كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

عليه السلام ويجوز أن تكون كلمة "كل" مستعملة في الكثرة كما تقدم.
والباء للإلصاق، أو بمعنى "في" كشأنها إذا دخلت على أسماء المنازل. كقول امرئ القيس:
بسقط اللوى
البيت.
وجملة {تُوعِدُونَ} حال من ضمير {وَلا تَقْعُدُوا} . والإيعاد: الوعد بالشر. والمقصود من الإيعاد الصد، فيكون عطف جملة {وَتَصُدُّونَ} عطف علة على معلول، أو أريد توعدون المصممين على اتباع الإيمان، وتصدون الذين لم يصمموا: فهو عطف عام على خاص.
و {مَنْ آمَنَ} يتنازعه كل من {تُوعِدُونَ} {وَتَصُدُّونَ}.
والتعبير بالماضي في قوله: {مَنْ آمَنَ} عوضا عن المضارع، حيث المراد بمن آمن قاصد الإيمان، فالتعبير عنه بالماضي لتحقيق عزم القاصد على الإيمان فهو لولا أنهم يصدونه لكان قد آمن.
و {سَبِيلِ اللَّهِ} الدين لأنه مثل الطريق الموصول إلى الله، أي إلى القرب من مرضاته.
ومعنى {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} تبغون لسبيل الله عوجا إذ كانوا يزعمون أن ما يدعوا إليه شعيب باطل، يقال: بغاة بمعنى طلب له، فأصله بغى له فحذفوا حرف الجر لكثرة الاستعمال أو التضمين بغى معنى أعطى.
والعوج بكسر العين عدم الاستقامة في المعاني، وبفتح العين: عدم استقامة الذات، والمعنى: تحاولون ان تصفوا دعوة شعيب المستقيمة بأنها باطل وضلال، كمن يحاول اعوجاج عود مستقيم. وتقدم نظير هذا في هذه السورة في ذكر نداء أصحاب الجنة أصحاب النار.
وإنما أخر النهي عن الصد عن سبيل الله، بعد جملة {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ولم يجعله في نسق الأوامر والنواهي الماضية ثم يعقبه بقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} لأنه رتب الكلام على الابتداء بالدعوة إلى التوحيد، ثم إلى الأعمال الصالحة لمناسبة أن الجميع فيه صلاح المخاطبين، فأعقبها ببيان أنها خير لهم إن كانوا مؤمنين فأعاد تنبيههم

إلى الإيمان وإلى أنه شرط في صلاح الأعمال، وبمناسبة ذكر لأيمان عاد إلى النهي عن صد الراغبين فيه، فهذا مثل الترتيب في قول امرئ القيس:
كأني لم اركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الراح الكميت ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد اجفال
روى الواحدي في شرح ديوان المتنبي أن المتنبي لما أنشد سبف الدولة قوله فيه:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى حزينة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
أنكر عليه سيف الدولة تطبيق عجزي البيتين على صدريهما، وقال له كان ينبغي أن تجعل العجز الثاني عجز الأول والعكس وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله:
كأني لم أركب جوادا للذة
البيتين، ووجه الكلام على ما قاله العلماء بالشعر: أن يكون عجز البيت الأول للثاني وعجز البيت الثاني للأول ليكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكر، ويكون سباء الخمر مع تبطن الكاعب، فقال أبو الطيب: إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا الأمير يعلم أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك، لأن البزاز لا يعرف إلا جملته، والحائك يعرف جملته وتفصيله، لأنه أخرجه من الغزلية إلى الثوبية، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى لتجانسه، ولما كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا وعينه من أن تكون باكية قلت: "ووجهك وضاح وثغرك باسم" لأجمع بين الأضداد في المعنى.
وهو يعني بهذا أن وجوه المناسبة في نظم الكلام تختلف وتتعدد، وإن بعضا يكون أرجح من بعض.
وذكرهم شعيب عليه السلام عقب ذلك بتكثير الله إياهم بعد أن كانوا قليلا، وهي نعمة عليهم، إذ صاروا أمة بعد أن كانوا معشرا.
ومعنى تكثير الله إياهم تيسيره أسباب الكثرة لهم بأن قوى فيهم قوة التناسل،

وحفظهم من أسباب الموتان، ويسر لنسلهم اليفاعة حتى كثرت مواليدهم وقلت وفياتهم، فصاروا عددا كثيرا في زمن لا يعهد في مثله مصير أمة إلى عددهم، فيعد منعهم الناس من الدخول في دين الله سعيا في تقليل حزب الله، وذلك كفران لنعمة الله عليهم بأن كثرهم، وليقابلوا اعتبار هذه النعمة باعتبار نقمته تعالى من الذين غضب عليهم، إذ استأصلهم بعد أن كانوا كثيرا فذلك من تمايز الأشياء بأضدادها.
فلذلك أعقبه بقوله: {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} . وفي هذا الكلام جمع بين طريقي الترغيب والترهيب.
وقليل وصف يلزم الأفراد والتذكير، مثل كثير، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} في سورة آل عمران [146].
والمراد ب {الْمُفْسِدِينَ} الذين أفسدوا أنفسهم بعقيدة الشرك وبأعمال الضلال، وأفسدوا المجتمع يخالفه الشرائع، وأفسدوا الناس بإمدادهم بالضلال وصدهم عن الهدى، ولذلك لو يؤت: لـ{الْمُفْسِدِينَ} بمتعلق لأنه اعتبر صفة، وقطع عن مشابهة الفعل، أي الذين عرفوا بالإفساد، وهذا الخطاب مقصود منه الكافرون من قومه ابتداء، وفيه تذكير للمؤمنين منهم بنعمة الله، فإنها تشملهم وبالاعتبار بمن مضوا فإنه ينفعهم، وفي هذا الكلام تعريض بالوعد للمسلمين وبالتسلية لهم على ما يلاقونه من مفسدي أهل الشرك لانطباق حال الفريقين على حال الفريقين من قوم شعيب عليه السلام.
و"إذ" في قوله: {إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً} اسم زمان، غير ظرف فهو في محل المفعول به أي اذكروا زمان كنتم قليلا فأعقبه بأن كثركم في مدة قريبة.
و {الطَائِفَةٌ} الجماعة ذات العدد الكثير وتقدمت عند قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} في سورة النساء [102].
والشرط في قوله: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ} أفاد تعليق حصول مضمون الجزاء في المستقبل، أعني ما تضمنه الوعيد للكافرين به والوعد للمؤمنين، على تحقق حصول مضمون فعل الشرط، لا على ترقب حصول مضمونه، لأنه معلوم الحصول، فالماضي الواقع فعلا للشرط هنا ماض حقيقي وليس مؤولا بالمستقبل، كما هو الغالب في وقوع الماضي في سياق الشرط بقرينة كونه معلوم الحصول، وبقرينة النفي بلم المعطوف على

الشرط فإن "لم" صريحة في المضي، وهذا مثل قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] بقرينة. "قد" إذ الماضي المدخول لقد لا يقلب إلى معنى المستقبل. فالمعنى: إن تبين أن طائفة آمنوا وطائفة كفروا فيحكم الله بيننا فاصبروا حتى يحكم ويؤول المعنى: إن اختلفتم في تصديقي فسيظهر الحكم بأني صادق.
وليست "إن" بمفيدة الشك في وقوع الشرط كما هو الشأن، بل اجتلبت هنا لأنها أصل أدوات الشرط، وإنما يفيد معنى الشك أو ما يقرب منه إذا وقع العدول عن اجتلاب "إذا" حين يصح اجتلابها، فأما إذا لم يصح اجتلاب "إذا" فلا تدل "إن" على شك وكيف تفيد الشك مع تحقق المضي، ونظيره قول النابغة:
لئن كنت قد بلغت عني وشاية ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب
والصبر: حبس النفس في حال الترقب، سواء كان ترقب محبوب أم ترقب مكروه، وأشهر استعماله أن يطلق على حبس النفس في حال فقدان الأمر المحبوب، وقد جاء في هذه الآية مستعملا في القدر المشترك لأنه خوطب به الفريقان: المؤمنون والكافرون، وصبر كل بما يناسبه، ولعله رجح فيه حال المؤمنين، ففيه إيذان بأن الحكم المترقب هو في منفعة المؤمنين، وقد قال بعض المفسرين: إنه خطاب للمؤمنين خاصة.
و {حَتَّى} تفيد غاية للصبر، وهي مؤذنة بأن التقدير: وإن كان طائفة منكم آمنوا وطائفة لم يؤمنوا فسيحكم الله بيننا فاصبروا حتى يحكم.
وحكم الله أريد به حكم في الدنيا بإظهار أثر غضبه على أحد الفريقين ورضاء على الذين خالفوهم، فيظهر المحق من المبطل، وهذا صدر عن ثقة شعيب عليه السلام بأن الله سيحكم بينه وبين قومه استنادا لوعد الله إياه بالنصر غلى قومه، أو لعلمه بسنة الله في رسله ومن كذبهم بإخبار الله تعالى إياه بذلك، ولولا ذلك لجاز أن يتأخر الحكم بين الفريقين إلى يوم الحساب، وليس هو المراد من كلامه لأنه لا يناسب قوله: {فَاصْبِرُوا} إذا كان خطابا للفريقين، فإن كان خطابا للمؤمنين خاصة صح إرادة الحكمين جميعا.
وأدخل نفسه في المحكوم بينهم بضمير المشاركة لأن الحكم المتعلق بالفريق الذين آمنوا به يعتبر شاملا له لأنه مؤمن برسالة نفسه.

وجملة: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} تذييل بالثناء على الله بأن حكمه عدل محض لا يحتمل الظلم عمدا ولا خطأ، وغيره من الحاكمين يقع منه أحد الأمرين أو كلاهما.
و {خَيْرُ} : اسم تفضيل أصله أخير فخففوه لكثرة الاستعمال.
[89,88] {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}.
كان جوابهم عن حجة شعيب جواب مفحم عن الحجة الصائر إلى الشدة, المزدهي بالقوة النتوقع أن يكثر معاندوه فلذلك عدلوا إلى إقصاء شعيب وأتباعه عن بلادهم خشية ظهور دعوتهم بين قومهم, وببث أتباعه دعوته بين الناس فلذلك قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} .
وتفسير صدر الآية هو كتفسير نظيره من قصة ثمود.
وإيثار وصفهم بالاستكبار هنا دون الكفر، مع أنه لم يحك عنهم هنا خطاب المستضعفين، حتى يكون ذكر الاستكبار إشارة إلى أنهم استضعفوا المؤمنين كما اقتضته قصة ثمود، فاختير وصف الاستكبار هنا لمناسبة مخاطبتهم شعيبا بالإخراج أو الإكراه على اتباع دينهم، وذلك من فعل الجبارين أصحاب القوة.
وكان إخراج المغضوب عليه من ديار قبيلته عقوبة متبعة في العرب إذا أجمعت القبيلة على ذلك ويسمى هذا الإخراج عند العرب بالخلع، والمخرج يسمى خليعا.
قال امرؤ القيس:
به الذئب يعوي كالخليع المعيل
وأكدوا التوعد بلام القسم ونون التوكيد: ليوقن شعيب بأنهم منجزو ذلك الوعيد.
وخطابهم إياه بالنداء جار على طريقة خطاب الغضب، كما حكى الله قول آزر خطابا لإبراهيم عليه السلام {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} [مريم: 46].
وقوله: {مَعَكَ} متعلق بـ {لَنُخْرِجَنَّكَ} ، ومتعلق {آمَنُوا} محذوف، أي بك، لأنهم

لا يصفونهم بالإيمان الحق في اعتقادهم.
والقرية المدينة لأنها يجتمع بها السكان. والتقري: الاجتماع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة: 259]، والمراد بقريتهم هنا هي الأيكة وهي تبوك وقد رددوا أمر شعيب ومن معه بين أن يخرجوا من القرية وبين العود إلى ملة الكفر.
وقد جعلوا عود شعيب والذين معه إلى ملة القوم مقسما عليه فقالوا {أَوْ لَتَعُودُنَّ} ولم يقولوا: لنخرجنكم من أرضنا أو تعودن في ملتنا، لأنهم أرادوا ترديد الأمرين في حيز القسم لأنهم فاعلون أحد الأمرين لا محالة وأنهم ملحون في عودهم إلى ملتهم.
وكانوا يظنون اختياره العود إلى ملتهم، فأكدوا هذا العود بالقسم للإشارة إلى أنه لا محيد عن حصوله عوضا عن حصول الإخراج لأن أحد الأمرين مرض للمقسمين، وأيضا فإن التوكيد مؤذن بأنهم إن أبوا الخروج من القرية فإنهم يكرهون على العود إلى ملة القوم كما دل عليه قول شعيب في جوابهم: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} ولما كان المقام للتوعد والتهديد كان ذكر الإخراج من أرضهم أهم، فلذلك قدموا القسم عليه ثم أعقبوه بالمعطوف بحرف "أو".
والعود: الرجوع إلى ما كان فيه المرء من مكان أو عمل، وجعلوا موافقة شعيب إياهم على الكفر عودا لأنهم يحسبون شعيبا كان على دينهم، حيث لم يكونوا يعلمون منه ما يخالف ذلك، قهم يحسبونه موافقا لهم من قبل أن يدعوا إلى ما دعا إليه. وشأن الذين أرادهم الله للنبوءة أن يكونوا غير مشاركين لأهل الضلال من قومهم ولكنهم يكونون قبل أن يوحي إليهم في حالة خلو عن الإيمان حتى يهديهم الله إليه تدريجا، وقومهم لا يعلمون باطنهم فلا حيرة في تسمية قومه موافقته إياهم عودا.
وهذا بناء على أن الأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوة، وذلك قول جميع المتكلمين من المسلمين، وقد نبه على ذلك عياض في الشفاء في القسم الثالث وأورد قول شعيب: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89] وتأول العود بأنه المصير، وذلك تأويل كثير من المفسرين لهذه الآية. ودليل العصمة من هذا هو كمالهم، والدليل مبني على أن خلاف الكمال قبل الوحي يعد نقصا، وليس في الشريعة دليل قاطع على ذلك. وإنما الإشكال في قول شعيب {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89] فوجهه أنه أجراه على المشاكلة والتغليب، وكلاهما مصحح لاستعمال لفظ العود في غير معناه بالنسبة إليه خاصة، وقد

تولى شعيب الجواب عمن معه من المؤمنين ليقينه بصدق إيمانهم.
والملة: الدين، وقد تقدم في قوله تعالى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} في سورة البقرة [130].
وفصل جملة {قَالَ الْمَلَأُ} لوقوعها في المحاورة على ما بيناه عند قوله تعالى {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة [30].
[89] {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}.
فصل جملة {قال...} لوقوعها في سياق المحاورة.
والاستفهام مستعمل في التعجيب تعجبا من قولهم {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} المؤذن ما فيه من المؤكدات بأنهم يكرهونهم على المصير إلى ملة الكفر، وذلك التعجب تمهيد لبيان تصميمه ومن معه على الإيمان، ليعلم قومه أنه أحاط خبرا بما أرادوا من تخييره والمؤمنين معه بين الأمرين: الإخراج أو الرجوع إلى ملة الكفر، شأن الخصم اللبيب الذي يأتي في جوابه بما لا يغادر شيئا مما أراده خصمه في حواره، وفي كلامه تعريض بحماقة خصومه إذ يحاولون حمله على ملتهم بالإكراه، مع أن شأن المحق أن يترك للحق سلطانه على النفوس ولا يتوكأ على عصا الضغط والإكراه، ولذا قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. فإن التزام الذين عن إكراه لا يأتي بالغرض المطلوب من التدين وهو تركية النفس وتكثير جند الحق والصلاح المطلوب.
والكاره مشتق من كره الذي مصدره الكره بفتح الكاف وسكون الراء وهو ضد المحبة، فكاره الشيء لا يدانيه إلا مغصوبا ويقال للغصب إكراه، أي ملجئين ومغصوبين وتقدم في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} في سورة البقرة [216].
و"لو" وصلية تفيد أن شرطها هو أقصى الأحوال التي يحصل معها الفعل الذي في جوابها، فيكون ما بعدها أحرى بالتعجيب. فالتقدير: أتعيدوننا إلى ملتكم ولو كنا كارهين. وقد تقدم تفصيل "لو" هذه عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران [91]. وتقدم معنى الواو الداخلة عليها وأنها واو الحال.

واستأنف مرتقيا في الجواب، فبين استحالة عودهم إلى ملة الكفر بأن العود إليها يستلزم كذبه فيما بلغه عن الله تعالى من إرساله إليهم بالتوحيد ذلك كذب على الله عن عمد، لأن الذي يرسله الله لا يرجع إلى الكفر، ويستلزم كذب الذين آمنوا به على الله حيث أيقنوا بأن شعيبا مبعوث من الله بما دلهم على ذلك من الدلائل، ولذلك جاء بضمير المتكلم المشارك في كل من قوله {افْتَرَيْنَا} و {عُدْنَا} و {نَجَّانَا} و {نَعُودَ} و {رَبُّنَا} و {تَوَكَّلْنَا} .
والربط بين الشرط وجوابه ربط التبيين والانكشاف، لأنه لا يصح تعليق حصول الافتراء بالعود في ملة قومه، فإن الافتراء المفروض بهذا المعنى سابق متحقق وإنما يكشفه رجوعهم إلى ملة قومهم، أي إن يقع عودنا في ملتكم فقد تبين أننا افترينا على الله كذبا، فالماضي في قوله {افْتَرَيْنَا} ماض حقيقي كما يقتضيه دخول {قَدِ} عليه. وتقديمه على الشرط لأنه في الحالتين لا تقلبه "إن" للاستقبال، أما الماضي الواقع شرطا ل "إن" في قوله {إِنْ عُدْنَا} فهو بمعنى المستقبل لأن "إن" تقلب الماضي للمستقبل عكس "لم".
وقوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} على هذا الوجه، معناه: بعد إذ هدانا تاه للدين الحق الذي اتبعناه بالوحي فنجانا من الكفر، فذكر هذا الإنجاء لدلالته على الاهتداء والإعلان بأن مفارقة الكفر نجاة، فيكون في الكلام إيجاز حذف أو كناية.
وهذه البعدية ليست قيدا لـ {افْتَرَيْنَا} ولا هي موجب كون العودة في ملتهم دالا على كذبة في الرسالة، بل هذه البعدية متعلقة بـ {عُدْنَا} يقصد منها تفظيع هذا العود وتأييس الكافرين من عود شعيب وأتباعه إلى ملة الكفر، بخلاف حالهم الأولى قبل الأيمان فانهم يوصفون بالكفر لا بالافتراء إذ لم يظهر لهم وجه الحق، ولذلك عقبه بقوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} أي لأن ذلك لا يقصده العاقل فيلقى نفسه في الظلال والتعرض للعذاب.
وانتصاب {كَذِباً} على المفعولية المطلقة تأكيدا لـ {افْتَرَيْنَا} بما هو مساو له أو أعم منه، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة المائدة [103].
وقد رتب على مقدمة لزوم الافتراء نتيجة تأييس قومه من أن يعود المؤمنون إلى ملة الكفر بقوله: { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} فنفى العود نفيا مؤكدا الجحود. وقد تقدم بيان تأكيد النفي بلام الجحود في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} الخ

في سورة آل عمران [79].
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} تأدب مع الله وتفويض أمر المؤمنين إليه، أي: إلا أن يقدر الله لنا العود في ملتكم فإنه لا يسأل عما فعل، فأما عود المؤمنين إلى الكفر فممكن في العقل حصوله وليس في الشرع استحالته، والارتداد وقع في طوائف من أمم.
وأما ارتداد شعيب بعد النبوة فهو مستحيل شرعا للأنبياء، فلو شاء الله سلب العصمة عن أحد منهم لما ترتب عليه محال عقلا، ولكنه غير ممكن شرعا، وقد علمت آنفا عصمة الأنبياء من الشرك قبل النبوة فعصمتهم منه بعد النبوة بالأولى، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] على أحد التأويلين.
وفي قول شعيب: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} تقييد عدم العود إلى الكفر بمشيئة الله، وهو يستلزم تقييد الدوام على الإيمان بمشيئة الله، لأن عدم العود إلى الكفر مساو للثبات على الإيمان، وهو تقييد مقصود منه التأدب وتفويض العلم بالمستقبل إلى الله، والكناية عن سؤال الدوام على الإيمان من الله تعالى كقوله {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].
ومن هنا يستدل لقول الأشعري وجماعة على رأسهم محمد بن عبدوس الفقيه المالكي الجليل أن المسلم يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لا يعلم ما يختم له بعد، ويضعف قول الماتريدي وطائفة من علماء القيروان على رأسهم محمد بن سحنون أن المسلم لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لأنه متحقق أنه مؤمن فلا يقول كلمة تنبئ عن الشك في إيمانه.
وقد تطاير شرر الخلاف بين ابن عبدوس وأصحابه من جهة، وابن سحنون وأصحابه من جهة، في القيروان زمانا طويلا ورمى كل فريق الفريق الآخر بما لا يليق بهما، وكان أصحاب ابن سحنون يدعون ابن عبدوس وأصحابه الشكوكية وتلقفت العامة بالقيروان هذا الخلاف على غير فهم فربما اجترأوا على ابن عبدوس وأصحابه اجتراء وافتراء، كما ذكره مفصلا عياض في المدارك في ترجمة محمد ابن سحنون، وترجمة ابن النبان، والذي حققه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وعياض أن الخلاف لفظي: فإن كان يقول: إن شاء الله، وسريرته في الإيمان مثل علانيته فلا بأس بذلك، وإن كان شكا فهو شك في الإيمان، وليس ذلك ما يريده ابن عبدوس، وقد قال المحققون: أن الخلاف بين الأشعري والماتريدي في هذه المسألة من الخلاف اللفظي، كما حققه تاج الدين السبكي في

منظومته النونية، وتبعه تلميذه نور الدين الشيرازي في شرحه. ومما يجب التنبيه له أن الخلاف في المسألة إنما هو مفروض في صحة قول المؤمن: أنا إن شاء الله، وأن قوله ذلك هل ينبئ عن شكه في إيمانه، وليس الخلاف في أنه يجب عليه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله، عند القائلين بذلك، بدليل أنهم كثيرا ما يقابلون قول القائلين بالمشيئة بقول الآخرين: أنا مؤمن عند الله، فرجعت المسألة إلى اختلاف النظر في حالة عقد القلب مع ما هو في علم الله من خاتمته. وبذلك سهل إرجاع الخلاف إلى الخلاف اللفظي.
والإتيان بوصف الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم المشارك: إظهار لحضرة الإطلاق، وتعريض بأن الله مولى الذين آمنوا.
والخلاف بيننا وبين المعتزلة في جواز مشيئة الله تعالى الكفر والمعاصي خلاف ناشئ عن الخلاف في تحقيق معنى المشيئة والإرادة، ولكلا الفريقين اصطلاح في ذلك يخالف اصطلاح الآخر، والمسألة طفيفة وإن هولها الفريقان، واصطلاحنا أسعد بالشريعة وأقرب إلى اللغة، والمسألة كلها من فروع مسألة التكليف وقدرة المكلف.
وقوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} تفويض لعلم الله، أي إلا أن يشاء ذلك فهو أعلم بمراده منا، وإعادة وصف الربوبية إظهار في مقام الإضمار لزيادة إظهار وصفه بالربوبية، وتأكيد التعريض المتقدم، حتى يصير كالتصريح.
وانتصب {عِلْماً} على التمييز المحول عن الفاعل لقصد الإجمال ثم التفصيل للاهتمام.
وانتصب {كُلَّ شَيْءٍ} على المفعول به لـ {وَسِعَ} ، أي: وسع علم كل شئ.
والسعة: مستعملة مجازا في الإحاطة بكل شئ لأن الشيء الواسع يكون أكثر إحاطة.
وفي هذه المجادلة إدماج تعليم صفات الله لأتباعه وغيرهم على عادة الخطباء في انتهاز الفرصة.
ثم أخبر بأنه ومن تبعه قد توكلوا على الله، والتوكل: تفويض مباشرة صلاح المرء إلى غيره، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في آل عمران [159]، وهذا تفويض يقتضي طلب الخير، أي: رجونا أن لا يسلبنا الإيمان الحق ولا يفسد خلق عقولنا وقلوبنا فلا نفتن ولا نضل، ورجونا أن يكفينا شر من يضمر لنا شرا وذلك

شر الكفرة المضمر لهم، وهو الفتنة بالإخراج، وفي الدين بالإكراه على اتباع الكفر.
وتقديم الجار والمجرور على فعل {تَوَكَّلْنَا} لإفادة الاختصاص لمعنى التوحيد ونبذ غير الله، ولما في قوله: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} من التفويض إليه في كفايتهم أمر أعدائهم، صرح بما يزيد ذلك بقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} . وفسروا الفتح هنا بالقضاء والحكم وقالوا: هو لغة أزد عمان من اليمن، أي احكم بيننا وبينهم، وهي مأخوذة من الفتح بمعنى النصر لأن العرب كانوا لا يتحاكمون لغير السيف، ويحسبون أن النصر حكم الله للغالب على المغلوب.
وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} هو كقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87]، أي وأنت خير الناصرين، وخير الحاكمين هو أفضل أهل هذا الوصف، وهو الذي يتحقق فيه كمال هذا الوصف فيما يقصد منه وفي فائدته بحيث لا يشتبه عليه الحق بالباطل ولا تروج عليه الترهات. والحكام مراتب كثيرة، فتبين وجه التفضيل في قوله: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87] وكذلك القياس في قوله {خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150] {خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وقد تقدم في سورة آل عمران: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:150].
[92,90] {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}.
عطف جملة {وَقَالَ الْمَلَأُ} ولم تفصل كما فصلت التي قبلها لانتهاء المحاور المقتضية فصل الجمل في حكاية المحاور، وهذا قول أنف وجه فيه الملأ خطابهم إلى عامة قومهم الباقين على الكفر تحذيرا لهم من اتباع شعيب خشية عليهم من أن تحيك في نفوسهم دعوة شعيب وصدق مجادلته، فلما رأوا حجته ساطعة ولم يستطيعوا الفلج عليه في المجادلة، وصمموا على كفرهم، أقلوا على خطاب الحاضرين من قومهم ليحذروهم من متابعة شعيب ويهددوهم بالخسارة.
وذكر {الْمَلَأُ} في مقام الإضمار لبعد المعاد. وإنما وصف الملأ بالموصول وصلته دون أن يكتفي بحرف التعريف المقتضي أن الملأ الثاني هو الملأ المذكور قبله,

لقصد زيادة ذم الملأ بوصف الكفر، كما ذم فيما سبق بوصف الاستكبار.
ووصف {الْمَلَأُ} هنا بالكفر لمناسبة الكلام المحكي عنهم، الدال على تصلبهم في كفرهم، كما وصفوا في الآية السابقة بالاستكبار لمناسبة حال مجادلتهم شعيبا، كما تقدم، فحصل من الآيتين أنهم مستكبرون كافرون.
والمخاطب في قوله: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً} هم الحاضرون حين الخطاب لدى الملإ، فحكي كلام الملأ كما صدر منهم، والسياق يفسر المعنيين بالخطاب، أعني عامة قوم شعيب الباقين على الكفر.
"اللام"موطئة للقسم. و {إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} جواب القسم وهو دليل على جواب الشرط المحذوف، كما هو الشأن في مثل هذا التركيب.
والخسران تقدم عند قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ} في سورة الأنعام [40]. وهو مستعار لحصول الضر من حيث أريد النفع، والمراد به هنا التحذير من أضرار تحصل لهم في الدنيا من جراء غضب آلهتهم عليهم، لأن الظاهر أنهم لا يعتقدون البعث، فان كانوا يعتقدونه، فالمراد الخسران الأعم، ولكن الأهم عندهم هو الدنيوي.
"والفاء" في: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} للتعقيب، أي: كان أخذ الرجفة إياهم عقب قولهم لقومهم ما قالوا.
وتقدم تفسير {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} في نظيرها من قصة ثمود.
والرجفة التي أصابت أهل مدين هي صواعق خرجت من ظلة، وهي السحابة، قال تعالى في سورة الشعراء [189]. {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} ، وقد عبر عن الرجفة في سورة هود بالصيحة فتعين أن تكون من نوع الأصوات المنشقة عن قالع ومقلوع لا عن قارع ومقروع وهو الزلزال، والأظهر أن يكون أصابهم زلزال وصواعق فتكون الرجفة الزلزال والصيحة الصاعقة كما يدل عليه قوله: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} .
وجملة: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً} مستأنفة ابتدائية، والتعريف بالموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر، وهو أن اضمحلالهم وانقطاع دابرهم كان جزاء لهم على تكذيبهم شعيبا.
ومعنى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} تشبيه حالة استئصالهم وعفاء آثارهم بحال من لم

تسبق لهم حياة، يقال: غنى بالمكان كرضي أقام، ولذلك سمي مكان القوم مغنى. قال ابن عطية: الذي اسقريت من أشعار العرب أن غنى معناه أقام إقامة مقترنة بتنعيم عيش ويشبه أن تكون مأخوذة من الاستغناء أي كأن لم تكن إقامة، وهذا إنما يعنى به انمحاء آثارهم كما قال {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24]، وهو يرجح أن يكون أصابهم زلزال مع الصواعق بحيث احترقت أجسادهم وخسف لهم في الأرض وانقلبت ديارهم في باطن الأرض ولم يبق شيء، أو بقي شيء قليل. فهذا هو وجه التشبيه، وليس وجه التشبيه حالة موتهم لأن ذلك حاصل في كل ميت ولا يختص بأمثال مدين، وهذا مثل قوله تعالى {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8].
وتقديم المسند إليه في قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} إذا اعتبرت {كَانُوا} فعلا، واعتبر المسند فعليا فهو تقديم لإفادة تقوي الحكم، وإن اعتبرت "كان" بمنزلة الرابطة، وهو الظاهر، فالتقوي حاصل من معنى الثبوت الذي تفيده الجملة الاسمية.
والتكرير لقوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً} للتعديد وإيقاظ السامعين، وهم مشركو العرب، ليتقوا عاقبة أمثالهم في الشرك والتكذيب على طريقة التعريض، كما وقع التصريح بذلك في قوله تعالى {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10].
وضمير الفصل في قوله {كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} يفيد القصر وهو قصر إضافي، أي دون الذين اتبعوا شعيبا، وذلك لإظهار سفه قول الملأ للعامة {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} توقيفا للمعتبرين بهم على تهافت أقوالهم وسفاهة رأيهم، وتحذيرا لأمثالهم من الوقوع في ذلك الضلال.
[93] {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ }.
تقدم تفسير نظير هذه الآية إلى قوله {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} من قصة ثمود. وتقدم وجه التعبير بـ {رِسَالاتِ} بصيغة الجمع في نظيرها من قصة قوم نوح.
ونداؤه قومه نداء تحسر وتبرئ من عملهم، وهو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر. حين وقف على القليب الذي ألقي فيه قتلى المشركين فناداهم بأسماء صناديدهم ثم قال: "لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا" وجاء بالاستفهام

الإنكاري في قوله: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} مخاطبا نفسه على طريقة التجريد، إذ خطر له خاطر الحزن عليهم فدفعه عن نفسه بأنهم لا يستحقون أن يؤسف عليهم لأنهم اختاروا ذلك لأنفسهم، ولأنه لم يترك من تحذيرهم ما لو ألقاه إليهم لأقلعوا عما هم فيه فلم يبق ما يوجب أسفه وندامته كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] وقوله {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8].
فالفاء في {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} للتفريع على قوله {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} الخ...فرع الاستفهام الإنكاري على ذلك لأنه لما أبلغهم ونصح لهم وأعرضوا عنه، فقد استحقوا غضب من يغضب لله، وهو الرسول ويرى استحقاقهم العقاب فكيف يحزن عليهم لما أصابهم من العقوبة.
والأسى: شدة الحزن، وفعله كرضي، و"آسى" مضارع مفتتح بهمزة التكلم، فاجتمع همزتان.
ويجوز أن يكون الاستفهام الإنكاري موجها إلى نفسه في الظاهر، والمقصود نهي من معه من المؤمنين عن الأسى على قومهم الهالكين، إذ يجوز أن يحصل في نفوسهم حزن على هلكى قومهم وإن كانوا قد استحقوا الهلاك.
وقوله: {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} إظهار في مقام الإضمار: ليتأتى وصفهم بالكفر زيادة في تعزية نفسه وترك الحزن عليهم.
وقد نجى الله شعيبا مما حل بقومه بأن فارق ديار العذاب، قيل: إنه خرج مع من آمن به إلى مكة واستقروا بها إلى أن توفوا، والأظهر أنهم سكنوا محلة خاصة بهم في بلدهم رفع الله عنها العذاب، فان بقية مدين لم يزالوا بأرضهم، وقد ذكرت التوراة أن شعيبا كان بأرض قومه حينما مرت بنو إسرائيل على ديارهم في خروجهم من مصر.
[95,94] {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} .
عطفت الواو جملة {مَا أَرْسَلْنَا} على جملة {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف:

85] عطف الأعم على الأخص، لأن ما ذكر من القصص ابتداء من قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف:59] كله القصد منه العبرة بالأمم الخالية موعظة لكفار العرب فلما تلا عليهم قصص خمس أمم جاء الآن بحكم كلي يعم سائر الأمم المكذبة على طريقة قياس التمثيل، أو قياس الاستقراء الناقص، وهو أشهر قياس يسلك في المقامات الخطابية، وهذه الجمل إلى قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى} [يونس: 75] كالمعترضة بين القصص، للتنبيه على موقع الموعظة، وذلك هو المقصود من تلك القصص، فهو اعتراض ببيان المقصود من الكلام وهذا كثير الوقوع في اعتراض الكلام.
وعدي {أَرْسَلْنَا} بـ"في" دون "إلى" لأن المراد بالقرية حقيقتها، وهي لا يرسل إليها وإنما يرسل فيها إلى أهلها، فالتقدير: وما أرسلنا في قرية من نبي إلى أهلها إلا أخذنا أهلها فهو كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} [القصص: 59] ولا يجري في هذا من المعنى ما يجري في قوله تعالى الآتي قريبا: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] إذ لا داعي إليه هنا.
و {مِنْ} مزيد للتنصيص على العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، وتخصيص القرى بإرسال الرسل فيها دون البوادي كما أشارت إليه هذه الآية وغيرها من آي القرآن، وشهد به تاريخ الأديان، ينبئ أن مراد الله تعالى من إرسال الرسل هو بث الصلاح لأصحاب الحضارة التي يتطرق إليها الخلل بسبب اجتماع الأصناف المختلفة، وان أهل البوادي لا يخلون عن الانحياز إلى القرى والإيواء في حاجاتهم المدنية إلى القرى القريبة. فأما مجيء نبي غير رسول لأهل البوادي فقد جاء خالد بن سنان نبيا في بني عبس، وأما حنظلة بن صفوان نبي أهل الرس فالأظهر أنه رسول لأن الله ذكر أهل الرس في عداد الأمم المكذبة. وقد قيل: إنه ظهر بقرية الرس التي تسمى أيضا فتح بالمهملة أو فتح بالمعجمة أو فيج بتحتية وجيم، أو فلج بلام وجيم من اليمامة.
والاستثناء مفرغ من أحوال، أي ما أرسلنا نبيا في قرية في حال من الأحوال إلا في حال أننا أخذنا أهلها بالبأساء، وقد وقع في الكلام إيجاز حذف دل عليه قوله: {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} فإنه يدل على أنهم لم يضرعوا قبل الأخذ بالبأساء والضراء. فالتقدير: وما أرسلنا في قرية من نبي إلا كذبه أهل القرية فخوفناهم لعلهم يذلون لله ويتركون العناد الخ...
والأخذ: هنا مجاز في التناول والإصابة بالمكروه الذي لا يستطاع دفعه، وهو معنى

الغلبة، كما تقدم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} في سورة الأنعام [42].
وقوله: {بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} تقدم ما يفسرها في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} في سورة الأنعام. ويفسر بعضها أيضا في قوله {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} في سورة البقرة [177].
واستغنت جملة الحال الماضوية على الواو و"قد" بحرف الاستثناء، فلا يجتمع مع "قد" إلا نادرا، أي: ابتدأناهم بالتخويف والمصائب لتفل من حدتهم وتصرف تأملهم إلى تطلب أسباب المصائب فيعلموا أنها من غضب الله عليهم فيتوبوا.
والتبديل: التعويض، فحقه أن يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء المفيدة معنى البدلية ويكون ذلك المفعول الثاني المدخول للباء هو المتروك، والمفعول الأول هو المأخوذ، كما في قوله تعالى {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} في سورة البقرة [61]، وقوله {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} في سورة النساء [2]، لذلك انتصب {الْحَسَنَةَ} هنا لأنها المأخوذة لهم بعد السيئة فهي المفعول الأول والسيئة هي المتروكة، وعدل عن جر السيئة بالباء إلى لفظ يؤدي مؤدى باء البدلية وهولفظ "مكان" المستعمل ظرفا مجازا عن الخلفية، يقال خذ هذا مكان ذلك، أي: خذه خلفا عن ذلك لأن الخلف يحل في مكان المخلوف عنه. ومن هذا القبيل قول امرئ القيس:
وبدلت قرحا داميا بعد نعمة
فجعل "بعد" عوضا عن باء البدلية.
فقوله: {مَكَانَ} منصوب على الظرفية مجازا، أي: بدلناهم حسنة في مكان السيئة، والحسنة اسم اعتبر مؤنثا لتأويله بالحالة والحادثة وكذلك السيئة فهما في الأصل صفتان لموصوف محذوف، ثم كثر حذف الموصوف لقلة جدوى ذكره فصارت الصفتان كالاسمين، ولذلك عبر عن الحسنة في بعض الآيات بما يتلمح منه معنى وصفيتها نحو قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] أي: ادفع السيئة بالحسنة، فلما جاء بطريقة الموصولية والصلة بأفعل التفضيل تلمح معنى الوصفية فيهما، وكذلك قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96]. ومثلهما في هذا المصيبة، كما في قوله تعالى في سورة براءة: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ

مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} أي: بدلناهم حالة حسنة بحالتهم السيئة وهي حالة البأساء والضراء.
فالتعريف تعريف الجنس، وهو مشعر بأنهم أعطوا حالة حسنة بطيئة النفع لا تبلغ مبلغ البركة.
و {حَتَّى} غاية لما يتضمنه {بَدَّلْنَا} من استمرار ذلك وهي ابتدائية، والجملة التي بعدها لا محل لها.
{وعفوا} كثروا. يقال: عفا النبات، اذا كثر ونما، وعطف {وَقَالُوا} على {عَفَوْا} فهو من بقية الغاية.
والسراء: النعمة ورخاء العيش، وهي ضد الضراء.
والمعنى أنا نأخذهم بما يغير حالهم التي كانوا فيها من رخاء وصحة عسى أن يعلموا أن سلب النعمة عنهم أمارة على غضب الله عليهم من جراء تكذيبهم رسولهم فلا يهتدون، ثم نردهم إلى حالتهم الأولى إمهالا لهم واستدراجا فيزدادون ضلالا، فإذا رأوا ذلك تعللوا لما أصابهم من البؤس والضر بأن ذلك التغيير إنما هو عارض من عوارض الزمان وأنه قد أصاب أسلافهم من قبلهم ولم يجئهم رسل.
وهذه عادة الله في تنبيه عباده فإنهيحب منهم التوسم في الأشياء والاستدلال بالعقل والنظر بالمسببات على الأسباب كما قال تعالى {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] لأن الله لما وهب الانسان العقل فقد أحب منه أن يستعنله فيما يبلغ به الكمال ويقيه الضلال.
وظاهر الآية أن هذا القول صادر بألسنتهم وهو يكون دائرا فيما بعضهم بعض في مجادلتهم لرسلهم حينما يعظونهم بما حل بهم ويدعوهم إلى التوبة والإيمان ليكشف عنهما الضر.
ويجوز أن يكون هذا القول أيضا: يجيش في نفوسهم ليدفعوا بذلك ما يخطر ببالهم من توقع أن يكون ذلك الضر عقابا من الله تعالى. وإذ قد كان محكيا عن أمم كثيرة كانت له أحوال متعددة بتعدد ميادين النفوس والأحوال.
وحاصل ما دفعوا به دلالة الضراء على غضب الله أن مثل ذلك قد حل بآبائهم الذين

لم يدعهم رسول إلى توحيد الله، وهذا من خطأ القياس وفساد الاستدلال، وذلك بحصر الشيء ذي الأسباب المتعددة في سبب واحد، والغفلة عن كون الأسباب يخلف بعضها بعضا، مع الغفلة عن الفارق في قياس حالهم على حال آبائهم بأن آباءهم لم يأتهم رسل من الله، وأما أقوام الرسل فإن الرسل تحذرهم الغضب والبأساء والضراء فتحيق بهم، أفلا يدلهم ذلك على أن ما حصل لهم هو من غضب الله عليهم، على أن غضب الله ليس منحصر الترتب على معصية الرسول بل يكون أيضا عن الانغماس في الضلال المبين، مع وضوح أدلة الهدى للعقول، فإن الإشراك ضلال، وأدلة التوحيد واضحة للعقول، فإذا تأيدت الدلالة بإرسال الرسل المنذرين قويت الضلالة باستمرارها، وانقطاع أعذارها، ومثل هذا الخطأ يعرض للناس بداعي الهوى وإلف حال الضلال.
والفاء في قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ} للتعقيب عن قوله: {عفوا} {وَقَالُوا} باعتبار كونهما غاية لإبدال الحسنة مكان السيئة، ولا إشعار فيه بإن قولهم ذلك هو سبب أخذهم بغتة ولكنه دل على إصرارهم، أي: فحصل أخذنا إياهم عقب تحسن حالهم وبطرهم النعمة.
والتعقيب عرفي فيصدق بالمدة التي لا تعد طولا في العادة لحصول مثل هذه الحوادث العظيمة.
والأخذ هنا بمعنى الإهلاك كما في قوله تعالى: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} في سورة الأنعام [44].
والبغتة: الفجأة، وتقدمت عند قوله تعالى {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الأنعام: 31]، وفي قوله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] في سورة الأنعام، وتقدم هنالك وجه نصبها.
وجملة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} حال مؤكدة لمعنى {بَغْتَةً}.
[99,96] {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ*أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.

عطفت جملة {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى} على جملة {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأعراف: 94] أي: ما أرسلنا في قرية نبيا فكذبه أهلها إلا نبهناهم واستدرجناهم ثم عاقبناهم ولو أن أهل تلك القرى المهلكة آمنوا بما جاءهم به رسولهم واتقوا ربهم لما أصبناهم بالبأساء ولأحييناهم حياة البركة، أي: ما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم.
وشرط "لو" الامتناعية يحصل في الزمن الماضي، ولما جاءت جملة شرطها مقترنة بحرف "أن" المفيد للتأكيد والمصدرية، وكان خبر "أن" فعلا ماضيا توفر معنى المضي في جملة الشرط. والمعنى: لو حصل إيمانهم فيما مضى لفتحنا عليهم بركات.
والتقوى: هي تقوى الله بالوقوف عند حدوده وذلك بعد الإيمان.
والتعريف في {الْقُرَى} تعريف العهد، فإضافة {أَهْلَ} إليه تفيد عمومه بقدر ما أضيف هو إليه، وهذا تصريح بما أفهمه الإيجاز في قوله {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأعراف: 94] الآية كما تقدم، وتعريض بإنذار الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، وتعريض ببشارة أهل القرى الذين يؤمنون كأهل المدينة، وقد مضى في صدر تفسير هذه السورة ما يقرب أنها من آخر ما نزل بمكة، وقيل، إن آيات منها نزلت بالمدينة كما تقدم، وبذلك يظهر موقع التعريض بالنذارة والبشارة للفريقين من أهل القرى. وقد أخذ الله أهل مكة بعد خروج المؤمنين منها فأصابهم بسبع سنين من القحط، وبارك لأهل المدينة وأغناهم وصرف عنهم الحمى إلى الجحفة، والجحفة يومئذ بلاد شرك.
والفتح: إزالة حجز شيء حاجز عن الدخول إلى مكان، يقال: فتح الباب وفتح البيت، وتعديته إلى البيت على طريقة التوسع، وأصله فتح للبيت، وكذلك قوله هنا {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ} وقوله {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2]، فتح كوة، أي: جعلها فتحة، والفتح هنا استعارة للتمكين، كما تقدم في قوله تعالى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} في سورة الأنعام [44].
وتعدية فعل الفتح إلى البركات هنا استعارة مكنية بتشبيه البركات بالبيوت في الانتفاع بما تحتويه، فهنا استعارتان مكنية وتبعية، وقرأ ابن عامر: {لَفَتَحْنَا} بتشديد التاء وهو يفيد المبالغة.

والبركات: جمع بركة، والمقصود من الجمع تعددها، باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة. وتقدم تفسير البركة عند قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} في سورة الأنعام [92]. وتقدم أيضا في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران: 96] في سورة آل عمران. وتقدم أيضا في قوله تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} في هذه السورة [54]. وجماع معناها هو الخير الصالح الذي لا تبعة عليه في الآخرة. فهو أحسن أحوال النعمة. ولذلك عبر في جانب المغضوب عليهم المستدرجين بلفظ {الْحَسَنَةَ} بصيغة الإفراد في قوله: {مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: 95] وفي جانب المؤمنين بالبركات مجموعة.
وقوله {مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} مراد به حقيقته. لأن ما يناله الناس من الخيرات الدنيوية لا يعدو أن يكون ناشئا من الأرض، وذلك معظم المنافع. أو من السماء، مثل ماء المطر وشعاع الشمس وضوء القمر والنجوم والهواء والرياح الصالحة.
وقوله: {وَلَكِنْ كَذَّبُوا} استثناء لنقيض شرط "لو" فإن التكذيب هو عدم الإيمان فهو قياس استثنائي.
وجملة {فَأَخَذْنَاهُمْ} متسببة على جملة {وَلَكِنْ كَذَّبُوا} وهو مثل نتيجة القياس. لأنه مساوي نقيض التالي، لأن أخذهم بما كسبوا فيه عدم فتح البركات عليهم.
وتقدم معنى الأخذ آنفا في قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأعراف: 95]. والمراد به أخذ الاستيئصال.
والباء للسببية أي بسبب ما كسبوه من الكفر والعصيان.
"والفاء" في قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} عاطفة أفادت الترتب الذكري. فاته لما ذكر من أحوال جميعهم ما هو مثار التعجيب من حالهم أعقبه بما يدل عليه معطوفا بفاء الترتب. ومحل التعجيب هو تواطؤهم على هذا الغرور، أي يترتب على حكاية تكذيبهم وأخذهم استفهام التعجيب من غرورهم وأمنهم غضب القادر العليم.
وقد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} في سورة البقرة [87].
وجيء بقوله: {يَأْتِيَهُمُ} بصيغة المضارع لأن المراد حكاية أمنهم الذي مضى من إتيان بأس الله في مستقبل ذلك الوقت.

وقوله: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} قرأه نافع، وابن كثير. وابن عامر، وأبو جعفر بسكون الواو على أنه عطف بحرف "أو" الذي هو لأحد الشيئين عطفا على التعجيب، أي: هو تعجيب من أحد الحالين. وقرأه الباقون بفتح الواو على أنه عطف بالواو مقدمة عليه همزة الاستفهام، فهو عطف استفهام ثان بالواو المفيدة للجمع، فيكون كلا الاستفهامين مدخولا لفاء التعقيب، على قول جمهور النحاة. وأما على رأي الزمخشري فيتعين أن تكون الواو للتقسيم، أي تقسيم الاستفهام إلى استفهامين. وتقدم ذكر الرأيين عند قوله تعالى {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} في سورة البقرة [78].
و {بَيَاتاً} تقدم معناه ووجه نصبه عند قوله تعالى {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً} في أول هذه السورة [4].
والضحى بالضم مع القصر هو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرق وارتفع، وفسره الفقهاء بأن ترتفع الشمس قيد رمح، ويرادفه الضحوة والضحو.
والضحى يذكر ويؤنث، وشاع التوقيت به عند العرب ومن قبلهم، قال تعالى حكاية عن موسى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [طه:59].
وتقييد التعجيب من أمنهم مجيء البأس، بوقتي البيات والضحى، من بين سائر الأوقات، وبحالي النوم واللعب، من بين سائر الأحوال، لأن الوقتين أجدر بأن يحذر حلول العذاب فيهما، لأنهما وقتان للدعة، فالبيات للنوم بعد الفراغ من الشغل. والضحى للعب قبل استقبال الشغل، فكان شأن أولي النهى المعرضين عن دعوة رسل الله أن لا يأمنوا عذابه، بخاصة في هذين الوقتين والحالين.
وفي هذا التعجيب تعريض بالمشركين المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحل بهم ما حل بالأمم الماضية، فكان ذكر وقت البيات، ووقت اللعب، أشد مناسبة بالمعنى التعريضي، تهديدا لهم بأن يصيبهم العذاب بأفظع أحواله، إذ يكون حلوله بهم في ساعة دعتهم وساعة لهوهم نكاية بهم.
وقوله {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} تكرير لقوله {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} قصد منه تقرير التعجيب من غفلتهم، وتقرير معنى التعريض بالسامعين من المشركين. مع زيادة التذكير بأن ما حل بأولئك من عذاب الله يماثل هيئة مكر الماكر بالممكور فلا يحسبوا الإمهال إعراضا

عنهم، وليحذروا أن يكون ذلك كفعل الماكر بعدوه.
والمكر حقيقته: فعل يقصد به ضر أحد في هيئة تخفى أو هيئة يحسبها منفعة. وهو هنا استعارة للإمهال والإنعام في حال الإمهال، فهي تمثيلية، شبه حال الإنعام مع الإمهال وتعقيبه بالانتقام بحال المكر، وتقدم في سورة آل عمران [54] عند قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
وقوله: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} مترتب ومتفرع عن التعجيب في قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} لأن المقصود منه تفريع أن أهل القرى المذكورين خاسرون لثبوت أنهم أمنوا مكر الله، والتقدير: أفأمنوا مكر الله فهم قوم خاسرون.
وإنما صيغ هذا التفريع بصيغة تعم المخبر عنهم وغيرهم ليجري مجرى المثل ويصير تذييلا للكلام، ويدخل فيه المعرض بهم في هذه الموعظة وهم المشركون الحاضرون، والتقدير: فهم قوم خاسرون، إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
والخسران هنا هو إضاعة ما فيه نفعهم بسوء اعتقادهم، شبه ذلك بالخسران وهو إضاعة التاجر رأس ماله بسوء تصرفه، لأنهم باطمئنانهم إلى السلامة الحاضرة، وإعراضهم عن التفكر فيما يعقبها من الأخذ الشبيه بفعل الماكر قد خسروا الانتفاع بعقولهم وخسروا أنفسهم.
وتقدم قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} في سورة الأنعام [12]، وقوله: {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} في أول هذه السورة [9].
وتقدم أن إطلاق المكر على أخذ الله مستحقي العقاب بعد إمهالهم: أن ذلك تمثيل عند قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} في سورة آل عمران [54].
واعلم أن المراد بأمن مكر الله في هذه الآية هو الأمن الذي من نوع أمن أهل القرى المكذبين، الذي ابتدىء الحديث عنه من قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] ثم قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً} الآيات، وهو الأمن الناشئ عن تكذيب خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الغرور بأن دين الشرك هو الحق فهو أمن ناشئ عن كفر. والمأمون منه هو وعيد الرسل إياهم وما أطلق عليه أنه مكر الله.
ومن الأمن من عذاب الله أصناف أخرى تغاير هذا الأمن، وتتقارب منه، وتتباعد،

بحسب اختلاف ضمائر الناس ومبالغ نياتهم، فأما ماكان منها مستندا لدليل شرعي فلا تبعة على صاحبه، وذلك مثل أمن المسلمين من أمثال عذاب الأمم الماضية المستند إلى قوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، وإلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أعوذ بسبحات وجهك الكريم" {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال: "أعوذ بسبحات وجهك الكريم" {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} الآية فقال :"هذه أهون" كما تقدم في تفسيرها في سورة الأنعام ومثل، أمن أهل بدر من عذاب الآخرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" في قصة حاطب ابن أبي بلتعة.
ومثل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام أنه لا يزال آخذا بالعروة الوثقى، ومثل الأنبياء فإنهم آمنون من مكر الله بإخبار الله إياهم بذلك، وأولياء الله كذلك، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62, 63] فمن العجيب ما ذكره الخفاجي أن الحنفية قالوا: الأمن من مكر الله كفر لقوله تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} .
والأمن مجمل ومكر اله تمثيل والخسران مشكك الحقيقة، وقال الخفاجي: الأمن من مكر الله كبيرة عند الشافعية، وهو الاسترسال على المعاصي اتكالا على عفو الله وذلك مما نسبه الزركشي في شرح جمع الجوامع إلى ولي الدين، وروى البزار وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ما الكبائر فقال: "الشرك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله" . ولم أقف على مبلغ هذا الحديث من الصحة،وقد ذكرنا غير مرة أن ما يأتي في القرآن من الوعيد لأهل الكفر على أعمال لهم مراد منه أيضا تحذير المسلمين مما يشبه تلك الأعمال بقدر اقتراب شبهه.
[100] {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}.
عطفت على جملة {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} [الأعراف: 97] لاشتراك مضمون الجملتين في الاستفهام التعجيبي، فانتقل عن التعجيب من حال الذين مضوا إلى التعجيب من حال الأمة الحاضرة، وهي الأمة العربية الذين ورثوا ديار الأمم الماضية فسكنوها: مثل أهل

نجران، وأهل اليمن، ومن سكنوا ديار ثمود مثل بلي، وكعب، والضجاغم، وبهراء، ومن سكنوا ديار مدين مثل جهينة، وجرم، وكذلك من صاروا قبائل عظيمة فنالوا السيادة على القبائل: مثل قريش، وطي، وتميم، وهذيل، فالموصول بمنزلة لام التعريف العهدي، وقد يقصد بالذين يرثون الأرض كل أمة خلفت أمة قبلها، فيشمل عادا وثمودا، فقد قال لكل نبيهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ} [الأعراف: 74] الخ ولكن المشركين من العرب يومئذ مقصودون في هذا ابتداء. فالموصول بمنزلة لام الجنس.
والاستفهام في قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ} مستعمل في التعجيب، مثل الذي في قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} [الأعراف: 97] تعجيبا من شدة ضلالتهم إذ عدموا الاهتداء والاتعاظ بحال من قبلهم من الأمم، ونسوا أن الله قادر على استئئصالهم إذا شاءه.
والتعريف في الأرض تعريف الجنس، أي يرثون أي أرض كانت منازل لقوم قبلهم، وهذا إطلاق شائع في كلام العرب، يقولون هذه أرض طيء، وفي حديث الجنازة "من أهل الأرض" أي من السكان القاطنين بأرضهم لا من المسلمين الفاتحين. فالأرض بهذا المعنى اسم جنس صادق على شائع متعدد، فتعريفه تعريف الجنس، وبهذا الإطلاق جمعت على أرضين، فالمعنى: أو لم يهد للذين يرثون أرضا من بعد أهلها.
والإرث: مصير مال الميت إلى من هو أولى به، ويطلق مجازا على مماثلة الحي ميتا في صفات كانت له، من عزأ وسيادة، كما فسر به قوله تعالى حكاية عن زكرياء: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} [مريم: 5, 6] أي يخلفني في النبوءة، وقد يطلق على القدر المشترك بين المعنيين. وهو مطلق خلافة المنقرض، وهو هنا محتمل للإطلاقين، لأنه أن أريد بالكلام أهل مكة فالإرث بمعناه المجازي، وإن أريد أهل مكة والقبائل التي سكنت بلاد الأمم الماضية فهو مستعمل في القدر المشترك، وهو كقوله تعالى: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الانبياء: 105] وأياما كان فقيد {مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} تأكيد لمعنى {يَرِثُونَ} ، يراد منه تذكير السامعين بما كان فيه أهل الأرض الموروثة من بحبوحة العيش، ثم ما صاروا إليه من الهلاك الشامل العاجل، تصويرا للموعظة بأعظم صورة فهو كقوله تعالى {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129].
ومعنى {لَمْ يَهْدِ} لم يرشد ويبين لهم، فالهداية أصلها تبيين الطريق للسائر، واشتهر استعمالهم في مطلق الإرشاد: مجازا أو استعارة كقوله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وتقدم أن فعلها يتعدى إلى مفعولين، وأنه يتعدى إلى الأول منهما بنفسه وإلى

الثاني تارة بنفسه وأخرى بالحرف: اللام أو"إلى"، فلذلك كانت تعديته إلى المفعول الأول باللام في هذه الآية إما لتضمينه معنى يبين، وإما لتقوية تعلق معنى الفعل بالمفعول كما في قولهم: شكرت له، وقوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5]، ومثل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} في سورة طه [128].
و {أََنْ} مخففة من "أن" واسمها ضمير الشأن، وجملة {لَوْ نَشَاءُ} خبرها, ولما كانت "أن" المفتوحة الهمزة من الحروف التي تفيد المصدرية على التحقيق لأنها مركبة من "إن" المكسورة المشددة، ومن "أنط المفتوحة المخففة المصدرية لذلك عدت في الموصولات الحرفية وكان ما بعدها مؤولا بمصدر منسبك من لفظ خبرها إن كان مفردا مشتقا، أ من الكون إن كان خبرها جملة. فموقع {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} موقع فاعل {يَهْدِ} ، والمعنى: أو لم يبين للذين يخلفون في الأرض بعد أهلها كون الشأن المهم وهو لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم.
وهؤلاء هم الذين أشركوا بالله وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم.
والإصابة: نوال الشيء المطلوب بتمكن فيه، فالمعنى: أن نأخذهم أخذا لا يفلتون منه. والباء في {بِذُنُوبِهِمْ} للسببية، وليست لتعدية فعل {أَصَبْنَاهُمْ} .
وجملة {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} واقعة موقع مفرد، هو فاعل {يَهْدِ} ، فـ"أن" مخففة من الثقيلة وهي من حروف التأكيد والمصدرية واسمها في حالة التخفيف، ضمير شأن مقدر، وجملة شرط "لو" وجوابه خبر "أن".
و"لو" حرف شرط يفيد تعليق امتناع حصول جوابه لأجل امتناع حصول شرطه: في الماضي، أو في المستقبل، وإذ قد كان فعل الشرط هنا مضارعا كان في معنى الماضي، إذ لا يجوز اختلاف زمني فعلي الشرط والجواب، وإنما يخالف بينهما في الصورة لمجرد التفنن كراهية تكرير الصورة الواحدة، فتقدير قوله: {لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} انتفى أخذنا إياهم في الماضي بذنوب تكذيبهم، لأجل انتفاء مشيئتنا ذلك لحكمة إمهالهم لا لكونهم أعز من الأمم البائدة أو أفضل حالا منهم، كما قال تعالى: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [غافر: 21] الآية، وفي هذا تهديد بأن الله قد يصيبهم بذنوبهم في المستقبل، إذ لا يصده عن ذلك غالب، والمعنى: أغرهم تأخر العذاب مع تكذيبهم فحسبوا أنفسهم في منعة منه، ولم

يهتدوا إلى أن انتفاء نزوله بهم معلق على انتفاء مشيئتنا وقوعه لحكمة، فيما بينهم وبين العذاب إلا أن نشاء أخذهم. والمصدر الذي تفيده "أن" المخففة، إذا كان اسمها ضمير شأن، يقدر ثبوتا متصيدا مما في "أن" وخبرها من النسبة المؤكدة، وهو فاعل {يَهْدِ} فالتقدير في الآية: أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ثبوت هذا الخبر المهم وهو {لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} .
والمعنى: اعجبوا كيف لم يهتدوا إلى أن تأخير العذاب عنهم هو بمحض مشيئتنا وأنه يحق عليهم عندما نشاؤه.
وجملة {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ليست معطوفة على جملة {أَصَبْنَاهُمْ} حتى تكون في حكم جواب "لو" لأن هذا يفسد المعنى، فإن هؤلاء الذين ورثوا الأرض من بعد أهلها فقد طبع على قلوبهم فلذلك لم تجد فيهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى زمن نزول هذه السورة، فلو كان جوابا لـ"لو" لصار الطبع على قلوبهم ممتنعا وهذا فاسد، فتعين: إما أن تكون جملة {وَنَطْبَعُ} معطوفة على جملة الاستفهام برمتها فلها حكمها من العطف على أخبار الأمم الماضية والحاضرة.
والتقدير: وطبعنا على قلوبهم، ولكنه صيغ بصيغة المضارع للدلالة على استمرار هذا الطبع وازدياده آنا فآنا، وإ'ما أن تجعل "الواو" للاستئناف والجملة مستأنفة، أي: ونحن نطبع على قلوبهم في المستقبل كما طبعنا عليها في الماضي. ويعرف الطبع عليها في الماضي بأخبار أخرى كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] الآية، فتكون الجملة تذييلا لتنهية القصة، ولكن موقع الواو في أول الجملة يرجح الوجه الأول، وكأن صاحب المفتاح يأبى اعتبار الاستئناف من معاني الواو.
وجملة {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} معطوفة بالفاء على {وَنَطْبَعُ} متفرعا عليه، والمراد بالسماع فهم مغزى المسموعات لا استكاك الآذان، بقرينة قوله {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} . وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} في سورة النساء [155].
[102,101] {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}.
لما تكرر ذكر القرى التي كذب أهلها رسل الله بالتعيين وبالتعميم، صارت للسامعين

كالحاضرة المشاهدة الصالحة لأن يشار إليها، فجاء اسم الإشارة لزيادة إحضارها في أذهان السامعين من قوم محمد صلى الله عليه وسلم، ليعتبروا حالهم بحال أهل القرى، فيروا أنهم سواء فيفيئوا إلى الحق.
وجملة {تِلْكَ الْقُرَى} مستأنفة استئناف الفذلكة لما قبلها من القصص من قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف: 59] ثم قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} [الأعراف: 94] الآية.
و {الْقُرَى} يجوز أن يكون خبرا عن اسم الإشارة لأن استحضار القرى في الذهن بحيث صارت كالمشاهد للسامع، فكانت الإشارة إليها إشارة عبرة بحالها، وذلك مفيد للمقصود من الإخبار عنها باسمها لمن لا يجهل الخبر كقوله تعالى: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ} [التوبة: 35] أي هذا الذي تشاهدونه تكوون به هو كنزكم، وهم قد علموا أنه كنزهم، وإنما أريد من الإخبار بأنه كنزهم إظهار خطإ فعلهم. ويجوز أن يكون القرى بيانا لاسم الإشارة.
وجملة {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} إما حال من {الْقُرَى} على الوجه الأول.
وفائدة هذه الحال الامتنان بذكر قصصها، والاستدلال على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ علمه الله من علم الأولين ما لم يسبق له علمه، والوعد بالزيادة من ذلك، لما دل عليه قوله: {نَقُصُّ} من التجدد والاستمرار، والتعريض بالمعرضين عن الاتعاظ بأخبارها.
وإما خبر عن اسم الإشارة على الوجه الثاني في محمل قوله: {الْقُرَى} .
و"من" تبعيضية لأن لها أنباء غير ما ذكر هنا مما ذكر بعضه في آيات أخرى وطوى ذكر بعضه لعدم الحاجة إليه في التبليغ.
والأنباء: الأخبار, وقد تقدم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} في سورة الأنعام [34].
والمراد بالقرى وضمير أنبائها: أهلها. كما دل عليه الضمير في قوله: {رُسُلُهُمْ} .
وجملة {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} عطف على جملة {تِلْكَ الْقُرَى} لمناسبة ما في كلتا الجملتين بقصد التنظير بحال المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وجمع "البينات" يشير إلى تكرر البينات مع كل رسول، والبينات: الدلائل الدالة

على الصدق وقد تقدمت عند قوله تعالى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} في قصة ثمود في هذه السورة [73].
"والفاء" في قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} لترتيب الإخبار بانتفاء إيمانهم عن الإخبار بمجيء الرسل إليهم بما من شأنه أن يحملهم على الإيمان.
وصيغة {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} تفيد مبالغة النفي بلام الجحود الدالة على أن حصول الإيمان كان منافيا لحالهم من التصلب في الكفر، وقد تقدم وجه دلالة لام الجحود على مبالغة النفي عند قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} الآية في سورة آل عمران [79]. والمعنى: فاستمر عدم إيمانهم وتمكن منهم الكفر في حين كان الشأن أن يقلعوا عنه.
و {مَا كُذِّبُوا} موصول وصلته وحذف العائد المجرور على طريقة حذف أمثاله إذا جر الموصول بمثل الحرف المحذوف، ولا يشترط اتحاد متعلقي الحرفين على ما ذهب إليه المحققون منهم الرضي كما في هذه الآية.
وما صدق "ما" الموصولة: ما يدل عليه {كُذِّبُوا} ، أي: فما كانوا ليؤمنوا بشيء كذبوا به من قبل مما دعوا إلى الإيمان به من التوحيد والبعث. وشأن "ما" الموصولة أن يراد بها غير العاقل، فلا يكون ما صدق "ما" هنا الرسل، بل ما جاءت به الرسل، فلذلك كان فعل {كُذِّبُوا} هنا مقدرا متعلقه لفظ "به" كما هو الفرق بين كذبه وكذب به، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ} وقال {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66] وحذف المتعلق هنا إيجازا، لأنه قد سبق ذكر تكذيب أهل القرى، ابتداء من قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] وقد سبق في ذلك قوله: {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [لأعراف: 96] ولهذا لم يحذف متعلق فعل {كُذِّبُوا} في نظير هذه الآية من سورة يونس.
والمعنى: ما أفادتهم البينات أن يؤمنوا بشيء كان بدر منهم التكذيب به في ابتداء الدعوة، والمضاف المحذوف الذي دل عليه بناء {قَبْلُ} على الضم تقديره: من قبل مجيء البينات.
وأسند نفي الإيمان إلى ضمير جميع أهل القرى باعتبار الغالب، وهو استعمال كثير، وسيخرج المؤمنون منهم بقوله {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ

لَفَاسِقِينَ} .
ومعنى قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} مثل ذلك الطبع العجيب المستفاد من حكاية استمرارهم على الكفر، والمؤذن به فعل {يَطْبَعُ} ، وقد تقدم نظائره غير مرة، منها عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143].
وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى: {بل طبع الله عليها بكفرهم} في سورة النساء [155].
وإظهار المسند إليه في جملة {يَطْبَعُ اللَّهُ} دون الإضمار: لما في إسناد الطبع إلى الاسم العلم من صراحة التنبيه على أنه طبع رهيب لا يغادر للهدى منفذا إلى قلوبهم كقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] دون أن يقول: هذا خلقي، ولهذا اختير له الفعل المضارع الدال على استمرار الختم وتجدده.
والقلوب: العقول، والقلب، في لسان العرب: من أسماء العقل، وتقدم عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} في سورة البقرة [7].
والتعريف في {الْكَافِرِينَ} تعريف الجنس، مفيد للاستغراق، أي: جميع الكافرين ممن ذكر وغيرهم.
وفي قوله: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} إلى آخر الآية، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه هو سنة الرسل السابقين، وأن ذلك ليس لتقصير منه، ولا لضعف آياته، ولكنه للختم على قلوب كثير من قومه.
وعطفت جملة {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} على جملة {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} وما ترتب عليها من قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} تنبيها على رسوخ الكفر من نفوسهم بحيث لم يقلعه منهم لا ما شاهدوه من البينات، ولا ما وضعه الله في فطرة الإنسان من اعتقاد وجود إله واحد وتصديق الرسل الداعين إليه، ولا الوفاء بما عاهدوا عليه الرسل عند الدعوة: إنهم إن أتوهم بالبينات يؤمنون بها.
والوجدان في الموضعين مجاز في العلم، فصار من أفعال القلوب، ونفيه في الأول كناية عن انتفاء العهد بالمعنى المقصود، أي: وفائه، لأنه لو كان موجودا لعلمه من شأنه أن يعلمه ويبحث عنه عند طلب الوفاء به، لا سيما والمتكلم هو الذي لا تخفى عليه خافية كقوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام: 145] الآية، أي لا محرم إلا ما ذكر،

فمعنى {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} ما لأكثرهم عهد.
والعهد: الالتزام والوعد المؤكد وقوعه، والموثق بما يمنع من إخلافه: من يمين، أو ضمان، أو خشية مسبة. وهو مشتق من عهد الشيء بمعنى عرفه، لأن الوعد المؤكد يعرفه ملتزمه ويحرص أن لا ينساه.
ويسمى إيقاع ما التزمه الملتزم من عهده الوفاء بالعهد، فالعهد هنا يجوز أن يراد به الوعد الذي حققه الأمم لرسلهم مثل قولهم: فأتنا بآية إن كنت من الصادقين، فإن معنى ذلك: إن أتيتنا بآية صدقناك. ويجوز أن يراد به وعد وثقه أسلاف الأمم من عهد آدم أن لا يعبدوا إلا الله وهو المذكور في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يّس: 60] الآية، فكان لازما لأعقابهم.
ويجوز أن يراد به ما وعدت به أرواح البشر خالقها في الأزل المحكي في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] الآية. وهو عبارة عن خلق الله فطرة البشرية معتقدة وجود خالقها ووحدانيته، ثم حرفتها النزعات الوثنية والضلالات الشيطانية.
ووقوع اسم هذا الجنس في سياق النفي يقتضي انتفاءه بجميع المعاني الصادق هو عليها.
ومعنى انتفاء وجدانه، هو انتفاء الوفاء به، لأن أصل الوعد ثابت موجود، ولكنه لما كان تحققه لا يظهر إلا في المستقبل، وهو الوفاء، جعل انتفاء الوفاء بمنزلة انتفاء الوقوع، والمعنى على تقدير مضاف، أي: ما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهد.
وإنما عدي وجدان الوفاء بالعهد في {أَكْثَرِهِمْ} للإشارة إلى إخراج مؤمني كل أمة من هذا الذم، والمراد بأكثرهم، أكثر كل أمة منهم، لا أمة واحدة قليلة من بين جميع الأمم.
وقوله: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} إخبار بأن عدم الوفاء بالعهد من أكثرهم كان منهم عن عمد ونكث، ولكون ذلك معنى زائدا على ما في الجملة التي قبلها عطفت ولم تجعل تأكيدا للتي قبلها أو بيانا، لأن الفسق هو عصيان الأمر، وذلك أنهم كذبوا فيما وعدوا عن قصد للكفر.
و"إن" مخففة من الثقيلة، وبعدها مبتدأ محذوف هو ضمير الشأن، والجملة خبر عنه

تنويها بشأن هذا الخبر ليعلمه السامعون.
واللام الداخلة في خبر {وَجَدْنَا} لام ابتداء، باعتبار كون ذلك الخبر خبرا من جملة هي خبر عن الاسم الواقع بع "إن"، وجلبت اللام للتفرقة بين المخففة والنافية. وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وأسند حكم النكث إلى أكثر أهل القرى، تبيينا لكون ضمير {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} جرى على التغليب، ولعل نكتة هذا التصريح في خصوص هذا الحكم أنه حكم مذمة ومسبة، فناسبت محاشاة من لم تلتصق به تلك المسبة.
[103] {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .
انتقال من أخبار الرسالات السابقة إلى أخبار رسالة عظيمة لأمة باقية إلى وقت نزول القرآن فضلها الله بفضله فلم توف حق الشكر وتلقت رسولها بين طاعة وإباء وانقياد ونفار. فلم يعاملها الله بالاستئصال ولكنه أراها جزاء مختلف أعمالها، جزاء وفاقا، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وخصت بالتفضيل قصة إرسال موسى لما تحتوي عليه من الحوادث العظيمة، والأنباء القيمة. ولأن رسالته جاءت بأعظم شريعة بين يدي شريعة الإسلام، وأرسل رسولها هاديا وشارعا تمهيدا لشريعة تأتي لأمة أعظم منها تكون بعدها، ولأن حال المرسل إليهم أشبه بحال من أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا فريقين كثيرين اتبع أحدهم موسى وكفر به الآخر, كما اتبع محمدا عليه الصلاة والسلام جمع عظيم وكفر به فريق كثير. فأهلك الله من كفر ونصر من آمن.
وقد دلت {ثُمَّ} على المهلة: لأن موسى عليه السلام بعث بعد شعيب بزمن طويل، فإنه توجه إلى مدين حين خروجه من مصر رجا الله أن يهديه فوجد شعيبا. وكان اتصاله به ومصاهرته تدريجا له في سلم قبول الرسالة عن الله تعالى. فالمهلة باعتبار مجموع الأمم المحكي عنها قبل، فإن منها ما بينه وبين موسى قرون، مثل قوم نوح، ومثل عاد وثمود، وقوم لوط، فالمهلة التي دلت عليها {ثُمَّ} متفاوتة المقدار، مع ما يقتضيه

عطف الجملة بحرف {ثُمَّ} من التراخي الرتبي وهو ملازم لها إذا عطفت بها الجمل. فحرف "ثم" هنا مستعمل في معنيي المهلة الحقيقي والمجازي.
والضمير في قوله: {مِنْ بَعْدِهِمْ} يعود إلى القرى، باعتبار أهلها، كما عادت عليهم الضمائر في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} الآيتين [الأعراف: 101].
والباء في {بِآيَاتِنَا} للملابسة، وهي في موضع الحال من موسى، أي: مصحوبا بآيات منا، والآيات: الدلائل على صدق الرسول، وهي المعجزات، قال تعالى: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 106, 107]
و {فِرْعَوْنَ} علم جنس لملك مصر في القديم، أي: قبل أن يملكها اليونان، وهو اسم من لغة القبط. قيل: أصله في القبطية فاراه ولعل الهاء فيه مبدلة عن العين فإن رع اسم الشمس فمعنى فاراه نور الشمس لأنهم كانوا يعبدون الشمس فجعلوا ملك مصر بمنزلة نور الشمس، لأنه يصلح الناس، نقل هذا الاسم عنهم في كتب اليهود وانتقل عنهم إلى العربية، ولعله مما أدخله الإسلام. وهذا الاسم نظير كسرى لملك ملوك الفرس القدماء، و قيصر لملك الروم، و نمروذ لملك كنعان، و النجاشي لملك الحبشة، و تبع لملك ملوك اليمن، و خان لملك الترك.
واسم فرعون الذي أرسل موسى إليه: منفطاح الثاني، أحد ملوك العائلة التاسعة عشرة من العائلات التي ملكت مصر، على ترتيب المؤرخين من الإفرنج وذلك في سنة 1491 قبل ميلاد المسيح.
والملأ: الجماعة من علية القوم، وتقدم قريبا. وهم وزراء فرعون وسادة أهل مصر من الكهنة وقواد الجند، وإنما خص فرعون وملأه لأنهم أهل الحل والعقد الذين يأذنون في سراح بني إسرائيل، فإن موسى بعثه الله إلى بني إسرائيل ليحررهم من الرق الذي كانوا فيه بمصر، ولما كان خروجهم من مصر متوقفا على أمر فرعون وملئه بعثه الله إليهم ليعلموا ان الله أرسل موسى بذلك، وفي ضمن ذلك تحصل دعوة فرعون للهدى، لأن كل نبيء يعلن التوحيد ويأمر بالهدى، وإن كان المأمور من غير المبعوث إليهم حرصا على الهدى إلا أنه لا يقيم فيهم ولا يكرر ذلك. والفاء في قوله: {فَظَلَمُوا} للتعقيب أي فبادروا بالتكذيب.

والظلم: الاعتداء على حق الغير، فيجوز أن يكون {فَظَلَمُوا} هنا على أصل وضعه وتكون الباء للسببية. وحذف مفعول "ظلموا" لقصد العموم، والمعنى: فظلموا كل من له حق في الانتفاع بالآيات، أي منعوا الناس من التصديق بها وآذوا الذين آمنوا بموسى لما رأوا آياته، كما قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} إلى قوله: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [الأعراف: 123, 124] الآية.
وظلموا أنفسهم إذ كابروا ولم يؤمنوا، فكان الظلم بسبب الآيات أي بسبب الاعتراف بها.
ويجوز أن يكون ضمن {ظَلَمُوا} معنى كفروا فعدي إلى الآيات بالباء، والتقدير: فظلموا إذ كفروا بها، لأن الكفر بالآيات ظلم حقيقة، إذ الظلم الاعتداء على الحق، فمن كفر بالدلائل الواضحة المسماة آيات فقد اعتدى على حق التأمل والنظر.
والفاء في قوله: {فَانْظُرْ} لتفريع الأمر على هذا الإخبار، أي: لا تتريث عند سماع خبر كفرهم عن أن تبادر بالتدبر فيما سنقص عليك من عاقبتهم.
والمنظور هو عاقبتهم التي دل عليها قوله: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136] وهذا النظر نظر العقل وهو الفكر المؤدي إلى العلم فهو من أفعال القلوب.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد هو ومن يبلغه، أو المخاطب غير معين وهو كل من يتأتى منه النظر والاعتبار عند سماع هذه الآيات، فالتقدير: فانظر أيها الناظر، وهذا استعمال شائع في كل كلام موجه لغير معين.
ولما كان ما آل إليه أمر فرعون وملئه حالة عجيبة، عبر عنه بـ"كيف" الموضوعة للسؤال عن الحال. والاستفهام المستفاد من "كيف" يقتضي تقدير شيء، أي: انظر عاقبة المفسدين التي يسأل عنها بكيف.
وعلق فعل النظر عن العمل لمجيء الاستفهام بعده، فصار التقدير: فانظر، ثم افتتح كلاما بجملة {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ، والتقدير في أمثاله أن يقدر: فانظر جواب كيف كان عاقبة المفسدين.
والعاقبة: آخر الأمر ونهايته، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} في سورة الأنعام [11].

والمراد بالمفسدين: فرعون وملأه، فهو من الإظهار في مقام الإضمار تنبيها على أنهم أصيبوا بسوء العاقبة لكفرهم وفسادهم، والكفر أعظم الفساد لأنه فساد القلب ينشأ عنه فساد الأعمال. وفي الحديث: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.
[108,104] {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}.
عطف قول موسى بالواو، ولم يفصل عما قبله، مع أن جملة هذا القول بمنزلة البيان لجملة {بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى} [الأعراف: 103]، لأنه لما كان قوله {بِآياتِنَا} [الأعراف: 103] حالا من موسى فقد فهم أن المقصود تنظير حال الذين أرسل إليهم موسى بحال الأمم التي مضى الإخبار عنها في المكابرة على التكذيب، مع ظهور آيات الصدق، ليتم بذلك تشابه حال الماضين مع حال الحاضرين المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم، فجعلت حكاية محاورة موسى مع فرعون وملئه خبرا مستقلا لأنه لم يحك فيه قوله المقارن لإظهار الآية بل ذكرت الآية من قبل، بخلاف ما حكي في القصص التي قبلها فإن حكاية أقوال الرسل كانت قبل ذكر الآية، ولأن القصة هنا قد حكي جميعها باختصار بجمل {بَعَثْنَا} [الأعراف: 103]، {فَظَلَمُوا} [الأعراف: 103]، {فَانْظُرْ} [الأعراف: 103]، فصارت جملة {قَالَ} تفصيلا لبعض ما تقدم، فلا تكون مفصولة لأن الفصل إنما يكون بين جملتين، لا بين جملة وبين عدة جمل أخرى.
والظاهر أن خطاب موسى فرعون بقوله: {يَا فِرْعَوْنُ} خطاب إكرام لأنه ناداه بالاسم الدال على الملك والسلطان بحسب متعارف أمته فليس هو بترفع عليه لأن الله تعالى قال له ولهارون {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه: 44]. والظاهر أيضا أن قول موسى هذا هو أول ما خاطب به فرعون. كما دلت عليه سورة طه.
وصوغ حكاية كلام موسى بصيغة التأكيد بحرف "إن" لأن المخاطب مظنة الإنكار أو التردد القوي في صحة الخبر.
واختيار صفة {رَبِّ الْعَالَمِينَ} في الإعلام بالمرسل إبطال لاعتقاد فرعون أنه رب

مصر وأهلها فإنه قال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] فلما وصف موسى مرسله بأنه رب العالمين شمل فرعون وأهل مملكته فتبطل دعوى فرعون أنه إله مصر بطريق اللزوم، ودخل في ذلك جميع البلاد والعباد الذين لم يكن فرعون يدعي أنه إلههم مثل الفرس والآشوريين.
وقوله {حَقِيقٌ عَلَى} قرأه نافع بالياء في آخر "علي" فهي ياء المتكلم دخل عليها حرف "على" وتعدية حقيق بحرف "على" معروفة، وقال تعالى: { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} [الصافات: 31] الصافات، ولأن حقيق بمعنى واجب، فتعدية بحرف على واضحة. و {حَقِيقٌ} خبر ثان عن {إِنِّي} ، فليس في ضمير المتكلم من قوله "علي" على قراءة نافع التفات، بخلاف ما لو جعل قوله {حَقِيقٌ} صفة لـ {رَسُولٌ} فحينئذ يكون مقتضى الظاهر الإتيان بضمير الغائب، فيقول: حقيق عليه، فيكون العدول إلى التكلم التفاتا. وفاعل {حَقِيقٌ} هو المصدر المأخوذ من قوله: {أَنْ لا أَقُولَ} أي: حقيق علي عدم قولي على الله غير الحق.
وحقيق فعيل بمعنى فاعل، وهو مشتق من "حق" وجب وثبت أي: متعين وواجب علي قول الحق على الله، و"على" الأولى للاستعلاء المجازي و"على" الثانية بمعنى عن. وقرأ الجمهور "على" بألف بعد اللام. وهي "على" الجارة.
ففي تعلق "علىط ومجرورها الظاهر ب {حَقِيقٌ} تأويل بوجوه أحسنها قول الفراء، وأبي علي الفارسي: أن "على" هنا بمعنى الباء وأن {حَقِيقٌ} فعيل بمعنى مفعول: أي محقوق بأن لا أقول على الله إلا الحق، أي: مجعول قول الحق حقا علي، كقول الأعشى:
لمحقوقة أن تستجيبي لقوله
أي محقوقة بأن تستجيبي، وقول سعيد بن زيد ولو أن أحدا انقض لما صنعتم بعثمان لكان محقوقا بأن ينقض.
ومنها ما قال صاحب الكشاف والأوجه الأدخل في نكت القرآن أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام فيقول: أنا حقيق على قول الحق، أي: أنا واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به قال شارحوه: فالمعنى لو كان قول الحق شخصا عاقلا لكنت أنا واجبا عليه. أن لا يصدر إلا عني وأن أكون قائله، وهو على هذا استعارة بالكناية: شبه قول الحق بالعقلاء الذين يختارون مواردهم ومصادرهم.

ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه، وهو كون ما يناسبه متعينا عليه.
ومنها ما قيل: ضمن {حَقِيقٌ} معنى حريص فعدي بعلى إشارة إلى ذلك التضمين. وأحسن من هذا أن يضمن {حَقِيقٌ} معنى مكين وتكون "على" استعارة للاستعلاء المجازي.
وجملة {جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن مقام الإنكار مما يثير سؤال سائل أن يقول هذه دعوى غريبة تحتاج إلى بينة.
والبينة: الحجة. وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} في سورة الأنعام [57]. والحجة هنا يجوز أن يكون المراد بها البراهين العقلية على صدق ما جاء به موسى من التوحيد والهدى، ويجوز أن تكون المعجزة الدالة على صدق الرسول، فعلى الوجه الأول تكون الباء في قوله: {بَيِّنَةٍ} لتعدية فعل المجيء، وعلى الوجه الثاني تكون الباء للملابسة، والمراد بالملابسة ملابسة التمكن من إظهار المعجزة التي أظهرها الله له كما في سورة طه [17] {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} ، ويحتمل المعنى الأعم الشامل للنوعين على ما يحتمله كلام موسى المترجم عنه هنا.
والفاء في قوله: {فَأَرْسِلْ} لتفريع طلب تسريح بني إسرائيل على تحقق الرسالة عن رب العالمين، والاستعداد لإظهار البينة على ذلك، وقد بنى موسى كلامه على ما يثق به من صدق دعوته مع الاستعداد للتبيين على ذلك الصدق بالبراهين أو المعجزة ان طلبها فرعون لأن شأن الرسل أن لا يبتدئوا بإظهار المعجزات صونا لمقام الرسالة عن تعريضه للتكذيب، كما بيناه عند قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} الآيات في سورة الأنعام [109].
والإرسال: الإطلاق والتخلية، كقولهم: أرسلها العراك، وهو هنا مجاز لغوي في الإذن لبني إسرائيل بالخروج، المطلوب من فرعون.
وتقييده ب {مَعِيَ} لأن المقصود من إخراجهم من مصر أن يكونوا مع الرسول ليرشدهم ويدبر شؤونهم.
وقول فرعون: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا} متعين لأن يكون معناه: إن كنت جئت بمعجزة، فان أكثر موارد الآية في القرآن مراد فيه المعجزة، وأكثر موارد البينة مراد فيه الحجة، فالمراد بالبينة في قول موسى: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} الحجة على إثبات

الإلهية وعلى حقية ما جاء به من إرشاد لقومه، فكان فرعون غير مقتنع ببرهان العقل أو قاصرا عن النظر فيه فانتقل إلى طلب خارق العادة، فالمعنى: إن كنت جئتنا متمكنا من إظهار المعجزات، لأن فرعون قال ذلك قبل أن يظهر موسى عليه السلام معجزته، فالباء في قوله {بِآيَةٍ} للمعية التقديرية، أي: متمكنا من آية، أو الباء للملابسة، والملابسة معناها واسع، أي: لك تمكين من إظهار آية.
وقوله {فَأْتِ بِهَا} استعمل الإتيان في الإظهار مجازا مرسلا، فالباء في قوله {بِهَا} لتعدية فعل الإتيان، وبذلك يتضح ارتباط الجزاء بالشرط، لأن الإتيان بالآية المذكورة في الجزاء هو غير المجيء بالآية المذكورة في الشرط، أي: إن كنت جئت متمكنا من إظهار الآية فأظهر هذه الآية.
والإلقاء: الرمي على الأرض أو في الماء أو نحو ذلك، أي: فرمى عصاه من يده. و"إذا" للمفاجأة وهي حدوث الحادث عن غير ترقب.
والثعبان: حية عظيمة، و {مُبِينٌ} اسم فاعل من أبان القاصر المرادف لبان، أي: ظهر، أي: الظاهر الذي لا شك فيه ولا تخيل.
ونزع: أزال اتصال شيء عن شيء، ومنه نزع ثوبه، والمعنى هنا أنه أخرج يده من جيب قميصه بعد أن أدخلها في جيبه كما في سورة النمل وسورة القصص فلما أخرجها صارت بيضاء، أي بياضا من النور.
وقد دل على هذا البياض قوله {لِلنَّاظِرِينَ} ، أي بياضا يراه الناظرون رؤية تعجب من بياضها. فالمقصود من ذكر قوله {لِلنَّاظِرِينَ} تتميم معنى البياض.
واللام في قوله {لِلنَّاظِرِينَ} لم يعرج المفسرون على بيان معناها وموقعها سوى أن صاحب الكشاف قال: يتعلق للناظرين ببيضاء دون أن يبين نوع التعلق ولا معنى اللام، وسكت عليه شراحه والبيضاوي، وظاهر قوله يتعلق أنه ظرف لغو تعلق ببيضاء فلعله لما في بيضاء من معنى الفعل كأنه قيل: ابيضت للناظرين كما يتعلق المجرور بالمشتق فتعين أن يكون معنى اللام هو ما سماه ابن مالك بمعنى التعدية وهو يريد به تعدية خاصة لا مطلق التعدية أي تعدية الفعل القاصر إلى ما لا يتعدى له بأصل وضعه لأن ذلك حاصل في جميع حروف الجر فلا شك أنه أراد تعدية خاصة لم يبين حقيقتها، وقد مثل لها في شرح الكافية بقوله تعالى {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5] وجعل في شرح التسهيل

هذا المثال مثالا لمعنى شبه الملك، واختار ابن هشام أن يمثل للتعدية بنحو ما أضرب زيدا لعمرو.
ولم يفصحوا عن هذه التعدية الخاصة باللام، ويظهر لي أنها عمل لفظي محض، أي لا يفيد معنى جزئيا كمعاني الحروف، فتحصل أنهم في ارتباك في تحقيق معنى التعدية، وعندي أن قوله تعالى: {بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} أحسن ما يمثل به لكون اللام للتعدية وأن نفسر هذا المعنى بأنه تقريب المتعلق بكسر اللام بالمتعلق بفتح اللام تقريبا لا يجعله في معنى المفعول به.
وإن شئت إرجاع معنى التعدية إلى أصل من المعاني المشهورة اللام، فالظاهر أنها من فروع معنى شبه الملك كما اقتضاه جعل ابن مالك المثال الذي مثل به للتعدية مثالا لشبه الملك.
وأقرب من ذلك أن تكون اللام بمعنى "عند" ويكون مفاد قوله تعالى: {بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} أنها بيضاء بياضا مستقرا في أنظار الناظرين ويكون الظرف مستقرا يجعل حالا من ضمير يده.
[112,109] {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}.
جرت جملة {قَالَ الْمَلَأُ} على طريقة الفصل لأنها جرت في طريق المجاورة الجارية بين موسى وبين فرعون وملئه فإنه حوار واحد.
وتقدم الكلام على الملإ آنفا في القصص الماضية. فملأ قوم فرعون هم سادتهم وهم أهل مجلس فرعون ومشورته، وقد كانت دعوة موسى أول الأمر قاصرة على فرعون في مجلسه فلم يكن بمرأى ومسمع من العامة لأن الله تعالى قال في آية أخرى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] وقال في هذه الآية: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ} [الأعراف: 103] وإنما أشهرت دعوته في المرة الآتية بعد اجتماع السحرة.
وإنما قالوا هذا الكلام على وجه الشورى مع فرعون واستنباط الاعتذار لأنفسهم عن قيام حجة موسى في وجوههم فاعتلوا لأنفسهم بعضهم لبعض بأن موسى إنما هو ساحر

عليم بالسحر أظهر لهم ما لا عهد لهم بمثله من أعمال السحرة، وهذا القول قد أعرب عن رأي جميع أهل مجلس فرعون، ففرعون كان مشاركا لهم في هذا لأن القرآن حكى عن فرعون في غير هذه السورة أنه قال للملأ حوله {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}، وهذه المعذرة قد انتحلوها وتواطأوا عليها تبعوا فيها ملكهم أو تبعهم فيها، فكل واحد من أهل ذلك المجلس قد وطن نفسه على هذا الاعتذار ولذلك فالخطاب في قوله: {يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} خطاب بعضهم لبعض وهو حاصل من طوائف ذلك الملأ لطوائف يرددونه بينهم ويقوله بعضهم لبعض.
ووجه استفادتهم أن موسى يريد إخراجهم من أرضهم، إما أنهم قاسوا ذلك عن قول موسى: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ} [الأعراف: 105] بقاعدة ما جاز على المثل يجوز على المماثل، يعنون أنه ما أظهر إخراج بني إسرائيل إلا ذريعة لإخراج كل من يؤمن به ليتخذهم تبعا ويقيم بهم ملكا خارج مصر، فزعوا أن تلك مكيدة من موسى لثلم ملك فرعون.
وإما أن يكون ملأ فرعون محتويا على رجال من بني إسرائيل كانوا مقربين عند فرعون ومن أهل الرأي في المملكة، فهم المقصود بالخطاب، أي: يريد إخراج قومكم من أرضكم التي استوطنتموها أربعة قرون وصارت لكم موطنا كما هي للمصريين، ومقصدهم من ذلك تذكيرهم بحب وطنهم، وتقريبهم من أنفسهم، وإنساؤهم ما كانوا يلقون من اضطهاد القبط واستذلالهم، شعورا منهم بحراجة الموقف.
وإما انهم علموا أنه إذا شاع في الأمة ظهور حجة موسى وعجز فرعون وملئه أدخل ذلك فتنة في عامة الأمة فآمنوا بموسى وأصبح هو الملك على مصر فأخرج فرعون وملأه منها.
ويجوز أن يكون الملأ خاطبوا بذلك فرعون. فجرت ضمائر الخطاب في قوله: {أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} على صيغة الجمع تعظيما للملك كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] وهذا استعمال مطرد.
والأمر حقيقته طلب الفعل، فمعنى {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} ماذا تطلبون أن نفعل، وقال جماعة من أهل اللغة: غلب استعمال الأمر في الطلب الصادر من العلي إلى من دونه فإذا التزم هذا كان إطلاقه هنا على وجه التلطف مع المخاطبين، وأيا ما كان فالمقصود منه الطلب على وجه الإفتاء والاشتوار لأن أمرهم لا يتعين العمل به، فإذا كان المخاطب

فرعون على ما تقدم، كان مرادا من الأمر الطلب الذي يجب امتثاله كما قال ملأ بلقيس: {فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33
والساحر فاعل السحر: وتقدم الكلام على السحر عند قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} في سورة البقرة [102].
وجملة {قَالُوا أَرْجِهْ} جواب القوم المستشارين، فتجريدها من حرف العطف لجريانها في طريق المحاورة، أي: فأجاب بعض الملأ بأبداء رأي لفرعون فيما يتعين عليه اتخاذه، ويجوز أن تكون جملة {قَالُوا أَرْجِهْ} بدلا من جملة {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} بإعادة فعل القول وهو العامل في المبدل منه إذا كان فرعون هو المقصود بقولهم: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} .
وفعل {أَرْجِهْ} أمر من الإرجاء وهو التأخير. قرأه نافع، وعاصم، والكسائي وأبو جعفر: أرجه بجيم ثم هاء وأصله {أَرْجِهْ} بهمزة بعد الجيم فسهلت الهمزة تخفيفا، فصارت ياء ساكنة، وعوملت معاملة حرف العلة في حالة الأمر. وقرأه الباقون بالهمز ساكنا على الأصل، ولهم في حركات هاء الغيبة وإشباعها وجوه مقررة في علم القراءات.
والمعنى: أخر المجادلة مع موسى إلى إحضار السحرة الذين يدافعون سحره. وحكى القرآن ذكر الأخ هنا للإشارة إلى أنه طوي ذكره في أول القصة، وقد ذكر في غير هذه القصة ابتداء.
وعدي فعل الإرسال "بفي" دون "إلى" لأن الفعل هنا غير مقصود تعديته إلى المرسل إليهم بل المقصود منه المرسلون خاصة، وهو المفعول الأول، إذ المعنى: وأرسل حاشرين في المدائن يأتوك بالسحرة، فعلم أنهم مرسلون للبحث والجلب، لا للإبلاغ وهذا قريب من قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} في سورة المؤمنين [32]. قال في الكشاف هنالك لم يعد الفعل بفي مثل ما يعدى بإلى، ولكن الأمة جعلت موضعا للإرسال كما قال رؤبة:
أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام1
ـــــــ
1 المصعب بضم الميم وفتح العين "الفحل" الصعب من الإبل وبقية الرجز:
طبا فقيها بذوات الإيلام

وقد جاء "بعث" على ذلك في قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} [الفرقان:51] وقد تقدم آنفا قريب منه عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} [الأعراف: 94]
والمدائن: جمع مدينة، وهي بوزن فعيلة، مشتقة من مدن بالمكان إذا أقام، ولهل "مدن" هو المشتق من المدينة لا العكس، وأيا ما كان فالأظهر أن ميم مدينة أصلية ولذلك جمعت على مدائن بالهمزة كما قالوا صحائف جمع صحيفة، ولو كانت مفعلة من دانه لقالوا في الجمع مداين بالياء مثل معايش.
ومداين مصر في ذلك الزمن كثيرة وسنذكر بعضها عند قوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} في سورة الشعراء [53]. قيل أرادوا مدائن الصعيد وكانت مقر العلماء بالسحر. والحاشرون الذين يحشرون الناس ويجمعونهم.
والشأن أن يكون ملأ فرعون عقلاء أهل سياسة، فعلموا أن أمر دعوة موسى لا يكاد يخفى، وأن فرعون إن سجنه أو عاند، تحقق الناس أن حجة موسى غلبت، فصار ذلك ذريعة للشك في دين فرعون، فرأوا أن يلاينوا موسى، وطمعوا أن يوجد في سحرة مصر من يدافع آيات موسى، فتكون الحجة عليه ظاهرة للناس.
وجزم {يَأْتُوكَ} على جواب الأمر للدلالة على شدة اتصال السببية بين الإرسال والإتيان، فالتقدير: إن ترسل يأتوك، وقد قيل: في مثله إنه مجزوم بلام الأمر محذوفة، على أن الجملة بدل من {أُرْسِلَ} بدل اشتمال، أي: أرسلهم آمرا لهم فليأتوك بكل ساحر عليم، وهذا الاستعمال كثير في كلام العرب مع فعل القول نحو {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [ابراهيم: 31] فكذلك ما كان فيه معنى القول كما هنا.
و"كل" مستعمل في معنى الكثرة، أي: بجمع عظيم من السحرة يشبه أن يكون جميع ذلك النوع.
وقرأ الجمهور: {بِكُلِّ سَاحِرٍ} ، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: {بِكُلِّ سَاحِرٍ} ، على المبالغة في معرفة السحر، فيكون وصف {عَلِيمٍ} تأكيدا لمعنى المبالغة لأن وصف {عَلِيمٍ} الذي هو من أمثلة المبالغة للدلالة على قوة المعرفة بالسحر، وحذف متعلق {عَلِيمٍ} لأنه صار بمنزلة أفعال السجايا. والمقام يدل على أن المراد قوة علم السحر له.
[116,113] {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ

قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} .
عطفت جملة {وَجَاءَ السَّحَرَةُ} على جملة {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف: 111, 112] وفي الكلام إيجاز حذف، والتقدير: قالوا أرجه وأخاه وأرسل الخ فأرسل فرعون في المدائن حاشرين فحشروا وجاء السحرة من المدائن فحضروا عند فرعون.
فالتعريف في قوله: {السَّحَرَةُ} تعريف العهد، أي السحرة المذكورون، وكان حضور السحرة عند فرعون في اليوم الذي عينه موسى للقاء السحرة وهو المذكور في سورة طه.
وجملة {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً} استئناف بياني بتقدير سؤال من يسأل: ماذا صدر من ا لسحرة حين مثلوا بين يدي فرعون?
وقرأ نافع، وابن كثير، وحفص، وأبو جعفر {إِنَّ لَنَا لَأَجْراً} ابتداء بحرف "إن" دون همزة استفهام، وقرأه الباقون بهمزة استفهام قبل "إن".
وعلى القرائتين فالمعنى على الاستفهام، كما هو ظاهر الجواب بـ {نَعَمْ} ، وهمزة الاستفهام محذوفة تخفيفا على القراءة الأولى، ويجوز أن يكون المعنى عليها أيضا على الخبرية لأنهم وثقوا بحصول الأجر لهم، حتى صيروه في حيز المخبر به عن فرعون، ويكون جواب فرعون بـ {نَعَمْ} تقريرا لما أخبروا به عنه.
وتنكير {أَجْراً} تنكير تعظيم بقرينة مقام الملك وعظم العمل، وضمير {نَحْنُ} تأكيد لضمير {كُنَّا} إشعارا بجدارتهم بالغلب، وثقتهم بأنهم أعلم الناس بالسحر، فأكدوا ضميرهم لزيادة تقرير مدلوله، وليس هو بضمير فصل إذ لا يقصد إرادة القصر، لأن إخبارهم عن أنفسهم بالغالبين يغني عن القصر، إذ يتعين أن المغلوب في زعمهم هو موسى عليه السلام.
وقول فرعون {نَعَمْ} إجابة عما استفهموا، أو تقريرا لما توسموا: على الاحتمالين المذكورين في قوله: {إِنَّ لَنَا لَأَجْراً} آنفا، فحرف {نَعَمْ} يقرر مضمون الكلام الذي يجاب به، فهو تصديق بعد الخبر، وإعلام بعد الاستفهام، بحصول الجانب المستفهم عنه،

والمعنيان محتملان هنا على قراءة نافع ومن وافقه، وأما على قراءة غيرهم فيتعين المعنى الثاني.
وعطف جملة {إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} على ما تضمنته حرف الجواب إذ التقدير: نعم لكم أجر وإنكم لمن المقريبن، وليس هو من عطف التلقين: لأن التلقين إنما يعتبر في كلامين من متكلمين لا من متكلم واحد.
وفصلت جملة {قَالُوا يَا مُوسَى} لوقوعها في طريقة المحاورة بينهم وبين فرعون وموسى، لأن هؤلاء هم أهل الكلام في ذلك المجمع.
و {إِمَّا} حرف يدل على الترديد بين أحد شيئين أو أشياء، ولا عمل له ولا هو معمول، وما بعده يكون معمولا للعامل الذي في الكلام. ويكون {إِمَّا} بمنزلة جزء كلمة مثل أل المعرفة،كقول تأبط شرا:
هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم والموت بالحر أجدر
وقوله: {أَنْ تُلْقِيَ} وقوله: {أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} يجوز كونهما في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف، أي إما إلقاؤك مقدم وإما كوننا ملقين مقدم، وقد دل على الخبر المقام لأنهم جاءوا لإلقاء آلات سحرهم، وزعموا أن موسى مثلهم. وفي الكشاف في سورة طه، جعل {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا، ولما كان الواقع لا يخلو عن أحد هذين الأمرين لم يكن المقصود بالخبر الفائدة لأنها ضرورية، فلا يحسن الإخبار بها مثل: السماء فوقنا، فتعين أن يكون الكلام مستعملا في معنى غير الإخبار، وذلك هو التخيير أي: إما أن تبتدئ بإلقاء آلات سحرك وإما أن نبتدئ، فاختر أنت أحد أمرين ومن هنا جاز جعل المصدرين المنسبكين في محل نصب بفعل تخيير محذوف، كما قدره الفراء وجوزه في الكشاف في سورة طه، أي: اختر أن تلقي أو كوننا الملقين، أي: في الأولية، ابتدأ السحرة موسى بالتخيير في التقدم إظهارا لثقتهم بمقدرتهم وانهم الغالبون، سواء ابتدأ موسى بالأعمال أم كانوا هم المبتدئين، ووجه دلالة التخيير على أن التقدم في التخييلات والشعوذة أنجح للبادئ لأن بديهتها تمضي في النفوس وتستقر فيها، فتكون النفوس أشد تأثرا بها من تأثرها بما يأتي بعدها، ولعلهم مع ذلك أرادوا أن يسبروا مقدار ثقة موسى بمعرفته مما يبدو منه من استواء الأمرين عنده أو من الحرص على أن يكون هو المقدم، فإن لاستضعاف النفس تأثيرا عظيما في استرهابها وإبطال حيلتها، وقد جاءوا في جانبهم بكلام يسترهب موسى ويهول

شأنهم في نفسه، إذ اعتنوا بما يدل على ذواتهم بزيادة تقرير الدلالة في نفس السامع المعبر عنها في حكاية كلامهم بتأكيد الضمير في قوله: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} .
وبذلك تعلم أن المقام لا يصلح لاحتمال أنهم دلوا على رغبتهم في أن يلقوا سحرهم قبل موسى، لأن ذلك ينافى إظهار استواء الأمرين عندهم، خلافا لما في الكشاف وغيره، ولذلك كان في جواب موسى إياهم بقوله: {أَلْقُوا} استخفاف بأمرهم إذ مكنهم من مباداة إظهار تخييلاتهم وسحرهم، لأن الله قوى نفس موسى بذلك الجواب لتكون غلبته عليهم بعد أن كانوا هم المبتدئين أوقع حجة وأقطع معذرة، وبهذا يظهر أن ليس في أمر موسى عليه السلام إياهم بالتقدم ما يقتضي تسويغ معارضة دعوة الحق لأن القوم كانوا معروفين بالكفر بما جاء به موسى فليس في معارضتهم إياه تجديد كفر، ولأنهم جاءوا مصممين على معارضته فليس الإذن لهم تسويغا، ولكنهم خيروه في التقدم أو يتقدموا فاختار أن يتقدموا لحكمة إلهية تزيد المعجزة ظهورا، ولان في تقديمه إياهم إبلاغا في إقامة الحجة عليهم، ولعل الله ألقى في نفسه ذلك، وفي هذا دليل على جواز الابتداء بتقرير الشبهة للذي يثق بأنه سيدفعها.
وقوله: {فَلَمَّا أَلْقَوْا} عطف على محذوف للإيجاز، والتقدير: فألقوا، لأن قوله: {فَلَمَّا أَلْقَوْا} يؤذن بهذا المحذوف، وحذف مفعول {أَلْقُوا} لظهوره، أي: ألقوا آلات سحرهم.
ومعنى {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} : جعلوها متأثرة بالسحر بما ألقوا من التخييلات والشعوذة.
وتعدية فعل {سَحَرُوا} إلى {أَعْيُنَ} مجاز عقلي لأن الأعين آلة إيصال التخييلات إلى الإدراك، وهم إنما سحروا العقول، ولذلك لو قيل: سحروا الناس لأفاد ذلك، ولكن تفوت نكتة التنبيه على أن السحر إنما هو تخيلات مرئية، ومثل هذه الزيادة زيادة الأعين في قول الأعشى:
كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا ... وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
أي إذا ما الناس تفرق فرقا يحصل من رؤية الأخطار المخيفة.
والاسترهاب: طلب الرهب أي الخوف، وذلك أنهم عززوا تخيلات السحر بأمور أخرى تثير خوف الناظرين، لتزداد تمكن التخيلات من قلوبهم، وتلك الأمور أقوال وأفعال

توهم أن سيقع شيء مخيف كأن يقولوا للناس: خذوا حذركم، وحاذروا، ولا تقتربوا، وسيقع شيء عظيم، وسيحضر كبير السحرة، ونحو ذلك من التمويهات، والخزعبلات، والصياح، والتعجيب.
ولك أن تجعل السين والتاء في {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} للتأكيد، أي: أرهبوهم رهبا شديدا، كما يقال استكبر واستجاب.
وقد بينت في تفسير قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} من سورة البقرة [102] أن مبنى السحر على التخييل والتخويف.
ووصف السحر بالعظيم لأنه من أعظم ما يفعله السحرة إذ كان مجموعا مما تفرق بين سحرة المملكة من الخصائص المستورة بالتوهيم الخفية أسبابها عن العامة.
[119,117] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ}.
جملة {وَأَوْحَيْنَا} معطوفة على جملة {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]. فهي في حيز جواب لما، أي: لما ألقوا سحروا، وأوحينا إلى موسى أن الق لهم عصاك.
و {أَنْ} تفسيرية لفعل {أَوْحَيْنَا} ، والفاء للتعقيب الدال على سرعة مفاجأة شروعها في التلقف بمجرد إلقائها، وقد دل السياق على جملتين محذوفتين، إذ التقدير: فألقاها فدبت فيها الحياة وانقلبت ثعبانا فإذا هي تلقف، دل على الجملة الأولى الأمر بالإلقاء، وعلى الجملة الثانية التلقف لأنه من شأن الحيوان، والعصا إذا دبت فيها الحياة صارت ثعبانا بدون تبديل شكل.
والتلقف: مبالغة في اللقف وهو الابتلاع والازدراد.
و {مَا} موصولة والعائد محذوف أي: ما يأفكونه. والإفك: الصرف عن الشيء ويسمى الزور إفكا، والكذب المصنوع إفكا، لأن فيه صرفا عن الحق وإخفاء للواقع، فلا يسمى إفكا إلا الكذب المصطنع المموه، وإنما جعل السحر إفكا لأن ما يظهر منه مخالف للواقع فشبه بالخبر الكاذب.
وقرأ الجمهور {تَلْقَّفُ} بقاف مشددة، وأصله تتلقف، أي تبالغ وتتكلف اللقف

ما استطاعت، وقرأ حفص بن عاصم: بسكون اللام وتخفيف القاف على صيغة المجرد.
والتعبير بصيغة المضارع في قوله: {تَلْقَفُ} و {مَا يَأْفِكُونَ} للدلالة على التجديد والتكرير، مع استحضار الصورة العجيبة، أي: فإذا هي يتجدد تلقفها لما يتجدد ويتكرر من إفكهم. وتسمية سحرهم إفكا دليل على أن السحر لا معمول له وأنه مجرد تخييلات وتمويهات.
وقوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} تفريع على {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} . والوقوع حقيقته سقوط الشيء من أعلى إلى الأرض، ومنه: وقع الطائر، إذا نزل إلى الأرض، واستعير الوقوع لظهور أمر رفيع القدر، لأن ظهوره كان بتأييد الهي فشبه بشيء نزل من علو، وقد يطلق الوقوع على الحصول لأن الشيء الحاصل يشبه النازل على الأرض، وهي استعارة شائعة قال تعالى {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذريات:6] أي: حاصل وكائن، والمعنى فظهر الحق وحصل.
ولعل في اختيار لفظ "وقع"، هنا دون "نزل" مراعاة لفعل الإلقاء لأن الشيء الملقى يقع على الأرض فكان وقوع العصا على الارض وظهور الحق مقترنين.
و {الْحَقُّ} : هو الأمر الثابت الموافق للبرهان، وضده الباطل، والحق هنا أريد به صدق موسى وصحة معجزته وكون ما فعلته العصا هو من صنع الله تعالى، وأثر قدرته.
{وَبَطَلَ} : حقيقته اضمحل. والمراد: اضمحلال المقصود منه وانتفاء أثر مزعوم لشيء يقال: بطل سعيه، أي: لم يأت بفائدة، ويقال: بطل عمله، أي: ذهب ضياعا وخسر بلا أجر، ومنه قوله تعالى: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8] أي: يزيل مفعوله وما قصدوه منه، فالباطل هو الذي لا فائدة فيه، أو لا خير فيه، ومنه سمي ضد الحق باطلا لأنه شيء لا يحصل منه الأثر المرجو، وهو القبول لدى العقول المستقيمة. وشاع هذا الإطلاق حتى صار الباطل كالاسم لجامد، مدلوله هو ضد الحق، ويطلق الباطل اسم فاعل من بطل، فيساوي المصدر في اللفظ، ويتعين المراد منهما بالقرينة، فصوغ فعل بطل يكون مشتقا من المصدر وهو البطلان، وقد يكون مشتقا من الاسم وهو الباطل. فمعنى {بَطَلَ} حينئذ وصف بأنه باطل مثل فهد وأسد، ويصح تفسيره هنا بالمعنيين، فعلى الأول يكون المعنى: وانتفت حينئذ آثار ما كانوا يعملون، وعلى الثاني يكون المعنى: واتصف ما يعملون بأنه باطل، وعلى هذا الوجه يتعين أن يكون المراد من الفعل معنى الظهور لا الحدوث، لأن كون ما يعملونه باطلا وصف ثابت له من قبل أن يلقي موسى عصاه، ولكن عند إلقاء العصا ظهر كونه باطلا، ويبعد هذا أن استعمال صيغة الفعل في معنى

ظهور حدثه لا في معنى وجوده وحدوثه، خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا داع.
وأما من فسر {بَطَلَ} بمعنى: انعدم، وفسر {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بحبال السحرة وعصيهم ففي تفسيره نبو عن الاستعمال، وعن المقام.
وزيادة قوله: {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بعد قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} تقرير لمضمون جملة {فَوَقَعَ الْحَقُّ} لتسجيل ذم عملهم، ونداء بخيبتهم، تأنيسا للمسلمين وتهديدا للمشركين وللكافرين أمثالها.
و {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} هو السحر، أي: بطلت تخيلات الناس أن عصي السحرة وحبالهم تسعى كالحيات، ولم يعبر عنه بالسحر إشارة إلى أنه كان سحرا عجيبا تكلفوا له وأتوا بمنتهى ما يعرفونه.
وقد عطف عليه جملة {فَغُلِبُوا} بالفاء لحصول المغلوبية إثر تلقف العصا لإفكهم. و {هُنَالِكَ} اسم إشارة المكان أي غلبوا في ذلك المكان فأفاد بداهة مغلوبيتهم وظهورها لكل حاضر.
والانقلاب: مطاوع قلب والقلب تغيير الحال وتبدله، والأكثر أن يكون تغييرا من الحال المعتادة إلى حال غريبة.
ويطلق الانقلاب شائعا على الرجوع إلى المكان الذي يخرج منه، لأن الراجع قد عكس حال خروجه.
وانقلب من الأفعال التي تجيء بمعنى "صار" وهو المراد هنا أي: صاروا صاغرين، واختيار لفظ {وَانْقَلَبُوا} دون "رجعوا" أو "صاروا" لمناسبته للفظ غلبوا في الصيغة، ولما يشعر به أصل اشتقاقه من الرجوع إلى حال أدون، فكان لفظ انقلبوا أدخل في الفصاحة.
والصغار: المذلة، وتلك المذلة هي مذلة ظهور عجزهم، ومذلة خيبة رجائهم ما أملوه من الأجر والقرب عند فرعون.
[126,120] {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ

قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} .
عطف على {فَغُلِبُوا} و {وَانْقَلَبُوا} [الأعراف: 119]، فهو في حيز فاء التعقيب، أي: حصل ذلك كله عقب تلقف العصا ما يأفكون، أي: بدون مهلة، وتعقيب كل شيء بحسبه، فسجود السحرة متأخر عن مصيرهم صاغرين، ولكنه متأخر بزمن قليل وهو زمن انقداح الدليل على صدق موسى في نفوسهم، فإنهم كانوا أعلم الناس بالسحر فلا يخفى عليهم ما هو خارج عن الأعمال السحرية، ولذلك لما رأوا تلقف عصا موسى لحبالهم وعصيهم جزموا بأن ذلك خارج عن طوق الساحر، فعلموا أنه تأييد من الله لموسى وأيقنوا أن ما دعاهم إليه موسى حق، فلذلك سجدوا، وكان هذا خاصا بهم دون بقية الحاضرين، فلذلك جيء بالاسم الظاهر دون الضمير لئلا يلتبس بالضمير الذي قبله الذي هو شامل للسحرة وغيرهم.
والإلقاء: مستعمل في سرعة الهوي إلى الأرض، أي: لم يتمالكوا أن سجدوا بدون تريث ولا تردد.
وبني فعل الإلقاء للمجهول لظهور الفاعل، وهو أنفسهم، والتقدير: وألقوا أنفسهم على الأرض.
و {سَاجِدِينَ} حال، والسجود هيئة خاصة لإلقاء المرء نفسه على الأرض يقصد منها الإفراط في التعظيم، وسجودهم كان لله الذي عرفوه حينئذ بظهور معجزة موسى عليه السلام والداعي إليه بعنوان كونه رب العالمين.
وجملة {قَالُوا} بدل اشتمال من جملة {أُلْقِيَ السَّحَرَةُ} لأن الهوي للسجود اشتمل على ذلك القول، وهم قصدوا من قولهم ذلك الإعلان بإيمانهم بالله لئلا يظن الناس أنهم سجدوا لفرعون، إذ كانت عادة القبط السجود لفرعون، ولذلك وصفوا الله بأنه رب العالمين بالعنوان الذي دعا به موسى عليه السلام، ولعلهم لم يكونوا يعرفون اسما علما لله تعالى، إذ لم يكن لله اسم عندهم، وقد علم بذلك أنهم كفروا بإلهية فرعون.
وزادوا هذا القصد بيانا بالإبدال من {رَبِّ الْعَالَمِينَ} قولهم: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} لئلا يتوهم المبالغة في وصف فرعون بأنه رب جميع العالمين، وتعين في تعريف البدل طريق تعريف الإضافة لأنها أخصر طريق، وأوضحه هنا، لا سيما إذا لم يكونوا يعرفون

اسما علما على الذات العلية. وهذا ما يقتضيه تعليم الله اسمه لموسى حين كلمه فقال {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} في سورة طه [14]. وفي سفر الخروج "وقال الله لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه إله آبائكم" إلخ الإصحاح الثالث.
وفصلت جملة {قَالَ فِرْعَوْنُ} لوقوعها في طريق المحاورة.
وقوله {أآمَنْتُمْ} قرأه الجمهور بصيغة الاستفهام بهمزتين فمنهم من حققها، وهم: حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وروح عن يعقوب، وخلف، ومنهم من سهل الثانية مدة، فصار بعد الهمزة الأولى مدتان، وهؤلاء هم: نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وقرأه حفص عن عاصم بهمزة واحدة فيجوز أن يكون إخبارا، ويجوز أن تكون همزة الاستفهام محذوفة وما ذلك ببدع.
والاستفهام للإنكار والتهديد مجازا مرسلا مركبا، والإخبار مستعمل كذلك أيضا لظهور أنه لا يقصد حقيقة الاستفهام ولا حقيقة الإخبار لأن المخاطبين لأن المخاطبين صرحوا بذلك وعلموه، والضمير المجرور بالباء عائد إلى موسى. أي: آمنتم بما قاله، أو إلى رب موسى.
وجملة {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ} الخ...خبر مراد به لازم الفائدة أي: ولقد علمت مرادكم لأن المخاطب لا يخبر بشيء صدر منه. كقول عنترة:
إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمت ركابكم بليل مظلم
أي: إن كنت أخفيت عني عزمك على الفراق فقد علمت أنكم شددتم رحالكم بليل لترحلوا خفية.
وقوله {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} ترق في موجب التوبيخ، أي لم يكفكم أنكم آمنتم بغيري حتى فعلتم ذلك عن غير استئذان، وفصلها عما قبلها لأنها تعداد للتوبيخ.
والمكر تقدم عند قوله تعالى {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} في سورة آل عمران [54]، وتقدم آنفا عند قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف: 99].
والضمير المنصوب في {مَكَرْتُمُوهُ} ضمير المصدر المؤكد لفعله.
و {فِي} ظرفية مجازية: جعل مكرهم كأنه موضوع في المدينة كما يوضع العنصر المفسد، أي: أردتم إضرار أهلها، وليست ظرفية حقيقية لأنها لا جدوى لها إذ معلوم لكل

أحد أن مكرهم وقع في تلك المدينة. وفسره في الكشاف بأنهم دبروه في المدينة حين كانوا بها قبل الحضور إلى الصحراء التي وقعت فيها المحاورة، وقد تبين أن المراد بالظرفية ما ذكرناه بالتعليل الذي بعدها في قوله: {لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} والمراد هنا بعض أهلها، وهم بنو إسرائيل، لأن موسى جاء طلبا لإخراج بني إسرائيل كما تقدم.
وقول فرعون هذا يحتمل أنه قاله موافقا لظنه على سبيل التهمة لهم لأنه لم يكن له علم بدقائق علم السحر حتى يفرق بينه وبين المعجزة الخارقة للعادة، فظن أنها مكيدة دبرها موسى مع السحرة، وأنه لكونه أعلمهم أو معلمهم أمرهم فأتمروا بأمره، كما في الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه: 71].
ويحتمل أنه قاله تمويها وبهتانا ليصرف الناس عن اتباع السحرة، وعن التأثر بغلبة موسى إياهم فيدخل عليهم شكا في دلالة الغلبة واعتراف السحرة بها، وأن ذلك مواطاة بين الغالب والمغلوب لغاية مقصودة، وهو موافق في قوله هذا لما كان أشار به.
الملأ من قومه حين قالوا: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 35] وأياما كان فعزمه على تعذيبهم مصير إلى الظلم والغشم لأنه ما كان يحق له أن يأخذهم بالتهمة، بله أن يعاقبهم على المصير إلى الحجة، ولكنه لما أعجزته الحجة صار إلى الجبروت.
وفرع على الإنكار والتوبيخ الوعيد بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، وحذف مفعول: {تَعْلَمُونَ} لقصد الإجمال في الوعيد لإدخال الرعب، ثم بينه بجملة: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} . ووقوع الجمع معرفا بالإضافة يكسبه العموم فيعم كل يد وكل رجل من أيدي وأرجل السحرة.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ خِلافٍ} ابتدائية لبيان موضع القطع بالنسبة إلى العضو الثاني، وقد تقدم بيان نظيرها عند قوله تعالى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] في سورة المائدة. فالمعنى: أنه يقطع من كل ساحر يدا ورجلا متخالفتي الجهة غير متقابلتيها، أي: إن قطع يده اليمنى قطع رجله اليسرى والعكس، وإنما لم يقطع القوائم الأربع لأن المقصود بقاء الشخص متمكنا من المشي متوكئا على عود تحت اليد من جهة الرجل المقطوعة.
ودلت {ثُمَّ} على الارتقاء في الوعيد بالصلب، والمعروف أن الصلب أن يقتل المرء

مشدودا على خشبة، وتقدم في قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} في سورة النساء [157]، وعلى هذا يكون توعدهم بنوعين من العذاب، والوعيد موجه إلى جماعتهم فعلم أنه جعلهم فريقين: فريق يعذب بالقطع من خلاف، وفريق يعذب بالصلب والقتل، فعلى هذا ليس المعنى على أنه يصلبهم بعد أن يقطعهم، إذ لا فائدة في تقييد القطع بكونه من خلاف حينئذ، ويحتمل أن يراد بالصلب: الصلب دون قتل، فيكون أراد صلبهم بعد القطع ليجعلهم نكالا ينذعر بهم الناس، كيلا يقدم أحد على عصيان أمره من بعد، فتكون {ثُمَّ} دالة على الترتيب والمهلة، ولعل المهلة قصد منها مدة كي واندمال موضع القطع، وهذا هو المناسب لظاهر قوله {أَجْمَعِينَ} المفيد أن الصلب ينالهم كلهم.
وفصلت جملة {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ} لوقوعها في سياق المحاورة.
والانقلاب: الرجوع وقد تقدم قريبا، وهذا جواب عن وعيد فرعون بأنه وعيد لا يضيرهم، لأنهم يعلمون أنهم صائرون إلى الله رب الجميع، وقد جاء هذا الجواب موجزا إيجازا بديعا، لأنه يتضمن أنهم يرجون ثواب الله على ما ينالهم من عذاب فرعون، ويرجون منه مغفرة ذنوبهم، ويرجون العقاب لفرعون على ذلك، وإذا كان المراد بالصلب القتل وكان المراد تهديد جميع المؤمنين، كان قولهم: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ} تشوقا إلى حلول ذلك بهم محبة للقاء الله تعالى، فإن الله تعالى لما هداهم إلى الإيمان أكسبهم محبة لقائه، ثم بينوا أن عقاب فرعون لا غضاضة عليهم منه، لأنه لم يكن عن جناية تصمهم بل كان على الإيمان بآيات الله لما ظهرت لهم. أي: فإنك لا تعرف لنا سببا يوجب العقوبة غير ذلك.
والنقم: بسكون القاف وبفتحها، الإنكار على الفعل، وكراهة صدوره وحقد على فاعله، ويكون باللسان وبالعمل، وفعله من باب ضرب وتعب، والأول أفصح، ولذلك قرأه الجميع {وَمَا تَنْقِمُ} بكسر القاف.
والاستثناء في قولهم: {إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا} متصل، لأن الإيمان ينقمه فرعون عليهم، فليس في الكلام تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
وجملة {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} من تمام كلامهم، وهي انتقال من خطابهم فرعون إلى التوجه إلى دعاء الله تعالى، ولذلك فصلت عن الجملة التي قبلها.
ومعنى قوله: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} اجعل لنا طاقة لتحمل ما توعدنا به فرعون.

ولما كان ذلك الوعيد مما لا تطيقه النفوس سألوا الله أن يجعل لنفوسهم صبرا قويا، يفوق المتعارف، فشبه الصبر بماء تشبيه المعقول بالمحسوس، على طريقة الاستعارة المكنية، وشبه خلقه في نفوسهم بإفراغ الماء من الإناء على طريقة التخييلية، فإن الإفراغ صب جميع ما في الإناء، والمقصود من ذلك الكناية عن قوة الصبر لأن إفراغ الإناء يستلزم أنه لم يبق فيه شيء مما حواه، فاشتملت هذه الجملة على مكنية وتخييلية وكناية.
وتقدم نظيره في قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} في سورة البقرة [250].
ودعوا لأنفسهم بالوفاة على الإسلام إيذانا بأنهم غير راغبين في الحياة، ولا مبالين بوعيد فرعون، وأن همتهم لا ترجو إلا النجاة في الآخرة، والفوز بما عند الله، وقد انخذل بذلك فرعون، وذهب وعيده باطلا، ولعله لم يحقق ما توعدهم به لأن الله أكرمهم فنجاهم من خزي الدنيا كما نجاهم من عذاب الآخرة.
والقرآن لم يتعرض هنا، ولا في سورة الشعراء، ولا في سورة طه، للإخبار عن وقوع ما توعدهم به فرعون لأن غرض القصص القرآنية هو الاعتبار بمحل العبرة وهو تأييد الله موسى وهداية السحرة وتصلبهم في إيمانهم بعد تعرضهم للوعيد بنفوس مطمئنة.
وليس من غرض القرآن معرفة الحوادث كما قال في سورة النازعات [26] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} ، فاختلاف المفسرين في البحث عن تحقيق وعيد فرعون زيادة في تفسير الآية.
والظاهر أن فرعون أفحم لما رأى قلة مبالاتهم بوعيده فلم يرد جوابا.
وذكرهم الإسلام في دعائهم يدل على أن الله ألهمهم حقيقته التي كان عليها النبيون والصديقون من عهد إبراهيم عليه السلام.
والظاهر أن كلمة {مُسْلِمَيْنِ} تعبير القرآن عن دعائهم بأن يتوفاهم الله على حالة الصديقين، وهي التي يجمع لفظ الإسلام تفصيلها، وقد تقدم شرح معنى كون الإسلام وهو دين الأنبياء عند قوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في سورة البقرة [البقرة: 132].
[128,127] {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ

لِلْمُتَّقِينَ}.
جملة {وَقَالَ الْمَلأُ} عطف على جملة {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ} [الأعراف: 123] أو على جملة {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:109]. وإنما عطفت ولم تفصل لأنها خارجة عن المحاورة التي بين فرعون ومن آمن من قومه بموسى وآياته، لأن أولئك لم يعرجوا على ذكر ملإ فرعون، بل هي محاورة بين ملإ فرعون وبينه في وقت غير وقت المحاورة التي جرت بين فرعون والسحرة، فإنهم لما رأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون، ورأوا نهوض حجتهم على فرعون وإفحامه، وأنه لم يحر جوابا، راموا إيقاظ ذهنه، وإسعار حميته، فجاءوا بهذا الكلام المثير لغضب فرعون، ولعلهم رأوا منه تأثرا بمعجزة موسى وموعظة الذين آمنوا من قومه وتوقعوا عدوله عن تحقيق وعيده، فهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ} .
والاستفهام في قوله {أَتَذَرُ مُوسَى} مستعمل في الإغراء بإهلاك موسى وقومه، والإنكار على الإبطاء بإتلافهم. وموسى مفعول {تَذَرُ} أي تتركه متصرفا ولا تأخذ على يده.
والكلام على فعل {تَذَرُ} تقدم في قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً} في الأنعام [70].
وقوم موسى هم من آمن به. وأولئك هم بنوا إسرائيل كلهم ومن آمن من القبط.
واللام في قوله {لِيُفْسِدُوا} لام التعليل وهو مبالغة في الإنكار إذ جعلوا ترك موسى وقومه معللا بالفساد، وهذه اللام تسمى لام العاقبة. وليست العاقبة معنى من معاني اللام حقيقة ولكنها مجاز: شبه الحاصل عقب الفعل لا محالة بالغرض الذي يفعل الفعل لتحصيله، واستعير لذلك المعنى حرف اللام عوضا عن فاء التعقيب كما في قوله تعالى {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8].
والإفساد عندهم هو إبطال أصول ديانتهم وما ينشأ عن ذلك من تفريق الجماعة وحث بني إسرائيل على الحرية. ومغادرة أرض الاستعباد.
{وَالأَرْضِ} مملكة فرعون وهي قطر مصر.
وقوله {وَيَذَرَكَ} عطف على {لِيُفْسِدُوا} فهو داخل في التعليل المجازي، لأن هذا

حاصل في بقائهم دون شك، ومعنى تركهم فرعون، تركهم تأليهه وتعظيمه، ومعنى ترك آلهته نبذهم عبادتها ونهيهم الناس عن عبادتها.
والآلهة جمع آله، ووزنه أفعلة. وكان القبط مشركين يعبدون آلهة متنوعة من الكواكب والعناصر وصوروا لها صورا عديدة مختلفة باختلاف العصور والأقطار، أشهرها فتاح وهو أعظمها عندهم وكان يعبد بمدينة منفيس، ومنها رع وهو الشمس وتتفرع عنه آلهة باعتبار أوقات شعاع الشمس. ومنها ازبريس و إزيس و هوروس وهذا عندهم ثالوث مجموع من أب وأم وابن. ومنها توت وهو القمر وكان عندهم رب الحكمة. ومنها أمون رع فهذه الأصنام المشهورة عندهم وهي أصل إضلال عقولهم.
وكانت لهم أصنام فرعية صغرى عديدة مثل العجل إيبيس ومثل الجعران وهو الجعل.
وكان أعظم هذه الأصنام هو الذي ينتسب فرعون إلى بنوته وخدمته، وكان فرعون معدودا ابن الآلهة وقد حلت فيه الإلهية على نحو عقيدة الحلول، ففرعون هو المنفذ للدين، وكان يعد إله مصر، وكانت طاعته طاعة للآلهة كما حكى الله تعالى عنه {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. وتوعد فرعون موسى وقومه بالاستئصال بقتل الأبناء والمراد الرجال بقرينة مقابلته بالنساء، والضمير المضاف إليه عائد على موسى وقومه، فالإضافة على معنى "ومن" التبعيضية.
وقرأ نافع وابن كثير، وأبو جعفر: {سَنُقَتِّلُ} بفتح النون وسكون القاف وضم التاء وقرأه البقية بضم النون وفتح القاف وتشديد التاء للمبالغة في القتل مبالغة كثرة واستيعاب.
والاستحياء: مبالغة في الإحياء، فالسين والتاء فيه للمبالغة، وإخباره ملأه باستحياء النساء تتميم لا أثر له في إجابة مقترح ملئه، لأنهم اقترحوا عليه أن لا يبقي موسى وقومه فأجابهم بما عزم عليه في هذا الشأن، والغرض من استبقاء النساء أن يتخذوهن سراري وخدما.
وجملة {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} اعتذار من فرعون للملإ من قومه عن إبطائه باستئصال موسى وقومه، أي: هم لا يقدرون أن يفسدوا في البلاد ولا أن يخرجوا عن طاعتي. والقاهر: الغالب بإذلال.
و {فَوْقَهُمْ} مستعمل مجازا في التمكن من الشيء وكلمة {فَوْقَهُمْ} مستعارة

لاستطاعة قهرهم لأن الاعتلاء على الشيء أقوى أحوال التمكن من قهره، فهي تمثيلية.
وجملة {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} واقعة جوابا لقول قومه: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ} [الأعراف: 125] إلى آخرها الذي أجابوا به عن وعيد فرعون، فكان موسى معدودا في المحاورة، ولذلك نزل كلامه الذي خاطب به قومه منزلة جواب منه لفرعون، لأنه في قوة التصريح بقلة الاكتراث بالوعيد، وبدفع ذلك بالتوكل على الله.
والتوكل هو جماع قوله: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} وقد عبر عن ذلك بلفظ التوكل في قوله: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} في سورة يونس [84]، فإن حقيقة التوكل أنه طلب نصر الله وتأييده في الأمر الذي يرغب حصوله، وذلك داخل في الاستعانة وهو يستلزم الصبر على الضر لاعتقاد أنه زائل بإذن الله.
وخاطب موسى قومه بذلك تطمينا لقلوبهم، وتعليما لهم بنصر الله إياهم لأنه علم ذلك بوحي الله إليه.
وجملة {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} تذييل وتعليل للأمر بالاستعانة بالله والصبر، أي: افعلوا ذلك لأن حكم الظلم لا يدوم، ولأجل هذا المعنى فصلت الجملة.
وقوله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} كناية عن ترقب زوال استعباد فرعون إياهم، قصد منها صرف اليأس عن أنفسهم الناشئ عن مشاهدة قوة فرعون وسلطانه، بأن الله الذي خوله ذلك السلطان قادر على نزعه منه لأن ملك الأرض كلها لله فهو الذي يقدر لمن يشاء ملك شيء منها وهو الذي يقدر نزعه.
فالمراد من الأرض هنا الدنيا لأنه أليق بالتذييل وأقوى في التعليل، فهذا إيماء إلى أنهم خارجون من مصر وسيملكون أرضا أخرى.
وجملة {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} تذييل، فيجوز أن تكون الواو اعتراضية، أي: عاطفة على ما في قوله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} من معنى التعليل، فيكون هذا تعليلا ثانيا للأمر بالاستعانة والصبر، وبهذا الاعتبار أوثر العطف بالواو على فصل الجملة مع أن مقتضى التذييل أن تكون مفصولة.
والعاقبة حقيقتها نهاية أمر من الأمور وآخره، كقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} [الحشر: 17]. وقد تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} في أول سورة الأنعام [11]، فإذا عرفت العاقبة باللام

كان المراد منها انتهاء أمر الشيء بأحسن من أوله ولعل التعريف فيها من قبيل العلم بالغلبة، وذلك لأن كل أحد يود أن يكون آخر أحواله خيرا من أولها لكراهة مفارقة الملائم، أو للرغبة في زوال المنافر، فلذلك أطلقت العاقبة معرفة على انتهاء الحال بما يسر ويلائم، كما قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. وفي حديث أبى سفيان قول هرقل "وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة" فلا تطلق المعرفة على عاقبة السوء. فالمراد بالعاقبة هنا عاقبة أمورهم في الحياة الدنيا ليناسب قوله: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وتشمل عاقبة الخير في الآخرة لأنها أهم ما يلاحظه المؤمنون.
والمتقون: المؤمنون العاملون.
وجيء في جملتي {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} بلفظين عامين، وهما: من يشاء من عباده والمتقين، لتكون الجملتان تذييلا للكلام وليحرص السامعون على أن يكونوا من المتقين.
وقد علم من قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أن من يشاء الله أن يورثهم الأرض هم المتقون إذا كان في الناس متقون وغيرهم، وأن تمليك الأرض لغيرهم إما عارض وإما لاستواء أهل الأرض في عدم التقوى.
[129] {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}.
{قَالُوا} حكاية جواب قوم موسى إياه، فلذلك فصلت جملة القول على طريقة المحاورة، وهذا الخبر مستعمل في الشكاية واستئثارتهم موسى ليدعو ربه أن يفرج كربهم.
والإيذاء: الإصابة بالأذى، والأذى ما يؤلم ويحزن من قول او فعل. وقد تقدم عند قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً} في سورة آل عمران [111]. وقوله: {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} في سورة الأنعام [34]، وهو يكون ضعيفا وقويا، ومرادهم هنا القوي منه، وهو ما لحقهم من الاستعباد وتكليفهم الأعمال الشاقة عليهم في خدمة فرعون وما توعدهم به فرعون بعد بعثة موسى من القطع والصلب وقتل الأبناء، وكأنهم أرادوا التعريض بنفاد صبرهم وأن الأذى الذي مسهم بعد بعثة موسى لم يكن بداية الأذى، بل جاء بعد طول مدة في الأذى، فلذلك جمعوا في كلامهم ما لحقهم قبل بعثة موسى.
وقد توهم بعض المفسرين أن هذا امتعاض منهم مما لحقهم بسبب موسى وبواسطته

مستندا إلى أن قتل الذكور منهم كان قبل مجيء موسى بسبب توقع ولادة موسى، وكان الوعيد بمثله بعد مجيئه بسبب دعوته، وليس ذلك بمتجه لأنه لو كان هو المراد لما كان للتعبير بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} موقع، والإتيان والمجيء مترادفان، فذكر المجيء بعد الإتيان ليس لاختلاف المعنى، ولكنه للتفنن وكراهية إعادة اللفظ.
والإتيان والمجيء مدلولهما واحد، وهو بعثة موسى بالرسالة، فجعل الفعل المعبر عنه حين علق به "قبل" بصيغة المضارع المقترن ب"أن" الدالة على الاستقبال والمصدرية لمناسبة لفظ "قبل" لأن ما يضاف إلى "قبل" مستقبل بالنسبة لمدلولها، وجعل حين علق به "بعد" بصيغة الماضي المقترن بحرف "ما" المصدرية لأن "ما" المصدرية لا تفيد الاستقبال ليناسب لفظ "بعد" لأن مضاف كلمة "بعد" ماض بالنسبة لمدلولها.
فأجابهم موسى بتقريب أن يكونوا هم الذين يرثون ملك الأرض والذين تكون لهم العاقبة.
وجاء بفعل الرجاء دون الجزم تأدبا مع الله تعالى، وإقصاء للاتكال على أعمالهم ليزدادوا من التقوى والتعرض إلى رضى الله تعالى ونصره. فقوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} ناظر إلى قوله {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} [الأعراف: 28] وقوله {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} [لأعراف: 129] ناظر إلى قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 28].
والمراد بالعدو، فرعون وحزبه، فوصف عدو يوصف به الجمع قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4].
والمراد بالاستخلاف: الاستخلاف عن الله في ملك الأرض، والاستخلاف إقامة الخليفة، فالسين والتاء لتأكيد الفعل مثل استجاب له، أي جعلهم أحرارا غالبين ومؤسسين ملكا في الأرض المقدسة.
ومعنى {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} التحذير من أن يعملوا ما لا يرضي الله تعالى، والتحريض على الاستكثار من الطاعة ليستحقوا وصف المتقين، تذكيرا لهم بأنه عليم بما يعملونه.
فالنظر مستعمل في العلم بالمرئيات، والمقصود بما {تَعْمَلُونَ} عملهم مع الناس في سياسة ما استخلفوا فيه، وهو كله من الأمور التي تشاهد إذ لا دخل للنيات والضمائر في السياسة وتدبير الممالك، إلا بمقدار ما تدفع إليه النيات الصالحة من الأعمال المناسبة

لها، فإذا صدرت الأعمال صالحة كما يرضي الله، وما أوصى به، حصل المقصود، ولا يضرها ما تكنه نفس العامل.
و"كَيْفَ" يجوز كونها استفهاما فهي معلقة لفعل "ينظر" عن المفعول، فالتقدير فينظر جواب السؤال بـ {كَيْفَ تَعْمَلُونَ} ، ويجوز كونها مجردة عن معنى الاستفهام دالة على مجرد الكيفية، فهي مفعول به لـ {يَنْظُرَ} كما تقدم في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} في سورة آل عمران [6]، وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ} في سورة المائدة [75] وقد تقدم.
[131,130] {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } .
هذا انتقال إلى ذكر المصائب التي أصاب الله بها فرعون وقومه، وجهلها آيات لموسى، ليلجئ فرعون إلى الإذن لبني إسرائيل بالخروج، وقد وقعت تلك الآيات بعد المعجزة الكبرى التي أظهرها الله لموسى في مجمع السحرة، ويظهر أن فرعون أغضى عن تحقيق وعيده إبقاء على بني إسرائيل، لأنهم كانوا يقومون بالأشغال العظيمة لفرعون.
ويؤخذ من التوراة أن موسى بقي في قومه مدة يعيد محاولة فرعون أن يطلق بني إسرائيل، وفرعون يعد ويخلف، ولم تضبط التوراة مدة مقام موسى كذلك، وظاهرها أن المدة لم تطل، وليس قوله تعالى: {بِالسِّنِينَ} دليل على أنها طالت أعواما لأن السنين هنا جمع سنة بمعنى الجدب لا بمعنى الزمن المقدر من الدهر، فالسنة في كلام العرب إذا عرفت باللام يراد بها سنة الجدب، والقحط، وهي حينئذ علم جنس بالغلبة، ومن ثم اشتقوا منها: أسنت القوم، إذا أصابهم الجدب والقحط، فالسنين في الآية مراد بها القحوط وجمعها باعتبار كثرة مواقعها أي: أصابهم القحط في جميع الأرضين والبلدان، فالمعنى: ولقد أخذناهم بالقحوط العامة في كل أرض.
والأخذ: هنا مجاز في القهر والغلبة، كقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255]. ويصح أن يكون هنا مجازا في الإصابة بالشدائد، لأن حقيقة الأخذ: تناول الشيء باليد، وتعددت إطلاقاته، فأطلق كناية عن الملك.
وأطلق استعارة للقهر والغلبة، وللإهلاك، وقد تقدمت معانيه متفرقة في السور

الماضية.
وجملة {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} في موضع التعليل لجملة {وَلَقَدْ أَخَذْنَا} فلذلك فصلت.
ونقص الثمرات قلة إنتاجها قلة غير معتادة لهم، فتنوين {نَقُصُّ} للتكثير ولذلك نكر "نقص" ولم يضف إلى "الثمرات" لئلا تفوت الدلالة على الكثرة.
فالسنون تنتاب المزارع والحقول، ونقص الثمرات ينتاب الجنات.
و"لعل" للرجاء، أي مرجوا تذكرهم، لأن المصائب والأضرار المقارنة لتذكير موسى إياهم بربهم، وتسريح عبيده، من شأنها أن يكون أصحابها مرجوا منهم أن يتذكروا بأن ذلك عقاب على إعراضهم وعلى عدم تذكرهم، لأن الله نصب، العلامات للاهتداء إلى الخفيات كما قدمناه عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} في هذه السورة [94]، فشأن أهل الألباب أن يتذكروا، فإذا لم يتذكروا فقد خيبوا ظن من يظن بهم ذلك مثل موسى وهارون، أما الله تعالى فهو يعلم أنهم لا يتذكرون ولكنه أراد الإملاء لهم، وقطع عذرهم، وذلك لا ينافي ما يدل عليه "لعل" من الرجاء لأن دلالتها على الراجي والمرجو منه دلالة عرفية، وقد تقدم الكلام على وقوع "لعل" في كلام الله تعالى عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} في سورة البقرة [21].
وفي هذه الآية تنبيه للأمة للنظر فيما يحيط بها من دلائل غضب الله فإن سلب النعمة للمنعم عليهم تنبيه لهم على استحقاقهم إعراض الله تعالى عنهم.
والفاء في قوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} لتفريع هذا الخبر على جملة {أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} أي: فكان حالهم إذا جاءتهم الحسنة الخ...والمعنى: فلم يتذكروا ولكنهم زادوا كفرا وغرورا.
والمجيء: الحصول والإصابة. وإنما عبر في جانب الحسنة بالمجيء لأن حصولها مرغوب، فهي بحيث تترقب كما يترقب الجاثي، وعبر في جانب السيئة بالإصابة لأنها تحصل فجأة عن غير رغبة ولا ترقب.
وجيء في جانب الحسنة بإذا الشرطية لأن الغالب في "إذا" الدلالة على اليقين بوقوع الشرط أو ما يقرب من اليقين كقولك: إذا طلعت الشمس فعلت كذا، ولذلك غلب أن يكون فعل الشرط مع "إذا" فعلا ماضيا لكون الماضي أقرب إلى اليقين في الحصول من

المستقبل، كما في الآية، فالحسنات أي: النعم كثيرة الحصول تنتابهم متوالية من صحة وخصب ورخاء ورفاهية. وجيء في جانب السيئة بحرف "إن" لأن الغالب أن تدل "إن" على التردد في وقوع الشرط، أو على الشك، ولكون الشيء النادر الحصول غير مجزوم بوقوعه، ومشكوكا فيه، جيء في شرط إصابة السيئة بحرف "إن" لندرة وقوع السيئات أي: المكروهات عليهم، بالنسبة إلى الحسنات، أي: النعم، وفي ذلك تعريض بأن نعم الله كانت متكاثرة لديهم وأنهم كانوا معرضين عن الشكر، وتعريض بأن إصابتهم بالسيئات نادرة وهم يعدون السيئات من جراء موسى ومن آمن معه، فهم في كلتا الحالتين بين كافرين بالنعمة وظالمين لموسى ومن معه، ولهذين الاعتبارين عرفت الحسنة تعريف الجنس المعروف في علم المعاني بالعهد الذهني، أي: جاءتهم الحسنات، لأن هذا الجنس محبوب مألوف كثير الحصول لديهم، ونكرت {سَيِّئَةً} لندرة وقوعها عليهم، ولأنها شيء غير مألوف حلوله بهم، أي: وإن تصبهم آية سيئة، كذا في الكشاف والمفتاح.
واعلم أن التفرقة بين تعريف الجنس والتنكير من لطائف الاستعمال البلاغي، كما أشرنا إليه في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في سورة الفاتحة[ة2]، وأما من جهة مفاد اللفظ، فالمعرف بلام الجنس والنكرة سواء، فلا تظن أن اللام للعهد لحسنة معهودة ووقوع المعرف بلام الجنس والمنكر في سياق الشرط، في هذه الآية يعم كل حسنة وكل سيئة.
والحسنة والسيئة هنا مراد بهما الحالة الحسنة والحالة السيئة.
واللام في قوله: {لَنَا} هذه لام الاستحقاق أي: هذه الحسنة حق لنا، لأنهم بغرورهم يحسبون أنهم أحرياء بالنعم، أي: فلا يرون تلك الحسنة فضلا من الله ونعمة.
و {يَطَّيَّرُوا} أصله يتطيروا، وهو تفعل، مشتق من اسم الطير، كأنهم صاغوه على وزن التفعل لما فيه من تكلف معرفة حظ المرء بدلالة حركات الطير، أو هو مطاوعة سمي بها ما يحصل من الانفعال من إثر طيران الطير. وكان العرب إذا خرجوا في سفر لحاجة، نظروا إلى ما يلاقيهم أول سيرهم من طائر، فكانوا يزعمون أن في مروره علامات يمن وعلامات شؤم، فالذي في طيرانه علامة يمن في اصطلاحهم يسمونه السانح، وهو الذي ينهض فيطير من جهة اليمين للسائر والذي علامته الشؤم هو البارح وهو الذي يمر على اليسار، وإذا وجد طيرا جاثما أثاره لينظر أي جهة يطير، وتسمى تلك الإثارة زجرا، فمن الطير ميمون ومنه مشؤوم والعرب يدعون للمسافر بقولهم على الطائر الميمون، ثم غلب استعمال لفظ التطير في معنى التشاؤم خاصة، يقال الطيرة أيضا، كما في الحديث

"لا طيرة وإنما الطيرة على من تطير" أي: الشؤم يقع على من يتشاءم، جعل الله ذلك عقوبة له في الدنيا لسوء ظنه بالله، وإنما غلب لفظ الطيرة على التشاؤم لأن للأثر الحاصل من دلالة الطيران على الشؤم دلالة أشد على النفس، لأن توقع الضر أدخل في النفوس من رجاء النفع. والمراد به في الآية لأنهم يتشاءمون بموسى ومن معه فاستعمل التطير في التشاؤم بدون دلالة من الطير، لأن قوم فرعون لم يكونوا ممن يزجر الطير فيما علمنا من أحوال تاريخهم، ولكنهم زعموا أن دعوة موسى فيهم كانت سبب مصائب حلت بهم، فعبر عن ذلك بالتطير على طريقة التعبير العربي.
والتشاؤم: هو عد الشيء مشؤوما، أي: يكون وجوده سببا في وجود ما يحزن ويضر، فمعنى {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى} يحسبون حلول ذلك بهم مسببا عن وجود موسى ومن آمن به وذلك أن آل فرعون كانوا متعلقين بضلال دينهم، وكانوا يحسبون أنهم إذا حافظوا على اتباعه كانوا في سعادة عيش، فحسبوا وجود من يخالف دينهم سببا في حلول المصائب والإضرار بهم فتشاءموا بهم، ولم يعلموا أن سبب المصائب هو كفرهم وإعراضهم، لأن حلول المصائب بهم يلزم أن يكون مسببا عن أسباب فيهم لا في غيرهم. وهذا من العماية في الضلالة فيبقون منصرفين عن معرفة الأسباب الحقيقة، ولذلك كان التطير من شعار أهل الشرك لأنه مبني على نسبة المسببات لغير أسبابها، وذلك من مخترعات الذين وضعوا لهم ديانة الشرك وأوهامها.
في الحديث "الطيرة شرك" 1 وتأويله أنها: من بقايا دين الشرك، ويقع بعد فعل التطير باء، وهي باء السببية تدخل على موجب التطير، وقد يقال أيضا: تطير من كذا.
وعطف {وَمَنْ مَعَهُ} ، أي: من آمنوا به، لأن قوم فرعون يعدون موجب شؤم موسى هو ما جاء به من الدين لأنه لا يرضي آلهتهم ودينهم، ولولا دينه لم يكن مشؤوما كما قال ثمود {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} [هود: 62]
و {أَلا} حرف استفتاح يفيد الاهتمام بالخبر الوارد بعده. تعليما للأمة، وتعريضا بمشركي العرب.
والطائر: اسم للطير الذي يثار ليتيمن به أو يتشاءم، واستعير هنا للسبب الحق لحلول
ـــــــ
1 رواه أصحاب السنن.

المصائب بهم بعلاقة المشاكلة لقوله: {يَطَّيَّرُوا} فشبه السبب الحق، وهو ما استحقوا به العذاب من غضب الله بالطائر.
و {عِنْدَ} مستعملة في التصرف مجازا لأن الشيء المتصرف فيه كالمستقر في مكان، أي: سبب شؤمهم مقدر من الله، وهذا كما وقع في الحديث "ولا طير إلا طيرك" ، فعبر عما قدره الله للناس "بطير" مشاكلة لقوله "ولا طير" ومن فسر الطائر بالحظ فقد أبعد عن السياق.
والقصر المستفاد من {إِنَّمَا} إضافي أي: سوء حالهم عقاب من الله، لا من عند موسى ومن معه، فلا ينافي أن المؤمنين يعلمون أن سبب حلول المصائب بأهل الشرك المعاندين للرسل، هو شركهم وتكذيبهم الرسل: يعلمون ذلك بأخبار الرسل، أو بصدق الفراسة وحسن الاستدلال، كما قال أبو سفيان ليلة الفتح لما هداه الله لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا. فأما المشركون وأضرابهم من أهل العقائد الضالة، فيسندون صدور الضرر، والنفع إلى أشياء تقارن حصول ضر ونفع، فيتوهمون تلك المقارنة تسببا، ولذلك تراهم يتطلبون معرفة حصول الخير والشر من غير أسبابها، ومن ذلك الاستقسام بالأزلام كما تقدم في سورة العقود.
وجملة {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} معترضة ولذلك فصلت، والاستدراك المستفاد من {لَكِنَّ} ناشئ عما يوهمه الاهتمام بالخبر الذي قبله لقرنه بأداة الاستفتاح، واشتماله على صيغة القصر: من كون شأنه أن لا يجهله العقلاء، فاستدرك بأن أكثر أولئك لا يعلمون.
فالضمير في قوله {أَكْثَرَهُمْ} عائد إلى الذين {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} وإنما نفي العلم عن أكثرهم تنبيها على أن قليلا منهم يعلمون خلاف ذلك ولكنهم يشايعون مقالة الأكثرين.
[133,132] {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ}.
جملة {وَقَالُوا} معطوفة على جملة {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130] الآية فهم قابلوا المصائب التي أصابهم الله بها ليذكروا، بازدياد الغرور فأيسوا من التذكر بها، وعاندوا موسى حين تحداهم بها فقالوا: مهما تأتنا به من أعمال سحرك العجيبة فما

نحن لك بمؤمنين، أي: فلا تتعب نفسك في السحر.
و {مَهْمَا} اسم مضمن معنى الشرط، لأن أصله "ما" الموصولة أو النكرة الدالة على العموم، فركبت معها "ما" لتصييرها شرطية كما ركبت "ما" مع أي و متى و أين فصارت أسماء شرط، وجعلت الألف الأولى هاء استثقالا لتكرير المتجانسين، ولقرب الهاء من الألف فصارت مهما، ومعناها: شيء ما، وهي مبهمة فيؤتى بعدها بمن التبيينية، أي: إن تأتنا بشيء من الآيات فما نحن لك بمؤمنين.
و {مَهْمَا} في محل رفع بالابتداء، والتقدير: أيما شيء تأتينا به، وخبره الشرط وجوابه، ويجوز كونها في محل نصب لفعل محذوف يدل عليه {تَأْتِنَا بِهِ} المذكور. والتقدير: أي شيء تحضرنا تأتينا به.
وذكر ضمير {بِهِ} رعيا للفظ {مَهْمَا} الذي هو في معنى أي شيء، وأنث ضمير "بها" رعيا لوقوعه بعد بيان {مَهْمَا} باسم مؤنث هو {آيَةٍ} .
و {مِنْ آيَةٍ} بيان لإبهام {مَهْمَا} .
والآية: العلامة الدالة، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} في سورة البقرة [39]، وفي قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} في سورة الأنعام [37].
وسموا ما جاء به موسى آية باعتبار الغرض الذي تحداهم به موسى حين الإتيان بها، لأن موسى يأتيهم بها استدلالا على صدق رسالته، وهم لا يعدونها آية ولكنهم جاروا موسى في التسمية بقرينة قولهم {لِتَسْحَرَنَا بِهَا} ، وفي ذلك استهزاء كما حكى الله عن مشركي أهل مكة وقالوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] بقرينة قولهم: إنك لمجنون.
وجملة : {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} مفيدة المبالغة في القطع بانتفاء إيمانهم بموسى لأنهم جاءوا في كلامهم بما حوته الجملة الاسمية التي حكته من الدلالة على ثبوت هذا الانتفاء ودوامه، وبما تفيده الباء من توكيد النفي، وما يفيده تقديم متعلق مؤمنين من اهتمامهم بموسى في تعليق الإيمان به المنفي باسمه.
والفاء في قوله: {فَأَرْسَلْنَا} لتفريع إصابتهم بهذه المصائب على عتوهم وعنادهم.

والإرسال: حقيقته توجيه رسول أو رسالة فيعدى إلى المفعول الثاني "بإلى" ويضمن معنى الإرسال من فوق، فيعدى إلى المفعول الثاني بعلى، قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} [الفيل:3] {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذريات:41] فحرف "على" دل على أن جملة أرسلنا مفرعة تفريع العقاب لا تفريع زيادة الآيات.
والطوفان: السيح الغالب من الماء الذي يغمر جهات كثيرة ويطغى على المنازل والمزارع. قيل هو مشتق من الطواف لأن الماء يطوف بالمنازل، أي: تتكرر جريته حولها. ولم يدخل الطوفان الأرض التي كان بها بنو إسرائيل وهي أرض جاسان.
والجراد: الحشرة الطائرة من فصيلة الصرصر والخنافس له أجنحة ستة ذات ألوان صفر وحمر تنتشر عند طيرانه، يكون جنودا كثيرة يسمى الجند منها رجلا. وهو مهلك للزرع والشجر، يأكل الورق والسنبل وورق الشجر وقشره، فهو من أسباب القحط. أصاب أرض قوم فرعون ولم يصب أرض بني إسرائيل.
والقمل: بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة في القراءات المشهورة اسم نوع من القراد عظيم يسمى الحمنان بضم الحاء المهملة وميم ساكنة ونونين واحدته حمنانة وهو يمتص دم الإنسان وهو غير القمل بفتح القاف وسكون الميم الذي هو من الحشرات الدقيقة التي تكون في شعر الرأس وفي جلد الجسد يتكون من تعفن الجلد لوسخه ودسومته ومن تعفن جلد الرأس كثيرا، أصاب القبط جند كثير من الحمنان عسر الاحتراز عنه ولعله أصاب مواشيهم.
والضفادع جمع ضفدع وهو حيوان يمشي على أرجل أربع ويسحب بطنه على الأرض ويسبح في المياه، ويكون في الغدران ومناقع المياه، صوته مثل القراقر يسمى نقيقا. أصابهم جند كثير منه يقع في طعامهم يرتمي إلى القدور، ويقع في في العيون والأسقية وفي البيوت فيفسد ما يقع فيه وتطؤه أرجل الناس فتتقذر به البيوت، وقد سلمت منه بلاد جاسان منزل بني إسرائيل.
والدم معروف، قيل: أصابهم رعاف متفش فيهم، وقيل: صارت مياه القبط كالدم في اللون، كما في التوراة، ولعل ذلك من حدوث دود أحمر في الماء فشبه الماء بالدم، وسلمت مياه جاسان قرية بني إسرائيل.
وسمى الله هاته {آيَاتٍ} لأنها دلائل على صدق موسى لاقترانها بالتحدي، ولأنها

دلائل على غضب الله عليهم لتظافرها عليهم حين صمموا الكفر والعناد.
وانتصب {آيَاتٍ} على الحال من الطوفان وما عطف عليه. و {مُفَصَّلاتٍ} اسم مفعول من فصل المضاعف الدال على قوة الفصل. والفصل حقيقته التفرقة بين شيئين بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر، ويستعار الفصل لإزالة اللبس والاختلاط في المعاني فـ {مُفَصَّلاتٍ} وصف لـ {آيَاتٍ} ، فيكون مرادا منه معنى الفصل المجازي وهو إزالة اللبس، لأن ذلك هو الأنسب بالآيات والدلائل، أي: هي آيات لا شبهة في كونها كذلك لمن نظر نظر اعتبار.
وقيل: المراد أنها مفصول بعضها عن بعض في الزمان، أي لم تحدث كلها في وقت واحد، بل حدث بعضها بعد بعض، وعلى هذا فصيغة التفعيل للدلالة على تراخي المدة بين الواحدة والأخرى، ويجيء على هذا أن العذاب كان أشد وأطول زمنا كما دل عليه قوله تعالى {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48]، قيل: كان بين الآية منها والأخرى مدة شهر أو مدة ثمانية أيام، وكانت تدوم الواحدة منها مدة ثمانية أيام وأكثر، وعلى هذا الوجه فالأنسب أن يجعل {مُفَصَّلاتٍ} حالا ثانية من الطوفان والجراد، وأن لا يجعل صفة {آيَاتٍ} .
والفاء في قوله {فَاسْتَكْبَرُوا} للتفريع والترتب، أي: فتفرع على إرسال الطوفان وما بعده استكبارهم، كما تفرع على أخذهم بالسنين غرورهم بأن ذلك من شؤم موسى ومن معه، فعلم أن من طبع تفكيرهم فساد الوضع، وهو انتزاع المدلولات من أضداد أدلتها، وذلك دليل على انغماسهم في الضلالة والخذلان، وبعدهم عن السعادة والتوفيق، فلا يزالون مورطين في وحل الشقاوة.
فالاستكبار: شدة التكبر كما دلت عليه السين والتاء، أي: عد أنفسهم كبراء، أي تعاظمهم عن التصديق بموسى وإبطال دينهم إذ أعرضوا عن التصديق بتلك الآيات المفصلات.
وجملة {وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} معطوفة على جملة {فَاسْتَكْبَرُوا} ، فالمعنى: فاستكبروا عن الاعتراف بدلالة تلك الآيات وأجرموا، وإنما صيغ الخبر عن إجرامهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على ثبات وصف الإجرام فيهم، وتمكنه منهم، ورسوخه فيهم من قبل حدوث الاستكبار، وفي ذلك تنبيه على أن وصف الإجرام الراسخ فيهم هو علة للاستكبار الصادر منهم، فـ"كان" دالة على استمرار الخبر وهو وصف الإجرام

والإجرام: فعل الجرم وقد تقدم عند قوله تعالى {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} في هذه السورة [40].
[135,134] {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}.
الرجز العذاب فالتعريف باللام هنا للعهد أي العذاب المذكور وهو ما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} إلى قوله {آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف: 133] والرجز من أسماء الطاعون، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ} في سورة البقرة [59]، فيجوز أن يراد بالرجز الطاعون أي أصابهم طاعون ألجأهم إلى التضرع بموسى عليه السلام، فطوي ذكره للإيجاز، فالتقدير: وأرسلنا عليهم الرجز ولما وقع عليهم الخ...وإنما يذكر الرجز في عداد الآيات التي في قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف: 133] الآية تخصيصا له بالذكر لأن له نبأ عجيبا فإنه كان ملجئهم إلى الاعتراف بآيات موسى ووجود ربه تعالى.
وهذا الطاعون هو الموتان الذي حكي في الإصحاح الحادي عشر من سفر الخروج هكذا يقول الرب إني أخرج نحو نصف الليل في وسط مصر فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى وكل بكر بهيمة ثم قالت في الإصحاح الثاني عشر فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في ارض مصر فقام فرعون ليلا هو وعبيده وجميع المصريين فدعا موسى وهارون ليلا وقال قوموا اخرجوا أنتم وبنو إسرائيل جميعا واذهبوا اعبدوا ربكم واذهبوا وباركوني الخ...قيل مات سبعون ألف رجل في ذلك اليوم من القبط خاصة، ولم يصب بني إسرائيل منه شيء.
وليس قولهم {ادْعُ لَنَا} بإيمان بالله ورسالة موسى، ولكنهم كانوا مشركين وكانوا يجوزون تعدد الآلهة واختصاص بعض الأمم وبعض الأقطار بآلهة لهم، فهم قد خامرهم من كثرة ما رأوا من آيات موسى أن يكون لموسى رب له تصرف وقدرة، وأنه أصابهم بالمصائب لأنهم أضروا عبيده، فسألوا موسى أن يكف عنهم ربه ويكون جزاؤه الإذن لبني إسرائيل بالخروج من مصر ليعبدوا ربهم، كما حكت التوراة في الإصحاح

الثاني عشر من فرعون. فقال قوموا اخرجوا أنتم وبنو إسرائيل جميعا واذهبوا اعبدوا ربكم وقد كان عبدة الأرباب الكثيرين يجوز أن تغلب بعض الأرباب على بعض مثل ما يحدث بين الملوك كما تدل عليه أساطير الميثولوجيا اليونانية، وقصة الياذة هوميروس. فبدا لفرعون أن وجه الفصل مع بني إسرائيل أن يعبدوا ربهم في أرض غير أرض مصر التي لها أرباب أخر ولذلك قال {رَبَّكَ} ولم يقل ربنا.
وحذف متعلق فعل الدعاء لظهور المراد، أي ادع لنا ربك بأن يكف عنا. كما دل عليه قوله بعد {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} ووقع في التوراة في الإصحاح الثاني عشر قول فرعون لموسى وهارون واذهبوا وباركوني أيضا.
وقد انبهم حال موسى على فرعون فلم يدر أهو رسول من إله غير آلهة القبط فلذلك قال له بما عهد عندك، أي: بما عرفك وأودع عندك من الأسرار، وهذه عبارة متحير في الأمر ملتبسة عليه الأدلة.
والباء في بما عهد عندك لتعدية فعل الدعاء. و"ما" موصولة مبهمة، أي ادعه بما علمك ربك من وسائل إجابة دعائك عند ربك، وهذا يقتضي أنهم جوزوا أن يكون موسى مبعوثا من رب له بناء على تجويزهم تعدد الآلهة.
وجملة {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن طلبهم من موسى الدعاء بكشف الرجز عنهم مع سابقية كفرهم به يثير سؤال موسى أن يقول: فما الجزاء على ذلك.
واللام موطئة للقسم. وجملة {لَنُؤْمِنَنَّ} جواب القسم.
ووعدهم بالإيمان لموسى وعد بالإيمان بأنه صادق في أنه مرسل من رب بني إسرائيل ليخرجهم من أرض مصر، وليس وعدا باتباع الدين الذي جاء به موسى عليه السلام، لأنهم مكذبون به في ذلك وزاعمون أنه ساحر يريد إخراج الناس من أرضهم ولذلك جاء فعل الإيمان متعلقا بموسى لا باسم الله، وقد جاء هذا الوعد على حسب ظنهم أن الرب الذي يدعو إليه موسى هو رب خاص به وبقومه، كما دل عليه قوله {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} وقد وضحوا مرادهم بقولهم {وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ} .
وجملة {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ} دالة على أن موسى دعا الله برفع الطاعون فارتفع وقد جاء ذلك صريحا في التوراة، وحذف هنا للإيجاز.

وقوله: {إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} متعلق بـ {كَشَفْنَا} باعتبار كون كشف الرجز إزالة للموتان الذي سببه الطاعون، فإزالة الموتان مغياة إلى أجل هم بالغون إليه وهو الأجل الذي قدره الله لهلاكهم فالغاية منظور فيها إلى فعل الكشف لا إلى مفعوله، وهو الرجز.
وجملة {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} جواب "لما". و"إذا" رابطة للجواب لوقوع جواب الشرط جملة اسمية، فلما كان "إذا" حرفا يدل على معنى المفاجأة كان فيه معنى الفعل كأنه قيل فاجأوا بالنكث، أي: بادروا به ولم يؤخروه. وهذا وصف لهم بإضمار الكفر بموسى وإضمار النكث لليمين.
والنكث حقيقته نقض المفتول من حبل أو غزل، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل: 92] واستعير النكث لعدم الوفاء بالعهد، كما استعير الحبل للعهد في قوله تعالى: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] ففي قوله {يَنْكُثُونَ} استعارة تبعية.
وهذا النكث هو أن فرعون بعد أن أذن لبني إسرائيل بالخروج وخرجوا من أرض جاسان ليلا قال لفرعون بعض خاصته: ماذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من خدمتنا فندم فرعون وجهز جيشا للالتحاق ببني إسرائيل ليردوهم إلى منازلهم كما هو في الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج.
[136] {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}.
هذا محل العبرة من القصة، فهو مفرع عليها تفريع النتيجة على المقدمات والفذلكة على القصة، فإنه يعد أن وصف عناد فرعون وملئه وتكذيبهم رسالة موسى واقتراحهم على موسى أن يجيء بآية ومشاهدتهم آية انقلاب العصا ثعبانا، وتغيير لون يده، ورميهم موسى بالسحر، وسوء المقصد، ومعارضة السحرة معجزة موسى وتغلب موسى عليهم، وكيف أخذ الله آل فرعون بمصائب جعلها آيات على صدق موسى، وكيف كابروا وعاندوا، حتى ألجئوا إلى ان وعدوا موسى بالإيمان وتسريح بني إسرائيل معه وعاهدوه على ذلك، فلما كشف عنهم الرجز نكثوا، فأخبر الله بأن ذلك ترتب عليه استئصال المستكبرين المعاندين، وتحرير المؤمنين الذين كانوا مستضعفين.
وذلك محل العبرة، فلذلك كان الموقع في عطفه لفاء الترتيب والتسبب، وقد اتبع

في هذا الختام الاسلوب التي اختتمت به القصص التي قبل هذا.
والانتقام افتعال، وهو العقوبة الشديدة الشبيهة بالنفم، وهو غضب الحنق على ذنب اعتداء على المنتقم ينكر ويكره فاعله.
وأصل صيغة الافتعال أن تكون لمطاوعة فعل المتعدي بحيث يكون فاعل المطاوعة هو مفعول الفعل المجرد، ولم يسمع أن قالوا نقمه فانتقم، أي أحفظه وأغضبه فعاقب، فهذه المطاوعة أميت فعلها المجرد، وعدوه إلى المعاقب بمن الابتدائية للدلالة على أنه منشأ العقوبة وسببها وأنه مستوجبها، وتقدم الكلام على المجرد من هذا الفعل عند قوله تعالى آنفا: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا} [الأعراف: 126].
وكان إغراقهم انتقاما من الله لذاته لأنهم جحدوا انفراد الله بالإلهية، أو جحدوا إلهيته أصلا، وانتقاما أيضا لبني إسرائيل لأن فرعون وقومه ظلموا بني إسرائيل وأذلوهم واستعبدوهم باطلا.
والإغراق: الإلقاء في الماء المستبحر الذي يغمر الملقى فلا يترك له تنفسا، وهو بيان للانتقام وتفصيل لمجمله، فالفاء في قوله: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ} للترتيب الذكري، وهو عطف مفصل على مجمل كما في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54].
وحمل صاحب الكشاف الفعل المطلوب عليه هنا على معنى العزم فيكون المعنى: فأردنا الانتقام منهم فأغرقناهم، وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} في سورة البقرة [54].
واليم: البحر والنهر العظيم، قيل هو كلمة عربية. وهو صنيع الكشاف إذ جعله مشتقا من التيمم لأنه يقصد للمنتفعين به، وقال بعض اللغويين: هو معرب عن السريانية وأصله فيها يما وقال شيد له: هو من القبطية، وقال ابن الجوزي: هو من العبرية، ولعله موجود في هذه اللغات. ولعل أصله عربي وأخذته لغات أخرى سامية من العربية والمراد به هنا بحر القلزم، المسمى في التوراة بحر سوف، وهو البحر الأحمر. وقد أطلق اليم على نهر النيل في قوله تعالى {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} [طه: 39] وقوله {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص: 7]، فالتعريف في قوله {الْيَمِّ} هنا تعريف العهد الذهني عند علماء المعاني المعروف بتعريف الجنس عند النحاة إذ ليس في العبرة

اهتمام ببحر مخصوص ولكن بفرد من هذا النوع.
وقد أغرق فرعون وجنده في البحر الأحمر حين لحق بني إسرائيل يريد صدهم عن الخروج من أرض مصر وتقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة البقرة وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} في سورة يونس [90].
والباء في {بِأَنَّهُمْ} للسببية، أي: أغرقناهم جزاء على تكذيبهم بالآيات.
والغفلة ذهول الذهن عن تذكر شيء، وتقدمت في قوله تعالى {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} في سورة الأنعام [156]، وأريد بها التغافل عن عمد وهو الإعراض عن التفكر في الآيات، وإباية النظر في دلالتها على صدق موسى، فإطلاق الغفلة على هذا مجاز، وهذا تعريض بمشركي العرب في إعراضهم عن التفكر في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ودلالة معجزة القرآن، فلذلك أعيد التصريح بتسبب الإعراض في غرقهم مع استفادته من التفريع بالفاء في قوله {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} تنبيها للسامعين للانتقال من القصة إلى العبرة.
وقد صيغ الإخبار عن إعراضهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على أن هذا الاعراض ثابت لهم، وراسخ فيهم، وأنه هو علة التكذيب المصوغ خبره بصيغة الجملة الفعلية لإفادة تجدده عند تجدد الآيات.
[137] {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}.
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}
عطف على {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الأعراف: 136]. والمعنى: فأخذناهم بالعقاب الذي استحقوه وجازينا بني إسرائيل بنعمة عظيمة.
وتقدم آنفا الكلام على معنى {أَوْرَثْنَا} عند قوله تعالى {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} [الأعراف: 100] والمراد هنا تمليك بني إسرائيل جميع الأرض المقدسة بعد أهلها من الأمم التي كانت تملكها من الكنعانيين وغيرهم. وقد قيل إن فرعون كان له سلطان على بلاد الشام، ولا حاجة إلى هذا إذ ليس في الآية تعيين

الموروث عنه.
والقوم الذين كانوا يستضعفون هم بنو إسرائيل كما وقع في الآية الأخرى {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:59]. وعدل عن تعريفهم بطريق الإضافة إلى تعريفهم بطريق الموصولية لنكتتين: أولاهما الإيماء إلى علة الخبر، أي أن الله ملكهم الأرض وجعلهم أمة حاكمة جزاء لهم على ما صبروا على الاستعباد، غيرة من الله على عبيده.
الثانية: التعريض ببشارة المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنهم ستكون لهم عاقبة السلطان كما كانت لبني إسرائيل، جزاء على صبرهم على الأذى في الله، ونذارة المشركين بزوال سلطان دينهم.
ومعنى يستضعفون: يستعبدون ويهانون، فالسين والتاء للحسبان مثل استنجب، أو للمبالغة كما في استجاب.
والمشارق والمغارب جمع باعتبار تعدد الجهات، لأن الجهة أمر نسبي تتعد بتعدد الأمكنة المفروضة، والمراد بهما إحاطة الأمكنة.
و {الْأَرْضَ} أرض الشام وهي الأرض المقدسة وهي تبتديء من السواحل الشرقية الشمالية للبحر الأحمر وتنتهي إلى سواحل بحر البروم وهو البحر المتوسط وإلى حدود العراق وحدود بلاد العرب وحدود بلاد الترك.
و {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} صفة للأرض أو لمشارقها ومغاربها لأن ما صدقيهما متحدان، أي قدرنا لها البركة. وقد مضى الكلام على البركة عند قوله تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ} في هذه السورة [96]. أي أعضناهم عن أرض مصر التي أخرجوا منها أرضا هي خير من أرض مصر.
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} .
عطف على جملة {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} الخ...والمقصود من هذا الخبر هو قوله: {بِمَا صَبَرُوا} تنويها بفضيلة الصبر وحسن عاقبته، وبذلك الاعتبار عطفت هذه الجملة على التي قبلها، وإلا فإن كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل تشمل إيراثهم الأرض التي بارك الله فيها، فتتنزل من جملة {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا

يُسْتَضْعَفُونَ} إلى آخرها منزلة التذييل الذي لا يعطف، فكان مقتضى العطف هو قوله {بِمَا صَبَرُوا}.
وكلمة: هي القول، وهو هنا يحتمل أن يكون المراد به اللفظ الذي وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى في قوله {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 129] أو على لسان إبراهيم وهي وعد تمليكهم الأرض المقدسة، فتمام الكلمة تحقق وعدها شبه تحققها بالشيء إذا استوفى أجزاءه، ويحتمل أنها كلمة الله في علمه وقدره وهي إرادة الله إطلاقهم من استعباد القبط وإرادته تمليكهم الأرض المقدسة كقوله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171].
وتمام ا لكلمة بهذا المعنى ظهور تعلقها التنجيزي في الخارج على نحو قول موسى {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] وقد تقدم عند قوله تعالى {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} في سورة الأنعام [115].
و {الْحُسْنَى} : صفة لـ {كَلِمَة} ، وهي صفة تشريف كما يقال الأسماء الحسنى، أي كلمة ربك المنزهة عن الخلف، ويحتمل أن يكون المراد حسنها لبني إسرائيل، وإن كانت سيئة على فرعون وقومه، لأن العدل حسن وإن كان فيه إضرار بالمحكوم عليه.
والخطاب في قوله {رَبِّكَ} للنبي صلى الله عليه وسلم، أدمج في ذكر القصة إشارة إلى أن الذي حقق نصر موسى وأمته على عدوهم هو ربك فسينصرك وأمتك على عدوكم لأنه ذلك الرب الذي نصر المؤمنين السابقين، وتلك سنته وصنعه، وليس في الخطاب التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف المراد من الضمائر.
وعدي فعل التمام "بعلى" للإشارة إلى تضمين {تَمَّتْ} معنى الإنعام، أو معنى حقت.
وباء {بِمَا صَبَرُوا} للسببية، و"ما" مصدرية أي بصبرهم على الأذى في ذات الإله وفي ذلك تنبيه على فائدة الصبر وأن الصابر صائر إلى النصر وتحقيق الأمل.
والتدمير: التخريب الشديد وهو مصدر دمر الشيء إذا جعله دامرا للتعدية متصرف من الدمار بفتح الدال وهو مصدر قاصر. يقال دمر القوم بفتح الميم يدمرون بضم الميم دمارا، إذا هلكوا جميعا، فهم دامرون. والظاهر أن إطلاق التدمير على إهلاك المصنوع مجازي علاقته الإطلاق لأن الظاهر أن التدمير حقيقته إهلاك الإنسان.

و {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} : ما شاده من المصانع، وإسناد الصنع إليه مجاز عقلي لانه الآمر بالصنع، وأما إسناده إلى قوم فرعون فهو على الحقيقة العقلية بالنسبة إلى القوم لا بالنسبة إلى كل فرد على وجه التغليب.
و {يَعْرِشُونَ} ينشئون من الجنات ذات العرايش. والعريش: ما يرفع من دوالي الكروم، ويطلق أيضا على ا لنخلات العديدة تربى في أصل واحد ولعل جنات القبط كانت كذلك كما تشهد به بعض الصور المرسومة على هياكلهم نقشا ودهنا، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} في سورة الأنعام [141]، وفعله عرش - من بابي ضرب ونصر - وبالأول قرأ الجمهور، وقرأ بالثاني ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وذلك أن الله خرب ديار فرعون وقومه المذكورين، ودمر جناتهم بما ظلموا بالاهمال، أو بالزلزال، أو على أيدي جيوش أعدائهم الذين ملكوا مصر بعدهم، ويجوز أن يكون {يَعْرِشُونَ} بمعنى يرفعون أي يشيدون من البناء مثل مباني الاهرام والهياكل وهو المناسب لفعل {وَدَمَّرْنَا}، شبه البناء المرفوع بالعرش. ويجوز ان يكون يعرشون استعارة لقوة الملك والدولة ويكون دمرنا ترشيحا للاستعارة.
وفعل {كَانَ} في الصلتين دال على أن ذلك دأبه وهجيراه، أي ما عني به من الصنائع والجنات. وصيغة المضارع في الخبرين عن "كان" للدلالة على التجدد والتكرر.
[140,138] {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
لما تمت العبرة بقصة بعث موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه، وكيف نصره الله على عدوه، ونصر قومه بني إسرائيل، وأهلك عدوهم كشأن سنة الله في نصر الحق على الباطل، استرسل الكلام إلى وصف تكوين أمة بني إسرائيل وما يحق أن يعتبر به من الأحوال العارضة لهم في خلال ذلك مما فيه طمأنينة نفوس المؤمنين الصالحين في صالح أعمالهم، وتحذيرهم مما يرمي بهم إلى غضب الله فيما يحقرون من المخالفات، لما في ذلك كله من التشابه في تدبير الله تعالى أمور عبيده، وسنته في تأييد رسله وأتباعهم، وإيقاظ نفوس الأمة إلى مراقبة خواطرهم ومحاسبة نفوسهم في شكر النعمة ودحض

الكفران.
والمجاوزة: البعد عن المكان عقب المرور فيه، يقال: جاوز بمعنى جاز، كما يقال: عالى بمعنى علا، وفعله متعد إلى واحد بنفسه وإلى المفعول الثاني بالباء فإذا قلت: جزت به، فأصل معناه أنك جزته مصاحبا في الجواز به للمجرور بالباء، ثم استعيرت الباء للتعدية يقال: جزت به الطريق إذا سهلت له ذلك وإن لم تسر معه، فهو بمعنى أجزته، كما قالوا: ذهبت به بمعنى أذهبته، فمعنى قوله هنا {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ} قدرنا لهم جوازه ويسرناه لهم.
والبحر هو بحر القلزم المعروف اليوم بالبحر الأحمر وهو المراد باليم في الآية السابقة، فالتعريف للعهد الحضوري، أي البحر المذكور كما هو شأن المعرفة إذا أعيدت معرفة، واختلاف اللفظ تفنن، تجنبا للإعادة، والمعنى: أنهم قطعوا البحر وخرجوا على شاطئه الشرقي.
و {أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ} معناه أتوا قوما، ولما ضمن {أَتَوْا} معنى مروا عدي بعلى، لأنهم لم يقصدوا الإقامة في القوم، ولكنهم ألفوهم في طريقهم.
والقوم هم الكنعانيون ويقال لهم عند العرب العمالقة ويعرفون عند متأخري المؤرخين بالفنيقيين.
والأصنام كانت صور البقر، وقد كان البقر يعبد عند الكنعانيين، أي الفينيقيين باسم بعل. وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} في سورة البقرة [51].
والعكوف: الملازمة بنية العبادة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} في سورة البقرة [187]، وتعدية العكوف بحرف "على" لما فيه من معنى النزول وتمكنه كقوله: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه: 91].
وقرئ {يَعْكُفُونَ} . بضم الكاف للجمهور، وبكسرها لحمزة والكسائي، وخلف، وهما لغتان في مضارع عكف.
واختير طريق التنكير في أصنام ووصفه بأنها لهم، أي القوم دون طريق الإضافة ليتوسل بالتنكير إلى إرادة تحقير الأصنام وأنها مجهولة، لأن التنكير يستلزم خفاء المعرفة.

وإنما وصفت الأصنام بأنها لهم ولم يقتصر على قوله {أَصْنَامٍ} قال ابن عرفة التونسي عادتهم يجيبون بأنه زيادة تشنيع بهم وتنبيه على جهلهم وغوايتهم في أنهم يعبدون ما هو ملك لهم فيجعلون مملوكهم إلاههم.
وفصلت جملة {قَالُوا} ، فلم تعطف بالفاء: لأنها لما كانت افتتاح محاور، وكان شأن المحاورة أن تكون جملها مفصولة شاع فصلها، ولو عطفت بالفاء لجاز أيضا.
ونداؤهم موسى وهو معهم مستعمل في طلب الإصغاء لما يقولونه، إظهارا لرغبتهم فيما سيطلبون، وسموا الصنم إلها لجهلهم فهم يحسبون أن اتخاذ الصنم يجدي صاحبه، كما لو كان آلهه معه، وهذا يدل على أن بني إسرائيل قد انخلعوا في مدة إقامتهم بمصر عن عقيدة التوحيد وحنيفية إبراهيم ويعقوب التي وصى بها في قوله {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] لأنهم لما كانوا في حال ذل واستعباد ذهب علمهم وتاريخ مجدهم واندمجوا في ديانة الغالبين لهم فلم تبق لهم ميزة تميزهم إلا أنهم خدمة وعبيد.
والتشبيه في قوله {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} أرادوا به حض موسى على إجابة سؤالهم، وابتهاجا بما رأوا من حال القوم الذين حلوا بين ظهرانيهم وكفى بالأمة خسة عقول أن تعد القبيح حسنا، وأن تتخذ المظاهر المزينة قدوة لها، وأن تنخلع عن كمالها في اتباع نقائص غيرها.
و {مَا} يجوز أن تكون صلة وتوكيدا كافة عمل حرف التشبيه، ولذلك صار كاف التشبيه داخلا على جملة لا على مفرد، وهي جملة من خبر ومبتدا، ويجوز أن تكون "ما" مصدرية غير زمانية، والجملة بعدها في تأويل مصدر، والتقدير كوجود آلهة لهم، وإن كان الغالب أن "ما" المصدرية لا تدخل إلا على الفعل نحو قوله تعالى {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] فيتعين تقدير فعل يتعلق به المجرور في قوله {لَهُمْ} أو يكتفي بالاستقرار الذي يقتضيه وقوع الخبر جازا ومجرورا، كقول نهشل بن جرير التميمي:
كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه1
وفصلت جملة {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لوقوعها في جواب المحاورة، أي: أجاب
ـــــــ
1 أوله: أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد, قاله: يرثي أخاه مالكا قتل يوم صفين وسيف عمرو وهو سيف عمرو بن معديكرب.

موسى كلامهم، وكان جوابه بعنف وغلظة بقوله {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لان ذلك هو المناسب لحالهم.
والجهل: انتفاء العلم أو تصور الشيء على خلاف حقيقته. وتقدم في قوله تعالى {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} في سورة النساء [17]، والمراد جهلهم بمفاسد عبادة الأصنام، وكان وصف موسى إياهم بالجهالة مؤكدا لما دلت عليه الجملة الاسمية من كون الجهالة صفة ثابتة فيهم وراسخة من نفوسهم، ولولا ذلك لكان لهم في بادئ النظر زاجر عن مثل هذا السؤال، فالخبر مستعمل في معنييه: الصريح والكناية، مكنى به عن التعجب من فداحة جهلهم.
وفي الإتيان بلفظ {قَوْمٌ} وجعل ما هو مقصود بالإخبار وصفا لقوم، تنبيه على أن وصفهم بالجهالة كالمتحقق المعلوم الداخل في تقويم قوميتهم. وفي الحكم بالجهالة على القوم كلهم تأكيد للتعجب من حال جهالتهم وعمومها فيهم بحيث لا يوجد فيهم من يشذ عن هذا الوصف مع كثرتهم، ولأجل هذه الغرابة أكد الحكم "بإن" لأن شأنه أن يتردد في ثبوته السامع.
وجملة {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} بمعنى التعليل لمضمون جملة {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فلذلك فصلت عنها وقد أكدت وجعلت اسمية لمثل الأغراض التي ذكرت في أختها، وقد عرف المسند إليه بالإشارة لتمييزهم بتلك الحالة التي هم متلبسون بها أكمل تمييز، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد بعد اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم متبرا أمرهم وباطلا عملهم، وقدم المسند وهو {مُتَبَّرٌ} على المسند إليه وهو {مَا هُمْ فِيهِ} ليفيد تخصيصه بالمسند إليه أي: هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب، ولا يصح أن يجعل {مُتَبَّرٌ} مسندا إليه لأن المقصود بالاخبار هو ما هم فيه.
والمتبر: المدمر، والتبار بفتح التاء الهلاك {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} [نوح: 28].يقال تبر الشيء كضرب وتعب وقتل وتبره تضعيف للتعدية، أي أهلكه والتتبير مستعار هنا لفساد الحال، فيبقى اسم المفعول على حقيقته في أنه وصف للموصوف به في زمن الحال.
ويجوز أن يكون التتبير مستعار لسوء العاقبة، شبه حالهم المزخرف ظاهره بحال الشيء البهيج الآيل إلى الدمار والكسر فيكون اسم المفعول مجازا في الاستقبال، أي صائر إلى السوء.

و {مَا هُمْ فِيهِ} هو حالهم، وهو عبادة الأصنام وما تقتضيه من الضلالات والسيئات ولذلك اختير في تعريفها طريق الموصولية لأن الصلة تحيط بأحوالهم التي لا يحيط بها المتكلم ولا المخاطبون.
والظرفية مجازية مستعارة للملابسة، تشبيها للتلبس باحتواء الظرف على المظروف.
والباطل اسم لضد الحق فالإخبار به كالإخبار بالمصدر يفيد مبالغة في بطلانه لأن المقام مقام التوبيخ والمبالغة في الانكار، وقد تقدم آنفا معنى الباطل عند قوله تعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:118]
وفي تقديم المسند، وهو {بَاطِلٌ} على المسند إليه وهو {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ما في نظيره من قوله: {مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} .
وإعادة لفظ {قَالَ} مستأنفا في حكاية تكملة جواب موسى بقوله تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ} تقدم توجيه نظيره عند قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} 1 إلى قوله: {فِيهَا تَحْيَوْنَ} من هذه السورة [25,24].
والذي يظهر أنه يعاد في حكاية الأقوال إذا طال المقول، أو لأنه انتقال من غرض التوبيخ على سؤالهم إلى غرض التذكير بنعمة الله عليهم، وأن شكر النعمة يقتضي زجرهم عن محاولة عبادة غير المنعم، وهو من الارتقاء في الاستدلال على طريقة التسليم الجدلي، أي: لو لم تكن تلك الآلهة باطلا لكان في اشتغالكم بعبادتها والإعراض عن الله الذي أنعم عليكم كفران للنعمة ونداء على الحماقة وتنزه عن أن يشاركهم في حماقتهم.
والاستفهام بقوله: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} للإنكار والتعجب من طلبهم أن يجعل لهم إلها غير الله، وقد أولي المستفهم عنه الهمزة للدلالة على أن محل الإنكار هو اتخاذ غير الله إلها، فتقديم المفعول الثاني للاختصاص، للمبالغة في الإنكار أي: اختصاص الإنكار ببغي غير الله إلها.
وهمزة {أَبْغِيكُمْ} همزة المتكلم للفعل المضارع، وهو مضارع بغى بمعنى طلب. ومصدره البغاء بضم الباء.
ـــــــ
1 في المطبوعة {قُالَ اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً} [ البقرة: 38] والمثبت هو المنايب للسياق.

وفعله يتعدى إلى مفعول واحد، ومفعوله هو {أَغَيْرَ اللَّهِ} لأنه هو الذي ينكر موسى أن يكون يبغيه لقومه.
وتعدينه إلى ضمير المخاطبين على طريقة الحذف والإيصال، وأصل الكلام: أبغي لكم و {إِلَهاً} تمييز لـ {غَيْرَ} .
وجملة {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} في موضع الحال، وحين كان عاملها محل إنكار باعتبار معموله، كانت الحال أيضا داخلة في حيز الانكار، ومقررة لجهته.
وظاهر صوغ الكلام على هذا الاسلوب أن تفضيلهم على العالمين كان معلوما عندهم لأن ذلك هو المناسب للانكار، ويحتمل أنه أراد إعلامهم بذلك وأنه أمر محقق.
ومجيء المسند فعليا: ليفيد تقديم المسند إليه عليه تخصيصه بذلك الخبر الفعلي أي: وهو فضلكم لم تفضلكم الاصنام، فكان الانكار عليهم تحميقا لهم في أنهم مغمورون في نعمة الله ويطلبون عبادة ما لا ينعم.
والمراد بالعالمين: أمم عصرهم، وتفضيلهم عليهم بأنهم ذرية رسول وأنبياء، وبأن منهم رسلا وأنبياء، وبأن الله هداهم إلى التوحيد والخلاص من دين فرعون بعد أن تخبطوا فيه، وبأنه جعلهم أحرارا بعد أن كانوا عبيدا، وساقهم إلى امتلاك أرض مباركة وأيدهم بنصره وآياته، وبعث فيهم رسولا ليقيم لهم الشريعة. وهذه الفضائل لم تجتمع لأمة غيرهم يومئذ، ومن جملة العالمين هؤلاء القوم الذين أتوا عليهم، وذلك كناية عن إنكار طلبهم اتخاذ أصنام مثلهم، لأن شأن الفاضل أن لا يقلد المفضول، لأن اقتباس أحوال الغير يتضمن اعترافا بأنه أرجح رأيا وأحسن حالا، في تلك الناحية.
[141] {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}.
من تتمة كلام موسى عليه السلام كما يقتضيه السياق، ويعضده قراءة ابن عامر {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ} والمعنى: أأبتغي لكم إلها غير الله في حال أنه فضلكم على العالمين،وفي زمان أنجاكم فيه من آل فرعون بواسطتي فابتغاء إله غيره كفران لنعمته. فضمير المتكلم المشارك يعود إلى الله وموسى ومعاده يدل عليه قوله {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} [الأعراف: 1410].

ويجوز أن يكون هذا امتنانا من الله اعترضه بين القصة وعدة موسى عليه السلام انتقالا من الخبر والعبرة إلى النعمة والمنة، فيكون الضمير ضمير تعظيم، وقرأ الجمهور أنجيناكم بنون المتكلم المشارك.وقرأه ابن عامر: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ} على إعادة الضمير إلى الله في قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} [الأعراف: 1410]، وكذلك هو مرسوم في مصحف الشام فيكون من كلام موسى وبمجموع القراءتين يحصل المعنيان.
و{إِذْ} اسم زمان، وهو مفعول به لفعل محذوف تقديره: واذكروا.
واختار الطبري وجماعة أن يكون قوله {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ} خطابا لليهود الموجودين في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون ابتداء خطاب افتتح بكلمة {إِذْ} ، والتعريض بتذكير المشركين من العرب قد انتهى عند قوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} وسورة الأعراف مكية ولم يكن في المكي من القرءان هو مجادلة مع اليهود.
وقوله {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} إلى آخر الآية تقدم تفسير مشابهتها في سورة البقرة.
[142] {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} .
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}
عود إلى بقية حوادث بني إسرائيل، بعد مجاوزتهم البحر، فالجملة عطف على جملة {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف: 138].
وقد تقدم الكلام على معنى المواعدة في نظير هذه الآية في سورة البقرة، وقرأ أبو عمرو: ووعدنا.وحذف الموعود به اعتمادا على القرينة في قوله: {ثَلاثِينَ لَيْلَةً} الخ, {وثَلاثِينَ} منصوب على النيابة عن الظرف، لأن تمييزه ظرف للمواعد به وهو الحضور لتلقي الشريعة، ودل عليه {وَاعَدْنَا} لان المواعدة للقاء فالعامل {وَاعَدْنَا} باعتبار المقدر، أي حضورا مدة ثلاثين ليلة.
وقد جعل الله مدة المناجاة ثلاثين ليلة تيسيرا عليه، فلما قضاها وزادت نفسه الزكية تعلقا ورغبة في مناجاة الله وعبادته، زاده الله من هذا الفضل عشر ليال، فصارت مدة المناجاة أربعين ليلة، وقد ذكر بعض المفسرين قصة في سبب زيادة عشر ليال، لم تصح.

ولم يزده على أربعين ليلة: إما لأنه قد بلغ أقصى ما تحتمله قوته البشرية فباعده الله من أن تعرض له السآمة في عبادة ربه، وذلك يجنب عنه المتقون بله الأنبياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم من الأعمال بما تطيقون فان الله لا يمل حتى تملوا" ، وإما لأن زيادة مغيبه عن قومه تفضي إلى إضرار، كما قيل: إنهم عبدوا العجل في العشر الليالي الأخيرة من الأربعين ليلة، وسميت زيادة الليالي العشر إتماما إشارة إلى أن الله تعالى أراد أن تكون مناجاة موسى أربعين ليلة ولكنه لما أمره بها أمره بها مفرقة إما لحكمة الاستيناس وإما لتكون تلك العشر عبادة أخرى فيتكرر الثواب، والمراد الليالي بأيامها فاقتصر على الليالي لأن المواعدة كانت لأجل الانقطاع للعبادة وتلقي المناجاة.
والنفس في الليل أكثر تجردا للكمالات النفسانية، والأحوال الملكية، منها في النهار، إذ قد اعتادت النفوس بحسب أصل التكوين الاستئناس بنور الشمس والنشاط به للشغل، فلا يفارقها في النهار الاشتغال بالدنيا ولو بالتفكر وبمشاهدة الموجودات، وذلك ينحط في الليل والظلمة، وتنعكس تفكرات النفس إلى داخلها، ولذلك لم تزل الشريعة تحرض على قيام الليل وعلى الابتهال فيه إلى الله تعالى، قال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة: 16] الآية.وقال: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ، وفي الحديث: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأستجيب له" ، ولك يزل الشغل في السهر من شعار الحكماء والمرتاضين لأن السهر يلطف سلطان القوة الحيوانية كما يلطفها الصوم قال في هياكل النور النفوس الناطقة من عالم الملكوت وإنما شغلها عن عالمها القوى البدنية ومشاغلتها فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحيانا إلى عالم القدس وتتصل بربها وتتلقى من المعارف.
على أن الغالب في الكلام العربي التوقيت بالليالي، ويريدون أنها بأيامها، لأن الأشهر العربية تبتدأ بالليالي إذ هي منوطة بظهور الأهلة.
وقوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فذلكة الحساب كما في قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، فالفاء للتفريع.
والتمام الذي في قوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} مستعمل في معنى النماء والتفوق فكان ميقاتا أكمل وأفضل كقوله تعالى {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] إلى وقوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] إشارة إلى أن زيادة العشر كانت لحكمة عظيمة تكون

مدة الثلاثين بدونها غير بالغة أقصى الكمال، وأن الله قدر المناجاة أربعين ليلة، ولكنه أبرز الأمر لموسى مفرقا وتيسيرا عليه.ليكون إقباله على إتمام الأربعين باشتياق وقوة.
وانتصب {أَرْبَعِينَ} على الحال بتأويل: بالغا أربعين.
والميقات قيل: مرادف للوقت، وقيل هو وقت قدر فيه عمل ما، وقد تقدم في قوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} في سورة البقرة [189].
وإضافته إلى {رَبِّهِ} للتشريف، وللتعريض بتحميق بعض قومه حين تأخر مغيب موسى عنهم في المناجاة بعد الثلاثين، فزعموا أن موسى هلك في الجبل كما رواه ابن جريح، ويشهد لبعضه كلام التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج.
{وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}
أي: قال موسى لأخيه عند العزم على الصعود إلى الجبل للمناجاة فإنه صعد وحده ومعه غلامه يوشع بن نون.
ومعنى {اخْلُفْنِي} كن خلفا عني وخليفة، وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلف، فالخلافة وكالة، وفعل خلف مشتق من الخلف بسكون اللام وهو ضد الأمام، لأن الخليفة يقوم بعمل من خلفه عند مغيبه، والغائب يجعل مكانه وراءه.
وقد جمع له في وصيته ملاك السياسة بقوله: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} فان سياسة الأمة تدور حول محور الاصلاح، وهو جعل الشيء صالحا، فجميع تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره، فان عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحا، ولا تلبث أن تؤول فسادا على من لاحت عنده صلاحا، ثم إذا تردد فعل بين كونه خيرا من جهة وشرا من جهة أخرى وجب اعتبار أقوى حالتيه فاعتبر بها إن تعذر العدول عنه إلى غيره مما هو أوفر صلاحا، وان استوى جهتاه ألغي إن أمكن إلغاؤه وإلا تخير، وهذا أمر لهارون جامع لما يتعين عليه عمله من أعماله في سياسة الأمة.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} تحذير من الفساد بأبلغ صيغة لأنها جامعة بين النهي والنهي عن فعل تنصرف صيغته أول وهلة إلى فساد المنهي عنه وبين تعليق النهي

باتباع سبيل المفسدين.
والإتباع أصله المشي على حلف ماش، وهو هنا مستعار للمشاركة في عمل المفسد، فان الطريق مستعار للعمل المؤدي إلى الفساد والمفسد من كان الفساد صفته، فلما تعلق النهي بسلوك طريق المفسدين كان تحذيرا من كل ما يستروح منه مآل إلى فساد، لان المفسدين قد يعملون عملا لا فساد فيه، فنهي عن المشاركة في عمل من عرف بالفساد، لأن صدوره عن المعروف بالفساد كاف في توقع إفضائه إلى فساد.ففي هذا النهي سد ذريعة الفساد، وسد ذرائع الفساد من أصول الاسلام، وقد عني بها مالك بن أنس وكررها في كتابه واشتهرت هذه القاعدة في أصول مذهبه.
فلا جرم أن كان قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} جامعا للنهي عن ثلاث مراتب من مراتب الإفضاء إلى الفساد وهو العمل المعروف بالانتساب إلى المفسد، وعمل المفسد وإن لم يكن مما اعتاده، وتجنب الاقتراب من المفسد ومخالطته.
وقد أجرى الله على لسان رسوله موسى، أو أعلمه، ما يقتضي أن في رعية هارون مفسدين، وانه يوشك إن سلكوا سبيل الفساد أن يسايرهم عليه لما يعلم في نفس هارون من اللين في سياسته، والاحتياط من حدوث العصيان في قومه، كما حكى الله عنه في قوله: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف: 150] وقوله: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ} [طه: 94].
فليست جملة {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} مجرد تأكيد لمضمون جملة {وَأَصْلِحْ} تأكيدا للشيء بنفي ضده مثل قوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21] لأنها لو كان ذلك هو المقصد منها لجردت من حرف العطف، ولاقتصر على النهي عن الإفساد فقيل وأصلح لا تفسد، نعم يحصل من معانيها ما فيه تأكيد لمضمون جملة {وَأَصْلِحْ} .
[144,143] {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.

جعل مجيء موسى في الوقت المعين أمرا حاصلا غير محتاج للإخبار عنه، للعلم بأن موسى لا يتأخر ولا يترك ذلك، وجعل تكليم الله إياه في خلال ذلك الميقات أيضا حاصلا غير محتاج للإخبار عن حلوله، لظهور أن المواعدة المتضمنة للملاقاة تتضمن الكلام، لأن ملاقاة الله بالمعنى الحقيقي غير ممكنة، فليس يحصل من شؤون المواعدة إلا الكلام الصادر عن إرادة الله وقدرته، فلذلك كله جعل مجيء موسى للميقات وتكليم الله إياه شرطا لحرف {لَمَّا} لانه كالمعلوم، وجعل الاخبار متعلقا بما بعد ذلك وهو اعتبار بعظمة الله وجلاله، فكان الكلام ضربا من الإيجاز بحذف الخبر عن جملتين استغناء عنهما جعلتا شرطا للما.
ويجوز أن تجعل الواو في قوله: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} زائدة في جواب {لَمَّا} كما قاله الاكثر في قول امريء القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
أن جواب {لَمَّا} هو قوله وانتحى، وجوزوه في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات: 103, 104] الآية، أن يكون {وَنَادَيْنَاهُ} هو جواب "لما" فيصير التقدير: لما جاء موسى لميقاتنا كلمه ربه، فيكون إيجازا بحذف جملة واحدة، ولا يستفاد من معنى إنشاء التكليم الطمع في الرؤية إلا من لازم المواعدة.
واللام في قوله {لِمِيقَاتِنَا} صنف من لام الاختصاص، كما سماها في الكشاف ومثلها بقولهم: أتيته لعشر خلون من الشهر، يعني أنه اختصاص ما، وجعلها ابن هشام بمعنى عند وجعل ذلك من معاني اللام وهو أظهر، والمعنى: فلما جاء موسى مجيئا خاصا بالميقات أي: حاصلا عنده لا تأخير فيه، كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء: 78] وفي الحديث سئل رسول الله أي الأعمال أفضل فقال: الصلاة لوقتها أي عند وقتها ومنه { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
ويجوز جعل اللام للأجل والعلة، أي جاء لأجل ميقاتنا، وذلك لما قدمناه من تضمن الميقات معنى الملاقاة والمناجاة، أي جاء لأجل مناجاتنا.
والمجيء: انتقاله من بين قومه إلى جبل سينا المعين فيه مكان المناجاة.
والتكليم حقيقته النطق بالألفاظ المفيدة معاني بحسب وضع مصطلح عليه، وهذه الحقيقة مستحيلة على الله تعالى لانها من أعراض الحوادث، فتعين أن يكون إسناد التكليم

إلى الله مجازا مستعملا في الدلالة على مراد الله تعالى بألفاظ من لغة المخاطب به بكيفية يوقن المخاطب به أن ذلك الكلام من أثر قدرة الله على وفق الإرادة ووفق العلم، وهو تعلق تنجيزي بطريق غير معتاد، فيجوز أن يخلق الله الكلام في شيء حادث سمعه موسى كما روي أن الله خلق الكلام في الشجرة التي كان موسى حذوها، وذلك أول كلام كلمه الله موسى في أرض مدين في جبل حوريب، ويجوز أن يخلق الله الكلام من خلال السحاب وذلك الكلام الواقع في طور سينا وهو المراد هنا.وهو المذكور في الإصحاح 19 من سفر الخروج.
والكلام بهذه الكيفية كان يسمعه موسى حين يكون بعيدا عن الناس في المناجاة أو نحوها، وهو أحد الأحوال الثلاثة التي يكلم الله بها أنبياءه كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً} الآية في سورة الشورى [51]، وهو حادث لا محالة ونسبته إلى الله أنه صادر بكيفية غير معتادة لا تكون إلا بإرادة الله أن يخالف به المعتاد تشريفا له، وهو المعبر عنه بقوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، وقد كلم الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وأحسب الأحاديث القدسية كلها أو معظمها مما كلم الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، وأما إرسال الله جبريل بكلام إلى أحد أنبيائه فهي كيفية أخرى وذلك بإلقاء الكلام في نفس الملك الذي يبلغه إلى النبي، والقرآن كله من هذا النوع، وقد كان الوحي إلى موسى بواسطة الملك في أحوال كثيرة وهو الذي يعبر عنه في التوراة بقولها قال الله لموسى.
وقوله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي} هو جواب {لَمَّا} على الأظهر، فإن قدرنا الواو في قوله {وَكَلَّمَهُ} زائدة في جواب لما كان قوله: {قَالَ} واقعا في طريق المحاورة فلذلك فصل.
وسؤال موسى رؤية الله تعالى تطلع إلى زيادة المعرفة بالجلال الإلهي، لأنه لما كانت المواعدة تتضمن الملاقاة.وكانت الملاقاة تعتمد رؤية الذات وسماع الحديث، وحصل لموسى أحد ركني الملاقاة وهو التكليم، أطمعه ذلك في الركن الثاني وهو المشاهدة، ومما يؤذن بان التكليم هو الذي أطمع موسى في حصول الرؤية جعل جملة {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} شرطا لحرف "لما" لأن "لما" تدل على شدة الارتباط بين شرطها وجوابها، فلذلك يكثر أن يكون علة في حصول جوابها كما تقدم في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} في هذه السورة [22]، هذا على جعل {وَكَلَّمَهُ} عطفا على شرط لما وليس جواب لما، ولا نشك في أنه سأل رؤية تليق بذات الله تعالى وهي مثل

الرؤية الموعود بها في الآخرة، فكان موسى يحسب أن مثلها ممكن في الدنيا حتى أعلمه الله بان ذلك غير واقع في الدنيا، ولا يمتنع على نبي عدم العلم بتفاصيل الشؤون الإلهية قبل أن يعلمها الله إياه، وقد قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114]، ولذلك كان أئمة أهل السنة محقين في الاستدلال بسؤال موسى رؤية الله على إمكانها بكيفية تليق بصفات الإلهية لا نعلم كنهها وهو معنى قولهم بلا كيف.
وكان المعتزلة غير محقين في استدلالهم بذلك على استحالتها بكل صفة.
وقد يؤول الخلاف بين الفريقين إلى اللفظ، فان الفريقين متفقان على استحالة إحاطة الإدراك بذات الله واستحالة التحيز، وأهل السنة قاطعون بأنها رؤية لا تنافي صفات الله تعالى، وأما ما تبجح به الزمخشري في الكشاف فذلك من عدوان تعصبه على مخالفيه على عادته، وما كان ينبغي لعلماء طريقتنا التنازل لمهاجاته بمثل ما هاجاهم به، ولكنه قال فأوجب.
واعلم أن سؤال موسى رؤية اله تعالى طلب على حقيقته كما يؤذن به سياق الآية وليس هو السؤال الذي سأله بنوا إسرائيل المحكي في سورة البقرة [55] بقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} وما تمحل به في الكشاف من أنه هو ذلك السؤال تكلف لا داعي له.
ومفعول {أَرِنِي} محذوف لدلالة الضمير المجرور عليه في قوله: {إِلَيْكَ} .
وفصل قوله: {إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ} لأنه واقع في طريق المحاورة.
و {لَنْ} يستعمل لتأييد النفي ولتأكيد النفي في المستقبل، وهما متقاربان، وإنما يتعلق ذلك كله بهذه الحياة المعبر عنها بالأبد، فنفت "لن" رؤية موسى ربه نفيا لا طمع بعده للسائل في الإلحاح والمراجعة بحيث يعلم أن طلبته متعذرة الحصول، فلا دلالة في هذا النفي على استمراره في الدار الآخرة.
والاستدراك المستفاد من {لَكِنِ} لرفع توهم المخاطب الاقتصار على نفي الرؤية بدون تعليل ولا إقناع، أو أن يتوهم أن هذا المنع لغضب على السائل ومنقصة فيه، فلذلك يعلم من حرف الاستدراك أن بعض ما يتوهمه سيرفع، وذلك أنه أمره بالنظر إلى الجبل الذي هو فيه هل يثبت في مكانه، وهذا يعلم منه أن الجبل سيتوجه إليه شيء من شأن الجلال الإلهي، وأن قوة الجبل لا تستقر عند ذلك التوجه العظيم فيعلم موسى أنه أحرى

بتضاؤل قواه الفانية لو تجلى له شيء من سبحات الله تعالى.
وعلق الشرط بحرف "إن" لأن الغالب استعمالها في مقام ندرة وقوع الشرط أو التعريض بتعذره، ولما كان استقرار الجبل في مكانه معلوما لله انتفاؤه، صح تعليق الأمر المراد تعذر وقوعه عليه بقطع النظر عن دليل الانتفاء، فلذلك لم يكن في هذا التعليق حجة لأهل السنة على المعتزلة تقتضي أن رؤية الله تعالى جائزة عليه تعالى، خلافا لما اعتاد كثير من علمائنا من الاحتجاج بذلك.
وقوله: {فَسَوْفَ تَرَانِي} ليس بوعد بالرؤية على الفرض لان سبق قوله: { لَنْ تَرَانِي} أزال طماعية السائل الرؤية، ولكنه إيذان بأن المقصود من نظره إلى الجبل أن يرى رأي اليقين عجز القوة البشرية عن رؤية الله تعالى بالأحرى، من عدم ثبات قوة الجبل، فصارت قوة الكلام: أن الجبل لا يستقر مكانه من التجلي الذي يحصل عليه، فلست أنت بالذي تراني، لأنك لا تستطيع ذلك، فمنزلة الشرط هنا منزلة الشرط الامتناعي الحاصل بحرف "لو" بدلالة قرينة السابق.
والتجلي حقيقة الظهور وإزالة الحجاب، وهو هنا مجازا، ولعله أريد به إزالة الحوائل المعتادة التي جعلها الله حجابا بين الموجودات الأرضية وبين قوى الجبروت التي استأثر الله تعالى بتصريفها على مقادير مضبوطة ومتدرجة في عوالم مترتبة ترتيبا يعلمه الله.
وتقريبه للإفهام شبيه بما اصطلح عليه الحكماء في ترتيب العقول العشرة، وتلك القوى تنسب إلى الله تعالى لكونها آثارا لقدرته بدون واسطة، فإذا أزال الله الحجاب المعتاد بين شيء من الأجسام الأرضية وبين شيء من تلك القوى المؤثرة تأثيرا خارقا للعادة اتصلت القوة بالجسم اتصالا تظهر له آثار مناسبة لنوع تلك القوة، فتلك الإزالة هي التي استعير لها التجلي المسند إلى الله تعالى تقريبا للأفهام، فلما اتصلت قوة ربانية بالجبل تماثل اتصال الرؤية اندك الجبل، ومما يقرب هذا المعنى ما رواه الترمذي وغيره، من طرق عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ} فوضع إبهامه قريبا من طرف خنصره يقلل مقدار التجلي.
وصعق موسى من اندكاك الجبل فعلم موسى أنه لو توجه ذلك التجلي إليه لانتثر جسمه فضاضا.
وقرأ الجمهور {دَكّاً} بالتنوين والدك مصدر وهو والدق مترادفان وهو الهد

وتفرق الأجزاء كقوله {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [مريم: 90]، وقد أخبر عن الجبل بأنه جعل دكا للمبالغة، والمراد أنه مدكوك أي: مدقوق مهدوم.وقرأ الكسائي، وحمزة، وخلف دكاء بمد بعد الكاف وتشديد الكاف والدكاء الناقة التي لا سنام لها، فهو تشبيه بليغ أي كالدكاء أي ذهبت قنته، والظاهر أن ذلك الذي اندك منه لم يرجع ولعل آثار ذلك الدك ظاهرة فيه إلى الآن.
والخرور السقوط على الأرض.
والصعق: وصف بمعنى المصعوق، ومعناه المغشي عليه من صيحة ونحوها، مشتق من اسم الصاعقة وهي القطعة النارية التي تبلغ إلى الأرض من كهرباء البرق، فإذا أصابت جسما أحرقته، وإذا أصابت الحيوان من قريب أماتته، أو من بعيد غشي عليه من رائحتها، وسمي خويلد بن نفيل الصعق علما عليه بالغلبة، وإنما رجحنا أن الوصف والمصدر مشتقان من اسم الصاعقة دون أن نجعل الصاعقة مشتقا من الصعق لان أئمة اللغة قالوا: إن الصعق الغشي من صيحة ونحوها، ولكن توسعوا في إطلاق هذا الوصف على من غشي عليه بسبب هدة أو رجة وان لم يكن ذلك من الصاعقة.
والإفاقة: رجوع الإدراك بعد زواله بغشي، أو نوم، أو سكر، أو تخبط جنون.
و {سُبْحَانَكَ} مصدر جاء عوضا عن فعله أي اسبحك وهو هنا إنشاء ثناء على الله وتنزيه عما لا يليق به، لمناسبة سؤاله منه ما تبين له أنه لا يليق به سؤاله دون استئذانه وتحقق إمكانه كما قال تعالى لنوح: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} في سورة هود [46].
وقوله {تُبْتُ إِلَيْكَ} إنشاء لتوبة من العود إلى مثل ذلك دون إذن من الله، وهذا كقول نوح عليه السلام {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 47] وصيغة الماضي من قوله: {تُبْتُ} مستعملة في الإنشاء فهي مستعملة في زمن الحال مثل صيغ العقود في قولهم بعت وزوجت، مبالغة في تحقق العقد.
وقوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} أطلق الأول على المبادر إلى الإيمان، وإطلاق الأول على المبادر مجاز شائع مساو للحقيقة، والمراد به هنا وفي نظائره الكناية عن قوة إيمانه، حتى أنه يبادر إليه حين تردد غيره فيه، فهو للمبالغة وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} في سورة البقرة [41]، وقوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}

في سورة الأنعام [163].
والمراد بالمؤمنين من كان الإيمان وصفهم ولقبهم، أي الإيمان بالله وصفاته كما يليق به، فالإيمان مستعمل في معناه اللقبي، ولذلك شبه الوصف بأفعال السجايا فلم يذكر له متعلق، ومن ذهب من المفسرين يقدر له متعلقا فقد خرج عن نهج المعنى.
وفصلت جملة {قَالَ يَا مُوسَى} لوقوع القول في طريق المحاورة والمجاوبة، والنداء للتأنيس وإزالة الروع.
وتأكيد الخبر في قوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} للاهتمام به إذ ليس محلا للانكار.
والاصطفاء افتعال مبالغة في الاصفاء وهو مشتق من الصفو، وهو الخلوص مما يكدر، وتقدم عند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} في سورة آل عمران [33], وضمن اصطفيتك معنى الإيثار والتفضيل فعدي بعلى.
والمراد بالناس: جميع الناس، أي الموجودين في زمنه، فالاستغراق في {النَّاسِ} عرفي أي هو مفضل على الناس يومئذ لأنه رسول، ولتفضيله بمزية الكلام وقد يقال إن موسى أفضل جميع الناس الذين مضوا يومئذ، وعلى الاحتمالين: فهو أفضل من أخيه هارون لأن موسى أرسل بشريعة عظيمة، وكلمه الله، وهارون أرسله الله معاونا لموسى ولم يكلمه الله، ولذلك قال: {بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} وما ورد في الحديث من النهي عن التفضيل بين الأنبياء محمول على التفضيل الذي لا يستند لدليل صريح، أو على جعل التفضيل بين الأنبياء شغلا للناس في نواديهم بدون مقتض معتبر للخوض في ذلك.وهذا امتنان من الله وتعريف.
ثم فرع على ذلك قوله: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} والأول تفريع على الإرسال والتكليم، والثاني تفريع على الامتنان، وما صدق {مَا آتَيْتُكَ} قيل هو الشريعة والرسالة، فالإيتاء مجاز أطلق على التعليم والإرشاد، والأخذ مجاز في التلقي والحفظ، والأظهر ان يكون {مَا آتَيْتُكَ} إعطاء الألواح بقرينة قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ} [الأعراف: 145] وقد فسر بذلك، فالإيتاء حقيقة، والأخذ كذلك، وهذا أليق بنظم الكلام مع قوله: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145] ويحصل به أخذ الرسالة والكلام وزيادة.
والإخبار عن {وَكُنْ} بقوله: {مِنَ الشَّاكِرِينَ} أبلغ من ان يقال كن شاكرا كما تقدم في قوله {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في سورة الأنعام [56].

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو جعفر، وروح عن يعقوب: {بِرِسَالتِي} ، بصيغة الإفراد، وقرأ البقية {بِرِسَالاتِي} ، بصيغة الجمع، وهو على تأويله بتعدد التكاليف والإرشاد التي أرسل بها.
[145] {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}.
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} عطف على جملة {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي} [الأعراف: 144] إلى آخرها، لأن فيها {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} والذي آتاه هو ألواح الشريعة، أو هو المقصود من قوله: {مَا آتَيْتُكَ}.
والتعريف في الألواح يجوز أن يكون تعريف العهد، إن كان {مَا آتَيْتُكَ} مرادا به الألواح التي أعطيها موسى في المناجاة فساغ أن تعرف تعريف العهد كأنه قيل: فخذ ألواحا آتيتكها، ثم قيل: كتبنا له في الألواح، وإذا كان ما آتيتك مرادا به الرسالة والكلام كان التعريف في الألواح تعريف الذهني، أي: وكتبنا له في ألواح معينة من جنس الألواح.
والألواح جمع لوح بفتح اللام وهو قطعة مربعة من الخشب، وكانوا يكتبون على الألواح، أو لأنها ألواح معهودة للمسلمين الذين سيقت إليهم تفاصيل القصة وإن كان سوق مجمل القصة لتهديد المشركين بان يحل بهم ما حصل بالمكذبين بموسى.
وتسمية الألواح التي أعطاها الله موسى ألواحا مجاز بالصورة لأن الألواح التي أعطيها موسى كانت من حجارة، كما في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج، فتسميتها الألواح لأنها على صورة الألواح، والذي بالإصحاح الرابع والثلاثين ان اللوحين كتبت فيهما الوصايا العشر التي ابتدأت بها شريعة موسى، وكانا لوحين، كما في التوراة، فإطلاق الجمع عليها هنا: إما من باب إطلاق صيغة الجمع على المثنى بناء على أن أقل الجمع اثنان، وإما لأنهما كانا مكتوبين على كلا وجهيهما، كما يقتضيه الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر الخروج فكانا بمنزلة أربعة ألواح.

وأسندت الكتابة إلى الله تعالى لأنها كانت مكتوبة نقشا في الحجر من غير فعل إنسان بل بمحض قدرة الله تعالى، كما يفهم من الإصحاح الثاني والثلاثين، كما أسند الكلام إلى الله في قوله {وبكلامي} [الأعراف: 144].
و"من" التي في قوله: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} تبعيضية متعلقة بـ {كَتَبْنَا} ومفعول {كَتَبْنَا} محذوف دل عليه فعل كتبنا اي مكتوبا، ويجوز جعل "من" اسما بمعنى بعض فيكون منصوبا على المفعول به بكتبنا، اي كتبنا له بعضا من كل شيء، وهذا كقوله تعالى في سورة النمل [16] {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} .
وكل شيء عام عموما عرفيا أي كل شيء تحتاج إليه الأمة في دينها على طريقة قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] على أحد تأويلين في ان المراد من الكتاب القرآن، وعلى طريقة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] أي أصوله.
والذي كتب الله لموسى في الألواح هو أصول كليات هامة للشريعة التي أوحى الله بها إلى موسى عليه السلام وهي ما في الإصحاح 20 من سفر الخروج ونصها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من ارض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك، آلهة أخرى أمامي لا تصنع تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء، من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي واضع إحسانا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي.لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا لان الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلا.اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأختك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه، أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك.لا تقتل.لا تزن.لا تسرق.لا تشهد.على قريبك شهادة زور.لا تشته بيت قريبك.لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا امته، ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك ا ه.واشتهرت عند بني إسرائيل بالوصايا العشر، وبالكلمات العشر اي الجمل العشر.
وقد فصلت في من الإصحاح العشرين إلى نهاية الحادي والثلاثين من سفر

الخروج، ومن جملتها الوصايا العشر التي كلم الله بها موسى في جبل سينا ووقع في الإصحاح الرابع والثلاثين إن الألواح لم تكتب فيها إلا الكلمات العشر، التي بالفقرات السبع عشرة منه، وقوله هنا {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً} يقتضي الاعتماد على ما في الأصاحيح الثلاثة عشر.
والموعظة اسم مصدر الوعظ وهو نصح بإرشاد مشوب بتحذير من لحاق ضر في العاقبة أو بتحريض على جلب نقع، مغفول عنه، وقد تقدم عند قوله تعالى {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} في سورة البقرة [275]، وقوله {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء [63]، وسيجيء قوله {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} في آخر سورة النحل [125].
والتفصيل التبيين للمجملات ولعل الموعظة هي الكلمات العشر والتفصيل ما ذكر بعدها من الأحكام في الإصحاحات التي ذكرناها.
وانتصب {مَوْعِظَةً} على الحال من كل شيء، أو على البدل من "من" إذا كانت اسما إذا كان ابتداء التفصيل قد عقب كتابة الألواح بما كلمه الله به في المناجاة مما تضمنه سفر الخروج من الإصحاح الحادي والعشرين إلى الإصحاح الثاني والثلاثين ولما أوحي إليه اثر ذلك.
ولك أن تجعل {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً} حالين من الضمير المرفوع في قوله {وَكَتَبْنَا لَهُ} أي واعظين ومفصلين، فموعظة حال مقارنة وتفصيلا حال مقدرة، وأما جعلهما بدلين من قوله {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} فلا يستقيم بالنسبة لقوله {وَتَفْصِيلاً} .
وقوله: {فَخُذْهَا} يتعين أن الفاء دالة على شيء من معنى ما خاطب الله به موسى، ولما لم يقع فيما وليته ما يصلح لان يتفرع عنه الأمر بأخذها بقوة.تعين أن يكون قوله {فَخُذْهَا} بدلا من قوله: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} بدل اشتمال لان الأخذ بقوة يشتمل عليه الأخذ المطلق، وقد اقتضاه العود إلى ما خاطب الله به موسى اثر صعقته إتماما لذلك الخطاب فأعيد مضمون ما سبق ليتصل ببقيته فيكون بمنزله أن يقول فخذ ما آتيتك بقوة وكن من الشاكرين، ويكون ما بينهما بمنزلة اعتراض، ولولا إعادة {فَخُذْهَا} لكان ما بين قوله: {مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144] وقوله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا} اعتراضا على بابه ولما اقتضى المقام هذا الفصل، وإعادة الأمر بالأخذ، اقتضى حسن ذلك أن يكون في الإعادة زيادة، فأخر مقيد الأخذ، وهو كونه بقوة، عن التعلق بالأمر الأول،

وعلق بالأمر الثاني الرابط للأمر الاول، فليس قوله: {فَخُذْهَا} بتأكيد، وعلى هذا الوجه يكون نظم حكاية الخطاب لموسى على هذا الأسلوب من نظم القرآن.
ويجوز أن يكون في اصل الخطاب المحكي إعادة ما يدل على الأمر بالأخذ لقصد تأكيد هذا الأخذ، فيكون توكيدا لفظيا، ويكون تأخير القيد تحسينا للتوكيد اللفظي ليكون معه زيادة.فائدة، ويكون الاعتراض قد وقع بين التوكيد والمؤكد وعلى هذا الوجه يكون نظم الخطاب على هذا الأسلوب من نظم الكلام الذي كلم الله به موسى حكي في القرآن على أسلوبه الصادر به.
والضمير المؤنث في قوله: {فَخُذْهَا} عائد إلى الألواح باعتبار تقدم ذكرها في قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ} .والمقول لموسى هو مرجع الضمير.وفي هذا الضمير تفسير للإجمال في قوله: {مَا آتَيْتُكَ} [الأعراف: 144] وفي هذا ترجيح كون ما صدق {مَا آتَيْتُكَ} هو الألواح، ومن جعلوا ما صدق {مَا آتَيْتُكَ} الرسالة والكلام جعلوا الفاء عاطفة لقول محذوف على جملة {وَكَتَبْنَا} والتقدير عندهم: وكتبنا فقلنا خذها بقوة، وما اخترناه أحسن وأوفق بالنظم.
والأخذ: تناول الشيء، وهو هنا مجاز في التلقي والحفظ.
والباء في قوله: {بِقُوَّةٍ} للمصاحبة.
والقوة حقيقتها حالة في الجسم يتأتى له بها أن يعمل ما يشق عمله في المعتاد فتكون في الأعضاء الظاهرة مثل قوة اليدين على الصنع الشديد، والرجلين على المشي الطويل، والعينين على النظر للمرئيات الدقيقة.وتكون في الأعضاء الباطنة مثل قوة الدماغ على التفكير الذي لا يستطيعه غالب الناس، وعلى حفظ ما يعجز عن حفظه غالب الناس ومنه قولهم: قوة العقل.
وإطلاق اسم القوى على العقل وفيما أنشد ثعلب
وصاحبين حازما قواهما
نبهت والرقاد قد علاهما ... إلى أمونين فعدياهما
وسمى الحكماء الحواس الخمس العقلية بالقوى الباطنية وهي الحافظة، والواهمة، والمفكرة، والمخيلة، والحس المشترك.

فيقال: فرس قوي، وجمل قوي على الحقيقة، ويقال: عود قوي، إذا كان عسير الانكسار، وأس قوي، إذا كان لا ينخسف بما يبنى عليه من جدار ثقيل، إطلاقا قريبا من الحقيقة، وهاته الحالة مقول عليها بالتشكيك لأنها في بعض موصوفاتها أشد منها في بعض آخر، ويظهر تفاوتها في تفاوت ما يستطيع موصوفها أن يعمله من عمل مما هي حالة فيه، ولما كان من لوازم القوة أن قدرة صاحبها على عمل ما يريده أشد مما هو المعتاد، والأعمال عليه أيسر، شاع إطلاقها على الوسائل التي يستعين بها المرء على تذييل المصاعب مثل السلاح والعتاد، والمال، والجاه، وهو إطلاق كنائي قال تعالى {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} في سورة النمل [33].
ولكونها يلزمها الاقتدار على الفعل وصف الله تعالى باسم القوي أي الكامل القدرة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} في سورة الأنفال [52].
والقوة هنا في قوله: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} تمثيل لحالة العزم على العمل بما في الالواح، بمنتهى الجد والحرص دون تأخير ولا تساهل ولا انقطاع عند المشقة ولا ملل، بحالة القوي الذي لا يستعصي عليه عمل يريده.ومنه قوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} في سورة مريم [12].
وهذا الأخذ هو حظ الرسول وأصحابه المبلغين للشريعة والمنفذين لها، فالله المشرع، والرسول المنفذ، وأصحابه وولاة الأمور هم أعوان على التنفيذ.وإنما اقتصر على أمر الرسول بهذا الأخذ لأنه من خصائصه من يقوم مقامه في حضرته وعند مغيبه، وهو وهم فيما سوى ذلك كسائر الأمة.
فقوله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} تعريج على ما هو حظ عموم الأمة من الشريعة وهو التمسك بها.فهذا الأخذ مجاز في التمسك والعمل ولذلك عدي بالباء الدالة على اللصوق، يقال: أخذ بكذا إذا تمسك به وقبض عليه، كقوله: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} [الأعراف: 150] وقوله: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه: 94].ولم يعد فعل الأخذ بالباء في قوله: {فَخُذْهَا} لأنه مستعمل في معنى التلقي والحفظ لأنه أهم من الأخذ بمعنى التمسك والعمل، فان الأول حظ ولي الأمر والثاني حظ جميع الأمة.
وجزم {يَأْخُذُوا} جوابا لقوله {وَأْمُرْ} تحقيقا لحصول امتثالهم عندما يأمرهم.
و {بِأَحْسَنِهَا} وصف مسلوب المفاضلة مقصود به المبالغة في الحسن، فإضافتها إلى

ضمير الألواح على معنى اللام، أي: بالأحسن الذي هو لها وهو جميع ما فيها، لظهور أن ما فيها من الشرائع ليس بينه تفاضل بين أحسن ودون الأحسن، بل كله مرتبة واحدة فيما عين له، ولظهور انهم لا يؤمنون بالأخذ ببعض الشريعة وترك بعضها، ولأن الشريعة مفصل فيها مراتب الأعمال، فلو أن بعض الأعمال كان عندها أفضل من بعض كالمندوب بالنسبة إلى المباح، وكالرخصة بالنسبة إلى العزيمة.كان الترغيب في العمل بالأفضل مذكورا في الشريعة، فكان ذلك من جملة الأخذ بها، فقرائن سلب صيغة التفضيل عن المفاضلة قائمة واضحة، فلا وجه للتردد في تفسير الأحسن في هذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء، وهذه الآية نظير قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة الزمر [55].والمعنى: وأمر قومك يأخذوا بما فيها لحسنها.
{سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}
كلام موجه إلى موسى عليه السلام فيجوز ان يكون منفصلا عن الكلام الذي قبله فيكون استئنافا ابتدائيا: هو وعد له بدخولهم الأرض الموعودة، ويجوز أن تكون الجملة متصلة بما قبلها فتكون من تمام جملة {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} على إنها تحذير من التفريط في شيء مما كتب له في الألواح، والمعنى سأبين لكم عقاب الذين لا يأخذون بها.
والدار المكان الذي تسكنه العائلة، كما في قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81] في سورة القصص والمكان الذي يحله الجماعة من حي أو قبيلة كما قال تعالى {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 91] وقد تقدم.وتطلق الدار على ما يكون عليه الناس أو المرء من حالة مستمرة ومنه قول تعالى: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24].وقد يراد بها مآل المرء ومصيره لأنه بمنزلة الدار يأوي إليه في شأنه، وقد تقدم قريب من هذا عند قوله تعالى {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} في سورة الأنعام [135].
وخوطب بضمير الجمع باعتبار من معه من أصحابه شيوخ بني إسرائيل، أو باعتبار جماعة قومه فالخطاب شامل لموسى ومن معه.
والإرادة من رأى البصرية لأنها عديت إلى مفعولين فقط.

وأوثر فعل {أُرِيكُمْ} دون نحو: سأدخلكم، لأن الله منع معظم القوم الذين كانوا مع موسى من دخول الأرض المقدسة لما امتنعوا من قتال الكنعانيين كما تقدم في قوله تعالى {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} في سورة المائدة [26].وجاء ذلك في التوراة في سفر التثنية الإصحاح الأول: أن الله قال لموسى وأنت لا تدخل إلى هناك وفي الإصحاح [34] وصعد موسى إلى الجبل نبو فأراه الله جميع الأرض وقال له هذه الأرض التي أقسمت لإبراهيم قائلا لنسلك أعطيهما قد أريتك إياها بعينيك ولكنك لا تعبر.
ويجوز أن يكون سأريكم خطابا لقوم موسى فيكون فعل أريكم كناية عن الحلول في دار الفاسقين والحلول في ديار قوم لا يكون إلا الفتح والغلبة، فالإرادة رمز إلى الوعد بفتح بلاد الفاسقين، والمراد بالفاسقين المشركون، فالكلام وعد لموسى وقومه بان يفتحوا ديار الأمم الحالة بالأرض المقدسة التي وعدهم الله بها وهم المذكورون في التوراة في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر الخروج خطابا للشعب احفظ ما أنا موصيك به ها أنا طارد من قدامك الأموريين، والكنعانيين، والحثيين، والفرزيين، والحويين، واليبوسيين، احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخا في وسطك بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم فانك لا تسجد لإله آخر.
ويؤيده ما روي عن قتادة أن دار الفاسقين هي دار العمالقة والجبابرة، وهي الشام، فمن الخطأ تفسير من فسروا دار الفاسقين بأنها أرض مصر فانهم قد كانوا بها وخرجوا منها ولم يرجعوا إليها، ومن البعيد تفسير دار الفاسقين بجهتهم وفي الإصحاح من سفر الخروج احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم فتدعى وتأكل من ذبيحتهم وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن.ولا يخفى حسن مناسبة التعبير عن أولئك الأقوام بالفاسقين على هذا الوجه.
وقيل المراد بدار الفاسقين ديار الأمم الخالية مثل ديار ثمود وقوم لوط الذين أهلكهم الله لكفرهم، أي ستمرون عليهم فترون ديارهم فتتعظون بسوء عاقبتهم لفسقهم، وفيه بعد لان بني إسرائيل لم يمروا مع موسى على هذه البلاد.
والعدول عن تسمية الأمم بأسمائهم إلى التعبير عنهم بوصف الفاسقين لأنه أدل

على تسبب الوصف في المصير الذي صاروا اليه، ولانه أجمع وأوجز، واختيار وصف الفاسقين دون المشركين والظالمين الشائع في التعبير عن الشرك في القرآن للتنبيه على أن عاقبتهم السوأى تسببت على الشرك وفاسد الأفعال معا.
[146] {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}.
يجوز أن تكون هذه الآية تكملة لما خاطب الله به موسى وقومه، فتكون جملة {سَأَصْرِفُ} الخ بأسهم، استئنافا بيانيا، لان بني إسرائيل كانوا يهابون أولئك الأقوام ويخشون فكأنهم تساءلوا كيف ترينا دارهم وتعدنا بها، وهل لا نهلك قبل الحلول بها، كما حكى الله عنهم {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} الآية في سورة العقود [22], وقد حكى ذلك في الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد، فأجيبوا بان الله سيصرف أولئك عن آياته.
والصرف الدفع أي سأصد عن آياتي، أي عن تعطيلها وإبطالها.
والآيات الشريعة، ووعد الله أهلها بان يورثهم ارض الشام، فيكون المعنى سأتولى دفعهم عنكم، ويكون هذا مثل ما ورد في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين ها أنا طارد من قدامك الأموريين الخ}، فالصرف على هذا الوجه عناية من الله بموسى وقومه بما يهئ لهم من أسباب النصر على أولئك الأقوام الأقوياء، كإلقاء الرعب في قلوبهم، وتشتيت كلمتهم، وإيجاد الحوادث التي تفت في ساعد عدتهم.أو تكون الجملة جوابا لسؤال من يقول: إذا دخلنا ارض العدو فلعلهم يؤمنون بهدينا، ويتبعون ديننا فلا نحتاج إلى قتالهم، فأجيبوا بان الله يصرفهم عن اتباع آياته لأنهم جبلوا على التكبر في الأرض، والإعراض عن الآيات، فالصرف هنا صرف تكويني في نفوس الأقوام، وعن الحسن: ان من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى حد إذا وصل إليه مات قلبه.
وفي قص الله تعالى هذا الكلام على محمد صلى الله عليه وسلم تعريض بكفار العرب بان الله دافعهم عن تعطيل آياته، وبأنه مانع كثيرا منهم عن الإيمان بها لما ذكرناه آنفا.
ويجوز أن تكون جملة {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} من خطاب الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم روى الطبري ذلك عن سفيان بن عيينة، فتكون الجملة معترضة في أثناء قصة بني إسرائيل

بمناسبة قوله: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145] تعريضا بان حال مشركي العرب كحال أولئك الفاسقين، وتصريحا بسبب إدامتهم العناد والإعراض عن الإيمان، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا، وتأتي في معنى الصرف عن الآيات الوجوه السابقة واقتران فعل سأصرف بسين الاستقبال القريب تنبهه على أن الله يعجل ذلك الصرف.
وتقديم المجرور على مفعول {أَصْرِفُ} للاهتمام بالآيات، ولان ذكره عقب الفعل المتعلق هو به أحسن.
وتعريف المصروفين عن الآيات بطريق الموصولية للإيماء بالصلة إلى علة الصرف.وهي ما تضمنته الصلات المذكورة، لأن من صارت تلك الصفات حالات له ينصره الله، أو لأنه إذا صار ذلك حالة رين على قلبه، فصرف قلبه عن إدراك دلالة الآيات.وزالت منه الأهلية لذلك الفهم الشريف.
والأوصاف التي تضمنتها الصلات في الآية تنطبق على مشركي أهل مكة أتم الانطباق.
والتكبر الاتصاف بالكبر.وقد صيغ له الصيغة الدالة على التكلف، وقد بينا ذلك عند قوله تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34] وقوله: {اسْتَكْبَرْتُمْ} في سورة البقرة [87]، والمعنى: أنهم يعجبون بأنفسهم، ويعدون أنفسهم عظماء فلا يأتمرون لآمر، ولا ينتصحون لناصح.
وزيادة قوله {فِي الْأَرْضِ} لتفضيح تكبرهم، والتشهير بهم بان كبرهم مظروف في الأرض، أي ليس هو خفيا مقتصرا على انفسهم، بل هو مبثوث في الأرض، أي مبثوث اثره، فهو تكبر شائع في بقاع الأرض كقوله: {يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: 23] وقوله: {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27] وقوله: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء: 37] وقول مرة بن عداء الفقعسي:
فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... وفي الأرض مبثوث شجاع وعقرب
وقوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} زيادة لتشنيع التكبر بذكر ما هو صفة لازمة له، وهو مغايرة الحق، أي: باطل وهي حال لازمة للتكبر، كاشفة لوصفه، إذ التكبر لا يكون بحق في جانب الخلق، وإنما هو وصف لله بحق لأنه العظيم على كل موجود، وليس تكبر الله بمقصود أن يحترز عنه هنا حتى يجعل القيد {بِغَيْرِ الْحَقِّ} للاحتراز عنه، كما في

الكشاف.
ومن المفسرين من حاول جعل قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} قيدا للتكبر، وجعل من التكبر ما هو حق، لن للمحق أن يتكبر على المبطل، ومنه المقالة المشهورة الكبر على المتكبر صدقة وهذه المقالة المستشهد بها جرت على المجاز أو الغلط.
وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} عطف على قوله: {يَتَكَبَّرُونَ} فهو في حكم الصلة، والقول فيه كالقول في قوله: {لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس:96, 97] في سورة يونس وكل مستعملة في معنى الكثرة، كما تقدم في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ} في سورة البقرة [145].
والسبيل مستعار لوسيلة الشيء بقرينة إضافته إلى الرشد وإلى الغي.والرؤية مستعارة للإدراك.
والاتخاذ حقيقته مطاوع أخذه بالتشديد، إذا جعله آخذا، ثم أطلق على أخذ الشيء ولو لم يعطه إياه غيره، وهو هنا مستعار للملازمة، أي لا يلازمون طريق الرشد، ويلازمون طريق الغي.
والرشد الصلاح وفعل النافع، وقد تقدم في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} في سورة النساء [6] والمراد به هنا: الشيء الصالح كله من الإيمان والأعمال الصالحة.
والغي: الفساد والضلال، وهو ضد الرشد بهذا المعنى، كما أن السفه ضد الرشد بمعنى حسن النظر في المال.فالمعنى: أن يدركوا الشيء الصالح لم يعملوا به.لغلبة الهوى على قلوبهم، وان يدركوا الفساد عملوا به لغلبة الهوى، فالعمل به حمل للنفس على كلفة، وذلك تأباه الأنفس التي نشأت على متابعة مرغوبها، وذلك شأن الناس الذين لم يروضوا أنفسهم بالهدى الإلهي، ولا بالحكمة ونصائح الحكماء والعقلاء، بخلاف الغي فانه ما ظهر في العالم الا من آثار شهوات النفوس ودعواتها التي يزين لها الظاهر العاجل، وتجهل عواقب السوء الآجلة، كما جاء في الحديث "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" .
والتعبير في الصلات الأربع بالأفعال المضارعة: لإفادة تجدد تلك الأفعال منهم واستمرارهم عليها.
وقرا الجمهور: الرشد بضم فسكون وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف:

بفتحتين، وهما لغتان فيه.
وجملة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن توسيمهم بتلك الصلات يثير سؤالا.
والمشار إليه بذلك ما تضمنه الكلام السابق، نزل منزلة الموجود في الخارج، وهو ما تضمنه قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} إلى آخر الآية، واستعمل له اسم إشارة المفرد لتأويل المشار إليه بالمذكور كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] أي من يفعل المذكور، وهذا الاستعمال كثير في اسم الإشارة، وألحق به الضمير كما تقدم في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} في سورة البقرة [61].
والباء للسببية أي: كبرهم، وعدم إيمانهم، وأتباعهم سبيل الغي، وإعراضهم عن سبيل الرشد سببه تكذيبهم بالآيات، فأفادت الجملة بيان سبب الكبر وما عطف عليه من الأوصاف التي هي سبب صرفهم عن الآيات، فكان ذلك سبب السبب، وهذا أحسن من إرجاع الإشارة إلى الصرف المأخوذ من {سَأَصْرِفُ} لأن هذا المحمل يجعل التكذيب سببا ثانيا للصرف، وجعله سببا للسبب أرشق.
واجتلبت "أن" الدالة على المصدرية والتوكيد: لتحقيق هذا التسبب وتأكيده، لأنه محل عرابة.
وجعل المسند فعلا ماضيا، لإفادة أن وصف التكذيب قديم راسخ فيهم، فكان رسوخ ذلك فيهم سببا في ان خلق الطبع والختم على قلوبهم فلا يشعرون بنقائصهم، ولا يصلحون أنفسهم، فلا يزالون متكبرين معرضين غاوين.
ومعنى {كَذَّبُوا بِآياتِنَا} انهم ابتدأوا بالتكذيب، ولم ينظروا، ولم يهتموا بالتأمل في الآيات فداموا على الكبر وما معه، فصرف الله قلوبهم عن الانتفاع بالآيات، وليس المراد الإخبار بأنهم حصل منهم التكذيب، لان ذلك قد علم من قوله {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} .
والغفلة انصراف العقل والذهن عن تذكر شيء بقصد أو بغير قصد، وأكثر استعماله في القرآن فيما كان عن قصد بإعراض وتشاغل، والمذموم منها ما كان عن قصد وهو مناط التكليف والمؤاخذة، فأما الغفلة عن غير قصد فلا مؤاخذة عليها، وهي المقصود من

قول علماء أصول الفقه: يمتنع تكليف الغافل.
وللتنبيه على ان غفلتهم عن قصد صيغ الإخبار عنهم بصيغة {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} للدلالة على استمرار غفلتهم، وكونها دأبا لهم، وإنما تكون كذلك إذا كانوا قد التزموها، فاما لو كانت عن غير قصد، فإنها قد تعتريهم وقد تفارقهم.
[147] {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
يجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على جملة {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} إلى آخر الآيات على الوجهين السابقين ويجوز أن يكون معطوفة على جملة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} ، ويجوز ان تكون تذييلا معترضا بين القصتين وتكون الواو اعتراضية، وأيا ما كان فهي آثارها الإخبار عنهم بأنهم إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا فان ذلك لما كان هو الغالب على المتكبرين الجاحدين للآيات وكان لا تخلو جماعة المتكبرين من فريق قليل يتخذ سبيل الرشد عن حلم وحب للمحمدة، وهم بعض سادة المشركين وعظماؤهم في كل عصر، كانوا قد يحسب السامع أن ستنفعهم أعمالهم، أزيل هذا التوهم بان أعمالهم لا تنفعهم مع التكذيب بآيات الله ولقاء الآخرة، وأشير إلى أن التكذيب هو سبب حبط أعمالهم بتعريفهم بطريق الموصولية، دون الإضمار، مع تقدم ذكرهم المقتضي بحسب الظاهر الإضمار فخولف مقتضى الظاهر لذلك.
وإضافة {وَلِقَاءِ} إلى {الآخِرَةِ} على معنى "في" لأنها إضافة إلى ظرف المكان، مثل عقبى الدار أي لقاء الله في الآخرة، أي لقاء وعده ووعيده.
والحبط فساد الشيء الذي كان صالحا وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} في سورة المائدة [5].
وجملة {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا، جوابا عن سؤال ينشأ عن قوله: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} إذ قد يقول سائل: كيف تحبط أعمالهم الصالحة، فأجيب بأنهم جوزوا كما كانوا يعملون، فانهم لما كذبوا بآيات الله كانوا قد أحالوا الرسالة والتبليغ عن الله، فمن أين جاءهم العلم بان لهم على أعمالهم الصالحة جزاء حسنا، لان ذلك لا يعرف إلا بإخبار من الله تعالى، وهم قد عطلوا طريق الإخبار وهو الرسالة، ولان الجزاء إنما يظهر في الآخرة وهم قد كذبوا بلقاء الآخرة، فقد قطعوا الصلة بينهم وبين

الجزاء، فكان حبط أعمالهم الصالحة وفاقا لاعتقادهم.
والمراد بـ {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ما كانوا يعتقدون، فأطلق على التكذيب بالآيات وبلقاء الآخرة فعل {يَعْمَلُونَ} لان آثار الاعتقاد تظهر في أقوال المعتقد وافعاله، وهي من أعماله.
والاستفهام بـ {هَلْ} مشرب معنى النفي، وقد جعل من معاني "هل" النفي، وقد بيناه عند قوله تعالى: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في سورة النمل، فانظره هناك.
و {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مقدر فيه مضاف، والتقدير مكافئ ما كانوا يعملون، بقرينة قوله: {يُجْزَوْنَ} لان الجزاء لا يكون نقس المجزي عليه، فان فعل جزى يتعدى إلى العوض المجعول جزاء بنفسه، ويتعدى إلى العمل المجزي عليه بالباء، كما قال تعالى {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الانسان:12] ونظير هذه الآية قوله في سورة الأنعام [139]. {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ}
[148] {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}.
عطف على جملة {وَوَاعَدْنَا مُوسَى} [الأعراف: 142] عطف قصة على قصة، فذكر فيما تقدم قصة المناجاة وما حصل فيها من الآيات والعبر، وذكر في هذه الآية ما كان من قوم موسى، في مدة مغيبه في المناجاة، من الإشراك.
فقوله: {مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد مغيبه، كما هو معلوم من قوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [ الأعراف: 143] ومن قوله: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142].
وحذف المضاف مع "بعد" المضافة الى اسم المتحدث عنه شائع في كلام العرب، كما تقدم في نظيرها من سورة البقرة.
و"من" في مثله للابتداء، وهو أصل معاني "من" وأما "من" في قوله: {مِنْ حُلِيِّهِمْ} فهي للتبعيض.
والحلي بضم الحاء وكسر اللام وتشديد المثناة التحتية، جمع حلي، بفتح الحاء وسكون اللام وتخفيف التحتية، ووزن هذا الجمع فعول كما جمع ثدي، ويجمع أيضا على

حلي، بكسر الحاء مع اللام، مثل عصي وقسي اتباعا لحركة العين، وبالأول قرأ جمهور العشرة، وبالثاني حمزة، والكسائي، وقرأ يعقوب حليهم بفتح الحاء وسكون اللام على صيغة الافراد، اي اتخذوا من مصوغهم وفي التوراة أنهم اتخذوه من ذهب، نزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائهم وبناتهم وبنيهم.
والعجل ولد البقرة قبل ان يصير ثورا، وذكر في سورة طه أن صانع العجل رجل يقال له السامري، وفي التوراة ان صانعه هو هارون، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه الواقع في التوراة بعد موسى، ولم يكن هارون صائغا، ونسب الاتخاذ إلى قوم موسى كلهم على طريقة المجاز العقلي لأنهم الآمرون باتخاذه، والحريصون عليه، وهذا مجاز شائع في كلام العرب.
ومعنى اتخذوا عجلا صورة عجل، وهذا من مجاز الصورة، وهو شائع في الكلام.
والجسد الجسم الذي لا روح فيه، فهو خاص بجسم الحيوان إذا كان بلا روح، والمراد أنه كجسم العجل في الصورة والمقدار إلا انه ليس بحي وما وقع في القصص: انه كان لحما ودما يأكل ويشرب، فهو من وضع القصاصين، وكيف والقرآن يقول: {مِنْ حُلِيِّهِمْ} ويقول: {لَهُ خُوَارٌ} فلو كان لحما ودما لكان ذكره أدخل في التعجيب منه.
والخوار بالخاء المعجمة صوت البقر، وقد جعل صانع العجل في باطنه تجويفا على تقدير من الضيق مخصوص واتخذ له آلة نافخة خفية فإذا حركت آلة النفخ انضغط الهواء في باطنه، وخرج من المضيق، فكان له صوت كالخوار، وهذه صنعة كصنعة الصفارة والمزمار، وكان الكنعانيون يجعلون مثل ذلك لصنعهما المسمى بعلا.
و {جَسَداً} نعت ل {عِجْلاً} وكذلك له خوار.
وجملة {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا لبيان فساد نظرهم في اعتقادهم.
والاستفهام للتقرير وللتعجيب من حالهم، ولذلك جعل الاستفهام عن نفي الرؤية، لان نفي الرؤية هو غير الواقع من حالهم في نفس الأمر ولكن حالهم يشبه حال من لا يرون عدم تكليمه، فوقع الاستفهام عنه لعلهم لم يروا ذلك، مبالغة، وهو للتعجيب وليس للإنكار، إذ لا ينكر ما ليس بموجود، وبهذا يعلم ان معنى كونه في هذا المقام بمنزلة النفي للنفي إنما نشأ من تنزيل المسؤول عنهم منزلة من لا يرى، وقد تقدم بيان ذلك عند

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} في سورة البقرة [243].
والرؤية بصرية لان عدم تكليم العجل إياهم مشاهد لهم، لان عدم الكلام يرى من حال الشيء الذي لا يتكلم، بانعدام آلة التكلم وهو الفم الصالح للكلام، وبتكرر دعائهم إياه وهو لا يجيب.
وقد سفه رأي الذين اتخذوا العجل إلها بأنهم يشاهدون انه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، ووجه الاستدلال بذلك على سفه رأيهم هو انهم لا شبهة لهم في اتخاذه إلها بأن خصائصه خصائص العجماوات، فجسمه جسم عجل، وهو من نوع ليس أرقى أنواع الموجودات المعروفة، وصوته صوت البقر، وهو صوت لا يفيد سامعه، ولا يبين، خطابا وليس هو بالذي يهديهم إلى أمر يتبعونه حتى تغني هدايتهم عن كلامه، فهو من الموجودات المتحطة عنهم، وهذا كقول إبراهيم {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الانبياء: 63] فما ذا رأوا منه مما يستأهل الإلهية، فضلا على أن ترتقي بهم إلى الصفات التي يستحقها الإله الحق، والذين عبدوه اشرف منه حالا وأهدى، وليس المقصود من هذا الاستدلال على الإلوهية بالتكليم والهداية، وإلا للزم إثبات الإلهية لحكماء البشر.
وجملة {اتَّخَذُوهُ} مؤكدة لجملة {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى} فلذلك فصلت، والغرض من التوكيد في مثل هذا المقام هو التكرير لأجل التعجيب، كما يقال: نعم اتخذوه، ولتبنى عليه جملة {وَكَانُوا ظَالِمِينَ} فيظهر أنها متعلقة باتخاذ العجل، وذلك لبعد جملة {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى} بما وليها من الجملة وهذا كقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} إلى قوله {فَلْيَكْتُبْ} [البقرة: 282] أعيد فليكتب لتبنى عليه جملة {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282]، وهذا التكرير يفيد مع ذلك التوكيد وما يترتب على التوكيد.
وجملة {وَكَانُوا ظَالِمِينَ} في موضع الحال من الضمير المرفوع في قوله: {اتَّخَذُوهُ} وهذا كقوله في سورة البقرة [51] {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} .
[149] {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
كان مقتضى الظاهر في ترتيب حكاية الحوادث أن يتأخر قوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} الآية، عن قوله {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [الأعراف: 150] لأنهم

ما سقط في أيديهم إلا بعد أن رجع موسى ورأوا فرط غضبه وسمعوا توبيخه أخاه وإياهم، وإنما خولف مقتضى الترتيب تعجيلا بذكر ما كان لاتخاذهم العجل من عاقبة الندامة وتبين الضلالة، موعظة للسامعين لكيلا يعجلوا في التحول عن سنتهم، حتى يتبينوا عواقب ما هم متحولون إليه.
و {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} مبني للمجهول، كلمة أجراها القرآن مجرى المثل إذ انظمت على إيجاز بديع وكناية واستعارة، فإن اليد تستعار للقوة والنصرة إذ بها يضرب بالسيف والرمح، ولذلك حين يدعون على أنفسهم بالسوء يقولون شلت من يدي الأنامل، وهي آلة القدرة قال تعالى {ذَا الْأَيْدِ} [صّ: 17]، ويقال: ما لي بذلك يد، أو ما لي بذلك يدان أي لا أستطيعه، والمرء إذا حصل له شلل في عضد ولم يستطع تحريكه يحسن أن يقال سقط في يده ساقط، أي نزل به نازل.
ولما كان ذكر فاعل السقوط المجهول لا يزيد على كونه مشتقا من فعله، ساغ أن يبنى فعله للمجهول فمعنى "سقط في يده" سقط في يده ساقط فأبطل حركة يده، إذ المقصود أن حركة يده تعطلت بسبب غير معلوم إلا بأنه شيء دخل في يده فصيرها عاجزة عن العمل وذلك كناية عن كونه قد فاجأه ما أوجب حيرته في أمره كما يقال فت في ساعده.
وقد استعمل في الآية في معنى الندم وتبين الخطإ لهم فهو تمثيل لحالهم بحال من سقط في يده حين العمل.فالمعنى أنهم تبين لهم خطأهم وسوء معاملتهم ربهم ونبيهم.فالندامة هي معنى التركيب كله، وأما الكناية فهي في بعض أجزاء المركب وهو سقط في اليد.قال ابن عطية وحدثت عن أبي مروان ابن سراج1 أنه كان يقول قول العرب سقط في يده مما أعياني معناه.وقال الزجاج هو نظم لم يسمع قبل القرآن ولم تعرفه العرب.
قلت وهو القول الفصل فإني لم أره في شيء من كلامهم قبل القرآن فقول ابن سراج: قوال العرب سقط في يده، لعله يريد العرب الذين بعد القرآن.
والمعنى لما رجع موسى إليهم وهددهم وأحرق العجل كما ذكر في سورة طه
ـــــــ
1 عبد الملك بن سراج بن عبد الله مولى بني أمية من أهل قرطبة من بيت علم ولد سنة 400 وتوفي 489. أخذ عن أبيه سراج وأخذ عنه ابنه أبو الحسن سراج بن عبد الملك.

وأوجز هنا إذ من المعلوم أنهم ما سقط في أيديهم ورأوا أنهم ضلوا بعد تصميمهم وتصلبهم في عبادة العجل وقولهم {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه: 91]، إلا بسبب حادث حدث ينكشف لهم بسببه ضلالهم فطي ذلك من قبيل الإيجاز ليبنى عليه أن ضلالهم لم يلبث ان انكشف لهم، ولذلك قرن بهذا حكاية اتخاذهم العجل للمبادرة ببيان انكشاف ضلالهم تنهية لقصة ضلالهم وكأنه قيل فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ثم قيل ولما سقط أيديهم قالوا.
وقولهم : {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} توبة وإنابة، وقد علموا أنهم أخطأوا خطيئة عظيمة ولذلك أكدوا التعليق الشرطي بالقسم الذي وطأته اللام.وقدموا الرحمة على المغفرة لأنها سببها.
ومجيء خبر كان مقترنا بحرف "من" التبعيضية لأن ذلك أقوى في إثبات الخسارة من لنكونن خاسرين كما تقدم في قوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56] وقرأه الجمهور: {يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ} بياء الغيبة في أول الفعلين وبرفع ربنا وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب في أول الفعلين ونصب ربنا على النداء، أي قالوا ذلك كله لأنهم دعوا ربهم وتداولوا ذلك بينهم.
[151,150] {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
جعل رجوع موسى إلى قومه غضبان كالأمر الذي وقع الإخبار عنه من قبل على الأسلوب المبين في قوله {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 143] وقوله {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 149].فرجوع موسى معلوم من تحقق انقضاء المدة الموعود بها، وكونه رجع في حالة غضب مشعر بأن الله أوهى إليه فأعلمه بما صنع قومه في مغيبه، وقد صرح بذلك في سورة طه [85] {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} فـ {غَضْبَانَ أَسِفاً} حالان من موسى، فهما قيدان لـ {رَجَعَ} فعلم أن الغضب والأسف مقارنان للرجوع.

والغضب تقدم في قوله {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} في هذه السورة [71].
والأسف بدون مد صيغة مبالغة للآسف بالمد الذي هو اسم فاعل للذي حل به الأسف وهو الحزن الشديد، أي رجع غضبان من عصيان قومه حزينا على فساد أحوالهم.وبئسما ضد نعما وقد مضى القول عليه في قوله تعالى {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} في سورة البقرة [93].والمعنى بئست خلافة خلفتونيها خلافتكم.
وتقدم الكلام على فعل خلف في قوله {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} قريبا.
وهذا خطاب لهارون ووجوه القوم لأنهم خلفاء موسى في قومهم فيكون خلفتموني مستعملا في حقيقته، ويجوز أن يكون الخطاب لجميع القوم، فأما هارون فلأنه لم يحسن الخلافة بسياسة الأمة كما كان يسوسها موسى، وأما القوم فلأنهم عبدوا العجل بعد غيبة موسى، ومن لوازم الخلافة فعل ما كان يفعله المخلوف عنه، فهم لما تركوا ما كان يفعله موسى من عبادة الله وصاروا إلى عبادة العجل فقد انحرفوا عن سيرته فلم يخلفوه في سيرته، وإطلاق الخلافة على هذا المعنى مجاز فيكون فعل {خَلَفْتُمُونِي} مستعملا في حقيقته ومجازه.
وزيادة {مِنْ بَعْدِي} عقب {خَلَفْتُمُونِي} للتذكير بالبون الشاسع بين حال الخلف وحال المخلوف عنه تصوير لفظاعة ما خلفوه به أي بعد ما سمعتم مني التحذير من الإشراك وزجركم عن تقليد المشركين حين قلتم: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فيكون قيد من بعدي للكشف وتصوير الحالة كقوله تعالى {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26].ومعلوم أن السقف لا يكون إلا من فوق، ولكنه ذكر لتصوير حالة الخرور وتهويلها، ونظيره قوله تعالى، بعد ذكر نفر من الأنبياء وصفاتهم، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف: 169] أي من بعد أولئك الموصوفين بتلك الصفات.
و"عجل" أكثر ما يستعمل قاصرا، بمعنى فعل العجلة أي السرعة، وقد يتعدى إلى المعمول "بعن" فيقال: عجل عن كذا بمعنى لم يتمه بعد أن شرع فيه، وضده تم على الأمر إذا شرع فيه فأتمه، ويستعمل عجل مضمنا معنى سبق فعدى بنفسه على اعتبار هذا المعنى، وهو استعمال كثير.
ومعنى "عجل" هنا يجوز أن يكون بمعنى لم يتم، وتكون تعديته إلى المفعول على

نزع الخافض.
والأمر يكون بمعنى التكليف وهو ما أمرهم الله به: من المحافظة على الشريعة، وانتظار رجوعه، فلم يتموا ذلك واستعجلوا فبدلوا وغيروا، ويجوز أن يكون بمعنى سبق أي بادرتم فيكون الأمر بمعنى الشأن أي الغضب والسخط كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40] فالأمر هو الوعيد، فإن الله حذرهم من عبادة الأصنام، وتوعدهم، فكان الظن بهم إن وقع منهم ذلك إن يقع بعد طول المدة، فلما فعلوا ما نهوا عنه بحدثان عهد النهي، جعلوا سابقين له على طريقة الاستعارة: شبهوا في مبادرتهم إلى أسباب الغضب والسخط بسبق السابق المسبوق، وهذا هو المعنى الأوضح، ويوضحه قوله، في نظير هذه القصة في سورة طه، حكاية عن موسى {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} . وقد تعرضت التوراة إلى شيء من هذا المعنى في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج وقال الله لموسى رأيت هذا الشعب فإذا هو شعب صلب الرقبة فالآن اتركني ليحمي غضبي عليهم فأفنيهم.
وإلقاء الألواح رميها من يده إلى الأرض، وقد تقدم بيان الإلقاء آنفا، وذلك يؤذن بأنه لما نزل من المناجاة كانت الألواح في يده، كما صرح به في التوراة.
ثم إن إلقاءه إياها إنما كان إظهارا للغضب، أو أثرا من آثار فوران الغضب لما شاهدهم على تلك الحالة، وما ذكر القرآن ذلك الإلقاء إلا للدلالة على هذا المعنى إذ ليس فيه من فوائد العبرة في القصة إلا ذلك، فلا يستقيم قول من فسرها بأن الإلقاء لأجل إشغال يده بجر رأس أخيه، لن ذكر ذلك لا جرور فيه ولانه لو كان كذلك لعطف واخذ براس أخيه بالفاء.
وروي أن موسى عليه السلام كان في خلقه ضيق، وكان شديدا عند الغضب، ولذلك وكز القبطي فقضى عليه، ولذلك أخذ برأس أخيه يجره إليه، فهو دليل على فظاعة الفعل الذي شاهده من قومه، وذلك علامة على الفظاعة، وتشنيع عليهم، وليس تأديبا لهم لأنه لا يكون تأديبهم بإلقاء ألواح كتب فيها ما يصلحهم، لأن ذلك لا يناسب تصرف النبوءة ولذلك جزمنا بأن إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة الكتاب الذي هم بكتابته قبيل وفاته لم يكن تأديبا للقوم على اختلافهم عنده، كما هو ظاهر قول ابن عباس، بل إنما كان ذلك لما رأى من اختلافهم في ذلك، فرأى أن الأولى ترك كتابته، إذ لم يكن الدين محتاجا

إليه ووقع في التوراة أن الألواح تكسرت حين ألقاها، وليس في القرآن ما يدل على ذلك سوى أن التعبير بالإلقاء الذي هو الرمي، وما روى من أن الألواح كانت من حجر، يقتضي أنها اعتراها انكسار، ولكن ذلك الانكسار لا يذهب ما احتوت عليه من الكتابة.وأما ما روي أنها لما تكسرت ذهب ستة اسباعها، أو ذهب تفصيلها وبقيت موعظتها، فهو من وضع القصاصين والله تعالى يقول {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:154].
وأما أخذه برأس أخيه هارون يجره إليه، أي إمساكه بشعر رأسه، وذلك يولمه، فذلك تأنيب لهارون على عدم أخذه بالشدة على عبدة العجل واقتصاره على تغيير ذلك عليهم بالقول، وذلك دليل على أنه غير معذور في اجتهاده الذي أفصح عنه بقوله {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] لأن ضعف مستنده جعله بحيث يستحق التأديب، ولم يكن له عذرا، وكان موسى هو الرسول لبني إسرائيل، وما هارون إلا من جملة قومه بهذا الاعتبار، وإنما كان هارون رسولا مع موسى لفرعون خاصة، ولذلك لم يسع هارون إلا الاعتذار والاستصفاح منه.
وفي هذا دليل على أن الخطأ في الاجتهاد مع وضوح الأدلة غير معذور فيه صاحبه في إجراء الأحكام عليه، وهو ما يسميه الفقهاء بالتأويل البعيد ولا يظن بأن موسى عاقب هارون قبل تحقق التقصير.
وفصلت جملة {قَالَ ابْنَ أُمَّ} لوقوعها جوابا لحوار مقدر دل عليه قوله {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} لأن الشأن ان ذلك لا يقع إلا مع كلام توبيخ، وهو ما حكي في سورة طه بقوله {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:92, 93] على عادة القرآن في توزيع القصة، واقتصارا على موقع العبرة ليخالف أسلوب قصصه الذي قصد منه الموعظة أساليب القصاصين الذين يقصدون الخبر بكل ما حدث.
و {ابْنَ أُمَّ} منادى بحذف حرف النداء، والنداء بهذا الوصف للترقيق والاستشفاع، وحذف حرف النداء لإظهار ما صاحب هارون من الرعب والاضطراب، أو لأن كلامه هذا وقع بعد كلام سبقه فيه حرف النداء وهو المحكي في سورة طه [94] {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} ثم قال، بعد ذلك {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} فهما كلامان متعاقبان.
ويظهر أن المحكي هنا هو القول الثاني وان ما في سورة طه هو الذي ابتدأ به هارون، لأنه كان جوابا عن قول موسى {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه:92, 93].

واختيار التعريف بالإضافة: لتضمن المضاف إليه معنى التذكير بصلة الرحم، لأن إخوة الأم أشد أواصر القرابة لاشتراك الأخوين في الإلف من وقت الصبا والرضاع.
وفتح الميم في {ابْنَ أُمَّ} قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وحفص عن عاصم، وهي لغة مشهورة في المنادى المضاف إلى أم أو عم، وذلك بحذف ياء المتكلم وتعويض ألف عنها في آخر المنادى، ثم يحذف ذلك الألف تخفيفا، ويجوز بقاء كسرة الميم على الأصل، وهي لغة مشهورة أيضا، وبها قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف.
وتقدم الكلام على الأم عند قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} في سورة النساء [23].
وتأكيد الخبر بـ {إِنَّ} لتحقيقه لدى موسى، لأنه بحيث يتردد فيه قبل إخبار المخبر به، والتأكيد يستدعيه قبول الخبر للتردد من قبل إخبار المخبر به، وإن كان المخبر لا يظن به الكذب، أو لئلا يظن به أنه توهم ذلك من حال قومه، وكانت حالهم دون ذلك.
والسين والتاء في {اسْتَضْعَفُونِي} للحسبان أي حسبوني ضعيفا لا ناصر لي، لأنهم تمالؤوا على عبادة العجل ولم يخالفهم إلا هارون في شرذمة قليلة.
وقوله: {وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} يدل على أنه عارضهم معارضة شديدة ثم سلم خشية القتل.
والتفريع في قوله: {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} تفريع على تبين عذره في إقرارهم على ذلك، فطلب من أخيه الكف عن عقابه الذي يشمت به الأعداء لأجله، ويجعله مع عداد الظالمين.فطلب ذلك كناية عن طلب الإعراض عن العقاب.
والشماتة: سرور النفس بما يصيب غيرها من الأضرار، وإنما تحصل من العداوة والحسد، وفعلها قاصر كفرح، ومصدرها مخالف للقياس، ويتعدى الفعل إلى المفعول بالباء يقال شمت به أي كان شامتا بسببه، وأشمته به جعله شامتا به، وأراد بالأعداء الذين دعوا إلى عبادة العجل، لأن هارون أنكره عليهم فكرهوه لذلك، ويجوز أن تكون شماتة الأعداء كلمة جرت مجرى المثل في الشيء الذي يلحق بالمرء سوءا شديدا، سواء كان للمرء أعداء أو لم يكونوا، جريا على غالب العرف.

ومعنى {وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} لا تحسبني واحدا منهم، فجعل بمعنى ظن كقوله تعالى {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف: 19].والقوم الظالمون هم الذين أشركوا بالله عبادة العجل، ويجوز أن يكون المعنى: ولا تجعلني في العقوبة معهم، لأن موسى قد أمر بقتل الذين عبدوا العجل، فجعل على أصلها.
وجملة {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} جواب عن كلام هارون، فلذلك فصلت، وابتدأ موسى دعاءه فطلب المغفرة لنفسه تأدبا مع الله فيما ظهر عليه من الغضب، ثم طلب المغفرة لأخيه فيما عسى أن يكون قد ظهر منه من تفريط أو تساهل في ردع عبدة العجل عن ذلك.
وذكر وصف الأخوة هناك زيادة في الاستعطاف عسى الله أن يكرم رسوله بالمغفرة لأخيه كقول نوح {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45].
والإدخال في الرحمة استعارة لشمول الرحمة لهما في سائر أحوالهما، بحيث يكونان منها كالمستقر في بيت أو نحوه مما يحوي، فالإدخال استعارة أصلية وحرف "في" استعارة تبعية، أوقع حرفه الظرفية موقع باء الملابسة.
وجملة { وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} تذييل، والواو للحال أو اعتراضية، و {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} الأشد رحمة من كل راحم.
[153,152] {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .
يجوز أن قوله {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} إلى قوله {الدُّنْيَا} من تمام كلام موسى، فبعد أن دعا لأخيه بالمغفرة أخبر أن الله غضب على الذين عبدوا العجل، وأنه سيظهر إثر غضبه عليهم، وستنالهم ذلة في الدنيا وذلك بوحي تلقاه، وانتهى كلام موسى عند قوله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، وأن جملة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} خطاب من جانب الله في القرآن، فهو اعتراض والواو اعتراضية ذيل الله بهذا الاعتراض حكاية كلام موسى فأخبر بأنه يجازي كل مفتر بمثل ما أخبر به موسى عن مفتري قومه، وأن جملة {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ} إلى آخر الآية تكملة للفائدة ببيان حالة أضداد المتحدث عنهم وعن أمثالهم.

ويجوز أن تكون جملة {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} إلى آخرها خطابا من الله لموسى، جوابا عن دعائه لأخيه بالمغفرة بتقدير فعل قول محذوف: أي قلنا إن الذين اتخذوا العجل إلى آخره، مثل ما حكى الله تعالى عن إبراهيم في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} [البقرة: 126] الآية.
و {يَنَالُهُمْ} يصيبهم.
والنول والنيل: الأخذ وهو هنا استعارة للإصابة والتلبس كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} في هذه السورة [37]، والذين اتخذوا العجل هم الذين عبدوه فالمفعول الثاني لـ {اتَّخَذُوا} محذوف اختصارا، أي اتخذوه إلها.
وتعريفهم بطريق الموصولية لأنها أخصر طريق في استحضارهم بصفة عرفوا بها، ولأنه يؤذن بسببية ما نالهم من ا لعقاب، والمراد بالغضب ظهور أثره من الخذلان ومنع العناية، وأما نفس الغضب فهو حاصل في الحال.
وغضب الله تعالى إرادته السوء بعبده وعقابه في الدنيا والآخرة أو في إحداهما.
والذلة: خضوع في النفس واستكانة من جراء العجز عن الدفع، فمعنى نيل الذلة إياهم أنهم يصيرون مغلوبين لمن يغلبهم، فقد يكون ذلك بتسليط العدو عليهم، أو بسلب الشجاعة من نفوسهم، بحيث يكونون خائفين العدو ولو لم يسلط عليهم، أو ذلو الاغتراب إذ حرمهم الله ملك الأرض المقدسة فكانوا بلا وطن طول حياتهم حتى انقرض ذلك الجيل كله، وهذه الذلة عقوبة دنيوية قد لا تمحوها التوبة، فإن التوبة إنما تقتضي العفو عن عقاب التكليف، ولا تقتضي ترك المؤاخذة بمصائب الدنيا، لأن العقوبات الدنيوية مسببات تنشأ عن أسبابها، فلا يلزم أن ترفعها التوبة إلا بعناية إلهية خاصة، وهذا يشبه التفرقة بين خطاب الوضع وخطاب التكليف كما يؤخذ من حديث الإسراء لما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناءين أحدهما من لبن والآخر من خمر فاختار اللبن فقال جبريل" الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر لغوت أمتك"، هذا وقد يمحو الله العقوبة الدنيوية إذا رضي عن الجاني والله ذو فضل عظيم.
والقول في الإشارة من قوله: {وَكَذَلِكَ} تقدم في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143]، أي ومثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المفترين.

والافتراء الكذب الذي لا شبهة لكاذبه في اختلاقه، وقد مضى في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} في سورة المائدة [103].
والمراد بالافتراء الاختلاق في أصول الدين بوضع عقائد لا تستند إلى دليل صحيح من دلالة العقل أو من دلالة الوحي، فإن موسى عليه السلام كان حذرهم من عبادة الأصنام كما حكاه الله فيما مضى في قوله تعالى: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ......} [الأعراف: 138, 140] الآيات الثلاث المتقدمة آنفا، فجعل الله جزاءهم على الافتراء الغضب والذلة، وذلك إذا فعلوا مثله بعد أن جاءتهم الموعظة من الله، ولذلك لم يكن مشركو العرب أذلاء، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم وهداهم فاستمروا على الافتراء عاقبهم الله بالذلة، فأزال مهابتهم من قلوب العرب، واستأصلهم قتلا وأسرا، وسلب ديارهم، فلما أسلم منهم من أسلموا صاروا أعزة بالإسلام.
ويؤخذ من هذه الآية ان الكذاب يرمى بالمذلة.
وقوله: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا} [لأعراف: 153] الآية اعتراض بأنهم إن تابوا وآمنوا يغفر الله لهم على عادة القرآن من تعقيب التهديد بالترغيب، والمغفرة ترجع إلى عدم مؤاخذتهم بذنوبهم في عقاب الآخرة، وإلى ارتفاع غضب الله عنهم في المستقبل، والمراد بالسيئات ما يشمل الكفر وهو أعظم السيئات.والتوبة منه هي الإيمان.
وفي قوله: {مِنْ بَعْدِهَا} في الموضعين حذف مضاف قبل ما أضيفت إليه "بعد" وقد شاع حذفه دل عليه {عَمِلُوا} أي من بعد عملها، وقد تقدم الكلام على حذف المضاف مع "بعد" و"قبل" المضافين إلى مضاف للمضاف إليه عند قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} في سورة البقرة [51].
وحرف "ثم" هنا مفيد للتراخي، وذلك إلجاء إلى قبول التوبة، ولو بعد زمان طويل مملوء بفعل السيئات.
وقوله: {مِنْ بَعْدِهَا} تأكيد لمفاد المهلة التي أفادها حرف "ثم" وهذا تعريض للمشركين بأنهم إن آمنوا يغفر لهم ولو طال أمد الشرك عليهم.
وعطف الإيمان على التوبة، مع أن التوبة تشمله من حيث إن الأيمان توبة من الكفر، إما للاهتمام به لأنه أصل الاعتداد بالأعمال الصالحة عند الله تعالى كقوله:

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ} إلى قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 12, 17].ولئلا يظن أن الإشراك لخطورته لا تنجي منه التوبة.
وإما أن يراد بالإيمان إيمان خاص، وهو الإيمان بإخلاص، فيشمل عمل الواجبات.
والخطاب في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ} لمحمد صلى الله عليه وسلم على الوجه الأظهر، أو لموسى على جعل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} مقولا من الله لموسى.
وفي تعريف المسند إليه بالإضافة توسل إلى تشريف المضاف إليه بأنه مربوب لله تعالى، وفي ذكر وصف الربوبية هنا تمهيد لوصف الرحمة.
وتأكيد الخبر بان ولام التوكيد وصيغتي المبالغة في {غَفُورٌ رَحِيمٌ} لمزيد الاهتمام به ترغيب للعصاة في التوبة، وطردا للقنوط من نفوسهم، وإن عظمت ذنوبهم، فلا يحسبوا تحديد التوبة بحد إذا تجاوزته الذنوب بالكثرة أو العظم لم تقبل منه توبة.
وضمير {مِنْ بَعْدِهَا} الثاني مبالغة في الامتنان بقبول توبتهم بعد التملي من السيئات.
وحذف متعلق {غَفُورٌ رَحِيمٌ} لظهوره من السياق، والتقدير: لغفور رحيم لهم، أو لكل من عمل سيئة وتاب منها.
[154] {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}.
نظم هذا الكلام مثل نظم قوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 149] وقوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ} [الأعراف: 150]، أي: ثم سكت عن موسى الغضب ولما سكت عنه أخذ الألواح وهذه الجملة عطف على جملة {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ} [الأعراف: 150].
والسكوت مستعار لذهاب الغضب عنه شبه ثوران الغضب في نفس موسى المنشئ خواطر العقوبة لأخيه ولقومه وإلقاء الألواح حتى انكسرت، بكلام شخص يغريه بذلك، وحسن هذا التشبيه أن الغضبان يجيش في نفسه حديث للنفس يدفعه إلى أفعال يطفئ بها ثوران غضبه، فإذا سكن غضبه وهدأت نفسه كان ذلك بمنزلة سكوت المغري، فلذلك أطلق عليه السكوت، وهذا يستلزم تشبيه الغضب بالناطق المغري على طريقة المكنية،

فاجتمع استعارتان، أو هو استعارة تمثيلية مكنية لأنه لم تذكر الهيئة المشبه بها ورمز إليها بذكر شيء من روادفها وهو السكوت وفي هذا ما يؤيد أن إلقاء الألواح كان اثر للغضب.
والتعريف في {الأَلْوَاحِ} للعهد، أي الألواح التي ألقاها، وإنما أخذها حفظا لها للعمل بها لأن انكسارها لا يضيع ما فيها من الكتابة.
والنسخة بمعنى المنسوخ كالخطبة والقبضة، والنسخ هو نقل مثل المكتوب في لوح أو صحيفة أخرى، وما يقتضي أن هذه الألواح أخذت منها نسخة لأن النسخة أضيفت إلى ضمير الألواح، وهذا من الإيجاز، إذ التقدير: أخذ الألواح فجعلت منها نسخة وفي نسختها هدى ورحمة، وهذا يشير إلى ما في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر الخروج ثم قال الرب لموسى انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين فأكتب أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما ثم قال فنحت لوحين من حجر كالأولين إلهان قال: وقال الرب لموسى أكتب لنفسك هذه الكلمات إلى أن قال: فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر.
فوصف النسخة بأن فيها هدى ورحمة يستلزم الأصل المنتسخ بذلك، لأن ما في النسخة نظير ما في الأصل، وإنما ذكر لفظ النسخة هنا إشارة إلى أن اللوحين الأصليين عوضا بنسخة لهما، وقد قيل أن رضاض الألواح الأصلية وضعه في تابوت العهد الذي أشار إليه قوله تعالى: {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى} في سورة البقرة [248].
وقوله {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} يتنازع تعلقه كل من {هُدىً} و {رَحْمَةً} ، واللام في قوله: {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} لام التقوية دخلت على المفعول لضعف العامل بتأخيره عن المعمول.
[157,155] {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}
عطفت جملة {وَاخْتَارَ مُوسَى} على جملة {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى} [الأعراف: 148] عطف القصة على القصة: لأن هذه القصة أيضا من مواقع الموعظة والعبرة بين العبر المأخوذ من قصة موسى مع بني إسرائيل، فإن في هذه عبرة بعظمة الله تعالى ورحمته، ودعاء موسى بما فيه جماع الخيرات والبشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وملاك شريعته.
والاختيار تمييز المرغوب من بين ما هو مخلوط من مرغوب وضده، وهو زنة افتعال من الخير صيغ الفعل من غير دلالة على مطاوعة لفعل خار.
وقوله: {سَبْعِينَ رَجُلاً} بدل من {قَوْمَهُ} بدل بعض من كل، وقيل إنما نصب قومه على حذف حرف الجر، والتقدير: اختار من قومه، قالوا وحذف الجار من المتعلق الذي هو في رتبة المفعول الثاني شائع في ثلاثة أفعال: اختار، واستغفر وأمر، ومنه أمرتك الخير وعلى هذا يكون قوله {سَبْعِينَ} مفعولا أول.وأياما كان فبناء نظم الكلام على ذكر القوم ابتداء دون الاقتصار على سبعين رجلا اقتضاه حال الإيجاز في الحكاية، وهو من مقاصد القرآن.
وهذا الاختيار وقع عندما أمره الله بالمجيء للمناجاة التي تقدم ذكرها في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] الآية، فقد جاء في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج: أن الله أمر موسى أن يصعد طور سينا هو وهارون و ناداب و أبيهو و يشوع وسبعون من شيوخ بني إسرائيل ويكون شيوخ بني إسرائيل في مكان معين من الجبل ويتقد موسى حتى يدخل في السحاب ليسمع كلام الله وأن الله لما تجلى للجبل ارتجف الجبل ومكث موسى أربعين يوما.وجاء في الإصحاح

الثاني والثلاثين والذي يعده، بعد ذكر عبادتهم العجل وكسر الألواح، أن الله أمر موسى بأن ينحت لوحين من حجر مثل الأولين ليكتب عليهما الكلمات العشر المكتوبة على اللوحين المنكسرين وان يصعد إلى طور سينا وذكرت صفة صعود تقارب ا لصفة التي في الإصحاح الرابع والعشرين، وان الله قال لموسى من أخطأ أمحوه من كتأبي، وأن موسى سجد لله تعالى واستغفر لقومه قلة امتثالهم وقال فإن غفرت خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك.وجاء في الإصحاح التاسع من سفر التثنية: أن موسى لما صعد الطور في المناجاة الثانية صام أربعين يوما وأربعين ليلة لا يأكل طعاما ولا يشرب ماء استغفارا لخطيئة قومه وطلبا للعفو عنهم.فتبين مما في التوراة أن الله جعل لموسى ميقاتين للمناجاة، وأنه اختار سبعين رجلا للمناجاة الأولى ولم تذكر اختيارهم للمناجاة الثانية، ولما كانت المناجاة الثانية كالتكملة للأولى تعين أن موسى استصحب معه السبعين المختارين، ولذلك وقعت فيها الرجفة مثل المرة الأولى، ولم يذكر القرآن أن الرجفة أخذتهم في المرة الأولى، وإنما ذكر أن موسى خر صعقا، ويتعين أن يكون السبعون قد أصابهم ما أصاب موسى لأنهم كانوا في الجبل أيضا، وذكر الرجفة في المرة الثانية ولم تذكرها التوراة.
والضمير في أخذتهم الرجفة للسبعين.فالظاهر أن المراد في هذه الآية هو حكاية حال ميقات المناجاة الثانية التي وقع فيها الاستغفار لقومه، وأن الرجفة المحكية هنا رجفة أخذتهم مثل الرجفة التي أخذتهم في المناجاة الأولى، لأن الرجفة تكون من تجلي أثر عظيم من آثار الصفات الإلهية كما تقدم، فإن قول موسى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} يؤذن بأنه يعنى به عبادتهم العجل، وحضورهم ذلك، وسكوتهم، وهو المعني بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} وقد خشي موسى أن تلك الرجفة مقدمة عذاب كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يخشى الريح أن يكون مبدأ عذاب.
ويجوز أن يكون ذلك في المناجاة الأولى وأن قوله: {بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} يعني به ما صدر من بني إسرائيل من التصلب قبل المناجاة، كقولهم: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61]، وسؤالهم رؤية الله تعالى.لكن ظاهر أن مثل ذلك لا يطلق عليه "فعل" في قوله: {بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} .والحاصل أن موضع العبرة في هذه القصة هو التوقي من غضب الله، وخوف بطشه، ومقام الرسل من الخشية، ودعاء موسى، الخ.
وقد صيغ نظم الكلام في قوله: {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} على نحو ما صيغ عليه قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [الأعراف: 150] كما تقدم.

والأخذ مجاز في الإصابة الشديدة المتمكنة تمكن الآخذ من المأخوذ.
و"لو" في قوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ} يجوز أن تكون مستعملة في التمني وهو معنى مجازي ناشئ من معنى الامتناع الذي هو معنى "لو" الأصلي ومنه قول المثل لو ذات سوار لطمتني إذ تقدير الجواب.لو لطمتني لكان أهون علي، وقد صرح بالجواب في الآية وهو {شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ} أي ليتك أردت إهلاكهم أي السبعين الذين معه.فجملة أهلكتهم بدل اشتمال من جملة {شِئْتَ} من قبل خطيئة القوم التي تسبب عنها الرجوع إلى المناجاة.
وعلى هذا التقدير في "لو" لا يكون، في قوله: {أَهْلَكْتَهُمْ} حذف اللام التي من شأنها أن تقترن بجواب "لو" وإنما قال: {أَهْلَكْتَهُمْ} وإياي ولم يقل: أهلكتنا، للتفرقة بين الإهلاكين لان إهلاك السبعين لأجل سكوتهم على عبادة العجل، وإهلاك موسى، قد يكون لأجل أن لا يشهد هلاك القوم، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً} [هود: 58] الآية ونظائرها كثيرة وقد خشي موسى أن الله يهلك جميع القوم بتلك الرجفة لان سائر سائر القوم أجدر بالإهلاك من السبعين، وقد أشارت التوراة إلى هذا في الإصحاح فرجع موسى إلى الله وقال أن الشعب قد اخطأ خطيئة عظيمة وصنعوا لأنفسهم آلهة فان غفرت لهم خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت.فقال الله لموسى من اخطأ إلي أمحوه من كتأبي.فالمحو من الكتاب هو محو تقدير الله له الحياة محو غضب، وهو المحكي في الآية بقوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} وقد خشي موسى أن تكون تلك الرجفة أمارة غضب ومقدمة إهلاك عقوبة على عبادتهم العجل، فلذلك قال: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} فالسفهاء هم الذين عبدوا العجل وسمي شركهم سفها لأنه شرك مشوب بخسة عقل إذ جعلوا صورة صنعوها بأنفسهم إلها لهم.
ويجوز أن يكون حرف "لو" مستعملا في معناه الأصلي: من امتناع جوابه لامتناع شرطه، فيتجه أن يتساءل عن موجب حذف اللام من جواب "لو" ولم يقل: لأهلكتهم مع أن الغالب في جوابها الماضي المثبت أن يقترن باللام فحذف اللام هنا لنكتة أن التلازم بين شرط لو وجوابها هنا قوي لظهور أن الإهلاك من فعل الله وحده فهو كقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} سورة الواقعة [70] وسيأتي بيانه، ويكون المعنى اعترافا بمنة العفو عنهم فيما سبق، وتمهيدا للتعريض بطلب العفو عنهم الآن، وهو المقصود من قوله {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ} أي انك لم تشأ إهلاكهم حين تلبسوا بعبادة العجل فلا

تهلكهم الآن.
والاستفهام في قوله: {أَتُهْلِكُنَا} مستعمل في التفجع أي: أخشى ذلك، لان القوم استحقوا العذاب ويخشى أن يشمل عذاب الله من كان مع القوم المستحقين وان لم يشاركهم في سبب العذاب، كما قال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وفي حديث أم سلمة إنها قالت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث وفي حديث آخر، ثم يحشرون على نياتهم وقد خشي موسى سوء الظنة لنفسه ولأخيه وللبراء من قومه أن يظنهم الأمم التي يبلغها خبرهم انهم مجرمون.
وإنما جمع الضمير في قوله: {أَتُهْلِكُنَا} لأن هذا الإهلاك هو الإهلاك المتوقع من استمرار الرجفة، وتوقعه واحد في زمن واحد، بخلاف الإهلاك المتقدم ذكره فسببه مختلف فناسب توزيع مفعوله.
وجملة {أَتُهْلِكُنَا} مستأنفة على طريقة تقطيع كلام الحزين الخائف السائل.وكذلك جملة {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} وجملة {أَنْتَ وَلِيُّنَا}.
وضمير {إِنْ هِيَ} راجع إلى ما فعل السفهاء لأن ما صدق ما فعل السفهاء هو الفتنة، والمعنى: ليست الفتنة الحاصلة بعبادة العجل الا فتنة منك، أي من تقديرك وخلق أسباب حدوثها، مثل سخافة عقول القوم، وإعجابهم بأصنام الكنعانيين، وعيبة موسى، ولين هارون، وخشيته من القوم، وخشية شيوخ إسرائيل من عامتهم، وغير ذلك مما يعلمه الله وأيقن موسى به إيقانا إجماليا.
والخبر في قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} الآية: مستعمل في إنشاء التمجيد بسعة العلم والقدرة، والتعريض بطلب استبقائهم وهدايتهم، وليس مستعملا في الاعتذار لقومه بقرينة قوله: {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} الذي هو في موضع الحال من {فِتْنَتُكَ} فالإضلال بها حال من أحوالها.
ثم عرض بطلب الهداية لهم بقوله: {وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} والمجرور في قوله: {بِهَا} متعلق بفعل {تُضِلُّ} وحده ولا يتنازعه معه فعل {تَهْدِي} لأن الفتنة لا تكون سبب هداية بقرينة تسميتها فتنة، فمن قدر في التفسير: وتهدي بها أو نحوه، فقد غفل.
والباء: أما للملابسة، أي تضل من تشاء ملابسا لها، وأما للسببية، أي تضل بسبب تلك الفتنة، فهي من جهة فتنة، ومن جهة سبب ضلال.

والفتنة ما يقع به اضطراب الاحوال، ومرجها، وتشتت البال، وقد مضى تفسيرها عند قوله تعال {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} في سورة البقرة [102]، وقوله {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} في سورة العقود [71] وقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} في سورة الأنعام [23].
والقصد من جملة {أَنْتَ وَلِيُّنَا} الاعتراف بالانقطاع لعبادة الله تعالى، تمهيدا لمطلب المغفرة والرحمة، لان شأن الولي أن يرحم مولاه وينصره.
والولي: الذي له ولاية على أحد، والولاية حلف أو عتق يقتضي النصرة والإعانة، فان كان من جانبين متكافئين فكلا المتعاقدين يقال له مولى، وان كان أحد الجانبين أقوى قيل للقوي ولي وللضعيف مولى وإذ قد كانت الولاية غير قابلة للتعدد، لان المرء لا يتولى غير مواليه، كان قوله: {أَنْتَ وَلِيُّنَا} مقتضيا عدم الانتصار بغير الله، وفي صريحه صيغة قصر.
والتفريع عن الولاية في قوله: {فَاغْفِرْ لَنَا} تفريع كلام على كلام وليس المراد أن الولي يتعين عليه الغفران.
وقدم المغفرة على الرحمة لان المغفرة سبب لرحمات كثيرة، فان المغفرة تنهية لغضب الله المترتب على الذنب، فإذا انتهى الغضب تسنى أن يخلفه الرضا.والرضا يقتضي الإحسان.
و {خَيْرُ الْغَافِرِينَ} الذي يغفر كثيرا، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} في سورة آل عمران [150].
وإنما عطف جملة {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} لأنه خبر في معنى طلب المغفرة العظيمة، فعطف على الدعاء، كأنه قيل: فاغفر لنا وارحمنا واغفر لنا جميع ذنوبنا، لان الزيادة في المغفرة من آثار الرحمة.
{وَاكْتُبْ} مستعار لمعنى العطاء المحقق حصوله، المجدد مرة بعد مرة، لان الذي يريد تحقيق عقد، أو عدة، أو عطاء، وتعلقه بالتجدد في المستقبل يكتب به في صحيفة، فلا يقبل النكران، ولا النقصان، ولا الرجوع، وتسمى تلك الكتابة عهدا، ومنه ما كتبوه في صحيفة القطيعة، وما كتبوه من حلف ذي المجاز، قال الحارث ابن حلزة.
حذر الجور والتطاخي وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

ولو كان العطاء أو التعاقد لمرة واحدة لم يحتج للكتابة، لأن الحوز أو التمكين مغن عن الكتابة، كما قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282].فالمعنى: آتنا الحسنة تلو الحسنة في أزمان حياتنا وفي يوم القيامة، دل على هذا المعنى لفظ {اكْتُبْ} ولولاه لكان دعاء صادقا بإعطاء حسنة واحدة، فيحتاج إلى الاستعانة على العموم بقرينة الدعاء، فان النكرة يراد بها العموم في سياق الدعاء كقول الحريري في المقامة الخامسة.
يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا
أي كل ضر وليس المراد وقيتم ضرا معينا.
والحسنة الحالة الحسنة، وهي: في الدنيا المرضية للناس، ولله تعالى، فتجمع خير الدنيا والدين، وفي الآخرة حالة الكمال، وقد تقدم بيانها في تفسير قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} في سورة البقرة [201].
وجملة {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} مسوقة مساق التعليل للطلب والاستجابة، ولذلك فصلت ولان موقع حرف التأكيد في أولها موقع الاهتمام، فيفيد التعليل والربط، ويغني غناء فاء السببية كما تقدم غير مرة.
و{هُدْنَا} معناه تبنا، يقال: هاد يهود إذا رجع وتاب فهو مضموم الهاء في هذه الآية باتفاق القراءات المتواترة والمعنى تبنا مما عسى أن نكون ألممنا به من ذنب وتقصير، وهذا إخبار عن نفسه، وعن المختارين من قومه، بما يعلم من صدق سرائرهم.
{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
جملة {قَالَ} الخ جواب لكلام موسى عليه السلام، فلذلك فصلت لوقوعها على طريقة المحاورة، كما تقدم غير مرة، وكلام موسى، وان كان طلبا، وهو لا يستدعي

جوابا، فإن جواب الطالب عناية به وفضل.
والمراد بالعذاب هنا عذاب الدنيا، لان الكلام جواب لقول موسى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} . والإهلاك عذاب، فبين الله له أن عذاب الدنيا يصيب الله به من يشاء من عباده، وقد اجمل الله سبب المشيئة وهو اعلم به، وموسى يعلمه إجمالا، فالكلام يتضمن طمأنة موسى من أن يناله العذاب هو والبزآء من قومه، لان الله اعظم من أن يعاملهم معاملة المجرمين، والمعنى إني قادر على تخصيص العذاب بمن عصوا وتنجية من لم يشارك في العصيان، وجاء الكلام على طريقة مجملة شان كلام من لا يسأل عما يفعل.
وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} مقابل قول موسى: {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} ، وهو وعد تعريض بحصول الرحمة المسؤولة له ولمن معه من المختارين، لأنها لما وسعت كل شيء فهم أرجى الناس بها، وان العاصين هم أيضا مغمورون بالرحمة، فمنها رحمة الإمهال والرزق، ولكن رحمة الله عباده ذات مراتب متفاوتة.
وقوله {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} إلى قوله: {كُلَّ شَيْءٍ} جواب إجمالي، هو تمهيد للجواب التفصيلي في قوله {فَسَأَكْتُبُهَا} .
والتفريع في قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا} تفريع على سعة الرحمة، لأنها لما وسعت كل شيء كان منها ما يكتب أي يعطى في المستقبل للذين أجريت عليهم الصفات ويتضمن ذلك وعدا لموسى ولصلحاء قومه لتحقق تلك الصلات فيهم، وهو وعد ناظر إلى قول موسى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . والضمير المنصوب في {أَكْتُبُهَا} عائد إلى {وَرَحْمَتِي} فهو ضمير جنس، وهو مساو للمعرف بلام الجنس، أي اكتب فردا من هذا الجنس لأصحاب هذه الصفات، وليس المراد انه يكتب جميع الرحمة لهؤلاء لان هذا غير معروف في الاستعمال في الإخبار عن الاجناس، لكن يعلم من السياق أن هذا النوع من الرحمة نوع عظيم بقرينة الثناء على متعلقها بصفات تؤذن باستحقاقها، وبقرينة السكوت عن غيره، فيعلم أن لهذا المتعلق رحمة خاصة عظيمة وان غيره داخل في بعض مراتب عموم الرحمة المعلومة من قوله: {وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} وقد أفصح عن هذا المعنى الحصر في قوله في آخر الآية {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وتقدم معنى {أَكْتُبُهَا} قريبا.

وقد تقدم معنى {وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} في قوله تعالى {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} في هذه السورة [89].
والمعنى: أن الرحمة التي سألها موسى له ولقومه وعد الله بإعطائها لمن كان منهم متصفا بأنه من المتقين والمؤتين الزكاة، ولمن كان من المؤمنين بآيات الله، والآيات تصدق: بدلائل صدق الرسل، وبكلمات الله التي شرع بها للناس رشادهم وهديهم، ولا سيما القرآن لان كل مقدار ثلاث آيات منه هو آية لأنه معجز فدال على صدق الرسول، وهو المقصود هنا، وهم الذين يتبعون الرسول الأمي إذا جاءهم، أي يطيعونه فيما يأمرهم، ولما جعلت هذه الأشياء بسبب تلك الرحمة علم أن التحصيل على بعضها يحصل بعض تلك الرحمة بما يناسبه، بشرط الإيمان، كما علم من آيات أخرى خاطب الله بها موسى كقوله آنفا {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا} [الأعراف: 153] فتشمل هذه الرحمة من اتقى وآمن وآتى الزكاة من بني إسرائيل قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فان اتباعهم إياه متعذر الحصول قبل بعثته.ولكن يجب أن يكونوا عازمين على اتباعه عند مجيئه أن كانوا عالمين بذلك كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:81, 82].وتشمل الرحمة أيضا الذين يؤمنون بآيات الله، والمعني بها الآيات التي ستجيء في المستقبل لان آيات موسى قد استقر الإيمان بها يومئذ، وهذا موجب إعادة اسم الموصول في ذكر أصحاب هذه الصلة، للإشارة إلى انهم طائفة أخرى، وهم من يكون عند بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك أبدل منهم قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} الخ.وهو إشارة إلى اليهود والنصارى الكائنين في زمن البعثة وبعدها لقوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ} ولقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فانه يدل على انهم كانوا أهل شريعة فيها شدة وحرج، والمراد بآيات الله: القرآن، لان ألفاظه هي المخصوصة باسم الآيات لأنها جعلت معجزات للفصحاء عن معارضتها، ودالة على إنها من عند الله وعلى صدق رسوله، كما تقدم في المقدمة الثامنة.
وفي هذه الآية بشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهي مشيرة إلى ما في التوراة من الإصحاح العاشر حتى الرابع عشر، والإصحاح الثامن عشر من سفر التثنية: فان موسى بعد أن ذكرهم بخطيئة عبادتهم العجل، وذكر مناجاته لله للدعاء لهم بالمغفرة، كما تضمنه

الإصحاح التاسع من ذلك السفر، وذكرناه آنفا في تفسير قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} . ثم ذكر في الإصحاح العاشر أمرهم بالتقوى بقوله فالآن يا إسرائيل ما يطلب منك الرب إلا أن تتقي ربك لتسلك في طرقه وتحبه.ثم ذكر فيه وفي الثلاثة بعده وصايا تفصيلا للتقوى، ثم ذكر في الإصحاح الرابع عشر الزكاة فقال تعشيرا تعشر كل محصول زرعك سنة بسنة عشر حنطتك وخمرك وزينتك وإبكار بقرك وغنمك وفي آخر ثلاث سنين تخرج كل عشر محصولك في تلك السنة فتضعه في أبوابك فيأتي اللاوي والغريب واليتيم والأرملة الذين على أبوابك فيأكلون ويشبعون الخ.ثم ذكر أحكاما كثيرة في الإصحاحات الثلاثة بعده.
ثم في الإصحاح الثامن عشر قوله يقيم لك الرب نبيا ومن وسط اخوتك مثلي له تسمعون حسب كل ما طلبت من الرب في حوريب أي جبل الطور حين المناجاة يوم الاجتماع قال لي الرب أقيم لهم نبيا من وسط اخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به فدل هذا على أن هذا النبي من غير بني إسرائيل لقوله من وسط اخوتك فان الخطاب لبني إسرائيل، ولا يكونون اخوة لأنفسهم.واخوتهم هم أبناء أخي أبيهم: إسماعيل أخي إسحاق، وهم العرب، ولو كان المراد به نبيا من بني إسرائيل ثل صمويل كما يؤوله اليهود لقال: من بينكم أو من وسطكم، وعلم أن النبي رسول بشرع جديد من قوله "مثلك" فان موسى كان نبيا رسولا، فقد جمع القرآن ذلك كله في قوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} الخ.
ومن نكت القرآن الجمع في هذه الآية بين وصفي النبوة والرسالة للإشارة إلى أن اليهود بدلوا وصف الرسول وعبروا عنه بالنبي ليصدق على أنبياء بني إسرائيل، وغفلوا عن مفاد قوله مثلك، وحذفوا وصف الأمي، وقد كانت هذه الآية سبب إسلام الحبر العظيم الأندلسي السمو أل بن يحيي اليهودي، كما حكاه عن نفسه في كتابه الذي سماه غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود.
فهذه الرحمة العظيمة تختص بالذين آمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، وتشمل الرسل والأنبياء الذين اخذ الله عليهم العهد بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فكانوا عالمين ببعثته يقينا فهم آمنوا به، وتنزلوا منزلة من اتبع ما جاء به، لأنهم استعدوا لذلك، وتشمل المسلمين من العرب وغيرهم غير بني إسرائيل لأنهم ساروا من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من اليهود في اتباع الرسول النبي الأمي.

وتقديم وصف الرسول لأنه الوصف الأخص الأهم، ولان في تقديمه زيادة تسجيل لتحريف أهل الكتاب، حيث حذفوا هذا الوصف ليصير كلام التوراة صادقا بمن أتى بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل، ولأن محمدا صلى الله عليه وسلم اشتهر بوصف النبي الأمي، فصار هذا المركب كاللقب له، فلذلك لا يغير عن شهرته، وكذلك هو حيثما ورد ذكره في القرآن.
والأمي: الذي لا يعرف الكتابة والقراءة، قيل هو منسوب إلى الأم أي هو أشبه بأمه منه بأبيه، لان النساء في العرب ما كن يعرفن القراءة والكتابة، وما تعلمنها إلا في الإسلام، فصار تعلم القراءة والكتابة من شعار الحرائر دون الإماء كما قال عبيد الراعي، وهو إسلامي:
هن الحرائر لا ربات أخمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور
أما الرجال ففيهم من يقرأ ويكتب.
وقيل: منسوب إلى الأمة أي الذي حاله حال معظم الأمة، أي الأمة المعهودة عندهم وهي العربية، وكانوا في الجاهلية لا يعرف منهم القراءة والكتابة إلا النادر منهم، ولذلك يصفهم أهل الكتاب بالأميين، لما حكى الله تعالى عنهم في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} في آل عمران [75].
والأمية وصف خص الله به من رسله محمدا صلى الله عليه وسلم، إتماما للإعجاز العلمي العقلي الذي أيده الله به، فجعل الأمية وصفا ذاتيا له ليتم بها وصفه الذاتي وهو الرسالة، ليظهر أن كماله النفساني كمال لدني الهي، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات، وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه، مع انها في غيره وصف نقصان، لأنه لما حصل له من المعرفة وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحق، وكان على يقين من علمه، وبينة من أمره، ما هو اعظم مما حصل للمتعلمين، صارت أميته آية على كون ما حصل له إنما هو من فيوضات إلهية.
ومعنى {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً} وجدان صفاته ونعومته، التي لا يشبهه فيها غيره، فجعلت خاصته بمنزلة ذاته.وأطلق عليها ضمير الرسول النبي الأمي مجازا بالاستخدام، وإنما الموجود نعته ووصفه، والقرينة قوله: {مَكْتُوباً} فان الذات لا تكتب، وعدل عن التعبير بالوصف للدلالة على انهم يجدون وصفا لا يقبل الالتباس، وهو: كونه أميا، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات، ويحرم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم،

وشدة شريعتهم.
وذكر الإنجيل هنا لأنه منزل لبني إسرائيل، وقد آمن به جمع منهم ومن جاء بعدهم من خلفهم، وقد أعلم الله موسى بهذا.
والمكتوب في التوراة هو ما ذكرناه آنفا، والمكتوب في الإنجيل بشارات جمة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها التصريح بأنه يبعث بعثة عامة، ففي إنجيل متي في الإصحاح الرابع والعشرين ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرون ولكن الذي يصبر إلى المنتهى أي يدوم شرعه إلى نهاية العالم فهذا يخلص ويكرز1 ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى أي منتهى الدنيا، وفي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم ومعنى باسمي أي بمماثلتي وهو كونه رسولا مشرعا لا نبيا مؤكدا.
وتقدم ذكر التوراة والإنجيل في أول سورة آل عمران.
وجملة {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} قال أبو علي الفارسي: هي بيان للمكتوب عندهم ولا يجوز أن تكون حالا من ضمير {يَجِدُونَهُ} لان الضمير راجع للذكر والاسم، والذكر والاسم لا يأمران أي فتعين كون الضمير مجازا، وكون الأمر بالمعروف هو ذات الرسول لا وصفه وذكره، ولا شك أن المقصود من هذه الصفات تعريفهم بها لتدلهم على تعيين الرسول الأمي عند مجيئه بشريعة هذه صفاتها.
وقد جعل الله المعروف والمنكر، والطيبات، والخبائث، والإصر والأغلال متعلقات لتشريع النبي الأمي وعلامات، فوجب أن يكون المراد منها ما يتبادر من معاني ألفاظها للأفهام المستقيمة.
فالمعروف شامل لكل ما تقبله العقول والفطر السليمة، والمنكر ضده، وقد تقدم بيانهما عند قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} في سورة آل عمران [104].
ـــــــ
1 وقعت كلمة "يكرز" في ترجمة الإنجيل للآباء اليسوعيين وأريد بها "يتنبأ" ولا أعرف لها أصلا في العربية.

ويجمعها معنى: الفطرة، التي هي قوام الشريعة المحمدية كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وهذه اوضح علامة لتعرف أحكام الشريعة المحمدية.
والطيبات: جمع طيبة، وقد روعي في التأنيث معنى الأكيلة، أو معنى الطعمة، تنبيها على أن المراد الطيبات من المأكولات، كما دل عليه قوله في نظائرها نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة: 168] في البقرة وقوله: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} في سورة المائدة [4]، وليس المراد الأفعال الحسنة لان الأفعال عرفت بوصف المعروف والمنكر، والمأكولات لا تدخل في المعروف والمنكر، إذ ليس العقل حظ في التمييز بين مقبولها ومرفوضها، بما تمتلك الناس فيها عوائدهم، ولما كان الإسلام دين الفطرة ولا اعتداد بالعوائد فيه، ناط حال المأكولات بالطيب وحرمتها بالخبث، فالطيب ما لا ضر فيه ولا وخامة ولا قذارة، والخبيث ما اضر، أو كان وخيم العاقبة، أو كان مستقذرا لا يقبله العقلاء، كالنجاسة وهذا ملاك المباح والمحرم من المآكل، فلا تدخل العادات إلا في اختيار أهلها ما شاءوا من المباح، فقد كانت قريش لا تأكل الضب، وقد وضع على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره أن يأكل منه، وقال: "ما هو بحرام ولكنه لم يكن من طعام قومي فأجدني أعافه" ولهذا فالوجه: أن كل ما لا ضر فيه ولا فساد ولا قذارة فهو مباح، وقد يكون مكروها اعتبارا بمضرة خفيفة، فلذلك ورد النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ومحمله عند مالك في اشهر الروايات عنه، على الكراهة، وهو الذي لا ينبغي التردد فيه، واي ضر في أكل لحم الأسد وكذلك إباحة أكل الخشاش والحشرات والزواحف البرية والبحرية لاختلاف عوائد الناس في أكلها وعدمه، فقد كانت جرم لا يأكلون الدجاج، وفقعس يأكلون الكلب، فلا يحجر على قوم لأجل كراهية غيرهم مما كؤرهه ذوقه أو عادة قومه. وقد تقدم شيء من هذا في آية سورة المائدة.فعلى الفقيه أن يقصر النظر على طبائع المأكولات وصفاتها، وما جهلت بعض صفاته وحرمته الشريعة مثل تحريم الخنزير.
ووضع الإصر إبطال تشريعه، أي بنسخ ما كان فيه شدة من الشرائع الإلهية السابقة، وحقيقة الوضع الحط من علو إلى سفل وهو هنا مجاز في إبطال التكليف بالأعمال الشاقة.
وحقه التعدية إلى المفعول الثاني بحرف "في" الظرفية، فإذا عدي إليه بـ"عن" دل

على نقل المفعول الأول من مدخول "عن" وإذا عدي إلى المفعول الثاني بـ"على" كان دالا على حط المفعول الأول في مدخول "على" حطا متمكنا، فاستعير {وَيَضَعُ عَنْهُمْ} هنا إلى إزالة التكليفات التي هي كالإصر والأغلال فيشمل الوضع معنى النسخ وغيره، كما سيأتي.
و"الإصر" ظاهر كلام الزمخشري في الكشاف والأساس انه حقيقة الثل، بكسر الثاء الحسي بحيث يصعب معه التحرك، ولم يقيده غيره من أصحاب دواوين اللغة، وهذا القيد من تحقيقاته، وهو الذي جرى عليه ظاهر كلام ابن العربي في الأحكام، والمراد به هنا التكاليف الشاقة والحرج في الدين فان كان كما قيده الزمخشري يكن {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} تمثيلية بتشبيه حال المزال عنه ما يحرجه من التكاليف بحال من كان محملا بثقل فأزيل عن ظهره ثقله، كما في قوله تعالى: {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] وان لم يكن كذلك كان "الإصر" استعارة مكنية {وَيَضَعُ} تخييلا، وهو أيضا استعارة تبعية للإزالة.
وقد كانت شريعة التوراة مشتملة على أحكام كثيرة شاقة مثل العقوبة بالقتل على معاص كثيرة، منها العمل يوم السبت، ومثل تحريم مأكولات كثيرة طيبة وتغليظ التحريم في أمور هينة، كالعمل يوم السبت، وأشد ما في شريعة التوراة من الإصر أنها لم تشرع فيها التوبة من الذنوب، ولا استتابة المجرم.والإصر قد تقدم في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} في سورة البقرة [286] وقرأ ابن عامر وحده في القراءات المشهورة، آصارهم بلفظ الجمع، والجمع والإفراد في الأجناس سواء.
و {الأَغْلالَ} جمع غل بضم الغين وهو إطار من حديد يجعل في رقبة الأسير والجاني ويمسك بسير من جلد أو سلسلة من حديد بيد الموكل بحراسة الأسير، قال تعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر: 71] ويستعار الغل للتكليف والعمل الذي يؤلم ولا يطاق فهو استعارة فان بنينا على كلام الزمخشري كان {الأَغْلالَ} تمثيلية بتشبيه حال المحرر من الذل والإهانة بحال من أطلق من الاسر، فتعين أن وضع الأغلال استعارة لما يعانيه اليهود من المذلة بين الأمم الذين نزلوا في ديارهم بعد تخريب بيت المقدس، وزوال ملك يهوذا، فان الإسلام جاء بتسوية اتباعه في حقوقهم في الجامعة الإسلامية فلا يبقى فيه ميز بين أصيل ودخيل، وصميم ولصيق، كما كان الأمر في الجاهلية.ومناسبة استعارة الأغلال للذلة أوضح، لان الأغلال من شعار الإذلال في

الأسر والقود ونحوهما.
وهذان الوصفان لهما مزيد اختصاص باليهود، المتحدث عنهم في خطاب الله تعالى لموسى، ولا يتحققان في غيرهم ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لان اليهود قد كان لهم شرع، وكان فيه تكاليف شاقة، بخلاف غير اليهود من العرب والفرس وغيرهم، ولذلك أضاف الله الإصر إلى ضميرهم، ووصف الأغلال بما فيه ضميرهم، على انك إذا تأملت في حال الأمم كلهم قبل الإسلام لا تجد شرائعهم وقوانينهم وأحوالهم خالية من إصر عليهم مثل تحريم بعض الطيبات في الجاهلية، ومثل تكاليف شاقة عند النصارى والمجوس لا تتلاقى مع السماحة الفطرية، وكذلك لا تجدها خالية من رهق الجبابرة، وإذلال الرؤساء، وشدة الأقوياء على الضعفاء، وما كان يحدث بينهم من التقاتل والغارات، والتكايل في الدماء، وأكلهم أموالهم بالباطل، فارسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين من شأنه أن يخلص البشر من تلك الشدائد، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الانبياء:107] ولذلك فسرنا الوضع بما يعم النسخ وغيره، وفسرنا الأغلال بما يخالف المراد من الإصر، ولا يناكد هذا ما في أديان الجاهلية والمجوسية وغيرها من التحلل في أحكام كثيرة، فانه فساد عظيم لا يخفف وطأة ما فيها من الإصر، وهو التحلل الذي نظر إليه أبو خراش الهذلي في قوله، يعني شريعة الإسلام:
فليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
والفاء في قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} فاء الفصيحة، والمعنى: إذا كان هذا النبي كما علمتم من شهادة التوراة والإنجيل بنبوءته، ومن اتصاف شرعه بالصفة التي سمعتم، علمتم أن الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا هديه، هم المفلحون.
والقصر المستفاد من تعريف المسند ومن ضمير الفصل قصر إضافي، أي هم الذين أفلحوا أي دون من كفر به بقرينة المقام، لان مقام دعاء موسى يقتضي انه أراد المغفرة والرحمة وكتابة الحسنة في الدنيا والآخرة لكل من اتبع دينه، ولا يريد موسى شمول ذلك لمن لا يتبع الإسلام بعد مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن جرى القصر على معنى الاحتراس من الإيهام.ويجوز أن يكون القصر ادعائيا، دالا على معنى كمال صفة الفلاح للذين يتبعون النبي الأمي، ففلاح غيرهم من الأمم المفلحين الذين سبقوهم كلا فلاح، إذا نسب إلى فلاحهم، أي أن الأمة المحمدية افضل الأمم على الجملة، وانهم الذين تنالهم الرحمة الإلهية التي تسع كل شيء من شؤونهم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}

[الانبياء:107].
ومعنى {عَزَّرُوهُ} أيدوه وقووه، وذلك بإظهار ما تضمنته كتبهم من البشارة بصفاته، وصفات شريعته، وإعلان ذلك بين الناس، وذلك شيء زائد على الإيمان به.كما فعل عبد الله بن سلام، وكقول ورقة بن نوفل هذا الناموس الذي انزل على موسى، وهو أيضا مغاير للنصر، لان النصر هو الإعانة في الحرب بالسلاح، ومن اجل ذلك عطف عليه {وَنَصَرُوهُ} .
واتباع النور تمثيل للاقتداء بما جاء به القرآن: شبه حال المقتدي بهدي القرآن، بحال الساري في الليل إذا رأى نورا يلوح له اتبعه، لعلمه بانه يجد عنده منجاة من المخاوف وأضرار السير، وأجزاء هذا التمثيل استعارات، فالاتباع يصلح مستعارا للاقتداء، وهو مجاز شائع فيه، والنور يصلح مستعارا للقرآن لان الشيء الذي يعلم الحق والرشد يشبه بالنور، واحسن التمثيل ما كان صالحا لاعتبار التشبيهات المفردة في أجزائه.
والإشارة في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} للتنويه بشأنهم، وللدلالة على أن المشار إليهم بتلك الأوصاف صاروا أحر ياء بما يخبر به عنهم بعد اسم الإشارة كقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5].
وفي هذه الآية تنويه بعظيم فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، ويلحق بهم من نصر دينه بعدهم.
[158] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
هذه الجملة معترضة بين قصص بني إسرائيل، جاءت مستطردة لمناسبة ذكر الرسول الأمي، تذكيرا لبني إسرائيل بما وعد الله به موسى عليه السلام، وإيقاظا لإفهامهم بان محمدا صلى الله عليه وسلم هو مصداق الصفات التي علمها الله موسى.والخطاب بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} لجميع البشر، وضمير التكلم ضمير الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
وتأكيد الخبر بـ"إن" باعتبار أن في جملة المخاطبين منكرين ومترددين، استقصاء في إبلاغ الدعوة إليهم.

وتأكيد ضمير المخاطبين بوصف {جَمِيعاً} الدال نصا على العموم، لرفع احتمال تخصيص رسالته بغير بني إسرائيل، فان من اليهود فريقا كانوا يزعمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي، ويزعمون انه نبي العرب خاصة ولذلك لما قال رسول الله لابن صياد وهو يهودي أتشهد أنى رسول الله، قال ابن صياد: اشهد انك رسول الأميين.وقد ثبت من مذاهب اليهود مذهب فريق من يهود أصفان يدعون بالعيسوية وهم اتباع أبي عيسى الأصفهاني اليهودي القائل بان محمدا رسول الله إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل، لان اليهود فريقان: فريق يزعمون أن شريعة موسى لا تنسخ بغيرها.وفريق يزعمون أنها لا تنسخ عن بني إسرائيل، ويجوز أن يبعث رسول لغير بني إسرائيل.
وانتصب {جَمِيعاً} على الحال من الضمير المجرور، ب"إلى" وهو فعيل بمعنى مفعول أي مجموعين، ولذلك لزم الإفراد لأنه لا يطابق موصوفه.
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} نعت لاسم الجلالة، دال على الثناء.
وتقديم المجرور للقصر، أي: لا لغيره مما يعبده المشركون، فهو قصر إضافي للرد على المشركين.
وجملة {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} حال من اسم الجلالة في قوة متفردا بالإلهية، وهذا قصر حقيقي لتحقيق صفة الوحدانية، لا لقصد الرد على المشركين.
وجملة {يُحْيِي وَيُمِيتُ} حال.
والمقصود من ذكر هذه الأوصاف الثلاثة: تذكير اليهود، ووعظهم، حيث جحدوا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم، وزعموا انه لا رسول بعد موسى، واستعظموا دعوة محمد، فكانوا يعتقدون أن موسى لا يشبهه رسول، فذكروا بان الله مالك السماوات والأرض، وهو واهب الفضائل، فلا يستعظم أن يرسل رسولا ثم يرسل رسولا آخر، لان الملك بيده، وبأن الله هو الذي لا يشابهه أحد في الوهيته، فلا يكون إلهان للخلق.وأما مرتبة الرسالة فهي قابلة للتعدد، وبأن الله يحيي ويميت فكذلك هو يميت شريعة ويحيي شريعة أخرى، وإحياء الشريعة إيجادها بعد أن لم تكن: لان الأحياء حقيقته إيجاد الحياة في الموجود، ثم يحصل من هذه الصفات إبطال عقيدة المشركين بتعدد الآلهة وبإنكار الحشر.
وقد انتظم أن يفرع على هذه الصفات الثلاث الطلب الجازم بالإيمان بهذا الرسول في قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} ، والمقصود طلب الإيمان بالنبي الأمي لأنه

الذي سيق الكلام لأجله، ولكن لما صدر الأمر بخطاب جميع البشر وكان فيهم من لا يؤمن بالله، وفيهم من يؤمن بالله ولا يؤمن بالنبي الأمي، جمع بين الإيمان بالله والإيمان بالنبي الأمي في طلب واحد، ليكون هذا الطلب متوجها للفرق كلهم، ليجمعوا في إيمانهم بين الإيمان بالله والنبي الأمي، مع قضاء حق التأدب مع الله بجعل الإيمان به مقدما على طلب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم للإشارة إلى أن الإيمان بالرسول إنما هو لأجل الإيمان بالله، على نحو ما أشار إليه قوله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150]، وهذا الأسلوب نظير قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء: 171] فانهم آمنوا بالله ورسله، وإنما المقصود زيادة النهي عن اعتقاد التثليث، وهو المقصود من سياق الكلام.
والإيمان بالله الإيمان بأعظم صفاته وهي الإلهية المتضمن إياها اسم الذات، والإيمان بالرسول الإيمان بأخص صفاته وهو الرسالة، وذلك معلوم من إناطة الإيمان بوصف الرسول دون اسمه العلم.
وفي قوله: {وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} التفات من التكلم إلى الغيبة لقصد إعلان تحقق الصفة الموعود بها في التوراة في شخص محمد صلى الله عليه وسلم.
ووصف النبي الأمي بالذي يؤمن بالله وكلماته، بطريق الموصولية للإيماء إلى وجه الأمر بالإيمان بالرسول، وانه لا معذرة لمن لا يؤمن به من أهل الكتاب، لأن هذا الرسول يؤمن بالله وبكلمات الله، فقد اندرج في الإيمان به الإيمان بسائر الأديان الإلهية الحق.وهذا نظير قوله تعالى، في تفضيل المسلمين {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 119] وتقدم معنى الأمي قريبا.
وكلمات جمع كلمة بمعنى الكلام مثل قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] أي قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99, 100].فلكلمات الله تشمل كتبه ووحيه للرسل، وأوثر هنا التعبير بكلماته، دون كتبه، لان المقصود الإيماء إلى إيمان الرسول عليه الصلاة والسلام بأن عيسى كلمة الله، أي أثر كلمته، وهي أمر التكوين، إذ كان تكون عيسى عن غير سبب التكون المعتاد بل كان تكونه بقول الله: {كُنْ} كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فاقتضى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يؤمن بعيسى، أي

بكونه رسولا من الله، وذلك قطع لمعذرة النصارى في التردد في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واقتضى أن الرسول يؤمن بأن عيسى كلمة الله، وليس ابن الله، وفي ذلك بيان للإيمان الحق، ورد على اليهود فيما نسبوه إليه، ورد على النصارى فيما غلوا فيه.
والقول في معنى الاتباع تقدم، وكذلك القول في نحو {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
[159] {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى} عطف على قوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً} [الأعراف: 148] الآية، فهذا تخصيص لظاهر العموم الذي في قوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى} قصد به الاحتراس لئلا يتوهم أن ذلك قد عمله قوم موسى كلهم، وللتنبيه على دفع هذا التوهم قدم {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى} [الأعراف: 148] على متعلقه.
وقوم موسى هم أتباع دينه من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فمن بقي متمسكا بدين موسى، بعد بلوغ دعوة الإسلام إليه، فليس من قوم موسى، ولكن يقال هو من بني إسرائيل أو من اليهود، لأن الإضافة في {قَوْمِ مُوسَى} تؤذن بأنهم متبعو دينه الذي من جملة أصوله ترقب مجيء الرسول الأمي صلى الله عليه وسلم.
و {أُمَّةً} : جماعة كثيرة متفقة في عمل يجمعها، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {أُمَّةً وَاحِدَةً} في سورة البقرة [213]، والمراد أن منهم في كل زمان قبل الإسلام.
و {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} أي يهدون الناس من بني إسرائيل أو من غيرهم ببث فضائل الدين الإلهي، وهو الذي سماه الله بالحق ويعدلون أي يحكمون حكما لا جور فيه.
وتقديم المجرور في قوله: {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} للاهتمام به ولرعاية الفاصلة، إذ لا مقتضي لإرادة القصر، بقرينة قوله: {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} حيث لم يقدم المجرور، والمعنى: انهم يحكمون بالعدل على بصيرة وعلم، وليس بمجرد مصادفة الحق عن جهل، فإن القاضي الجاهل إذا قضى بغير علم كان أحد القاضيين اللذين في النار، ولو صادف الحق.لأنه بجهله قد استخف بحقوق الناس ولا تنفعه مصادفة الحق لأن تلك المصادفة لا عمل له فيها.
[160] {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ

مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً}
عطف على قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} إلخ، فان ذلك التقطيع وقع في الأمة الذين يهدون بالحق.
والتقطيع شدة في القطع وهو التفريق، والمراد به التقسيم، وليس المراد بهذا الخبر الذم، ولا بالتقطيع العقاب.لأن ذلك التقطيع منة من الله، وهو من محاسن سياسة الشريعة الموسوية، ومن مقدمات نظام الجماعة كما فصله السفر الرابع، وهو سفر عدد بني إسرائيل وتقسيمهم، وهو نظير ما فعل عمر بن الخطاب من تدوين الديوان، وهم كانوا منتسبين إلى أسباط اسحاق، ولكنهم لم يكونوا مقسمين عشائر لما كانوا في مصر، ولما اجتازوا البحر، فكان التقسيم بعد اجتيازهم البحر الأحمر، وقبل انفجار العيون، وهو ظاهر القرآن في سورة البقرة وفي هذه السورة لقوله فيهما: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} وذكره هنا الاستسقاء عقب الانقسام إلى اثنتي عشرة أمة، وذلك ضروري أن يكون قبل الاستسقاء، لأنه لو وقع السقي قبل التقسيم لحصل من التزاحم على الماء ما يفضي إلى الضر بالقوم، وظاهر التوراة انهم لما مروا بحوريب، وجاء شعيب للقاء موسى: أن شعيبا أشار على موسى أن يقيم لهم رؤساء ألوف، ورؤساء مئات، ورؤساء خماسين، ورؤساء عشرات، حسب الإصحاح 18 من الخروج، وذلك يقتضي أن الأمة كانت منتسبة قبائل من قبل، ليسهل وضع الرؤساء على الأعداد، ووقع في السنة الثانية من خروجهم أن الله أمر موسى أن يحصي جميع بني إسرائيل، وان موسى وهارون جمعا جميع بني إسرائيل فانتسبوا إلى عشائرهم وبيوت آبائهم، كما في الإصحاح الأول من سفر العدد، وتقدم ذكر الأسباط عند قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} في سورة البقرة [136].
وجيء باسم العدد بصيغة التأنيث في قوله: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} لأن السبط أطلق هنا على الأمة فحذف تمييز العدد لدلالة قوله: {أُمَماً} عليه.
و {أَسْبَاطاً} حال من الضمير المنصوب في {وَقَطَّعْنَاهُمُ} ولا يجوز كونه تمييزا لأن تمييز اثنتي عشرة ونحوه لا يكون إلا مفردا.
وقوله: {أُمَماً} بدل من {أَسْبَاطاً} أو من {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} وعدل عن جعل أحد الحالين

تمييزا في الكلام إيجازا وتنبيها على قصد المنة بكونهم أمما من آباء اخوة، وان كل سبط من أولئك قد صار أمة قال تعالى {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] مع ما يذكر به لفظ أسباط من تفضيلهم لأن الأسباط أسباط إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}
هذا مظهر من مظاهر حكمة تقسيمهم إلى اثني عشر سبطا ولم يعطف هذا الخبر بالفاء لإفادة أنه منة مستقلة.
وتفسير هذه الآية مضى في مشابهتها عند قوله: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} في سورة البقرة [60].
و {فَانْبَجَسَتْ} مطاوع بجس إذا شق.والتعقيب الذي دلت عليه الفاء تعقيب مجازي تشبيها لقصر المهلة بالتعقيب ونظائره كثيرة في القرآن ومنه ما وقع في خبز الشرب إلى أم زرع قولها فلقي امرأة معها ولدان كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين فطلقني ونكحها إذ التقدير فأعجبته فطلقني ونكحها.
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
ضمائر الغيبة راجعة إلى قوم موسى، وهذه الآية نظير ما في سورة البقرة سوى اختلاف بضميري الغيبة هنا وضميري الخطاب هناك لأن ما هنالك قصد به التوبيخ.
وقد أسند فعل {قيل} في قوله: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} [الأعراف: 161] إلى المجهول وأسند في سورة البقرة إلى ضمير الجلالة {وَإِذْ قُلْنَا} لظهور أن هذا القول لا يصدر إلا من الله تعالى.
[162,161] {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزَيِدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68