كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

الولي، وهو الناصر ومتولي تدبير ما أضيف إليه، وهو هنا كناية عن الرؤوف والميسر، كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
وعطف عليها جملة {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي العليم بما يصلحكم فيحملكم على الصواب والرشد والسداد وهو الحكيم فيما يشرعه، أي يجري أحكامه على الحكمة. وهي إعطاء الأفعال ما تقتضيه حقائقها دون الأوهام والتخيلات.
واختلف فقهاء الإسلام فيمن حرم على نفسه شيئا مما أحل الله له على أقوال كثيرة أنهاها القرطبي إلى ثمانية عشر قولا وبعضها متداخل في بعض باختلاف الشروط والنيات فيؤول إلى سبعة.
أحدها: لا يلزمه شيء سواء كان المحرم زوجا أو غيرها. وهو قول الشعبي ومسروق وربيعة من التابعين وقاله أصبغ بن الفرج من أصحاب مالك.
الثاني: تجب كفارة مثل كفارة اليمين. وروى عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير، وبه قال الأوزاعي والشافعي في أحد قوليه. وهذا جار على ظاهر الآية من قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} .
الثالث: لا يلزمه في غير الزوجة وأما الزوجة فقيل: إن كان دخل بها كان التحريم ثلاثا، وإن لم يدخل بها ينو فيما أراد وهو قول الحسن والحكم ومالك في المشهور. وقيل هي ثلاث تطليقات دخل بها أم لم يدخل. ونسب إلى علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة. وقاله ابن أبي ليلى وهو عن عبد الملك بن الماجشون في المبسوط. وقيل طلقة بائنة. ونسب إلى زيد بن ثابت وحماد بن سليمان ونسبه ابن خويز منداد إلى مالك وهو غير المشهور عنه. وقيل طلقة رجعية في الزوجة مطلقا، ونسب إلى عمر بن الخطاب فيكون قيدا لما روي عنه في القول الثاني. وقاله الزهري وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماحشون، وقال الشافعي يعني في أحد قوليه إن نوى الطلاق فعليه ما نوى من أعداده وإلا فهي واحدة رجعية. وقيل: هي ثلاث في المدخول بها وواحدة في التي لم يدخل بها دون تنوية.
الرابع: قال أبو حنيفة وأصحابه إن نوى بالحرام الظهار كان ما نوى فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن يكون نوى الثلاث. وإن لم ينو شيئا كانت يمينا وعليه كفارة فإن أباها كان موليا.

وتحريم النبي صلى الله عليه وسلم سريته مارية على نفسه هو أيضا من قبيل تحريم أحد شيئا مما أحل الله له غير الزوجة لأن مارية لم تكن زوجة له بل هي مملوكته فحكم قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} جار في قضية تحريم مارية بيمين أو بغير يمين بلا فرق. و {تحلة} تفعلة من حلل جعل الفعل حلالا. واصله تحللة فأدغم اللامان وهو مصدر سماعي لأن الهاء في آخره ليست بقياس إذ لم يحذف منه حرف حتى يعوض عنه الهاء مثل تزكية ولكنه كثير في الكلام مثل تعلة.
[3] {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} .
هذا تذكير وموعظة بما جرى في خلال تينك الحادثتين ثني إليه عنان الكلام بعد أن قضي ما يهم من التشريع للنبي صلى الله عليه وسلم بما حرم على نفسه من جرائهما.
وهو معطوف على جملة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] بتقدير واذكر.
وقد أعيد ما دلت عليه الآية السابقة ضمنا بما تضمنته هذه الآية بأسلوب آخر ليبنى عليه ما فيه من عبر ومواعظ وأدب، ومكارم وتنبيه وتحذير.
فاشتملت هذه الآيات على عشرين من معاني ذلك إحداها ما تضمنه قوله: {إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} .
الثاني: قوله {فلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} .
الثالث: {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} .
الرابع: {عَرَّفَ بَعْضَهُ}.
الخامس: {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ}.
السادس: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا}
السابع: {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}.
الثامن والتاسع والعاشر: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} إلى {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم:4].
الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر: {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ} [التحريم:4].

الرابع عشر والخامس عشر: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً} [التحريم:5].
السادس عشر: {خَيْراً مِنْكُنَّ} [التحريم:5].
السابع عشر: {مُسْلِمَاتٍ} الخ. [التحريم:5]
الثامن عشر: {سَائِحَاتٍ} . [التحريم:5]
التاسع عشر: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم:5]، ويتأتي بيانها عند تفسير كل آية منها.
العشرون: ما في ذكر حفصة أو غيرها بعنوان {بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} دون تسميته من الاكتفاء في الملام بذكر ما تستشعر به أنها المقصودة باللوم.
وإنما نبأها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه علم إفشاءها الحديث بأمر من الله ليبني عليه الموعظة والتأديب فإن الله ما أطلعه على إفشائها إلا لغرض جليل.
و الحديث هو ما حصل من اختلاء النبي صلى الله عليه وسلم بجاريته مارية وما دار بينه وبين حفصة وقوله لحفصة "هي علي حرام ولا تخبري عائشة" وكانتا متصافيتين وأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أن حفصة أخبرت عائشة بما أسر إليها.
والواو عاطفة قصة على قصة لأن قصة إفشاء حفصة السر غير قصة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بعض ما أحل له.
ولم يختلف أهل العلم في أن التي أسر إليها النبي صلى الله عليه وسلم الحديث هي حفصة ويأتي أن التي نبأتها حفصة هي عائشة. وفي الصحيح عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما رجع ببعض الطريق قلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه? فقال: تلك حفصة وعائشة وساق القصة بطولها.
وأصل إطلاق الحديث على الكلام مجاز لأنه مشتق من الحدثان فالذي حدث هو الفعل ونحوه شاع حتى صار حقيقة في الخبر عنه وصار إطلاقه على الحادثة هو المجاز فانقلب حال وضعه واستعماله.
و {أسر} أخبر بما يراد كتمانه عن غير المخبر أو سأله عدم إفشاء شيء وقع بينهما وإن لم يكن إخبارا وذلك إذا كان الخبر أو الفعل يراد عدم فشوه فيقوله صاحبه سرا والسر ضد الجهر، قال تعالى {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [التغابن:4] فصار {أسر} يطلق

بمعنى الوصاية بعدم الإفشاء، أي عدم الإظهار قال تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف:77].
وأسر: فعل مشتق من السر فإن الهمزة فيه للجعل، أي جعله ذا سر، يقال: أسر في نفسه، إذا كنتم سره. ويقال: أسر إليه، إذا حدثه بسر فكأنه أنهاه إليه، ويقال: أسر له إذا أسر أمرا لأجله، وذلك في إضمار الشر غالبا وأسر بكذا، أي أخبر بخبر سر، إذا وضع شيئا خفيا. وفي المثل يسر حسوا في ارتغاء.
و {بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} هي حفصة بنت عمر بن الخطاب. وعدل عن ذكر اسمها ترفعا عن أن يكون القصد معرفة الأعيان وإنما المراد العلم بمغزى القصة وما غيها مما يجتنب مثله أو يقتدى به. وكذلك طي تعيين المنبأة بالحديث وهي عائشة.
وذكرت حفصة بعنوان أزواجه للإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع سره في موضعه لأن أولى الناس بمعرفة سر الرجل زوجه. وفي ذلك تعريض بملامها على إفشاء سره لأن واجب المرأة أن تحفظ سر زوجها إذا أمرها بحفظه أو كان مثله مما يحب حفظه.
وهذا المعنى الأول من المعاني التهذيبية التي ذكرناها آنفا.
ونبأ: بالتضعيف مرادف أنبأ بالهمز ومعناهما: أخبر، وقد جمعهما قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} .
وقد قيل: السر أمانة، أي وإفشاؤه خيانة.
وفي حديث أم زرع من آدابهم العربية القديمة قالت الحادية عشرة: جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنفث ميرثنا تنفيثا.
وكلام الحكماء والشعراء في السر وحفظه أكثر من أن يحصى. وهو المعنى الثاني من المعاني التهذيبية التي ذكرناها.
ومعنى {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أطلعه عليه وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب.
استعير الإظهار إلى الإطلاع لأن اطلاع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على السر الذي بين حفصة وعائشة كان غلبة له عليهما فيما دبرتاه فشبهت الحالة الخاصة من تآمر حفصة وعائشة على معرفة سر النبي صلى الله عليه وسلم ومن علمه بذلك بحال من يغالب غيره فيغلبه الغير ويكشف أمره. فالإظهار هنا من الظهور بمعنى الانتصار. وليس هو من الظهور ضد الخفاء، لأنه لا

يتعدى بحرف {على} .
وضمير {عليه} عائد على الإنباء المأخوذ من {نَبَّأَتْ بِهِ} أو على الحديث بتقدير مضاف يدل عليه قوله: {نَبَّأَتْ بِهِ} تقديره: أظهره الله على إفشائه.
وهذا تنبيه إلى عناية الله برسوله صلى الله عليه وسلم وانتصاره له لأن إطلاعه على ما لا علم له به مما يهمه، عناية ونصح له.
وهذا حاصل المعنى الثالث من المعاني التي اشتملت عليها الآيات وذكرناها آنفا.
ومفعول {عرف} الأول محذوف لدلالة الكلام عليه، أي عرفها بعضه، أي بعض ما أطلعه الله عليه، وأعرض عن تعريفها ببعضه. و الحديث يحتوي على أشياء: اختلاء النبي بسريته مارية، وتحريمها على نفسه، وتناوله العسل في بيت زينب، وتحريمه العودة إلى مثل ذلك، وربما قد تخلل ذلك كلام في وصف عثور حفصة على ذلك بغتة، أو في التطاول بأنها استطاعت أن تريهن من ميله إلى مارية. وإنما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليوقفها على مخالفتها واجب الأدب من حفظ سر زوجها.
وهذا هو المعنى الرابع من المعاني التي سبقت إشارتي إليها.
وإعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعريف زوجه ببعض الحديث الذي أفشته من كرم خلقه صلى الله عليه وسلم في معاتبة المفشية وتأديبها إذ يحصل المقصود بأن يعلم بعض ما أفشته فتوقن أن الله يغار عليه.
قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الحسن: ما استقصى كريم قط، وما زاد على المقصود يقلب العتاب من عتاب إلى تقريع.
وهذا المعنى الخامس من مقاصد ذكر هذا الحديث كما أشرنا إليه آنفا.
وقولها: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} يدل على ثقتها بأن عائشة لا تفشي سرها وعلمت أنه لا قبل للرسول صلى الله عليه وسلم بعلم ذلك إلا من قبل عائشة أو من طريق الوحي فرامت التحقق من أحد الاحتمالين.
والاستفهام حقيقي ولك أن تجعله للتعجيب من علمه بذلك.
وفي هذا كفاية من تيقظها بأن إفشاءها سر زوجها زلة خلقية عظيمة حجبها عن مراعاتها شدة الصفاء لعائشة وفرط إعجابها بتحريم مارية لأجلها، فلم تتمالك عن أن تبشر

به خليلتها ونصيرتها ولو تذكرت لتبين لها أن مقتضى كتم سر زوجها أقوى من مقتضى إعلامها خليلتها فإن أواصر الزوجية أقوى من أواصر الخلة وواجب الإخلاص لرسول الله أعلى من فضيلة الإخلاص للخلائل.
وهذا هو الأدب السادس من معاني الآداب التي اشتملت عليها القصة وأجملنا ذكرها آنفا.
وإيثار وصفي {الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} هنا دون الاسم العلم لما فيهما من التذكير بما يجب أن يعلمه الناس من أحاطه الله تعالى علما وخبرا بكل شيء.
و {العليم} : القوي العلم وهو في أسمائه تعالى دال على أكمل العلم، أي العلم المحيط بكل معلوم.
و {الخبير} : أخص من العليم لأنه مشتق من خبير الشيء إذا أحاط بمعانيه ودخائله ولذلك يقال خبرته، أي بلوته وتطلعت بواطن أمره، قال ابن برحان بضم الموحدة وبجيم مشددة في شرح الأسماء: الفرق بين الخبر والعلم وسائر الأشياء الدالة على صفة العلم أن تتعرف حصول الفائدة من وجه وأضف ذلك إلى تلك الصفة وسم الفائدة بذلك الوجه الذي عنه حصلت فمتى حصلت من موضع الحضور سميت مشاهدة والمتصف بها هو الشاهد والشهيد. وكذلك إن حصلت من وجه سمع أو بصر فالمتصف بها سميع وبصير. وكذلك إن حصلت من علم أو علامة فهو العلم والمتصف به العالم والعليم، وإن حصلت عن استكشاف ظاهر المخبور عن باطنه ببلوى أو امتحان أو تجربة أو تبليغ فهو الخبر. والمسمى به الخبير اهـ. وقال الغزالي في المقصد الأسنى: العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيرا اهـ.
فيتضح أن اتباع وصف {العليم} بوصف {الخبير} إيماء إلى أن الله علم دخيلة المخاطبة وما قصدته من إفشاء السر للأخرى.
وقد حصل من هذا الجواب تعليمها بأن الله يطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما غاب إن شاء قال تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26،27] وتنبيها على ما أبطنته من الأمر.
وهو الأدب السابع مع آداب هذه الآيات.
واعلم أن نبأ وأنبأ مترادفان وهما بمعنى أخبر وأن حقهما التعدية إلى مفعول واحد

لأجل ما فيهما من همزة تعدية أو تضعيف. وإن كان لم يسمع فعل مجرد لهما وهو مما أميت في كلامهم استغناء بفعل علم. والأكثر أن يتعديا إلى ما زاد على المفعول بحرف جر نحو: نبأت به. وقد يحذف حرف الجر فيعديان إلى مفعولين، كقوله هنا {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} أي بهذا، وقول الفرزدق:
نبئت عبد الله بالجو أصبحت ... كراما مواليها لآما ما صميمها
حمله سيبويه على حذف الحرف.
وقد يضمنان معنى: اعلم، فيعديان إلى ثلاثة مفاعيل كقول النابغة:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ... يهدي إلي غرائب الأشعار
ولكثرة هذا الاستعمال ظن أنه معنى لهما وأغفل التضمين فنسب إلحاقهما ب{اعلم} إلى سيبويه والفارسي والجرجاني وألحق الفراء خبر وأخبر، وألحق الكوفيون حدث.
قال زكريا الأنصاري: لم تسمع تعديتها إلى ثلاثة في كلام العرب إلا إذا كانت مبنية إلى المجهول.
وقرأ الجمهور {عرف} بالتشديد. وقرأه الكسائي {عرف} بتخفيف الراء، أي علم بعضه وذلك كناية عن المجازاة، أي جازى عن بعضه التي أفشته باللوم أو بالطلاق على رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ولم يصح وقد يكنى عن التوعد بفعل العلم. ونحوه كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء:63]. وقول العرب للمسيء: لأعرفن لك هذا. وقولك: لقد عرفت ما صنعت.
[4] {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} .
التفات من ذكر القصتين إلى موعظة من تعلقت بهما فهو استئناف خطاب وجهة الله إلى حفصة وعائشة لأن إنباء النبي صلى الله عليه وسلم بعلمه بما أفشته القصد منه الموعظة والتحذير والإرشاد إلى رأب ما انثلم من واجبها نحو زوجها. وإذ قد كان ذلك إثما لأنه إضاعة لحقوق الزوج وخاصة بإفشاء سره ذكرها بواجب التوبة منه.
وخطاب التثنية عائد إلى المنبئة والمنأبة فأما المنبئة فمعادها مذكور في الكلام بقوله: {إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} [التحريم:3].

وأما المنبأة فمعادها ضمني لأن فعل {نبأت} [التحريم:3] يقتضيه فأما المنبئة فأمرها بالتوبة ظاهر. وأما المذاع إليها فلأنها شريكة لها في تلقي الخبر السر ولأن المذيعة ما أذاعت به إليها إلا لعلمها بأنها ترغب في تطلع مثل ذلك فهاتان موعظتان لمذيع السر ومشاركة المذاع إليه في ذلك وكان عليها أن تنهاها عن ذلك أو أن تخبر زوجها بما أذاعته عنه ضرتها.
و {صغت} : مالت، أي مالت إلى الخير وحق المعاشرة مع الزوج، ومنه سمي سماع الكلام إصغاء لأن المستمع يميل سمعه إلى من يكلمه، وتقدم عند قوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} في سورة الأنعام[113]. وفيه إيماء إلى أن فيما فعلتاه انحرافا عن أدب المعاشرة الذي أمر الله به وأن عليهما أن تتوبا مما صنعتاه ليقع بذلك صلاح ما فسد من قلوبهما.
وهذان الأدبان الثامن والتاسع من الآداب التي اشتملت عليها هذه الآيات.
والتوبة: الندم على الذنب، والعزم على عدم العودة إليه وسيأتي الكلام عليها في هذه السورة.
وإذ كان المخاطب مثنى كانت صيغة الجمع في قلوب مستعملة في الاثنين طلبا لخفة اللفظ عند إضافته إلى ضمير المثنى كراهية اجتماع مثنيين فإن صيغة التثنية تقيلة لقلة دورانها في الكلام. فلما أمن اللبس ساغ التعبير بصيغة الجمع عن التثنية.
وهذا استعمال للعرب غير جار على القياس. وذلك في كل اسم مثنى أضيف إلى اسم مثنى فإن المضاف يصير جمعا كما في هذه الآية وقول خطام المجاشعي:
ومهمهين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين
وأكثر استعمال العرب وأفصحه في ذلك أن يعبروا بلفظ الجمع مضافا إلى اسم المثنى لأن صيغة الجمع قد تطلق على الاثنين في الكلام فهما يتعاوران. ويقل أن يؤتى بلفظ المفرد مضافا إلى الاسم المثنى. وقال ابن عصفور: هو مقصور على السماع.
وذكر له أبو حيان ساهدا قول الشاعر:
حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها
وفي التسهيل ترجيح التعبير عن المثنى المضاف إلى مثنى باسم مفرد، على

التعبير عنه بلفظ المثنى. وقال أبو حيان في البحر المحيط إن ابن مالك غلط في ذلك. قلت: وزعم الجاحظ في كتاب البيان والتبيين ، أن قول القائل اشتر رأس كبشين يريد رأسي كبشين خطأ. قال: لأن ذلك لا يكون اهـ. وذلك يؤيد قول ابن عصفور بأن التعبير عن المضاف المثنى بلفظ الإفراد مقصور على السماع، أي فلا يصار إليه. وقيد الزمخشري في المفصل هذا التعبير بقيد أن لا يكون اللفظان متصلين. فقال: ويجعل الاثنان على لفظ جمع إذا كانا متصلين كقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ولم يقولوا في المنفصلين: أفراسهما ولا غلمانهما. وقد جاء وضعت رحالهما. فخالف إطلاق ابن مالك في التسهيل وطريقة صاحب المفصل أظهر.
وقوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} هو ضد {إِنْ تَتُوبَا} أي وإن تصرا على العود إلى تألبكما عليه فإن الله مولاه الخ.
والمظاهرة: التعاون، يقال: ظاهره، أي أيده وأعانه. قال تعالى: {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً} في سورة براءة [4]. ولعل أفعال المظاهر ووصف ظهير كلها مشتقة من الاسم الجامد، وهو الظهر لأن المعين والمؤيد كأنه يشد ظهر من يعينه ولذلك لم يسمع لهذه الأفعال الفرعية والأوصاف المتفرعة عنها فعل مجرد. وقريب من هذا فعل عضد لأنهم قالوا: شد عضده.
وأصل {تظاهرا} تتظاهرا فقلبت التاء ظاء لقرب مخرجيها وأدغمت في ظاء الكلمة وهي قراءة الجمهور. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي {تظاهرا} بتخفيف الظاء على حذف إحدى التاءين للتخفيف.
{وصالح} مفرد أريد به معنى الفريق الصالح أو الجنس الصالح من المؤمنين كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ} [الحديد:26]. والمراد ب {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} المؤمنون الخالصون من النفاق والتردد.
وجملة {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} قائمة من مقام جواب الشرط معنى لأنها تفيد معنى يتولى جزاءكما على المظاهرة عليه، لأن الله مول اهـ. وفي هذا الحذف مجال تذهب فيه نفس السامع كل مذهب من التهويل.
وضمير الفصل في قوله {هُوَ مَوْلاهُ} يفيد القصر على تقدير حصول الشرط، أي إن تظاهرتما متناصرتين عليه فإن الله هو ناصره لا أنتما، أي وبطل نصركما الذي هو

واجبكما إذ أخللتما به على هذا التقدير. وفي هذا تعريف بأن الله ناصر رسوله صلى الله عليه وسلم لئلا يقع أحد من بعد في محلولة التقصير من نصره.
فهذا المعنى العاشر من معاني الموعظة والتأديب التي في هذه الآيات.
وعطف {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} في هذا المعنى تنويه بشأن رسول الوحي من الملائكة وشأن المؤمنين الصالحين. وفيه تعريض بأنهما تكونان على تقدير حصول هذا الشرط من غير الصالحين.
وهذان التنويهان هما المعنيان الحادي عشر والثاني عشر من المعاني التي سبقت إشارتي إليها.
وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} عطف جملة على التي قبلها، والمقصود منه تعظيم هذا النصر بوفرة الناصرين تنويها بمحبة أهل السماء للنبي صلى الله عليه وسلم وحسن ذكره بينهم فإن ذلك مما يزيد نصر الله إياه شأنا.
وفي الحديث "إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في أهل السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض".
فالمراد بأهل الأرض فيه المؤمنون الصالحون منهم لأن الذي يحبه الله يحبه لصلاحه والصالح لا يحبه أهل الفساد والضلال. فهذه الآية تفسيرها ذلك الحديث.
وهذا المعنى الثالث عشر من معاني التعليم التي حوتها الآيات.
وقوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} اسم الإشارة فيه للمذكور، أي بعد نصر الله وجبريل وصالح المؤمنين.
وكلمة {بعد} هنا بمعنى مع فالبعدية هنا بعدية في الذكر كقوله {عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:13].
وفائدة ذكر الملائكة بعد ذكر تأييد الله وجبريل وصالح والمؤمنين أن المذكورين قبلهم ظاهره آثار تأييدهم بوحي الله للنبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل ونصره إياه بواسطة المؤمنين فنبه الله المرأتين على تأييد آخر غير ظاهرة آثاره وهو تأييد الملائكة بالنصر في يوم بدر وغير النصر من الاستغفار في السماوات، فلا يتوهم أحد أن هذا يقتضي تفضيل نصرة

الملائكة على نصرة جبريل بله نصرة الله تعالى.
و {ظهير} وصف بمعنى المظاهر، أي المؤيد وهو مشتق من الظهر،فهو فعيل بمعنى فمفاعل مثل حكيم بمعنى محكم كما تقدم آنفا في قوله {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} ، وفعيل الذي ليس بمعنى مفعول أصله أن يطابق موصوفه في الإيراد وغيره فإن كان هنا خبرا عن الملائكة كما هو الظاهر كان إفراده على تأويل جمع الملائكة بمعنى الفوج المظاهر أو هو من إجراء فعيل الذي بمعنى فاعل مجرى فعيل بمعنى مفعول. كقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [االأعراف:56]، وقوله {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} [الفرقان:55] وقوله {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69]، وإن كان خبرا عن جبريل كان {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ} عطفا على جبريل وكان قوله {بَعْدَ ذَلِكَ} حالا من الملائكة.
وفي الجمع بين {أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} وبين {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} وبين {ظهير} تجنيسات.
[5] {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} .
ليس هذا مما يتعلق بالشرط في قوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4] بل هو كلام مستأنف عدل به إلى تذكير جميع أزواجه بالحذر من أن يضيق صدره عن تحمل أمثال هذا الصنيع فيفارقهن لتقلع المتلبسة وتحذر غيرها من مثل فعلها.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا عقبت بها جملة {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] التي أفادت التحذير من عقاب في الآخرة إن لم تتوبا مما جرى منهما في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاد هذا الإيماء إلى التحذير من عقوبة دنيوية لهم يأمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم وهي عقوبة الطلاق عليه ما يحصل من المؤاخذة في الآخرة إن لم تتوبا، ولذلك فصلت عن التي قبلها لاختلاف الغرضين.
وفي قوله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} إيجاز بحذف ما يترتب عليه إبدالهن من تقدير إن فارقكن. فالتقدير: عسى أن يطلقكن هو وإنما يطلق بإذن ربه أن يبدله ربه بأزواج خير منكن.
وفي هذا ما يشير إلى المعنى الرابع عشر والخامس عشر من معاني الموعظة

والإرشاد التي ذكرناها آنفا.
و {عسى} هنا مستعملة في التحقيق وإيثارها هنا لأن هذا التبديل مجرد فرض وليس بالواقع لأنهن لا يظن بهن عدم الارعواء عما حذرن منه، وفي قوله {خَيْراً مِنْكُنَّ} تذكير لهن بأنهن ما اكتسبن التفضيل على النساء إلا من فضل زوجهن عند الله وإجراء الأوصاف المفصلة بعد الوصف المجمل وهو {خَيْراً مِنْكُنَّ} للتنبيه على أن أصول التفضيل موجودة فيهن فيكمل اللاء يتزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم فضل على بقية النساء بأنهن صرن أزواجا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية إلى قوله {خَيْراً مِنْكُنَّ} نزلت موافقة لقول عمر لابنته حفصة رضي الله عنهما مثل هذا اللفظ وهذا من القرآن الذي نزل وفاقا لقول عمر أو رأيه تنويها بفضله. وقد وردت في حديث في الصحيحين واللفظ للبخاري عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125]، وقلت: يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله أية الحجاب. وبلغني معاتبة النبي بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت: إن انتهيتين أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن فأنزل الله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} الآية.
وهي موعظة بأن يأذن الله له بطلاقهن وأنه تصير له أزواج خير منهن.
وهذا إشارة إلى المعنى السادس عشر من مواعظ هذه الآي.
وقرأ الجمهور {أَنْ يُبْدِلَهُ} بتسديد الدال مضارع بدل. وقرأه يعقوب بتخفيف مضارع أبدل.
والمسلمات: المتصفات بالإسلام. والمؤمنات: المصدقات في نفوسهن. والقانتات: القائمات بالطاعة أحسن قيام. وتقدم القنوت في قوله تعالى: {وقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} في سورة البقرة[238]. وقوله {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} في سورة الأحزاب[31].
وفي هذا الوصف إشعار بأنهن مطيعات لله ورسوله ففيه تعريض لما وقع من تقصير إحداهن في ذلك فعاتبها الله وأيقظها للتوبة.
والتائبات: المقلعات عن الذنب إذا وقعن فيه. وفيه تعريض بإعادة التحريض على التوبة من ذنبهما التي أمرتا بها بقوله {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:4].

والعابدات: المقبلات على عبادة الله وهذه الصفات تفيد الإشارة إلى فضل هذه التقوى وهو المعنى السابع عشر من معاني العبرة في هذه الآيات.
والسائحات: المهاجرات وإنما ذكر هذا الوصف لتنبههن على أنهن إن كن يمتن بالهجرة فإن المهاجرات غيرهن كثير، والمهاجرات أفضل من غيرهن، وهذه الصفة تشير إلى المعنى الثامن عشر من معاني الاعتبار في هذه الآي.
وهذه الصفات انتصبت على أنها نعوت ل {أزواجا} ، ولم يعطف بعضها على بعض بالواو، لأجل التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن ولو عطفت بالواو لاحتمل أن تكون الواو للتقسيم، أي تقسيم الأزواج إلى من يثبت لهن بعض تلك الصفات دون بعض، ألا ترى أنه لما أريدت إفادة ثبوت إحدى صفتين دون أخرى من النعتين الواقعين بعد ذلك كيف عطف بالواو قوله {وأبكارا} لأن الثيبات لا يوصفن بأبكار. والأبكار لا يوصفن بالثيبات. قلت وفي قوله تعالى: {مسلمات} ، إلى قوله {سائحات} محسن الكلام المتزن إذ يلتثم من ذلك بيت من بحر الرمل التام:
فاعلتن فاعلتن فاعلتن ... فاعلاتن فاعلاتن فاعلتن
ووجه هذا التفصيل في الزوجات المقدرات لأن كلتا الصفتين محاسنها عند الرجال؛ فالثيب أرعى لواجبات الزوج وأميل مع أهوائه وأقوم على بيته وأحسن لعابا وأبهى زينة وأحلى غنجا.
والبكر أشد حياء وأكثر غرارة ودلا وفي ذلك مجلبة للنفس، والبكر لا تعرف رجلا قبل زوجها ففي نفوس الرجال خلق من التنافس في المرأة التي لم يسبق إليها غيرهم.
فما اعتزت واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمزية إلا وقد أنبأها الله بأن سيبدله خيرا منها في تلك المزية أيضا.
وهذا هو المعنى التاسع عشر من معاني الموعظة والتأديب في هذه الآيات.
وتقديم وصف {ثيبات} لأن أكثر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجهن كن ثيبات. ولعله إشارة إلى أن الملام الأشد موجه إلى حفصة قبل عائشة وكانت حفصة ممن تزوجهن ثيبات وعائشة هي التي تزوجها بكرا. وهذا التعريض أسلوب من أساليب التأديب كما قيل الحر تكفيه الإشارة.
وهذا هو المعنى العشرون من مغزى آداب هذه الآيات.

ومن غرائب المسائل الأدبية المتعلقة بهذه الآية أن الواو في قوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} زعمها ابن خالويه1 واوا لها استعمال خاص ولقبها بواو الثمانية بفتح المثلثة وتخفيف التحتية بعد النون وتبعه جماعة ذكروا منهم الحريري والثعلبي النيسابوري المفسر والقاضي الفاضل. أنهم استخرجوا من القرآن أن ما فيه معنى عدد ثمانية تدخل عليه واو ويظهر من الأمثلة التي مثلوا بها أنهم يعتبرون ما دل على أمر معدود بعدد كما فيه سواء كان وصفا مشتقا من عدد ثمانية أو كان ذاتا ثامنة أو كان يشتمل على ثمانية سواء كان مفردا أو كان جملة. فقد مثلوا بقوله تعالى: في سورة براء [112] {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . قالوا لم يعطف الصفات المسرودة بالواو إلا عند البلوغ إلى الصفة الثامنة وهي {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . وجعلوا من هذا القبيل آية سورة التحريم إذ لم يعطف من الصفات المبدوءة بقوله: {مسلمات} إلا الثامنة وهي {وأبكارا} ومثلوا لما فيه بوصف ثامن بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} في سورة الكهف [22]. فلم يعطف {رابعهم} ولا {سادسهم} وعطفت الجملة التي وقع فيها وصف الثامن بواو عطف الجمل. ومثلوا لما فيه كلمة ثمانية بقوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} في سورة الحاقة[7]. ومثلوا لما يشتمل على ثمانية أسماء بقوله تعالى: في سورة الزمر[73] {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ، قالوا جاءت جملة {وفتحت} هذه بالواو ولم تجيء أختها المذكورة قبلها وهي {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71]. لأن أبواب الجنة ثمانية.
وترددت كلماتهم في أن هذه الواو من صنف الواو العاطفة يمتاز عن الصنف الآخر يلزم ذكره إذا كان في المعطوف معنى الثامن أو من صنف الواو الزائدة.
وذكر الدماميني في الحواشي الهندية على المغني أنه رأى في تفسير العماد الكندي قاضي الإسكندرية المتوفى في نحو عشرين وسبعمائة نسبة القول بإثبات واو
ـــــــ
هو الحسن بن أحمد بن خالويه بن حمدان الهمذاني، قرأ ببغداد ثم سكن حلب واتصل بسيف الدولة. وتوفي بحلب سنة سبعين وثلاثمائة. ولم أقف على تعيين الموضع الذي استظهر فيه معنى واو الثمانية.

الثمانية إلى عبد الله الكفيف المالقي النحوي الغرناطي من علماء غرناطة في مدة الأمير ابن حبوس بموحدة بعد الحاء المهملة وهو باديس بن حبوس صاحب غرناطة سنة 420.
وذكر السهيلي في الروض الأنف عند الكلام على نزول سورة الكهف أنه أفراد الكلام على الواو التي يسميها بعض الناس واو الثمانية بابا طويلا ولم يبد رأيه في إثباتها ولم أقف على الموضع الذي أفرد فيه الكلام عليها. ويظهر أنه غير موافق على إثبات هذا الاستعمال لها. ومن عجب الصدف ما اتفق في هذه الآيات الأربع من مثير شبهه للذين أثبتوا هذا المعنى في معاني الواو. ومن غريب الفطنة تنبه الذي أنبأ بهذا.
وذكر ابن المنير في الانتصاف أن شيخه ابن الحاجب ذكر له أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى: {وأبكارا} وهي الواو التي سماها بعض ضعفه النحاة واو الثمانية. وكان الفاضل يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة إلى أن ذكره يوما بحضيرة أبي الجود النحوي المقري، فبين لهم أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري في دعاء اللزوم إلى الإتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع هذين الصنفين في موصوف واحد. فأنصفه الفاضل وقال: أرشدنا يا أبا الجود.
قلت: وأرى أن القاضي الفاضل تعجل التسليم لأبي الجود إذ كان له أن يقول: إنا لم نلتزم أن يكون المعدود الثامن مستقلا أو قسيما لغيره وإنما تتبعنا ما فيه إشعار بعدد ثمانية.
ونقل الطيبي والقزويني في حاشيتي الكشاف أنه روى عن صاحب الكشاف أنه قال: الواو تدخل في الثامن كقوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22]، وقوله {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73] ويسمونه واو الثمانية وهي كذلك، وليس بشيء. قال الراوي عنه وقد قال لنا عند قراءة هذا الموضع: أنسيتم واو الثمانية عند جوابي هذا أي يلومهم على إهمالهم ذلك المعنى في تلك الآية أي هو جواب حسن وذلك خطأ محض لا يجوز أن يؤخذ به اهـ.
قلت: وهذا يخالف صريح كلامه في الكشاف فلعل الراوي لم يحسن تحرير مراد صاحب الكشاف، أو لعل صاحب الكشاف لم ير منافاة بين لزوم ذكر الواوين اقتضاء المقام ذكرها بأن المعطوف بها ثامن في الذكر فإن النكت لا تتزاحم فتأمل بتدقيق.

وتقدم الكلام على واو الثمانية عند قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} الآية في سورة براءة[112]. وعند قوله: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} في سورة الكهف[22]، وتقدمت في سورة الزمر وفي سورة الحاقة.
[6] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
كانت موعظة نساء النبي صلى الله عليه وسلم مناسبة لتنبيه المؤمنين لعدم الغفلة عن موعظة أنفسهم وموعظة أهليهم وأن لا يصدهم استبقاء الود بينهم عن إسداء النصح لهم وإن كان في ذلك بعض الأذى.
وهذا نداء ثان موجه إلى المؤمنين بعد استيفاء المقصود من النداء الأول نداء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} .
وجه الخطاب إلى المؤمنين ليأتنسوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أهليهم.
وعبر عن الموعظة والتحذير بالوقاية من النار على سبيل المجاز لأن الموعظة سبب في تجنب ما يفضي إلى عذاب النار أو على سبيل الاستعارة بتشبيه الموعظة بالوقاية من النار على وجه المبالغة في الموعظة.
وتنكير {نار} للتعظيم وأجرى عليها وصف بجملة {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} زيادة في التحذير لئلا يكونوا من وقود النار. وتذكرا بحال المشركين الذي في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} في سورة الأنبياء [98]. وتفظيعا للنار إذ يكون الحجر عوضا لها عن الحطب.
ووصف النار بهذه الجملة لأن مضمون هذه الجملة قد تقرر في علم المسلمين من قبل نزول هذه الآية بما تقدم في سورة البقرة [24]من قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وبما تقدمهما معا من قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} في سورة الأنبياء [98].
و {الْحِجَارَةُ} : جمع الحجر على غير قياس فإن قياسه أحجار فجمعوه على حجار بوزن فعال وألحقوا به هاء التأنيث كما قالوا: بكارة جمع بكر، ومهارة جمع مهر.
وزيد في تهويل النار بأن عليها ملائكة غلاظا شدادا وجملة {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ} إلى

آخرها صفة ثانية.
ومعنى {عليها} أنهم موكلون بها. فالاستعلاء المفاد من حرف على مستعار للتمكن كما تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]. وفي الحديث "فلم يكن على بابه بوابون".
و {غلاظ} جمع غليظ وهو المتصف بالغلظة. وهي صفة مشبهة وفعلها مثل كرم. وهي هنا مستعارة لقساوة المعاملة كقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] أي لو كنت قاسيا لما عاشروك.
و {شداد} : جمع شديد. والشدة بكسر الشين حقيقتها قوة العمل المؤذى والموصوف بها شديد. والمعنى: أنهم أقوياء في معاملة أهل النار الذين وكلوا بهم: يقال: اشتد فلان على فلان، أي أساء معاملته، ويقال: اشتدت الحرب، واشتدت البأساء. والشدة من أسماء البؤس والجوع والقحط.
وجملة {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} ثناء عليهم أعقب به وصفهم بأنهم غلاظ شداد تعديلا لما تقتضيانه من كراهية نفوس الناس إياهم، وهذا مؤذن بأنهم مأمورون بالغلظة والشدة في تعذيب أهل النار.
وأما قوله {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فهو تصريح بمفهوم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} دعا إليه مقام الإطناب في الثناء عليهم، مع ما في هذا التصريح من استحضار الصورة البديعة في امتثالهم لما يؤمرون به. وقد عطف هذا التأكيد عطفا يقتضي المغايرة تنويها بهذه الفضيلة لأن فعل المأمور أوضح في الطاعة من عدم العصيان واعتبار لمغايرة المعنيين وإن كان قالها واحد ولك أن تجعل مرجع {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} أنهم لا يعصون فيما يكلفون به من أعمالهم الخاصة بهم ومرجع {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} إلى ما كلفوا بعمله في العصاة في جهنم.
[7 ]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
هو من قبل الملائكة الذين على النار. وذكر هذه المقالة هنا استطراد يفيد التنفير من جهنم بأنها دار أهل الكفر كما قال تعالى {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، وإلا فإن سياق الآية تحذير للمؤمنين من الموبقات في النار.

ومعنى {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مماثل {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وأفادت {إنما} قصر الجزاء على مماثلة العمل المجرى عليه قصر قلب لتنزيلهم منزلة من اعتذر وطلب أن يكون جزاؤه أهون مما شاهده.
والاعتذار: افتعال مشتق من العذر. ومادة الافتعال فيه دالة على تكلف الفعل مثل الاكتساب والاختلاق، والعذر: الحجة التي تبرئ صاحبها من تبعة عمل ما. وليس لمادة الاعتذار فعل مجرد دال على إيجاد العذر وإنما الموجود عذر بمعنى قبل العذر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} في سورة براءة [90].
[8] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .
أعيد خطاب المؤمنين وأعيد نداؤهم وهو نداء ثالث في هذه السورة. والذي قبله نداء للواعظين. وهذا نداء للموعوظين وهذا الأسلوب من أساليب الإعراض المهتم بها.
أمر المؤمنون بالتوبة من الذنوب إذا تلبسوا بها لأن ذلك من إصلاح أنفسهم بعد أن أمروا بأن يجنبوا أنفسهم وأهليهم ما يزج بهم في عذاب النار، لأن اتقاء النار يتحقق باجتناب ما يرمي بهم فيها، وقد يذهلون عما فرط من سيئاتهم فهدوا إلى سبيل التوبة التي يمحون بها ما فرط من سيئاتهم.
وهذا ناظر إلى ما ذكر من موعظة امرأتي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:4].
والتوبة: العزم على عدم العود إلى العصيان مع الندم على ما فرط منه فيما مضى. وتقدمت عند قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} في سورة البقرة [37]. وفي مواضع أخرى وخاصة عند قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} في سورة النساء[17]. وتعديتها بحرف إلى لأنها في معنى الرجوع لأن تاب أخو ثاب.

والنصوح: ذو النصح.
والنصح: الإخلاص في العمل. والقول، أي الصدق في إرادة النفع بذلك. ووصف التوبة بالنصوح مجاز جعلت التوبة التي لا تردد فيها ولا تخالطها نية العودة إلى العمل المتوب منه بمنزلة الناصح لغيره ففي "نصوح" استعارة وليس من المجاز العقلي إذ ليس المراد نصوحا صاحبها.
وإنما لم تلحق وصف "نصوح" هاء التأنيث المناسبة لتأنيث الموصوف به لأن فعولا بمعنى فاعل يلازم الإفراد والتذكير.
وقرأ الجمهور {نصوحا} بفتح النون على معنى الوصف كما علمت. وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم النون على أنه مصدر نصح مثل: القعود من قعد. وزعم الأخفش أن الضم غي معروف والقراءة حجة عليه.
ومن شروط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما وقع التفريط فيه مثل المظالم للقادر على ردها. روي عن علي رضي الله عنه يجمع التوبة سنة أشياء: الندامة على الماضي من الذنوب، وإعادة الفرائض. ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي.
وتقوم مقام رد المظالم استحلال المظلوم حتى يعفو عنه.
ومن تمام التوبة تمكين التائب من نفسه أن ينفذ عليها الحدود كالقود والضرب. قال إمام الحرمين: هذا التمكين واجب خارج عن حقيقة التوبة لأن التائب إذا ندم ونوى أن لا يعود صحت توبته عند الله وكان منعه من تمكين نفسه معصية متجددة تستدعي توبة.
وهو كلام وجيه إذ التمكين من تنفيذ ذلك يشق على النفوس مشقة عظيمة فلها عذر في الإحجام عن التمكين منه.
وتصح التوبة من ذنب دون ذنب خلافا لأبي هاشم الجبائي المعتزلي، وذلك فيما عدا التوبة من الكفر.
وأما التوبة من الكفر بالإيمان فصحيحة في غفران إثم الكفر واو بقي متلبسا ببعض الكبائر بإجماع علماء الإسلام.
والذنوب التي تجب منها التوبة هي الكبائر ابتداء، وكذلك الصغائر وتمييز الكبائر من الصغائر مسألة أخرى محلها أصول الدين وأصول الفقه والفقه.

إلا أن الله تفضل على المسلمين فغفر الصغائر لمن أجتنب الكبائر، أخذ ذلك من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وقد مضى القول فيه في تفسير سورة النجم[32].
ولو عاد التائب إلى بعض الذنوب أو جميعها ما عدا الكفر اختلف فيه علماء الأمة فالذي ذهب إليه أهل السنة أن التوبة تنتقض بالعودة إلى بعض الذنوب في خصوص الذنب المعود إليه ولا تنتقض فيما سو اهـ. وأن العود معصية تجب التوبة منها. وقال المعتزلة، تنتقض بالعودة إلى بعض الذنوب فتعود إليه ذنوبه ووافقهم الباقلاني.
وليس في أدلة الكتاب والسنة ما يشهد لأحد الفريقين.
والرجاء المستفاد من فعل {عسى} مستعمل في الوعد الصادر عن المتفضل على طريقة الاستعارة وذلك النائب لا حق له في أن يعفى عنه ما اقترفه لأن العصيان قد حصل وإنما التوبة عزم على عدم العودة إلى الذنب ولكن ما لصاحبها من الندم والخوف الذي بعث على العزم دل على زكاء النفس فجعل الله جزاءه أن يمحو عنه ما سلف من الذنوب تفضلا من الله فلذلك معنى الرجاء المستفاد من {عسى} .
وقد أجمع علماء الإسلام على أن التوبة من الكفر بالإيمان مقبولة قطعا لكثرة أدلة الكتاب والسنة، واختلفوا في تعين قبول توبة العاصي من المؤمنين، فقال جمهور أهل السنة قبولها مرحو غير مقطوع وممن قال به الباقلاني وإمام الحرمين. وعن الأشعري أنه مقطوع به سمعا والمعتزلة مقطوع به عقلا.
وتكفير السيئات: غفرانها، وهو مبالغة في كفر المخفف المتعدي الذي هو مشتق من الكفر بفتح الكاف، أي الستر.
{يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
{يوم} ظرف متعلق ب {يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ} وهو تعليق تخلص إلى الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه. وهو يوم القيامة وهذا الثناء عليهم بانتفاء خزي الله عنهم تعريض بأن الذين لم يؤمنوا معه يخزيهم الله يوم القيامة وذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع الذين آمنوا لتشريف المؤمنين ولا علاقة له بالتعريض.
والخزي: هو عذاب النار، وحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام قوله: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87] على أن انتفاء الخزي يومئذ يستلزم الكرامة إذ لا واسطة بينهما كما

أشعر به قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].
وفي صلة {الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} إيذان بأن سبب انتفاء الخزي عنهم هو إيمانهم.
ومعية المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم صحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم.
و {مع} يجوز تعلقها بمحذوف حال من {الَّذِينَ آمَنُوا} أي حال كونهم مع الشيء في انتفاء خزي الله عنهم فيكون عموم {الَّذِينَ آمَنُوا} مخصوصا بغير الذين يتحقق فيهم خزي الكفر وهم الذين ارتدوا وماتوا على الكفر.
وفي هذه الآية دليل على المغفرة لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجوز تعلق "مع" بفعل {آمنوا} أي الذين آمنوا به وصحبوه، فيكون مرادا به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به ولم يرتدوا بعده، فتكون الآية مؤذنة مفصلة للصحابة.
وضمير {نورهم} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه.
وإضافة نور إلى ضمير هم مع أنه لم يسبق إخبار عنهم بنور لهم ليست إضافة تعريف إذ ليس المقصود تعريف النور وتعيينه ولكن الإضافة مستعملة هنا في لازم معناها وهو اختصاص النور بهم في ذلك اليوم بحيث يميزه الناس من بين الأنوار يومئذ.
وسعي النور: امتداده وانتشاره. شبه ذلك باشتداد مشي الماشي وذلك أنه يحف بهم حيثما انتقلوا تنويها بشأنهم كما تنشر الأعلام بين يدي الأمير والقائد وكما تساق الجياد بين يدي الخليفة.
وإنما خص بالذكر من الجهات الأمام واليمين لأن النور إذا كان بين أيديهم تمتعوا بمشاهدته وشعروا بأنه كرامة لهم ولأن الأيدي هي التي تمسك بها الأمور النفيسة وبها بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإيمان والنصر. وهذا النور نور حقيقي يجعله الله للمؤمنين يوم القيامة. والباء للملابسة، ويجوز أن تكون بمعنى عن.
وقد تقدم نظير هذا في سورة الحديد وما ذكرناه هنا أوسع.
وجملة {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} إلى آخرها حال من ضمير {نورهم} ، وظاهرة أن يكون حالا مقارنة، أي يقولون ذلك في ذلك اليوم، ودعاؤهم طلب للزيادة من ذلك النور، فيكون ضمير {يقولون} عائد إلى جميع الذين آمنوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، أو يقول ذلك من كان نوره أقل من نور غيره ممن هو أفضل منه يومئذ فيكون ضمير {يقولون} على

إرادة التوزيع على طوائف الذين آمنوا في ذلك اليوم.
وإتمام النور إدامته أو الزيادة منه على الوجهين المذكورين آنفا وكذلك الدعاء بطلب المغفرة لهم هو لطلب دوام المغفرة، وذلك كله أدب مع الله وتواضع له مثل ما قبل في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم سبعين مرة.
ويظهر بذلك وجه التذييل بقولهم {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} المشعر بتعليل الدعاء كناية عن رجاء إجابته لهم.
[9] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
لما أبلغ الكفار ما سيحل بهم في الآخرة تصريحا بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم:7] وتعريضا بقوله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:8]، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بمسمع منهم بأن يجاهدهم ويجاهد المستترين لكفرهم بظاهر الإيمان نفاقا، حتى إذا لم تؤثر فيهم الموعظة بعقاب الآخرة يخشون أن يسلط عليهم عذاب السيف في العاجلة فيقلعوا عن الكفر فيصلح نفوسهم وإنما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك لأن الكفار تألبوا مع المنافقين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذوهم عيونا لهم وأيدي يدسون بها الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
فهذا نداء ثان للنبي صلى الله عليه وسلم يأمره بإقامة صلاح عموم الأمة بتطهيرها من الخبثاء بعد أن أمره بإفاقة من عليهما الغفلة عن شيء من واجب حسن المعاشرة مع الزوج.
وجهاد الكفر ظاهر، وأما عطف {المنافقين} على {الكفار} المفعول ل {جاهد} فيقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بجهاد المنافقين وكان حال المنافقين ملتبسا إذ لم يكن أحد من المنافقين معلنا بالكفر ولا شهد على أحد منهم بذلك ولم يعين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم منافقا يوقن بنفاقه وكفره أو أطلعه خاصا ولم يأمره بإعلانه بين المسلمين كما يؤخذ ذلك من أخبار كثيرة في الآثار.
فتعين تأويل عطف {المنافقين} على {الكفار} إما بأن يكون فعل {جاهد} مستعملا في حقيقته ومجازة وهما الجهاد بالسيف والجهاد بإقامة الحجة والتعريض للمنافق بنفاقه فإن ذلك يطلق عليه الجهاد مجازا كما في قوله صلى الله عليه وسلم "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى

الجهاد الأكبر"، وقوله للذي سأله الجهاد فقال له: "ألك أبوان"? قال: نعم: "ففيهما فجاهد".
وعندي أن الأقرب في تأويل هذا العطف أن يكون المراد منه إلقاء الرعب في قلوب المنافقين ليشعروا بأن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالمرصاد منهم فلو بدت من أحدهم بادرة يعلم منها نفاقه عومل معاملة الكافر في الجهاد بالقتل والأسر فيحذروا ويكفوا عن الكيد للمسلمين خشية الإفضاح فتكون هذه الآية من قبيل قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:60،61].
والغلظة: حقيقتها صلابة الشيء وهي مستعارة هنا للمعاملة بالشدة بدون عفو ولا تسامح، أي كن غليظا، أي شديدا في إقامة ما أمر الله به أمثالهم. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} في سورة براءة[123]، وقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ} في سورة آل عمران [159].
والماوى: المسكن، وهو مفعل من أوى إذا رجع لأن الإنسان يرجع إلى مسكنه.
[10] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} .
أعقب جملة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم:9] الآية المقصود منها تهديدهم بعذاب السيف في الدنيا وإنذارهم بعذاب الآخرة وما قارن ذلك من مقابلة حالهم بحال المؤمنين، بأن ضرب مثلين للفريقين بنظرين في حاليهما لتزداد الموعظة وضوحا ويزداد التنويه بالمؤمنين استنارة. وقد تقدمت فائدة ذكر الأمثال في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} في سورة البقرة [17].
وضرب المثل: إلقاؤه وإيضاحه، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة[26].
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا. وهذا المثل لا يخلوا من تعريض بحث زوجي النبي صلى الله عليه وسلم على طاعته وبأن رضى الله تعالى يتبع رضى رسله. فقد كان الحديث عن

زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم قريبا وكان عملهما ما فيه بارقة من مخالفة، وكان في المثلين ما فيه إشعار بالحالين.
وتعدية ضرب اللام الدال على العلة تفيد أن إلقاء المثل لأجل مدخولا اللام. فمعنى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أنه ألقى هذا التنظير لأجلهم، أي اعتبارهم بهم وقياس حالهم على حال المثل به، فإذا قيل: ضرب لفلان مثلا، كان المعنى: أنه قصده به وأعلمه إياه، كقوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً} [الزخرف:58] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم:58]. ونحو ذلك وتقديم المجرور باللام على المفعولين للاهتمام بإيقاظ الذين كفروا.
فمعنى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} ، أن الله جعل حالة هاتين المرأتين عظة وتنبيها للذين كفروا، أي ليذكرهم بأن الله لا يصرفه عن وعيده صارف فلا يحبسوا أن لهم شفعاء عند الله، ولا أن مكانهم من جوار بينه وعمارة مسجده وسقاية حجيجه تصرف غضب الله عنهم، فإن هم أقلعوا عن هذا الحسبان أقبلوا على التدبر في النجاة من وعيد بالنظر في دلائل دعوة القرآن وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فلو كان صارف يصرف الله عن غضبه لكان أولى الأشياء بذلك مكانة هاتين المرأتين من زوجيها رسولي رب العالمين.
ومناسبة ضرب المثل بامرأة لوط دون غيرها من قرابة الأنبياء نحو أبي إبراهيم وابن نوح عليهما السلام لأن ذكر هاتين المرأتين لم يتقدم. وقد تقدم ذكر أبي إبراهيم وابن نوح، لتكون في ذكرهما فائدة مستجدة، وليكون في ذكرهما عقب ما سبق من تملوء أمي المؤمنين على زوجها صلى الله عليه وسلم تعريض لطيف بالتحذير من خاطر الاعتزاز بغناء الصلة الشريفة عنهما في الوفاء بحق ما يجب من الإخلاص للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون الشبه في التمثيل وأقوى. فعن مقاتل يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم. ووضحه في الكشاف بأنه من قبيل التعريض. ومنعه الفخر، وقال ابن عطية: قال بعض الناس في المثلين عبرة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم حين تقدم عتابهن. وفي هذا بعد لأن النص أنه للكفار يبعد هذا اهـ.
ويدفع استبعاده أن دلالة التعريض لا تنافي اللفظ الصريح، ومن لطائف التقيد بقوله تعالى: {للَّذِينَ كَفَرُوا} أن المقصد الأصلي هو ضرب المثل للذين كفروا وذلك من الاحتراس من أن تحمل التمثيل على المشابهة من جميع الوجوه والاحتراس بكثرة

التشبيهات ومنه تجريد للاستعارة.
وقصة امرأة نوح لم تذكر في القرآن في غير هذه الآية والذي يظهر أنها خانت زوجها بعد الطوفان وأن نوحا لم يعلم بخونها لأن الله سمى عملها خيانة.
وقد ورد في سفر التكوين من التوراة ذكر امرأة نوح مع الذين ركبوا السفينة وذكر خروجها من السفينة بعد الطوفان ثم طوى ذكرها لما ذكر الله بركته نوحا وبنيه وميثاقه معهم فلم تذكر معهم زوجه. فلعلها كفرت بعد ذلك أو لعل نوحا تزوج امرأة أخرى بعد الطوفان لم تذكر في التوراة.
ووصف الله فعل امرأة نوح بخيانة زوجها، فقال المفسرون: هي خيانة في الدين، أي كانت كافرة مسرة الكفر، فلعل الكفر حدث مرة أخرى في قوم نوح بعد الطوفان ولم يذكر في القرآن.
وأما حديث امرأة لوط في القرآن مرات. وتقدم في سورة الأعراف ويقال: فلانة كانت تحت فلان، أي كانت زوجا له.
والتحتية هنا مجاز في معنى الصيانة ومنه قول أنس بن مالك في الحديث المروي في الموطأ وفي صحيح البخاري عن أم حرام بنت ملحان وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت.
ومن بدائع الأجوبة أن أحد الأمراء من الشيعة سأل أحد علماء السنة: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم? فأجابه: الذي كانت ابنته تحته فظن أنه فضل عليا إذ فهم أن الضمير المضاف إليه ابنة ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الضمير المضاف إليه تحت ضمير اسم الموصول، وإنما أراد السني العكس بأن يكون ضمير ابنته ضمير الموصول تحته ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك هو أبو بكر.
وقد ظهر أن المراد بالعبدين نوح ولوط وإنما خصا بوصف عبدين صالحين مع أن وصف النبوة من وصف الصلاح تنويها بوصف الصلاح وإيماء إلى أن النبوة صلاح ليعظم شأن الصالحين كما في قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112]. ولتكون الموعظة سارية إلى نساء المسلمين في معاملتهن أزواجهن فإن وصف النبوة قد انتهى بالنسبة للامة الإسلامية مع ما في ذلك من تهويل الأذى لعباد الله الصالحين وعناية ربهم بهم ومدافعته عنهم.

والخيانة والخون ضد الأمانة وضد الوفاء، وذلك تفريط المرء ما أوتمن عليه وما عهد به إليه. وقد جمعها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [لأنفال:27].
وانتصب {شيئا} على المفعولية المطلقة {يغنيا} لأن المعنى شيئا من الغنى، وتنكير {شيئا} للتحقير، أي عنى وأجحفه بله الغنى المهم، وتقدم في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} في سورة الجاثية [19].
وزيادة {مَعَ الدَّاخِلِينَ} لإفادة مساواتها في العذاب لغيرهما من الكفرة الخونة. وذلك تأييس من أن ينتفعا من حظوة زوجهما كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22].
[11] {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
لما ضرب المثل {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:10] أعقب بضرب مثل للذين آمنوا لتحصل المقابلة فيتضح مقصود المثلين معا، وجريا على عادة القرآن في إتباع الترهيب بالترغيب.
وجعل المثل للذين آمنوا بحال امرأتين لتحصل المقابلة للمثلين السابقين، فهذا مراعاة النظير في المثلين.
وجاء أحد المثلين للذين آمنوا لإخلاص الإيمان. والمثل الثاني لشدة التقوى.
فكانت امرأة فرعون مثلا لمتانة المؤمنين ومريم مثلا للقانتين لأن المؤمنين تبرأوا من ذوي قرابتهم الذي بقوا على الكفر بمكة.
وامرأة فرعون هذه هي امرأة فرعون الذي أرسل إليه موسى وهو منفطح الثالث وليست امرأة فرعون التي تبنت موسى حين التقطته من اليم، لأن ذلك وقع في زمن فرعون رعمسيس الثاني وكان بين الزمنين ثمانون سنة. ولم يكن عندهم علم بدين قبي أي يرسل إليهم موسى.
ولعل امرأة فرعون هذه كانت من بنات إسرائيل تزوجها فرعون فكانت مؤمنة برسالة موسى عليه السلام. وقد حكى بعض المفسرين أنها عمة موسى أو تكون هداها الله إلى الإيمان كما هدى الرجل المؤمن من آل فرعون الذي تقدم ذكره في سورة غافر.

وسماها النبي صلى الله عليه وسلم آسية في قوله: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون" رواه البخاري.
وأرادت بعمل فرعون ظلمه، أي نجني من تبعه أعماله فيكون معنى نجني {نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ} من صحبته طلبت لنفسها فرجا وهو عطف الخاص على العام.
ومعنى {قالت} أنها أعلنت به، فقد روى أن فرعون اطلع عليها وأعلن ذلك لقومه وأمر بتعذيبها فماتت في تعذيبه ولم تحس ألما.
والقوم الظالمون: هم قوم فرعون. وظلمهم: إشراكهم بالله.
والظاهر أن قولها {ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} مؤذن بأن فرعون وقومه صدوها عن الإيمان به وزينوا لها أنها آمنت بموسى تضيع ملكا عظيما وقصرا فخيما أو أن فرعون وعظها بأنها أصرت على ذلك تقتل، فلا يكون مدفنها الهرم الذي بناه فرعون لنفسه لدفنه في بادئ الملوك. ويؤيد هذا ما رواه المفسرون أن بيتها في الجنة من درة واحدة فتكون مشابهة الهرم الذي كان معدا لحفظ جثتها بعد موتها وزوجها. فقولها ذلك كقول السحرة الذين آمنوا جوابا عن تهديد فرعون {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} الآية في سورة طه[72].
[12] {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} .
عطف على {امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} ، أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران، فضرب مثلين في الشر ومثلين في الخير.
ومريم ابنة عمران تقدم الكلام على نسبها وكرامتها في سورة آل عمران وغيرها، وقد ذكر الله باسمها في عدة مواضع من القرآن وقال ابن التلمساني في شرح الشفاء لعياض: لم يذكر الله امرأة في القرآن باسمها إلا مريم على أنها أمة الله إبطالا لعقائد النصارى.
والإحصان: جعل الشيء حصينا، أي لا يسلك إليه. ومعناه: منعت فرجها عن الرجال.
وتفريع {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} تفريع العطية على العمل لأجله. أي جزيناها على

إحصان فرجها، أي بأن كون الله فيه نبيا بصفة خارقة للعادة فخلد بذلك ذكرها في الصالحات.
والنفخ: مستعار لسرعة إبداع الحياة في المكون في رحمها. وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة لأن تكوين المخلوق الحي في رحمها كان دون الأسباب المعتادة، أو أريد بالروح الملك الذي يؤمر بنفخ الأرواح في الأجنة، فعلى الأول تكون {من} تبعيضية، وعلى الثاني تكون ابتدائية، وتقدم قوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} في سورة الأنبياء [91].
وتصديقها: يقينها بأن ما أبلغ إليها من الملك من إرادة الله حملها.
و {كَلِمَاتِ رَبِّهَا} : هي الكلمات التي ألقاها إليها بطريق الوحي.
و {كتابه} يجوز أن يكون المراد به الإنجيل الذي جاء به ابنها عيسى وهو وإن لم يكن مكتوبا في زمن عيسى فقد كتبه الحواريون في حياة مريم.
ويجوز أن يراد ب {كتابه} ، أراده الله وقدره أن تحمل من دون مس رجل إياها من باب وكان كتابا مفعولا.
والقانت: المتحمض للطاعة. يجوز أن يكون و {من} للابتداء.
والمراد بالقانتين: المكثرون من العبادة. والمعنى أنها كانت سليلة قوم صالحين، أي فجاءت على طريقة أصولها في الخير والعفاف.
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه
وهذا إيماء إلى تبرئتها مما رماها به القوم البهت.
وهذا نظير قوله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26].
ويجوز أن تجعل {من} للتبعيض، أي هي بعض من قنت لله. وغلبت صيغة جمع الذكور ولم يقل: من القانتات، جريا على طريقة التغليب وهو تخريج الكلام على مقتضى الظاهر. وهذه الآية مثال في علم المعاني.
ونكتته هنا الإشارة إلى أنها في عداد أهل الإكثار من العبادة وأن شأن ذلك أن يكون للرجال لأن نساء بني إسرائيل كن معفيات من عبادات كثيرة.

ووصف مريم بالموصول وصلته لأنها عرفت بتلك الصلة من قصتها المعروفة من تكرر ذكرها فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة.
وفي ذكر {القانتين} إيماء إلى ما أوصى الله به أمهات المؤمنين بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31] الآية.
وقرأ الجمهور {وكتابه} . وقرأه حفص وأبو عمرو ويعقوب {وكتبه} بصيغة الجمع، أي آمنت بالكتب التي أنزلت قبل عيسى وهي التوراة و الزبور وكتب الأنبياء من بني إسرائيل، و الإنجيل إن كان قد كتبه الحواريون في حياتها.

المجلد التاسع والعشرون
سورة الملك...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الملك
سماها النبي صلى الله عليه وسلم "سورة تبارك الذي بيده الملك" في حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفرت له وهي "سورة تبارك الذي بيده الملك" قال الترمذي هذا حديث حسن.
فهذا تسمية للسورة بأول جملة وقعت فيها فتكون تسمية بجملة كما سمي ثابت بن جابر تأبط شرا. ولفظ سورة مضاف إلى تلك الجملة المحكية.
وسميت أيضا "تبارك الملك" بمجموع الكلمتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبسمع منه فيما رواه الترمذي عن ابن عباس أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال له ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان أي دفين فيه يقرأ سورة "تبارك الملك" حتى ختمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر" حديث حسن غريب يكون اسم السورة مجموع هذين اللفظين على طريقة عد الكلمات في اللفظ دون إضافة إحداهما إلى الأخرى مثل تسمية لام ألف. ونظيره أسماء السور بالأحرف المقطعة التي في أولها على بعض الأقوال في المراد منها وعليه فيحكى لفظ "تبارك" بصيغة الماضي ويحكى لفظ "الملك" مرفوعا كما هو في الآية، فيكون لفظ سورة مضافا من إضافة المسمى إلى الاسم. لأن المقصود تعريف السورة بهاتين الكلمتين على حكاية اللفظين الواقعين في أولها مع اختصار ما بين الكلمتين وذلك قصدا للفرق بينهما وبين تبارك الفرقان. كما قالوا: عبيد الله الرقيات، بإضافة مجموع عبيد الله إلى الرقيات تمييزا لعبيد الله بن قيس العامر1 الشاعر عن غيره ممن يشبه اسمه اسمه مثل عبيد الله
ـــــــ
1 هو من بني عامر بن لؤي شاعر مجيد من شعراء العصر الأموي.

ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود أو لمجرد اشتهاره بالتشبيه في نساء كان اسم كل واحدة منهن رقية1 وهن ثلاث. ولذلك يجب أن يكون لفظ "تبارك" في هذا المركب مفتوح الآخر. ولفظ "الملك" مضموم الكاف. وكذلك وقع ضبطه في نسخة جامع الترمذي وكلتاهما حركة حكاية.
والشائع في كتب السنة وكتب التفسير وفي أكثر المصاحف تسمية هذه السورة سورة الملك وكذلك ترجمها الترمذي: باب ما جاء في فضل سورة الملك. وكذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه .
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال كنا نسميها على عهد رسول الله المانعة، أي أخذا من وصف النبي صلى الله عليه وسلم إياها بأنها المانعة المنجية كما في حديث الترمذي المذكور آنفا وليس بالصريح في التسمية.
وفي الإتقان عن تاريخ ابن عساكر من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها "المنجية" ولعل ذلك من وصفه إياها بالمنجية في حديث الترمذي وليس أيضا بالصريح في أنه اسم.
وفي الإتقان عن كتاب جمال القراء تسمى أيضا الواقية، وتسمى المناعة بصيغة المبالغة.
وذكر الفخر: أن ابن عباس كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها عند سؤال الملكين ولم أره لغير الفخر.
فهذه ثمانية أسماء سميت بها هذه السورة.
وهي مكية قال ابن عطية والقرطبي: باتفاق الجميع.
وفي الإتقان أخرج جويبر2 في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس نزلت
ـــــــ
1 هي رقية بنت عبد الواحد بن أبي سعد من بني عامر بن لؤي، وابنة عم لها يقال لها: رقية، ورقية أخرى امرأة من بني أمية وكن في عصر واحد.
2 كتب في نسخة مخطوطة جويبر بصيغة تصغير جابر والذي في المطبوعة جبير بصيغة تصغير جبر ترجمه في طبقات المفسرين في اسم جبير بن غالب يكنى أبا فراس كان فقيها شاعرا خطيبا فصيحا، له كتاب "أحكام القرآن" . وكتاب "السنن والأحكام" . و "الجامع الكبير" في الفقه، وله رسالة كتب بها إلى مالك بن أنس، ذكره ابن النديم وعده من الشراة من الخوارج.

تبارك الملك في أهل مكة إلا ثلاث آيات اه. فيحتمل أن الضحاك عنى استثناء ثلاث آيات نزلت في المدينة. وهذا الاحتمال هو الذي يقتضيه إخراج صاحب الإتقان هذا النقل في عداد السور المختلف في بعض آياتها، ويحتمل أن يريد أن ثلاث آيات منها غير مخاطب بها أهل مكة، وعلى كلا الاحتمالين فهو لم يعين هذه الآيات الثلاث وليس في آيات السورة ثلاث آيات لا تتعلق بالمشركين خاصة بل نجد الخمس الآيات الأوائل يجوز أن يكون القصد منها الفريقين من أول السورة إلى قوله: {عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5].
وقال في "الإتقان" أيضا فيها قول غريب لم يعزه أن جميع السورة مدني. وهي السادسة والسبعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة المؤمنين وقبل سورة الحاقة.
وآيها في عد أهل الحجاز إحدى وثلاثون وفي عد غيرهم ثلاثون.
أغراض السورة
والأغراض التي في هذه السورة جارية على سنن الأغراض في السور المكية.
ابتدأت بتعريف المؤمنين معاني من العلم بعظمة الله تعالى وتفرده بالملك الحق؛ والنظر في إتقان صنعه الدال على تفرده بالإلهية فبذلك يكون في تلك الآيات حظ لعظة المشركين.
ومن ذلك التذكير بأنه أقام نظام الموت والحياة لتظهر في الحالين مجاري أعمال العباد في ميادين السبق إلى أحسن الأعمال ونتائج مجاريها.
وأنه الذي يجازي عليها.
وانفراده بخلق العوالم خلقا بالغا غاية الإتقان فيما تراد له.
وأتبعه بالأمر بالنظر في ذلك وبالإرشاد إلى دلائله الإجمالية وتلك دلائل على انفراده بالإلهية.
متخلصا من ذلك إلى تحذير الناس من كيد الشياطين، والارتباق معهم في ربقة عذاب جهنم وأن في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم نجاة من ذلك وفي تكذيبه الخسران، وتنبيه المعاندين للرسول صلى الله عليه وسلم إلى علم الله بما يحوكونه للرسول ظاهرا وخفية بأن علم الله محيط بمخلوقاته.
والتذكير بمنة خلق العالم الأرضي، ودقة نظامه، وملاءمته لحياة الناس، وفيها

سعيهم ومنها رزقهم.
والموعظة بأن الله قادر على إفساد ذلك النظام فيصبح الناس في كرب وعناء يتذكروا قيمة النعم بتصور زوالها.
وضرب لهم مثلا في لطفه تعالى بهم بلطفه بالطير في طيرانها.
وأيسهم من التوكل على نصرة الأصنام أو على أن ترزقهم رزقا.
وفظع لهم حالة الضلال التي ورطوا أنفسهم فيها.
ثم وبخ المشركين على كفرهم نعمة الله تعالى وعلى وقاحتهم في الاستخفاف بوعيده وأنه وشيك الوقوع بهم.
ووبخهم على استعجالهم موت النبي صلى الله عليه وسلم ليستريحوا من دعوته.
وأوعدهم بأنهم سيعلمون ضلالهم حين لا ينفعهم العلم، وأنذرهم بما قد يحل بهم من قحط وغيره.
[1] {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
افتتحت السورة بما يدل على منتهى كمال الله تعالى افتتاحا يؤذن بأن ما حوته يحوم حول تنزيه الله تعالى عن النقص الذي افتراه المشركون لما نسبوا إليه شركاء في الربوبية والتصرف معه والتعطيل لبعض مراده. ففي هذا الافتتاح براعة الاستهلال كما تقدم في طالع سورة الفرقان.
وفعل {تَبَارَكَ} يدل على المبالغة في وفرة الخير وهو في مقام الثناء يقتضي العموم بالقرينة، أي يفيد أن كل وفرة من الكمال ثابتة لله تعالى بحيث لا يتخلف نوع منها عن أن يكون صفة له تعالى.
وصيغة تفاعل إذا أسندت إلى واحد تدل على تكلف فعل ما اشتقت منه نحو تطاول وتغابن، وترد كناية عن قوة الفعل وشدته مثل: تواصل الحبل.
وهو مشتق من البركة، وهي زيادة الخير ووفرته، وتقدمت البركة عند قوله تعالى: {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} في [سورة هود48].
وتقدم {تَبَارَكَ} عند قوله تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} في أول [الأعراف: 54]

وهذا الكلام يجوز أن يكون مرادا به مجرد الإخبار عن عظمة الله تعالى وكماله ويجوز أن يكون مع ذلك إنشاء ثناء على الله أثناه على نفسه، وتعليما للناس كيف يثنون على الله ويحمدونه كما في {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]: إما على وجه الكناية بالجملة عن إنشاء الثناء، وإما باستعمال الصيغة المشتركة بين الإخبار والإنشاء في معنييها، ولو صيغ بغير هذا الأسلوب لما احتمل هذين المعنيين، وقد تقدم في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1].
وجعل المسند إليه اسم موصول للإيذان بأن معنى الصلة، مما اشتهر به كما هو غالب أحوال الموصول فصارت الصلة مغنية عن الاسم العلم لاستوائهما في الاختصاص به إذ يعلم كل أحد أن الاختصاص بالملك الكامل المطلق ليس إلا لله.
وذكر {الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} هنا نظير ذكر مثله عقب نظيره في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} إلى قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:158].
والباء في {بِيَدِهِ} يجوز أن تكون بمعنى في مثل الباء التي تدخل على أسماء الأمكنة نحو {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران:123] وقول أمرء القيس:
بسقط اللوى
فالظرفية هنا مجازية مستعملة في معنى إحاطة قدرته بحقيقة الملك، الملك على هذا اسم للحالة التي يكون صاحبها ملكا.
والتعريف في { الْمُلْكُ} على هذا الوجه تعريف الجنس الذي يشمل جميع أفراد الجنس، وهو الاستغراق فما يوجد من أفراده فرد إلا وهو مما في قدرة الله فهو يعطيه وهو يمنعه.
واليد على هذا الوجه استعارة للقدرة والتصرف كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذريات: 47] وقول العرب: ما لي بهذا الأمر يدان.
ويجوز أن تكون الباء للسببية، ويكون {الْمُلْكُ} اسما فيأتي في معناه ما قرر في الوجه المتقدم.
وتقديم المسند وهو {بِيَدِهِ} على المسند إليه لإفادة الاختصاص، أي الملك بيده لا

بيد غيره.
وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بملك غيره، ولا بما يتراءى من إعطاء الخلفاء والملوك الاصقاع للأمراء والسلاطين وولاة العهد لأن كل ذلك ملك غير تام لأنه لا يعم المملوكات كلها، ولأنه معرض للزوال، وملك الله هو الملك الحقيقي، قال: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه:114].
فالناس يتوهمون أمثال ذلك ملكا وليس كما يتوهمون.
واليد: تمثيل بأن شبهت الهيئة المعقولة المركبة من التصرف المطلق في الممكنات الموجودة والمعدومة بالإمداد والتغيير والإعدام والإيجاد؛ بهيئة إمساك اليد بالشيء المملوك تشبيه معقول بمحسوس في المركبات.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} في [سورة آل عمران: 26].
و { الْمُلْكِ } بضم الميم: اسم لأكمل أحوال الملك بكسر الميم، والملك بالكسر جنس للملك بالضم، وفسر الملك المضموم بضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، وهو تفسير قاصر. وأرى أن يفسر بأنه تصرف في طائفة من الناس ووطنهم تصرفا كاملا بتدبير ورعاية، فكل ملك بالضم ملك بالكسر وليس كل ملك ملكا.
وقد تقدم في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} في [الفاتحة:4] وعند قوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} في [البقرة:247]. وجملة {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} معطوفة على جملة {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} التي هي صلة الموصول وهي تعميم بعد تخصيص لتكميل المقصود من الصلة، إذ أفادت الصلة عموم تصرفه في الموجودات، وأفادت هذه عموم تصرفه في الموجودات والمعدومات بالإعدام للموجودات والإيجاد للمعدومات، فيكون قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مفيدا معنى آخر غير ما أفاده قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} تفادي من أن يكون معناه تأكيدا لمعنى {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وتكون هذه الجملة تتميما للصلة. وفي معنى صلة ثانية ثم عطفت ولم يكرر فيها اسم موصول بخلاف قوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ} [الملك:2] وقوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [الملك:3].
و"شيء": ما يصح أن يعلم ويخبر عنه. وهذا هو الإطلاق الأصلي في اللغة. وقد يطلق "الشيء" على خصوص الموجود بحسب دلالة القرائن والمقامات. وأما التزام

الأشاعرة: أن الشيء لا يطلق إلا على الموجود فهو التزام ما لا يلزم دعا إليه سد باب الحجاج مع المعتزلة في أن الوجود عين الموجود أو زائد على الموجود، فتفرعت عليه مسألة: أن المعدوم شيء عند جمهور المعتزلة وأن الشيء لا يطلق إلا على الموجود عند الأشعري وبعض المعتزلة وهي مسألة لا طائل تحتها، والخلاف فيها لفظي، والحق أنها مبنية على الاصطلاح في مسائل علم الكلام لا على تحقيق المعنى في اللغة.
وتقديم المجرور في قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} للاهتمام بما فيه من التعميم، ولإبطال دعوى المشركين نسبتهم الإلهية لأصنامهم مع اعترافهم بأنه لا تقدر على خلق السماوات والأرض ولا على الإحياء والإماتة.
[2] {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} .
صفة لـ {الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] فلما شمل قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] تعلق القدرة بالموجود والمعدوم أتبع بوصفه تعالى بالتصرف الذي منه خلق المخلوقات وأعراضها لأن الخلق أعظم تعلق القدرة بالمقدور لدلالته على صفة القدرة وعلى صفة العلم.
وأوثر بالذكر من المخلوقات الموت والحياة لأنهما أعظم العوارض لجنس الحيوان الذي هو أعجب الموجود على الأرض والذي الإنسان نوع منه، وهو المقصود بالمخاطبة بالشرائع والمواعظ، فالإماتة تصرف في الموجود بإعداده للفناء، والإحياء تصرف في المعدوم بإيجاده ثم إعطائه الحياة ليستكمل وجود نوعه.
فليس ذكر خلق الموت والحياة تفصيلا لمعنى الملك بل هو وصف مستقل.
والاقتصار على خلق الموت والحياة لأنهما حالتان هما مظهرا تعلق القدرة بالمقدور في الذات والعرض لأن الموت والحياة عرضان والإنسان معروض لهما.
والعرض لا يقوم بنفسه فلما ذكر خلق العرض علم من ذكره خلق معروضه بدلالة الاقتضاء.
وأوثر ذكر الموت والحياة لما يدلان عليه من العبرة بتداول العرضين المتضادين على معروض واحد، وللدلالة على كمال صنع الصانع، فالموت والحياة عرضان يعرضان للموجود من الحيوان، والموت يعد الموجود للفناء والحياة تعد الموجود للعمل للبقاء

مدة. وهما عند المتكلمين من الأعراض المختصة بالحي، وعند الحكماء من مقولة الكيف ومن قسم الكيفيات النفسانية منه.
فالحياة: قوة تتبع اعتدال المزاج النوعي لتفيض منها سائر القوى.
و {الموت} : كيفية عدمية هو عدم الحياة عما شأنه أن يوصف بالحياة أو الموت، أي زوال الحياة عن الحي، فبين الحياة والموت تقابل العدم والملكة.
ومعنى خلق الحياة: خلق الحي لأن قوام الحي هو الحياة، ففي خلقه خلق ما به قوامه، وأما معنى {خَلَقَ الْمَوْتَ} فإيجاد أسبابه وإلا فإن الموت عدم لا يتعلق به الخلق بالمعنى الحقيقي، ولكنه لما كان عرضا للمخلوق عبر عن حصوله بالخلق تبعا كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
وأيضا لأن الموت تصرف في الموجود القادر الذي من شأنه أن يدفع عن نفسه ما يكرهه. والموت مكروه لكل حي فكانت الإماتة مظهرا عظيما من مظاهر القدرة لأن فيها تجلي وصف القاهر.
فأما الإحياء فهو من مظاهر وصف القادر ولكن مع وصفه المنعم.
فمعنى القدرة في الإماتة أظهر وأقوى لأن القهر ضرب من القدرة.
ومعنى القدرة في الإحياء خفي بسبب أمرين بدقة الصنع وذلك من آثار صفة العلم، وبنعمة كمال الجنس وذلك من آثار صفة الإنعام. وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} في [البقرة:28].
وفي ذكرهما تخلص إلى ما يترتب عليهما من الآثار التي أعظمها العمل في الحياة والجزاء عليه بعد الموت، وذلك ما تضمنه قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فإن معنى الابتلاء مشعر بترتب أثر له وهو الجزاء على العمل للتذكير بحكمة جعل هذين الناموسين البديعين في الحيوان لتظهر حكمة خلق الإنسان ويفضيا به إلى الوجود الخالد، كما أشار إليه قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
وهذا التعليل من قبيل الإدماج.
وفيه استدلال على الوحدانية بدلالة في أنفسهم قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].

والمعنى: أنه خلق الموت والحياة ليكون منكم أحياء يعملون الصالحات والسيئات، ثم أمواتا يخلصون إلى يوم الجزاء فيجزون على أعمالهم بما يناسبها.
فالتعريف في {الموت} و {الحياة} تعريف الجنس. وفي الكلام تقدير: هو الذي خلق الموت والحياة لتحيوا فيبلوكم أيكم أحسن عملا، وتموت فتجزوا على حسب تلك البلوى، ولكون هذا هو المقصود الأهم من هذا الكلام قدم الموت على الحياة.
وجملة {لِيَبْلُوَكُمْ} إلى آخرها معترضة بين الموصولين.
واللام في {لِيَبْلُوَكُمْ} لام التعليل، أي في خلق الموت والحياة حكمة أن يبلوكم. الخ.
وتعليل فعل بعلة لا يقتضي انحصار علله في العلة المذكورة فإن الفعل الواحد تكون له علل متعددة فيذكر منها ما يستدعيه المقام، فقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} تعليل لفعل {خَلَقَ} باعتبار المعطوف على مفعوله، وهو {وَالْحَيَاةَ} لأن حياة الإنسان حياة خاصة تصحح للموصوف بمن قامت به الإدراك الخاص الذي يندفع به إلى العمل باختياره، وذلك العمل هو الذي يوصف بالحسن والقبح، وهو ما دل عليه بالمنطوق والمفهوم قوله تعالى: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي وأيكم أقبح عملا.
ولذلك فذكر خلق الموت إتمام للاستدلال على دقيق الصنع الإلهي وهو المسوق له الكلام، وذكر خلق الحياة إدماج للتذكير، وهو من أغراض السورة.
ولا أشك في أن بناء هذا العالم على ناموس الموت والحياة له حكمة عظيمة يعسر على الإفهام الاطلاع عليها.
والبلوى: الاختبار وهي هنا مستعارة للعلم أي ليعلم علم ظهور أو مستعارة لإظهار الأمر الخفي، فجعل إظهار الشيء الخفي شبيها بالاختبار.
وجملة {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} مرتبطة بـ {يبلوكم} .
و"أي" اسم استفهام ورفعه يعين أنه مبتدأ وأنه غير معمول للفظ قبله فوجب بيان موقع هذه الجملة، وفيه وجهان:
أحدهما قول الفراء والزجاج والزمخشري في تفسير أول سورة هود أن جملة الاستفهام سادة مسد المفعول الثاني، وأن فعل {يبلوكم} المضمن معنى "يعلمكم" معلق

عن العمل في المفعول الثاني، وليس وجود المفعول الأول مانعا من تعليق الفعل عن العمل في المفعول الثاني وأن لم يكن كثيرا في الكلام.
والوجه الثاني أن تكون الجملة واقعة في محل المفعول الثاني {لِيَبْلُوَكُمْ} أي تؤول الجملة بمعنى مفرد تقديره: ليعلمكم أهذا الفريق أحسن عملا أم الفريق الآخر.
وهذا مختار صاحب الكشاف في تفسير هذه الآية. ومبناه على أن تعليق أفعال العلم عن العمل لا يستقيم إلا إذا لم يذكر للفعل مفعول فإذا ذكر مفعول لم يصح تعليق الفعل عن المفعول الثاني، وحاصله: أن التقدير ليعلم الذين يقال في حقهم {أَيُّهم أَحْسَنُ عَمَلاً} على نحو قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} [مريم:69] أي لننزعن الذين يقال فيهم: أيهم أشد.
وجوز صاحب التقريب أن يكون التقدير: ليعلم جواب سؤال سائل: أيكم أحسن عملا.
قلت: ولك أن تجعل جملة {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} مستأنفة وتجعل الوقف على قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} ويكون الاستفهام مستعملا في التحضيض على حسن العمل كما هو في قول طرفة:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
فجعل الاستفهام تحضيضا.
و {أَحْسَنُ} تفضيل، أي أحسن عملا من غيره، فالأعمال الحسنة متفاوتة في الحسن إلى أدناها، فأما الأعمال السيئة فإنها مفهومة بدلالة الفحوى لأن البلوى في أحسن الأعمال تقتضي البلوى في السيئات بالأولى لأن إحصاءها والإحاطة بها أولى في الجزاء لما يترتب عليها من الاجتراء على الشارع، ومن الفساد في النفس، وفي نظام العالم، وذلك أولى بالعقاب عليه ففي قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} إيجاز.
وجملة: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} تذييل لجملة {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} إشارة إلى صفاته تعالى تقتضي تعلقا بمتعلقاتها لئلا تكون معطلة في بعض الأحوال والأزمان فيفضي ذلك إلى نقائضها. فأما "العزيز" فهو الغالب الذي لا يعجز عن شيء، وذكره مناسب للجزاء المستفاد من قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} كما تقدم آنفا، أي ليجزيكم جزاء العزيز، فعلم أن المراد الجزاء على المخالفات والنكول عن الطاعة. وهذا

حظ المشركين الذين شملهم ضمير الخطاب في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} .
وأما {الغفور} فهو الذي يكرم أولياءه ويصفح عن فلتاتهم فهو مناسب للجزاء على الطاعات وكناية عنه، قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] فهو إشارة إلى حظ أهل الصلاح من المخاطبين.
[3-4] {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور،ٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} .
صفة ثانية للذي بيده الملك، أعقب التذكير بتصرف الله بخلق الإنسان وأهم أعراضه بذكر خلق أعظم الموجودات غير الإنسان وهي السماوات، ومفيدة وصفا من عظيم صفات الأفعال الإلهية ولذلك أعيد فيها اسم الموصول لتكون الجمل الثلاث جارية على طريقة واحدة.
والسماوات تكرر ذكرها في القرآن. والظاهر أن المراد بها الكواكب التي هي مجموع النظام الشمسي ما عدا الأرض. كما تقدم عند قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} في [البقرة:29] فإنها هي المشاهدة بأعين المخاطبين، فالاستدلال بها استدلال بالمحسوس.
والطباق يجوز أن يكون مصدر طابق وصفت به السماوات للمبالغة، أي شديدة المطابقة، أي مناسبة بعضها لبعض في النظام.
ويجوز أن تكون {طِبَاقاً} جمع طبق، والطبق المساوي في حالة ما، ومنهم قولهم في المثل وافق شن طبقة.
والمعنى: أنها مرتفع بعضها فوق بعض في الفضاء السحيق، أو المعنى: أنها متماثلة في بعض الصفات مثل التكوير والتحرك المنتظم في أنفسها وفي تحرك كل واحدة منها بالنسبة إلى تحرك بقيتها بحيث لا ترتطم ولا يتداخل سيرها.
وليس في قوله: {طِبَاقاً} ما يقتضي أن بعضها مظروف لبعض لأن ذلك ليس من مفاد مادة الطباق "فلا تكن طباقاء".
وجاءت جملة {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} تقريرا لقوله: {خَلَقَ سَبْعَ

سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} .
فإن نفي التفاوت يحقق معنى التطابق، أي التماثل. والمعنى: ما ترى في خلق الله السماوات تفاوتا. وأصل الكلام: ما ترى فيهن ولا في خلق الرحمن من تفاوت فعبر بخلق الرحمن لتكون الجملة تذييلا لمضمون جملة {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} ، لأن انتفاء التفاوت عما خلقه الله متحقق في خلق السماوات وغيرها، أي كانت السماوات طباقا لأنها من خلق الرحمن، وليس فيما خلق الرحمن من تفاوت ومن ذلك نظام السماوات.
والتفاوت بوزن التفاعل: شدة الفوت، والفوت: البعد، وليست صيغة التفاعل فيه لحصول فعل من جانبين ولكنها مفيدة للمبالغة.
ويقال: تفوت الأمر أيضا، وقيل: إن تفوت، بمعنى حصل فيه عيب.
وقرأ الجمهور {مِنْ تَفَاوُتٍ} ، وقرأه حمزة والكسائي وخلف {من تفوّت} بتشديد الواو دون ألف بعد الفاء، وهي مرسومة في المصحف بدون ألف كما هو كثير في رسم الفتحات المشبعة.
وهو هنا مستعار للتخالف وانعدام التناسق لأن عدم المناسبة يشبه البعد بين الشيئين تشبيه معقول بمحسوس.
والخطاب لغير معين، أي لا ترى أيها الرائي تفاوتا.
والمقصود منه التعريض بأهل الشرك إذ أضاعوا النظر والاستدلال بما يدل على وحدانية الله تعالى بما تشاهده أبصارهم من نظام الكواكب، وذلك ممكن لكل من يبصر، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] فكأنه قال: ما ترون في خلق الرحمن من تفاوت، فيجوز أن يكون {خَلْقِ الرَّحْمَنِ} بمعنى المفعول كما في قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]، ويراد منه السماوات، والمعنى: ما ترى في السماوات من تفاوت، فيكون العدول عن الضمير لتتأتى الإضافة إلى اسمه {الرَّحْمَنِ} المشعر بأن تلك المخلوقات فيها رحمة بالناس كما سيأتي.
ويجوز أن يكون {خَلْقِ} مصدرا فيشمل خلق السماوات وخلق غيرها فإن صنع الله رحمة للناس لو استقاموا كما صنع لهم وأوصاهم، فتفيد هذه الجملة مفاد التذييل في أثناء

الكلام على وجه الاعتراض ولا يكون إظهارا في مقام الإضمار.
والتعبير بوصف {الرَّحْمَنِ} دون اسم الجلالة إيماء إلى أن هذا النظام مما اقتضته رحمته بالناس لتجري أمورهم على حالة تلائم نظام عيشهم، لأنه لو كان فيما خلق الله تفاوت لكان ذلك التفاوت سببا لاختلال النظام فيتعرض الناس بذلك لأهوال ومشاق، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:5].
وأيضا في ذلك الوصف تورك على المشركين إذ أنكروا اسمه تعالى: {الرَّحْمَنِ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان:60].
وفرع عليه قوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} الخ. والتفريع للتسبب، أي انتفاء رؤية التفاوت، جعل سببا للأمر بالنظر ليكون نفي التفاوت معلوما عن يقين دون تقليد للمخبر.
ورجع البصر: تكريره والرجع: العود إلى الموضع الذي يجاء منه، وفعل: رجع يكون قاصرا ومتعديا إلى مفعول بمعنى: أرجع، فأرجع هنا فعل أمر دون رجع المتعدي.
والرجع يقتضي سبق حلول بالموضع، فالمعنى: أعد النظر، وهو النظر الذي دل عليه قوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} أي أعد رؤية السماوات وأنها لا تفاوت فيها إعادة تحقيق وتبصر، كما يقال: أعد نظرا.
والخطاب في قوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} وقوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} الخ. خطاب لغير معين.
وصيغة الأمر مستعملة في الإرشاد للمشركين مع دلالته على الوجوب للمسلمين فإن النظر في أدلة الصفات واجب لمن عرض له داع إلى الاستدلال. والبصر مستعمل في حقيقته. والمراد به البصر المصحوب بالتفكر والاعتبار بدلالة الموجودات على موجدها.
وهذا يتصل بمسألة إيمان المقلد وما اختلف فيه من الرواية عن الشيخ أبي الحسن الأشعري.
والاستفهام في {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} تقريري ووقع ب {هَلْ} لأن {هَلْ} تفيد تأكيد

الاستفهام إذ هي بمعنى "قد" في الاستفهام، وفي ذلك تأكيد وحث على التبصر والتأمل، أي لا تقنع بنظرة ونظرتين، فتقول: لم أجد فطورا، بل كرر النظر وعاوده باحثا عن مصادفة فطور لعلك تجده.
والفطور: جمع فطر بفتح الفاء وسكون الطاء، وهو الشق والصدع، أي لا يسعك إلا أن تعترف بانتفاء الفطور في نظام السماوات فتراها ملتئمة محبوكة لا ترى في خلالها انشقاقا، ولذلك كان انفطار السماء وانشقاقها علامة على انقراض هذا العالم ونظامه الشمسي، قال تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} [النبأ:19] {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1].
وعطف {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} دال على التراخي الرتبي كما هو شأن {ثُمَّ} في عطف الجمل، فإن مضمون الجملة المعطوفة ب {ثُمَّ} هنا أهم وأدخل في الغرض من مضمون الجملة المعطوف عليها لأن إعادة النظر تزيد العلم بانتفاء التفاوت في الخلق رسوخا ويقينا.
و {كَرَّتَيْنِ} تثنية كرة وهي المرة وعبر عنها هنا بالكرة مشتقة من الكر وهو العود لأنها عود إلى شيء بعد الانفصال عنه ككرة المقاتل يحمل على العدو بعد أن يفر فرارا مصنوعا. وإيثار لفظ كرتين في هذه الآية دون مرادفة نحو مرتين وتارتين لأن كلمة كرة لم يغلب إطلاقا على عدد الاثنين، فكان إيثارها في مقام لا يراد فيه اثنين أظهر في أنها مستعملة في مطلق التكرير دون عدد اثنين أو زوج وهذا من خصائص الإعجاز، ألا ترى أن مقام إرادة عدد الزوج كان مقتضيا تثنية مرة في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] لأن أظهر في إرادة العدد إذ لفظ مرة أكثر تداولا.
وتثنية {كَرَّتَيْنِ} ليس المراد بها عدد الاثنين الذي هو ضعف الواحد إذ لا يتعلق غرض بخصوص هذا العدد، وإنما التثنية مستعملة كناية عن مطلق التكرير فإن من استعمالات صيغة التثنية في الكلام أن يراد بها التكرير وذلك كما في قولهم لبيك وسعديك، يريدون تلبيات كثيرة وإسعادا كثيرا، وقولهم: دواليك، ومنه المثل دهدرين، سعد القين الدهدر الباطل، أي باطلا على باطل، أي أتيت يا سعد القين دهدرين وهو تثنية دهدر الدال مهملة في أوله مضمومة فهاء ساكنة فدال مهملة مضمومة فراء مشددة. وأصله كلمة فارسية نقلها العرب وجعلوها بمعنى الباطل. وسبب النقل مختلف فيه وتثنيته مكنى بها عن مضاعفة الباطل، وكانوا يقولون هذا المثل عند تكذيب الرجل صاحبه وأما

سعد القين فهو اسم رجل كان قينا وكان يمر على الأحياء لصقل سيوفهم وإصلاح أسلحتهم فكان يشيع أنه راحل غدا ليسرع أهل الحي بجلب ما يحتاج للإصلاح فإذا أتوه بها أقام ولم يرحل فضرب به المثل في الكذب فكان هذا المثل جامعا لمثلين، وقد ذكره الزمخشري في المستقصى، والميداني في مجمع الأمثال وأطال.
وأصل استعمال التثنية في معنى التكرير أنهم اختصروا بالتثنية تعداد ذكر الاسم تعدادا مشيرا إلى التكثير.
وقريب من هذا القبيل قولهم: وقع كذا غير مرة، أي مرات عديدة.
فمعنى {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} عاود التأمل في خلق السماوات وغيرها غير مرة. والانقلاب: الرجوع يقال: انقلب إلى أهله، أي رجع إلى منزله قال تعالى: {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] وإيثار فعل {ينقلب} هنا دون: يرجع، لئلا يلتبس فعل {ارْجِعِ} المذكور قبله. وهذا من خصائص الإعجاز نظير إيثار كلمة {كَرَّتَيْنِ} كما ذكرناه آنفا.
والخاسئ: الخائب، أي الذي لم يجد ما يطلبه. وتقدم عند قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} في سورة [البقرة:29].
والحسير: الكليل، وهو كلل ناشئ عن قوة التأمل والتحديق مع التكرير، أي يرجع البصر غير واجد ما أغري بالحرص على رؤيته بعد أن أدام التأمل والفحص حتى عيي وكل، أي لا تجد بعد اللأي فطورا في خلق الله.
[5] {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} .
انتقل من دلائل انتفاء الخلل عن خلقه السماوات، إلى بيان ما في إحدى السماوات من إتقان الصنع فهو مما شمله عموم الإتقان في خلق السماوات السبع وذكره من ذم بعض أفراد العام كذكر المثال بعد القاعدة الكلية، فدقائق السماء الدنيا أوضح دلالة على إتقان الصنع لكنها نصب أعين المخاطبين، ولأن من بعضها يحصل تخلص إلى التحذير من حيل الشياطين وسوء عواقب أتباعهم. وتأكيد الخبر ب"قد" لأنه إلى أنه نتيجة الاستفهام التقريري المؤكد ب"هل" أخت "قد" في الاستفهام.

والكلام على السماء الدنيا ولماذا وصفت بالدنيا وعن الكواكب تقدم في أول سورة الصافات.
وسميت النجوم هنا مصابيح على التشبيه على حسن المنظر فهو تشبيه بليغ.
وذكر التزيين إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال، أي زيناها لكم مثل الامتنان في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} في سورة [النحل:6].
والمقصد: التخلص إلى ذكر رجم الشياطين ليتخلص منه إلى وعيدهم ووعيد متبعيهم.
وعدل عن تعريف "مصابيح" باللام إلى تنكيره لما يفيده التنكير من التعظيم.
والرجوم: جمع رجم وهو اسم لما يرجم به، أي ما يرمي به الرامي من حجر ونحوه تسمية للمفعول بالمصدر مثل الخلق بمعنى المخلوق في قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان:11].
والذي جعل رجوما للشياطين هو بعض النجوم التي تبدو مضيئة ثم تلوح منقظة، وتسمى الشهب ومضى القول عليها في سورة الصافات.
وضمير الغائبة في {جعلناها} المتبادر أنه عائد إلى المصابيح، أي أن المصابيح رجوم للشياطين.
ومعنى جعل المصابيح رجوما جار على طريقة إسناد عمل بعض الشيء إلى جميعه مثل إسناد الأعمال إلى القبائل لأن العاملين من أفراد القبيلة كقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:85] وقول العرب: قتلت هذيل رضيع بني ليث تمام بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
وجعل بعض المفسرين الضمير المنصوب في {جعلناها} عائد إلى {السَّمَاءَ الدُّنْيَا} على تقدير: وجعلنا منها رجوما إما على حذف حرف الجر. وإما على تنزيل المكان الذي صدر منه الرجوم منزلة نفس الرجوم فهو مجاز عقلي ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} في سورة [البقرة:66] ولكنها على جعل الضمير المنصوب راجعا إلى القرية وإن لم تذكر في تلك الآية ولكنها ذكرت في آية سورة الأعراف

{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} وقصتها هي المشار إليها بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة65] فالتقدير: فجعلنا منها، أي من القرية نكالا، وهم القوم الذين قيل لهم {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة65].
والشياطين هي التي تسترق السمع فتطردها الشهب كما تقدم في سورة الصافات.
وأصل {اعتدنا} أعددنا أي هيأنا، قلبت الدال الأولى تاء لتقارب مخرجيها ليأتي الإدغام طلبا للخفة.
و {السعير} : اسم صيغ على مثال فعيل بمعنى مفعول من: سعر النار، إذا أوقدها وهو لهب النار، أي أعددنا للشياطين عذاب طبقة أشد طبقات النار حرارة وتوقدا فإن جهنم طبقات.
وكان السعير عذابا لشياطين الجن مع كونهم من عنصر النار لأن نار جهنم أشد من نار طبعهم، فإذا أصابتهم صارت لهم عذابا.
وتسمية عذابهم {السعير} دون النار، أو جهنم مراد لهذا المعنى ومثله قوله تعالى في عذاب الجن: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12] وقال: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] يعني الشيطان.
ومعنى الإعداد يحتمل أنه إعداد تقدير وإيجاد فلا يقتضي أن تكون جهنم مخلوقة قبل يوم القيامة ويحتمل أنه إعداد استعمال، فتكون جهنم مخلوقة حين نزول الآية وقد اختلف علماؤنا في أن النار موجودة أو توجد يوم الجزاء إذ لا دليل في الكتاب والسنة على أحد الاحتمالين وإنما دعاهم إلى فرض هذه المسألة تأويل بعض الآيات والأحاديث.
[6] {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
هذا تتميم لئلا يتوهم أن العذاب أعد للشياطين خاصة، والمعنى: ولجميع الذين كفروا بالله عذاب جهنم فالمراد عامة المشركين ولأجل ما في الجملة من زيادة الفائدة غايرت الجملة التي قبلها فلذلك عطفت عليها.
وتقديم المجرور للاهتمام بتعلقه بالمسند إليه والمبادرة به.
وجملة {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} حال أو معترضة لإنشاء الذم وحذف المخصوص بالذم لدلالة ما قبل {بِئْسَ} عليه. والتقدير: وبئس المصير عذاب جهنم.

والمعنى: بئست جهنم مصيرا للذين كفروا.
[7-9] {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ} .
{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ} .
الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان ذم مصيرهم في جهنم، أي من جملة مذام مصيرهم مذمة ما يسمعونه فيها من أصوات مؤلمة مخيفة.
و {إذا} ظرف متعلق ب {سمعوا} يدل على الاقتران بين زمن الإلقاء وزمن سماع الشهيق.
والشهيق: تردد الأنفاس في الصدر لا تستطيع الصعود لبكاء ونحوه أطلق على صوت التهاب نار جهنم الشهيق نفضيعا له لأن قوله: {سَمِعُوا لَهَا} يقتضي أن الشهيق شهيقا لأن أصل اللام أن تكون لشبه الملك.
وجملة {وَهِيَ تَفُورُ} حال من ضمير {فيها} وتفور: تغلي وترتفع ألسنة لهيبها.
و {الغيظ} أشد الغضب. وقوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} خبر ثان عن ضمير {وهي} مثلت حالة فورانها وتصاعد ألسنة لهيبها ورطمها ما فيها والتهام من يلقون إليها، بحال مغتاظ شديد الغيظ لا يترك شيئا مما غاظه إلا سلط عليه ما يستطيع من الأضرار.
واستعمل المركب الدال على الهيئة المشبه بها مع مرادفاته كقولهم: يكاد فلان يتميز غيظا ويتقصف غضبا، أي يكاد تتفرق أجزاءه فيتميز بعضها عن بعض وهذا من التمثيلية المكنية وقد وضحناها في تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة [البقرة: 5]
ونظير هذه الاستعارة قوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} في سورة [الكهف: 77] إذ مثل الجدار بشخص له إرادة.
و {تميز} أصله تمييز، أي تنفصل، أي تتجزأ أجزاء تخييلا لشدة الاضطراب بأن أجزاءها قاربت أن تتقطع، وهذا كقولهم: غضب فلان فطارت منه شقة في الأرض وشقة

في السماء.
{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} .
أتبع وصف ما يجده أهل النار عند إلقائهم فيها من فضائع أهوالها بوصف ما يتلقاهم به خزنة النار.
فالجملة استئناف بياني أثاره وصف النار عند إلقاء أهل النار فيها إذ يتساءل السامع عن سبب عن وقوع أهل النار فيها فجاء بيانه بأنه تكذيبهم رسل الله الذين أرسل إليهم، مع ما انضم إلى من وصف ندامة أهل النار على ما فرط منهم من تكذيب رسل الله وعلى إهمالهم النظر في دعوة الرسل والتدبر فيما جاءهم به.
و {كلما} مركب من "كل" اسم دال على الشمول ومن "ما" الظرفية المصدرية وهو حرف يؤول مع الفعل الذي بعده بمصدره.
والتقدير: في كل وقت إلقاء فوج يسألهم خزنتها الفوج.
وباتصال "كل" بحرف "ما" المصدرية الظرفية اكتسب التركيب معنى الشرط وشابه أدوات الشرط في الاحتياج إلى جملتين مرتبة إحداهما على الأخرى.
وجيء بفعلي {ألقى} و {سألهم} ماضيين لأن أكثر ما يقع الفعل بعد {كلما} أن يكون بصيغة المضي بأنها لما شابهت الشرط استوى الماضي والمضارع معها لظهور أنه للزمن المستقبل فأوثر فعل المضي لأنه أخف.
والفوج: الجماعة أي جماعة ممن حق عليهم الخلود، وتقدم عند قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} في سورة [النمل: 83].
وجيء بالضمائر العائدة إلى الفوج ضمائر جمع في قوله: {سألهم} الخ. لتأويل الفوج بجماعة أفراده كما في قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9].
وخزنة النار: الملائكة الموكل إليهم أمر جهنم وهو جمع خازن للموكل بالحفظ وأصل الخازن: الذي يخزن شيئا، أي يحفظه في مكان حصين، فإطلاقه على الموكلين مجاز مرسل.

وجملة {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} بيان لجملة سألهم كقوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه:120].
والاستفهام في {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} للتوبيخ والتنديم ليزيدهم حسرة.
والنذير: المنذر، أي رسول منذر بعقاب الله وهو مصوغ على غير قياس كما صيغ بمعنى المسمع السميع في قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع.
والمراد أفواج أهل النار من جميع الأمم التي أرسلت إليهم الرسل فتكون جملة {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} الخ بمعنى التذليل.
وجملة {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} معترضة بين كلام خزنة جهنم اعتراضا يشير إلى أن الفوج قاطع كلام الخزنة بتعجيل الاعتراف بما وبخوهم عليه وذلك من شدة الخوف.
وفصلت الجملة لوجهين لأنها اعتراض، ولوقوعها في سياق المحاورة كما تقدم غير مرة كقوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة [البقرة: 30] وكان جوابهم جواب المتحسر المتندم، فابتدأوا الجواب دفعة بحرف {بلى} المفيد نفيض النفي في الاستفهام فهو مفيد معنى: جاءنا نذير. ولذلك كان قولهم: {قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} مؤكدا لما دلت عليه {بلى} ، وهو من تكرير الكلام عند التحسر، مع زيادة التحقيق بـ {قَدْ} وذلك التأكيد هو مناط الندامة والاعتراف بالخطا.
وجملة: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} الأظهر أنها بقية كلام خزنة جهنم فصل بينها وبين ما سبقها من كلامهم اعتراض جواب الفوج الموجه إليهم الاستفهام التوبيخي كما ذكرناه آنفا، ويؤيد هذا إعادة فعل القول في حكاية بقية كلام الفوج في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} الخ لانقطاعه بالاعتراض الواقع خلال حكايته.
ويجوز أن تكون جملة {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} من تمام كلام كل فوج لنذيرهم. وأوتي بضمير جمع المخاطبين مع إن لكل قوم رسولا واحدا في الغالب باستثناء موسى وهارون وباستثناء رسل أصحاب القرية المذكورة في سورة يس، أما على اعتبار الحكاية بالمعنى بأن جمع كلام جميع الأفواج في عبارة واحدة فجيء بضمير الجمع والمراد التوزيع على الأفواج، أي قال جميع الأفواج: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} إلى قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} ، على طريقة المثال المشهور ركب القوم دوابهم، وإما

على إرادة شمول الضمير للنذير وأتباعه الذين يؤمنون بما جاء به.
وعموم {شيء} في قوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} والمراد منه شيء من التنزيل، يدل على أنهم كانوا يحيلون أن ينزل الله وحيا على بشر، وهذه شنشنة أهل الكفر قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قد تقدم في آخر [الأنعام: 91].
ووصف الضلال بـ {كبير} معناه شديد بالغ غاية ما يبلغ إليه جنسه حتى كأنه جسم كبير.
ومعنى القصر لمستفاد من النفي والاستثناء {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} قصر قلب، أي ما حالكم التي أنتم متلبسون بها إلا الضلال، وليس الوحي الإلهي والهدى كما تزعمون.
والظرفية مجازية لتشبيههم تمحضهم للضلال بإحاطة الظرف بالمظروف.
[10] {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .
أعيد فعل القول للإشارة إلى أن هذا كلام آخر غير الذي وقع جوابا على سؤال خزنة جهنم وإنما هذا قول قالوه في مجامعهم في النار تحسرا وتندما، أي وقال بعضهم لبعض في النار فهو من قبيل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ ِلأَولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38]. لتأكيد الإخبار على حسب الوجهين المتقدمين في موقع جملة {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 9].
وذكروا ما يدل على انتفاء السمع والعقل عنهم في الدنيا، وهم يريدون سمعا خاصا وعقلا خاصا، فانتفاء السمع بإعراضهم عن تلقي دعوة الرسل مثل ما حكى الله عن المشركين {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت: 26] وانتفاء العقل بترك التدبر في آيات الرسل ودلائل صدقهم فيما يدعون إليه.
ولا شك أن أقل الناس عقلا المشركون لأنهم طرحوا ما هو سبب نجاتهم لغير معارض يعارضه في دينهم، إذ ليس في دين أهل الشرك وعيد على ما يخالف الشرك من معتقدات، ولا على ما يخالف أعمال أهله من الأعمال، فكان حكم العقل قاضيا بأن يتلقوا ما يدعوهم إليه الرسل من الإنذار للامتثال إذ لا معارض له في دينهم لولا الإلف

والتكبر بخلاف حال أهل الأديان اتباع الرسل الذين كانوا على دين فهم يخشون إن أهملوه أن لا يغني عنهم الدين الجديد شيئا فكانوا إلى المعذرة أقرب لولا أن الأدلة بعضها أقوى من بعض.
وذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} [الطور: 32] من سورة الطور عن كتاب الحكيم الترمذي إنه أخرج حديثا إن رجلا قال: يا رسول الله ما أعقل فلانا النصراني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مه، إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} " قال وفي حديث ابن عمر فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "مه، إن العاقل من يعمل بطاعة الله" ولم أقف عليه فيما رأيت من كتب التفسير ولم يذكره السيوطي في التفسير بالمأثور في سورة الطور ولا في سورة الملك.
ويؤخذ في هذه الآية أن أقوام الصلاح في حسن التلقي وحسن النظر وأن الأثر والنظر، أي القياس هما أصلا الهدى، ومن العجيب ما ذكره صاحب الكشاف: إن من المفسرين من قال: أن المراد من الآية لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي. ولم أقف على تعيين من فسر الآية بهذا و لا أحسبه إلا من قبيل الاسترواح.
و {أَوْ} للتقسيم وهو تقسيم باعتبار نوعي الأحوال التي تقتضي حسن الاستماع تارة إذا ألقي إليها إرشاد، وحسن التفهم والنظر تارة إذا دعيت إلى النظر من داع غير أنفسها، أو من دواعي أنفسها، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18].
ووجه تقديم السمع على العقل بمنزلة الكلي والسمع بمنزلة الجزئي ورعيا للترتيب الطبيعي لأن سمع دعوة النذير هو أول ما يتلقاه المنذرون، ثم يعملون عقولهم في التدبير فيها.
[11] {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} .
الفاء الأولى فصيحة، والتقدير: إذ قالوا ذلك إذ تبين أنهم اعترفوا هنالك بذنبهم، أي فهم محقوقون بما هم فيه من العذاب.
والسحق: اسم مصدر معناه البعد، وهو هنا نائب عن الإسحاق لأنه دعاء بالإبعاد فهو مفعول مطلق نائب عن فعله، أي أسحقهم الله إسحاقا ويجوز أن يراد من هذا الدعاء

التعجب من حالهم كما يقال: قاتله الله، وويل له، في مقام التعجب.
والفاء الثانية للتسبب، أي فهم جديرون بالدعاء عليهم بالإبعاد أو جديرون بالتعجب من بعدهم عن الحق أو عن رحمة الله تعالى. ويحتمل أيضا أن يقال لهم يوم الحساب عقب اعترافهم، تنديما يزيدهم ألما في نفوسهم فوق ألم الحريق في جلودهم.
واللام الداخلة على "سحقا" لام التقوية إن جعل "سحقا" داء عليهم بالإبعاد لأن المصدر فرع في العمل في الفعل، ويجوز أن يكون اللام لام التبيين لآياته تعلق العامل بمعموله كقولهم: شكرا لك، فكل من "سحقا" واللام المتعلقة به مستعمل في معنييه.
و {ِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} يعم المخاطبين بالقرآن وغيرهم فكان هذا الدعاء بمنزلة التذييل لما فيه من العموم تبعا للجمل التي قبله.
وقرأ الجمهور {فسحقا} بسكون الحاء. وقرأه الكسائي وأبو جعفر بضم الحاء وهو لغة فيه وذلك لاتباع ضمة السين.
[12] {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} .
اعتراض يفيد استئنافا بيانيا جاء على سنن أساليب القرآن من تعقيب الرهبة بالرغبة، فلما ذكر ما أعد للكافرين المعرضين عن خشية الله أعقبه بما أعد للذين يخشون ربهم بالغيب من المغفرة والثواب للعلم بأنهم يترقبون ما يميزهم عن أحوال المشركين.
وقدم المغفرة تطمينا لقلوبهم لأنهم يخشون المؤاخذة على ما فرط منهم من الكفر قبل الإسلام ومن اللمم ونحوه، ثم أعقبت بالبشارة بالأجر العظيم، فكان الكلام جاريا على قانون تقديم التخلية، أو تقديم دفع الضر على جلب النفع، والوصف بالكبير بمعنى العظيم نظير ما تقدم آنفا في قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 9].
وتنكير {مغفرة} للتعظيم بقرينة مقارنته ب {أَجْرٌ كَبِيرٌ} وبقرينة التقديم.
وتقديم المسند على المسند إليه في جملة {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} ليأتي تنكير المبتدأ، ولإفادة الاهتمام، وللرعاية على الفاصلة وهي نكت كثيرة.
[13-14] {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.

عطف على الجملة السابقة عطف غرض على غرض، وهو انتقال إلى غرض آخر لمناسبة حكاية أقوالهم في الآخرة بذكر أقوالهم في الدنيا وهي الأقوال التي كانت تصدر منهم بالنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الله يطلعهم على أقوالهم فيخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنكم قلتم كذا وكذا، فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كي لا يسمعه رب محمد فأنزل الله {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} كذا روي عن ابن عباس.
وصيغة الأمر في {وأسروا} و {اجهروا} مستعملة في التسوية كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: من الآية16]، وهذا غالب أحوال صيغة افعل إذا جاءت معها {أو} عاطفة نقيض أحد الفعلين على نقيضه.
فنقول: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليل للتسوية المستفادة من صيغة الأمر بقرينة المقام وسبب النزول، أي فسواء في علم الله الإسرار والإجهار لأن علمه محيط بما يختلج في صدور الناس بله ما يسرون به من الكلام، ولذلك جيء بوصف عليم إذ العليم من أمثلة المبالغة وهو القوي علمه.
وضمير {إنه} عائد إلى الله تعالى المعلوم من المقام، ولا معاد في الكلام يعود إليه الضمير، لأن الاسم الذي في جملة {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الملك: من الآية12] لا يكون معادا لكلام آخر.
و {ذَاتِ الصُّدُورِ} ما يتردد في النفس من الخواطر والتقادير والنوايا على الأعمال. وهو مركب من "ذات" التي هي مؤنث "ذو" بمعنى صاحب، و { الصُّدُورِ} بمعنى العقول وشأن "ذو" أن يضاف إلى ما فيه رفعة.
وجملة {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} استئناف بياني ناشئ عن قوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بأن يسأل سائل منهم: كيف يعلم ذات الصدور، والمعروف أن ما في نفس المرء لا يعلمه غير نفسه? فأجيبوا بإنكار انتفاء علمه تعالى بما في الصدور فإنه خالق أصحاب تلك الصدور، فكما خلقهم وخلق نفوسهم جعل اتصالا لتعلق علمه بما يختلج فيها وليس ذلك بأعجب من علم أصحاب الصدور بما يدور في خلدها، فالإتيان بـ {من} الموصولة لإفادة التعليل بالصلة.
فيجوز أن يكون {مَنْ خَلَقَ} مفعول {يَعْلَمُ} ، فيكون {يَعْلَمُ} و {خَلَقَ} رافعين

ضميرين عائدين إلى ما عاد إليه ضمير {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، فيكون {من} الوصولة صادقة على المخلوقين وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير نصب يكثر حذفه. والتقدير: من خلفهم.
ويجوز أن يكون {مَنْ خَلَقَ} فاعل {يَعْلَمُ} والمراد الله تعالى، وحذف مفعول "يعلم" لدلالة قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} . والتقدير: ألا يعلم خالقكم سركم وجهركم وهو الموصوف بلطيف خبير.
والعلق يتعلق بذوات الناس وأحوالهم لأن الخلق إيجاد وإيجاد الذوات على نظام مخصوص دال على إرادة ما أودع فيه من النظام وما ينشأ عن قوى ذلك النظام، فالآية دليل على عموم علمه تعالى ولا دلالة فيها على أنه تعالى خالق أفعال العباد للانفكاك الظاهر بين تعلق العلم وتعلق القدرة.
وجملة {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الأحسن أن تجعل عطفا على جملة {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} لتفيد تعليما للناس بأن علم الله محيط بذوات الكائنات وأحوالها فبعد أن أنكر ظنهم انتفاء على الله بما يسرون، أعلمهم أنه يعلم ما هو أعم من ذلك وما هو أخفى من الإسرار من الأحوال.
و {اللطيف} : العالم بخبايا الأمور والمدبر لها برفق وحكمة.
و {الخبير} : العليم الذي لا تعزب عنه الحوادث الخفية التي من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضا بحدوثها فلذلك اشتق هذا الوصف من مادة الخبر، وتقدم عند قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} في [الأنعام:103] وعند قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} في سورة [لقمان: 16].
[15] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} .
استئناف فيه عود إلى الاستدلال، وإدماج للامتنان، فإن خلق الأرض التي تحوي الناس على وجهها أدل على قدرة الله تعالى وعلمه من خلق الإنسان إذ ما الإنسان إلا جزء من الأرض أو كجزء منها قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55]، فلما ضرب لهم بخلق أنفسهم دليلا على علمه الدال على وحدانيته شفعه بدليل خلق الأرض التي هم عليها، مع

المنة بأنه خلقها هينة لهم صالحة للسير فيها مخرجة لأرزاقهم، وذيل ذلك بأن النشور منها وأن النشور إليه لا إلى غيره. والذلول من الدواب المنقادة المطاوعة، مشتق من الذل وهو الهوان والانقياد، فعول بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث، وتقدم في قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} الآية في سورة [البقرة: 71]، فاستعير الذلول للأرض في تذليل الانتفاع بها مع صلابة خلقها تشبيها بالدابة المسوسة المرتاضة بعد الصعوبة على طريقة المصرحة.
والمناكب: تخييل للاستعارة لزيادة بيان تسخير الأرض للناس فإن المنكب هو ملتقى الكتف مع العضد، جعل المناكب استعارة لأطراف الأرض أو لسعتها.
وفرع على هذه الاستعارة الأمر في {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} فصيغة الأمر مستعملة في معنى الإدامة تذكيرا بما سخر الله لهم في المشي في الأرض امتنانا بذلك.
ومناسبة {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} أن الرزق من الأرض. والأمر مستعمل في الإدامة أيضا للامتنان، وبذلك تمت استعارة الذلول للأرض لأن فائدة تذليل الذلول ركوبها والأكل منها. فالمشي على الأرض شبيه بركوب الذلول، والأكل مما تنبته الأرض شبيه بأكل الألبان والسمن وأكل العجول والخرفان ونحو ذلك. وجمع المناكب تجريد للاستعارة لأن الذلول لها منكبان والأرض ذات متسعات كثيرة.
وكل هذا تذكير بشواهد الربوبية والإنعام ليتدبروا فيتركوا العناد، قال تعالى: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81].
وأما عطف {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} فهو تتميم وزيادة عبر استطرون لمناسبة ذكر الأرض فإنها مثوى الناس بعد الموت.
والمعنى: إليه النشور منها، وذلك يقتضي حذفا، أي وفيها تعودون.
وتعريف {النشور} تعريف الجنس فيعم أي كل نشور، ومنه نشور المخاطبين فكان قوله: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} بمنزلة التذييل.
والقصر المستفاد من تعريف جزأي {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ} قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن الأصنام خلقت الأرض لأن اعتقادهم إلهيتها يقتضي إلزامهم بهذا الظن الفاسد وإن لم يقولوه.

وتقديم المجرور في جملة {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} للاهتمام.
ومناسبة ذكر النشور هو ذكر خلق الأرض فإن البعث يكون من الأرض.
[16] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} .
انتقال من الاستدلال إلى التخويف لأنه لما تقرر أنه خالق الأرض ومذللها للناس وتقرر أنهم ما رعوا خالقها حق رعايته فقد استحقوا غضبه وتسليط عقابه بأن يصير مشيهم في مناكب الأرض إلى تجلجل في طبقات الأرض. فالجملة معترضة والاستفهام إنكار وتوبيخ وتحذير.
و {مَنْ} اسم موصول وصلته صادق على موجود ذي إدراك كائن في السماء. وظاهر وقوع هذا الموصول عقب جمل {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً} إلى قوله: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] أن الإتيان بالموصول من قبيل الإظهار في مقام الإضمار، وأن مقتضى الظاهر أن يقال أأمنتموه أن يخسف بكم الأرض؛ فيتأتى أن الإتيان بالموصول لما تؤذن به الصلة من عظيم تصرفه في العالم العلوي الذي هو مصدر القوى والعناصر وعجائب الكائنات فيصير قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} في الموضعين من قبيل المتشابه الذي يعطي ظاهره معنى الحلول في مكان وذلك لا يليق بالله، ويجيء فيه ما في أمثاله من طريقتي التفويض للسلف والتأويل للخلف رحمهم الله أجمعين.
وقد أولوه بمعنى: من في السماء عذابه أو قدرته أو سلطانه على نحو تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] وأمثاله، وخص ذلك بالسماء لأن إثباته لله تعالى ينفيه عن أصنامهم.
ولكن هذا الموصول غير مكين في باب المتشابه لأنه مجمل قابل للتأويل بما يحتمله { مَنْ} أن يكون ما صدقه مخلوقات ذات إدراك مقرها السماء وهي الملائكة فيصح أن تصدق {مَنْ} على طوائف من الملائكة الموكلين بالأمر التكويني في السماء والأرض قال تعالى: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12]، ويصح أن يراد باسم الموصول ملك واحد معين وظيفته فعل هذا الخسف، فقد قيل: إن جبريل هو الملك الموكل بالعذاب.
وإسناد فعل { يَخْسِفَ} إلى "الملائكة" أو إلى واحد منهم حقيقة لأنه فاعل الخسف قال تعالى حكاية عن الملائكة {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ... إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ...إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ} [العنكبوت:31- 34].

وإفراد ضمير {يخسف} مراعاة للفظ {من} إذا أريد طائفة من الملائكة أو مراعاة للفظ والمعنى إذا كان ما صدق {من} ملكا واحدا.
والمعنى: توبيخهم على سوء معاملتهم ربهم كأنهم آمنون من أن يأمر الله ملائكته بأن يخسفوا الأرض بالمشركين.
والخسف: انقلاب ظاهر السطح من بعض الأرض باطنا وباطنه ظاهرا وهو شدة الزلزال.
وفعل خسف يستعمل قاصرا ومتعديا وهو من باب ضرب، وتقدم عند قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} [النحل: 45].
والباء في قوله: {بكم} للمصاحبة، أي يخسف الأرض مصاحبة لذواتكم. وفي الجمع بين السماء والأرض محسن الطباق.
والمصدر المنسبك من {أَنْ يَخْسِفَ} يجوز أن يكون بدل اشتمال من اسم الموصول لأن الخسف من شأن من في السماء، ويجوز أن يكون منصوبا على نزع الخافض وهو مطرد مع {أن} ، والخافض المحذوف حرف "من".
وفرع على الخسف المتوقع المهدد به أن تمور الأرض تفريع الأثر على المؤثر لأن الخسف يحدث المور، فإذا خسفت الأرض فاجأها المور لا محالة، لكن نظم الكلام جرى على ما يناسب جعل التهديد بمنزلة حادث وقع فلذلك جيء بعده بالحرف الدال على المفاجأة لأن حق المفاجأة أن تكون حاصلة زمن الحال لا الاستقبال كما في مغني اللبيب فإذا أريد تحقيق حصول الفعل المستقبل نزل منزلة الواقع في الحال كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25]، وإذا أريد احتضار حالة فعل حصل فيما مضى نزل كذلك منزلة المشاهد في الحال كقوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} [يونس: 21]، فكان قوله: {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} مؤذنا بتشبيه حالة الخسف المتوقع المهدد به بحالة خسف حصل بجامع التحقق كما قالوا في التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي، وحذف المركب الدال على الحالة المشبه بها ورمز إليه بما هو من آثاره ويتفرع عنه فكان في الكلام تمثيلية مكنية.
والمور: الارتجاج والاضطراب وتقدم في قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} في سورة [الطور:9].

[17] {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} .
{أَمْ} لاضطراب الانتقال من غرض إلى غرض، وهو انتقال من الاستفهام الإنكاري التعجيبي إلى آخر مثله باعتبار اختلاف الأثرين الصادرين عن مفعول الفعل المستفهم عنه اختلافا يوجب تفاوتا بين كنهي الفعلين وإن كانا متحدين في الغاية، فالاستفهام الأول إنكار على أمنهم الذي في السماء من أن يفعل فعلا أرضيا.
والاستفهام الواقع من {أَمْ} إنكار عليهم أن يأمنوا من أن يرسل عليهم من السماء حاصب وذلك أمكن لمن في السماء وأشد وقعا على أهل الأرض. والكلام على قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} تقدم في الآية قبلها ما يغني عنه.
وتفريع جملة {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} على الاستفهام الإنكاري كتفريع جملة {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أي فحين يخسف بكم أو يرسل عليهم حاصب تعلمون كيف نذير، وحرف التنفيس حقه الدخول على الأخبار التي ستقع في المستقبل، وإرسال الحاصب غير مخبر بحصوله وإلا لما تخلف لأن خبر الله لا يتخلف، وإنما هو تهديد وتحذير فإنهم ربما آمنوا وأقلعوا فسلموا من إرسال الحاصب عليهم ولكن لما أريد تحقيق هذا التهديد شبه بالأمر الذي وقع فكان تفريع صيغة الإخبار على هذا مؤذنا بتشبيه المهدد به بالأمر الواقع على طريقة التمثيلية الكنية، وجملة {فَسَتَعْلَمُونَ} قرينتها لأنها من روادف المشبه به كما تقدم.
و {كَيْفَ نَذِيرِ} استفهام معلق فعل "تعلمون" عن العمل، وهو استفهام للتهديد والتهويل، والجملة مستأنفة.
وحذفت ياء المتكلم من {نذيري} تخفيفا وللرعي على الفاصلة.
والنذير مصدر بمعنى الإنذار مثل النكير بمعنى الإنكار.
وقدم التهديد بالخسف على التهديد بالحاصب لأن الخسف من أحوال الأرض، والكلام على أحوالها أقرب هنا فسلك شبه طريق النشر المعكوس، ولأن إرسال الحاصب عليهم جزاء على كفرهم بنعمة الله التي منها رزقهم في الأرض المشار إليه بقوله: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] فإن منشأ الأرزاق الأرضية من غيوث السماء قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22].

[18] {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} .
بعد أن وجه الله إليهم الخطاب تذكيرا واستدلالا وامتنانا وتهديدا وتهويلا ابتداء من قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13] التفت عن خطابهم إلى الإخبار عنهم بحالة الغيبة، تعريضا بالغضب عليهم بما أتوه من كل تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا جديرين بإبعادهم عز الحضور للخطاب، فلذلك لم يقل ولقد كذب الذين من قبلكم ولم يقطع توجيه التذكير إليهم والوعيد لعلهم يتدبرون في أن الله لم يدخرهم نصحا.
فالجملة عطف على جملة {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك: 17] لمناسبة أن مما عوقب به بعض الأمم المكذبين من خسف أو إرسال حجارة من السماء وهم قوم لوط، ومنهم من خسف بهم مثل أصحاب الرس.
ولك أن تجعل الواو للحال، أي كيف تأمنون ذلك عندما تكذبون الرسول في حال أنه قد كذب الذين من قبلكم فهل علمتم ما أصابهم على تكذيبهم الرسل.
ضرب الله لهم مثلا بأمم من قبلهم كذبوا الرسل فأصابهم من الاستئصال ما قد علموا أخباره لعلهم أن يتعضوا بقياس التمثيل إن كانت عقولهم لم تبلغ درجة الانتفاع بأقيسة الاستنتاج، فإن المشركين من العرب عرفوا آثار عاد وثمود وتناقلوا أخبار قوم نوح وقوم لوط وأصحاب الرس وفرع {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهاما تقريريا وتنكيريا وهو كناية عن تحقيق وقوعه وأنه وقع في حال فظاعة.
وقد أكد الخبر باللام و"قد" لتنزيل المعرض بهم منزلة من يظن أن الله عاقب الذين من قبلهم لغير جرم أو لجرم غير التكذيب. فهو مفرع مؤكد، فالمعنى: لقد كذب الذين من قبلهم ولقد كان نكيري عليهم بتلك الكيفية.
و {نكير} : أصله نكيري بالإضافة إلى ياء المتكلم المحذوفة تخفيفا، كما في قوله: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 17]، والمعنى: كيف رأيتم أثر نكيري عليهم فاعلموا أن نكيري عليكم صائر بكم إلى مثل ما صار بهم نكيري عليهم.
والمراد بالنكير المنظر بنكير الله على الذين من قبلهم، ما أفاده استفهام الإنكار في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16] وقوله: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك: 17]

[19] {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} .
عطف على جملة {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً} [الملك: من الآية15] استرسالا في الدلائل على انفراد الله تعالى بالتصرف في الموجودات، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات وهي أحوال الطير في نظام حركاتها في حال طيرانها إذ لا تمشي على الأرض كما هو في حركات غيرها على الأرض، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفرد به.
واشتمل التذكير بعجيب خلقة الطير في طيرانها على ضرب من الإطناب لأن الأوصاف الثلاثة المستفادة من قوله: {فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} تصور صورة حركات الطيران للسامعين فتنبههم لدقائق ربما أغفلهم عن تدقيق النظر فيها نشأتهم بينها من وقت ذهول الإدراك في زمن الصبا، فإن المرء التونسي أو المغربي مثلا إذا سافر إلى بلاد الهند أو إلى بلاد السودان فرأى الفيلة وهو مكتمل العقل دقيق التمييز أدرك من دقائق خلقة الفيل ما لا يدركه الرجل من أهل الهند الناشئ بين الفيلة، وكم غفل الناس عن دقائق في المخلوقات من الحيوان والجماد ما لو تتبعوه لتجلى لهم منها ما يملأ وصفه الصحف قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت.ْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 20]، وقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات:21].
وقد رأيت بعض من شاهد البحر وهو كبير، ولم يكن شاهده من قبل، كيف امتلكه من العجب ما ليس لأحد ممن ألفوه معشاره.
وهذا الإطناب في هذه السورة مخالف لما في نظير هذه الآية من سورة النحل في قوله: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} . وذلك بحسب مقتضاه اختلاف المقامين فسورة النحل رابعة قبل سورة الملك، فلما أوقظت عقولهم فيها للنظر إلى ما في خلقة الطير من الدلائل فلم يتفطنوا وسلك في هذه السورة مسلك الإطناب بزيادة ذكر أوصاف ثلاثة:
فالوصف الأول: ما أفاده قوله: {فوقهم} فإن جميع الدواب تمشي على الأرض والطير كذلك فإذا طار الطائر انتقل إلى حالة عجيبة مخالفة لبقية المخلوقات وهي السير في

الجو بواسطة تحريك جناحيه ذلك سر قوله تعالى: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] بعد قوله: {وَلا طَائِرٍ} في سورة الأنعام لقصد تصوير تلك الحالة.
والوصف الثاني: {صافات} وهو وصف بوزن اسم الفاعل مشتق من الصف، وهو كون أشياء متعددة متقاربة الأمكنة وباستواء، وهو قاصر ومتعد، يقال: صفوا بمعنى اصطفوا كما حكى الله عن الملائكة {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] وقال تعالى في البدن: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]. ويقال: صفهم إذا جعلهم مستوين في الموقف، وفي حديث ابن عباس في الجنائز مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبر منبوذ إلى قوله "فصفنا خلفه وكبر" .
والمراد هنا أن الطير صافة أجنحتها فحذف المفعول لعلمه من الوصف الجاري على الطير إذ لا تجعل الطير أشياء مصفوفة إلا ريش أجنحتها عند الطيران فالطائر إذا طار بسط جناحيه، أي مدها فصف ريش الجناح فإذا تمدد الجناح ظهر ريشه مصطفا فكان ذلك الاصطفاف من أثر فعل الطير فوصفت به، وتقدم عند قوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} في سورة النور [41]. وبسط الجناحين يمكن الطائر من الطيران فهو كمد اليدين للسابح في الماء.
الوصف الثالث: {ويقبضن} وهو عطف على {صافات} من عطف الفعل على الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق وإفادة الاتصاف بحدوث المصدر في فاعله، فلم يفت بعطفه تماثل المعطوفين في الاسمية والفعلية الذي هو من محسنات الوصل.
والقبض: ضد البسط. والمراد به هنا ضد الصف المذكور قبله، إذ كان ذلك الصف صادقا على معنى البسط ومفعوله المحذوف هنا هو عين المحذوف في المعطوف عليه، أي قابضات أجنحتهن حين يدنينها من جنوبهن للازدياد من تحريك الهواء للاستمرار في الطيران.
وأوثر الفعل المضارع في {يقبضن} لاستحضار تلك الحالة العجيبة وهي حالة عكس بسط الجناحين إذ بذلك العكس يزداد الطيران قوة امتداد زمان.
وجيء في وصف الطير بـ {صافات} بصيغة الاسم لأن الصف هو أكثر أحوالها عند الطيران فناسبه الاسم الدال على الثبات، وجيء في وصفهن بالقبض بصيغة المضارع لدلالة الفعل على التجدد، أي ويجددن القبض أجنحتهن في خلال الطيران للاستعانة بقبض

الأجنحة على زيادة التحرك عندما يحسسن بتغلب جاذبية الأرض على حركات الطيران، ونظيره قوله تعالى في الجبال والطير: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} [صّ:18- 19] لأن التسبيح في وقتين والطير محشورة دوما.
وانتصب {فوقهم} على الحال من {الطَّيْرَ } وكذلك انتصب {صافات} .
وجملة {ويقبضن} في موضع نصب على الحال لعطفها على الوصف الذي هو حال فالرؤية بصرية مضمنة معنى النظر، ولذلك عديت إلى المرئي ب"إلى". والاستفهام في {أَوَلَمْ يَرَوْا} إنكاري، نزلوا منزلة من لم ير هاته الأحوال في الطير لأنهم لم يعتبروا بها ولم يهتدوا إلى دلالتها على انفراد خالقها بالإلهية.
وجملة {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} مبينة لجملة {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} وما فيها من استفهام إنكار، أي كان حقهم أن يعلموا أنهن ما يمسكهن إلا الرحمان إذ لا ممسك لها ترونه كقوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الحج: 65].
وفي هذا إيماء إلى أن الذي أمسك الطير عن الهوي المفضي إلى الهلاك هو الذي أهلك الأمم الذين من قبل هؤلاء فلو لم يشركوا به ولو استعصموا بطاعته لأنجاهم من الهلاك كما أنجى الطير من الهوي.
ومعنى إمساك الله إياها: حفظها من السقوط على الأرض بما أودع في خلقتها من الخصائص في خفة عظامها وقوة حركة الجوانح وما جعل لهن من القوادم، وهي ريشات عشر هي مقاديم ريش الجناح، وفي الخوافي وهي ما دونها من الجناح إلى منتهى ريشه، وما خلقه من شكل أجسادها المعين على نفوذها في الهواء فإن ذلك كله بخلق الله إياها مانعا لها من السقوط وليس ذلك بمعاليق يعلقها بها أحد كما يعلق المشعوذ بعض الصور بخيوط دقيقة لا تبدو للناظرين.
وإيثار اسم {الرحمان} هنا دون الاسم العلم بخلاف ما في سورة النحل {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} لعله للوجه الذي ذكرناه آنفا في خطابهم بطريقة الإطناب من قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} الآية.
فمن جملة عنادهم إنكارهم اسم {الرحمان} فلما لم يرعووا عما هم عليه ذكر وصف "الرحمان" في هذه السورة أربع مرات.
وجملة {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} تعليل لمضمون {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} أي

أمسكهن الرحمان لعموم علمه وحكمته ولا يمسكهن غيره لقصور علمه أو انتفائه.
والبصير: العليم، مشتق من البصيرة، فهو هنا غير الوصف الذي هو من الأسماء الحسنى في نحو: السميع البصير، وإنما هو هنا من باب قولهم: فلان بصير بالأمور. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]، فهو خبر لا وصف ولا منزل منزلة الاسم. وتقديم {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} على متعلقه لإفادة القصر الإضافي وهو قصر قلب ردا على من يزعمون أنه لا يعلم كل شيء كالذين قيل لهم {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13].
[20] {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} .
"أم" منقطعة وهي للاضطراب الانتقالي من غرض إلى غرض فبعد استيفاء غرض إثبات الإلهية الحق لله تعالى بالوحدانية وتذكيرهم بأنهم مفتقرون إليه، انتقل إلى إبطال أن يكون أحد يدفع عنهم العذاب الذي توعدهم الله به فوجه إليهم استفهام أن يدلوا على أحد من أصنامهم أو غيرها يقال فيه هذا هو الذي ينصر من دون الله، فإنهم غير مستطيعين تعيين أحد لذلك إلا إذا سلكوا طريق البهتان وما هم بسالكيه في مثل هذا لافتضاح أمره.
وهذا الكلام ناشئ عن قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] الآية فهو مثله معترض بين حجج الاستدلال.
و"أم" المنقطعة لا يفارقها معنى الاستفهام، والأكثر أن يكون مقدارا فإذا صرح به كما هنا فأوضح ولا يتوهم أن الاستفهام يقدر بعدها ولو كان يليها استفهام مصرح به فيشكل اجتماع استفهامين.
والاستفهام مستعمل في التعجيز عن التعيين فيؤول إلى الانتفاء، والإشارة مشار بها إلى مفهوم {جُنْدٌ} مفروض في الأذهان استحضر للمخاطبين، فجعل كأنه حاضر في الخارج يشاهده المخاطبون، فيطلب المتكلم منهم تعيين قبيله بأن يقولوا بنو فلان. ولما كان الاستفهام مستعملا في التعجيز استلزم ذلك أن هذا الجند المفروض غير كائن.
وقريب من ذلك قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ونحوه.

و"من" في موضع مبتدأ واسم الإشارة خبر عن المبتدأ.
وكتب في المصحف {أمن} بميم واحدة بعد الهمزة وهما ميم "أم" وميم "من" المدغمتين بجعلهما كالكلمة الواحدة كما كتب {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] بميم واحدة بعد العين، ولا تقرأ إلا بميم مشددة إذ المعتبر في قراءة القرآن الرواية دون الكتابة وإنما يكتب القرآن للإعانة على مراجعته.
و {الَّذِي هُوَ جُنْدٌ} صفة لاسم الإشارة، و {لكم} صفة لـ {جند} و {يَنْصُرُكُمْ} جملة في موضع الحال من {جند} أو صفة ثانية لـ {جند} .
ويجوز أن يكون اسم الإشارة مشارا به إلى جماعة الأصنام المعروفة عندهم الموضوعة في الكعبة وحولها الذي اتخذتموه جندا فمن هو حتى ينصركم من دون الله.
فتكون "من" استفهامية مستعملة في التحقير مثل قوله: {مِنْ فِرْعَوْنَ} [الدخان: 31] في قراءة فتح ميم "من" ورفع فرعون، أي من هذا الجند فإنه أحقر من أن يعرف، واسم الإشارة صفة لاسم الاستفهام مبينة له، و {الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} صفة لاسم الإشارة. وجملة {يَنْصُرُكُمْ} خبر عن اسم الاستفهام، أي هو أقل من أن ينصركم من دون الرحمان. وجيء بالجملة الاسمية {الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} لدلالتها على الدوام والثبوت لأن الجند يكونوا على استعداد للنصر إذا دعي إليه سواء قاتل أم لم يقاتل لأن النصر يحتاج إلى استعداد وتهيؤ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها" أي هيعة جهاد.
فالمعنى: ينصركم عند احتياجكم إلى نصره، فهذا وجه الجمع بين جملة {هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} وجملة {يَنْصُرُكُمْ} ولم يستغن بالثانية عن الأولى.
و {دون} أصله ظرف للمكان الأسفل ضد فوق، ويطلق على المغاير فيكون بمعنى غير على طريقة المجاز المرسل.
فقوله: {مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} يجوز أن يكون ظرفا مستقرا في موضع الحال من الضمير المستتر في {يَنْصُرُكُمْ} . أي حالة كون الناصر من جانب غير جانب الله، أي من مستطيع غير الله يدفع عنكم السوء على نحو قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الانبياء: 43] فتكون {مِنْ } زائدة مؤكدة للظرف وهي تزاد مع الظروف غير المتصرفة، ولا تجر تلك الظروف بغير {مِنْ} ، قال الحريري في المقامة الرابعة والعشرين وما منصوب

على الظرف لا يخفضه سوى حرف وفسره بظرف عند ولا خصوصية ل عند بل ذلك في جميع الظروف غير المتصرفة.
وتكرير وصف {الرحمان} عقب الآية السابقة للوجه الذي ذكرنا في إيثار هذا الوصف في الآية السابقة.
وذيل هذا الاعتراض بقوله: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} ، أي ذلك شأن الكافرين كلهم وهم أهل الشرك من المخاطبين وغيرهم، أي في غرور من الغفلة عن توقع بأس الله تعالى، أو في غرور من اعتمادهم على الأصنام كما غر الأمم السالفة دينهم بأن الأوثان تنفعهم وتدفع عنهم العذاب فلم يجدوا ذلك منهم وقت الحاجة فكذلك سيقع لأمثالهم قال تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10] وقال: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر: 43] فتعريف { الْكَافِرُونَ} للاستغراق. وليس المراد به كافرون معهودون حتى يكون من وضع المظهر موضع الضمير.
والغرور: ظن النفس وقوع أمر نافع لها بمخائل تتوهمها، وهو بخلاف ذلك أو هو غير واقع.
وتقدم في قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} في آخر آل عمران [196] وقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} في [الأنعام: 112] وقوله: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} في سورة [فاطر: 5].
والظرفية مجازية مستعملة في شدة التلبس بالغرور حتى كأن الغرور محيط بهم إحاطة الظرف.
والمعنى: ما الكافرون في حال من الأحوال إلا في حال الغرور، وهذا قصر إضافي لقلب اعتقادهم أنهم في مأمن من الكوارث بحماية آلهتهم.
[21] {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} .
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} .
انتقال آخر والكلام على أسلوب قوله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} [الملك: 20]، وهذا الكلام ناظر إلى قوله: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] على طريقة اللف والنشر المعكوس.

والرزق: ما ينتفع به الناس، ويطلق على المطر، وعلى الطعام، كما تقدم في قوله تعالى: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37].
وضمير {أمسك} وضمير {رزقه} عائدان إلى لفظ {الرحمان} الواقع في قوله: {مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك: 20].
وجيء بالصلة فعلا مضارعا لدلالته على التجدد لأن الرزق يقتضي التكرار إذ حاجة البشر إليه مستمرة. وكتب {أمن} في المصحف بصورة كلمة واحدة كما كتب نظيرتها المتقدمة آنفا.
{بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} .
استئناف بياني وقع جوابا عن سؤال ناشئ عن الدلائل والقوارع والزواجر والعظات والعبر المتقدمة ابتداء من قوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] إلى هنا، فيتجه للسائل أن يقول: لعلهم نفعت عندهم الآيات والنذر، واعتبروا بالآيات والعبر، فأجيب بإبطال ظنه بأنهم لجوا في عتو ونفور.
و {بل} للاضطراب أو الإبطال عما تضمنه الاستفهامان السابقان أو للانتقال من غرض التعجيز إلى الإخبار عن عنادهم.
يقال: لج في الخصومة من باب سمع، أي اشتد في النزاع والخصام، أي استمروا على العناد يكتنفهم العتو والنفور، أي لا يترك مخلصا للحق إليهم، فالظرفية مجازية، والعتو: التكبر والطغيان.
والنفور: هو الاشمئزاز من الشيء والهروب منه.
والمعنى: اشتدوا في الخصام متلبس بالكبر عن اتباع الرسول حرصا على بقاء سيادتهم وبالنفور عن الحق لكراهية ما يخالف أهواءهم وما ألفوه من الباطل.
[22] {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
هذا مثل ضربه الله للكافرين والمؤمنين أو لرجلين: كافر ومؤمن، لأنه جاء مفرعا على قوله: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] وقوله: {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} وما اتصل ذلك به من الكلام الذي سيق مساق الحجة عليهم بقوله: {أَمَّنْ هَذَا

الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} [الملك: 20] {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك: 21]، وذلك مما اتفق عليه المفسرون على اختلاف مناحيهم ولكن لم يعرج أحد منهم على بيان كيف يتعين التمثيل الأول للكافرين والثاني للمؤمنين حتى يظهر وجه إلزام الله المشركين بأنهم أهل المثل الأول مثل السوء، فإذا لم يتعين ذلك من الهيئة المشبهة لم يتضح إلزام المشركين بأن حالهم حال التمثيل الأول، فيخال كل من الفريقين أن خصمه هو مضرب المثل السوء. ويتوهم أن الكلام ورد على طريقة الكلام المنصف نحو {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] بذلك ينبو عنه المقام هنا لأن الكلام هنا وارد في مقام المحاجة والاستدلال وهنالك في مقام المتاركة أو الاستنزال.
والذي انقدح لي: أن التمثيل جرى على تشبيه حال الكافر والمؤمن بحالة مشي إنسان مختلفة وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة كما يقتضيه قوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فلا بد من اعتبار مشي المكب على وجهه مشيا على صراط معوج، وتعين أن يكون في قوله: {مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} استعارة أخرى بتشبيه حال السالك صراطا معوجا في تأمله وترسمه آثار السير في الطريق غير المستقيم خشية أن يضل فيه، بحال المكب على وجهه يتوسم حال الطريق وقرينة ذلك مقابلته بقوله: {سَوِيّاً} المشعر بأن {مكبا} أطلق على غير السوي وهو المنحني المطاطئ يتوسم الآثار اللائحة من آثار السائرين لعله يعرف الطريق الموصلة إلى المقصود.
فالمشرك يتوجه بعبادته إلى آلهة كثيرة لا يدري لعل بعضها أقوى من بعض وأعطف على بعض القبائل من بعض، فقد كانت ثقيف يعبدون اللات، وكان الأوس والخزرج يعبدون مناة ولكل قبيله إله أو آلهة فتقسم الحاجات عندها واستنصر كل قوم بآلهتهم وطمعوا في غنائها عنهم وهذه حالة يعرفونها فلا يمترون في نهم مضرب المثل الأول، وكذلك حال أهل الإشراك في كل زمان. ألا تسمع ما حكاه الله عن يوسف عليه السلام من قوله: { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]. وينور هذا التفسير أنه يفسره قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فقابل في الآية الأولى الصراط المستقيم المشبه به الإسلام بالسبل المتفرقة المشبه بها تعداد الأصنام، وجعل في الآية الثانية الإسلام مشبها بالسبيل وسالكه يدعو ببصيرة ثم قابل بينه وبين المشركين بقوله {وَمَا أَنَا

مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
فالآية تشتمل على ثلاث استعارات تمثيلية فقوله: {يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} تشبيه لحال المشركين في تقسم أمره بين الآلهة طلبا للذي ينفعه منها الشاك في انتفاعه بها، بحال السائر قاصدا أرضا معينة ليس لها طريق جادة فهو يتتبع بنيات الطريق الملتوية وتلتبس عليه ولا يوقن بالطريقة التي تبلغ إلى مقصده فيبقى حائرا متوسما يتعرف آثار أقدام الناس وأخفاف الإبل فيعلم بها أن الطريق مسلوكة أو متروكة.
وفي ضمن هذه التمثيلية تمثيلية أخرى مبنية عليه بقوله: {مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} بتشبيه حال المتحير المتطلب للآثار في الأرض بحال المكب على وجهه في شدة اقترابه من الأرض.
وقوله: {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً} تشبيه لحال الذي آمن برب واحد الواثق بنصر ربه وتأييده وبأنه مصادف للحق، بحال الماشي في طريق جادة واضحة لا ينظر إلا إلى اتجاه وجهه فهو مستو في سيره.
وقد حصل في الآية إيجاز حذف إذ استغني عن وصف الطريق بالالتواء في التمثيل الأول لدلالة مقابلته بالاستقامة في التمثيل الثاني.
والفاء في صدر الجملة للتفريع على جميع ما تقدم من الدلائل والعبر من أول السورة إلى هنا، والاستفهام تقريري.
والمكب: اسم فاعل من أكب، إذا صار ذا كب، فالهمزة فيه أصلها لإفادة المصير في الشيء مثل همزة: أقشع السحاب، إذا دخل في حالة القشع، ومنه قولهم: أنفض القوم إذا هلكت مواشيهم، وأرملوا إذا فني زادهم، وهي أفعال قليلة فيما جاء فيه المجرد متعديا والمهموز قاصرا.
و{أهدى} مشتق من الهدى، وهو معرفة الطريق وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة لأن الذي يمشي مكبا على وجهه لا شيء عنده من الاهتداء فهو من باب قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] في قول كثير من الأيمة. ومثل هذا لا يخلو من تهكم أو تمليح بحسب المقام.
والسوي: الشديد الاستواء فعيل بمعنى فاعل قال تعالى: {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: 43]. و"أم" في قوله {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً} حرف عطف وهي "أم" المعادلة لهمزة

الاستفهام. و"من" الأولى والثانية في قوله: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً} أو قوله: {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً} موصولتان ومحملهما أن المراد منهما فريق المؤمنين وفريق المشركين وقيل: أريد شخص معين أريد بالأولى أبو جهل، وبالثانية النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أو حمزة رضي الله عنهما.
[23] {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} .
هذا انتقال من توجيه الله تعالى الخطاب إلى المشركين للتبصير بالحجج والدلائل وما تخلل ذلك من الوعيد أو التهديد إلى خطابهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما سيذكر تفننا في البيان وتنشيطا للاذهان حتى كأن الكلام صدر من قائلين وترفيعا لقدر نبيه صلى الله عليه وسلم بإعطائه حظا من التذكير معه كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان: 58].
والانتقال هنا إلى الاستدلال بفروع المخلوقات بعد الاستدلال بأصولها، ومن الاستدلال بفروع أعراض الإنسان بعد أصلها، فمن الاستدلال بخلق السماوات والأرض والموت والحياة، إلى الاستدلال بخلق الإنسان ومداركه، وقد اتبع الأمر بالقول بخمسة مثله بطريقة التكرير بدون عاطف اهتماما بما بعد كل أمر من مقالة يبلغها إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} الخ.
والضمير {هو} إلى الرحمان من قوله: {مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك: 20].
والإنشاء:الإيجاد.
وإفراد {السمع} لأن أصله مصدر، أي جعل لكم حالة السمع، وأما {الأبصار} فهو جمع البصر بمعنى العين، وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} في سورة [البقرة: 7]. و {الأفئدة} القلوب، والمراد بها العقول، وهو إطلاق شائع في استعمال العرب.
والقصر المستفاد من تعريف المسند إليه والمسند في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} إلى آخره قصر إفراد بتنزيل المخاطبين لشركهم منزلة من يعتقد أن الأصنام شاركت الله في الإنشاء وإعطاء الإحساس والإدراك.
و {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} حال من ضمير المخاطبين، أي أنعم عليكم بهذه النعم في

حال إهمالكم شكرها.
و {ما} مصدرية والمصدر المنسبك في موضع فاعل {قَلِيلاً} لاعتماد {قَلِيلاً} على صاحب حال. و {قَلِيلاً} صفة مشبهة.
وقد استعمل {قَلِيلاً} في معنى النفي والعدم. وهذا الإطلاق من ضروب الكناية والاقتصاد في الحكم على طريقة التمليح وتقدم عند قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} في [البقرة: 88] وقوله تعالى: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} في [النساء: 46]، وتقول العرب: هذه أرض قلما تنبت.
[24] {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
إعادة فعل {قُلْ} من قبيل التكرير المشعر بالاهتمام بالغرض المسوقة فيه تلك الأقوال.
والذرء: الإكثار من الموجود، فهذا أخص من قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} أي هو الذي كثركم على الأرض كقوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي أعمركم إياها.
والقول في صيغة القصر في قوله: {هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} مثل القول في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} الآية.
وقوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي بعد أن أكثركم في الأرض فهو يزيلكم بموت الأجيال فكني عن الموت بالحشر لأنهم قد علموا أن الحشر الذي أنذروا به لا يكون إلا بعد البعث والبعث بعد الموت، فالكناية عن الموت بالحشر بمرتبتين من الملازمة، وقد أدمج في ذلك تذكيرهم بالموت الذي قد علموا أنه لابد منه، وإنذارهم بالبعث والحشر.
فتقديم المعمول في {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} للاهتمام والرعاية على الفاصلة، وليس للاختصاص لأنهم لم يكونوا يدعون الحشر أصلا فضلا عن أن يدعوه لغير الله.
[25-26] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين،َ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
لما لم تكن لهم معارضة للحجة التي في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} [الملك: 23] إلى

{هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الملك: 24] انحصر عنادهم في مضمون قوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الملك: 24] فإنهم قد جحدوا البعث وأعلنوا بجحده وتعجبوا من إنذار القرآن به، وقال بعضهم لبعض: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 7-8]} وكانوا يقولون: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سبأ:29] واستمروا على قوله، فلذلك حكاه الله عنهم بصيغة المضارع المقتضية للتكرير.
و {الْوَعْدُ} مصدر بمعنى اسم المفعول، أي متى هذا الوعد فيجوز أن يراد به الحشر المستفاد من قوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الملك: 24] فالإشارة إليه بقوله: {هَذَا} ظاهرة، ويجوز أن يراد به وعد آخر بنصر المسلمين، فالإشارة إلى وعيد سمعوه.
والاستفهام بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} مستعمل في التهكم لأن من عادتهم أن يستهزئوا بذلك قال تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} [الاسراء: من الآية51].
وأتوا بلفظ {الْوَعْدُ} استنجازا له لأن شأن الوعد الوفاء.
وضمير الخطاب في {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لأنهم يلهجون بإنذارهم بيوم الحشر، وتقدم نظيره في سورة النبأ.
وأمر الله رسوله بأن يجيب سؤالهم بجلة على خلاف مرادهم بل على ظاهر الاستفهام عن وقت الوعد على طريقة الأسلوب الحكيم، بأن وقت هذا الوعد لا يعلمه إلا الله، فقوله: {قُلِ} هنا أمر بقول يختص بجواب كلامهم وفصل دون عطف يجريان المقول في سياق المحاورة، ولم يعطف فعل {قُلِ} بالفاء جريا على سنن أمثاله الواقعة في المجاوبة والمحاورة، كما تقدم في نظائره الكثيرة وتقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في [البقرة: 30 ].
ولام التعريف في {الْعِلْمُ} للعهد، أي العلم بهذا الوعد. وهذه هي اللام التي تسمى عوضا عن المضاف إليه. وهذا قصر حقيقي.
{وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} قصر إضافي، أي ما أنا إلا نذير بوقوع هذا الوعد لا أتجاوز ذلك إلى كوني عالما بوقته.
والمبين: اسم فاعل من أبان المتعدي، أي مبين لما أمرت بتبليغه.

[27] {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} .
"لما" حرف توقيت، أي سيئت وجوههم في وقت رؤيتهم الوعد.
والفاء فصيحة لأنها اقتضت جملة محذوفة تقديرها: فحل بهم الوعد فلما رأوه الخ، أي رأوا الموعد به.
وفعل {رَأَوْهُ} مستعمل في المستقبل، وجيء به بصيغة الماضي لشبهه بالماضي في تحقق الوقوع مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] لأنه صادر عمن لا إخلاف في أخباره فإن هذا الوعد لم يكن قد حصل حين نزول الآية بمكة سواء أريد بالوعد الوعد بالبعث كما هو مقتضى السياق أم أريد به وعد النصر، بقرينة قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الملك:25] فإنه يقتضي أنهم يقولونه في الحال وأن الوعد غير حاصل حين قولهم لأنهم يسألون عنه ب {مَتَى} .
ونظير هذا الاستعمال قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} في [النساء:41]. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} في [النحل: 89]، إذ جمع في الآيتين بين فعل {نَبْعَثُ} مضارعا وفعل {وَجِئْنَا} ماضيا.
وأصل المعنى: فإذا يرونه تساء وجوه الذين كفروا الخ، فعدل عن ذلك إلى صوغ الوعيد في صورة الإخبار عن أمر وقع فجيء بالأفعال الماضية.
وضمير {رَأَوْهُ} عائد إلى {الْوَعْدُ} [الملك: 25] بمعنى: رأوا الموعود به.
والزلفة بضم الزاي: اسم مصدر زلف إذا قرب وهو من باب تعب. وهذا إخبار بالمصدر للمبالغة، أي رأوه شديد القرب منهم، أي أخذ ينالهم.
و {سِيئَتْ} بني للنائب، أي ساء وجوههم ذلك الوعد بمعنى الموعد. وأسند حصول السوء إلى الوجوه لتضمينه معنى كلحت، أي سوء شديد تظهر آثار الانفعال منه على الوجوه، كما أسند الخوف إلى الأعين في قول الأعشى:
وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
{وَقِيلَ} أي لهم.

و {تَدَّعُونَ} بتشديد الدال مضارع ادعى. وقد حذف مفعوله لظهوره من قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الملك:25]، أي تدعون أنه لا يكون.
و {بِهِ} متعلق ب {تَدَّعُونَ} لأنه ضمن معنى {تكذبون} فإنه إذا ضمن عامل معنى عامل آخر يحذف معمول العامل المذكور ويذكر معمول ضمنه ليدل المذكور على المحذوف. وذلك ضرب من الإيجاز.
وتقديم المجرور على العامل للاهتمام بإخطاره وللرعاية على الفاصلة. والقائل لهم {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} ملائكة المحشر أو خزنة جهنم، فعدل عن تعيين القائل، إذ المقصود المقول دون القائل فحذف القائل من الإيجاز.
والقصر المستفاد من تعريف جزأي الإسناد تعريض بهم بأنهم من شدة جحودهم بمنزلة من إذا رأوا الوعد حسبوه شيئا آخر على نحو قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الاحقاف: 24].
وقرأ الجمهور {سيئت} بكسرة السين خالصة. وقرأه ابن عامر والكسائي ونافع بإشمال الكسرة ضمة، وهما لغتان في فاء كل ثلاثي معتل العين إذا بني للمجهول.
وقرأ الجمهور {تَدَّعُونَ} بفتح الدال المشددة. وقرأه يعقوب بسكون الدال من الدعاء، أي الذي كنتم تدعون الله أن يصيبكم به تهكما وعنادا كما قالوا : {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لأنفال: 32].
[28] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} .
هذا تكرير ثان لفعل {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} [الملك: 23].
كان من بذاءة المشركين أن يجهروا بتمني هلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلاك من معه من المسلمين، وقد حكى القرآن عنهم {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] وحكى عن بعضهم {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة: 98]، وكانوا يتآمرون على قتله، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} [الأنفال: 30] فأمره الله بأن يعرفهم حقيقة تدحض أمانيهم، وهي أن موت أحد أو حياته لا يغني عن غيره ما جره إليه عمله، وقد جرت إليهم أعمالهم غضب الله ووعيده فهو نائلهم حيي الرسول صلى الله عليه وسلم أو بادره المنون،

قال تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف:41-42] وقال {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الانبياء:34] وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] أي المشركين، وقد تكرر هذا المعنى وما يقاربه في القرآن وينسب إلى الشافعي:
تمنى رجال أن أموت فإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقد يكون نزول هذه الآيات السابقة صادف مقالة من مقالاتهم هذه فنزلت الآية في أثنائها وقد يكون نزولها لمناسبة حكاية قولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الملك: 25] بأن قارئه كلام بذيء، مثل أن يقولوا: أبعد هلاكك يأتي الوعد.
والإهلاك: الإماتة، ومقابلة {أَهْلَكَنِيَ} ب {رَحِمَنَا} يدل على أن المراد: أو رحمنا بالحياة، فيفيد أن الحياة رحمة، وأن تأخير الأجل من النعم، وإنما لم يؤخر الله أجل نبيه صلى الله عليه وسلم مع أنه أشرف الرسل لحكم أرادها كما دل عليه قوله "حياتي خير لكم وموتي خير لكم" ، ولعل حكمة ذلك أن الله أكمل الدين الذي أراد إبلاغه فكان إكماله يوم الحج الأكبر من سنة ثلاث وعشرين من البعثة، وكان استمرار نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم خصيصية خصت الله بها من بين الأنبياء، فلما أتم الله دنينه ربا برسوله صلى الله عليه وسلم أن يبقى غير متصل بنزول الوحي فنقله الله إلى الاتصال بالرفيق الأعلى مباشرة بلا واسطة، وقد أشارت إلى هذا سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} من قوله: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر1-3] ولله در عبد بني الحسحاس في عبرته بقوله:
رأيت المنايا لم يدعن محمدا ... ولا باقيا إلا له الموت مرصدا
وقد عوضه الله تعالى بحياة أعلى وأجل، إذ قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وبالحياة الأبدية العاجلة وهي أنه يرد عليه روحه الزكية كلما سلم عليه أحد فيرد عليه السلام كما ثبت بالحديث الصحيح.
وإنما سمى الحياة رحمة له ولمن معه، لأن في حياته نعمة له وللناس ما دام الله مقدرا حياته، وحياة المؤمن رحمة لأنه تكثر له فيها بركة الإيمان والأعمال الصالحة.
والاستفهام في {أَرَأَيْتُمْ} إنكاري أنكر اندفاعهم إلى أمنيات ورغائب لا يجتنون منها نفعا ولكنها مما تمليه عليهم النفوس الخبيثة من الحقد والحسد.
والرؤيا علمية، وفعلها معلق عن العمل فلذلك لم يرد بعده مفعولاه، وهو معلق

بالاستفهام الذي هو في جملة جواب الشرط، فتقدير الكلام: أرأيتم أنفسكم ناجين من عذاب أليم إن هلكت وهلك من معي، فهلاكنا لا يدفع عنكم العذاب المعد للكافرين.
وأقحم الشرط بين فعل الرؤيا وما سد مسد مفعوليه.
والفاء في قوله: {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ} [الملك: 30] رابطة الجواب الشرط لأنه لما وقع بعد ما أصله المبتدأ والخبر وهو المفعولان المقدران رجح جانب الشرط.
والمعية في قوله: {مَنْ مَعِيَ} معية مجازية، وهي الموافقة والمشاركة في الاعتقاد والدين، كما في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] الآية، أي الذين آمنوا معه، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [التحريم: 8]، كما أطلقت الموافقة على الرأي والفهم في قول أبي هريرة أنا مع ابن أخي يعني موافق لأبي سلمة بن عبد الرحمان، وذلك حين اختلف أبو سلمة وابن عباس في المتوفي عنها الحامل إذا وضعت حملها قبل مضي عدة الوفاة.
والاستفهام بقوله: {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} الخ إنكاري، أي لا يجيرهم منه مجير، أي أظننتم أن تجدوا مجيرا لكم إذا هلكنا فذلك متعذر فماذا ينفعكم هلاكنا.
والعذاب المذكور هنا ما عبر عنه بالوعد في الآية قبلها.
وتنكير {عَذَابٍ} للتهويل.
والمراد ب {الْكَافِرِينَ} جميع الكافرين فيشمل المخاطبين.
والكلام بمنزلة التذييل، وفيه حذف، تقديره: من يجيركم من عذاب فإنكم كافرون ولا مجير للكافرين.
وذكر وصف {الْكَافِرِينَ} لما في من الإيماء إلى علة الحكم لأنه وصف إذا علق به حكم أفاد تعليل ما منه اشتقاق الوصف.
وقرأ الجمهور بفتحة على ياء {هْلَكَنِيَ} ، وقرأها حمزة بإسكان الياء.
وقرأ الجمهور ياء {مَعِيَ} بفتحة. وقرأها أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء.
[29] {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}

هذا تكرير ثالث لفعل {قل} من قوله: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} [الملك: 23] الآية.
وجاء هذا الأمر بقول يقوله لهم بمناسبة قوله: {أَوْ رَحِمَنَا} [الملك: 28] فأنه بعد أن سوى بين فرض إهلاك المسلمين وإحيائهم في أن أي الحالين فرض لا يجيرهم معه أحد من العذاب، أعقبه بأن المسلمين آمنوا بالرحمن، فهم مظنة أن تتعلق بهم هذه الصفة فيرحمهم الله في الدنيا والآخرة، فيعلم المشركون علم اليقين أي الفريقين في ضلال حين يرون أثر الرحمة على المسلمين وانتفاءه عن المشركين في الدنيا وخاصة في الآخرة.
وضمير {هُوَ} عائد إلى الله تعالى الواقع في الجملة قبله، أي الله هو الذي وصفه {الرَّحْمَنُ} فهو يرحمنا، وأنكم أنكرتم هذا الاسم فأنتم أحرياء بأن تحرموا آثار رحمته. ونحن توكلنا عليه دون غيره غركم عزكم وجعلتم الأصنام معتمدكم ووكلاءكم.
وبهذه التوطئة يقع الإيماء إلى جانب المهتدي والجانب الضال من قوله: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} لأنه يظهر بادئ تأمل أن الذين في ضلال مبين هم الذين جحدوا وصف {الرَّحْمَنُ} وتوكلوا على الأوثان.
و {مَنْ} موصولة، وما صدق {مَنْ} فريق مبهم متردد من فريقين تضمنها قوله: {إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} [الملك: 28] وقوله: {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} [الملك: 28]، فأحد الفريقين فريق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والآخر فريق الكافرين، أي فستعلمون اتضاح الفريق الذي هو في ضلال مبين.
وتقديم معمول {تَوَكَّلْنَا} عليه لإفادة الاختصاص، أي توكلنا عليه دن غيره تعريضا بمخالفة حال المشركين إذ توكلوا على أصنامهم وأشركوا في التوكل مع الله، أو نسوا التوكل على الله باشتغال فكرتهم بالتوجه إلى الأصنام.
وإنما لم يقدم معمول {آمَنَّا} عليه فلم يقل: به آمنا، لمجرد الاهتمام إلى الإخبار عن إيمانهم بالله لوقوعه عقب وصف الآخرين بالكفر في قوله: {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الملك: 28] فإن هذا جواب آخر على تمنيهم له الهلاك وسلك به طريق التبكيت، أي هو الرحمان يجيرنا من سوء ترومونه لنا لأننا آمنا به ولم نكفر به كما كفرتم، فلم يكن المقصود في إيراده نفي الإشراك وإثبات التوحيد، إذ الكلام في الإهلاك والإنجاء المعبر عنه ب {رَحِمَنَا} ، فجيء بجملة {آمَنَّا} على أصل مجرد معناها دون قصد الاختصاص، بخلاف قوله {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} لأن التوكل يقتضي منجيا وناصرا،

والمشركون متوكلون على أصنامهم وقوتهم وأموالهم، فقيل: نحن لا نتكل ما أنتم متوكلون عليه، بل على الرحمن وحده توكلنا.
وفعل {فَسَتَعْلَمُونَ} معلق عن العمل لمجيء الاستفهام بعده.
وقرأ الجمهور {فَسَتَعْلَمُونَ} بتاء الخطاب على أنه مما أمر بقوله الرسول صلى الله عليه وسلم. وقرأه الكسائي بياء الغائب على أن يكون إخبارا من الله لرسوله بأنه سيعاقبهم عقاب الضالين.
[30] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} .
إيماء إلى أنهم يترقبهم عذاب الجوع بالقحط والجفاف فإن مكة قليلة المياه ولم تكن بها عيون ولا آبار قبل زمزم، كما دل عليه خبر تعجب القافلة من جرهم التي مرت بموضع مكة حين أسكنها إبراهيم عليه السلام هاجر بابنه إسماعيل ففجر الله لها زمزم ولمحت القافلة الطير تحوم حول مكانها فقالوا: ما عهدنا بهذه الأرض ماء، ثم حفر ميمون بن خالد الحضرمي بأعلاها بئرا تسمى بئر ميمون في عهد الجاهلية قبيل البعثة، وكانت بها بئر أخرى تسمى الجفر بالجيم لبني تيم بن مرة، وبئر تسمى الجم ذكرها ابن عطية وأهملها القاموس وتاجه، ولعل هاتين البئرين الأخيرتين لم تكونا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
فماء هذه الآبار هو الماء الذي أنذروا به بأنه يصبح غورا، وهذا الإنذار نظير الواقع في سورة القلم {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} إلى قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
والغور: مصدر غارت البئر، إذا نزح ماؤها فلم تنله الدلاء.
والمراد: ماء البير كما في قوله: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً} في ذكر جنة سورة الكهف.
وأصل الغور: ذهاب الماء في الأرض، مصدر غار الماء إذا ذهب في الأرض. والإخبار به عن الماء من باب الوصف بالمصدر للمبالغة مثل: عدل، ورضى. والمعين: الظاهر على وجه الأرض، والبئر المعينة: القريبة الماء على وجه التشبيه.
والاستفهام في قوله: {مَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ} استفهام إنكاري، أي لا يأتيكم أحد بماء معين: أي غير الله، وأكتفي عن ذكره لظهوره من سياق الكلام ومن قوله قبله {أَمَّنْ هَذَا

الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك: 20] الآيتين.
وقد أصيبوا بقحط شديد بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو المشار إليه في سورة الدخان. ومن المعلوم أن انحباس المطر يتبعه غور مياه الآبار لأن استمدادها من الماء النازل على الأرض، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: من الآية21] وقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة: 74].
ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما أشار إليه في الكشاف مع ما نقل عنه في بيانه، قال: وعن بعض الشطار هو محمد بن زكريا الطبيب كما بينه المصنف فيما نقل عنه أنها أي هذه الآية تليت عنده فقال تجيء به أي الماء الفؤوس والمعاول فذهب ماء عينيه. نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى آياته. والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القلمسميت هذه السورة في معظم التفاسير وفي "صحيح البخاري" "سورة نْ وَالْقَلَمِ" على حكاية اللفظين الواقعين في أولها، أي سورة هذا اللفظ.
وترجمها الترمذي في جامعه وبعض المفسرين سورة {نْ} بالاقتصار على الحرف المفرد الذي افتتحت به مثل ما سميت سورة {ص} وسورة {ق} .
وفي بعض المصاحف سميت "سورة وَالْقَلَمِ" وكذلك رأيت تسميتها في مصحف مخطوط بالخط الكوفي في القرن الخامس.
وهي مكية قال ابن عطية: لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل.
وذكر القرطبي عن الماوردي: أن ابن عباس وقتادة قالا: أولها مكي، إلى قوله: {عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 16]، ومن قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلى {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:17- 33]مدني، ومن قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} إلى قوله: {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور:34- 41] مكي ومن قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:48- 50] مدني، ومن قوله: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [االقلم: 51] إلى آخر السورة مكي.
وفي الإتقان عن السخاوي: أن المدني منها من قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلى {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:17 33] ومن قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:48- 50] فلم يجعل قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} إلى قوله: {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور:34- 41] مدنيا خلافا لما نسبه الماوردي إلى ابن عباس.
وهذه السورة عدها جابر بن زيد ثانية السور نزولا قال: نزلت بعد سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وبعدها سورة المزمل ثم سورة المدثر، والأصح حديث عائشة أن أول ما أنزل

سورة اقرأ باسم ربك ثم فتر الوحي ثم نزلت سورة المدثر.
وما في حديث جابر بن عبد الله أن سورة المدثر نزلت بعد فترة الوحي يحمل على أنها نزلت بعد سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} جمعا بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها.
وفي "تفسير القرطبي" : أن معظم السورة نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل.
واتفق العادون على عد آيها ثنتين وخمسين.
أغراضها
جاء في هذه السورة بالإيماء بالحرف الذي في أولها إلى تحدي المعاندين بالتعجيز عن الإتيان بمثل سور القرآن وهذا أول التحدي الواقع في القرآن إذ ليس في سورة العلق ولا في المزمل ولا في المدثر إشارة إلى التحدي ولا تصريح.
وفيها إشارة إلى التحدي بمعجزة الأمية بقوله: {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1].
وابتدئت بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم تأنيسا له وتسلية عما لقيه من أذى المشركين.
وإبطال مطاعن المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم.
وإثبات كمالاته في الدنيا والآخرة وهديه وضلال معانديه وتثبيته.
وأكد ذلك بالقسم بما هو من مظاهر حكمة الله تعالى في تعليم الإنسان الكتابة فتضمن تشريف حروف الهجاء والكتابة والعلم لتهيئة الأمة لخلع دثار الأمية عنهم وإقبالهم على الكتابة والعلم لتكون الكتابة والعلم سببا لحفظ القرآن.
ثم أنحى على زعماء المشركين مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة بمذمات كثيرة وتوعدهم بعذاب الآخرة وببلايا في الدنيا بأن ضرب لهم مثلا بمن غرهم عزهم وثراؤهم، فأزال الله ذلك عنهم وأباد نعمتهم.
وقابل ذلك بحال المؤمنين المتقين وأن الله اجتباهم بالإسلام، وأن آلهتهم لا يغنون عنهم شيئا من العذاب في الدنيا ولا في الآخرة.
ووعظهم بأن ما هم فيه من النعمة استدراج وإملاء جزاء كيدهم. وأنهم لا معذرة لهم فيما قابلوا به دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من طغيانهم ولا حرج عليهم في الإنصات إليها.
وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر في تبليغ الدعوة وتلقي أذى قومه، وأن لا يضجر في ذلك

ضجرا عاتب الله عليه نبيه يونس عليه السلام.
[1-4] {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
{نْ}
افتتاح هذه السورة بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبينة في سورة البقرة وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء.
ورسموا حرف {نْ} بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمى اسمه الذي هو "نون" بنون بعدها واو ثم نون وكان القياس أن تكتب الحروف الثلاثة لأن الكتابة تبع للنطق والمنطوق به وهو اسم الحرف لا ذاته، لأنك إذا أردت كتابة سيف مثلا فإنما ترسم سينا، وياء، وفاء، ولا ترسم صورة سيف.
وإنما يقرأ باسم الحرف لا بهجائه كما تقدم في أول سورة البقرة.
وينطق باسم نون ساكن الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها.وكذلك قرئ في القراءات المتواترة.
{وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
يجري القسم هنا على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى أن تكون بأشياء معظمة دالة على آثار صفات الله تعالى.
و {الْقَلَمِ} المقسم به قيل هو ما يكنى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة والتي ستكون، أو هو كائن غيبي لا يعلمه إلا الله. وعن مجاهد وقتادة: أنه القلم الذي في قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5]. قلت: وهذا هو المناسب لقوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ} في الظاهر وهو الذي يقتضيه حال المشركين المقصودين بالخطاب الذين لا يعرفوا إلا القلم الذي هو آلة الكتابة عند أهل الكتاب وعند الذين يعرفون الكتابة من العرب.
ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام، وأنه سيكون مكتوبا مقروءا بين

المسلمين، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه. وتعريف {الْقَلَمِ} تعريف الجنس.
فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى.
وهذا يرجحه أن الله نوه بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن لقوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
و {مَا يَسْطُرُونَ} هي السطور المكتوبة بالقلم
و {مَا} يجوز أن تكون موصولة، أي وما يكتبونه من الصحف، ويجوز أن تكون مصدرية. والمعنى: وسطرهم الكتابة سطورا.
ويجوز أن يكون قسما بالأقلام التي يكتب بها كتاب الوحي القرآن، {وَمَا يَسْطُرُونَ} قسما بكتابتهم، فيكون قسما بالقرآن على أن القرآن ما هو بكلام مجنون كما تقدم في قوله تعالى: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} في [سورة الزخرف:2-3] وتنظيره بقول أبي تمام:
وثناياك إنها أغريض... البيت
و {يَسْطُرُونَ} : مضارع سطر، يقال: سطر من باب نصر، إذا كتب كلمات عدة تحصل منها صفوف من الكتابة. وأصله مشتق من السطر وهو القطع، لأن صفوف الكتابة تبدو كأنها قطع.
وضمير {يَسْطُرُونَ} راجع إلى غير مذكور في الكلام وهو معلوم للسامعين لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون به فكان لفظ القسم متعلقا بآلة الكتابة والكتابة، والمقصود: المكتوب في إطلاق المصدر على المفعول. فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن الساطرين غير معلومين، فكأنه قيل: والمسطور، نضير قوله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3-2].
ومن فسر {الْقَلَمِ} بمعنى تعلق علم الله تعالى بما سيكون جعل ضمير {يَسْطُرُونَ} راجعا إلى الملائكة فيكون السطر رمزا لتنفيذ الملائكة ما أمر الله بتنفيذه حين تلقي ذلك، أي يكتبون ذلك للعمل به أو لإبلاغه من بعضهم إلى بعض على وجه لا يقبل الزيادة ولا

النقصان، فشبه ذلك الضبط بضبط الكاتب ما يريد إبلاغه بدون تغيير.
وأوثر القسم بالقلم والكتابة للإيماء إلى أن باعث الطاعنين على الرسول صلى الله عليه وسلم واللامزين له بالجنون، إنما هو ما أتاهم به من الكتاب.
والمقسم عليه نفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مجنونا والخطاب له بهذا تسلية له لئلا يحزنه قول المشركين لما دعاهم إلى الإسلام: هو مجنون، وذلك ما شافهوا به النبي صلى الله عليه وسلم وحكاه الله عنهم في آخر السورة [القلم:51] {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} . وهكذا كل ما ورد فيه نفي صفة الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]. وقد زل فيه صاحب الكشاف زلة لا تليق بعلمه.
والمقصود من نفي الجنون عنه إثبات ما قصد المشركون نفيه وهو أن يكون رسولا من الله لأنهم لما نفوا عنه صفة الرسالة وضعوا موضعها صفة الجنون، فإذا نفي ما زعموه فقد ثبت ما ادعاه.
وقد أجيب قولهم وتأكيدهم ذلك بحرف "إن" ولام الابتداء إذ قالوا {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51] بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه وجيء بعد النفي بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده، وبالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة الاسمية على ثبات الخبر، أي تحققه فهذه ثلاثة مؤكدات.
وقوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} جعله في "الكشاف" حالا من الضمير الذي في مجنون المنفي. والتقدير: انتفى وصف المجنون بنعمة ربك عليك. والباء للملابسة أو السببية، أي بسبب إنعام الله إذ برأك من النقائص. والذي أرى أن تكون جملة معترضة وأن الباء متعلقة بمحذوف يدل عليه المقام وتقديره: أن ذلك بنعمة ربك، على نحو ما قيل في تعلق الباء في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41] وهو الذي يقتضيه استعمالهم كقول الحماسي الفضل بن عباس اللهبي:
كل له نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
وذهب ابن الحاجب في "أماليه" أن {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} متعلق ما يتضمنه حرف {ما} النافية من معنى الفعل وقدره: انتفى أن تكون مجنونا بنعمة ربك. ولا يصح تعلقه بقوله "مجنون" إذ لو علق به لأوهم نفي جنون خاص وهو الجنون الذي يكون من نعمة الله

وليس ذلك بمستقيم. واستحسن هذا ابن هشام في مغني اللبيب في الباب الثالث لولا أنه مخالف لاتفاق أن النحاة على عدم صحة تعلق الظرف بالحرف ولم يخالفهم في ذلك إلا أبو علي وأبو الفتح في خصوص تعلق المجرور والظرف بمعنى الحرف النائب عن فعل مثل حرف النداء في قولك: يا لزيد "يريد في الاستغاثة"، وتقدم نظيره في قوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} في سورة [الطور: 29].
ولما ثبت الله رسوله صلى الله عليه وسلم فدفع بهتان أعدائه أعقبه بإكرامه بأجر عظيم على ما لقيه من المشركين من أذى بقوله: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} بقرينة وقوعه عقب قوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، مؤكدا ذلك بحرف {إن} وبلام الابتداء وبتقديم المجرور وهو في قوله: {لَكَ} .
وهذا الأجر هو ثواب الله في الآخرة وعناية الله به ونصره في الدنيا.
و {مَمْنُونٍ} يجوز أن يكون مشتقا من من المعطي على المعطى إذا عد عليه عطاءه وذكر له، أو افتخر عليه به فإن ذلك يسوء المعطى، قال النابغة:
علي لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب
أي ليس فيها أذى،والمن من الأذى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].
وقد انتزع من هذه الآية عبد الله بن الزبير "بكسر الموحدة" أو غيره في قوله:
أيادي لم تمنن وإن هي جلت
قبله:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي
ومراده عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق.
ويجوز أن يكون {مَمْنُونٍ} مشتقا من قولهم: من الحبل، أي أجرا غير مقطوع عنك، وهو الثواب المتزايد كل يوم، أو أجرا أبديا في الآخرة، ولهذا كان لإيثار كلمة {مَمْنُونٍ} هنا من الإيجاز بجمع معنيين بخلاف قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} في سورة [هود: 108] لأن ما هنا تكرمة للرسول صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن آنس نفس رسوله صلى الله عليه وسلم بالوعد عاد إلى تسفيه قول الأعداء فحقق أنه متلبس

بخلق عظيم وذلك ضد الجنون مؤكدا ذلك بثلاثة مؤكدات مثل ما في الجملة قبله.
والخلق: طباع النفس، وأكثر إطلاقه على طباع الخير إذا لم تتبع بنعت، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} في سورة [الشعراء:137].
والعظيم: الرفيع القدر وهو مستعار من ضخامة الجسم، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة.
و {على} للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] ومنه قوله تعالى: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]، {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43]، {إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 67].
وفي حديث عائشة أنها سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن أي ما تضمنه القرآن من إيقاع الفضائل والمكارم والنهي عن أضدادها.
والخلق العظيم: هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان لاجتماع مكارم الأخلاق في النبي صلى الله عليه وسلم فهو حسن معاملته الناس إلى اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة، فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن.
ولهذا قالت عائشة كان خلقه القرآن، ألست تقرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] الآيات العشر. وعن علي الخلق العظيم: هو أدب القرآن ويشمل ذلك كل ما وصف به القرآن محامد الأخلاق وما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم من نحو قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [لأعراف:199] وغير ذلك من آيات القرآن. وما أخذ به من الأدب بطريق الوحي غير القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، فجعل أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر مظهر لما في شرعه قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18] وأمره أن يقول {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163].
فكما جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم جعل شريعته لحمل الناس على التخلق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة.
وبهذا يزداد وضوحا معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله: {وَإِنَّكَ

لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فهو متمكن منه الخلق العظيم في نفسه، ومتمكن منه في دعوته الدينية.
واعلم أن جماع الخلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين، ومعرفة الحقائق، وحلم النفس، والعدل، والصبر على المتاعب، والاعتراف للمحسن، والتواضع، والزهد، والعفة، والعفو، والجمود، والحياء، والشجاعة، وحسن الصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحسن المعاملة والمعاشرة.
والأخلاق كامنة في النفس ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه، وطلاقة وجهه، وثباته، وحكمه، وحركته وسكونه، وطعامه وشرابه، وتأديب أهله ومن لنظره، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس وحسن الثناء عليه والسمعة.
وأما مظاهرها في رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي ذلك كله وفي سياسيته أمته، وفيما خص به من فصاحة كلامه وجوامع كلمه.
[5-6] {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} .
الفاء للتفريع على قوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] باعتبار ما اقتضاه قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [القلم: من الآية2] من إبطال مقالة قيلت في شأنه قالها أعداؤه في الدين، ابتدأ بإبطال بهتانهم، وفرع عليه أنهم إذا نظروا الدلائل وتوسموا الشمائل علموا أي الفريقين المفتون أهم مفتونون بالانصراف عن الحق والرشد، أم هو باختلال العقل كما اختلقوا.
والمقصود هو ما في قوله: {وَيُبْصِرُونَ} ولكن أدمج فيه قوله: {فَسَتُبْصِرُ} ليأتي بذر الجانبين إيقاع كلام منصف أي داع إلى الإنصاف على طريقة قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] لأن القرآن يبلغ مسامعهم ويتلى عليهم.
وفعلا {تُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} ، بمعنى البصر الحسي. وروي عن ابن عباس: إن معناه فستعلم ويعلمون، فجعله مثل استعمال فعل الرؤيا في معنى الضن، فلعله أراد تفسير حاصل المعنى إذ قد قيل إن الفعل المشتق من "أبصر" لا يستعمل بمعنى الضن والاعتقاد عند جمهور اللغويين والنحاة خلافا لهشام كذا في "التسهيل" 1 فالمعنى: سترى ويرون رأي العين أيكم المفتون فإذا كان بمعنى العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ذلك فالسين في قوله: {فَسَتُبْصِرُ} للتأكيد وأما المشركون فسيرون ذلك، أي يعلمون آثار فتونهم وذلك
ـــــــ
1 هو هشام بن معاوية الكوفي من أصحاب الكسائي توفي سنة 209.

فيما يرونه يوم بدر ويوم الفتح.
وإن كان بمعنى البصر الحسي فالسين والتاء في كلا الفعلين للاستقبال.
وضمير {يُبْصِرُونَ} عائد إلى معلوم مقدر عند السامع وهم المشركون القائلون: هو مجنون.
و"أي" اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه، ويظهر أن مدلول "أي" فرد أو طائفة متميز عن مشارك في طائفته من جنس أو وصف بمييز واقعي أو جعلي. فهذا مدلول "أي" في جميع مواقعه. وله مواقع كثيرة في الكلام، فقد يشرب "أي" معنى الموصول، ومعنى الشرط، ومعنى الاستفهام، ومعنى التنويه بكامل، ومعنى المعرف ب"ال" إذا وصل بندائه. وهو في جميع ذلك يفيد شيئا متميزا عما يشاركه في طائفته المدلولة بما أضيف هو إليه، فقوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} معناه: أي رجل، أو أي فريق منكم المفتون، فـ"أي" في موقعه هنا اسم في موقع المفعول لـ"تبصر ويبصرون" أو متعلق به تعلق المجرور.
وقد تقدم استعمال "أي" في الاستفهام عند قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} في سورة الأعراف[185].
و {الْمَفْتُونُ} : اسم مفعول وهو الذي أصابته فتنة، فيجوز أن يراد بها الجنون فإن الجنون يعد في كلام العرب من قبيل الفتنة يقولون للمجنون فتنته الجن ويجوز أن يراد مايصدق على المضطرب في أمره المفتون في عقله حيرة وتقلقلا، بإيثار هذا اللفظ، دون لفظ المجنون من الكلام الموجه أو التورية ليصح فرضه للجانبين.
فإن لم يكن بعض المشركين بمنزلة المجانين الذين يندفعون إلى مقاومة النبي صلى الله عليه وسلم بدون تبصر يكن في فتنة اضطراب أقواله وأفعاله كأبي جهل والوليد ابن المغيرة وأضرابهما الذين أغروا العامة بالطعن في النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال مختلفة.
والباء على هذا الوجه مزيدة لتأكيد تعلق الفعل بمفعوله والأصل: أيكم المفتون، فهي كالباء في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. ويجوز أن تكون الباء للظرفية. والمعنى: في أي الفريقين منكم يوجد المجنون، أي من يصدق عليه هذا الوصف فيكون تعريضا بأبي جهل والوليد ابن المغيرة وغيرهما من مدبري السوء على دهماء قريش بهذه الأقوال الشبيهة بأقوال المجانين ذلك أنهم وصفوا رجلا معروفا بين العقلاء مذكورا برجاحة العقل والأمانة في الجاهلية فوصفوه بأنه مجنون فكانوا كمن زعم أن النهار ليل

ومن وصف اليوم الشديد البرد بالحرارة، فهذا شبه بالمجنون ولذلك يجعل {الْمَفْتُونُ} في الآية وصفا ادعائيا على طريقة التشبيه البليغ كما جعل المتنبي القوم الذين تركوا نزيلهم يرحل عنهم مع قدرتهم على إمساكه راحلين عن نزيلهم في قوله:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... أن لاتفارقهم فالراحلون همو
ويجوز أن يكون {الْمَفْتُونُ} مصدرا على وزن المفعول مثل المعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجلد: والميسور لليسر، والمعسور لضده، وفي المثل "خذ من ميسوره ودع معسوره".
والباء على هذا للملابسة في محل خبر مقدم على {الْمَفْتُونُ} وهو مبتدأ.
يضمن فعل "تبصر ويبصرون" معنى: توقن ويوقنون، على طريق الكناية بفعل الإبصار عن التحقق لأن أقوى طرق الحس حاسة البصر ويكون الإتيان بالباء للإشارة إلى هذا التضمين. والمعنى: فستعلم يقينا ويعلمون يقينا بأيكم المفتون، فالباء على أصلها من التعدية متعلقة ب"يبصر ويبصرون".
[7] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .
تعليل لجملة {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} باعتبار ما تضمنته من التعريض بأن الجانب المفتون هو الجانب القائل له {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] وأن ضده بضده هو الراجع العقل أي الذي أخبرك بما كنى عنه قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} من أنهم المجانين هو الأعلم بالفريقين وهو الذي أنبأك بأن سيتضح الحق لأبصارهم فتعين أن المفتون هو الفريق الذين وسموا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون المردود عليهم بقوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] إذ هم الضالون عن سبيل رب النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة، وينتظم بالتدرج من أول السورة إلى هنا أقيسة مساواة مندرج بعضها في بعض تقتضي مساواة حقيقة من ضل عن سبل رب النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة المفتون. ومساواة حقيقة المفتون بحقيقة المجنون، فتنتج أن فريق المشركين هم المتصفون بالجنون بقاعدة قياس المساواة أن مساوي المساوي لشيء مساو لذلك الشيء.
وهذا الانتقال تضمن وعدا ووعيدا، بإضافة السبيل إلى الله ومقابلة من ضل عنه بالمهتدين.

وعموم من ضل عن سبيله وعموم المهتدين يجعل هذه الجملة مع كونها كالدليل هي أيضا من التذييل.
وهو بعد هذا كله تمهيد وتوطئة لقوله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم:8].
8-9 {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} .
تفريع على جملة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [النحل: 125] إلى آخرها، باعتبار ما تضمنته من أنه على هدى، وأن الجانب الآخر في ضلال السبيل، فإن ذلك يقتضي المشادة معهم وأن لا يلين لهم في شيء، فإن أذاهم إياه آل إلى محاربة الحق والهدى، وتصلب فيما هم عليه من الضلال عن سبيل الله فلا يستأهلون به لينا ولكن يستأهلون إغلاظا.
روي عن الكلبي وزيد بن أسلم والحسن بألفاظ متقاربة تحوم حول أن المشركين ودوا أن يمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن مجاهرتهم بالتضليل والتحقير فيمسكوا عن أذاه، ويصانع بعضهم بعضا فنهاه الله عن إجابتهم لما ودوا.
ومعنى {وَدُّوا} : أحبوا.
وليس المراد أنهم ودوا ذلك في نفوسهم فأطلع الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم لعدم مناسبته لقوله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} .
وورد في كتب السيرة أن المشركين تقدموا للنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا العرض ووسطوا في ذلك عمه أبا طالب وعتبة بن ربيعة.
فينتظم في هذا أن قوله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} نهي عن إجابتهم إلى شيء عرضوه عليه عندما قرعهم بأول هذه السورة وبخاصة من وقع معنى التعريض البديع الممزوج بالوعيد بسوء المستقبل من قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} إلى قوله: {الْمُهْتَدِينَ} فلعلهم تحدثوا أو أوعزوا إلى من يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو صارحوه بأنفسهم بأنه إن ساءه قولهم فيه {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51] فقد ساءهم منه تحقيرهم بصفات الذم وتحقير أصنامهم وآبائهم من جانب الكفر فإن أمسك عن ذلك أمسكوا عن أذاه وكان الحال صلحا بينهم ويترك كل فريق فريقا وما عبده.
والطاعة: قبول ما يبتغى عمله، ووقوع فعل {تُطِعِ} في حيز النهي يقتضي النهي عن

جنس الطاعة لهم فيعم كل إجابة لطلب منهم، فالطاعة مراد بها المصالحة والملاينة كما في قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52]، أي لا تلن لهم.
واختير تعريفهم بوصف المكذبين دون غيره من طرق التعريف لأنه بمنزلة الموصول في الإيماء إلى وجه بناء الحكم وهو حكم النهي عن طاعتهم فأن النهي عن طاعتهم لأنهم كذبوا رسالته.
ومن هنا يتضح أن جملة {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} بيان لمتعلق الطاعة المنهي عنها ولذلك فصلت ولم تعطف.
وفعل {تُدْهِنُ} مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة، وحقيقة هذا الفعل أن يجعل لشيء دهنا إما لتليينه وإما لتلوينه، ومن هذين المعنيين تفرعت معاني الإدهان كما أشار إليه الراغب، أي ودوا منك أن تدهن لهم فيدهنوا لك، أي لو تواجههم بحسن المعاملة فيواجهونك بمثلها.
والفاء في {فَيُدْهِنُونَ} للعطف، والتسبب عن جملة {لَوْ تُدْهِنُ} جوابا لمعنى التمني المدلول علي بفعل {وَدُّوا} بل قصد بيان سبب ودادتهم ذلك، فلذلك لم ينصب الفعل بعد الفاء بإضمار "أن" لأن فاء المتسبب كافية في إفادة ذلك، فالكلام بتقدير مبتدأ محذوف تقديره: فهم يدهنون. وسلك هذا الأسلوب ليكون الاسم المقدر مقدما على الخبر الفعلي فيفيد معنى الاختصاص، أي فالإدهان منهم لا منك، أي فاترك الإدهان لهم ولا تتخلق أنت به. وهذه طريقة في الاستعمال إذا أريد بالترتبات أنه ليس تعليق جواب كقوله تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} [الجن: 13]، أي فهو لا يخاف بخسا ولا رهقا.
وحرف {لو} يحتمل أن يكون شرطيا ويكون فعل {تُدْهِنُ} شرطا، وأن يكون جواب الشرط محذوفا ويكون التقدير: لو تدهن لحصل لهم ما يودون. ويحتمل أن يكون {لو} حرفا مصدريا على رأي طائفة من علماء العربية أن {لو} يأتي حرفا مصدريا مثل "أن" فقد قال بذلك الفراء والفارسي والتبريزي وابن مالك فيكون التقدير: ودوا إدهانك.
ومفعول {وَدُّوا} محذوف دل عليه {لَوْ تُدْهِنُ} ، أو هو المصدر بناء على أن {لو} تقع حرفا مصدريا، وتقدم في قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} في سورة

البقرة. وقد يفيد موقع الفاء تعليلا لمودتهم منه أن يدهن، أي ودوا ذلك منك لأنهم مدهنون، وصاحب النية السيئة يود أن يكون الناس مثله.
[10] {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} .
{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} .
إعادة فعل النهي عن الطاعة لمن هذه صفاتهم للاهتمام بهذا الأدب فلم يكتف بدخول أصحاب هذه الأوصاف في عموم المكذبين، ولا بتخصيصهم بالذكر بمجرد عطف الخاص على العام بأن يقال: ولا كل حلاف، بل جيء في جانبهم بصيغة نهي أخرى مماثلة للأولى.
وليفيد تسليط الوعيد الخاص وهو في مضمون قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] على أصحاب هذه الصفات الخاصة زيادة على وعيد المكذبين.
وقريب منه قول الحارث بن همام الشيباني:
أيا ابن زيابة إن تلقني ... لا تلقني في النعم العازب
وتلقني يشتد بي أجرد ... مستقدم البركة كالراكب
فلم يكتف بعطف: ب"ل" أو "كن" بأن يقول: بل تلقني يشتد بي أجرد، أو لكن تلقني يشتد بي أجرد، وعدل عن ذلك فأعاد فعل "لقني".
وكلمة {كُلَّ} موضوعة لإفادة الشمول والإحاطة لأفراد الاسم التي تضاف هي إليه، فهي هنا تفيد النهي العام عن طاعة كل فرد من أفراد أصحاب هذه الصفات التي أضيف إليها {كُلَّ} بالمباشرة وبالنعوت.
وقد وقعت كلمة {كُلَّ} معمولة للفعل الداخلة عليه أداة النهي ولا يفهم منه أن النهي منصب إلى طاعة من اجتمعت فيه هذه الصفات بحيث لو أطاع بعض أصحاب هذه الصفات لم يكن مخالفا للنهي إذ لا يخطر ذلك بالبال ولا يجري على أساليب الاستعمال، بل المراد النهي عن طاعة كل موصوف بخصلة من هذه الخصال بله من اجتمع له عدة منها.
وفي هذا ما يبطل ما أصله الشيخ عبد القادر في "دلائل الإعجاز" من الفرق بين أن

تقع {كُلَّ} في حيز النفي، أي أو النهي فتفيد ثبوت الفعل أو الوصف لبعض مما أضيف إليه {كُلَّ} إن كانت {كُلَّ} مسندا إليها، أو تفيد تعلق الفعل أو الوصف ببعض ما أضيف إليه {كُلَّ} إن كانت معمولة للمنفي أو المنهي عنه، وبين أن تقع {كُلَّ} في غير حيز النفي، وجعل رفع لفظ "كله" في قول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع
متعينا، لأنه لو نصبه لأفاد تنصله من أن يكون صنع مجموع ما ادعته عليه من الذنوب، فيصدق بأنه صنع بعض تلك الذنوب وهو لم يقصد ذلك كما صرح بإبطاله العلامة التفتزاني في المطول، واستشهد للإبطال بقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276] وقوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} .
وأجريت على المنهي عن الإطاعة بهذه الصفات الذميمة لأن أصحابها ليسوا أهلا لأن يطاعوا إذ لا ثقة بهم ولا يأمرون إلا بسوء.
قال جمع من المفسرين المراد بالحلاف المهين: الوليد بن المغيرة، وقال بعضهم: الأخنس بن شريق، وقال آخرون: الأسود بن عبد يغوث، ومن المفسرين من قال المراد: أبو جهل، وإنما عنوا أن المراد التعريض بواحد من هؤلاء، وإلا فإن لفظ {كُلَّ} المفيد للعموم لا يسمح بأن يراد النهي عن واحد معين، وأما هؤلاء فلعل أربعتهم اشتركوا في معظم هذه الأوصاف فهم ممن أريد بالنهي عن إطاعته ومن كان على شاكلتهم من أمثالهم.
وليس المراد من جمع هذه الخلال بل من كانت له واحدة منها، والصفة الكبيرة منها هي التكذيب بالقرآن الذي ختم بها قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم:15]، لكن الذي قال في القرآن إنه {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} هو الوليد بن المغيرة، فهو الذي اختلف هذا البهتان في قصة معلومة، فلما تلقف الآخرون منه هذا البهتان وأعجبوا به أخذوا يقولونه فكان جميعهم ممن يقوله ولذلك أسند الله إليهم هذا القول في آية {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الفرقان: 5].
وذكرت عشر خلال من مذامهم التي تخلقوا بها:
الأول: {حَلَّافٍ} ، والحلاف: المكثر من الأيمان على وعوده وأخباره، وأحسب أنه أريد به الكناية عن عدم المبالاة بالكذب وبالأيمان الفاجرة فجعلت صيغة المبالغة كناية

عن تعمد الحنث، وإلا لم يكن ذمه بهذه المثابة، ومن المفسرين من جعل {مَهِينٍ} قيدا لـ {حَلَّافٍ} على جعل النهي عن طاعة صاحب الوصف مجتمعين.
{مَهِينٍ}
هذه خصلة ثانية وليست قيدا لصفة {حَلَّافٍ} .
والمهين: بفتح الميم فعيل من مهن بمعنى حقر وذل، فهو صفة مشبهة، وفعله مهن بضم الهاء، وميمه أصلية وياؤه زائدة، وهو فعيل بمعنى فاعل، أي لا تطع الفاجر الحقير. وقد يكون {مَهِينٍ} هنا بمعنى ضعيف الرأي والتمييز، وكل ذلك من المهانة.
و {مَهِينٍ} : نعت لـ {حَلَّافٍ} ، وكذلك بقية الصفات إلى {زَنِيمٍ} [القلم: 13] فهو نعت مستقل. وبعضهم جعله قيدا لـ {حَلَّافٍ} وفسر المهين بالكذاب أي في حلفه.
[11] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} .
{هَمَّازٍ} .
الهماز كثير الهمزة. وأصل الهمز: الطعن بعود أو يد، وأطلق على الأذى بالقول في الغيبة على وجه الاستعارة وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة وفي التنزيل {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة:1].
وصيغة المبالغة راجعة إلى قوة الصفة، فإذا كان أذى شديدا فصاحبه {هَمَّازٍ} ، وإذا تكرر الأذى فصاحبه {هَمَّازٍ} .
{مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} .
المشاء بالنميم: الذي ينم بين الناس، ووصفه بالمشاء للمبالغة. والقول في هذه المبالغة مثل القول في {هَمَّازٍ} وهذه رابعة المذام.
والمشي: استعارة لتشويه حاله بأنه يتجشم المشقة لأجل النميمة مثل ذكر السعي في قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة: 33]. ذلك أن أسماء الأشياء المحسوسة أشد وقعا في تصور السامع من أسماء المعقولات، فذكر المشي بالنميمة فيه تصوير لحال النمام، ألا ترى أن قولك: قطع رأسه أوقع في النفس من قولك: قتل. ويدل لذلك أنه

وقع مثله في قول النبي صلى الله عليه وسلم "وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" .
والنميم: اسم مرادف للنميمة، وقيل: النميم جمع نميمة، أي اسم جمع لنميمة إذا أريد بها الواحدة وصيرورتها اسما.
[12] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} .
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} .
هذه مذمة خامسة.
{مَنَّاعٍ} : شديد المنع. والخير: المال، أي شحيح، والخير من أسماء المال قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] وقال: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180] وقد روعي تماثل الصيغة في هذه الصفات الأربع وهي حلف، هماز، مشاء، مناع وهو ضرب من محسن الموازنة.
والمراد بمنع الخير: منعه عمن أسلم من ذويهم وأقاربهم، يقول الواحد منهم لمن أسلم من أهله أو مواليه: من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا، وهذه شنشنة عرفوا بها من بعد، قال الله تعالى في شن المنافقين: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7]. وأيضا فمن منع الخير ما كان أهل الجاهلية يعطون العطاء للفخر والسمعة فلا يعطون الضعفاء وإنما يعطون في المجامع والقبائل قال تعالى: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:18]. قيل: كان الوليد ابن المغيرة ينفق في الحج في كل حجة عشرين ألفا يطعم أهل منى، ولا يعطي المسكين درهما واحدا.
{مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} .
هما سادسة وسابعة قرن بينهما لمناسبة الخصوص والعموم.
والاعتداء: مبالغة في العدوان فالافتعال فيه للدلالة على الشدة.
والأثيم: كثير الإثم وهو فعيل من أمثلة المبالغة قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43-44]. والمراد بالإثم هنا ما يعد خطيئة وفسادا عند أهل العقول والمروءة وفي الأديان المعروفة.
قال أبو حيان: وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ونوسب فيها فجاء {حَلَّافٍ}

[القلم:10] وبعده {مَهِينٍ} [القلم:10] لأن النون فيها تواخ مع الميم، أي ميم {أثيم} ، ثم جاء {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ} [القلم:11] بصفتي المبالغة، ثم جاء {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} صفات مبالغة اه. يرد أن الافتعال في {مُعْتَدٍ} للمبالغة.
[13] {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} .
ثامنة وتاسعة.
والعتل: بضمتين وتشديد اللام اسم وليس بوصف لكنه يتضمن معنى صفة لأنه مشتق من العتل بفتح فسكون، وهو الدفع بقوة قال تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] ولم يسمع عاتل. ومما يدل على أنه من قبيل الأسماء دون الأوصاف مركب من وصفين في أحوال مختلفة أو من مركب أوصاف في حالتين مختلفتين.
وفسر العتل بالشديد الخلقة الرحيب الجوف، وبالأكول الشروب، وبالغشوم الظلوم، وبالكثير اللحم المختال. روى الماوردي عن شهر بن حوشب هذا التفسير عن ابن مسعود وعن شداد بن أوس وعن عبد الرحمان بن غنيم، يزيد بعضهم على بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند غير قوي، وهو على هذا التفسير إتباع لصفة {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [القلم:12] أي يمنع السائل ويدفعه ويغلظ له على نحو قوله تعالى: { فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:2].
ومعنى {بَعْدَ ذَلِكَ} علاوة على ما عدد له من الأوصاف هو سيء الخلقة سيء المعاملة، فالبعدية هنا بعدية في الارتقاء في درجات التوصيف المذكورة، فمفادها مفاد التراخي الرتبي كقوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} النازعات:30] على أحد الوجهين فيه.
وعلى تفسير العتل بالشديد الخلقة والرحيب الجوف يكون وجه ذكره أن قباحة ذاته مكملة لمعائبه لأن العيب المشاهد أجلب إلى الاشمئزاز وأوغل في النفرة من صاحبه.
وموقع {بَعْدَ ذَلِكَ} موقع الجملة المعترضة، والظرف خبر لمحذوف تقديره: هو بعد ذلك.
ويجوز اتصال {بَعْدَ ذَلِكَ} بقوله: {زَنِيمٍ} على أنه حال من {زَنِيمٍ} .
والزنيم: اللصيق وهو من يكون دعيا في قومه ليس من صريح نسبهم: إما بمغمز في نسبه، وإما بكونه حليفا في قوم أو مولى، مأخوذ من الزنمة بالتحريك وهي قطعة من أذن

البعير لا تنزع بل تبقى معلقة بالأذن علامة على كرم البعير. والزنمتان بضعتان في رقاب المعز.
قيل أريد بالزنيم الوليد بن المغيرة لأنه ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده. وقيل أريد الخنس بن شريق لأنه كان من ثقيف محالف قريشا وحل بينهم، وأياما كان فإن المراد به خاص فدخوله في المعطوف على ما أضيف إليه {كُلَّ} [القلم: 10] إنما هو على فرض وجود أمثال هذا الخاص وهو ضرب من الرمز كما يقال: ما بال أقوام يعملون كذا، ويراد واحد كعين. قال الخطيم التميمي جاهلي، أو حسام بن ثابت:
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
ويطلق الزنيم على من في نسبة غضاضة من قبل الأمهات، ومن ذلك قول حسان في هجاء أبي سفيان بن حرب، قبل إسلام أبي سفيان، وكانت أمه مولاة خلافا لسائر بني هاشم إذ كانت أمهاتهم من صريح نسب قومهن:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
يريد جده أبا أمه وهو موهب غلام عبد مناف وكانت أم أبي سفيان سمية بنت موهب هذا.
والقول في هذا الإطلاق والمراد به مماثل للقول في الإطلاق الذي قبله.
[14-15] {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
يتعلق قوله: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} بفعل {قَالَ} بتقدير لام التعليل محذوفة قبل {أَنْ} ، وهو حذف مطرد تعلق بذلك الفعل ظرف هو {إِذَا تُتْلَى} ومجرور هو {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ} ، ولا بدع في ذلك وليست {إِذَا} بشرطية هنا فلا يهولنك قولهم: إن "ما" بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، على أنها لو جعلت شرطية لما امتنع ذلك لأنهم يتوسعون في المجرورات ما لا يتوسعون في غيرها وهذا مجرور باللام المحذوفة.
والمراد: كل من كان ذا مال وبنين من كبراء المشركين كقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل:11]. وقيل: أريد به الوليد بن المغيرة إذ هو الذي أختلق

أن يقول في القرآن {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وقد علمت ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10]. وكان الوليد بن المغيرة ذا سعة من المال كثير الأبناء وهو المعني بقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً} إلى قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]. والوجه أن لا يختص هذا الوصف به. وأن يكون تعريضا به.
والأساطير: جمع أسطورة وهي القصة، والأسطورة كلمة معربة عن الرومية كما تقدم عند قوله تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} في [الأنعام: 25] وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل:24] في سورة النحل.
وختمت الأوصاف المحذر عن إطاعة أصحابها بوصف التكذيب ليرجع إلى صفة التكذيب التي انتقل الأسلوب منها من قوله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم:8].
وقرأ الجمهور {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ} بهمزة واحدة على أنه خبر. وقرأه حمزة وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بهمزتين مخففتين فهو استفهام إنكاري. وقرأه ابن عامر بهمزة ومدة بجعل الهمزة الثانية ألفا للتخفيف.
[16] {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} .
استئناف بياني جوابا لسؤال ينشأ عن الصفات الذميمية التي وصفوا بها أن يسأل السامع: ما جزاء أصحاب هذه الأوصاف من الله على ما أتوه من القبائح والاجتراء على ربهم.
وضمير المفرد الغائب في قوله: {سَنَسِمُهُ} عائد إلى كل حلاف باعتبار لفظه وإن كان معناه الجماعات فإفراد ضميره كإفراد ما أضيف إليه {كُلَّ} [القلم: 10] من الصفات التي جاءت بحالة الإفراد.
والمعنى: سنسم كل هؤلاء على الخراطيم، وقد علمت آنفا أن ذلك تعريض بمعين بصفة قوله: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 15] وبأنه ذو مال وبنين.
و {الْخُرْطُومِ} : أريد به الأنف. والظاهر أن حقيقة الخرطوم الأنف المستطيل كأنف الفيل والخنزير ونحوهما من كل أنف مستطيل. وقد خلط أصحاب اللغة في ذكر معانيه خلطا لم تتبين منه حقيقته من مجازه.

وذكر الزمخشري في الأساس معانيه المجازية ولم يذكر معناه الحقيقي، وانبهم كلامه في الكشاف إلا أن قوله فيه: وفي لفظ {الْخُرْطُومِ} استخفاف وإهانة، يقتضي أن إطلاقه على أنف الإنسان مجاز مرسل. وجزم ابن عطية: أن حقيقة الخرطوم مخطم السبع، أي أنف مثل الأسد، فإطلاق الخرطوم على أنف الإنسان هنا استعارة كإطلاق المشفر وهو شفة البعير على شفة الإنسان في قول الفرزدق:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكن زنجي غليظ المشافر
وكإطلاق الجحفلة على شفة الإنسان وهي للخيل والبغال والحمير في قول النابغة يهجو لبيد ابن ربيعة:
ألا من مبلغ عني لبيدا ... أبا الورداء جحفلة الأتان
والوسم للإبل ونحوها، جعل سمة لها أنها من مملوكات القبيلة أو المالك المعين.
فالمعنى: سنعامله معاملة يعرف بها أنه عبدنا وأنه لا يغني عنه ماله وولده منا شيئا.
فالوسم: تمثيل تتبعه كناية عن التمكن منه وإظهار عجزه.
وأصل "نسمه" نوسمه مثل: يعد ويصل.
وذكر الخرطوم فيه جمع بين التشويه والإهانة فإن الوسم يقتضي التمكن وكونه في الوجه إذلالا وإهانة، وكونه على الأنف أشد إذلالا. والتعبير عن الأنف بالخرطوم تشويه، والضرب والوسم ونحوهما على الأنف كناية عن قوة التمكن وتمام الغلبة وعجز صاحب الأنف عن المقاومة لأن الأنف أبرز ما في الوجه وهو مجرى النفس، ولذلك غلب ذكر الأنف في التعبير عن إظهار العزة في قولهم: شمخ بأنفه، وهو أشم الأنف، وهم شم العرانين. وعبر عن ظهور الذلة والاستكانة بكسر الأنف، وجدعه، ووقوعه في التراب في قولهم: رغم أنفه، وعلى رغم أنفه، قال جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
ومعظم المفسرين على أن المعني بهذا الوعيد هو الوليد بن المغيرة، وقال أبو مسلم الأصفهاني في تفسيره قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} هو ما ابتلاه الله به في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار. يريد: ما نالهم يوم بدر وما بعده إلى فتح مكة. وعن ابن عباس معنى {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} سنخطمه بالسيف قال: وقد خطم الذي نزلت فيه بالسيف يوم بدر فلم يزل مخطوما إلى أن مات ولم يعين ابن عباس من هو.

وقد كانوا إذا ضربوا ضربوا بالسيوف قصدوا الوجوه والرؤوس. قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لعمر بن الخطاب لما بلغه قول أبي حذيفة لئن لقيت العباس لألجمنه بالسيف، فقال رسول الله: "يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف?" .
وقيل هذا وعيد بتشويه أنفه يوم القيامة مثل قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] وجعل تشويهه يومئذ في أنفه لأنه إنما بالغ في عداوة الرسول والطعن في الدين بسبب الأنفة والكبرياء، وقد كان الأنف مظهر الكبر ولذلك سمي الكبر أنفة اشتقاقا من اسم الأنف فجعلت شوهته في مظهر آثار كبريائه.
[17-25] {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ. فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ}.
ضمير الغائبين في قوله: {بَلَوْنَاهُمْ} يعود إلى {الْمُكَذِّبِينَ} في قوله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم:8]. والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا دعت إليه مناسبة قوله: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 14-15] فإن الازدهار والغرور بسعة الرزق المفضيين إلى الاستخفاف بدعوة الحق وإهمال النظر في كنهها ودلائلها قد أوقع من قديم الزمان أصحابهما في بطر النعمة وإهمال الشكر فجر ذلك عليهم شر العواقب، فضرب الله للمشركين مثلا بحال أصحاب هذه الجنة لعلهم يستفيقون من غفلتهم وغرورهم. كما ضرب المثل بقريب منه في سورة الكهف، وضرب مثلا بقارون في سورة القصص.
والبلوى حقيقتها: الاختبار وهي هنا تمثل بحال المبتلى في إرخاء الحبل له بالنعمة ليشكر أو يكفر، فالبلوى المذكورة هنا بلوى بالخير فإن الله أمد أهل مكة بنعمة الأمن، ونعمة الرزق، وجعل الرزق يأتيهم من كل جهة، ويسر لهم سبل التجارة في الآفاق بنعمة الإيلاف برحلة الشتاء ورحلة الصيف، فلما أكمل لهم النعمة بإرسال رسول منهم ليكمل لهم صلاح أحوالهم ويهديهم إلى ما فيه النعيم الدائم فدعاهم وذكرهم بنعم الله أعرضوا وطغوا ولم يتوجهوا بالنظر إلى النعم السالفة ولا النعمة الكاملة التي أكملت لهم النعم.

ووجه المشابهة بين حالهم وحال أصحاب الجنة المذكورة هنا هو الإعراض عن طلب مرضاة الله وعن شكر نعمته.
وهذا التمثيل تعريض بالتهديد بأن يلحقهم ما لحق أصحاب الجنة من البؤس بعد النعم والقحط بعد الخصب، وأن اختلف السبب في نوعه فقد احتد جنسه. وقد حصل ذلك بعد سنين إذ أخذهم الله بسبع سنين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وهذه القصة المضروب بها المثل قصة معروفة بينهم وهي أنه كانت ببلد يقال له: ضروان "بضاد معجمة وراء وواو مفتوحات وألف ونون" من بلاد اليمن بقرب صنعاء. وقيل: ضروان اسم هذه الجنة، وكانت جنة عظيمة غرسها رجل من أهل الصلاح والإيمان من أهل الكتاب قاله ابن عباس. ولم يبين من أي أهل الكتاب هو: أمن اليهود أم من النصارى? فقيل: كان يهوديا، أي لأن أهل اليمن كانوا تدينوا باليهودية في عهد بلقيس كما قيل أو بعدها بهجرة بعض جنود سليمان، وكانت زكاة الثمار من شريعة التوراة كما في الإصلاح السادس والعشرين من سفر اللاويين.
وقال بعض المفسرين: كان أصحاب هذه الجنة بعد عيسى بقليل، أي قبل انتشار النصرانية في اليمن لأنها ما دخلت اليمن إلا بعد دخول الأحباش إلى اليمن في قصة القليس وكان ذلك زمان عام الفيل. وعن عكرمة: كانوا من الحبشة كانت لأبيهم جنة وجعل في ثمرها حقا للمساكين وكان يدخل معه المساكين ليأخذوا من ثمرها فكان يعيش منها اليتامى والأرامل والمساكين وكان له ثلاثة بنين، فلما توفي صاحب الجنة وصارت لأولاده أصبحوا ذوي ثروة وكانوا أشحة أو كان بعضهم شحيحا وبعضهم دونه فتمالؤوا على حرمان اليتامى والمساكين والأرامل وقالوا: لنغدون إلى الجنة في سدفة من الليل قبل انبلاج الصباح مثل وقت خروج الناس إلى جناتهم للجذاذ فلنجذنها قبل أن يأتي المساكين. فبيتوا ذلك وأقسموا أيمانا على ذلك، ولعلهم أقسموا ليلزموا أنفسهم بتنفيذ ما تداعوا إليه. وهذا يقتضي أن بعضهم كان مترددا في موافقتهم على ما عزموا عليه وأنهم ألجموه بالقسم وهذا الذي يلتئم مع قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]، قيل كان يقول لهم اتقوا الله واعدلوا عن خبث نيتكم من منع المساكين، وذكرهم انتقام الله من المجرمين، أي فغلبوه ومضوا إلى ما عزموا عليه، ولعلهم أقسموا على أن يفعلوا وأقسموا عليه أن يفعل معهم ذلك فأقسم معهم أو وافقهم على ما أقسموا عليه، ولهذا الاعتبار أسند القسم إلى جميع أصحاب الجنة.

فلما جاءوا جنتهم وجدوها مسودة قد أصابها ما يشبه الاحتراق فلما رأوها بتلك الحالة علموا أن ذلك أصابهم دون غيرهم لعزمهم على قطع ما كان ينتفع به الضعفاء من قومهم وأنابوا إلى الله رجاء أن يعطيهم خيرا منها.
قيل: كانت هذه الجنة من أعناب.
والصرم: قطع الثمرة وجذاذها.
ومعنى {مُصْبِحِينَ} داخلين في الصباح أي في أوائل الفجر.
ومعنى {لا يَسْتَثْنُونَ} : أنهم لا يستثنون من الثمرة شيئا للمساكين، أي أقسموا ليصرمن جميع الثمر ولا يتركون منه شيئا. وهذا التعميم مستفاد مما في الصرم من معنى الخزن والانتفاع بالثمرة وإلا فإن الصرم لا ينافي إعطاء شيء من المجذوذ لمن يريدون. وأجمل ذلك اعتمادا على ما هو معلوم للسامعين من تفصيل هذه القصة على عادة القرآن في إيجاز حكاية القصص بالاقتصار على موضع العبرة منها.
وقيل معناه: {لا يَسْتَثْنُونَ} لإيمانهم بأن يقولوا إن شاء الله كما قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23-24]. ووجه تسميته استثناء أن أصل صيغته فيها حرف الاستثناء وهو "إلا"، فإذا اقتصر أحد على "إن شاء الله" دون حرف الاستثناء أطلق على قوله ذلك استثناء لأنه على تقدير: إلا أن يشاء الله. على أنه لما كان الشرط يؤول إلى معنى الاستثناء أطلق عليه استثناء نظرا إلى المعنى وإلى مادة اشتقاق الاستثناء.
وعلى هذا التفسير يكون قوله: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} من قبيل الإدماج، أي لمبلغ غرورهم بقوة أنفسهم صاروا إذا زعموا على فعل شيء لا يتوقعون له عائقا. والجملة في موضع الحال، والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالتهم العجيبة من بخلهم على الفقراء والأيتام.
وعلى الروايات كلها يعلم أن أهل هذه الجنة لم يكونوا كفارا، فوجه الشبه بينهم وبين المشركين المضروب لهم هذا المثل هو بطر النعمة والاغترار بالقوة.
وقوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} ، الطواف: المشي حول شيء من كل جوانبه يقال: طاف بالكعبة، وأريد هنا تمثيل حالة الإصابة لشيء كله بحال من يطوف بمكان، قال تعالى: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} الآية [لأعراف: 201].

وعدي "طاف" بحرف "على" لتضمينه معنى: تسلط أو نزل.
ولم يعين جنس الطائف لظهور أنه من جنس ما يصيب الجنات من الهلاك، ولا يتعلق غرض بتعيين نوعه لأن العبرة في الحاصل به، فإسناد فعل "طاف" إلى {طائف} بمنزلة إسناد الفعل المبني للمجهول كأنه قيل: فطيف عليها وهم نائمون.
وعن الفراء: أن الطائف لا يكون إلا بالليل، يعني ومنه سمي الخيال الذي يراه النائم في نومه طيفا. قيل هو مشتق من الطائفة وهي الجزء من الليل. وفي هذا نظر.
فقوله: {وَهُمْ نَائِمُونَ} تقييد لوقت الطائف على التفسير الأول، وهو تأكيد لمعنى {طائف} على تفسير الفراء، وفائدته تصوير الحالة.
وتنوين {طائف} للتعظيم، أي أمر عظيم وقد بينه بقوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} فهو طائف سوء، قيل: أصابها عنق من نار فاحترقت.
و {مِنْ رَبِّكَ} أي جائيا من قبل ربك، فـ {مِنْ} للابتداء يعني: إنه عذاب أرسل إليهم عقابا لهم على عدم شكر النعمة.
وعجل العقاب لهم قبل التلبس بمنع الصدقة لأن عزمهم على المنع وتقاسمهم عليه حقق أنهم مانعون صدقاتهم فكانوا مانعين ويؤخذ من الآية موعظة إلى الذين لا يواسون بأموالهم.
وإذ كان عقاب أصحاب هذه الجنة دنيويا لم يكن في الآية ما يدل على أن أصحاب الجنة منعوا صدقة واجبة.
والصريم قيل: هو الليل، والصريم من أسماء الليل ومن أسماء النهار لأن كل واحد منهما ينصرم عن الآخر كما سمي كل من الليل والنهار ملوا فيقال: الملوان، وعلى هذا ففي الجمع بين "أصبحت" و"الصريم" محسن الطباق.
وقيل الصريم: الرماد الأسود بلغة جذيمة أو خزيمة.
وقيل الصريم: اسم رملة معروفة باليمن لا تنبت شيئا.
وإيثار كلمة الصريم هنا لكثرة معانيها وصلاحية جميع تلك المعاني لأن تراد في الآية.
وبين "يصرمنها" و"الصريم" الجناس.

وفاء {فَتَنَادَوْا} للتفريع على {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} ، أي فلما أصبحوا تنادموا لإنجاز ما بيتوا عليه أمرهم.
والتنادي: أن ينادي بعضهم بعضا وهو مشعر بالتحريض على الغدو إلى جنتهم مبكرين.
والغدو: الخروج ومغادرة المكان في غدوة النهار، أي أوله.
وليس قولهم: {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} بشرط تعليق ولكنه مستعمل في الاستبطاء فكأنهم لإبطاء بعضهم في الغدو قد عدل عن الجذاذ ذلك اليوم. ومنه قول عبد الله ابن عمر للحجاج عند زوال عرفة يحرضه على التهجير بالرواح إلى الموقف الرواح إن كنت تريد السنة. ونظير ذلك كثير في الكلام.
و {على} من قوله: {عَلَى حَرْثِكُمْ} مستعملة في تمكن الوصول إليه كأنه قيل: اغدوا تكونوا على حرثكم، أي مستقرين عليه.
ويجوز أن يضمن فعل الغدو معنى الإقبال كما يقال: يغدى عليه بالجفنة ويراح. قال الطيبي: "ومثله قيل في حق المطلب تغدو درته "التي يضرب بها" على السفهاء، وجفنته على الحلماء".
والحرث: شق الأرض بحديدة ونحوها ليوضع فيها الزريعة أو الشجر وليزال منها العشب.
ويطلق الحرث على الجنة لأنهم يتعاهدونها بالحرث لإصلاح شجرها، وهو المارد هنا في قوله تعالى: {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} في سورة [الأنعام:138] وتقدم في قوله: {وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} في سورة [آل عمران:14].
والتخافت: تفاعل من خفت إذا أسر الكلام.
و {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} تفسير لفعل {يَتَخَافَتُونَ} ، و {أن} تفسيرية لأن التخافت في معنى القول دون حروفه.
وتأكيد فعل النهي بنون التوكيد لزيادة تحقيق ما تقاسموا عليه.
وأسند إلى {مِسْكِينٌ } فعل النهي عن الدخول والمراد نهي بعضهم بعضا عن دخول المسكين إلى جنتهم، أي لا يترك أحد مسكينا يدخلها. وهذا من قبيل الكناية وهو كثير في

استعمال النهي كقولهم: لا أعرفنك تفعل كذا.
وجملة {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} في موضع الحال بتقدير "قد"، أي انطلقوا في حال كونهم غادين قادرين على حرد.
وذكر فعل {غَدَوْا} في جملة الحال لقصد التعجيب من ذلك الغدو النحس كقول امرئ القيس:
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
بعد قوله:
تطاول ليلك بالأثمد ... وبات الخلي ولم ترقد
يخاطب نفسه على طريقة فيها التفات أو التفاتان.
والحرد: يطلق على المنع وعلى القصد القوي، أي السرعة وعلى الغضب.
وفي إيثار كلمة {حَرْدٍ} في الآية نكتة من نكت الإعجاز المتعلق بشرف اللفظ ورشاقته من حيث المعنى، ومن جهة تعلق المجرور به بما يناسب كل معنى من معانيه، أي بأن يتعلق {عَلَى حَرْدٍ} ب {قَادِرِينَ} ، أو بقوله: {غَدَوْا} ، فإذا علق ب {قَادِرِينَ} ، فتقديم المتعلق يفيد تخصيصا، أي قادرين على المنع، أي منع الخير أو منع ثمر جنتهم غير قادرين على النفع.
والتعبير بقادرين على الحرد دون أن يقول: وغدوا حادرين تهكم لأن شأن فعل القدرة أن يذكر في الأفعال التي يشق على الناس إتيانها قال تعالى: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 264] وقال: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] فقوله: { عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} على هذا الاحتمال من باب قولهم: فلان لا يملك إلا الحرمان أو لا يقدر إلا على الخيبة.
وإذا حمل الحرد على معنى السرعة والقصد كان {عَلَى حَرْدٍ} متعلقا ب {غَدَوْا} مبينا لنوع الغدو، أي غدوا غدو سرعة واعتناء، فتكون {على} بمعنى باء المصاحبة، والمعنى: غدوا بسرعة ونشاط، ويكون قادرين حالا من ضمير {غَدَوْا} حالا مقدرة، أي مقدرين أنهم قادرون على تحقيق ما أرادوا.
وفي الكلام تعريض بأنهم خابوا دل عليه قوله بعده {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ}

[القلم:26]،وقوله قبله { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} .
وإذا أريد بالحرد الغضب والحنق فإنه يقال: حرد بالتحريك وحرد بسكون الراء ويتعلق المجرور ب {قَادِرِينَ} وتقديمه للحصر، أي غدوا لا قدرة لهم إلا على الحنق والغضب على المساكين لأنهم يقتحمون عليهم جنتهم كل يوم فتحيلوا عليهم بالتبكير إلى جذاذها، أي لم يقدروا إلا على الغضب والحنق ولم يقدروا على ما أرادوه من اجتناء ثمر الجنة.
وعن السدي: أن {حَرْدٍ} اسم قريتهم، أي جنتهم. وأحسب أنه تفسير ملفق وكأن صاحبه تصيده من فعلي {اغْدُوا} و {غَدَوْا} .
[26-32] {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ، قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ، عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} .
أي استفاقوا من غفلتهم ورجعوا إلى أنفسهم باللائمة على بطرهم وإهمال شكر النعمة التي سيقت إليهم، وعلموا أنهم أخذوا بسبب ذلك، قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [لأعراف: 168]. ومن حكم الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها.
وأفادت "لما" اقتران جوابها بشرطها بالفور والبداهة. والمقصود من هذا التعريض للمشركين بأن يكون حالهم في تدارك أمرهم وسرعة إنابتهم كحال أصحاب هذه الجنة إذ بادروا بالندم وسألوا الله عوض خير.
وإسناد هذه المقالة إلى ضمير {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] يقتضي أنهم قالوه جميعا، أي اتفقوا على إدراك سبب ما أصابهم.
ومعنى {إِنَّا لَضَالُّونَ} أنهم علموا أنهم كانوا في ضلال أي عن طريق الشكر، أي كانوا غير مهتدين وهو كناية عن كون ما أصابهم عقابا على إهمال الشكر فالضلال مجاز.
وأكدوا الكلام لتنزيل أنفسهم منزلة من يشك في أنهم ضالون طريق الخير لقرب عهدهم بالغفلة عن ضلالهم ففيه إيذان بالتحسر والتندم.

و {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} إضراب للانتقال إلى ما هو أهم بالنظر لحال تبيينهم إذ بيتوا حرمان المساكين من فضول ثمرتهم فكانوا هم المحرومين من جميع الثمار، فالحرمان الأعظم قد اختص بهم إذ ليس حرمان المساكين بشيء في جانب حرمانهم.
والكلام يفيد ذلك إما بطريق تقديم المسند إليه بأن أتي به ضمير بارز مع أن مقتضى الظاهر أن يكون ضميرا مستترا في اسم المفعول مقدرا مؤخرا عنه لأنه لا يتصور إلا بعد سماع متحمله. فلما أبرز الضمير وقدم كان تقديمه مؤذنا بمعنى الاختصاص، أي القصر، وهو قصر إضافي. وهذا من مستتبعات التراكيب والتعويل على القرائن.
ويحتمل أن يكون الضلال حقيقيا، أي ضلال طريق الجنة، أي قالوا إنا أخطأنا الطريق في السير إلى جنتنا لأنهم توهموا أنهم شاهدوا جنة أخرى غير جنتهم التي عهدوها، قالوا ذلك تحيرا في أمرهم.
ويكون الإضراب إبطاليا، أي أبطلوا أن يكونوا ضلوا طريق جنتهم، وأثبتوا أنهم محرومون من خير جنتهم فيكون المعنى أنها هي جنتهم ولكنها هلكت فحرموا خيراتها بأن أتلفها الله.
و {أَوْسَطُهُمْ} أفضلهم وأقربهم إلى الخير وهو أحد الإخوة الثلاثة. والوسط: يطلق على الأخير الأفضل، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]، وقال {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ويقال هو من سطة قومه، وأعطني من سطة مالك.
وحكي هذا القول بدون عاطف لأنه قول في مجرى المحاورة جوابا عن قولهم: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} قاله لهم على وجه توقيفهم على تصويب رأيه وخطأ رأيهم.
والاستفهام تقريري و {لولا} حرف تحضيض. والمراد ب {تُسَبِّحُونَ} تنزيه الله عن أن يعصى أمره في شأن إعطاءه زكاة ثمارهم.
وكان جوابهم يتضمن إقرار بأنه وعظهم فعصوه ودلوا على ذلك بالتسبيح حين ندمهم على عدم الأخذ بنصيحته فقالوا: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أرادوا إجابة تقريره بإقرار تسبيح الله عن أن يعصى أمره في إعطاء حق المساكين فإن من أصول التوبة تدارك ما يمكن تداركه، واعترافهم بظلم المساكين من أصول التوبة لأنه خبر مستعمل في التندم، والتسبيح مقدمة الاستغفار من الذنب قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ

تَوَّاباً} [النصر:3].
وجملة {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} قرار بالذنب، والتأكيد لتحقيق الإقرار والاهتمام به. ويفيد حرف "إن" مع ذلك تعليلا للتسبيح الذي قبله. وحذف مفعول {ظَالِمِينَ} ليعم ظلمهم أنفسهم بما جروه على أنفسهم من سلب النعمة، وظلم المساكين بمنعهم من حقهم في المال.
وجرت حكاية جوابهم على طريقة المحاورة فلم تعطف وهي الطريقة التي نبهنا عليها عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في [البقرة: 30].
ولما استقر حالهم على المشاركة في منع المساكين حقهم أخذ بعضهم يلوم بعضا على ما فرط من فعلهم: كل يلوم غيره بما كان قد تلبس به في هذا الشأن من ابتكار فكرة منع المساكين ما كان حقا لهم في حياة الأب، ومن الممالاة على ذلك، ومن الاقتناع بتصميم البقية، ومن تنفيذ جميعهم ذلك العزم الذميم، فصور قوله {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} هذه الحالة والتقاذف الواقع بينهم بهذا الإجمال البالغ غاية الإيجاز، ألا ترى أن إقبال بعضهم على بعض يصور حالة تشبه المهاجمة والتقريع، وأن صيغة التلاوم مع حذف متعلق التلاوم تصور في ذهن السامع صورا من لوم بعضهم على بعض.
وقد تلقى كل واحد منهم لوم غيره عليه بإحقاق نفسه بالملامة وإشراك بقيتهم فيها فقال كل واحد منهم {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} إلى آخره، فأسند هذا القول إلى جميعهم لذلك.
فجملة { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} إلى آخرها يجوز أن تكون مبينة لجملة {يَتَلاوَمُونَ} أي يلوم بعضهم بعضا بهذا الكلام فتكون خبرا مستعملا في التقريع على طريقة التعريض بغيره والإقرار على نفسه، مع التحسر والتندم بما أفاده {يَا وَيْلَنَا} . وذلك كلام جامع للملامة كلها ولم تعطف الجملة لأنها مبينة.
ويجوز أن تكون جواب بعضهم بعضا عن لومه غيره، فكما أجمعوا على لوم بعضهم بعضا كذلك أجمعوا على إجابة بعضهم بعضا عن ذلك الملام فقال كل ملوم للائمه {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} الخ جوابا بتقرير ملامة والاعتراف بالذنب ورجاء العفو من الله وتعويضهم عن جنتهم خيرا منها إذ قبل توبتهم وجعل لهم ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة، فيكون ترك العطف لأن فعل القول جرى في طريقة المحاورة.

والإقبال: حقيقته المجيء إلى الغير من جهة وجهه وهو مشتق من القبل وهو ما يبدو من الإنسان من جهة وجهة ضد الإدبار، وهو هنا تمثيل لحال العناية باللوم.
واللوم: إنكار متوسط على فعل أو قول وهو دون التوبيخ وفوق العتاب، وتقدم عند قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} في سورة [المؤمنين:6].
والطغيان: تجاوز الحد المتعارف في الكبر والتعاظم والمعنى: إنا كنا طاغين على حدود الله.
ثم استأنفوا عن ندامتهم وتوبتهم رجاءهم من الله أن يتوب عليهم فلا يؤاخذهم بذنبهم في الآخرة ولا في الدنيا فيمحو عقابه في الدنيا محوا كاملا بأن يعوضهم عن جنتهم التي قدر إتلافها بجنة أخرى خيرا منها.
وجملة {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} بدل من جملة الرجاء، أي هو رجاء مشتمل على رغبة إليه بالقبول والاستجابة.
والتأكيد في {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} للاهتمام بهذا التوجه.
والمقصود من الإطناب في قولهم بعد حلول العذاب بهم تلقين الذين ضرب لهم هذا المثل بأن في مكنتهم الإنابة إلى الله بنبذ الكفران لنعمته إذ أشركوا به من لا إنعام لهم عليه.
روي عن ابن مسعود أنه قال: بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم جنة يقال لها: الحيوان، ذات عنب يحمل العنقود الواحد منه على بغل.
وعن أبي خالد اليماني1 أنه قال: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم.
وقرأ الجمهور: {أَنْ يُبْدِلَنَا} بسكون الموحدة وتخفيف الدال. وقرأه نافع وأبو عمرو وأبو جعفر {يُبْدِلَنَا} بفتح الموحدة وتشديد الدال وهما بمعنى واحد.
قال ابن الفرس في "أحكام القرآن" استدل بهذه الآية أبو محمد عبد الوهاب على
ـــــــ
1 كذا في تفسير القرطبي ونفائس المرجان والآلوسي. ووقع في تفسير القرطبي: أنه اليمامي، ولم أقف على ترجمته.

أن من تعمد إلى نقص النصاب قبل الحول قصدا للفرار من الزكاة أو خالط غيره، أو فارقه بعد الخلطة فإن ذلك لا يسقط الزكاة عنه خلافا للشافعي.
ووجه الاستدلال بالآية أن أصحاب الجنة قصدوا بجذ الثمار إسقاط حق المساكين فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم.
[33] {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
رجوع إلى تهديد المشركين المبدوء من قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم:17] الكلام فذلك وخلاصة لما قبله وهو استئناف ابتدائي.
والمشار إليه باسم الإشارة هو ما تضمنته القصة من تلف جنتهم وما أحسوا به عند رؤيتها على تلك الحالة، وتندمهم وحسرتهم، أي مثل ذلك المذكور يكون العذاب في الدنيا، فقوله: {كَذَلِكَ} مسند مقدم و {الْعَذَابُ} مسند إليه. وتقديم المسند للاهتمام بإحضار صورته في ذهن السامع.
والتعريف في {الْعَذَابُ} تعريف الجنس وفيه توجيه بالعهد الذهني، أي عذابكم الموعد مثل عذاب أولئك والمماثلة في إتلاف الأرزاق والإصابة بقطع الثمرات.
وليس التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} مثل التشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143]، ونحوه ما تقدم في سورة البقرة بل ما هنا من قبيل التشبيه المتعارف، لوجود ما يصلح لأن يكون مشبها به العذاب وهو كون المشبه به غير المشبه، ونظيره قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] بخلاف ما في سورة البقرة فإن المشبه به هو عين المشبه لقصد المبالغة في بلوغ المشبه غاية ما يكون فيه وجه الشبه بحيث أريد تشبهه لا يلجأ إلا إلى تشبيهه بنفسه فيكون كناية عن بلوغه أقصى مراتب وجه الشبه.
والمماثلة بين المشبه والمشبه به مماثلة في النوع وإلا فإن ما توعدوا به من القحط أشد مما أصاب أصحاب الجنة وأطول.
وقوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} دال على أن المراد بقوله: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} عذاب الدنيا.
وضمير {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله: {بَلَوْنَاهُمْ} ،

[القلم: 17]، وهم المشركون فإنهم كانوا ينكرون عذاب الآخرة فهددوا بعذاب الدنيا، ولا يصح عوده إلى {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] لأنهم كانوا مؤمنين بعذاب الآخرة وشدته.
[34] {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} .
استئناف بياني لأن من شأن ما ذكر من عذاب الآخرة للمجرمين أن ينشأ عنه سؤال في نفس السامع بقول: فما جزاء المتقين? وهو كلام معترض بين أجزاء الوعيد والتهديد وبين قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] وقوله: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} . وقد أشعر بتوقع هذا السؤال قوله بعده: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] كما سيأتي.
وتقديم المسند على المسند إليه للاهتمام بشأن المتقين ليسبق ذكر صفتهم العظيمة ذكر جزاءها.
واللام للاستحقاق. و {عند} ظرف متعلق بمعنى الكون الذي يقتضيه حرف الجر، ولذلك قدم متعلقه معه على المسند إليه لأجل ذلك الاهتمام. وقد حصل من تقديم المسند بما معه طول يثير تشويق السامع إلى المسند إليه. والعندية هنا عندية كرامة واعتناء.
وإضافة {جنات} إلى {النعيم} تفيد أنها عرفت به فيشار بذلك إلى ملازمة النعيم لها لأن أصل الإضافة أنها بتقدير لام الاستحقاق ف {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} مفيد أنها استحقها النعيم لأنها ليس في أحوالها إلا حال نعيم أهلها، فلا يكون فيها ما يكون من جنات الدنيا من المتاعب مثل الحر في بعض الأوقات أو شدة البرد أو مثل الحشرات والزنابير، أو ما يؤذي مثل شوك الأزهار والأشجار وروث الدواب وذرق الطير.
[35-36] {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .
فاء التفريغ تقتضي أن هذا الكلام متفرع على ما قبله من استحقاق المتقين جنات النعيم، ومقابلته بتهديد المشركين بعذاب الدنيا والآخرة، ولكن ذلك غير مصرح فيه بما يناسب إن يتفرغ عليه هذا الإنكار والتوبيخ فتعين تقدير إنكار من المعرض بهم ليتوجه إليهم هذا الاستفهام المفرع، وهو ما أشرنا إليه آنفا من توقع أو وقوع سؤال.
والاستفهام وما بعده من التوبيخ، والتخطئة،والتهكم على إدلالهم الكاذب، مؤذن بأن ما أنكر عليهم ووبخوا عليه وسفهوا على اعتقاده كان حديثا قد جرى في نواديهم أو

استسخروا به على المسلمين في معرض جحود أن يكون بعث، وفرضهم أنه على تقدير وقوع البعث والجزاء لا يكون للمسلمين مزية وفضل عند وقوعه.
وعن مقاتل لما نزلت آية { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم:34] قالت قريش: إن كان ثمة جنة نعيم فلنا فيها مثل حظنا وحظهم في الدنيا، وعن ابن عباس أنهم قالوا: إنا نعطى يومئذ خيرا مما تعطون فنزل قوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} الآية.
والهمزة للاستفهام الإنكاري، فرع إنكار التساوي بين المسلمين والكافرين على ما سبق من اختلاف جزاء الفريقين فالإنكار متسلط على ما دار بين المشركين من القول عند نزول الآية السابقة أو عند نزول ما سبقها من آي القرآن التي قابلت بين جزاء المؤمنين وجزاء المشركين كما يقتضيه صريحا قوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} إلى قوله: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} [القلم: من الآية39].
وإنكار جعل الفريقين متشابهين كناية عن إعطاء المسلمين جزاء الخير في الأخوة وحرمان المشركين منه، لأن نفي التساوي وارد في معنى التضاد في الخير والشر في القرآن وكلام العرب قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، وقال: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]، وقال: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [صّ:28] وقال السموأل أو الحارثي:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول
وإذا انتفى أن يكون للمشركين حظ في جزاء الخير انتفى ما قالوه من أنهم أفضل حظا في الآخرة من المسلمين كما هو حالهم في الدنيا بطريق فحوى الخطاب.
وقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} كلام موجه إلى المشركين وهم المقصود ب {الْمُجْرِمِينَ} ، عبر عنهم بطريق الإظهار دون ضمير الخطاب لما في وصف {الْمُجْرِمِينَ} من المقابلة ليكون في الوصفين إيماء إلى سبب نفي المماثلة بين الفريقين.
فلذلك لم يكن ضمير الخطاب في قوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} التفاتا عن ضمائر الغيبة من قوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] وقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم: 17].

وإنما تغير الضمير إلى ضمير الخطاب تبعا لتغير توجيه الكلام، لأن شرط الالتفات أن يتغير الضمير في سياق واحد.
و {مَا لَكُمْ} استفهام إنكاري لحالة حكمهم، ف {مَا لَكُمْ} مبتدأ وخبر وقد تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سورة [البقرة: 246].
و {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} استفهام إنكاري ثان في موضع الحال من ضمير {لَكُمْ} ، أي انتفى أن يكون لكم شيء في حال حكمكم، أي فإن ثبت لهم كان منكرا باعتبار حالة حكمهم.
والمعنى: لا تحكمون أنكم مساوون للمسلمين في جزاء الآخرة أو مفضلون عليهم.
[37-38] {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} .
إضراب انتقال من توبيخ إلى احتجاج على كذبهم.
والاستفهام المقدر مع {أَمْ} إنكار لأن يكون لهم كتاب إنكارا مبنيا على الفرض وإن كانوا لم يدعوه.
وحاصل هذا الانتقال والانتقالات الثلاثة بعده وهي {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا} [القلم: 39] الخ، {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم:40] {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} [القلم: 41] الخ أن حكمكم هذا لا يخلو من أن يكون سنده كتابا سماويا نزل من لدنا، وإما أن يكون سنده عهدا منا بأنا نعطيكم ما تقترحون، وإما أن يكون لكم كفيل علينا، وإما أن يكون تعويلا على نصر شركائكم.
وتقديم {لَكُمْ} على المبتدأ وهو {كِتَابٌ} لأن المبتدأ نكرة ونكيره مقصود للنوعية فكان تقديم الخبر لازما.
وضمير {فِيهِ} عائد إلى الحكم المفاد من قوله: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 36]، أي كتاب في الحكم.
و"في" للتعليل أو الظرفية المجازية كما تقول ورد كتاب في الأمر بهذا أو في النهي عن كذا فيكون {فيه} ظرفا مستقرا صفة ل {كِتَابٌ} . ويجوز أن يكون الضمير عائد إلى {كِتَابٌ} ويتعلق المجرور بفعل {تَدْرُسُونَ} . جعلت الدراسة العميقة بمزيد التبصر في ما يتضمنه الكتاب بمنزلة الشيء المظروف في الكتاب كما تقول: لنا درس في كتاب سيبويه.

وفي هذا إدماج بالتعريض بأنهم أميون ليسوا أهل كتاب وأنهم لما جاءهم كتاب لهديهم وإلحاقهم بالأمم ذات الكتاب كفروا نعمته وكذبوه قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الانبياء:10] وقال: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157].
وجملة {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} في موضع مفعول {تَدْرُسُونَ} على أنها محكي لفظها، أي تدرسون هذه العبارة كما جاء قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 78،79]، أي تدرسون جملة {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} .
ويكون {فِيهِ} توكيدا لفظيا لنظيرها من قوله: {فِيهِ تَدْرُسُونَ} ، قصد من إعادتها مزيد ربط الجملة بالتي قبلها كما أعيدت كلمة "من" في قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} [النحل: 67] وأصله: تتخذون سكرا.
و {تَخَيَّرُونَ} أصله تتخيرون بتاءين، حذفت إحداهما تخفيفا. والتخير: تكلف الخير، أي تطلب ما هو في أخير. والمعنى: إن في ذلك الكتاب لكم ما تختارون من خير الجزاء.
[39] {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} .
{أَمْ} للانتقال إلى دليل آخر وهو نفي أن يكون مستند زعمهم عهدا أخذوه على الله لأنفسهم أن يعامله يوم القيامة بما يحكمون به لأنفسهم، فالاستفهام اللازم تقديره بعد {أَمْ} إنكاري و {بَالِغَةٌ} مؤكدة. وأصل البالغة: الواصلة إلى ما يطلب بها، وذلك استعارة لمعنى مغلظة، شبهت بالشيء المبالغ إلى نهاية سيره. وذلك كقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149].
وقوله: {عَلَيْنَا} صفة ثانية لـ {أَيْمَانٌ} أي أقسمناها لكم لإثبات حقكم علينا.
و {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} صفة ثالثة لـ {أَيْمَانٌ} ، أي أيمان مؤبدة لا تحلة منها فحصل من الوصفين أنها عهود مؤكدة ومستمرة طول الدهر، فليس يوم القيامة منتهى الأخذ بتلك الأيمان بل هو تنصيص على التأييد كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الاحقاف: 5] في سورة الأحقاف.
ويتعلق إلى يوم القيامة بالاستقرار الذي في الخبر في قوله: {لَكُمْ أَيْمَانٌ} ولا

يحسن تعلقه بـ {بَالِغَةٌ} تعلق الظرف اللغو لأنه يصير {بَالِغَةٌ} مستعملا في معنى مشهور قريب من الحقيقة، ومحمل {بَالِغَةٌ} على الاستعارة التي ذكرنا أجزل وجملة {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} بيان لـ {أَيْمَانٌ} ، أي أيمان بهذا اللفظ.
ومعنى ما تحكمون تأمرون به دون مراجعة، يقال: نزلوا على حكم فلان، أي لم يعينوا طلبة خاصة ولكنهم وكلوا تعيين حقهم إلى فلان، قال خطاب أو حطان بن المعلى:
أنزلني الدهر على حكمه ... من شامخ عال إلى خفض
أي دون اختيار لي ولا عمل عملته فكأنني حكمت الدهر فأنزلني من معاقلي وتصرف في كما شاء.
ومن أقوالهم السائرة مسرى الأمثال حكمك مسمطا بضم الميم وفتح السين وفتح الميم الثانية مشددة أي لك حكمك نافذا لا اعتراض عليك فيه. وقال ابن عثمة:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
[40] {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} .
استئناف بياني عن جملة {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} [القلم: 39]، لأن الأيمان وهي العهود تقتضي الكفلاء عادة قال الحارث بن حلزة:
واذكروا حلف ذي المجاز وما قد ... م فيه العهود والكفلاء
فلما ذكر إنكار أن يكون لهم عهود، كمل ذلك بأن يطلب منهم أن يعينوا من هم الزعماء بتلك الأيمان.
فالاستفهام في قوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} مستعمل في التهكم زيادة على الإنكار عليهم.
والزعيم: الكفيل وقد جعل الزعيم أحدا منهم زيادة في التهكم وهو أن جعل الزعيم لهم واحدا منهم لعزتهم ومناغاتهم لكبرياء الله تعالى.
[41] {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} {أَمْ} إضراب انتقالي ثالث إلى إبطال مستند آخر مفروض لهم في سند قولهم: إنا نعطى مثل ما يعطى المسلمون أو خيرا مما يعطونه، وهو أن يفرض أن أصنامهم تنصرهم

وتجعل لهم حظا من جزاء الخير في الآخرة.
والمعنى: بل أثبتت لهم، أي لأجلهم ونفعهم شركاء، أي شركاء لنا في الإلهية في زعمهم، فحذف متعلق {شُرَكَاءُ} لشهرته عندهم فصار شركاء بمنزلة اللقب، أي أم آلهتهم لهم فليأتوا بهم لينفعوهم يوم القيامة.
واللام في {لهم} لام الأجل، أي لأجلهم بتقدير مضاف، أي لأجل نصرهم، فاللام كاللام في قول أبي سفيان يوم أحد "لنا العزى ولا عزى لكم".
وتنكير {شُرَكَاءُ} في حيز الاستفهام المستعمل في الإنكار يفيد انتفاء أن يكون أحد من الشركاء، أي الأصنام لهم، أي لنفعهم فيعم أصنام جميع قبائل العرب المشترك في عبادتها بين القبائل، والمخصوصة ببعض القبائل.
وقد نقل أسلوب الكلام من الخطاب إلى الغيبة لمناسبة وقوعه بعد {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} ، لأن أخص الناس بمعرفة أحقية هذا الإبطال هو النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يستتبع توجيه هذا الإبطال إليهم بطريقة التعريض.
والتفريع في قوله: {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ} تفريع على نفي أن تنفعهم آلهتهم، فتعين أن أمر {فَلْيَأْتُوا} أمر تعجيز.
وإضافة {شُرَكَاءُ} إلى ضميرهم في قوله: {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ} لإبطال صفة الشركة في الإلهية عنهم، أي ليسوا شركاء في الإلهية إلا عند هؤلاء فإن الإلهية الحق لا تكون نسبية بالنسبة إلى فريق أو قبيلة.
ومثل هذا الإطلاق كثير في القرآن ومنه قوله: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} [أعراف: 195].
[42-43] {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} .
يجوز أن يكون {يَوْمَ يُكْشَفُ} متعلقا بقوله: {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ} [القلم: 41] أي فليأتوا بالمزعومين يوم القيامة. وهذا من حسن التخلص إلى ذكر أهوال القيامة عليهم.
ويجوز أن يكون استئنافا متعلقا بمحذوف تقديره: اذكر يو يكشف عن ساق ويدعون

إلى السجود الخ للتذكير بأهوال ذلك اليوم.
وعلى كلا الوجهين في تعلق {يوم} فالمراد باليوم يوم القيامة.
والكشف عن ساق: مثل لشدة الحال لصعوبة الخطب والهول، وأصله أن المرء إذا هلع أن يسرع في المشي ويشمر ثيابه فيكشف عن ساقه كما يقال: شمر عن ساعد الجد، وأيضا كانوا في الروع والهزيمة تشمر الحرائر عن سوقهن في الهرب أو في العمل فتنكشف سوقهن في الهرب أو في العمل فتنكشف سوقهن بحيث يشغلهن هول الأمر عن الاحتراز من إبداء ما لا تبدينه عادة، فيقال: كشفت عن ساقها أو شمرت عن ساقها، أو أبدت عن ساقها. قال عبد الله بن قيس الرقيات:
كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء
وفي حديث غزوة أحد قال أنس بن مالك انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها إلخ، فإذا قالوا: كشف المرء عن ساقه فهو كناية عن هول أصابه وإن لم يكن كشف ساق. وإذا قالوا: كشف الأمر عن ساق، فقد مثلوه بالمرأة المروعة، وكذلك كشفت الحرب عن ساقها، كل ذلك تمثيل إذ ليس ثمة ساق قال حاتم:
فتى الحرب غضت به لحرب الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال جد طرفة من الحماسة:
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر البواح
وقرأ ابن عباس {يَوْمَ يُكْشَفُ} بمثناة فوقية وبصيغة البناء للفاعل على تقدير تكشف الشدة عن ساقها أو تكشف القيامة، وقريب من هذا قولهم: قامت الحرب على ساق.
والمعنى: يوم تبلغ أحوال الناس منتهى الشدة والروع، قال ابن عباس: يكشف عن ساق: عن كرب وشدة، وهي أشد ساعة في يوم القيامة.
وروى عبد بن حميد وغيره عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن هذا، فقال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:

صبرا عناق إنه لشرباق ... قد سن لي قومك ضرب الأعناق1
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال مجاهد: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} : شدة الأمر.
وجملة {وَيُدْعَوْنَ} ليس عائدا إلى المشركين مثل ضمير {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم: 17] إذ لا يساعد قوله: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} فإن المشركين لم يكونوا في الدنيا يدعون إلى السجود. فالوجه أن يكون عائدا إلى غير مذكور، أي ويدعى مدعوون فيكون تعريضا بالمنافقين بأنهم يحشرون مع المسلمين ويمتحن الناس بدعائهم إلى السجود ليتميز المؤمنون الخلص عن غيرهم تميز تشريف فلا يستطيع المنافقون السجود فيفتضح كفرهم. قال القرطبي عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود: فمن كان يعبد الله مخلصا يخر ساجدا له ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد اه. فيكون قوله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} إدماجا لذكر بعض ما يحصل من أحوال ذلك اليوم.
وفي صحيح مسلم من حديث الرؤية وحديث الشفاعة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد رياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه" الحديث، فيصلح ذلك تفسيرا لهذه الآية.
وقد اتبع فريق من المفسرين هذه الرواية وقالوا يكشف الله عن ساقه، أي عن مثل الرجل ليراها الناس ثم قالوا هذا من المتشابه على أنه روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عَنْ سَاقٍ} قال: "يكشف عن نور عظيم يخرون له سجدا" .
ورويت أخبار أخرى ضعيفة لا جدوى في ذكرها.
و { السُّجُودِ} الذي يدعون إليه: سجود الضراعة والخضوع لأجل الخلاص من أهوال الموقف.
وعدم استطاعتهم السجود لسلب الله منهم الاستطاعة على السجود ليعلموا أنهم لا رجاء لهم في النجاة.
والذي يدعوهم إلى السجود الملائكة الموكلون بالمحشر بأمر الله تعالى كقوله
ـــــــ
1 شربق مقلوب شبرق أي مزق ويقال: ثوب شرباق كقرطاس.

تعالى: {وْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} إلى قوله: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر:6-8]، أو يدعو بعضهم بعضا بإلهام من الله تعالى، وهو نضير الدعوة إلى الشفاعة في الأثر المروي "فيقول بعضهم لبعض لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من موقفنا هذا".
وخشوع الأبصار: هيئة النظر بالعين بذلة وخوف، استعير له وصف {خَاشِعَةً} لأن الخاشع يكون مطأطئا مختفيا.
و {ترهقهم} : تحل بهم وتقترب منهم بحرص على التمكن منهم، رهق من باب فرح قال تعالى: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:41].
وجملة {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} حال ثانية من ضمير {يَسْتَطِيعُونَ} .
وجملة {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} معترضة بين ما قبلها وما تفرع عنها، أي كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود لله وحده وهم سالمون من مثل الحالة التي هم عليها في يوم الحشر. والواو للحال وللاعتراض.
وجملة {وَهُمْ سَالِمُونَ} حال من ضمير {يُدْعَوْنَ} ، أي وهم قادرون لا علة تعوقهم في أجسادهم. والسلامة: انتفاء العلل والأمراض بخلاف حالهم يوم القيامة فإنهم ملجأون لعدم السجود.
[44-45] {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} .
الفاء لتفريع الكلام الذي عطفته على الكلام الذي قبله لكون الكلام الأول سببا في ذكر ما بعده، فيعد أن استوفي الغرض من موعظتهم ووعيدهم وتزييف أوهامهم أعقب بهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله تكفل بالانتصاف من المكذبين ونصره عليهم.
وقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ} ونحوه يفيد تمثيلا لحال مفعول "ذر" في تعهده بأن يكفي مؤونة شيء دون استعانة بصاحب المؤونة بحال من يرى المخاطب قد شرع في الانتصار لنفسه ورأى أنه لا يبلغ بذلك مبلغ مفعول "ذر" لأنه أقدر من المعتدى عليه في الانتصاف من المعتدي فيتفرغ له ولا يطلب من صاحب الحق إعانة له على أخذ حقه، ولذلك يؤتى بفعل يدل على طلب الترك ويؤتى بعده بمفعول معه ومنه قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل: 11] {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11] وقال السهيلي في

"الروض الأنف" في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11] فيه تهديد ووعيد، أي دعني وإياه فسترى ما أصنع وهي كلمة يقولها المغتاظ إذا اشتد غيظه وغضبه وكره أن يشفع لمن اغتاض عليه فمعنى الكلام لا شفاعة في هذا الكافر.
والواو: واو المعية وما بعدها مفعول معه، ولا يصح أن تكون الواو عاطفة لأن المقصود: اتركني معهم.
و {الحديث} يجوز أن يراد به القرآن وتسميته حديثا لما فيه من الإخبار عن الله تعالى، وما فيه من أخبار الأمم وأخبار المغيبات، وقد سمي بذلك في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} في سورة [الأعراف: 185] وقوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ} الآية في سورة [النجم: 59-60] وقوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} في سورة [الواقعة: 81].
واسم الإشارة على هذا للإشارة إلى مقدر في الذهن مما سبق نزوله من القرآن.
ويجوز أن يكون المراد بالحديث الإخبار عن البعث وهو ما تضمنه قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} الآية [القلم: 42].
ويكون اسم الإشارة إشارة إلى ذلك الكلام والمعنى: حسبك إيقاعا بهم أن تكل أمرهم إلي فأنا أعلم كيف أنتصف منهم فلا تشغل نفسك بي وتوكل علي.
ويتضمن هذا تعريضا بالتهديد للمكذبين لأنهم يسمعون هذا الكلام.
وهذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر ووعيد لهم بانتقام في الدنيا لأنه تعجيل لتسلية الرسول.
وجملة {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} ، بيان لمضمون {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} باعتبار أن الاستدراج والإملاء يعقبها الانتقام فكأنه قال: سنأخذهم بأعمالهم فلا تستبطئ الانتقام فإنه محقق وقوعه ولكن يؤخر لحكمة تقتضي تأخيره.
والاستدراج: استنزال الشيء من درجة إلى أخرى في مثل السلم، وكان أصل السين والتاء فيه للطلب أي محاولة التدرج، أي التنقل في الدرج، والقرينة تدل على إرادة النزول إذ التنقل في الدرج يكون صعودا ونزولا، ثم شاع إطلاقه على معاملة حسنة لمسيء إلى إبان مقدر عند حلوله عقابه ومعنى {مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أن استدراجهم المفضي إلى حلول العقاب بهم يأتيهم من أحوال وأسباب لا يتفطنون إلى أنها مفضية بهم إلى الهلاك،

وذلك أجلب لقوة حسرتهم عند حدوث المصائب بهم، ف {من} ابتدائية، و {حيث} للمكان المجازي، أي الأسباب والأفعال والأحوال التي يحسبونها تأتيهم بخير فتنكشف لهم عن الضر. ومفعول {لا يَعْلَمُونَ} ضمير محذوف عائد إلى {حيث} .
و {أملي} : مضارع أملي، مقصور بمعنى أمهل وأخر وهو مشتق من الملا مقصورا، وهو الحين والزمن، ومنه قيل الليل والنهار، الملوان، فيكون أملى بمعنى طول في الزمان، ومصدره إملاء.
ولام {لهم} هي اللام المسماة لام التبيين، وهي التي تبين اتصال مدخولها لخفاء فيه فإن اشتقاق فعل أملى من الملوو وهو الزمان اشتقاق غير بين لخفاء معنى الحدث فيه.
ونون {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} نون المتكلم المشارك، والمراد الله وملائكته الموكلون بتسخير الموجودات وربط أحوال بعضها ببعض على وجه يتم به مراد الله فلذلك جيء بنون المتكلم فالاستدراج تعلق تنجيزي لقدرة الله فيحصل بواسطة الملائكة الموكلين كما قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [لأنفال: 12] الآية.
وأما الإملاء فهو علم الله بتأجيل أخذهم. وتعلق العلم ينفرد به الله فلذلك جيء معه بضمير المفرد. وحصل في هذا الاختلاف تفنن في الضميرين.
ونظير هذه الآية قوله في الأعراف [182-183]: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} باعتبار أنهما وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر وتثبيت له بأن استمرار الكافرين في نعمة إنما هو استدراج وإملاء وضرب يشبه الكيد وأن الله بالغ أمره فيهم، وهذا كقوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران: 196-197].
وموقع {إِنَّ} موقع التسبب والتعليل كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} في سورة [آل عمران: 96].
وإطلاق الكيد على إحسان الله لقوم مع إرادة إلحاق السوء بهم إطلاق على وجه الاستعارة لمشابهته فعل الكائد من حيث تعجيل الإحسان وتعقيبه بالإساءة.
[46] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} .

إضراب آخر للانتقال إلى إبطال آخر من إبطال معاذيرهم في إعراضهم عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المبتدئ من قوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} [القلم: 36-37] {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ} [القلم: 39] {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} [القلم: 41] فإنه بعد أن نفى أن تكون لهم حجة تؤيد صلاح حالهم. أو وعد لهم بإعطاء ما يرغبون، أو أولياء ينصرونهم، عطف الكلام إلى نفي أن يكون عليهم ضر في إجابة دعوة الإسلام، استقصاء لقطع ما يحتمل من المعاذير بافتراض أن الرسول صلى الله عليه وسلم سألهم أجرا على هديه إياهم فصدهن عن إجابته ثقل غرم المال على نفوسهم.
فالاستفهام الذي تؤذن به {أم} استفهام إنكار لفرض أن يكون ذلك مما يخامر نفوسهم فرضا اقتضاه استقراء نواياهم من مواقع الإقبال على دعوة الخير والرشد.
والمغرم: ما يفرض على المرء أداؤه من ماله لغير عوض ولا جناية.
والمثقل: الذي حمل عليه شيء ثقيل، وهو هنا مجاز في الإشفاق.
والفاء للتفريع والتسبب، أي فيتسبب على ذلك أنك شققت عليهم فيكون ذلك اعتذارا منهم عن عدم قبول ما تدعوهم إليه.
و {مِنْ مَغْرَمٍ} متعلق ب {مُثْقَلُونَ} و {من} ابتدائية وهو ابتداء مجازي بمعنى التعليل، وتقديم المعمول على عامله للاهتمام بموجب المشقة قبل ذكرها مع الرعاية على الفاصلة.
[47] {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} .
إضراب آخر انتقل به من مدارج إبطال معاذير مفروضة لهم أن يتمسكوا بها تعلة لإعراضهم عن قبول دعوة القرآن، قطعا لما عسى أن ينتحلوه من المعاذير على طريقة الاستقراء ومنع الخلو.
وقد جاءت الإبطالات السالفة متعلقة بما يفرض لهم من المعاذير التي هي من قبيل مستندات من المشاهدات، وانتقل الآن إلى إبطال من نوع آخر، وهو إبطال حجة مفروضة يستندون فيها إلى علم شيء من المعلومات المغيبات عن الناس. وهي مما استأثر الله بعلمه وهو المعبر عنه بالغيب، كما تقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة [البقرة: 3] وقد استقر عند الناس كلهم أن أمور الغيب لا يعلمها إلا الله أو من

أطلع من عباده على بعضها.
والكلام هنا على حذف مضاف، أي أعندهم علم الغيب كما قال تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} في سورة [النجم: 35].
فالمراد بقوله: {عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} أنه حصل في علمهم ومكنتهم، أي باطلاع جميعهم عليه أو بإبلاغ كبرائهم إليهم وتلقيهم ذلك منهم.
وتقديم {عِنْدَهُمُ} على المبتدأ وهو معرفة لإفادة الاختصاص، أي صار علم الغيب عندهم لا عند الله.
ومعنى يكتبون: يفرضون ويعينون كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وقوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، أي فهم يفرضون لأنفسهم أن السعادة في النفور من دعوة الإسلام ويفرضون ذلك على الدهماء من اتباعهم.
ومجيء جملة {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} متفرعة عن جملة {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} ، بناء على أن ما في الغيب مفروض كونه شاهدا على حكمهم لأنفسهم المشار إليه بقوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:36] كما علمته آنفا.
[48-50] {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
تفريع على ما تقدم من إبطال مزاعم المشركين ومطاعنهم في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، وما تبعه من تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بعاقبة النصر، وذلك أن شدته على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من شأنها أن تدخل عليه يأسا من حصول رغبته ونجاح سعيه، ففرع عليه تثبيته وحثه على المصابرة واستمراره على الهدي. وتعريفه بأن ذلك التثبيت يرفع درجته في مقام الرسالة ليكون من أولي العزم، فذكره بمثل يونس عليه السلام إذ استعجل عن أمر ربه، فأدبه الله ثم اجتباه وتاب عليه وجعله من الصالحين تذكيرا مرادا به التحذير.
والمراد بحكم الرب هنا أمره وهو ما حمله إياه من الإرسال والاضطلاع بأعباء الدعوة. وهذا الحكم هو المستقرأ من آيات الأمر بالدعوة التي أولها {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إلى قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7] فهذا هو الصبر المأمور به في هذه الآية أيضا. ولا جرم أن الصبر لذلك يستدعي انتظار الوعد بالنصر وعدم الضجر من تأخره إلى

أمده المقدر في علم الله.
وصاحب الحوت: هو يونس بن متى، وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} إلى قوله: {وَيُونُسَ} في سورة [الأنعام: 84-86].
والصاحب: الذي يصحب غيره، أي يكون معه في بعض الأحوال أو في معظمها، وإطلاقه على يونس لأن الحوت التقمه ثم قذفه فصار "صاحب الحوت" لقبا له على تلك الحالة معية قوية.
وقد كانت مؤاخذة يونس عليه السلام على ضجره من تكذيب قومه وهم أهل نينوى كما تقدم في سورة الصافات.
و {إذ} ظرف زمان وهو وجملته متعلق باستقرار منصوب على الحال أي في حالة وقت ندائه ربه، فإنه ما نادى ربه إلا لإنقاذه من كربه الذي وقع فيه بسبب مغاضبته وضجره من قومه، أي لا يكن منك ما يلجئك إلى مثل ندائه.
والمكظوم: المحبوس المسدودة عليه يقال: كظم الباب أغلقه وكظم النهر إذا سده. والمعنى: نادى في حال حبسه في بطن الحوت.
وجيء بهذه الحال جملة اسمية لدلالتها على الثبات، أي هو في حبس لا يرجى لمثله سراح، وهذا تمهيد للامتنان عليه بالنجاة من مثل ذلك الحبس.
وقوله: {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} الخ استئناف بياني ناشئ عن مضمون النهي من قوله: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى} الخ لأنه يتضمن التحذير من الوقوع في كرب من قبيل كرب يونس ثم لا يدري كيف يكون انفراجه.
و {أن} يجوز أن تكون مخففة من {أن} ، واسمها ضمير شأن محذوف، وجملة {تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} خبرها. ويجوز أن تكون مصدرية، أي لولا تدارك رحمة من ربه.
والتدارك: تفاعل من الدرك بالتحريك وهو اللحاق، أي أن يلحق بعض السائرين بعضا وهو يقتضي تسابقهم وهو هنا مستعمل في مبالغة إدراك نعمة الله إياه.
والنبذ: الطرح والترك. والعراء ممدودا: الفضاء من الأرض الذي لا نبات فيه ولا بناء.
والمعنى: لنبذه الحوت أو البحر بالفضاء الخالي لأن الحوت الذي ابتلعه من النوع

الذي يرضع فراخه فهو يقترب من السواحل الخالية المترامية الأطراف خوفا على نفسه وفراخه.
والمعنى: أن الله أنعم عليه بأن أنبت عليه شجرة اليقطين كما في سورة الصافات.
وأدمج في ذلك فضل التوبة والضراعة إلى الله، وأنه لولا توبته وضراعته إلى الله وإنعام الله عليه نعمة بعد نعمة لقذفه الحوت من بطنه ميتا فأخرجه الموج إلى الشاطئ فلكان مثلة للناظرين أو حيا منبوذا بالعراء لا يجد إسعافا، أو لنجى بعد لأي والله غاضب عليه فهو مذموم عند الله مسخوط عليه. وهي نعم كثيرة عليه إذ أنقذه من هذه الورطات كلها إنقاذا خارقا للعادة.
وهذا المعنى طوي طيا بديعا وأشير إليه إشارة بليغة بجملة {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} .
وطريقة المفسرين في نشر هذا المطوي أن جملة {وَهُوَ مَذْمُومٌ} في موضع الحال وأن تلك الحال قيد في جواب {لَوْلا} ، فتقدير الكلام: لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء نبذا ذميما، أي ولكن يونس نبذ بالعراء غير مذموم.
والذي حملهم على هذا التأويل أن نبذه بالعراء واقع فلا يستقيم أن يكون جوابا للشرط لأن {لَوْلا} تقتضي امتناعا لوجود، فلا يكون جوابها واقعا فتعين اعتبار تقييد الجواب بجملة الحال، أي انتفى ذمه عند نذبه بالعراء.
ويلوح لي في تفصيل النظم وجه آخر وهو أن يكون جواب {لَوْلا} محذوفا دل عليه قوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مع ما تفيده صيغة الجملة الاسمية من تمكن الكظم كما علمت آنفا، فتلك الحالة إذا استمرت لم يحصل نبذه بالعراء، ويكون الشرط ب {لَوْلا} لاحقا لجملة {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} ، أي لبقي مكظوما، أي محبوسا في بطن الحوت أبدا وهو معنى قوله في سورة الصافات [143-144] {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، وتجعل جملة {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} استئنافا بيانيا ناشئا عن الإجمال الحاصل من موقع {لَوْلا} .
واللام فيها لام القسم للتحقيق لأنه خارق للعادة فتأكيده لرفع احتمال المجاز. والمعنى: لقد نبذ بالعراء وهو مذموم. والمذموم: إما بمعنى المذنب لأن الذنب يقتضي الذم في العاجل والعقاب في الآجل، وهو معنى قوله: في آية الصافات [142] {فَالْتَقَمَهُ

الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} وإما بمعنى العيب وهو كونه عاريا جائعا فيكون في معنى قوله: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات:145] فإن السقم عيب أيضا.
وتنكير {نِعْمَةٌ} للتعظيم لأنها نعمة مضاعفة مكررة.
وفرع على هذا النفي الإخبار بأن الله اجتباه وجعله من الصالحين.
والمراد ب {الصَّالِحِينَ} المفضلون من الأنبياء، وقد قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83] وذلك إيماء إلى أن الصلاح هو أصل الخير ورفع الدرجات، وقد تقدم في قوله: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} في سورة [التحريم: 10].
قال ابن عباس رد الله إلى يونس الوحي وشفعه في نفسه وفي قومه.
[51-52] {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} .
عطف على جملة {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} [القلم: 44]، عرف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما تنطوي عليه نفوس المشركين نحو النبي صلى الله عليه وسلم من الحقد والغيظ وإضمار الشر عندما يسمعون القرآن.
والزلق: بفتحتين زلل الرجل من ملاسة الأرض من طين عيها أو دهن، وتقدم في قوله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} في سورة [الكهف: 40].
ولما كان الزلق يفضي إلى السقوط غالبا أطلق الزلق وما يشتق منه على السقوط والاندحاض على وجه الكناية، ومنه قوله هنا {لَيُزْلِقُونَكَ} ، أي يسقطونك ويصرعونك.
وعن مجاهد: أن ينفذونك بنظرهم. وقال القرطبي: يقال زلق السهم وزهق، إذا نفذ، ولم أراه لغيره، قال الراغب قال يونس: لم يسمع الزلق والإزلاق إلا في القرآن اه.
قلت: وعلى جميع الوجوه فقد جعل الإزلاق بأبصارهم على وجه الاستعارة المكنية، شبهت الأبصار بالسهام ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو فعل {لَيُزْلِقُونَكَ} . وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155].

وقرأ نافع وأبو جعفر "يزلقونك" بفتح المثناة مضارع زلق بفتح اللام يزلق متعديا، إذا نحاه من مكانه.
وقرأه الباقون بضم المثناة.
وجاء {يكاد} بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ذلك في المستقبل وجاء فعل {سمعوا} ماضيا لوقوعه مع {لَمَّا} وللإشارة إلى أنه قد حصل منهم ذلك وليس مجرد فرض.
واللام في {لَيُزْلِقُونَكَ} لام الابتداء التي تدخل كثيرا في خبر {إن} المكسورة وهي أيضا تفرق بين {إن} المخففة وبين "إن" النافية.
وضمير {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حكاية لكلامهم بينهم، فمعاد الضمير كائن في كلام بعضهم، أو ليس للضمير معاد في كلامهم لأنه منصرف إلى من يتحدثون عنه في غالب مجالسهم.
والمعنى: يقولون ذلك اعتلالا لأنفسهم إذ لم يجدوا في الذكر الذي يسمعونه مدخلا للطعن فيه فانصرفوا إلى الطعن في صاحبه صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون لينتقلوا من ذلك إلى الكلام الجاري على لسانه لا يوثق به ليصرفوا دهماءهم عن سماعه، فلذلك أبطل الله قولهم: {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} بقوله: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} ، أي ما القرآن إلا ذكر للناس كلهم وليس بكلام المجانين، وينتقل من ذلك إلى أن الناطق به ليس من المجانين في شيء.
والذكر: التذكير بالله والجزاء هو أشرف أنواع الكلام لأنه فيه صلاح للناس.
فضمير {هو} عائد إلى مذكور بل إلى معلوم من المقام، وقرينة السياق ترجع كل ضمير من ضميري الغيبة إلى معاده، كقول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
أي لأحرز الكفار ما جمعه المسلمون.
وفي قوله: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} مع قوله في أول السورة: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] محسن رد العجز على الصدر.
وقوله: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} إبطالا لقولهم: {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} لأنهم قالوه في سياق تكذيبهم بالقرآن فإذا ثبت أن القرآن ذكر بطل أن يكون مبلغه مجنونا. وهذا من قبيل الاحتباك إذ التقدير: ويقولون إنه لمجنون وإن القرآن كلام مجنون، وما القرآن إلا ذكر وما أنت إلا مذكر.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحاقةسميت "سورة الحاقة" في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أحمد بن حنبل أن عمر ابن الخطاب قال خرجت يوما بمكة أتعرض لرسول الله قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد الحرام فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت: هذا والله شاعر، أي قلت في خاطري، فقرأ {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:41] قلت: كاهن، فقرأ {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 42-43] إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع.
وباسم {الحاقة} عنونت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير. وقال الفيروز أبادي في "بصائر ذوي التمييز": إنها تسمى أيضا "سورة السلسلة" لقوله: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} [الحاقة: 32] وسماها الجعبري في منظومته في ترتيب نزول السور الواعية ولعله أخذه من وقوع قوله: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12] ولم أر سلفا في هذه التسمية.
ووجه تسميتها "سورة الحاقة" وقوع هذه الكلمة في أولها ولم تقع في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية بالاتفاق. ومقتضى الخبر المذكور عن عمر بن الخطاب أنها نزلت في السنة الخامسة قبل الهجرة فإن عمر أسلم بعد هجرة المهاجرين إلى الحبشة وكانت الهجرة إلى الحبشة سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة.
وقد عدت هذه السورة السابعة والسبعين في عداد ترتيب النزول. نزلت بعد سورة تبارك وقبل سورة المعارج.
واتفق العادون من أهل الأمصار على عد آيها إحدى وخمسين آية.

أغراضها
اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة. وتهديد المكذبين بوقوعه.
وتذكيرهم بما حل بالأمم التي كذبت به من عذاب في الدنيا ثم عذاب الآخرة وتهديد المكذبين برسل الله تعالى بالأمم التي أشركت وكذبت.
وأدمج في ذلك أن الله نجى المؤمنين من العذاب، وفي ذلك تذكير بنعمة الله على البشر إذ أبقى نوعهم بالإنجاء من الطوفان.
ووصف أهوال من الجزاء وتفاوت الناس يومئذ فيه، ووصف فظاعة حال العقاب على الكفر وعلى نبذ شريعة الإسلام، والتنويه بالقرآن.
وتنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أن يكون غير رسول.
وتنزيه الله تعالى عن أن يقر من يتقول عليه.
وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإنذار المشركين بتحقيق الوعيد الذي في القرآن.
[1-3] { الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} .
{الْحَاقَّةُ} صيغة فاعل من: حق الشيء، إذا ثبت وقوعه، والهاء فيها لا تخلو عن أن تكون هاء تأنيث فتكون {الْحَاقَّةُ} وصفا لموصوف مقدر مؤنث اللفظ، أو أن تكون هاء مصدر على وزن فاعلة مثل الكاذبة للكذب، والخاتمة للختم، والباقية للبقاء، والطاغية للطغيان، والنافلة، والخاطئة، وأصلها تاء المرة، ولكنها لما أريد المصدر قطع النظر عن المرة مثل كثير من المصادر التي على وزن فعلة غير ما رد به المرة مثل قولهم ضربة لازب. فالحاقة إذن بمعنى الحق كما يقال من حاق كذا، أي من حقه.
وعلى الوجهين فيجوز أن يكون المراد بالحاقة المعنى الوصفي، أي حاثة تحقق أو حق يحق.
ويجوز أن يكون المراد بها لقبا ليوم القيامة، وروي ذلك عن ابن عباس وأصحابه وهو الذي درج عليه المفسرون فلقب بذلك يوم القيامة لأنه يوم محقق وقوعه، كما قال تعالى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى: 7]، أو لأنه تحقق فيه الحقوق ولا يضاع

الجزاء عليها، قال تعالى: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77] وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].
وإيثار هذه المادة وهذه الصيغة يسمح باندراج معان صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحق حلوله بهم.
فيجوز أيضا أن تكون {الحاقة} وصفا لموصوف محذوف تقديره: الساعة الحاقة، أو الواقعة الحاقة، فيكون تهديدا بيوم أو وقعة يكون فيها عقاب شديد للمعرض بهم مثل يوم بدر أو وقعته وأن ذلك حق لا ريب في وقوعه؛ أو وصفا للكلمة، أي كلمة الله التي حقت على المشركين من أهل مكة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6]، أو التي حقت للنبي صلى الله عليه وسلم أن ينصره الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} [الصافات: 171-174].
ويجوز أن تكون مصدرا بمعنى الحق، فيصح أن يكون وصفا ليوم القيامة بأنه حق كقوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 97]، أو وصفا للقرآن كقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران:62]، أو أريد به الحق كله كما جاء به القرآن من الحق قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29] وقال: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} [الاحقاف: 30].
وافتتاح السورة بهذا اللفظ ترويع للمشركين.
و {الْحَاقَّةُ} مبتدأ و {مَا} مبتدأ ثان. و {الْحَاقَّةُ} المذكورة ثانيا خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول.
و {مَا} اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم كأنه قيل: أتدري ما الحاقة? أي ما هي الحاقة، أي شيء عظيم الحاقة. وإعادة اسم المبتدأ في الجملة الواقعة خبرا عنه تقوم مقام ضميره في ربط الجملة المخبر بها. وهو من الإظهار في مقام الإضمار لقصد ما في الاسم من التهويل. ونظيره في ذلك قوله تعالى {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27].
وجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} يجوز أن تكون معترضة بين جملة {مَا الْحَاقَّةُ}

وجملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة:4]، والواو اعتراضية.
ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {مَا الْحَاقَّةُ} .
و {مَا} الثانية استفهامية، والاستفهام بها مكنى به عن تعذر إحاطة علم الناس بكنه الحاقة لأن الشيء الخارج عن الحد المألوف لا يتصور بسهولة فمن شأنه أن يتساءل عن فهمه.
والخطاب في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} لغير معين. والمعنى: الحاقة أمر عظيم لا تدركون كنهه.
وتركيب "ما أدراك كذا" مما جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا اللفظ وهو تركيب مركب من {مَا} الاستفهامية وفعل "أدرى" الذي يتعدى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل من باب أعلم وأرى، فصار فاعل فعله المجرد وهو "درى" مفعولا أول بسبب التعدية. وقد علق فعل {أدراك} عن نصب مفعولين ب {مَا} الاستفهامية الثانية في قوله: {مَا الْحَاقَّةُ} . وصل الكلام قبل التركيب بالاستفهام أن تقول: أدركت الحاقة أمرا عظيما، ثم صار أدركني فلان الحاقة أمرا عظيما.
و {ما} الأولى استفهامية مستعملة في التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل في الحرف، لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه فصار التعظيم والاستفهام متلازمين. ولك أن تجعل الاستفهام إنكاريا، أي لا يدري أحد كنه هذا الأمر.
والمقصود من ذلك على كلا الاعتبارين هو التهويل.
هذا السؤال كما تقول: علمت هل يسافر فلان.
و {ما} الثالثة علقت فعل {أدراك} عن العمل في مفعولين.
وكاف الخطاب فيه خطاب لغير معين فلذلك لا يقترن بضمير تثنية أو جمع أو تأنيث إذا خوطب به غير المفرد المذكر.
واستعمال {مَا أَدْرَاكَ} غير استعمال {مَا يُدْرِيكَ} في قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63] وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} في سورة [الشورى: 17].
روي عن ابن عباس: كل شيء من القرآن من قوله: {مَا أَدْرَاكَ} فقد أدراه وكل

شيء من قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ} فقد طوي عنه. وقد روي هذا أيضا عن سفيان ابن عيينة وعن يحيى بن سلام فإن صح هذا المروي فإن مرادهم أن مفعول {مَا أَدْرَاكَ} محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للتهويل وإن مفعول {مَا يُدْرِيكَ} غير محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للإنكار وهو في معنى نفي الدراية.
وقال الراغب: كل موضع ذكر في القرآن من قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد عقب ببيانه نحو {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:10-11]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:2-3]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} [الانفطار: 18-19]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة: 3-4]. وكأنه يريد تفسير ما نقل عن ابن عباس وغيره.
ولم أرى من اللغويين من وفى هذا التركيب حقه من البيان وبعضه لم يذكره أصلا.
[4] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} .
إن جعلت قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 3] نهاية كلام فموقع قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} وما اتصل به استئناف، وهو تذكير لما حل بثمود وعاد لتكذيبهم بالبعث والجزاء تعريضا بالمشركين من أهل مكة بتهديدهم أن يحق عليه مثل ما حل بثمود وعاد فإنهم سواء في التكذيب بالبعث وعلى هذا يكون قوله: {الْحَاقَّةُ} الخ توطئة له وتمهيدا لهذه الموعظة العظيمة استرهابا لنفوس السامعين.
وإن جعلت الكلام متصلا بجملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} وعينت لفظ {الْحَاقَّةُ} يوم القيامة وكانت هذه الجملة خبرا ثالثا عن {الْحَاقَّةُ} .
والمعنى: الحاقة كذبت بها ثمود وعاد، فكان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير {الْحَاقَّةُ} فيقال: كذبت ثمود وعاد بها، فعدل إلى إظهار اسم {الْقَارِعَةِ} لأن {الْقَارِعَةِ} مرادفة {الْحَاقَّةُ} في أحد محملي لفظ {الْحَاقَّةُ} وهذا كالبيان للتهويل الذي في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 3].
و {الْقَارِعَةِ} مراد منها ما أريد ب {الْحَاقَّةُ} .
وابتدئ بثمود وعاد في الذكر من بين الأمم المكذبة لأنهما أكثر الأمم المكذبة شهرة عند المشركين من أهل مكة لأنهما من الأمم العربية ولأن ديارهما مجاورة شمالا وجنوبا.

والقارعة: اسم فاعل من قرعه، إذا ضربه ضربا قويا، يقال: قرع البعير. وقالوا: العبد يقرع بالعصا، وسميت المواعظ التي تنكسر لها النفس قوارع لما فيها من زجر الناس عن أعمال. وفي المقامة الأولى ويقرع الأسماع بزواجر وعظة، ويقال للتوبيخ تقريع، وفي المثل لا تقرع له العصا ولا يقلقل له الحصى، ومورده بعامر بن الضرب العدواني في قصة أشار إليها المتلمس في بيت.
ف"القارعة" هنا صفة لموصوف محذوف يقدر لفظه مؤنثا ليوافق وصفه المذكور نحو الساعة أو القيامة. القارعة: أي التي تصيب الناس بالأهوال والأفزاع، أو التي تصيب الموجودات بالقرع مثل دك الحبال، وخسف الأرض، وطمس النجوم، وكسوف الشمس كسوفا لا انجلاء له فشبه ذلك بالقرع.
ووصف {السَّاعَةِ} [لأعراف: 187] أو {الْقِيَامَةِ} [البقرة: 85] بذلك مجاز عقلي من إسناد الوصف إلى غير ما هو له بتأول لملابسته ما هو له إذ هي زمان القرع قال تعالى: {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 1-4] الآية. وهي ما سيأتي بيانها في قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة:13] الآيات.
وجيء في الخبر عن هاتين الآيتين بطريقة اللف والنشر لأنهما اجتمعا في موجب العقوبة ثم فصل ذكر عذابهما.
[5] {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} .
ابتدئ بذكر ثمود لأن العذاب الذي أصابهم من قبيل القرع إذ أصابتهم الصواعق المسماة في بعض الآيات بالصحيحة. والطاغية: الصاعقة في قول ابن عباس وقتادة: نزلت عليهم صاعقة أو صواعق فأهلكتهم، ولأن منازل ثمود كانت في طريق أهل مكة إلى الشام في رحلتهم فهم يرونها، قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52]، ولأن الكلام على مهلك عاد أنسب فأخر لذلك أيضا.
وإنما سميت الصاعقة أو الصيحة {بِالطَّاغِيَةِ} لأنها كانت متجاوزة الحال المتعارف في الشدة فشبه فعلها بفعل الطاغي المتجاوز الحد في العدوان والبطش.
والباء في قول: {بِالطَّاغِيَةِ} للاستعانة.

و {ثمود} : أمة من العرب البائدة العاربة، وهم أنساب عاد. وثمود: اسم جد تلك الأمة ولكن غلب إلى الأمة فلذلك منع من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار الأمة أو القبيلة.
وتقدم ذكر ثمود عند قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} في سورة [الأعراف: 73].
[6-7] {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} .
الصرصر: الشديدة يكون لها صوت كالصرير وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} في سورة [فصلت: 16]. والعاتية: الشديدة العصف، وأصل العتو والعتي: شدة التكبر فاستعير للشيء المتجاوز الحد المعتاد تشبيها بالتكبر الشديد في عدم الطاعة والجري على المعتاد.
والتسخير: الغصب على عمل واستعير لتكوين الريح الصرصر تكوينا متجاوزا المتعارف في قوة جنسها فكأنها مكرهة عليه.
وعلق به {عَلَيْهِمْ} لأنه ضمن معنى أرسلها.
و"حسوم" يجوز أن يكون جمع حاسم مثل قعود جمع قاعد، وشهود جمع شاهد، غلب فيه الأيام على الليالي لأنها أكثر عددا إذ هي ثمانية أيام وهذا له معان:
أحدهما أن يكون المعنى: يتابع بعضها بعضا، أي لا فصل بينها كما يقال: صيام شهرين متتابعين، وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي1:
ففرق بين بينهم زمان ... تتابع فيه أعوام حسوم
قيل: والحسوم مشتق من حسم الداء بالمكواة إذ يكوى ويتابع الكي أياما، فيكون إطلاقه استعارة، ولعلها من مبتكرات القرآن، وبيت عبد العزيز الكلابي من الشعر الإسلامي فهو متابع لاستعمال القرآن.
ـــــــ
1 شاعر من شعراءصدر الدولة الأموية، كان لأبيه وله حظوة عند الخليفة معاوية وكان سيد أهل البادية توفي في غزوة القسطنطينية سنة 46ه.

المعنى الثاني: أن يكون من الحسم وهو القطع، أي حاسمة مستأصلة. ومنه سمي السيف حساما لأنه يقطع، أي حسمتهم فلم تبق منهم أحدا. وعلى هذين المعنيين فهو صفة لـ {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} أو حال منها.
والمعنى الثالث: أن يكون حسوم مصدرا كالشكور والدخول فينتصب على المفعول لأجله وعامله {سَخَّرَهَا} ، أي سخرها عليهم لاستئصالهم وقطع دابرهم.
وكل هذه المعاني صالح لأن يذكر مع هذه الأيام، فإيثار هذا اللفظ من تمام بلاغة القرآن وإعجازه.
وقد سمي أصحاب الميقات من المسلمين أياما ثمانية منصفة بين أواخر فبراير وأوائل مارس معروفة في عادة نظام الجو بأن تشتد فيها الرياح غالبا، أيام الحسوم على وجه التشبيه، وزعموا أنها تقابل أمثالها من العام الذي أصيبت فيه عاد بالرياح، وهو من الأوهام، ومن ذا الذي رصد تلك الأيام.
ومن أهل اللغة من زعم أن أيام الحسوم هي الأيام التي يقال لها: أيام العجوز أو العجز، وهي آخر فصل الشتاء ويعدها العرب خمسا أو سبعة لها أسماء معروفة مجموعة في أبيات تذكر في كتب اللغة، وشتان بينها وبين حسوم عاد في العدة والمدة.
وفرع على {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} أنهم صاروا صرعى كلهم يراهم الرائي لو كان حاضرا تلك الحالة.
والخطاب في قوله: {فَتَرَى} خطاب لغير معين، أي فيرى الرائي لو كان راء، وهذا أسلوب في حكاية الأمور العظيمة الغائبة تستحضر فيه تلك الحالة كأنها حاضرة ويتخيل في المقام سامع حاضر شاهد مهلكهم أو شاهدهم بعده، وكلا المشاهدتين منتف في هذه الآية، فيعتبر خطابا فرضيا فليس هو بالتفات ولا هو من خطاب غير المعين، وقريب منه قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45]، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الانسان:20]، وعلى دقة هذا الاستعمال أهمل المفسرون التعرض له عدا كلمة للبيضاوي.
والتعريف في {الْقَوْمَ} للعهد الذكري، والقوم: القبيلة، وهذا تصوير لهلاك جميع القبيلة.
وضمير {فِيهَا} عائد إلى الليالي والأيام.

و {صَرْعَى} : جمع صريع وهو الملقى على الأرض ميتا وشبهوا بأعجاز نخل، أي أصول النخل، وعجز النخلة: هو الساق التي تتصل بالأرض من النخلة وهو أغلظ النخلة وأشدها.
ووجه التشبيه بها أن الذين يقطعون النخل إذا قطعوه للانتفاع بأعواده في إقامة البيوت للسقف والعضادات انتقوا منه أصوله لأنها أغلظ وأملأ وتركوها على الأرض حتى تيبس وتزول رطوبتها ثم يجعلوها عمدا وأساطين.
والنخل: اسم جمع نخلة.
والخاوي: الخالي مما كان مالئا له وحالا فيه.
وقوله: {خَاوِيَةٍ} مجرور باتفاق القراء، فتعين أن يكون صفة {نَخْلٍ} .
ووصف {نَخْلٍ} بأنها {خاوية} باعتبار إطلاق اسم "النخل" على مكانه بتأويل الجنة أو الحديقة، ففيه استخدام. والمعنى: خالية من الناس. وهذا الوصف لتشويه المشبه به بتشويه مكانه، ولا أثر له في المشابهة وأحسنه ما كان فيه مناسبة للغرض من التشبيه كما في الآية فإن لهذا الوصف وقعا في التنفير من حالتهم ليناسب الموعظة والتحذير من الوقوع في مثل أسبابها، ومنه قول كعب بن زهير:
لذاك أهيب عندي إذ أكلمه ... وقيل إنك منسوب ومسؤول
من خادر من ليوث الأسد مسكنه ... من بطن عثر غيل دونه غيل
الأبيات الأربعة، وقول عنترة:
فتركته جزر السباع ينشنه ... يقضمن حسن بنانه والمعصم
[8] {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} .
تفريع على مجموع قصتي ثمود وعاد، فهو فذلكه لما فصل من حال إهلاكهما، وذلك من قبيل الجمع بعد التفريق، فيكون في أول الآية جمع ثم تفريق ثم جمع وهو كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:51]، أي فما أبقاهما.
والخطاب لغير معين.
والباقية: إما اسم فاعل على بابه، والهاء: إما للتأنيث بتأويل نفس، أي فما ترى

منهم نفس باقية أو بتأويل فرقة، أي ما ترى فرقة منهم باقية.
ويجوز أن تكون {بَاقِيَةٍ} مصدرا على وزن فاعلة مثل ما تقدم في الحاقة، أي فما ترى لهم بقاء، أي هلكوا عن بكرة أبيهم.
واللام في قوله: {لَهُمْ} يجوز أن تجعل لشبه الملك، أي باقية لأجل النفع.
ويجوز أن يكون اللام بمعنى "من" مثل قولهم: سمعت له صراخا، وقول الأعشى:
نسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل
وقول جرير:
ونحن لكم يوم القيامة أفضل
أي ونحن منكم أفضل.
ويجوز أن تكون اللام التي تنوى في الإضافة إذا لم تكن الإضافة على معنى "من". والأصل: فهل ترى باقيتهم، فلما قصد التنصيص على عموم النفي واقتضى ذلك جلب "من" الزائدة لزم تنكير مدخول "من" الزائدة فأعطي حق معنى الإضافة بإظهار اللام التي الشأن أن تنوى كما في قوله تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} [الاسراء: 5] فإن أصله عبادنا.
وموقع المجرور بالام في موقع النعت ل {بَاقِيَةٍ} قدم عليها فصار حالا.
[9-10] {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَة، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} .
عطف على جملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة:4].
وجمع في الذكر هنا أمم تقدمت قبل بعثة موسى عليه السلام إجمالا وتصريحا، وخص منهم بالتصريح قوم فرعون والمؤتفكات لأنهم من أشهر الأمم ذكرا عند أهل الكتاب المختلطين بالعرب والنازلين بجوارهم، فمن العرب من يبلغه بعض الخبر عن قصتهم.
وفي عطف هؤلاء على ثمود وعاد في سياق ذكر التكذيب بالقارعة إيماء إلى أنهم تشابهوا في التكذيب بالقارعة كما تشابهوا في المجيء بالخاطئة وعصيان رسل ربهم فحصل في الكلام احتباك.

والمراد بفرعون فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه السلام وهو "منفطاح الثاني". وإنما أسند الخطء إليه لأن موسى أرسل إليه ليطلق بني إسرائيل من العبودية قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] فهو المؤاخذ بهذا العصيان وتبعه القبط امتثالا لأمره وكذبوا موسى وأعرضوا عن دعوته.
وشمل قوله: {وَمَنْ قَبْلَهُ} أمما كثيرة منها قوم نوح وقوم إبراهيم.
وقرأ الجمهور {وَمَنْ قَبْلَهُ} بفتح القاف وسكون الباء. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن كان من جهته، أي قومه وأتباعه.
والمؤتفكات: قرى قوم لوط الثلاث، وأريد بالمؤتفكات سكانها وهم قوم لوط خصوا بالذكر لشهرة جريمتهم ولكونهم كانوا مشهورين عند العرب إذ كانت قراهم في طريقهم إلى الشام، قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] وقال: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} [الفرقان:40].
ووصفت قرى قوم لوط بـ {الْمُؤْتَفِكَاتِ} جمع مؤتفكة اسم فاعل أئتفك مطاوع أفكه، إذا قلبه، فهي المنقلبات، أي قلبها قالب أي خسف بها قال تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود:82].
والخاطئة: أما مصدر بوزن فاعلة وهاؤه هاء المرة الواحدة فلما استعمل مصدرا قطع النظر عن المرة، كما تقدم في قوله: {الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1] وهو مصدر خطئ، إذا أذنب. والذنب: الخطء بكسر الخاء، وأما اسم فاعل خطئ وتأنيثه بتأويل: الفعلة ذات الخطء فهاؤه هاء التأنيث.
والتعريف في تعريف الجنس على كلا الوجهين، فالمعنى: جاء كل منهم بالذنب المستحق للعقاب. وفرع عنهم تفصيل ذنبهم المعبر عنه بالخاطئة فقال: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} [الحاقة:10]. وهذا التفريع للتفصيل نظير التفريع في قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] في أنه تفريع بيان على المبين.
وضمير {عَصَوْا} يجوز أن يرجع إلى {فِرْعَوْنُ} باعتباره رأس قومه، فالضمير عائد إليه وإلى قومه، والقرينة ظاهرة على قراءة الجمهور، وأما على قراءة أبي عمرو والكسائي فالأمر أظهر وعلى هذا الاعتبار في محل ضمير {عَصَوْا} يكون المراد ب {رَسُولَ رَبِّهِمْ}

موسى عليه السلام. وتعريفه بالإضافة لما في لفظ المضاف إليه من الإشارة إلى تخطئتهم في عبادة فرعون وجعلهم إياله إلها لهم.
ويجوز أن يرجع ضمير "عصوا" إلى {فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} .
و {رَسُولَ رَبِّهِمْ} هو الرسول المرسل إلى كل قوم من هؤلاء.
فإفراد {رَسُولَ} مراد به التوزيع على الجماعات، أي رسول الله لكل جماعة منهم، والقرينة ظاهرة، وهو أجمل نظما من أن يقال: فعصوا رسل ربهم، لما في إفراد {رَسُولَ} من التفنن في صيغ الكلم من جمع وإفراد تفاديا مع تتابع ثلاثة جموع لأن صيغ الجمع لا تخلوا من ثقل لقلة استعمالها وعكسه قوله في سورة الفرقان {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} ، وإنما كذبوا رسولا واحدا، وقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وما بعده في سورة الشعراء، وقد تقدم تأويل ذلك في موضعه.
والأخذ: مستعمل في الإهلاك، وقد تقدم عند قوله تعالى: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} في سورة [الأنعام: 44] وفي مواضع أخرى.
و {أَخْذَةً} : واحدة من الأخذ، فيراد بها أخذ فرعون وقومه بالغرق، كما قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42]، وإذا أعيد ضمير الغائب إلى {فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} كان إفراد الآخذة كإفراد {رَسُولَ رَبِّهِمْ} ، أي أخذنا كل أمة منهم أخذة.
والرابية: اسم فاعل من ربا يربو إذا زاد فلما صيغ منه وزن فاعلة، قلبت الواو ياء لوقوعها متحركة أثر كسرة.
واستعير الربو هنا للشدة كما تستعار الكثرة للشدة في نحو قوله تعالى: {وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14].
والمراد بالآخذة الرابية: إهلاك الاستئصال، أي ليس في إهلاكهم إبقاء قليل منهم.
[11-12] {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ, لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} .
إن قوله تعالى: {وَمَنْ قَبْلَهُ} [الحاقة: 9] لما شمل قوم نوح وهم أول الأمم كذبوا الرسل حسن اقتضاب التذكير بأخذهم لما فيه من إدماج امتنان على جميع الناس الذين

تناسلوا من الفئة الذين نجاهم الله من الغرق ليتخلص من كونه عظة وعبرة إلى التذكير بأنه نعمة، وهذا من قبيل الإدماج.
وقد بني على شهرة مهلك قوم نوح اعتباره كالمذكور في الكلام فجعل شرطا ل {لما} في قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، أي في ذلك الوقت المعروف بطغيان الطوفان.
والطغيان: مستعار لشدته الخارقة للعادة تشبيها لها بطغيان الطاغي على الناس تشبيه تقريب فإن الطوفان أقوى شدة من طغيان الطاغي.
و {الْجَارِيَةِ} صفة لمحذوف وهو السفينة وقد شاع هذا الوصف حتى صار بمنزلة الاسم قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ} [الرحمن: 24].
وأصل الحمل وضع جسم فوق جسم لنقله، وأطلق هنا على الوضع في ظرف متنقل على وجه الاستعارة.
وإسناد الحمل إلى اسم الجلالة مجاز عقلي بناء على أنه أوحى إلى نوح بصنع الحاملة ووضع المحمول قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [المؤمنون: 27] الآية.
وذكر إحدى الحكم والعلل لهذا الحمل وهي حكمة تذكير البشر به على تعاقب الإعصار ليكون لهم باعثا على الشكر، وعظة لهم من أسواء الكفر، وليخبر بها من علمها قوما لم يعلموها فتعيها أسماعهم.
والمراد ب {إذن} : آذان واعية. وعموم النكرة في سياق الإثبات لا يستفاد إلا بقرينة التعميم كقوله تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].
والوعي: العلم بالمسموعات، أي ولتعلم خبرها إذن موصوفة بالوعي، أي من شأنها أن تعي.
وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يتعظوا بخبر الطوفان والسفينة التي نجا بها المؤمنون فتلقوه كما يتلقون القصص الفكاهية.
[13-18] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ، وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ

عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} .
الفاء لتفريع ما بعدها على التهويل الذي صدرت به السورة من قوله: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّة،ُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1-3] فعلم أنه تهويل لأمر العذاب الذي هدد به المشركون من أمثال ما نال أمثالهم في الدنيا. ومن عذاب الآخرة الذي ينتظرهم، فلما أتم تهديدهم بعذاب الدنيا فرع عليه إنذارهم بعذاب الآخرة الذي يحل عند القارعة التي كذبوا بها كما كذبت بها ثمود وعاد، فحصل من هذا بيان للقارعة بأنها ساعة البعث وهي الواقعة.
و {الصُّورِ} : قرن ثور يقعر ويجعل في داخله سداد يسد بعض فراغه حتى إذا نفخ فيه نافخ انضغط الهواء فصوت صوتا قويا، وكانت الجنود تتخذه لنداء بعضهم بعضا عند إرادة النفير أو الهجوم، وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} في سورة [الأنعام: 73].
والنفخ في الصور: عبارة عن أمر التكوين بإحياء الأجساد للبعث مثل الإحياء بنداء طائفة الجند المكلفة بالأبواق لنداء بقية الجيش حيث لا يتأخر جندي عن الحضور إلى موضع المناداة، وقد يكون للملك الموكل موجود يصوت صوتا مؤثرا.
و {نَفْخَةٌ} مصدر نفخ مقترن بهاء دالة على المرة، أي الوحدة فهو في الأصل مفعول مطلق، أو تقع على النيابة عن الفاعل للعلم بأن فاعل النفخ الملك الموكل بالنفخ بالصور وهو إسرافيل.
ووصف {نَفْخَةٌ} ب {وَاحِدَةٌ} تأكيد لإفادة الوحدة من صيغة الفعلة تنصيصا على الوحدة المفادة من التاء.
والتنصيص على هذا للتنبيه على التعجيب من تأثر جميع الأجساد البشرية بنفخة واحدة دون تكرير تعجيبا عن عظيم قدرة الله ونفوذ أمره لأن سياق الكلام من مبدأ السورة تهويل يوم القيامة فتعداد أهواله مقصود، ولأجل القصد إليه هنا لم يذكر وصف واحدة في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} في سورة [الروم:25].
فحصل في ذكر {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} تأكيد معنى النفخ وتأكيد معنى الوحدة، وهذا يبين ما روي عن صاحب "الكشاف" في تقريره بلفظ مجمل نقله الطيبي، فليس المراد بوصفها

ب {وَاحِدَةٌ} أنها غير متبعة بثانية فقد جاء في آيات أخرى أنهما نفختان، بل المراد أنها غير محتاج حصول المراد منها إلى تكررها كناية عن سرعة وقوع الواقعة، أي يوم الواقعة.
وأما ذكر كلمة {نَفْخَةٌ} فليتأتى إجراء وصف الوحدة عليها فذكر {نَفْخَةٌ} تبع غير مسوق له الكلام فتكون هذه النفخة هي الأولى وهي المؤذنة بانقراض الدنيا ثم تقع النفخة الثانية التي تكون عند بعث الأموات.
وجملة {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} الخ في موضع الحال لأن دك الأرض والجبال قد يحصل قبل النفخ في الصور لأن به فناء الدنيا.
ومعنى {حُمِلَتِ} : أنها أزلت من أماكنها بأن أبعدت الأرض بجبالها عن مدارها المعتاد فارتطمت بأجرام أخرى في الفضاء {فَدُكَّتَا} ، فشبهت هذه الحالة بحمل الحامل شيئا ليلقيه على الأرض، مثل حمل الكرة بين اللاعبين، ويجوز أن يكون تصرف الملائكة الموكلين بنقض نظام العالم في الكرة الأرضية بإبعادها عن مدارها مشبها بالحمل وذلك كله عند اختلال الجاذبية التي جعلها الله لفظ نظام العالم إلى أمد معلوم لله تعالى.
والدك: دق شديد يكسر الشيء المدقوق، أي فإذا فرقت أجزاء الأرض وأجزاء جبالها.
وبنيت لأفعال نفخت، وحملت، ودكتا للمجهول لأن الغرض متعلق ببيان المفعول لا الفاعل وفاعل تلك الأفعال إما الملائكة أو ما أودعه الله من أسباب تلك الأفعال، والكل بإذن الله وقدرته.
وجملة {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} مشتملة على جواب "إذا"، أعني قوله: {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} ، وأما قوله: {فَيَوْمَئِذٍ} فهو تأكيد لمعنى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} الخ لأن تنوين يومئذ عوض عن جملة تدل عليها جملة {نُفِخَ فِي الصُّورِ} إلى قوله: {دَكَّةً وَاحِدَةً} ، أي فيوم إذ نفخ في الصور إلى آخره وقعت الواقعة وهو تأكيد لفظي بمرادف المؤكد، فإن المراد ب"يوم" من قوله: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} ، مطلق الزمان كما هو الغالب في وقوعه مضافا إلى "إذا".
ومعنى {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} تحقق ما كان متوقعا وقوعه لأنهم كانوا يتوعدون بواقعة عظيمة فيومئذ يتحقق ما كانوا يتوعدون به.
فعبر عنه بفعل المضي تنبيها على تحقيق حصوله.

والمعنى: فحينئذ تقع الواقعة.
و {الْوَاقِعَةُ} : مرادفة للحاقة والقارعة، فذكرها إظهار في مقام الإضمار لزيادة التهويل وإفادة ما تحتوي عليه من الأحوال التي تنبئ عنها موارد اشتقاق أوصاف الحاقة والقارعة والواقعة.
و {الْوَاقِعَةُ} صار علما بالغلبة في اصطلاح القرآن يوم البعث قال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 1-2].
وفعل {انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} يجوز أن يكون معطوفا على جملة {نُفِخَ فِي الصُّورِ} فيكون ملحقا بشرط "إذا"، وتأخير عطفه لأجل ما اتصل بهذا الانشقاق من وصف الملائكة المحيطين بها، ومن ذكر العرش الذي يحيط بالسماوات والأرض وذكر حملته.
ويجوز أن يكون جملة في موضع الحال بتقدير: وقد انشقت السماء.
وانشقاق السماء: مطاوعتها لفعل الشق، والشق: فتح منافذ في محيطها، قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} [الفرقان: 25،26].
ثم يحتمل أنه غير الذي في قوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] ويحتمل أنه عينه.
وحقيقة {وَاهِيَةٌ} ضعيفة ومتفرقة، ويستعار الوهي للسهولة وعدم الممانعة، يقال: وهي عزمه، إذا تسامح وتساهل، وفي المثل أوهى من بيت العنكبوت يضرب لعدم نهوض الحجة.
وتقييده {يَوْمَئِذٍ} أن الوهي طرأ عليها بعد أن كانت صلبة بتماسك أجزاءها وهو المعبر عنه في القرآن بالرتق كما عبر عن الشق بالفتق، أي فهي يومئذ مطروقة مسلوكة.
والوهي قريب من الوهن، والأكثر أن الوهي يوصف به الأشياء غير العاقلة، والوهن يوصف به الناس.
والمعنى: أن الملائكة يترددون إليها صعودا ونزولا خلافا لحالها من قبل، قال تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37].
وجملة {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} ، حال من ضمير {فهي} ، أي يومئذ الملك على

أرجائها.
و {الْمَلَكُ} : أصله الواحد من الملائكة، وتعريفه هنا تعريف الجنس وهو في معنى الجمع، أي جماعة من الملائكة أو جميع من الملائكة إذا أريد الاستغراق، واستغراق المفرد أصرح في الدلالة على الشمول، ولذلك قال ابن عباس: الكتاب أكثر من الكتب، ومنه {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4].
والأرجاء: النواحي بلغة هذيل، واحدها رجا مقصورا وألفه منقلبة عن الواو.
وضمير {أَرْجَائِهَا} عائد إلى {السَّمَاءُ} .
والمعنى: أن الملائكة يعملون في نواحي السماء ينفذون إنزال أهل الجنة بالجنة وسوق أهل النار إلى النار.
وعرش الرب: اسم لما يحيط بالسماوات وهو أعظم من السماوات.
والمراد بالثمانية الذين يحملون العرش: ثمانية من الملائكة، فقيل: ثمانية شخوص، وقيل: ثمانية صفوف، وقيل ثمانية أعشار، أي نحو ثمانين من مجموع عدد الملائكة، وقيل غير ذلك. وهذا من أحوال الغيب التي لا يتعلق الغرض بتفصيلها، إذ المقصود من الآية تمثيل عظمة الله تعالى وتقريب ذلك إلى الأفهام كما قال في غير آية.
ولعل المقصود بالإشارة إلى ما زاد على الموعظة، هو تعليم الله نبيه صلى الله عليه وسلم شيئا من تلك الأحوال بطريقة رمزية يفتح عليه بفهم تفصيلها ولم يرد تشغيلنا بعلمها.
وكأن الداعي إلى ذكرهم إجمالا هو الانتقال إلى الأخبار عن عرش الله لئلا يكون ذكره اقتضابا بعد ذكر الملائكة.
وروى الترمذي عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ذكر فيه أبعاد ما بين السماوات، وفي ذكر جملة لعرش رموز ساقها الترمذي مساق التفسير لهذه الآية، وأحد رواته عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس قال البخاري: لا نعلم له سماعا عن الأحنف.
وهنالك أخبار غير حديث العباس لا يعبأ بها، وقال ابن العربي فيها: إنها متلفقات من أهل الكتاب أو من شعر لأمية بن أبي الصلت، ولم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد بين يديه فصدقه. اهـ.

وضمير {فَوْقَهُمْ} يعود إلى الملك.
ويتعلق {فَوْقَهُمْ} ب {يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} وهو تأكيد لما دل عليه يحمل من كون العرش عاليا فهو بمنزلة القيدين في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وإضافة عرش إلى الله إضافة تشريف مثل إضافة الكعبة إليه في قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} الآية [الحج: 26]، والله منزه من الجلوس على العرش وعن السكنى في بيت.
والخطاب في قوله: {تُعْرَضُونَ} لجميع الناس بقرينة المقام وما بعد ذلك من التفصيل.
والعرض: أصله إمرار الأشياء على من يريد التأمل منها مثل عرض السلعة على المشتري وعرض الجيش على أميره وأطلق هنا كناية عن لازمه وهو المحاسبة مع جواز إرادة المعنى الصريح.
ومعنى {لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} : لا تخفى على الله ولا على ملائكته.وتأنيث {خَافِيَةٌ} لأنه وصف لموصوف مؤنث يقدر بالفعلة من أفعال العباد، أو يقدر بنفس،أي لا تختبئ من الحساب نفس أي أحد، ولا يلتبس كافر بمؤمن، ولا بار بفاجر.
وجملة {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} مستأنفة، أو هي بيان لجملة {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} ، أو بدل اشتمال منها.
و {مِنْكُمْ} صفة لـ {خَافِيَةٌ} قدمت علية فتكون حالا.
وتكرير {يَوْمَئِذٍ} أربع مرات لتهويل ذلك اليوم الذي مبدؤه النفخ في الصور ثم يعقبه ما بعده مما ذكر في الجمل بعده، فقد جرى ذكر ذلك اليوم خمس مرات لأن {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} تكرير ل"إذا" من قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} إذ تقدير المضاف إليه في {يَوْمَئِذٍ} هو مدلول جملة {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} ، فقد ذكر زمان النفخ أولا وتكرر ذكره بعد ذلك أربع مرات.
وقرأ الجمهور {لا تَخْفَى} بمثناة فوقية. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية لأن تأنيث {خَافِيَةٌ} غير حقيقي، مع وقوع الفصل بين الفعل وفاعله.

[19-24] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}
الفاء تفصيل ما يتضمنه {تُعْرَضُونَ} إذ العرض عرض للحساب والجزاء فإيتاء الكتاب هو إيقاف كل واحد على صحيفة أعماله. و"أما" حرف تفصيل وشرط وهو يفيد مفاد مهما يكن من شيء، والمعنى: مهما يكن عرض {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ... فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ، وشأن الفاء الرابطة لجوابها أن يفصل بينها وبين "أما" بجزء من جملة الجواب أو بشيء من متعلقات الجواب مهتم به لأنهم لما التزموا حذف فعل الشرط لاندماجه في مدلول "أما" كرهوا اتصال فاء الجواب بأداة الشرط ففصلوا بينهما بفاصل تحسينا لصورة الكلام، فقوله: {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أصله صدر جملة الجواب، وهو مبتدأ خبره {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} كما سيأتي.
ودل قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} على كلام محذوف للإيجاز تقديره فيؤتى كل أحد كتاب أعماله، فأما من أوتي كتابه الخ على طريقة قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63].
والباء في قوله: {بِيَمِينِهِ} للمصاحبة أو بمعنى "في".
وإيتاء الكتاب باليمين علامة على أنه إيتاء كرامة وتبشير، والعرب يذكرون التناول باليمين كناية عن الاهتمام بالمأخوذ والاعتزاز به، قال الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} الآية [الواقعة: 27-28] ثم قال {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} الآية [الواقعة:41-42].
وجملة {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} جواب شرط "أما" وهو مغني عن خبر المبتدأ، وهذا القول قول ذي بهجة وحبور يبعثان على اطلاع الناس على ما في كتاب أعماله من جزاء في مقام الاغتباط والفخار، ففيه كناية عن كونه من حبور ونعيم فإن المعنى الكنائي هو الغرض الأهم من ذكر العرض.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68