كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

و {هَاؤُمُ} مركب من هاء ممدودة ومقصورة والممدود مبني على فتح الهمزة إذا تجرد عن علامات الخطاب ما عدا الموجه إلى امرأة فهو بكسر الهمزة دون ياء. وإذا خوطب به أكثر من واحد التزم مدة ليتأنى الحاق علامة خطاب كالعلامة التي تلحق ضمير المخاطب وضموا همزته ضمة كضمة ضمير الخطاب إذ لحقته علامة التثنية والجمع، فيقال: هاؤما، كما يقال: أنتما، وهاؤم كما يقال: أنتم وهاؤن كما يقال: أنتن، ومن أهل اللغة من ادعى أن {هَاؤُمُ} أصله: ها أموا مركبا من كلمتين "ها" وفعل أمر للجماعة من فعل أم، إذا قصد، ثم خفف لكثرة الاستعمال، ولا يصح لأنه لم يسمع هاؤمين في خطاب جماعة النساء، وفيه لغات أخرى واستعمالات في اتصال كاف الخطاب به تقصاها الرضي في شرح الكافية وابن مكرم في "لسان العرب" .
و {هَاؤُمُ} بتصاريفه معتبر اسم فعل أمر بمعنى: خذ كما في الكشاف وبمعنى تعال، أيضا كما في "النهاية" .
والخطاب في قوله: {هَاؤُمُ اقْرَأوا} للصالحين من أهل المحشر.
و {كِتَابِيَهْ} أصله: كتابي بتحريك ياء المتكلم على أحد وجوه في ياء المتكلم إذا وقعت مضافا إليها وهو تحريك أحسب أنه يقصد به إظهار إضافة المضاف إلى تلك الياء للوقوف، محافظة على حركة الياء المقصود اجتلابها.
و {اقْرَأوا} بيان للمقصود من اسم الفعل من قوله: {هَاؤُمُ} .
وقد تنازع كل من {هَاؤُمُ} و {اقْرَأوا} قوله: {كِتَابِيَهْ} . والتقدير: هاؤم كتابيه اقرأوا كتابيه ونظائرها للسكت حين الوقف.
وحق هذه الهاء أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل. وقد أثبتت في هذه الآية في الحالين عند جمهور القراء وكتبت في المصاحف، فعلم أنها للتعبير عن الكلام المحكي بلغة ذلك القائل بما يرادفه في الاستعمال العربي لأن الاستعمال أن يأتي القائل بهذه الياء بالوقف على كلتا الجملتين.
ولأن هذه الكلمات وقعت فواصل والفواصل مثل الأسجاع تتبر بحالة الوقف مثل القوافي، فلو قيل: اقرأوا كتابي إني ظننت أني ملاق حسابي، سقطت فاصلتان وذلك تفريط في محسنين.
وقرأها يعقوب ذا وصلها بحذف الهاء والقراء يستحبون أن يقف عليها القارئ

ليوافق مشهور رسم المصحف ولئلا يذهب حسن السجع.
وأطلق الظن في قوله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} ، على معنى اليقين وهو أحد معنييه. وعن الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ومن الكافر فهو شك.
وحقيقة الظن: علم لم يتحقق؛ إما لأن المعلوم به لم يقع بعد ولم يخرج إلى عالم الحس، وإما لأن علم صاحبه مخلوط بشك. وبهذا يكون إطلاق الظن على المعلوم المتيقن إطلاقا حقيقيا. وعلى هذا جرى الأزهري في التهذيب وأبو عمرو واقتصر على هذا المعنى ابن عطية.
وكلام "الكشاف" يدل على أن أصل الظن: علم غير متيقن ولكنه قد يجري مجرى العلم لآن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام، وقال: يقال: أظن ظنا كاليقين أن الأمر كيت وكيت، فهو عنده إذا أطلق على اليقين كان مجازا. وهذا أيضا رأي الجوهري وابن سيده والفيروز ابادي، وأما قوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] فلا دلالة فيه لأن تنكير {ظَنَّاً} أريد به التقليل، وأكد ب {مَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} فاحتمل الاحتمالين، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} في سورة [الأعراف: 66] وقوله: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} في سورة براءة [118].
والمعنى: إني علمت في الدنيا أني ألقي الحساب، أي آمنت بالبعث. وهذا الخبر مستعمل كناية عن استعداده للحساب بتقديم الإيمان والأعمال الصالحة مما كان سبب سعادته.
وجملة {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} في موقع التعليل للفرح والبهجة التي دل عليها قوله: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} وبذلك يكون حرف "إن" لمجرد الاهتمام وإفادة التسبب.
وموقع {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} موقع التفريع على ما تقدم من إيتائه كتابه بيمينه وما كان لذلك من أثر المسرة والكرامة في الحشر، فتكون الفاء لتفريع ذكر هذه الجملة على ذكر ما قبلها. ولك أن تجعلها بدل اشتمال من جملة {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} فإن ذلك القول اشتمل على أن قائله في نعيم كما تقدم وإعادة الفاء مع الجملة من إعادة العامل في المبدل منه مع البدل للتأكيد كقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114].

والعيشة: حالة العيش وهيئته.
ووصف {عِيشَةٍ} ب {رَاضِيَةٍ} مجاز عقلي لملابسة العيشة حالة صاحبها وهو العائش ملابسة الصفة لموصوفها.
والراضي: هو صاحب العيشة لا العيشة، لأن {رَاضِيَةٍ} اسم فاعل رضيت إذا حصل لها الرضى وهو الفرح والغبطة.
والعيشة ليست راضية ولكنها لحسنها رضي صاحبها، فوصفها ب {رَاضِيَةٍ} من إسناد الوصف إلى غير ما هو له، وهو من المبالغة لأنه يدل على شدة الرضى بسببها حتى سرى إليها، ولذلك الاعتبار أرجع السكاكي ما يسمى بالمجاز العقلي إلى الاستعارة المكنية كما ذكر في علم البيان.
و {في} للظرفية المجازية وهي الملابسة.
وجملة {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} بدل اشتمال من جملة {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} .
والعلو: الارتفاع وهو من محاسن الجنات لأن صاحبها يشرف على جهات من متسع النظر ولأنه يبدو له كثير من محاسن جنته حين ينظر إليها من أعلاها أو وسطها مما لا يلوح لنظره لو كانت جنته في أرض منبسطة، وذلك من زيادة البهجة والمسرة، لأن جمال المناظر من مسرات النفس ومن النعم. ووقع في شعر زهير:
كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تسقي جنة سحقا
فقد قال أهل اللغة: يجوز أن يكون سحقا، نعتا للجنة بدون تقدير كما قالوا: ناقة علط وامرأة عطل. ولم يعرجوا على معنى السحق فيها وهو الارتفاع لأن المرتفع بعيد، وقالوا: سحقت النخلة ككرم إذا طالت. وفي القرآن {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265].
وجوزوا أن يراد أيضا بالعلو علو القدر مثل فلان ذو درجة رفيعة، وبذلك كان للفظ {عَالِيَةٍ} هنا ما ليس لقوله: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} لأن المراد هنالك جنة من الدنيا.
والقطوف: جمع قطف بكسر القاف وسكون الطاء، وهو الثمر، سمي بذلك لأنه يقطف وأصله فعل بمعنى مفعول مثل ذبح.
ومعنى دنوها: قربها من أيدي المتناولين لأن ذلك أهنأ إذ لا كلفة فيه، قال تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الانسان: 14].

وجملة {كُلُوا وَاشْرَبُوا} إلى آخر مقول قول محذوف وهو ومقوله في موضع صفة لـ {جَنَّةٍ} . إذ التقدير: يقال للفريق الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم حين يستقرون في الجنة: كلوا واشربوا الخ.
ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا عن الضمير في قوله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} .
وإنما أفردت ضمائر الفريق الذي أوتي كتابه بيمينه فيما تقدم ثم جاء الضمير ضمير جمع عند حكاية خطابهم لأن هذه الضمائر السابقة حكيت معها أفعال مما يتلبس بكل فرد من الفريق عند إتمام حسابه. وأما ضمير {كُلُوا وَاشْرَبُوا} فهو خطاب لجميع الفريق بعد حلولهم في الجنة، كما يدخل الضيوف إلى المأدبة فيحيي كل داخل منهم بكلام يخصه فإذا استقروا أقبل عليهم مضيفهم بعبارات الإكرام.
و {هَنِيئاً} يجوز أن يكون فعيلا بمعنى فاعل إذا ثبت له الهناء فيكون منصوبا على النيابة عن المفعول المطلق لأنه وصفه وإسناد الهناء للأكل والشرب مجاز عقلي لأنهما متلبسان بالهناء للآكل والشارب.
ويجوز أن يكون اسم فاعل من غير الثلاثي بوزن ما للثلاثي. والتقدير: مهنئا، أي سبب هناء، كما قال عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع، وكما وصف الله تعالى بالحكيم بمعنى الحكم المصنوعات. ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، أي مهنيئا به.
وعلى الاحتمالات كلها فإفراد {هَنِيئاً} في حال أنه وصف لشيئين بناء على أن فعيلا بمعنى فاعل لا يطابق موصوفه أو على أنه إذا كان صفة لمصدر فهو نائب عن موصوفه، والوصف بالمصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث.
و {بِمَا أَسْلَفْتُمْ} في موضع الحال من ضمير {كُلُوا وَاشْرَبُوا} .
والباء للسببية.
وما صدق "ما" الموصولة هو العمل، أي الصالح.
والإسلاف: جعل الشيء سلفا، أي سابقا.

والمراد أنه مقدم سابق لإبانه لينتفع به عند الحاجة إليه، ومنه اشتق السلف للقرض، والإسلاف للإقراض، والسلفة للسلم.
و {الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} : الماضية البعيدة مشتق من الخلو وهو الشغور والبعد.
[25-29] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} .
هذا قسيم {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} فالقول في إيتاء كتابه بشماله قد عرف وجهه مما تقدم.
وتمني كل من أوتي كتابه بشماله أنه لم يؤت كتابه، لأنه علم من الاطلاع على كتابه أنه صائر إلى العذاب فيتمنى أن لا يكون علم بذلك إبقاء على نفسه من حزنها زمنا فإن ترقب السوء عذاب.
وجملة {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} في موضع الحال من ضمير {لَيْتَنِي} .
والمعنى: إنه كان مكذبا بالحساب وهو مقابل قول الذي أوتي كتابه بيمينه: أني ظننت أني ملاق حسابيه.
وجملة الحال معترضة بين جملتي التمني.
ويجوز أن يكون عطفا على التمني، أي يا ليتني لم أدر ما حسابيه، أي لم أعرف كنه حسابي، أي نتيجته، وهذا وإن كان في معنى التمني الذي قبله فإعادته تكرير لأجل التحسر والتحزن.
و {ما} استفهامية، والاستفهام بها هو الذي علق فعل {أَدْرِ} عن العمل، و {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} تمن آخر ولم يعطف على التمني الأول لأن المقصود التحسر والتندم.
وضمير {لَيْتَهَا} عائد إلى معلوم من السياق، أي ليت حالتي، أو ليت مصيبتي كانت القاضية.
والقاضية: الموت وهو معنى قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ: 40]. أي مقبورا في التراب.
وجملة {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} من الكلام الصالح لأن يكون مثلا لإيجازه ووفرة

دلالته ورشاقة معناه عبر بها عما يقوله من أوتي كتابه بشماله من التحسر بالعبارة التي يقولها المتحسر في الدنيا بكلام عربي يودي المعنى المقصود. ونظيره ما حكي عنهم في قوله تعالى: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] وقوله: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] وقوله: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} [الكهف: 49] الآية.
ثم أخذ يتحسر على ما فرط من الخير في الدنيا بالإقبال على ما لم يجده في العالم الأبدي فقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} ، أي يقول ذلك من كان ذا مال وذا سلطان من ذلك الفريق من جميع أهل الإشراك والكفر، فما ظنك بحسرة من اتبعوهم واقتدوا بهم إذا رأوهم كذلك. وفي هذا تعريض بسادة مشركي العرب مثل أبي جهل وأمية بن خلف قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل: 11].
وفي {أَغْنَى عَنِّي} الجناس الخطي ولو مع اختلاف قليل كما في قولهم غرك عزك فصار قصارى ذلك ذلك.
ومعنى هلاك السلطان: عدم الانتفاع به يومئذ فهو هلاك مجازي. وضمن {هَلَكَ} معنى "غاب" فعدي ب"عن"، أي لم يحضرني سلطاني الذي عهدته.
والقول في هاءات كتابيه، وحسابيه، وماليه، وسلطانيه كالقول فيما تقدم إلا أن حمزة وخلفا قرآ هنا {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} بدون هاء في حالة الوصل.
[30-37] {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ، إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ، وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} .
{خُذُوهُ} مقول لقول محذوف موقعه في موقع الحال من ضمير {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} ، والتقدير: يقال: خذوه.
ومعلوم من المقام أن المأمورين بأن يأخذوه هم الملائكة الموكلون بسوق أهل الحساب إلى ما أعد لهم.
والأخذ: الإمساك باليد.
وغلوه: أمر من غله إذا وضعه في الغل وهو القيد الذي يجعل في عنق الجاني أو الأسير فهو فعل مشتق من اسم جامد، ولم يسمع إلا ثلاثيا ولعل قياسه أن يقال غلله

بلامين لأن الغل مضاعف اللام، فحقه أن يكون مثل عمم، إذا جعل له عمامة، وأزر، إذا ألبسه إزارا، ودرع الجارية، إذا ألبسها الدرع، فلعلهم قالوا: غله تخفيفا، وعطف بفاء التعقيب لإفادة الإسراع بوضعه في الأغلال عقب أخذه.
و {ثم} في قوله: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} للتراخي الرتبي لأن مضمون الجملة المعطوفة بها أشد في العقاب من أخذه ووضعه في الأغلال.
وصلى: مضاعف تضعيف تعدية لأن صلي بالنار معناه أصابه حرقها أو تدفأ بها، فإذا عدي قيل: أصلاه نارا، وصلاه نارا.
و {ثم} من قوله: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} للتراخي الرتبي بالنسبة لمضمون الجملتين قبلها لأن مضمون {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} أعظم من مضمون {فَغُلُّوهُ} .
ومضمون {فَاسْلُكُوهُ} دل على إدخالهم الجحيم فكان إسلاكه في تلك السلسلة أعظم من مطلق إسلاكه الجحيم.
ومعنى {اسْلُكُوهُ} : اجعلوه سالكا، أي داخلا في السلسلة وذلك بأن تلف عليه السلسلة فيكون في وسطعا، ويقال: سلكه، إذا أدخله في شيء، أي اجعلوه في الجحيم مكبلا في أغلاله.
وتقديم {الْجَحِيمَ} على عامله لتعجيل المساءة مع الرعاية على الفاصلة وكذلك تقديم {فِي سِلْسِلَةٍ} على عامله.
واقترن فعل {اسْلُكُوهُ} بالفاء إما لتأكيد الفاء التي اقترنت بفعل {فَغُلُّوهُ} ، وإما للإيذان بأن الفعل منزل منزلة جزاء شرط محذوف، وهذا الحذف يشعر به تقديم المعمول غالبا كأنه قيل: مهما فعلتم به شيئا فاسلكوه في سلسلة، أو مهما يكن شيء فاسلكوه.
والمقصود تأكيد وقوع ذلك والحث على عدم التفريط في الفعل وأنه لا يرجى له تخفيف، ونظيره قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّر، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 3-5]، وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} في سورة [يونس: 58].
والسلسلة: اسم لمجموع حلق من حديد داخل بعض تلك الحلق في بعض تجعل لوثاق شخص كي لا يزول من مكانه، وتقدم في قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ

وَالسَّلاسِلُ} في سورة [غافر: 71].
وجملة {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} صفة {سِلْسِلَةٍ} وهذه الصفة وقعت معترضة بين المجرور ومتعلقه للتهويل على المشركين المكذبين بالقارعة، وليست الجمل مما خوطب الملائكة الموكلون بسوق المجرمين إلى العذاب، ولذلك فعدد السبعين مستعمل في معنى الكثرة على طريقة الكناية مثل قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].
والذرع: كيل طول الجسم بالذراع وهو مقدار من الطول مقدر بذراع الإنسان، وكانوا يقدرون بمقادير الأعضاء مثل الذراع، والأصبع، والأنملة، والقدم، وبالأبعاد التي بين الأعضاء مثل الشبر، والفتر، والرتب بفتح الراء والتاء، والعتب، والبصم والخطوة.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} في موضع العلة للأمر بأخذه وإصلائه الجحيم.
ووصف الله بالعظيم هنا إيماء إلى مناسبة عظم العذاب للذنب إذ كان الذنب كفرانا بعظيم فكان جزاء وفاقا.
والحض على الشيء: أن يطلب من أحد فعل شيء ويلح في ذلك الطلب.
ونفي حضه على طعام المسكين يقتضي بطريق الفحوى أنه لا يطعم المسكين من ماله لأنه إذا كان لا يأمر غيره بإطعام المسكين فهو لا يطعمه من ماله، فالمعنى لا يطعم المسكين ولا يأمر بإطعامه، وقد كان أهل الجاهلية يطعمون في الولائم، والميسر، والأضياف، والتحابب، رياء وسمعة. ولا يطعمون الفقير إلا قليل منهم. وقد جعل عدم الحض على طعام المسكين مبالغة في شح هذا الشخص عن المساكين بمال غيره وكناية عن الشح عنهم بماله، كما جعل الحرص على إطعام الضيف كناية عن الكرم في قول زينب بنت الطفرية ترثي أخاها يزيد:
إذا نزل الأضياف كان عذورا ... على الحي حتى تستقيل مراجله
تريد أنه يحضر الحي ويستعجلهم على نصف القدور للأضياف حتى توضع قدور الحي على الأثافي ويشرعوا في الطبخ، والعذورة بعين مهملة وذال معجمة كعملس: الشكس الخلق.

إلا أن كناية ما في الآية عن البخل أقوى من كناية ما في البيت عن الكرم لأن الملازمة في الآية حاصلة بطريق الأولوية بخلاف البيت.
وإذ قد جعل عدم حضه على طعام المسكين جزء علة لشدة عذابه، علمنا من ذلك موعظة للمؤمنين زاجرة عن منع المساكين حقهم في الأموال وهو الحق المعروف في الزكاة والكفارات وغيرها.
وقوله: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} من تمام الكلام الذي ابتدئ بقوله: {خُذُوهُ} ، وتفريع عليه.
والمقصود منه أن يسمعه من أوتي كتابه بشماله فييأس من أن يجد مدافعا ويدفع عنه بشفاعة، وتنديم له على ما أضاعه في حياته من التزلف إلى الأصنام وسدنتها وتمويههم عليه أنه يجدهم عند الشدائد وإلمام المصائب. وهذا وجه تقييد نفي الحميم ب {الْيَوْمَ} تعريضا بأن أحمائهم في الدنيا لا ينفعونهم اليوم كما قال تعالى: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22] وقوله عنهم: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [لأعراف: 53] وغير ذلك مما تفوق في آي القرآن.
فقوله {له} هو خبر {لَيْسَ} لأن المجرور بلام الاختصاص هو محط الأخبار دون ظرف المكان. وقوله: {هَاهُنَا} ظرف متعلق بالكون المنوي في الخبر بحرف الجر. وهذا أولى من جعل {هَاهُنَا} خبرا عن {لَيْسَ} وجعل {له} صفة ل {حَمِيمٌ} إذ لا حاجة لهذا الوصف.
والحميم: القريب، وهو هنا كناية عن النصير إذ المتعارف عند العرب أن أنصار المرء هم عشيرته وقبيلته.
{وَلا طَعَامٌ} عطف على {حَمِيمٌ} .
والغسلين: بكسر الغين ما يدخل في أفواه أهل النار من المواد السائلة من الأجساد وماء النار ونحو ذلك مما يعلمه الله فهو علم على ذلك مثل سجين، وسرقين، وعرنين، فقيل أنه فعلين من الغسل لأنه سال من الأبدان فكأنه غسل عنها. ولا موجب لبيان اشتقاقه.
و {الْخَاطِئُونَ} : أصحاب الخطايا يقال: خطئ، إذا أذنب.

والمعنى: لا يأكله إلا هو وأمثاله من الخاطئين.
وتعريف {الْخَاطِئُونَ} للدلالة على الكمال في الوصف، أي المرتكبون أشد الخطأ وهو الإشراك.
وقرأ الجمهور {الْخَاطِئُونَ} بإظهار الهمزة، وقرأ أبو جعفر {الخاطون} بضم الطاء بعدها واو على حذف الهمزة تخفيفا بعد إبدالها ياء تخفيفا. وقال الطيبي: قرأ حمزة عند الوقف الخاطيون بإبدال الهمزة عنه غير الطيبي.
[38-43] {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ، وَمَا لا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
الفاء هناء لتفريع إثبات أن القرآن منزل من عند الله ونفي ما نسبه المشركون إليه، تفريعا على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من التعريض بتكذيب القرآن الذي أخبر بوقوعه، وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم القائل إنه موحى به إليه من الله تعالى.
وابتدئ الكلام بالقسم تحقيقا بمضمونه على طريقة الأقسام الواردة في القرآن، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً} [الصافات:1].
وضمير {أُقْسِمُ} عائد إلى الله تعالى.
جمع الله في هذا القسم كل ما الشأن أن يقسم به من الأمور العظيمة من صفات الله تعالى ومن مخلوقاته الدالة على عظيم قدرته إذ يجمع ذلك كله الصلتان {بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ} ، فمما يبصرون: الأرض والجبال والبحار والنفوس البشرية والسماوات والكواكب، وما لا يبصرون: الأرواح والملائكة وأمور الآخرة.
و {لا أُقْسِمُ} صيغة تحقيق قسم، وأصلها أنها امتناع من القسم امتناع تحرج من أن يحلف بالمقسم به خشية الحنث، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد تحقيقه، واعتبر حرف "لا" في هذا القسم إبطالا لكلام سابق وأن فعل {أُقْسِمُ} بعدها مستأنف، ونقض هذا بوقوع مثله في أوائل السور مثل: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] و {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1].

وضمير {إنه} عائد إلى القرآن المفهوم من ذكر الحشر والبعث، فإن ذلك مما جاء به القرآن ومجيئه بذلك من أكبر أسباب تكذيبهم به، على أن إرادة القرآن من ضمائر الغيبة التي لا معاد لها قد تكرر غير مرة فيه.
وتأكيد الخبر بحرف "إن" واللام للرد على الذين كذبوا أن يكون القرآن من كلام الله ونسبوه إلى غير ذلك.
والمراد بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه عطف قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44]، وهذا كما وصف موسى ب {رَسُولٍ كَرِيمٍ} في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان:17]. وإضافة {قَوْلِ} إلى {رَسُولٍ} لأنه الذي بلغه فهو قائله، والإضافة لأدنى ملابسة وإلا فالقرآن جعله الله تعالى وأجراه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، كما صدر من جبريل بإيحائه بواسطته قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: 97].
روى مقاتل أن سبب نزولها: أن أبا جهل قال: إن محمد شاعر، وأن عقبة بن أبي معيط قال: هو كاهن، فقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} الآية.
ويجوز أن يراد ب {رَسُولٍ كَرِيمٍ} جبريل عليه السلام كما أريد به في سورة التكوير إذ الظاهر أن المراد به هنالك جبريل كما يأتي.
وفي لفظ {رَسُولٍ} إيذان بأن القول قول مرسله، أي الله تعالى. وقد أكد هذا المعنى بقوله عقبه {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ووصف الرسول ب {كَرِيمٌ} لأنه الكريم في صنفه، أي النفيس الأفضل مثل قوله: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] في سورة النمل.
وقد أثبت للرسول صلى الله عليه وسلم الفضل على غيره من الرسل بوصف {كَرِيمٌ} ، ونفي أن يكون شاعرا أو كاهنا بطريق الكناية عند قصد رد أقوالهم.
وعطف {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} على جملة الخبر في قوله: {بِقَوْلِ شَاعِرٍ} ، و {لا} النافية تأكيد لنفي {ما} .
وكني بنفي أن يكون قول شاعر، أو قول كاهن عن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعرا أو كاهنا، رد لقولهم: هو شاعر أو هو كاهن.

وإنما خص هذان بالذكر دون قولهم: إفتراه، أو هو مجنون، لأن الوصف بكريم كاف في نفي أن يكون مجنونا أو كاذبا إذ ليس المجنون ولا الكاذب بكريم، فأما الشاعر والكاهن فقد كانا معدودين عندهم من أهل الشرف.
والمعنى: ما هو قول شاعر ولا قول كاهن تلقاه من أحدهما ونسبه إلى الله تعالى.
و {قَلِيلاً} في قوله: {قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} مراد به انتفاء ذلك من أصله على طريقة التمليح القريب من التهكم كقوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 46]، وهو أسلوب عربي، قال ذو الرمة:
أنيحت ألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها
فإن استثناء بغام راحلته دال على أنه أراد من قليل عدم الأصوات.
والمعنى: لا تؤمنون ولا تذكرون، أي عندما تقولون هو شاعر وهو مجنون، ولا نظر إلى إيمان من آمن منهم من بعد. وقد تقدم في سورة البقرة [88] قوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} .
وانتصب {فَقَلِيلاً} في الموضعين على الصفة لمصدر محذوف يدل عليه {يُؤْمِنُونَ} و {تَذَكَّرُونَ} ، أي تؤمنون إيمانا قليلا، وتذكرون تذكرا قليلا.
و {ما} مزيدة للتأكيد كقول حاتم الطائي:
قليلا به ما يحمدنك وارث ... إذا نال مما كنت تجمع مغنما
وجملتا {قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} معترضتان، أي انتفى أن يكون قول شاعر، وانتفى أن يكون قول كاهن، وهذا الانتفاء لا يحصل إيمانكم ولا تذكركم لأنكم أهل عناد.
وقرأ الجمهور {مَا تُؤْمِنُونَ} ، و {مَا تَذَكَّرُونَ} كليهما بالمثناة الفوقية، وقرأهما ابن كثير وهشام عن ابن عامر واختلف الرواة عن ابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب بالياء التحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وحسن ذلك كونهما معترضتين.
وأوثر نفي الإيمان عنهم في جانب انتفاء أن يكون قول شاعر، ونفي التذكر في جانب انتفاء أن يكون قول كاهن، لأن نفي كون القرآن قول شاعر بديهي إذ ليس فيه ما يشبه الشعر من اتزان أجزاءه في المتحرك والساكن والتقفية المتماثلة في جميع أواخر

الأجزاء، فادعاؤهم أن قول شاعر بهتان متعمد ينادي على أنهم لا يرجى إيمانهم، وأما انتفاء كون القرآن قول كاهن فمحتاج إلى أدنى تأمل إذ قد يشبه في بادئ الرأي على السامع من حيث إنه كلام منثور مؤلف على فواصل ويؤلف كلام الكهان على أسجاع مثناة متماثلة زوجين زوجين، فإذا تأمل السامع فيه بأدنى تفكر في نظمه ومعانيه علم أنه ليس بقول كاهن، فنظمه مخالف لنظم كلام الكهان إذ ليست فقراته قصيرة ولا فواصله مزدوجة ملتزم فيها السجع، ومعانيه ليست من معاني الكهانة الرامية إلى الإخبار عما يحدث لبعض الناس من أحداث، أو ما يلم بقوم من مصائب متوقعة ليحذروها، فلذلك كان المخاطبون بالآية منتفيا عنهم التذكر والتدبر، وإذا بطل هذا وذاك بطل مدعاهم فحق أنه تنزيل من رب العالمين كما ادعاه الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم.
وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خبر ثان عن اسم {إن} وهو تصريح بعد الكناية.
ولك أن تجعل {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خبر مبتدأ محذوف جرى حذفه على النوع الذي سماه السكاكي بمتابعة الاستعمال في أمثاله وهو كثير في الكلام البليغ، وتجعل الجملة استئنافا بيانيا لأن القرآن لما وصف بأنه {قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ونفي عنه أن يكون قول شاعر أو قول كاهن، ترقب السامع معرفة كنهه، فبين بأنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم ليقوله للناس ويتلوه عليهم.
و {تَنْزِيلٌ} وصف بالمصدر للمبالغة.
والمعنى: إنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم.
وعبر عن الجلالة بوصف {رَبِّ الْعَالَمِينَ} دون اسمه العلم للتنبيه على أنه رب المخاطبين ورب الشعراء والكهان الذين كانوا بمحل التعظيم والإعجاب عندهم نظير قول موسى لفرعون {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:26].
[44-47] {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} .
هذه الجملة عطف على جملة {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38-39] فهي مشمولة لما أفادته الفاء من التفريع على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من تكذيبهم القرآن ومن جاء به وقال: إنه وحي من الله تعالى.

فمفاد هذه الجملة استدلال ثان على أن القرآن منزل من عند الله تعالى على طريقة المذهب الكلامي، بعد الاستدلال الأول المستند إلى القسم والمؤكدات على طريقة الاستدلال الخطابي.
وهو استدلال بما هو مقرر في الأذهان من أن الله واسع القدرة، وأنه عليم فلا يقدر أحدا على أن يقول عنه كلاما لم يقله، أي لو لم يكن القرآن منزل من عندنا ومحمد ادعى أنه منزل منا، لما أقررناه على ذلك، ولعجلنا بإهلاكه. فعدم هلاكه صلى الله عليه وسلم دال على أنه لم يتقوله على الله، فإن {لو} تقتضي انتفاء مضمون شرطها لانتفاء مضمون جوابها.
فحصل من هذا الكلام غرضان مهمان:
أحدهما: يعود إلى ما تقدم أي زيادة إبطال لمزاعم المشركين أن القرآن شعر أو كهانة إبطالا جامعا لإبطال النوعين، أي ويوضح مخالفةالقرآن لهذين النوعين من الكلام إن الآتي به ينسبه إلأى وحي الله وما علمتم شاعرا ولا كاهنا يزعم أن كلامه من عند الله.
وثانيهما: إبطال زعم لهم لم يسبق التصريح بإبطاله وهو قول فريق منهم {افْتَرَاهُ} [يونس: 38]، أي نسبه إلى الله افتراء وتقوله على الله قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَ يُؤْمِنُونَ} [الطور:33] فبين لهم أنه لو افترى على الله لما أقره على ذلك.
ثم أن هذا الغرض يستتبع غرضا آخر وهو تيأسهم من أن يأتي بقرآن لا يخالف دينهم ولا يسفه أحلامهم وأصنامهم، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس:15] وهذه الجملة معطوفة عطف اعتراض فلك أن تجعل الواو اعتراضية فإنه لا معنى للواو الاعتراضية إلا ذلك.
والتقول: نسبة قول لمن لم يقله، وهو تفعل من القول صيغت هذه الصيغة الدالة على التكلف لأن الذي ينسب إلى غيره قولا لم يقله يتكلف ويختلق ذلك الكلام، ولكونه في معنى كذب عدي ب"على".
والمعنى: لو كذب علينا فأخبر أنا قلنا قولا لم نقله الخ.
و {بَعْضَ} اسم يدل على مقدار من نوع ما يضاف هو إليه، وهو هنا منصوب على المفعول به لـ {تَقَوَّلَ} .
و { الأقاويل} : جمع أقوال الذي هو جمع قول، أي بعضا من جنس الأقوال التي

هي كثيرة فلكثرتها جيء لها بجمع الجمع الدال على الكثرة، أي ولو نسب إلينا قليلا من أقوال كثيرة صادقة يعني لو نسب إلينا شيئا قليلا من القرآن لم ننزله لأخذنا منه باليمين، إلى آخره.
ومعنى {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} لأخذناه بقوة، أي دون إمهال فالباء للسببية.
واليمين: اليد اليمنى كني بها عن الاهتمام بالتمكن من المأخوذ، لأن اليمين أقوى عملا من الشمال لكثرة استخدامها فنسبة التصرف إليها شهيرة.
وتقدم ذلك في مواضع منها قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} في سورة البقرة [224] وقوله {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} في سورة الأعراف [17] وقوله: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} في سورة العنكبوت [48].
وقال أبو الغول الطغوي:
فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدقوا فيهم ظنوني
والمعنى: لأخذناه أخذا عاجلا فقطعنا وتينه، وفي هذا تهويل لصورة الأخذ فلذلك لم يقتصر على نحو: لأهلكناه.
و {مِنْهُ} متعلق ب"أخذنا" تعلق المفعول بعامله. و"من" زائدة في الإثبات على رأي الأخفش والكوفيين وهو الراجح. وقد بينته عند قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنْ النَّخْلِ} [الأنعام:99]، فإن {النَّخْلِ} معطوف على {خَضِرًا} بزيادة "من" ولولا اعتبار الزيادة لما استقام الإعراب إلا بكلفة، وفائدة "من" الزائدة في الكلام أن أصلها التبعيض المجازي على وجه التمليح كأنه يقول: نأخذ بعضه.
و { الوتين} : عرق معلق به القلب ويسمى النياط، وهو الذي يسقي الجسد بالدم ولذلك يقال له: نهر الجسد، وهو إذا قطع مات صاحبه وهو يقطع عند نحر الجزور.
فقطع الوتين من أحوال الجزور ونحرها، فشبه عقاب من يفرض تقوله على الله بجزور تنحر فيقطع وتينها.
ولم أقف على أن العرب كانوا يكنون عن الإهلاك بقطع الوتين، فهذا من مبتكرات القرآن.
و {مِنْهُ} صفة للوتين، أو متعلق ب"قطعنا" أي أنزلناه منه.

وبين {مِنْهُ} الأولى و {مِنْهُ} الثانية محسن الجناس.
وأما موقع تفريع قوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} فهو شديد الاتصال بما استتبعه فرض التقول من تأييسهم من أن يتقول على الله كلاما لا يسوءهم، ففي تلك الحالة من أحوال التقول لو أخذنا عنه باليمين فقطعنا منه الوتين، لا يستطيع أحد منكم أو من غيركم أن يحجز عنه ذلك العقاب، وبدون هذا الاتصال لا يظهر معنى تعجيزهم عن نصره إذ ليسوا من الولاء له بمظنة نصره، فمعنى هذه الآية يحوم حول معنى قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الاسراء: 73-75].
والخطاب في قوله: {مِنْكُمْ} للمشركين.
وإنما أخبر عن {أَحَدٍ} وهو مفرد ب {حَاجِزِينَ} جمعا لأن {أَحَدٍ} هنا وإن كان لفظه مفردا فهو في معنى الجمع لأن {أَحَدٍ} إذا كان بمعنى ذات أو شخص لا يقع إلا في سياق النفي ثم عريب، وديار ونحوهما من النكرات التي لا تستعمل إلا منفية فيفيد العموم، أي كل واحد لا يستطيع الحجز عنه ويستوي في لفظه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] وقال: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32].
والمعنى: ما منكم أناس يستطيعون الحجز عنه.
والحجز: الدفع والحيلولة، أي لا أحد منكم يحجزنا عنه. والضمير عائد إلى {رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40].
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ أَحَدٍ} مزيدة لتأكيد النفي وللتنصيص على العموم. وذكر {مِنْكُمْ} مع {عَنْهُ} تجنيس محرف.
وهذه الآية دليل على أن الله تعالى لا يبقي أحدا يدعي أن الله أوحى إليه كلاما يبلغه إلى الناس، وأنه يعجل بهلاكه.
فأما من يدعي النبوة دون ادعاء قول أوحي إليه، فإن الله قد يهلكه بعد حين كما كان في أمر الأسود العنسي الذي ادعى النبوة باليمن، ومسيلمة الحنفي الذي ادعى النبوة في اليمامة، فإنهما لم يأتيا بكلام ينسبانه إلى الله تعالى، فكان إهلاكهما بعد مدة، ومثلهما

من ادعوا النبوة في الإسلام مثل "بابك ومازيار".
وقال الفخر: قيل: اليمين بمعنى القوة والقدرة، والمعنى: لأخذنا منه باليمين، أي سلبنا عنه القوة، والباء على هذا التقدير صلة زائدة. واعلم أن حاصل هذا أنه لو نسب إلينا قولا لم نقله لمنعناه عن ذلك: إما بواسطة إقامة الحجة فإنا نقيض له من يعارضه فيه وحينئذ يظهر للناس كذبه فيه فيكون ذلك إبطالا لدعواه وهدما لكلامه، وإما بأن نسلب عنه القدرة على التكلم بذلك القول، وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشتبه الصادق بالكاذب اه. فركب من تفسير اليمين بمعنى القوة، أن المراد قوة المتقول لا قوة الله وانتزع من ذلك تأويل الباء على معنى الزيادة ولم يسبقه بهذا التأويل أحد من المفسرين ولا تبعه فيه من بعده فيما رأينا. وفيه نظر، وقد تبين بما فسرنا به الآية عدم الاحتجاج إلى تأويل الفخر.
[48] {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} .
عطف على {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40]، والضمير عائد إلى القرآن الذي تقدم ضميره في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ، فلما أبطل طعنهم في القرآن بأنه قول شاعر، أو قول كاهن أعقب ببيان شرفه ونفعه، إمعانا في إبطال كلامهم بإظهار الفرق البين بينه وبين شعر الشعراء وزمزمة الكهان، إذ هو تذكرة وليس ما ألحقوه به من أقوال أولئك من التذكير في شيء.
والتذكرة: اسم مصدر التذكير وهو التنبيه إلى مغفول عنه.
والإخبار: ب {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ} إخبار بالمصدر للمبالغة في الوصف. والمعنى: أنه مذكر للناس بما يغفلون عنه من العلم بالله وما يليق بجلاله لينتشلهم من هوة التمادي في الغفلة حتى يفوت الفوات، فالقرآن في ذاته تذكرة لمن يريد أن يتذكر سواء تذكر أم لم يتذكر، وقد تقدم تسمية القرآن بالذكر والتذكير في آيات عديدة منها قوله تعالى في سورة طه: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} وقوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} في سورة [الحجر: 6].
والمراد بالمتقين المؤمنون فإنهم المتصفون بتقوى الله لأنهم يؤمنون بالبعث والجزاء دون المشركين. فالقرآن كان هاديا إياهم للإيمان كما قال تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] وكلما نزل منه شيء أو تلوا منه شيئا ذكرهم بما عملوا لئلا تعتريهم غفلة أو نسيان

فالقرآن تذكرة للمتقين في الماضي والحال والمستقبل، فإن الإخبار عنهم باسم المصدر يتحمل الأزمنة الثلاثة إذ المصدر لا إشعار له بوقت بخلاف الفعل وما أشبهه.
وإنما علق {لِلْمُتَّقِينَ} بكونه تذكرة لأن المتقين هم الذين أدركوا مزيته.
[49-50] {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
هاتان جملتان مرتبطتان، وأولاهما تمهيد وتوطئة للثانية، وهي معترضة بين التي قبلها والتي بعدها، والثانية منها معطوفة على جملة {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48]، فكان تقديم الجملة الأولى على الثانية اهتماما بتنبيه المكذبين إلى حالهم وكانت أيضا بمنزلة التتميم لجملة {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48].
والمعنى: إنا بعثنا إليكم الرسول بهذا القرآن ونحن نعلم أنه سيكون منكم مكذبون له وبه، وعلمنا بذلك لم يصرفنا عن توجيه التذكير إليكم وإعادته عليكم {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]، فقوبلت صفة القرآن التي تنفع المتقين بصفته التي تضر بالكافرين على طريقة التضاد، فبين الجملتين المتعاطفتين محسن الطباق.
والحسرة: الندم الشديد المتكرر على شيء فائت مرغوب فيه، ويقال لها التلهف، اشتقت من الحسر وهو الكشف لأن سببها ينكشف لصاحبها بعد فوات إدراكه ولا يزال يعاوده، فالقرآن حسرة على الكافرين أي سبب حسر عليهم في الدنيا لأنه فضح ترهاتهم ونقض عماد دينهم الباطل وكشف حقارة أصنامهم، وهو حسرة عليهم في الآخرة لأنهم يجدون مخالفته سبب عذابهم، ويقفون على اليقين بأن ما كان يدعوهم إليه هو سبب النجاح لو اتبعوه لا سيما وقد رأوا حسن عاقبة الذين صدقوا به.
والمكذبون: هم الكافرون. وإنما عدل عن الإتيان بضميرهم إلى الاسم الظاهر لأن الحسرة تعم المكذبين يومئذ والذين سيكفرون به من بعد.
[51] {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} .
عطف على { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة:50] فيحتمل أن يكون الضمير عائدا على القرآن لأن هذه من صفات القرآن، ويحتمل أن يكون مرادا به المذكور وهو كون القرآن حسرة على الكافرين، أي أن ذلك حق لا محالة أي هو جالب لحسرتهم في الدنيا

والآخرة.
وإضافة حق إلى اليقين يجوز أن يكون من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي إنه لليقين الحق الموصوف بأنه يقين لا يشك في كونه حقا إلا من غشي على بصيرته وهذا أولى من جعل الإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي لليقين الحق، أي الذي لا تعتريه شبهة.
واعلم أن حق اليقين، وعين اليقين، وعلم اليقين وقعت في القرآن.
فحق اليقين وقع في هذه السورة وفي آخر سورة الواقعة. وعلم اليقين وعين اليقين وقعا في سورة التكاثر، وهذه الثلاثة إضافتها من إضافة الصفة إلى الموصوف أو من إضافة الموصوف إلى الصفة كما ذكرنا. ومعنى كل مركب منها هو محصل ما تدل عليه كلمتاه وإضافة إحداهما إلى الأخرى.
وقد اصطلح العلماء على جعل كلمة "علم اليقين" اسما اصطلاحيا لما أعطاه الدليل بتصور الأمور على ما هي عليه حسب كلام السيد الجرجاني في كتاب "التعريفات". ووقع في كلام أبي البقاء في "الكليات" ما يدل على أن بعض هذه المركبات نقلت في بعض الاصطلاحات العلمية فصارت ألقابا لمعان، وقال: علم اليقين لأصحاب البرهان، وعين اليقين وحق اليقين أيضا لأصحاب الكشف والعيان كالأنبياء والأولياء على حسب تفاوتهم في المراتب، قال: وقد حقق المحققون من الحكماء بأن بعد المراتب الأربع للنفس يعني مراتب تحصيل العلم للنفس المذكورة في المنطق الأوليات، والمشاهدات الباطنية، والتجريبات، والمتواترات مرتبتين: إحداهما مرتبة عين اليقين وهي أن تصير النفس بحيث تشاهد المعقولات في المعارف التي تفيضها النفس كما هي، والثانية مرتبة حق اليقين وهي أن تصير النفس بحيث تتصل بالمعقولات اتصالا عقليا وتلاقي ذاتها تلاقيا روحانيا. واصطلح علماء التصوف على جعل كل مركب من هذه الثلاثة لقبا لمعنى من الانكشاف العقلي وجرت في كتاب الفتوحات المكية للشيخ محيي الدين بن عربي.
[52] {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .
تفريع على جميع ما تقدم من وصف القرآن وتنزيهه على المطاعن وتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عما افتراه عليه المشركون، وعلى ما أيده الله به من ضرب المثل للمكذبين به بالأمم التي كذبت الرسل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسبح الله تسبيح ثناء وتعظيم شكرا له على ما أنعم به

عليه من نعمة الرسالة وإنزال هذا القرآن عليه.
واسم الله هو العلم الدال على الذات.
والباء للمصاحبة، أي سبح الله تسبيحا بالقول لأنه يجمع اعتقاد التنزيه والإقرار به وإشاعته.
والتسبيح: التنزيه عن النقائص بالاعتقاد والعبادة والقول، فتعين أن يجري في التسبيح القولي اسم المنزه فلذلك قال {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ولم يقل فسبح ربك العظيم. وقد تقدم في الكلام على البسملة وجه إقحام اسم في قوله: {بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1].
وتسبيح المنعم بالاعتقاد والقول وهما مستطاع شكر الشاكرين إذ لا يبلغ إلى شكره بأقصى من ذلك، قال ابن عطية: وفي ضمن ذلك استمرار النبي صلى الله عليه وسلم على أداء رسالته وإبلاغها. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية "اجعلوها في ركوعكم" . واستحب التزام ذلك جماعة من العلماء، وكره مالك التزام ذلك لئلا يعد واجبا فرضا اه. وتقدم نظير هذه الآية في آخر سورة الواقعة.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المعارجسميت هذه السورة في كتب السنة وفي "صحيح البخاري" و "جامع الترمذي" ، وفي "تفسير الطبري" وان عطية وابن كثير "سورة سأل سائل". وكذلك رأيتها في بعض المصاحف المخطوطة بالخط الكوفي بالقيروان في القرن الخامس.
وسميت في معظم المصاحف المشرقية والمغربية وفي معظم التفاسير "سورة المعارج". وذكر في "الإتقان" أنها تسمى "سورة الواقع".
وهذه الأسماء الثلاثة مقتبسة من كلمات وقعت في أولها، وأخصها بها جملة {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج:1] لأنها لم يرد مثلها في غيرها من سور القرآن إلا أنها غلب عليها اسم "سورة المعارج" لأنه أخف.
وهي مكية بالاتفاق. وشذ من ذكر أن آية {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] مدنية.
وهي السورة الثامنة والسبعون في عداد نزول سور القرآن عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الحاقة وقبل سورة النبأ.
وعد جمهور الأمصار آبها أربعا وأربعين. وعدها أهل الشام ثلاثا وأربعين.
أغراضها
حوت من الأغراض تهديد الكافرين بعذاب يوم القيامة، وإثبات ذلك اليوم ووصف أهواله.
ووصف شيء من جلال الله فيه، وتهويل دار العذاب وهي جهنم. وذكر أسباب

استحقاق عذابها.
ومقابلة ذلك بأعمال المؤمنين التي أوجبت لهم دار الكرامة وهي أضداد صفات الكافرين.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم. وتسليته على ما يلقاه من المشركين.
ووصف كثير من خصال المسلمين التي بثها الإسلام فيهم، وتحذير المشركين من استئصالهم وتبديلهم بخير منهم.
[1-3] {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ، مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} .
كان كفار قريش يستهزئون فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم: متى هذا العذاب الذي تتوعدنا به، ويسألونه تعجيله قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48] {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج:47] وكانوا أيضا يسألون الله أن يوقع عليهم عذابا إذا كان القرآن حقا من عنده قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32].
وقيل: إن السائل شخص معين هو النضر بن الحارث قال: {إِنْ كَانَ هَذَا "أي القرآن" هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يعينه على المشركين بالقحط فأشارت الآية إلى ذلك كله، ولذلك فالمراد ب {سَائِلٌ} فريق أو شخص.
والسؤال مستعمل في معنيي الاستفهام عن شيء والدعاء، على أن استفهامهم مستعمل في التهكم والتعجيز. ويجوز أن يكون {سَأَلَ سَائِلٌ} بمعنى استعجل وألح.
وقرأ الجمهور {سَأَلَ} بإظهار الهمزة. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {سال} بتخفيف الهمزة ألفا. قال في الكشاف: وهي لغة قريش وهو يريد قريشا قد يخففون المهموز في مقام الثقل وليس ذلك قياسا في لغتهم بل لغتهم تحقيق الهمزة ولذلك قال سيبويه: وليس ذا بقياس متلب أي مطرد مستقيم وإنما يحفظ عن العرب قال: ويكون قياسا متلئبا إذا اضطر الشاعر، قال الفرزدق:

راحت بمسلمة البغال عشية ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
يريد لا هنأك بالهمز. وقال حسان:
سالت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
يريد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إباحة الزنى. وقال القرشي زيد بن عمرو بن نفيل يذكرر زوجيه:
سألتاني الطلاق أن رأتاني ... قل مالي قد جيتماني بنكر
فهؤلاء ليس لغتهم سال ولا يسال وبلغنا أن سلت تسال لغة اه. فجعل إبدال الهمز ألفا للضرورة مطردا ولغير الضرورة يسمع ولا يقاس عليه فتكون قراءة التخفيف سماعا. وذكر الطيبي عن أبي علي في الحجة: أن من قرأ {سَأَلَ} غير مهموز جعل الألف منقلبة عن الواو التي هي عين الكلمة مثل: قال وخاف. وحكى أو عثمان عن أبي زيد أنه سمع من يقول: هما متساولان. وقال في الكشاف: يقولون أي أهل الحجاز: سلت تسال وهما يتسايلان، أي فهو أجوف يائي مثل هاب يهاب. وكل هذه تلتقي في أن نطق أهل الحجاز {سَأَلَ} غير مهموز سماعي، وليس بقياس عندهم وأنه إما تخفيف للهمزة على غير قياس مطرد وهو رأي سيبويه، وإما لغة لهم في هذا الفعل وأفعال أخرى جاء هذا الفعل أجوف واويا كما هو رأي أبي علي أو أجوف يائيا كما هو رأي الزمخشري. وبذلك يندحض تردد أبي حيان جعل الزمخشري قراءة {سَأَلَ} لغة أهل الحجاز إذ قد يكون لبعض القبائل لغتان في فعل واحد.
وإنما اجتلب هنا لغة المخفف لثقل المفتوح بتوالي حركات قبله وبعده وهي أربع فتحات، ولذلك لم يرد في القرآن مخففا في بعض القراءات إلا في هذا الموضع إذ لا نظير له في توالي حركات، وإلا فإنه لم يقرأ أحد بالتخفيف في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي} [البقرة:186] وهو يساوي {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} به قوله: سالتهم وتسالهم ولا يسالون.
وقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ} بمنزلة سئل لأن مجيء فاعل الفعل اسم فاعل من لفظ فعله لا يفيد زيادة علم بفاعل الفعل ما هو، فالعدول عن أن يقول: سئل بعذاب، إلى قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} ، لزيادة تصوير هذا السؤال العجيب، ومثل قول يزيد بن عمرو بن خويلد يهاجي النابغة:

وإن الغدر قد علمت معد ... بناه في بني ذبيان بان
ومن بلاغة القرآن تعدية {سال} بالباء ليصلح الفعل لمعنى الاستفهام والدعاء والاستعجال، لأن الباء تأتي بمعنى "عن" وهو من معاني الباء الواقعة بعد فعل السؤال نحو {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59]، وقول علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
أي إن تسألوني عن النساء، وقال الجوهري عن الأخفش: يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. وجعل في الكشاف تعدية فعل سأل بالباء لتضمينه معنى عني واهتم. وقد علمت احتمال أن يكون سال بمعنى استعجل، فيكون تعديته بالباء كما في قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [العنكبوت:53] وقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى:18].
وقوله: {لِلْكَافِرِينَ} يجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا ب {وَاقِعٍ} ، ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هو للكافرين.
واللام لشبه الملك، أي عذاب من خصائصهم كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24].
ووصف العذاب بأنه واقع، وما بعده من أوصافه إلى قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} [المعارج:6] إدماج معترض ليفيد تعجيل الإجابة عما سأل عنه سائل بكلا معنيي السؤال لأن السؤال لم يحك فيه عذاب معين وإنما كان مجملا لأن السائل سأل عن عذاب غير موصوف، أو الداعي دعا بعذاب غير موصوف، فحكي السؤال مجملا ليرتب عليه وصفه بهذه الأوصاف والتعلقات، فينتقل إلى ذكر أحوال هذا العذاب وما يحف به من الأهوال.
وقد طويت في مطاوي هذه التعلقات جمل كثيرة كان الكلام بذلك إيجازا إذ حصل خلالها ما يفهم منه جواب السائل، واستجابة الداعي، والإنباء بأنه عذاب واقع عليهم من الله لا يدفعه عنهم دافع، ولا يغرهم تأخره.
وهذه الأوصاف من قبيل الأسلوب الحكيم لأن ما عدد فيه من أوصاف العذاب وهوله ووقته هو الأولى لهم أن يعلموه ليحذروه، دون أن يخوضوا في تعيين وقته، فحصل من هذا كله معنى: أنهم سألوا عن العذاب الذي هددوا به عن وقته ووصفه سؤال استهزاء، ودعوا الله أن يرسل عليهم عذابا إن كان القرآن حقا، إظهارا لقلة اكتراثهم

بالإنذار بالعذاب. فأعلمهم أن العذاب الذي استهزأوا به واقع لا يدفعه عنهم تأخر وقته، فإن أرادوا النجاة فليحذروه.
وقوله: {مِنَ اللَّهِ} يتنازع تعلقه وصفا {وَاقِعٍ} و {دَافِعٌ} . و {مِنَ} للابتداء المجازي على كلا التعلقين مع اختلاف العلاقة بحسب ما يقتضيه الوصف المتعلق به.
فابتداء الواقع استعارة لإذن الله بتسليط العذاب على الكافرين وهي استعارة شائعة تساوي الحقيقة. وأما ابتداء الدافع فاستعارة لتجاوزه مع المدفوع عنه من مكان مجازي تتناوله قدرة القادر مثل {مِنَ} في قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} [التوبة:118] وقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ} [النساء:108].
وبهذا يكون حرف {مِنَ} مستعملا في معنيين مجازيين متقاربين.
وإجراء وصف {ذِي الْمَعَارِجِ} على اسم الجلالة لاستحضار عظمة جلاله ولإدماج الإشعار بكثرة مراتب القرب من رضاه وثوابه، فإن المعارج من خصائص منازل العظماء قال تعالى: {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33]. ولكل درجة المعارج قوم عملوا لنوالها قال تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وليكون من هذا الوصف تخلص إلى ذكر يوم الجزاء الذي يكون فيه العذاب الحق للكافرين.
والمعارج: جمع معرج بكسر الميم وفتح الراء وهو ما يعرج به، أي يصعد من سلم ومدرج.
[4] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} .
اعتراض لبيان أن المعارج منازل من الرفعة الاعتبارية ترتقي فيها الملائكة وليست معارج يعرج إليه فيها، أي فهي معارج جعلها الله للملائكة فقرب بها من منازل التشريف، فالله معرج إليه بإذنه لا عارج، وبذلك الجعل وصف الله بأنه صاحبها، أي جاعلها، ونظيره قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15].
والروح: هو جبريل عليه السلام الموكل بإبلاغ إرادة الله تعالى وإذنه وتخصيصه بالذكر لتمييزه بالفضل على الملائكة. ونظير هذا قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] أي في ليلة القدر.

و {الرُّوحُ} : يطلق على ما به حياة الإنسان وتصريف أعماله وهو المذكور في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]. فيجوز أن يكون مما شمله قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، أي أرواح أهل الجنة على اختلاف درجاتها في المعارج. وهذا العروج كائن يوم القيامة وهو اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة. وهذه تقريبات لنهاية عظمة تلك المنازل وارتقاء أهل العالم الأشرف إليها وعظمة يوم وقوعها.
وضمير {إِلَيْهِ} عائد إلى الله على تأويل مضاف على طريقة تعلق بعض الأفعال بالذوات، والمراد أحوالها مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] أي أكلها و {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] يتنازع تعلقه كل من قوله: {وَاقِعٍ} وقوله: {تَعْرُجُ} .
[5] {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} .
اعتراض مفرع: أما على ما يومئ إليه {سَأَلَ سَائِلٌ} من أنه سؤال استهزاء، فهذا تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما على {سَأَلَ سَائِلٌ} بمعنى: دعا داع.
فالفاء لتفريع الأمر بالصبر على جملة {سَأَلَ سَائِلٌ} إذا كان ذلك السؤال بمعنييه استهزاء وتعريضا بالتكذيب فشأنه أن لا تصبر عليه النفوس في العرف.
والصبر الجميل: الصبر الحسن في نوعه وهو الذي لا يخالطه شيء مما ينافي حقيقة الصبر، أي اصبر صبرا محضا، فإن جمال الحقائق الكاملة بخلوصها عما يعكر معناها من بقايا أضدادها، وقد مضى قوله تعالى عن يعقوب {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} في سورة يوسف [18] وسيجيء قوله تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} في المزمل [10].
[6-7] {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَرَاهُ قَرِيباً} .
تعليل لجملتي {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1] ولجملة {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} [المعارج:5]، أي سألوا استهزاء لأنهم يرونه محالا وعليك بالصبر لأنا نعلم تحققه، أي وأنت تثق بأنه قريب، أي محقق الوقوع، وأيضا هو تجهيل لهم إذا اغتروا بما هم فيه من الأمن ومسالمة العرب لهم ومن الحياة الناعمة فرأوا العذاب الموعود بعيدا، إن كان في الدنيا فلأمنهم، وإن كان في الآخرة فلإنكارهم البعث، والمعنى: وأنت لا تشبه حالهم

وذلك يهون الصبر عليك فهو من باب {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48]، {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28].
و {بَعِيداً} هنا كناية عن معنى الإحالة لأنهم لا يؤمنون بوقوع العذاب الموعود به، ولكنهم عبروا عنه ببعيد تشكيكا للمؤمنين فقد حكى الله عنهم أنهم قالوا {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3].
واستعمل {قَرِيباً} كناية عن تحقق الوقوع على طريق المشاكلة التقديرية والمبالغة في التحقيق. وبين {بَعِيداً} و {قَرِيباً} محسن الطباق.
[8-18] {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ، وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيه، كَلَّا إِنَّهَا لَظَى، نَزَّاعَةً لِلشَّوَى، تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى، وَجَمَعَ فَأَوْعَى} .
يجوز أن يتعلق ب {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ} بفعل {تَعْرُجُ} ، وأن يتعلق ب {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} قدم عليه للاهتمام بذكر اليوم فيكون قوله: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} ابتداء الكلام، والجملة المجعولة مبدأ كلام تجعل بدل اشتمال من جملة {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} لأن عم المسائلة مسبب عن شدة الهول، ومما يشتمل عليه ذلك أن يود المول لو يفتدي من ذلك العذاب.
و {الْمُهْلِ} : دردي الزيت.
والمعنى: تشبيه السماء في انحلال أجزائها بالزيت، وهذا كقوله في سورة الرحمن [37] {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} .
والعهن: الصوف المصبوغ، قيل المصبوغ مطلقا، وقيل المصبوغ ألوانا مختلفة وهو الذي درج عليه الراغب والزمخشري، قال زهير:
كان فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
والفنا بالقصر: حب في البادية، يقال له: عنب الثعلب، وله ألوان بعضه أخضر وبعضه أصفر وبعضه أحمر. والعهنة: شجر بالبادية لها ورد أحمر.

ووجه الشبه بالعهن تفرق الأجزاء كما جاءت في آية القارعة [5] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} فإيثار العهن بالذكر لإكمال المشابهة لأن الجبال ذات ألوان قال تعالى: {وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَ} [فاطر:27]. وإنما تكون السماء والجبال بهاته الحالة حين ينحل تماسك أجزائهما عند انقراض هذا العالم والمصير إلى عالم الآخرة.
ومعنى {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} لشدة ما يعتري الناس من الهول فمن شدة ذلك أن يرى الحميم حميمه في كرب وعناء فلا يتفرغ لسؤاله عن حاله لأنه في شاغل عنه، فحذف متعلق {يَسْأَلُ} لظهوره من المقام ومن قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ} أي يبصر الأخلاء أحوال أخلائهم من الكرب فلا يسأل حميم حميما، قال كعب بن زهير:
وقال كل خليل كنت آمله ... لا ألهينك إني عنك مشغول
والحميم: الخليل الصديق.
وقرأ الجمهور بفتح ياء {يَسْأَلُ} على البناء للفاعل، وقرأه أبو جعفر والبزي عن ابن كثير بضم الياء على البناء للمجهول. فالمعنى: لا يسأل حميم عن حميم بحذف حرف الجر.
وموقع {يُبَصَّرُونَهُمْ} الاستئناف البياني لدفع احتمال أن يقع في نفس السامع أن الأحماء لا يرى بعضهم بعضا لأن كل أحد في شاغل، فأجيب بأنهم يكشف لهم عنهم ليروا ما هم فيه من العذاب فيزدادوا عذابا فوق العذاب.
ويجوز أن تكون جملة {يُبَصَّرُونَهُمْ} في موضع الحال، أي لا يسأل حميم حميما في حال أن كل حميم يبصر حميمه يقال له: انظر ماذا يقاسي فلان. و {يُبَصَّرُونَهُمْ} مضارع بصره بالأمر إذا جعله مبصرا له، أي ناظرا فأصله: يبصرون بهم فوقع فيه حذف الجار وتعدية الفعل.
والضميران راجعان إلى {حَمِيمٌ} المرفوع وإلى {حَمِيماً} المنصوب، أي يبصر كل حميم حميمه فجمع الضميران نظرا إلى عموم {حَمِيمٌ} و {حَمِيماً} في سياق النفي.
ويود: يحب، أي يتمنى، وذلك إما بخاطر يخطر في نفسه عند رؤية العذاب. وإما بكلام يصدر منه نظير قوله: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، وهذا هو الظاهر، أي يصرخ الكافر يومئذ فيقول: افتدي من العذاب ببني وصاحبتي وفصيلتي فيكون

ذلك فضيحة له يومئذ بين أهله.
و {الْمُجْرِمُ} : الذي أتى الجرم، وهو الذنب العظيم، أي الكفر لأن الناس في صدر البعثة صنفان كافر ومؤمن مطيع.
و {يَوْمِئِذٍ} هو {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} فإن كان قوله: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ} متعلقا ب {يَوَدُّ} فقوله {يَوْمِئِذٍ} تأكيد ل {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} ، وإن كان متعلقا بقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ} فقوله: {يَوْمِئِذٍ} إفادة لكون ذلك اليوم هو يوم يود المجرم لو يفتدي من العذاب بمن ذكر بعده.
و {لَوْ} مصدرية فما بعدها في حكم المفعول ل {يَوَدُّ} ، أي يوم الافتداء من العذاب ببنيه إلى آخره.
وقرأ الجمهور {يَوْمِئِذٍ} بكسر ميم "يوم" مجرورا بإضافة "عذاب الله". وقرأه نافع والكسائي بفتح الميم على بنائه لإضافة "يوم" إلى "إذ"، وهي اسم غير متمكن والوجهان جائزان.
والافتداء: إعطاء الفداء، وهو ما يعطى عوضا لإنقاذ من تبعة، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} في [البقرة:85] وقوله: {وَلَوْ افْتَدَى بِهِ} في آل عمران [91]، والمعنى: لو يفتدي نفسه، والباء بعد مادة الفداء تدخل على العوض المبذول فمعنى الباء التعويض.
ومعنى {مِنْ} الابتداء المجازي لتضمين فعل يفتدي معنى يتخلص. و {وَصَاحِبَتِهِ} : زوجه.
والفصيلة: الأقرباء الأدنون من القبيلة، وهم الأقرباء المفصول منهم، أي المستخرج منهم، فشملت الآباء والمهات قال ابن العربي: قال أشهب سألت مالكا عن قول الله تعالى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} فقال هي أمه اه، أي ويفهم منها الأب بطريق لحن الخطاب فيكون قد استوفى ذكر أقرب القرابة بالصراحة والمفهوم، وأما على التفسير المشهور فالفصيلة دلت على الآباء باللفظ وتستفاد الأمهات بدلالة لحن الخطاب.
وقد رتبت الأقرباء على حسب شدة الميل الطبيعي إليهم في العرف الغالب لأن الميل الطبيعي ينشأ عن الملازمة وكثرة المخالطة.

ولم يذكر الأبوان لدخولهما في الفصيله قصدا للإيجاز.
والإيواء: الضم والانحياز. قال تعالى: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69] وقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ} [هود:43].
و {الَّتِي تُؤْوِيهِ} : إن كانت القبيلة، فالإيواء مجاز في الحماية والنصر، أي ومع ذلك يفتدي بها لعلمه بأنها لا تغني عنه شيئا يومئذ.
وإن كانت الأم فالإيواء على حقيقته باعتبار الماضي وصيغة المضارع لاستحضار الحالة كقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [فاطر:9] أي يود لو يفتدي بأمه، مع شدة تعلق نفسه بها إذا كانت تؤويه، فإيثار لفظ فصيلته وفعل تؤويه هنا من إيجاز القرآن وإعجازه ليشمل هذه المعاني.
{وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} عطف على {بِبَنِيهِ} ، أي ويفتدي بمن في الأرض، أي ومن له في الأرض مما يعز عليه من أخلاء وقرابة ونفائس الأموال مما شأن الناس الشح ببذله والرغبة غي استبقائه على نحو قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران:91].
و {مَنْ} الموصولة لتغليب العاقل على غيره لأن منهم الأخلاء.
و {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ يُنْجِيه} للتراخي الرتبي، أي يود بذل ذلك وأن ينجيه الفداء من العذاب، فالإنجاء من العذاب هو الأهم عند المجرم في ودادته والضمير البارز في قوله: {يُنْجِيه} عائد إلى الافتداء المفهوم من {يَفْتَدِي} على نحو قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
والمعطوف ب {ثُمَّ} هو المسبب عن الودادة فلذلك كان الظاهر أن يعطف بالفاء وهو الأكثر في مثله كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وقوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]، فعدل عن عطفه بالفاء هنا إلى عطفه ب {ثُمَّ} للدلالة على شدة اهتمام المجرم بالنجاة بأية وسيلة.
ومتعلق {يُنْجِيه} محذوف يدل عليه قوله: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} .
و {كَلَّا} حرف ردع وإبطال بكلام سابق، ولا يخلو من أن يذكر بعده كلام، وهو هنا لإبطال ما يخامر نفوس المجرم من الودادة، نزل منزلة الكلام لأن الله مطلع عليه أو

لإبطال ما يتفوه به من تمني ذلك. قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، ألا ترى أنه عبر عن قوله بذلك في الودادة، في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ} [النساء:42] أي يصيرون من ترابها.
فالتقدير: يقال له كلا، أي لا افتداء ولا إنجاء.
وجملة {إِنَّهَا لَظَى} استئناف بياني ناشئ عما أفاده حرف {كَلَّا} من الإبطال. وضمير {إِنَّهَا} عائد إلى ما يشاهده المجرم قبالته من مرأى جهنم فأخبر بأن ذلك لظى. ولما كان {لَظَى} مقترنا بألف التأنيث أنث الضمير باعتبار تأنيث الخبر واتبع اسمها بأوصاف، والمقصود التعريض بأنها أعدت له، أي أنها تحرقك وتنزع شواك، وقد صرح بما وقع التعريض به في قوله: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى} ، أي تدعوك يا من أدبر عن دعوة التوحيد وتولى عنها ولم يعبأ إلا بجمع المال.
فحرف "إن" للتوكيد للمعنى التعريضي من الخبر، إلا إلى الإخبار بأن ما يشاهده لظى إذ ليس بذلك بمحل التردد. و {لَظَى} خبر "إن".
ويجوز أن يكون ضمير {إِنَّهَا} ضمير القصة وهو ضمير الشأن، أي أن قصتك وشأنك لظى، فتكون {لَظَى} مبتدأ.
وقرأ الجمهور {نَزَّاعَةً} بالرفع فهو خبر ثان عن "إن" أن جعل الضمير ضميرا عائدا إلى النار المشاهدة، أو هو خبر عن {لَظَى} إن جعل الضمير ضمير القصة وجعل {لَظَى} مبتدأ.
وقرأه حفص بالنصب على الحال فيتعين على قراءة حفص أن الضمير ليس ضمير قصة. والتعريض هو هو، وحرف "إن" أما للتوكيد متوجها إلى المعنى التعريضي كما تقدم، وإما لمجرد الاهتمام بالجملة التي بعده لأن الجمل المفتتحة بضمير الشأن من الأخبار المهتم بها.
و {لَظَى} : علم منقول من اسم اللهب، جعل علما ل"جهنم"، وألفه ألف تأنيث، وأصله: لظى بوزن فتى منونا اسم جنس للهب النار. فنقل اسم الجنس إلى جعله علما على واحد من جنسه، فقرن بألف تأنيث تنبيها بذلك التغيير على نقله إلى العلمية.
والعرب قد يدخلون تغيير على الاسم غير العلم إذا نقلوه إلى العلمية كما سموا شمس بفتح الشين. كما قال ابن جني في شرح قول تأبط

شرا:
إني لمهدي من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك
وليس من العلم بالغلبة إذ ليس معرفا ولا مضافا، ولاجتماع العلمية والتأنيث فيه كان ممنوعا من الصرف فلا تقول: لظى بالتنوين إلا إذا أردت جنس اللهب، ولا تقول: اللظى إلا إذا أردت لهبا معينا، فأما إذا أردت اسم جهنم فتقول لظى بألف التأنيث دون تنوين ودون تعريف.
والنزاعة: المبالغة في النزع وهو الفصل والقطع.
والشوى: اسم جمع شواة بفتح الشين وتخفيف الواو، وهي العضو غير الرأس مثل اليد والرجل فالجمع باعتبار ما لكم أحد من شوى، وقيل الشواة: جلدة الرأس فالجمع باعتبار كثرة الناس.
وجملة {تَدْعُو} إما خبر ثان حسب قراءة {نَزَّاعَةً} بالرفع، وإما حال على القراءتين. والدعاء في قوله: {تَدْعُو} يجوز أن يكون غير حقيقة بأن يعتبر استعارة مكنية، شبهت لظى في انهيال الناس إليها بضائف لمأدبة، ورمز إلى ذلك ب {تَدْعُو} وذلك على طريقة التهكم.
ويكون {مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى} قرينة، أو تجريدا، أي من أدبر وتولى عن الإيمان بالله. وفيه الطباق لأن الإدبار والتولي يضادان الدعوة في الجملة إذ الشأن أن المدعو يقبل ولا يدبر، ويكون {تَدْعُو} مشتقا من الدعوة المضمومة الدال، أو أن يشبه إحضار الكفار عندها بدعوتها إياهم للحضور على طريقة التبعية، لأن التشبيه بدعوة المنادي، كقول ذي الرمة يصف الثور الوحشي:
أمسى بوهبين مختارا لمرتعه ... من ذي الفوارس تدعو أنفه الربب
الربب بكسر الراء وبموحدتين: جمع ربة بكسر الراء وتشديد الموحدة: نبات ينبت في الصيف أخضر.
ويجوز أن يكون {تَدْعُو} مستعملا حقيقة، و "الذين يدعون": هم الملائكة الموكلون بجهنم، وإسناد الدعاء إلى جهنم إسنادا مجازيا لأنها مكان الداعين أو لأنها سبب الدعاء، أو جهنم تدعوا حقيقة بأن يخلق الله فيها أصواتا تنادي الذين تولوا أن يردوا عليها فتلتهمهم.

و {مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعَى} جنس الموصوفين بأنهم أدبروا وتولوا وجمعوا وهم المجرمون الذين يودون أن يفتدوا من العذاب يومئذ. وهذه الصفات خصائص المشركين، وهي من آثار دين الشرك التي هي أقوى باعث لهم على إعراضهم عن دعوة الإسلام.
وهي ثلاثة: الإدبار، والإعراض، وجمع المال، أي الخشية على أموالهم.
والإدبار: ترك شيء في جهة الوراء لأن الدبر هو الظهر، فأدبر: جعل شيئا وراءه بأن لا يعرج عليه أصلا أو بأن يقبل عليه ثم يفارقه.
والتولي: والإدبار عن الشيء والبعد عنه، وأصله مشتق من الولاية وهي الملازمة قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، ثم قالوا: ولى عنه، أرادوا اتخذ غيره وليا، أي ترك ولايته إلى ولاية غيره مثل ما قالوا: رغب فيه ورغب عنه، فصار "ولي" بمعنى: أدبر وأعرض، قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم:29] أي عامله بالإعراض عنه.
ففي التولي معنى إيثار غير المتولى عنه، ولذلك يكون بين التولي والإدبار فرق، وباعتبار ذلك الفرق عطف و {تَوَلَّى} على {أَدْبَرَ} ، أي تدعو من ترك الحق وتولى عنه إلى الباطل. وهذه دقيقة من إعجاز القرآن بأن يكون الإدبار مرادا به إدبار غير تول، أي إدبارا من أول وهلة، ويكون التولي مرادا به الإعراض بعد ملابسة، ولذلك يكون الإدبار مستعارا لعدم قبول القرآن ونفي استماع دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحال الذين قال الله فيهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت:26]، والتولي مستعار للإعراض عن القرآن بعد سماعه وللنفور عن دعوة الرسول كما قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31] وكلا الحالين حال كفر ومحقة للعذاب وهما مجتمعتان في جميع المشركين.
والمقصود من ذكرهما معا تفظيع أصحابهما، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون متعلق {أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} متحدا يتنازعه، ملا الفعلين، ويقدر بنحو: عن الحق، وفي الكشاف: أدبر عن الحق وتولى عنه، إذ العبرة باختلاف معنيي الفعلين وإن كان متعلقهما متحدا.
ويجوز أن يقدر لكل فعل متعلق هو أشد مناسبة لمعناه، فقدر البيضاوي: أدبر عن الحق وتولى عن الطاعة، أي لم يقبل الحق وهو الإيمان من أصله، وأعرض عن طاعة

الرسول بعد سماع دعوته، وعن قتادة عكسه: أدبر عن طاعة الله وتولى عن كتاب الله، وتبعه الفخر والنبسابوري.
والجمع والإيعاء في قوله: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} مرتب ثانيهما على أولهما، فيدل ترتيب الثاني على الأول أن مفعول {جَمَعَ} المحذوف هو شيء مما يوعى، أي يجعل في وعاء.
والوعاء: الظرف، أي المال فكنزه ولم ينفع به المحاويج، ومنه جاء فعل {أَوْعَى} إذا شح. وفي الحديث "ولا توعي فيوعى عليك" .
وفي قوله: {جَمَعَ} إشارة إلى الحرص، وفي قوله: {فَأَوْعَى} إشارة إلى طول الأمل. وعن قتادة {جَمَعَ فَأَوْعَى} كان جموعا للخبيث، وهذا تفسير حسن، أي بأن يقدر ل {جَمَعَ} مفعول يدل عليه السياق، أي وزاد على إدباره وتوليه أنه جمع الخبائث. وعليه يكون {فَأَوْعَى} مستعارا لملازمته ما فيه من خصال الخبائث واستمراره عليها فكأنها مختزنة لا يفرط فيها.
[19-21] {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} .
معترضة بين {مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى، وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج: 17-18] وبين الاستثناء {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:22] الخ.
وهي تذليل لجملة {جَمَعَ فَأَوْعَى} تنبيها على خصلة تخامر نفوس البشر فتحملهم على الحرص لنيل النافع وعلى الاحتفاظ به خشية نفاذه لما فيهم من خلق الهلع. وهذا تذييل لوم وليس في مسافة عذر لمن جمع فأوعى، ولا هو تعليل لفعله.
وموقع حرف التوكيد ما تتضمنه الجملة من التعجيب من هذه الخصلة البشرية، فالتأكيد لمجرد الاهتمام بالخبر ولفت الأنظار إليه والتعريض بالحذر منه.
والمقصود من التذييل هو قوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} . وأما قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً} فتمهيد وتتميم لحالتيه.
فالمراد بالإنسان: جنس الإنسان لا فرد معين كقوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7] وقوله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن.

وهلوع: فعول مثال مبالغة للاتصاف بالهلع.
والهلع لفظ غامض من غوامض اللغة قد تساءل العلماء عنه، قال الكشاف وعن أحمد بن يحيى وهو ثعلب قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر1: ما الهلع? فقلت: قد فسره الله ولا يكون تفسير أبين من تفسيره وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس اه. فسارت كلمة ثعلب مسيرا أقنع كثيرا من اللغويين عن زيادة الضبط لمعنى الهلع. وهي كلمة لا تخلو عن تسامح وقلة تحديد للمعنى لأنه إذا كان قول الله تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} تفسير لمدلول الجزع، تعين أن يكون مدلول الكلمة معنى مركبا من معنيي الجملتين لتكون الجملتان تفسيرا له، وظاهر أن المعنيين ليس بينهما تلازم، وكثيرا من أيمة اللغة فسر الهلع بالجزع، أو بشدة الجزع، أو بأفحش الجزع، والجزع: أثر من آثار الهلع وليس عينه، فإن ذلك لا يستقيم في قول عمرو بن معد يكرب:
ما إن جزعت ولا هلعت ... ولا يرد بكاي زندا
إذ عطف النفي الهلع على نفي الجزع، ولو كان الهلع هو الجزع لم يحسن العطف، ولو كان أشد الجزع كان عطف نفيه على نفي الجزع حشوا. ولذلك تكلف المرزوقي في "شرح الحماسة" لمعنى البيت تكلفا لم يغن عنه شيئا قال: فكأنه قال: ما حزنت عليه حزنا هينا قريبا ولا فظيعا شديدا، وهذا نفي للحزن رأسا كقولك: ما رأيت صغيرهم ولا كبيرهم اه.
والذي استخلصته من تتبع استعمالات كلمة الهلع أن الهلع قلة إمساك النفس عند اعتراء ما يحزنها أو ما يسرها أو عند توقع ذلك والإشفاق منه. وأما الجزع فمن آثار الهلع، وقد فسر بعض أهل اللغة الهلع بالشره، وبعضهم بالضجر، وبعضهم بالشح، وبعضهم بالجوع، وبعضهم بالجبن عند اللقاء. وما ذكرناه في ضبطه يجمع هذه المعاني ويريك أنها آثار لصفة الهلع. ومعنى {خُلِقَ هَلُوعاً} : أن الهلع طبيعة كامنة فيه مع خلقة تظهر عند ابتداء شعوره بالنافع والمضار فهو من طباعه المخلوقة كغيرها من طباعها البشرية، إذ ليس في تعلق الحال بعاملها دلالة على قصر العامل عليها، ولا في اتصاف
ـــــــ
1 محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين كان والي شرطة بغداد في زمن المتوكل على الله، وكان شاعرا أدبيا ملازما لأهل العلم توفي سنة 253 وأبوه عبد الله والي خراسان في زمن المأمون وممدوح أبي تمام توفي سنة 229.

صاحب الحال بالحال دلالة على أنه لا صفة له غيرها، وقد تكون للشيء الحالة وضدها باختلاف الأزمان والدواعي، وبذلك يستقيم تعلق النهي عن حال مع تحقيق تمكن ضدها من المنهي لأن عليه أن يروض نفسه على مقاومة النقائص وإزالتها عنه، وإذ ذكر الله الهلع هنا عقب مذمة الجمع والإيعاء، فقد أشعر بأن الإنسان يستطيع أن يكف عن هلعه إذا تدبر في العواقب فيكون في قوله: {خُلِقَ هَلُوعاً} كناية بالخلق عن تمكن ذلك الخلق منه وغلبته على نفسه.
المعنى: أن من مقتضى تركيب الإدراك البشري أن يحدث فيه الهلع.
بيان ذلك أن تركيب المدارك البشرية ركز بحكمة دقيقة تجعلها قادرة على الفعل والكف، وساعية إلى الملائم ومعرضة عن المنافر. وجعلت فيها قوى متضادة الآثار يتصرف العقل والإدراك في استخدامها كما يجب في حدود المقدرة البدنية التي أعطها النوع والتي أعطيها إفراد النوع، كل ذلك ليصلح الإنسان لإعمار هذا العالم الأرضي الذي جعله الله خليفة فيه ليصلحه إصلاحا يشمله ويشمل من معه في هذا العالم إعدادا لصلاحيته لإعمار عالم الخلود، ثم جعل له إدراكا يميز الفرق بين آثار الموجودات وآثار أفعالها بين النافع منها والضار والذي لا نفع فيه ولا ضر. وخلق فيه إلهاما يحب النافع ويكره الضار، غير أن اختلاط الوصفين في بعض الأفعال وبعض الذوات قد يريه الحال النافع منها ولا يريه الحال الضار فيبتغي ما يظنه نافعا غير شاعر بما في مطاويه من أضرار في العاجل والآجل، أو شاعرا بذلك ولكن شغفه بحصول النفع العاجل يرجح عنده تناوله الآن لعدم صبره على تركه مقدرا معاذير أو حيلا يقتحم بها ما فيه من ضر آجل. وإن اختلاط القوى الباطنية مع حركات التفكير قد تستر عنه ضر الضار ونفع النافع فلا يهتدي إلى ما ينبغي سلوكه أو تجنبه، وقد لا تستر عنه ذلك ولكنها تحدث فيه إيثارا لاتباع الضار لملائمة فيه ولو في وقت أو عند عارض، إعراضا عن اتباع النافع لكلفة في فعله أو منافرة لوجدانه، وذلك من اشتمال تركيب قواه الباعثة والصارفة وآلاتها التي بها تعمل وتدفع على شيء من التعاكس في أعمالها، فحدثت من هذا التركيب والبديع صلاحية للوفاء بالتدبير الصالح المنوط بعهدة الإنسان، وصلاحية لإفساد ذلك أو بعثرته.
غير أن الله جعل للإنسان عقلا وحكمة إن هو أحسن استعمالها نخلت صفاته، وثقفت من قناته، ولم يخله من دعاة إلى الخير يصفون له كيف يريض جامح نفسه، وكيف يوفق بين إدراكه وحسه، وهؤلاء هم الرسل والأنبياء والحكماء.

فإذا أخبر عن الإنسان بشدة تلبسه ببعض النقائص وجعل ذلك في قالب أنه جبل عليه فالمقصود من ذلك: إلقاء تبعة ذلك عليه لأنه فرط في إراضة نفسه على ما فيها من جبلة الخير، وأرخى لها العنان إلى غاية الشر، وفرط في نصائح الشرائع والحكماء.
وإذا أسند ما يأتيه الإنسان من الخير إلى الله تعالى فالمقصود: التنبيه إلى نعمة الله عليه بخلق القوة الجالبة للخير فيه، ونعمة إرشاده وإيقاظه إلى الحق، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] عقب قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78]. وفي هذا المجال زلت أفهام المعتزلة، وحلكت عليهم الأجواء، ففكروا وقدروا وما استطاعوا مخلصا وما قدروا.
واعلم أن كلمة "خلق الإنسان" إذا تعلق بها ما ليس من المواد مثل {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:2] بل كان من الأخلاق والغرائز قد يعنى بها التنبيه على جبلة الإنسان وأنها تسرع إلى الاعتلاق بمشاعره عند تصرفاته تعريضا بذلك لوجوب الحذر من غوائلها نحو {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} ، وقد ترد للعذر والرفق نحو قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، وقد ترد لبيان أصل ما فطر عليه الإنسان وما طرأ عليه من سوء تصرفه في أفعاله كما في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:4-5] ففعل الخلق من كذا مستعار لكثرة الملابسة. قال عروة بن أذينة:
إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
أراد إبطال أن يكون ملها بحجة أنها خلقت حبيبة له كما خلق محبوبها، أي أن محبته إياها لا تنفك عنه.
والهلع: صفة غير محمودة، فوصف الإنسان هنا بها لوم عليه في تقصيره عن التخلق بدفع آثارها، ولذلك ذيل به قوله: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج: 18] على كلا معنييه.
وانتصب {جَزُوعاً} على الحال في الضمير المستتر في {هَلُوعاً} ، أو على البدل بدل اشتمال لأن حال الهلع يشتمل على الجزع عند مس الشر.
وقوله: {مَنُوعاً} عطف على {جَزُوعاً} ، أي خلق هلوعا في حال كونه جزوعا إذا مسه الشر، ومنوعا إذا مسه الخير.

و {الشَّرُّ} : الأذى مثل المرض والفقر.
و {الْخَيْرُ} : ما ينفع الإنسان ويلائم رغباته مثل الصحة والغنى.
و {الجَزُوع} : الشديد الجزع، والجزع: ضد الصبر.
و {المَنُوع} : الكثير المنع، أي شديد المنع لبذل شيء مما عنده من الخير.
و {إذا} في الموضعين ظرفان يتعلقان كل واحد بما اتصل به من وصفي {جَزُوعاً} و {مَنُوعاً} .
[22-35] {إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} .
استثناء منقطع ناشئ عن الوعيد المبتدأ، من قوله: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} [المعارج:11] الآية.
فالمعنى على الاستدراك، والتقدير: لكن المصلين الموصوفين بكيت وكيت أولئك في جنات مكرمون.
فجملة {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} حيث وقعت بعد {إلا} المنقطعة وهي بمعنى "لكن" فلها حكم الجملة المخبر بها عن اسم "لكن" المشددة أو عن المبتدأ الواقع بعد "لكن" المخففة وهو ما حققه الدماميني، وإن كان ابن هشام رأى عد الجملة بعد الاستثناء المنقطع في عداد الجمل التي لا محل لها من الإعراب.
والكلام استئناف بياني لمقابلة أحوال المؤمنين بأحوال الكافرين، ووعدهم بوعيدهم على عادة القرآن في أمثال هذه المقابلة.
وهذه صفات ثمان هي من أشعار المسلمين، فعدل عن إحضارهم بوصف المسلمين إلى تعداد خصال من خصالهم إطنابا في الثناء عليهم لأن مقام الثناء مقام إطناب، وتنبيها

على أن كل صلة من هذه الصلات الثمان هي من أسباب الكون في الجنات.
وهذه الصفات لا يشاركه المشركون في معظمها بالمرة، وبعضها قد يتصف به المشركون ولكنهم لا يراعونه حق مراعاته باطراد، وذلك حفظ الأمانات والعهد، فالمشرك يحفظ الأمانة والعهد اتقاء مذمة الخيانة والغدر، مع أحلافه دون أعدائه، والمشرك يشهد بالصدق إذا لم يكن له هوى في الكذب، وإذا خشي أن يوصم بالكذب. وقد غدر المشركون بالمسلمين في عدة حوادث، وغدر بعضهم بعضا، فلو علم المشرك أنه لا يطلع على كذبه وكان له هوى لم يؤد الشهادة.
ولما كان وصف {الْمُصَلِّينَ} غلب على المسلمين كما دل عليه قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42-43] الآية، أتبع وصف المصلين في الآية هذه بوصف {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أي مواظبون على صلاتهم لا يتخلفون عن أدائها ولا يتركونها.
والدوام على الشيء: عدم تركه، وذلك في كل عمل بحسب ما يعتبر دواما فيه كما تقرر في أصول الفقه في مسألة إفادة الأمر التكرار.
وفي إضافة "صلاة" إلى ضمير {الْمُصَلِّينَ} تنويه باختصاصها بهم، وهذا الوصف للمسلمين مقابل وصف الكافرين في قوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ} [المعارج:1-2].
ومجيء الصلة جملة اسمية دون أن يقال: الذين يدومون. لقصد إفادتها الثبات تقوية كمفاد الدوام.
وإعادة اسم الموصول مع الصلات المعطوفة على قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} لمزيد العناية بأصحاب تلك الصلات.
وتسمية ما يعطونه من أموالهم من الصدقات باسم {حق} للإشارة إلى أنهم جعلوا السائل والمحروم كالشركاء لهم في أموالهم من فرط رغبتهم من مواساة إخوانهم إذ لم تكن الصدقة يومئذ واجبة ولم تكن الزكاة قد فرضت.
ومعنى كون الحق معلوما أنه يعلمه كل واحد منهم ويحسبونه، ويعلمه السائل والمحروم بما اعتاد منهم.
ومجيء الصلة جملة اسمية لإفادة ثبات هذه الخصلة فيهم وتمكنها منهم دفعا لتوهم

الشح في بعض الأحيان لما هو معروف بين غالب الناس من معاودة الشح للنفوس.
والسائل: هو المستعطي، و {الْمَحْرُومِ} : الذي لا يسأل الناس تعففا مع احتياجه فلا يتفطن له كثير من الناس فيبقى كالمحروم.
وأصل المحروم: الممنوع من مرغوبه، وتقدم في سورة الذاريات [19] في قوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . وهذه الصفة للمؤمنين مضادة صفة الكافرين المتقدمة في قوله: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:18].
والتصديق بيوم الدين هو الإيمان بوقوع البعث والجزاء، و {الدِّينِ} : الجزاء. وهذا الوصف مقابل وصف الكافرين بقوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} [المعارج:6].
ولما كان التصديق من عمل القلب ولم يتصور أ، يكون فيه تفاوت أتي بالجملة الفعلية على الأصل في صلة الموصول، وأوثر فيها الفعل المضارع لدلالته على الاستمرار.
ووصفهم بأنهم {مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} مقابل قوله في حق الكافرين {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِلْكَافِرِينَ} [المعارج: 1-2] لأن سؤالهم سؤال مستخف بذلك ومحيله.
والإشفاق: توقع حصول المكروه وأخذ الحذر منه.
وصوغ الصلة بالجملة الاسمية لتحقيق وثبات اتصافهم بهذا الإشفاق لأنه من المغيبات، فمن شأن كثير من الناس التردد فيه.
وجملة {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} معترضة، أي غير مأمون لهم، وهذا تعريض بزعم المشركين الأمن إذ قالوا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:138]. ووصفهم بأنهم لفروجهم حافظون مقابل قوله في تهويل حال المشركين يوم الجزاء بقوله: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:10] إذا أخص الأحماء بالرجل وزوجه، فقصد التعريض بالمشركين بأن هذا الهول خاص بهم بخلاف المسلمين فإنهم هم وأزواجهم يحبرون لأنهم اتقوا الله في العفة من غير الأزواج، قال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
وتقدم نظير هذا في سورة المؤمنين، أي ليس في المسلمين سفاح ولا زنى ولا مخالة ولا بغاء، ولذلك عقب بالتفريع بقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .

والعادي: المفسد، أي هم الذين أفسدوا فاختلطت أنسابهم وتطرقت الشكوك إلى حصانة نسائهم، ودخلت الفوضى في نظم عائلاتهم، ونشأت بينهم الإححن من الغيرة.
وذكر رعي الأمانات والعهد لمناسبة وصف ما يود الكافر يوم الجزاء أن يفتديه من العذاب بفصيلته التي تؤويه فيذهب منه رعي العهود التي يجب الوفاء بها للقبيلة وحسبك من تشويه حاله أنه قد نكث العهود التي كانت عليه لقومه من الدفاع عن حقيقتهم بنفسه وكان يفديهم بنفسه، والمسلم لما كان يرعى العهد بما يمليه عليه دينه جازاه الله بأن دفع عنه خزي ودادة فدائه نفسه بواليه وأهل عهده.
والقول في اسمية الصلة كالقول في الذي قبله.
والرعي: الحفظ والحراسة. وأصله رعي الغنم والإبل.
وقرأ الجمهور: {لِأَمَانَاتِهِمْ} بصيغة الجمع. وقرأه ابن كثير {لِأَمَانَاتِهِمْ} بالإفراد، والمراد الجنس.
وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} ذكر لمناسبة ذكر رعي الأمانات إذ الشهادة من جملة الأمانات لأن حق المشهود له وديعة في حفظ الشاهد فإذا أدى شهادته فكأنه أدى أمانة لصاحب الحق المشهود له كانت في حفظ الشاهد.
ولذلك كان أداء الشهادة إذا طولب به الشاهد واجبا عليه، قال تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282].
والقيام بالشهادة: الاهتمام بها وحفظها إلى أن تؤدى، وهذا قيام مجازي كما تقدم عند قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} في سورة [البقرة:3].
وباء {بِشَهَادَاتِهِمْ} للمصاحبة، أي يقومون مصاحبين للشهادة، ويصير معنى الباء في الاستعارة معنى التعدية.
فذكر القيام بالشهادة إتمام لخصال أهل الإسلام فلا يتطلب له مقابل من خصال أهل الشرك المذكورة فيما تقدم.
والقول في اسمية جملة الصلة للغرض الذي تقدم لأن أداء الشهادة يشق على الناس إذ قد يكون المشهود عليه قريبا أو صديقا، وقد يثير الشهادة على المرء إحنة منه وعداوة.

وقرأ الجمهور {بِشَهَادَاتِهِمْ} بصيغة الإفراد، وهو اسم جنس يعم جميع الشهادات التي تحملوها. وقرأ حفص ويعقوب {بِشَهَادَاتِهِمْ} بصيغة الجمع. وذلك على اعتبار جمع المضاف إليه.
وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ثناء عليهم بعنايتهم بالصلاة من أن يعتريها شيء يخل بكمالها، لأن مادة المفاعلة هنا للمبالغة في الحفظ مثل: عافاه الله، وقاتله الله، فالمحافظة راجعة إلى استكمال أركان الصلاة وشروطها وأوقاتها. وإيثار الفعل المضارع لإفادة تجدد ذلك الحفاظ وعدم التهاون به، بذلك تعلم أن هذه الجملة ليست مجردا تأكيد لجملة {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} بل فيها زيادة معنى مع حصول الغرض من التأكيد بإعادة ما يفيد عنايتهم بالصلاة في كلتا الجملتين.
وفي الأخبار النبوية أخبار كثيرة عن فضيلة الصلاة، وأن الصلوات تكفر الذنوب كحديث "ما يدريكم ما بلغت به صلاته" .
وقد حصل بين أخرى هذه الصلات وبين أولاها محسن رد العجز على الصدر.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يفيد تقوية الخبر مع إفادة التجدد من الفعل المضارع.
ولما أجريت عليهم هذه الصفات الجليلة أخبر عن جزائهم عليها بأنهم مكرمون في الجنة.
وجيء باسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة من أجل ما سبق قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة [البقرة: 5].
والإكرام: التعظيم وحسن اللقاء، أي هم من جزائهم بنعيم الجنات يكرمون بحسن اللقاء والثناء، قال تعالى {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23-24] وقال: {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72].
وهذا يقتضي أن يكون قوله: {فِي جَنَّاتٍ} خبرا عن اسم الإشارة، وقوله: {مُكْرَمُونَ} خبرا ثانيا.
[36-41] {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ، أَيَطْمَعُ

كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ، كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ، فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} .
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ، أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ} .
فرع استفهام إنكاري وتعجيبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستهزئين بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بعذاب جهنم.
فرع ذلك على ما أفاده في قوله: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:35].
والمعنى: أن الذين كفروا لا مطمع لهم في دخول الجنة فلماذا يحاولون بتجمعهم حولك بملامح استهزائهم.
وهذا وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم فالمقصود به إبلاغه إليهم فيما يتلوا عليهم من القرآن فهو موجه إليهم في المعنى كما يدل عليه تنهيته بحروف الردع فهو لا يناسب أن يكون إعلاما للنبي صلى الله عليه وسلم لذلك لأنه شيء مقرر في علمه.
ومعنى {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي شيء ثبت للذين كفروا في حال كونهم عندك، أو في حال إهطاعهم إليك.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا} في سورة [البقرة: 246]. وتركيب "ماله" لا يخلوا من حال مفردة، أو جملة بعد الاستفهام تكون هي مصب الاستفهام. فيجوز أن تكون الحال المتوجه إليها الاستفهام هنا الظرف، أي {قِبَلَكَ} فيكون ظرفا مستقرا وصاحب الحال هو {للَّذِينَ كَفَرُوا} . ويجوز أن تكون {مُهْطِعِينَ} فيكون {قِبَلَكَ} ظرفا لغوا متعلقا بـ {مُهْطِعِينَ} . وعلى كلا الوجهين هما مثار التعجيب من حالهم فأيهما جعل محل التعجيب أجري الآخر المجرى اللائق به في التركيب. وكتب في المصحف اللام الداخلة على {الَّذِينَ} مفصولة عن مدخولها وهو رسم نادر.
والإهطاع: مد العنق عند السير كما تقدم في قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} في سورة [القمر: 8].
قال الواحدي والبغوي وابن عطية وصاحب "الكشاف" : كان المشركون يجتمعون

حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ويكذبونه ويستهزئون بالمؤمنين، ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم. فأنزل الله هذه الآية.
وقبل: اسم بمعنى "عند".
وتقديم الظرف على {مُهْطِعِينَ} للاهتمام به لأن التعجيب من حالهم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أقوى لما فيهم من الوقاحة.
وموقع قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} مثل موقع {قِبَلَكَ} وموقع {مُهْطِعِينَ} . والمقصود: كثرة الجهات، أي واردين إليك.
والتعريف في {الْيَمِينِ} و {الشِّمَالِ} تعريف الجنس أو الآلف واللام عوض عن المضاف إليه.
والمقصود في ذكر اليمين والشمال: الإحاطة بالجهات فاكتفي بذكر اليمين والشمال، لأنهما الجهتان اللتان يغلب حولهما، ومثله قول قطري بن الفجاءة:
فلقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني مرة وأمامي
يريد: من كل جهة.
و {عِزِينَ} حال من {الَّذِينَ كَفَرُوا} . وعزين: جمع عزة بتخفيف الزاي، وهي الفرقة من الناس، اسم بوزن فعله. وأصله عزوة بوزن كسوة، وليست بوزن عدة. وجرى جمع عزة على الإلحاق بجمع المذكر السالم على غير قياس وهو من باب سنة من كل اسم ثلاثي حذفت لامه وعوض عنها هاء التأنيث ولم يكسر مثل عضة "للقطعة".
وهذا التركيب في قوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} إلى قوله: {جَنَّةَ نَعِيمٍ} يجوز أن يكون استعارة تمثيلية شبه حالهم في إسراعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحال من يضن بهم الاجتماع لطلب الهدى والتحصيل على المغفرة ليدخلوا الجنة لأن الشأن أن لا يلتف حول النبي صلى الله عليه وسلم إلا طالبوا الاهتداء بهديه.
والاستفهام على هذا مستعمل في أصل معناه لأن التمثيلية تجري في مجموع الكلام مع بقاء كلماته على حقائقها.
ويجوز أن يكون الكلام استفهاما مستعملا في التعجيب من حال إسراعهم ثم

تكذيبهم واستهزائهم.
وجملة {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} بدل اشتمال عن جملة {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} الآية، لأن التفافهم حول النبي صلى الله عليه وسلم شأنه أن يمون لطلب الهدى والنجاة فشبه حالهم بحال طالبي النجاة والهدى فأورد استفهام عليه.
وحكى المفسرون أن المشركين قالوا مستهزئين: نحن ندخل الجنة قبل المسلمين، فجاز أن يكون الاستفهام إنكارا لتظاهرهم بالطمع في الجنة بحمل استهزائهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم، أو بالتعبير بفعل {يَطْمَعُ} عن التظاهر بالطمع كما في قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة:64] أي يتظاهرون بأنهم يحذرون.
وأسند الطمع إلى {كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} دون أن يقال: أيطمعون أن يدخلوا الجنة، تصويرا لحالهم بأنها حال جماعة يريد كل واحد منهم أن يدخل الجنة لتساويهم، يرون أنفسهم سواء في ذلك، ففي قوله: {كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} تقوية التهكم بهم.
ثم بني على التهكم ما يبطل ما فرض لحالهم بما نبي عليه التمثيل التهكمي بكلمة الردع وهي {كَلاَّ} أي لا يكون ذلك. وذلك انتقال من المجاز إلى الحقيقة ومن التهكم بهم إلى توبيخهم دفعا لتوهم من يتوهم أن الكلام السابق لم يكن تهكما.
وهنا تم الكلام على إثبات الجزاء.
{كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}
كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا للانتقال من إثبات الجزاء إلى الاحتجاج على إمكان البعث لشبهتهم الباعثة على إنكاره، وهو الإنكار الذي ذكر إجمالا بقوله المتقدم آنفا {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6-7] فاحتج عليهم بالنشأة الأولى، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذكَّرُونَ} [الواقعة:62]. فالخبر بقوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} مستعمل في لازم معناه وهو إثبات إعادة خلقهم بعد فنائهم.
فهذا من تمام الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود منه أن يبلغ إلى أسماع المشركين كما تقدم آنفا.

والمعنى: أنا خلقنا الإنسان من نطفة حتى صارت إنسانا عاقلا مناظرا فكذلك نعيد خلقه بكيفية لا يعلمونها.
فما صدق "ما يعلمون"هو ما يعلمه كل أحد من أنه كون في بطن أمه من نطفة وعلقة، ولكنهم علموا هذه النشأة الأولى فألهاهم التعود بها عن التدبر في دلالتها على إمكان إعادة المكون منها بتكوين آخر.
وعدل عن أن يقال: إنا خلقناهم من نطفة، كما قال في آيات أخرى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:2] وقال {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:77-78] وغيرها من آيات كثيرة، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله: {مِمَّا يَعْلَمُونَ} توجيها للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا، وعلم ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذكَّرُونَ} [الواقعة:62]. وكان في قوله تعالى: {مِمَّا يَعْلَمُونَ} إيماء إلى أنهم يخلقون الخلق الثاني {مِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} كما قال في الآية الأخرى {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس:36] وقال {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61] فكان في الخلق الأول سر لا يعلمونه.
ومجيء {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ} موكدا بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خلقوا من نطفة وكانوا معدومين، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائهم وبقي بعضها ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ} مفرعا على قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} والتقدير: فإنا لقادرون الآية.
وجملة "ا أقسم برب المشارق"الخ معترضة بين الفاء وما عطفته.
والقسم بالله بعنوان ربوبيته المشارق والمغارب معناه: ربوبيته العالم كله لأن العالم منحصر في جهات شروق الشمس وغروبها.
وجمع {الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} باعتبار تعدد مطالع الشمس ومغاربها في فصول السنة فإن ذلك مظهر عجيب من مظاهر القدرة الإلهية والحكمة الربانية لدلالته من عظيم صنع الله من حيث إنه دال على الحركات الحافة بالشمس التي هي من عظيم المخلوقات،

ولذلك لم يذكر في القرآن قسم بجهة غير المشرق والمغرب دون الشمال والجنوب مع أن الشمال والجنوب جهتان مشهورتان عند العرب. أقسم الله به على سنة أقسام القرآن.
وفي إيثار {الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} بالقسم بربها رعي لمناسبة طلوع الشمس بعد غروبها لتمثيل الإحياء بعد الموت.
وتقدم القول في دخول حرف النفي مع "لا أقسم" عند قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ، وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} في سورة [الحاقة:38-39] وقوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} في سورة [الواقعة:75].
وقوله: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} يحتمل معنيين: أولهما وهو المناسب للسياق أن يكون المعنى على أن نبدلهم خيرا منهم، أي نبدل ذواتهم خلقا خيرا من خلقهم الذي هم عليه اليوم. والخيرية في الإتقان والسرعة ونحوهما وإنما كان خلقا أتقن من النشأة الأولى لأنه خلق مناسب لعالم الخلود، وكان الخلق الأول مناسبا لعالم التغير والفناء، وعلى هذا الوجه يكون {نُبَدِّلَ} مضمنا معنى: نعوض، ويكون المفعول الأول ل {نُبَدِّلَ} ضميرا مثل ضمير {مِنْهُمْ} أي نبدلهم والمفعول الثاني {خَيْرًا مِنْهُمْ} .
و"من" تفضيلية، أي خيرا في الخلقة، والتفضيل باعتبار اختلاف زماني الخلق الأول والخلق الثاني، أو اختلاف عالميهما.
والمعنى الثاني: أن نبدل هؤلاء بخير منهم، أي بأمة خير منهم، والخيرية في الإيمان، فيكون {نُبَدِّلَ} على أصل معناه، ويكون مفعوله محذوفا مثل ما في المعنى الأول، ويكون {خَيْرًا} منصوبا على نزع الخافض وهو باء البدلية كقوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61]، ويكون هذا تهديدا لهم بأن سيستأصلهم ويأتي بقوم آخرين كما قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم:19] وقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
وفي هذا تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتذكير بأن الله عالم بحالهم.
وذيل بقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} ، والمسبوق مستعار للمغلوب عن أمره، شبه بالمسبوق بالحلبة، أو بالمسبوق في السير، وقد تقدم في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، ومنه قول مرة بن عداء الفقعسي:

كأنك لم تسبق من الدهر مرة ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
يريد: كأنك لم تغلب إذ تداركت أمرك وأدركت طلبتك.
و {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} متعلق ب {مَسْبُوقِينَ} ، أي ما نحن بعاجزين على ذلك التبديل بأمثالكم كما قال في سورة الواقعة [61] إنا لقادرون {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة:61].
[42-44] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}
تفريع على ما تضمنه قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} [المعارج:36] من إرادتهم بفعلهم ذلك وقولهم: إننا ندخل الجنة، الاستهزاء بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم. وبعد إبطاله إجمالا وتفصيلا فرع عن ذلك أمر الله رسوله بتركهم للعلم بأنهم لم يجد فيهم الهدي والاستدلال وأنهم مصرون على العناد والمناواة.
ومعنى الأمر بالترك في قوله: {فَذَرْهُمْ} أنه أمر بترك ما أهم النبي صلى الله عليه وسلم من عنادهم وإصرارهم على الكفر مع وضوح الحجج على إثبات البعث ولما كان أكبر أسباب إعراضهم وإصرارهم على كفرهم هو خوضهم ولعبهم كني به عن الإعراض بقوله: {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} .
فجملة {يَخُوضُوا} وجملة {وَيَلْعَبُوا} حالان من الضمير الظاهر في قوله: {فَذَرْهُمْ} . وتلك الحال قيد للأمر في قوله: {فَذَرْهُمْ} . والتقدير: فذر خوضهم ولعبهم ولا تحزن لعنادهم وإصرارهم.
وتعدية فعل "ذر" إلى ضميرهم من قبيل توجه الفعل إلى الذات. والمراد توجهه إلى بعض أحوالها التي لها اختصاص بذلك الفعل، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] أي حرم عليكم أكلها، وقوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] أي أن تجمعوهما معا في عصمة نكاح والاعتماد في هذا على قرينة السياق كما في الآيتين المذكورتين وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} في سورة [الطور: 45].
أو على ذكر ما يدل على حالة خاصة مثل قوله: {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} في هذه الآية، فقد يكون المقدر مختلفا كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] إذ التقدير: فاجتنبوا شرب الخمر والتقامر بالميسر وعبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام.

وهذا الاستعمال هو المعنون في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان، أو إسناد التحريم والتحليل إلى الأعيان، ولوضوح دلالة ذلك على المراد لم يعده جمهور علماء الأصول من قبيل المجمل خلافا للكرخي وبعض الشافعية.
وقد يتوسل من الأمر بالترك إلى الكناية عن التحقير وقلة الاكتراث كقول كبشة أخت عمرو بن معد يكرب تلهب أخاها عمرا للأخذ بثأر أخيه عبد الله وكان قد قتل:
ودع عنك عمرا ان عمرا مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم
وما في هذه الآية من ذلك الأسلوب أي لا تكترث بهم فإنهم دون أن تصرف همتك في شأنهم مثل قوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8].
وبهذا تعلم أن قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ} لا علاقة له بحكم القتال، ولا هو من الموادعة ولا هو منسوخ بآيات السيف كما توهمه بعض المفسرين.
والخوض: الكلام الكثير، والمراد خوضهم في القرآن وشأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
واللعب: الهزل والهزء وهو لعبهم في تلقي الدعوة الإسلامية وخروجهم عن حدود التعقل والجد في الأمر لاستطارة رشدهم حسدا وغيظا وحنقا.
وجزم {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} في جواب الأمر للمبالغة في ارتباط خوضهم ولعبهم بقلة الاكتراث بهم إذ مقتضى جزمه في الجواب أن يقدر: أن تذرهم يخوضوا ويلعبوا، أي يستمروا في خوضهم ولعبهم وذلك لا يضيرك، ومثل هذا الجزم كثير نحو {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية:14] ونحو {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53]. وبعض المفسرين والنحويين يجعل أمثالهم مجزوما بلام الأمر مقدرة على أن ذلك مقول القول وهو يفيد نكتة المبالغة.
و {حَتَّى} متعلقة ب {ذَرْهُمْ} لما فيه من معنى، أمهلهم وانتظرهم، فإن اليوم الذي وعدوه وهو يوم النشور حين يجازون على استهزائهم وكفرهم، فلا يكون غاية لـ {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} والغاية هنا كناية عن دوام تركهم.
وإضافة "يوم" إلى ضميرهم لأدنى ملابسة.
وقرأ الجمهور {يُلاقُوا} بألف بعد اللام من الملاقاة. وقرأه أبو جعفر بدون ألف من اللقاء.

واللقاء: مجاز على كل تقدير: فعلى قراءة الجمهور وهو مجاز من جهتين لأن اليوم لا يلقى ولا يلقى. وعلى قراءة أبي جعفر وهو مجاز من جهة واحدة لأن اللقاء إنما يقع بين الذوات.
و {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} بدل من {يَوْمَهُمُ} ليس ظرفا.
والخروج: بروز أجسادهم من الأرض.
وقرأ الجمهور {يَخْرُجُونَ} بفتح التحتية على البناء للفاعل. وقرأه أبو بكر عن عاصم بضمها على البناء للمفعول.
والأجداث: جمع جدث بفتحتين وهو القبر، والقبر: حفير يجعل لمواراة الميت.
وضمير {يَخْرُجُونَ} عائد إلى المشركين المخبر عنه بالأخبار السابقة. وجميعهم قد دفنوا في قبور أو وضعوا في قليب بدر.
والنصب بفتح فسكون: الصنم، ويقال: نصب بضمتين، ووجه تسميته نصبا أنه ينصب للعبادة، قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
و {يُوفِضُونَ} مضارع أوفض، إذا أسرع وعدا في سيره، أي كأنهم ذاهبون إلى صنم، شبه إسراعهم يوم القيامة إلى الحشر بإسراعهم في الدنيا إلى الأصنام لزيارتها لأن لهذا الإسراع اختصاصا بهم، وفي هذا التشبيه إدماج لتفظيع حالهم في عبادة الأصنام وإيماء إلى أن إسراعهم يوم القيامة إسراع دع، ودفع جزاء على إسراعهم للأصنام.
وقرأ الجمهور {نُصُبٍ} بفتح النون وسكون الصاد. وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم بضم النون والصاد.
وخشوع الأبصار استعارة للنظر إلى أسفل من الذل، كما قال تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى:45] وقال {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7]. وأصل الخشوع: ضهور الطاعة أو المخافة على الإنسان.
والرهق: الغشيان، أي التغطية بساتر، وهو استعارة هنا لأن الذل لا تغشى.
وجملة {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} فذلكه لما تضمنته السورة في أول

أغراضها من قوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} إلى قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ} الآيات [المعارج: 1-4]، وهي مفيدة مع ذلك تأكيد جملة {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} . وفيها محسن رد العجز على الصدر.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة نوحبهذا الاسم سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير، وترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" بترجمة "سورة إنا أرسلنا نوحا". ولعل ذلك كان الشائع في كلام السلف ولم يترجم لها الترمذي في "جامعه" .
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت الثالثة والسبعين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد نزول أربعين آية من سورة النحل وقبل سورة الطور.
وعد العادون بالمدينة ومكة آيها ثلاثين آية، وعدها أهل البصرة والشام تسعا وعشرين آية، وعدها أهل الكوفة ثمانا وعشرين آية.
أغراضها
أعظم مقاصد السورة ضرب المثل للمشركين بقوم نوح وهم أول المشركين الذين سلط عليهم عقاب في الدنيا، وهو أعظم عقاب أعني الطوفان. وفي ذلك تمثيل لحال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه بحالهم.
وفيها تفصيل كثير من دعوة نوح عليه السلام إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام وإنذاره قومه بعذاب أليم واستدلاله لهم ببدائع صنع الله تعالى وتذكيرهم بيوم البعث.
وتصميم قومه على عصيانه وعلى تصلبهم في شركهم.
وتسمية الأصنام التي كانوا يعبدونها.
ودعوة نوح على قومه بالاستئصال.

وأشارت إلى الطوفان.
ودعاء نوح بالمغفرة له وللمؤمنين، وبالتبار للكافرين كلهم.
وتخلل ذلك إدماج وعد المطيعين بسعة الأرزاق وإكثار النسل ونعيم الجنة.
[1] {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
افتتاح الكلام بالتوكيد للاهتمام بالخبر إذ ليس المقام لرد إنكار منكر، ولا دفع شك عن متردد في هذا الكلام. وكثيرا ما يفتتح بلغاء العرب أول الكلام بحرف التوكيد لهذا الغرض وربما جعلوا "إن" داخلة على ضمير الشأن في نحو قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل: 30-31] الآية.
وذكر نوح عليه السلام مضى في سورة آل عمران. وتقدم أن هذا الاسم غير عربي، وأنه مشتق من مادة النوح.
و {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} إلى آخره هو مضمون ما أرسل به نوح إلى قومه، ف {أَنْ} تفسيرية لأنها وقعت بعد {أَرْسَلْنَا} . وفيه معنى القول دون حروفه. ومعنى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أنه يخوفهم غضب الله تعالى عليهم إذ عبدوا الأصنام ولم يتقوا الله ولم يطيعوا ما جاءهم به رسوله، فأمره الله أن ينذرهم عذابا يأتيهم من الله ليكون إنذاره مقدما على حلول العذاب. وهذا يقتضي أنه أمر بأن يعلمهم بهذا العذاب، وأن الله وقته بمدة بقائهم بعد الشرك بعد إبلاغ نوح إليهم ما أرسل به في مدة يقع الإبلاغ في مثلها، فحذف متعلق فعل {أَنْذِرْ} لدلالة ما يأتي بعده من قوله: {أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي} [نوح:3].
وحرف {مِنْ} زائد للتوكيد، أي قبل أن يأتيهم عذاب فهي قبلية مؤكدة وتأكيدها باعتبار تحقيق ما أضيف إليه {قَبْلِ} .
و"قوم نوح" هم الناس الذين كانوا عامرين الأرض يومئذ، إذ لا يوجد غيرهم على الأرض كما هو ظاهر حديث الشفاعة وذلك صريح ما في التوراة.
والقوم: الجماعة من الناس الذين يجمعهم موطن واحد أو نسب واحد برجالهم ونسائهم وأطفالهم.
وإضافة "قوم" إلى ضمير { نوح} لأنه أرسل إليهم فلهم مزيد اختصاص به، ولأنه

واحد منهم وهم بين أبناء له وأنسباء فإضافتهم إلى ضميره تعريف لهم إذ لم يكن لهم اسم خاص من أسماء الأمم الواقعة من بعد.
وعدل عن أن يقال له: أنذر الناس إلى قوله: {أَنْذِرْ قَوْمَكَ} إلهابا لنفس نوح ليكون شديد الحرص على ما فيه نجاتهم من العذاب، فإن فيهم أبناءه وقرابته وأحبته، وهم عدد تكون بالتوالد في بني آدم في مدة ستمائة سنة من حلول جنس الإنسان على الأرض. ولعل عددهم يوم أرسل نوح إليهم لا يتجاوز بضعة آلاف.
[2-4] {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} .
لم تعطف جملة {قَالَ يَا قَوْمِ} بالفاء التفريعية على جملة {أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1]. لأنها في معنى البيان لجملة {أَنْذِرْ قَوْمَكَ} [نوح: 1] لدلالتها على أنه أنذر قومه بما أمره الله أن يقوله لهم، وإنما أدمج فيه فعل قول نوح للدلالة على أنه أمر أن يقول فقال، تنبيها على مبادرة نوح لإنذار قومه في حين بلوغ الوحي إليه من الله بأن ينذر قومه.
ولك أن تجعلها استئنافا بيانيا لجواب سؤال السامع أن يسأل ماذا فعل نوح حين أرسل الله إليه {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} ، وهما متقاربان.
وافتتاح دعوته قومه بالنداء لطلب إقبال أذهانهم، ونداؤهم بعنوان: أنهم قومه، تمهيد لقبول نصحه إذ لا يريد الرجل لقومه إلا ما يريد لنفسه. وتصدير دعوته بحرف التوكيد لأن المخاطبين يترددون في الخبر.
والنذير: المنذر غير جار على القياس، وهو مثل بشير، ومثل حكيم بمعنى محكم، وأليم بمعنى مؤلم، وسميع بمعنى مسمع، في قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
وقد تقدم في أول سورة البقرة [10] عند قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وحذف متعلق

{نَذِيرٌ} لدلالة قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} عليه. والتقدير: إني لكم نذير بعذاب أليم إن لم تعبدوا الله ولم تتقوه ولم تطيعوني.
والمبين: يجوز أن يكون من أبان المتعدي الذي مجرده بان، أي موضح أو من أبان القاصر، الذي هو مرادف بان المجرد، أي نذير واضح لكم أني نذير، لأني لا أجتني من دعوتكم فائدة من متاع لدنيا وإنما فائدة ذلك لكم، وهذا مثل قوله في سورة الشعراء {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:109-110].
وتقديم {لَكُمْ} على عامله وهو {نَذِيرٌ} للاهتمام بتقديم ما دلت عليه اللام من كون النذارة لفائدتهم لا لفائدته.
فجمع في صدر دعوته خمسة مؤكدات، وهي: النداء، وجعل المنادى لفظ {يا قوم} المضاف إلى ضميره، وافتتاح كلامه بحرف التأكيد، واجتلاب لام التعليل، وتقديم مجرورها.
و {أن} في {أَنِ اعْبُدُوا} تفسيرية لأن وصف {نَذِيرٌ} فيه معنى القول دون حروفه، وأمرهم بعبادة الله لأنهم أعرضوا عنها ونسوها بالتمحض لأصنامهم، وكان قوم نوح مشركين كما دل عليه قوله تعالى في سورة يونس [71] {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} . وبذلك كان تمثيل حال المشركين من العرب بحال قوم نوح تمثيلا تاما.
واتقاء الله اتقاء غضبه، فهذا من تعليق الحكم باسم الذات. والمراد: حال من أحوال الذات من باب {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] أي أكلها، أي بأن يعلموا أنه لا يرضى لعباده الكفر به. وطاعتهم لنوح هي امتثالهم لما دعاهم إليه من التوحيد وقد قال المفسرون: لم يكن في شريعة نوح إلا الدعوة إلى التوحيد فليس في شريعته أعمال تطلب الطاعة فيها لكن لم تخل شريعة إلهية من تحريم الفواحش مثل قتل الأنفس وسلب الأموال، فقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} ينصرف بادئ ذي بدء إلى ذنوب الإشراك اعتقادا وسجودا.
وجزم {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} في جواب الأوامر الثلاثة {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} ، أي إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم من ذنوبكم. وهذا وعد بخير الآخرة.
وحرف {من} زائد للتوكيد، وهذا من زيادة {من} في الإيجاب على رأي كثير من أيمة النحو مثل الخفش وأبي علي الفارسي وابن جني من البصريين وهو قول الكسائي

وجميع نحاة الكوفة. فيفيد أن الإيمان يجب ما قبله في شريعة نوح مثل شريعة الإسلام.
ويجوز أن تكون {من} للتبعيض، عند من أثبت ذلك وهو اختيار التفتزاني، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم، أي ذنوب الإشراك وما معه، فيكون الإيمان في شرع نوح لا يقتضي مغفرة جميع الذنوب السابقة، وليس يلزم تماثل الشرائع في جميع الأحكام الفرعية، ومغفرة الذنوب من تفاريع الدين وليست من أصوله. وقال ابن عطية: معنى التبعيض: مغفرة الذنوب السابقة دون ما يذنبون من بعد. وهذا يتم ويحسن إذا قدرنا أن شريعة نوح تشمل على أوامر ومنهيات عملية فيكون ذكر {من} التبعيضية اقتصادا في الكلام بالقدر المحقق.
وأما قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} فهو وعد بخير دنيوي يستوي الناس في رغبته، وهو طول البقاء فإنه من النعم العظيمة لأن في جبلة الإنسان حب البقاء في الحياة على ما في الحياة من عوارض ومكدرات. وهذا ناموس جعله الله تعالى في جبلة الإنسان لتجري أعمال الناس على ما يعين على حفظ النوع. قال المعري:
وكل يريد العيش والعيش حتفه ... ويستعذب اللذات وهي سمام
والتأخير: ضد التعجيل، وقد أطلق التأخير على التمديد والتوسيع من أجل الشيء.
وقد أشعر وعده إياهم بالتأخير أنه تأخير مجموعهم، أي مجموع قومه لأنه جعل جزاء لكل من عبد الله منهم واتقاه وأطاع الرسول، فدل على أنه أنذرهم في خلال ذلك باستئصال القوم كلهم، وأنهم كانوا على علم بذلك كما أشار إليه قوله: {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح: 1]. كما تقدم آنفا، وكما يفسره قوله تعالى في سورة هود {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] أي سخروا من الأمر الذي يصنع الفلك للوقاية منه. وهو أمر الطوفان، فتعين أن التأخير المراد هنا هو عدم استئصالهم. والمعنى: ويؤخر القوم كلهم إلى أجل مسمى وهو آجال إشخاصهم وهي متفاوتة.
والأجل المسمى: هو الأجل المعين بتقدير الله عند خلقه كل أحد منه، فالتنوين في {أجل} للنوعية، أي الجنس، وهو صادق على آجال متعددة بعدد أصحابها كما قال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج:5]
ومعنى {مُسَمّىً} أنه محدد معين وهو ما في قوله تعالى: {وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} في

سورة [الأنعام:2]
فالأجل المسمى: هو عمر كل واحد، المعين له في ساعة خلقه المشار إليه في الحديث "أن الملك يؤمر بكتب أجل المخلوق عندما ينفخ فيه الروح" ، واستعيرت التسمية للتعيين لشبه عدم الاختلاط بين أصحاب الآجال.
والمعنى: ويؤخركم فلا يعجل بإهلاككم جميعا فيؤخر كل أحد إلى أجله المعين له على تفاوت آجالهم.
فمعنى هذه الآية نظير معنى آية سورة هود [3]. {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وهي على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلا لقوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} ، أي تعليلا للربط الذي بين الأمر وجزائه من قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} إلى قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ} الخ لأن الربط بين الأمر وجوابه يعطي بمفهومه معنى: إن لا تعبدوا الله ولا تتقوه ولا تطيعوني لا يغفر لكم ولا يؤخركم إلى أجل مسمى، فعلل هذا الربط والتلازم بين هذا الشرط المقدر وبين جزائه بجملة {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} ، أي أن الوقت الذي عينه الله لحلول العذاب بكم إن لم تعبدوه ولم تطيعون إذا جاء إبانه باستمراركم على الشرك لا ينفعكم الإيمان ساعتئذ، كما قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، فيكون هذا حثا على التعجيل بعبادة الله وتقواه.
فالأجل الذي في قوله: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} غير الأجل الذي في قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} ويناسب ذلك قوله عقبه {لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} المقتضي أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة المتعلقة بآجال الأمم المعينة لاستئصالهم، وأما عدم تأخير آجال الأعمار عند حلولها فمعلوم للناس مشهور في كلام الأولين. وفي إضافة {أجل} إلى اسم الجلالة في قوله: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} إيماء إلى أنه ليس الأجل المعتاد بل هو أجل عينه الله إنذارا لهم ليؤمنوا بالله. ويحتمل أن تكون الجملة استئنافا بيانيا ناشئا عن تحديد غاية تأخيرهم إلى أجل مسمى فيسأل السامع في نفسه عن علة تنهية تأخيرهم بأجل آخر فيكون أجل الله غير الأجل الذي في

قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} .
ويحتمل أن تكون الجملة تعليلا لكلا الأجلين: الأجل المفاد من قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح: 1] فإن لفظ {قبل} يؤذن بأن العذاب موقت بوقت غير بعيد فله أجل مبهم غير بعيد، والأجل المذكور بقوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} فيكون أجل الله صادقا على الأجل المسمى وهو أجل كل نفس من القوم.
وإضافته إلى الله إضافة كشف، أي الأجل الذي عينه الله وقدره لكل أحد.
وبهذا تعلم أنه لا تعارض بين قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وبين قوله: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} إما لاختلاف المراد بلفظي "الأجل" في قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وقوله: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} ، وإما لاختلاف معنيي التأخير في قوله: {إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} فانفكت جهة التعارض.
أما مسألة تأخير الآجال والزيادة في الأعمار والنقص منها وتوحيد الأجل عندنا واضطراب أقوال المعتزلة في هل للإنسان أجل واحد أو أجلان فتلك قضية أخرى ترتبط بأصلين: أصل العلم الإلهي بما سيكون، وأصل تقدير الله للأسباب وترتب مسبباتها عليها.
فأما ما في علم الله فلا يتغير قال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] أي في علم الله، والناس لا يطلعون على ما في علم الله.
وأما وجود الأسباب كلها كأسباب الحياة، وترتب مسبباتها عليها فيتغير بإيجاد الله مغيرات لم تكن موجودة إكراما لبعض عباده أو إهانة لبعض آخر. وفي الحديث "صدقة المرء المسلم تزيد في العمر" . وهو حديث حسن مقبول. وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من سره أن يمد في عمره فليتق الله وليصل رحمه" . وسنده جيد، فآجال الأعمار المحددة بالزمان أو بمقدار قوة الأعضاء وتناسب حركتها قابلة للزيادة والنقص. وآجال العقوبات الإلهية المحددة بحصول الأعمال المعاقب عليها بوقت قصير أو فيه مهلة غير قابلة للتأخير وهي ما صدق قوله: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} وقد قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] على أظهر التأويلات فيه وما في علم الله من ذلك لا يخالف ما يحصل في الخارج.
فالذي رغب نوح قومه فيه هو سبب تأخير آجالهم عند الله فلو فعلوه تأخرت آجالهم

وبتأخيرها يتبين أن قد تقرر في علم الله أنهم يعملون ما يدعوهم إليه نوح وأن آجالهم تطول، وإذ لم يفعلوه فقد كشف للناس أن الله علم أنهم لا يفعلون ما دعاهم إليه نوح وأن الله قاطع آجالهم، وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "اعملوا فكل ميسر إلى ما خلق إليه" ، وقد استعصى فهم هذا على كثير من الناس فخلطوا بين ما هو مقرر في علم الله وما أظهره قدر الله في الخارج الوجودي.
وفي إقحام فعل {كُنْتُمْ} قبل {تَعْلَمُونَ} إيذان بأن عملهم بذلك المنتفي لوقوعه شرطا لحرف {لو} محقق انتفاؤه كما بيناه في قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} في سورة يونس [2].
وجواب {لو} محذوف دل عليه قوله: {لا يُؤَخَّرُ} . والتقدير: لأيقنتم أنه لا يؤخر.
[5-6] {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً} .
جرد فعل {قَالَ } هنا، من العاطف لأنه حكاية جواب نوح عن قول الله له {أَنْذِرْ قَوْمَكَ} [نوح: 1] عومل معاملة الجواب الذي يتلقى به الأمر على الفور على طريقة المحاورات التي تقدمت في قوله تعالى: {الُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة [30]، تنبيها على مبادرة نوح بإبلاغ الرسالة إلى قومه وتمام حرصه في ذلك كما أفاده قوله: {لَيْلاً وَنَهَاراً} وحصول يأسه منهم، فجعل مراجعته ربه بعد مدة مستفادة من قوله: {لَيْلاً وَنَهَاراً} بمنزلة المراجعة في المقام الواحد بين المتحاورين. ولك أن تجعل جملة {قَالَ رَبِّ} الخ مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع يترقب معرفة ماذا أجاب قوم نوح دعوته فكان في هذه الجملة بيان ما يترقبه السامع مع زيادة مراجعة نوح ربه تعالى.
وهذا الخبر مستعمل في لازم معناه وهو الشكاية والتمهيد لطلب النصر عليهم لأن المخاطب به عالم بمدلول الخبر. وذلك ما سيفضي إليه بقوله: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] الآيات.
وفائدة حكاية ما ناجى به نوج ربه إظهار توكله على الله، وانتصار الله له، والإتيان على مهمات من العبرة بقصته، بتلوين لحكاية أقواله وأقوال قومه وقول الله له. وتلك ثمان مقالات هي:
1- {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} الخ [نوح: 1].

2- {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح: 2]الخ.
3- { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي} [نوح: 5]الخ.
4- {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10] الخ.
5- {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [نوح:21] الخ.
6- {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً} [نوح:24] الخ.
7 {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} الخ [نوح:26].
8- {رَبِّ اغْفِرْ لِي} الخ [نوح:28].
وجعل دعوته مظروفة في زمني الليل والنهار للدلالة على عدم الهوادة في حرصه على إرشادهم، وأنه يترصد الوقت الذي يتوسم أنهم في أقرب إلى فهم دعوته منهم في غيره، من أوقات النشاط وهي أوقات النهار، ومن أوقات الهدو وراحة البال وهي أوقات الليل.
ومعنى {لَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً} أن دعائي لهم بأن يعبدوا الله وبطاعتهم لي لم يزدهم ما دعوتهم إليه إلا بعدا منه، فالفرار مستعار لقوة الإعراض، أي فلم يزدهم دعائي إياهم قربا مما أدعوهم إليه.
واستثناء الفرار من عموم الزيادات استثناء منقطع. والتقدير: فلم يزدهم دعائي قربا من الهدى لكن زادهم فرارا كما في قوله تعالى حكاية عن صالح عليه السلام {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود:63] .
وإسناد زيادة الفرار إلى الدعاء مجاز لأن دعاءه إياهم كان سببا في تزايد إعراضهم وقوة تمسكهم بشركهم.
وهذا من الأسلوب المسمى في علم البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، أو تأكيد الشيء بما يشبه ضده، وهو هنا تأكيد إعراضهم المشبه بالابتعاد بصورة تشبه ضد الإعراض.
ولما كان فرارهم من التوحيد ثابتا لهم من قبل كان قوله: {لَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً} من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.

وتصدير كلام نوح بالتأكيد لإرادة الاهتمام بالخير.
[7] {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} .
{كُلَّمَا} مركبة من كلمتين كلمة "كل" وهي اسم يدل على استغراق أفراد ما تضاف هي إليه، وكلمة "ما" المصدرية وهي حرف يفيد أن الجملة بعده في تأويل مصدر. وقد يراد بذلك المصدر زمان حصوله فيقولون "ما" ظرفية مصدرية لأنها نائبة عن اسم الزمان.
والمعنى: أنهم لم يظهروا مخيلة من الإصغاء إلى دعوته ولم يتخلفوا عن الإعراض والصدود عن دعوته طرفة عين، فلذلك جاء بكلمة {كُلَّمَا} الدالة على شمول كل دعوة من دعواته مقترنة بدلائل الصد عنها، وقد تقدم عند قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة:20].
وحذف متعلق {دَعَوْتُهُمْ} لدلالة ما تقدم عليه من قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [نوح: 3].
والتقدير: كلما دعوتهم إلى عبادتك وتقواك وطاعتي فيما أمرتهم به.
واللام في قوله: {لِتَغْفِرَ} لام التعليل، أي دعوتهم بدعوة التوحيد فهو سبب المغفرة، فالدعوة إليه معللة بالغفران.
ويتعلق قوله: {كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} بفعل {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ} على أنه ظرف زمان.
وجملة {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ} خبر {إن} والرابط ضمير {دَعَوْتُهُمْ} .
وجعل الأصابع في الآذان يمنع بلوغ أصوات الكلام إلى المسامع.
وأطلق اسم الأصابع على الأنامل على وجه المجاز المرسل بعلاقة البعضية فإن الذي يجعل في الأذن الأنملة لا الأصبع كله فعبر عن الأنامل بالأصابع للمبالغة في إرادة سد المسامع بحيث لو أمكن لأدخلوا الأصابع كلها، وتقدم في قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ} في سورة البقرة [19].
واستغشاء الثياب: جعلها غشاء، أي غطاء على أعينهم، تعضيدا لسد آذانهم بالأصابع لئلا يسمعوا كلامه ولا ينظروا إشاراته، وأكثر ما يطلق الغشاء على غطاء العينين، قال تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] والسين والتاء في {اسْتَغْشَوْا}

للمبالغة.
فيجوز أن يكون جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب هنا حقيقة بأن يكون ذلك من عادات قوم نوح إذا أراد أحد أن يظهر كراهية لكلام من يتكلم معه أن يجعل إصبعيه في أذنيه ويجعل من ثوبه ساترا لعينيه.
ويجوز أن يكون تمثيلا لحالهم في الإعراض عن قبول كلامه ورؤية مقامه بحال من يسك سمعه بأنملتيه ويحجب عينيه بطرف ثوبه.
وجعلت الدعوة معللة بمغفرة الله لهم لأنها دعوة إلى سبب المغفرة وهو الإيمان بالله وحده وطاعة أمره على لسان رسوله.
وفي ذلك تعريض بتحميقهم وتعجب من خلقهم ذ يعرضون عن الدعوة لما فيه نفعهم فكان مقتضى الرشاد أن يسمعوها ويتدبروها.
والإصرار: تحقيق العزم على فعل، وهو مشتق من الصر وهو الشد على شيء والعقد عليه، وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} في سورة آل عمران [135].
وحذف متعلق {أَصَرُّوا} لظهوره، أي أصروا على ما هم عليه من الشرك.
{وَاسْتَكْبَرُوا} مبالغة في تكبروا، أي جعلوا أنفسهم أكبر من أن يأتمروا لواحد منهم {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود:27].
وتأكيد {اسْتَكْبَرُوا} بمفعوله المطلق للدلالة على تمكن الاستكبار. وتنوين {اسْتِكْبَاراً} للتعظيم، أي استكبارا شديدا لا يفله حد الدعوة.
[8-12] {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} .
ارتقى في شكواه واعتذاره بأن دعوته كانت مختلفة الحالات في القول من جهر وإسرار، فعطف الكلام ب {ثم} التي تفيد في عطفها الجمل أن مضمون الجملة المعطوفة أهم من مضمون المعطوف عليها، لأن اختلاف كيفية الدعوة ألصق بالدعوة من أوقات

إلقائها لأن الحالة أشد ملابسة بصاحبها من ملابسة زمانه. فذكر أنه دعاهم جهارا، أي علنا.
وجهار: اسم مصدر جهر، وهو هنا وصف لمصدر {دَعَوْتُهُمْ} ، أي دعوة جهارا.
وارتقى فذكر أنه جمع بين الجهر والإسرار لأن الجمع بين الحالتين أقوى في الدعوة وأغلظ من إفراد إحداهما. فقوله: {أَعْلَنْتُ لَهُمْ} تأكيد لقوله: {دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} ذكر ليبنى عليه عطف {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} .
والمعنى: أنه توخى ما يضنه أوغل إلى قلوبهم من صفات الدعوة فجهير حينما يكون الجهر أجدى مثل مجامع العامة، وأسر للذين يظنهم متجنبين لوم قومهم عليهم في التصدي لسماع دعوته وبذلك تكون ضمائر الغيبة في قوله: {دَعَوْتُهُمْ} ، وقوله: {أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ} موزعة على مختلف الناس.
وانتصب {جِهَاراً} بالنيابة عن المفعول المطلق المبين لنوع الدعوة.
وانتصب {إِسْرَاراً} على أنه مفعول مطلق مفيد للتوكيد، أي إسرارا خفيا.
ووجه توكيد الإسرار أن إسرار الدعوة كان في حال دعوته سادتهم وقادتهم لأنهم يمتعضون من إعلان دعوتهم بمسمع من أتباعهم.
وفصل دعوته بفاء التفريع فقال {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} فهذا القول هو الذي قال لهم ليلا ونهارا وجهارا وإسرارا.
ومعنى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} ، آمنوا إيمانا يكون استغفارا لذنبكم فإنكم إن فعلتم غفر الله لكم.
وعلل ذلك لهم بأن الله موصوف بالغفران صفة ثابتة تعهد الله بها لعباده المستغفرين، فأفاد التعليل بحرف "إن" وأفاد ثبوت الصفة لله بذكر فعل {كان} . وأفاد كمال غفرانه بصيغة المبالغة بقوله {غَفَّاراً} .
وهذا وعد بخير الآخرة ورتب عليه وعدا بخير الدنيا بطريق جواب الأمر، وهو {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ} الآية.
وكانوا أهل فلاحة فوعدهم بنزول المطر الذي به السلامة من القحط وبالزيادة في الأموال.

و {السَّمَاءَ} : هنا المطر، ومن أسماء المطر السماء. وفي حديث "الموطأ" و "الصحيحين" عن زيد بن خالد الجهني: أنه قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل الحديث. وقال معاوية بن مالك بن جعفر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
والمدرار: الكثيرة الدر والدرور، وهو السيلان، يقال: درت السماء بالمطر، وسماء مدرار.
ومعنى ذلك: أن يتبع بعض الأمطار بعضا.
ومدرار، زنة مبالغة، وهذا الوزن لا تلحقه علامة التأنيث إلا نادرا كما في قول سهل بن مالك الفزاري:
أصبح يهوى حرة معطارة
فلذلك لم تلحق التاء هنا مع أن اسم السماء مؤنث.
والإرسال: مستعار للإيصال والإعطاء، وتعديته ب {عَلَيْكُمْ} لأنه إيصال من علو كقوله: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل:3].
و"أموال": جمع مال وهو يشمل كل مكسب يبذله المرء في اقتناء ما يحتاج إليه.
والمراد بالجنات في قوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ} النخيل والأعناب، لأن الجنات تحتاج إلى السقي.
وإعادة فعل يجعل بعد واو العطف في قوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} للتوكيد اهتماما بشأن المعطوف لأن الأنهار قوام الجنات وتسقي المزارع والأنعام.
وفي هذا دلالة على أن الله يجازي عباده الصالحين بطيب العيش قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وقال {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] وقال {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16].
[13-14] {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} .
بدل خطابه مع قومه من طريقة النصح والأمر إلى طريقة التوبيخ بقوله: {مَا لَكُمْ لا

تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} .
وهو استفهام صورته صورة السؤال عن أمر ثبت لهم في حال انتفاء رجائهم توقير الله.
والمقصود أنه لا شيء يثبت لهم صارف عن توقير الله فلا عذر لكم في عدم توقيره.
وجملة {لا تَرْجُونَ لِلَّهِ} في موضع الحال من ضمير المخاطبين، وكلمة "ما لك" ونحوها تلازمها حال بعدها نحو {فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر:49].
وقد اختلف في معنى قوله: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} في تعلق معمولاته بعوامله على أقوال: بعضها يرجع إلى إبقاء معنى الرجاء على معناه المعروف وهو ترقب الأمر، وكذلك معنى الوقار على المتعارف وهو العظمة المقتضية للإجلال، وبعضها يرجع إلى تأويل معنى الرجاء، وبعضها إلى تأويل معنى الوقار، ويتركب من الحمل على الظاهر ومن التأويل أن يكون التأويل في كليهما، أو أن يكون التأويل في أحدهما مع إبقاء الآخر على ظاهر معناه.
فعلى حمل الرجاء على المعنى المتعارف الظاهر وحمل الوقار كذلك. قال ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح وبن كيسان: ما لكم لا ترجون ثوابا من الله ولا تخافون عقابا، أي فتعبدوه راجين أن يثيبكم على عبادتكم وتوقيركم إياه. وهذا التفسير ينحو إلى أن يكون في الكلام اكتفاء، أي ولا تخافون عقابا. وإن نكتة الاكتفاء بالتعجب من عدم رجاء الثواب: أن ذلك هو الذي ينبغي أن يقصده أهل الرجاء والتقوى. وإلى هذا المعنى قال صاحب الكشاف: إذ صدر بقوله: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب.
وهذا يقتضي أن يكون الكلام كناية تلويحية عن حثهم على الإيمان بالله الذي يستلزم رجاء ثوابه وخوف عقابه لأن من رجا تعظيم الله إياه آمن به وعبده وعمل الصالحات.
وعلى تأويل معنى الرجاء قال مجاهد والضحاك: معنى {لا تَرْجُونَ} لا تبالون لله عظمة. قال قطرب: هذه لغة حجازية لمضر وهذيل وخزاعة يقولون: لم أرج أي لم أبال، وقال الوالبي والعوفي عن ابن عباس: معنى {لا تَرْجُونَ} لا تعلمون، وقال مجاهد أيضا: لا ترون، وعن ابن عباس أنه سأله عنها نافع بن الأزرق، فأجابه أن الرجاء بمعنى الخوف، وأنشد قول أبي ذؤيب:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل
أي لم يخف لسعها واستمر على اشتيار العسل. قال الفراء: إنما يوضع الرجاء موضع الخوف لأن مع الرجاء طرفا من الخوف من الناس ومن ثم استعمل الخوف بمعنى العلم كقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الآية[البقرة:229]. والمعنى: لا تخافون عظمة الله وقدرته بالعقوبة.
وعلى تأويل الوقار قال قتادة: الوقار: العاقبة، أي ما لكم لا ترجون لله عاقبة، أي عاقبة الإيمان، أي أن الكلام كناية عن التوبيخ على تركهم الإيمان بالله، وجعل أبو مسلم الأصفهاني: الوقار بمعنى الثبات، قال: ومنه قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] أي اثبتن، ومعناه: ما لكم لا تثبتون وحدانية الله.
وتتركب من هذين التأويلين معان أخرى من كون الوقار مسندا في التقرير إلى فاعله أو إلى مفعوله، وهي لا تخفى.
وأما قوله: {لله} فالأظهر أنه متعلق ب {تَرْجُونَ} ، ويجوز في بعض التأويلات الماضية أن يكون متعلقا ب {وقارا} : إما تعلق فاعل المصدر بمصدره فتكون اللام في قوله: {لله} لشبه الملك، أي الوقار الذي هو تصرف الله في خلقه إن شاء أن يوقركم، أي يكرمكم بالنعيم، وأما تعلق مفعول المصدر، أي أن توقروا الله وتخشوه ولا تتهاونوا بشأنه تهاون من لا يخافه فتكون اللام لام التقوية.
وجملة {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} حال من ضمير {لكم} أو ضمير {تَرْجُونَ} ، أي في حال تحققكم أنه خلقكم أطوارا.
فأما أنه خلقهم فموجب للاعتراف بعظمته لأنه مكونهم وصانعهم فحق عليهم الاعتراف بجلاله.
وأما كون خلقهم أطوارا فلأن الأطوار التي يعلمونها دالة على رفقه بهم في ذلك التطور، فذلك تعريض بكفرهم النعمة، ولأن الأطوار دالة على حكمة الخالق وعلمه وقدرته، فإن تطور الخلق من طور النطفة إلى طور الجنين إلى طور خروجه طفلا إلى طور الصبا إلى طور بلوغ الأشد إلى طور الشيخوخة وطور الموت على الحياة وطور البلى على الأجساد بعد الموت، كل ذلك والذات واحدة، فهو دليل على تمكن الخالق من كيفيات الخلق والتبديل في الأطوار، وهم يدركون ذلك بأدنى التفات الذهن، فكانوا محقوقين بأن

يتوصلوا به إلى معرفة عظمة الله وتوقع عقابه لأن الدلالة على ذلك قائمة بأنفسهم وهل التصرف فيهم بالعقاب والإثابة إلا دون التصرف فيهم بالكون والفساد.
والأطوار: جمع طور بفتح فسكون، والطور: التارة، وهي المرة من الأفعال أو من الزمان، فأريد من الأطوار هنا ما يحصل في المرات والأزمان من أحوال مختلفة، لأنه لا يقصد من تعدد المرات والأزمان إلا تعدد ما يحصل فيها، فهو تعدد بالنوع لا بالتكرار كقول النابغة:
فإن أفاق لقد طالت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار
وانتصب {أَطْوَارا} على الحال من ضمير المخاطبين، أي تطور خلقهم لأن {أَطْوَارا} صار في تأويل أحوالا في أطوار.
[15-16] {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} .
إن كان هذا من حكاية كلام نوح عليه السلام لقومه كما جرى عليه كلام المفسرين، كان تخلصا من التوبيخ والتعريض إلى الاستدلال عليهم بآثار وجود الله ووحدانيته وقدرته، مما في أنفسهم من الدلائل، إلى ما في العالم منها، لما علمت من إيذان قوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14] من تذكير بالنعمة وإقامة للحجة، فتخلص منه لذكر حجة أخرى فمان قد نبههم على النظر في أنفسهم أولا لأنها أقرب ما يحسونه ويشعرون به ثم على النظر في العالم وما سوي فيه من العجائب الشاهدة على الخالق العليم القدير.
وإن كان من خطاب الله تعالى للأمة وهو ما يسمح به سياق السورة من الاعتبار بأحوال الأمم الماضية المساوية لأحوال المشركين كان هذا الكلام اعتراضا للمناسبة.
والهمزة في {أَلَمْ تَرَوْا} للاستفهام التقريري مكنى به عن الإنكار عن عدم العلم بدلائل ما يرونه.
والرؤيا بصرية. ويجوز أن تكون علمية أي ألم تعلموا فيدخل فيه المرئي من ذلك. وانتصب {كَيْفَ} على المفعول به ل {ترو} ، ف {كَيْفَ} هنا مجردة عن الاستفهام متمحضة للدلالة على الكيفية، أي الحالة.
والمعنى: ألستم ترون هيئة وحالة خلق الله السماوات.

والسماوات: هنا هي مدارات بمعنى الكواكب فإن لكل كوكب مدارا قد يكون هو سماؤه.
وقوله: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} يجوز أن يكون وصف {سبع} معلوما للمخاطبين من قوم نوح، أو من أمة الدعوة الإسلامية بأن يكونوا علموا ذلك من قبل؛ فيكون مما شمله فعل {أَلَمْ تَرَوْا} . ويجوز أن يكون تعليما للمخاطبين على طريقة الإدماج، ولعلهم كانوا سلفا للكلدانيين في ذلك.
و {طباقا} : بعضها أعلى من بعض، وذلك يقتضي أنها منفصل بعضها عن بعض وأن بعضها أعلى من بعض سواء كانت متماسة أو كان بينها ما يسمى بالخلاء.
وقوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} صالح لاعتبار القمر من السماوات، أي الكواكب على الاصطلاح القديم المبني على المشاهدة، لأن ظرفي {في} تكون لوقوع المحوي في حاوية مثل الوعاء، وتكون لوقوع الشيء بين جماعته، كما في حديث الشفاعة وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، وقول النميري:
تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات
والقمر كائن في السماء المماسة للأرض وهي المسماة بالسماء الدنيا، والله أعلم بأبعادها.
وقوله: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} هو بتقدير: وجعل الشمس فيهن سراجا، والشمس من الكواكب.
والإخبار عن القمر بأنه نور مبالغة في وصفه بالإنارة بمنزلة الوصف بالمصدر. والقمر ينير ضوءه الأرض إنارة مفيدة بخلاف غيره من نجوم الليل فإن إنارتها لا تجدي البشر.
والسراج: المصباح الزاهر نوره الذي يوقد بفتيلة في الزيت يضيء التهابها المعدل بمقدار بقاء مادة الزيت تغمرها.
والإخبار عن الشمس من التشبيه البليغ وهو تشبيه، والقصد منه تقريب المشبه من إدراك السامع، فإن السراج كان أقصى ما يستضاء به في الليل وقل من العرب من يتخذوه وإنما كانوا يرونه في أديرة الرهبان أو قصور الملوك وأضرابهم، قال امرؤ القيس:
يضي سناه أو مصابيح راهب ... أمال الذبال بالسليط المفتل

ووصفوا قصر غمدان بالإضاءة على الطريق ليلا.
ولم يخبر عن الشمس بالضياء كما في آية سورة يونس [5] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} ، والمعنى واحد وهو الإضاءة، فلعل إيثار السراج هنا لمقاربة تعبير نوح في لغته، مع ما فيه من الرعاية على الفاصلة، لأن الفواصل التي قبلها جاءت على حروف صحيحة ولو قيل ضياء لصارت الفاصلة همزة والهمزة قريبة من حروف العلة فيثقل الوقف عليها.
وفي جعل القمر نورا إيماء إلى أن ضوء القمر ليس من ذاته فإن القمر مظلم ووفي جعل القمر نورا إيماء إلى أن ضوء القمر ليس من ذاته فإن القمر مظلم وإنما يضيء بانعكاس أشعة الشمس على ما يستقبلها من وجهه بحسب اختلاف ذلك الاستقبال من تبعض وتمام وهو أثر ظهوره هلالا ثم اتساع استنارته إلى أن يصير بدرا، ثم ارتجاع ذلك، وفي تلك الأحوال يضيء على الأرض إلى أن يكون المحاق. وبعكس ذلك جعلت الشمس سراجا لأنها ملتهبة وأنوارها ذاتية فيها صادرة عنها إلى الأرض وإلى القمر مثل أنوار السراج تملأ البيت وتلمع أواني الفضة ونحوها مما في البيت من الأشياء المقابلة.
وقد اجتمع في قوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} استدلال وامتنان.
[17-18] {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} .
أنشأ الاستدلال بخلق السماوات حضور الأرض في الخيال فأعقب نوح به دليله السابق، استدلالا بأعجب ما يرونه من أحوال ما على الأرض وهو حال الموت وإقبار، ومهد لذلك ما يتقدمه من إنشاء الناس.
وأدمج في ذلك تعليمهم بأن الإنسان مخلوق من عناصر الأرض مثل النبات وإعلامهم بأن بعد الموت حياة أخرى.
وأطلق على معنى: أنشأكم، فعل {أَنْبَتَكُمْ} للمشابهة بين إنشاء الإنسان وإنبات النبات من حيث إن كليهما تكوين كما قال تعالى: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران:37]، أي أنشأها وكما يقولون: زرعك الله للخير، ويزيد وجه الشبه هنا قربا من حيث إن إنشاء الإنسان مركب من عناصر الأرض، وقيل التقدير: أنبت أصلكم، أي آدم عليه السلام، قال تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران:59].

و {نَبَاتاً} : اسم من أنبت، عومل معاملة المصدر فوقع مفعولا مطلقا ل {أَنْبَتَكُمْ} للتوكيد، ولم يجر على قياس فعله فيقال: إنباتا، لأن نباتا أخف فلما تسنى الإتيان به لأنه مستعمل فصيح لم يعدل عنه إلى الثقيل كمالا في الفصاحة، بخلاف قوله بعده {إِخْرَاجاً} فإنه لم يعدل عنه إلى: خروجا، لعدم ملاءمته لألفاظ الفواصل قبله المبنية على ألف مثل ألف التأسيس فكما تعد مخالفتها في القافية عيبا كذلك تعد المحافظة عليها في الأسجاع والفواصل كمالا.
وقد أدمج الإنذار بالبعث في خلال الاستدلال، ولكونه أهم رتبة في الاستدلال عليهم بأصل الإنشاء عطفت الجملة ب {ثم} الدالة على التراخي الرتبي في قوله: {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} لأن المقصود من الجملة هو فعل {يُخْرِجُكُمْ} ، وأما قوله: {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ} فهو تمهيد له.
وأكد يخرجكم بالمفعول المطلق لرد إنكارهم البعث.
[19-20] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} .
هذا استدلال وامتنان، ولذلك علق بفعل {جعل} مجرور بلام التعليل وهو {لكم} أي لأجلكم.
والبساط: ما يفرش للنوم عليه والجلوس من ثوب أو زريبة فالإخبار عن الأرض ببساط تشبيه بليغ، أي كالبساط. ووجه الشبه تناسب سطح الأرض في تعادل أجزاءه بحيث لا يوجع أرجل الماشين ولا يقض جنوب المضطجعين، وليس المراد أن الله جعل حجم الأرض كالبساط لأن حجم الأرض كروي، وقد نبه على ذلك بالعلة الباعثة في قوله: {لكم} ، والعلة الغائبة في قوله: {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً} وحصل من مجموع العلتين الإشارة إلى جميع النعم التي تحصل للناس من تسوية سطح الأرض مثل الحرث والزرع، وإلى نعمه خاصة وهي السير في الأرض وخصت بالذكر لأنها أهم لاشتراك كل الناس في الاستفادة منها.
والسبل:جمع سبيل وهو الطريق، أي لتتخذوا لأنفسكم سبلا من الأرض تهتدون بها في أسفاركم.
والفجاج: جمع فج، والفج: الطريق الواسع، وأكثر ما يطلق على الطريق بين جبلين لأنه يكون أوسع من الطريق المعتاد.

[21-23] {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً، وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} .
هذه الجملة بدل من جملة {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي} [نوح:5] بدل اشتمال لأن حكاية عصيان قومه إياه مما اشتملت عليه حكاية أنه دعاهم فيحتمل أن تكون المقالتان في وقت واحد جاء فيه نوح إلى مناجاة ربه بالجواب عن أمره له بقوله: {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح:1] فتكون إعادة فعل {قال} من قبيل ذكر عامل المبدل منه في البدل كقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا ِلأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة:114]، للربط بين كلاميه لوط الفصل بينهما.
ويحتمل أن تكون المقالتان في وقتين جمعها القرآن حكاية لجوابيه لربه، فتكون إعادة فعل {قال} لما ذكرنا مع الإشارة إلى تباعد ما بين القولين.
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما سبقها من قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي} إلى هنا مما يشير عجبا في حال قومه المحكي بحيث يتساءل السامع عن آخر أمرهم، فابتدئ ذكر ذلك بهذه الجملة وما بعدها إلى قوله: {أَنْصَارًا} [نوح:25]. وتأخير هذا بعد عن قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا} [نوح:5] ارتقاء في التذمر منهم لأن هذا حكاية حصول عصيانهم بعد تقديم الموعظة إليهم بقوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} إلى قوله: {سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح:11-20].
وإظهار اسم {نوح} مع القول الثاني دون إضمار لبعد معاد الضمير لو تحمله الفعل، وهذا الخبر مستعمل في لازم معناه، كما تقدم في قوله: {قَالَ رَبِّ} الخ. وتأكيد الخبر ب"إن" للاهتمام بما استعمل فيه من التحسر والاستنصار.
ثم ذكر أنهم أخذوا بقول الذين يصدونهم عن قبول دعوة نوح، أي اتبعوا سادتهم وقادتهم. وعدل عن التعبير عنهم بالكبراء ونحوه إلى الموصول لما تؤذن به الصلة من بطرهم نعمة الله عليهم بالأموال والأولاد. فقلبوا النعمة عندهم موجب خسار وضلال.
وأدمج في الصلة أنهم أهل أموال وأولاد إيماء إلى أن ذلك سبب نفاذ قولهم في قومهم وائتمار القوم بأمرهم: فأموالهم إذا أنفقوها لتأليف أتباعهم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36]، وأولادهم أرهبوا بهم من

يقاومهم.
والمعنى: واتبعوا أهل الأموال والأولاد التي لم تزدهم تلك الأموال والأولاد إلا خسارا لأنهم استعملوها في تأييد الكفر والفساد فزادتهم خسارا إذ لو لم تكن لهم أموال ولا أولاد لكانوا أقل ارتكابا للفساد قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11].
والخسار: مستعار لحصول الشر من وسائل شأنها أن تكون سبب خير كخسارة التاجر من حيث أراد الربح، فإذا كان هؤلاء خاسرين فالذين يتبعونهم يكونون مثلهم في الخسارة وهم يحسبون أنهم أرشدوهم إلى النجاح.
وما صدق {من} فريق من القوم أهل مال وأولاد ازدادوا بذلك بطرا دون الشكر وهم سادتهم، ولذلك أعيد عليه ضمير الجمع في قوله: {وَمَكَرُوا} ، وقوله: {وَقَالُوا} ، وقوله: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح:24].
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {وَوَلَدُهُ} بفتح الواو وفتح اللام، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {وَوُلَدُهُ} بضم الواو وسكون اللام، فأما الولد بفتح الواو وفتح اللام فاسم يطلق على الواحد من الأولاد وعلى الجمع فيكون اسم جنس، وأما ولد بضم فسكون فقيل: هو لغة في ولد فيستوي فيه الواحد والجمع مثل الفلك. وقيل: هو جمع ولد مثل أسد جمع أسد.
والمكر: إخفاء العمل، أو الرأي الذي يراد به ضر الغير، أي مكروا بنوح والذين آمنوا معه بإضمار الكيد لهم حتى يقعوا في الضر قيل كانوا يدبرون الحيلة على قتل نوح وتحريش الناس على أذاه وأذى أتباعه.
و {كُبَّاراً} : مبالغة، أي كبيرا جدا وهو وارد بهذه الصيغة في ألفاظ قليلة مثل طوال، أي طويل جدا، وعجاب، أي عجيب، وحسان، وجمال، أي جميل وقراء لكثير القراءة، ووضاء، أي وضيء. قال عيسى بن عمر: هي لغة يمانية.
{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} الخ، أي قال بعضهم لبعض: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، هذه أصنام قوم نوح، وبهذا تعلم أن أسماءها غير جارية على اشتقاق الكلمات العربية، وفي واو "ود" لغتان للعرب منهم من يضم الواو، وبه قرأ نافع وأبو جعفر. ومنهم من يفتح الواو وكذلك قرأ الباقون.

روى البخاري عن ابن عباس: "ود وسواع وغوث ويعوق ونسر: أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت"، وعن محمد بن كعب: هي أسماء أبناء خمسة لآدم عليه السلام وكانوا عبادا. وعن الماوردي أن {ودا} أول صنم معبود.
والآية تقتضي أن هذه الأنصاب عبدت قبل الطوفان وقد قال بعض المفسرين: كانوا أصناما بين زمن آدم وزمن نوح.
ولا يلتئم هذا مع حدوث الطوفان إذ لا بد أن يكون جرفها وخلص البشر من الإشراك بعد الطوفان، ومع وجود هذه الأسماء في قبائل العرب إلى زمن البعثة المحمدية، فقد كان في دومة الجندل بلاد كلب صنم اسمه "ود". قيل كان على صورة رجل وكان من صفر ورصاص وكان على صورة امرأة، وكان لهذيل صنم اسمه "سواع" وكان لمراد وغطيف "بغين معجمة وطاء مهملة" بطن من مراد بالجوف عند سبأ صنم اسمه {يغوث} ، وكان أيضا لغطفان وأخذته أنعم وأعلى وهما من طيء وأهل جرش من مذحج فذهبوا به إلى مراد فعبدوه، ثم إن بني ناجية راموا نزعه من أعلى وأنعم ففروا به إلى الحصين أخي بني الحارث من خزاعة. قال أبو عثمان النهدي: رأيت يغوث من رصاص وكانوا يحملونه على جمل أحرد "بالحاء المهملة، أي يخبط بيديه إذا مشى" ويسيرون معه ولا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك فإذا برك نزلوا وقالوا قد رضي لكم المنزل فيضربون عليه بناء ينزلون حوله.
وكان يغوث على صورة أسد.
وكان لهمدان صنم اسمه {يعوق} وهو على صورة فرس، وكان لكهلان من سبأ ثم توارثه بنوه حتى صار إلى همدان.
وكان لحمير ولذي الكلاع منهم صنم اسمه "نسر" على صورة النسر من الطير. وهذا مروي في "صحيح البخاري" عن ابن عباس. وقال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح إلى العرب اه. فيجوز أن تكون انتقلت بأعيانها ويجوز أن يكون العرب سموا عليها ووضعوا لها صورا.

ولقد اضطر هذا بعض المفسرين إلى تأويل نظم الآية بأن معاد ضمير {قالوا} إلى مشركي العرب، وأن ذكر ذلك في أثناء قصة قوم نوح بقصد التنظير، أي قال العرب بعضهم لبعض: لا تذرن آلهتكم ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كما قال قوم نوح لأتباعهم {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ، ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح، وهو تكلف بين وتفكيك لأجزاء نظم الكلام. فالأحسن ما رآه بعض المفسرين وما نريده بيانا: أن أصنام قوم نوح قد دثرت وغمرها الطوفان وأن أسماءها بقيت محفوظة عند الذين نجوا مع نوح من المؤمنين فكانوا يذكرونها ويعظون ناشئتهم بما حل بأسلافهم من جراء عبادة تلك الأصنام، فبقيت تلك الأسماء يتحدث بها العرب الأقدمون في أثارات عملهم وأخبارهم، فجاء عمر بن لحي الخزاعي الذي أعاد للعرب عبادة الأصنام فسمى لهم الأصنام بتلك الأسماء وغيرها فلا حاجة بالمفسر إلى التطوع إلى صفات الأصنام التي كانت لها هذه الأسماء عند العرب ولا إلى ذكر تعيين القبائل التي عبدت مسميات هذه الأسماء.
ثم يحتمل أن يكون لقوم نوح أصنام كثيرة جمعها قوم كبراءهم: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ، ثم خصوا بالذكر أعظمها وهي هذه الخمسة، فيكون ذكرها من عطف الخاص على العام للاهتمام به كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]. ويحتمل أن لا يكون لهم غير تلك الأصنام الخمسة فيكون ذكرها مفصلة بعد الإجمال للاهتمام بها ويكون العطف من قبيل عطف المرادف.
ولقصد التوكيد أعيد فعل النهي {وَلا تَذَرُنَّ} ولم يسلك طريق الإبدال، والتوكيد اللفظي قد يقرن بالعاطف كقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الإنفطار:17-18].
ونقل عن الآلوسي في طرة تفسيره لهذه الآية هذه الفقرة قد أخرج الإفرنج في حدود الألف والمائتين والستين أصناما وتماثيل من أرض الموصل كانت منذ نحو من ثلاثة آلاف سنة. وتكرير {لا} النافية في قوله: {وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ} لتأكيد النفي الذي في قوله: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} وعدم إعادة {لا} مع قوله: {وَيَعُوقَ وَنَسْراً} لأن الاستعمال جار على أن لا يزاد في التأكيد على ثلاث مرات.
وقرأ نافع وأبو جعفر {ودا} بضم الواو. وقرأها غيرهما بفتح الواو، وهو اسم عجمي يتصرف فيه لسان العرب كيف شاؤا.

[24] {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً} .
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} .
عطف على {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ، أي أضلوا بقولهم هذا وبغيره من تقاليد الشرك كثيرا من الأمة بحيث ما آمن مع نوح إلا قليل.
{وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً}
يجوز أن تكون هذه الجملة تتمة كلام نوح متصلة بحكاية كلامه السابق، فتكون الواو عاطفة جزء جملة مقولة لفعل {قَالَ} [نوح:21] على جزئها الذي قبلها عطف المفاعيل بعضها على بعض كما تقول قال امرؤ القيس قفا نبك. ختم نوح شكواه إلى الله بالدعاء على الضالين المتحدث عنهم بأن يزيدهم الله ضلالا.
ولا يريبك عطف الإنشاء على الخبر لأن منع عطف الإنشاء على الخبر على الإطلاق غير وجيه والقرآن طافح به.
ويجوز أن تكون جملة {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً} غير متصلة بحكاية كلامه في قوله: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [نوح:21] بل هو حكاية كلام آخر له صدر في موقف آخر فتكون الواو عاطفة جملة مقولة قول على جملة مقولة قول آخر، أي نائبة عن فعل قال كما تقول: قال امرؤ القيس:
قفا نبك
و:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
وقد نحا هذا المعنى من يأبون عطف الإنشاء على الخبر.
والمراد ب {الظَّالِمِينَ} : قومه الذين عصوه فكان مقتضى الظاهر التعبير عنهم بالضمير عائدا على قومي من قوله: {دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا} [نوح:5] فعدل عن الإضمار إلى الإظهار على خلاف مقتضى الظاهر لما يؤذن به وصف {الظَّالِمِينَ} من استحقاقهم لحرمان من عناية الله بهم لظلمهم، أي إشراكهم بالله، فالظلم هنا الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].

والضلال، مستعار لعدم الاهتداء إلى طرائق المكر الذي خشي نوح غائلته في قوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح:22]، أي حل بيننا وبين مكرهم ولا تزدهم إمهالا في طغيانهم علينا إلا أن تضللهم عن وسائله، فيكون الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أو أراد إبهام طرق النفع عليهم حتى تنكسر شوكتهم وتلين شكيمتهم نظير قول موسى عليه السلام {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88].
وليس المراد بالضلال الضلال عن طريق الحق والتوحيد لظهور أنه ينافي دعوة نوح قومه إلى الاستغفار والإيمان بالبعث فكيف يسأل الله أن يزيدهم منه.
ويجوز أن يكون الضلال أطلق على العذاب المسبب عن الضلال، أي في عذاب يوم القيامة وهو عذاب الإهانة والآلام.
ويجوز أن تكون جملة معترضة وهي من كلام الله تعالى لنوح فنكون الواو اعتراضية ويقدر قول محذوف: وقلنا لا تزد الظالمين. والمعنى: ولا تزد في دعائهم فإن ذلك لا يزيدهم إلا ضلالا، فالزيادة منه تزيدهم كفرا وعنادا. وبهذا يبقى الضلال مستعملا في معناه المشهور في اصطلاح القرآن، فصيغة النهي مستعملة في التأييس من نفع دعوته إياهم. وأعلم الله نوحا أنه مهلكهم بقوله: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} الآية [نوح:25] وهذا في معنى قوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود:36-37].
ألا ترى إن ختام كلتا الآيتين متحد المعنى من قوله هنا {أُغْرِقُوا} وقوله في الآية الأخرى {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} .
[25] {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً} .
جملة معترضة بين مقالات نوح عليه السلام وليست من حكاية قول نوح فهي إخبار من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه قدر النصر لنوح والعقاب لمن عصوه من قوله قبل أن يسأله نوح استئصالهم فإغراق قوم نوح معلوم للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما قصد إعلامه بسببه.
والغرض من الاعتراض بها التعجيل بتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه مما يماثل ما لاقاه نوح من قومه على نحو قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ

الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].
ويجوز أن تكون متصلة بجملة {وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} [نوح:24] على الوجه الثاني المتقدم فيها من أن تكون من كلام الله تعالى الموجه إلى نوح بتقدير: وقلنا لا تزد الظالمين إلا ضلالا، وتكون صيغة المضي في قوله: {أُغْرِقُوا} مستعملة في تحقق الوعد لنوح بإغراقهم، وكذلك قوله: {فَأُدْخِلُوا نَاراً} .
وقدم {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} على عامله بإفادة القصر، أي أغرقوا فأدخلوا نارا من أجل مجموع خطيئاتهم لا لمجرد استجابة دعوة نوح التي ستذكر عقب هذا ليعلم أن الله لا يقر عباده على الشرك بعد أن يرسل إليهم رسولا وإنما تأخر عذابهم إلى ما بعد دعوة نوح لإظهار كرامته عند ربه بين قومه ومسرة له وللمؤمنين معه وتعجيلا لما يجوز تأخيره.
و"من" تعليلية، و"ما" مؤكدة لمعنى التعليل.
وجمع الخطيئات مراد بها الإشراك، وتكذيب الرسول، وأذاه، وأذى المؤمنين معه، والسخرية منه حين توعدهم بالطوفان، وما ينطوي عليه ذلك كله من الجرائم والفواحش.
وقرأ الجمهور {خَطِيئَاتِهِمْ} بصيغة جمع خطيئة بالهمزة. وقرأه أبو عمرو وحده {خطاياهم} جمع خطية بالياء المشددة مدغمة فيها الياء المنقلبة عن همزة للتخفيف.
وفي قوله: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} محسن الطباق لأن بين النار والغرق المشعر بالماء تضادا.
وتفريع {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً} تعريض بالمشركين من العرب الذين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وتدفع عنهم الكوارث يعني في الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث، أي كما لم تنصر الأصنام عبدتها من قوم نوح كذلك لا تنصركم أصنامكم.
وضمير {يَجِدُوا} عائد إلى {الظَّالِمِينَ} من قوله: {وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} [نوح:24] وكذلك ضمير {لهم} .
والمعنى: فلم يجدوا لأنفسهم أنصارا دون عذاب الله.
[26-27] {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} .

عطف على {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [نوح:21] أعقبه بالدعاء عليهم بالإهلاك والاستئصال بأن لا يبقي منهم أحدا، أي لا تبق منهم أجدا على الأرض.
وأعيد فعل {قَالَ} لوقوع الفصل بين أقوال نوح بجملة {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح:25] الخ، أوبها وبجملة {وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} [نوح:24].
وقرنت بواو العطف لتكون مستقلة فلا تتبع جملة {إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} للإشارة إلى أن دعوة نوح حصلت بعد شكايته بقوله: {إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} .
و {دَيَّارًا} : اسم مخصوص بالوقوع في النفي يعم كل إنسان، وهو اسم من وزن فيعال مشتق من اسم الدار فعينه واو لأن عين دار مقدرة واوا، فأصل ديار: ديوار فلما اجتمعت الواو والياء واتصلتا وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء ثم أدغمت بالياء الزائدة كما فعل بسيد وميت. ومعنى ديار: من يحل بدار القوم كناية عن إنسان.
ونظير {دَيَّارًا} في العموم والوقوع في النفي أسماء كثيرة في كلام العرب أبلغها أبن السكيت في إصلاح المنطق إلى خمسة وعشرين، وزاد كراع النمل سبعة فبلغت اثنين وثلاثين اسما، وزاد ابن مالك في التسهيل ستة فصارت ثمانية وثلاثين.
ومن أشهرها: آحد، وديار، وعريب وكلها بمعنى الإنسان، ولفظ {بد} بضم الموحدة وتشديد الدال المهملة وهو المفارقة.
وجملة {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} تعليل لسؤاله أن لا يترك الله على الأرض أحدا من الكافرين يريد أنه خشي أن يضلوا بعض المؤمنين وأن يلدوا أبناء ينشأون على كفرهم.
والأرض يجوز أن يراد بها جميع الكرة الدنيوية، وأن يراد أرض معهودة للمتكلم والمخاطب كما في قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} يعني أرض مصر في سورة يوسف: [55].
ويحتمل أن يكون البشر يومئذ منحصرين في قوم نوح، ويجوز خلافه، وعلى هذه الاحتمالات ينشأ احتمال أن يكون الطوفان قد غمر جميع الكرة الأرضية، واحتمال أن يكون طوفانا قاصرا على ناحية كبيرة من عموم الأرض، والله أعلم. وقد تقدم ذلك عند تفسير قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} في سورة الأعراف: [64].

وخبر {إنك} مجموع الشرط مع جوابه الواقع بعد "إن" لأنه إذا اجتمع مبتدأ وشرط رجح الشرط على المبتدأ فأعطي الشرط الجواب ولم يعط المبتدأ خبرا لدلالة جملة الشرط وجوابه عليه.
وعلم نوح أنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا بأن أولادهم ينشأون فيهم فيلقنونهم دينهم ويصدون نوحا عن أن يرشدهم فحصل له علم بهذه القضية بدليل التجربة.
والمعنى: ولا يلدوا إلا من يصير فاجرا كفارا عند بلوغه سن العقل.
والفاجر: المتصف بالفجور، وهو العمل الشديد الفساد.
والكفار: مبالغة في الموصوف بالكفر، أي إلا من يجمع بين سوء الفعل وسوء الاعتقاد، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:42].
وفي كلام نوح دلالة على أن المصلحين يهتمون بإصلاح جيلهم الحاضر ولا يهملون تأسيس أسس إصلاح الأجيال الآتية إذ الأجيال كلها سواء في نظرهم الإصلاحي. وقد انتزع عمر بن الخطاب من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] دليلا على إبقاء أرض سواد العراق غير مقسومة بين الجيش الذي فتح العراق وجعلها خراجا لأهلها قصدا لدوام الرزق منها لمن سيجيء من المسلمين.
[28] {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} .
جعل الدعاء لنفسه ووالديه خاتمة مناجاته فابتدأ بنفسه ثم بأقرب الناس به وهما والداه، ثم عمم أهله وذويه المؤمنين فدخل أولاده وبنوه والمؤمنات من أزواجهم وعبر عنهم بمن دخل بيته كناية عن سكناهم معه، فالمراد بقوله: {دَخَلَ بَيْتِيَ} دخول مخصوص وهو الدخول المتكرر الملازم. ومنه سميت بطانة المرء دخيلته ودخلته ثم عمم المؤمنين والمؤمنات، ثم عاد بالدعاء على الكفرة بأن يحرمهم الله النجاح وهو على حد قوله المتقدم {وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} [نوح:24].
والتبار: الهلاك والخسار، فهو تخصيص للظالمين من قومه بسؤال استئصالهم بعد أن شملهم وغيرهم بعموم قوله: {لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] حرصا على سلامة المجتمع الإنساني من شوائب المفاسد وتطهيره من العناصر الخبيثة.

ووالداه: أبوه وأمه، وقد ورد اسم أبيه في التوراة لمك وأما أمه فقد ذكر الثعلبي أن اسمها شمخى بنت آنوش.
وقرأ الجمهور {بيتي} بسكون ياء المتكلم. وقرأه حفص عن عاصم بتحريكها.
واستثناء {إِلَّا تَبَاراً} منقطع لأن التبار ليس من الزيادة المدعو بنفيها فإنه أراد لا تزدهم من الأموال والأولاد لأن في زيادة ذلك لهم قوة لهم على أذى المؤمنين. وهذا كقول موسى عليه السلام {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [يونس:88] الآية. وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا} [نوح:6].

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجنسميت في كتب التفسير وفي المصاحف التي رأيناها ومنها لكوفي المكتوب بالقيروان في القرن الخامس "سورة الجن". وكذلك ترجمها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه ، وترجمها البخاري في كتاب التفسير "سورة قل أوحي ألي".
واشتهر على ألسنة المكتبين والمتعلمين في الكتاتيب القرآنية باسم {قُلْ أُوحِيَ} [الجن:1].
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور التي لها أكثر من اسم ووجه التسميتين ظاهر.
وهي مكية بالاتفاق.
ويظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة. ففي الصحيحين وجامع الترمذي من حديث ابن عباس أنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وأنه استمع فريق من الجن إلى قراءته فرجعوا إلى طائفتهم فقالوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] وأنزل اله على نبيه {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ} [الجن:1].
وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة بعد سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف، أي وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة.
وقد عدت السورة الأربعين في نزول السور نزلت بعد الأعراف وقبل يس.
واتفق أهل العدد على عد آيها ثمانا وعشرين.

أغراضها
إثبات كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن دعوته بلغت إلى جنس الجن وإفهامهم فهم معان من القرآن الذي استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وفهم ما يدعوا إليه من التوحيد والهدى، وعلمهم بعظمة الله وتنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد.
وإبطال عبادة ما يبعد من الجن.
وإبطال الكهانة وبلوغ علم الغيب إلى غير الرسل الذين يطلعهم الله على ما يشاء.
وإثبات أن لله خلقا يدعون الجن وأنهم أصناف منهم الصالحون ومنهم دون ذلك بمراتب، وتضليل الذين يقولون على الله ما لم يقله، والذين يعبدون الجن، والذين ينكرون البعث، وأن الجن لا يفلتون من سلطان الله تعالى.
وتعجبهم من الإصابة برجوم الشهب المانعة من استراق السمع، وفي المراد من هذا المنع والتخلص من ذلك إلى ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من في شأن القحط الذي أصاب المشركين لشركهم ولمنعهم مساجد الله، وإنذارهم بأنهم سيندمون على تألبهم على النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولتهم منهم العدول عن الطعن في دينهم.
[1-2] {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} .
افتتاح السورة بالأمر بالقول يشير إلى أن ما سيذكر بعده حدث غريب وخاصة بالنسبة للمشركين الذين هم مظنة التكذيب به كما يقتضيه قوله: {كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن:7] حسبما يأتي.
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعلم المسلمين وغيرهم بأن اله أوحى إليه وقوع حدث عظيم في دعوته أقامه الله تكريما لنبيه وتنويها بالقرآن وهو أن سخر بعض من النوع المسمى جنا لاستماع القرآن وألهمهم أو علمهم فهم ما سمعوه واهتداءهم إلى مقدار إرشاده إلى الحق والتوحيد وتنزيه الله والإيمان بالبعث والجزاء فكانت دعوة الإسلام في أصولها بالغة إلى عالم من العوالم المغيبة لا علاقة لموجوداته بالتكاليف ولا بالعقائد بل هو عالم مجهول أهله على ما جبلوا عليه من خير أو شر لا يعدوا أحدهم في مدة الدنيا جبلته فيكون على معيارها مصيره الأبدي في الحياة الآخرة ولذلك لم يبعث إليهم بشرائع.

وقد كشف الله لهذا الفريق منهم حقائق من عقيدة الإسلام وهديه ففهموه.
هذا العالم هو عالم الجن وهو بحسب ما يستخلص من ظواهر القرآن ومن صحاح الأخبار النبوية وحسنها نوع من المجردات أعني الموجودات اللطيفة غير الكثيفة، الخفيفة عن حاسة البصر والسمع، منتشرة في أمكنة مجهولة ليست على سطح الأرض ولا في السماوات بل هي في أجواء غير محصورة وهي من مقولة الجوهر من الجواهر المجردات أي ليست أجساما ولا جسمانيات بل هي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري ولها حياة واردة وإدراك خاص بها لا يدرى مداه. وهذه المجردات النارية جنس من أجناس الجواهر تحتوي على الجن وعلى الشياطين فهما نوعان لجنس المجردات النارية لها إدراكات خاصة وتصرفات محدودة وهي مغيبة عن الأنظار ملحقة بعالم الغيب لا تراها الأبصار ولا تدركها أسماع الناس إلا إذا أوصل الله الشعور بحركاتها وإرادتها إلى البشر على وجه المعجزة خرقا للعادة لأمر قضاه الله وأراده.
وبتعاضد هذه الدلائل وتناصرها وإن كان كل واحد منها لا يعدوا أنه ظني الدلالة وهي ظواهر القرآن، أو ظني المتن والدلالة وهي الأحاديث الصحيحة، حصل ما يقتضي الاعتقاد بوجود موجودات خفية تسمى الجن فتفسر بذلك معاني آيات من القرآن وأخبار من السنة.
وليس ذلك مما يدخل في أصول عقيدة الإسلام ولذلك لم نكفر منكري وجود موجودات معينة من هذا النوع إذ لم تثبت حقيقتها بأدلة قطعية، بخلاف حال من يقول: إن ذكر الجن لم يذكر في القرآن بعد علمه بآيات ذكره.
وأما ما يروى في الكتب من أخبار جزئية في ظهورهم للناس وإتيانهم بأعمال عجيبة فذلك من الروايات الخيالية.
وإنا لم نلق أحدا من إثبات العلماء الذين لقيناهم من يقول: إنه رأي أشكالهم أو آثارهم وما نجد تلك القصص إلا على ألسنة الذين يسرعون إلى التصديق بالأخبار أو تغلب عليهم التخيلات.
وإن كان فيهم من لا يتهم بالكذب ولكنه مما يضرب له مثل قول المعري:
ومثلك من تخيل ثم خالا
فظهور الجن للنبي صلى الله عليه وسلم تارات كما في حديث الجني الذي تفلت ليفسد عليه صلاته

وهو من معجزاته مثل رؤيته الملائكة ورؤيته الجنة والنار في حائط القبلة وظهور الشيطان لأبي هريرة في حديث زكاة الفطر.
وقد مضى ذكر الجن عند قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} في سورة الأنعام: [100] وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} في سورة الأعراف: [179].
والذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم أنه أوحي إليه بخبر الجن: هم جميع الناس الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يبلغهم القرآن من المسلمين والمشركين أراد الله إبلاغهم هذا الخبر لما له من دلالة على شرف هذا الدين وشرف كتابه وشرف من جاء به، وفيه إدخال مسرة على المسلمين وتعريض بالمشركين إذ كان الجن قد أدركوا شرف القرآن وفهموا مقاصده وهم لا يعرفون لغته ولا يدركون بلاغته فأقبلوا عليه، والذين جاء بلسانهم وأدركوا خصائص بلاغته أنكروه وأعرضوا عنه.
وفي الإخبار عن استماع الجن للقرآن بأنه أوحي إليه ذلك إيماء إلى أنه ما علم بذلك إلا بإخبار الله إياه بوقوع هذا الاستماع، فالآية تقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم بحضور الجن لاستماع القرآن قبل نزول هذه الآية.
وأما آية الأحقاف [29] {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الآيات، فتذكير بما في هذه الآية أو هي إشارة إلى قصة أخرى رواها عبد الله بن مسعود وهي في صحيح مسلم في أحاديث القراءة في الصلوات ولا علاقة لها بهذه الآية.
وقوله: { أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} في موضع نائب فاعل {أوحي} أي أوحي إلي استماع نفر. وتأكيد الخبر الموحى بحرف "أن" للاهتمام به ولغرابته.
وضمير {أنه} ضمير الشأن وخبره جملة {اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وفي ذلك زيادة اهتمام بالخبر الموحى به.
ومفعول {اسْتَمَعَ} محذوف دل عليه {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً} ، أي استمع القرآن نفر من الجن.
والنفر: الجماعة من واحد إلى عشرة وأصله في اللغة لجماعة من البشر فأطلق على جماعة من الجن على وجه التشبيه إذ ليس في اللغة لفظ آخر كما أطلق رجال في قوله: {يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ} [الجن:6] على شخوص الجن. وقولهم {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} قالوه لبعض منهم لم يحضر لاستماع القرآن ألهمهم الله أن ينذروهم ويرشدوهم إلى

الصلاح قال تعالى في سورة الأحقاف [29-30] {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا} الآيات.
ومعنى القول هنا: إبلاغ مرادهم إلى من يريدون أن يبلغوه إليهم من نوعهم بالكيفية التي يتفاهمون بها، إذ ليس للجن ألفاظ تجري على الألسن، فيما يظهر فالقول هنا مستعار للتعبير عما في النفس مثل قوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل:18] فيكون ذلك تكريما لهذا الدين أن جعل الله له دعاة من الثقلين.
ويجوز أن يكون قولا نفسيا، أي خواطر جالت في مدركاتهم جولان القول الذي ينبعث عن إرادة صاحب الإدراك به إبلاغ مدركاته لغيره، فإن مثل ذلك يعبر عنه بالقول كما في بيت النابغة يتحدث عن كلب صيد:
قالت له النفس إني لا أرى طمعا ... وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8].
وتأكيد الخبر ب"أن" لأنهم أخبروا به فريقا منهم يشكون في وقوعه فأتوا بكلامهم بما يفيد تحقيق ما قالوه وهو الذي يعبر عن مثله في العربية بحرف "إن".
ووصف القرآن بالعجب وصف بالمصدر للمبالغة في قوة المعنى، أي يعجب منه، ومعنى ذلك أنه بديع فائق في مفاده.
وقد حصل لهم العلم بمزايا القرآن بانكشاف وهبهم الله إياه. قال المازري في "شرح صحيح مسلم" لا بد لمن آمن عند سماع القرآن أن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة. وبعد ذلك يقع العلم بصدق الرسول؛ فإما أن يكون الجن قد علموا ذلك أو علموا من كتب الرسل المتقدمة ما دلهم على أنه هو النبي الأمي الصادق المبشر به اه. وأنا أقول حصل للجن علم جديد بذلك بإلهام من الله لأدلة كانوا لا يشعرون بها إذ لم يكونوا مطالبين بمعرفتها، وأن فهمهم للقرآن من قبيل الإلهام خلقه الله فيهم على وجه خرق العادة كرامة للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن.
والإيمان بالقرآن يقتضي الإيمان بمن جاء به وبمن أنزله ولذلك قالوا {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} .
وقد حصل لهؤلاء النفر من الجن شرف المعرفة بالله وصفاته وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم

وصدق القرآن وما احتوى عليه ما سمعوه منه فصاروا من خيرة المخلوقات، وأكرموا بالفوز في الحياة الآخرة فلم يكونوا ممن ذرأ الله لجهنم من الجن والإنس.
ومتعلق {اسْتَمَعَ} محذوف دل عليه قوله بعده {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} .
و {الرُّشْدِ} : بضم الراء وسكون الشين أو يقال بفتح الراء وفتح الشين هو الخير والصواب والهدى. واتفقت القراءات العشر على قراءته بضم فسكون.
وقولهم: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} ، أي ينتفي ذلك في المستقبل. وهذا يقتضي أنهم كانوا مشركين ولذلك أكدوا نفي الإشراك بحرف التأييد فكما أكد خبرهم عن القرآن والثناء عليه ب"إن" أكد خبرهم عن إقلاعهم عن الإشراك ب {لن} .
[3] {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} .
هذا محكي عن كلام الجن، قرأه الجمهور بكسر همزة {إنه} على اعتباره معطوفا على قولهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} إذ يجب كسر همزة "إن" إذا حكيت بالقول.
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة على أنه معطوف على الضمير المجرور بالباء في قوله: {فَآمَنَّا بِهِ} أي آمنا بأنه تعالى جد ربنا. وعدم إعادة الجار مع المعطوف على المجرور بالحرف مستعمل، وجوزه الكوفيون، على أنه حرف الجر كثير حذفه مع "أن" فلا ينبغي أن يختلف في حذفه هنا على التأويل.
قال في الكشاف: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} [الجن:1] بالفتح لأنه فاعل أوحي أي نائب الفاعل {إِنَّا سَمِعْنَا} بالكسر لأنه مبتدأ محكي بعد القول ثم تحمل عليها البواقي فما كان من الوحي فتح وما كان من قول الجن كسر، وكلهن من قولهم إلا الثنتين الأخريين: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18]، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن:19] ومن فتح كلهن فعطفا على محل الجار والمجرور في {آمَنَّا بِهِ} [الجن:2] كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي اه.
والتعالي: شدة العلو، جعل شديد العلو كالمتكلف العلو لخروج علوه عن غالب ما تعارفه الناس فأشبه التكلف.

والجد: بفتح الجيم العظمة والجلال، وهذا تمهيد وتوطئة لقوله: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} لأن اتخاذ الصاحبة للافتقار إليها لأنسها وعونها والالتذاذ بصحبتها، وكل ذلك من آثار الاحتياج، والله تعالى الغني المطلق، وتعالى جده بفناه المطلق، والولد يرغب فيه للاستعانة والأنس به، مع ما يقتضيه من انفصاله من أجزاء والديه وكل ذلك من الافتقار والانتقاص.
وضمير {إنه} ضمير شأن وخبره جملة {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} .
وجملة {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً} إلى آخرها بدل اشتمال من جملة {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} .
وتأكيد الخبر ب"إن" سواء كانت مكسورة أو مفتوحة لأنه مسوق إلى فريق يعتقدون خلاف ذلك من الجن.
والاقتصار في بيان تعالي جد الله على انتفاء الصاحبة عنه والولد ينبئ بأنه كان شائعا في علم الجن ما كان يعتقده المشركون أن الملائكة بنات الله من سروات الجن وما اعتقاد المشركين إلا ناشئ عن تلقين الشيطان وهو من الجن، ولأن ذلك مما سمعوه من القرآن مثل قوله تعالى سبحانه: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} في سورة الأنعام [101].
وإعادة {لا} النافية مع المعطوف للتأكيد للدلالة على أن المعطوف منفي باستقلاله لدفع توهم نفي المجموع.
وضمير الجماعة في قوله: {ربنا} عائد إلى كل متكلم مع تشريك غيره، فعلى تقدير أنه من كلام الجن فهو قول كل واحد منهم عن نفسه ومن معه من بقية النفر.
[4] {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} .
قرأه الجمهور بكسرة همزة {وإنه} . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة كما تقدم في قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:3] فقد يكون إيمانهم بتعالي الله عن أن يتخذ صاحبة وولدا ناشئا على ما سمعوه من القرآن وقد يكون ناشئا عن إدراكهم ذلك بأدلة نظرية.
والسفيه: هنا جنس، وقيل: أرادوا به إبليس، أي كان يلقنهم صفات الله بما لا يليق بجلاله، أي كانوا يقولون على الله شططا بل نزول القرآن بتسفيههم في ذلك.

والشطط: مجاوزة الحد وما يخرج عن العدل والصواب، وتقدم في قوله تعالى: {وَلاَ تُشْطِطْ} في سورة [ص:22]. والمراد بالشطط إثبات ما نفاه قوله: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:2] وقوله: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [الجن:3]. وضمير {وإنه} ضمير الشأن.
والقول فيه وفي التأكيد ب"إن" مكسورة أو مفتوحة كالقول في قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:3] الخ.
[5] {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} .
قرأ همزة {أن} بالكسر الجمهور وأبو جعفر، وقرأها بالفتح ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي وخلف.
فعلى قراءة كسر "إن" هو من المحكي بالقول، ومعناه الاعتذار عما اقتضاه قولهم {فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:2] من كونهم كانوا مشركين لجهلهم وأخذهم قول سفهائهم يحسبونهم لا يكذبون على الله.
والتأكيد ب {إن} لقصد تحقيق عذرهم فيما سلف من الإشراك، وتأكيد المظنون ب {لن} المفيدة لتأييد النفي يفيد أنهم كانوا متوغلين في حسم ظنهم بمن ضللوهم ويدل على أن الظن هنا بمعنى اليقين وهو يقين مخطئ.
وعلى قراءة الفتح هو عطف على المجرور بالباء في قوله: {فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:2] فالمعنى: وآمنا فإنما ظننا ذلك فأخطأنا في ظننا.
وفي هذه الآية إشارة إلى خطر التقليد في العقيدة، وأنها لا يجوز فيها الأخذ بحسن الظن بالمقلد بفتح اللام بل يتعين النظر واتهام رأي المقلد حتى ينهض دليله.
وقرأ الجمهور {تقول} بضم القاف وسكون الواو. وقرأه يعقوب بفتح القاف والواو مشددة، من التقول وهو نسبة كلام إلى من يقله وهو في معنى الكذب وأصله تتقول بتائين فعلى هذه القراءة يكون {كذبا} مصدرا مؤكدا لفعل {تقَوَّل} لأنه مرادفه.
[6] {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} .
قرأ الجمهور همزة {وإنه} بالكسر. وقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو

جعفر وخلف بفتح الهمزة عطفا على المجرور بالباء، والمقصود منه هو قوله: {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} وأما قوله: {كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ} الخ، فهو تمهيد لما بعده.
وإطلاق الرجال على الجن عن طريق التشبيه والمشاكلة لوقوعه مع رجال من الإنس فإن الرجل اسم للذكر البالغ من بني آدم.
والتأكيد ب {إن} مكسورة أو مفتوحة راجع إلى ما تفرع على خبرها من قولهم {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} .
والعوذ: الالتجاء إلى ما ينجي من شيء يضر، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97]، فإذا حمل العوذ على حقيقته كان المعنى أنه كان رجال يلتجئون إلى الجن ليدفع الجن عنهم بعض الأضرار فوقع تفسير ذلك بما كان يفعله المشركون في الجاهلية إذا سار أحدهم في مكان، قفر ووحش أو تعزب في الرعي كانوا يتوهمون أن الجن تسكن القفر ويخافون تعرض الجن والغيلان لهم وعبثها بهم في الليل فكان الخائف يصيح بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، فيخال أن الجني الذي بالوادي يمنعه، قالوا: وأول من سن ذلك لهم قوم من أهل اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا ذلك في العرب وهي أوهام وتخيلات.
وزعم أهل هذا التفسير أن معنى {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أن الجن كانوا يحتقرون الإنس بهذا الخوف فكانوا يكثرون من التعرض لهم والتخيل إليهم فيزدادون بذلك مخافة.
والرهق: الذل.
والذي أختاره في معنى الآية أن العوذ هنا هو الالتجاء إلى الشيء والالتفاف حوله. وأن المراد أنه كان قوم من المشركين يعبدون الجن اتقاء شرها. ومعنى {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} فزادتهم عبادتهم إياهم ضلالا. والرهق: يطلق على الإثم.
[7] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} .
قرأ الجمهور ووافقهم أبو جعفر بكسر همزة {وإنهم} . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتح الهمزة على اعتبار ما تقدم في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:3].
والمعنى: أن رجالا من الإنس ظنوا أن الله لا يبعث أحدا، أو أنا آمنا بأنهم ظنوا

كما ظننتم الخ، أي آمنا بأنهم أخطأوا في ظنهم.
والتأكيد ب"إن" المكسورة أو المفتوحة للاهتمام بالخبر لغايته. والبعث يحتمل بعث الرسل ويحتمل بعث الأموات للحشر، أي حصل لهم مثلما حصل لكم من إنكار إرسال الرسل.
والإخبار عن هذا فيه تعريض بالمشركين بأن فساد اعتقادهم تجاوز عالم الإنس إلى عالم الجن.
وجملة {كَمَا ظَنَنْتُمْ} معترضة بين {ظنوا} ومعموله، فيجوز أن تكون من القول المحكي يقول الجن بعضهم لبعض يشبهون كفارهم بكفار الإنس.
ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى المخاطب به المشركون الذي أمر رسوله بأن يقوله لهم، وهذا الوجه يتعين إذا جعلنا القول في قوله تعالى: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا} [الجن:1] عبارة عما جال في نفوسهم على أحد الوجهين السابقين هنالك.
و {أن} من قوله: {أَنْ لَنْ يَبْعَثَ} مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف.
وجملة {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} خبره. والتعبير بحرف تأييد النفي للدلالة على أنهم كانوا غير مترددين في إحالة وقوع البعث.
[8-9] {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً}
قرأ الجمهور ووافقهم أبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتح الهمزة عطفا على المجرور بالباء فيكون من عطفه على المجرور بالباء هو قوله: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} .
والتأكيد ب"إن" في قولهم {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} لغرابة الخبر باعتبار ما يليه من قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} الخ.
واللمس: حقيقة الجس باليد، ويطلق مجازا على اختبار أمر لأن إحساس اليد أقوى إحساس، فشبه به الاختبار عن طريق الاستعارة كما أطلق مرادفه وهو المس على الاختبار في قول يزيد بن الحكم الكلابي:

مسسنا من الآباء شيئا فكلنا ... إلى نسب في قومه غير واضع
أي اختبرنا نسب آبائنا وآبائكم فكنا جميعا كرام الآباء.
وملئت: مستعمل في معنى كثر فيها. وحقيقة الملء غمر فراغ المكان أو الإناء بما يحل فيه، فأطلق هنا على كثرة الشهب والحراس على وجه الاستعارة.
والحرس: اسم جمع للحراس ولا واحد له من لفظه مثل خدم، وإنما يعرف الواحد منه بالحرسي. ووصف بشديد وهو مفرد نظرا إلى لفظ حرس كما يقال: السلف الصالح، ولو نظر إلى ما يتضمنه من الآحاد لجاز أن يقال: شداد. والطوائف من الحرس أحراس.
والشهب: جمع شهاب وهو القطعة التي تنفصل عن بعض النجوم فتسقط في الجو أو في الأرض أو البحر وتكون مضاءة عند انفصالها ثم يزول ضوؤها ببعدها عن مقابلة شعاع الشمس وتسمى الواحد منها عند علماء الهيئة نيزكا باسم الرمح القصير، وقد تقدم الكلام عليها في أول سورة الصافات.
والمعنى: إننا اختبرنا حال السماء لاستراق السمع فوجدناها كثيرة الحراس من الملائكة وكثيرة الشهب للرجم، فليس في الآية ما يؤخذ منه أن الشهب لم تكن قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم كما ظنه الجاحظ فإن العرب ذكروا تساقط الشهب في بعض شعرهم في الجاهلية. كما قال في الكشاف وذكر شواهد من الشعر الجاهلي.
نعم يؤخذ منها أن الشهب تكاثرت في مدة الرسالة المحمدية حفظا للقرآن من دسائس الشياطين كما دل عليه قوله عقبه {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} وسيأتي بيان ذلك.
وهذا الكلام توطئة وتمهيد لقولهم بعده {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} إلى آخره، إذ المقصود أن يخبروا من لا خبر عنده من نوعهم بأنهم قد تبينوا سبب شدة حراسة السماء وكثرة الشهب فإن المخبرين بفتح الباء يشاهدونه.
وقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} الخ قرأه بكسر الهمزة الذين قرأوا بالكسر قوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} وبفتح الهمزة الذين قرأوا بالفتح وهذا من تمام قولهم {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} . وإنما أعيد معه كلمة {وإنا} للدلالة على أن الخبر الذي تضمنه هو المقصود وأن ما قبله للتوطئة له فإعادة {وإنا}

توكيد لفظي.
وحقيقة القعود الجلوس وهو ضد القيام، أي هو جعل النصف الأسفل مباشرا للأرض مستقرا عليها وانتصاف النصف الأعلى. وهو هنا مجاز في ملازمة المكان زمنا طويلا لأن ملازمة المكان من لوازم القعود ومنه قوله تعالى: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5].
والمقاعد: جمع مقعد وهو مفعل للمكان الذي يقع فيه القعود، وأطلق هنا على مكان الملازمة فإن القعود يطلق على ملازمة الحصول كما في قول امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
واللام في قوله: {للسمع} لام العلة أي لأجل السمع، أي لأن نسمع ما يجري في العالم العلوي من تصاريف الملائكة بالتكوين والتصريف، ولعل الجن منساقون إلى ذلك بالجبلة كما تنساق الشياطين إلى الوسوسة، وضمير {منها} للسماء.
و"من" تبعيضية، أي من ساحاتها وهو متعلق ب {نقعد} ، وليس المجرور حالة من {مقاعد} مقدما على صاحبه لأن السياق في الكلام على حالهم في السماع فالعناية بمتعلق فعل القعود أولى، ونظيره قول كعب:
يمشي القراد عليها ثم يزلقه ... منها لبان وأقرب زهاليل
فقوله "منها" متعلق بفعل "يزلقه" وليس حالا من "لبان".
واعلم أنه قد جرى على قوله تعالى: {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} مبحث في مباحث فصاحة الكلمات نسبه ابن الأثير في المثل السائر إلى ابن سنان الخفاجي فقال: إنه قد يجيء من الكلام ما معه قرينه فأوجب قبحه كقول الرضي في رثاء الصابي:
أعزز علي بأن أراك وقد خلا ... عن جانبيك مقاعد العواد
فإن إيراد هذه اللفظة أي {مقاعد} في هذا الموضع صحيح إلا أنه يوافق ما يكره ذكره لا سيما وقد أضافه إلى من يحتمل إضافته أي ما يكره إليه وهم العواد. ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلا. قال ابن الأثير: هذه اللفظة المعيبة في شعر الرضي قد جاءت في القرآن فجاءت حسنة مرضية في قوله تعالى: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران:121] وقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} ، ألا ترى أنها في هاتين الآيتين غير مضافة إلى من تقبح إضافتها إليه ولو قال الشاعر بدلا من مقاعد العواد مقاعد الزيارة

لزالت تلك الهجنة اه. وأقوال: إن لمصطلحات الناس في استعمال الكلمات أثر في وقع الكلمات عند الأفهام.
والفاء التي فرعت {مَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} تفريع على محذوف دل عليه فعل {كنا} وترتب الشرط وجزائه عليه. وتقديره: كنا نقعد منها أي من السماء مقاعد للسمع فنستمع أشياء فمن يستمع الآن لا يتمكن من السماع.
وكلمة {الآن} مقابل كلمة {كنا} ، أي كان ذلك ثم انقضى.
وجيء بصيغة الشرط وجوابه في التفريع لأن الغرض تحذير إخوانهم من التعرض للاستماع لأن المستمع يتعرض لأذى الشهب.
والجن لا تنكف عن ذلك لأنهم منساقون إليه بالطبع مع ما ينالهم من أذى الرجم والاحتراق، شأن انسياق المخلوقات إلى ما خلقت له مثل تهافت الفراش على النار، لاحتمال ضعف القوة المفكرة في الجن بحيث يغلب عليها الشهوة، ونحن نرى البشر يقتحمون الأخطار والمهالك تبعا للهوى مثل مغامرات الهواة في البحار والجبال والثلوج.
ووقوع {شهابا} في سياق الشرط يفيد العموم لأن سياق الشرط بمنزلة سياق النفي في إفادة عموم النكرة.
والرصد: اسم جمع راصد وهو الحافظ للشيء وهو وصف ل {شهابا} ، أي شهبا راصدة، ووصفها بالرصد استعارة شبهت بالحراس الراصدين. وهذا إشارة إلى انقراض الكهانة إذ الكاهن يتلقى من الجني أنباء مجملة بما يتلقفه الجني من خبر الغيب تلقف اختطاف ناقصا فيكمله الكاهن بحدسه بما يناسب مجاري أحوال قومه وبلده. وفي الحديث فيزيد على تلك الكلمة مائة كذبة.
وأما اتصال نفوس الكهان بالنفوس الشيطانية فيجوز أن يكون من تناسب بين النفوس، ومعظمه أوهام. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: "ليسوا بشيء" .
أخرج البخاري عن ابن عباس قال كان الجن يستمعون الوحي أي وحي الله إلى الملائكة بتصاريف الأمور فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا، قالوا: ما هذا إلا لأمر حدث فضربوا في الأرض يتحسسون السبب فلما وجدوا رسول الله قائما يصلي بمكة قالوا: هذا الذي حدث في الأرض فقالوا لقومهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] الآية وأنزل على نبيه {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ} [الجن:1] وإنما أوحي إليه قول الجن اهـ.

ولعل كيفية حدوث رجم الجن بالشهب كان بطريقة تصريف الوحي إلى الملائكة في مجار تمر على مواقع انقضاض الشهب حتى إذا اتصلت قوى الوحي بموقع أحد الشهب انفصل الشهاب بقوة ما يغطه من الوحي فسقط مع مجرى الوحي ليحرسه من اقتراب المسترق حتى يبلغ إلى الملك الموحى إليه فلا يجد في طريقه قوة شيطانية أو جنية إلا أحرقها وبخرها فهلكت أو استطيرت وبذلك بطلت الكهانة وكان ذلك من خصائص الرسالة المحمدية.
[10] {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} .
قرأه الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة وهو ظاهر المعنى. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفا على المجرور بالباء كما تقدم فيكون المعنى: وآمنا بأنا انتفى علمنا بما يراد بالذين في الأرض، أي الناس، أي لأنهم كانوا يسترقون علم ذلك فلما حرست السماء انقطع علمهم بذلك. هذا توجيه القراءة بفتح همزة {أنا} ومحاولة غير هذا تكلف.
وهذه نتيجة ناتجة عن قولهم {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن:9] الخ لأن ذلك السمع كان لمعرفة ما يجري به الأمر من الله للملائكة ومما يخبرهم به مما يريد إعلامهم به فكانوا على علم من بعض ما يتلقفونه فلما منعوا السمع صاروا لا يعلمون شيئا من ذلك فأخبروا إخوانهم بهذا عساهم أن يعتبروا بأسباب هذا التغير فيؤمنوا بالوحي الذي حرسه الله من أن يطلع عليه أحد قبل الذي يوحى به إليه والذي يحمله إليه.
فحاصل المعنى: إنا الآن لا ندري ماذا أريد بأهل الأرض من شر أو خير بعد أن كنا نتجسس الخبر في السماء.
وهذا تمهيد لما سيقولونه من قولهم {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} [الجن:11] ثم قولهم {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ} [الجن:12] ثم قولهم {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} إلى قوله: {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:13-15].
ومفعول {ندري} هو ما دل عليه الاستفهام بعده من قوله: {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} وهو الذي علق فعل {ندري} عن العمل. والاستفهام حقيقي وعادة المعربين لمثله أن يقدروا مفعولا يستخلص من الاستفهام تقديره: لا ندري جواب هذا الاستفهام، وذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب. هذا هو تفسير الآية على

المعنى الأكمل وهي من قبيل قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} [الأحقاف:9].
وليس المراد منها فيما نرى أنهم ينفون أن يعلموا ماذا أراد الله بهذه الشهب، فإن ذلك لا يناسب ما تقدم من أنهم آمنوا بالقرآن إذ قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:1-3] وقولهم: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [الجن:9] فذلك صريح في أنهم يدرون أن الله أراد بمن في الأرض خيرا بهذا الدين وبصرف الجن عن استراق السمع.
وتكرير "إن" واسمها للتأكيد لكون هذا الخبر معرضا لشك السامعين من الجن الذين لم يختبروا حراسة السماء.
والرشد: إصابة المقصود النافع وهو وسيلة للخير، فلهذا الاعتبار جعل مقابلا للشر وأسند فعل إرادة الشر إلى المجهول ولم يسند إلى الله تعالى مع أن مقابلة أسند إليه بقوله: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} ، جريا على واجب الأدب مع الله تعالى في تحاشي إسناد الشر إليه.
[11] {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً}
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن.
وقراءة فتح الهمزة عطف على المجرور بالباء، أي آمنا بأنا منا الصالحون، أي أيقنا بذلك وكنا في جهالة عن ذلك.
ظهرت عليهم آثار التوفيق فعلموا أنهم أصبحوا فريقين فريق صالحون وفريق ليس بصالحين، وهم يعنون بالصالحين أنفسهم وبمن دون الصلاح بقية نوعهم، فلما قاموا مقام دعوة إخوانهم إلى اتباع طريق الخير لم يصارحوهم بنسبتهم إلى الإفساد بل ألهموا وقالوا منا الصالحون، ثم تلطفوا فقالوا: ومنا دون ذلك، الصادق بمراتب متفاوتة في الشر والفساد ليتطلب المخاطبون دلائل التمييز بين الفريقين، على أنهم تركوا لهم احتمال أن يعنى بالصالحين الكاملون في الصلاح فيكون المعني بمن دون ذلك من هم دون مرتبة الكمال في الصلاح، وهذا من بليغ العبارات في الدعوة والإرشاد إلى الخير.
و {دون} : اسم بمعنى "تحت"، وهو ضد فوق ولذلك كثر نصبه على الظرفية

المكانية، أي في مكان منحط من الصالحين.
والتقدير: ومنا فريق في مرتبة دونهم.
وظرفية {دون} مجازية. ووقع الظرف هنا ظرفا مستقرا في محل الصفة لموصوف محذوف تقديره: فريق، كقوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164] ويطرد حذف الموصوف إذا كان بعض اسم مجرور بحرف {من} مقدم عليه وكانت الصفة ظرفا كما هنا، أو جملة كقول العرب: منا ظعن ومنا أقام.
وقوله: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} تشبيه بليغ، شبه تخالف الأحوال والقائد بالطرائق تفضي كل واحدة منها إلى مكان لا تفضي إليه الأخرى.
و {طرائق} : جمع طريقة، والطريقة هي الطريق، ولعلها تختص بالطريق الواسع الواضح لأن التاء للتأكيد مثل دار ودارة، ومثل مقام ومقامة، ولذلك شبه بها أفلاك الكواكب في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} [المؤمنون:17] ووصفت بالمثلى في قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى} [طه:63].
ووصف {طرائق} ب {قددا} ، وهو اسم جمع قدة بكسر القاف وتشديد الدال والقدة: القطعة من جلد ونحوه المقطوعة طولا كالسير، شبهت الطرائق في كثرتها بالقدد المقتطعة من الجلد يقطعها صانع حبال القد كانوا يقيدون بها الأسرى.
والمعنى: أنهم يدعون إخوتهم إلى وحدة الاعتقاد باقتفاء هدى الإسلام، فالخبر مستعمل في التعريض بذم الاختلاف بين القوم وأن على القوم أن يتحدوا ويتطلبوا الحق ليكون اتحادهم على الحق.
وليس المقصود منه فائدة الخبر لأن المخاطبين يعلمون ذلك، والتوكيد ب"إن" متوجهة إلى المعنى التعريضي.
[12] {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} .
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر همزة {وإنا} . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفا على المجرور في قوله: {فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:2]. والتقدير: وآمنا بأن لن نعجز الله في الأرض. وذكر فعل {ظننا} تأكيد لفظي لفعل "آمنا" المقدر بحرف العطف، لأن الإيمان يقين وأطلق الظن هنا على اليقين وهو إطلاق كثير.

لما كان شأن الصلاح أن يكون مرضيا عند الله تعالى وشأن ضده بعكس ذلك كما قال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] أعقبوا لتعريض الإقلاع عن ضد الصلاح بما يقتضي أن الله قد أعد لغير الصالحين عقابا فأيقنوا أن عقاب الله لا يفلت من أحد استحقه. وقدموه على الأمر بالإيمان الذي في قوله: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} [الجن:13] الآية، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والتخلية مقدمة على التحلية، وقد استفادوا علم ذلك مما سمعوا من القرآن ولم يكونوا يعلمون ذلك من قبل إذ يكونوا مخاطبين بتعليم في أصول العقائد، فلما ألهمهم الله لاستماع القرآن وعلموا أصول العقائد حذروا إخوانهم اعتقادا الشرك ووصف الله بما يليق به لأن الاعتقاد الباطل لا يقره الإدراك المستقيم بعد تنبيهه لبطلانه، وقد جعل الله هذا النفر من الجن نذيرا لإخوانهم ومرشدا إلى الحق الذي أرشدهم إليه القرآن، وهذا لا يقتضي أن الجن مكلفون بشرائع الإسلام.
وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] الآية فقد أشار إلى أن عقابهم على الكفر والإشراك، أو أريد بالجن الشياطين فإن الشياطين من جنس الجن.
والإعجاز: جعل الغير عاجزا، أي غير قادر عن أمر بذكر مع ما يدل على العجز وهو هنا كناية عن الإفلات والنجاة كقول إياس بن قبيصة الطائي:
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة ... فهل تعجزني بقعة من بقاعها
أي لا تفوتني ولا تخرج عن مكنتي.
وذكر {فِي الْأَرْضِ} يؤذن بأن المراد بالهرب في قوله: {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} الهرب من الرجم بالشهب، أي لا تطمعوا أن تسترقوا السمع فإن رجم الشهب في السماء لا يخطئكم، فابتدأوا الإنذار من عذاب الدنيا استنزالا لقومهم.
ويجوز أن يكون {نعجز} الأول بمعنى مغالب كقوله تعالى: {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [النحل:46] أي لا يغلبون قدرتنا، ويكون {فِي الْأَرْضِ} مقصودا به تعميم الأمكنة كقوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [العنكبوت:22]، أي في مكان كنتم. والمراد: أنا لا نغلب الله بالقوة. ويكون {نعجز} الثاني، بمعنى الإفلات ولذلك بين ب {هربا} ، والهرب مجاز في الانفلات مما أراد الله إلحاقه بهم من الرجم والاحتراق.

والظن هنا مستعمل في اليقين بقرينة تأكيد المضنون بحرف {لن} الدال على تأييد النفي وتأكيده.
[13] {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} .
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفا على المجرور في قوله: {فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:2].
والمقصود بالعطف قوله: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} ، وأما جملة {لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} فتوطئة لذلك.
بعد أن ذكروا قومهم بعذاب الله في الدنيا أو اطمأنوا بتذكر ذلك في نفوسهم، عادوا إلى ترغيبهم في الإيمان بالله وحده، وتحذيرهم من الكفر بطريق المفهوم. وأريد بالهدى القرآن إذ هو المسموع لهم ووصفوه بالهدى للمبالغة في أنه هاد.
ومعنى {يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ} ، أي بوجوده وانفراده بالإلهية كما يشعر به إحضار اسمه بعنوان الرب إذ الرب هو الخالق فما لا يخلق لا يعبد.
وجملة {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} يجوز أن تكون من القول المحكي عن الجن. ويجوز أن تكون كلاما من الله موجها للمشركين وهي معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.
والبخس: الغبن في الأجر ونحوه.
والرهق: الإهانة، أي لا يخشى أن يبخس في الجزاء على إيمانه ولا أن يهان. وفهم منه أن من لا يؤمن يهان بالعذاب. والخلاف في كسر همزة {إنا} وفتحها كالخلاف في التي قبلها.
وجملة {فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} جواب لشرط "من" جعلت بصورة الجملة الاسمية فقرنت بالفاء مع أن ما بعد الفاء فعل، وشأن جواب الشرط أن لا يقترن بالفاء إلا إذا كان غير صالح لأن يكون فعل الشرط فكان اقترانه بالفاء وهو فعل مضارع مشيرا إلى إرادة جعله خبر مبتدأ محذوف بحيث تكون الجملة اسمية، والاسمية تقترن بالفاء إذا وقعت جواب شرط، فكان التقدير هنا: فهو لا يخاف ليكون دالا على تحقيق سلامته من

خوف البخس والرهق، وليدل على اختصاصه بذلك دون غيره الذي لا يؤمن بربه، فتقدير المسند إليه قبل الخبر الفعلي يقتضي التخصيص تارة والتقوي أخرى وقد يجتمعان كما تقدم في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15]. واجتمعا هنا كما أشار إليه في الكشاف بقوله: فكان دالا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره. وكلام الكشاف اقتصر على بيان مزية الجملة الاسمية وهو يقتضي توجيه العدول عن جزم الفعل لأجل ذلك.
وقد نقول: إن العدول عن تجريد الفعل من الفاء وعن جزمه لدفع إيهام أن تكون {لا} ناهية، فهذا العدول صراحة في إرادة الوعد دون احتمال إرادة النهي.
وفي "شرح الدماميني على التسهيل" أن جواب الشرط إذا كان فعلا منفيا ب"لا" يجوز الاقتران بالفاء وتركه. ولم أره لغيره وكلام الكشاف يقتضي أن الاقتران بالفاء واجب إلا إذا قصدت مزية أخرى.
[14-15] { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} .
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} .
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن وهو عطف على المجرور بالباء. والمقصود بالعطف قوله: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} وما قبله توطئة له أي أصبحنا بعد سماع القرآن منا المسلمون، أي الذين اتبعوا ما جاء به الإسلام مما يليق بحالهم ومنا القاسطون، أي الكافرون المعرضون وهذا تفصيل لقولهم {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن:11] لأن فيه تصريحا بأن دون ذلك هو ضد الصلاح.
والظاهر أن من منتهى ما حكي عن الجن من المدركات التي عبر عنها بالقول وما عطف عليه.
{فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً}
الظاهر أن هذا خارج عن الكلام المحكي عن الجن، وأنه كلام من جانب الله تعالى

لموعظة المشركين من الناس فهو في معنى التذييل. وإنما قرن بالفاء لتفريعه على القصة لاستغلال العبرة منها، فالتفريع تفريع كلام على كلام وليس تفريع معنى الكلام على معنى الكلام الذي قبله.
والتحري: طلب الحرا بفتحتين مقصورا واويا، وهو الشيء الذي ينبغي أن يفعل، يقال: بالحري أن تفعل كذا، وأحرى أن تفعل.
والرشد: الهدى والصواب، وتنوينه للتعظيم.
والمعنى: أن من آمن بالله فقد توخى سبب النجاة وما يحصل به الثواب لأن الرشد سبب ذلك.
والقاسط: اسم فاعل قسط من باب ضرب قسطا بفتح القاف وقسوطا بضمها، أي جار فهو كالظلم يراد به ظلم المرء نفسه بالإشراك. وفي الكشاف : أن الحجاج قال لسعيد بن جبير حين أراد قتله ما تقول في? قال: قاسط عادل، فقال القوم ما أحسن ما قال حسبوا أنه وصفه بالقسط بكسر القاف والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالما مشركا وتلا لهم قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} وقوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]اه.
وشبه حلول الكافرين في جهنم بحلول الحطب في النار على طريقة التمليح والتحقير، أي هم لجهلهم كالحطب الذي لا يعقل كقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24].
وإقحام فعل "كانوا" لتحقيق مصيرهم إلى النار حتى كأنهم كانوا كذلك من زمن مضى.
[16-17] {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} .
أتفق القراء العشرة على فتح همزة {أَلَّوِ اسْتَقَامُوا} ، فجملة {أَلَّوِ اسْتَقَامُوا} معطوفة على جملة {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1]، والواو من الحكاية لا من المحكي، فمضمونها شأن ثان مما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمره الله أن يقوله للناس.
والتقدير: وأوحي إلي أنه لو استقام القاسطون فأسلموا لما أصابهم الله بإمساك الغيث.

و {أن} مخففة من الثقيلة، وجيء ب {أن} المفتوحة الهمزة لأن ما بعدها معمول لفعل {أُوحِيَ} [الجن:1] فهو في تأويل المصدر، واسمها محذوف وهو ضمير الشأن وخبره {لوِ اسْتَقَامُوا} إلى آخر الجملة. وسبك الكلام: أوحي إلي إسقاء الله إياهم ماء في فرض استقامتهم.
وضمير {اسْتَقَامُوا} يجوز أن يعود إلى القاسطين بدون اعتبار القيد بأنهم من الجن وهو من عود الضمير إلى اللفظ مجردا عن ما صدقه كقولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف درهم آخر.
ويجوز أن يكون عائدا إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معروف من المقام إذ السورة مسوقة للتنبيه على عناد المشركين وطعنهم في القرآن، فضمير {اسْتَقَامُوا} عائد إلى المشركين، وذلك كثير في ضمائر الغيبة التي في القرآن، وكذلك أسماء الإشارة كما تنبهنا إليه ونبهنا عليه، ولا يناسب أن يعاد على القاسطين من الجن إذ لا علاقة للجن بشرب الماء.
والاستقامة على الطريقة: استقامة السير في الطريق وهي السير على بصير بالطريق دون اعوجاج ولا اغترار ببنيات الطريق.
و {الطريقة} : الطريق، ولعلها خاصة بالطريق الواسع الواضح كما تقدم آنفا في قوله: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:11].
والاستقامة على الطريقة تمثيل لهيئة المتصف بالسلوك الصالح والاعتقاد الحق بهيئة السائر سيرا مستقيما على طريقة، ولذلك فالتعريف في {الطَّرِيقَةِ} للجنس لا للعهد.
وقوله: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} : وعد بالجزاء على الاستقامة في الدين جزاءا حسنا في الدنيا يكون عنوانا على رضى الله تعالى وبشارة بثواب الآخرة قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وفي هذا إنذار بأنه يوشك أن يمسك عنهم المطر فيقعوا في القحط والجوع وهو ما حدث عليهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ودعائه عليهم بسنين كسني يوسف فإنه دعا بذلك في المدينة في القنوت كما في حديث الصحيحين عن أبي هريرة وقد بينا ذلك في سورة الدخان. وقد كانوا يوم نزول هذه الآية في بحبوة من العيش وفي نخيل وجنات

فكان جعل ترتب الإسقاء على الاستقامة على الطريقة كما اقتضاه الشرط بحرف {لو} مشيرا إلى أن المراد: لأدمنا عليهم الإسقاء بالماء الغدق، وإلى أنهم ليسوا بسالكين سبيل الاستقامة فيوشك أن يمسك عنهم الري ففي هذا إنذار بأنهم إن استمروا على اعوجاج الطريقة أمسك عنهم الماء. وبذلك يتناسب التعليل بالإفتان في قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} مع الجملة السابقة إذ يكون تعليلا لما تضمنه معنى إدامة الإسقاء فإنه تعليل للإسقاء الموجود حين نزول الآية وليبس تعليلا للإسقاء المفروض في جواب {لو} لأن جواب {لو} منتف فلا يصلح لأن يعلل به، وإنما هم مفتونون بما هم فيه من النعمة فأراد الله أن يوقظ قلوبهم بأن استمرار النعمة عليهم فتنة لهم فلا تغرنهم. فلام التعليل في قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} ظرف مستقر في موضع الحال من {مَاءً غَدَقاً} وهو الماء الجاري لهم في العيون ومن السماء تحت جناتهم وفي زروعهم فهي حال متقاربة.
وبهذا التفسير تزول الحيرة في استخلاص معنى الآية وتعليلها.
والغدق: بفتح الغين المعجمة وفتح الدال الماء الغزير الكثير.
وجملة {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} إدماج فهي معترضة بين جملة {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} الخ وبين جملة {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} الخ.
ثم اكدت الكناية عن الإنذار المأخوذة من قوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ} الآية، بصريح الإنذار بقوله: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} ، أي فإن أعرضوا أنقلب حالهم إلى العذاب فسلكنا بهم مسالك العذاب.
والسلك: حقيقته الإدخال، وفعله قاصر ومتعد، يقال: سلكه فسلك، قال الأعشى:
كما سلك السكي في الباب فيتق
أي أدخل المسمار في الباب نجار.
وتقدم عند قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الحجر:12] في سورة الحجر.
واستعمل السلك هنا في معنى شدة وقوع الفعل على طريق الاستعارة وهي استعارة عزيزة. والمعنى: نعذبه عذابا لا مصرف عنه.
وانتصب {عذابا} على نزع الخافض وهو حرف الظرفية، وهي ظرفية مجازية تدل على أن العذاب إذا حل به يحيط به إحاطة الظرف بالمظروف.

والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} دون أن يقول: عن ذكرنا، أو عن ذكري، لاقتضاء الحال الإيماء إلى وجه بناء الخبر فإن المعرض عن ربه الذي خلقه وأنشأه ودبره حقيق بأن يسلك عذابا صعدا.
والصعد: الشاق الغالب، وكأنه جاء من مصدر صعد كفرح إذا علا وأرتفع، أي صعد على مفعوله وغلبه، كما يقال: علاه بمعنى تمكن منه، {وَأَنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} [الدخان:19].
وقرأ الجمهور {نسلكه} بنون العظمة ففيه التفات. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {يسلكه} بياء الغائب فالضمير المستتر يعود إلى ربه.
[18] {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .
اتفق القراء العشرة على فتح الهمزة في {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} فهي معطوفة على مرفوع {أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ} [الجن:1]، ومضمونها مما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بأن يقوله. والمعنى: قل أوحي إلي أن المساجد لله فالمصدر المنسبك مع {أن} واسمها وخبرها نائب فاعل {أُوحِيَ} [الجن:1].
والتقدير: أوحي إلي اختصاص المساجد بالله، أي بعبادته لأن بناءها إنما كان ليعبد الله فيها، وهي معالم التوحيد.
وعلى هذا الوجه حمل سيبويه الآية وتبعه أبو علي في "الحجة".
وذهب الخليل أن الكلام على حذف لام جر قبل {أن} ، فالمجرور مقدم على متعلقه للاهتمام. والتقدير: ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا.
واللام في قوله {لله} للاستحقاق، أي الله مستحقها دون الأصنام والأوثان فمن وضع الأصنام في مساجد الله فقد اعتدى على الله.
والمقصود هنا هو المسجد الحرام لأن المشركين كانوا وضعوا فيه الأصنام وجعلوا الصنم "هبل" على سطح الكعبة، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114] يعني بذلك المشركين من قريش.

وهذا توبيخ للمشركين على اعتدائهم على حق الله وتصرفهم فيما ليس لهم أن يغيروه قال تعالى: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} [الأنفال:34]، وإنما عبر في هذه الآية وفي آية {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة:114] بلفظ {مَسَاجِدَ} ليدخل الذين يفعلون مثل فعلهم معهم في هذا الوعيد ممن شاكلهم ممن غيروا المساجد، أو لتعظيم المسجد الحرام. كما جمع {رُسُلِي} في قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45]، على تقدير أن يكون ضمير {كَذَّبُوا} عائد إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ:43] أي كذبوا رسولي.
ومنه قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان:37] يريد نوحا، وهو أول رسول فهو مقصود بالجمع.
وفرع على اختصاص كون المساجد بالله النهي عن أن يدعوا مع الله أحدا، وهذا إلزام لهم بالتوحيد بطريق القول بالموجب لأنهم كانوا يزعمون أنهم أهل بيت الله فعبادتهم غير الله منافية بزعمهم ذلك.
[19-20] {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً، قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} .
قرأ نافع وحده وأبو بكر عن عاصم بكسر الهمزة. وقرأه بقية العشرة في رواياتهم المشهورة بالفتح.
ومآل القراءتين سواء في كون هذا خارجا عما صدر عن الجن وفي كونه مما أوحى الله به.
فكسر الهمزة على عطف الجملة على جملة {أُوحِيَ إِلَيَّ} ، والتقدير: وقل أنه لما قام عبد الله يدعوه بأن همزة "إن" إذا وقعت في محكي في القول تكثر، ولا يليق أن يجعل من حكاية مقالة الجن لأن ذلك قد انقضى وتباعد ونقل الكلام إلى أغراض أخرى ابتداء من قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} .
وأما الفتح فعلى اعتباره معطوف على جملة {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ} [الجن:1]، أي وأوحي إلي أنه لما قام عبد الله، أي أوحى الله إلي اقتراب المشركين من أن يكونوا لبدا على عبد الله لما قام يدعو ربه.

وضمير {إنه} ضمير الشأن وجملة {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} إلى آخرها خبره.
وضمير {كَادُوا يَكُونُونَ} عائدان إلى المشركين المنبئ عنهم المقام غيبة وخطابا ابتداء من قوله: {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} إلى قوله: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18].
و {عَبْدُ اللَّهِ} هو محمد صلى الله عليه وسلم، وضع الاسم الظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال: وأنه لما قمت تدعو الله كادوا يكونون عليك، أو لما قمت أدعو الله كادوا يكونون علي. ولكن عدل إلى الاسم الظاهر لقصد تكريم النبي صلى الله عليه وسلم بوصف {عَبْدُ اللَّهِ} لما في هذه الإضافة من التشريف مع وصف {عبد} كما تقدم غير مرة منها عند قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1].
و {لبدا} بكسر اللام وفتح الموحدة اسم جمع: لبدة، وهي ما تلبد بعضه على بعض ومنه لبدة الأسد للشعر المتراكم في رقبته.
والكلام على التشبيه، أي كاد المشركون يكونون مثل اللبد متراصين مقتربين منه يستمعون قراءته ودعوته إلى توحيد الله. وهو التفاف غيض وغضب وهم بالأذى كما يقال: تألبوا عليه.
ومعنى {قام} : اجتهد في الدعوة إلى الله، كقوله تعالى: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في سورة الكهف [14]، وقال النابغة:
بأن حصنا وحيا من بني أسد ... قاموا فقالوا حمانا من غير مقروب
وقد تقدم عن قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في أول سورة البقرة [3].
ومعنى قيام النبي صلى الله عليه وسلم إعلانه بالدعوة وظهور دعوته قال جزء بن كليب الفقعسي:
فلا تبغينها يا بن كوز فإنه ... غذا الناس مذ قام النبي الجواريا
أي قام يعبد الله وحده، كما دل عليه بيانه بقوله بعده {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} ، فهم لما لم يعتادوا دعاء غير الأصنام تجمعوا لهذا الحدث العظيم عليهم وهو دعاء محمد صلى الله عليه وسلم الله تعالى.
وجملة {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} بيان لجملة {يدعوه} .
وقرأ الجمهور {قال} بصيغة المضي. وقرأه حمزة وعاصم وأبو جعفر {قل} بدون

ألف على صيغة الأمر، فتكون الجملة استئنافا. والتقدير: أوحي إلي أنه لما قام عبد الله إلى آخره قل إنما أدعو ربي، فهو من تمام ما أوحي به إليه.
و {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} يفيد قصرا، إلى أدعو غيره، أي لا أعبد غيره دونه.
وعطف عليه {وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} تأكيدا لمفهوم القصر، وأصله أن لا يعطف فعطفه لمجرد التشريك للعناية باستقلاله بالإبلاغ.
[21-23] {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً، قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} .
{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً، قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} .
هذا استئناف ابتدائي، وهو انتقال من ذكر ما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى توجيه خطاب مستأنف إليه، فبعد أن حكي في هذه السورة ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مما خفي عليه من الشؤون المتعلقة به من اتباع متابعين وإعراض معرضين، انتقل إلى تلقينه ما يرد على الذين أظهروا له العناد والتورك.
ويجوز أن يكون {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ} الخ، تكريرا لجملة {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} [الجن:20] على قراءة حمزة وعاصم وأبي جعفر.
والضر: إشارة إلى ما يتوركون به من طلب إنجاز ما يتوعدهم بن من النصر عليهم.
وقوله: {وَلا رَشَداً} تتميم.
وفي الكلام احتباك لأن الضر يقابله النفع، والرشد يقابله الضلال، فالتقدير: لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا ضلالا ولا رشدا.
والرشد بفتحتين: مصدر رشد، والرشد، بضم فسكون: الاسم، وهو معرفة الصواب، وقد تقدم قريبا في قوله: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن:2].
وتركيب لا أملك لكم معناه: لا أقدر قدرة لأجلكم على ضر ولا نفع، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} في سورة الممتحنة [4]، وتقدم أيضا

في سورة الأعراف.
وجملتا {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي} إلى {مُلْتَحَداً} معترضتان بين المستثني منه والمستثنى، وهو اعتراض رد لما يحاولونه منه أن يترك ما يؤذيهم فلا يذكر القرآن إبطال معتقدهم وتحقير أصنامهم، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:15].
والملتحد: اسم مكان الالتحاد، والالتحاد: المبالغة في اللحد، وهو العدول إلى مكان غير الذي هو فيه، والأكثر أن يطلق ذلك على اللجأ، أي العياذ بمكان يعصمه. والمعنى: لن أجد مكانا يعصمني.
و {مِنْ دُونِهِ} حال من {مُلْتَحَداً} أي ملتحدا كائنا من دون الله، أي بعيدا عن الله غير داخل من ملكوته، فإن الملتحد مكان فلما وصف بأنه من دون الله كان المعنى أنه مكان من غير الأمكنة في ملك الله، وذلك متعذر، ولهذا جاء لنفي وجدانه حرف {لن} الدال على تأييد النفي.
و {من} في قوله: {مِنْ دُونِهِ} مزيدة جارة للظرف وهو "دون".
وقوله: {إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} استثناء منقطع من {ضرا} و {رشدا} ، وليس متصلا لأن الضر والرشد المنيفين في قوله: {لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} هما الضر والرشد الواقعان في النفس بالإلجاء.
ويجوز أن يكون مع ذلك استثناء من {مُلْتَحَداً} ، أي بتأويل {مُلْتَحَداً} بمعنى: مخلص أو مأمن.
وهذا الاستثناء من أسلوب تأكيد الشيء بما يشبه ضه.
والبلاغ: اسم مصدر بلغ، أي أوصل الحديث أو الكلام، ويطلق على الكلام المبلغ من إطلاق المصدر على المفعول مثل {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان:11].
ومن ابتدائية صفة "بلاغ"، أي بلاغا كائنا من جانب الله، أي إلا كلاما أبلغه من القرآن الموحى من الله.
و {رسالاته} : جمع رسالة: وهي ما يرسل من كلام أو كتاب فالرسالات بلاغ

خاص بألفاظ مخصوصة، فالمراد منها هنا تبليغ القرآن.
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} .
لما كان قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [الجن:20] إلى هنا كلاما متضمنا أنهم أشركوا وعاندوا الرسول صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى التوحيد واقترحوا عليه ما توهموه تعجيزا له من ضروب الاقتراح، أعقب ذلك بتهديدهم ووعيدهم بأنهم إن داموا على عصيان الله ورسوله سيلقون نار جهنم لأن كل من يعصي الله ورسوله كانت له نار جهنم.
و {من} شرطية وجواب الشرط قوله: {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} .
[24] {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} .
كانوا إذا سمعوا آيات الوعد بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في الدنيا والآخرة، وآيات الوعيد للمشركين بالانهزام وعذاب الآخرة وعذاب الدنيا استسخروا من ذلك وقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، ويقولون: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة:28] ويقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يس:48]، وقالوا: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، فهم مغرورون بالاستدراج والإمهال فلذلك عقب وعيدهم بالغاية المفادة من {حتى} ، فالغاية هنا متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام من سخرية الكفار من الوعيد واستضعافهم المسلمين في العدد والعدد فإن ذلك يفهم منه أنهم لا يزالون يحسبون أنهم غالبون فائزون حتى إذا رأوا ما يوعدون تحققوا إخفاق آمالهم.
و {حتى} هنا ابتدائية وكلما دخلت {حتى} في جملة مفتتحة ب {إذا} ف {حتى} للابتداء وما بعدها جملة ابتدائية. وذهب الأخفش وابن مالك إلى أن {حتى} في مثله جارة وأن {إذا} في محل جر وليس ببعيد.
واعلم أن {حتى} لا يفارقها معنى الغاية كيفما كان عمل {حتى} .
و {إذا} اسم زمان للمستقبل مضمن معنى الشرط وهو في محل نصب بالفعل الذي في جوابه وهو {فَسَيَعْلَمُونَ} .
وعلى رأي الأخفش وابن مالك {إذا} محل جر ب {حتى} . واقتران جملة {سَيَعْلَمُونَ} بالفاء دليل على أن {إذا} ضمن معنى الشرط، واقتران الجواب بسين

الاستقبال يصرف الفعل الماضي بعد {إذا} إلى زمن الاستقبال. وجيء بالجملة المضاف إليها {إذا} فعلا ماضيا للتنبيه على تحقيق وقوعه.
وفعل {سَيَعْلَمُونَ} معلق عن العمل بوقوع الاستفهام بعده وهو استعمال كثير في التعليق لأن الاستفهام بما فيه من الإبهام يكون كناية عن الغرابة بحيث يسأل الناس عن تعيين الشيء بعد البحث عنه.
وضعف الناصر وهن لهم من جهة وهن أنصارهم، وقلة العدد وهن لهم من جانب أنفسهم، وهذا وعيد لهم بخيبة غرورهم بالأمن من غلب المسلمين في الدنيا فإنهم كانوا يقولون: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر:44]. وقالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا} [سبأ:35].
[25-28] {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} .
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} .
كان المشركون يكثرون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يس:48]، و {عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف:187]، وتكررت نسبة ذلك إليهم في القرآن، فلما قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا} [الجن:24] الآية علم أنهم سيعيدون ما اعتادوا قوله من السؤال عن وقت الوعيد فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعيد عليهم ما سبق من جوابه.
فجملة {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن القول المأمور بأن يقوله جواب لسؤالهم المقدر.
والأمد: الغاية وأصله في الأمكنة. ومنه قول ابن عمر في حديث "الصحيحين" : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي لم تضمر وجعل أمدها ثنية الوداع" "أي غاية المسابقة". ويستعار الأمد لمدة من الزمان معينة قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} [الحديد:16] وهو كذلك هنا. ومقابلته ب"قريب" يفيد أن المعنى أن يجعل له أمدا بعيدا.

وجملة {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} في موضع العلة لجملة {إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} الآية.
و {عَالِمُ الْغَيْبِ} : خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم الغيب والضمير المحذوف عائد إلى قوله: {ربي} . وهذا الحذف من قبيل حذف المسند إليه حذفا اتبع فيه الاستعمال إذا كان الكلام قد اشتمل على ذكر المسند إليه وصفاته كما نبه عليه السكاكي في "المفتاح" .
و {الْغَيْبِ} : مصدر غاب إذا استتر وخفي عن الأنظار وتعريفه تعريف الجنس.
وإضافة صفة {عالم} إلى {الْغَيْبِ} تفيد العلم بكل الحقائق المغيبة سواء كانت ماهيات أو أفرادا فيشمل المعنى المصدري للغيب مثل علم الله بذاته وصفاته، ويشمل الأمور الغائبة بذاتها مثل الملائكة والجن. ويشمل الذوات المغيبة عن علم الناس مثل الوقائع المستقبلة التي يخبر عنها أو التي لا يخبر عنها، فإيثار المصدر هنا لأنه اشتمل لإحاطة علم الله بجميع ذلك.
وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة البقرة [3].
وتعريف المسند مع تعريف المسند إليه المقدر يفيد القصر، أي هو عالم الغيب لا أنا.
وفرع على معنى تخصيص الله تعالى بعلم الغيب جملة {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} ، فالفاء لتفريع حكم على حكم والحكم المفرع إتمام للتعليل وتفصيل لأحوال عدم الاطلاع على غيبه.
ومعنى {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} : لا يطلع ولا ينبئ به، وهو أقوى من يطلع لأن {يظهر} جاء من الظهور وهو المشاهدة، ولتضمينه معنى: يطلع، عدي بحرف {على} .
ووقوع الفعل في حيز النفي يفيد العموم، وكذلك وقوع مفعوله وهو نكرة في حيزه يفيد العموم.
وحرف {على} مستعمل في التمكن من الاطلاع على الغيب وهو كقوله تعالى: {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم:3] فهو استعلاء مجازي.
واستثني من هذا النفي من ارتضاه ليطلعه على بعض الغيب، أي على غيب أراد إظهاره من الوحي فإنه من غيب الله، وكذلك ما أراد الله أن يؤيد به رسوله صلى الله عليه وسلم من إخبار

بما سيحدث أو إطلاع على ضمائر بعض الناس.
فقوله: {ارتضى} مستثنى من عموم {أحدا} . والتقدير: إلا أحدا ارتضاه، أي اختاره للاطلاع على شيء من الغيب لحكمة أرادها الله تعالى.
والإتيان بالموصول والصلة في قوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} لقصد ما تؤذن به الصلة من الإيماء إلى تعليل الخبر، أي يطلع الله بعض رسله لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى الناس، فيعلم من هذا الإيمان أن الغيب الذي يطلع الله عليه الرسل هو من نوع ما له تعلق بالرسالة، وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو يفعلوه، وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة، أو أمور الدنيا، وما يؤيد به الرسل عن الإخبار بأمور مغيبة كقوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2-4].
والمراد بهذا الإطلاع المحقق المفيد علما كعلم المشاهدة. فلا تشمل الآية ما قد يحصل لبعض الصالحين من شرح صدر بالرؤيا الصادقة، ففي الحديث "الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة، أو بالإلهام" قال النبي صلى الله عليه وسلم "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" رواه مسلم. قال مسلم: قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهمون.
وقد قال مالك في الرؤيا الحسنة: أنها تسر ولا تغر، يريد لأنها قد يقع الخطأ في تأويلها.
و {مِنْ رَسُولٍ} بيان لإبهام {من} الموصولة فدل على ما صدق {من} جماعة من الرسل، أي إلا الرسل الذين ارتضاهم، أي اصطفاهم.
وشمل {رسول} كل مرسل من الله تعالى فيشمل الملائكة المرسلين إلى الرسل لإبلاغ وحي إليهم مثل جبريل عليه السلام. وشمل الرسل من البشر المرسلين إلى الناس بإبلاغ أمر الله تعالى إليهم من شريعة أو غيرها مما به صلاحهم.
وهنا أربعة ضمائر غيبة:
الأول ضمير {فإنه} وهو عائد إلى الله تعالى.
والثاني الضمير المستتر في {يسلك} وهو لا محالة عائد إلى الله تعالى كما عاد إليه

ضمير {فإنه} .
والثالث والرابع ضميرا {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} ، وهما عائدان إلى {رسول} أي فإن الله يسلك أي يرسل للرسول رصدا من بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خلفه رصدا، أي ملائكة يحفظون الرسول صلى الله عليه وسلم من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما أطلعه الله عليه من غيبة.
والسلك حقيقته: الإدخال كما في قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الحجر [12].
وأطلق السلك على الإيصال المباشر تشبيها له بالدخول في الشيء بحيث لا مصرف له عنه كما تقدم آنفا في قوله: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن:17] أي يرسل إليه ملائكة متجهين إليه لا يبتعدون عنه حتى يبلغ أليه ما أوحي إليه من الغيب، كأنهم شبه اتصالهم به وحراستهم إياه بشيء داخل في أجزاء جسم. وهذا من جملة الحفظ الذي حفظ الله به ذكره في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
والمراد ب {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} الكناية عن جميع الجهات، ومن تلك الكناية ينتقل إلى كناية أخرى عن السلامة من التغيير والتحريف.
والرصد: اسم جمع كما تقدم آنفا في قوله: {يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9]. وانتصب {رَصَدًا } على أنه مفعول به لفعل {يسلك} .
ويتعلق {ليعلم} بقوله: {يسلك} ، أي يفعل الله ذلك ليبلغ الغيب إلى الرسول كما أرسل إليه لا يخالطه شيء مما يلبس عليه الوحي فيعلم الله أن الرسل أبلغوا ما أوحي إليهم كما بعثه من دون تغيير، فلما كان علم الله بتبليغ الرسول الوحي مفرعا ومسببا عن تبليغ الوحي كما أنزل الله، جعل المسبب علة وأقيم مقام السبب إيجازا في الكلام لأن علم الله بذلك لا يكون إلا على وفق ما وقع، وهذا كقول إياس بن قبيصة:
وأقبلت والخطي يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
أي ليظهر من هو شجاع ومن هو جبان فأعلم ذلك. وهذه العلة هي المقصد الأهم من اطلاع من ارتضى من رسول على الغيب، وذكر هذه العلة لا يقتضي انحصار علل الاطلاع فيها.
وجيء بضمير الإفراد في قوله: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} مراعاة للفظ {رسول} ،

ثم جيء له بضمير الجمع في قوله: {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} مراعاة لمعنى رسول وهو لجنس، أي الرسل على طريقة قوله الله تعالى السابق آنفا {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23].
والمراد: ليعلم الله أن قد أبلغوا رسالات الله أدوا الأمانة علما يترتب عليه جزاؤهم الجزيل.
وفهم من قوله: {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} أن الغيب المتحدث عنه في هذه الآية هو الغيب المتعلق بالشريعة وأصولها من البعث والجزاء، لأن الكلام المستثنى منه هو نفي علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرب ما يوعدون به أو بعده وذلك من علائق الجزاء والبعث.
ويلحق به ما يوحى به إلى الأنبياء الذين ليسوا رسلا لأن ما يوحى إليهم لا يخلو من أن يكون تأييدا لشرع سابق كأنبياء بني إسرائيل والحواريين أو أن يكون لإصلاح أنفسهم وأهليهم مثل آدم وأيوب.
واعلم أن الاستثناء من النفي ليس بالمقتض أن يثبت للمستثنى جميع نقائض أحوال الحكم الذي للمستثنى منه، بل قصارى ما يقتضيه أنه كالنقض في المناظرة يحصل بإثبات جزئي من جزئيات ما نفاه الكلام المنقوص، فليس قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} بمقتض أن الرسول يطلع على جميع غيب الله، وقد بين النوع المطلع عليه بقوله: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} .
وقرأ رويس عن يعقوب {ليعلم} بضم الياء وفتح اللام مبنيا للمفعول على أن {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} نائب عن الفاعل، والفاعل المحذوف حذف للعلم به، أي ليعلم الله أن قد أبلغوا.
{وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} .
الواو واو الحال أو اعتراضية لأن مضمونها تذييل لجملة {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} ، أي أحاط بجميع ما لدى الرسل من تبليغ وغيره، وأحاط بكل شيء مما عدا ذلك، فقوله: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} تعميم بعد تخصيص ما قبله بعلمه بتبليغهم ما أرسل إليهم، وقوله: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} تعميم أشمل بعد تعميم ما.
وعبر عن العلم بالإحصاء على طريق الاستعارة تشبيها لعلم الأشياء بمعرفة الأعداد

لأن معرفة الأعداد أقوى، وقوله: {عَدَداً} ترشيح للاستعارة.
والعدد: بالفك اسم لمعدود وبالإدغام مصدر عد، فالمعنى هنا: وأحصى كل شيء معدودا، وهو نصب على الحال، بخلاف قوله تعالى: {وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:94]. وفرق العرب بين المصدر والمفعول لأن المفعول أوغل في الاسمية من المصدر فهو أبعد عن الإدغام لأن الأصل في الإدغام للأفعال.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المزملليس لهذه السورة إلا أسم "سورة المزمل" عرفت بالإضافة لهذا اللفظ الواقع في أولها، فيجوز أن يراد حكاية اللفظ، ويجوز أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحال الذي نودي به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1].
قال ابن عطية: هي في قول الجمهور مكية إلا قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} [المزمل:20] إلى نهاية السورة فذلك مدني. وحكى القرطبي مثل هذا عن الثعلبي.
وقال في الإتقان: إن استثناء قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} إلى آخر السورة يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس اه.
يعني وذلك كله بمكة، أي فتكون السورة كلها مكية فتعين أن قوله: {قُمْ اللَّيْلَ} [المزمل:2] أمر به في مكة.
والروايات تظاهرت على أن قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى آخر السورة نزل مفصولا عن نزول ما قبله بمدة مختلف في قدرها، فقالت عائشة نزل بعد صدر السورة بسنة. ومثله روى الطبري عن ابن عباس، وقال الجمهور: نزل صدر السورة بمكة ونزل {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} إلى آخرها بالمدينة، أي بعد نزول أولها بسنين.
فالظاهر أن الأصح أن نزول {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} إلى آخر السورة نزل بالمدينة لقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل:20] إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة.

وروى الطبري عن سعيد بن جبير قال لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]. مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} [المزمل:20] اه، أي نزلت الآيات الأخيرة في المدينة بناء على أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كان عشر سنين وهو قول جم غفير.
والروايات عن عائشة مضطربة بعضها يقتضي أن السورة كلها مكية وأن صدرها نزل قبل آخرها بسنة قبل فرض الصلاة وهو ما رواه الحاكم في نقل صاحب الإتقان. وذلك يقتضي أن أول السورة نزل بمكة، وبعض الروايات يقولون فيها: إنها كانت تفرش لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا فصلى عليه من الليل فتسامع الناس فخرج مغضبا وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ونزل {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل: 1-2] فكتب عليهم بمنزلة الفريضة ومكثوا على ذلك ثمانية أشهر ثم وضع الله ذلك عنهم، فأنزل {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} إلى {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20]، فردهم إلى الفريضة ووضع عنهم النافلة. وهذا ما رواه الطبري بسندين إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة، وهو يقتضي أن السورة كلها مدنية لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن بعائشة إلا في المدينة، ولأن قولها فخرج مغضبا يقتضي أنه خرج من بيته المفضي إلى مسجده، ويؤيده أخبار ثبت قيام الليل في مسجده.
ولعل سبب هذا الاضطراب اختلاط في الرواية بين فرض قيام الليل وبين الترغيب فيه.
ونسب القرطبي إلى تفسير الثعلبي قال: قال النخعي في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} كان النبي صلى الله عليه وسلم متزملا بقطيفة عائشة، وهي مرط نصفه عليها وهي نائمة ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي اه، وإنما بنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة في المدينة، فالذي نعتمد عليه أن أول السورة نزل بمكة لا محلة كما سنبينه عند قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5]، وأن قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى آخر السورة نزل بالمدينة بعد سنين من نزول أول السورة لأن فيه ناسخا لوجوب قيام الليل وإنه ناسخ لوجوب قيام الليل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن ما رووه عن عائشة أن أول ما فرض قيام الليل قبل فرض الصلاة غريب.
وحكى القرطبي عن الماوردي: أن ابن عباس وقتادة قالا: إن آيتين وهما {وَاصْبِرْ

عَلَى مَا يَقُولُونَ} إلى قوله: {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11] نزلتا بالمدينة.
واختلف في عد هذه السورة في ترتيب نزول السور، والأصح التي تضافرت عليه الأخبار الصحيحة: أن أول ما نزل سورة العلق واختلف فيما نزل بعد سورة العلق، فقيل: سورة ن والقلم، وقيل نزل بعد العلق سورة المدثر، ويظهر أنه الأرجح ثم قيل نزلت سورة المزمل بعد القلم فتكون ثالثة. وهذا قول جابر بن زيد في تعداد نزول السور، وعلى القول بأن المدثر هي الثانية. يحتمل أن تكون القلم ثالثة والمزمل رابعة، ويحتمل أن تكون المزمل هي الثالثة والقلم رابعة، والجمهور على أن المدثر نزلت قبل المزمل، وهو ظاهر حديث عروة بن الزبير عن عائشة في بدء الوحي من صحيح البخاري وسيأتي عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} .
والأصح أن سبب نزول {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ما في حديث جابر بن عبد الله الآتي عند قوله تعالى: {يا أيها المزمل} الآية.
وعدت آيها في عد أهل المدينة ثمان عشرة آية، وفي عد أهل البصرة تسع عشرة وفي عد من عداهم عشرون.
أغراضها
الإشعار بملاطفة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بندائه بوصفه بصفة تزمله.
واشتملت على الأمر بقيام النبي صلى الله عليه وسلم غالب الليل والثناء على طائفة من المؤمنين حملوا أنفسهم على قيام الليل.
وعلى تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بتحمل إبلاغ الوحي.
والأمر بإدامة إقامة الصلاة وأداء الزكاة وإعطاء الصدقات.
وأمره بالتمحض للقيام بما أمره الله من التبليغ وبأن يتوكل عليه.
وأمره بالإعراض عن تكذيب المشركين.
وتكفل الله له بالنصر عليهم وأن جزاءهم بيد الله.
والوعيد لهم بعذاب الآخرة.
ووعظهم مما حل بقوم فرعون لما كذبوا رسول الله إليهم.

وذكر يوم القيامة ووصف أهواله.
ونسخ قيام معظم الليل بالاكتفاء بقيام بعضه رعيا للأعذار الملازمة.
والوعد بالجزاء العظيم على أفعال الخيرات.
والمبادرة بالتوبة وأدمج في ذلك أدب قراءة القرآن وتدبره.
وأن أعمال النهار لا يغني عنها قيام الليل.
وفي هذه السورة مواضع عويصة وأساليب غامضة فعليك تدبرها.
[1-4] {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} .
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} .
افتتاح الكلام بالنداء إذ كان المخاطب واحدا ولم يكن بعيدا يدل على الاعتناء بما سيلقي إلى المخاطب من كلام.
والأصل في النداء أن يكون باسم المنادى العلم إذا كان معروفا عند المتكلم فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلا لغرض يقصده البلغاء من تعظيم وتكريم نحو {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، أو تلطف وتقرب نحو: يا بني ويا أبت، أو قصد تهكم نحو {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] فإذا نودي المنادي بوصف هيئته من لبسه أو لبسه أو جلسة أو ضجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب وقد وجده مضطجعا في المسجد وقد علق تراب المسجد بجنبه "قم أبا تراب" وقوله لحذيفة بن اليمان يوم الخندق "قم يا نومان" ، وقوله لعبد الرحمن بن صخر الدوسي وقد رءاه حاملا هرة صغيرة في كمه "يا أبا هريرة" .
فنداء النبي ب {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ناء تلطف وارتفاق ومثله قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1].
و {المزمل} : اسم فاعل من تزمل، إذا تلفف بثوبه كالمقرور، أو مريد النوم وهو مثل لمدثر في مآل المعنى وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق فالتزمل مشتق من

معنى التلفف، والتدثر مشتق من معنى اتخاذ الدثار للتدفؤ. وأصل التزمل مشتق منالزمل بفتح فسكون وهو الإخفاء ولا يعرف ل "تزمل" فعل مجرد في معناه فهو من التفعل الذي تنوسي منه معنى التكلف للفعل، وأريد في إطلاقه معنى شدة التلبس، وكثر مثل هذا في الاشتمال على اللباس، فمنه التزمل ومنه التعمم والتأزر والتقمص، وربما صاغوا له صيغة الافتعال مثل: ارتدى وائتزر.
وأصل {المزمل} : المتزمل، أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا لتقارهما.
وهذا التزمل الذي أشارت إليه الآية قال الزهري وجمهور المفسرين: إنه التزمل الذي جرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم "زملوني زملوني" حين نزل من غار حراء بعد أن نزل عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] الآيات كما في حديث عروة عن عائشة في كتاب بدء الوحي من صحيح البخاري وإن لم يذكر في ذلك الحديث نزول هذه السورة حينئذ، وعليه فهو حقيقة.
وقيل: هو ما في حديث جابر بن عبد الله قال لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه "أي صفوه وصفا تتفق عليه الناس" فقالوا: كاهن، وقالوا:مجنون، وقالوا: ساحر، فصدر المشركون على وصفه ب ساحر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وتزمل في ثيابه وتدثر، فأتاه جبريل فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1].
وسيأتي في سورة المدثر: أن سبب نزولها رؤيته الملك جالسا على كرسي بين السماء والأرض فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال دثروني فيتعين أن سبب ندائه ب {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} كان عند قوله زملوني، فذلك عندما اغتم من وصف المشركين إيه بالجنون وأن ذلك غير سبب ندائه ب {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} في سورة المدثر.
وقيل: هو تزمل للاستعداد للصلاة فنودي {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} وهذا مروي عن قتادة. وقريب منه عن الضحاك وهي أقوال متقاربة.
ومحملها على أن التزمل حقيقة، وقال عكرمة: معناه زملت هذا الأمر فقم به، يريد أمر النبؤة فيكون قوله: {اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} مع قوله: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً} [المزمل:7] تحريضا على استفراغ جهده في القيام بأمر التبليغ في جميع الأزمان من ليل

ونهار إلا قليلا من الليل وهو ما يضطر إليه من الهجوع فيه. ومحمل التزمل عنده على المجاز.
فإذا كانت سورة المزمل قد أنزلت قبل سورة المدثر كان ذلك دالا على أن الله تعالى بعد أن أبتدأ رسوله بالوحي بصدر سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] ثم أنزل عليه سورة القلم لدحض مقالة المشركين فيه التي دبرها الوليد بن المغيرة أن يقولوا: إنه مجنون.
أنزل عليه التلطف به على تزمله بثيابه لما اعتراه من الحزن من قول المشركين فأمره الله بأن يدفع ذلك عنه بقيام الليل، ثم فتر الوحي فلما رأى الملك الذي أرسل إليه بحراء تدثر من شدة وقع تلك الرؤية فأنزل عليه {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .
فنداء النبي صلى الله عليه وسلم بوصف {المزمل} باعتبار حالته وقت ندائه ليس المزمل معدودا من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، قال السهيلي: ولم يعرف به وذهب بعض الناس إلى عده من أسمائه.
وفعل {قم} منزل منزلة اللازم فلا يحتاج إلى تقدير متعلق لأن القيام مراد به الصلاة، فهذا القيام مغاير للقيام المأمور به في سورة المدثر بقوله: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2] فإن ذلك بمعنى الشروع كما يأتي هنالك.
و {الليل} : زمن الظلمة من بعد العشاء إلى الفجر. وأنتصب {الليل} على الظرفية فاقتضى الأمر بالصلاة في جميع وقت الليل، ويعلم استثناء أوقات قضاء الضرورات من إغفاء بالنوم ونحوه من ضرورات الإنسان.
وقيام الليل لقب في اصطلاح القرآن والسنة للصلاة فيه ما عدا صلاة المغرب والعشاء ورواتبهما.
وأمر الرسول بقيام الليل أمر إيجاب وهو خاص به لأن الخطاب موجه إليه وحده مثل السور التي سبقت نزول هذه السورة، وأما قيام الليل للمسلمين فهم اقتدوا فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى قوله: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20] الآيات قال الجمهور وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس في أوقات النهار والليل ولعل حكمة هذا القيام الذي فرض على الرسول صلى الله عليه وسلم في صدر رسالته هو أن تزداد به سريرته زكاء يقوي استعداده لتلقي الوحي حتى لا يخرجه الوحي كما ضغطه عند نزوله كما ورد في حديث البخاري "فغطني حتى بلغ مني الجهد" ثم قال:

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] الحديث، ويدل هذه الحكمة قوله تعالى عقبه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء قبيل بعثته بإلهام من الله تعالى، فالذي ألهمه ذلك قبل أن يوحى إليه يجدر بأن يأمره به بعد أن أوحى إليه فلا يبقى فترة من الزمن غير متعبد لعبادة، ولهذا نرجح أن قيام الليل فرض عليه قبل فرض الصلوات الخمس عليه وعلى الأمة.
وقد استمر وجوب قيام الليل على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلوات الخمس تعظيما لشأنه بكثرة الإقبال على مناجاة ربه في وقت فراغه من تبليغ الوحي وتدبير شؤون المسلمين وهو وقت الليل كما يدل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} ، أي زيادة قرب لك. وقد تقدم في سورة الإسراء: [79].
فكان هذا حكما خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره الفقهاء في باب خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن واجبا على غيره ولم تفرض على المسلمين صلاة قبل الصلوات الخمس. وإنما كان المسلمون يقتدون بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرهم على ذلك فكانوا يرونه لزاما عليهم، وقد أثنى الله عليهم بذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، وسيأتي ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} [المزمل:20] الآية، قالت عائشة "إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام النبي وأصحابه"، على أنه لا خلاف في رفع فرض القيام عن المسلمين. وتقرر أنه مندرب مندوب فيه. واختلف في استمرار وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم ولا طائل وراء الاستدلال على ذلك أو عدمه.
وقوله: {إِلَّا قَلِيلاً} استثناء من {الليل} أي إلا قليلا منه، فلم يتعلق إيجاب القيام عليه بأوقات الليل كلها.
و {نصفه} بدل من {قليلا} بدلا مطابقا وهو تبيين لإجمال {قليلا} فجعل القيام هنا النصف أو أقل منه بقليل.
وفائدة هذا الإجمال الإيماء إلى أن الأولى أن يكون القيام أكثر من مدة نصف الليل رحمة ورخصة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدل ذلك تعقيبه بقوله: {أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} أي انقص من النصف قليلا، فيكون زمن قيام الليل أقل من نصفه، وهو حينئذ قليل فهو رخصة من الرخصة.

وقال {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} وهو عود إلى الترغيب في أن تكون مدة القيام أكثر من نصف الليل ولذلك لم يقد {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} بمثل ما قيد به {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} لتكون الزيادة على النصف متسعة، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالعزيمة فقام حتى تورمت قدماه وقيل له في ذلك إن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: "أفلا أكون عبدا شكورا" .
والتخيير المستفاد من حرف {أو} منظور فيه إلى تفاوت الليالي بالطول والقصر لأن ذلك ارتباطا بسعة النهار للعمل ولأخذ الحظ الفائت من النوم.
وبعد فذلك توسيع على النبي صلى الله عليه وسلم لرفع حرج تحديده لزمن القيام فسلك به مسلك التقريب.
وجعل ابن عطية {الليل} اسم جنس يصدق على جميع الليالي، وأن المعنى: إلا قليلا من الليالي، وهي الليالي التي يكون فيها عذر يمنعه من قيامها، أي هو استثناء من الليالي باعتبار جزيئاتها لا باعتبار الأجزاء، ثم قال {نصفه} إلى آخره.
وتخصيص الليل بالصلاة فيه لأنه وقت النوم عادة فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقيام فيه زيادة في إشغال أوقاته بالإقبال على مناجاة الله: ولأن الليل وقت سكون الأصوات وإشغال الناس فتكون نفس القائم فيه أقوى استعدادا لتلقي الفيض الرباني.
{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} .
يجوز أن يكون متعلقا بقيام الليل، أي رتل قراءتك في القيام.
ويجوز أن يكون أمرا مستقلا بكيفية قراءة القرآن جرى ذكره بمناسبة الأمر بقيام الليل، وهذا أولى لأن القراءة في الصلاة تدخل في ذلك. وقد كان نزول هذه السورة في أول العهد بنزول القرآن فكان جملة القرآن حين نزول هذه السورة سورتين أو ثلاث سور بناء على أصح الأقوال في أن هذا المقدار من السور مكي، وفي أن هذه السورة من أوائل السور، وهذا مما أشعر به قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] أي سنوحي إليك قرآنا.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن بمهل وتبيين.
والترتيل: جعل الشيء مرتلا، أي مفرقا، وأصله من قولهم: ثغر مرتل، وهو المفلج

الأسنان، أي المفرق بين أسنانه تفريقا قليلا بحيث لا تكون النواجذ متلاصقة. وأريد بترتيل القرآن ترتيل قراءته، أي التمهل في النطق بحروف القرآن حتى تخرج من الفم واضحة مع إشباع الحركات التي تستحق الإشباع. ووصفت عائشة الترتيل فقالت "لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها لا كسردكم هذا".
وفائدة هذا أن يرسخ حفظه ويتلقاه السامعون فيعلق بحوافظهم، ويتدبر قارئه وسامعه معانيه كي لا يسبق لفظ اللسان عمل الفهم. قال قائل لعبد الله بن مسعود: قرأت المفصل في ليلة فقال عبد الله هذا كهذ الشعر لأنهم كانوا إذا أنشدوا القصيدة أسرعوا ليظهر ميزان بحرها، وتتعاقب قوافيها على الأسماع. والهذ: إسراع القطع.
وأكد هذا المر بالمفعول المطلق لإفادة تحقيق صفة الترتيل. وقرأ الجمهور {أَوِ انْقُص} بضم الواو للتخلص من التقاء الساكنين عند سقوط همزة الوصل، حركة الواو بضمة لمناسبة ضمة قاف {انْقُص} بعدها. وقرأه حمزة وعاصم بكسر الواو على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين.
ووقع في قوله: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ} إذا "شبعت" فتحة نون القرآن محسن الاتزان بأن يكون مصراعا من بحر الكامل أحد دخله الإضمار مرتين.
[5] {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} .
تعليل للأمر بقيام الليل وقع اعتراضا بين جملة {قُمْ اللَّيْلَ} [المزمل:2] وجملة {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل:6]، وهو جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لحكمة الأمر بقيام الليل بأنها تهيئة نفس النبي صلى الله عليه وسلم ليحمل شدة الوحي، وفي هذا إيماء إلى أن الله يسر عليه ذلك كما قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17]، فتلك مناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:2] فهذا إشعار بأن نزول هذه الآية كان في أول عهد النبي صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن فلما قال له: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] أعقب ببيان علة الأمر بترتيل القرآن.
والقول الثقيل هو القرآن وإلقاؤه عليه: إبلاغه له بطريق الوحي بواسطة الملك.
وحقيقة الإلقاء: رمي الشيء من اليد إلى الأرض وطرحه، ويقال: شيء لقى، أي مطروح، استعير الإلقاء للإبلاغ دفعة على غير ترقب.

والثقل الموصوف به القول ثقل مجازي لا محالة، مستعار لصعوبة حفظه لاشتماله على معان ليست من معتاد ما يجول في مدارك قومه فيكون حفظ ذلك القول عسيرا على الرسول الأمي تنوء الطاقة عن تلقيه.
وأشعر قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} أن ثقله متعلق ابتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم لقوله قبله {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ} وهو ثقل مجازي في جميع اعتباراته وهو ثقيل صعب تلقيه ممن أنزل عليه. قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد له جلده أي تغير بمثل القشعريرة وقالت عائشة رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقا.
ويستعار ثقل القول لاشتماله على معان وافرة يحتاج العلم بها لدقة النظر وذلك بكمال هديه ووفرة معانيه. قال الفراء ثقيلا ليس بالكلام السفساف. وحسبك أنه حوى من المعارف والعلوم ما لا يفي العقل بالإحاطة به فكم غاصت فيه أفهام العلماء من فقهاء ومتكلمين وبلغاء ولغويين وحكماء فشابه الشيء الثقيل في أنه لا يقوى الواحد على الاستقلال بمعانيه.
وتأكيد هذا الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به وإشعار الرسول صلى الله عليه وسلم بتأكيد قربه واستمراره، ليكون وروده أسهل عليه من ورود الأمر المفاجيء.
[6] {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً}
تعليل لتخصيص زمن الليل بالقيام فيه فهي مرتبطة بجملة {قُمْ اللَّيْلَ} [المزمل:2]، أي قم الليل لأن ناشئته أشد وطئا وأقوم قيلا.
والمعنى: أن في قيام الليل تزكية وتصفية لسرك وارتقاء بك إلى المراقي الملكية.
و {نَاشِئَةَ} وصف من النشء وهو الحدوث. وقد جرى هذا الوصف هنا على غير موصوف، وأضيف إلى الليل إضافة على معنى "في" مثل "مكر الليل"، وجعل من أقوم القيل، فعلم أن فيه قولا وقد سبقه الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن، فتعين أن موصوفه المحذوف هو صلاة، أي الصلاة الناشئة في الليل، فإن الصلاة تشتمل على أفعال وأقوال وهي قيام.
ووصف الصلاة بالناشئة لأنها أنشأها المصلي فنشأت بعد هدأة الليل فأشبهت

السحابة التي تتنشأ من الأفق بعد صحو، وإذا كانت الصلاة بعد نوم فمعنى النشء فيها أقوى، ولذلك فسرتها عائشة بالقيام بعد النوم. وفسر ابن عباس {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} بصلاة الليل كلها. واختاره مالك. وعن علي بن الحسين: أنها ما بين المغرب والعشاء. وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير: أن أصل هذا معرب عن الحبشة، وقد عدها السبكي في منظومته في معربات القرآن.
وإيثار لفظ {ناشئة} في هذه الآية دون غيره من نحو: قيام، أو تهجد، لأجل ما يحتمله من هذه المعاني ليأخذ الناس فيه بالاجتهاد.
وقرأ جمهور العشرة {وَطْئاً} بفتح الواو وسكون الطاء بعدها همزة، والوطء: أصله وضع الرجل على الأرض، وهو هنا مستعار لمعنى يناسب أن يكون شأنا للظلام بالليل، فيجوز أن يكون الوطء استعير لفعل من أفعال المصلي على نحو إسناد المصدر إلى فاعله، أي واطئا أنت، فهو مستعار لتمكن المصلي من الصلاة في الليل بتفرغه لها وهدوء باله من الأشغال النهارية تمكن الواطئ على الأرض فهو أمكن للفعل. والمعنى: أشد وقعا، وبهذا فسره جابر بن زيد والضحاك وقاله الفراء.
ويجوز أن يكون الوطء مستعارا لحالة صلاة الليل وأثرها في المصلي، أي أشد أثر خير في نفسه وأرسخ خيرا وثوابا، وبهذا فسره قتادة.
وقرأه ابن عامر وأبو عمرو وحده {وطاء} بكسر الواو وفتح الطاء ومدها مصدر واطأ من مادة الفعال. والوطاء: الوفاق والملائمة، قال تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة:37]. والمعنى: أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب، أي بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل وبحاصل هذا فسر مجاهد.
وضمير {هي} ضمير فصل، وانظر ما سيأتي عند قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا ِلأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} [المزمل:20] في وقوع ضمير الفصل بين معرفة واسم تفضيل. وضمير الفصل هنا لتقوية الحكم لا للحصر.
والأقوم: الأفضل في التقوي الذي هو عدم الاعوجاج والالتواء واستعير {أقوم} للأفضل الأنفع.
وقيلا: القول، وأريد به قراءة القرآن لتقدم قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}

[المزمل:5]. فالمعنى: أن صلاة الليل أعون على تذكر القرآن والسلامة من نسيان بعض الآيات، وأعون على المزيد من التدبر. قال ابن عباس: {وَأَقْوَمُ قِيلاً} : أدنى من أن يفقهوا القرآن. وقال قتادة: أحفظ للقراءة، وقال ابن زيد: أقوم قراءة لفراغه من الدنيا.
وانتصب {وَطْئاً} و {قِيلاً} نسبة تمييزي ل {أشد} ، ول {أَقْوَمُ} .
[7] {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} .
فصل هذه الجملة دون عطف على ما قبلها يقتضي أن مضمونها ليس من جنس حكم ما قبلها، فليس المقصود تعيين صلاة النهار إذ لم تكن الصلوات الخمس قد فرضت يومئذ على المشهور، ولم يفرض حينئذ إلا قيام الليل.
فالذي يبدو أن موقع هذه الجملة موقع العلة لشيء مما في جملة {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] وذلك دائر: بين أن يكون تعليلا لاختيار الليل لفرض القيام عليه فيه، فيفيد تأكيد للمحافظة على قيام الليل لأن النهار لا يغني غناءه فيتحصل من المعنى: قم الليل لأن قيامه أشد وقعا وأرسخ قولا، لأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك. وشغل النبي صلى الله عليه وسلم في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقاد المؤمنين المستضعفين، فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل، وبين أن يكون تلطفا واعتذارا عن تكليفه بقيام الليل، وفيه إرشاد إلى أن النهار ظرف واسع لإيقاع ما عسى أن يكلفه قيام الليل من فتور بالنهار لينام بعض النهار وليقوم بمهامه فيه.
ويجوز أن يكون تعليلا لما تضمنه {أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} [المزمل:3] أي إن نقصت من نصف الليل شيئا لا يفتك ثواب علمه، فإن لك في النهار متسعا للقيام والتلاوة مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62].
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في النهار من أول البعثة قبل فرض الصلوات الخمس كما دل عليه قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10]. وقد تقدم في سورة الجن أن استماعهم القرآن كان في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في نخلة في طريقهم إلى عكاظ. ويظهر أن يكون كل هذا مقصودا لأنه مما تسمح به دلالة كلمة {سَبْحاً طَوِيلاً} وهي من بليغ الإيجاز.

والسبح: أصله العوم، أي السلوك بالجسم في ماء كثير، وهو مستعار هنا للتصرف السهل المتسع الذي يشبه حركة السابح في الماء فإنه لا يعترضه ما يعوق جولانه على وجه الماء ولا إعياء السير في الأرض.
وقريب من هذه الاستعارة استعارة السبح لجري الفرس دون كلفة في وصف امرئ القيس الخيل السابحات في قوله في مدح فرسه:
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن الغبار في الكديد المركل
فعبر عن الجاريات بالسابحات.
وفسر ابن عباس السبح بالفراغ، أي لينام في النهار، وقال ابن وهب عن ابن زيد قال: فراغا طويلا لحوائجك فافرغ لدينك في الليل.
والطويل: وصف من الطول، وهو ازدياد امتداد القامة أو الطريق أو الثوب على مقادير أكثر من أمثاله. فالطول من صفات الذوات، وشاع وصف الزمان به يقال: ليل طويل وفي الحديث الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه.
أما وصف السبح ب"طويل" في هذه الآية فهو مجاز عقلي لأن الطويل هو مكان السبح وهو الماء المسبوح فيه. وبعد هذا ففي قوله: {طَوِيلاً} ترشيح لاستعارة السبح للعمل في النهار.
[8-9] {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} .
عطف على {قُمْ اللَّيْلَ} [المزمل:2] وقصد بإطلاق الأمر عن تعيين زمان إلى إفادة تعميمه، أي ذكر اسم ربك في الليل وفي النهار كقوله: {وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الإنسان:25].
وإقحام كلمة {اسم} لأن المأمور به ذكر اللسان وهو الجامع للتذكر بالعقل لأن الألفاظ تجري على حسب ما في النفس، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ} [الأعراف:205].
والتبتل: شدة البتل، وهو مصدر تبتل القاصر الذي هو مطاوع بتله ف {تبتل} وهو هنا للمطاوعة المجازية يقصد من صيغتها المبالغة في حصول الفعل حتى كأنه فعله غيره به

فطاوعه، والتبتل: الانقطاع وهو هنا انقطاع مجازي، أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي ب"إلى" الدالة على الانتهاء، قال امرؤ القيس:
منارة ممسى راهب متبتل
والتبتيل: مصدر بتل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التقطيع.
وجيء بهذا المصدر عوضا عن التبتل للإشارة إلى حصول التبتل، أي الانقطاع يقتضي التبتيل أي القطع. ولما كان التبتيل قائما بالمتبتل تعين أن تبتيله قطع نفسه عن غير من تبتل هو إليه فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى فالجمع بين {تبتل} و {تبتيلا} مشير إلى إراضة النفس عن ذلك التبتل. وفيه مع ذلك وفاء برعي الفواصل التي قبله.
والمراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمتعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجة المشركين ولذلك قيل {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} أي إلى الله فكل عمل يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله. وكذلك منعشات الروح البريئة من الإثم مثل الطيب، وتزوج النساء، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه، وقد قال: "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب" .
وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة.
وفي حديث سعد في "الصحيح" "رد رسول الله على عثمان ابن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا" يعني رد عليه استشارته في الإعراض عن النساء.
ومن أكبر التبتل إلى الله الانقطاع عن الإشراك، وهو معنى الحنيفية، ولذلك عقب قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} بقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .
وخلاصة المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن لا تخلو أوقاته عن إقبال على عبادة الله ومراقبته والانقطاع للدعوة لدين الحق، وإذ قد كان النبي صلى الله عليه وسلم من قبل غير غافل عن هذا الانقطاع بإرشاد من الله كما ألهمه التحنث في غار حراء ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة. فالأمر في قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} مراد به الدوام على ذلك فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل فإن في سورة القلم [51] "وقد نزلت قبل المزمل" {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ

كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم:51] على أن القرآن الذي أنزل أولا أكثره إرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم إلى طرائق دعوة الرسالة فلذلك كان غالب ما في السور الأول منه مقتصرا على سن التكاليف الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ووصف الله بأنه {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} لمناسبة الأمر بذكره في الليل وذكره في النهار وهما وقتا ابتداء غياب الشمس وطلوعها، وذلك يشعر بامتداد كل زمان منهما إلى أن يأتي ضده؛ فيصح أن يكون المشرق والمغرب جهتي الشروق والغروب فيكون لاستيعاب جهات الأرض، أي رب جميع العالم وذلك يشعر بوقتي الشروق والغروب.
ويصح أن يراد بهما وقتا الشروق والغروب أي مبدأ ذينك الوقتين ومنتهاهما، كما يقال: سبحوا الله كل مشرق شمس، وكما يقال: صلاة المغرب.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر برفع {رب} على أنه خبر لمبتدأ محذوف حذفا جرى على الاستعمال في مثله مما يسبق في الكلام حديثا عنه. ثم أريد الإخبار عنه بخبر جامع لصفاته، وهو من قبيل النعت المقطوع المرفوع بتقدير مبتدأ. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بخفض {رب} على البدل من {ربك} .
وعقب وصف الله ب {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ، بالإخبار عنه أو بوصفه بأنه لا إله إلا هو لأن تفرده بالإلهية بمنزلة النتيجة لربوبية المشرق والمغرب فلما كانت ربوبيته للعالم لا ينازع فيها المشركون أعقبت بما يقتضي إبطال دعوى المشركين تعدد الآلهة بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} تعريضا بهم في أثناء الكلام وإن كان الكلام مسوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك فرع عليه قوله: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} ، وإذا كان الأمر باتخاذ وكيلا مسببا عن كونه لا إله إلا هو كان ذلك في قوة النهي عن اتخاذ وكيل غيره، إذ ليس غيره بأهل لاتخاذه وكيلا.
والوكيل: الذي يوكل إليه الأمور، أي يفوض إلى تصرفه، ومن أهم التفويض أمر الانتصار لمن توكل عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قول المشركين فيه اغتم لذلك، وقد روي أن ذلك سبب تزمله من موجدة الحزن فأمره الله بأن لا يعتمد إلا عليه، وهذا تكفل بالنصر ولذلك عقب بقوله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10].
[10] {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} .
عطف على قوله: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل:9]، والمناسبة أن الصبر على الأذى

يستعان عليه بالتوكل على الله.
وضمير {يقولون} عائد إلى المشركين، ولم يتقدم له معاد فهو من الضمائر التي استغني عن ذكر معادها بأنه معلوم للسامعين كما تقدم غير مرة، ومن ذلك عند قوله تعالى: {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن:16] الآيات من سورة {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن:1]، ولأنه سيأتي عقبه قوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل:11] فيبين المراد من الضمير.
وقد مضى في السور التي نزلت قبل سورة المزمل مقالات أذى من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففي سورة العلق [9-10] {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} . قيل هو أبو جهل تهدد رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن صلى في المسجد الحرام ليفعلن ويفعلن. وفيها {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7]. قيل هو الأخنس بن شريق تنكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان حليفه، وفي سورة القلم [2-15] {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} إلى قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ، بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ} ، وقوله: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ} إلى قوله: {قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:15] ردا لمقالاتهم. وفي سورة المدثر [11-25] إن كانت نزلت قبل سورة المزمل {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى قوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} ، قيل: قائل ذلك الوليد بن المغيرة فلذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقولون.
والهجر الجميل: هو الحسن في نوعه، فإن الأحوال والمعاني منها حسن ومنها قبيح في نوعه، وقد يقال: كريم، وذميم، وخالص، وكدر، ويعرض الوصف للنوع بما من شأنه أن يقترن به من عوارض تناسب حقيقة النوع فإذا جردت الحقيقة عن الأعراض التي قد تتعلق بها كان نوعه خالصا، وإذا ألصق بالحقيقة ما ليس من خصائصها كان النوع مكدرا قبيحا، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]. وتقدم عند قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29]، ومن هذا المعنى قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} في سورة يوسف [18]، وقوله: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} في سورة المعارج [5].
فالهجر الجميل هو الذي يقتصر صاحبه على حقيقة الهجر، وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى، ولما كان الهجر ينشأ عن بعض المهجور، أو كراهية أعماله كان معرضا لأن يتعلق به أذى من سب أو ضرب أو نحو ذلك. فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجرا جميلا، أي أن يهجرهم ولا يزيد على هجرهم سبا أو انتقاما.

وهذا الهجر: هو إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن مكافاتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} .
وليس منسحبا على الدعوة للدين فإنها مستمرة ولكنها تبليغ عن الله تعالى فلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد انتزع فخر الدين من هذه الآية منزعا خلقيا بأن الله جمع ما يحتاج إليه الإنسان في مخالطة الناس في هاتين الكلمتين لأن المرء إما أن يكون مخالطا فلا بد له من الصبر على أذاهم وإيحاشهم لأنه إن أطمع نفسه بالراحة معهم لم يجدها مستمرة فيقع في الغموم إن لم يرض نفسه بالصبر على أذاهم، وإن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل.
[11] {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} .
القول فيه كالقول في {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} في سورة القلم [44]، أي دعني وإياهم، أي لا تهتم بتكذيبهم ولا تشتغل بتكرير الرد عليهم ولا تغضب ولا تسبهم فأنا أكفيكهم.
وانتصب {الْمُكَذِّبِينَ} على المفعول معه، والواو واو المعية.
والمكذبون هم من عناهم بضمير {يقولون} و {اهجرهم} ، وهم المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، فهو إظهار في مقام الإضمار لإفادة أن التكذيب هو سبب هذا التهديد.
ووصفهم ب {أُولِي النَّعْمَةِ} توبيخا لهم بأنهم كذبوا لغرورهم وبطرهم بسعة حالهم، وتهديدا لهم بأن الذي قال {ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} سيزيل عنهم ذلك التنعم.
وفي هذا الوصف تعريض بالتهكم، لأنهم كانوا يعدون سعة العيش ووفرة المال كمالا، وكانوا يعيرون الذين آمنوا بالخصاصة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} الآيات [المطففين: 29-30]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} [محمد:12].
و {النعمة} : هنا بفتح بفتح النون باتفاق القراء. وهي اسم للترفه، وجمعها أنعم بفتح الهمزة وضم العين.
وأما النعمة بكسر النون فاسم للحالة الملائمة لرغبة الإنسان من عافية، وأمن ورزق،

ونحو ذلك من الرغائب. وجمعها: نعم بكسر النون وفتح العين، وتجمع جمع سلامة على نعمات بكسر النون وبفتح العين لجمهور العرب. وتكسر العين في لغة أهل الحجاز كسرة إتباع.
والنعمة بضم النون اسم للمسرة فيجوز أن تجمع على نعم على أنه اسم جمع، ويجوز أن تجمع على نعم بضم ففتح مثل: غرفة وغرف، وهو مطرد في الوزن.
وجعلهم ذوي النعمة المفتوحة النون للإشارة إلى قصارى حظهم في هذه الحياة هي النعمة، أي الانطلاق في العيش بلا ضيق، والاستظلال بالبيوت والجنات، والإقبال على لذيذ الطعوم ولذائذ الانبساط إلى النساء والخمر والميسر، وهم معرضون عن كمالات النفس ولذة الاهتداء والمعرفة قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وتعريف {النعمة} للعهد.
والتمهيل: الإمهال الشديد، والإمهال: التأجيل وتأخير العقوبة، وهو مترتب في المعنى على قوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} ، أي وانتظر أن ننتصر لك كقوله تعالى: {وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35].
و {قليلا} وصف لمصدر محذوف، أي تمهيلا قليلا. وانتصب على المفعول المطلق.
[12-14] {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً، وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً، يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} .
وهذا تعليل لجملة {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل:11]، أي لأن لدينا ما هو أشد عليهم من ردك عليهم، وهذا التعليل أفاد تهديدهم بأن هذه النقم أعدت لهم لأنها لما كانت من خزائن نقمة الله تعالى كانت بحيث يضعها الله في المواضع المستأهلة لها، وهم الذين بدلوا نعمة الله كفرا، فأعد الله ما يكون عليهم في الحياة الأبدية ضدا لأصول النعمة التي خولوها، فبطروا بها وقابلوا المنعم بالكفران.
فالأنكال مقابل كفرانهم بنعمة الصحة والمقدرة لأن الأنكال القيود. والجحيم: هو نار جهنم مقابل ما كانوا عليه من لذة الاستظلال والتبرد. والطعام: ذو الغصة مقابل ما كانوا منهمكين فيه من أطعمتهم الهنيئة من الثمرات والمطبوخات والصيد. والأنكال: جمع

نكل بفتح النون وبكسرها وبسكون الكاف، وهو القيد الثقيل.
والغصة بضم الغين: اسم لأثر الغص في الحلق وهو تردد الطعام والشراب في الحلق بحيث لا يسيغه الحلق من مرض أو حزن وعبرة.
وإضافة الطعام إلى الغصة إضافة مجازية وهي من الإضافة لأدنى ملابسة، فإن الغصة عارض في الحلق سببه الطعام أو الشرب الذي لا يستساغ لبشاعة أو يبوسة.
والعذاب الأليم: مقابل ما في النعمة من ملاذ البشر، فإن الألم ضد اللذة. وقد عرف الحكماء اللذة بأنها الخلاص من الألم.
وقد جمع الأخير جمع ما يضاد معنى النعمة "بالفتح".
وتنكير هذه الأجناس الأربعة لقصد تعظيمها وتهويلها، و"لدى" يجوز أن يكون على حقيقته ويقدر مضاف بينه وبين نون العظمة. والتقدير: لدى خزائننا، أي خزائن العذاب، ويجوز أن يكون مجازا في القدرة على إيجاد ذلك متى أراد الله.
ويتعلق {يَوْمَ تَرْجُفُ} بالاستقرار الذي يتضمنه خبر {إن} في قوله: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً} .
والرجف: الزلزلة والاضطراب، والمراد: الرجف المتكرر المستمر، وهو الذي يكون به انفراط أجزاء الأرض وانحلالها.
والكثيب: الرمل المجتمع كالربوة، أي يصير حجارة الجبال دقاقا.
ومهيل: اسم مفعول من هال الشيء هيلا، إذا نثره وصبه. وأصله مهيول، استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الساكن قبلها فالتقى ساكنان فحذفت الواو، ولأنها زائدة ويدل عليها الضمة.
وجيء بفعل {كانت} في قوله: {وَكَانَتْ الْجِبَالُ كَثِيبًا} ، للإشارة إلى تحقيق وقوعه حتى كأنه وقع في الماضي. ووجه مخالفته لأسلوب {تَرْجُفُ} أن صيرورة الجبال كثبا أمر عجيب غير معتاد، فلعله يستبعده السامعون وأما رجف الأرض فهو معروف، إلا أن هذا الرجف الموعود به أعظم ما عرف جنسه.
[15-16] {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً،

فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} .
نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب، موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والمناسبة لذلك التخلص إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجرا جميلا إذ قال له {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} إلى قوله: {وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:13].
فالكلام استئناف ابتدائي، ولا يعد هذا الخطاب من الالتفات لأن الكلام نقل إلى غرض غير الغرض الذي كان قبله.
فالخطاب فيه جار على مقتضى الظاهر على كلا المذهبين: مذهب الجمهور ومذهب السكاكي.
والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثل مضروب للمشركين.
وهذا أول مثل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة.
واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى عليه السلام، لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإعراض عن دعوة الرسول وهو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله، وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطع مثله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47] وقد قال أهل مكة {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21]. وقد تكرر في القرآن ضرب المثل بفرعون لأبي جهل وهو زعيم المناوين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤلبين عليه وأشد صناديد قريش كفرا.
وأكد الخبر ب"أن" لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولا.
ونكر {رسولا} لأنهم يعلمون المعني به في هذا الكلام، ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو صفة الإرسال.
وأدمج في التنظير والتهديد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه شاهدا عليهم.

والمراد بالشهادة هنا: الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس وبذلك يكون وصف {شاهدا} موافقا لاستعمال الوصف باسم الفاعل في زمن الحال، أي هو شاهد عليكم الآن بمعاودة الدعوة والإبلاغ.
وأما شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهي شهادة بصدق المسلمين في شهادتهم على الأمم بأن رسلهم أبلغوا إليهم رسالات ربهم، وذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} كما ورد تفصيل تفسيرها في الحديث الصحيح، وقد تقدم في سورة البقرة [143].
وتنكير {رسولا} المرسل إلى فرعون لأن الاعتبار بالإرسال لا بشخص المرسل إذ التشبيه تعلق بالإرسال في قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ} إذ تقديره كإرسالنا إلى فرعون رسولا.
وتفريع {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} إيماء إلى أن ذلك هو الغرض من هذا الخبر وهو التهديد بأن يحل بالمخاطبين لما عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ما حل بفرعون.
وفي إظهار اسم فرعون في قوله: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ} دون أن يؤتى بضميره للنداء عليه بفظاعة عصيانه الرسول.
ولما جرى ذكر الرسول المرسل إلى فرعون أول مرة جيء به في ذكره ثاني مرة معرفا بلام العهد وهو العهد الذكري، أي الرسول المذكور آنفا فإن النكرة إذا أعيدت معرفة باللام كان مدلولها عين الأولى.
والأخذ مستعمل في الإهلاك مجازا لأنه لما أزالهم من الحياة أشبه فعله أخذ الآخذ شيئا من موضعه وجعله عنده.
والوبيل: فعيل صفة مشبهة من وبل المكان، إذا وخم هواؤه أو مرعى كلئه، وقال زهير:
إلى كلا مستوبل متوخم
وهو هنا مستعار لسيء العاقبة شديد السوء وأريد به الغرق الذي أصاب فرعون وقومه.
[17-18] {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً، السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ

كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً}
الاستفهام ب"كيف" مستعمل في التعجيز والتوبيخ وهو متفرع بالفاء على ما تضمنه الخطاب السابق من التهديد على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وما أدمج فيه من التسجيل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد عليهم فليس بعد الشهادة إلا المؤاخذة بما شهد به. وقد انتقل بهم من التهديد بالأخذ في الدنيا المستفاد من تمثيل حالهم بحال فرعون مع موسى إلى الوعيد بعقاب أشد وهو عذاب يوم القيامة وقد نشأ هذا الاستفهام عن اعتبارهم أهل اتعاظ وخوف من الوعيد بما حل بأمثالهم مما شأنه أن يثير فيهم تفكيرا من النجاة من الوقوع فيما هددوا به، وأنهم إن كانوا أهل جلادة على تحمل عذاب الدنيا فماذا يصنعون في اتقاء عذاب الآخرة، فدلت فاء التفريع واسم الاستفهام على هذا المعنى.
فالمعنى: هبكم أقدمتم على تحمل عذاب الدنيا فكيف تتقون عذاب الآخرة، ففعل الشرط من قوله: {إِنْ كَفَرْتُمْ} مستعمل في معنى الدوام على الكفر لأن ما يقتضيه الشرط من الاستقبال قرينة على إرادة معنى الدوام من فعل {كَفَرْتُمْ} وإلا فإن كفرهم حاصل من قبل نزول هذه الآية.
و {يوما} منصوب على المفعول به لـ {تتقون} . واتقاء اليوم اتقاء ما يقع فيه من عذاب أي على الكفر.
ووصف اليوم بأنه {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} وصف له باعتبار ما يقع فيه من الأهوال والأحزان، لأنه شاع أن ألهم مما يسرع به الشيب فلما أريد وصفهم هم ذلك اليوم بالشدة البالغة أقواها أسند إليه يشيب الولدان الذين شعرهم في أول سواده. وهذه مبالغة عجيبة وهي من مبتكرات القرآن فيما أحسب، لأني م أر هذا المعنى في كلام العرب وأما البيت الذي يذكر في شواهد النحو وهو:
إذم والله نرميهم بحرب ... تشيب الطفل من قبل المشيب
فلا ثبوت لنسبته إلى من كانوا قبل نزول القرآن ولا يعرف قائله، ونسبه بعض المؤلفين إلى حسان بن ثابت. وقال العيني: لم أجده في ديوانه. وقد أخذ المعنى الصمة بن عبد الله القشيري في قوله:
دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا
وهو من شعراء الدولة الأموية وإسناد {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} إلى اليوم مجاز عقلي

بمرتبتين لأن ذلك اليوم زمن الأهوال التي تشيب لمثلها الأطفال، والأهوال سبب للشيب عرفا.
والشيب كناية عن هذا الهول فاجتمع في الآية مجازان عقليان وكناية ومبالغة في قوله: {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} .
وجملة {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} صفة ثانية.
والباء بمعنى "في" وهو ارتقاء في وصف اليوم بحدوث الأهوال فيه فإن لانفطار السماء أشد هولا ورعبا مما كني عنه بجملة {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} . أي السماء على عظمها وسمكها تنفطر لذلك اليوم فما ظنكم بأنفسكم وأمثالكم من الخلائق فيه.
والانفطار: التشقق الذي يحدث في السماء لنزول الملائكة وصعودهم كما تقدم في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} في سورة المعارج [4].
وذكر انفطار السماء في ذلك اليوم زيادة في تهويل أحواله لأن ذلك يزيد المهددين رعبا وإن لم يكن انفطار السماء من آثار أعمالهم ولا له أثر في زيادة نكالهم.
ويجوز أن تجعل جملة {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} مستأنفة معترضة بين جملة {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ} الخ، وجملة {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} والباء للسببية ويكون الضمير المجرور بالباء عائد إلى الكفر المأخوذ من فعل {كَفَرْتُمْ} .
ويجوز أن يكون الإخبار بانفطار السماء على طريقة التشبيه البليغ أي كالمنفطر به فيكون المعنى كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 88-90].
ووصف السماء بمنفطر بصيغة التذكير مع أن السماء في اللغة من الأسماء المعتبرة مؤنثة في الشائع. قال الفراء: السماء تذكر على التأويل بالسقف لأن أصل سميتها سماء على أصل التشبيه بالسقف، أي والسقف مذكر والسماء مؤنث. وتبعه الجوهري وابن بري. وأنشد الجوهري على ذلك قول الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء مع السحاب
وأنشد ابن بري أيضا في تذكير السماء بمعنى السقف قول الآخر:
وقالت سماء البيت فوقك مخلق ... ولما تيسر اجتلاء الركائب

ولا ندري مقدار صحة هذين الشاهدين من العربية على أنه قد يكونان من ضرورة الشعر. وقيل إذا كان الاسم غير حقيقي التأنيث جاز إجراء وصفه على التذكير فلا تلحقه هاء التأنيث قياسا على الفعل المسند للمؤنث غير حقيقي التأنيث في جواز اقترانه بتاء التأنيث وتجريده منها، إجراء للوصف مجرى الفعل وهو وجيه.
ولعل العدول في الآية عن الاستعمال الشائع في الكلام الفصيح في إجراء السماء على التأنيث، إلى التذكير إيثارا لتخفيف الوصف لأنه لما جيء به بصيغة منفعل بحفي زيادة وهما الميم والنون كانت الكلمة معرضة للثقل إذا ألحق بها حرف زائد آخر ثالث، وهو هاء التأنيث فيحصل فيها ثقل يجنبه الكلام البالغ غاية الفصاحة ألا ترى أنها لم تجر على التذكير في قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الإنفطار:1] إذ ليس في الفعل إلا حرف مزيد واحد وهو النون إذ لا اعتداد بهمزة الوصل لأنها ساقطة في حالة الوصل، فجاءت بعدها تاء التأنيث.
وجملة {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} صفة أخرى لـ {يوما} ، وهذا الوصف إدماج للتصريح بتحقيق وقوع ذلك اليوم بعد الإنذار به الذي هو مقتض لوقوعه بطريق الكناية استقصاء في إبلاغ ذلك إلى علمهم وفي قطع معذرتهم.
وضمير {وعده} عائد إلى {يوما} الموصوف، وإضافة {وعد} إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع، أي الوعد به، أي بوقوعه.
[19] {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} .
تذييل أي تذكرة لمن يتذكر فإن كان من منكري البعث آمن به وإن كان مؤمنا استفاق من بعض الغفلة التي تعرض للمؤمن فاستدرك ما فاته، وبهذا العموم الشامل لأحوال المتحدث عنهم وأحوال غيرهم كانت الجملة تذييلا.
والإشارة ب {هذه} إلى الآيات المتقدمة من قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} [المزمل:15].
وتأكيد الكلام بحرف التأكيد لأن المواجهين به ابتداء هم منكرون كون القرآن تذكرة وهدى فإنهم كذبوا بأنه من عند الله ووسموه بالسحر وبالأساطير، وذلك من أقوالهم التي أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبر عليها قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10].

والتذكرة: اسم لمصدر الذكر بضم الذال، الذي هو خطورة الشيء في البال، فالتذكرة: الموعظة لأنه تذكر الغافل عن سوء العواقب، وهذا تنويه بآيات القرآن وتجديد للتحريض على التدبر فيه والتفكر على طريقة التعريض.
وفرع على هذا التحريض التعريضي تحريض صريح بقوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي من كان يريد أن يتخذ إلى ربه سبيلا فقد تهيأ له اتخاذ السبيل إلى الله بهذه التذكرة فلم تبق للمتغافل معذرة.
والإتيان بموصول {مَنْ شَاءَ} من قبيل التحريض لأنه يقتضي أن هذا السبيل موصول إلى الخير فلا حائل يحول بين طالب الخير وبين سلوك هذا السبيل إلا مشيئته، لأن قوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} قرينة على ذلك. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]. فليس ذلك إباحة للإيمان والكفر ولكنه تحريض على الإيمان، وما بعده تحذير من الكفر، أي تبعة التفريط في ذلك على المفرط. ولذلك قال ابن عطية: ليس معناه إباحة الأمر وضده بل يتضمن معنى الوعد والوعيد.
وفي تفسير ابن عرفة الذي كان بعض شيوخنا يحملها على أنه مخير في تعيين السبيل فمتعلق التخيير عنده أن يبين سبيلا ما من السبل قال: وهو حسن، فيبقى ظاهر الآية في حالة من التخيير اه.
وقد علمت مما قررناه أنه لا حاجة إليه وأن ليس في الآية شيء بمعنى التخيير.
وفي قوله: {إِلَى رَبِّهِ} تمثيل لحال طالب الفوز والهدى بحال السائر إلى ناصر أو كريم قد أري السبيل الذي يبلغه إلى مقصده فلم يبقى له ما يعوقه عن سلوكه.
[20] {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا ِلأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} .

من هنا يبتدئ ما نزل من هذه السورة بالمدينة كما تقدم ذكره في أول السورة.
وصريح هذه الآية ينادي على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل قبل نزول الآية وأن طائفة من أصحابه كانوا يقومون عملا بالأمر الذي في أول السورة من قوله: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:2] الآية، فتعين أن هذه الآية نزلت للتخفيف عنهم جميعا لقوله فيها {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} فهي ناسخة للأمر الذي في أول السورة.
واختلف السلف في وقت نزولها ومكانه وفي نسبة مقتضاها من مقتضى الآية التي قبلها. والمشهور الموثوق به أن صدر السورة نزل بمكة.
ولا يغتر بما رواه الطبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة مما يوهم أن صدر السورة نزل بالمدينة. ومثله ما روي عن النخعي في التزمل بمرط لعائشة.
ولا ينبغي أن يطال القول في أن القيام الذي شرع في صدر السورة كان قياما واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وأن قيام من قام من المسلمين معه بمكة إنما كان تأسيا به وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه ولكن رأت عائشة أن فرض الصلوات الخمس نسخ وجوب قيام الليل، وهي تريد أن قيام الليل كان فرضا على المسلمين، وهو تأويل، كما لا ينبغي أن يختلف في أن أول ما أوجب الله على المة هو الصلوات الخمس التي فرضت ليلة المعراج وأنها لم يكن قبلها وجوب صلاة على الأمة ولو كان لجرى ذكر تعريضه بالصلوات الخمس في حديث المعراج، وأن وجوب الخمس على النبي صلى الله عليه وسلم مثل وجوبها على المسلمين. وهذا قول ابن عباس لأنه قال: إن قيام الليل لم ينسخه إلا آية {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} الآية، ولا أن يختلف في أن فرض الصلوات الخمس لم ينسخ فرض القيام على النبي صلى الله عليه وسلم سوى أنه نسخ استيعاب نصف الليل أو دونه بقليل فنسخه {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} .
وقد بين ذلك حديث ابن عباس ليلة بات في بيت خالته ميمونة أم المؤمنين قال فيه نام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله ثم وصف وضوءه وأنه صلى ثلاث عشرة ركعة ثم نام حتى جاءه المنادي لصلاة الصبح. وابن عباس يومئذ غلام فيكون ذلك في حدود سنة سبع أو ثمان من الهجرة.
ولم ينقل أن المسلمين كانوا يقومون معه إلا حين احتجز موضعا من المسجد لقيامه

في ليالي رمضان فتسامع أصحابه به فجعلوا ينسلون إلى المسجد ليصلوا بصلاة نبيهم صلى الله عليه وسلم حتى احتبس عنهم في إحدى الليالي وقال لهم "لقد خشيت أن تفرض عليكم" وذلك بالمدينة وعائشة عنده كما تقدم في أول السورة.
وهو صريح في أن القيام الذي قاموه مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن فرضا عليهم وأنهم لم يدوموا عليه وفي أنه ليس شيء من قيام الليل بواجب على عموم المسلمين وإلا لما كان لخشية أن يفرض عليهم موقع لأنه لو قدر أن بعض قيام الليل كان مفروضا لكان قيامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أداء لذلك المفروض، وقد عضد ذلك حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحفصة وقد قصت عليه رؤيا رآها عبد الله بن عمر "أن عبد الله رجل صالح لو كان يقوم الليل" .
وافتتاح الكلام ب {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} يشعر بالثناء عليه لوفائه بحق القيام الذي أمر به وأنه كان يبسط إليه ويهتم به ثم يقتصر على القدر المعين فيه النصف أو أنقص منه قليلا أو زائد عليه بل أخذ بالأقصى وذلك ما يقرب من ثلثي الليل كما هو شأن أولي العزم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} [القصص:29] "أنه قضى أقصى الأجلين وهو العشر السنون" .
وقد جاء في الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تورمت قدماه" .
وتأكيد الخبر ب {إن} للاهتمام به، وهو كناية عن أنه أرضى ربه بذلك وتوطئة للتخفيف الذي سيذكر في قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} ليعلم أنه تخفيف رحمة وكرامة ولإفراغ بعض الوقت من النهار للعمل والجهاد.
ولم تنزل تكثر بعد الهجرة أشغال النبي صلى الله عليه وسلم بتدبير مصالح المسلمين وحماية المدينة وتجهيز الجيوش ونحو ذلك، فلم تبق في نهاره من السعة ما كان له فيه أيام مقامه بمكة، فظهرت حكمة الله في التخفيف عن رسوله صلى الله عليه وسلم من قيام الليل الواجب منه والرغيبة.
وفي حديث علي بن أبي طالب أنه سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا آوى إلى منزله فقال: كان إذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة ولا يدخر عنهم شيئا فمنهم ذو الحاجة ومنهم ذو الحاجتين ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم.

وإيثار المضارع في قوله: {يعلم} للدلالة على استمرار ذلك العلم وتجدده إيذان بأنه بمحمل الرضى منه.
وفي ضده قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18] لأنه في معرض التوبيخ، أي لم يزل عالما بذلك حينا فحينا لا يخفى عليه منه حصة.
و {أدنى} أصله أقرب، من الدنو، استعير للأقل لأن المسافة التي بين الشيء والأدنى منه قليلة، وكذلك يستعار الأبعد للأكثر.
وهو منصوب على الظرفية لفعل {تقوم} ، أي تقوم في زمان يقدر أقل من ثلثي الليل وذلك ما يزيد على نصف الليل وهو ما اقتضاه قوله تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:4].
وقرأ الجمهور {ثلثي} بضم اللام على الأصل. وقرأه هشام عن ابن عامر بسكون اللام على التخفيف لأنه عرض له بعض الثقل بسبب التثنية.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} بخفضهما عطفا على {ثُلُثَي اللَّيْلِ} ، أي أدنا من نصفه وأدنى من ثلثه.
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بنصب {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} على أنهما منصوبان على المفعول ل {تقوم} أي تقوم ثلثي الليل، وتقوم نصف الليل، وتقوم ثلث الليل، بحيث لا ينقص عن النصف وعن الثلث. وهذه أحوال مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالليل تابعة لاختلاف أحوال الليالي والأيام في طول بعضها وقصر بعض وكلها داخلة تحت التخيير الذي خيره الله في قوله: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:2] إلى قوله: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:4].
وبه تظهر مناسبة تعقيب هذه الجملة بالجملة المعترضة، وهي جملة {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار} أي قد علمها الله كلها وأنبأه بها. فلا يختلف المقصود باختلاف القراءات. فمن العجاب قول الفراء أن النصب أشبه بالصواب.
و {طائفة} عطف على اسم {إن} بالرفع وهو وجه جائز إذا كان بعد ذكر خبر {إن} لأنه يقدر رفعه حينئذ على الاستئناف كما في قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3]. وهو من اللطائف إذا كان اتصاف الاسم والمعطوف بالخبر مختلفا فإن بين قيام النبي صلى الله عليه وسلم وقيام الطائفة التي معه تفاوتا في الحكم والمقدار، وكذلك براءة الله من المشركين وبراءة رسوله. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم ويقرأ عليهم القرآن

ويعاملهم، وأما الله فغاضب عليهم ولاعنهم. وهذا وجه العدول عن أن يقول: إن الله يعلم أنكم تقومون. إلى قوله: {أَنَّكَ تَقُومُ} ثم قوله: {وَطَائِفَةٌ} الخ.
ووصف {طَائِفَةٌ} بأنهم "من الذين معك"، فإن كان المراد بالمعية المعية الحقيقية، لأي المصاحبة في عمل مما سيق له الكلام، أي المصاحبين لك في قيام الليل، لم يكن في تفسيره تعيين لناس بأعيانهم، ففي حديث عائشة في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال "قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" ، وذلك في رمضان.
وإن كانت المعية معية مجازية وهي الانتساب والصحبة والموافقة فقد عددنا منهم: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وسلمان الفارسي وأبا الدرداء، وزينب بنت جحش، وعبد الله بن عمر، والحولاء بنت تويت الأسدية، فهؤلاء ورد ذكرهم مفرقا في أحاديث التهجد من "صحيح البخاري" .
واعلم أن صدر هذه الآية إيماء إلى الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في وفائه بقيام الليل حق الوفاء وعلى الطائفة الذين تابعوه في ذلك.
فالخبر بأن الله يعلم أنك تقوم مراد به الكناية عن الرضى عنه فيما فعلوا.
والمقصود: التمهيد لقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} إلى آخر الآية.
ولأجل هذا الاعتبار أعيد فعل {علم} في جملة {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} الخ ولم يقل: وأن سيكون منكم مرضى بالعطف.
وجملة {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} معترضة بين جملتي {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} وجملة {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} وقد علمت مناسبة اعتراضها آنفا.
وجملة {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} يجوز أن تكون خبرا ثانيا عن {أن} بعد الخبر في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} الخ.
ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا لما ينشأ عن جملة {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} من

ترقب السامع لمعرفة ما مهد له بتلك الجملة، فبعد أن شكرهم على عملهم خفف عنهم منه.
والضمير المنصوب في {تحصوه} عائد إلى القيام المستفاد من {أَنَّكَ تَقُومُ} .
والإحصاء حقيقته: معرفة عدد شيء معدود مشتق من اسم الحصى جمع حصاة لأنهم كانوا إذا عدوا شيئا كثيرا جعلوا لكل واحد حصاة وهو هنا مستعار للإطاقة. شبهت الأفعال الكثيرة من ركوع وسجود وقراءة في قيام الليل، بالأشياء المعدودة، وبهذا فسر الحسن وسفيان، ومنه قوله في الحديث "استقيموا ولن تحصوا" أي ولن تطيقوا تمام الاستقامة، أي فخذوا منها بقدر الطاقة.
و {أن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف وخبره الجملة، وقد وقع الفصل بين {أن} وخبرها بحرف النفي لكون الخبر فعلا غير دعاء ولا جامد حسب المتبع في الاستعمال الفصيح.
و {أن} وجملتها سادة مسد مفعولي {علم} إذ تقديره علم عدم إحصائكموه واقعا.
وفرع على ذلك {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} وفعل {تاب} مستعار لعدم المؤاخذة قبل حصول التقصير لأن التقصير متوقع فشابه الحاصل فعبر عن عدم التكليف بما يتوقع التقصير فيه، بفعل {تاب} المفيد رفع المؤاخذة بالذنب بعد حصوله.
والوجه أن يكون الخطاب في قوله: {تحصوه} وما بعده موجها إلى المسلمين الذين كانوا يقومون الليل: إما على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب بعد قوله: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} ، وإما على طريقة العام المراد به الخصوص بقرينة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يضن تعذر الإحصاء عليه، وبقرينة قوله: {أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} الخ.
ومعنى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} فصلوا ما تيسر لكم، ولما كانت الصلاة لا تخلوا عن قراءة القرآن اتبع ذلك بقوله هنا {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} ، أي صلوا كقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] أي صلاة الفجر وفي الكناية عن الصلاة بالقرآن جمع بين الترغيب في القيام والترغيب في تلاوة القرآن فيه بطريقة الإيجاز.
والمراد القرآن الذي كان نزل قبل هذه الآية المدنية وهو شيء كثير من القرآن المكي كله وشيء من المدني، وليس مثل قوله في صدر السورة {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] كما علمت هنالك.

وقوله: {مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} أي ما تيسر لكم من صلاة الليل فلا دلالة في هذه الآية على مقدار ما يجزئ من القراءة في الصلاة إذ ليس سياقها في هذا المهيع، ولئن سلمنا، فإن ما تيسر مجمل وقد بينة قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب" ، وأما السورة مع الفاتحة فإنه لم يروا عنه أنه قرأ في الصلاة أقل من سورة، وهو واجب عند جمهور الفقهاء فيكره أن يقرأ المصلي بعض سورة في الفريضة. ويجوز في القيام بالقرآن في الليل وفي قيام رمضان، وعند الضرورة، ففي "الصحيح" "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فأخذته بحة فركع" أي في أثناء السورة.
وقال أو حنيفة وأحمد في رواية عنه: تجزئ قراءة آيه من القرآن ولو كانت قصيرة ومثلة الحنفية بقوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] ولا تتعين فاتحة الكتاب وخالفه صاحباه في الأمرين.
وتعيين من تجنب له القراءة من منفرد وإمام ومأموم مبين في كتب الفقه.
وفعل {تاب} إذا أريد به قبول توبة التائب عدي بحرف {على} لتضمينه معنى من وإذا كان بمعنى الرجوع عن الذنب والذنب منه عدي بما يناسب.
وقد نسخت هذه الآية تحديد مدة قيام الليل بنصفه أو أزيد أو أقل ثلثه، وأصحب التحديد بالمقدار المتيسر من غير ضبط، أما حكم ذلك القيام فهو على ما تقدم شرحه.
{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} ، وهذا تخفيف آخر لأجل أحول أخرى اقتضت التخفيف.
وهذه حكمة أخرى لنسخ تحديد الوقت في قيام الليل وهي مراعاة أحوال طرأت على المسلمين من ضروب ما تدعو إليه حالة الجماعة الإسلامية. وذكر من ذلك ثلاثة أضرب هي أصول الأعذار:
الضرب الأول: أعذار اختلال الصحة وقد شملها قوله: {أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} .
الضرب الثاني: الأشغال التي تدعو إليها ضرورة العيش في تجارة وصناعة وحراثة

وغير ذلك، وقد أشار إليها قوله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} . وفضل الله هو الرزق.
الضرب الثالث: أعمال لمصالح الأمة وأشار إليه بقوله: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ودخل في ذلك حراسة الثغور والرباط بها، وتدبير الجيوش، وما يرجع إلى نشر دعوة الإسلام من إيفاد الوفود وبعث السفراء. وهذا كله من شؤون الأمة على الإجمال فيدخل في بعضها النبي صلى الله عليه وسلم كما في القتال في سبيل الله، والمرض ففي الحديث اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقيم ليلة أو ليلتين.
وإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى استقلال وقترة على أعدائهم فيقاتلون في سبيل الله وإن كانت مدنية فهو عذر لهم بما ابتدأوا فيه من السرايا والغزوات.
وقد كان بعض الصحابة يتأول من هذه الآية فضيلة التجارة والسفر للتجر حيث سوى الله بين المجاهدين والمكتسبين المال الحلال، يعني أن الله ما ذكر هذين السببين لنسخ تحديد القيام إلا تنويها بهما لأن في غيرهما من الأعذار ما هو أشبه بالمرض، ودقائق القرآن ولطائفه لا تنحصر.
روي عن ابن مسعود أنه قال أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين محتسبا فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء، وقرأ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
وعن ابن عمر "ما خلق الله موتا بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رحلي أبتغي من فضل الله ضاربا في الأرض".
فإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى قترة على عدوهم وإن كانت مدنية فهي عذر لهم بما عرض لهم.
ومعنى {يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} يسيرون في الأرض.
وحقيقة الضرب: قرع جسم بجسم آخر، وسمي السير في الأرض ضربا في الأرض لتضمين فعل {يَضْرِبُونَ} معنى يسيرون فإن السير ضرب للأرض بالرجلين لكنه تنوسي منه معنى الضرب وأريد المشي فلذلك عدي بحرف {في} لأن الأرض ظرف للسير كما قال تعالى: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:137] وقد تقدم عند قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68