية على ما هو المعروف في الشريعة في الاستحقاق والتهم.وهذا القول يقتضي أن الآية نزلت قبل حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في وصية بديل بن أبي مريم.وذلك ظاهر بعض روايات الخبر، وفي بعض الروايات ما يقتضي أن الآية نزلت بعد أن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وحينئذ يتعين أن تكون تشريعا لأمثال تلك القضية مما يحدث في المستقبل، فيتعين المصير إلى الوجه الأول في اشتراط كون الأوليين اثنين إن أمكن.
وبقيت صورة لم تشملها الآية مثل أن لا يجد المحتضر إلا واحدا من المسلمين، أو واحدا من غير المسلمين، أو يجد اثنين أحدهما مسلم والآخر غير مسلم.وكل ذلك يجرى على أحكامه المعروفة في الأحكام كلها من يمين من قام له شاهد أو يمين المنكر.
والمشار إليه في قوله:"ذلك أدنى"إلى المذكور من الحكم من قوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} ـ إلى قوله ـ {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}. و {أدنى} بمعنى أقرب، والقرب هنا مجاز في قرب العلم وهو الظن، أي أقوى إلى الظن بالصدق.
وضمير {يأتوا} عائد إلى"الشهداء"، وهم:الآخران من غيركم، والآخران اللذان يقومان مقامهما، أي أن يأتي كل واحد منهم.فجمع الضمير على إرادة التوزيع.
والمعنى أن ما شرع الله من التوثيق والضبط، ومن رد الشهادة عند العثور على الريبة أرجى إلى الظن بحصول الصدق لكثرة ما ضبط على كلا الفريقين مما ينفى الغفلة والتساهل، بله الزور والجور مع توقي سوء السمعة.
ومعنى {أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ} أن يؤدوا الشهادة.جعل أداؤها والإخبار بها كالإتيان بشيء من مكان.
ومعنى قوله {عَلَى وَجْهِهَا}، أي على سنتها وما هو مقوم تمامها وكمالها، فاسم الوجه في مثل هذا مستعار لأحسن ما في الشيء وأكمله تشبيها بوجه الإنسان ، إذ هو العضو الذي يعرف به المرء ويتميز عن غيره.ولما أريد منه معنى الاستعارة لهذا المعنى،

وشاع هذا المعنى في كلامهم، قالوا:جاء بالشيء الفلاني على وجهه، فجعلوا الشيء مأتيا به، ووصفوه بأنه أتي به متمكنا من وجهه، أي من كمال أحواله.فحرف"على"للاستعلاء المجازي المراد منه التمكن، مثل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5].والجار والمجرور في موضع الحال من {الشهادة} ، وصار ذلك قرينة على أن المراد من الوجه غير معناه الحقيقي.
وسنة الشهادة وكمالها هو صدقها والتثبت فيها والتنبه لما يغفل عنه من مختلف الأحوال التي قد يستخف بها في الحال وتكون للغفلة عنها عواقب تضيع الحقوق، أي ذلك يعلمهم وجه التثبت في التحمل والأداء وتوخي الصدق، وهو يدخل في قاعدة لزوم صفة اليقظة للشاهد.
وفي الآية إيماء إلى حكمة مشروعية الإعذار في الشهادة بالطعن أو المعارضة، فإن في ذلك ما يحمل شهود الشهادة على التثبت في مطابقة شهادتهم، للواقع لأن المعارضة والإعذار يكشفان عن الحق.
وقوله: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} عطف على قوله: {أَنْ يَأْتُوا} باعتبار ما تعلق به من المجرورات، وذلك لأن جملة {يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} أفادت الإتيان بها صادقة لا نقصان فيها بباعث من أنفس الشهود، ولذلك قدرناه بمعنى أن يعلموا كيف تكون الشهادة الصادقة.فأفادت الجملة المعطوف عليها إيجاد وازع للشهود من أنفسهم، وأفادت الجملة المعطوفة وازعا هو توقع ظهور كذبهم.ومعنى {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ} أن ترجع أيمان إلى ورثة الموصي بعد أيمان الشهيدين.فالرد هنا مجاز في الانتقال، مثل قولهم:قلب عليه اليمين، فيعيروا به بين الناس، فحرف"أو"للتقسيم، وهو تقسيم يفيد تفضيل ما أجملته الإشارة في قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى} الخ...وجمع {الأيمان} باعتبار عموم حكم الآية لسائر قضايا الوصايا التي من جنسها، على أن العرب تعدل عن التثنية كثيرا.ومنه قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4].
وذيل هذا الحكم الجليل بموعظة جميع الأمة فقال: {واتقوا الله} الآية.
وقوله :{واسمعوا} أمر بالسمع المستعمل في الطاعة مجازا، كما تقدم في قوله تعالى: {إذ قلتم سمعنا وأطعنا} في هذه السورة[7].
وقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} تحريض على التقوى والطاعة لله فيما أمر

ونهى، وتحذير من مخالفة ذلك، لأن في اتباع أمر الله هدى وفي الإعراض فسقا .{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي المعرضين عن أمر الله، فإن ذلك لا يستهان به لأنه يؤدي إلى الرين على القلب فلا ينفذ إليه الهدى من بعد فلا تكونوهم وكونوا من المهتدين.
هذا تفسير الآيات توخيت فيه أوضح المعاني وأوفقها بالشريعة، وأطلت في بيان ذلك لإزالة ما غمض من المعاني تحت إيجازها البليغ.وقد نقل الطيبي عن الزجاج أن هذه الآية من أشكل ما في القرآن من الإعراب.وقال الفخر:"روى الواحدي عن عمر:هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام"وقال ابن عطية عن مكي بن أبي طالب:"هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما".قال ابن عطية:"وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها.وذلك بين من كتابه".
ولقصد استيفاء معاني الآيات متتابعة تجنبت التعرض لما تفيده من الأحكام واختلاف علماء الإسلام فيها في أثناء تفسيرها.وأخرت ذلك إلى هذا الموضع حين انتهيت من تفسير معانيها.
وقد اشتملت على أصلين:أحدهما الأمر بالإشهاد على الوصية، وثانيهما فصل القضاء في قضية تميم الداري وعدي بن بداء مع أولياء بديل بن أبي مريم.
فالأصل الأول:من قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى قوله: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ}.
والأصل الثاني:من قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} إلى قوله: {بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ}. ويحصل من ذلك معرفة وجه القضاء في أمثال تلك القضية مما يتهم فيه الشهود.
وقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية بيان لكيفية الشهادة، وهو يتضمن الأمر بها، ولكن عدل عن ذكر الأمر لأن الناس معتادون باستحفاظ وصاياهم عند محل ثقتهم.
وأهم الأحكام التي تؤخذ من الآية ثلاثة:أحدها:استشهاد غير المسلمين في حقوق المسلمين، على رأي من جعله المراد من قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}. وثانيها:تحليف الشاهد على أنه صادق في شهادته.وثالثها:تغليظ اليمين بالزمان.
فأما الحكم الأول:فقد دل عليه قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}. وقد بينا أن الأظهر أن الغيرية غيرية في الدين.وقد اختلف في قبول شهادة غير المسلمين في القضايا الجارية بين المسلمين؛ فذهب الجمهور إلى أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى:

{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]وقوله :{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة :282] وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي.وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة، فمنهم من جعلها خاصة بالشهداة على الوصية في السفر إذا لم يكن مع الموصي مسلمون.وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عباس، وقضى بذلك أبو موسى الأشعري في وصية مثل هذه أيام قضائه بالكوفة، وقال:"هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم".وهو قول سعيد بن المسيب، وابن جبير، وشريح، وابن سيرين، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وسفيان الثوري، وجماعة، وهم يقولون:لا منسوخ في سورة المائدة، تبعا لابن عباس.ومنهم من تأول قوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ} على أنه من غير قبيلتكم، وهو قول الزهري، والحسن، وعكرمة.
وقال أحمد ابن حنبل بقياس بقية العقود المشهود فيها في السفر على شهادة الوصية، فقال بأن شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر ماضية، وزاد فجعلها بدون يمين.والأظهر عندي أن حكم الآية غير منسوخ، وأن قبول شهادة غير المسلمين خاص بالوصية في السفر حيث لا يوجد مسلمون للضرورة، وأن وجه اختصاص الوصية بهذا الحكم أنها تعرض في حالة لا يستعد لها المرء من قبل فكان معذورا في إشهاد غير المسلمين في تلك الحالة خشية الفوات، بخلاف غيرها من العقود فيمكن الاستعداد لها من قبل والتوثق لها بغير ذلك؛ فكان هذا ا لحكم رخصة.
والحكمة التي من أجلها لم تقبل في شريعة الإسلام شهادة غير المسلمين إلا في الضرورة، عند من رأى إعمالها في الضرورة، أن قبول الشهادة تزكية وتعديل للشاهد وترفيع لمقداره إذ جعل خبره مقطعا للحقوق.فقد كان بعض القضاة من السلف يقول للشهود:اتقوا الله فينا فأنتم القضاة ونحن المنفذون.ولما كان رسولنا صلى الله عليه وسلم قد دعا الناس إلى اتباع دينه فأعرض عنه أهل الكتاب لم يكونوا أهلا أن تزكيهم أمته وتسمهم بالصدق وهم كذبوا رسولنا، ولأن من لم يكن دينه ديننا لا نكون عالمين بحدود ما يزعه عن الكذب في خبره، ولا لمجال التضييق والتوسع في أعماله الناشئة عن معتقداته، إذ لعل في دينه ما يبيح له الكذب، وبخاصة إذا كانت شهادته في حق لمن يخالفه في الدين، فإننا عهدنا منهم أنهم لا يتوخون الاحتياط في حقوق من لم يكن من أهل دينهم.قال تعالى حكاية عنهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} فمن أجل ذلك لم يكن مظنة للعدالة ولا كان مقدارها فيه مضبوطا.وهذا حال الغالب منهم، وفيهم من

قال الله في شأنه: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} [آل عمران:75]ولكن الحكم للغالب.
وأما حكم تحليف الشاهد على صدقه في شهادته فلم يرد في المأثور إلا في هذا الموضع؛ فأما الذين قالوا بنسخ قبول شهادة الكافر فتحليف شاهدي الوصية الكافرين منسوخ تبعا، وهو قول الجمهور.وأما الذين جعلوه محكما فقد اختلفوا، فمنهم من خص اليمين بشاهدي الوصية من غير المسلمين، ومنهم من اعتبر بعلة مشروعية تحليف الشاهدين من غير المسلمين، فقاس عليه تحليف الشاهدين إذا تطرقت إليهما الريبة ولو كانا مسلمين.وهذا لا وجه له إذ قد شرط الله فيهما العدالة وهي تنافي الريبة، نعم قد يقال:هذا إذا تعذرت العدالة أو ضعفت في بعض الأوقات ووقع الاضطرار إلى استشهاد غير العدول كما هي حالة معظم بلاد الإسلام اليوم، فلا يبعد أن يكون لتحليف الشاهد المستور الحال وجه في القضاء.والمسألة مبسوطة في كتب الفقه.
وأما حكم تغليظ اليمين فقد أخذ من الآية أن اليمين تقع بعد الصلاة، فكان ذلك أصلا في تغليظ اليمين في نظر بعض أهل العلم، ويجيء في تغليظ اليمين أن يكون بالزمان والمكان واللفظ.وفي جميعها اختلاف بين العلماء.وليس في الآية ما يتمسك به بواحد من هذه الثلاثة إلا قوله :{مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} وقد بينت أن الأظهر أنه خاص بالوصية، وأما التغليظ بالمكان وباللفظ فتفصيله في كتب الخلاف.
[110,109] {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}
جملة {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} استئناف ابتدائي متصل بقوله: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} ـ إلى قوله ـ { وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:185].وما بينهما جمل معترضة نشأ بعضها عن بعض، فعاد الكلام الآن إلى أحوال الذين اتبعوا عيسى عليه السلام، فبدل كثير منهم تبديلا بلغ بهم إلى الكفر ومضاهاة المشركين، للتذكير بهول عظيم من أهوال يوم القيامة تكون فيه شهادة الرسل على الأمم وبراءتهم مما أحدثه أممهم بعدهم في الدين مما لم

يأذن به الله، والتخلص من ذلك إلى شهادة عيسى على النصارى بأنه لم يأمرهم بتأليهه وعبادته.وهذا متصل في الغرض بما تقدم من قوله تعالى :{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82].فإن في تلك الآيات ترغيبا وترهيبا، وإبعادا وتقريبا، وقع الانتقال منها إلى أحكام تشريعية ناسبت ما ابتدعه اليهود والنصارى، وذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87] وتفنن الانتقال إلى هذا المبلغ، فهذا عود إلى بيان تمام نهوض الحجة على النصارى في مشهد يوم القيامة.ولقد جاء هذا مناسبا للتذكير العام بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:108].ولمناسبة هذا المقام التزم وصف عيسى بابن مريم كلما تكرر ذكره في هذه الآيات أربع مرات تعريضا بإبطال دعوى أنه ابن لله تعالى.
ولأنه لما تم الكلام على الاستشهاد على وصايا المخلوقين ناسب الانتقال إلى شهادة الرسل على وصايا الخالق تعالى، فإن الأديان وصايا الله إلى خلقه.قال تعالى :{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13].وقد سماهم الله تعالى شهداء في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41].
فقوله : {يَوْمَ يَجْمَعُ} ظرف، والأظهر أنه معمول لعامل محذوف يقدر بنحو:اذكر يوم يجمع الله الرسل، أو يقدر له عامل يكون بمنزلة الجواب للظرف، لأن الظرف إذا تقدم يعامل معاملة الشرط في إعطائه جوابا.وقد حذف هذا العامل لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن من التهويل، تقديره يوم يجمع الله الرسل يكون هول عظيم لا يبلغه طول التعبير فينبغي طيه.ويجوز أن يكون متعلقا بفعل
{قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا..} الخ، أي أن ذلك الفعل هو المقصود من الجملة المستأنفة.وأصل نظم الكلام:يجمع الله الرسل يوم القيامة فيقول الخ.فغير نظم الكلام إلى الأسلوب الذي وقع في الآية للاهتمام بالخبر، فيفتتح بهذا الظرف المهول وليورد الاستشهاد في صورة المقاولة بين الله والرسل.والمقصود من الكلام هو ما يأتي بقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة:116] وما بينهما اعتراض.ومن البعيد أن يكون الظرف متعلقا بقوله :{لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:108] لأنه لا جدوى في نفي الهداية في يوم القيامة، ولأن جزالة الكلام تناسب استئنافه، ولأن تعلقه به غير واسع المعنى.
ومثله قول الزجاج:إنه متعلق بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:08] على أن {يوم}

مفعول لأجله، وقيل:بدل اشتمال من اسم الجلالة في قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:108] لأن جمع الرسل مما يشتمل عليه شأن الله، فالاستفهام في قوله :{مَاذَا أُجِبْتُمْ} مستعمل في الاستشهاد.ينتقل منه إلى لازمه، وهو توبيخ الذين كذبوا الرسل في حياتهم أو بدلوا وارتدوا بعد مماتهم.
وظاهر حقيقة الإجابة أن المعنى:ماذا أجابكم الأقوام الذين أرسلتم إليهم، أي ماذا تلقوا به دعواتكم، حملا على ما هو بمعناه في نحو قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [النمل:56].ويحمل قول الرسل: {لا عِلْمَ لَنَا} على معنى لا علم لنا بما يضمرون حين أجابوا فأنت أعلم به منا.أو هو تأدب مع الله تعالى لأن ما عدا ذلك مما أجابت به الأمم يعلمه رسلهم؛ فلا بد من تأويل نفي الرسل العلم عن أنفسهم وتفويضهم إلى علم الله تعالى بهذا المعنى.فأجمع الرسل في الجواب على تفويض العلم إلى الله، أي أن علمك سبحانك أعلى من كل علم وشهادتك أعدل من كل شهادة، فكان جواب الرسل متضمنا أمورا:أحدها:الشهادة على الكافرين من أممهم بأن ما عاملهم الله به هو الحق.الثاني:تسفيه أولئك الكافرين في إنكارهم الذين لا يجديهم.الثالث تذكير أممهم بما عاملوا به رسلهم لأن في قولهم: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، تعميما للتذكير بكل ما صدر من أممهم من تكذيب وأذى وعناد.ويقال لمن يسأل عن شيء لا أزيدك علما بذلك، أو أنت تعرف ما جرى.وإيراد الضمير المنفصل بعد الضمير المتصل لزيادة تقرير الخبر وتأكيده.
وعن ابن الأنباري تأويل قول الرسل {لا عِلْمَ لَنَا} بأنهم نفوا أن يكونوا يعلمون ما كان من آخر الأمم بعد موت رسلهم من دوام على إقامة الشرائع أو التفريط فيها وتبديلها فيكون قول الرسل: {لا عِلْمَ لَنَا} محمولا على حقيقته ويكون محمل {ماذا} على قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} هو ما أجابوا به من تصديق وتكذيب ومن دوام المصدقين على تصديقهم أو نقص ذلك، ويعضد هذا التأويل ما جاء بعد هذا الكلام من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، وقول عيسى عليه السلام: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} الآية فإن المحاورة مع عيسى بعض من المحاورة مع بقية الرسل.وهو تأويل حسن.
وعبر في جواب الرسل بـ {قالوا} المفيد للمضي مع أن الجواب لم يقع، للدلالة على تحقيق أن سيقع حتى صار المستقبل من قوة التحقق بمنزلة الماضي في التحقق.على

أن القول الذي تحكى به المحاورات لا يلتزم فيه مراعاة صيغته لزمان وقوعه لأن زمان الوقوع يكون قد تعين بقرينة سياق المحاورة.
وقرأ الجمهور {الْغُيُوبِ} بضم الغين.وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم بكسر الغين وهي لغة لدفع ثقل الانتقال من الضمة إلى الباء، كما تقدم في بيوت في قوله تعالى :{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} من سورة النساء[15].
وفصل {قالوا} جريا على طريقة حكاية المحاورات،كما تقدم في قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة[30].
وقوله : {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} ظرف، هو بدل من {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} بدل اشتمال، فإن يوم الجمع مشتمل على زمن هذا الخطاب لعيسى، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على التي قبلها.والمقصود من ذكر ما يقال لعيسى يومئذ هو تقريع اليهود والنصارى الذين ضلوا في شأن عيسى بين طرفي إفراط بغض وإفراط حب.
فقوله: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} إلى قوله: {لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115] استئناس لعيسى لئلا يفزعه السؤال الوارد بعده بقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} الخ...وهذا تقريع لليهود، وما بعدها تقريع للنصارى.والمراد من {اذْكُرْ نِعْمَتِي} الذكر بضم الذال وهو استحضار الأمر في الذهن.والأمر في قوله :{اذكر} للامتنان، إذ ليس عيسى بناس لنعم الله عليه وعلى والدته.ومن لازمه خزي اليهود الذين زعموا أنه ساحر مفسد إذ ليس السحر والفساد بنعمة يعدها الله على عبده.ووجه ذكر والدته هنا الزيادة من تبكيت اليهود وكمدهم لأنهم تنقصوها بأقذع مما تنقصوه.
والظرف في قوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} متعلق بـ {نعمتي} لما فيها من معنى المصدر، أي النعمة الحاصلة في ذلك الوقت، وهو وقت التأييد بروح القدس.وروح القدس هنا جبريل على الأظهر.
والتأييد وروح القدس تقدما في سورة البقرة[87] عند قوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}.
وجملة {تكلم} حال من الضمير المنصوب بـ {أيدتك} وذلك أن الله ألقى الكلام من الملك على لسان عيسى وهو في المهد، وفي ذلك تأييد له لإثبات نزاهة تكونه، وفي ذلك نعمة عليه، وعلى والدته إذ ثبتت براءتها مما اتهمت به.
والجار والمجرور في قوله: {في المهد} حال من ضمير {تكلم}. و {كهلا}

معطوف على {فِي الْمَهْدِ} لأنه حال أيضا، كقوله تعالى: {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} [يونس:12] والمهد والكهل تقدما في تفسير سورة آل عمران.وتكليمه كهلا أريد به الدعوة إلى الدين فهو من التأييد بروح القدس، لأنه الذي يلقى إلى عيسى ما يأمره الله بتبليغه.
وقوله :{وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} تقدم القول في نظيره في سورة آل عمران، وكذلك قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ إلى قوله وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} تقدم القول في نظيره هنالك.
إلا أنه قال هنا {فَتَنْفُخُ فِيهَا} وقال في سورة آل عمران[49] {فَأَنْفُخُ فِيهِ}. فعن مكي بن أبي طالب أن الضمير في سورة آل عمران عاد إلى الطير، والضمير في هذه السورة عاد إلى الهيئة واختار ابن عطية أن يكون الضمير هنا عائدا إلى ما تقتضيه الآية ضرورة.أي بدلالة الاقتضاء.وذلك أن قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} يقتضي صورا أو أجساما أو أشكالا، وكذلك الضمير المذكر في سورة آل عمران[49] يعود على المخلوق الذي يقتضيه {أخلق} وجعله في الكشاف عائدا إلى الكاف باعتبار كونها صفة للفظ هيئة المحذوف الدال عليه لفظ هيئة المدخول للكاف وكل ذلك ناظرا إلى أن الهيئة لا تصلح لأن تكون متعلق {تنفخ} ، إذ الهيئة معنى لا ينفخ فيها ولا تكون طائرا.
وقرأ نافع وحدهل {فَتَكُونُ طَائِراً} بالإفراد كما قرأ في سورة آل عمران.وتوجيهها هنا أن الضمير جرى على التأنيث فتعين أن يكون المراد وإذ تخلق، أي تقدر هيئة كهيئة الطير فتكون الهيئة طائرا، أي كل هيئة تقدرها تكون واحدا من الطير.
وقرأ البقية"طيرا"بصيغة اسم الجمع باعتبار تعدد ما يقدره من هيئات كهيئة الطير.
وقال هنا {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى} ولم يقل: {وَأُحْيِي1 الْمَوْتَى} ، كما قال في سورة آل عمران[49]، أي تخرجهم من قبورهم أحياء، فأطلق الإخراج وأريد به لازمه وهو الإحياء، لأن الميت وضع في القبر لأجل كونه ميتا فكان إخراجه من القبر ملزوما لانعكاس السبب الذي لأجله وضع في القبر.وقد سمى الله الإحياء خروجا في قوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] وقال: {أئذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ
ـــــــ
1 في المطبوعة:"وتحيي"وهو خطأ.

مُخْرَجُونَ} 1[المؤمنون:35].
وقوله: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ} عطف على {إِذْ أَيَّدْتُكَ} وما عطف عليه.وهذا من أعظم النعم، وهي نعمة العصمة من الإهانة، فقد كف الله عنه بني إسرائيل سنين، وهو يدعو إلى الدين بين ظهرانيهم مع حقدهم وقلة أنصاره، فصرفهم الله عن ضره حتى أدى الرسالة، ثم لما استفاقوا وأجمعوا أمرهم على قتله عصمه الله منهم فرفعه إليه ولم يظفروا به، وماتت نفوسهم بغيظها.وقد دل على جميع هذه المدة الظرف في قوله: {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فإن تلك المدة كلها مدة ظهور معجزاته بينهم.وقوله: {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} تخلص من تنهية تقريع مكذبيه إلى كرامة المصدقين به.
واقتصر من دعاوي تكذيبهم إياه على قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ، لأن ذلك الادعاء قصدوا به التوسل إلى قتله، لأن حكم الساحر في شريعة اليهود القتل إذ السحر عندهم كفر، إذ كان من صناعة عبدة الأصنام، فقد قرنت التوراة السحر وعرافة الجان بالشرك، كما جاء في سفر اللاويين في الإصحاح العشرين.
وقرأ الجمهور {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ} ، والإشارة بـ {هذا} إلى مجموع ما شاهدوه من البينات.وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف{إِلَّا سِحْرٌ}.والإشارة إلى عيسى المفهوم من قوله: {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} ولا شك أن اليهود قالوا لعيسى كلتا المقالتين على التفريق أو على اختلاف جماعات القائلين وأوقات القول.
[111] {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.
يجوز أن يكون عطفا على جملة {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ}. [المائدة:110]، فيكون من جملة ما يقوله الله لعيسى يوم يجمع الرسل.فإن إيمان الحواريين نعمة على عيسى إذ لو لم يؤمنوا به لما وجد من يتبع دينه فلا يحصل له الثواب المتجدد بتجدد اهتداء الأجيال بدينه إلى أن جاء نسخه بالإسلام.
والمراد بالوحي إلى الحواريين إلهامهم عند سماع دعوة عيسى للمبادرة بتصديقه، فليس المراد بالوحي الذي به دعاهم عيسى.ويجوز أن يكون الوحي الذي أوحي به إلى
ـــــــ
1 في المطبوعة ::أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما إنا لمخرجون"وهو خطأ.

عيسى ليدعو بني إسرائيل إلى دينه.وخص الحواريون به هنا تنويها بهم حتى كأن الوحي بالدعوة لم يكن إلا لأجلهم، لأن ذلك حصل لجميع بني إسرائيل فكفر أكثرهم على نحو قوله تعالى: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} [الصف:14]؛ فكان الحواريون سابقين إلى الإيمان لم يترددوا في صدق عيسى.و {أن} تفسيرية للوحي الذي ألقاه الله في قلوب الحواريين.
وفصل جملة {قَالُوا آمَنَّا} لأنها جواب ما فيه معنى القول، وهو"أوحينا"، على طريقة الفصل في المحاورة كما تقدم في سورة البقرة، وهو قول نفسي حصل حين ألقى الله في قلوبهم تصديق عيسى فكأنه خاطبهم فأجابوه.والخطاب في قولهم :{واشهد} لله تعالى وإنما قالوا ذلك بكلام نفسي من لغتهم، فحكى الله معناه بما يؤديه قوله: {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}. وسمي إيمانهم إسلاما لأنه كان تصديقا راسخا قد ارتفعوا به عن مرتبة إيمان عامة من آمن بالمسيح غيرهم، فكانوا مماثلين لإيمان عيسى، وهو إيمان الأنبياء والصديقيين، وقد قدمت بيانه في تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} في سورة آل عمران[67]، وفي تفسير قوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في سورة البقرة[132] فارجع إليه.
[113,112] {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}
جملة {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} يجوز أن تكون من تمام الكلام الذي يكلم الله به عيسى يوم يجمع الرسل، فيكون {إذ} ظرفا متعلقا بفعل {قَالُوا آمَنَّا} [المائدة:111] فيكون مما يذكر الله به عيسى يوم يجمع الرسل، فحكي على حسب حصوله في الدنيا وليس ذلك بمقتض أن سؤالهم المائدة حصل في أول أوقات إيمانهم بل في وقت آخر {قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111]؛ فإن قولهم: {آمنا} قد يتكرر منهم بمناسبات، كما يكون عند سماعهم تكذيب اليهود عيسى، أو عند ما يشاهدون آيات على يد عيسى، أو يقولونه لإعادة استحضار لإيمان شأن الصديقين الذين يحاسبون أنفسهم ويصقلون إيمانهم فيقولون في كل معاودة.آمنا واشهد بأننا مسلمون.وأما ما قرر به الكشاف ومتابعوه فلا يحسن تفسير الكلام به.

ويجوز أن يكون جملة {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} ابتدائية بتقدير:اذكر، على أسلوب قوله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} في سورة النمل[7]، فيكون الكلام تخلصا إلى ذكر قصة المائدة لمناسبة حكاية ما دار بين عيسى وبين الحواريين في قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة:111]وابتدأوا خطابهم عيسى بندائه باسمه للدلالة على أن ما سيقولونه أمر فيه اقتراح وكلفة له، وكذلك شأن من يخاطب من يتجشم منه كلفة أن يطيل خطابه طلبا لإقبال سمعه إليه ليكون أوعى للمقصود.
وجرى قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} على طريقة عربية في العرض والدعاء، يقولون للمستطيع لأمر:هل تستطيع كذا، على معنى تطلب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك وأن السائل لا يحب أن يكلف المسؤول ما يشق عليه، وذلك كناية فلم يبق منظورا فيه إلى صريح المعنى المقتضي أنه يشك في استطاعة المسؤول، وإنما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسؤول، فقرينة الكناية تحقق المسؤول أن السائل يعلم استطاعته.ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني: "أن رجلا قال لعبد الله ابن زيد:"أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضأ".فإن السائل يعلم أن عبد الله ابن زيد لا يشق عليه ذلك.فليس قول الحواريين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلا لفظا من لغتهم يدل على التلطف والتأدب في السؤال، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص.وليس شكا في قدرة الله تعالى ولكنهم سألوا آية لزيادة اطمئنان قلوبهم بالإيمان بأن ينتقلوا من الدليل العقلي إلى الدليل المحسوس.فإن النفوس بالمحسوس آنس، كما لم يكن سؤال إبراهيم بقوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:260] شكا في الحال.وعلى هذا المعنى جرى تفسير المحققين مثل ابن عطية، والواحدي، والبغوي خلافا لما في الكشاف.
وقرأ الجمهور: {يستطيع} بياء الغيبة ورفع {ربك}. وقرأه الكسائي {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} بتاء المخاطب ونصب الباء الموحدة من قوله: {ربك} على أن {ربك} مفعول به، فيكون المعنى هل تسأل لنا ربك، فعبر بالاستطاعة عن طلب الطاعة، أي إجابة السؤال.وقيل:هي على حذف مضاف تقديره هل تستطيع سؤال ربك، فأقيم المضاف إليه مقام المضاف في إعرابه.وفي رواية الطبري عن عائشة قالت:كان الحواريون أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا:هل يستطيع ربك، ولكن قالوا:هل تستطيع ربك.وعن معاذ بن جبل أقرأنا النبي {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}.

واسم {مائدة} هو الخوان الموضوع عليه طعام، فهو اسم لمعنى مركب يدل على طعام وما يوضع عليه.والخوان بكسر الخاء وضمها تخت من خشب له قوائم مجعول ليوضع عليه الطعام للأكل، اتفقوا على أنه معرب.قال الجواليقي:"هو أعجمي".وفي حديث قتادة عن أنس قال: "ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قط، ولا في سكرجة"، قال فتادة:قلت لأنس:"فعلام كنتم تأكلون"قال:"على السفر"، وقيل:"المائدة اسم الطعام، وإن لم يكن في وعاء ولا على خوان".وجزم بذلك بعض المحققين من أهل اللغة، ولعله مجاز مرسل بعلاقة المحل.وذكر القرطبي أنه لم تكن للعرب موائد إنما كانت لهم السفرة.وما ورد في الحديث من قول ابن عباس في الضب:لو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله، إنما يعنى به الطعام الموضوع على سفرة.واسم السفرة غلب إطلاقه على وعاء من أديم مستدير له معاليق ليرفع بها إذا أريد السفر به.وسميت سفرة لأنها يتخذها المسافر.وإنما سأل الحواريون كون المائدة منزلة من السماء لأنهم رغبوا أن تكون خارقة للعادة فلا تكون مما صنع في العالم الأرض ي فتعين أن تكون من عالم علوي.
وقول عيسى حين أجابهم: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أمر بملازمة التقوى وعدم تزلزل الإيمان، ولذلك جاء بـ{إن} المفيدة للشك في الإيمان ليعلم الداعي إلى ذلك السؤال خشية أن يكون نشأ لهم عن شك في صدق رسولهم، فسألوا معجزة يعلمون بها صدقه بعد أن آمنوا به، وهو قريب من قوله تعالى لإبراهيم المحكي في قوله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ، أي ألم تكن غنيا عن طلب الدليل المحسوس.فالمراد بالتقوى في كلام عيسى ما يشمل الإيمان وفروعه.وقيل:نهاهم عن طلب المعجزات، أي إن كنتم مؤمنين فقد حصل إيمانكم فما الحاجة إلى المعجزة.فأجابوه عن ذلك بأنهم ما أرادوا ذلك لضعف في إيمانهم إنما أرادوا التيمن بأكل طعام نزل من عند الله إكراما لهم، ولذلك زادوا {منها} ولم يقتصروا على {أَنْ نَأْكُلَ} إذ ليس غرضهم من الأكل دفع الجوع بل الغرض التشرف بأكل من شيء نازل من السماء.وهذا مثل أكل أبي من الطعام الذي أكل منه ضيفه في بيته حين انتظروه بالعشاء إلى أن ذهب جزء من الليل، وحضر أبو بكر وغضب من تركهم الطعام، فلما أخذوا يطعمون جعل الطعام يربو فقال أبو بكر لزوجه:"ما هذا يا أخت بني فراس؟".وحمل من الغد بعض ذلك الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه.
ولذلك قال الحواريون: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} أي بمشاهدة هذه المعجزة فإن الدليل الحسي أظهر في النفس، {ونعلم أن قد صدقنا}، أي نعلم علم ضرورة لا علم استدلال

فيحصل لهم العلمان، {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، أي من الشاهدين على رؤية هذه المعجزة فنبلغها من لم يشهدها.فهذه أربع فوائد لسؤال إنزال المائدة، كلها درجات من الفضل الذي يرغب فيه أمثالهم.
وتقديم الجار والمجرور في قوله: {عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} للرعاية على الفاصلة.
[115,114] {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ}.
إن كان قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة:112]من تمام الكلام الذي يلقيه الله على عيسى يوم يجمع الله الرسل كانت هذه الجملة وهي {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً} الخ...معترضة بين جملة {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة:111]وجملة {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة:116] الآية.
وإن كان قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ} [المائدة:112] الآية ابتداء كلام بتقدير فعل اذكر كانت جملة {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} الآية مجاوبة لقول الحواريين: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} الآية على طريقة حكاية المحاورات.
وقوله: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً} اشتمل على نداءين، إذ كان قوله: {ربنا} بتقدير حرف النداء.كرر النداء مبالغة في الضراعة.وليس قوله: {ربنا} بدلا ولا بيانا من اسم الجلالة، لأن نداء {اللهم} لا يتبع عند جمهور النحاة لأنه جار مجرى أسماء الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير حتى صار كأسماء الأفعال.ومن النحاة من أجاز إتباعه، وأياما كان فإن اعتباره نداء ثانيا أبلغ هنا لا سيما وقد شاع نداء الله تعالى: {ربنا} مع حذف حرف النداء كما في الآيات الخواتم من سورة آل عمران.
وجمع عيسى بين النداء باسم الذات الجامع لصفات الجلال وبين النداء بوصف الربوبية له وللحواريين استعطافا لله ليجيب دعاءهم.
ومعنى {تَكُونُ لَنَا عِيداً} أي يكون تذكر نزولها بأن يجعلوا اليوم الموافق يوم نزولها من كل سنة عيدا، فإسناد الكون عيدا للمائدة إسناد مجازي، وإنما العيد اليوم الموافق

ليوم نزولها، ولذلك قال: {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} ، أي لأول أمة النصرانية وآخرها، وهم الذين ختمت بهم النصرانية عند البعثة المحمدية.
والعيد اسم ليوم يعود كل سنة، ذكرى لنعمة أو حادثة وقعت فيه للشكر أو للاعتبار.وقد ورد ذكره في كلام العرب.وأشهر ما كانت الأعياد في العرب عند النصارى منهم قال العجاج:
كما يعود العيد نصراني
مثل يوم السباسب في قول النابغة:
يحيون بالريحان يوم السباسب ... وهو عيد الشعانين عند النصارى.
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر عيدا في قوله لأبي بكر لما نهى الجواري اللاء كن يغنين عند عائشة: "إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا". وسمى يوم النحر عيدا في قوله: "شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة".
والعيد مشتق من العود، وهو اسم على زنة فعل، فجعلت واوه ياء لوقوعها إثر كسرة لازمة.وجمعوه على أعياد بالياء على خلاف القياس، لأن قياس الجمع أنه يرد الأشياء إلى أصولها، فقياس جمعه أعواد لكنهم جمعوه على أعياد، وصغروه على عييد، تفرقة بينه وبين جمع عود وتصغيره.
وقوله: {لأولنا} بدل من الضمير في قوله: {لنا} بدل بعض من كل، وعطف{وآخرنا} عليه يصير الجميع في قوة البدل المطابق.وقد أظهر لام الجر في البدل، وشأن البدل أن لا يظهر فيه العامل الذي عمل في المبدل منه لأن كون البدل تابعا للمبدل منه في الإعراب مناف لذكر العامل الذي عمل في المتبوع، ولهذا قال النحاة:"إن البدل على نية تكرار العامل"، أي العامل منوي غير مصرح به.وقد ذكر الزمخشري في المفصل أن عامل البدل قد يصرح به، وجعل ذلك دليلا على أنه منوي في الغالب ولم يقيد ذلك بنوع من العوامل، ومثله بقوله تعالى: {لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة} [الزخرف:33]، وبقوله في سورة الأعراف[75] {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}. وقال في الكشاف في هذه الآية {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} بدل من {لنا} بتكرير العامل".وجوز البدل أيضا في آية الزخرف ثم قال:"ويجوز أن يكون

اللامان بمنزلة اللامين في قولك:وهبت له ثوبا لقميصه، يريد أن تكون اللام الأول ى متعلقة بـ {تكون} والثانية متعلقة بـ {عيدا}.
وقد استقريت ما بلغت إليه من موراد استعماله فتحصل عندي أن العامل الأصيل من فعل وشبهه لا يتكرر مع البدل، وأما العامل التكميلي لعامل غيره وذلك حرف الجر خاصة فهو الذي ورد تكريره في آيات من القرآن من قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} في سورة الأعراف[75]، وآية سورة الزخرف، وقوله: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام:99].ذلك لأن حرف ا لجر مكمل لعمل الفعل الذي يتعلق هو به لأنه يعدي الفعل القاصر إلى مفعوله في المعنى الذي لا يتعدى إليه بمعنى مصدره، فحرف الجر ليس بعامل قوي ولكنه مكمل للعامل المتعلق هو به.
ثم إن علينا أن نتطلب الداعي إلى إظهار حرف الجر في البدل في مواقع ظهوره.وقد جعل ابن يعيش في شرح المفصل ذلك للتأكيد قال:"لأن الحرف قد يتكرر لقصد التأكيد".وهذا غير مقنع لنا لأن التأكيد أيضا لابد من داع يدعو إليه.
فما أظهر فيه حرف الجر من هذه الآيات كان مقتضي إظهاره إما قصد تصوير الحالة كما في أكثر الآيات، وإما دفع اللبس، وذلك في خصوص آية الأعراف لئلا يتوهم السامع أن من يتوهم أن"من آمن"من المقول وأن"من"استفهام فيظن أنهم يسألون عن تعيين من آمن من القوم، ومعنى التأكيد حاصل على كل حال لأنه ملازم لإعادة الكلمة.وأما ما ليس بعامل فهو الاستفهام وقد التزم ظهور همزة الاستفهام في البدل من اسم استفهام، نحو:أين تنزل أفي الدار أم في الحائط، ومن ذا أسعيد أم علي.
وهذا العيد الذي ذكر في هذه الآية غير معروف عند النصارى ولكنهم ذكروا أن عيسى عليه السلام أكل مع الحواريين على مائدة ليلة عيد الفصح، وهي الليلة التي يعتقدون أنه صلب من صباحها.فلعل معنى كونها عيدا أنها صيرت يوم الفصح عيدا في المسيحية كما كان عيدا في اليهودية، فيكون ذلك قد صار عيدا باختلاف الاعتبار وإن كان اليوم واحدا لأن المسيحيين وفقوا لأعياد اليهود مناسبات أخرى لائقة بالمسيحية إعفاء على آثار اليهودية.
وجملة {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا} جواب دعاء عيسى، فلذلك فصلت على طريقة المحاورة.وأكد الخبر بـ {إن} تحقيقا للوعد.والمعنى إني منزلها عليكم الآن، فهو

استجابة وليس بوعد.
وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ} تفريع عن إجابة رغبتهم، وتحذير لهم من الوقوع في الكفر بعد الإيمان إعلاما بأهمية الإيمان عند الله تعالى، فجعل جزاء إجابته إياهم أن لا يعودوا إلى الكفر فإن عادوا عذبوا عذابا أشد من عذاب سائر الكفار لأنهم تعاضد لديهم دليل العقل والحس فلم يبق لهم عذر.
والضمير المنصوب في قوله: {لا أُعَذِّبُهُ} ضمير المصدر، فهو في موضع المفعول المطلق وليس مفعولا به، أي لا أعذب أحدا من العالمين ذلك العذاب، أي مثل ذلك العذاب.
وقد وقفت قصة سؤال المائدة عند هذا المقدار وطوي خبر ماذا حدث بعد نزولها لأنه لا أثر له في المراد من القصة، وهو العبرة بحال إيمان الحواريين وتعلقهم بما يزيدهم يقينا، وبقربهم إلى ربهم وتحصيل مرتبة الشهادة على من يأتي بعدهم، وعلى ضراعة المسيح الدالة على عبوديته، وعلى كرامته عند ربه إذ أجاب دعوته، وعلى سعة القدرة.وأما تفصيل ما حوته المائدة وما دار بينهم عند نزولها فلا عبرة فيه.وقد أكثر فيه المفسرون بأخبار واهية الأسانيد سوى ما أخرجه الترمذي في أبواب التفسير عن الحسن بن قزعة بسنده إلى عمار بن ياسر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما" الحديث.قال الترمذي: "هذا الحديث رواه غير واحد عن عمار بن ياسر موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا".
واختلف المفسرون في أن المائدة هل نزلت من السماء أو لم تنزل.فعن مجاهد والحسن أنهم لما سمعوا قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} الآية خافوا فاستعفوا من طلب نزولها فلم تنزل.وقال الجمهور:"نزلت".وهو الظاهر لأن قوله تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} وعد لا يخلف، وليس مشروطا بشرط ولكنه معقب بتحذير من الكفر، وذلك حاصل أثره عند الحواريين وليسوا ممن يخشى العود إلى الكفر سواء نزلت المائدة أم لم تنزل.
وأما النصارى فلا يعرفون خبر نزول المائدة من السماء، وكم من خبر أهملوه في الأناجيل.
[116ـ118] {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ

إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
{وإذ قال الله} عطف على قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} [المائدة:110] فهو ما يقوله الله يوم يجمع الرسل وليس مما قاله في الدنيا، لأن عبادة عيسى حدثت بعد رفعه، ولقوله: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}. فقد أجمع المفسرون على أن المراد به يوم القيامة.وأن قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} قول يقوله يوم القيامة.وهذا مبدأ تقريع النصارى بعد أن فرغ من تقريع اليهود من قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} [المائدة:110] إلى هنا.وتقريع النصارى هو المقصود من هذه الآيات كما تقدم عند قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} الآية، فالاستفهام هنا كالاستفهام في قوله تعالى للرسل: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109] والله يعلم أن عيسى لم يقل ذلك ولكن أريد إعلان كذب من كفر من النصارى.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} يدل على أن الاستفهام متوجه إلى تخصيصه بالخبر دون غيره مع أن الخبر حاصل لا محالة.فقول قائلين:اتخذوا عيسى وأمه إلهين، واقع.وإنما ألقي الاستفهام لعيسى أهو الذي قال لهم ذلك تعريضا بالإرهاب والوعيد بتوجه عقوبة إلى من قال هذا القول إن تنصل منه عيسى فيعلم أحبارهم الذين اخترعوا هذا القول أنهم المراد بذلك.
والمعنى أنه إن لم يكن هو قائل ذلك فلا عذر لمن قاله لأنهم زعموا أنهم يتبعون أقوال عيسى وتعاليمه، فلو كان هو القائل لقال:اتخذوني وأمي، ولذلك جاء التعبير بهذين اللفظين في الآية.والمراد بالناس أهل دينه.
وقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متعلق بـ {اتخذوني} ، وحرف {من} صلة وتوكيد.وكلمة {دون} اسم للمكان المجاوز، ويكثر أن يكون مكانا مجازيا مرادا به المغايرة، فتكون بمعنى"سوى".وانظر ما تقدم آنفا عند قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة:76].والمعنى اتخذوني وأمي إلهين سوى الله.

وقد شاع هذا في استعمال القرآن قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ1 وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، وغير ذلك من الآيات التي خوطب بها المشركون مع أنهم أشركوا مع الله غيره ولم ينكروا إلهية الله.
وذكر هذا المتعلق إلزاما لهم بشناعة إثبات إلهية لغير الله لأن النصارى لما ادعوا حلول الله في ذات عيسى توزعت الإلهية وبطلت الوحدانية.وقد تقدم بيان هذا المذهب عند تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} في هذه السورة[17].
وجواب عيسى عليه السلام بقوله: {سبحانك} تنزيه لله تعالى عن مضمون تلك المقالة.وكانت المبادرة بتنزيه الله تعالى أهم من تبرئته نفسه، على أنها مقدمة للتبري لأنه إذا كان ينزه الله عن ذلك فلا جرم أنه لا يأمر به أحدا.وتقدم الكلام على {سبحانك} في قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا} في سورة البقرة[32].
وبرأ نفسه فقال: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ؛ فجملة {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ} مستأنفة لأنها جواب السؤال.وجملة {سبحانك} تمهيد.
وقوله: {مَا يَكُونُ لِي} مبالغة في التبرئة من ذلك، أي ما يوجد لدي قول ما ليس لي بحق فاللام في قوله: {مَا يَكُونُ لِي} للاستحقاق، أي ما يوجد حق أن أقول.وذلك أبلغ من لم أقله لأنه نفى أن يوجد استحقاقه ذلك القول.
والباء في قوله: {بحق} زائدة في خبر {ليس} لتأكيد النفي الذي دلت عليه {ليس}. واللام في قوله: {لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} متعلقة بلفظ {حق} على رأي المحققين من النحاة أنه يجوز تقديم المتعلق على متعلقه المجرور بحرف الجر.وقدم الجار والمجرور للتنصيص على أنه ظرف لغو متعلق{بحق}لئلا يتوهم أنه ظرف مستقر صفة لـ{حق}حتى يفهم منه أنه نفى كون ذلك حقا له ولكنه حق لغيره الذين قالوه وكفروا به، وللمبادرة بما يدل على تنصله من ذلك بأنه ليس له.وقد أفاد الكلام تأكيد كون ذلك ليس حقا له بطريق المذهب الكلامي لأنه نفى أن يباح له أن يقول ما لا يحق له، فعلم أن ذلك ليس حقا له وأنه لم يقله لأجل كونه كذلك.فهذا تأكيد في غاية البلاغة والتفنن.
ـــــــ
1 في المطبوعة:"ما لا ينفعهم ولا يضرهم"وهو خطأ,والمثبت هو الموافق للمصحف.

ثم ارتقى في التبرئ فقال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} ، فالجملة مستأنفة لأنها دليل وحجة لمضمون الجملة التي قبلها، فكانت كالبيان فلذلك فصلت.والضمير المنصوب في {قلته} عائد إلى الكلام المتقدم.ونصب القول للمفرد إذا كان في معنى الجملة شائع كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100]، فاستدل على انتفاء أن يقوله بأن الله يعلم أنه لم يقله، وذلك لأنه يتحقق أنه لم يقله، فلذلك أحال على علم الله تعالى.وهذا كقول العرب: يعلم الله أني لم أفعل، كما قال الحارث بن عباد:
لم أكن من جناتها علم الله وأني لحرها اليوم صال
ولذلك قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} ، فجملة {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} بيان لجملة الشرط {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فلذلك فصلت.
والنفس تطلق على العقل وعلى ما به الإنسان ، إنسان وهي الروح الإنسان، وتطلق على الذات.والمعنى هنا:تعلم ما أعتقده، أي تعلم ما أعلمه لأن النفس مقر العلوم في المتعارف.
وقوله: {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} اعتراض نشأ عن {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} لقصد الجمع بين الأمرين في الوقت الواحد وفي كل حال.وذلك مبالغة في التنزيه وليس له أثر في التبرئ والتنصل، فلذلك تكون الواو اعتراضية.
وإضافة النفس إلى اسم الجلالة هنا بمعنى العلم الذي لم يطلع عليه غيره، أي ولا أعلم ما تعلمه، أي مما انفردت بعمله.وقد حسنه هنا المشاكلة كما أشار إليه في الكشاف.
وفي جواز إطلاق النفس على ذات الله تعالى بدون مشاكلة خلاف؛ فمن العلماء من منع ذلك واليه ذهب السعد والسيد وعبد الحكيم في شروح المفتاح والتلخيص.وهؤلاء يجعلون ما ورد من ذلك في الكتاب نحو {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]من قبيل المتشابه.ومن العلماء من جوز ذلك مثل إمام الحرمين كما نقله ابن عرفة في التفسير عند قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} في سورة الأنعام[54]، ويشهد له تكرر استعماله في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث القدسي:"فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي".
وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} علة لقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} ولذلك جيء

بـ"إن"المفيدة التعليل.وقد جمع فيه أربع مؤكدات وطريقة حصر، فضمير الفصل أفاد الحصر، وإن، وصيغة الحصر، وجمع الغيوب، وأداة الاستغراب.
وبعد أن تبرأ من أن يكون أمر أمته بما اختلقوه انتقل فبين أنه أمرهم بعكس ذلك حسبما أمره الله تعالى فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} ، فقوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} ارتقاء في الجواب، فهو استئناف بمنزلة الجواب الأول وهو {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ} الخ...صرح هنا بما قاله لأن الاستفهام عن مقاله.والمعنى:ما تجاوزت فيما قلت حد التبليغ لما أمرتني به، فالموصول وصلته هو مقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} وهو مفرد دال على جمل، فلذلك صح وقوعه منصوبا بفعل القول.
و {أن} مفسرة {أمرتني} لأن الأمر فيه معنى القول دون حروفه وجملة {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} تفسيرية لـ {أمرتني}. واختير {أمرتني} على"قلت لي"مبالغة في الأدب.ولما كان {أمرتني} متضمنا معنى القول كانت جملة {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} هي المأمور بأن يبلغه لهم فالله قال له: قل لهم اعبدوا الله ربي وربكم.فعلى هذا يكون {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} من مقول الله تعالى لأنه أمره بأن يقول هذه العبارة ولكن لما عبر عن ذلك بفعل {أَمَرْتَنِي بِهِ} صح تفسيره بحرف {أن} التفسيرية فالذي قاله عيسى هو عين اللفظ الذي أمره الله بأن يقوله.فلا حاجة إلى ما تكلف به في الكشاف على أن صاحب الانتصاف جوز وجها آخر وهو أن يكون التفسير جرى على حكاية القول المأمور به بالمعنى، فيكون الله تعالى قال له:"قل لهم أن يعبدوا ربك وربهم.فلما حكاه عيسى قال:اعبدوا الله ربي وربكم"اهـ.وهذا التوجيه هو الشائع بين أهل العلم حتى جعلوا الآية مثالا لحكاية القول بالمعنى.وأقول:هو استعمال فصيح.فال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} في سورة الأنعام[6]:"إذا أخبرت أنك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال له:فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها، فتجيء بلفظ المخاطبة، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة"اهـ.وعندي أنه ضعيف في هذه الآية.
ثم تبرأ من تبعتهم فقال: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} أي كنت مشاهدا لهم ورقيبا يمنعهم من أن يقولوا مثل هذه المقالة الشنعاء.
و {مَا دُمْتُ} "ما"فيه ظرفية مصدرية، و"دام"تامة لا تطلب منصوبا، و {فيهم}

متعلق بـ {دُمْتُ}، أي بينهم، وليس خبرا لـ"دام"على الأظهر، لأن"دام"التي تطلب خبرا هي التي يراد منها الاستمرار على فعل معين هو مضمون خبرها، أما هي هنا فهي بمعنى البقاء، أي ما بقيت فيهم، أي ما بقيت في الدنيا.
ولذلك فرع عنه قوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} ، أي فلما قضيت بوفاتي، لأن مباشر الوفاة هو ملك الموت.والوفاة الموت، وتوفاه الله أماته، أي قضى به وتوفاه ملك الموت قبض روحه وأماته.
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} في سورة آل عمران[55]والمعنى:أنك لما توفيتني قد صارت الوفاة حائلا بيني وبينهم فلم يكن لي أن أنكر عليهم ضلالهم، ولذلك قال: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} ، فجاء بضمير الفصل الدال على القصر، أي كنت أنت الرقيب لا أنا إذ لم يبق بيني وبين الدنيا اتصال.والمعنى أنك تعلم أمرهم وترسل إليهم من يهديهم متى شئت.وقد أرسل إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وهداهم بكل وجوه الاهتداء.وأقصى وجوه الاهتداء إبلاغهم ما سيكون في شأنهم يوم القيامة.
وقوله: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} تذييل، والواو اعتراضية إذ ليس معطوفا على ما تقدم لئلا يكون في حكم جواب {لما}.
وقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فوض أمرهم إلى الله فهو أعلم بما يجازيهم به لأن المقام مقام إمساك عن إبداء رغبة لشدة هول ذلك اليوم، وغاية ما عرض به عيسى أنه جوز المغفرة لهم رحمة منه بهم.
وقوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ذكر العزيز كناية عن كونه يغفر عن مقدرة، وذكر الحكيم لمناسبته للتفويض، أي المحكم للأمور العالم بما يليق بهم.
[119] {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
جواب عن قول عيسى، فلذلك فصلت الجملة على طريقة الحوار.والإشارة إلى يوم القيامة وهو حاضر حين تجري هذه المقاولة.
وجملة {يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} مضاف إليها {يوم}، أي هذا يوم نفع الصدق.وقد قرأ غير نافع من العشرة {يَوْمُ} مضموما ضمة رفع لأنه خبر {هذا}. وقرأه نافع

ـ مفتوحاـ على أنه مبني على الفتح لإضافته إلى الجملة الفعلية.وإضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية تسوغ بناءه على الفتح، فإن كانت ماضوية فالبناء أكثر، كقول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وإن كانت مضارعية فالبناء والإعراب جائزان كما في هذه الآية، وهو التحقيق.وإضافة الظرف إلى الجملة تقتضي أن مضمونها يحصل فيه، فنفع الصدق أصحابه حاصل يومئذ.وعموم الصادقين يشمل الصدق الصادر في ذلك اليوم والصادر في الدنيا، فنفع كليهما يظهر يومئذ؛ فأما نفع الصادر في الدنيا فهو حصول ثوابه، وأما نفع الصادر في الآخرة كصدق المسيح فيما قاله فهو برضى الله عن الصادق أو تجنب غضبه على الذي يكذبه فلا حيرة في معنى الآية.
والمراد بـ {الصادقين} الذين كان الصدق شعارهم لم يعدلوا عنه.ومن أول مراتب الصدق صدق الاعتقاد بأن لا يعتقدوا ما هو مخالف لما في نفس الأمر مما قام عليه الدليل العقلي أو الشرعي.قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [119]
ومعنى نفع الصدق صاحبه في ذلك اليوم أن ذلك اليوم يوم الحق فالصادق ينتفع فيه بصدقه، لأن الصدق حسن فلا يكون له في الحق إلا الأثر الحسن، بخلاف الحال في عالم الدنيا عالم حصول الحق والباطل فإن الحق قد يجر ضرا لصاحبه بتحريف الناس للحقائق، أو بمؤاخذته على ما أخبر به بحيث لو لم يخبر به لما أطلع عليه أحد.وأما ما يترتب عليه من الثواب في الآخرة فذلك من النفع الحاصل في يوم القيامة.وقد ابتلي كعب بن مالك رضي الله عنه في الصدق ثم رأى حسن مغبته في الدنيا.
ومعنى نفع الصدق أنه إن كان الخبر عن أمر حسن ارتكبه المخبر فالصدق حسن والمخبر عنه حسن فيكون نفعا محضا وعليه جزاءان، كما في قول عيسى: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116] إلى آخره، وإن كان الخبر عن أمر قبيح فإن الصدق لا يزيد المخبر عنه قبحا لأنه قد حصل قبيحا سواء أخبر عنه أم لم يخبر، وكان لقبحه مستحقا أثرا قبيحا مثله.وينفع الصدق صاحبه مرتكب ذلك القبيح فيناله جزاء الصدق فيخف عنه بعض العقاب بما ازداد من وسائل الإحسان إليه.
وجملة {لَهُمْ جَنَّاتٌ} مبينة لجملة {ينفع} باعتبار أنها أكمل أحوال نفع الصدق.

وجملة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} صفة لـ {جنات} و {خالدين} حال.وكذلك جملة {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}.
ومعنى {َرَضُوا عَنْهُ} المسرة الكاملة بما جازاهم به من الجنة ورضوانه.وأصل الرضا أنه ضد الغضب، فهو المحبة وأثرها من الإكرام والإحسان.فرضى الله مستعمل في إكرامه وإحسانه مثل محبته في قوله: {يحبهم}. ورضى الخلق عن الله هو محبته وحصول ما أملوه منه بحيث لا يبقى في نفوسهم متطلع.
واسم الإشارة في قوله: {ذلك} لتعظيم المشار إليه، وهو الجنات والرضوان.
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120]
تذييل مؤذن بانتهاء الكلام، لأن هذه الجملة جمعت عبودية كل الموجودات لله تعالى، فناسبت ما تقدم من الرد على النصارى، وتضمنت أن جميعها في تصرفه تعالى فناسبت كما تقدم من جزاء الصادقين.وفيها معنى التفويض لله تعالى في كل ما ينزل، فآذنت بانتهاء نزول القرآن على القول بأن سورة المائدة أخر ما نزل، وباقتراب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما في الآية من معنى التسليم لله وأنه الفعال لما يريد.وتقديم المجرور باللام مفيد للقصر أي له لا لغيره.
وجيء بالموصول"ما"في قوله: {وَمَا فِيهِنَّ} دون"من"لأن"ما"هي الأصل في الموصول المبهم فلم يعتبر تغليب العقلاء، وتقديم المجرور بـ"على"في قوله :{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} للرعاية على الفاضلة المبنية على حرفين بينهما حرف مد. {وَمَا فِيهِنَّ} عطف على {ملك} أي لله ما في السماوات والأرض، كما في سورة البقرة[248] {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فيفيد قصرها على كونها لله لا لغيره.وليس معطوفا على السماوات والأرض إذ لا يحسن أن يقال: لله ملك ما في السماوات والأرض لأن الملك يضاف إلى الأقطار والآفاق والأماكن كما حكى الله تعالى: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51].ويضاف إلى صاحب الملك كما في قوله: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102] ويقال:في مدة ملك الآشوريين أو الرومان.

المجلد السادس
سورة الأنعام...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانعام
ليس لهذه السورة إلا هذا الاسم من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.روى الطبراني بسنده إلى عبد الله بن عمر:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد" .وورد عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس ابن مالك، وجابر بن عبد الله، وأسماء بنت يزيد بن السكن، تسميتها في كلامهم سورة الأنعام.وكذلك ثبتت تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنة.
وسميت سورة الأنعام لما تكرر فيها من ذكر لفظ الأنعام ست مرات من قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} إلى قوله: { إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام:136ـ144]
وهي مكية بالاتفاق فعن ابن عباس:أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة، كما رواه عنه عطاء، وعكرمة، والعوفي، وهو الموافق لحديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدم آنفا.وروي أن قوله تعالى : {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52} الآية نزل في مدة حياة أبي طالب، أي قبل سنة عشر من البعثة، فإذا صح كان ضابطا لسنة نزول هذه السورة.وروى الكلبى عن ابن عباس:"أن ست آيات منها نزلت بالمدينة"، ثلاثا من قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] إلى منتهى ثلاث آيات، وثلاثا من قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152,151].وعن أبي جحيفة أن آية {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [الأنعام:111] مدنية.
وقيل نزلت آية {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام:93]

الآية بالمدينة،بناء على ما ذكر من سبب نزولها الآتي.وقيل:نزلت آية {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [الأنعام:20] الآية، وآية {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت:47] الآية، كلتاهما بالمدينة بناء على ما ذكر من أسباب نزولهما كما سيأتي.وقال ابن العربي في أحكام القرآن عند قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام:145] الآية:"أنها في قول الأكثر نزلت يوم نزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] الآية، أي سنة عشر، فتكون هذه الآيات مستثناة من مكية السورة ألحقت بها".وقال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية من هذه السورة[91]:"إن النقاش حكى أن سورة الأنعام كلها مدنية".ولكن قال ابن الحصار:"لا يصح نقل في شيء نزل من الأنعام في المدينة".وهذا هو الأظهر وهو الذي رواه أبو عبيد، والبيهقي، وابن مردويه، والطبراني، عن ابن عباس؛ وأبو الشيخ عن أبي بن كعب.وعن ابن عباس أنها نزلت بمكة جملة واحدة ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم.
وروى سفيان الثوري، وشريك عن أسماء بنت يزيد الأنصارية:نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وهو في مسير وأنا آخذة بزمام ناقته إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة.ولم يعينوا هذا المسير ولا زمنه غير أن أسماء هذه لا يعرف لها مجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هجرته ولا هي معدودة فيمن تابع في العقبة الثانية حتى يقال:إنها لقيته قبل الهجرة، وإنما المعدودة أسماء بنت عمرو بن عدي.فحال هذا الحديث غير بين.ولعله التبس فيه قراءة السورة في ذلك السفر بأنها نزلت حينئذ.
قالوا:ولم تنزل من السور الطوال سورة جملة واحدة غيرها.وقد وقع مثل ذلك في رواية شريك عن أسماء بنت يزيد كما علمته آنفا، فلعل حكمة إنزالها جملة واحدة قطع تعلل المشركين في قولهم: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32].توهما منهم أن تنجيم نزوله يناكد كونه كتابا، فأنزل الله سورة الأنعام.وهي في مقدار كتاب من كتبهم التي يعرفونها كالإنجيل والزبور، ليعلموا أن الله قادر على ذلك، إلا أن حكمة تنجيم النزول أولى بالمراعاة.وأيضا ليحصل الإعجاز بمختلف أساليب الكلام من قصر وطول وتوسط، فإن طول الكلام قد يقتضيه المقام، كما قال قيس بن خارجة يفخر بما عنده من الفضائل:"وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب الخ .
وقال أبو دؤاد بن جرير الأيادي يمدح خطباء إياد:
يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء

واعلم أن نزول هذه السورة جملة واحدة على الصحيح لا يناكد ما يذكر لبعض آياتها من أسباب نزولها، لأن أسباب نزول تلك الآيات إن كان لحوادث قبل الهجرة فقد تتجمع أسباب كثيرة في مدة قصيرة قبل نزول هذه السورة، فيكون نزول تلك الآيات مسببا على تلك الحوادث، وإن كان بعد الهجرة جاز أن تكون تلك الآيات مدنية ألحقت بسورة الأنعام لمناسبات.على أن أسباب النزول لا يلزم أن تكون مقارنة لنزول آيات أحكامها فقد يقع السبب ويتأخر تشريع حكمه.
وعلى القول الأصح أنها مكية فقد عدت هذه السورة الخامسة والخمسين في عد نزول السور.نزلت بعد سورة الحجر وقبل سورة الصافات.
وعدد آياتها مائة وسبع وستون في العدد المدني والمكي، ومائة وخمس وستون في العدد الكوفي، ومائة وأربع وستون في الشامي والبصري.
أغراض هذه السورة
ابتدأت بإشعار الناس بأن حق الحمد ليس إلا لله لأنه مبدع العوالم جواهر وأعراضا فعلم أنه المتفرد بالإلهية.وإبطال تأثير الشركاء من الأصنام والجن بإثبات أنه المتفرد بخلق العالم جواهره وأعراضه، وخلق الإنسان ونظام حياته وموته بحكمته تعالى وعلمه، ولا تملك آلهتهم تصرفا ولا علما.وتنزيه الله عن الولد والصاحبة.قال أبو إسحاق الإسفرائيني:"في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد".
وموعظة المعرضين عن آيات القرآن والمكذبين بالدين الحق، وتهديدهم بأن يحل بهم ما حل بالقرون المكذبين من قبلهم والكافرين بنعم الله تعالى، وأنهم ما يضرون بالإنكار إلا أنفسهم.ووعيدهم بما سيلقون عند نزع أرواحهم، ثم عند البعث.
وتسفيه المشركين فيما اقترحوه على النبي صلى الله عليه وسلم من طلب إظهار الخوارق تهكما.
وإبطال اعتقادهم أن الله لقنهم على عقيدة الإشراك قصدا منهم لإفحام الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان حقيقة مشيئة الله.وإثبات صدق القرآن بأن أهل الكتاب يعرفون أنه الحق.
والإنحاء على المشركين تكذيبهم بالبعث، وتحقيق أنه واقع، وأنهم يشهدون بعده العذاب، وتتبرأ منهم آلهتهم التي عبدوها، وسيندمون على ذلك، كما أنها لا تغني عنهم شيئا في الحياة الدنيا، فإنهم لا يدعون إلا الله عند النوائب.

وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يؤاخذ بإعراض قومه،وأمره بالإعراض عنهم.
وبيان حكمة إرسال الله الرسل،وأنها الإنذار والتبشير وليست وظيفة الرسل إخبار الناس بما يتطلبون علمه من المغيبات.
وأن تفاضل الناس بالتقوى والانتساب إلى دين الله.وإبطال ما شرعه أهل الشرك من شرائع الضلال.
وبيان أن التقوى الحق ليست مجرد حرمان النفس من الطيبات بل هي حرمان النفس من الشهوات التي تحول بين النفس وبين الكمال والتزكية.
وضرب المثل للنبي مع قومه بمثل إبراهيم مع أبيه وقومه؛ وكان الأنبياء والرسل على ذلك المثل من تقدم منهم ومن تأخر.
والمنة على الأمة بما أنزل الله من القرآن هدى لهم كما أنزل الكتاب على موسى، وبأن جعلها الله خاتمة الأمم الصالحة.
وبيان فضيلة القرآن ودين الإسلام وما منح الله لأهله من مضاعفة الحسنات.
وتخللت ذلك قوارع للمشركين، وتنويه بالمؤمنين، وامتنان بنعم اشتملت عليها مخلوقات الله، وذكر مفاتح الغيب.
قال فخر الدين:"قال الأصوليون أي علماء أصول الدين":السبب في إنزالها دفعة واحدة أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوءة والمعاد وإبطال مذاهب المعطلين والملحدين فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله على قدر حاجاتهم وبحسب الحوادث، وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله جملة واحدة."
وهي أجمع سور القرآن لأحوال العرب في الجاهلية، وأشدها مقارعة جدال لهم واحتجاج على سفاهة أحوالهم من قوله :
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام:136]،وفيما حرموه على أنفسهم مما رزقهم الله.
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال:"إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام[140 ] : {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ".
ووردت في فضل سورة الأنعام وفضل آيات منها روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن

ابن مسعود، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأسماء بنت يزيد.
بسم الله الرحمن الرحيم
[1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}
جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} تفيد استحقاق الله تعالى الحمد وحده دون غيره لأنها تدل على الحصر.واللام لتعريف الجنس، فدلت على انحصار استحقاق هذا الجنس لله تعالى.وقد تقدم بيان ذلك مستوفى في أول سورة الفاتحة.
ثم إن جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} هنا خبر لفظا ومعنى إذ ليس هنا ما يصرف إلى قصد إنشاء الحمد بخلاف ما في سورة الفاتحة لأنه عقب بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]إلى آخر السورة،فمن جوز في هذه أن تكون إنشاء معنى لم يجد التأمل.
فالمعنى هنا أن الحمد كله لا يستحقه إلا الله، وهذا قصر إضافي للرد على المشركين الذين حمدوا الأصنام على ما تخيلوه من إسدائها إليهم نعما ونصرا وتفريج كربات، فقد قال أبو سفيان حين انتصر هو وفريقه يوم أحد:"اعل هبل لنا العزى ولا عزى لكم".ويجوز أن يكون قصرا حقيقيا على معنى الكمال وأن حمد غيره تعالى من المنعمين تسامح لأنه في الحقيقة واسطة صورية لجريان نعمة الله على يديه.والمقصود هو هو، وهو الرد على المشركين، لأن الأصنام لا تستحق الحمد الصوري بله الحقيقي كما قال إبراهيم عليه السلام: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً}. ولذلك عقبت جملة الحمد على عظيم خلق الله تعالى بجملة {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .
والموصول،في محل الصفة لاسم الجلالة، أفاد مع صلته التذكير بعظيم صفة الخلق الذي عم السماوات والأرض وما فيهن من الجواهر والأعراض.وذلك أوجز لفظ في استحضار عظمة قدرة الله تعالى.وليس في التعريف بالموصولية هنا إيذان بتعليل الجملة التي ذكرت قبله، إذ ليست الجملة إنشائية كما علمت.والجملة الخبرية لا تعلل، لأن الخبر حكاية ما في الواقع فلا حاجة لتعليله.فالمقصود من الأوصاف التمهيد لقوله بعد:

{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .
وجمع {السماوات} لأنها عوالم كثيرة، إذ كل كوكب منها عالم مستقل عن غيره، ومنها الكواكب السبعة المشهورة المعبر عنها في القرآن بالسماوات السبع فيما نرى.وأفرد الأرض لأنها عالم واحد، ولذلك لم يجيء لفظ الأرض في القرآن جمعا.
وقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} أشار في الكشاف أن"جعل"إذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى أحدث وأنشأ فيقارب مرادفة معنى"خلق".والفرق بينه وبين"خلق"؛ فإن في الخلق ملاحظة معنى التقدير، وفي الجعل ملاحظة معنى الانتساب، يعني كون المجعول مخلوقا لأجل غيره أو منتسبا إلى غيره، فيعرف المنتسب إليه بمعونة المقام.فالظلمات والنور لما كانا عرضين كان خلقهما تكوينا لتكيف موجودات السماوات والأرض بهما.ويعرف ذلك بذكر {الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} عقب ذكر {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}, وباختيار لفظ الخلق للسماوات والأرض،ولفظ الجعل للظلمات والنور،ومنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]فإن الزوج وهو الأنثى مراعى في إيجاده أن يكون تكملة لخلق الذكر،ولذلك عقبه بقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] والخلق أعم في الإطلاق ولذلك قال تعالى في آية أخرى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] لأن كل تكوين لا يخلو من تقدير ونظام.
وخص بالذكر من الجواهر والأعراض عرضين عظيمين، وهما:الظلمات والنور فقال: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} لاستواء جميع الناس في إدراكهما والشعور بهما.وبذكر هذه الأمور الأربعة حصلت الإشارة إلى جنسي المخلوقات من جواهر وأعراض.فالتفرقة بين فعل"خلق"وفعل"جعل"هنا معدود من فصاحة الكلمات.وإن لكل كلمة مع صاحبتها مقاما، وهو ما يسمى في عرف الأدباء برشاقة الكلمة ففعل"خلق"أليق بإيجاد الذوات، وفعل"جعل"أليق بإيجاد أعراض الذوات وأحوالها ونظامها.
والاقتصار في ذكر المخلوقات على هذه الأربعة تعريض بإبطال عقائد كفار العرب فإنهم بيم مشركين وصابئة ومجوس ونصارى، وكلهم قد أثبتوا آلهة غير الله؛ فالمشركون أثبتوا آلهة من الأرض، والصابئة أثبتوا آلهة من الكواكب السماوية، والنصارى أثبتوا إلهية عيسى أو عيسى ومريم وهما من الموجودات الأرض ية، والمجوس وهم المانوية ألهوا النور والظلمة، فالنور إله الخير والظلمة إله الشر عندهم.فأخبرهم الله تعالى أنه خالق

السماوات والأرض، أي بما فيهن، وخالق الظلمات والنور.
ثم أن في إيثار الظلمات والنور بالذكر دون غيرهما من الأعراض إيماء وتعريضا بحالي المخاطبين بالآية من كفر فريق وإيمان فريق، فأن الكفر يشبه الظلمة لأنه انغماس في جهالة وحيرة، والإيمان يشبه النور لأنه استبانة الهدى والحق.قال تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] وقدم ذكر الظلمات مراعاة للترتب في الوجود لأن الظلمة سابقة النور، فإن النور حصل بعد خلق الذوات المضيئة، وكانت الظلمة عامة.وإنما جمع {الظلمات} وأفرد {النور} اتباعا للاستعمال، لأن لفظ"الظلمات"بالجمع أخف، ولفظ"النور"بالإفراد أخف، ولذلك لم يرد لفظ"الظلمات"في القرآن إلا جمعا ولم يرد لفظ"النور"إلا مفردا.وهما معا دالان على الجنس، والتعريف الجنسي يستوي فيه المفرد والجمع فلم يبق للاختلاف سبب لاتباع الاستعمال، خلافا لما في الكشاف.
{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}
عطفت جملة {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} على جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. فـ {ثم} للتراخي الرتبي الدال على أن ما بعدها يتضمن معنى من نوع ما قبله، وهو أهم في بابه.وذلك شأن"ثم"إذا وردت عاطفة جملة على أخرى، فإن عدول المشركين عن عبادة الله مع علمهم بأنه خالق الأشياء أمر غريب فيهم أعجب من علمهم بذلك.
والحجة ناهضة على الذين كفروا لأن جميعهم عدا المانوية يعترفون بأن الله هو الخالق والمدبر للكون، ولذلك قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]
والخبر مستعمل في التعجيب على وجه الكناية بقرينة موقع {ثم} ودلالة المضارع على التجدد، فالتعجيب من شأن المشركين ظاهر وأما المانوية فالتعجيب من شأنهم في أنهم لم يهتدوا إلى الخالق وعبدوا بعض مخلوقاته.فالمراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} كل من كفر بإثبات إله غير الله تعالى سواء في ذلك من جعل له شريكا مثل مشركي العرب والصابة ومن خص غير الله بالإلهية كالمانوية.وهذا المراد دلت عليه القرينة وإن كان غالب عرف القرآن إطلاق الذين كفروا على المشركين.
ومعنى {يعدلون} يسوون.والعدل:التسوية.تقول:عدلت فلانا بفلان، إذا سويته

به، كما تقدم في قوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة:95]، فقوله: {بربهم} متعلق بـ {يعدلون} ولا يصح تعليقه بـ{ الَّذِينَ كَفَرُوا} لعدم الحاجة إلى ذلك.وحذف مفعول {يعدلون} ، أي يعدلون بربهم غيره وقد علم كل فريق ماذا عدل بالله.والمراد يعدلونه بالله في الإلهية، وإن كان بعضهم يعترف بأن الله أعظم كما كان مشركوا العرب يقولون:"لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك".وكما قالت الصابئة في الأرواح، والنصارى في الابن والروح القدس.
ومعنى التعجيب عام في أحوال الذين ادعوا الإلهية لغير الله تعالى سواء فيهم من كان أهلا للاستدلال والنظر في خلق السماوات والأرض ومن لم يكن أهلا لذلك، لأن محل التعجيب أنه يخلقهم ويخلق معبوداتهم فلا يهتدون إليه بل ويختلقون إلهية غيره.ومعلوم أن التعجيب من شأنهم متفاوت على حسب تفاوت كفرهم وضلالهم.
[2] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}
استئناف لغرض آخر للتعجيب من حال المشركين إذ أنكروا البعث، فإنه ذكرهم ابتداء بخلق السماوات والأرض، وعجب من حالهم في تسويتهم ما لم يخلق السماوات ولا الأرض بالله تعالى في الإلهية.ثم ذكرهم بخلقهم الأول، وعجب من حالهم كيف جمعوا بين الاعتراف بأن الله هو خالقهم الخلق الأول فكيف يمترون في الخلق الثاني.
وأتي بضمير"هو"في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ليحصل تعريف المسند والمسند إليه معا، فتفيد الجملة القصر في ركني الإسناد وفي متعلقها، أي هو خالقكم لا غيره، من طين لا من غيره، وهو الذي قضى أجلا وعنده أجل مسمى فينسحب حكم القصر على المعطوف على المقصور.والحال الذي اقتضى القصر هو حال إنكارهم البعث لأنهم لما أنكروه وهو الخلق الثاني نزلوا منزلة من أنكر الخلق الأول إذ لا فرق بين الخلقين بل الإعادة في متعارف الصانعين أيسر كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [ الروم:27] وقال: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ:15].والقصر أفاد نفي جميع هذه التكوينات عن غير الله من أصنامهم، فهو كقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40].

والخطاب في قوله: {خلقكم} موجه إلى الذين كفروا، ففيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد التوبيخ.
وذكر مادة ما منه الخلق بقوله: {مِنْ طِينٍ} لإظهار فساد استدلالهم على إنكار الخلق الثاني، لأنهم استبعدوا أن يعاد خلق الإنسان بعد أن صار ترابا.وتكررت حكاية ذلك عنهم في القرآن، فقد اعترفوا بأنهم يصيرون ترابا بعد الموت، وهم يعترفون بأنهم خلقوا من تراب، لأن ذلك مقرر بين الناس في سائر العصور، فاستدلوا على إنكار البعث بما هو جدير بأن يكون استدلالا على إمكان البعث، لأن مصيرهم إلى تراب يقرب إعادة خلقهم، إذ صاروا إلى مادة الخلق الأول، فلذلك قال الله هنا {هو الذي خلقكم من طين} وقال في آيات الاعتبار بعجيب تكوينه {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الانسان:2]، وأمثال ذلك.
وهذا القدح في استدلالهم يسمى في اصطلاح علم الجدل القول بالموجب، والمنبه عليه من خطأ استدلالهم يسمى فساد الوضع.
ومعنى {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} أنه خلق أصل الناس وهو البشر الأول من طين، فكان كل البشر راجعا إلى الخلق من الطين، فلذلك قال: {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ}. وقال في موضع آخر: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الانسان:2] أي الإنسان المتناسل من أصل البشر.
و {ثم} للترتيب والمهلة عاطفة فعل {قضى} على فعل {خلق} فهو عطف فعل على فعل وليس عطف جملة على جملة.والمهلة هنا باعتبار التوزيع، أي خلق كل فرد من البشر ثم قضى له أجله، أي استوفاه له، فـ {قضى} هنا ليس بمعنى"قدر"لأن تقدير الأجل مقارن للخلق أو سابق له وليس متأخرا عنه ولكن {قضى} هنا بمعنى"أوفى"أجل كل مخلوق كقوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ:14]، أي أمتناه.ولك أن تجعل"ثم"للتراخي الرتبي.
وإنما اختير هنا ما يدل على تنهية أجل كل مخلوق من طين دون أن يقال إلى أجل، لأن دلالة تنهية الأجل على إمكان الخلق الثاني، وهو البعث، أوضح من دلالة تقدير الأجل، لأن التقدير خفي والذي يعرفه الناس هو انتهاء أجل الحياة، ولأن انتهاء أجل الحياة مقدمة للحياة الثانية.

وجملة {وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} معترضة بين جملة {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً}. وجملة {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} ثم أنتم تمترون(.وفائدة هذا الاعتراض إعلام الخلق بأن الله عالم آجال الناس ردا على قول المشركين: {مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].
وقد خولفت كثرة الاستعمال في تقديم الخبر الظرف على كل مبتدأ نكرة موصوفة، نحو قوله تعالى: {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [صّ:23]، حتى قال صاحب الكشاف:"إنه الكلام السائر، فلم يقدم الظرف في هذه الآية لإظهار الاهتمام بالمسند إليه حيث خولف الاستعمال الغالب من تأخيره فصار بهذا التقديم تنكيره مفيدا لمعنى التعظيم، أي وأجل عظيم مسمى عنده".
ومعنى {مسمى} معين، لأن أصل السمة العلامة التي يتعين بها المعلم.والتعيين هنا تعيين الحد والوقت.
والعندية في قوله: {عنده} عندية العلم، أي معلوم له دون غيره.فالمراد بقوله: {وَأَجَلٌ مُسَمّىً} أجل بعث الناس إلى الحشر، فإن إعادة النكرة بعد نكرة يفيد أن الثانية غير الأول ى، فصار:المعنى ثم قضى لكم أجلين:أجلا تعرفون مدته بموت صاحبه، وأجلا معين المدة في علم الله.
فالمراد بالأجل الأول عمر كل إنسان، فإنه يعلمه الناس عند موت صاحبه، فيقولون:عاش كذا وكذا سنة، وهو وإن كان علمه لا يتحقق إلا عند انتهائه فما هو إلا علم حاصل لكثير من الناس بالمقايسة.والأجل المعلوم وإن كان قد انتهى فإنه في الأصل أجل ممتد.
والمراد بالأجل الثاني ما بين موت كل أحد وبين يوم البعث الذي يبعث فيه جميع الناس، فإنه لا يعلمه في الدنيا أحد ولا يعلمونه يوم القيامة، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس:45]، وقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55].
وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} عطفت على جملة {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِين} ، فحرف {ثم} للتراخي الرتبي كغالب وقوعها في عطف الجمل لانتقال من خبر إلى أعجب منه، كما تقدم في قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1}، أي فالتعجيب حقيق ممن يمترون في أمر البعث مع علمهم بالخلق الأول وبالموت.والمخاطب بقوله:

{أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} هم المشركون.وجيء بالمسند إليه ضميرا بارزا للتوبيخ.
والامتراء الشك والتردد في الأمر، وهو بوزن الافتعال، مشتق من المرية بكسر الميم اسم للشك، ولم يرد فعله إلا بزيادة التاء، ولم يسمع له فعل مجرد.
وحذف متعلق {تمترون} لظهوره من المقام، أي تمترون في إمكان البعث وإعادة الخلق.والذي دل على أن هذا هو المماري فيه قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} إذ لولا قصد التذكير بدليل إمكان البعث لما كان لذكر الخلق من الطين وذكر الأجل الأول والأجل الثاني مرجح للتخصيص بالذكر.
[3] {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}
عطف على قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2] أي خلقكم ولم يهمل مراقبتكم، فهو يعلم أحوالكم كلها.
فالضمير مبتدأ عائد إلى اسم الجلالة من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وليس ضمير فصل إذ لا يقع ضمير الفصل بعد حرف العطف.وقوله {الله} خبر عن المبتدأ.وإذ كان المبتدأ ضميرا عائدا إلى اسم الله لم يكن المقصود الإخبار بأن هذا الذي خلق وقضى هو الله إذ قد علم ذلك من معاد الضمائر، فتعين أن يكون المقصود من الإخبار عنه بأنه الله معنى يفيده المقام، وذلك هو أن يكون كالنتيجة للأخبار الماضية ابتداء من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ} [الأنعام:1} فنبه على فساد اعتقاد الذين أثبتوا الإلهية لغير الله وحمدوا ألهتهم بأنه خالق الأكوان وخالق الإنسان ومعيده، ثم أعلن أنه المنفرد بالإلهية في السماوات وفي الأرض ؛ إذ لا خالق غيره كما تقرر آنفا.وإذ هو عالم السر والجهر، وغيره لا إحساس له فضلا عن العقل فضلا عن أن يكون عالما.ولما كان اسم الجلالة معروفا عندهم لا يلتبس بغيره صار قوله: {وَهُوَ اللَّهُ} في معنى الموصوف بهذه الصفات هو صاحب هذا الاسم لا غيره.
وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} متعلق بالكون المستفاد من جملة القصر، أو بما في {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الأنعام:1] من معنى الانفراد بالإلهية، كما يقول من يذكر جوادا ثم يقول:هو حاتم في العرب، وهذا لقصد التنصيص على أنه لا يشاركه أحد في صفاته في الكائنات كلها.
وقوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} جملة مقررة لمعنى جملة {وهو الله} ولذلك

فصلت، لأنها تتنزل منها منزلة التوكيد لأن انفراده بالإلهية في السماوات و في الأرض مما يقتضي علمه بأحوال بعض الموجودات الأرضية.
ولا يجوز تعليق {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} بالفعل في قوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} لأن سر الناس وجهرهم وكسبهم حاصل في الأرض خاصة دون السماوات، فمن قدر ذلك فقد أخطأ خطأ خفيا.
وذكر السر لأن علم السر دليل عموم العلم، وذكر الجهر لاستيعاب نوعي الأقوال.والمراد بـ {ما تكسبون} جميع الاعتقادات والأعمال من خير وشر فهو تعريض بالوعد والوعيد.
والخطاب لجميع السامعين؛ فدخل فيه الكافرون، وهم المقصود الأول من هذا الخطاب، لأنه تعليم وإيقاظ بالنسبة إليهم وتذكير بالنسبة إلى المؤمنين.
[4] {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}
هذا انتقال إلى كفران المشركين في تكذيبهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أقيمت عليهم الحجة ببطلان كفرهم في أمر الشرك بالله في الإلهية، وقد عطف لأن الأمرين من أحوال كفرهم ولأن الذي حملهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم هو دعوته إياهم إلى التوحيد، فمن أجله نشأ النزاع بينهم وبينه فكذبوه وسألوه الآيات على صدقه.
وضمائر جمع الغائبين مراد منها المشركون الذين هم بعض من شملته ضمائر الخطاب في الآية التي قبلها، ففي العدول عن الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إليهم التفات أوجبه تشهيرهم بهذا الحال الذميم، تنصيصا على ذلك، وإعراضا عن خطابهم، وتمحيضا للخطاب للمؤمنين، وهو من أحسن الالتفات، لأن الالتفات يحسنه أن يكون له مقتض زائد على نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب المراد منه تجديد نشاط السامع.وتكون الواو استئنافية وما بعدها كلاما مستأنفا ابتدائيا.
واستعمل المضارع في قوله:{تأتيهم}للدلالة على التجدد وإن كان هذا الإتيان ماضيا أيضا بقرينة المضي في قوله: {إلا كانوا} .
والمراد بإتيانها بلوغها إليهم وتحديهم بها، فشبه البلوغ بمجيء الجائي، كقول النابغة:

أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
وحذف ما يدل على الجانب المأتي منه لظهوره من قوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} ، أي ما تأتيهم من عند ربهم آية من آياته إلا كانوا عنها معرضين.
و {من} في قوله: {مِنْ آيَةٍ} لتأكيد النفي لقصد عموم أنواع الآيات التي أتت وتأتي.و {من} التي في قوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} تبعيضية.والمراد بقوله: {مِنْ آيَةٍ} كل دلالة تدل على انفراد الله تعالى بالإلهية.من ذلك آيات القرآن التي لإعجازها لهم كانت دلائل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من الوحدانية.وكذلك معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام مثل انشقاق القمر.وتقدم معنى الآية عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} في سورة البقرة[39].
وإضافة الرب إلى ضمير{هم}لقصد التسجيل عليهم بالعقوق لحق العبودية، لأن من حق العبد أن يقبل على ما يأتيه من ربه وعلى من يأتيه يقول له:إني مرسل إليك من ربك، ثم يتأمل وينظر، وليس من حقه أن يعرض عن ذلك إذ لعله يعرض عما إن تأمله علم أنه من عند ربه.
والاستثناء مفرغ من أحوال محذوفه.
وجملة {كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} في موضع الحال.واختير الإتيان في خبر كان بصيغة اسم الفاعل للدلالة على أن هذا الإعراض متحقق من دلالة فعل الكون، ومتجدد من دلالة صيغة اسم الفاعل لأن المشتقات في قوة الفعل المضارع.والاستثناء دل على أنهم لم يكن لهم حال إلا الإعراض.
وإنما ينشأ الإعراض عن اعتقاد عدم جدوى النظر والتأمل، فهو دليل على أن المعرض مكذب للمخبر المعرض عن سماعه.
وأصل الإعراض صرف الوجه عن النظر في الشيء.وهو هنا مجاز في إباء المعرفة، فيشمل المعنى الحقيقي بالنسبة إلى الآيات المبصرات كانشقاق القمر، ويشمل ترك الاستماع للقرآن، ويشمل المكابرة عن الاعتراف بإعجازه وكونه حقا بالنسبة للذين يستمعون القرآن ويكابرونه، كما يجئ في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}. وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة.

[5] {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
الفاء فصيحة على الأظهر أفصحت عن كلام مقدر نشأ عن قوله: {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} ، أي إذا تقرر هذا الإعراض ثبت أنهم كذبوا بالحق لما جاءهم من عند الله، فإن الإعراض علامة على التكذيب، كما قدمته آنفا، فما بعد فاء الفصيحة هو الجزاء.ومعناه أن من المعلوم للأمم سوء عواقب الذين كذبوا بالحق الآتي من عند الله فلما تقرر في الآية السابقة أنهم أعرضوا عن آيات الله فقد ثبت أنهم كذبوا بالحق الوارد من الله، ولذلك فرع عليه قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} تأكيدا لوعد المؤمنين بالنصر وإظهار الإسلام على الدين كله وإنذار للمشركين بأن سيحل بهم ما حل بالأمم الذين كذبوا رسلهم ممن عرفوا مثل عاد وثمود وأصحاب الرس.
وبهذا التقدير لم تكن حاجة إلى جعل الفاء تفريعا محضا وجعل ما يعدها علة لجزاء محذوف مدلول عليه بعلته كما هو ظاهر الكشاف، وهي مضمون {فَقَدْ كَذَّبُوا} بأن يقدر:فلا تعجب فقد كذبوا بالقرآن، لأن من قدر ذلك أوهمه أن تكذيبهم المراد هو تكذيبهم بالآيات التي أعرضوا عنها ما عدا آية القرآن.وهذا تخصيص لعموم قوله: {مِنْ آيَةٍ} بلا مخصص، فإن القرآن من جملة الآيات بل هو المقصود أولا، وقد علمت أن {فَقَدْ كَذَّبُوا} هو الجزاء وأن له موقعا عظيما من بلاغة الإيجاز، على أن ذلك التقدير يقتضي أن يكون المراد من الآيات في قوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} ما عدا القرآن.وهو تخصيص لا يناسب مقام كون القرآن أعظمها.
والفاء في قوله: {فسوف} فاء التسبب على قوله: {كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} ، أي يترتب على ذلك إصابتهم بما توعدهم به الله.
وحرف التسويف هنا لتأكيد حصول ذلك في المستقبل.واستعمل الإتيان هنا في الإصابة والحصول على سبيل الاستعارة.والأنباء جمع نبإ، وهو الخبر الذي له أهمية.وأطلق النبأ هنا على تحقيق مضمون الخبر، كقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [صّ:88]، أي تحقق نبئه، لأن النبأ نفسه قد علم من قبل.
و {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} هو القرآن، كقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُؤاً} فإن القرآن مشتمل على وعيدهم بعذاب الدنيا بالسيف، وعذاب الآخرة.فتلك أنباء أنبأهم بها فكذبوه واستهزئوا به فتوعدهم الله بأن تلك الأنباء سيصيبهم مضمونها.فلما قال لهم: {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} علموا أنها أنباء القرآن لأنهم يعلمون أنهم يستهزئون بالقرآن

وعلم السامعون أن هؤلاء كانوا مستهزئين بالقرآن.وتقدم معنى الاستهزاء عند قوله تعالى في سورة البقرة {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} .
[6] {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}
هذه الجملة بيان لجملة {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. جاء بيانها بطريقة الاستفهام الإنكاري عن عدم رؤية القرون الكثيرة الذين أهلكتهم حوادث خارقة للعادة يدل حالها على أنها مسلطة عليهم من الله عقابا لهم على التكذيب.
والرؤية يجوز أن تكون قلبية، أي ألم يعلموا كثرة القرون الذين أهلكناهم، ويجوز أن تكون بصرية بتقدير:ألم يروا آثار القرون التي أهلكناها كديار عاد وحجر ثمود، وقد رآها كثير من المشركين في رحلاتهم، وحدثوا عنها الناس حتى توارترت بينهم فكانت بمنزلة المرئي وتحققتها نفوسهم.
وعلى كلا الوجهين ففعل {يروا} معلق عن العمل في المفعولين أو المفعول، باسم الاستفهام وهو {كم} .
و"كم"اسم للسؤال عن عدد مبهم فلابد بعده من تفسير، وهو تمييزه.كما تقدم في قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ} في سورة البقرة[11].وتكون خبرية فتدل على عدد كبير مبهم ولابد من مفسر هو تمييز للإبهام.فأما الاستفهامية فمفسرها منصوب أو مجرور، وإن كانت خبرية فمفسرها مجرور لا غير، ولما كان"كم"اسما في الموضعين كان له موقع الأسماء بحسب العوامل رفع ونصب وجر، فهي هنا في موضع مفعول أو مفعولين لـ {يروا}. و"مِنْ"في قوله: {مِنْ قَبْلِهِمْ} ابتدائية لتأكيد القبلية.وأما"من"في قوله: {مِنْ قَرْنٍ} فزائدة جارة لمميز {كم} الخبرية لوقوع الفصل بينها وبين مميزها فإن ذلك يوجب جره ب)من(، كما بيناه عند قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ} في سورة البقرة.
والقرن أصله الزمن الطويل، وكثر إطلاقه على الأمة التي دامت طويلا.قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى}. وفسر القرن بالأمة البائدة.ويطلق القرن على الجيل من الأمة، ومنه حديث: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" .ويطلق على مقدار من الزمن قدره مائة سنة على الأشهر، وقيل:غير ذلك.

وجملة {مَكَّنَّاهُمْ} صفة لـ {قرن}. وروعي في الضمير معنى القرن لأنه دال على جمع.
ومعنى {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} ثبتناهم وملكناهم، وأصله مشتق من المكان.فمعنى مكنه ومكن له، وضع له مكانا.قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً}. ومثله قولهم:أرض له.ويكنى بالتمكين عن الإقدار وإطلاق التصرف، لأن صاحب المكان يتصرف في مكانه وبيته ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر.ويقال:هو مكين بمعنى ممكن، فعيل بمعنى مفعول.قال تعالى: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} فهو كناية أيضا بمرتبة ثانية، أو هو مجاز مرسل مرتب على المعنى الكنائي.والتمكين في الأرض تقوية التصرف في منافع الأرض والاستظهار بأسباب الدنيا، بأن يكون في منعة من العدو وفي سعة في الرزق وفي حسن حال، قال تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} ، وقال: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة} الآية.فمعنى مكنه:جعله متمكنا، ومعنى مكن له:جعله متمكنا لأجله، أي رعيا له، مثل حمده وحمد له، فلم تزده اللام ومجرورها إلا إشارة إلى أن الفاعل فعل ذلك رغبة في نفع المفعول، ولكن الاستعمال أزال الفرق بينهما وصير مكنه ومكن له بمعنى واحد، فكانت اللام زائدة كما قال أبو علي الفارسي.ودليل ذلك قوله تعالى هنا : {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} فإن المراد بالفعلين هنا شيء واحد لتعين أن يكون معنى الفعلين مستويا، ليظهر وجه فوت القرون الماضية في التمكين على تمكين المخاطبين، إذ التفاوت لا يظهر إلا في شيء واحد، ولأن كون القرون الماضية أقوى تمكنا من المخاطبين كان يقتضي أن يكون الفعل المقترن بلام الأجل في جانبهم لا في جانب المخاطبين، وقد عكس هنا.وبهذا البيان نجمع بين قول الراغب باستواء فعل مكنه ومكن له، وقول الزمخشري بأن:"مكن له بمعنى جعل له مكانا، ومكنه بمعنى أثبته".وكلام الراغب أمكن عربية.وقد أهملت التنبيه على هذين الرأيين كتب اللغة.واستعمال التمكين في معنى التثبيت والتقوية كناية أو مجاز مرسل لأنه يستلزم التقوية.وقد شاع هذا الاستعمال حتى صار كالصريح أو كالحقيقة.
و {ما} موصولة معناها التمكين، فهي نائبة عن مصدر محذوف، أي تمكينا لم نمكنه لكم، فتنتصب"ما"على المفعولية المطلقة المبينة للنوع.والمقصود مكناهم تمكينا لم نمكنه لكم، أي هو أشد من تمكينكم في الأرض.
والخطاب في قوله: {لكم} التفات موجه إلى الذين كفروا لأنهم الممكنون في

الأرض وقت نزول الآية، وليس للمسلمين يومئذ تمكين.والالتفات هنا عكس الالتفات في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}. والمعنى أن الأمم الخالية من العرب البائدة كانوا أشد قوة وأكثر جمعا من العرب المخاطبين بالقرآن وأعظم منهم آثار حضارة وسطوة.وحسبك أن العرب كانوا يضربون الأمثال للأمور العظيمة بأنها عادية أو ثمودية أو سبئية قال تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي عمر الذين من قبل أهل العصر الأرض أكثر مما عمرها أهل العصر.
والسماء من أسماء المطر، كما في حديث الموطأ من قول زيد بن خالد:"صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثر سماء"، أي عقب مطر.وهو المراد هنا لأنه المناسب لقوله: {أرسلنا} بخلافه في نحو قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}. والمدرار صيغة مبالغة، مثل منحار لكثير النحر للأضياف، ومذكار لمن يولد له الذكور، من درت الناقة ودر الضرع إذا سمح ضرعها باللبن، ولذلك سمي اللبن الدر.ووصف المطر بالمدرار مجاز عقلي، وإنما المدرار سحابه.وهذه الصيغة يستوي فيها المذكر والمؤنث.
والمراد إرسال المطر في أوقات الحاجة إليه بحيث كان لا يخلفهم في مواسم نزوله.ومن لوازم ذلك كثرة الأنهار والأودية بكثرة انفجار العيون من سعة ري طبقات الأرض، وقد كانت حالة معظم بلاد العرب في هذا الخصب والسعة، كما علمه الله ودلت عليه آثار مصانعهم وسدودهم ونسلان الأمم إليها، ثم تغيرت الأحوال بحوادث سماوية كالجدب الذي حل سنين ببلاد عاد؛ أو أرضية، فصار معظمها قاحلا فهلكت أممها وتفرقوا أيادي سبا.
وقد تقدم القول في معنى الأنهار تجري من تحتهم في نظيره وهو: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في سورة البقرة[25].
والفاء في قوله: {فأهلكناهم} للتعقيب عطف على {مكناهم} وما بعده.ولما تعلق بقوله: {فأهلكناهم} قوله :{بذنوبهم} دل على أن تعقيب التمكين وما معه بالإهلاك وقع بعد أن أذنبوا.فالتقدير:فأذنبوا فأهلكناهم بذنوبهم، أو فبطروا النعمة فأهلكناهم، ففيه إيجاز حذف على حد قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} الآية، أي فضرب فانفجرت الخ.ولك أن تجعل الفاء للتفصيل تفصيلا لـ {أهلكنا} الأول على نحو قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} في سورة الأعراف[4].
والإهلاك:الإفناء، وهو عقاب للأمة دال على غضب الله عليها، لأن فناء الأمم لا

يكون إلا بما تجره إلى نفسها من سوء فعلها، بخلاف فناء الأفراد فإنه نهاية محتمة ولو استقام المرء طول حياته، لأن تركيب الحيوان مقتض للانتهاء بالفناء عند عجز الأعضاء الرئيسية عن إمداد البدن بمواد الحياة فلا يكون عقابا إلا فيما يحف به من أحوال الخزي للهالك.
والذنوب هنا هي الكفر وتكذيب الرسل ونحو ذلك مما دل عليه التنظير بحال الذين قال الله فيهم هنا {ِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}{ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} ، وما قاله بعد ذلك: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} الآية.
وقوله: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}: الإنشاء الإيجاد المبتكر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً}. والمراد به إنشاؤهم بتلك الصفات التي كان عليها القرن الذين من قبلهم من التمكين في الأرض والإسعاف بالخصب، فخلفوا القرن المنقرضين سواء كان إنشاؤهم في ديار القوم الذين هلكوا، كما أنشأ قريشا في ديار جرهم، أم في ديار أخرى كما أنشأ الله ثمودا بعد عاد في منازل أخرى.والمقصود من هذا تعريض بالمشركين بأن الله مهلكهم ومنشئ من بعدهم قرن المسلمين في ديارهم.ففيه نذارة بفتح مكة وسائر بلاد العرب على أيدي المسلمين.وليس المراد بالإنشاء الولادة والخلق، لأن ذلك أمر مستمر في البشر لا ينتهي، وليس فيه عظة ولا تهديد للجبابرة المشركين,وأفرد {قرنا} مع أن الفعل الناصب له مقيد بأنه من بعد جمع القرون، على تقدير مضاف، أي أنشأنا من بعد كل قرن من المهلكين قرنا آخرين.
[7] {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} يجوز أن تكون الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} الخ، وما بينهما جملا تعلقت بالجملة الأول ى على طريقة الاعتراض، فلما ذكر الآيات في الجملة الأول ى على وجه العموم ذكر هنا فرض آية تكون أوضح الآيات دلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أن ينزل الله عليه كتابا من السماء على صورة الكتب المتعارفة، فرأوه بأبصارهم ولمسوه بأيديهم لما آمنوا ولا دعوا أن ذلك الكتاب سحر.
ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير {كذبوا} في قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا

جَاءَهُمْ} أي أنكروا كون القرآن من عند الله، وكونه آية على صدق الرسول، وزعموا أنه لو كان من عند الله لنزل في صورة كتاب من السماء، فإنهم قالوا: {وْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} وقالوا: {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} فكان قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} مشتملا بالإجمال على أقوالهم فصح مجيء الحال منه، وما بينهما اعتراض أيضا.
وعلى الوجه الأول فالكتاب الشيء المكتوب سواء كان سفرا أم رسالة، وعلى الثاني فالمراد بكتاب سفر أي مثل التوراة.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لا محالة لأن كل كلام ينزل من القرآن موجه إليه لأنه المبلغ، فانتقال الخطاب إليه بعد الحديث عن ذوي ضمائر أخرى لا يحتاج إلى مناسبة في الانتقال.وليس يلزم أن يكون المراد كتابا فيه تصديقه بل أعم من ذلك.
وقوله: {فِي قِرْطَاسٍ} صفة لـ"كتاب"، والظرفية مجازية من ظرفية اسم الشيء في اسم جزئه.والقرطاس بكسر القاف على الفصيح، ونقل ضم القاف وهو ضعيف.وهو اسم للصحيفة التي يكتب فيها ويكون من رق ومن بردي ومن كاغد، ولا يختص بما كان من كاغد بل يسمى قرطاسا ما كان من رق.ومن الناس من زعم أنه لا يقال قرطاس إلا لما كان مكتوبا وإلا سمي طرسا، ولم يصح.وسمى العرب الأديم الذي يجعل غرضا لمتعلم الرمي قرطاسا فقالوا:سدد القرطاس، أي سدد رميه.قال الجواليقي:"القرطاس تكلموا به قديما"ويقال:إن أصله غير عربي.ولم يذكر ذلك الراغب ولا لسان العرب ولا القاموس، وأثبته الخفاجي في شفاء الغليل.وقال:"هو الفرس الأبيض".وقال الآلوسي:"أصله كراسة".ولم يذكروا أنه معرب عن أي لغة، فإن كان معربا فلعله معرب عن الرومية، ولذلك كان اسم الورقة في لغة بعضهم اليوم"كارتا".
وقوله: {فلمسوه} عطف على{نزلنا}.واللمس وضع اليد على الشيء لمعرفة وجوده، أو لمعرفة وصف ظاهره من لين أو خشونة، ومن برودة أو حرارة، أو نحو ذلك.فقوله: {بأيديهم} تأكيد لمعنى اللمس لرفع احتمال أن يكون مجازا في التأمل، كما في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} ، وللإفصاح عن منتهى ما اعتيد من مكابرتهم ووقاحتهم في الإنكار والتكذيب، وللتمهيد لقوله: {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ، لأن المظاهر السحرية تخيلات لا تلمس.
وجاء قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} دون أن يقول:لقالوا، كما قال: {فلمسوه} إظهارا في مقام الإضمار لقصد تسجيل أن دافعهم إلى هذا التعنت هو الكفر، لأن الموصول يؤذن

بالتعليل.
ومعنى {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أنهم يغالطون أنفسهم ويغالطون قومهم لستر مكابرتهم ولدفع ما ظهر من الغلبة عليهم.وهذا شأن المغلوب المحجوج أن يتعلق بالمعاذير الكاذبة.
والمبين:البين الواضح، مشتق من"أبان"مرادف"بان".وتقدم معنى السحر عند قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} في سورة البقرة[102].
[9,8] {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9]
عطف على قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً} ، لأن هذا خبر عن توركهم وعنادهم، وما قبله بيان لعدم جدوى محاولة ما يقلع عنادهم، فذلك فرض بإنزال كتاب عليهم من السماء فيه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا حكاية لاقتراح منهم أية يصدقونه بها.وفي سيرة ابن إسحاق أن هذا القول واقع، وأن من جملة من قال هذا زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعبدة بن عبد يغوث؛ وأبي ابن خلف، والعاصي بن وائل، والوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومن معهم، أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:"سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك".
فقوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي لولا أنزل عليه ملك نشاهده ويخبرنا بصدقه، لأن ذلك هو الذي يتطلبه المعاند.أما نزول الملك الذي لا يرونه فهو أمر واقع، وفسره قوله تعالى في الآية الأخرى: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} في سورة الفرقان[7].
والضمير عائد إلى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} وإن كان قاله بعضهم،لأن الجميع قائلون بقوله وموافقون عليه.
و {لولا} للتحضيض بمعنى"هلا".والتحضيض مستعمل في التعجيز على حسب اعتقادهم.وضمير {عليه} للنبي صلى الله عليه وسلم،ومعاد الضمير معلوم من المقام،لأنه إذا جاء في الكلام ضمير غائب لم يتقدم له معاد وكان بين ظهرانيهم من هو صاحب خبر أو قصة يتحدث الناس بها تعين أنه المراد من الضمير.ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين

استأذنه في قتل ابن صياد:"إن يكنه فلن تسلط عليه وإلا يكنه فلا خير لك في قتله".يريد من ضمائر الغيبة الثلاثة الأولى الدجال لأن الناس كانوا يتحدثون أن ابن صياد هو الدجال.ومثل الضمير اسم الإشارة إذا لم يذكر في الكلام اسم يشار إليه.كما ورد في حديث أبي ذر أنه قال لأخيه عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم:"اذهب فاستعلم لنا علم هذا الرجل".وفي حديث سؤال القبر"فيقال له"أي للمقبور":"ما علمك بهذا الرجل".يعني أن هذا قولهم فيما بينهم، أو قولهم للذي أرسلوه إلى النبي أن يسأل الله أن يبعث معه ملكا.وقد شافهوه به مرة أخرى فيما حكاه الله عنهم: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فإن"لوما"أخت"لولا"في إفادة التحضيض.
وقوله: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} معناه:لو أنزلنا ملكا على الصفة التي اقترحوها يكلمهم لقضي الأمر، أي أمرهم؛ فاللام عوض عن المضاف إليه بقرينة السياق.أي لقضي أمر عذابهم الذي يتهددهم به.
ومعنى {قضي} تمم، كما دل عليه قوله: {ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} ؛ذلك أنه لا تنزل ملائكة غير الذين سخرهم الله للأمور المعتادة مثل الحفظة، وملك الموت، والملك الذي يأتي بالوحي؛ إلا ملائكة تنزل لتأييد الرسل بالنصر على من يكذبهم، مثل الملائكة التي نزلت لنصر المؤمنين في بدر.ولا تنزل الملائكة بين القوم المغضوب عليهم إلا لإنزال العذاب بهم، كما نزلت الملائكة في قوم لوط.فمشركو مكة لما سألوا النبي أن يريهم ملكا معه ظنوا مقترحهم تعجيزا، فأنبأهم الله تعالى بأنهم اقترحوا أمرا لو أجيبوا إليه لكان سببا في مناجزة هلاكهم الذي أمهلهم إليه فيه رحمة منه.
ولعل حكمة ذلك أن الله فطر الملائكة على الصلابة والغضب للحق بدون هوادة،وجعل الفطرة الملكية سريعة لتنفيذ الجزاء على وفق العمل، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ،فلذلك حجزهم الله عن الاتصال بغير العباد المكرمين الذين شابهت نفوسهم الإنسانية النفوس الملكية،ولذلك حجبهم الله عن النزول إلى الأرض إلا في أحوال خاصة،كما قال تعالى عنهم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} ، وكما قال: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} فلو أن الله أرسل ملائكة في الوسط البشري لما أمهلوا أهل الضلال والفساد ولناجزوهم جزاء العذاب،ألا ترى أن الملائكة الذين أرسلهم الله لقوم لوط لما لقوا لوطا قالوا: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}. ولما جادلهم إبراهيم في قوم لوط بعد أن بشروه واستأنس بهم قالوا: {يَا إِبْرَاهِيمُ

أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} وهو نزول الملائكة؛فليس الملائكة تصرف في غير ما وجهوا إليه.
فمعنى الآية أن ما اقترحوه لو وقع لكان سيئ المغبة عليهم من حيث لا يشعرون.وليس المراد أن سبب عدم إنزال الملك رحمة بهم بل لأن الله ما كان ليظهر آياته عن اقتراح الضالين،إذ ليس الرسول صلى الله عليه وسلم بصدد التصدي لرغبات الناس مثل ما يتصدى الصانع أو التاجر،ولو أجيبت رغبات بعض المقترحين لرام كل من عرضت عليه الدعوة أن تظهر له آية حسب مقترحه فيصير الرسول صلى الله عليه وسلم مضيعا مدة الإرشاد وتلتف عليه الناس التفافهم على المشعوذين، وذلك ينافي حرمة النبوءة،ولكن الآيات تأتي عن محض اختيار من الله تعالى دون مسألة.وإنما أجاب الله اقتراح الحواريين إنزال المائدة لأنهم كانوا قوما صالحين،وما أرادوا إلا خيرا.ولكن الله أنبأهم أن إجابتهم لذلك لحكمة أخرى وهي تستتبع نفعا لهم من حيث لا يشعرون،فكانوا أحرياء بأن يشكروا نعمة الله عليهم فيما فيه استبقاء لهم لو كانوا موفقين.وسيأتي عند قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} زيادة بيان لهذا.
ومن المفسرين من فسر {قُضِيَ الْأَمْرُ} بمعنى هلاكهم من هول رؤية الملك في صورية الأصلية وليس هذا بلازم لأنهم لم يسألوا ذلك.ولا يتوقف تحقق ملكيته عندهم على رؤية صورة خارقة للعادة، بل يكفي أن يروه نازلا من السماء مثلا حتى يصاحب النبي عليه الصلاة والسلام حين يدعوهم إلى الإسلام، كما يدل عليه قوله الآتي: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} .
وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} عطف على قوله: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ} ،فهو جواب ثان عن مقترحهم،فيه ارتقاء في الجواب،وذلك أن مقترحهم يستلزم الاستغناء عن بعثة رسول من البشر لأنه إذا كانت دعوة الرسول البشري غير مقبولة عندهم إلا إذا قارنه ملك يكون معه نذيرا كما قالوه وحكي عنهم في غير هذه الآية، فقد صار مجيء رسول بشري إليهم غير مجد للاستغناء عنه بالملك الذي يصاحبه،على أنهم صرحوا بهذا اللازم فيما حكي عنهم في غير هذه الآية،وهو قوله تعالى: {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} ، فجاء هذا الجواب الثاني صالحا لرد الاقتراحين،ولكنه روعي في تركيب ألفاظه ما يناسب المعنى اللازم لكلامهم فجيء بفعل {جعلنا} المقتضي تصيير شيء آخر أو تعويضه به.فضمير {جعلناه} عائد إلى الرسول الذي عاد إليه ضمير {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} ،أي ولو اكتفينا عن إرسال رسول من نوع البشر وجعلنا الرسول إليهم ملكا

لتعين أن نصور ذلك الملك بصورة رجل،لأنه لا محيد عن تشكله بشكل لتمكن إحاطة أبصارهم به وتحيزه فإذا تشكل فإنما يتشكل في صورة رجل ليطيقوا رؤيته وخطابه،وحينئذ يلتبس عليهم أمره كما التبس عليهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
فجملة {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} من تمام الدليل والحجة عليهم بعدم جدوى إرسال الملك.
واللبس:خلط يعرض في الصفات والمعاني بحيث يعسر تمييز بعضها عن بعض.وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} في سورة البقرة[42].وقد عدي هنا بحرف"على"لأن المراد لبس فيه غلبة لعقولهم.
والمعنى:وللبسنا على عقولهم،فشكوا في كونه ملكا فكذبوه،إذ كان دأب عقولهم تطلب خوارق العادات استدلالا بها على الصدق،وترك إعمال النظر الذي يعرف به صدق الصادق.
و {ما} في قوله: {مَا يَلْبِسُونَ} مصدرية مجردة عن الظرفية،والمعنى على التشبيه،أي وللبسنا عليهم لبسهم الذي وقع لهم حين قالوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} ،أي مثل لبسهم السابق الذي عرض لهم في صدق محمد عليه الصلاة والسلام.
وفي الكلام احتباك لأن كلا اللبسين هو بتقدير الله تعالى،لأنه حرمهم التوفيق.فالتقدير:وللبسنا عليهم في شأن الملك فيلبسون على أنفسهم في شأنه كما لبسنا عليهم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم إذ يلبسون على أنفسهم في شأنه.وهذا الكلام كله منظور فيه إلى حمل اقتراحهم على ظاهر حاله من إرادتهم الاستدلال،فلذلك أجيبوا عن كلامهم إرخاء للعنان،وإلا فإنهم ما أرادوا بكلامهم إلا التعجيز والاستهزاء، ولذلك عقبه بقوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} الآية.
[10] {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
عطف على جملة {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} لبيان تفننهم في المكابرة والعناد تصلبا في شركهم وإصرارا عليه،فلا يتركون وسيلة من وسائل التنفير من قبول دعوة الإسلام إلا توسلوا بها.ومناسبة عطف هذا الكلام على قوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ

مَلَكٌ} أنهم كانوا في قولهم ذلك قاصدين التعجيز والاستهزاء معا،لأنهم ما قالوه إلا عن يقين منهم أن ذلك لا يكون، فابتدئ الرد عليهم بإبطال ظاهر كلامهم بقوله: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ}. ثم ثنى بتهديدهم على ما أرادوه من الاستهزاء،والمقصود مع ذلك تهديدهم بأنهم سيحيق بهم العذاب وأن ذلك سنة الله في كل أمة استهزأت برسول له.
فقوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} يدل على جملة مطوية إيجازا، تقديرها:واستهزأوا بك ولقد استهزأ أمم برسل من قبلك، لأن قوله: {مِنْ قَبْلِكَ} يؤذن بأنه قد استهزئ به هو أيضا وإلا لم تكن فائدة في وصف الرسل بأنهم من قبله لأن ذلك معلوم.وحذف فاعل الاستهزاء فبني الفعل إلى المجهول لأن المقصود هنا هو ترتب أثر الاستهزاء لا تعيين المستهزئين.
واللام للقسم،و {قد} للتحقيق،وكلاهما يدل على تأكيد الخبر.والمقصود تأكيده باعتبار ما تفرع عنه، وهو قوله: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا} الخ،لأن حال المشركين حال من يتردد في أن سبب هلاك الأمم السالفة هو الاستهزاء بالرسل،إذ لولا ترددهم في ذلك لأخذوا الحيطة لأنفسهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام الذي جاءهم فنظروا في دلائل صدقه وما أعرضوا،ليستبرئوا لأنفسهم من عذاب متوقع،أو نزلوا منزلة المتردد إن كانوا يعلمون ذلك لعدم جريهم على موجب علمهم.واستهزاؤهم له أفانين،منها قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} .
ومعنى الاستهزاء تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} في سورة البقرة.وهو مرادف للسخرية في كلام أئمة اللغة، فذكر {استهزئ} أولا لأنه أشهر،ولما أعيد عبر بـ {سخروا} ،ولما أعيد ثالث مرة رجع إلى فعل {يستهزئون} ،لأنه أخف من"يسخرون"وهذا من بديع فصاحة القرآن المعجزة.
و {سخروا} بمعنى هزأوا،ويتعدى إلى المفعول بـ {من} ،قيل:لا يتعدى بغيرها.وقيل:يتعدى بالباء.وكذا الخلاف في تعدية هزأ واستهزأ.والأصح أن كلا الفعلين يتعدى بحرف"من"والباء،وأن الغالب في"هزأ"أن يتعدى بالباء،وفي {سخر} أن يتعدى بـ"من".وأصل مادة {سخر} مؤذن بأن الفاعل اتخذ المفعول مسخرا يتصرف فيه كيف شاء بدون حرمة لشدة قرب مادة"سخر"المخفف من مادة التسخير، أي التطويع فكأنه حوله عن حق الحرمة الذاتية فاتخذ منه لنفسه سخرية.
وفعل {حاق} اختلف أئمة اللغة في معناه.فقال الزجاج:"هو بمعنى أحاط"،وتبعه

الزمخشري،وفسره الفراء بمعنى عاد عليه.وقال الراغب:"أصله حق"،أي بمعنى وجب،فأبدل أحد حرفي التضعيف حرف علة تخفيفا،كما قالوا تظنى في تظنن،أي وكما قالوا:تقضى البازي،بمعنى تقضض.والأظهر ما قاله أبو إسحاق الزجاج.
واختير فعل الإحاطة للدلالة على تمكن ذلك منهم وعدم إفلاته أحدا منهم.
وإنما جيء بالموصول في قوله: {بِالَّذِينَ سَخِرُوا} ولم يقل بالساخرين للإيماء إلى تعليل الحكم،وهو قوله: {فحاق}.
و {منهم} يتعلق ب {سخروا} ،والضمير المجرور عائد إلى الرسل،لزيادة تقريركون العقاب لأجلهم ترفيعا لشأنهم.و {ما} في قوله: {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} موصولة.والباء في {به} لتعدية فعل الاستهزاء.ووجود الباء مانع من جعل {ما} غير موصولة.وهو ما أطال التردد فيه الكاتبون.
والمراد بـ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} ما أنذرهم الرسل به من سوء العاقبة وحلول العذاب بهم، فحصل بذلك فائدة أخرى،وهي أن المستهزئين كانوا يستهزئون بالرسل وخاصة بما ينذرونهم به من حلول العذاب إن استمروا على عدم التصديق بما جاءوا به.فاستهزاؤهم بما أنذروا به جعل ما أنذروا به كالشخص المهزوء به إذا جعلنا الباء للتعدية،أو استهزاؤهم بالرسل بسبب ما أنذروهم به إذا جعلت الباء للسببية.وتقديم الجار والمجرور على الفعل للرعاية على الفاصلة.
[11] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
هذه الجملة وزانها وزان البيان لمضمون الجملة التي قبلها ولذلك فصلت،فإن الجملة التي قبلها تخبر بأن الذين استهزأوا بالرسل قد حاق بهم عواقب استهزائهم، وهذه تحدوهم إلى مشاهدة ديار أولئك المستهزئين.وليس افتتاح هذه الجملة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم منافيا لكونها بيانا لأنه خوطب بأن يقول ذلك البيان.فالمقصود ما بعد القول.
وافتتاحها بالأمر بالقول لأنها واردة مورد المحاورة على قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام:8].وهذه سلسلة ردود وأجوبة على مقالتهم المحكية آنفا لتضمنها التصميم على الشرك وتكذيب الرسالة،فكانت منحلة إلى شبه كثيرة أريد ردها وتفنيدها فكانت هاته الردود كلها مفتتحة بكلمة {قل} عشر مرات.

و {ثم} للتراخي الرتبي، كما هو شأنها في عطف الجمل،فإن النظر في عاقبة المكذبين هو المقصد من السير،فهو مما يرتقى إليه بعد الأمر بالسير، وأن هذا النظر محتاج إلى تأمل وترسم فهو أهم من السير.
والنظر يحتمل أن يكون بصريا وأن يكون قلبيا،وعلى الاحتماليين فقد علقه الاستفهام عن نصب مفعوله أو مفعوليه.و {كيف} خبر لـ {كان} مقدم عليها وجوبا.
والعاقبة آخر الشيء ومآله وما يعقبه من مسبباته.ويقال:عاقبة وعقبى،وهي اسم كالعافية والخاتمة.
وإنما وصفوا بـ {المكذبين} دون المستهزئين للدلالة على أن التكذيب والاستهزاء كانا خلقين من أخلاقهم،وأن الواحد من هذين الخلقين كاف في استحقاق تلك العاقبة،إذ قال في الآية السابقة: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10]وقال في هذه الآية: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
وهذا رد جامع لدحض ضلالاتهم الجارية على سنن ضلالات نظرائهم من الأمم السالفة المكذبين.
[12] {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
جملة {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تكرير في مقام الاستدلال،فإن هذا الاستدلال تضمن استفهاما تقريريا،والتقرير من مقتضيات التكرير،لذلك لم تعطف الجملة.ويجوز أن يجعل تصدير هذا الكلام بالأمر بأن يقوله مقصودا به الاهتمام بما بعد فعل الأمر بالقول على الوجه الذي سنبينه عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} في هذه السورة[40].والاستفهام مستعمل مجازا في التقرير.والتقرير هنا مراد به لازم معناه،وهو تبكيت المشركين وإلجاؤهم إلى الإقرار بما يقتضي إلى إبطال معتقدهم الشرك، فهو مستعمل في معناه الكنائي مع معناه الصريح،والمقصود هو المعنى الكنائي.
ولكونه مرادا به الإلجاء إلى الإقرار كان الجواب عنه بما يريده السائل من إقرار المسؤول محققا لا محيص عنه، إذ لا سبيل إلى الجحد فيه أو المغالطة، فلذلك لم ينتظر

السائل جوابهم وبادرهم الجواب عنه بنفسه بقوله: {لله} تبكيتا لهم،لأن الكلام مسوق مساق إبلاغ الحجة مقدرة فيه محاورة وليس هو محاورة حقيقية.وهذا من أسلوب الكلام الصادر من متكلم واحد.فهؤلاء القوم المقدر إلجاؤهم إلى الجواب سواء أنصفوا فأقروا حقية الجواب أم أنكروا وكابروا فقد حصل المقصود من دمغهم بالحجة.وهذا أسلوب متبع في القرآن،فتارة لا يذكر جواب منهم كما هنا،وكمت في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [الرعد:16]،وقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ـ إلى قوله ـ قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:91]،وتارة يذكر ما سيجيبون به بعد ذكر السؤال منسوبا إليهم أنهم يجيبون به ثم ينتقل إلى ما يترتب عليه من توبيخ ونحوه،كقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ـ إلى قوله ـ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84ـ89].
وابتدئ بإبطال أعظم ضلالهم،وهو ضلال الإشراك.وأدمج معه ضلال إنكارهم البعث المبتدأ به السورة بعد أن انتقل من ذلك إلى الإنذار الناشئ عن تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما كان دليل الوحدانية السالف دالا على خلق السماوات والأرض وأحوالها بالصراحة، وعلى عبودية الموجودات التي تشملها بالالتزام،ذكر في هذه الآية تلك العبودية بالصراحة فقال: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} .
وقوله: {لله} خبر مبتدأ محذوف دل عليه {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} الخ.ويقدر المبتدأ مؤخرا عن الخبر على وزان السؤال لأن المقصود إفادة الحصر.
واللام في قوله: {لله} للملك؛دلت على عبودية الناس لله دون غيره، وتستلزم أن العبد صائر إلى مالكه لا محالة، وفي ذلك تقرير لدليل البعث السابق المبني على إثبات العبودية بحق الخلق.ولا سبب للعبودية أحق وأعظم من الخالقية،ويستتبع هذا الاستدلال الإنذار بغضبه على من أشرك معه.
وهذا استدلال على المشركين بأن غير الله ليس أهلا للإلهية،لأن غير الله لا يملك ما في السماوات وما في الأرض إذ ملك ذلك لخالق ذلك.وهو تمهيد لقوله بعده: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ،لأن مالك الأشياء لا يهمل محاسبتها.
وجملة {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} معترضة،وهي من المقول الذي أمر الرسول بأن يقوله.
وفي هذا الاعتراض معان:

أحدها:أن ما بعده لما كان مشعرا بإنذار بوعيد قدم له التذكير بأنه رحيم بعبيده عساهم يتوبون ويقلعون عن عنادهم،على نحو قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]،والشرك بالله أعظم سوء وأشد تلبسا بجهالة.
والثاني:أن الإخبار بأن لله ما في السماوات وما في الأرض يثير سؤال سائل عن عدم تعجيل أخذهم على شركهم بمن هم ملكه.فالكافر يقول:لو كان ما تقولون صدقا لعجل لنا العذاب،والمؤمن يستبطئ تأخير عقابهم،فكان قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} جوابا لكلا الفريقين بأنه تفضل بالرحمة، فمنها رحمة كاملة:وهذه رحمته بعباده الصالحين، ومنها رحمة موقتة وهي رحمة الإمهال والإملاء للعصاة والضالين.
والثالث:أن ما في قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} من التمهيد لما في جملة {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} من الوعيد والوعد.
ذكرت رحمة الله تعريضا ببشارة المؤمنين وبتهديد المشركين.
الرابع:أن فيه إيماء إلى أن الله قد نجى أمة الدعوة المحمدية من عذاب الاستئصال الذي عذب به الأمم المكذبة رسلها من قبل،وذلك ببركة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ جعله رحمة للعالمين في سائر أحواله بحكم قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]،وإذ أراد تكثير تابعيه فلذلك لم يقض على مكذبيه قضاء عاجلا بل أمهلهم وأملى لهم ليخرج منهم من يؤمن به، كما رجا رسول الله صلى الله عليه وسلم.ولذلك لما قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33].وقد حصل ما رجاه رسول الله فلم يلبث من بقي من المشركين أن آمنوا بالله ورسوله بعد فتح مكة ودخلوا في دين الله أفواجا،وأيد الله بهم بعد ذلك دينه ورسوله ونشروا كلمة الإسلام في آفاق الأرض.وإذ قد قدر الله تعالى أن يكون هذا الدين خاتمة الأديان كان من الحكمة إمهال المعاندين له والجاحدين،لأن الله لو استأصلهم في أول ظهور الدين لأتى على من حوته مكة من مشرك ومسلم،ثم يحشرون على نياتهم،كما ورد في الحديث لما قالت أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنهلك وفينا الصالحون، قال:نعم،إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نياتهم".فلو كان ذلك في وقت ظهور الإسلام لارتفع بذلك هذا الدين فلم يحصل المقصود من جعله خاتمة الأديان.وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ

يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال:"أعوذ بسبحات وجهك الكريم".
ومعنى {كتب} تعلقت إرادته،بأن جعل رحمته الموصوف بها بالذات متعلقة تعلقا عاما مطردا بالنسبة إلى المخلوقات وإن كان خاصا بالنسبة إلى الأزمان والجهات.فلما كان ذلك مطردا شبهت إرادته بالإلزام،فاستعير لها فعل"كتب"الذي هو حقيقة في الإيجاب، والقرينة هي مقام الإلهية،أو جعل ذلك على نفسه لأن أحدا لا يلزم نفسه بشيء إلا اختيارا وإلا فان غيره يلزمه.والمقصود أن ذلك لا يتخلف كالأمر الواجب المكتوب، فإنهم كانوا إذا أرادوا تأكيد وعد أو عهد كتبوه،كما قال الحارث بن حلزة:
واذكروا حلف ذي المجاز ... وما قدم فيه العهود ولا كفلاء
حذر الجور والتطاخي وهل ... ينقض ما في المهارق الأهواء
فالرحمة هنا مصدر،أي كتب على نفسه أن يرحم، وليس المراد الصفة،أي كتب على نفسه الاتصاف بالرحمة، أي بكونه رحيما،لأن الرحمة صفة ذاتية لله تعالى واجبة له، والواجب العقلي لا تتعلق به الإرادة، إلا إذا جعلنا {كتب} مستعملا في تمجز آخر،وهو تشبيه الوجوب الذاتي بالأمر المحتم المفروض،والقرينة هي هي إلا أن المعنى الأول أظهر في الامتنان،وفي المقصود من شمول الرحمة للعبيد المعرضين عن حق شكره والمشركين له في ملكه غيره.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش"إن رحمتي سبقت غضبي".
وجملة {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} واقعة موقع النتيجة من الدليل والمسبب من السبب،فإنه لما أبطلت أهلية أصنامهم للإلهية ومحضت وحدانية الله بالإلهية بطلت إحالتهم البعث بشبهة تفرق أجزاء الأجساد أو انعدامها.
ولام القسم ونون التوكيد أفادا تحقيق الوعيد.والمراد بالجمع استقصاء متفرق جميع الناس أفرادا وأجزاءا متفرقة.وتعديته بـ {إلى} لتضمينه معنى السوق.وقد تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} في سورة النساء[87].
وضمير الخطاب في قوله: {ليجمعنكم} مراد به خصوص المحجوجين من

المشركين، لأنهم المقصود من هذا القول من أوله؛ فيكون نذارة لهم وتهديدا وجوابا عن أقل ما يحتمل من سؤال ينشأ عن قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} كما تقدم.
وجملة {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} الأظهر عندي أنها متفرعة على جملة {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وأن الفاء من قوله: {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} للتفريع والسببية.وأصل التركيب:فأنتم لا تؤمنون لأنكم خسرتم أنفسكم في يوم القيامة؛فعدل عن الضمير إلى الموصول لإفادة الصلة أنهم خسروا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم.وجعل {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} خبر مبتدأ محذوف.والتقدير:أنتم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون.ونظم الكلام على هذا الوجه أدعى لإسماعهم، وبهذا التقدير يستغنى عن سؤال الكشاف عن صحة ترتب عدم الإيمان على خسران أنفسهم مع أن الأمر بالعكس.
وقيل: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}مبتدأ،وجملة{فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} خبره، وقرن بالفاء لأن الموصول تضمن معنى الشرط على نحو قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15].وأشرب الوصول معنى الشرط ليفيد شموله كل من اتصف بمضمون الصلة، ويفيد تعليق حصول مضمون جملة الخبر المنزل منزلة جواب الشرط على حصول مضمون الصلة المنزلة منزلة جملة الشرط،فيفيد أن ذلك مستمر الارتباط والتعليل في جميع أزمنة المستقبل التي يتحقق فيها معنى الصلة.فقد حصل في هذه الجملة من الخصوصيات البلاغية ما لا يوجد مثله في غير الكلام المعجز.
ومعنى {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أضاعوها كما يضيع التاجر رأس ماله،فالخسران مستعار لإضاعة ما شأنه أن يكون سبب نفع.فمعنى {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} عدموا فائدة الانتفاع بما ينتفع به الناس من أنفسهم وهو العقل والتفكير،فإنه حركة النفس في المعقولات لمعرفة حقائق الأمور.وذلك أنهم لما أعرضوا عن التدبر في صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أضاعوا عن أنفسهم أنفع سبب للفوز في العاجل والآجل،فكان ذلك سبب أن لا يؤمنوا بالله والرسول واليوم الآخر.فعدم الإيمان مسبب عن حرمانهم الانتفاع بأفضل نافع.ويتسبب على عدم الإيمان خسران آخر،وهو خسران الفوز في الدنيا بالسلامة من العذاب،وفي الآخرة بالنجاة من النار،وذلك يقال له خسران ولا يقال له خسران الأنفس.وقد أشار إلى الخسرانين قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [هود:22,21]

[13] {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
جملة معطوفه على {لله} من قوله: {قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12]الذي هو في تقدير الجملة،أي ما في السماوات والأرض لله،وله ما سكن.
والسكون استقرار الجسم في مكان،أي حيز لا ينتقل عنه مدة،فهو ضد الحركة،وهو من أسباب الاختفاء، لأن المختفي يسكن ولا ينتشر.والأحسن عندي أن يكون هنا كناية عن الخفاء مع إرادة المعنى الصريح.ووجه كونه كناية أن الكلام مسوق للتذكير بعلم الله تعالى وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ومحاسبكم عليها يوم يجمعكم إلى يوم القيامة،فهو كقوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى ـ إلى أن قال ـ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} [الرعد:8ـ10]فالذي سكن الليل والنهار بعض ما في السماوات والأرض، فلما أعلمهم بأنه يملك ما في السماوات والأرض عطف عليه الإعلام بأنه يملك ما سكن من ذلك لأنه بحيث يغفل عن شمول ما في السماوات والأرض إياه، لأن المتعارف بين الناس إذا أخبروا عن أشياء بحكم أن يريدوا الأشياء المعروفة المتداولة.فهذا من ذكر الخاص بعد العام لتقرير عموم الملك لله تعالى بأن ملكه شمل الظاهرات والخفيات،ففي هذا استدعاء ليوجهوا النظر العقلي في الموجودات الخفية وما في إخفائها من دلالة على سعة القدرة وتصرفات الحكمة الإلهية.
و {في} للظرفية الزمانية،وهي ظرف مستقر،لأن فعل السكون لا يتعدى إلى الزمان تعدية الظرف اللغو كما يتعدى إلى المكان لو كان بمعنى حل واستقر وهو ما لا يناسب حمل معنى الآية عليه.والكلام تمهيد لسعة العلم، لأن شأن المالك أن يعلم مملوكاته.وتخصيص الليل بالذكر لأن الساكن في ذلك الوقت يزداد خفاء،فهو كقوله: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} [الأنعام:59].وعطف النهار عليه لقصد زيادة الشمول،لأن الليل لما كان مظنة الاختفاء فيه قد يظن أن العالم يقصد الاطلاع على الساكنات فيه بأهمية ولا يقصد إلى الاطلاع على الساكنات في النهار،فذكر النهار لتحقيق تمام الإحاطة بالمعلومات.
وتقديم المجرور للدلالة على الحصر،وهو حصر الساكنات في كونها له لا لغيره،أي في كون ملكها التام له، كما تقدم في قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12].

وقد جاء قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} كالنتيجة للمقدمة،لأن المقصود من الإخبار بأن الله يملك الساكنات التمهيد لإثبات عموم علمه،وإلا فإن ملك المتحركات المتصرفات أقوى من ملك الساكنات التي لا تبدي حراكا،فظهر حسن وقع قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} عقب هذا.
والسميع:العالم العظيم بالمسموعات أو بالمحسوسات.والعليم:الشديد العلم بكل معلوم.
[14] {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ}
استئناف آخر ناشئ عن جملة {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12].
وأعيد الأمر بالقول اهتماما بهذا المقول،لأنه غرض آخر غير الذي أمر فيه بالقول قبله،فإنه لما تقرر بالقول، السابق عبودية ما في السماوات والأرض لله وأن مصير كل ذلك إليه انتقل إلى تقرير وجوب إفراده بالعبادة،لأن ذلك نتيجة لازمه لكونه مالكا لجميع ما احتوته السماوات والأرض، فكان هذا التقرير جاريا على طريقة التعريض إذ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالتبرؤ من أن يعبد غير الله.والمقصود الإنكار على الذين عبدوا غيره واتخذوهم أولياء،كما يقول القائل بمحضر المجادل المكابر"لا أجحد الحق"لدلالة المقام على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدر منه ذلك، كيف وقد علموا أنه دعاهم إلى توحيد الله من أول بعثته، وهذه السورة ما نزلت إلا بعد البعثة بسنين كثيرة،كما استخلصناه مما تقدم في صدر السورة.وقد ذكر ابن عطية عن بعض المفسرين:"أن هذا القول أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ليجيب المشركين الذين دعوه إلى عبادة أصنامهم"، أي هو مثل ما في قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]،وهو لعمري مما يشعر به أسلوب الكلام وإن قال ابن عطية:إن ظاهر الآية لا يتضمنه كيف ولا بد للاستئناف من نكتة".
والاستفهام للإنكار.وقدم المفعول الأول لـ{أتخذ}على الفعل وفاعله ليكون مواليا للاستفهام لأنه هو المقصود بالإنكار لا مطلق اتخاذ الولي.وشأن همزة الاستفهام بجميع

استعمالاته أن يليها جزء الجملة المستفهم عنه كالمنكر هنا، فالتقديم للاهتمام به،وهو من جزئيات العناية التي قال فيها عبد القاهر أن لا بد من بيان وجه العناية،وليس مفيدا للتخصيص في مثل هذا لظهور أن داعي التقديم هو تعيين المراد بالاستفهام فلا يتعين أن يكون لغرض غير ذلك.فمن جعل التقديم هنا مفيدا للاختصاص،أي انحصار إنكار اتخاذ الولي في غير الله كما مال إليه بعض شراح الكشاف فقد تكلف ما يشهد الاستعمال والذوق بخلافه،وكلام الكشاف بريء منه بل الحق أن التقديم هنا ليس إلا للاهتمام بشأن المقدم ليلي أداة الاستفهام فيعلم أن محل الإنكار هو اتخاذ غير الله وليا،وأما ما زاد على ذلك فلا التفات إليه من المتكلم.ولعل الذي حداهم إلى ذلك أن المفعول في هذه الآية ونظائرها مثل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر:64] {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام:40] هو كلمة {غير} المضافة إلى اسم الجلالة،وهي عامة في كل ما عدا الله، فكان الله ملحوظا من لفظ المفعول فكان إنكار اتخاذ الله وليا لأن إنكار اتخاذ غيره وليا مستلزما عدم إنكار اتخاذ الله وليا،لأن إنكار اتخاذ غير الله لا يبقى معه إلا اتخاذ الله وليا؛فكان هذا التركيب مستلزما معنى القصر وآثلا إليه وليس هو بدال على القصر مطابقة، ولا مفيدا لما يفيده القصر الإضافي من قلب اعتقاد أو إفراد أو تعيين، ألا ترى أنه لو كان المفعول خلاف كلمة"غير"لما صح اعتبار القصر، كما لو قلت:أزيدا أتتخذ صديقا،لم يكن مفيدا إلا إنكار اتخاذ زيد صديقا من غير التفات إلى اتخاذ غيره،وإنما ذلك لأنك تراه ليس أهلا للصداقة فلا فرق بينه وبين قولك:أتتخذ زيدا صديقا،إلا أنك أردت توجه الإنكار للمتخذ لا للاتخاذ اهتماما به.والفرق بينهما دقيق فأجد فيه نظرك.
ثم إن كان المشركون قد سألوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أصنامهم أولياء كان لتقديم المفعول نكتة اهتمام ثانية وهي كونه جوابا لكلام هو المقصود منه كما في قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]وقوله: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ـإلى قوله ـ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} [لأعراف:140].وأشار صاحب الكشاف في قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} الآتي في آخر السورة إلى أن تقديم {غَيْرَ اللَّه} على {أبغي} لكونه جوابا عن ندائهم له إلى عبادة آلهتهم.قال الطيبي:"لأن كل تقديم إما للاهتمام أو لجواب إنكار".
والولي:الناصر المدبر،ففيه معنى العلم والقدرة.يقال:تولى فلانا، أي اتخذه ناصرا.وسمي الحليف وليا لأن المقصود من الحلف النصرة.ولما كان الإله هو الذي

يرجع إليه عابده سمي وليا لذلك.ومن أسمائه تعالى الولي.
والفاطر:المبدع والخالق.وأصله من الفطر وهو الشق.وعن ابن عباس:"ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إلي أعرابيان في بئر، فقال أحدهما:"أنا فطرتها".وإجراء هذا الوصف على اسم الجلالة دون وصف آخر استدلال على عدم جدارة غيره لأن يتخذ وليا،فهو ناظر إلى قوله في أول السورة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].وليس يغني عنه قوله قبله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12]لأن ذلك استدلال عليهم بالعبودية لله وهذا استدلال بالافتقار إلى الله في أسباب بقائهم إلى أجل.
وقوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ} جملة في موضع الحال،أي يعطي الناس ما يأكلونه مما أخرج لهم من الأرض:من حبوب وثمار وكلأ وصيد.وهذا استدلال على المشركين بما هو مسلم عندهم،لأنهم يعترفون بأن الرازق هو الله وهو خالق المخلوقات وإنما جعلوا الآلهة الأخرى شركاء في استحقاق العبادة.وقد كثر الاحتجاج على المشركين في القرآن بمثل هذا كقوله تعالى :{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64,63]
وأما قوله: {وَلا يُطْعَمُ} بضم الياء وفتح العين فتكميل دال على الغنى المطلق كقوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:57].ولا أثر له في الاستدلال إذ ليس في آلهة العرب ما كانوا يطعمونه الطعام.ويجوز أن يراد التعريض بهم فيما يقدمونه إلى أصنامهم من القرابين وما يهرقون عليها من الدماء،إذ لا يخلو فعلهم من اعتقاد أن الأصنام تنعم بذلك.
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
استئناف مكرر لأسلوب الاستئناف الذي قبله.ومثار الاستئنافين واحد ولكن الغرض منهما نختلف، لأن ما قبله يحوم حول الاستدلال بدلالة العقل على إبطال الشرك،وهذا استدلال بدلالة الوحي الذي فيه الأمر باتباع دين الإسلام وما بني عليه اسم الإسلام من صرف الوجه إلى الله،كما قال في الآية الأخرى {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران:20]،فهذا إبطال لطعنهم في الدين الذي جاء به المسمى بالإسلام، وشعاره كلمة التوحيد المبطلة للإشراك.

وبني فعل {أمرت} للمفعول،لأن فاعل هذا الأمر معلوم بما تكرر من إسناد الوحي إلى الله.
ومعنى {أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أنه أول من يتصف بالإسلام الذي بعثه الله به،فهو الإسلام الخاص الذي جاء به القرآن، وهو زائد على ما آمن به الرسل من قبل،بما فيه من وضوح البيان والسماحة،فلا ينافي أن بعض الرسل وصفوا بأنهم مسلمون،كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. وقد تقدم بيان ذلك عند ذكر تلك الآية في سورة البقرة[132].
ويجوز أن يكون المراد أول من أسلم ممن دعوا إلى الإسلام.ويجوز أن يكون الأول كناية عن الأقوى والأمكن في الإسلام، لأن الأول في كل عمل هو الأحرص عليه والأعلق به،فالأولية تستلزم الحرص والقوة في العمل، كما حكى الله تعالى عن موسى قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143].فإن كونه أولهم معلوم وإنما أراد:أني الآن بعد الصعقة أقوى الناس إيمانا.وفي الحديث نحن الآخرون الأولون يوم القيامة".وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} في سورة البقرة[41].
والمقصود من هذا على جميع الوجوه تأييس المشركين من عوده إلى دينهم لأنهم ربما كانوا إذا رأوا منه رحمة بهم ولينا في القول طمعوا في رجوعه إلى دينهم وقالوا إنه دين آبائه.
وقوله: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} عطف على قوله: {قل} ،أي قل لهم ذلك لييأسوا.والكلام نهي من الله لرسوله مقصود منه تأكيد الأمر بالإسلام،لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده،فذكر النهي عن الضد بعد ذلك تأكيد له,وهذا التأكيد لتقطع جرثومة الشرك من هذا الدين.
و {من} تبعيضية،فمعنى {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي من جملة الذين يشركون،ويحتمل أن النهي عن الانتماء إلى المشركين،أي هو أمر بالبراءة منهم فتكون {من} اتصالية ويكون {المشركين} بالمعنى اللقبي،أي الذين اشتهروا بهذا الاسم،أي لا يكن منك شيء فيه صلة بالمشركين، كقول النابغة:
فإني لست منك ولست مني
والتأييس على هذا الوجه أشد وأقوى.

وقد يؤخذ من هذه الآية استدلال للمأثور عن الأشعري:أن الإيمان بالله وحده ليس مما يجب بدليل العقل بل تتوقف المؤاخذة به على بعثة الرسول،لأن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينكر أن يتخذ غير الله وليا لأنه فاطر السماوات والأرض،ثم أمره أن يقول: {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} ثم أمره بما يدل على المؤاخذة بقوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ـ إلى قوله ـ ٍفَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام:16].
[16,15] {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}
هذا استئناف مكرر لما قبله،وهو تدرج في الغرض المشترك بينها من أن الشرك بالله متوعد صاحبه بالعذاب وموعود تاركه بالرحمة.فقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام:14]الآية رفض للشرك بالدليل العقلي،وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام:14]الآية،رفض للشرك امتثالا لأمر الله وجلاله.
وقوله هنا{قُلْ إِنِّي أَخَافُ}الآية تجنب للشرك خوفا من العقاب وطمعا في الرحمة.وقد جاءت مترتبة على ترتيبها في نفس الأمر.
وفهم من قوله: {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} أن الآمر له بأن يكون أول من أسلم والناهي عن كونه من المشركين هو الله تعالى.وفي العدول عن اسم الجلالة إلى قوله: {ربي} إيماء إلى أن عصيانه أمر قبيح لأنه ربه فكيف يعصيه.
وأضيف العذاب إلى {يَوْمٍ عَظِيمٍ} تهويلا له لأن في معتاد العرب أن يطلق اليوم على يوم نصر فريق وانهزام فريق من المحاربين،فيكون اليوم نكالا على المنهزمين،إذ يكثر فيهم القتل والأسر ويسام المغلوب سوء العذاب،فذكر {يوم} يثير من الخيال مخاوف مألوفة،ولذلك قال الله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:189]ولم يقل عذاب الظلة أنه كان عذابا عظيما.وسيأتي بيان ذلك مفصلا عند قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} في سورة التغابن[9]،وبهذا الاعتبار حسن جعل إضافة العذاب إلى اليوم العظيم كناية عن عظم ذلك العذاب،لأن عظمة اليوم العظيم تستلزم عظم ما يقع فيه عرفا.
وقوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} جملة من شرط وجزاء وقعت موقع الصفة لـ {عذاب} .

و {يُصْرَفْ} مبني للمجهول في قراءة الأكثر،على أنه رافع لضمير العذاب أو لضمير {من} على النيابة عن الفاعل.والضمير المجرور بـ"عن"عائد إلى {من} أي يصرف العذاب عنه،أو عائد إلى العذاب،أي من يصرف هو عن العذاب،وعلى عكس هذا العود يكون عود الضمير المستتر في قوله: {يُصْرَفْ} .
وقرأه حمزة،والكسائي،وأبو بكر عن عاصم،ويعقوب،وخلف {يَصْرِفْ} بالبناء للفاعل على أنه رافع لضمير{ربي}على الفاعلية.
أما الضمير المستتر في {رحمه} فهو عائد إلى {ربي} ،والمنصوب عائد إلى {من} على كلتا القراءتين.
ومعنى وصف العذاب بمضمون جملة الشرط والجزاء، أي من وفقه الله لتجنب أسباب ذلك العذاب فهو قد قدر الله له الرحمة ويسر له أسبابها.
والمقصود من هذا الكلام إثبات مقابل قوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} كأنه قال:"أرجو إن أطعته أن يرحمني ربي"،لأن من صرف عنه العذاب ثبتت له الرحمة.فجاء في إفادة هذا المعنى بطريقة المذهب الكلامي.وهو ذكر الدليل ليعلم المدلول.وهذا ضرب من الكناية وأسلوب بديع بحيث يدخل المحكوم له في الحكم بعنوان كونه فردا من أفراد العموم الذين ثبت لهم الحكم.
ولذلك عقبه بقوله: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} والإشارة موجهة إلى الصرف المأخوذ من قوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} أو إلى المذكور.وإنما كان الصرف عن العذاب فوزا لأنه إذا صرف عن العذاب في ذلك اليوم فقد دخل في النعيم في ذلك اليوم.قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].و {المبين} اسم فاعل من أبان بمعنى بان.
[17] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
عطف على الجمل المفتتحة بفعل {قُلْ} [الأنعام:15]فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا مؤذن بأن المشركين خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم أو عرضوا له بعزمهم على إصابته بشر وأذى فخاطبه الله بما يثبت نفسه وما يؤيس أعداءه من أن يستزلوه.وهذا كما حكي عن

إبراهيم عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} [الأنعام:81]،ومن وراء ذلك إثبات أن المتصرف المطلق في أحوال الموجودات هو الله تعالى بعد أن أثبت بالجمل السابقة أنه محدث الموجودات كلها في السماء والأرض،فجعل ذلك في أسلوب تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم على عدم الخشية من بأس المشركين وتهديدهم ووعيدهم،ووعده بحصول الخير له من أثر رضى ربه وحده عنه،وتحدي المشركين بأنهم لا يستطيعون إضراره ولا يجلبون نفعه.ويحصل منه رد على المشركين الذين كانوا إذا ذكروا بأن الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن أقروا بذلك،ويزعمون أن آلهتهم تشفع عند الله وأنها تجلب الخير وتدفع الشر،فلما أبطلت الآيات السابقة استحقاق الأصنام الإلهية لأنها لم تخلق شيئا،وأوجبت عبادة المستحق الإلهية بحق، أبطلت هذه الآية استحقاقهم العبادة لأنهم لا يملكون للناس ضرا ولا نفعا،كما قال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة:76]وقال عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:73,72].
وقد هيأت الجمل السابقة موقعا لهاته الجملة،لأنه إذا تقرر أن خالق الموجودات هو الله وحده لزم من ذلك أنه مقدر أحوالهم وأعمالهم،لأن كون ذلك في دائرة قدرته أولى وأحق بعد كون معروضات تلك العوارض مخلوقة له.فالمعروضات العارضة للموجودات حاصلة بتقدير الله لأنه تعالى مقدر أسبابها،واضع نظام حصولها وتحصيلها،وخالق وسائل الدواعي النفسانية إليها أو الصوارف عنها.
والمس حقيقته وضع اليد على شيء.وقد يكون مباشرة وقد يكون بآلة، ويستعمل مجازا في إيصال شيء إلى شيء فيستعار إلى معنى الإيصال فيكثر أن يذكر معه ما هو مستعار للآلة.ويدخل عليه حرف الآلة وهو الباء كما هنا،فتكون فيه استعارتان تبعيتان إحداهما في الفعل والأخرى في معنى الحرف،كما في قوله: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف:73].فالمعنى:وإن يصبك الله بضر أو وإن ينلك من الله ضر.
والضر بضم الضاد هو الحال الذي يؤلم الانسان،وهو من الشر،وهو المنافر للإنسان.ويقابله النفع، وهو من الخير،وهو الملائم.والمعنى إن يقدر الله لك الضر فهلا يستطيع أحد كشفه عنك إلا هو إن شاء ذلك، لأن مقدر انه مربوطة ومحوطة بنواميس ونظم لا تصل إلى تحويلها إلا قدرة خالقها.

وقابل قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} بقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} مقابلة بالأعم،لأن الخير يشمل النفع وهو الملائم ويشمل السلامة من المنافر، للإشارة إلى أن المراد من الضر ما هو أعم،فكأنه قيل:إن يمسسك بضر وشر وإن يمسسك بنفع وخير، ففي الآية احتباك.وقال ابن عطية:"ناب الضر في هذه الآية مناب الشر والشر أعم وهو مقابل الخير.وهو من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة، فإن من باب التكلف أن يكون الشيء مقترنا بالذي يختص به ونظر هذا بقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:119,118].اهـ.
وقوله: {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:19]جعل جوابا للشرط لأنه علة الجواب المحذوف والجواب المذكور قبله، إذ التقدير:وإن يمسسك بخير فلا مانع له لأنه على كل شيء قدير في الضر والنفع.وقد جعل هذا العموم تمهيدا لقوله بعده: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18].
[18] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}
هذه الجملة معطوفة على جملة {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} [الأنعام:17]الآية، والمناسبة بينهما أن مضمون كلتيهما يبطل استحقاق الأصنام العبادة.فالآية الأولى أبطلت ذلك بنفي أن يكون للأصنام تصرف في أحوال المخلوقات،وهذه الآية أبطلت أن يكون غير الله قاهرا على أحد أو خبيرا أو عالما بإعطاء كل مخلوق ما يناسبه،ولا جرم أن الإله تجب له القدرة والعلم، وهما جماع صفات الكمال، كما تجب له صفات الأفعال من نفع وضر وإحياء وإماتة،وهي تعلقات للقدرة أطلق عليها اسم الصفات عند غير الأشعري نظرا للعرف،وأدخلها الأشعري في صفة القدرة لأنها تعلقات لها،وهو التحقيق.
ولذلك تتنزل هذه الآية من التي قبلها منزلة التعميم بعد التخصيص لأن التي قبلها ذكرت كمال تصرفه في المخلوقات وجاءت به في قالب تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم كما قدمنا،وهذه الآية أوعت قدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء،وذلك أصل جميع الفعل والصنع.
والقاهر الغالب المكره الذي لا ينفلت من قدرته من عدي إليه فعل القهر.
وقد أفاد تعريف الجزأين القصر،أي لا قاهر إلا هو،لأن قهر الله تعالى هو القهر الحقيقي الذي لا يجد المقهور منه ملاذا،لأنه قهر بأسباب لا يستطيع أحد خلق ما

يدافعها.ومما يشاهد منها دوما النوم وكذلك الموت.سبحان من قهر العباد بالموت.
و {فوق} ظرف متعلق بـ {القاهر} ،وهو استعارة تمثيلية لحالة القاهر بأنه كالذي يأخذ المغلوب من أعلاه فلا يجد معالجة ولا حراكا.وهو تمثيل بديع ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127].
ولا يفهم من ذلك جهة هي في علو كما قد يتوهم، فلا تعد هذه الآية من المتشابهات.
والعباد:هم المخلوقون من العقلاء، فلا يقال للدواب عباد الله،وهو في الأصل جمع عبد لكن الاستعمال خصه بالمخلوقات،وخص العبيد بجمع عبد بمعنى المملوك.
ومعنى القهر فوق العباد أنه خالق ما لا يدخل تحت قدرهم بحيث يوجد ما لا يريدون وجوده كالموت،ويمنع ما يريدون تحصيله كالولد للعقيم والجهل بكثير من الأشياء،بحيث إن كل أحد يجد في نفسه أمورا يستطيع فعلها وأمورا لا يستطيع فعلها وأمورا يفعلها تارة ولا يستطيع فعلها تارة، كالمشي لمن خدرت رجله؛فيعلم كل أحد أن الله هو خالق القدر والاستطاعات لأنه قد يمنعها،ولأنه يخلق ما يخرج عن مقدور البشر،ثم يقيس العقل عوالم الغيب على عالم الشهادة.وقد خلق الله العناصر والقوى وسلط بعضها على بعض فلا تستطيع المدافعة إلا ما خولها الله.
والحكيم:المحكم المتقن للمصنوعات،فعيل بمعنى مفعل،وقد تقدم في قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في سورة البقرة [209]وفي مواضع كثيرة.
والخبير:مبالغة في اسم الفاعل من "خبر"المتعدي، بمعنى"علم"،يقال:خبر الأمر،إذا علمه وجربه.وقد قيل:إنه مشتق من الخبر لأن الشيء إذا علم أمكن الإخبار به.
[19] {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}
انتقال من الاستدلال على إثبات ما يليق بالله من الصفات،إلى إثبات صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والى جعل الله حكما بينه وبين مكذبيه،فالجملة استئناف ابتدائي، ومناسبة

الانتقال ظاهرة.
روى الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي:أن رؤساء مكة قالوا:"يا محمد ما نرى أحدا مصدقك بما تقول،وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك فأرنا من يشهد أنك رسول الله".فنزلت هذه الآية.
وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بينته عند قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام:12]ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقي ما يرد بعد الاستفهام.
و"أي"اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام،والمضاف إليه هنا هو {شيء} المفسر بأنه من نوع الشهادة.
و {شيء} اسم عام من الأجناس العالية ذات العموم الكثير،قيل:هو الموجود،وقيل:هو ما يعلم ويصح وجوده.والأظهر في تعريفه أنه الأمر الذي يعلم.ويجري عليه الإخبار سواء كان موجودا أو صفة موجود أو معنى يتعقل ويتحاور فيه،ومنه قوله تعالى: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [قّ:3,2]
وقد تقدم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة"شيء"ومواقع ضعفها عند قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} في سورة البقرة[155].
و {أكبر} هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات،وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى،كقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]وقوله : {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} .وقد تقدم في سورة البقرة[217].
وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها.
وقوله: {شهادة} تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ما صدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة.فالمعنى:أية شهادة هي أصدق الشهادات، فالمستفهم عنه بـ {أي} فرد من أفراد الشهادات يطلب علم أنه أصدق أفراد جنسه.
والشهادة تقدم بيانها عند قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} في سورة المائدة.
ولما كانت شهادة الله على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم غير معلومة للمخاطبين المكذبين بأنه رسول الله،صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا

الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:8]أي أن تشهد الله على كذب الزوج،أي أن تحلف على ذلك بسم الله، فإن لفظ"أشهد الله"من صيغ القسم إلا أنه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازا مرسلا،وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم،وبذلك يظهر موقع قوله: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} ،أي أشهده عليكم.وقريب منه ما حكاه الله عن هود: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} [هود:54].
وقوله: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} جواب للسؤال، ولذلك فصلت جملته المصدرة بـ {قل}. وهذا جواب أمر به المأمور بالسؤال على معنى أن يسأل ثم يبادر هو بالجواب لكون المراد بالسؤال التقرير وكون الجواب مما لا يسع المقرر إنكاره،على نحو ما بيناه في قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12].
ووقع قول: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} جوابا على لسانهم لأنه مرتب على السؤال وهو المقصود منه فالتقدير:قل شهادة الله أكبر شهادة، فالله شهيد بيني وبينكم، فحذف المرتب عليه لدلالة المرتب إيجازا كما هو مقتضى جزالة أسلوب الإلجاء والجدل.والمعنى:أني أشهد الله الذي شهادته أعظم شهادة أنني أبلغتكم أنه لا يرضى بأن تشركوا به وأنذرتكم.
وفي هذه الآية ما يقتضي صحة إطلاق اسم"شيء"على الله تعالى لأن قوله: {اللَّهُ شَهِيدٌ} وقع جوابا عن قوله: {أَيُّ شَيْءٍ} فاقتضى إطلاق اسم"شيء"خبرا عن الله تعالى وإن لم يدل صريحا.وعليه فلو أطلقه المؤمن على الله تعالى لما كان في إطلاقه تجاوز للأدب ولا إثم.وهذا قول الأشعرية خلافا لجهم بن صفوان وأصحابه.
ومعنى {شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أنه لما لم تنفعهم الآيات والنذر فيرجعوا عن التكذيب والمكابرة لم يبق إلا أن يكلهم إلى حساب الله تعالى.والمقصود:إنذارهم بعذاب الله في الدنيا والآخرة.ووجه ذكر {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أن الله شهيد له،كما هو مقتضى السياق.فمعنى البين أن الله شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق لرد إنكارهم رسالته كما هو شأن الشاهد في الخصومات.
وقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ} عطف على جملة {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} ،وهو الأهم فيما أقسم عليه من إثبات الرسالة.وينطوي في ذلك جميع ما أبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما أقامه من الدلائل.فعطف {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ} من عطف الخاص على العام،

وحذف فاعل الوحي وبني فعله للمجهول للعلم بالفاعل الذي أوحاه إليه وهو الله تعالى.
والإشارة بـ {هَذَا الْقُرْآنُ} إلى ما هو في ذهن المتكلم والسامع.وعطف البيان بعد اسم الإشارة بين المقصود بالإشارة.
واقتصر على جعل علة نزول القرآن للنذارة دون ذكر البشارة لأن المخاطبين في حال مكابرتهم التي هي مقام الكلام لا يناسبهم إلا الإنذار،فغاية القرآن بالنسبة إلى حالهم هي الإنذار،ولذلك قال: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} مصرحا بضمير المخاطبين.ولم يقل:لأنذر به، وهم المقصود ابتداء من هذا الخطاب وإن كان المعطوف على ضميرهم ينذر ويبشر.على أن لام العلة لا تؤذن بانحصار العلة في مدخولها إذ قد تكون للفعل المعدى بها علل كثيرة.
{وَمَنْ بَلَغَ} عطف على ضمير المخاطبين، أي ولأنذر به من بلغه القرآن وسمعه ولو لم أشافهه بالدعوة، فحذف ضمير النصب الرابط للصلة لأن حذفه كثير حسن، كما قال أبو علي الفارسي.
وعموم {من} وصلتها يشمل كل من يبلغه القرآن في جميع العصور.
{أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}
جملة مستأنفة من جملة القول المأمور بأن يقوله لهم.فهي استئناف بعد جملة {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} .خص هذا بالذكر لأن نفي الشريك لله في الإلهية هو أصل الدعوة الإسلامية فبعد أن قررهم أن شهادة الله أكبر شهادة وأشهد الله على نفسه فيما بلغ،وعليهم فيما أعرضوا وكابروا؛استأنف استفهاما على طريقة الإنكار استقصاء في الإعذار لهم فقال:أتشهدون أنتم على ما أصررتم عليه أن مع الله آلهة أخرى كما شهدت أنا على ما دعوتكم إليه،والمقرر عليه هنا أمر ينكرونه بدلالة المقام.
وإنما جعل الاستفهام المستعمل في الإنكار عن الخبر الموكد بـ"إن"ولام الابتداء ليفيد أن شهادتهم هذه مما لا يكاد يصدق السامعون أنهم يشهدونها لاستبعاد صدورها من عقلاء،فيحتاج المخبر عنهم بها إلى تأكيد خبره بمؤكدين فيقول:إنهم ليشهدون أن مع الله آلهة أخرى،فهنالك يحتاج مخاطبهم بالإنكار إلى إدخال أداة الاستفهام الإنكاري على الجملة التي من شأنها أن يحكى بها خبرهم،فيفيد مثل هذا التركيب إنكارين:أحدهما صريح بأداة الانكار،والآخر كنائي بلازم تأكيد الإخبار لغرابة هذا الزعم بحيث يشك السامع في صدوره منهم.

ومعنى {لتشهدون} لتدعونا دعوى تحققونها تحقيقا يشبه الشهادة على أمر محقق الوقوع،فإطلاق {تشهدون} مشاكلة لقوله: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} .
والآلهة جمع إله،وأجري عليه الوصف بالتأنيث تنبيها على أنها لا تعقل فإن جمع غير العاقل يكون وصفه كوصف الواحدة المؤنثة.
وقوله: {قُلْ لا أَشْهَدُ} جواب للاستفهام الذي في قوله: {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} لأنه بتقدير:قل أإنكم، ووقعت المبادرة بالجواب بتبرئ المتكلم من أن يشهد بذلك لأن جواب المخاطبين عن هذا السؤال معلوم من حالهم أنهم مقرون به فأعرض عنهم بعد سؤالهم كأنه يقول:دعنا من شهادتكم وخذوا شهادتي فإني لا أشهد بذلك.ونظير هذا قوله تعالى : {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام:15].
وجملة {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} بيان لجملة {قُلْ لا أَشْهَدُ} فلذلك فصلت لأنها بمنزلة عطف البيان، لأن معنى لا أشهد بأن معه آلهة هو معنى أنه إله واحد، وأعيد فعل القول لتأكيد التبليغ.
وكلمة {إنما} أفادت الحصر،أي هو المخصوص بالوحدانية.ثم بالغ في إثبات ذلك بالتبرئ من ضده بقوله: {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}. وفيه قطع للمجادلة معهم على طريقة المتاركة.
و"ما"في قوله: {مِمَّا تُشْرِكُونَ} يجوز كونها مصدرية، أي من إشراككم.ويجوز كونها موصولة،وهو الأظهر،أي من أصنامكم التي تشركون بها،وفيه حذف العائد المجرور لأن حرف الجر المحذوف مع العائد متعين تقديره بلا لبس،وذلك هو ضابط جواز حذف العائد المجرور،كقوله تعالى: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان:60]أي بتعظيمه،وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي بالجهر به.وظاهر كلام "التسهيل"أن هذا ممنوع،وهو غفلة من مؤلفه اغتر بها بعض شراح كتبه.
[20] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
جملة مستأنفة انتقل بها أسلوب الكلام من مخاطبة الله المشركين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إخبار عام كسائر أخبار القرآن.أظهر الله دليلا على صدق الرسول فيما

جاء به بعد شهادة الله تعالى التي في قوله: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19]، فإنه لما جاء ذكر القرآن هنالك وقع هذا الانتقال للاستشهاد على صدق القرآن المتضمن صدق من جاء به،لأنه هو الآية المعجزة العامة الدائمة.وقد علمت آنفا أن الواحدي ذكر أن رؤساء المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم قد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك إلى آخره؛فإذا كان كذلك كان التعرض لأهل الكتاب هنا إبطالا لما قالوه أنه ليس عندهم ذكر النبي ولا صفته،أي فهم وأنتم سواء في جحد الحق،وإن لم تجعل الآية مشيرة إلى ما ذكر في أسباب النزول تعين أن تجعل المراد بـ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} بعض أهل الكتاب،وهم المنصفون منهم مثل عبدالله بن سلام ومخيريق،فقد كان المشركون يقدرون أهل الكتاب ويثقون بعلمهم وربما اتبع بعض المشركين دين أهل الكتاب وأقلعوا عن الشرك مثل ورقة بن نوفل، فلذلك كانت شهادتهم في معرفة صحة الدين موثوقا بها عندهم إذا أدوها ولم يكتموها.وفيه تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس.
فالضمير المنصوب في قوله: {يعرفونه} عائد إلى القرآن الذي في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ} [الأنعام:19].والمراد أنهم يعرفون أنه من عند الله ويعرفون ما تضمنه مما أخبرت به كتبهم، ومن ذلك رسالة من جاء به،وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لما في كتبهم من البشارة به.والمراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى كقوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد:43].
والتشبيه في قوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} تشبيه المعرفة بالمعرفة.فوجه الشبه هو التحقق والجزم بأنه هو الكتاب الموعود به،وإنما جعلت المعرفة المشبه بها هي معرفة أبنائهم لأن المرء لا يضل عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه وأنه هو ابنه المعروف، وذلك لكثرة ملازمة الأبناء آباءهم عرفا.
وقيل:إن ضمير {يعرفونه} عائد إلى التوحيد المأخوذ من قوله: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنعام:19]، وهذا بعيد.وقيل:الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يجر له ذكر فيما تقدم صريحا ولا تأويلا.ويقتضي أن يكون المخاطب غير الرسول صلى الله عليه وسلم وهو غير مناسب على أن في عوده إلى القرآن غنية عن ذلك مع زيادة إثباته بالحجة وهي القرآن.
وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} استئناف لزيادة إيضاح تصلب المشركين وإصرارهم، فهم المراد بالذين خسروا أنفسهم كما أريدوا بنظيره السابق الواقع

بعد قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [النساء:87].فهذا من التكرير للتسجيل وإقامة الحجة وقطع المعذرة،وأنهم مصرون على الكفر حتى ولو شهد بصدق الرسول أهل الكتاب، كقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الاحقاف:10}.وقيل:أريد بهم أهل الكتاب، أي الذين كتموا الشهادة، فيكون {الَّذِينَ خَسِرُوا} بدلا من {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} .
[21] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}
عطف على جملة {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام:20].فالمراد بهم المشركون مثل قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}. وقد تقدم نظيره في سورة البقرة.والمراد بافترائهم عقيدة الشرك في الجاهلية بما فيها من تكاذيب، وبتكذيبهم الآيات تكذيبهم القرآن بعد البعثة.وقد جعل الآتي بواحدة من هاتين الخصلتين أظلم الناس فكيف بمن جمعوا بينهما.
وجملة {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} تذييل،فلذلك فصلت،أي إذا تحقق أنهم لا أظلم منهم فهم غير مفلحين، لأنه لا يفلح الظالمون فكيف بمن بلغ ظلمه النهاية،فاستغنى بذكر العلة عن ذكر المعلول.
وموقع"إن"في هذا المقام يفيد معنى التعليل للجملة المحذوفة، كما تقرر في كلام عبد القاهر.وموقع ضمير الشأن معها أفاد الاهتمام بهذا الخبر اهتمام تحقيق لتقع الجملة الواقعة تفسيرا له في نفس السامع موقع الرسوخ.
والافتراء الكذب المتعمد.وقوله"كذبا"مصدر مؤكد له،وهو أعم من الافتراء.والتأكيد يحصل بالأعم، كما قدمناه في قوله تعالى :{وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة المائدة[103]،وقد نفى فلاحهم فعم كل فلاح في الدنيا والآخرة، فإن الفلاح المعتد به في نظر الدين في الدنيا هو الإيمان والعمل،وهو سبب فلاح الآخرة.
[22ـ24] {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ

وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
عطف على جملة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الأنعام:21]، أو على جملة {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]،فإن مضمون هذه الجمل المعطوفة له مناسبة بمضمون جملة {وَمَنْ أَظْلَمُ} ومضمون جملة {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ،لأن مضمون هذه من آثار الظلم وآثار عدم الفلاح، ولأن مضمون الآية جامع للتهديد على الشرك والتكذيب ولإثبات الحشر ولإبطال الشرك.
وانتصب {يَوْمَ} على الظرفية،وعامله محذوف،والأظهر أنه يقدر مما تدل عليه المعطوفات وهي:نقول، أو قالوا،أو كذبوا،أو ضل،وكلها صالحة للدلالة على تقدير المحذوف، وليست تلك الأفعال متعلقا بها الظرف بل هي دلالة على المتعلق المحذوف،لأن المقصود تهويل ما يحصل لهم يوم الحشر من الفتنة والاضطراب الناشئين عن قول الله تعالى لهم: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} ، وتصدير تلك الحالة المهولة.
وقدر في الكشاف الجواب مما دل عليه مجموع الحكاية.وتقديره:كان ما كان،وأن حذفه مقصود به الإبهام الذي هو داخل في التخويف.وقد سلك في هذا ما اعتاده أئمة البلاغة في تقدير المحذوفات من الأجوبة والمتعلقات.والأحسن عندي أنه إنما يصار إلى ذلك عند عدم الدليل في الكلام على تعيين المحذوف وإلا فقد يكون التخويف والتهويل بالتفصيل أشد منه بالإبهام إذا كان كل جزء من التفصيل حاصلا به تخويف.وقدر بعض المفسرين:اذكر يوم نحشرهم.ولا نكتة فيه.وهنالك تقديرات أخرى لبعضهم لا ينبغي أن يعرج عليها.
والضمير المنصوب في {نحشرهم} يعود إلى {منِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الأنعام:21]أو إلى {الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]إذ المقصود بذلك المشركون، فيؤذن بمشركين ومشرك بهم.وللتنبيه على أن الضمير عائد إلى المشركين وأصنامهم جيء بقوله: {جميعا} ليدل على قصد الشمول،فإن شمول الضمير لجميع المشركين لا يتردد فيه السامع حتى يحتاج إلى تأكيده باسم الإحاطة والشمول،فتعين أن ذكر {جميعا} قصد منه التنبيه.على أن الضمير عائد إلى المشركين وأصنامهم،فيكون نظير قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} [يونس:28]وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان:17].وانتصب{جميعا}هنا على الحال من الضمير.

والمقصود من حشر أصنامهم معهم أن تظهر مذلة الأصنام وعدم جدواها كما يحشر الغالب أسرى قبيلة ومعهم من كانوا ينتصرون به،لأنهم لو كانوا غائبين لظنوا أنهم لو حضروا لشفعوا،أو أنهم شغلوا عنهم بما هم فيه من الجلالة والنعيم،فإن الأسرى كانوا قد يأملون حضور شفائعهم أو من يفاديهم.قال النابغة:
يأملن رحلة نصر وابن سيار
وعطف {نقول} بـ{ثم}لأن القول متأخر عن زمن حشرهم بمهلة لأن حصة انتظار المجرم ما سيحل به أشد عليه،ولأن في إهمال الاشتغال بهم تحقيرا لهم.وتفيد{ثم}مع ذلك الترتيب الرتبي.
وصرح بـ {الَّذِينَ أَشْرَكُوا} لأنهم بعض ما شمله الضمير،أي ثم نقول للذين أشركوا من بين ذلك الجمع.
وأصل السؤال بـ {أين} أنه استفهام عن المكان الذي يحل فيه المسند اليه،نحو:أين بيتك،وأين تذهبون.وقد يسأل بها عن الشيء الذي لا مكان له،فيراد الاستفهام عن سبب عدمه، كقول أبي سعيد الخدري لمروان بن الحكم حين خرج يوم العيد فقصد المنبر قبل الصلاة:"أين تقديم الصلاة".وقد يسأل بـ"أين"عن عمل أحد كان مرجوا منه,فإذا حضر وقته ولم يحصل منه يسأل عنه بـ "أين",كأن السائل يبحث عن مكانه تنزيلا له منزلة الغائب المجهول مكانه؛فالسؤال بـ"أين"هنا عن الشركاء المزعومين وهم حاضرون كما دلت عليه آيات أخرى.قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات:23,22]
والاستفهام توبيخي عما كان المشركون يزعمونه من أنها تشفع لهم عند الله،أو أنها تنصرهم عند الحاجة، فلما رأوها لا غناء لها قيل لهم:أين شركاؤكم،أي أين عملهم فكأنهم غيب عنهم.
وأضيف الشركاء إلى ضمير المخاطبين إضافة اختصاص لأنهم الذين زعموا لهم الشركة مع الله في الإلهية فلم يكونوا شركاء إلا في اعتقاد المشركين،فلذلك قيل:{شركاؤكم}كقول أحد أبطال العرب لعمرو بن معد يكرب لما حدث عمرو في جمع أنه قتله،وكان هو حاضرا في ذلك الجمع، فقال له:"لا أبا ثور قتيلك يسمع"أي المزعوم أنه قتيلك.

ووصفوا بـ {الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} تكذيبا لهم؛وحذف المفعول الثاني لـ {تزعمون} ليعم كل ما كانوا يزعمونه لهم من الإلهية والنصر والشفاعة؛أما المفعول الأول فحذف على طريقة حذف عائد الصلة المنصوب.
والزعم:ظن يميل إلى الكذب أو الخطأ أو لغرابته يتهم صاحبه، فيقال:زعم،بمعنى أن عهدة الخبر عليه لا على الناقل،وتقدم عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية في سورة النساء[60].وتأتي زيادة بيان لمعنى الزعم عند قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} في سورة التغابن[7].
وقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} عطف على جملة {ثُمَّ نَقُولُ} و"ثم"للترتيب الرتبي وهو الانتقال من خبر إلى خبر أعظم منه.
والفتنة أصلها الاختبار،من قولهم:فتن الذهب إذا اختبر خلوصه من الغلث.وتطلق على اضطراب الرأي من حصول خوف لا يصبر على مثله،لأن مثل ذلك يدل على مقدار ثبات من يناله،فقد يكون ذلك في حالة العيش؛وقد يكون في البغض والحب؛وقد يكون في الاعتقاد والتفكير وارتباك الأمور.وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ}في سورة البقرة[102].
و {فتنتهم} هنا استثني منها {أَِنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ،فذلك القول إما أن يكون من نوع ما استثني هو منه المحذوف في تفريغ الاستثناء،فيكون المستثنى منه من الأقوال الموصوفة بأنها فتنة.فالتقدير:لم يكن لهم قول هو فتنة لهم إلا قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .
وإما أن يكون القول المستثنى دالا على فتنتهم،أي على أنهم في فتنة حين قالوه.وأياما كان فقولهم:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}متضمن أنهم مفتونون حينئذ.
وعلى ذلك تحتمل الفتنة أن تكون بمعنى اضطراب الرأي والحيرة في الأمر،ويكون في الكلام إيجاز.والتقدير:فافتتنوا في ماذا يجيبون،فكان جوابهم أن قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فعدل عن المقدر إلى هذا التركيب لأنه قد علم أن جوابهم ذلك هو فتنتهم لأنه أثرها ومظهرها.
ويحتمل أن يراد بالفتنة جوابهم الكاذب لأنه يفضي إلى فتنة صاحبه،أي تجريب حالة نفسه.

ويحتمل أن تكون أطلقت على معناها الأصلي وهو الاختبار.والمراد به السؤال لأن السؤال اختبار عما عند المسؤول من العلم،أو من الصدق وضده، ويتعين حينئذ تقدير مضاف،أي لم يكن جواب فتنتهم،أي سؤالهم عن حال إشراكهم إلا أن قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .
وقرأ الجمهور {لَمْ تَكُنْ} بتاء تأنيث حرف المضارعة.وقرأه حمزة، والكسائي،ويعقوب بياء المضارعة للغائبة باعتبار أن {قالوا} هو اسم"كان".وقرأ الجمهور {فِتْنَتَهُمْ} بالنصب على أنه خبر"كان"، فتكون"كان"ناقصة واسمها {إِلَّا أَنْ قَالُوا} وإنما أخر عن الخبر لأنه محصور.
وقرأه ابن كثير،وابن عامر،وحفص عن عاصم بالرفع على أنه اسم"كان"و {أَنْ قَالُوا} خبر"كان"، فتجعل"كان"تامة.والمعنى لم توجد فتنة لهم إلا قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، أي لم تقع فتنتهم إلا أن نفوا أنهم أشركوا.
ووجه اتصال الفعل بعلامة مضارعة للمؤنث على قراءة نصب {فتنتهم} هو أن فاعله مؤنث تقديرا، لأن القول المنسبك من"أن"وصلتها من جملة الفتنة على أحد التأويلين.قال أبو علي الفارسي:وذلك نظير التأنيث في اسم العدد في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَ} [الأنعام:160]،لأن الأمثال لما كانت في معنى الحسنات أنث اسم عددها.
وقرأ الجمهور {ربنا} بالجر على الصفة لاسم الجلالة.وقرأه حمزة،والكسائي،وخلف ـ بالنصب على النداء ـ بحذف حرفه.
وذكرهم الرب بالإضافة إلى ضميرهم مبالغة في التنصل من الشرك،أي لا رب لنا غيره.وقد كذبوا وحلفوا على الكذب جريا على سننهم الذي كانوا عليه في الحياة،لأن المرء يحشر على ما عاش عليه، ولأن الحيرة والدهش الذي أصابهم خيل إليهم أنهم يموهون على الله تعالى فيتخلصون من العقاب.ولا مانع من صدور الكذب مع ظهور الحقيقة يومئذ،لأن الحقائق تظهر لهم وهم يحسبون أن غيرهم لا تظهر له،ولأن هذا إخبار منهم عن أمر غائب عن ذلك اليوم فإنهم أخبروا عن أمورهم في الدنيا.
وفي صحيح البخاري:أن رجلا قال لابن عباس:"إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، فذكر منها قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:42]وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا

كُنَّا مُشْرِكِينَ} .فقد كتموا في هذه الآية".فقال ابن عباس:"إن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فيقول المشركون تعالوا نقل:ما كنا مشركين،فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثا".
وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} جعل حالهم المتحدث عنه بمنزلة المشاهد،لصدوره عمن لا خلاف في أخباره،فلذلك أمر سامعه أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدل على النظر إليه كأنه مشاهد حاضر.
والأظهر أن{كيف}لمجرد الحال غير دال على الاستفهام.والنظر إلى الحالة هو النظر إلى أصحابها حين تكيفهم بها.وقد تقدمت له نظائر منها قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة النساء[50].وجعل كثير من المفسرين النظر هنا نظرا قلبيا فأنه يجيء كما يجيء فعل الرؤية فيكون معلقا عن العمل بالاستفهام،أي تأمل جواب قول القائل:"كيف يفترون على الله الكذب؟"تجده جوابا واضحا بينا.
ولأجل هذ التحقق من خبر حشرهم عبر عن كذبهم الذي يحصل يوم الحشر بصيغة الماضي في قوله: {كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}. وكذلك قوله:{وضل عنهم ما كانوا يفترون}.
وفعل"كذب"يعدى بحرف"على"إلى من يخبر وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ عنه الكاذب كذبا مثل تعديته في هذه الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من كذب علي معتمدا فليتبوأ مقعده من النار"، وأما تعديته إلى من يخبره الكاذب خبرا كذبا فبنفسه، يقال:كذبك، إذا أخبرك بكذب.
وضل بمعنى غاب كقوله تعالى: {ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة:10]، أي غيبنا فيها بالدفن.و {ما} موصولة و {يفترون} صلتها،والعائد محذوف،أي يختلقونه وما صدق ذلك هو شركاؤهم.والمراد:غيبة شفاعتهم ونصرهم لأن ذلك هو المأمول منهم فلما لم يظهر شيء من ذلك نزل حضورهم منزلة الغيبة،كما يقال:أخذت وغاب نصيرك، وهو حاضر.
[25] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
عطف جملة ابتدائية على الجمل الابتدائية التي قبلها من قوله:{الَّذِينَ خَسِرُوا

أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:20]
والضمير المجرور بـ {من} التبعيضية عائد إلى المشركين الذين الحديث معهم وعنهم ابتداء من قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]،أي ومن المشركين من يستمع إليك.وقد انتقل الكلام إلى أحوال خاصة عقلائهم الذين يربأون بأنفسهم عن أن يقابلوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل ما يقابله به سفهاؤهم من الإعراض التام،وقولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5].ولكن هؤلاء العقلاء يتظاهرون بالحلم والأناة والإنصاف ويخيلون للدهماء أنهم قادرون على مجادلة الرسول عليه الصلاة والسلام وإبطال حججه ثم ينهون الناس عن الإيمان.روى الواحدي عن ابن عباس أنه سمى من هؤلاء أبا سفيان بن حرب، وعتبة وشيبة ابني ربيعة،وأبا جهل،والوليد بن المغبرة،والنضر بن الحارث،وأمية وأبيا ابني خلف، اجتمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن فلما سمعوه قالوا للنضر:"ما يقول محمد"؟فقال:"والذي جعلها بيته"يعني الكعبة"ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه فما يقول إلا أساطير الأول ين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية.يعني أنه قال ذلك مكابرة منه للحق وحسدا للرسول عليه الصلاة والسلام.وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى.وكان يحدث قريشا عن أقاصيص العجم،مثل قصة"رستم"و"إسفنديار"فيستلمحون حديثه،وكان صاحب أسفار إلى بلاد الفرس،وكان النضر شديد البغضاء للرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي أهدر الرسول عليه الصلاة والسلام دمه فقتل يوم فتح مكة.وروي أن أبا سفيان قال لهم:"إني لأراه حقا".فقال له أبو جهل:"كلا".فوصف الله حالهم بهذه الآية.وقد نفع الله أبا سفيان بن حرب بكلمته هذه،فأسلم هو دونهم ليلة فتح مكة وثبتت له فضيلة الصحبة وصهر النبي صلى الله عليه وسلم ولزوجه هند بنت عتبة بن ربيعة.
و {الأكنة} جمع كنان ـ بكسر الكاف ـ و"أفعلة"يتعين في"فِعال"المكسور الفاء إذا كان عينه ولامه مثلين.والكنان:الغطاء،لأنه يكن الشيء،أي يستره.وهي هنا تخييل لأنه شبهت قلوبهم في عدم خلوص الحق إليها بأشياء محجوبة عن شيء.وأثبتت لها الأكنة تخييلا،وليس في قلب أحدهم شيء يشبه الكنان.
وأسند جعل تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى لأنه خلقهم على هذه الخصلة الذميمة والتعقل المنحرف، فهم لهم عقول وإدراك لأنهم كسائر البشر،ولكن أهواءهم تخير لهم المنع من اتباع الحق، فلذلك كانوا مخاطبين بالإيمان مع أن الله يعلم أنهم لا

يؤمنون إذ كانوا على تلك الصفة،على أن خطاب التكليف عام لا تعيين فيه لأناس ولا استثناء فيه لأناس.فالجعل بمعنى الخلق وليس للتحويل من حال إلى حال.وقد مات المسمون كلهم على الشرك عدا أبا سفيان فإنه شهد حينئذ بأن ما سمعه حق، فدلت شهادته على سلامة قلبه من الكنان.
والضمير المنصوب في {أَنْ يَفْقَهُوهُ} عائد إلى القرآن المفهوم من قوله: {يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وحذف حرف الجر.والتقدير:من أن يفقهوه،ويتعلق بـ {أكنة} لما فيه من معنى المنع، أي أكنة تمنع من أن يفهموا القرآن.
والوقر بفتح الواو الصمم الشديد وفعله كوعد ووجد يستعمل قاصرا،يقال:وقرت أذنه،ومتعديا يقال:وقر الله أذنه فوقرت.والوقر مصدر غير قياسي لـ"وقرت"أذنه،لأن قياس مصدره تحريك القاف،وهو قياسي لـ"وقر"المتعدي،وهو مستعار لعدم فهم المسموعات.جعل عدم الفهم بمنزلة الصمم ولم يذكر للوقر متعلق يدل على الممنوع بوقر آذانهم لظهور أنه من أن يسمعوه،لأن الوقر مؤذن بذلك،ولأن المراد السمع المجازي وهو العلم بما تضمنه المسموع.
وقوله: {عَلَى قُلُوبِهِمْ} ،وقوله: {فِي آذَانِهِمْ} يتعلقان بـ {جعلنا}. وقدم كل منهما على مفعول {جعلنا} للتنبيه على تعلقه به من أول الأمر.
فإن قلت:هل تكون هاته الآية حجة للذين قالوا من علمائنا:"إن إعجاز القرآن بالصرفة"؟، أي أعجز الله المشركين عن معارضته بأن صرفهم عن محاولة المعارضة لتقوم الحجة عليهم،فتكون الصرفة من جملة الأكنة التي جعل الله على قلوبهم.
قلت:لم يحتج بهذه الآية أصحاب تلك المقالة لأنك قد علمت أن الأكنة تخييل وأن الوقر استعارة وأن قول النضر:"ما أدري ما أقول"،بهتان ومكابرة،ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} .
وكلمة {كل} هنا مستعملة في الكثرة مجازا لتعذر الحقيقة سواء كان التعذر عقلا كما في هذه الآية، وقوله تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129]،وذلك أن الآيات تنحصر أفرادها لأنها أفراد مقدرة تظهر عند تكوينها إذ هي من جنس عام.أم كان المتعذر عادة كقول النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد

فإن العادة تحيل اجتماع جميع بقر الوحش في هذا الموضع.
فيتعذر أن يرى القوم كل أفراد ما يصح أن يكون آية،فلذلك كان المراد بـ{كل}معنى الكثرة الكثير، كما تقدم في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ} في سورة البقرة:[145].
و {حتى} حرف موضوع لإفادة الغاية،أي أن ما بعدها غاية لما قبلها.وأصل{حتى}أن يكون حرف جر مثل"إلى"فيقع بعده اسم مفرد مدلوله غاية لما قبل"حتى".وقد يعدل عن ذلك ويقع بعد"حتى"جملة فتكون"حتى"ابتدائية، أي تؤذن بابتداء كلام مضمونه غاية لكلام قبل"حتى".ولذلك قال ابن الحاجب في الكافية:"إنها تفيد السببية"،فليس المعنى أن استماعهم يمتد إلى وقت مجيئهم ولا أن جعل الأكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم يمتد إلى وقت مجيئهم،بل المعنى أن يتسبب على استماعهم بدون فهم.وجعل الوقر على آذانهم والأكنة على قلوبهم أنهم إذا جاءوك جادلوك.
وسميت {حتى} ابتدائية لأن ما بعدها في حكم كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا.ويأتي قريب من هذا عند قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} في هذه السورة[31]، وزيادة تحقيق لمعنى"حتى"الابتدائية عند قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ـإلى قوله ـ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} [الأعراف:37]الخ في سورة الأعراف.
و {إذا} شرطية ظرفية.و {جاوكء} شرطها،وهو العامل فيها.وجملة {يجادلونك} حال مقدرة من ضمير {جاءوك} أي جاءوك مجادلين،أي مقدرين المجادلة معك يظهرون لقومهم أنهم أكفاء لهذه المجادلة.
وجملة {يقول} جواب{إذا}،وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} لزيادة التسجيل عليهم بالكفر،وأنهم ما جاءوا طالبين الحق كما يدعون ولكنهم قد دخلوا بالكفر وخرجوا به فيقولون: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ،فهم قد عدلوا عن الجدل إلى المباهتة والمكابرة.
والأساطير جمع أسطورة بضم الهمزة وسكون السين وهي القصة والخبر عن الماضين.والأظهر أن الأسطورة لفظ معرب عن الرومية:أصله إسطوريا بكسر الهمزة وهو القصة.ويدل لذلك اختلاف العرب فيه،فقالوا:أسطورة وأسطيرة وأسطور وأسطير،

كلها بضم الهمزة وإسطارة وإسطار بكسر الهمزة.والاختلاف في حركات الكلمة الواحدة من جملة أمارات التعريب.ومن أقوالهم:"أعجمي فالعب به ما شئت".وأحسن الألفاظ لها أسطورة لأنها تصادف صيغة تفيد معنى المفعولن أي القصة المسطورة.وتفيد الشهرة في مدلول مادتها مثل الأعجوبة والأحدوثة والأكرومة.وقيل:الأساطير اسم جمع لا واحد له مثل أبابيل وعباديد وشماطيط.وكان العرب يطلقونه على ما يتسامر الناس به من القصص والأخبار على اختلاف أحوالها من صدق وكذب.وقد كانوا لا يميزون بين التواريخ والقصص والخرافات فجميع ذلك مرمي بالكذب والمبالغة.فقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. يحتمل أنهم أرادوا نسبة أخبار القرآن إلى الكذب على ما تعارفوه من اعتقادهم في الأساطير.ويشتمل أنهم أرادوا أن القرآن لا يخرج عن كونه مجموع قصص وأساطير،يعنون أنه لا يستحق أن يكون من عند الله لأنهم لقصور أفهامهم أو لتجاهلهم يعرضون عن الاعتبار المقصود من تلك القصص ويأخذونها بمنزلة الخرافات التي يتسامر الناس بها لتقصير الوقت.وسيأتي في سورة الأنفال أن من قال ذلك النضر بن الحارث،وأنه كان يمثل القرآن بأخبار"رستم"و"اسفنديار".
[26] {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:26]
عطف على جملة{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}،والضميران المجروران عائدان إلى القرآن المشار إليه باسم الإشارة في قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام:25].ومعنى النهي عنه النهي عن استماعه.فهو من تعليق الحكم بالذات.والمراد حالة من أحوالها يعينها المقام.وكذلك الناي عنه معناه النأي عن استماعه،أي هم ينهون الناس عن استماعه ويتباعدون عن استماعه.قال النابغة:
لقد نهيت بني ذبيان عن أقر ... وعن تربعهم في كل أصفار
يعني نهيتهم عن الرعي في ذي أقر،وهو حمى الملك النعمان بن الحارث الغساني.
وبين قوله:{يَنْهَوْنَ ـ وَيَنْأَوْنَ}الجناس القريب من التمام.
والقصر في قوله: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} قصر إضافي يفيد قلب اعتقادهم لأنهم يظنون بالنهي والنأي عن القرآن أنهم يضرون النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتبعوه ولا يتبعه الناس،وهم إنما يهلكون أنفسهم بدوامهم على الضلال وبتضليل الناس،فيحملون أوزارهم وأوزار الناس،وفي هذه الجملة تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام وأن ما أرادوا به نكايته

إنما يضرون به أنفسهم.
وأصل الهلاك الموت.ويطلق على المضرة الشديدة لأن الشائع بين الناس أن الموت أشد الضر.فالمراد بالهلاك هنا ما يلقونه في الدنيا من القتل والمذلة عند نصر الإسلام وفي الآخرة من العذاب.
والنأي:البعد.وهو قاصر لا يتعدى إلى مفعول إلا بحرف جر،وما ورد متعديا بنفسه فذلك على طريق الحذف والإيصال في الضرورة.
وعقب قوله:{وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}بقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} زيادة في تحقيق الخطأ في اعتقادهم، وإظهارا لضعف عقولهم مع أنهم كانوا يعدون أنفسهم قادة للناس،ولذلك فالوجه أن تكون الواو في قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} للعطف لا للحال ليفيد ذلك كون ما بعدها مقصودا به الإخبار المستقل لأن الناس يعدونهم أعظم عقلائهم.
[28,27] {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام لأن في الخبر الواقع بعده تسلية له عما تضمنه قوله: {هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26]فإنه ابتدأ فعقبه بقوله: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام:26]ثم أردفه بتمثيل حالهم يوم القيامة.ويشترك مع الرسول في هذا الخطاب كل من يسمع هذا الخبر.
و {لو} شرطية،أي لو ترى الآن،و {إذ} ظرفية،ومفعول {ترى} محذوف دل عليه ضمير {وقفوا} ،أي لو تراهم، و {وقفوا} ماض لفظا والمعني به الاستقبال،أي إذ يوقفون.وجيء فيه بصيغة الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه لصدوره عمن لا خلاف في خبره.
ومعنى {وقفوا على النار} أبلغوا اليها بعد سير إليها،وهو يتعدى بـ {على}. والاستعلاء المستفاد بـ {على} مجازي معناه قوة الاتصال بالمكان، فلا تدل"على"على أن وقوفهم على النار كان من أعلى النار.وقد قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:30}، وأصله من قول العرب:وقفت راحلتي على زيد، أي بلغت إليه

فحسبت ناقتي عن السير.قال ذو الرمة:
وقفت على ربع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
فحذفوا مفعول"وقفت"لكثرة الاستعمال.ويقال:وقفه فوقف،ولا يقال:أوقفه بالهمزة.
وعطف عليه {فقالوا} بالفاء المفيدة للتعقيب،لأن ما شاهدوه من الهول قد علموا أنه جزاء تكذيبهم بإلهام أوقعه الله في قلوبهم أو بإخبار ملائكة العذاب،فعجلوا فتمنوا أن يرجعوا.
وحرف النداء في قولهم: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} مستعمل في التحسر،لأن النداء يقتضي بعد المنادى،فاستعمل في التحسر لأن المتمنى صار بعيدا عنهم، أي غير مفيد لهم، كقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56].
ومعنى {نرد} نرجع إلى الدنيا،وعطف عليه {وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} برفع الفعلين بعد "لا"النافية في قراءة الجمهور عطفا على{نرد}، فيكون من جملة ما تمنوه،ولذلك لم ينصب في جواب التمني إذ ليس المقصود الجزاء،ولأن اعتبار الجزاء مع الواو غير مشهور،بخلافه مع الفاء لأن الفاء متأصلة في السببية.والرد غير مقصود لذاته وإنما تمنوه لما يقع معه من الإيمان وترك التكذيب.وإنما قدم في الذكر ترك التكذيب على الإيمان لأنه الأصل في تحصيل المتمنى على اعتبار الواو للمعية واقعة موقع فاء السببية في جواب التمني.
وقرأه حمزة والكسائي {وَلا نُكَذِّبَ ـ وَنَكُونَ} بنصب الفعلين ـ ،على انهما منصوبان في جواب التمني.وقرأ ابن عامر {وَلا نُكَذِّبُ} بالرفع كالجمهور،على معنى أن انتفاء التكذيب حاصل في حين كلامهم،فليس بمستقبل حتى يكون بتقدير"أن"المفيدة للاستقبال.وقرأ {وَنَكُونَ} بالنصب على جواب التمني، أي نكون من القوم الذين يعرفون بالمؤمنين.والمعنى لا يختلف.
وقوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} إضراب عن قولهم: {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. والمعنى بل لأنهم لم يبق لهم مطمع في الخلاص.
وبدا الشيء ظهر.ويقال بدا له الشيء إذا ظهر له عيانا.وهو هنا مجاز في زوال الشك في الشيء، كقول زهير:

بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جاثيا
ولما قوبل {بَدَا لَهُمْ} في هذه الآية بقوله: {مَا كَانُوا يُخْفُونَ} علمنا أن البداء هو ظهور أمر في أنفسهم كانوا يخفونه في الدنيا،أي خطر لهم حينئذ ذلك المخاطر الذي كانوا يخفونه،أي الذي كان يبدو لهم، أي يخطر ببالهم وقوعه فلا يعلنون به فبدا لهم الآن فأعلنوا به وصرحوا معترفين به.ففي الكلام احتباك، تقديره:بل بدا لهم ما كان يبدو لهم في الدنيا فأظهروه الآن وكانوا يخفونه.وذلك أنهم كانوا يخطر لهم الإيمان لما يرون من دلائله أو من نصر المؤمنين فيصدهم عنه العناد والحرص على استبقاء السيادة والأنفة من الاعتراف بفضل الرسول وبسبق المؤمنين إلى الخيرات قبلهم،وفيهم ضعفاء القوم وعبيدهم، كما ذكرناه عند قوله تعالى: {لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} في هذه السورة[52]،وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِين} في سورة الحجر[2].وهذا التفسير يغني عن الاحتمالات التي تحير فيها المفسرون وهي لا تلائم نظم الآية، فبعضها يساعده صدرها وبعضها يساعده عجزها وليس فيها ما يساعده جميعها.
وقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} ارتقاء في إبطال قولهم حتى يكون بمنزلة التسليم الجدلي في المناظرة،أي لو أجيبت أمنيتهم وردوا إلى الدنيا لعادوا للأمر الذي كان النبي ينهاهم عنه،وهو التكذيب وإنكار البعث،وذلك لأن نفوسهم التي كذبت فيما مضى تكذيب مكابرة بعد إتيان الآيات البينات،هي النفوس التي أرجعت إليهم يوم البعث فالعقل العقل والتفكير التفكير،وإنما تمنوا ما تمنوا من شدة الهول فتوهموا التخلص منه بهذا التمني فلو تحقق تمنيهم وردوا واستراحوا من ذلك الهول لغلبت أهواؤهم رشدهم فنسوا ما حل بهم ورجعوا إلى ما ألفوا من التكذيب والمكابرة.
وفي هذا دليل على أن الخواطر الناشئة عن عوامل الحس دون النظر والدليل لا قرار لها في النفس ولا تسير على مقتضاها إلا ريثما يدوم ذلك الإحساس فإذا زال زال أثره، فالانفعال به يشبه انفعال العجماوات من الزجر والسوط ونحوهما.ويزول بزواله حتى يعاوده مثله.
وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} تذييل لما قبله.جيء بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات،أي أن الكذب سجية لهم قد تطبعوا عليها من الدنيا فلا عجب أن يتمنوا الرجوع ليؤمنوا فلو رجعوا لعادوا لما كانوا عليه فإن الكذب سجيتهم.وقد تضمن تمنيهم وعدا،

فلذلك صح إدخاله في حكم كذبهم دخول الخاص في العام،لأن التذييل يؤذن بشمول ما ذيل به وزيادة.فليس وصفهم بالكذب بعائد إلى التمني بل إلى ما تضمنه من الوعد بالإيمان وعدم التكذيب بآيات الله.
[29] {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}
يجوز أن يكون عطفا على قوله: {لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]فيكون جواب {لو} ،أي لو ردوا لكذبوا بالقرآن أيضا,ولكذبوا بالبعث كما كانوا مدة الحياة الأولى.ويجوز أن تكون الجملة عطفت على جملة {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]،ويكون ما بين الجملتين اعتراضا يتعلق بالتكذيب للقرآن.
وقوله: {إِنْ هِيَ}" إن"نافية للجنس،والضمير بعدها مبهم يفسره ما بعد الاستثناء المفرغ.قصد من إبهامه الإيجاز اعتمادا على مفسره،والضمير لما كان مفسرا بنكرة فهو في حكم النكرة،وليس هو ضمير قصة وشأن، لأنه لا يستقيم معه معنى الاستثناء،والمعنى إن الحياة لنا إلا حياتنا الدنيا،أي انحصر جنس حياتنا في حياتنا الدنيا فلا حياة لنا غيرها فبطلت حياة بعد ا لموت،فالاسم الواقع بعد {إلا} في حكم البدل من الضمير.
وجملة {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} نفي للبعث،وهو يستلزم تأكيد نفي الحياة غير حياة الدنيا،لأن البعث لا يكون إلا مع حياة.وإنما عطفت ولم تفصل فتكون مؤكدة للجملة قبلها لأن قصدهم إبطال قول الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم يحيون حياة ثانية، وقوله تارة أنهم مبعوثون بعد الموت، فقصدوا إبطال كل باستقلاله.
[30] {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}
لما ذكر إنكارهم البعث أعقبه بوصف حالهم حين يحشرون إلى الله،وهو حال البعث الذي أنكروه.
والقول في الخطاب وفي معنى {وقفوا} وفي جواب {لو} تقدم في نظريتها آنفا.وتعليق {عَلَى رَبِّهِمْ} بـ {وقفوا} تمثيل لحضورهم المحشر عند البعث.شبهت حالهم في الحضور للحساب بحال عبد جنى فقبض عليه فوقف بين يدي ربه.وبذلك تظهر مزية التعبير بلفظ {ربهم} دون اسم الجلالة.

وجملة {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} استئناف بياني،لأن قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} قد آذن بمشهد عظيم مهول فكان من حق السامع أن يسأل:ماذا لقوا من ربهم، فيجاب: {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} الآية.
والإشارة إلى البعث الذي عاينوه وشاهدوه.والاستفهام تقريري دخل على نفي الأمر المقرر به لاختبار مقدار إقرار المسؤول،فلذلك يسأل عن نفي ما هو واقع لأنه إن كان له مطمع في الإنكار تذرع إليه بالنفي الواقع في سؤال المقرر.والمقصود:أهذا حق،فإنهم كانوا يزعمونه باطلا.ولذلك أجابوا بالحرف الموضوع لإبطال ما قبله وهو"بلى"فهو يبطل النفي فهو إقرار بوقوع المنى،أي بلى هو حق، وأكدوا ذلك بالقسم تحقيقا لاعترافهم للمعترف به لأنه معلوم لله تعالى، أي نقر ولا نشك فيه فلذلك نقسم عليه.وهذا من استعمال القسم لتأكيد لازم فائدة الخبر.
وفصل {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ} على طريقة فصل المحاورات.والفاء للتفريع عن كلامهم،أوفاء فصيحة، أي إذ كان هذا الحق فذوقوا العذاب على كفركم، أي بالبعث.والباء سببية، و"ما"مصدرية، أي بسبب كفركم، أي بهذا.وذوق العذاب استعارة لإحساسه، لأن الذوق أقوى الحواس المباشرة للجسم، فشبه به إحساس الجلد.
[31] {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}
استئناف للتعجيب من حالهم حين يقعون يوم القيامة في العذاب على ما استداموه من الكفر الذي جرأهم على استدامته اعتقادهم نفي البعث فذاقوا العذاب لذلك، فتلك حالة يستحقون بها أن يقال فيهم:قد خسروا وخابوا.
والخسران تقدم القول فيه عند قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} في هذه السورة[12].والخسارة هنا حرمان خيرات الآخرة لا الدنيا.
والذين كذبوا بلقاء الله هم الذين حكي عنهم بقوله: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} فكان مقتضى الظاهر الإضمار تبعا لقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27]وما بعده،بأن يقال:قد خسروا، لكن عدل إلى الإظهار ليكون الكلام مستقلا وليبنى عليه ما في الصلة من تفصيل بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} الخ.

ولقاء الله هو ظهور آثاره رضاه وغضبه دون تأخير ولا إمهال ولا وقاية بأسباب عادية من نظام الحياة الدنيا،فلما كان العالم الآخروي وهو ما بعد البعث عالم ظهور الحقائق بآثارها دون موانع، وتلك الحقائق هي مراد الله الأعلى الذي جعله عالم كمال الحقائق، جعل المصير إليه مماثلا للقاء صاحب الحق بعد الغيبة والاستقلال عنه زمانا طويلا، فلذلك سمي البعث ملاقاة الله،ولقاء الله ومصيرا إلى الله،ومجيئا إليه،في كثير من الآيات والألفاظ النبوية،وإلا فإن الناس في الدنيا هم في قبضة تصرف الله لو شاء لقبضهم إليه ولعجل إليهم جزاءهم.قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11].ولكنه لما أمهلهم واستدرجهم في هذا العالم الدنيوي ورغب ورهب ووعد وتوعد كان حال الناس فيه كحال العبيد يأتيهم الأمر من مولاهم الغائب عنهم ويرغبهم ويحذرهم،فمنهم من يمتثل ومنهم من يعصي، وهم لا يلقون حينئذ جزاء عن طاعة ولا عقابا عن معصية لأنه يملى لهم ويؤخرهم،فإذا طوي هذا العالم وجاءت الحياة الثانية صار الناس في نظام آخر،وهو نظام ظهور الآثار دون ريث،قال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف:49]، فكانوا كعبيد لقوا ربهم بعد أن غابوا وأمهلوا.فاللقاء استعارة تمثيلية:شبهت حالة الخلق عند المصير إلى تنفيذ وعد الله ووعيده بحالة العبيد عند حضور سيدهم بعد غيبة ليجزيهم على ما فعلوه في مدة المغيب.وشاع هذا التمثيل في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال:"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه"، وفي القرآن {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} .
وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} "حتى"ابتدائية،وهي لا تفيد الغاية وإنما تفيد السببية،كما صرح به ابن الحاجب،أي فإذا جاءتهم الساعة بغتة.ومن ا لمفسرين من جعل مجيء الساعة غاية للخسران، وهو فاسد لأن الخسران المقصود هنا هو خسرانهم يوم القيامة،فأما في الدنيا ففيهم من لم يخسر شيئا.وقد تقدم كلام على "حتى"الابتدائية عند قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} في هذه السورة[25].وسيجيء لمعنى"حتى"زيادة بيان عند قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ـإلى قوله ـ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} في سورة الأعراف[37].
والساعة:علم بالغلبة على ساعة البعث والحشر.
والبغتة فعلة من البغت، وهو مصدر بغتة الأمر إذا نزل به فجأة من غير ترقب ولا

إعلام ولا ظهور شبح أو نحوه.ففي البغت معنى المجيء عن غير إشعار.وهو منتصب على الحال،فإن المصدر يجيء حالا إذا كان ظاهرا تأويله باسم الفاعل،وهو يرجع إلى الإخبار بالمصدر لقصد المبالغة.
وقوله: {قالوا} جواب"إذا".و {يا حسرتنا} نداء مقصود به التعجب والتندم،وهو في أصل الوضع نداء للحسرة بتنزيلها منزلة شخص يسمع وينادي ليحضر كأنه يقول:يا حسرة احضري فهذا أوان حضورك.ومنه قولهم:يا ليتني فعلت كذا،ويا أسفي أو يا أسفا،كما تقدم آنفا.
وأضافوا الحسرة إلى أنفسهم ليكون تحسرهم لأجل أنفسهم، فهم المتحسرون والمتحسر عليهم، بخلاف قول القائل:يا حسرة،فإنه في الغالب تحسر لأجل غيره فهو يتحسر لحال غيره.ولذلك تجيء معه"على"التي تدخل على الشيء المتحسر من أجله داخلة على ما يدل على غير التحسر،كقوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} ،فأما مع"يا حسرتي، أو يا حسرتا"فإنما تجيء"على"داخلة على الأمر الذي كان سببا في التحسر كما هنا {عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} . ومثل ذلك قولهم:يا ويلي ويا ويلتي،قال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} [الكهف:49]،فإذا أراد المتكلم أن الويل لغيره قال:ويلك،قال تعالى: {وَيْلَكَ آمِنْ} [الأحقاف:17]ويقولون:ويل لك.
والحسرة:الندم الشديد،وهو التلهف،وهي فعلة من حسر يحسر حسرا، من باب فرح،ويقال:تحسر تحسرا.والعرب يعاملون اسم المرة معاملة مطلق المصدر غير ملاحظين فيه معنى المرة،ولكنهم يلاحظون المصدر في ضمن فرد،كمدلول لام الحقيقة،ولذلك يحسن هذا الاعتبار في مقام النداء لأن المصدر اسم للحاصل بالفعل بخلاف اسم المرة فهو اسم لفرد من أفراد المصدر فيقوم مقام الماهية.
و {فرطنا} أضعنا.يقال:فرط في الأمر إذا تهاون بشيء ولم يحفظه، أو في اكتسابه حتى فاته وأفلت منه.وهو يتعدى إلى المفعول بنفسه،كما دل عليه قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].والأكثر أن يتعدى بحرف"في"فيقال فرط في ماله،إذا أضاعه.
و {ما} موصولة ما صدقها الأعمال الصالحة.ومفعول{فرطنا}محذوف يعود إلى {ما} .تقديره:ما فرطناه وهم عام مثل معاده،أي ندمنا على إضاعة كل ما من شأنه أن ينفعنا ففرطناه،وضمير {فيها} عائد إلى الساعة.و"في"تعليلية، أي ما فوتناه من

الأعمال النافعة لأجل نفع هذه الساعة،ويجوز أن يكون {في} للتعدية بتقدير مضاف إلى الضمير،أي في خيراتها.والمعنى على ما فرطنا في الساعة،يعنون ما شاهدوه من نجاة ونعيم أهل الفلاح.ويجوز أن يعود ضمير {فيها} على الحياة الدنيا،فيكون"في"للظرفية الحقيقية.
وجملة {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} في موضع الحال من ضمير {قالوا} ،أي قالوا ذلك في حال أنهم يحملون أوزارهم فهم بين تلهف على التفريط في الأعمال الصالحة والإيمان وبين مقاساة العذاب على الأوزار التي اقترفوها،أي لم يكونوا محرومين من خير ذلك اليوم فحسب بل كانوا مع ذلك متعبين مثقلين بالعذاب.
والأوزار جمع وزر بكسر الواو،وهو الحمل الثقيل، وفعله وزر يزر إذا حمل.ومنه قوله هنا: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}. وقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].وأطلق الوزر على الذنب والجناية لثقل عاقبتها على جانيها.
وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} تمثيل لهيئة عنتهم من جراء ذنوبهم بحال من يحمل حملا ثقيلا.وذكر {عَلَى ظُهُورِهِمْ} هنا مبالغة في تمثيل الحالة،كقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30].فذكر الأيدي لأن الكسب يكون باليد،فهو يشبه تخييل الاستعارة ولكنه لا يتأتى التخييل في التمثيلية لأن ما يذكر فيها صالح لاعتباره من جملة الهيئة،فإن الحمل على الظهر مؤذن بنهاية ثقل المحمول على الحامل.
ومن لطائف التوجيه وضع لفظ الأوزار في هذا التمثيل؛فإنه مشترك بين الأحمال الثقيلة وبين الذنوب، وهم إنما وقعوا في هذه الشدة من جراء ذنوبهم فكأنهم يحملونها لأنهم يعانون شدة آلامها.
وجملة {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} تذييل.و"ألا"حرف استفتاح يفيد التنبيه للعناية بالخبر.و {سَاءَ مَا يَزِرُونَ} إنشاء ذم.و {يزرون} بمعنى يحملون،أي ساء ما يمثل من حالهم بالحمل.و {مَا يَزِرُونَ} فاعل {ساء} .والمخصوص بالذم محذوف،تقديره:حملهم.
[52] {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}

لما جرى ذكر الساعة وما يلحق المشركين فيها من الحسرة على ما فرطوا ناسب أن يذكر الناس بأن الحياة الدنيا زائلة وأن عليهم أن يستعدوا للحياة الآخرة.فيحتمل أن يكون جوابا لقول المشركين: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29].فتكون الواو للحال،أي تقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا ولو نظرتم حق النظر لوجدتم الحياة الدنيا لعبا ولهوا وليس فيها شيء باق، فلعلمتم أن وراءها حياة أخرى فيها من الخيرات ما هو أعظم مما في الدنيا وإنما يناله المتقون،أي المؤمنون،فتكون الآية إعادة لدعواتهم إلى الإيمان والتقوى،ويكون الخطاب في قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} التفاتا من الحديث عنهم بالغيبة إلى خطابهم بالدعوة.
ويحتمل أنه اعتراض بالتذييل لحكاية حالهم في الآخرة،فإنه لما حكى قولهم: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31]علم السامع أنهم فرطوا في الأمور النافعة لهم في الآخرة بسبب الانهماك في زخارف الدنيا،فذيل ذلك بخطاب المؤمنين تعريفا بقيمة زخارف الدنيا وتبشيرا لهم بأن الآخرة هي دار الخير للمؤمنين،فتكون الواو عطفت جملة البشارة على حكاية النذارة.والمناسبة هي التضادد.وأيضا في هذا نداء على سخافة عقولهم إذ غرتهم في الدنيا فسول لهم الاستخفاف بدعوة الله إلى الحق.فيجعل قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} خطابا مستأنفا للمؤمنين تحذيرا لهم من أن تغرهم زخارف الدنيا فتلهيهم عن العمل للآخرة.
وهذا الحكم عام على جنس الحياة الدنيا،فالتعريف في الحياة تعريف الجنس،أي الحياة التي يحياها كل أحد المعروفة بالدنيا،أي الأولى والقريبة من الناس،وأطلقت الحياة الدنيا على أحوالها،أو على مدتها.
واللعب:عمل أو قول في خفة وسرعة وطيش ليست له غاية مفيدة بل غايته إراحة البال وتقصير الوقت واستجلاب العقول في حالة ضعفها كعقل الصغير وعقل المتعب،وأكثره أعمال الصبيان.قالوا ولذلك فهو مشتق من اللعاب،وهو ريق الصبي السائل.وضد اللعب الجد.
واللهو ما يشتغل به الإنسان مما ترتاح إليه نفسه ولا يتعب في الاشتغال به عقله، فلا يطلق إلا على ما فيه استمتاع ولذة وملائمة للشهوة.
وبين اللهو واللعب العموم والخصوص الوجهي.فهما يجتمعان في العمل الذي فيه ملاءمة ويقارنه شيء من الخفة والطيش كالطرب واللهو بالنساء.وينفرد اللعب في لعب

الصبيان.وينفرد اللهو في نحو الميسر والصيد.
وقد أفادت صيغة {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} قصر الحياة على اللعب واللهو،وهو قصر موصوف على صفة.والمراد بالحياة الأعمال التي يحب الإنسان الحياة لأجلها،لأن الحياة مدة وزمن لا يقبل الوصف بغير أوصاف الأزمان من طول أو قصر،وتحديد أو ضده،فتعين أن المراد بالحياة الأعمال المظروفة فيها.واللعب واللهو في قوة الوصف، لأنهما مصدران أريد بهما الوصف للمبالغة،كقول الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار
وهذا القصر ادعائي يقصد به المبالغة،لأن الأعمال الحاصلة في الحياة كثيرة،منها اللهو واللعب، ومنها غيرهما،قال تعالى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20]فالحياة تشتمل على أحوال كثيرة منها الملائم كالأكل واللذات،ومنها المؤلم كالأمراض والأحزان،فأما المؤلمات فلا اعتداد بها هنا ولا التفات اليها لأنها ليست مما يرغب فيه الراغبون،لأن المقصود من ذكر الحياة هنا ما يحصل فيها مما يحبها الناس لأجله,وهو الملائمات.
وأما الملائمات فهي كثيرة، ومنها ما ليس بلعب ولهو، كالطعام والشراب والتدفئ في الشتاء والتبرد في الصيف وجمع المال عند المولع به وقرى الضيف ونكاية العدو وبذل الخير للمحتاج،إلا أن هذه لما كان معظمها يستدعي صرف همة وعمل كانت مشتملة على شيء من التعب وهو منافر.فكان معظم ما يحب الناس الحياة لأجله هو اللهو واللعب،لأنه الأغلب على أعمال الناس في أول العمر والغالب عليهم فيما بعد ذلك.فمن اللعب المزاح ومغازلة النساء، ومن اللهو الخمر والميسر والمغاني والأسمار وركوب الخيل والصيد.
فأما أعمالهم في القربات كالحج والعمرة والنذر والطواف بالأصنام والعتيرة ونحوها فلأنها لما كانت لا اعتداد بها بدون الإيمان كانت ملحقة باللعب،كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35]،وقال :{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} .
فلا جرم كان الأغلب على المشركين والغالب على الناس اللعب واللهو إلا من آمن وعمل صالحا.فلذلك وقع القصر الادعائي في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} .

وعقب بقوله: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ،منه أن أعمال المتقين في الدنيا هي ضد اللعب واللهو، لأنهم جعلت لهم دار أخرى هي خير،وقد علم أن الفوز فيها لا يكون إلا بعمل في الدنيا فأنتج أن عملهم في الدنيا ليس اللهو واللعب وأن حياة غيرهم هي المقصورة على اللهو واللعب.
والدار محل إقامة الناس،وهي الأرض التي فيها بيوت الناس من بناء أو خيام أو قباب.والآخرة مؤنث وصف الآخر بكسر الخاء وهو ضد الأول، أي مقر الناس الأخير الذي لا تحول بعده.
وقرأ جمهور العشرة {وَلَلدَّارُ} بلامين لام الابتداء ولام التعريف،وقرئوا {الْآخِرَةُ} بالرفع.وقرأ ابن عامر {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} بلام الابتداء فقط وبإضافة دار منكرة إلى الآخرة فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، كقولهم:مسجد الجامع،أو هو على تقدير مضاف تكون {الآخرة} وصفا له.والتقدير:دار الحياة الآخرة.
و {خير} تفضيل على الدنيا باعتبار ما في الدنيا من نعيم عاجل زائل يلحق معظمة مؤاخذة وعذاب.
وقوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} تعريض بالمشركين بأنهم صائرون إلى الآخرة لكنها ليست لهم بخير مما كانوا في الدنيا.والمراد بـ {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} المؤمنون التابعون لما أمر الله به،كقوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، فإن الآخرة لهؤلاء خير محض.وأما من تلحقهم مؤاخذة على أعمالهم السيئة من المؤمنين فلما كان مصيرهم بعد إلى الجنة كانت الآخرة خيرا لهم من الدنيا.
وقوله {أَفَلا تَعْقِلُونَ} عطف بالفاء على جملة {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} إلى آخرها لأنه يتفرع عليه مضمون الجملة المعطوفة.والاستفهام عن عدم عقلهم مستعمل في التوبيخ إن كان خطابا للمشركين،أو في التحذير إن كان خطابا للمؤمنين.على أنه لما كان استعماله في أحد هذين على وجه الكناية صح أن يراد منه الأمران باعتبار كلا الفريقين،لأن المدلولات الكنائية تتعدد ولا يلزم من تعددها الاشتراك، لأن دلالتها التزامية،على أننا نلتزم استعمال المشترك في معنييه.
وقرأ نافع،وابن عامر،وحفص،وأبو جعفر،ويعقوب، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} ـ بتاء الخطاب ـ على طريقة الالتفات.وقرأه الباقون ـبياء تحتية ـ،فهو على هذه القراءة عائد

لما عاد إليه ضمائر الغيبة قبله، والاستفهام حينئذ للتعجيب من حالهم.
وفي قوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} تأييس للمشركين.
[33] {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
استئناف ابتدائي قصدت به تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بالصبر،ووعده بالنصر، وتأييسه من إيمان المتغالين في الكفر،ووعده بإيمان فرق منهم بقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ـ إلى قوله ـ يَسْمَعُونَ} .وقد تهيأ المقام لهذا الغرض بعد الفراغ من محاجة المشركين في إبطال شركهم وإبطال إنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم،والفراغ من وعيدهم وفضيحة مكابرتهم ابتداء من قوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} [الأنعام:4]إلى هنا.
و {قد} تحقيق للخبر الفعلي،فهو في تحقيق الجملة الفعلية بمنزلة"إن"في تحقيق الجملة الاسمية.فحرف "قد"مختص بالدخول على الأفعال المتصرفة الخبرية المثبتة المجردة من ناصب وجازم وحرف تنفيس، ومعنى التحقيق ملازم له.والأصح أنه كذلك سواء كان مدخولها ماضيا أو مضارعا،ولا يختلف معنى "قد"بالنسبة للفعلين.وقد شاع عند كثير من النحويين أن "قد"إذا دخل على المضارع أفاد تقليل حصول الفعل.وقال بعضهم:"إنه مأخوذ من كلام سيبويه"، ومن ظاهر كلام الكشاف في هذه الآية.والتحقيق أن كلام سيبوية لا يدل إلا على أن"قد"يستعمل في الدلالة على التقليل لكن بالقرينة وليست بدلالة أصلية.وهذا هو الذي استخلصته من كلامهم وهو المعول عليه عندي.ولذلك فلا فرق بين دخول"قد"على فعل المضي ودخوله على الفعل المضارع في إفادة تحقيق الحصول،كما صرح به الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} في سورة النور[64].فالتحقيق يعتبر في الزمن الماضي إن كان الفعل الذي بعد"قد"فعل مضي،وفي زمن الحال أو الاستقبال إن كان الفعل بعد"قد"فعلا مضارعا مع ما يضم إلى التحقيق من دلالة المقام،مثل تقريب زمن الماضي من الحال في نحو:قد قامت الصلاة.وهو كناية تنشأ عن التعرض لتحقيق فعل ليس من شأنه أن يشك السامع في أنه يقع،ومثل إفادة التكثير مع المضارع تبعا لما يقتضيه المضارع من الدلالة على التجدد،كالبيت الذي نسبه سيبوية للهذلي،وحقق ابن بري أنه لعبيد بن الأبرص،وهو:
قد أترك القرن مصفرا أنامله ... كأن أثوابه مجت بفرصاد

وبيت زهير:
أخا ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
وإفادة استحضار الصورة، كقول كعب:
لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
أراد تحقيق حضوره لدى الرسول صلى الله عليه وسلم مع استحضار تلك الحالة العجيبة من الوجل المشوب بالرجاء.
والتحقيق أن كلام سيبويه بريء مما حملوه،وما نشأ اضطراب كلام النحاة فيه إلا من فهم ابن مالك لكلام سيبويه.وقد رده عليه أبو حيان ردا وجيها.
فمعنى الآية علمنا بأن الذي يقولونه يحزنك محققا فتصبر.وقد تقدم لي كلام في هذه المسألة عند قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} في سورة البقرة[144]،فكان فيه إجمال وأحلت على تفسير آية سورة الأنعام،فهذا الذي استقر عليه رأيي.
وفعل {نعلم} معلق عن العمل في مفعولين بوجود اللام.
والمراد بـ {الَّذِي يَقُولُونَ} أقوالهم الدالة على عدم تصديقهم الرسول صلى الله عليه وسلم،كما دل عليه قوله بعده :{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} [الأنعام:34]،فعدل عن ذكر اسم التكذيب ونحوه إلى اسم الموصول وصلته تنزيها للرسول عليه الصلاة والسلام عن ذكر هذا اللفظ الشنيع في جانبه تلطفا معه.
وقرأ نافع،وأبو جعفر {لَيُحْزِنُكَ}بضم الياء وكسر الزاي ـ.وقرأه الباقون ـ بفتح الباء وضم الزاي ـ يقال:أحزنت الرجل بهمزة تعدية لفعل حَزن،ويقال:حزنته أيضا.وعن الخليل:أن حزنته، معناه جعلت فيه حُزنا كما يقال:دَهنته.وأما التعدية فليست إلا بالهمزة.قال أبو علي الفارسي:حزنت الرجل، أكثر استعمالا،وأحزنته،أقيس.و {الَّذِي يَقُولُونَ} هو قولهم ساحر،مجنون،كاذب,شاعر.فعدل عن تفصيل قولهم إلى إجماله إيجازا أو تحاشيا عن التصريح به في جانب المنزه عنه.
والضمير المجعول اسم"إن"ضمير الشأن،واللام لام القسم،وفعل {يحزنك}

فعل القسم،و {الَّذِي يَقُولُونَ} فاعله،واللام في {ليحزنك} لام الابتداء،وجملة {يحزنك} خبر"إن"، وضمائر الغيبة راجعة إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا ـ في قوله ـ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .
والفاء في قوله: {فإنهم} يجوز أن تكون للتعليل،والمعلل محذوف دل عليه قوله: {قَدْ نَعْلَمُ} ،أي فلا تحزن فإنهم لا يكذبونك،أي لأنهم لا يكذبونك.ويجوز كونها للفصيحة،والتقدير:فإن كان يحزنك ذلك لأجل التكذيب فإنهم لا يكذبونك،فالله قد سلى رسوله عليه الصلاة والسلام بأن أخبره بأن المشركين لا يكذبونه ولكنهم أهل جحود ومكابرة.وكفى بذلك تسلية.ويجوز أن تكون للتفريع على {قَدْ نَعْلَمُ} ،أي فعلمنا بذلك يتفرع عليه أنا نثبت فؤادك ونشرح صدرك بإعلامك أنهم لا يكذبونك،وبأن نذكرك بسنة الرسل من قبلك، ونذكرك بأن العاقبة هي نصرك كما سبق في علم الله.
وقرأ نافع،والكسائي،وأبو جعفر {لا يُكْذِِبُونَكَ} ،ـ بسكون الكاف وتخفيف الذال ـ.وقرأه الجمهورـ بفتح الكاف وتشديد الذال ـ.وقد قال بعض أئمة اللغة إن أكذب وكذب بمعنى واحد، أي نسبه إلى الكذب.وقال بعضهم:"أكذبه، وجده كاذبا،كما يقال:أحمده، وجده محمودا".وأما كذّب بالتشديد فهو لنسبة المفعول إلى الكذب.وعن الكسائي:"أن أكذبه هو بمعنى كذب ما جاء به ولم ينسب المفعول إلى الكذب،وأن كذبه هو نسبه إلى الكذب".وهو معنى ما نقل عن الزجاج معنى كذبته، قلت له:كذبت،ومعنى أكذبته، أريته أن ما أتى به كذب.
وقوله: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} استدراك لدفع أن يتوهم من قوله: {لا يُكْذِبُونَكَ} على قراءة نافع ومن وافقه أنهم صدقوا وآمنوا،وعلى قراءة البقية {لا يُكَذِّبُونَكَ} أنهم لم يصدر منهم أصل التكذيب مع أن الواقع خلاف ذلك،فاستدرك عليه بأنهم يجحدون بآيات الله فيظهر حالهم كحال من ينسب الآتي بالآيات إلى الكذب وما هم بمكذبين في نفوسهم.
والجحد والجحود،الإنكار للأمر المعروف،أي الإنكار مع العلم بوقوع ما ينكر،فهو نفي ما يعلم النافي ثبوته،فهو إنكار مكابرة.
وعدل عن الإضمار إلى قوله: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ} ذمّاً لهم وإعلاما بأن شأن الظالم الجحد بالحجة، وتسجيلا عليهم بأن الظلم سجيتهم.

وعدي {يجحدون} بالباء كما عدي في قوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] لتأكيد تعلق الجحد بالمجحود، كالباء في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ،وفي قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الاسراء: 59] ،وقول النابغة:
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا ... وأصبح جد الناس يظلع عاثرا
ثم إن الجحد بآيات الله أريد به الجحد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات.وجحدها إنكار أنها من آيات الله،أي تكذيب الآتي بها في قوله: إنها من عند الله، فآل ذلك إلى أنهم يكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يجمع هذا مع قوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} على قراءة الجمهور.والذي يستخلص من سياق الآية أن المراد فإنهم لا يعتقدون أنك كاذب لأن الرسول عليه الصلاة والسلام معروف عندهم بالصدق وكان يلقب بينهم بالأمين.وقد قال النضر بن الحارث لما تشاورت قريش في شأن الرسول: "يا معشرقريش قد كان محمد فيكم غلاما أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه قلتم ساحر وقلتم كاهن وقلتم شاعر وقلتم مجنون ووالله ما هو بأولئكم".ولأن الآيات التي جاء بها لا يمتري أحد في أنها من عند الله، ولأن دلائل صدقه بينة واضحة ولكنكم ظالمون.
والظالم هو الذي يجري على خلاف الحق بدون شبهة.فهم ينكرون الحق مع علمهم بأنه الحق، وذلك هو الجحود.وقد أخبر الله عنهم بذلك وهو أعلم بسرائرهم.ونظيرها قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] فيكون في الآية احتباك.والتقدير: فإنهم لا يكذبونك ولا يكذبون الآيات ولكنهم يجحدون بالآيات ويجحدون بصدقك، فحذف من كل لدلالة الآخر.
وأخرج الترمذي عن ناجية بن كعب التابعي أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به".فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ".ولا أحسب هذا هو سبب نزول الآية.لأن أبا جهل إن كان قد قال ذلك فقد أراد الاستهزاء،كما قال ابن العربي في العارضة: "ذلك أنه التكذيب بما جاء به تكذيب له لا محالة، فقوله: لا نكذبك،استهزاء بإطماع التصديق".
[34] {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا

مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}
عطف على جملة {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] أو على جملة {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] .ويجوز أن تكون الواو واو الحال من الكلام المحذوف قبل الفاء،أي فلا تحزن،أو إن أحزنك ذلك فإنهم لا يكذبونك والحال قد كذبت رسل من قبلك.والكلام على كل تقدير تسلية وتهوين وتكريم بأن إساءة أهل الشرك لمحمد عليه الصلاة والسلام هي دون ما أساء الأقوام إلى الرسل من قبله؛ فإنهم كذبوا بالقول والاعتقاد وأما قومه فكذبوا بالقول فقط.وفي الكلام أيضا تأس للرسول بمن قبله من الرسل.
ولام القسم لتأكيد الخبر بتنزيل الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة من ذهل طويلا عن تكذيب الرسل لأنه لما أحزنه قول قومه فيه كان كمن بعد علمه بذلك.و {مِنْ قَبْلِكَ} وصف كاشف لـ {رسل} جيء به لتقرير معنى التأسي بأن ذلك سنة الرسل.
وفي موقع هذه الآية بعد التي قبلها إيماء لرجاحة عقول العرب على عقول من سبقهم من الأمم،فإن الأمم كذبت رسلها باعتقاد ونطق ألسنتها،والعرب كذبوا باللسان وأيقنوا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام بعقولهم التي لا يروج عندها الزيف.
و"ما"مصدرية،أي صبروا على التكذيب،فيجوز أن يكون قوله: {وأوذوا} عطفا على {كذبوا} وتكون جملة {فصبروا} معترضة.والتقدير: ولقد كذبت وأوذيت رسل فصبروا.فلا يعتبر الوقف عند قوله: {عَلَى مَا كُذِّبُوا} بل يوصل الكلام إلى قوله: {نصرنا} ،وأن يكون عطفا على {كُذِّبَتْ رُسُلٌ} ،أي كذبت وأوذوا.ويفهم الصبر على الأذى من الصبر على التكذيب لأن التكذيب أذى فيحسن الوقف عند قوله: {عَلَى مَا كُذِّبُوا} .
وقرن فعل {كذبت} بعلامة التأنيث لأن فاعل الفعل إذا كان جمع تكسير يرجح اتصال الفعل بعلامة التأنيث على التأويل بالجماعة.ومن ثم جاء فعلا {فصبروا} و {كذبوا} مقترنين بواو الجمع،لأن فاعليهما ضميران مستتران فرجح اعتبار التذكير.
وعطف {وأوذوا} على {كذبت} عطف الأعم على الأخص،والأذى أعم من التكذيب،لأن الأذى هو ما يسوء ولو إساءة ما،قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران: 111] ويطلق على التشديد منه.فالأذى اسم اشتق منه آذى إذا جعل له أذى وألحقه

به.فالهمزة به للجعل أو للتصيير.ومصادر هذا الفعل أذى وأذاة وأذية.وكلها أسماء مصادر وليست مصادر.وقياس مصدره الإيذاء لكنه لم يسمع في كلام العرب.فلذلك قال صاحب القاموس: "لا يقال: إيذاء".وقال الراغب: "يقال: إيذاء".ولعل الخلاف مبني على الخلاف في أن القياسي يصح إطلاقه ولو لم يسمع في كلامهم أو يتوقف إطلاقه على سماع نوعه من مادته.ومن أنكر على صاحب القاموس فقد ظلمه.وأياما كان فالإيذاء لفظ غير فصيح لغرابته.ولقد يعد على صاحب الكشاف استعماله هنا وهو ما هو في علم البلاغة.
و {حتى} ابتدائية أفادت غاية ما قبلها،وهو التكذيب والأذى والصبر عليهما،فإن النصر كان بإهلاك المكذبين المؤذين،فكان غاية للتكذيب والأذى،وكان غاية للصبر الخاص،وهو الصبر على التكذيب والأذى،وبقي صبر الرسل على أشياء مما أمر بالصبر عليه.
والإتيان في قوله: {أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} مجاز في وقوع النصر بعد انتظاره،فشبه وقوعه بالمجيء من مكان بعيد كما يجيء المنادي المنتظر.وتقدم بيان هذا عند قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} في هذه السورة[4] .
وجملة {وَلا مُبَدِّلَ} عطف على جملة {أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} .
وكلمات الله وحيه للرسل الدال على وعده إياهم بالنصر،كما دلت عليه إضافة النصر إلى ضمير الجلالة.فالمراد كلمات من نوع خاص،فلا يرد أن بعض كلمات الله في التشريع قد تبدل بالنسخ؛ على أن التبديل المنفي مجاز في النقض، كما تقدم في قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} في سورة البقرة[181] .وسيأتي تحقيق لهذا المعنى عند قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} في هذه السورة[115] .
وهذا تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله ينصره كما نصر من قبله من الرسل،ويجوز أن تكون كلمات الله ما كتبه في أزله وقدره من سننه في الأمم،أي أن إهلاك المكذبين يقع كما وقع إهلاك من قبلهم.
ونفي المبدل كناية عن نفي التبديل،أي لا تبديل، لأن التبديل لا يكون إلا من مبدل.ومعناه: أن غير الله عاجز عن أن يبدل مراد الله،وأن الله أراد أن لا يبدل كلماته

في هذا الشأن.
وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} عطف على جملة {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} ،وهو كلام جامع لتفاصيل ما حل بالمكذبين،وبكيف كان نصر الله رسله.وذلك في تضاعيف ما نزل من القرآن في ذلك.
والقول في {جاءك} كالقول في {أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} ،فهو مجاز في بلوغ ذلك وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم به.
و"من"في قوله: {مِنْ نَبَأِ} إما اسم بمعنى"بعض"فتكون فاعلا مضافة إلى لنبأ،وهو ناظر إلى قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] .والأحسن أن تجعل صفة لموصوف محذوف تقديره: لقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين.والنبأ الخبر عن أمر عظيم، قال تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 2,1] ،وقال: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [صّ: 68,67] وقال في هذه السورة[67] {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
[35] {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
عطف على جملة {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33] ،فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحزنه ما يقولونه فيه من التكذيب به وبالقرآن حزنا على جهل قومه بقدر النصيحة وإنكارهم فضيلة صاحبها،وحزنا من جراء الأسف عليهم من دوام ضلالهم شفقة عليهم،وقد سلاه الله تعالى عن الحزن الأول بقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] وسلاّه عن الثاني بقوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} الآية.
و {كبر} ككرم،كبرا كعنب: عظمت جثته.ومعنى {كبر} هنا شق عليك.وأصله عظم الجثة،ثم استعمل مجازا في الأمور العظيمة الثقيلة لأن عظم الجثة يستلزم الثقل،ثم استعمل مجازا في معنى"شق"لأن الثقيل يشق جمله.فهو مجاز مرسل بلزومين.
وجيء في هذا الشرط بحرف"إن"الذي يكثر وروده في الشرط الذي لا يظن حصوله للإشارة إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام ليس بمظنة ذلك ولكنه على سبيل الفرض.

وزيدت"كان"بعد"إن"الشرطية بينها وبين ما هو فعل الشرط في المعنى ليبقى فعل الشرط على معنى المضي فلا تخلصه"إن"الشرطية إلى الاستقبال،كما هو شأن أفعال الشروط بعد"إن"،فإن "كان"لقوة دلالته على المضي لا تقبله أداة الشرط إلى الاستقبال.
والإعراض المعرف بالإضافة هو الذي مضى ذكره في قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4] وهو حالة أخرى غير حالة التكذيب،وكلتاهما من أسباب استمرار كفرهم.
وقوله: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} جواب {إِنْ كَانَ كَبُرَ} ،وهو شرط ثان وقع جوابا للشرط الأول.والاستطاعة: القدرة.والسين والتاء فيها للمبالغة في طاع، أي انقاد.
والابتغاء: الطلب.وقد تقدم عند قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} في سورة آل عمران[83] ،أي أن تطلب نفقا أو سلما لتبلغ إلى خبايا الأرض وعجائبها والى خبايا السماء.ومعنى الطلب هنا: البحث.
وانتصب {نفقا} و {سلما} على المفعولين لـ {تبتغي} .
والنفق: سرب في الأرض عميق.
والسلم بضم ففتح مع تشديد اللام ـآلة للارتقاء تتخذ من حبلين غليظين متوازيين تصل بينهما أعواد أو حبال أخرى متفرقة في عرض الفضاء الذي بين الحبلين من مساحة ما بين كل من تلك الأعواد بمقدار ما يرفع المرتقي إحدى رجليه إلى العود الذي فوق ذلك، وتسمى تلك الأعواد درجات.ويجعل طول الحبلين بمقدار الارتفاع الذي يراد الارتقاء إليه.ويسمى السلم مِرْقاة ومِدْرجة.وقد سموا الغرز الذي يرتقي به الراكب على رحل ناقته سلما.وكانوا يرتقون بالسلم إلى النخيل للجذاذ.وربما كانت السلاليم في الدور تتخذ من العود فتسمى المرقاة.فأما الدرج المبنية في العلالي فإنها تسمى سلما وتسمى الدّرَجة كما ورد في حديث مقتل أبي رافع قول عبد الله بن عتيك في إحدى الروايات: "حتى انتهيت إلى درجة له"، وفي رواية: "حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط منه".
وقوله: {فِي الْأَرْضِ} صفة {نفقا} أي متغلغلا، أي عميقا.فذكر هذا المجرور لإفادة المبالغة في العمق مع استحضار الحالة وتصوير حالة الاستطاعة إذ من المعلوم أن النفق لا يكون إلا في الأرض.

وأما قوله: {فِي السَّمَاءِ} فوصف به {سلما} ،أي كائنا في السماء،أي واصلا إلى السماء.والمعنى تبلغ به إلى السماء.كقول الأعشى:
ورقيت أسباب السماء بسلم
والمعنى: فإن استطعت أن تطلب آية من جميع الجهات للكائنات.ولعل اختيار الابتغاء في الأرض والسماء أن المشركين سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام آيات من جنس ما في الأرض،كقولهم: {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الاسراء: 90] ، ومن جنس ما في السماء، كقولهم: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الاسراء: 93] .
وقوله: {بآية} أي بآية يسلمون بها،فهنالك وصف محذوف دل عليه قوله: {إعراضهم} ،أي عن الآيات التي جئتهم بها.
وجواب الشرط محذوف دل عليه فعل الشرط، وهو {استطعت} .
والشرط وجوابه مستعملان مجازا في التأييس من إيمانهم وإقناعهم،لأن الله جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها.
ويتعين تقدير جواب الشرط مما دل عليه الكلام السابق،أي فأتهم بآية فإنهم لا يؤمنون بها،كما يقول القائل للراغب في إرضاء ملح.إن استطعت أن تجلب ما في بيتك،أي فهو لا يرضى بما تقصر عنه الاستطاعة بله ما في الاستطاعة.وهو استعمال شائع،وليس فيه شيء من اللوم ولا من التوبيخ،كما توهمه كثير من المفسرين.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} شرط امتناعي دل على أن الله لم يشأ ذلك،أي لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم عليه؛فمفعول المشيئة محذوف لقصد البيان بعد الإبهام على الطريقة المسلوكة في فعل المشيئة إذا كان تعلقه بمفعوله غير غريب وكان شرطا لإحدى أدوات الشرط كما هنا، وكقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [النساء: 133] .
ومعنى {لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} لهداهم أجمعين.فوقع تفنن في أسلوب التعبير فصار تركيبا خاصيا عدل به عن التركيب المشهور في نحو قوله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] للإشارة إلى تمييز الذين آمنوا من أهل مكة على من بقي فيها من المشركين، أي لو شاء لجمعهم مع المؤمنين على ما هدى إليه المؤمنين من قومهم.
والمعنى: لو شاء الله أن يخلقهم بعقول قابلة للحق لخلقهم بها فلقلبوا الهدى،

ولكنه خلقهم على ما وصف في قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الأنعام: 25] الآية، كما تقدم بيانه،وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] ،وبذلك تعلم أن هذه مشيئة كلية تكوينية، فلا تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى في آخر هذه السورة[148] {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} الآية.فهذا من المشيئة المتعلقة بالخلق والتكوين لا من المشيئة المتعلقة بالأمر والتشريع.وبينهما بون، سقط في مهواته من لم يقدر له صون.
وقوله: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} تذييل مفرع على ما سبق.
والمراد بـ {الجاهلين} يجوز أن يكون من الجهل الذي هو ضد العلم،كما في قوله تعالى خطابا لنوح: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] ،وهو ما حمل عليه المفسرون هنا،ويجوز أن يكون من الجهل ضد الحلم،أي لا تضق صدرا بإعراضهم.وهو أنسب بقوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} .وإرادة كلا المعنيين ينتظم مع مفاد الجملتين: جملة {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} وجملة {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} .ومع كون هذه الجملة تذييلا للكلام السابق فالمعنى: فلا يكبر عليك إعراضهم ولا تضق به صدرا،وأيضا فكن عالما بأن الله لو شاء لجمعهم على الهدى.وهذا إنباء من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأمر من علم الحقيقة يختص بحالة خاصة فلا يطرد في غير ذلك من مواقف التشريع.
وإنما عدل عن الأمر بالعلم لأن النهي عن الجهل يتضمنه فيتقرر في الذهن مرتين،ولأن في النهي عن الجهل بذلك تحريضا على استحضار العلم به،كما يقال للمتعلم: لا تنس هذه المسألة.وليس في الكلام نهي عن شيء تلبس به الرسول صلى الله عليه وسلم كما توهمه جمع من المفسرين،وذهبوا فيه مذاهب لا تستبين.
[36] {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}
تعليل لما أفاده قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ـإلى قوله ـ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] من تأييس من ولوج الدعوة إلى أنفسهم،أي لا يستجيب الذين يسمعون دون هؤلاء الذين حرمهم فائدة السمع وفهم المسموع.
ومفهوم الحصر مؤذن بإعمال منطوقه الذي يؤمئ إلى إرجاء بعد تاييس بأن الله جعل لقوم آخرين قلوبا يفقهون بها وآذانا يسمعون بها فأولئك يستجيبون.

وقوله: {يستجيب} بمعنى يجيب، فالسين والتاء زائدان للتأكيد، وقد تقدم الكلام على هذا الفعل عند قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} في سورة آل عمران[195] .وحذف متعلق {يستجيب} لظهوره من المقام لأن المقام مقام الدعوة إلى التوحيد وتصديق الرسول.
ومعنى {يسمعون} ،أنهم يفقهون ما يلقى إليهم من الإرشاد لأن الضالين كمن لا يسمع.فالمقصود سمع خاص وهو سمع الاعتبار.
أما قوله: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} فالوجه أنه مقابل لـ {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} ولذلك حسن عطف هذه الجملة على جملة {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} .فمعنى الكلام: وأما المعرضون عنك فهم مثل الموتى فلا يستجيبون، كقوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] .فحذف من الكلام ما دل عليه السياق، فإن الذي لا يسمع قد يكون فقدان سمعه من علة كالصمم، وقد يكون من عدم الحياة،كما قال عبد الرحمان بن الحكم الثقفي:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
فتضمن عطف {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} تعريضا بأن هؤلاء كالأموات لا ترجى منهم استجابة.وتخلص إلى وعيدهم بأنه يبعثهم بعد موتهم،أي لا يرجى منهم رجوع إلى الحق إلى أن يبعثوا،وحينئذ يلاقون جزاء كفرهم. {والموتى} استعارة لمن لا ينتفعون بعقولهم ومواهبهم في أهم الأشياء،وهو ما يرضي الله تعالى.و {يبعثهم} على هذا حقيقة،وهو ترشيح للاستعارة،لأن البعث من ملائمات المشبه به في العرف وإن كان الحي يخبر عنه بأنه يبعث،أي بعد موته،ولكن العرف لا يذكر البعث إلا باعتبار وصف المبعوث بأنه ميت.
ويجوز أن يكون البعث استعارة أيضا للهداية بعد الضلال تبعا لاستعارة الموت لعدم قبول الهدى على الوجهين المعروفين في الترشيح في فن البيان من كونه تارة يبقى على حقيقته لا يقصد منه إلا تقوية الاستعارة،وتارة يستعار من ملائم المشبه به إلى شبهه من ملائم المشبه،كقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران: 103] .فيكون على هذا الوجه في الكلام وعد للرسول صلى الله عليه وسلم بأن بعض هؤلاء الضالين المكذبين سيهديهم الله تعالى إلى الاسلام،وهم من لم يسبق في علمه حرمانهم من الإيمان.

فعلى الوجه الأول يكون قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} زيادة في التهديد والوعيد.وعلى الوجه الثاني يكون تحريضا لهم على الإيمان ليلقوا جزاءه حين يرجعون إلى الله.ويجوز أن يكون الوقف عند قوله تعالى: {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} .وتم التمثيل هنالك.ويكون قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} استطرادا تخلص به إلى قرع أسمائهم بإثبات الحشر الذي يقع بعد ا لبعث الحقيقي،فيكون البعث في قوله: {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} مستعملا في حقيقته ومجازه.وقريب منه في التخلص قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} في سورة البقرة[73] .
[37] {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
عطف على جملة {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35] الآيات،وهذا عود إلى ما جاء في أول السورة[4] من ذكر إعراضهم عن آيات الله بقوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .ثم ذكر ما تفننوا به من المعاذير من قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام: 25] أي وقالوا: لولا أنزل عليه آية،أي على وفق مقترحهم،وقد اقترحوا آيات مختلفة في مجادلات عديدة.ولذلك أجملها الله تعالى هنا اعتمادا على علمها عند الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين،فقال: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} .
فجملة {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} وقع عطفها معترضا بين جملة {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36] وجملة {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] الخ.وفي الإتيان بفعل النزول ما يدل على أن الآية المسئولة من قبيل ما يأتي من السماء، مثل قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] وقولهم: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء: 93] وشبه ذلك.
وجرد {نزل} من علامة التأنيث لأن المؤنث الذي تأنيثه لفظي بحت يجوز تجريد فعله من علامة التأنيث؛فإذا وقع بين الفعل ومرفوعه فاصل اجتمع مسوغان لتجريد الفعل من علامة التأنيث،فإن الفصل بوحده مسوغ لتجريد الفعل من العلامة.وقد صرح في الكشاف بإن تجريد الفعل عن علامة التأنيث حينئذ حسن.
و {لولا} حرف تحضيض بمعنى"هلا".والتحضيض هنا لقطع الخصم وتعجيزه،

كما تقدم في قوله تعالى آنفا {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] .
وتقدم الكلام على اشتقاق {آية} عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} في سورة البقرة[39] .
وفصل فعل {قل} فلم يعطف لأنه وقع موقع المحاورة فجاء على طريقة ا لفصل التي بيناها في مواضع كثيرة،أولها: قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة[30] .
وأمر الله رسوله أن يجيبهم بما يعلم منه أن الله لو شاء لأنزل آية على وفق مقترحهم تقوم عليهم بها الحجة في تصديق الرسول،ولكن الله لم يرد ذلك لحكمة يعلمها؛فعبر عن هذا المعنى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} وهم لا ينكرون أن الله قادر،ولذلك سألوا الآية،ولكنهم يزعمون أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يثبت صدقه إلا إذا أيده الله بآية على وفق مقترحهم.فقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} مستعمل في معناه الكنائي،وهو انتفاء أن يريد الله تعالى إجابة مقترحهم،لأنه لما أرسل رسوله بآيات بينات حصل المقصود من إقامة الحجة على الذين كفروا،فلو شاء لزادهم من الآيات لأنه قادر.
ففي هذه الطريقة من الجواب إثبات للرد بالدليل،وبهذا يظهر موقع الاستدراك في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فإنه راجع إلى المدلول الالتزامي,أي ولكن أكثر المعاندين لا يعلمون أن ذلك لو شاء الله لفعله، ويحسبون أن عدم الإجابة إلى مقترحهم بدل على عدم صدق الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك من ظلمة عقولهم،فلقد جاءهم من الآيات ما فيه مزدجر.
فيكون المعنى الذي أفاده هذا الرد غير المعنى الذي أفاده قوله: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] فإن ذلك نبهوا فيه على أن عدم إجابتهم فيه فائدة لهم وهو استبقاؤهم،وهذا نبهوا فيه على سوء نظرهم في استدلالهم.
وبيان ذلك أن الله تعالى نصب الآيات دلائل مناسبة للغرض المستدل عليه كما يقول المنطقيون: إن المقدمات والنتيجة تدل عقلا على المطلوب المستدل عليه،وإن النتيجة هي عين المطلوب في الواقع وإن كانت غيره في الاعتبار؛فلذلك نجد القرآن يذكر الحجج على عظيم قدرة الله على خلق الأمور العظيمة، كإخراج الحي من الميت وإخراج الميت

من الحي في سياق الاستدلال على وقوع البعث والحشر.ويسمي تلك الحجج آيات كقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 98] ، وكما سيجيء في أول سورة الرعد[2] {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} .وذكر في خلال ذلك تفصيل الآيات إلى قوله ـ {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] .وكذلك ذكر الدلائل على وحدانية الله باستقلاله بالخلق، كقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ـإلى قوله ـ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [الأنعام: 101ـ105] الخ، وكقوله في الاستدلال على انفراده بأنواع الهداية، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .ولما كان نزول القرآن على الرسول عليه الصلاة والسلام حجة على صدقه في إخباره أنه منزل من عند الله لما اشتمل عليه من العلوم وتفاصيل المواعظ وأحوال الأنبياء والأمم وشرع الأحكام مع كون الذي جاء به معلوم الأمية بينهم قد قضى شبابه بين ظهرانيهم،جعله آية على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما أخبر به عن الله تعالى، فسماه آيات في قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج: 72] فلم يشأ الله أن يجعل الدلائل على الأشياء من غير ما يناسبها.
أما الجهلة والضالون فهم يرومون آيات من عجائب التصاريف الخارقة لنظام العالم يريدون أن تكون علامة بينهم وبين الله على حسب اقتراحهم بأن يحييهم إليها إشارة منه إلى أنه صدق الرسول فيما بلغ عنه، فهذا ليس من قبيل الاستدلال ولكنه من قبيل المخاطرة ليزعموا أن عدم إجابتهم لما اقترحوه علامة على أن الله لم يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة.ومن أين لهم أن الله يرضى بالنزول معهم إلى هذا المجال،ولذلك قال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ،أي لا يعلمون ما وجه الارتباط بين دلالة الآية ومدلولها.ولذلك قال في الرد عليهم في سورة الرعد[7] {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} فهم جعلوا إيمانهم موقوفا على أن تنزل آية من السماء.وهم يعنون أن تنزيل آية من السماء جملة واحدة.فقد قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] وقالوا: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء: 93] فرد الله عليهم بقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] ، أي لا علاقة بين الإنذار وبين اشتراط كون الإنذار في كتاب ينزل من السماء،لأن الإنذار حاصل بكونه إنذارا مفصلا بليغا دالا على أن المنذر به ما اخترعه من تلقاء نفسه، ولذلك رد

عليهم بما يبين هذا في قوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ـإلى قوله ـ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 48ـ51] أي فما فائدة كونه ينزل في قرطاس من السماء مع أن المضمون واحد.
وقال في رد قولهم: {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء: 93] {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء: 93] .نعم إن الله قد يقيم آيات من هذا القبيل من تلقاء اختياره بدون اقتراح عليه،وهو ما يسمى بالمعجزة مثل ما سمى بعض ذلك بالآيات في قوله: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: 12] ،فذلك أمر أنف من عند الله لم يقترحه عليه أحد.وقد أعطى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم من ذلك كثيرا في غير مقام اقتراح من المعرضين،مثل انشقاق القمر،ونبع الماء من بين أصابعه،وتكثير الطعام القليل،ونبع الماء من الأرض بسهم رشقه في الأرض.هذا هو البيان الذي وعدت به عند قوله تعالى: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} في هذه السورة[8] .
ومن ا لمفسرين من جعل معنى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أنهم لا يعلمون أن إنزال الآية على وفق مقترحهم يعقبها الاستئصال إن لم يؤمنوا، وهم لعنادهم لا يؤمنون.إلا أن ما فسرتها به أولى لئلا يكون معناها إعادة لمعنى الآية التي سبقتها، وبه يندفع التوقف في وجه مطابقة الجواب لمقتضى السؤال حسبما توقف فيه التفتزاني في تقرير كلام الكشاف.
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} تنبيه على أن فيهم من يعلم ذلك ولكنه يكابر ويظهر أنه لا يتم عنده الاستدلال إلا على نحو ما اقترحوه.
وإعادة لفظ {آية} بالتنكير في قوله: {أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} من إعادة النكرة نكرة وهي عين الاولى.وهذا يبطل القاعدة المتداولة بين المعربين من أن اللفظ المنكر إذا أعيد في الكلام منكرا كان الثاني غير الأول.وقد ذكرها ابن هشام في مغني اللبيب في الباب السادس ونقضها.ومما مثل به لإعادة النكرة نكرة وهي عين الأولى لا غيرها قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54] .وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} في سورة النساء[128] .

[38] {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}
معنى هذه الآية غامض بدءا.ونهايتها أشد غموضا،وموقعها في هذا السياق خفي المناسبة.فاعلم أن معنى قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ـإلى قوله ـ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أن لها خصائص لكل جنس ونوع منها كما لأمم البشر خصائصها،أي جعل الله لكل نوع ما به قوامه وألهمه اتباع نظامه وأن لها حياة مؤجلة لا محالة.
فمعنى {أمثالكم} المماثلة في الحياة الحيوانية وفي اختصاصها بنظامها.
وأما معنى قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} أنها صائرة إلى الموت.ويعضده ما روي عن ابن عباس: "حشر البهائم موتها"،أي فالحشر مستعمل في مجاز قريب إلى حقيقته اللغوية التي في نحو قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} [النمل: 17] .فموقع هذه الآية عند بعض المفسرين أنها بمنزلة الدليل على مضمون قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37] ،فيجوز أن تكون معطوفة على جملة {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} [الأنعام: 37] على أنها من جملة ما أمر النبي بأن يقوله لهم؛ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ} [الأنعام: 37] على أنها من خطاب الله لهم.أي أن الذي خلق أنواع الأحياء كلها وجعلها كالأمم ذات خصائص جامعة لأفراد كل نوع منها فكان خلقها آية على عظيم قدرته لا يعجزه أن يأتي بآية حسب مقترحكم ولكنكم لا تعلمون الحكمة في عدم إجابتكم لما سألتم.ويكون تعقيبه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ} [الأنعام: 39] الآية واضح المناسبة،أي لا يهتدون إلى ما في عوالم الدواب والطير من الدلائل على وحدانية الله.
وأما قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} فإن نظرنا إليه مستقبلا بنصه غير ملتفتين إلى ما نيط به من آثار مروية في تفسيره؛فأول ما يبدو للناظر أن ضميري {ربهم} و {يحشرون} عائدان إلى {دابة} و {طائر} باعتبار دلالتهما على جماعات الدواب والطير لوقوعهما في حيز حرف"من"المفيدة للعموم في سياق النفي،فيتساءل الناظر عن ذلك وهما ضميران موضوعان للعقلاء.وقد تأولوا لوقوع الضميرين على غير العقلاء بوجهين: أحدهما أنه بناء على التغليب إذ جاء بعده {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} .الوجه الثاني أنهما عائدان إلى {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ، أي أن الأمم كلها محشورة إلى الله تعالى.

وأحسن من ذلك تأويلا أن يكون الضميران عائدين إلى ما عادت إليه ضمائر الغبيبة في هذه الآيات التي آخرها ضمير {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} ،فيكون موقع جملة {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} موقع الإدماج والاستطراد مجابهة للمشركين بأنهم محشورون إلى الله لا محالة وإن أنكروا ذلك.
فإذا وقع الالتفات إلى ما روي من الآثار المتعلقة بالآية كان الأمر مشكلا.فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء "التي لا قرن لها،وفي رواية غيره: الجماء"من الشاة القرناء".وروى أحمد بن حنبل وأبو داود الطيالسي في مسنديهما عن أبي ذر قال: "انتطحت شاتان أو عنزان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا؟" ،قلت: "لا"،قال: "لكن الله يدري وسيقضي بينهما يوم القيامة" .فهذا مقتض إثبات حشر الدواب ليوم الحساب، فكان معناه خفي الحكمة إذ من المحقق انتفاء تكليف الدواب والطير تبعا لانتفاء العقل عنها.وكان موقعها جلي المناسبة بما قاله الفخر نقلا عن عبد الجبار بأنه لما قدم الله أن الكفار يرجعون إليه ويحشرون بين بعده أن الدواب والطير أمم أمثالهم في أنهم يحشرون.والمقصود بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في الناس حاصل في البهائم.وهذا ظاهر قوله: {يحشرون} لأن غالب إطلاق الحشر في القرآن على الحشر للحساب، فيناسب أن تكون جملة {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} الآية عطفا على جملة: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} ،فإن المشركين ينكرون البعث ويجعلون إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام به من أسباب تهمته فيما جاء به،فلما توعدهم الله بالآية السابقة بأنهم إليه يرجعون زاد أن سجل عليهم جهلهم فأخبرهم بما هو أعجب مما أنكروه،وهو إعلامهم بأن الحشر ليس يختص بالبشر بل يعم كل ما فيه حياة من الدواب والطير.فالمقصود من هذا الخبر هو قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} .وأما ما قبله فهو بمنزلة المقدمة له والاستدلال عليه،أي فالدواب والطير تبعث مثل البشر وتحضر أفرادها كلها يوم الحشر،وذلك يقتضي لا محالة أن يقتص لها، فقد تكون حكمة حشرها تابعة لإلقاء الأرض ما فيها وإعادة أجزاء الحيوان.
وإذا كان المراد من هذين الحديثين ظاهرهما فإن هذا مظهر من مظاهر الحق يوم القيامة لإصلاح ما فرط في عالم الفناء من رواج الباطل وحكم القوة على العدالة، ويكون القصاص بتمكين المظلوم من الدواب من رد فعل ظالمه كيلا يستقر الباطل.فهو من قبيل

ترتب المسببات على أسبابها شبيه بخطاب الوضع،وليس في ذلك ثواب ولا عقاب لانتفاء التكليف ثم تصير الدواب يومئذ ترابا،كما ورد في رواية عن أبي هريرة في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] .قال المازري في المعلم: "واضطرب العلماء في بعث البهائم.وأقوى ما تعلق به من يقول ببعثها قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} .وقد قيل: إن هذا كله تمثيل للعدل.ونسبه المازري إلى بعض شيوخه قال: هو ضرب مثل إعلاما للخلق بأن لا يبقى حق عند أحد".
والدابة مشتقة من دب إذا مشى على الأرض،وهي اسم لكل ما يدب على الأرض.وقوله: {فِي الْأَرْضِ في الأرض} صفة قصد منها إفادة التعميم والشمول بذكر اسم المكان الذي يحوي جميع الدواب وهو الأرض، وكذلك وصف {طائر} بقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} قصد به الشمول والإحاطة،لأنه وصف آيل إلى معنى التوكيد،لأن مفاد {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} أنه طائر، كأنه قيل: ولا طائر ولا طائر.والتوكيد هنا يؤكد معنى الشمول الذي دلت عليه"من"الزائدة في سياق النفي،فحصل من هذين الوصفين تقرير معنى الشمول الحاصل من نفي اسمي الجنسين.ونكتة التوكيد أن الخبر لغرابته عندهم وكونه مظنة إنكارهم أنه حقيق بأن يؤكد.
ووقع في المفتاح في بحث إتباع المسند إليه بالبيان أن هذين الوصفين في هذه الآية للدلالة على أن القصد من اللفظين الجنس لا بعض الأفراد وهو غير ما في الكشاف،وكيف يتوهم أن المقصود بعض الأفراد ووجود"من"في النفي نص على نفي الجنس دون الوحدة.
وبهذا تعلم أن ليس وصف {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} واردا لرفع احتمال المجاز في {طائر} كما جنح إليه كثير من المفسرين وإن كان رفع احتمال المجاز من جملة نكت التوكيد اللفظي إلا أنه غير مطرد،ولأن اعتبار تأكيد العموم أولى،بخلاف نحو قولهم: نظرته بعيني وسمعته بأذني.وقول صخر:
شعر واتخذت من شعر صدارها
إذ من المعلوم أن الصدار لا يكون إلا من شعر.
و {أمم} جمع أمة.والأمة أصلها الجماعة من الناس المتماثلة في صفات ذاتية من نسب أو لغة أو عادة أو جنس أو نوع.قيل: سميت أمة لأن أفرادها تؤم أمما واحدا وهو

ما يجمع مقوماتها.
وأحسب أن لفظ أمة خاص بالجماعة العظيمة من البشر،فلا يقال في اللغة أمة الملائكة ولا أمة السباع.فأما إطلاق الأمم على الدواب والطير في هذه الآية فهو مجاز،أي مثل الأمم لأن كل نوع منها تجتمع أفراده في صفات متحدة بينها أمما واحدة،وهو ما يجمعها وأحسب أنها خاصة بالبشر.
و {دابة} و {طائر} في سياق النفي يراد بهما جميع أفراد النوعين كما هو شأن الاستغراق،فالإخبار عنهما بلفظ {أمم} وهو جمع على تأويله بجماعاتها،أي إلا جماعاتها أمم،أو إلا أفراد أمم.
وتشمل الأرض البحر لأنه من الأرض ولأن مخلوقاته يطلق عليها لفظ الدابة،كما ورد في حديث سرية سيف البحر قول جابر بن عبد الله: "فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر".
والمماثلة في قوله: {أمثالكم} التشابه في فصول الحقائق والخاصات التي تميز كل نوع من غيره،وهي النظم الفطرية التي فطر الله عليها أنواع المخلوقات.فالدواب والطير تماثل الأناسي في أنها خلقت على طبيعة تشترك فيها أفراد أنواعها وأنها مخلوقة لله معطاة حياة مقدرة مع تقدير ارازقها وولادتها وشبابها وهرمها، ولها نظم لا تستطيع تبديلها.وليست المماثلة براجعة إلى جميع الصفات فإنها لا تماثل الإنسان في التفكير والحضارة المكتسبة من الفكر الذي اختص به الإنسان.ولذلك لا يصح إن يكون لغير الإنسان نظام دولة ولا شرائع ولا رسل ترسل إليهن لانعدام عقل التكليف فيهن،وكذلك لا يصح أن توصف بمعرفة الله تعالى.وأما قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] فذلك بلسان الحال في العجماوات حين نراها بهجة عند حصول ما يلائمها فنراها مرحة فرحة.وإنما ذلك بما ساق الله إليها من النعمة وهي لا تفقه أصلها ولكنها تحس بأثرها فتبتهج،ولأن في كل نوع منها خصائص لها دلالة على عظيم قدرة الله وعلمه تختلف عن بقية الأنواع من جنسه والمقصد من هذا صرف الأفهام إلى الاعتبار بنظام الخلق الذي أودعه الله في كل نوع،والخطاب في قوله: {أمثالكم} موجه إلى المشركين.
وجملة {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} معترضة لبيان سعة علم الله تعالى وعظيم قدرته.فالكتاب هنا بمعنى المكتوب،وهو المكنى عنه بالقلم المراد به ما سبق في علم الله وإرادته الجارية على وفقه كما تقدم في قوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}

[الأنعام: 12] .
وقيل الكتاب بالقرآن.وهذا بعيد إذ لا مناسبة بالغرض على هذا التفسير،فقد أورد كيف يشتمل القرآن على كل شيء.وقد بسط فخر الدين بيان ذلك لاختيار هذا القول وكذلك أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات.
والتفريط: الترك والإهمال،وتقدم بيانه آنفا عند قوله تعالى: {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [لأنعام: 31} .
والشيء هو الموجود.والمراد به هنا أحوال المخلوقات كما يدل عليه السياق فشمل أحوال الدواب والطير فإنها معلومة لله تعالى مقدرة عنده بما أودع فيها من حكمة خلقه تعالى.
وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} تقدم تفسيره آنفا في أول تفسير هذه الآية.وفي الآية تنبيه للمسلمين على الرفق بالحيوان فإن الإخبار بأنها أمم أمثالنا تنبيه على المشاركة في المخلوقية وصفات الحيوانية كلها.وفي قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} إلقاء للحذر من الاعتداء عليها بما نهى الشرع عنه من تعذيبها وإذا كان يقتص لبعضها من بعض وهي غير مكلفة، فالاقتصاص من الإنسان لها أولى بالعدل.وقد ثبت في الحديث الصحيح: "أن الله شكر للذي سقى الكلب العطشان،وأن الله أدخل امرأة النار في هرة حبستها فماتت جوعا".
[39] {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]
يجوز أن تكون الواو للعطف،والمعطوف عليه جملة {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} .والمعنى: والذين كذبوا بآياتنا ولم يستمعوا لها،أي لا يستجيبون بمنزلة صم وبكم في ظلمات لا يهتدون.
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والواو استئنافية،أي عاطفة كلاما مبتدأ ليس مرتبطا بجملة معينة من الكلام السابق ولكنه ناشئ عن جميع الكلام المتقدم.فإن الله لما ذكر من مخلوقاته وآثار قدرته ما شأنه أن يعرف الناس بوحدانيته ويدلهم على آياته وصدق رسوله أعقبه ببيان أن المكذبين في ضلال مبين عن الاهتداء لذلك، وعن التأمل والتفكير

فيه، وعلى الوجهين فمناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 38] الآية قد تعرضنا إليها آنفا.
والمراد بالذين كذبوا المشركون الذين مضى الكلام على أحوالهم عموما وخصوصا.
وقوله: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} تمثيل لحالهم في ضلال عقائدهم والابتعاد عن الاهتداء بحال قوم صم وبكم في ظلام.فالصمم يمنعهم من تلقي هدى من يهديهم، والبكم يمنعهم من الاسترشاد ممن يمر بهم، والظلام يمنعهم من التبصر في الطريق أو المنفذ المخرج لهم من مأزقهم.
وإنما قيل في {الظلمات} ولم يوصفوا بأنهم عمي كما في قوله: {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء: 97} [ليكون لبعض أجزاء الهيئة المشبهة بها ما يصلح لشبه بعض أجزاء الهيئة المشبهة، فإن الكفر الذي هم فيه والذي أصارهم إلى استمرار الضلال يشبه الظلمات في الحيلولة بين الداخل فيه وبين الاهتداء إلى طريق النجاة.وفي الحديث: "الظلم ظلمات يوم القيامة" .فهذا التمثيل جاء على أتم شروط التمثيل.وهو قبوله لتفكيك أجزاء الهيئتين إلى تشبيهات مفردة، كقول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وجمع الظلمات جار على الفصيح من عدم استعمال الظلمة مفردا.وقد تقدم في صدر السورة، وقيل: للإشارة إلى ظلمة الكفر، وظلمة الجهل، وظلمة العناد.
وقوله: {صُمٌّ وَبُكْمٌ} خبر ومعطوف عليه.وقوله: {فِي الظُّلُمَاتِ} خبر ثالث لأنه يجوز في الأخبار المتعددة ما يجوز في النعوت المتعددة من العطف وتركه.
وقوله: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} استئناف بياني لأن حالهم العجيبة تثير سؤالا وهو أن يقول قائل ما بالهم لا يهتدون مع وضوح هذه الدلائل البينات، فأجيب بأن الله أضلهم فلا يهتدون، وأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فدل قوله: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} على أن هؤلاء المكذبين الضالين هم ممن شاء الله إضلالهم على طريقة الإيجاز بالحذف لظهور المحذوف، وهذا مرتبط بما تقدم من قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] .
ومعنى إضلال الله تقديره الضلال؛ بأن يخلق الضال بعقل قابل للضلال مصر على ضلالة عنيد عليه فإذا أخذ في مبادئ الضلال كما يعرض لكثير من الناس فوعظه واعظ أو

خطر له في نفسه خاطر أنه على ضلال منعه إصراره من الإقلاع عنه فلا يزال يهوي به في مهاوي الضلالة حتى يبلغ به إلى غاية التخلق بالضلال فلا ينكف عنه.وهذا مما أشار إليه قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5,4] ،ودل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" .وكل هذا من تصرف الله تعالى بالتكوين والخلق وهو تصرف القدر.وله اتصال بناموس التسلسل في تطور أحوال البشر في تصرفات بعقولهم وعوائدهم، وهي سلسلة بعيدة المدى اقتضتها حكمة الله تعالى في تدبير نظام هذا العالم، ولا يعلم كنهها إلا الله تعالى، وليس هذا الإضلال بالأمر بالضلال فإن الله لا يأمر بالفحشاء ولا بتلقينه والحث عليه وتسهيله فإن ذلك من فعل الشيطان، كما أن الله قد حرم من أراد إضلاله من انتشاله واللطف به لأن ذلك فضل من هو أعلم بأهله.ومفعول {يشأ} محذوف لدلالة جواب الشرط عليه، كما هو الشائع في مفعول فعل المشيئة الواقع شرطا.
والصراط هو الطريق البين.ومعنى المستقيم أنه لا اعوجاج فيه، لأن السير في الطريق المستقيم أيسر على السائر وأقرب وصولا إلى المقصود.
ومعنى"على"الاستعلاء، وهو استعلاء السائر على الطريق.فالكلام تمثيل لحال الذي خلقه الله فمن عليه العقل يرعوي من غيه ويصغي إلى النصيحة فلا يقع في الفساد فاتبع الدين الحق، بحال السائر في طريق واضحة لا يتحير ولا يخطئ القصد، ومستقيمة لا تطوح به في طول السير.وهذا التمثيل أيضا صالح لتشبيه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبه بها، كما تقدم في نظيره.وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] .فالدين يشبه الصراط الموصل بغير عناء، والهدي إليه شبيه الجعل على الصراط.
[41,40] {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}
استئناف ابتدائي يتضمن تهديدا بالوعيد طردا للأغراض السابقة، وتخلله تعريض بالحث على خلع الشرك إذ ليس لشركائهم نفع بأيديهم، فذكروا بأحوال قد تعرض لهم يلجأون فيها إلى الله,وألقي عليهم سؤال أيستمرون على الإشراك بالله في تلك الحالة وهل

يستمرون من الآن على الشرك إلى أن يأتيهم العذاب أو تأتيهم القيامة حين يلجأون إلى الإيمان بوحدانيته، ولات حين إيمان.
وافتتح هذا التهديد بالأمر بالقول اهتماما به وإلا فإن معظم ما في القرآن مأمور الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم.وقد تتابع الأمر بالقول في الآيات بعد هذه إلى قوله: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67] اثنتي عشرة مرة.وورد نظيره في سورة يونس.
وقوله: {أرأيتكم} تركيب شهير الاستعمال، يفتتح بمثله الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به.وهمزة الاستفهام فيه للاستفهام التقريري.
و"رأى"فيه بمعنى الظن.يسند إلى تاء خطاب تلازم حالة واحدة ملازمة حركة واحدة، وهي الفتحة لا تختلف باختلاف عدد المخاطب وصنفه سواء كان مفردا أو غيره، مذكرا أو غيره، ويجعل المفعول الأول في هذا التركيب غالبا ضمير خطاب عائدا إلى فاعل الرؤية القلبية ومستغنى به لبيان المراد بتاء الخطاب.والمعنى أن المخاطب يعلم نفسه على الحالة المذكورة بعد ضمير الخطاب، فالمخاطب فاعل ومفعول باختلاف الاعتبار، فإن من خصائص أفعال باب الظن أنه يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها واحدا "وألحق بأفعال العلم فعلان: فقد، وعدم في الدعاء نحو فقدتني"، وتقع بعد الضمير المنصوب جملة في موضع مفعوله الثاني، وقد يجيء في تلك الجملة ما يعلق فعل الرؤية عن العمل.
هذا هو الوجه في تحليل هذا التركيب.وبعض النحاة يجعل تلك الجملة سادة مسد المفعولين تفصيا من جعل ضمائر الخطاب مفاعيل إذ يجعلونها مجرد علامات خطاب لا محل لها من الإعراب، وذلك حفاظا علة متعارف قواعد النحو في الاستعمال الأصلي المتعارف مع أن لغرائب الاستعمال أحوالا خاصة لا ينبغي غض النظر عنها إلا إذا قصد بيان أصل الكلام أو عدم التشويش على المتعلمين.ولا يخفى أن ما ذهبوا إليه هو أشد غرابة وهو الجمع بين علامتي خطاب مختلفتين في الصورة ومرجعهما متحد.وعلى الوجه الذي اخترناه فالمفعول الثاني في هذا التركيب هو جملة {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} .
وإنما تركت التاء على حالة واحدة لأنه لما جعلت ذات الفاعل ذات المفعول إعرابا وراموا أن يجعلوا هذا التركيب جاريا مجرى المثل في كونه قليل الألفاظ وافر المعنى تجنبوا ما يحدثه الجمع بين ضميري خطاب مرفوع ومنصوب من الثقل في نحو أرأيتماكما، وأرأيتُمْكُم وأريْتُنُّكُنّ، ونحو ذلك، سلكوا هذه الطريقة الغريبة فاستغنوا باختلاف

حالة الضمير الثاني عن اختلاف حالة الضمير الأول اختصارا وتخفيفا، وبذلك تأتى أن يكون هذا التركيب جاريا مجرى المثل لما فيه من الإيجاز تسهيلا لشيوع استعماله استعمالا خاصا لا يغير عنه، فلذلك لا تكسر تلك التاء في خطاب المؤنث ولا تضم في خطاب المثنى والمجموع.
وعن الأخفش: "أخرجت العرب هذا اللفظ من معناه بالكلية فألزمته الخطاب، وأخرجته عن موضوعه إلى معنى"أما"بفتح الهمزة، فجعلت الفاء بعده في بعض استعمالاته كقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63] فما دخلت الفاء إلا وقد أخرجت"أرأيت"لمعنى"أما"؛ وأخرجته أيضا إلى معنى"أخبرني"فلا بد بعده من اسم المستخبر عنه؛ وتلزم الجملة بعد الاستفهام، وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرف الزمان".اهـ.
في الكشاف: "متعلق الاستخبار محذوف، تقديره: إن أتاكم عذا ب الله أو أتتكم الساعة من تدعون، ثم بكتهم بقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} ، أي أتخصون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها بل إياه تدعون"اهـ.وجملة {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} هي المفعول الثاني لفعل {أرأيتكم} .
واعلم أن هذا استعمال خاص بهذا التركيب الخاص الجاري مجرى المثل، فأما إذا أريد جريان فعل الرؤية العلمية على أصل بابه فإنه يجري على المتعارف في تعدية الفعل إلى فاعله ومفعوليه.فمن قال لك: رأيتني عالما بفلان.فأردت التحقق فيه تقول: أرأيتك عالما بفلان.وتقول للمثنى: أرأيتما كما عالمين بفلان، وللجمع أرأيتموكم وللمؤنثة أرأيتك ـ بكسر التاء ـ.
وقرأه نافع في المشهور ـ بتسهيل الهمزة ألفا ـ؛ وعنه رواية بجعلها بين الهمزة والألف.وقرأه الكسائي ـ بإسقاط الهمزة ـالتي هي عين الكلمة، فيقول: {أريت} وهي لغة.وقرأه الباقون بتحقيق الهمزة.
وجملة {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} الخ معترضة بين مفعولي فعل الرؤية، وهي جملة شرطية حذف جوابها لدلالة جملة المفعول الثاني عليه.
وإتيان العذاب: حلوله وحصوله، فهو مجاز لأن حقيقة الإتيان المجيء، وهو الانتقال من موضع بعيد إلى الموضع الذي استقر فيه مفعول الإتيان، فيطلق مجازا على

حصول شيء لم يكن حاصلا.وكذلك القول في إتيان الساعة سواء.
ووجه إعادة فعل {أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} مع كون حرف العطف مغنيا عن إعادة العامل بأن يقال:إن أتاكم عذاب الله أو الساعة، هو ما يوجه به الإظهار في مقام الإضمار من إرادة الاهتمام بالمظهر بحيث يعاد لفظه الصريح لأنه أقوى استقرارا في ذهن السامع.
والاهتمام هنا دعا إليه التهويل وإدخال الروع في ضمير السامع بأن يصرح بإسناد هذا الإتيان لاسم المسند إليه الدال على أمر مهول ليدل تعلق هذا الفعل بالمفعول على تهويله وإراعته.
وقد استشعر الاحتياج إلى توجيه إعادة الفعل هنا الشيخ محمد بن عرفة في درس تفسيره، ولكنه وجهه بأنه"إذا كان العاملان متفاوتين في المعنى لكون أحدهما أشد يعاد العامل بعد حرف العطف إشعارا بالتفاوت، فإن إتيان العذاب أشد من إتيان الساعة"أي بناء على أن المراد بعذاب الله عذاب الآخرة"أو كان العاملان متباعدين، فإن أريد بالساعة القيامة وبعذاب الله المحق والرزايا في الدنيا فيعقبه بعد مهلة تامة.وإن أريد بالساعة المدة فالمحق الدنيوي كثير، منه متقدم ومنه متأخر إلى الموت، فالتقدم ظاهر"ا هـ.وفي توجيهه نظر إذ لا يشهد له الاستعمال.
وإضافة العذاب إلى اسم الجلالة لتهويله لصدوره من أقدر القادرين.والمراد عذاب يحصل في الدنيا يضرعون إلى الله لرفعه عنهم بدليل قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} ، فإن الدعاء لا يكون بطلب رفع عذاب الجزاء.وهذا تهديد وإنذار.
والساعة:علم بالغلبة على ساعة انقراض الدنيا، أي إن أدركتكم الساعة.
وتقديم {أَغَيْرَ اللَّهِ} على عامله وهو {تدعون} لتكون الجملة المستفهم عنها جملة قصر، أي أتعرضون عن دعاء الله فتدعون غيره دونه كما هو دأبكم الآن، فالقصر لحكاية حالهم لا لقصد الرد على الغير.وقد دل الكلام على التعجب، أي تستمرون على هذه الحال.والكلام زيادة في الإنذار.
وجملة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} مستأنفة، وجوابها محذوف دل عليه قوله: {أرأيتكم} لذي هو بمعنى التقرير.فتقدير الجواب:إن كنتم صادقين فأنتم مقرون بأنكم لا تدعون غير الله.ذكرهم في هذه الآية وألجأهم إلى النظر ليعلموا أنه إذا أراد الله عذابهم لا تستطيع آلهتهم دفعه عنهم، فهم إن توخوا الصدق في الخبر عن هذا المستقبل أعادوا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68