كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

طلب مرضاته، ليعرف أنهم أحرياء بمدلول المسند الوارد بعد الإشارة، نظير قوله تعالى {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] والمعنى: هؤلاء هم الذين جعلهم الله مستحقين قبول التوبة منهم، وهو تأكيد لقوله {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} إلى آخره.
وقوله {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} الخ تنبيه على نفي القبول عن نوع من التوبة وهي التي تكون عند اليأس من الحياة لأن المقصد من العزم ترتب آثاره عليه وصلاح الحال في هذه الدار بالاستقامة الشرعية، فإذا وقع اليأس من الحياة ذهبت فائدة التوبة.
وقوله {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} وعطف الكفار على العصاة في شرط قبول التوبة منهم لأن إيمان الكافر توبة من كفره، والإيمان أشرف أنواع التوبة، فبين أن الكافر إذا مات لا تقبل توبته من الكفر.
وللعلماء في تأويله قولان: أحدهما الأخذ بظاهره وهو أن لا يحول بين الكافر وبين قبول توته من الكفر بالإيمان إلا حصول الموت، وتأولوا معنى {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} له بأن المراد بها ندمه يوم القيامة إذا مات كافرا، ويؤخذ منه أنه إذا آمن قبل أن يموت قبل إيمانه، وهو الظاهر، فقد ثبت قي الصحيح: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، وعبد الله ابن أبي أمية فقال: "أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله". فقال أبو جهل وعبد الله: أترغب من ملة عبد المطلب. فكان آخر ما قال أبو طالب أنه على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفر لك ما لم أنه عنك" . فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] ويؤذن به عطف {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} بالمغيرة بين قوله {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} الآية وقوله {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}. وعليه فوجه مخالفة توبته لتوبة المؤمن العاصي أن الإيمان عمل قلبي، ونطق لساني، وقد حصل من الكافر التائب وهو حي، فدخل في جماعة المسلمين وتقوى به جانبهم وفشت بإيمانه سمعة الإسلام بين أهل الكفر.
وثانيهما: أن الكافر والعاصي من المؤمنين سواء في عدم قبول التوبة مما هما عليه، إذا حضرهما الموت. وتأولوا قوله {يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} بأن معناه يشرفون على الموت على أسلوب قوله {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} [النساء:9] أي لو أشرفوا على أن يتركوا ذرية. والداعي إلى التأويل نظم الكلام لأن لا عاطفة على معمول لخبر التوبة المنفية، فيصير المعنى: وليست التوبة للذين يموتون وهم كفار فيتوبون، ولا

تعقل توبة بعد الموت فتعين تأويل يموتون بمعنى يشرفون كقوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة:240]، واحتجوا بقوله تعالى في حق فرعون {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:90، 91] المفيد أن الله لم يقبل إيمانه ساعتئذ. وقد يجاب عن هذا الاستدلال بأن شأن الله في الذين نزل بهم العذاب أنه لا ينفعهم الإيمان بعد نزول العذاب إلا قوم يونس قال تعالى {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] فالغرق عذاب عذب الله به فرعون وجنده.
قال ابن الفرس، في أحكام القرآن: وإذا صحت توبة العبد فإن كانت عن الكفر قطعنا بقبولها، وإن كانت عن سواه من المعاصي؛ فمن العلماء من يقطع بقبولها، ومنهم من لم يقطع ويظنه ظنا. اه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}.
استئناف تشريع في أحكام النساء التي كان سياق السورة لبيانها وهي التي لم تزل آيها مبينة لأحكامها تأسيسا واستطرادا، وبدءا وعودا، وهذا حكم تابع لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من جعل زوج الميت موروثه عنه وافتتح بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} للتنويه بما خوطبوا به.
وخوطب الذين آمنوا ليعم الخطاب جميع الأمة، فيأخذ كل منهم بحظه منه، فمربد الاختصاص بامرأة الميت يعلم ما يختص به منه، والوالي كذلك، وولاة الأمور كذلك.
وصيغة {لا يحل} صيغة نهي صريح لأن الحل هو الإباحة في لسان العرب ولسان الشريعة، فنفيه يرادف معنى التحريم.
والإرث حقيقته مصير الكسب إلى شخص عقب شخص آخر، وأكثر ما يستعمل في مصير الأموال، ويطلق الإرث مجازا على تمحض الملك لأحد بعد المشارك فيه، أو في

حالة ادعاء المشارك فيه، ومنه يرث الأرض ومن عليها. وهو فعل متعد إلى واحد، يتعدى إلى المتاع الموروث، فتقول: ورثت مال فلان، وقد يتعدى لأي ذات الشخص الموروث، يقال: ورث فلان أباه، قال تعالى {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم:6] وهذا هو الغالب فيه إذا تعدى إلى ما ليس بمال.
فتعدية فعل {أن ترثوا} إلى {النساء} من استعماله الأول: بتنزيل النساء منزلة الأموال الموروثة، لإفادة تبشيع الحالة التي كانوا عليها في الجاهلية. أخرج البخاري، عن ابن عباس، قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذا الآية. وعن مجاهد، والسدي، والزهري كان الابن الأكبر أحق بزوج أبيه إذا لم تكن أمه، فإن لم يكن أبناء فولي الميت إذا سبق فألقى على امرأة الميت ثوبه فهو أحق بها، وإن سبقته فذهب إلى أهلها كانت أحق بنفسها. وكان من أشهر ما وقع من ذلك في الجاهلية أنه لما مات أمية بن عبد شمس وترك امرأته ولها أولاد منه: العيص، وأبو العيص، والعاص، وأبو العاص، وله أولاد من غيرها منهم أبو عمرو بن أمية فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه، فولدت له: مسافرا، وأبا معيط، فكان الأعياص أعماما لمسافر وأبي معيط وأخوتهما من الأم.
وقد قيل: نزلت الآية لما توفي أبو قيس بن الأسلت رام ابنه أن يتزوج امرأته كبشة بنت معن الأنصارية، فنزلت هذه الآية. قال أبن عطية: وكانت هذه السيرة لازمة في الأنصار، وكانت في قريش مباحة مع التراضي. وعلى هذا التفسير يكون قوله {كرها} حالا م النساء، أي كارهات غير راضيات، حتى يرضين بأن يكن أزواجا لمن يرضينه، مع مراعاة شروط النكاح، والخطاب على هذا الوجه لورثة الميت.
وقد تكرر هذا الإكراه بعوائدهم التي تمالؤوا عليها، بحيث لو رامت المرأة المحيد عنها، لأصبحت سبة لها، ولما وجدت من ينصرها، وعلى هذا فالمراد بالنساء الأزواج، أي أزواج الأموات.
ويجوز أن يكون فعل ترثوا مستعملا في حقيقته ومتعديا إلى الموروث فيفيد النهي عن أحوال كانت في الجاهلية: منها أن الأولياء يعضلون النساء ذات المال من التزوج خشية أنهن إذا تزوجن يلدن فيرثهن أزواجهن وأولادهن ولم يكن للولي العاصب شيء من أموالهن، وهن يرغبن أن يتزوجن، ومنها أن الأزواج كانوا يكرهون أزواجهم ويأبون أن

يطلقوهن رغبة في أن يمتن عندهم فيرثوهن، فذلك إكراه لهن على البقاء على حالة الكراهية، إذ لا ترضى المرأة بذلك مختارة، وعلى هذا فالنساء مراد به جمع امرأة، وقرأ الجمهور: كرها بفتح الكاف وقرأه حمزة، والكسائي وخلف بضم الكاف وهما لغتان.
{وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}.
عطف النهي على العضل على النهي عن إرث النساء كرها لمناسبة التماثل في الإكراه وفي أن متعلقة سوء معاملة المرأة، وفي أن العضل لأجل أخذ مال منهن.
والعضل: منع ولي المرأة إياها أن تتزوج، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} في سورة البقرة [232].
فإن كان النهي عنه في قوله {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} هو المعنى المتبادر من فعل ترثوا، وهو أخذ مال المرأة كرها عليها، فعطف {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} إما خاص على عام، إن أريد خصوص منع الأزواج نساءهم من الطلاق مع الكراهية، رغبة في بقاء المرأة عنده حتى تموت فيرث منها مالها، أو ببعض ما آتاها، وأياما كان فإطلاق العضل على هذا الإمساك مجاز باعتبار المشابهة لأنها كالتي لا زوج لها ولم تتمكن من التزوج.
وإن كان المنهي عنه في قوله {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ} المعنى المجازي لترثوا وهو كون المرأة ميراثا، وهو ما كان يفعله أهل الجاهلية في معاملة أزواج أقاربهم وهو الأظهر فعطف {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} عطف حكم آخر من أحوال المعاملة، وهو المنهي عن أن يعضل الولي المرأة من أن تتزوج لتبقى عنده فإذا ماتت ورثها، ويتعين على هذا الاحتمال أن يكون ضمير الجمع في قوله {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} راجعا إلى من يتوقع منه ذلك من المؤمنين وهم الأزواج خاصة، وهذا ليس بعزيز أن يطلق ضمير صالح للجميع ويراد منه بعض ذلك الجمع بالقرينة. كقوله {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] أي يقتل بعضكم أخاه، إذ قد يعرف أن أحدا لا يقتل نفسه، وكذلك {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61] أي يسلم الداخل على الجالس. فالمعنى: ليذهب بعضكم ببعض ما آتاهن بعدكم، كأن يريد الولي أن يذهب ميراثه ببعض مال مولاته الذي ورثه من أمها أو قريبها أو من زوجها، فيكون في الضمير توزيع. إطلاق العضل على هذا المعنى

حقيقة. والذهاب في قوله {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} مجاز في الأخذ، كقوله {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17]، أي أزاله.
{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}.
ليس إتيانهن بفاحشة مبينة بعضا مما قبل الاستثناء لا من العضل ولا من الإذهاب ببعض المهر. فيحتمل أن يكون الاستثناء متصلا استثناء من عموم أحوال الفعل الواقع في تعليل النهي، وهو إرادة الإذهاب ببعض ما آتوهن، لأن عموم الأفراد يستلزم عموم الأحوال، أي إلا حال الإتيان بفاحشة فيجوز إذهابكم ببعض ما آتيتموهن. ويحتمل أن يكون استثناء منقطعا في معنى الاستدراك، أي لكن إتيانهن بفاحشة يحل لكم أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهن، فقيل: هذا كان حكم الزوجة التي تأتي بفاحشة وأنه نسخ بالحد. وهو قول عطاء.
والفاحشة هنا عند العلماء هي الزنا، أي أن الرجل إذا تحقق زنى زوجه فله أن يعضلها، فإذا طلبت الطلاق فله أن لا يطلقها حتى تفتدي منه ببعض صداقها، تسببت في بعثرة حال بيت الزوج، وأحوجته إلى تجديد زوجة أخرى، وذلك موكول لدينه وأمانة الإيمان. فإن حاد عن ذلك فللقضاء حمله على الحق. وإنما لم يجعل المفاداة بجميع المهر لئلا تصير مدة العصمة عرية عن عوض مقابل، هذا ما يؤخذ من كلام الحسن. وأبي قلابة، وأبن سيرن وعطاء؛ لكن قال عطاء: هذا الحكم نسخ بحد الزنا وباللعان، فحرم الإضرار والافتداء. وقال ابن مسعود، وابن عباس، والضحاك، وقتادة: الفاحشة هنا البغض والنشوز، فإذا نشزت جاز له أن يأخذ منها. قال أبن عطية: وظاهر قول مالك بإباحة أخذ الخلع عن الناشز يناسب هذا إلا أني لا أحفظ نصا في الفاحشة في هذه الآية.
وقرأ الجمهور: مبينة بكسر التحتية اسم فاعل من بين اللازم بمعنى تبين، كما في قولهم في المثل بين الصبح لذي عينين. وقرأه ابن كثير. وأبو بكر عن عاصم، وخلف بفتح التحتية اسم مفعول من بين المتعدي أي بينها وأظهرها بحيث أشهد عليهن بها.
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}

أعقب النهي عن إكراه النساء والإضرار بهن بالأمر بحسن المعاشرة معهن، فهذا اعتراض فيه معنى التذييل لما تقدم من النهي، لأن حسن المعاشرة جامع لنفي الإضرار والإكراه، وزائد بمعاني إحسان الصحبة.
والمعاشرة مفاعلة من العشرة وهي المخالطة، قال ابن عطية: وأرى اللفظة من إعشار الجزور لأنها مقاسمة ومخالفة، أي فأصل الاشتقاق من الأسن الجامد وهو عدد العشرة. وأنا أراها مشتقة من العشيرة أي الأهل، فعاشره جعله من عشيرته، كما يقال: آخاه إذا جعله أخا. أما العشيرة فلا يعرف أصل اشتقاقها. وقد قيل: إنها من العشرة أي اسم العدد وفيه نظر.
والمعروف ضد المنكر وسمي المكروه منكرا لأن النفوس لا تأنس به، فكأنه مجهول عندها نكرة، إذ الشأن أن المجهول يكون مكروها ثم أطلقوا اسم المنكر على المكروه، وأطلقوا على المحبوب لأنه تألفه النفوس. والمعروف هنا ما حدده الشرع ووصفه العرف.
والتفريع في قوله {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} على لازم الأمر الذي في قوله {وعاشروهن} وهو النهي عن سوء المعاشرة، أي فإن وجد سبب سوء المعاشرة وهو الكراهية. وجملة {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا} نائبة مناب جواب الشرط، وهب علة له فعلم الجواب منها. وتقديره: فتثبتوا ولا تعجلوا بالطلاق، لأن قوله {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً} يفيد إمكان أن تكون المرأة المكروهة سبب خيرات فيقتضي أن لا يتعجل في الفراق.
و {عسى} هنا للمقاربة المجازية أو الترجي. و {أن تكرهوا} ساد مسد معموليها، {ويجعل} معطوف على {تكرهوا} ، ومناط المقاربة والرجاء هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه، بدلالة القرينة على ذلك.
وهذه حكمة عظيمة، إذ قد تكره النفوس ما في عاقبته خير فبعضه يمكن التوصل إلى معرفة ما فيه من الخير عند غوص الرأي. وبعضه قد علم الله أن فيه خيرا لكنه لم يظهر للناس. قال سهل بن حنيف، حين مرجعه من صفين اتهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله أمره لرددنا. والله ورسوله أعلم. وقد قال تعالى، في سورة البقرة [216] {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216].

والمقصود من هذا: الإرشاد إلى إعماق النظر وتغلغل الرأي في عواقب الأشياء، وعدم الاغترار بالبوارق الظاهرة. ولا يميل الشهوات إلى ما في الأفعال م ملائم، حتى يسبره بمسبار الرأي، فيتحقق سلامة حسن الظاهر من سوء خفايا الباطن.
واقتصر هنا على مقاربة حصول الكراهية لشيء فيه خير كثير، دون مقابلة، كما في آية البقرة [216] {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} لأن المقام في سورة البقرة مقام بيان الحقيقة بطرفيها إذ المخاطبون فيها كرهوا القتال، وأحبوا السلم، فكان حالهم مقتضيا بيان أن القتال قد يكون هو الخير لما يحصل بعده من أمن دائم، وخد شوكة العدو، وأن السلم قد يكون شرا لما يحصل معها من استخفاف الأعداء بهم، وطمعهم فيهم، وذهاب عزهم المفضي إلى استعبادهم، أما المقام في هذه السورة فهو لبيان حكم من حدث بينه وبين زوجه ما كره فيها، ورام فراقها، وليس له مع ذلك ميل إلى غيرها، فكان حاله مقتضيا بيان ما في كثير من المكروهات من الخيرات، ولا يناسب أن يبين له أن في بعض الأمور المحبوبة شرورا لكونه فتحا لباب التعلل لهم بما يأخذون من الطرف الذي يميل إليه هواهم. وأسند جعل الخير في المكروه هنا لله بقوله {وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} المقتضي أنه جعل عارض لمكروه خاص، وفي سورة البقرة [216] قال {وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لأن تلك بيان لما يقارن بعض الحقائق من الخلفاء في ذات الحقيقة، ليكون رجاء الخير من القتال مطردا في جميع الأحوال غي حاصل يجعل عارض، بخلاف هذه الآية، فإن الصبر على الزوجة المؤذية أو المكروهة إذا كان لأجل امتثال أمر الله بحسن معاشرتهن، يكون جعل الخير في ذلك جزءا من الله على الامتثال.
{وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا[20] وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [21].
لا جرم أن الكراهية تعقبها إرادة استبدال المكروه بضده، فلذلك عطف الشرط على الذي قبله استطرادا واستيفاء للأحكام.
فالمراد بالاستبدال طلاق المرأة السابقة وتزوج امرأة أخرى.
والاستبدال: التبديل. وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى قال {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} في سورة البقرة [61]. أي أن لم يكن سبب للفراق إلا إرادة استبدال

زوج بأخرى فيلجئ التي يريد فراقها، حتى تخالعه، ليجد مالا يعطيه مهرا للتي رغب فيها، نهى عن أن يأخذوا شيئا مما أعطوه أزواجهم من مهر وغيره والقنطار هنا مبالغة في مقدار المال المعطي صدقا أي مالا كثيرا، كثرة غير متعارفة. وهذه المبالغة تدل على أن إيتاء القنطار مباح شرعا لأن الله لا يمثل بما لا يرضى شرعه مثل الحرام، ولذلك خطب عمر بن الخطاب فنهى عن المغالاة في الصدقات، قالت له امرأة من قريش بعد أن نزل . يا أمير المؤمنين كتاب الله أحق أن يتبع أو قولك قال بل كتاب الله بم ذلك? قالت : إنك نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صداق النساء، والله يقول في كتابه {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء:20] فقال عمر كل أحد أفقه من عمر. وفي رواية قال امرأة أصابت وأمير أخطأ والله المستعان. ثم رجع إلى المنبر فقال إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صدقات النساء فليفعل كل رجل في ماله ما شاء. والظاهر من هذه الرواية أن عمر رجع عن تحجير المباح لأنه رآه ينافي الإباحة بمقتضى دلالة الإشارة وقد كان بدا له من قبل أن في المغالاة علة تقتضي المنع، فيمكن أن يكون نسي الآية بناء على أن المجتهد لا يلزمه البحث عن المعارض لدليل اجتهاده، أو أن يكون حملها على قصد المبالغة فرأى أن ذلك لا يدل على الإباحة، ثم رجع عن ذلك، أو أن يكون رأى لنفسه أن يحجر بعض المباح للمصلحة ثم عدل عنه لأنه ينافي إذن الشرع في فعله أو نحو ذلك.
وضمير {إحداهن} راجع إلى النساء. وهذه هي المرأة التي يراد طلاقها. وتقدم الكلام على القنطار عند تفسير قوله تعالى {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} في سورة آل عمران [15].
والاستفهام في {أتأخذونه} إنكاري.
والبهتان كالشكران والغفران، مصدر بهته كمنعه إذا قال عليه ما لم يفعل.. وتقدم البهت عند قوله تعالى {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} في سورة البقرة [258].
وانتصب {بهتانا} على الحال من الفاعل في تأخذونه بتأويله باسم الفاعل، أي مباهتين. وإنما جعل هذا الأخذ بهتانا لأنهم كان من عادتهم إذا كرهوا المرأة، وأرادوا طلاقها، رموها بسوء المعاشرة، واختلفوا عليها ما ليس فيها، لكي تخشى سوء السمعة فتبذل للزوج مالا فداء ليطلقها، حكى ذلك فخر الدين الرازي، فصار أخذ المال من المرأة عند الطلاق مظنة بأنها أتت ما لا يرضي الزوج، فقد يصد ذلك الراغبين في التزوج عن خطبتها، ولذلك لما أذن الله للأزواج بأخذ المال إذا أتت أزواجهم بفاحشة، صار

أخذ المال منهن بدون ذلك يوهم أنه أخذه في محل الإذن بأخذه، هذا أظهر الوجوه في جعل الأخذ بهتانا.
وأما كونه إثما مبينا فقد جعل هنا حالا بعد الإنكار، وشأن مثل هذا الحال أن تكون معلومة الانتساب إلى صاحبها حتى يصبح الإنكار باعتبارها، فيحتمل أن كونها إثما مبينا قد صار معلوما للمخاطبين من قوله {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} ، أو من آية البقرة ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله. أو مما تقرر عندهم من أن حكم الشريعة في الأموال أن لا تحل إلا عن طيب نفس.
وقوله {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} استفهام تعجبي بعد الإنكار، أي ليس من المروءة أن تطمعوا في أخذ عوض عن الفراق بعد معاشرة امتزاج وعهد متين. والإفضاء الوصول، مشتق من الفضاء، لأن الوصول قطع الفضاء بين المتواصلين والميثاق الغليظ عقدة النكاح على نية إخلاص النية ودوام الألفة، والمعنى أنكم كنتم على حال مودة وموالاة، فهي في المعنى كالميثاق على حسن المعاملة.
والغليظ صفة مشبهة من غلظ بضم اللام إذا صلب، والغلظة في الحقيقة صلابة الذوات، ثم استعيرت إلى صعوبة المعاني وشدتها في أنواعها، قال تعالى {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]. وقد ظهر أن مناط التحريم هو كون أخذ المال عند طلب استبدال الزوجة بأخرى، فليس هذا الحكم منسوخا بآية البقرة خلافا لجابر بن زيد إذ لا إبطال لمدلول هذا الآية.
{وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً} [22].
عطف على جملة {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} [النساء:19]، والمناسبة أن من جملة أحوال إرثهم النساء كسرها، أن يكون ابن الميت لأولى بزوجة أبيه، إذا لم تكن أمه، فنهوا عن هذه الصورة نهيا خاصا وغلظا، وتخلص منه إلى إحصاء المحرمات.
و{ما نكح} بمعنى الذي نكح مراد به الجنس، فلذلك حسن وقع ما عوض من لأن من تكثر في الموصول المعلوم، على أن البيان بقوله {من النساء} سوى بين {ما} ومن فرجحت ما لخفتها، والبيان أيضا يعين أن تكون ما موصولة. وعدل عن أن يقال: لا تنكحوا نساء آبائكم ليدل بلفظ نكح على أن عقد الأب على المرأة كاف

في جرمه تزوج ابنه إياها. وذكر {من النساء} بيان لكون ما موصولة.
والنهي يتعلق بالمستقبل، والفعل المضارع مع النهي مدلوله إيجاد الحدث في المستقبل، وهذا المعنى يفيد النهي عن الاستمرار على نكاحهن إذا كان قد حصل قبل ورود النهي. والنكاح حقيقة في العقد شرعا بيم الرجل والمرأة على المعاشرة الاستمتاع بالمعنى الصحيح شرعا، وتقدم أنه حقيقة في هذا المعنى دون الوطء عند تفسير قوله تعالى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} في سورة البقرة [230]، فحرام على الرجل أن يتزوج امرأة عقد أبوه عليها عقد نكاح صحيح، ولو لم يدخل بها، وأما إطلاق النكاح على الوطء بعقد فقد حمل لفظ النكاح عليه بعض العلماء، وزعموا أن قوله تعالى {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} أطلق فيه النكاح على الوطء لأنها لا يحلها لمطلقها ثلاثا مجرد العقد أي من غير حاجة إلى الاستعانة ببيان السنة للمقصود من قوله {تنكح} وقد بينت رد ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُْ} .
وأما الوطء الحرام من زنى فكونه من معاني النكاح في لغة العرب دعوى واهية.
وقد اختلف الفقهاء فيمن زنى بامرأة هل تحرم على ابنه أو على أبيه. فالذي ذهب إليه مالك في الموطأ، والشافعي: أن الزنى لا ينشر الحرمة، وهذا الذي حكاه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في الرسالة، ويروى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس، وهو قول الزهري، وربيعة، والليث. وقال أبو حنيفة، وابن الماجثون من أصحاب مالك: الزنى ينشر الحرمة. قال ابن الماجشون: مات مالك على هذا. وهو قول الأوزاعي والثوري. وقال ابن المواز هو مكروه، ووقع في المدونة يفارقها فحمله الأكثر على الوجوب. وتأوله بعضهم على الكراهة. وهذه المسألة جرت فيها مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن أشار إليها الجصاص في أحكامه، والفخر في مفاتيح الغيب، وهي طويلة.
و {مَا قَدْ سَلَفَ} هو ما سبق نزول هذه الآية أي إلا نكاحا قد سلف فتعين أن هذا النكاح صار محرما. ولذلك تعين أن يكون الاستثناء في قوله {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} مؤولا إذ ما قد سلف كيف يستثنى من النهي عن فعله وهو قد حصل، فتعين أن الاستثناء يرجع إلى ما يقتضيه النهي نمت الإثم، أي لا إثم عليكم فيما قد سلف، ثم ينتقل النظر إلى أنه يقرر عليه فلا يفرق بين الزوجين اللذين تزوجا قبل نزول الآية، وهذا لم يقل به إلا بعض المفسرين فيما نقله الفخر، ولم أقف على أثر يثبت قضية معينة فرق فيها النبي صلى الله عليه وسلم

بين رجل وزوج أبيه مما كان قبل نزول الآية، ولا على تعيين قائل القول، ولعل الناس قد بادروا إلى فراق أزواج الآباء عند نزول هذه الآية.
وقد تزوج قبل الإسلام كثير أزواج آبائهم: منهم عمر بن أمية بن عبد شمس، خلف على زوج أبيه أمية كما تقدم، ومنهم صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاخته بنت السود بن المطلب بن أسد، ومنهم منظور بن ريان بن سيار، تزوج امرأة أبيه ملكية بنت خارجة، ومنهم حصن بن أبي قيس، تزوج بعد أبي قيس زوجه ولم يرو أن أحدا من هؤلاء أسلم وقرر على نكاح زوج أبيه.
وجوز أن يكون الاستثناء من لازم النهي وهو العقوبة أي لا عقوبة على ما قد سلف. وعندي أن مثل هذا ظاهر للناس فلا يحتاج للاستثناء، ومتى يظن أحد المؤاخذة عن أعمال كانت في الجاهلية قبل مجيء الدين ونزول النهي.
وقيل: هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده: أي أن كنتم فاعلين منه فانكحوا ما قد سلف من نساء الآباء البائدة، كأنه يوهم أنه يرخص لهم بعضه، فيجد السامع ما رخص له متعذرا فيتأكد النهي كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
...
بهن فلول من قراع الكتائب
وقولهم حتى يؤوب القارظان و حتى يشيب الغراب وهذا وجه بعيد في آيات التشريع.
والظاهر أن قوله {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} قصد منه بيان صحة ما سلف من ذلك في عهد الجاهلية، وتعذر تداركه الآن، لموت الزوجين، من حيث إنه يترتب عليه ثبوت أنساب، وحقوق مهور ومواريث، وأيضا بيان تصحيح أنساب الذين ولدوا من ذلك النكاح، وأن المسلمين انتدبوا للإقلاع عن ذلك اختيارا منهم، وقد تأول سائر المفسرين قوله تعالى {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} بوجوده ترجع إلى التجوز في معنى الاستثناء أو في معنى {ما نكح} ، حملهم عليها أن نكاح زوج الأب لم يقرره الإسلام بعد نزول الآية، لأنه قال {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} أي ومثل هذا لا يقرر لأنه فاسد بالذات.
والمقت اسم سمت به العرب نكاح زوج البت فقالوا نكاح المقت لأي البغض، وسموا فاعل ذلك الضيزن، وسموا الابن من ذلك النكاح مقيتا.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ

الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}.
تخلص إلى ذكر المحرمات بمناسبة ذكر تحريم نكاح ما نكح الآباء وغير أسلوب النهي فيه لأن لا تفعل نهي عن المضارع الدال على زمن الحال فيؤذن بالتلبس به، بخلاف {حرمت} فيدل على أن تحريمه أمر مقرر، ولذلك قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم الإسلام إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين فمن أجل هذا أيضا نجد حكم الجمع بين الأختين عبر فيه بلفظ الفعل المضارع فقيل {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} .
وتعلق بأسماء الذوات يحمل على تحريم ما يقصد من تلك الذات غالبا فنحو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الخ معناه حرم أكلها، ونحو: حرم الله الخمر، أي شربها، وفي {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} معناه تزوجهن.
والأمهات جمع أمة أو أمهة، والعرب أماتوا أمهة وأمة وأبقوا جمعه، كما أبقوا أم وأماتوا جمعه، فلم يسمع منهم الأمات، وورد أمة نادرا في قول شاعر أنشده ابن كيسان:
تقبلتها عن أمة لك طالما
...
تنوزع في الأسواق منها خمارها
وورد أمهة نادرا في بيت يعزى إلى قصي بن كلاب:
عند تناديهم بهال وهبي
...
أمهتي خندف وإلياس1 أبي
وجاء في الجمع أمهات بكثرة، وجاء أمات قليلا في قول جرير:
لقد ولد الأخيطل أم سوء
...
مقلدة من الأمات عارا
وقيل: إن أمات خاص بما لا يعقل، قال الراعي:
كانت نجائب منذر ومحرق
...
أماتهن وطرقهن فحيلا
ـــــــ
1 أصله وإلياس بهمزة ووصلت لإقامة الوزن وهو إلياس بن مضي، ووقع هذا المصراع في طبعة تفسير القرطبي وفي نسخة مخطوطة والدووس وهو خطأ.

فيحتمل أن أصل أم أما أو أمها فوقع فيه الحذف ثم أرجعوها في الجمع.
ومن غريب الاتفاق أن أسماء أعضاء العائلة لم تجر على قياس مثل أب، إذ كان عل حرفين، وأخ، وأبن، وابنة، ,أحسب أن ذلك من أثر أنها من اللغة القديمة التي نطق بها البشر قبل تهذيب اللغة، ثم تطورت اللغة عليها وهي هي. والمراد من الأمهات وما عطف عليها الدنيا وما فوقها، وهؤلاء المحرمات من النسب، وقد أثبت الله تعالى تحريم من ذكرهن، وقد كن محرمات عند العرب في جاهليتها، تأكيدا لذلك التحريم وتغلظا له، إذ قد استقر ذلك في الناس من قبل، فقد قالوا ما كانت الأم حلالا لأبنها قط من عهد آدم عليه السلام، وكانت الأخت التوأمة حراما وغير التوأمة حلالا، ثم حرم الله الأخوات مطلقا من عهد نوح عليه السلام، ثم حرمت بنات الأخ، ويوجد تحريمهن في شريعة موسى عليه السلام، وبقي بنات الأخت حلالا في شريعة موسى، وثبت تحريمهن عند العرب في جاهليتها فيما روى ابن عطية في تفسيره، عن ابن عباس: أن المحرمات المذكورات هنا كانت محرمة في الجاهلية، إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين. ومثله نقله القرطبي عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة مع زيادة توجيه ذكر الاستثناء بقوله {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} في هذين خاصة، وأحسب أن هذا كله توطئة لتأويل الاستثناء في قوله {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} بأن معناه: إلا ما سلف منكم في الجاهلية فلا إثم عليكم فيه، كما سيأتي وكيف يستقيم ذلك فقد ذكر فيهن تحريم الربائب والأخوات من الرضاعة، ولا أحسبهن كن محرمات في الجاهلية.
واعلم أن شريعة الإسلام قد نوهت ببيان القرابة القريبة، فغرست لها في النفوس وقارا ينزه عن شوائب الاستعمال في اللهو والرفث، إذ الزواج، وإن كان غرضا صالحا باعتبار غايته، إلا أنه لا يفارق الخاطر الأول الباعث عليه، وهو خاطر اللهو والتلذذ.
فوقار الولادة، أصلا وفرعا، مانع من محاولة اللهو بالوالدة أو المولودة، ولذلك اتفقت الشرائع على تحريمه، ثم تلاحق ذلك في بنات الإخوة وبنات الأخوات ، وكيف يسري الوقار إلى فروع الأخوات ولا يثبت للأصل، وكذلك سرى وقار الآباء إلى أخوات الآباء، وهن العمات، ووقار الأمهات إلى أخواتهن وهن الخالات ، فمرجع تحريم هؤلاء المحرمات إلى قاعدة المروءة التابعة لكلية حفظ العرض، من قسم المناسب الضروري، وذلك من أوائل مظاهر الرقي البشري. و ال في قوله {وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} عوض عن المضاف إليه أي بنات أخيكم وبنات أختكم.

وقوله {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} سمى المراضع أمهات جريا على لغة العرب، وما هن بأمهات حقيقة، ولكنهن تنزلن منزلة الأمهات لأن بلبانهن تغذت الأطفال، ولما في فطرة الأطفال من محبة لمرضعاتهم محبة أمهاتهم الوالدات، ولزيادة تقرير هذا الإطلاق الذي اعتبره العرب ثم ألحق ذلك بقوله {اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} دفعا لتوهم أن المراد إذ لو لا قصد إرادة المرضعات لما كان لهذا الوصف جدوى.
وقد أجملت هنا صفة الإرضاع ومدته وعدده إيكالا للناس إلى متعارفهم. وملاك القول في ذلك: أن الرضاع إنما اعتبرت له هذه الحرمة لمعنى فيه وهو أنه الغذاء الذي لا غذاء للطفل يعيش به. فكان له من الأثر في دوام حياة الطفل ما يماثل أثر الأم في أصل حياة طفلها. فلا يعتبر الرضاع سببا في حرمة المرضع على رضيعها إلا ما استوفى هذا المعنى من حصول تغذية الطفل وهو ما كان في مدة عدم استغناء الطفل عنه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما الرضاعة من المجاعة".
وقد حددت مدة الحاجة إلى الرضاع بالحولين لقوله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وقد تقدم في سورة البقرة [233]. ولا اعتداد بالرضاع الحاصل بعد مضي تجاوز الطفل حولين من عمره، بذلك قال عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس، والزهري، ومالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، والثوري، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة: المدة حولان وستة أشهر. وروى ابن عبد الحكم عن مالك: حولان وأيام يسيرة. وروى ابن القاسم عنه: حولان وشهران. وروى عنه الوليد بم مسلم: والشهران والثلاثة. والأصح هو القول الأول؛ ولا اعتداد برضاع فيما فوق ذلك، وما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل زوجة أبي حذيفة أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة لما نزلت آية {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] إذ كان يدخل عليها كما يدخل الأبناء على أمهاتهم، فتلك خصوصية لها. وكانت عائشة أم المؤمنين إذا أرادت أن يدخل عليها أحد الحجاب أرضعته تأولت ذلك من إذن النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة زوج أبي حذيفة، وهو رأي لم يوافقها عليه أمهات المؤمنين، وأبين أن يدخل أحد عليهن بذلك، وقتال به الليث بن سعد، بإعمال رضاع الكبير. وقد رجع عنه أبو موسى الأشعري بعد أن أفتى به.
وأما مقدار الرضاع الذي يحصل به التحريم، فهو ما يصدق عليه اسم الرضاع وهو ما وصل إلى جوف الرضيع في الحولين ولو مصة واحدة عند أغلب الفقهاء، وقد كان

الحكم في أول أمر التحريم أن لا تقع الحرمة إلا بعشر رضعات ثم نسخن بخمس، لحديث لعائشة كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخهن بخمس معلومات فتوفي رسول الله وهي فيما يقرأ من القرآن وبه أخذ الشافعي. وقال الجمهور: هو منسوخ، وردوا قولها فتوفي رسول الله وهي فيما يقرأ بنسبة الراوي إلى قلة الضبط لأن هذه الجملة مسترابة إذ أجمع المسلمون على أنها لا تقرأ ولا نسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم،وإذا فطم الرضيع قبل الحولين فطاما استغنى بعده عن لبن المرضع بالطعام والشراب لم تحرم عليه من أرضعته بعد ذلك.
وقوله تعالى {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} إطلاق اسم الأخت على التي رضعت من ثدي مرضعة من أضيفت أخت إليه جرى على لغة العرب، كما تقدم في إطلاق الأم على المرضع. والرضاعة بفتح الراء اسم مصدر رضع، ويجوز كسر الراء ولم يقرأ به ومحل {من الرضاعة} حال من {أخواتكم} ومن فيه للتعليل والسببية، فلا تعتبر أخوة الرضاعة إلا برضاعة البنت من المرأة التي أرضعت الولد.
وقوله {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} هؤلاء المذكورات إلى قوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} هن المحرمات بسبب الصهر، ولا أحسب أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون شيئا منها، كيف وقد أباحوا أزواج الآباء وهن أعظم حرمة من جميع نساء الصهر، فكيف يظن أنهم يحرمون أمهات النساء والربائب وقد أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتزوج درة بنت أبي سلمة وهي ربيبته إذ هي بنت أم سلمة، فسألته إحدى أمهات المؤمنين فقال: "لو لم تكن ربيبتي لما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة"، وكذلك حلائل الأبناء إذ هن أبعد من حلائل الآباء، فأرى أن هذا من تحريم الإسلام وأن ما حكى ابن عطية عن ابن عباس1 ليس على إطلاقه.
وتحريم هؤلاء حكمته تسهيل الخلطة، وقطع الغيرة، بين قريب القرابة حتى لا تفضي إلى حزازات وعداوات، قال الفخر: لو لم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنه، ولم تدخل على الرجل امرأته وابنتها، لبقيت المرأة كالمحبوسة. ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح، ولو كان الإذن في دخول هؤلاء دون حكم المحرمة فقد تمتد عين البعض إلى البعض وتشتد الرغبة فتحصل النفرة الشديدة بينهن، والإيذاء من الأقارب أشد إيلاما،
ـــــــ
1 تقدم في صفحة 78 من هذه الصفحات.

ويترتب عليه التطليق، أما إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع، وانحبست الشهوة، فلا يحصل ذلك الضرر، فيبقى النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة. قلت: وعليه فتحريم هؤلاء من قسم الحاجي من المناسب.
والربائب جمع ربيبة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، من ربه إذا كفله ودبر شؤونه، فزوج الأم راب وابنتها مربوبة له، لذلك قيل لها ربيبة.
والحجور جمع حجر بفتح الحاء وكسرها مع سكون الجيم وهو ما يحويه مجتمع الرجلين للجالس المتربع. والمراد به هنا معنى مجازي وهو الحضانة والكفالة، لأن أول كفالة الطفل تكون بوضعه في الحجر، كما سميت حضانة، لأن أولها وضع الطفل في الحضن.
وظاهر الآية أن الربيبة لا تحرم على زوج أمها إلا إذا كانت في كفالته، لأن قوله {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} وصف والأصل فيه إرادة التقييد كما أريد من قوله {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} فظاهر هذا أنها لو كانت بعيدة عن حضانته لم تحرم ونسب الأخذ بهذا الظاهر إلى علي بن أبي طالب، رواه ابن عطية، وأنكر ابن المنذر والصحاوي صحة سند النقل عن علي، وقال ابن العربي: إنه نقل باطل. وجزم ابن حزم في المحلى بصحة نسبة ذلك إلى علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب. وقال بذلك الظاهرية، وكأنهم نظروا إلى أن علة تحريمها مركبة من كونها ربيبة وما حدث من الوقار بينها وبين حاجزها إذا كانت في حجره. وأما جمهور أهل العلم فجعلوا هذا الوصف بيانا للواقع خارجا مخرج الغالب، وجعلوا الربيبة حراما على زوج أمها، ولو لم تكن هي في حجره. وكأن الذي دعاهم إلى ذلك هو النظر إلى علة تحريم المحرمات بالصهر، وهي التي أشار إليها كلام الفخر المتقدم. وعندي أن الأظهر أن يكون الوصف هنا خرج مخرج التعليل: أي لأنهن في جحوركم، وهو تعليل بالمظنة فلا يقتضي اطراد العلة في جميع مواقع الحكم.
وقوله {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ذكر قوله {مِنْ نِسَائِكُمُ} ليبنى عليه {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وهو قيد في تحريم الربائب بحيث لا تحرم الربيبة إلا إذا وقع البناء بأمها، ولا يحرمها مجرد العقد على أمها، وهذا القيد جرى هنا ولم يجر على قوله {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} بل أطلق الحكم هاك، فقال الجمهور هناك: أمهات نسائكم معناه أمهات أزواجكم، فأم الزوجة تحرم بمجرد عقد الرجل على ابنتها لأن العقد يصيرها امرأته، ولا يلزم الدخول ولم يحملوا المطلق منه على المقيد بعده، ولا جعلوا الصفة

راجعة للمتعاطفات لأنها جرت على موصوف متعين تعلقه بأحد المتعاطفات، وهو قوله {من نسائكم} المتعلق بقوله {وربائبكم} ولا يصلح تعلقه ب {أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}.
وقال علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وعبد الله بن عباس، ومجاهد وجابر، وابن الزبير: لا تحرم أم المرأة على زوج ابنتها حتى يدخل بابنتها حملا للمطلق على المقيد، وهو الأصح محملا، ولم يستطع الجمهور أن يوجهوا مذهبهم بعلة بينة، ولا أن يستظهروا عليه بأثر. وعلة تحريم المرأة على زوج ابنتها تساوي علة تحريم ربيبة الرجل عليه، ويظهر أن الله ذكر أمهات النساء قبل أن يذكر الربائب، فلو أراد اشتراط الدخول بالأمهات في تحريمهن على أزواج بناتهن لذكره في أول الكلام قبل أن يذكره مع الربائب.
وهنالك رواية عن زيد بن ثابت أنه قال: إذا طلق الأم قبل البناء فله التزوج بابنتها، وإذا ماتت حرمت عليه ابنتها، وكأنه نظر إلى أن الطلاق عدول عن العقد، والموت أمر قاهر، فكأنه كان ناويا الدخول بها، ولا حظ لهذا القول.
وقوله {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} الحلائل جمع الحليلة فعلية بمعنى فاعلة، وهي الزوجة، لأنها تحل معه، وقال الزجاج: هي فعلية بمعنى مفعولة، أي محللة إذ أباحها أهلها له، فيكون من مجيء فعيل للمفعول من الرباعي في قولهم {حكيم} ، والعدول عن أن يقال: وما نكح أبناؤكم أو ونساء أبنائكم إلى قوله {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} تفنن لتجنب تكرير أحد اللفظيين السابقين وإلا فلا فرق في الإطلاق بين الألفاظ الثلاثة.
وقد سمي الزوج أيضا بالخليل وهو يحتمل الوجهين كذلك، وتحريم حليلة الابن واضح العلة، كتحريم حليلة الأب.
وقوله {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} تأكيد لمعنى الأبناء لدفع احتمال المجاز، إذ كانت العرب تسمي المتبنى ابنا، وتجعل له ما للابن، حتى أبطل الإسلام ذلك وقال تعالى {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] فما دعي أحد لمتبنيه بعد، إلا المقداد بن الأسود وعدت خصوصية. وأكد الله ذلك بالتشريع الفعلي بالإذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بتزوج زينب ابنة جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة الذي كان تبناه، وكان يدعى زيد بن محمد. وابن الابن وابن البنت، وإن سفلا، أبناء من الأصلاب لأن للجد عليهم ولادة لا محالة.
وقوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} هذا تحريم للجمع بين الأختين فحكمته دفع

الغيرة عمن يريد الشرع بقاء تمام المودة بينهما، وقد علم أن المراد الجمع بينهما فيما فيه غيرة، وهو النكاح أصالة، ويلحق به الجمع بينهما في التسري بملك اليمين، إذ العلة واحدة فقوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وقوله {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] يخص بغير المذكورات. وروي عن عثمان بن عفان: أنه سئل عن الجمع بين الأختين في التسري فقال أحلتهما آية يعني قوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وحرمتهما آية، يعني هذه الآية، أي فهو متوقف. وروي مثله عن علي، وعن جمع من الصحابة، أن الجمع بينهما في التسري حرام، وهو قول مالك. قال مالك فإن تسرى بإحدى الأختين ثم أراد التسري بالأخرى وقف حتى يحرم الأولى بما تحرم به من بيع أو كتابة أو عتق ولا يحد إذا جمع بينهما. وقال الظاهرية: يجوز الجمع بين الأختين في التسري لأن الآية واردة في أحكام النكاح، أما الجمع بين الأختين في مجرد الملك فلا حظر فيه.
وقوله {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} هو كنظيره السابق، والبيان فيه كالبيان هناك، بيد أن القرطبي قال هنا: ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا وإذا جرى الجمع في الإسلام خير بين الأختين من غير إجراء عقود الكفار على مقتضى الإسلام، ولم يعز القول بذلك لأحد من الفقهاء.
وقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} يناسب أن يكون معنى {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} تقرير ما عقدوه من ذلك في عهد الجاهلية، فالمغفرة للتجاوز عن الاستمرار عليه، والرحمة لبيان سبب ذلك التجاوز.
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [24].
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .
عطف على {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء:13] والتقدير: وحرمت عليكم المحصنات من النساء الخ... فهذا الصنف من المحرمات لعارض نظير الجمع بين الأختين.
والمحصنات بفتح الصاد من أحصنها الرجل إذا حفظها واستقل بها عن غيره،

ويقال: امرأة محصنة بكسر الصاد أحصنت نفسها عن غير زوجها، ولم يقرأ قوله {والمحصنات} في هذه الآية إلا بالفتح.
ويقال أحصن الرجل فهو محصن بكسر الصاد لا غير، ولا يقال محصن: ولذلك لم يقرأ أحد: محصنين غير مسافحين بفتح الصاد، وقرئ قوله {محصنات} بالفتح والكسر وقوله {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء:25] بضم الهمزة وكسر الصاد، وبفتح الهمزة وفتح الصاد. والمراد هنا المعنى الأول، أي وحرمت عليكم ذوات الأزواج ما دمن في عصمة أزواجهن، فالمقصود تحريم اشتراك رجلين فأكثر في عصمة امرأة، وذلك إبطال لنوع من النكاح كان في الجاهلية يسمى الضماد، ولنوع آخر ورد ذكره في حديث عائشة: أن يشترك الرجال في المرأة وهم دون العشرة، فإذا حملت ووضعت حملها أرسلت إليهم فلا يستطيع أحد منهم أن يمتنع، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به. ونوع آخر يسمى نكاح الاستبضاع؛ وهو أن يقول الزوج لامرأته إذا طهرت من حيضها: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها. قالت عائشة: وإنما يفعل هذا رغبة في نجابة الولد، وأحسب أن هذا كان يقع بتراض بين الرجلين، والمقصد لا ينحصر في نجابة الولد، فقد يكون لبذل مال أو صحبة. فدلت الآية على تحريم كل عقد على نكاح ذات الزوج، أي تحريم أن يكون للمرأة أكثر من زوج واحد. وأفادت الآية تعميم حرمتهن ولو كان أزواجهن مشركين، ولذلك لزم الاستثناء بقوله {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي إلا اللائى سبيتموهن في الحرب، لأن اليمين في كلام العرب كناية عن اليد حين تمسك السيف.
وقد جعل الله السبي هادما للنكاح تقريرا لمعتاد الأمم في الحروب، وتخويفا أن لا يناصبوا الإسلام لأنهم لو رفع عنهم السبي لتكالبوا على قتال المسلمين، إذ لا شيء يحذره العربي من الحرب أشد من سبي نسوته، ثم من أسره، كما قال النابغة:
حذارا على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
واتفق المسلمون على أن سبي المرأة دون زوجها يهدم النكاح، ويحلها لمن وقعت في قسمته عند قسمة المغانم. واختلفوا في التي تسبى مع زوجها: فالجمهور على أن سبيها يهدم نكاحها، وهذا إغضاء من الحكمة التي شرع لأجلها إبقاء حكم الاسترقاق بالأسر. وأومأت إليها الصلة بقوله {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وإلا لقال: إلا ما تركت

أزواجهن.
ومن العلماء من قال: إن دخول الأمة ذات الزوج في ملك جديد غير ملك الذي زوجها من ذلك الزوج يسوغ لمالكها الجديد إبطال عقد الزوجية بينها وبين زوجها، كالتي تباع أو توهب أو تورث، فانتقال الملك عندهم طلاق. وهذا قول ابن مسعود، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وسعيد، والحسن البصري، وهو شذوذ، فإن مالكها الثاني إنما اشتراها عالما بأنها ذات زوج، وكان الحامل لهم على ذلك تصحيح معنى الاستثناء، وإبقاء صيغة المضي على ظاهرها في قوله {ملكت} ، أي ما كن مملوكات لهم من قبل. والجواب عن ذلك أن المراد بقوله {ملكت} ما تجدد ملكها بعد أن كانت حرة ذات زوج. فالفعل مستعمل في معنى التجدد.
وقد نقل عن ابن عباس أنه تحير في تفسير هذه الآية، وقال لو أعلم أحدا يعلم تفسيرها لضربت إليه أكباد الإبل. ولعله يعني من يعلم تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان بعض المسلمين في الزمن الأول يتوهم أن أمة الرجل إذا زوجها من زوج لا يحرم على السيد قربانها، مع كونها ذات زوج. وقد رأيت منقولا عن مالك: أن رجلا من ثقيف كان فعل ذلك في زمان عمر، وأن عمر سأله عن أمته التي زوجها وهل يطؤها، فأنكر، فقال له: لو اعترفت لجعلتك نكالا.
وقوله {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} تذييل، وهو تحريض على وجوب الوقوف عند كتاب الله، ف {عليكم} نائب مناب الزموا، وهو مصير بمعنى اسم الفعل، وذلك كثير في الظروف والمجرورات المنزلة منزلة أسماء الأفعال بالقرينة، كقولهم: إليك، ودونك، وعليك. و {كتاب الله} مفعوله مقدم عليه عند الكوفيين، أو يجعل منصوبا بعليكم محذوفا دل عليه المذكور بعده، على أنه تأكيد له، تخريجا على تأويل سيبويه في قوله الراجز:
يأيها المائح دلوي دونك
...
إني رأيت الناس يحمدونك
ويجوز أن يكون {كتاب} مصدرا نائبا مناب فعله، أي كتب الله ذلك كتابا، وعليكم متعلقا به.
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}.
عطف على قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] وما بعده، وبذلك تلتئم

الجمل الثلاث في الخبرية المراد بها الإنشاء، وفي الفعلية والماضوية.
وقرأ الجمهور: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} بالبناء للفاعل، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة من قوله {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .
وأسند التحليل إلى الله تعالى إظهارا للمنة، ولذلك خالف طريقة إسناد التحريم إلى المجهول في قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} لأن التحريم مشقة فليس المقام فيه مقام منة.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر: {وأحل} بضم الهمزة وكسر الحاء على البناء للنائب على طريقة حرمت عليكم أمهاتكم.
والوراء هنا بمعنى غير ودون، كقول النابغة:
وليس وراء الله للمرء مذهب
وهو مجاز؛ لأن الوراء هو الجهة التي هي جهة ظهر ما يضاف إليه. والكلام تمثيل لحال المخاطبين بحال السائر يترك ما وراءه ويتجاوزه.
والمعنى: أحل لكم ما عدا أولئكم المحرمات، وهذا أنزل قبل تحريم ما حرمته السنة نحولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ونحو يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
وقوله {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يجوز أن يكون بدل اشتمال من ما باعتبار كون الموصول مفعولا لأحل، والتقدير: أن تبتغوهن بأموالكم فإن النساء المباحات لا تحل إلا بعد العقد وإعطاء المهور، فالعقد هو مدلول تبتغوا، وبذل المهر هو مدلول بأموالكم، ورابط الجملة محذوف: تقديره أن تبتغوه، والاشتمال هنا كالاشتمال في قول النابغة:
مخافة عمرو أن تكون جياده
...
يقدن إلينا بين حاف وناعل
ويجوز أن يجعل {أن تبتغوا} معمولا للام التعليل محذوفة، أي أحلهن لتبتغوهن بأموالكم، والمقصود هو عين ما قرر في الوجه الأول.
ومحصنين حال من فاعل تبتغوا أي {محصنين} أنفسكم من الزنى، والمراد متزوجين على الوجه المعروف. و { غَيْرَ مُسَافِحِينَ} حال ثانية، والمسافح الزاني، لأن الزنى

يسمى السفاح، مشتقا من السفح، وهو أن يهراق الماء دون حبس، يقال: سفح الماء. وذلك أن الرجل والمرأة يبذل كل منهما للآخر ما رامه منه دون قيد ولا رضى ولي، فكأنهم اشتقوه من معنى البذل بلا تقيد بأمر معروف؛ لأن المعطاء يطلق عليه السفاح. وكان الرجل إذا أراد من المرأة الفاحشة يقول لها: سافحيني، فرجع معنى السفاح إلى التبادل وإطلاق العنان، وقيل: لأنه بلا عقد، فكأنه سفح سفحا، أي صبا لا يحجبه شيء، وغير هذا في اشتقاقه لا يصح، لأنه لا يختص بالزنى.
{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}.
تفريع على {أن تبتغوا بأموالكم} وهو تفريع لفظي لبيان حق المرأة في المهر وأنه في مقابلة الاستمتاع تأكيدا لما سبقه من قوله تعالى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] سواء عند الجمهور الذين يجعلون الصداق ركنا للنكاح، أو عند أبي حنيفة الذي يجعله مجرد حق للزوجة أن تطالب به؛ ولذلك فالظاهر أن تجعل ما اسم شرط صادقا على الاستمتاع، لبيان أنه لا يجوز إخلاء النكاح عن المهر، لأنه الفارق بينه وبين السفاح، ولذلك قرن الخبر بالفاء في قوله {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} لأنه اعتبر جوابا للشرط.
والاستمتاع: الانتفاع، والسين والتاء فيه للمبالغة، وسمى الله النكاح استمتاعا لأنه منفعة دنيوية، وجميع منافع الدنيا متاع، قال تعالى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد:26].
والضمير المجرور بالياء عائد على ما. ومن تبعيضية، أي: فإن استمتعتم بشيء منهن فآتوهن؛ فلا يجوز استمتاع بهن دون مهر.
أو يكون ما صادقة على النساء، والمجرور بالياء عائدا إلى الاستمتاع المأخوذ من استمتعتم ومن بيانية، أي فأي امرأة استمتعتم بها فآتوها.
ويجوز أن تجعل ما موصولة، ويكون دخول الفاء في خبرها لمعاملتها معاملة الشرط، وجيء حينئذ بما ولم يعبر بمن لأن المراد جنس النساء لا القصد إلى امرأة واحدة، على أن ما تجيء للعاقل كثيرا ولا عكس. و {فريضة} حال من {أجورهن} أي مفروضة، أي مقدرة بينكم. والمقصد من ذلك قطع الخصومات في أعظم معاملة يقصد منها الوثاق وحسن السمعة.

وأما نكاح التفويض: وهو أن ينعقد النكاح مع السكوت عن المهر. وهو جائز عند جميع الفقهاء؛ فجوازه مبني على أنهم لا يفوضون إلا وهم يعلمون معتاد أمثالهم، ويكون فريضة بمعنى تقديرا، ولذلك قال {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}. أي فيما زدتم لهن أو أسقطن لكم عن طيب نفس. فهذا معنى الآية بينا لا غبار عليه.
وذهب جمع: منهم ابن عباس، وأبي بن كعب، وابن جبير: أنها نزلت في نكاح المتعة لما وقع فيها من قوله {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ}. ونكاح المتعة: هو الذي تعاقد الزوجان على أن تكون العصمة بينهما موجبة بزمان أو بحالة، فإذا انقضى ذلك الأجل ارتفعت العصمة، وهو نكاح قد أبيح في الإسلام لا محالة، ووقع النهي عنه يوم خيبر، أو يوم حنين على الأصح. والذين قالوا: حرم يوم خيبر قالوا: ثم أبيح في غزوة الفتح، ثم نهي عنه في اليوم الثالث من يوم الفتح. وقيل: نهي عنه في حجة الوداع، قال أبو داود: وهو أصح. والذي استخلصناه أن الروايات فيها مضطربة اضطرابا كبيرا.
وقد اختلف العلماء في الأخير من شانه: فذهب الجمهور إلى أن الأمر استقر على تحريمه، فمنهم من قال: نسخته آية المواريث لأن فيها {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء:12] فجعل للأزواج حظا من الميراث، وقد كانت المتعة لا ميراث فيها. وقيل: نسخها ما رواه مسلم عن سبرة الجهني، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندا ظهره إلى الكعبة ثالث يوم من الفتح يقول "أيها الناس إن كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء إلا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة". وانفراد سيرة به في مثل ذلك اليوم مغمز في روايته، على أنه ثبت أن الناس استمتعوا. وعن على بن أبي طالب، وعمران بن حصين، وابن عباس، وجماعة من التابعين والصحابة أنهم قالوا بجواره. قيل: مطلقا، وهو قول الإمامية، وقيل: في حال الضرورة عند أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شفى1. وعن عمران بن حصين في الصحيح أنه قال نزلت أية المتعة في كتاب الله ولم ينزل
ـــــــ
1 بفاء بعد الشين أي إلا قليل وأصله من قولهم: شفيت الشمس إذا غربت وفي بعض الكتب شقي.

بعدها آية تنسخها، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال رجل برأيه ما شاء، يعني عمر بن الخطاب حين نهى عنها في زمن من خلافته بعد أن عملوا بها في معظم خلافته، وكان ابن عباس يفتي بها، فلما قال له سعيد بن جبير: أتدري ما صنعت لفتواك فقد سارت بها الركبان حتى قال القائل:
قد قلت للركب إذ طال الثواء بنا
...
يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
في بضة رخصة الأطراف ناعمة
...
تكون مثواك حتى مرجع الناس
أمسك عن الفتوى وقال: إنما أحللت مثل ما أحل الله الميتة والدم، يريد عند الضرورة. واختلف العلماء في ثبات علي على إباحتها، وفي رجوعه. والذي عليه علماؤنا أنه رجع عن إباحتها. أما عمران بن حصين فثبت على الإباحة. وكذلك ابن عباس على الصحيح. وقال مالك: يفسخ نكاح المتعة قبل البناء وبعد البناء، وفسخه بغير طلاق، وقيل: بطلاق، ولا حد فيه على الصحيح من المذهب، وأرجح الأقوال أنها رخصة للمسافر ونحوه من أحوال الضرورات، ووجه مخالفتها للمقصد من النكاح ما فيها من التأجيل. وللنظر في ذلك مجال.
والذي يستخلص من مختلف الأخبار أن المتعة أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، ونهى عنها مرتين، والذي يفهم من ذلك أن ليس ذلك بنسخ مكرر ولكنه إناطة إباحتها بحال الاضطرار، فاشتبه على الرواة تحقيق عذر الرخصة بأنه نسخ. وقد ثبت أن الناس استمتعوا في زمن أبي بكر، وعمر، ثم نهى عنها عمر في آخر خلافته. والذي استخلصناه في حكم نكاح المتعة أنه جائز عند الضرورة الداعية إلى تأجيل مدة العصمة، مثل الغربة في سفر أو غزو إذا لم تكن مع الرجل زوجه. ويشترط فيه ما يشترط في النكاح من صداق وإشهاد وولي حيث يشترط، وأنها تبين منه عند انتهاء الأجل، وأنها لا ميراث فيها بين الرجل والمرأة، إذا مات أحدهما في مدة الاستمتاع، وأن عدتها حيضة واحدة، وأن الأولاد لاحقون بأبيهم المستمتع. وشذ النحاس فزعم أنه لا يلحق الولد بأبيه في نكاح المتعة. ونحن نرى أن هذه الآية بمعزل عن أن تكون نازلة في نكاح المتعة، وليس سياقها سامحا بذلك، ولكنها صالحة لاندراج المتعة في عموم {ما استمتعتم} فيرجع في مشروعية نكاح المتعة إلى ما سمعت آنفا.
[5] {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَت

أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [25].
عطف قوله {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} على قوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] تخصيصا لعمومه بغير الإماء، وتقييدا لإطلاقه باستطاعة الطول.
والطول بفتح الطاء وسكون الواو القدرة، وهو مصدر طال المجازي بمعنى قدر، وذلك أن الطول يستلزم المقدرة على المناولة؛ فلذلك يقولون: تطاول لكذا، أي تمطى ليأخذه، ثم قالوا: تطاول، بمعنى تكلف المقدرة وأين الثريا من يد المتطاول فجعلوا لطال الحقيقي مصدرا بضم الطاء وجعلوا لطال المجازي مصدرا بفتح الطاء وهو مما فرقت فيه العرب بين المعنيين المشتركين.
{والمحصنات} [النساء:24] قرأه الجمهور بفتح الصاد وقرأه الكسائي بكسر الصاد على اختلاف معيني أحصن كما تقدم آنفا، أي اللاتي أحصن أنفسهن، أو أحصنهن أولياؤهن، فالمراد العفيفات. والمحصنات هنا وصف خرج مخرج الغالب، لأن المسلم لا يقصد إلا إلى نكاح امرأة عفيفة، قال تعالى {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:30] أي بحسب خلق الإسلام، وقد قيل: إن الإحصان يطلق على الحرية، وأن المراد بالمحصنات الحرائر، ولا داعي إليه، واللغة لا تساعد عليه.
وظاهر الآية أن الطول هنا هو القدرة على بذل مهر لامرأة حرة احتاج لتزوجها: أولى، أو ثانية، أو ثالثة، أو رابعة، لأن الله ذكر عدم استطاعة الطول في مقابلة قوله {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء:24] وقوله {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء:24] ولذلك كان هذا الأصح في تفسير الطول. وهو قول مالك، وقاله ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والسدي، وجابر ابن زيد، وذهب أبو حنيفة إلى أن من كانت له زوجة واحدة فهي طول فلا يباح له تزوج الإماء؛ لأنه طالب شهوة إذ كانت عنده امرأة تعفه عن الزنا، ووقع لمالك ما يقرب من هذا في كتاب محمد بن المواز، وهو قول ابن حبيب، واستحسنه اللخمي والطبري، وهو تضييق لا يناسب يسر الإسلام على أن الحاجة إلى امرأة ثانية قد لا يكون لشهوة بل لحاجة لا تسدها امرأة واحدة، فتعين الرجوع إلى طلب التزوج،

ووجود المقدرة، وقال ربيعة، والنخعي، وقتادة، وعطاء، والثوري: الطول: الصبر والجلد على نكاح الحرائر.
ووقع لمالك في كتاب محمد: أن الذي يجد مهر حرة ولا يقدر على نفقتها، ولا يجوز له أن يتزوج أمة، وهذا ليس لكون النفقة من الطول ولكن لأن وجود المهر طول، والنفقة لا محيص عنها في كليهما، وقال أصبغ: يجوز لهذا أن يتزوج أمة لأن نفقة الأمة على أهلها إن لم يضمها الزوج إليه، وظاهر أن الخلاف في حال. وقوله {أن ينكح} معمول طولا بحذف اللام أو على إذ لا يتعدى هذا المصدر بنفسه.
ومعنى {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} أي ينكح النساء الحرائر أبكارا أو ثيبات، دل عليه قوله {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} .
وإطلاق المحصنات على النساء اللاتي يتزوجهن الرجال إطلاق مجازي بعلاقة المآل، أي اللائى يصرن محصنات بذلك النكاح إن كن أبكارا، كقوله تعالى {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف:36] أي عنبا آيلا إلى خمر؛ أو بعلاقة ما كان، إن كن ثيبات كقوله {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] وهذا بين، وفيه غنية عن تأويل المحصنات بمعنى الحرائر، فإنه إطلاق لا تساعد عليه اللغة، لا على الحقيقة ولا على المجاز، وقد تساهل المفسرون في القول بذلك.
وقد وصف المحصنات هنا بالمؤمنات، جريا على الغالب، ومعظم علماء الإسلام على أن هذا الوصف خرج للغالب ولعل الذي حملهم على ذلك أن استطاعة نكاح الحرائر الكتابيات طول، إذ لم تكن إباحة نكاحهن مشروطة بالعجز عن الحرائر المسلمات، وكان نكاح الإماء المسلمات مشروطا بالعجز عن الحرائر المسلمات، فحصل من ذلك أن يكون مشروطا بالعجز عن الكتابيات أيضا بقاعدة المساواة. وعلة ذلك أن نكاح الأمة يعرض الأولاد للرق، بجلاف نكاح الكتابية فتعطيل مفهوم قوله {المؤمنات} مع {المحصنات} حصل بأدلة أخرى فلذلك ألغوا الوصف هنا، وأعملوه في قوله {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} . وشذ بعض الشافعية، فاعتبروا رخصة نكاح الأمة المسلمة مشروطة بالعجز عن الحرة المسلمة. ولو مع القدرة على نكاح الكتابية، وكأن فائدة ذكر وصف المؤمنات هنا أن الشارع لم يكترث عند التشريع بذكر غير الغالب المعتبر عنده، فصار المؤمنات هنا كاللقب في نحو لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
والفتيات جمع فتاة، وهي في الأصل الشابة كالفتى، والمراد بها هنا الأمة أطلق

عليها الفتاة كما أطلق عليها الجارية، وعلى العبد الغلام، وهو مجاز بعلاقة اللزوم، لأن العبد والأمة بعاملان معاملة الصغير في الخدمة، وقلة المبالاة. ووصف المؤمنات عقب الفتيات مقصود للتقييد عند كافة السلف، وجمهور أئمة الفقه، لأن الأصل أن يكون له مفهوم، ولا دليل يدل على تعطيله، فلا يجوز عندهم نكاح أمة كتابية. والحكمة في ذلك أن اجتماع الرق والكفر يباعد المرأة عن الحرمة في اعتبار المسلم، فيقل الوفاق بينهما، بخلاف أحد الوصفين، ويظهر أثر ذلك في الأبناء إذ يكونون أرقاء مع مشاهدة أحوال الدين المخالف فيمتد البون بينهم وبين أبيهم، وقال أبو حنيفة: موقع وصف المؤمنات هنا كموقعه مع قوله {الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} ، فلم يشترط في نكاح الأمة كونها مؤمنة، قال أبو عمر بن عبد البر: ولا أعرف هذا القول لأحد من السلف إلا لعمرو ابن شرحبيل وهو تابعي قديم روى عن عمر بن الخطاب وعلى بن أبي طالب؛ ولأن أبا حنيفة لا يرى إعمال المفهوم.
وتقدم آنفا معنى {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
والإضافة في قوله {أيمانكم} وقوله {من فتياتكم} للتقريب وإزالة ما بقي في نفوس العرب من احتقار العبيد والإماء والترفع عن نكاحهم وإنكاحهم، وكذلك وصف المؤمنات، وإن كنا نراه للتقييد فهو لا يخلو مع ذلك من فائدة التقريب، إذ الكفاءة عند مالك تعتمد الدين أولا.
وقوله {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} اعتراض جمع معاني شتى، منها: أنه أمر، وقيد للأمر في قوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} الخ؛ وقد تحول الشهوة والعجلة دون تحقيق شروط الله تعالى، فأحالهم على إيمانهم المطلع عليه ربهم. ومن تلك المعاني أنه تعالى أمر بنكاح الإماء عند العجز عن الحرائر، وكانوا في الجاهلية لا يرضون بنكاح الأمة وجعلها حليلة، ولكن يقضون منهن شهواتهم بالبغاء، فأراد الله إكرام الإماء المؤمنات، جزاء على إيمانهن، وإشعار بأن وحدة الإيمان قربت الأحرار من العبيد، فلما شرع ذلك كله ذيله بقوله {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} ، أي بقوته، فلما كان الإيمان، هو الذي رفع المؤمنين عند الله درجات كان إيمان الإماء مقنعا للأحرار بترك الاستنكاف عن تزوجهن، ولأنه رب أمة يكون إيمانها خيرا من إيمان رجل حر، وهذا كقوله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. وقد أشار إلى هذا الأخير صاحب الكشاف، وابن عطية.
وقوله {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} تذييل ثان أكد به المعنى الثاني المراد من قوله {وَاللَّهُ

أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} فإنه بعد أن قرب إليهم الإماء من جانب الوحدة الدينية قربهن إليهم من جانب الوحدة النوعية، وهو أن الأحرار والعبيد كلهم من بني آدم فمن اتصالية.
وفرع عن الأمر بنكاح الإماء بيان كيفية ذلك فقال {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} وشرط الإذن لئلا يكون سرا وزنى، ولأن نكاحهن دون ذلك اعتداء على حقوق أهل الإماء.
والأهل هنا بمعنى السادة المالكين، وهو إطلاق شائع على سادة العبيد في كلام الإسلام، وأحسب أنه من مصطلحات القرآن تلطفا بالعبيد، كما وقع النهي أن يقول العبد لسيده: سيدي، بل يقوم: مولاي. ووقع في حديث بريرة أن أهلها أبوا إلا أن يكون الولاء لهم.
والآية دليل على ولاية السيد لأمته، وأنه إذا نكحت الأمة بدون إذن السيد فالنكاح مفسوخ، ولو أجازه سيدها. واختلف في العبد: فقال الشعبي، والأوزاعي، وداود: هو كالأمة. وقال مالك، وأبو حنيفة، وجماعة من التابعين: إذا أجازه السيد جاز، ويحتج بها لاشتراط أصل الولاية في المرأة، احتجاجا ضعيفا، واحتج بها الحنفية على عكس ذلك، إذ سمى الله ذلك إذنا ولم يسمه عقدا، وهو احتجاج ضعيف، لأن الإذن يطلق على العقد لا سيما بعد أن دخلت عليه باء السببية المتعلقة بانكحوهن.
والقول في الأجور والمعروف تقدم قريبا. غير أن قوله {وآتوهن} وإضافة الأجور إليهن، دليل على أن الأمة أحق بمهرها من سيدها، ولذلك قال مالك في كتاب الرهون، من المدونة: إن على سيدها أن يجهزها بمهرها. ووقع في كتاب النكاح الثاني منها: إن لسيدها أن يأخذ مهرها. فقيل: هو اختلاف من قول مالك، وقيل: إن قوله في كتاب النكاح: إذا لم تبوأ أو إذا جهزها من عنده قبل ذلك، ومعنى تبوأ إذا جعل سكناها مع زوجها في بيت سيدها.
وقوله {محصنات} حال من ضمير الإماء، والإحصان التزوج الصحيح، فهي حال مقدرة، أي ليصرن محصنات.
وقوله {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} صفة للحال، وكذلك {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} قصد منها تفظيع ما كانت ترتكبه الإماء في الجاهلية بإذن مواليهن لاكتساب المال بالبغاء ونحوه، وكان الناس يومئذ قريبا عصرهم بالجاهلية.

والمسافحات الزواني مع غير معين. ومتخذات الأخذان هن متخذات أخلاء تتخذ الواحدة خليلا تختص به لا تألف غيره. وهذا وإن كان يشبه النكاح من جهة عدم التعدد، إلا أنه يخالفه من جهة التستر وجهل النسب وخلف برقع المروءة، ولذلك عطفه على قوله {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} سد لمداخل الزنى كلها. وتقدم الكلام على أنواع المعاشرة التي كان عليها أهل الجاهلية في أول هذه السورة.
وقرأه الكسائي بكسر الصاد وقرأه الجمهور بفتح الصاد.
وقوله {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي أحصنهن، أي فإذا تزوجن. فالآية تقتضي أن التزوج شرط في إقامة حد الزنا على الإماء، وأن الحد هو الجلد المعين لأنه الذي يمكن فيه التنصيف بالعدد، واعلم أنا إذا جرينا على ما حققناه مما تقدم في معنى الآية الماضية تعين أن تكون هذه الآية نزلت بعد شرع حد الجلد للزانية والزاني بآية سورة النور. فتكون مخصصة لعموم الزانية بغير الأمة، ويكون وضع هذه الآية في هذا الموضع مما ألحق بهذه السورة إكمالا للأحكام المتعلقة بالإماء كما هو واقع في نظائر عديدة، كما تقدم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير. وهذه الآية تحير فيها المتأولون لاقتضائها أن لا تحد الأمة في الزنى إلا إذا كانت متزوجة، فتأولها عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عمر بأن الإحصان هنا الإسلام، ورأوا أن الأمة تحد في الزنا سواء كانت متزوجة أم عزبى، وإليه ذهب الأئمة الأربعة. ولا أظن أن دليل الأئمة الأربعة هو حمل الإحصان هنا على معنى الإسلام، بل ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؛ فأوجب عليها الحد. قال ابن شهاب فالأمة المتزوجة محدودة بالقرآن، والأمة غير المتزوجة محدودة بالسنة. ونعم هذا الكلام. قال القاضي إسماعيل بن اسحق: في حمل الإحصان في الآية على الإسلام بعد؛ لأن ذكر إيمانهن قد تقدم في قوله {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} وهو تدقيق، وإن أباه ابن عطية.
وقد دلت الآية على أن حد الأمة الجلد، ولم تذكر الرجم، فإذا كان الرجم مشروعا قبل نزولها دلت على أن الأمة لا رجم عليها، وهو مذهب الجمهور، وتوقف أبو ثور في ذلك، وإن كان الرجم قد شرع بعد ذلك فلا تدل الآية على نفي رجم الأمة، غير أن قصد التنصيف في حدها يدل على أنها لا يبلغ بها حد الحرة، فالرجم ينتفي لأنه لا يقبل التجزئة، وهو ما ذهل عنه أبو ثور. وقد روي عن عمر بن الخطاب: أنه سئل عن حد الأمة فقال: الأمة ألقت فروة رأسها من وراء الدار أي ألقت في بيت أهلها قناعها، أي

أنها تخرج إلى كل موضع يرسلها أهلها إليه لا تقدر على الامتناع من ذلك، فتصير إلى حيث لا تقدر على الامتناع من الفجور، قالوا: فكان يرى أن لا حد عليها إذا فجرت ما لم تتزوج، وكأنه رأى أنها إذا تزوجت فقد منعها زوجها. وقوله هذا وإن كان غير المشهور عنه، ولكننا ذكرناه لأن فيه للمتبصر بتصريف الشريعة عبره في تغليظ العقوبة بمقدار قوة الخيانة وضعف المعذرة.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب: {أحصن} بضم الهمزة وكسر الصاد مبنيا للنائب، وهو بمعنى محصنات المفتوح الصاد. وقرأه حمزة، والكسائي وأبو بكر عن عاصم، وخلف: بفتح الهمزة وفتح الصاد، وهو معنى محصنات بكسر الصاد.
وقوله {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} إشارة إلى الحكم الصالح لأن يتقيد بخشية العنت، وذلك الحكم هو نكاح الإماء.
والعنت: المشقة. قال تعالى {وََلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} [البقرة:220] وأريد به هنا مشقة العزبة التي تكون ذريعة إلى الزنا، فلذلك قال بعضهم: أريد بالعنت الزنا.
وقوله {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي إذا استطعتم الصبر مع المشقة إلى أن يتيسر له نكاح الحرة فلذلك خير. لئلا يوقع أبناءه في ذل العبودية المكروهة للشارع لولا الضرورة، ولئلا يوقع نفسه في مذلة تصرف الناس في زوجه.
وقوله {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إن خفتم العنت ولم تصبروا عليه، وتزوجتم الإماء، وعليه فهو مؤكد لمعنى الإباحة، مؤذن بأن إباحة ذلك لأجل رفع الحرج، لأن الله رحيم بعباده، غفور، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما ما يقتضي مقصد الشريعة تحريمه، فليس هنا ذنب حتى يغفر.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [26] تذييل يقصد منه استئناس المؤمنين واستنزال نفوسهم إلى امتثال الأحكام المتقدمة من أول السورة إلى هنا، فإنها أحكام جمة وأوامر ونواه تقضي إلى خلع عوائد ألقوها، وصرفهم عن شهوات استباحوها، كما أشار إليه قوله بعد هذا {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ

الشَّهَوَاتِ} [النساء:27]، أي الاسترسال على ما كانوا عليه في الجاهلية، فأعقب ذلك ببيان أن في ذلك بيانا وهدى. حتى لا تكون شريعة هذه الأمة دون شرائع الأمم التي قبلها، بل تفوقها في انتظام أحوالها، فكان هذا كالاعتذار على ما ذكر من المحرمات. فقوله {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} تعليل لتفصيل الأحكام في مواقع الشبهات كي لا يضلوا كما ضل من قبلهم، ففيه أن هذه الشريعة أهدى مما قبلها.
وقوله {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} بيان لقصد إلحاق هذه الأمة بمزايا الأمم التي قبلها.
والإرادة: القصد والعزم على العمل، وتطلق على الصفة الإلهية التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه. والامتنان بما شرعه الله للمسلمين من توضيح الأحكام قد حصلت إرادته فيما مضى، وإنما عبر بصيغة المضارع هنا للدلالة على تجدد البيان واستمراره، فإن هذه التشريعات دائمة مستمرة تكون بيانا للمخاطبين ولمن جاء بعدهم، وللدلالة على أن الله يبقي بعدها بيانا متعاقبا.
وقوله {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} انتصب فعل يبين بأن المصدرية محذوفة، والمصدر المنسبك مفعول يريد، أي يريد الله البيان لكم والهدى والتوبة، فكان أصل الاستعمال ذكر أن المصدرية، ولذلك فاللام هنا لتوكيد معنى الفعل الذي قبلها، وقد شاعت زيادة هذه اللام بعد مادة الإرادة وبعد مادة الأمر معاقبة لأن المصدرية. تقول، أريد أن تفعل وأريد لتفعل، وقال تعالى {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:32] وقال {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] وقال {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:66] وقال {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى:15] فإذا جاؤوا باللام أشبهت لام التعليل فقدروا أن بعد اللام المؤكدة كما قدروها بعد لام كي لأنها أشبهتها في الصورة، ولذلك قال القراء: اللام نائبة عن أن المصدرية. وإلى هذه الطريقة مال صاحب الكشاف.
وقال سيبويه: هي لام التعليل أي لام كي، وأن ما بعدها علة، ومفعول الفعل الذي قبلها محذوف يقدر بالقرينة، أي يريد الله التحليل والتحريم ليبين، ومنهم من قرر قول سيبويه بأن المفعول المحذوف دل عليه التعليل المذكور فيقدر: يريد الله البيان ليبين، فيكون الكلام مبالغة بجعل العلة نفس المعلل.
وقال الخليل، وسيبويه في رواية عنه: اللام ظرف مستقر هو خبر عن الفعل السابق،

وذلك الفعل مقدر بالمصدر دون سابك على حد تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي إرادة الله كائنة للبيان، ولعل الكلام عندهم محمول على المبالغة كأن إرادة الله انحصرت في ذلك. وقالت طائفة قليلة: هذه اللام للتقوية على خلاف الأصل، لأن لام التقوية إنما يجاء بها إذا ضعف العامل بالفرعية أو بالتأخر. وأحسن الوجوه قول سيبويه، بدليل دخول اللام على كي في قول قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي.
أردت لكيما يعلم الناس أنهها
...
سراويل قيس والوفود شهود
وعن النحاس أن بعض القراء سمى هذه اللام لام أن.
ومعنى {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الهداية إلى أصول ما صلح به حال الأمم التي سبقتنا، من كليات الشرائع، ومقاصدها. قال الفخر: فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها، إلا أنها متفقة في باب المصالح. قلت: فهو كقوله تعالى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} الآية.
وقوله ويتوب عليكم أي يتقبل توبتكم، إذ آمنتم ونبذتم ما كان عليه أهل الشرك من نكاح أزواج الآباء، ونكاح أمهات نسائكم، ونكاح الربائب، والجمع بين الأختين.
ومعنى {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يقبل توبتكم الكاملة باتباع الإسلام، فلا تنقضوا ذلك بارتكاب الحرام. وليس معنى {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يوفقكم للتوبة، فيشكل بأن مراد الله لا يتخلف، إذ ليس التوفيق للتوبة بمطرد في جميع الناس. فالآية تحريض على التوبة بطريق الكناية لأن الوعد بقبولها يستلزم التحريض عليها مثل ما في الحديث: "فيقول هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأستجيب له" هذا هو الوجه في تفسيرها، وللفخر وغيره هنا تكلفات لا داعي إليها.
وقوله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} مناسب للبيان والهداية والترغيب في التوبة بطريق الوعد بقبولها، فإن كل ذلك أثر العلم والحكمة في إرشاد الأمة وتقريبها إلى الرشد.
[27] {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} .
كرر قوله {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ليرتب عليه قوله {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} فليس بتأكيد لفظي، وهذا كما يعاد اللفظ في الجزاء

والصفة ونحوها، كقول الأحوص في الحماسة.
فإذا تزول تزول عن متخمط
...
تخشى بوادره على الأقران
وقوله تعالى {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ} [القصص:63] والمقصد من التعرض لإرادة الذين يتبعون الشهوات تنبيه المسلمين إلى دخائل أعدائهم، ليعلموا الفرق بين مراد الله من الخلق، ومراد أعوان الشياطين، وهم الذين يتبعون الشهوات. ولذلك قدم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ليدل على التخصيص الإضافي، أي الله وحده هو الذي يريد أن يتوب عليكم، أي يحرضكم على التوبة والإقلاع عن المعاصي، وأما الذين يتبعون الشهوات فيريدون انصرافكم عن الحق، وميلكم عنه إلى المعاصي. وإطلاق الإرادة على رغبة أصحاب الشهوات في ميل المسلمين عن الحق لمشاكلة {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء:26]. والمقصود: ويحب الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا. ولما كانت رغبتهم في ميل المسلمين عن الحق رغبة لا تخلو عن سعيهم لحصول ذلك، أشبهت رغبتهم إرادة المريد للفعل. ونظيره قوله تعالى بعد هذه الآية {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44].
وحذف متعلق {تميلوا} لظهوره من قرينة المقام، وأراد بالذين يتبعون الشهوات الذين تغلبهم شهواتهم على مخالفة ما شرعه الله لهم: من الذين لا دين لهم. وهم الذين لا ينظرون في عواقب الذنوب ومفاسدها وعقوبتها، ولكنهم يرضون شهواتهم الداعية إليها. وفي ذكر هذه الصلة هنا تشنيع لحالهم، ففي الموصول إيماء إلى تعليل الخبر، والمراد بهم المشركون: أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح أزواج الآباء، واليهود أرادوا أن يتبعوهم في نكاح الأخوات من الأب ونكاح العمات والجمع بين الأختين، والميل العظيم هو البعد عن أحكام الشرع والطعن فيها، فكان المشركون يحببون للمسلمين الزنى ويعرضون عليهم البغايا، وكان المجوس يطعنون في تحريم ابنة الأخ وابنة الأخت ويقولون: لماذا أحل دينكم ابنة العمة وابنة الخالة، وكان اليهود يقولون: لا تحرم الأخت التي للأب ولا تحرم العمة ولا الخالة ولا العم ولا الخال، وعبر عن جميع ذلك بالشهوات لأن مجيء الإسلام قد بين انتهاء إباحة ما أبيح في الشرائع الأخرى، بله ما كان حراما في الشرائع كلها وتساهل فيه أهل الشرك.
[28] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} .

أعقب الاعتذار الذي تقدم بقوله {يُُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء:26] بالتذكير بأن الله لا يزال مراعيا رفقه بهذه الأمة وإرادته بها اليسر دون العسر، إشارة إلى أن هذا الدين بين حفظ المصالح ودرء المفاسد، في أيسر كيفية وأرفقها، فربما ألغت الشريعة بعض المفاسد إذا كان في الحمل على تركها مشقة أو تعطيل مصلحة، كما ألغت مفاسد نكاح الإماء نظرا للمشقة على غير ذي الطول. والآيات الدالة على هذا المعنى بلغت مبلغ القطع كقوله {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقوله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وقوله {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، وفي الحديث الصحيح: "إن هذا الذين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه" ، وكذلك كان يأمر أصحابه الذين يرسلهم إلى بث الدين؛ فقال لمعاذ وأبي موسى: "يسرا ولا تعسرا" وقال "إنما بعثتم مبشرين لا منفرين". وقال لمعاذ لما شكا بعض المصلين خلفه من تطويله "أفتان أنت" . فكان التيسير من أصول الشريعة الإسلامية، وعنه تفرعت الرخص بنوعيها.
وقوله {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} تذييل وتوجيه للتخفيف، وإظهار لمزية هذا الدين وأنه أليق الأديان بالناس في كل زمان ومكان، ولذلك فما مضى من الأديان كان مراعى فيه حال دون حال، ومن هذا المعنى قوله تعالى {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} الآية في سورة الأنفال [الأنفال:66]. وقد فسر بعضهم الضعف هنا بأنه الضعف من جهة النساء. قال طاووس ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء وليس مراده حصر معنى الآية فيه، ولكنه مما روعي في الآية لا محالة، لأن من الأحكام المتقدمة ما هو ترخيص في النكاح.
[30,29] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وََمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .
استئناف من التشريع المقصود من هذه السورة. وعلامة الاستئناف افتتاحه ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، ومناسبته لما قبله أن أحكام المواريث والنكاح اشتملت على أوامر بإيتاء

ذي الحق في المال حقه، كقوله {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] وقوله {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء:24] وقوله {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} [النساء:4] الآية، فانتقل من ذلك إلى تشريع عام في الأموال والأنفس.
وقد تقدم أن الأكل مجاز في الانتفاع بالشيء انتفاعا تاما، لا يعود معه إلى الغير، فأكل الأموال هو الاستيلاء عليها نبيه عدم إرجاعها لأربابها، وغالب هذا المعنى أن يكون استيلاء ظلم، وهو مجاز صار كالحقيقة. وقد يطلق على الانتفاع المأذون فيه كقوله تعالى {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] وقوله {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6]، ولذلك غلب تقييد المنهي عنه من ذلك بقيد {بالباطل} ونحوه.
والضمير المرفوع بتأكلوا، والضمير المضاف إليه أموال: راجعان إلى الذين آمنوا، وظاهر أن المرء لا ينهي عن أكل مال نفسه، ولا يسمى انتفاعه بماله أكلا، فالمعنى: لا يأكل بعضهم مال بعض. والباطل ضد الحق، وهو ما لم يشرعه الله ولا كان عن إذن ربه، والباء فيه للملابسة.
والاستثناء في قوله {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} منقطع، لأن التجارة ليست من أكل الأموال بالباطل، فالمعنى: لكن كون التجارة غير منهي عنه. وموقع المنقطع هنا بين جار على الطريقة العربية، إذ ليس يلزم في الاستدراك شمول الكلام السابق للشيء المستدرك ولا يفيد الاستدراك حصرا، ولذلك فهو مقتضى الحال، ويجوز أن يجعل قيد {الباطل} في حالة الاستثناء قد حصر إباحة أكل الأموال في التجارة، وليس كذلك، وأياما كان الاستثناء فتخصيص التجارة بالاستدراك أو بالاستثناء لأنها أشد أنواع أكل الأموال شبها بالباطل، إذ التبرعات كلها أكل أموال عن طيب نفس، والمعاوضات غير التجارات كذلك، لأن أخذ كلا المتعاوضين عوضا عما بذله للآخر مساويا لقيمته في نظره يطيب نفسه. وأما التجارة فلأجل ما فيها من أخذ المتصدي للتاجر مالا زائدا على قيمة ما بذله للمشتري قد تشبه أكل المال بالباطل فلذلك خصت بالاستدراك أو الاستثناء. وحكمة إباحة أكل المال الزائد فيها أن عليها مدار رواج السلع الحاجية والتحسينية، ولولا تصدي التجار وجلبهم السلع لما وجد صاحب الحاجة ما يسد حاجته عند الاحتياج. ويشير إلى هذا ما في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه قال: في احتكار الطعام ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده

في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء ويمسك كيف شاء.
وقرأ الجمهور: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} برفع تجارة على أنه فاعل لكان من كان التامة، أي تقع. وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بنصب تجارة على أنه خبر كان الناقصة، وتقدير اسمها: إلا أن تكون الأموال تجارة، أي أموال تجارة.
وقوله {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} صفة لتجارة، وعن فيه للمجاوزة، أي صادرة عن التراضي وهو الرضا من الجانبين بما يدل عليه من لفظ أو عرف. وفي الآية ما يصلح أن يكون مستندا لقول مالك من نفي خيار المجلس: لأن الله جعل مناط الانعقاد هو التراضي، والتراضي يحصل عند التبايع بالإيجاب والقبول.
وهذه الآية أصل عظيم في حرمة الأموال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس" . وفي خطبة حجة الوداع "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" .
وتقديم النهي عن أكل الأموال على النهي عن قتل الأنفس، مع أن الثاني أخطر، إما لأن مناسبة ما قبله أفضت إلى النهي عن أكل الأموال فاستحق التقديم لذلك، وإما لأن المخاطبين كانوا قريبي عهد بالجاهلية، وكان أكل الأموال أسهل عليهم، وهم أشد استخفافا به منهم بقتل الأنفس، لأنه كان يقع في مواقع الضعف حيث لا يدفع صاحبه عن نفسه كاليتيم والمرأة والزوجة. فأكل أموال هؤلاء في مأمن من التبعات بخرف قتل النفس، فإن تبعاته لا يسلم منها أحد، وإن بلغ من الشجاعة والعزة في قومه كل مبلغ، ولا أمنع من كليب وائل، لأن القبائل ما كانت تهدر دماء قتلاها.
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} .
قوله {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} نهي عن أن يقتل الرجل غيره، فالضميران فيه على التوزيع، إذ قد علم أن أحدا لا يقتل نفسه فينهي عن ذلك، وقتل الرجل نفسه داخل في النهي، لأن الله لم يبح للإنسان إتلاف نفسه كما أباح له صرف ماله، أما أن يكون المراد هنا خصوص النهي عن قتل المرء نفسه فلا. وأما ما في مسند أبي داود: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه تيمم في يوم شديد البرد ولم يغتسل، وذلك في غزوة ذات السلاسل وصلى بالناس، وبلغ ذلك رسول الله، فسأله وقال: يا رسول الله إن الله يقول {وَلا

تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فذلك من الاحتجاج بعموم ضمير تقتلوا دون خصوص السبب.
وقوله {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي المذكور: من أكل المال بالباطل والقتل. وقيل: الإشارة إلى ما ذكر من قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} [النساء:19] لأن ذلك كله لم يرد بعده وعيد، وورد وعيد قبله، قاله الطبري، وإنما قيده بالعدوان والظلم ليخرج أكل المال بوجه الحق، وقتل النفس كذلك، كقتل القاتل، وفي الحديث "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" .
والعدوان بضم العين مصدر بوزن كفران، ويقال بكسر العين وهو التسلط بشدة، فقد يكون بظلم غالبا، ويدون حق، قال تعالى {فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193] وعطف قوله {وظلما} على {عدوانا} من عطف الخاص على العام.
وسوف حرف يدخل على المضارع فيمحضه للزكم المستقبل، وهو مرادف للسين على الأصح، وقال بعض النحاة: سوف تدل على مستقبل بعيد وسماه: التسويف، وليس في الاستعمال ما يشهد لهذا، وقد تقدم عند قوله {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} في هذه السورة [النساء:10]. ونصليه نجعله صاليا أو محترقا، وقد مضى فعل صلي أيضا، ووجه نصب نارا هنالك، والآية دلت على كليتين من كليات الشريعة: وهما حفظ الأموال، وحفظ الأنفس، من قسم المناسب الضروري.
[31] {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} .
اعتراض ناسب ذكره بعد ذكر ذنبين كبيرين: وهما قتل النفس، وأكل المال بالباطل، على عادة القرآن في التفنن من أسلوب إلى أسلوب، وفي انتهاز الفرص في إلقاء التشريع عقب المواعظ وعكسه.
وقد دلت إضافة {كبائر} إلى {ما تنهون عنه} على أن المنبهات قسمان: كبائر، ودونها، وهي التي تسمى الصغائر، وصفا بطريق المقابلة، وقد سميت هنا سيئات. ووعد بأنه يغفر السيئات للذين يجتنبون كبائر المنهيات، وقال في آية النجم [32] {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} فسمى الكبائر فواحش وسمى مقابلها اللمم، فثبت بذلك أن المعاصي عند الله قسمان: معاصي كبيرة فاحشة، ومعاصي دون ذلك يكثر

أن يلم المؤمن بها، ولذلك اختلف السلف في تعيين الكبائر. فعن علي: هي سبع: الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنات، وأكل مال اليتيم، والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة. واستدل لجميعها بما في القرآن من أدلة جازم النهي عنها. وفي حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم "اتقوا السبع الموبقات.." فذكر التي ذكرها علي إلا أنه جعل السحر عوض التعرب. وقال عبد الله بن عمر: هي تسع بزيادة الإلحاد في المسجد الحرام، وعقوق الوالدين. وقال ابن مسعود: هي ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى هنا. وعن ابن عباس: كل ما ورد عليه وعيد نار أو عذاب أو لعنة فهو كبيرة. وعن ابن عباس: الكبائر ما نهى الله عنه كتابة. وأحسن ضبط الكبيرة قول إمام الحرمين: هي كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته. ومن السلف من قال: الذنوب كلها سواء إن كانت عن عمد. وعن أبي إسحاق الإسفرائيني أن الذنوب كلها سواء مطلقا، ونفى الصغائر. وهذان القولان واهيان لأن الأدلة شاهدة بتقسيم الذنوب إلى قسمين، ولأن ما تشتمل عليه الذنوب من المفاسد متفاوت أيضا، وفي الأحاديث الصحيحة إثبات نوع الكبائر وأكبر الكبائر.
ويترتب على إثبات الكبائر والصغائر أحكام تكليفية: منها المخاطبة بتجنب الكبيرة تجنبا شديدا، ومنها وجوب التوبة منها عند اقترابها، ومنها أن ترك الكبائر يعتبر توبة من الصغائر، ومنها سلب العدالة عن مرتكب الكبائر، ومنها نقص حكم القاضي المتلبس بها، ومنها جواز هجران المتجاهر بها، ومنها تغيير المنكر على المتلبس بها. وتترتب عليها مسائل في أصول الدين: منها تكفير مرتكب الكبيرة عند طائفة من الخوارج، التي تفرق بين المعاصي الكبائر والصغائر، واعتباره منزلة بين الكفر والإسلام عند المعتزلة، خلافا لجمهور علماء الإسلام. فمن العجائب أن يقول قائل: إن الله لم يميز الكبائر عن الصغائر ليكون ذلك زاجرا للناس عن الإقدام على كل ذنب، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات، وليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، هكذا حكاه الفخر في التفسير، وقد تبين ذهول هذا القائل، وذهول ليفخر عن رده، لأن الأشياء التي نظروا بها ترجع إلى فضائل الأعمال التي لا يتعلق بها تكليف، فإخفاؤها يقصد منه الترغيب في توخي مظانها ليكثر الناس من فعل الخير، ولكن إخفاء الأمر المكلف به إيقاع في الضلالة، فلا يقع ذلك من الشارع.
والمدخل بفتح الميم اسم مكان الدخول، ويجوز أن يكون مصدرا ميما.

والمعنى: ندخلكم مكانا كريما، أو ندخلكم دخولا كريما. والكريم هو النفيس في نوعه. فالمراد إما الجنة وإما الدخول إليها، والمراد به الجنة. والمدخل بضم الميم كذلك مكان أو مصدر أدخل. وقرأ نافع، وأبو جعفر: مدخلا بفتح الميم وقرأه بقية العشرة بضم الميم.
[32] {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}.
عطف على جملة {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29].
والمناسبة بين الجملتين المتعاطفتين: أن التمني يحبب للمتمني الشيء الذي تمناه، فإذا أحبه أتبعه نفسه فرام تحصيله وافتتن به، فربما بعثه ذلك الافتنان إلى تدبير الحيل لتحصيله إن لم يكن بيده، وإلى الاستئثار به عن صاحب الحق فيغمض عينه عن ملاحظة الواجب من إعطاء الحق صاحبه وعن مناهي الشريعة التي تضمنتها الجمل المعطوف عليها. وقد أصبح هذا التكني في زماننا هذا فتنة لطوائف من المسلمين سرت لهم من أخلاق الغلاة في طلب المساواة مما جر أمما كثيرة إلى نحلة الشيوعية فصاروا يتخبطون لطلب التساوي في كل شيء ويعانون إرهاقا لم يحصلوا منه على طائل.
فالنهي عن التمني وتطلع النفوس إلى ما ليس لها جاء في هذه الآية عاما، فكان كالتذييل للأحكام السابقة لسد ذراعها وذرائع غيرها، فكان من جوامع الكلم في درء الشرور. وقد كان التمني من أعظم وسائل الجرائم، فإنه يفضي إلى الحسد، وقد كان أول جرم حصل في الأرض نشأ عن الحسد. ولقد كثر ما انتبهت أموال، وقتلت نفوس للرغبة في بسط رزق، أو فتنة نساء، أو نوال ملك، والتاريخ طافح بحوادث من هذا القبيل.
والذي يبدوا أن هذا التمني هو تمني أموال المثرين، وتمني انصباء الوارثين، وتمني الاستئثار بأموال اليتامى ذكورهم وإناثهم، وتمني حرمان النساء من الميراث ليناسب ما سبق من إيتاء اليتامى أموالهم. وإنصاف النساء في مهورهن، وترك مضارتهن إلجاء إلى إسقاطها، ومن إعطاء انصباء الورثة كما قسم الله لهم. وكل ذلك من تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق.

وقد أبدى القفال مناسبة للعطف تندرج فيما ذكرته. وفي سنن الترمذي عن مجاهد، عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . قال الترمذي: هذا حديث مرسل. قال ابن العربي: ورواياته كلها حسان لم تبلغ درجة الصحة. قلت: لما كان مرسلا يكون قوله: فأنزل الله {ولا تتمنوا} الخ. من كلام مجاهد، ومعناه أن نزول هذه الآية كان قريبا من زمن قول أم سلمة، فكان في عمومها ما يرد على أم سلمة وغيرها.
وقد رويت آثار: بعضها في أن هذه الآية نزلت في تمني النساء الجهاد، وبعضها في أنها نزلت في قول امرأة إن للذكر مثل حظ الأنثيين وشهادة امرأتين برجل أفنحن في العمل كذلك، وبعضها في أن رجالا قالوا: إن ثواب أعمالنا على الضعف من ثواب النساء، وبعضها في أن النساء سألن أجر الشهادة في سبيل الله وقلن لو كتب علينا القتال لقاتلنا. وكل ذلك جزئيات وأمثلة مما شمله عموم {مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
والتمني هو طلب حصول ما يعسر حصوله للطالب. وذلك له أحوال: منها أن يتمنى ما هو من فضل الله غير ملتفت فيه إلى شيء في يد الغير، ولا مانع يمنعه من شرع أو عادة، سواء كان ممكن الحصول كتمني الشهادة في سبيل الله، أم كان غير ممكن الحصول كقول النبي صلى الله عليه وسلم "ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيى ثم أقتل ثم أحيى ثم أقتل" . وقوله صلى الله عليه وسلم "ليتنا نرى إخواننا" يعني المسلمين الذين يجيئون بعده.
ومنها أن يتمنى ما لا يمكن حصوله لمانع عادي أو شرعي، كتمني أم سلمة أن يغزوا النساء كما يغزوا الرجال، وأن تكون المرأة مساوية الرجل في الميراث، ومنها أن يتمنى تمنيا يدل على عدم الرضا بما ساقه الله والضجر منه، أو على الاضطراب والانزعاج، أو على عدم الرضا بالأحكام الشرعية.
ومنها أن يتمنى نعمة تماثل نعمة في يد الغير مع إمكان حصولها للمتمني بدون أن تسلب من التي هي في يده كتمني علم مثل علم المجتهد أو مال مثل مال قارون.
ومنها أن يتمنى ذلك لكن مثله لا يحصل بسلب المنعم عليه كتمني ملك بلدة معينة أو زوجة رجل معين.
ومنها أن يتمنى زوال نعمة عن الغير بدون قصد مصيرها إلى المتمني.

وحاصل معنى النهي في الآية أنهك إما نهي تنزيه لتربية المؤمنين على أن لا يشغلوا نفوسهم بما لا قبل لهم بنواله ضرورة أنه سماها تمنيا، لئلا يكونوا على الحالة التي ورد فيها حديث "يتمنى على الله الأماني" ، ويكون قوله {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} إرشاد إلى طلب الممكن، إذ قد علموا أن سؤال الله ودعاءه يكون في مرجوا الحصول، وإلا كان سوء أدب.
وإما نهي تحريم، وهو الظاهر من عطف على المنهيات المحرمة، فيكون جريمة ظاهرة، أو قلبية كالحسد، بقرينة ذكره بعد قوله {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29].
فالتمني الأول والرابع غير منهي عنهما، وقد ترجم البخاري في صحيحه باب تمني الشهادة في سبيل الله وباب الاغتباط في العلم والحكمة وذكر حديث: "لاحسد ‘لا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس" .
وأما التمني الثاني والثالث فمنهي عنهما لأنهما يترتب عليهما اضطراب النفس وعدم الرضا بما قسم الله والشك في حكمة الأحكام الشرعية.
وأما التمني الخامس والسادس فمنهي عنهما لا محالة، وهو الحسد، وفي الحديث "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها" ، ولذلك نهى عن أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، إلا إذا كان تمنية في الحالة الخامسة تمني حصول ذلك له بعد من هي بيده بحيث لا يستعجل موته. وقد قال أبو بكر، لما استخلف عمر، يخاطب المهاجرين: فكلكم ورم أنفه يريد أن يكون له الأمر دونه.
والسادس أشد وهو شر الحسدين إلا إذا كان صاحب النعمة يستعين به على ضر يلحق الدين أو الأمة على إضرار المتمني.
ثم محل النهي في الآية: هو التمني، وهو طلب ما لا قبل لأحد بتحصيله بكسبه، لأن ذلك هو الذي يبعث على سلوك مسالك العداء، فأما طلب ما يمكنه تحصيله من غير ضر بالغير فلا نهي عنه، لأنه بطلبه ينصرف إلى تحصيله فيحصل فائدة دينية أو دنيوية، أما طلب ما لا قبل له بتحصيله فإن رجع إلى الفوائد الأخروية فلا ضير في ذلك.
وحكمة النهي عن الأقسام المنهي عنها من التمني أنها تفسد ما بين الناس في

معاملاتهم فينشأ عنها الحسد، وهو أول ذنب عصي الله به، إذ حسد إبليس آدم، ثم ينشأ عن الحسد الغيظ والغضب فيفضي إلى أذى المحسود، قال تعالى {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]. وكان سبب أول جريمة في الدنيا الحسد: إذ حسد ابني آدم أخاه فقتله، ثم إن تمني الأحوال المنهي عنها ينشأ في النفوس أول ما ينشأ خاطرا مجردا، ثم يربوا في النفس رويدا رويدا حتى يصير ملكة، فتدعوا المرء إلى اجترام الجرائم ليشفى غلته، فلذلك نهوا عنه ليزجوا نفوسهم عند حدوث هاته التمنيات بزاجر الدين والحكمة فلا يدعوها تربوا في النفوس. وما نشأت الثورات والدعايات إلى ابتزاز الأموال بعناوين مختلفة إلا من تمني ما فضل به الله بعض الناس على بعض، أو إلا أثر من آثار ما فضل الله به بعض الناس على بعض.
وقوله {بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} صالح لأن يكون مرادا به آحاد الناس، ولأن يكون مرادا به أصنامهم.
وقوله {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا} الآية: إن أريد بذكر الرجال والنساء هنا قصد تعميم الناس مثل ما يذكر المشرق والمغرب ، والبر والبحر، والنجد والغور، فالنهي المتقدم على عمومه. وهذه الجملة مسوقة مساق التعليل للنهي عن التمني قطعا لعذر المتمنين، وتأنيسا بالنهي، ولذلك فصلت، وإن أريد بالرجال والنساء كلا من النوعين بخصوصه بمعنى أن الرجال يختصون بما اكتسبوه، والنساء يختصصن بما اكتسبن من الأموال، فالنهي المتقدم متعلق بالتمني الذي يفضي إلى أكل أموال اليتامى والنساء، أي ليس للأولياء أكل أموال مواليهم وولاياهم إذ لكل من هؤلاء ما اكتسب. وهذه الجملة علة لجملة محذوفة دلت هي عليها، تقديرها: ولا تتمنوا فتأكلوا أموال مواليكم.
والنصيب: الحظ والمقدار، وهو صادق على الحظ في الآخرة والحظ في الدنيا، وتقدم آنفا.
والاكتساب: السعي للكسب، وقد يستعار لحصول الشيء ولو بدون سعي وعلاج. ومن للتبعيض أو للابتداء، والمعنى يحتمل أن يكون استحق الرجال والنساء كل حظه من الأجر والثواب المنجز له من عمله، فلا فائدة في تمني فريق أن يعمل عمل فريق آخر، لأن الثواب غير منحصر في عمل معين، فإن وسائل الثواب كثيرة فلا يسوءكم النهي عن تمني ما فضل الله به بعضكم على بعض. ويحتمل أن المعنى: استحق كل شخص، سواء كان رجلا أم امرأة، حظه من منافع الدنيا المنجز له مما سعى إليه بجهده، أو الذي هو

بعض ما سعى إليه، فتمنى أحد شيئا لم يسع إليه ولم يكن من حقوقه، وهو تمن غير عادل، فحق النهي عنه، أو المعنى استحق أولئك نصيبهم مما كسبوا، أي مما شرع لهم من الميراث ونحوه، فلا يحسد أحدا على ما جعل له من الحق، لأن الله أعلم بأحقية بعضكم على بعض.
وقوله {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} إن كان عطفا على قوله {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا} الخ، الذي هو علة النهي عن التمني، فالمعنى: للرجال مزاياهم وحقوقهم، وللنساء مزاياهن وحقوقهن، فمن تمنى ما لم يعد لصنفه فقد اعتدى، لكن يسأل الله من فضله أن يعطيه ما أعد لصنفه من المزايا، ويجعل ثوابه مساويا لثواب الأعمال التي لم تعد لصنفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" ، وإن كان عطفا عن النهي في قوله {ولا تتمنوا} فالمعنى: لا تتمنوا ما في يد الغير واسألوا الله من فضله فإن فضل الله يسع الإنعام على الكل، فلا أثر للتمني إلا تعب النفس. وقرأ الجمهور: {واسألوا} بإثبات الهمزة بعد السين الساكنة وهي عين الفعل وقرأه ابن كثير، والكسائي بفتح السين وحذف الهمزة بعد نقل حركاتها إلى السين الساكن قبلها تخفيفا.
وقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} تذييل مناسب لهذا التكليف، لأنه متعلق بعمل النفس لا يراقب فيه إلا ربه.
[33] {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} .
الجملة معطوفة على جملة {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] باعتبار كونه جامعا لمعنى النهي عن الطمع في مال صاحب المال، قصد منها استكمال تبيين من لهم حق في المال.
وشأن كل إذا حذف ما تضاف إليه أن يعوض التنوين عن المحذوف، فإن جرى في الكلام ما يدل على المضاف إليه المحذوف قدر المحذوف من لفظه أو معناه، كما تقدم في قوله تعالى {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} في سورة البقرة [148]، وكذلك هنا فيجوز أن يكون المحذوف مما دل عليه قوله قبله {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ - وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} [النساء:7] فيقدر: ولكل الرجال والنساء جعلنا موالي، أو لكل تارك جعلنا موالي.
ويجوز أن يقدر: ولكل أحد أو شيء جعلنا موالي.

والجعل من قوله {جعلنا} هو الجعل التشريعي أي شرعنا لكل موالي لهم حق في ماله كما في قوله تعالى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} الإسراء:33].
والموالي جمع مولى وهو محل الولي، أي القرب، وهو محل مجازي وقرب مجازي، والولاء اسم المصدر للولي المجازي.
وفي نظم الآية تقاد ير جديرة بالاعتبار، وجامعة لمعان من التشريع: الأول: ولكل تارك، أي تارك ملا جعلنا موالي، أي أهل ولاء له، أي قرب، أي ورقة. ويتعلق {مما ترك} بما في موالي من معنى يلونه، أي يرثونه، ومن للتبعيض، أي يرثون مما ترك، وما صدق ما الموصولة هو المال، والصلة قرينة على كون المراد بالموالي الميراث، وكون المضاف إليه كل هو الهالك أو التارك، {ولكل} متعلق بجعلنا، قدم على متعلقة للاهتمام.
وقوله {الوالدان} استئناف بياني بين به المراد من موالي، ويصلح أن يبين به كل المقدر له مضاف. تقديره: لكل تارك. وتبين كلا اللفظيين سواء في المعنى، لأن التارك: والد أو قريب، والموالي: والدون أو قرابة. وفي ذكر {الوالدان} غنية عن ذكر الأبناء لتلازمهما، فإن كان الوالدان من الورثة فالهالك ولد وإلا فالهالك والد. والتعريف في {الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} عوض عن مضاف إليه أي: والداهم وأقربوهم، والمضاف إليه المحذوف يدل على الموالي، وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشيءا عن قوله {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا} [النساء:32]، أي ولكل من الصنفين جعلنا موالي يرثونه، وهو الجعل الذي في آيات المواريث.
والتقدير الثاني: ولكل شيء مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي، أي قوما يلونه بالإرث، أي يرثونه، أي يكون تراثا لهم، فيكون المضاف إليه المحذوف اسما نكرة عاما يبين نوعه المقام، ويكون {مما ترك} بيانا لما في تنوين كل من الإيهام، ويكون الوالدان {والأقربون} فاعلا لترك.
وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشيء عن قوله {مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] أي في الأموال، أي ولكل من الذين فضلنا بعضهم على بعض جعلنا موالي يؤول إليهم المال، فلا تتمنوا ما ليس لكم فيه حق في حياة أصحابه، ولا ما جعلناه للموالي بعد موت أصحابه.

التقدير الثالث: ولكل منكم جعلنا موالي، أي عاصبين من الذين تركهم الوالدان، مثل الأعمام والأجداد والأخوال، فإنهم قرباء الأبوين، ومما تركهم الأقربون مثل أبناء الأعمام وأبنائهم وإن تعددوا، وأبناء الأخوات كذلك، فإنهم قرباء الأقربين، فتكون الآية مشيرة إلى إرجاع الأموال إلى العصبة عند الجمهور، وإلى ذوي الأرحام عند بعض الفقهاء، وذلك إذا انعدم الورقة الذين في آية المواريث السابقة، وهو حكيم مجمل بينه قول النبي صلى الله عليه وسلم "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" ، وقوله "ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم" رواه أبو داود والنسائي، وقوله "الخال وارث من لا وارث له" أخرجه أبو داود والترمذي، وقوله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]، وبذلك أخذ أبو حنيفة، وأحمد، وعليه فما الموصولة في قوله {مما ترك} بمعنى من الموصولة، ولا بدع في ذلك. وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشيء عن قوله تعالى بعد آية المواريث {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:187] فتكون تكملة لآية المواريث.
التقدير الرابع: ولكل منكم أيها المخاطبون بقولنا {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] جعلنا موالي، أي شرعنا أحكام الولاء لمن هم موال لكم، فحكم الولاء الذي تركه لكم أهاليكم: الوالدان والأقربون، أي أهل الولاء القديم في القبيلة المنجر من حلف قديم، أو بحكم الولاء الذي عاقدته الأيمان، أي الأحلاف بينكم وبينهم أيها المخاطبون، وهو الولاء الجديد الشامل للتبني المحدث، وللحلف المحدث، مثل المؤاخاة التي فرضها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فإن الولاء منه ولاء قديم في القبائل، ومنه ما يتعاقد عليه الحاضرون، كما أشار إليه أبو تمام.
أعطيت لي دية القتيل وليس لي
...
عقل ولا حلف هناك قديم
وعلى هذا التقدير يكون {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} معطوفا على {الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}. وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشيءا عن قوله تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:187] فتكون هذه الآية تكملة لآيات المواريث.
وللمفسرين تقادير أخرى لا تلائم بعض أجزاء النظم إلا بتعسف فلا ينبغي التعريج عليها.
وقوله {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قيل معطوف على قوله {الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} ، وقيل هو جملة مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنه قيل: من هم الموالي? فقيل: {الْوَالِدَانِ

وَالْأَقْرَبُونَ} الخ، على أن قوله {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} خبر عن قوله {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ} . وأدخلت الفاء في الخبر لتضمن الموصول معنى الشرط، ورجح هذا بأن المشهور أن الوقف على قوله {والأقربون} وليس على قوله {أيمانكم} . والمعاقدة: حصول العقد من الجانبين، أي الذين تعاقدتم معهم على أن يكونوا بمنزلة الأبناء أو بمنزلة الإخوة أو بمنزلة أبناء العم. والإيمان جمع يمين: إما بمعنى اليد، أسند العقد إلى الأيدي مجازا لأنها تقارن المتعاقدين لأنهم يضعون أيدي بعضهم في أيدي الآخرين، علامة على انبرام العقد، ومن أجل ذلك سمي العقد صفقة أيضا، لأنه يصفق فيه اليد على اليد، فيكون من باب {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3]؛ وإما بمعنى القسم لأن ذلك كان يصحبه قسم، ومن أجل ذلك سمي حلفا، وصاحبه حليفا. وإسناد العقد إلى الإيمان بهذا المعنى مجاز أيضا، لأن القسم هو سبب انعقاد الحلف.
والمراد ب {َالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} : قيل موالي الحلف الذي كان العرب يفعلونه في الجاهلية، وهو أن يحالف الرجل الآخر فيقول له دمي دمك وهدمي هدمك أي إسقاط أحدهما للدم الذي يستحقه يمضي على الآخر وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك. وقد جمع هذين الصنفين من الموالي الحصين بن الحمام من شعراء الحماسة في قوله:
مواليكم مولى الولادة منكم
...
ومولى اليمين حابس قد تقسما
قيل: كانوا جعلوا للمولى السدس في تركة الميت، فأقرته هذه الآية، ثم نسختها آية الأنفال: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75] قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، وابن جبير، ولعل مرادهم أن المسلمين جعلوا للمولى السدس وصية لأن أهل الجاهلية لم تكن عندهم مواريث معينة. وقيل: نزلت هذه الآية في ميراث الإخوة الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم من المهاجرين والأنصار في أول الهجرة، فكانوا يتوارثون بذلك دون ذوي الأرحام، ثم نسخ الله ذلك بآية الأنفال، فتكون هذه الآية منسوخة. وفي أسباب النزول للواحدي، عن سعيد بن المسيب، أنها نزلت في التبني الذي كان في الجاهلية، فكان المتبني يرث المتبنى بالكسر مثل تبني النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثه الكلبي، وتبنى الأسود بن عبد يغوث المقداد الكندي، المشهور بالمقداد بن الأسود، وتبنى الخطاب بن نفيل عامرا بن ربيعة وتبنى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة سالما بن معقل الأصطخري، المشهور بسالم مولى أبي حذيفة، ثم نسخ بالمواريث. وعلى القول بأن

{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} جملة مستأنفة فالآية غير منسوخة، فقال ابن عباس في رواية ابن جبير عنه في البخاري هي ناسخة لتوريث المتآخين من المهاجرين والأنصار، لأن قوله {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} حصر الميراث في القرابة، فتعين على هذا أن قوله {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي نصيب الذين عاقدت أيمانكم من النصر والمعونة، أو في توهم نصيبهم بالوصية، وقد ذهب الميراث. وقال سعيد بن المسيب: نزلت في التبني أمرا بالوصية للمتبنى. وعن الحسن أنها في شأن الموصى له إذا مات قبل موت الموصي أن يجعل الوصية لأقاربه لزوما.
وقرأ الجمهور: {عاقدت} بألف بعد العين وقرأه حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف: {عقدت} بدون ألف ومع تخفيف القاف.
والفاء في قوله {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فاء الفصيحة على جعل قوله {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} معطوفا على {الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} ، أو هي زائدة في الخبر إن جعل {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ} مبتدأ على تضمين الموصول معنى الشرطية. والأمر في الضمير المجرور على الوجهين ظاهر.
[34] {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيرا} .
استئناف ابتدائي لذكر تشريع في حقوق الرجال وحقوق النساء والمجتمع العائلي. وقد ذكر عقب ما قبله لمناسبة الأحكام الراجعة إلى نظام العائلة، لا سيما أحكام النساء، فقوله {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} أصل تشريعي كلي تتفرع عنه الأحكام التي في الآيات بعده، فهو كالمقدمة.
وقوله {فالصالحات} تفريع عنه مع مناسبته لما ذكر من سبب نزول {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] فيما تقدم.
والحكم الذي في هذه الآية حكم جيء به لتعليل شرع خاص.
فلذلك فالتعريف في {الرجال} و {النساء} للاستغراق. وهو استغراق عرفي مبني

على النظر إلى الحقيقة، كالتعريف في قول الناس الرجل خير من المرأة، يؤول إلى الاستغراق العرفي، الأحكام المستقرة للحقائق أحكام أغلبية، فإذا بنى عليها استغراق فهو استغراق عرفي. والكلام خبر مستعمل في الأمر كشأن الكثير من الأخبار الشرعية.
والقوام: الذي يقوم على شأن شيء ويليه ويصلحه، يقال: قوام وقيام وقيوم، لأن شأن الذي يهتم بالأمر ويعتني به أن يقف ليدير أمره، فأطلق على الاهتمام القيام بعلاقة اللزوم، أو شبه المهتم بالقائم للأمر على طريقة التمثيل. فالمراد من الرجال من كان من أفراد حقيقة الرجل، أي الصنف المعروف من النوع الإنساني، وهو صنف الذكور، وكذلك المراد من النساء صنف الإناث من النوع الإنساني، وليس المراد الرجال جمع الرجل بمعنى رجل المرأة، أي زوجها، لعدم استعماله في هذا المعنى، بخلاف قولهم: امرأة فلان، ولا المراد من النساء الجمع الذي يطلق على الأزواج الإناث وإن كان ذلك قد استعمل في بعض المواضع مثل قوله تعالى {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ، بل المراد ما يدل عليه اللفظ بأصل الوضع كما في قوله تعالى {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32]، وقول النابغة:
ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
يريد أزواجه وبناته وولاياه.
فموقع {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} موقع المقدمة للحكم بتقديم دليله للاهتمام بالدليل، إذ قد يقع سوء تأويل، أو قد وقع بالفعل، فقد روي أن سبب نزول الآية قول النساء ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشركناهم في الغزو.
وقيام الرجال على النساء هو قيام الحفظ والدفاع، وقيام الاكتساب والإنتاج المالي، ولذلك قال {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أي: بتفضيل الله بعضهم على بعض وبإنفاقهم من أموالهم، إن كانت ما في الجملتين مصدرية، أو بالذي فضل الله به بعضهم، وبالذي أنفقوه من أموالهم، إن كانت ما فيها موصولة، فالعائدان من الصلتين محذوفان: أما المجرور فلأن اسم الموصول مجرور بحرف مثل الذي جر به الضمير المحذوف، وأما العائد المنصوب من صلة {وبما أنفقوا} فلأن العائد المنصوب يكثر حذفه من لصلة. والمراد بالبعض في قوله تعالى {فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ} هو فريق الرجال كما هو ظاهر من العطف في قوله {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فإن الضميرين

للرجال.
فالتفضيل هو المزايا الجبلية التي تقتضي حاجة المرأة إلى الرجل في الذب عنها وحراستها لبقاء ذاتها، كما قال عمرو بن كلثوم.
يقتن جيادنا ويقلن لستم
...
بعولتنا إذا لم تمنعونا
فهذا التفضيل ظهرت آثاره على مر العصور والأجيال، فصار حقا مكتسبا للرجال، وهذه حجة برهانية على كون الرجال قوامين على النساء فإن حاجة النساء إلى الرجال من هذه الناحية مستمرة وإن كانت تقوى وتضعف.
وقوله {وبما أنفقوا} جيء بصيغة الماضي للإيماء إلى أمر قد تقرر في المجتمعات الإنسانية منذ القدم، فالرجال هم العائدون لنساء العائلة من أزواج وبنات، وأضيفتا لأموال إلى ضمير الرجال لأن الاكتساب من شأن الرجال، فقد كان في عصور البداوة بالصيد وبالغارة وبالغنائم والحرث، وذلك من عمل الرجال، وزاد اكتساب الرجال في عصور الحضارة بالغرس والتجارة والإجارة والأبنية، ونحو ذلك، وهذه حجة خطابية لأنها ترجع إلى مصطلح غالب البشر، لا سيما العرب. ويندر أن تتولى النساء مساعي من الاكتساب، لكن ذلك نادر بالنسبة إلى عمل الرجل مثل استئجار الظئر نفسها وتنمية المرأة مالا ورثته من قرابتها.
ومن بديع الإعجاز صوغ قوله {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} في قالب صالح للمصدرية والموصولية، فالمصدرية مشعرة بأن القيامة سببها تفضيل من الله وإنفاق، والموصولية مشعرة بأن سببها ما يعلمه الناس من فضل الرجال ومن إنفاقهم ليصلح الخطاب للفريقين: عالمهم وجاهلهم، كقول السموأل أو الحارثي:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
...
فليس سواء عالم وجهول
ولأن في الإتيان بما مع الفعل على تقدير احتمال المصدرية جزالة لا توجد في قولنا: بتفضيل الله وبالإنفاق، لأن العرب يرجحون الأفعال على الأسماء في طرق التعبير.
وقد روي في سبب نزول الآية: أنها قول النساء، ومنهن أم سلمة أم المؤمنين: أنغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث فنزل قوله تعالى {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] إلى هذه الآية إكمالا لما يرتبط

بذلك التمني. وقيل: نزلت هذه الآية بسبب سعد بن الربيع الأنصاري: نشزت منه زوجه حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فشكاه أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تلطمه كما لطمها، فنزلت الآية في فور ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أردت شيئا وأراد الله غيره" ، ونقض حكمه الأول، وليس في هذا السبب الثاني حديث صحيح ولا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه مما روي عن الحسن والسدي، وقتادة.
والفاء في قوله {فالصالحات} للفصيحة، أي إذا كان الرجال قوامين على النساء فمن المهم تفصيل أحوال الأزواج منهن ومعاشرتهن أزواجهن وهو المقصود، فوصف الله الصالحات منهن وصفا يفيد رضاه تعالى، فهو في معنى التشريع، أي ليكن صالحات. والقانتات: المطيعات لله. والقنوت: عبادة الله، وقدمه هنا وإن لم يكن من سياق الكلام للدلالة على تلازم خوفهن الله وحفظ حق أزواجهن، ولذلك قال {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} ، أي حافظات أزواجهن عند غيبتهم، وعلق الغيب بالحفظ على سبيل المجاز العقلي لأنه وقته. والغيب مصدر غاب ضد حضر. والمقصود غيبة أزواجهن، واللام للتعدية لضعف العامل، إذ هو غير فعل، فالغيب في معنى المفعول، وقد جعل مفعولا للحفظ على التوسع لأنه في الحقيقة ظرف للحفظ، فأقيم مقام المفعول ليشمل كل ما هو مظنة تخلف الحفظ في مدته: من كل ما شأنه أن يحرسه الزوج الحاضر من أحوال امرأته في عرضه وماله، فإنه إذا حضر يكون من حضوره وازعان: يزعها بنفسه ويزعها أيضا اشتغالها بزوجها، أما حال الغيبة فهو حال نسيان واستخفاف، فيمكن أن يبدو فيه من المرأة ما لا يرضي زوجها إن كانت غير صالحة أو سفيهة الرأي، فحصل بإنابة الظرف عن المفعول إيجاز بديع، وقد تبعه بشار إذ قال:
ويصون غيبكم وإن نزحا
والباء في {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} للملابسة، أي حفظا ملابسا لما حفظ الله، وما مصدرية أي بحفظ الله، وحفظ الله هو أمره بالحفظ، فالمراد الحفظ التكليفي، ومعنى الملابسة أنهن يحفظن أزواجهن حفظا مطابقا لأمر الله تعالى، وأمر الله يرجع إلى ما فيه حق للأزواج وحدهم أو مع حق الله، فشمل ما يكرهه الزوج إذا لم يكن فيه حرج على المرأة، ويخرج عن ذلك ما أذن الله للنساء فيه، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم هندا بنت عتبة: أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف. ولذلك قال مالك: إن للمرأة أن تدخل الشهود إلى بيت زوجها في غيبته وتشهدهم لما تريد، وكما أذن لهن النبي أن

يخرجن إلى المساجد ودعوة المسلمين.
وقوله {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} هذه بعض الأحوال المضادة للصلاح وهو النشوز، أي الكراهية للزوج، فقد يكون ذلك لسوء خلق المرأة، وقد يكون لأن لها رغبة في التزوج بآخر، وقد يكون لقسوة في خلق الزوج، وذلك كثير. والنشوز في اللغة الترفع والنهوض، وما يرجع إلى معنى الاضطراب والتباعد، ومنه نشز الأرض، وهو المرتفع منها.
قال جمهور الفقهاء: النشوز عصيان المرأة زوجها والترفع عليه وإظهار كراهيته، أي إظهار كراهية لم تكن معتادة منها، أي بعد أن عاشرته، كقوله {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} . وجعلوا الإذن بالموعظة والهجر والضرب مرتبا على هذا العصيان، واحتجوا بما ورد في بعض الآثار من الإذن للزوج في ضرب زوجته الناشز، وما ورد من الأخبار عن بعض الصحابة أنهم فعلوا ذلك في غير ظهور الفاحشة، وعندي أن تلك الآثار والأخبار محمل الإباحة فيها أنها قد روعي فيها عرف بعض الطبقات من الناس، أو بعض القبائل، فإن الناس متفاوتون في ذلك، وأهل البدو منهم لا يعدون ضرب المرأة اعتداء، ولا تعده النساء أيضا اعتداء، قال عامر بن الحارث النمري الملقب بجران العود.
عمدت لعود فالتحيت جرانه
...
وللكيس أمضى في الأمور وأنجح
خذا حذرا يا خلتي فإنني
...
رأيت جران العود قد كاد يصلح
والتحيت: قشرت، أي قددت، بمعنى: أنه أخذ جلدا من باطن عنق بعير وعمله سوطا ليضرب به امرأتيه، يهددهما بأن السوط قد جف وصلح لأن يضرب به.
وقد ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب قال كنا معشر المهاجرين قوما تغلب نساءنا فإذا الأنصار قوم تغلبهم نساؤهم فأخذ نساؤنا يتأدبن بأدب نساء الأنصار. فإذا كان الضرب مأذونا فيه للأزواج دون ولاة الأمور، وكان سببه مجرد العصيان والكراهية دون الفاحشة، فلا جرم أنه أذن فيه لقوم لا يعدون صدوره من الأزواج إضرارا ولا عارا ولا بدعا من المعاملة في العائلة، ولا تشعر نساؤهم بمقدار غضبهم إلا بشيء من ذلك.
وقوله {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} مقصود منه الترتيب كما يقتضيه ترتيب ذكرها مع ظهور أنه لا يراد الجمع بين الثلاثة، والترتيب هو الأصل

والمتبادر في العطف بالواو، قال سعيد بن جبير: يعظها، فإن قبلت، وإلا هجرها، فإن هي قبلت، وإلا ضربها، ونقل مثله عن علي.
واعلم أن الواو هنا مراد بها التقسيم باعتبار أقسام النساء في النشوز.
وقوله {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} احتمال ضمير الخطاب فيه يجري على نحو ما تقدم في ضمائر {تخافون} وما بعده، والمراد الطاعة بعد النشوز، أي إن رجعن عن النشوز إلى الطاعة المعروفة. ومعنى {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} فلا تطلبوا طريقا لأجراء تلك الزواجر عليهن، والخطاب صالح لكل من جعل له سبيل على الزوجات في حالة النشوز على ما تقدم.
والسبيل حقيقته الطريق، وأطلق هنا مجازا على التوسل والتسبب والتذرع إلى أخذ الحق، وسيجيء عند قوله تعالى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} في سورة براءة [91]، وانظر قوله الآتي {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} .
و{عليهن} متعلق بسبيلا لأنه ضمن معنى الحكم والسلطان، كقوله تعالى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91].
وقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} تذييل للتهديد، أي إن الله علي عليكم، حاكم فيكم، فهو يعدل بينكم، وهو كبير، أي قوي قادر، فبوصف العلو يتعين امتثال أمره ونهيه، وبوصف القدرة يحذر بطشه عند عصيان أمره ونهيه.
ومعنى {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} تخافون عواقبه السيئة. فالمعنى أنه قد حصل النشوز مع مخائل قصد العصيان والتصميم عليه لا مطلق المغاضبة أو عدم الامتثال، فإن ذلك قلما يخلو عنه حال الزوجين، لأن المغاضبة والتعاصي يعرضان للنساء والرجال، ويزولان، وبذلك يبقى معنى الخوف على حقيقته من توقع حصول ما يضر، ويكون الأمر بالوعظ والهجر والضرب مراتب بمقدار الخوف من هذا النشوز والتباسه بالعدوان وسوء النية. والمخاطب بضمير {تخافون} : إما الأزواج، فتكون تعدية خاف إليه على أصل تعدية الفعل إلى مفعوله، نحو {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] ويكون إسناد {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ} {واضربوهن} على حقيقته.
ويجوز أن يكون المخاطب مجموع من يصلح لهذا العمل من ولاة الأمور والأزواج؛ فيتولى كل فريق ما هو من شأنه، وذلك نظير قوله تعالى في سورة البقرة

[229] {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الخ. فخطاب لكم للأزواج، وخطاب {فإن خفتم} [البقرة:229] لولاة الأمور، كما في الكشاف. قال: ومثل ذلك غير عزيز في القرآن وغيره. يريد أنه من قبيل قوله تعالى في سورة الصف [11- 13] {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فإنه جعل وبشر عطفا على تؤمنون أي فهو خطاب للجميع لكنه لما كان لا يتأتى إلا من الرسول خص به. وبهذا التأويل أخذ عطاء إذ قال: لا يضرب الزوج امرأته ولكن يغضب عليها. قال ابن العربي: هذا من فقه عطاء وفهمه الشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب هنا أمر إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى كقول النبي صلى الله عليه وسلم "ولن يضرب خياركم" . وأنا أرى لعطاء نظرا أوسع مما رآه له ابن العربي: وهو أنه وضع هاته الأشياء مواضعها بحسب القرائن، ووافقه على ذلك جمع من العلماء، قال ابن الفرس: وأنكروا الأحاديث المروية بالضرب. وأقول: أو تأولوها. والظاهر أن الإذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة بين الزوجين فأذن للزوج بضرب امرأته ضرب إصلاح لقصد إقامة المعاشرة بينهما؛ فإن تجاوز ما تقتضيه حالة نشوزها كان معتديا.
ولذلك يكون المعنى {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} أي تخافون سوء مغبة نشوزهن، ويقتضي ذلك بالنسبة لولاة الأمور أن النشوز رفع إليهم بشكاية الأزواج، وأن إسناد {فعظوهن} على حقيقته، وأما إسناد {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} فعلى معنى إذن الأزواج بهجرانهن، وإسناد {واضربوهن} كما علمت.
وضمير المخاطب في قوله {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} يجري على التوزيع، وكذلك ضمير {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} .
والحاصل أنه لا يجوز الهجر والضرب بمجرد توقع النشوز قبل حصوله اتفاقا، وإذا كان المخاطب الأزواج كان إذنا لهم بمعاملة أزواجهم النواشز بواحدة من هذه الخصال الثلاث، وكان الأزواج مؤتمنين على توخي مواقع هذه الخصال بحسب قوة النشوز وقدره في الفساد، فأما الواعظ فلا حد له، وأما الهجر فشرطه أن لا يخرج إلى حد الإضرار بما تجده المرأة من الكمد، وقدر قدر بعضهم أقصاه بشهر.
وأما الضرب فهو خطير وتحديده عسير، ولكنه أذن فيه في حالة ظهور الفساد، لأن المرأة اعتدت حينئذ، ولكن يجب تعيين حد في ذلك، يبين في الفقه، لأنه لو أطلق

للأزواج أن يتولوه، وهم حينئذ يسفون غضبهم، لكان ذلك مظنة تجاوز الحد، إذ قل من يعاقب على قدر الذنب، على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لولا الضرورة، بيد أن الجمهور قيدوا ذلك بالسلامة من الإضرار، وبصدوره ممن لا يعد الضرب بينهم إهانة وإضرار. فنقول: يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها، ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيما عند ضعف الوازع.
[35] {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} .
عطف على جملة {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] وهذا حكم أحوال أخرى تعرض بين الزوجين، وهي أحوال الشقاق من مخاصمة ومغاضبة وعصيان، ونحو ذلك من أسباب الشقاق، أي دون نشوز من المرأة.
والمخاطب هنا ولاة الأمور لا محالة، وذلك يرجح أن يكونوا هم المخاطبين في الآية التي قبلها.
والشقاق مصدر كالمشاقة، وهو مشتق من الشق بكسر الشين أي الناحية. لأن كل واحد يصير في ناحية، على طريقة التخييل، كما قالوا في اشتقاق العدو: إنه مشتق من عدوة الوادي. وعندي أنه مشتق من الشق بفتح الشين وهو الصدع والتفرع، ومنه قولهم: شق عصا الطاعة، والخلاف شقاق. وتقدم في سورة البقرة [137] عند قوله تعالى {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} وأضاف الشقاق إلى بين. إما لإخراج لفظ بين عن الظرفية إلى معنى البعد الذي يتباعده الشيئان، أي شقاق تباعد، أي تجاف؛ وإما على وجه التوسع، كقوله بل مكر الليل وقول الشاعر:
يا سارق الليلة أهل الدار
ومن يقول بوقوع الإضافة على تقدير في يجعل هذا شاهدا له كقوله هذا: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78]، والعرب يتوسعون في هذا الظرف كثيرا، وفي القرآن من ذلك شيء كثير، ومنه قوله {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام:94] في قراءة الرفع.
وضمير {بينهما} عائد إلى الزوجين المفهومين من سياق الكلام ابتداء من قوله:

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:4].
والحكم بفتحتين الحاكم الذي يرضى للحكومة بغير ولاية سابقة، وهو صفة مشبهة مشتقة من قولهم: حكموه فحكم، وهو اسم قديم في العربية، وكانوا لا ينصبون القضاة، ولا يتحاكمون إلا إلى السيف، ولكنهم قد يرضون بأحد عقلائهم يجعلونه حكما في بعض حوادثهم، وقد تحاكم عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة لدى هرم بن سنان العبسي، وهي المحاكمة التي ذكرها الأعشى في قصيدته الرائية القائل فيها:
علقم ما أنت إلى عامر
...
الناقض الأوتار والواتر
وتحاكم أبناء نزار بن معد بن عدنان إلى الأفعى الجرهمي، كما تقدم في هذه السورة.
والضمير أن قوله {من أهله} و {من أهلها} عائدان على مفهومين من الكلام: وهما الزوج والزوجة، واشترط في الحكمين أن يكون أحدهما من أهل الرجل والآخر من أهل المرأة ليكونا أعلم بدخلية أمرهما وأبصر في شأن ما يرجى من حالهما، ومعلوم أنه يشترط فيهما الصفات التي تخولهما الحكم في الخلاف بين الزوجين. قال ملك: إذا تعذر وجود حكمين من أهلهما فيبعث من الأجانب، قال ابن الفرس: فإذا بعث الحاكم أجنبيين مع وجود الأهل فيشبه أن يقال ينتقض الحكم لمخالفة النص، ويشبه أن يقال ماض بمنزلة ما لو تحاكموا إليهما. قلت: والوجه الأول أظهر. وعند الشافعية كونهما من أهلهما مستحب فلو بعثا من الأجانب مع وجود الأقارب صح.
والآية دالة على وجوب بعث الحكمين عند نزاع الزوجين النزاع المستمر المعبر عنه بالشقاق، وظاهرها أن الباعث هو الحاكم وولي الأمر، لا الزوجان، لأن فعل {ابعثوا} مؤذن بتوجيههما إلى الزوجين، فلو كانا معينين من الزوجين لما كان لفعل البعث معنى. وصريح الآية: أن المبعوثين حكمان لا وكيلان، وبذلك قال أئمة العلماء من الصحابة والتابعين، وقضى به عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبي طالب، وقاله ابن عباس، والنخعي، والشعبي، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وعلى قول جمهور العلماء فما قضى به الحكمان من فرقة أو بقاء أو مخالعة يمضي، ولا مقال الزوجين في ذلك لأن ذلك معنى التحكيم، نعم لا يمنع هؤلاء من أن يوكل الزوجان رجلين على النظر في شؤونهما، ولا من أن يحكما حكمين على نحو تحكيم القاضي. وخالف في ذلك ربيعة فقال: لا يحكم إلا القاضي دون الزوجين، وفي كيفية حكمهما

وشروطه تفصيل في كتب الفقه.
وتأولت طائفة قليلة الآية على أن المقصود بعث حكمين للإصلاح بين الزوجين وتعيين وسائل الزجر للظالم منهما، كقطع النفقة عن المرأة مدة حتى يصلح حالها، وأنه ليس للحكمين التطليق إلا برضا الزوجين، فيصيران وكيلين، وبذلك قال أبو حنيفة، وهو قول للشافعي، فيريد أنهما بمنزلة الوكيل الذي يقيمه القاضي عن الغائب. وهذا صرف للفظ الحكمين عن ظاهره، فهو من التأويل، والباعث على تأويله عند أبي حنيفة: أن الأصل أن التطليق بيد الزوج، فلو رأى الحكمان التطليق عليه وهو كاره كان ذلك مخالفة لدليل الأصل فاقتضى تأويل معنى الحكمين، وهذا تأويل بعيد، لأن التطليق لا يطرد كونه بيد الزوج، فإن القاضي يطلق عند وجود سبب يقتضيه.
وقوله تعالى {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً} الظاهر أنه عائد إلى الحكمين لأنهما المسوق لهما الكلام، واقتصر على إرادة الإصلاح لأنها التي يجب أن تكون المقصد لولاة الأمور والحكمين، فواجب الحكمين أن ينظرا في أمر الزوجين نظرا منبعثا عن نية الإصلاح، فإن تيسر الإصلاح فذلك، وإلا صارا إلى التفريق، وقد وعدهما الله بأن يوفق بينهما إذا نويا الإصلاح، ومعنى التوفيق بينهما إرشادهما إلى مصادقة الحق والواقع، فإن الاتفاق أطمن لهما في حكمهما بخلاف الاختلاف، وليس في الآية ما يدل على أن الله قصر الحكمين على إرادة الإصلاح حتى يكون سندا لتأويل أبي حنيفة أن الحكمين رسولان للإصلاح لا للتفريق، لأن الله تعالى ما زاد على أن أخبر بأن نية الإصلاح تكون سببا في التوفيق بينهما في حكمهما، ولو فهم أحد غير هذا المعنى لكان متطوحا عن مفاد التركيب.
وقيل: الضمير عائد على الزوجين، وهذا تأويل من قالوا: إن الحكمين يبعثهما الزوجان وكيلين عنهما، أي إن يرد الزوجان من بعث الحكمين إصلاح أمرهما يوفق الله بينهما، بمعنى تيسير عود معاشرتهما إلى أحسن حالها. وليس فيها على هذا التأويل أيضا حجة على قصر الحكمين على السعي في الجمع بين الزوجين دون التفريق: لأن الشرط لم يدل إلا على أن إرادة الزوجين الإصلاح تحققه، وإرادتهما الشقاق والشغب تزيدهما، وأين هذا من تعيين خطة الحكمين في نظر الشرع.
وهذه الآية أصل في جواز التحكيم في سائر الحقوق، ومسألة التحكيم مذكورة في الفقه.

[36] {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} .
عطف تشريع يختص بالمعاملة مع ذوي القربى والضعفاء، وقدم له الأمر بعبادة الله تعالى وعدم الإشراك على وجه الإدماج، للاهتمام بهذا الأمر وأنه أحق ما يتوخاه المسلم، تجديدا لمعنى التوحيد في نفوس المسلمين كما قدم لذلك في طالع السورة بقوله {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1]. والمناسبة هي ما أريد جمعه في هذه السورة من أحكام أواصر القرابة في النسب والدين والمخالطة.
والخطاب للمؤمنين، ولذلك قدم الأمر بالعبادة على النهي عن الإشراك لأنهم قد تقرر نفي الشرك بينهم وأريد منهم دوام العبادة لله، والاستزادة منها، ونهوا عن الشرك تحذيرا مما كانوا عليه في الجاهلية، ومجموع الجملتين في قوة صيغة حصر؛ إذ مفاده: اعبدوا الله ولا تعبدوا غيره فاشتمل على معنى إثبات ونفي، كأنه قيل: لا تعبدوا إلا الله. والعدول عن طريق القصر في مثل هذا طريقة عربية جاء عليها قول السموأل، أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
تسيل على حد الظبات نفوسنا
...
وليست على غير الظبات تسيل
وإنما يصار إليها عندما يكون الغرض الأول هو طرف الإثبات، ثم يقصد بعد ذلك نفي الحكم عما عدا المثبت له، لأنه إذا جيء بالقصر كان المقصد الأول هو نفي الحكم عما عدا المذكور وذلك غير مقتضى المقام هنا، ولأجل ذلك لما خوطب بنو إسرائيل بنظير هذه الآية خوطبوا بطريقة القصر في قوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] الآية، لأن المقصود الأول إيقاظهم إلى إبطال عبادة غير الله، لأنهم قالوا لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ولأنهم عبدوا العجل في مدة مناجاة موسى ربه، فأخذ عليهم الميثاق بالنهي عن عبادة غير الله.
وكذلك البيت فإن الغرض الأهم هو التمدح بأنهم يقتلون في الحرب، فتزهق نفوسهم بالسيوف، ثم بدا له فأعقبه بأن ذلك شنشنة فيهم لا تتخلف ولا مبالغة فيها.
و {شيئا} منصوب على المفعولية لتشركوا أي لا تجعلوا شريكا شيئا مما يعبد كقوله {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:2] ويجوز انتصابه على المصدرية للتأكيد، أي شيئا

من الإشراك ولو ضعيفا كقوله {فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} [المائدة:42].
وقوله {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} اهتمام بشأن الوالدين إذ جعل الأمر بالإحسان إليهما عقب الأمر بالعبادة، كقوله {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، وقوله {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:13، 14]، ولذا قدم معمول إحسانا عليه تقديما للاهتمام إذ لا معنى للحصر هنا لأن الإحسان مكتوب على كل شيء، ووقع المصدر موقع الفعل، وإنما عدي الإحسان بالباء لتضمينه معنى البر. وشاعت تعديته بالباء في القرآن في مثل هذا. وعندي أن الإحسان إنما يعدى بالباء إذا أريد به الإحسان المتعلق بمعاملة الذات وتوفيرها وإكرامها، وهو معنى البر ولذلك جاء وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن؛ وإذا أريد به إيصال النفع المالي بإلى، تقول: أحسن إلى فلان، إذا وصله بمال ونحوه.
{وَذِي الْقُرْبَى} صاحب القرابة، والقربى فعلى، اسم للقرب مصدر قرب كالرجعى، والمراد بها قرابة النسب، كما هو الغالب في هذا المركب الإضافي: وهو قولهم: ذو القربى، وإنما أمر بالإحسان إليه استبقاء لأواصر الود بين الأقارب، إذ كان العرب في الجاهلية قد حرفوا حقوق القرابة فجعلوها سبب تنافس وتحاسد وتقاتل. وأقوالهم في ذلك كثيرة في شعرهم؛ قال ارطاة بن سهية:
ونحن بنو عم على ذاك بيننا ... زرابي فيها بغضة وتنافس
وحسبك ما كان بين بكر وتغلب في حرب البسوس، وهما أقارب وأصهار، وقد كان المسلمون يومها عربا قريبي عهد بالجاهلية؛ فلذلك جئهم على الإحسان إلى القرابة. وكانوا يحسنون بالجار، فإذا كان من قرابتهم لم يكترثوا بالإحسان إليه، وأكد ذلك بإعادة حرف الجر بعد العاطف. ومن أجل ذلك لم تؤكد بالباء في حكاية وصية بني إسرائيل {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} إلى قوله {وَذِي الْقُرْبَى} [البقرة:83] لأن الإسلام أكد أوامر القرابة أكثر من غيره. وفي الأمر بالإحسان إلى الأقارب تنبيه على أن من سفالة الأخلاق أن يستخف أحد بالقريب لأنه قريبه، وآمن من غوائله، ويصرف بره ووده إلى الأباعد ليستكفي شرهم، أو ليذكر في القبائل بالذكر الحسن، فإن النفس التي يطوعها الشر، وتدينها الشدة، لنفس لئيمة، وكما ورد شر الناس من اتقاه الناس لشره فكذلك نقول شر الناس من عظم أحدا لشره.
وقوله {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} هذان صنفان ضعيفان عديما النصير، فلذلك أوصي

بهما.
والجار هو النزيل بقرب منزلك، ويطلق على النزيل بين القبيلة في جوارها، فالمراد ب {الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} الجار النسيب من القبيلة، وب {َالْجَارِ الْجُنُبِ} الجار الغريب الذي نزل بين القوم وليس من القبيلة، فهو جنب، أي بعيد، مشتق من الجانب، وهو وصف على وزن فعل، كقولهم: ناقة أجد، وقيل: وهو مصدر، ولذلك لم يطابق موصوفه، قال بلعاء بن قيس:
لا يجتوينا مجاور أبدا
...
ذو رحم أو مجاور جنب
ويشهد لهذا المعنى قول علقمة بن عبدة في شعره الذي استشفع به عند الملك الحارث ابن جبلة الغساني، ليطلق له أخاه شاسا، حين وقع في أسر الحارث:
فلا تحرمني نائلا عن جناية
...
فإني امرؤ وسط القباب غريب
وفسر بعضهم الجار ذا القربى بقريب الدار، والجنب بعيدها، وهذا بعيد، لأن القربى لا تعرف في القرب المكاني، والعرب معروفون بحفظ الجوار والإحسان إلى الجار، وأقوالهم في ذلك كثيرة، فأكد ذلك في الإسلام لأنه من محامد العرب التي جاء الإسلام لتكميلها من مكارم الأخلاق، ومن ذلك الإحسان إلى الجار.
وأكدت السنة الوصاية بالجار في أحاديث كثيرة: ففي البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" . وفيه عن أبي شريح: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وهو يقول "والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن" ، قيل ومن يا رسول الله قال "من لا يأمن جاره بوائقه" وفيه عن عائشة، قلت: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال "إلى أقربهما منك بابا" وفي صحيح مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهده جيرانك" . واختلف في حد الجوار: فقال ابن شهاب، والأوزاعي: أربعون دارا من كل ناحية، وروي في ذلك حديث، وليس عن مالك في ذلك حد، والظاهر أنه موكول إلى ما تعارفه الناس.
وقوله {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} هو المصاحب الملازم للمكان، فمنه الضيف، ومنه الرفيق في السفر، وكل من هو ملم بك لطلب أن تنفعه، وقيل: أراد الزوجة.
{وَابْنَ السَّبِيلِ} هو الغريب المجتاز بقوم غير ناو الإقامة، لأن من أقام فهو الجار الجنب. وكلمة ابن فيه مستعملة في معنى الانتساب والاختصاص، كقولهم: أبو الليل،

وقولهم في المثل: أبوها وكيالها. والسبيل: الطريق السابلة، فابن السبيل هو الذي لازم الطريق سائرا، أي مسافرا، فإذا دخل القبيلة فهو ليس من أبنائها، فعرفوه بأنه ابن الطريق، رمى به الطريق إليهم، فكأنه ولده. والوصاية به لأنه ضعيف الحيلة، قليل النصير، إذ لا يهتدي إلى أحوال قوم غير قومه، وبلد غير بلده.
وكذلك {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لأن العبيد في ضعف الرق والحاجة وانقطاع سبل الخلاص من سادتهم، فلذلك كانوا أحقاء بالوصاية.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} تذييل لجملة الأمر بالإحسان إلى من سماهم بذم موانع الإحسان إليهم الغالبة على البشر. والاختيال: التكبر، افتعال مشتق من الخيلاء، يقال: خال الرجل خولا وخالا. والفخور: الشديد الفخر بما فعل، وكلا الوصفين منشأ للغلظة والجفاء، فهما ينافيان الإحسان المأمور به، لأن المراد الإحسان في المعاملة وترك الترفع على من يظن به سبب يمنعه من الانتقام.
ومعنى نفي محبة الله تعالى نفي رضاه وتقريبه عمن هذا وصفه، وهذا تعريض بأخلاق أهل الشرك، لما عرفوا به من الغلطة والجفاء، فهو في معنى التحذير من بقايا الأخلاق التي كانوا عليها.
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً[37] وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً[38] وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً}[39] .
يجوز أن يكون استئنافا ابتدائيا، جيء به عقب الأمر بالإحسان لمن جرى ذكرهم في الجملة السابقة، ومناسبة إرداف التحريض على الإحسان بالتحذير من ضده وما يشبه ضده من كل إحسان غير صالح؛ فقوبل الخلق الذي دعاهم الله إليه بأخلاق أهل الكفر وحزب الشيطان كما دل عليه ما في خلال هذه الجملة من ذكر الكافرين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.
فيكون قوله {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} مبتدأ، وحذف خبره ودل عليه قوله {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} . وقصد العدول عن العطف: لتكون مستقلة، ولما فيه من فائدة العموم، وفائدة الإعلام بأن هؤلاء من الكافرين. فالتقدير: الذين يبخلون أعتدنا لهم عذابا

مهينا وأعتدنا ذلك للكافرين أمثالهم، وتكون جملة {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} معطوفة أيضا على جملة {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} محذوفة الخبر أيضا، يدل عليه قوله {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} الخ. والتقدير: والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس قرينهم الشيطان. ونكتة العدول إلى العطف مثل نكتة ما قبلها.
ويجوز أن يكون {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بدلا من من في قوله {مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} فيكون قوله {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} معطوفا على {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} ، وجملة {وأعتدنا} معترضة. وهؤلاء هم المشركون المتظاهرون بالكفر، وكذلك المنافقون.
والبخل بضم الباء وسكون الخاء اسم مصدر بخل من باب فرح، ويقال البخل بفتح الباء والخاء وهو مصدره القياسي، قرأه الجمهور بضم الباء وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بفتح الباء والخاء.
والبخل: ضد الجود وقد مضى عند قوله تعالى {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} في سورة آل عمران [180]. ومعنى {َيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} يحضون الناس عليه، وهذا أشد البخل، قال أبو تمام:
وإن امرأ ضنت يداه على امرئ
...
بنيل يد من غيره لبخيل
والكتمان: الإخفاء. و {مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} يحتمل أن المراد به المال، كقوله تعالى {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:، فيكون المعنى: أنهم يبخلون ويعتذرون بأنهم لا يجدون ما ينفقون منه، ويحتمل أنه أريد به كتمان التوراة بما فيها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى الاحتمال الأول يكون المراد بالذين يبخلون: المنافقين، وعلى الثاني يكون المراد بهم: اليهود؛ وهذا المأثور عن ابن عباس، ويجوز أن تكون في المنافقين، فقد كانوا يأمرون الناس بالبخل هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا. وقوله {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} ، عقبه، يؤذن بأن المراد أحد هذين الفريقين، وجملة {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} معترضة.
وأصل {أعتدنا} أعددنا، أبدلت الدال الأولى تاء، لثقل الدالين عند فك الإدغام باتصال ضمير الرفع، وهكذا مادة أعد في كلام العرب إذا أدغموها لم يبدلوا الدال بالتاء

لأن الإدغام أخف، وإذا أظهر أبدلوا الدال تاء، ومن ذلك قولهم: عتاد لعدة السلام، وأعتد جمع عتاد.
ووصف العذاب بالمهين جزاء لهم على الاختيال والفخر.
وعطف َ{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} على {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} : لأنهم أنفقوا إنفاقا لا تحصل به فائدة الإنفاق غالبا، لأن من ينفق ماله رئاء لا يتوخى به مواقع الحاجة، فقد يعطي الغني ويمنع الفقير، وأريد بهم هنا المنفقون من المنافقين المشركين، ولذلك وصفوا بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وقيل: أريد بهم المشركون من أهل مكة، وهو بعيد، لأم أهل مكة قد انقطع الجدال معهم بعد الهجرة.
وجملة {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً} معترضة.
وقوله {فساء قرينا} جواب الشرط، والضمير المستتر في ساء: إن كان عائدا إلى الشيطان فساء بمعنى بئس، والضمير فاعلها، و {قرينا} تمييز للضمير، مثل قوله تعالى {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [الأعراف:177]، أي: فساء قرينا له، ليحصل الربط بين الشرط وجوابه، ويجوز أن تبقى ساء على أصلها ضد حسن، وترفع ضميرا عائدا على من ويكون قرينا تمييز نسبة، كقولهم ساء سمعا فساء جابه أي فساء من كان الشيطان قرينه من جهة القرين، والمقصود على كلا الاحتمالين سوء حال من كان الشيطان له قرينا بإثبات سوء قرينه؛ إذ المرء يعرف بقرينه، كما قال عدي بن زيد:
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقوله {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} عطف على الجملتين، وضمير الجمع عائد إلى الفريقين، والمقصود استنزال طائرهم، وإقامة الحجة عليهم.
{وماذا} استفهام، وهو هنا إنكاري توبيخي. وذا إشارة إلى ما، والأصل أن يجيء بعد ذا اسم موصول نحو {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} [البقرة:255]. وكثر في كلام العرب حذفه وإبقاء صلته لكثرة الاستعمال، فقال النحاة: نابت {ذا} مناب الموصول، فعدوها في الموصولات وما هي منها في قبيل ولا دبير، ولكنها مؤذنة بها في بعض المواضع. {وعلى} ظرف مستقر هو صلة الموصول، فهو مؤول بكون. {وعلى} للاستعلاء المجازي بمعنى الكلفة والمشقة، كقولهم: عليك أن تفعل كذا. و {لو آمنوا} شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، وقد قدم دليل الجواب اهتماما بالاستفهام، كقول

قتيلة بنت الحارث:
ما كان ضرك لو مننت وربما
...
من الفتى وهو المغيظ المحنق
ومن هذا الاستعمال تولد معنى المصدرية في لو الشرطية، فأثبته بعض النحاة في معاني لو، وليس بمعنى لو في التحقيق، ولكنه ينشأ من الاستعمال. وتقدير الكلام: لو آمنوا ماذا الذي كان يتعبهم ويثقلهم، أي لكان حفيفا عليهم ونافعا لهم، وهذا من الجدل بإراءة الحالة المتروكة أنفع ومحمودة.
ثم إذا ظهر أن التفريط في أخف الحالين وأسدهما أمر نكر، ظهر أن المفرط في ذلك ملوم، إذ لم يأخذ لنفسه بأرشد الخلتين، فالكلام مستعمل في التوبيخ استعمالا كنائيا بواسطتين. والملام متوجه للفريقين: الذين يبخلون؛ والذين ينفقون رئاء، لقوله {لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} على عكس ترتيب الكلام السابق.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} معترضة في آخر الكلام، وهي تعريض بالتهديد والجزاء على سوء أعمالهم.
[40] {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} . استئناف بعد أن وصف حالهم، وأقام الحجة عليهم، وأراهم تفريطهم مع سهولة أخذهم بالحيطة لأنفسهم لو شاءوا، بين أن الله منزه عن الظلم القليل، بله الظلم الشديد، فالكلام تعريض بوعيد محذوف هو من جنس العقاب، وأنه في حقهم عدل، لأنهم استحقوه بكفرهم، وقد دلت على ذلك المقدر أيضا مقابلته بقوله {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً} ولما كان المنفي الظلم، على أن مثقال ذرة تقدير لأقل ظلم، فدل على أن المراد أن الله لا يؤاخذ المشي بأكثر من جزاء سيئته.
وانتصب {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} بالنيابة عن المفعول المطلق، أي لا يظلم ظلما مقدرا بمثقال ذرة، والمثقال ما يظهر به الثقل، فلذلك صيغ على وزن اسم الآلة، والمراد به المقدار.
والذرة تطلق على بيضة النملة، وعلى ما يتطاير من التراب عند النفخ، وهذا أحقر ما يقدر به، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى. وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر {حسنة} بالرفع على أن تك مضارع كان التامة، أي إن توجد حسنة. وقراه الجمهور بنصب

{حسنة} على الخبرية ل {تك} على اعتبار كان ناقصة، واسم كان المستتر عائد إلى مثقال ذرة، وجيء بفعل الكون بصيغة فعل المؤنث مراعاة للفظ ذرة الذي أضيف إليه مثقال، لأن لفظ مثقال مبهم لا يميزه إلا لفظ ذرة فكان كالمستغنى عنه.
والمضاعفة إضافة الضعف بكسر الضاد أي المثل، يقال: ضاعف وضعف وأضعف، وهي بمعنى واحد على التحقيق عند أئمة اللغة، مثل أبي على الفارسي. وقال أبو عبيدة ضاعف يقتضي أكثر من ضعف واحد وضعف يقتضي ضعفين. ورد بقوله تعالى {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]. وأما دلالة إحدى الصيغ الثلاث على مقدار التضعيف فيؤخذ من القرائن لحكمة الصيغة، وقرأ الجمهور: {يضاعفها} ، وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر: {يضعفها} بدون ألف بعد العين وبتشديد العين.
والأجر العظيم ما يزاد على الضعف، ولذلك أضافه الله تعالى إلى ضمير الجلالة، فقال {من لدنه} إضافة تشريف. وسماه أجرا لكونه جزاء على العمل الصالح، وقد روي أن هذا نزل في ثواب الهجرة.
[42,41] {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} .
الفاء يجوز أن تكون فاء فصيحة تدل على شرط مقدر نشأ عن الوعيد في قوله {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:37] وقوله {فَسَاءَ قَرِيناً} [النساء:38]؛ وعن التوبيخ في قوله {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} [النساء:39]؛ وعن الوعد في قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40] الآية، والتقدير: إذا أيقنت بذلك فكيف حال كل أولئك إذا جاء الشهداء وظهر موجب الشهادة على العمل الصالح وعلى العمل السيئ، وعلى هذا فليس ضمير يك إضمارا في مقام الإظهار، ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40]، أي يتفرع عن ذلك سؤال عن حال الناس إذا جئنا من كل أمة بشهيد؛ فالناس بين مستبشر ومتحسر، وعلى هذا فضمير {بك} واقع موقع الاسم الظاهر لأن مقتضى هذا أن يكون الكلام مسوقا لجميع الأمة، فيقتضي أن يقال: وجئنا بالرسول عليهم شهيدا، فعدل إلى الخطاب تشريفا للرسول صلى الله عليه وسلم بعز الحضور والإقبال عليه.

والحالة التي دل عليها الاستفهام المستعمل في التعجيب تؤذن بحالة مهولة للمشركين وتنادي على حيرتهم ومحاولتهم التملص من العقاب بسلوك طريق إمكار أن يكونوا أنذروا مما دل عليه مجيء شهيد عليهم، ولذلك حذف المبتدأ المستفهم عنه ويقدر بنحو: كيف أولئك، أو كيف المشهد، ولا يقدر بكيف حالهم خاصة، إذ هي أحوال كثيرة ما منها إلا يزيده حال ضده وضوحا، فالناجي يزداد سرورا بمشاهدة حال ضده، والموبق يزداد تحسرا بمشاهدة حال ضده، والكل يقوى يقينه بما حصل له بشهادة الصادقين له أو عليه، ولذلك لما ذكر الشهيد لم يذكر معه متعلقه بعلى أو اللام: ليعم الأمرين. والاستفهام مستعمل في لازم معناه من التعجيب، وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} في سورة آل عمران [25].
وإذا ظرف للمستقبل مضاف إلى جملة {جئنا} أي زمان إتياننا بشهيد. ومضمون الجملة معلوم من آيات أخرى تقدم نزولها مثل آية سورة النحل [89] {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} فلذلك صلحت لأن يتعرف اسم الزمان بإضافته إلى تلك الجملة، والظرف معمول لكيف لما فيها من معنى الفعل وهو معنى التعجيب، كما انتصب بمعنى التلهف في قول أبي الصمحان:
وقبل غد، يا لهف فلبي من غد
...
إذا راح أصحابي ولست برائح
والمجروران في قوله {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ} وقوله {بشهيد} يتعلقان بجئنا. وقد تقدم الكلام مختصرا على نظيره في قوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران:25].
وشهيد كل أمة هو رسولها، بقرينة قوله {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} .
و {هؤلاء} إشارة إلى الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لحضورهم في ذهن السامع عند سماعه اسم الإشارة، وأصل الإشارة يكون إلى مشاهد في الوجود أو منزل منزلته، وقد أصطلح القرآن على إطلاق إشارة هؤلاء مرادا بها المشركون، وهذا معنى ألهمنا إليه، واستقريناه فكان مطابقا. ويجوز أن تكون الإشارة إلى {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37] وهم المشركون والمنافقون، لأن تقدم ذكرهم يجعلهم كالحاضرين فيشار إليهم، لأنهم لكثرة توبيخهم ومجادلتهم صاروا كالمعينين عند المسلمين. ومن أضعف الاحتمالات أن يكون {هؤلاء} إشارة إلى الشهداء، الدال عليهم قوله {من كل أمة بشهيد} ، وإن ورد في الصحيح حديث يناسبه في شهادة نوح على قومه وأنهم يكذبونه

فيشهد محمد صلى الله عليه وسلم بصدقه، إذ ليس يلزم أن يكون ذلك المقصود من هذه الآية.
وذكر متعلق شهيدا الثاني مجرورا بعلى لتهديد الكافرين بأن الشهادة تكون عليهم، لأنهم المقصود من اسم الإشارة.
وفي صحيح البخاري: أن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "اقرأ علي القرآن"، قلت: أقرأه عليك وعليك أنزل، قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} ، قال "أمسك" فإذا عيناه تذرفان. وكما قلت: إنه أوجز في التعبير عن تلك الحال في لفظ كيف فكذلك أقول هنا: لا فعل أجمع دلالة على مجموع الشعور عند هذه الحالة من بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه دلالة عل شعور مجتمع فيه دلائل عظيمة: وهي المسرة بتشريف الله إياه في ذلك المشهد العظيم، وتصديق المؤمنين إياه في التبليغ، ورؤية الخيرات التي أنجزت لهم بواسطته، والأسف على ما لحق بقية أمته من العذاب على تكذيبه، ومشاهدة ندمهم على معصيته، والبكاء ترجمان رحمة ومسرة وأسف وبهجة.
وقوله {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية استئناف بياني، لأن السامع يتساءل عن الحالة المبهمة الدلولة لقوله {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} ويتطلب بيانها، فجاءت هذه الجملة مبينة لبعض تلك الحالة العجيبة، وهو حال الذين كفروا حين يرون بوارق الشر: من شهادة شهداء الأمم على مؤمنهم وكافرهم، ويوقنون بأن المشهود عليهم بالكفر مأخوذون إلى العذاب، فينالهم من الخوف ما يودون منه لو تسوى بهم الأرض.
وجملة {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} بيان لجملة يود، أي يودون ودا بينه قوله {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} ، ولكون مضمونها أفاد معنى الشيء المودود صارت الجملة الشرطية بمنزلة مفعول يود، فصار فعلها بمنزلة المصدر، وصارت لو بمنزلة حرف المصدر، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} في سورة البقرة [96].
وقوله {تسوى} قرأه نافع، وابن عامر، وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد السين فهو مضارع تسوى الذي هو مطاوع سواه إذا جعله سواء لشيء آخر، أي مماثلا، لأن السواء المثل فأدغمت إحدى التاءين في السين؛ وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بفتح التاء وتخفيف السين على معنى القراءة السابقة لكن بحذف إحدى التاءين للتخفيف؛ وقرأه ابن كثير،وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب {تسوى} بضم التاء وتخفيف السين مبنيا للمجهول، أي تماثل. والمماثلة المستفادة من التسوية تحتمل أن تكون مماثلة في

الذات، فيكون المعنى أنهم يصيرون ترابا مثل الأرض لظهور أن لا يقصد أن تصير الأرض ناسا، فيكون المعنى على هذا هو معنى قوله تعالى {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40]. وهذا تفسير الجمهور، وعلى هذا فالكلام إطناب، قصد من إطنابه سلوك طريقة الكناية عن صيرورتهم ترابا بالكناية المطلوب بها نسبة، كقولهم: المجد بين ثوبيه، وقول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى
...
في قبة ضربت على ابن الحشرج
أي أنه سمح ذو مروءة كريم؛ ويحتمل أن تكون مماثلة في المقدار، فقيل: يردون أنهم لم يبعثوا وبقوا مستوين مع الأرض في بطنها، وقيل: يودون أن يدفنوا حينئذ كما كانوا قبل البعث.
والأظهر عندي: أن المعنى التسوية في البروز والظهور، أي أن ترتفع الأرض فتسوى في الارتفاع بأجسادهم، فلا يظهروا، وذلك كناية عن شدة خوفهم ودلهم، فينقبضون ويتضاءلون حتى يودوا أن يصيروا غير ظاهرين على الأرض، كما وصف أحد الأعراب يهجو قوما من طي أنشده المبرد في الكامل:
إذا ما قيل أيهم لأي
...
تشابهت المناكب والرؤوس
وهذا أحسن في معنى الآية وأنسب بالكناية.
وجملة {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} يجوز أن تكون مستأنفة والواو عاطفة لها على جملة {يود} ؛ ويجوز أن تكون حالية، أي يودون لو تسوى بهم الأرض في حال عدم كتمانهم، فكأنهم لما رأوا استشهاد الرسل، ورأوا جزاء المشهود عليهم من الأمم السالفة، ورأوا عاقبة كذب المرسل إليهم حتى احتيج إلى إشهاد رسلهم، علموا أن النوبة مفضية إليهم، وخامرهم أن يكتموا الله أمرهم إذا سألهم الله، ولم تساعدهم نفوسهم على الاعتراف بالصدق، لما رأوا من عواقب ثبوت الكفر، من شدة هلعهم، فوقعوا بين المقتضي والمانع، فتمنوا أن يخفوا ولا يظهروا حتى لا يسألوا فلا يضطروا إلى الاعتراف الموبق ولا إلى الكتمان المهلك.
[43] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم

إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}.
هذه الآية استئناف لبيان حكمين يتعلقان بالصلاة، دعا إلى نزولها عقب الآيات الماضية أنه آن الأوان لتشريع هذا الحكم في الخمر حينئذ، وإلى قرنه بحكم مقرر يتعلق بالصلاة أيضا، ويظهر أن سبب نزولها طرأ في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها، فوقعت في موقع وقت نزولها وجاءت كالمعترضة بين تلك الآيات. تضمنت حكما أول يتعلق بالصلاة ابتداء، وهو مقصود في ذاته أيضا بحسب الغاية، وهو قوله {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} . وذلك أن الخمر كانت حلالا لم يحرمها الله تعالى، فبقيت على الإباحة الأصلية، وفي المسلمين من يشربها. ونزل قوله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] في أول مدة الهجرة فقال فريق من المسلمين: نحن نشربها لمنافعها لا لإثمها، وقد علموا أن المراد من الإثم الحرج والمضرة والمفسدة، وتلك الآية كانت إيذانا لهم بأن الخمر يوشك أن تكون حراما لأن ما يشتمل على الإثم متصف بوصف مناسب للتحريم، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها، فحدث بعد ثلاث سنين ما رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا خمرا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
والقرب هنا مستعمل في معناه المجازي وهو التلبس بالفعل، لأن قرب حقيقة في الدنو من المكان أو الذات يقال: قرب منه بضم الراء وقربه بكسر الراء وهما بمعنى، ومن الناس من زعم أن مكسور الراء للقرب المجازي خاصة، ولا يصح.
وإنما اختير هذا الفعل دون لا تصلوا ونحوه للإشارة إلى أن تلك حالة منافية للصلاة، وصاحبها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام، ومن هنا كانت مؤذنة بتغير شأن الخمر، والتنفير منها، لأن المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيمانا وأعلقهم بالصلاة، فلا يرمقون شيئا يمنعهم من الصلاة إلا بعين الاحتقار. ومن المفسرين من تأول الصلاة هنا بالمسجد من إطلاق اسم الحال على المحل كما في قوله تعالى {وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج:40]، ونقل عن ابن عباس، وابن مسعود، والحسن قالوا: كان جماعة من

الصحابة يشربون الخمر ثم يأتون المسجد للصلاة مع رسول الله فنهاهم الله عن ذلك. ولا يخفى بعده ومخالفته لمشهور الآثار.
وقوله {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} غاية للنهي وإيماء إلى علته، واكتفى بقوله تقولون عن {تفعلون} لظهور أن ذلك الحد من السكر قد يفضي إلى اختلال أعمال الصلاة، إذ العمل يسرع إليه الاختلال باختلال العقل قبل اختلال القول. وفي الآية إيذان بأن السكر الخفيف لا يمنع الصلاة يومئذ؛ أو أريد من الغاية أنها حالة انتهاء السكر فتبقى بعدها النشوة. وسكارى جمع سكران، والسكران من أخذ عقله في الانغلاق، مشتق من السكر، وهو الغلق، ومنه سكر الحوض وسكر الباب {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر:15].
ولما نزلت هذه الآية اجتنب المسلمون شرب الخمر في أوقات الصلوات فكانوا لا يشربون إلا بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح، لبعد ما بين هاتين الصلاتين وبين ما تليانهما، ثم أكمل مع تحريم قربان الصلاة في حالة السكر تحريم قربانها بدون طهارة.
{وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} [43].
عطف على جملة {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} لأنها في محل الحال، وهذا النصب بعد العطف دليل بين على أن جملة الحال معتبرة في محل نصب.
والجنب فعل، قيل: مصدر، وقيل: وصف مثل أجد، وقد تقدم الكلام فيه آنفا عند قوله {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36]، والمراد به المباعد للعبادة من الصلاة إذا قارف امرأته حتى يغتسل.
ووصف جنب وصف بالمصدر فلذلك لم يجمع إذ أخبر به عن جمع، من قوله {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} . وإطلاق الجنابة على هذا المعنى من عهد الجاهلية، فإن الاغتسال من الجنابة كان معروفا عندهم، ولعله من بقايا الجنيفة، أو مما أخذوه عن اليهود، فقد جاء الأمر بغسل الجنابة في الإصحاح 15 من سفر اللاويين من التوراة. وذكر ابن إسحاق في السيرة أن أبا سفيان، لما رجع مهزوما من بدر، حلف أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو محمدا. ولم أقف على شيء من كلام العرب يدل على ذكر غسل الجنابة.

والمعنى لا تصلوا في حال الجنابة حتى تغتسلوا الخ. والمقصود من قوله {ولا جنبا} التمهيد للتخلص إلى شرع التيمم، فإن حكم غسل الجنابة مقرر من قبل، فذكره هنا إدماج. والتيمم شرع في غزوة المريسيع على الصحيح، وكانت سنة ست أو سنة خمس على الأصح. وظاهر حديث مالك عن عائشة أن الآية التي نزلت في غزوة المريسيع هي آية التيمم، فيظهر أن تكون هذه الآية التي في سورة النساء لأنها لم يذكر منها إلا التيمم. ووقع في حديث عمرو عن عائشة أن الآية التي نزلت هي قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} التي في سورة المائدة [6]، أخرجه البخاري وقد جزم القرطبي بأن الآية التي نزلت في غزوة المريسيع هي آية سورة النساء، قال: لأن آية سورة المائدة تسمى آية الوضوء. وكذلك الواحدي أورد في أسباب النزول حديث عائشة في سبب نزول آية سورة النساء. وقال ابن العربي هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة. وسورة المائدة قيل: نزلت قبل سورة النساء، وقيل بعدها، والخطب سهل، والأصح أن سورة النساء نزلت قبل سورة المائدة.
والاستثناء في قوله {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} استثناء من عموم الأحوال المستفاد من وقوع جنبا، وهو حال نكرة، في سياق النفي. وعابر السبيل، في كلام العرب: المسافر حين سيره في سفره، مشتق من العبر وهو القطع والاجتياز، يقال: عبر النهر وعبر الطريق. ومن العلماء من فسر {عَابِرِي سَبِيلٍ} بمارين في طريق، وقال: المراد منه طريق المسجد، بناء على تفسير الصلاة في قوله {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} بالمسجد، وجعلوا الآية رخصة في مرور الجنب في المسجد إذا كان قصده المرور لا المكث، قاله الذين تأولوا الصلاة بالمسجد. ونسب أيضا إلى أنس بن مالك. وأبي عبيدة. وابن المسيب، والضحاك، وعطاء، ومجاهد، ومسروق، والنخعي، وزيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، وعكرمة، وابن شهاب، وقتادة، قالوا: كان ذلك أيام كان لكثير من المهاجرين والأنصار أبواب دور في المسجد، ثم نسخ ذلك بعد سد الأبواب كلها إلا خوخة أبي بكر، فكان المرور كذلك رخصة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر، وفي رواية ولعلي، وقيل: أبقيت خوخة بنت علي في المسجد، ولم يصح.
وفائدة هذا الاستثناء عند من فسر {تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} بدخول المسجد، وفسر {عَابِرِي سَبِيلٍ} بالمارين في المسجد ظاهرة، وهو استثناء حقيقي من عموم أحوال الجنب باستثناء عابري السبيل. وعابر السبيل المأخوذ من الاستثناء مطلق، وهو عند

أصحاب هذا المحمل باق على إطلاقه لا تقييد فيه، وأما عند الجمهور الذين حملوا الآية على ظاهرها في معنى تقربوا الصلاة، وفي معنى عابري السبيل فلا تظهر له فائدة، للاستغناء عنه بقوله بعده {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ولأن في عموم الحصر تخصيصا، فالذي يظهر لي أنه إنما قدم هنا لأنه غالب الأحوال التي تحول بين المرء وبين الاغتسال من جهة حاجة المسافر استبقاء الماء. ولندور عروض المرض. والاستثناء على محمل الجمهور يحتمل أن يكون متصلا عند من يرى المتيمم جنبا، ويرى التيمم غير رافع للحدث، ولكنه مبيح للصلاة للضرورة في الوقت، وهذا قول الشافعي، فهو عنده بدل ضروري يقدر بقدر الضرورة، ودليله ظاهر الاستثناء، ويحتمل أن يكون منقطعا عند من يرى المتيمم غير جنب، ويرى التيمم رافعا للحدث حتى ينتقض بناقض ويزول سببه، وهذا قول أبي حنيفة، فلذلك إذا تيمم الجنب وصلى وصار منه حدث ناقض للوضوء يتوضأ لأن تيممه بدل عن الغسل مطلقا، وهذا هو الظاهر بحسب المعنى وليس في السنة ما يقتضي خلافه. وعن مالك في ذلك قولان: فالمشهور من رواية ابن القاسم أن التيمم مبيح للصلاة وليس رافعا للحدث، فلذلك لا يصلي المتيمم به إلا فرضا واحدا، ولو تيمم لجنابة لعذر يمنع من الغسل وانتقض وضوءه تيمم عن الوضوء. وعن مالك، في رواية البغداديين: أن المريض الذي لا يقدر على مس الماء يتيمم ويصلي أكثر من صلاة، حتى ينتقض تيممه بناقض الوضوء، وكذلك فيمن ذكر فوائت يصليها بتيمم واحد، فعلى هذا ليس تجديد التيمم لغيرهما إلا لأنه لا يدري لعله يجد الماء فكانت نية التيمم غير جازمة في بقائه، ولم ينقل عن مالك قول بأن المتيمم للجنابة بعذر مانع من الغسل إذا انتقض وضوءه يتوضأ.
وفي مفهوم هذا الاستثناء، عند القائلين بالمفاهيم من الجمهور، على هذا المحمل تفصيل، فعابر السبيل مطلق قيده قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وبقي عموم قوله {ولا جنبا} في غير عابر السبيل، لأن العام المخصوص يبقى عاما فيما عدا ما خصص، فخصصه الشرط تخصيصا ثانيا في قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى}. ثم إن كان قد تقرر عند المسلمين أن الصلاة تقع بدون طهارة يبق قوله {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} مجملا لأنهم يترقبون بيان الحكم في قربان الصلاة على غير طهارة للمسافر، فيكون في قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} بيان لهذا الإجمال، وإن كان ذلك لم يخطر ببالهم فلا إجمال، ويكون قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} استئنافا لأحكام التيمم.
وتقديم المستثنى في قوله {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} قبل تمام الكلام المقصود قصره

بقوله {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} للاهتمام وهو جار على استعمال قليل، كقول موسى بن جابر الحنفي أموي:
لا أشتهي يا قوم إلا كارها
...
باب الأمير ولا دفاع الحاجب
وقوله {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} غاية للنهي عن الصلاة إذا كانوا جنبا، فهو تشريع للغسل من الجنابة وإيجاب له، لأن وجوب الصلاة لا يسقط بحال، فلما نهوا عن اقترابها بدون الغسل علم من ذلك فرض الغسل. والحكمة في مشروعية الغسل النظافة، ونيط ذلك بأداء الصلاة ليكون المصلي في حالة كمال الجسد، كما كان حينئذ في حال كمال الباطن بالمناجاة والخضوع. ومن أبدع الحكم الشرعية أنها لم تنط وجوب التنظيف بحال الوسخ لأن مقدار الحال من الوسخ الذي يستدعي الاغتسال والتنظيف مما تختلف فيه مدارك البشر في عوائدهم وأحوالهم، فنيط وجوب الغسل بحالة لا تنفك عن القوة البشرية في مدة متعارف أعمار البشر، وهي حالة دفع فواضل القوة البشرية، وحيث كان بين تلك الحالة وبين شدة القوة تناسب تام، إذ بمقدار القوة تندفع فضلاتها، وكان أيضا بين شدة القوة وبين ظهور الفضلات على ظاهر البدن المعبر عنها بالوسخ تناسب تام، كان نوط الاغتسال بالجناية إناطة بوصف ظاهر منضبط فجعل هو العلة أو السبب، وكان مع ذلك محصلا للمناسبة المقتضية للتشريع، وهي إزالة الأوساخ عند بلوغها مقدار يناسب أن يزال مع جعل ذلك مرتبطا بأعظم عبادة وهي الصلاة، فصارت الطهارة عبادة كذلك، وكذلك القول في مشروعية الوضوء، على أن في الاغتسال من الجنابة حكمة أخرى، وهي تجديد نشاط المجموع العصبي الذي يعتريه فتور باستفراغ القوة المأخوذة من زبد الدم، حسبما تفطن لذلك الأطباء فقضيت بهذا الانضباط حكم عظيمة.
ودل إسناد الاغتسال إلى الذوات في قوله {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} على أن الاغتسال هو إحاطة البدن بالماء، وهذا متفق عليه، واختلف في وجوب الدلك أي إمرار اليد على أجزاء البدن: فشرطه مالك رحمة الله بناء على أنه المعروف من معنى الغسل في لسان العرب، ولأن الوضوء لا يجزئ بدون ذلك باتفاق، فكذلك الغسل.
وقال جمهور العلماء: يجزئ في الغسل إحاطة البدن بالماء بالصب أو الانغماس؛ واحتجوا بحديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفاض الماء على جسده، ولا حجة فيه لأنهما لم تذكرا أنه لم يتدلك، ولكنهما سكتتا عنه، فيجوز أن يكون سكوتهما لعلمهما بأنه المتبادر، وهذا أيضا رواية عن مالك رواها عنه أبو الفرج، ومروان

ابن محمد الطاطري، وهي ضعيفة.
وقوله {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} الخ ذكر حالة الرخصة في ترك الاغتسال وترك الوضوء الذي لم يذكر في هذه السورة، وذكر في سورة المائدة، وهي نازلة قبل هذه السورة. فالمقصود بيان حكم التيمم بحذافره، وفي جمع هذه الأشياء في نسق حصل هذا المقصود، وحصل أيضا تخصيص لعموم قوله {ولا جنبا} كما تقدم.
وقوله {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} بيان للإجمال الواقع في قوله {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} إن كان فيه إجمال، وإلا فهو استئناف حكم جديد كما تقدم.
وقوله {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} زيادة على حكم التيمم الواقع بدلا عن الغسل، بذكر التيمم الواقع بدلا عن الوضوء إيعابا لنوعي التيمم. وغير ذلك من أسبابه يؤخذ بالقياس على المذكور. فالمريض أريد به الذي اختل نظام صحته بحيث صار الاغتسال يضره أو يزيد علته. {أَوْ جَاءَ 000 مِنَ الْغَائِطِ} كناية عن قضاء الحاجة البشرية، شاع في كلامهم التكني بذلك لبشاعة الصريح.
والغائط: المنخفض من الأرض وما غاب عن البصر، يقال: غاط في الأرض إذا غاب يغوط، فهمزته منقلبة عن الواو، وكانت العرب يذهبون عند قضاء الحاجة إلى مكان منخفض من جهة الحي بعيد عن بيوت سكناهم، فيكنون عنه: يقولون ذهب إلى الغائط أو تغوط، فكانت كناية لطيفة ثم استعملها الناس بعد ذلك كثيرا حتى ساوت الحقيقة فسمجت، فصار الفقهاء يطلقونه على نفس الحدث ويعلقونه بأفعال تناسب ذلك.
وقوله {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قرئ لامستم بصيغة المفاعلة، وقرئ لمستم بصيغة الفعل كما سيأتي، وهما بمعنى واحد على التحقيق. ومن حاول التفصيل لم يأت بما فيه تحصيل. وأصل اللمس المباشرة باليد أو بشيء من الجسد، وقد أطلق مجازا وكناية على الافتقاد، قال تعالى {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:8] وعلى النزول، قال النابغة:
ليلتمسن بالجيش دار المحارب
وعلى قربان النساء، لأنه مرادف المس، ومنه قولهم فلانه لا ترد يد لامس، ونظيره {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237]. والملامسة هنا يحتمل أن يكون المراد منها ظاهرها، وهو الملامسة بمباشرة اليد أو بعض الجسد جسد المرأة،

فيكون ذكر سببا ثانيا من أساب الوضوء التي توجب التيمم عند فقد الماء، وبذلك فسره الشافعي، فجعل لمس الرجل بيده جسد امرأته موجبا للوضوء، وهو محمل بعيد، إذ لا يكون لمس الجسد موجبا للوضوء وإنما الوضوء مما يخرج خروجا معتادا. فالمحمل الصحيح أن الملامسة كناية عن الجماع، وتعديد هذه الأسباب لجمع ما يغلب من موجبات الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى. وإنما لم يستغن عن {لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} بقوله آنفا {ولا جنبا} لأن ذلك ذكر في معرض الأمر بالاغتسال، وهذا ذكر في معرض الإذن بالتيمم الرخصة، والمقام مقام تشريع يناسبه عدم الاكتفاء بدلالة الالتزام، وبذلك يكون وجه لذكره وجيه. وأما على تأويل الشافعي ومن تابعه فلا يكون لذكر سبب ثان من أسباب الوضوء كبير أهمية. وإلى هذا مال الجمهور فلذلك لم يجب عند مالك وأبي حنيفة الوضوء من لمس الرجل امرأته ما لم يخرج منه شيء، إلا أن مالكا قال:إذا التذ اللامس أو قصد اللذة انتقض وضوءه، وحمل الملامسة في هذه الآية على معنييها الكنائي والصريح، لكن هذا يشرط الالتذاذ، وبه قال جمع من السلف، وأرى مالكا اعتمد في هذا على الآثار المروية عن أئمة السلف، ولا أراه جعله المراد من الآية.
وقرأ الجمهور {لامستم} بصيغة المفاعلة؛ وقرأه حمزة والكسائي وخلف {لمستم} بدون ألف.
وقوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} عطف على فعل الشرط، وهو قيد في المسافر، ومن جاء من الغائط، ومن لامس النساء، وأما المريض فلا يتقيد تيممه بعدم وجدان الماء لأنه يتيمم مطلقا، وذلك معلوم بدلالة معنى المرض، فمفهوم القيد بالنسبة إليه معطل بدلالة المعنى، ولا يكون المقصود من المريض الزمن، إذ لا يعدم الزمن مناولا يناوله الماء إلا نادرا.
وقوله {فتيمموا} جواب الشرط والتيمم القصد والصعيد وجه الأرض، قال ذو الرمة يصف خشفا من بقر الوحش نائما في الشمس لا يكاد يفيق:
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم1
والطيب: الطاهر الذي لم تلوثه نجاسة ولا قذر، فيشمل الصعيد التراب والرمل والحجارة، وإنما عبر بالصعيد ليصرف المسلمين عن هوس أن يتطلبوا التراب أو الرمل
ـــــــ
11 أراد كأنه سكران طرحته الخمر على الأرض فقوله: دبابة اسم فاعل من دب وهو صفة لمحذوف أي خمر دبابة أي تدب في الدماغ وعبر عن الدفاع بعظام الرأس والخرطوم الخمر القوية

مما تحت وجه الأرض غلوا في تحقيق طهارته.
وقد شرع بهذه الآية حكم التيمم أو قرر شرعه السابق في سورة المائدة على الأصح، وكان شرع التيمم سنة ست في غزوة المريسيع، وسبب شرعه ما في الصحيح عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى لي فأقام رسول الله على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله على فخذي، فقام رسول الله حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله تعالى آية التيمم، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته.
والتيمم من خصائص شريعة الإسلام كما في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي" فذكر منها "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا".
والتيمم بدل جعله الشرع عن الطهارة، ولم أر لأحد من العلماء بيانا في حكمة جعل التيمم عوضا عن الطهارة بالماء وكان ذلك من همي زمنا طويلا وقت الطلب ثم انفتح لي حكمة ذلك. وأحسب أن حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة في نفوس المؤمنين، وتقرير حرمة الصلاة، وترفيع شأنها في نفوسهم، فلم تترك لهم حالة يعدون فيها أنفسهم مصلين بدون طهارة تعظيما لمناجاة الله تعالى، فلذلك شرع لهم عملا يشبه الإيماء إلى الطهارة ليشعروا أنفسهم متطهرين، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صعيد الأرض هي منبع الماء، ولأن التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها، ينظفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وما عونهم، وما الاستجمار إلا ضرب من ذلك، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنه مطالب به عند زوال مانعه، وإذا قد كان التيمم طهارة رمزية اقتنعت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى، كما دل عليه حديث عمار بن ياسر، ويؤيد هذا المقصد أن المسلمين لما عدموا الماء في غزوة

المريسيع صلوا بدون وضوء فنزلت آية التيمم. وهذا منهي ما عرض لي من حكمة مشروعية التيمم بعد طول البحث والتأمل في حكمة مقنعة في النظر، وكنت أعد التيمم هو النوع الوحيد بين الأحكام الشرعية في معنى التعبد بنوعه، وأما التعبد ببعض الكيفيات والمقادير من أنواع عبادات أخرى فكثير، مثل عدد الركعات في الصلوات، وكأن الشافعي لما اشترط أن يكون التيمم بالتراب خاصة وأن ينقل المتيمم منه إلى وجهه ويديه، راعى قيه معنى التنظيف كما في الاستجمار، إلا أن هذا القول لم ينقل عن أحد من السلف وهو ما سبق إلى خاطر عمار بن ياسر حين تمرغ في التراب لما تعذر عليه الاغتسال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يكفيك من ذلك الوجه والكفان". ولأجل هذا أيضا اختلف السلف في حكم التيمم، فقال عمر وابن مسعود: لا يقع التيمم بدلا إلا عن الوضوء دون الغسل، وأن الجنب لا يصلي حتى يغتسل سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر. وقد تناظر في ذلك أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود: روى البخاري في كتاب التيمم قال أبو موسى لبن مسعود: أرأيت إذا أجنبت فلم يجد الماء كيف يصنع? قال عبد الله: لا يصلي حتى يجد الماء. فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي: "كان يكفيك هكذا، فضرب بكفيه الأرض ثم مسح بهما وجهه وكفيه" ، قال ابن مسعود: ألم تر عمر لم يقتنع منه بذلك، قال أبو موسى: فدعنا من قول عمار، كيف تصنع بهذه الآية {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فما درى عبد الله ما يقول، فقال: إنا لو رخصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم. ولا شك أن عمر، وابن مسعود، تأولا آية النساء فجعلا قوله {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} رخصة لمرور المسجد، وجعلا {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} مراد به اللمس الناقص للوضوء على نحو تأويل الشافعي، وخالف جميع علماء الأمة عمر وابن مسعود في هذا، فقال الجمهور: يتيمم فاقد الماء ومن يخاف على نفسه الهلاك أو المرض أو زيادة المرض ولو نزلة أو حمى. وقال الشافعي: لا يتيمم إلا فاقد الماء أو من يخاف على نفسه التلف دون المرض أو زيادته، لأن زيادة المرض غير محققة، ويرده أن كلا الأمرين غير محقق الحصول، وأم الله لم يكلف الخلق فيه مشقة. وقد تيمم عمرو بن العاص رضي الله عنه في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل وصلى بالناس، فذكروا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عمرو: إني سمعت الله يقول {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه.
وقوله {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} جعل التيمم قاصرا على مسح الوجه

واليدين، وأسقط مسح ما سواهما من أعضاء الوضوء بله أعضاء الغسل، إذ ليس المقصود منه تطهير حسيا، ولا تجديد النشاط، ولكن مجرد استحضار استكمال الحالة للصلاة، وقد ظن بعض الصحابة أن هذا تيمم بدل عن الوضوء، وأن التيمم البدل عن الغسل لا يجزي منه إلا مسح سائر الجسد بالصعيد، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن التيمم للجنابة مثل التيمم للوضوء، فقد ثبت في الصحيح عن عمار بن ياسر، قال: كنت في سفر فأجنبت فتمعكت في التراب أي تمرغت وصليت فأتيت النبي فذكرت ذلك فقال "يكفيك الوجه والكفان" . وقد تقدم آنفا.
والباء للتأكيد، مثل وهزي إليك بجذع النخلة وقول النابغة يرثي النعمان بن المنذر:
لك الخير إن وارت الأرض واحدا
...
وأصبح جد الناس يطلع عاثرا
أراد إن وارتك الأرض مواراة الدفن. والمعنى: فامسحوا وجوهكم وأيديكم، وقد ذكرت هذه الباء مع لمسموح في الوضوء ومع التيمم للدلالة على تمكن المسح لئلا تزيد رخصة على رخصة.
وقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} تذييل لحكم الرخصة إذ عفا المسلمين فلم يكلفهم الغسل أو الوضوء عند المرض، ولا يرقب وجود الماء عند عدمه، حتى تكثر عليهم الصلوة فيعسر عليهم القضاء.
[45,44] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} .
استئناف كلام راجع إلى مهيع الآيات التي سبقت من قوله {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] فإنه بعد نذارة المشركين وجه الإنذار لأهل الكتاب، ووقعت آيات تحريم الخمر وقت الصلاة، وآيات مشروعية الطهارة لها فيما بينهما، وفيه مناسبة للأمر بترك لخمر في أوقات الصلوات والأمر بالطهارة، لأن ذلك من الهدى الذي لم يسبق لليهود نظيره، فهم يحسدون المسلمين عليه، لأنهم حرموا من مثله وفرطوا في هدى عظيم، وأرادوا إضلال المسلمين عداء منهم.
وجملة {ألم تر} إلى {الكتاب} جملة يقصد منها التعجيب، والاستفهام فيها تقريري عن نفي فعل لا يود المخاطب انتفاء عنه، ليكون ذلك محرضا على الإقرار بأنه

فعل، وهو مفيد مع ذلك للتعجيب، وتقدم نظيرها في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} في سورة آل عمران [23].
وجملة {يشترون} حالية فهي قيد لجملة {أَلَمْ تَرَ} ، وحالة اشترائهم الضلالة وإن كانت غير مشاهدة بالصبر فقد نزلت منزلة المشاهد المرئي، لأن شهرة الشيء وتحققه تجعله بمنزلة المرئي.
والنصيب تقدم عند قوله {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} [النساء:7] في هذه السورة، وفي اختياره هنا إلقاء احتمال قلته في نفوس السامعين، وإلا لقيل: أوتوا الكتاب، وهذا نظير قوله تعالى بعد هذا {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء:141]، أي نصيب من الفتح أو من النصر.
والمراد بالكتاب التوراة، لأن اليهود هم الذين كانوا مختلطين مع المسلمين بالمدينة، ولم يكن فيها أحد من النصارى.
والاشتراء مجاز في الاختيار والسعي لتحصيل الشيء، لأن المشتري هو آخذ الشيء المرغوب فيه من المتبائعين، والبائع هو باذل الشيء المرغوب فيه لحاجته إلى ثمنه، هكذا اعتبر أهل العزف الذي بنيت عليه اللغة وإلا فإن كلا المتابعين مشتر وشار، فلا جرم أن أطلق الاشتراء مجازا على الاختبار، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} في سورة البقرة [16]. وهذا يدل على أنهم اقتحموا الضلالة عن عمد لضعف إيمانهم بكتابهم وقلة جدوى علمهم عليهم.
وقوله {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} أي يريدون للمؤمنين الضلالة لئلا يفضلوهم بالاهتداء، كقوله {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]. فلإرادة هنا بمعنى المحبة كقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . ولك أن تجعل الإرادة على الغالب في معناها وهو الباعث النفساني على العمل، أي يسعون لأن تضلوا، وذلك بإلقاء الشبه والسعي في صرف المسلمين عن الإيمان، وقد تقدم آنفا قوله تعالى {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27].
وجملة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} معترضة، وهي تعريض، فإن إرادتهم الضلالة للمؤمنين عن عداوة وحسد.

وجملة {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} [النساء:45] تذييل لتطمئن نفوس المؤمنين بنصر الله، لأن الإخبار عن اليهود بأنهم يريدون ضلال المسلمين، وأنهم أعداء للمسلمين، من شأنه أن يلقي الروع في قلوب المسلمين، إذ كان اليهود المحاورون للمسلمين ذوي عدد وعدد، وبيدهم الأموال، وهم مبثوثون في المدينة وما حولها: من قينقاع وقريظة والنظير وخيبر، وسوء نواياهم، ليسا بالأمر الذي يستهان به، فكان قوله {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً} مناسبا لقوله {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} ، أي إذ كانوا مضمرين لكم السوء فالله وليكم ويهديكم ويتولى أموركم شأن الولي مع مولاه، وكان قوله {وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} مناسبا لقوله {بأعدائكم} ، أي فالله ينصركم.
وفعل كفى في قوله {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} مستعمل في تقوية اتصاف فاعله بوصف يدل عليه التمييز المذكور بعده، أي أن فاعل كفى أجدر من يتصف بذلك الوصف، ولأجل الدلالة على هذا غلب في الكلام إدخال باء على فاعل فعل كفى، وهي باء زائدة لتوكيد الكفاية، بحيث يحصل إبهام يشوق السامع إلى معرفة تفصيله، فيأتون باسم يميز نوع تلك النسبة ليتمكن المعنى في ذهن السامع.
وقد يجيء فاعل كفى غير مجرور بالباء، كقول عبد بني الحسحاس:
كفى الشيب والإسلام ناهيا
وجعل الزجاج الباء هنا غير زائدة وقال: ضمن فعل كفى معنى اكتف، واستحسنه ابن هشام.
وشذت زيادة الباء في المفعول، كقول كعب بن مالك أو حسان بن ثابت:
فكفى بنا فضلا على من غيرنا
...
حب النبي محمد إيانا
وجزم الواحدي في شرح قول المتنبي:
كفى بجسمي نحولا أنني رجل
...
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
بأنه شذوذ.
ولا تزاد الباء في فاعل {كفى} بمعنى أجزأ، ولا التي بمعنى وقى، فرقا بين استعمال كفى المجازي واستعمالها الحقيقي الذي هو معنى الاكتفاء بذات نحو:
كفاني ولم أطلب قليل من المال

[46] {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً}.
يجوز أن يكون هذا كلاما مستأنفا.
و {من} تبعيضية، وهي خبر لمبتدإ محذوف دلت عليه صفته وهي جملة {يحرفون} . والتقدير: قوم يحرفون الكلم.
وحذف المبتدإ في مثل هذا شائع في كلام العرب اجتزاء بالصفة عن الموصوف، وذلك إذا كان المبتدأ موصوفا بجملة أو ظرف، وكان بعض اسم مجرور بحرف {من} ، وذلك الاسم مقدم على المبتدإ. ومن كلمات العرب المأثورة قولهم منا ظعن ومنا أقام أي منا فريق ظعن ومنا فريق أقام. ومنه قول ذي الرمة:
قظلوا ومنهم دمعه غالب له
...
وآخر يذري مدعة العين بالهمل
أي ومنهم فريق، بدليل قوله في العطف وآخر. وقول تميم بن مقبل:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما
...
أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقد دل ضمير الجمع في قوله {يحرفون} أن هذا صنيع فريق منهم، وقد قيل: إن المراد به رفاعة بن زيد بن التابوت من اليهود، ولعل قائل هذا يعني أنه من جملة هؤلاء الفريق، إذ لا يجوز أن يكون المراد واحدا ويؤتى بضمير الجماعة، وليس المقام مقام إخفاء حتى يكون على حد قوله عليه السلام " ما بال أقوام يشترطون" الخ.
ويجوز أن يكون {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} صفة للذين أوتوا نصيبا من الكتاب، وتكون {من} بيانية أي هم الذين هادوا، فتكون جملة {يحرفون} حالا من قوله {الَّذِينَ هَادُوا} . وعلى الوجهين فقد أثبتت لهم أوصاف التحريف والضلالة ومحبة ضلال المسلمين. والتحريف: الميل بالشيء إلى الحرف وهو جانب الشيء وحافته، وسيأتي عند قوله تعالى {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} في سورة المائدة [13]، وهو هنا مستعمل في الميل عن سواء المعنى وصريحة إلى التأويل الباطل، كما يقال: تنكب عن الصراط، وعن الطريق، إذا أخطأ الصواب وصار إلى سوء الفهم أو التضليل، فهو على هذا تحريف مراد الله في التوراة إلى تأويلات باطلة، كما يفعل أهل الأهواء في تحريف معاني القرآن

بالتأويلات الفاسدة. ويجوز أن يكون التحريف مشتقا من الحرف وهو الكلمة والكتابة، فيكون مرادا به تغيير كلمات التوراة وتبديلها بكلمات أخرى لتوافق أهواء أهل الشهوات في تأييد ما هم عليه من فاسد الأعمال. والظاهر أن كلا الأمرين قد ارتكبه اليهود في كتابهم. وما ينقل عن ابن عباس أن التحريف فساد التأويل ولا يعمد قوم على تغيير كتابهم، ناظر إلى غالب أحوالهم، فعلى الاحتمال الأول يكون استعمال عن في قوله {عَنْ مَوَاضِعِهِ} مجازا، ولا مجاوزة ولا مواضع، وعلى الثاني يكون حقيقة إذ التحريف حينئذ نقل وإزالة.
وقوله {ويقولون} عطف على {يحرفون} ذكر سوء أقوالهم، وهي أقوالهم التي يواجهون به الرسول صلى الله عليه وسلم: يقولون سمعنا دعوتك وعصيناك، وذلك إظهار لتمسكهم بدينهم ليزول طمع الرسول في إيمانهم، ولذلك لم يروا في قولهم هذا أذى للرسول فأعقبوه بقولهم له {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} إظهار للتأدب معه.
ومعنى {اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أنهم يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم عند مراجعته في أمر الإسلام: اسمع منا، ويعقبون ذلك بقولهم: {غَيْرَ مُسْمَعٍ} يوهمون أنهم قصدوا الظاهر المتبادر من قولهم: غير مسمع، أي غير مأمور بأن تسمع، في معنى قول العرب: افعل غير مأمور. وقيل معناه: غير مسمع مكروها، فلعل العرب كانوا يقولون: اسمعه بمعنى سبه. والحاصل أن هذه الكلمة كانت معروفة الإطلاق بين العرب في معنى الكرامة والتلطف. إطلاقا متعارفا، ولكنهم لما قالوها الرسول أرادوا بها معنى آخر انتحلوه لها من شيء يسمح به تركيبها الوضعي، أي أن لا يسمع صوتا من متكلم. بأن يصير أصم، أو أن لا يستجاب دعاؤه. والذي دل على أنهم أرادوا ذلك قوله بعد {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا} إلى قوله {وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا} فأزال لهم كلمة غير مسمع. وقصدهم من إيراد كلام ذي وجهين أن يرضوا الرسول والمؤمنين ويرضوا أنفسهم بسوء نيتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ويرضوا قومهم، فلا يجدوا عليهم حجة.
وقولهم {راعنا} أتوا بلفظ ظاهره طلب المراعاة، أي الرفق، والمراعاة مفاعلة مستعملة في المبالغة في الرعي على وجه الكناية الشائعة التي ساوت الأصل، ذلك لأن الرعي من لوازمه الرفق بالمرعي، وطلب الخصب له، ودفع العادية عنه. وهم يريدون ب {راعنا} كلمة في العبرانية تدل على ما تدل عليه كلمة الرعونة في العربية، وقد روي أنها كلمة {راعونا} وأن معناها الرعونة فلعلهم كانوا يأتون بها، يوهمون أنهم يعظمون

النبي صلى الله عليه وسلم بضمير الجماعة، ويدل لذلك أن الله نهى المسلمين عن متابعتهم إياهم في ذلك اغترار فقال في سورة البقرة [104] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} .
واللي أصله الانعطاف والانثناء، ومنه {وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} ، وهو يحتمل الحقيقة في كلتا الكلمتين: اللي، والألسنة، أي أنهم يثنون ألسنتهم ليكون الكلام مشبها لغتين بأن يشبعوا حركات، أو يقصروا مشبعات، أو يفخموا مرققا، أو يوقفوا مفخما، ليعطي اللفظ في السمع صورة تشبه صورة كلمة أخرى، فإنه قد تخرج كلمة من زنة إلى زنة، ومن لغة إلى لغة بمثل هذا. ويحتمل أن يراد بلفظ اللي مجازة، وبالألسنة مجازة: فاللي بمعنى تغيير الكلمة، والألسنة مجاز على الكلام، أي يأتون في كلامهم بما هو غير متمحض لمعنى الخير.
وانتصب ليا على المفعول المطلق ل {يقولون} لأن اللي كيفية من كيفيات القول.
وانتصب {طَعْناً فِي الدِّينِ} على المفعول لأجله، فهو من عطف بعض المفاعيل على بعض آخر، ولا ضير فيه، ولك أن تجعلهما معا مفعولين مطلقين أو مفعولين لأجلهما، وإنما كان قولهم {طَعْناً فِي الدِّينِ} ، لأنهم أضمروا في كلامهم قصدا خبيثا فكانوا يقولون لإخوانهم، ومن يليهم من حديثي العهد بالإيمان: لو كان محمد رسولا لعلم ما أردنا بقولنا، فلذلك فضحهم الله بهذه الآية ونظائرها.
وقوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي لو قالوا ما هو قبول للإسلام لكان خيرا. وقول للإسلام لكانخيرا وقوله {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} يشبه أنه مما جرى مجرى المثل بقول من أمر بشيء وامتثله سمع وطاعة، أي شأني سمع وطاعة، وهو مما التزم فيه حذف المبتدإ لأنه جرى مجرى المثل، وسيجيء في سورة النور [51] قوله تعالى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} .
وقوله {وأقوم} تفضيل مشتق من القيام الذي هو بمعنى الوضوح والمظهور، كقولهم: قام الدليل على كذا، وقامت حجة فلان. وإنما كان أقوم لأنه دال على معنى لا احتمال فيه، بخلاف قولهم.
والاستدراك في قوله {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} ناشيء عن قوله {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} ، أي ولكن أثر اللعنة حاق بهم فحرموا ما هو خير فلا ترشح نفوسهم إلا بآثار ما هو كمين فيها من فعل سيئ وقول بذاء لا يستطيعون صرف أنفسهم عن ذلك.

ومعنى {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} أنهم لا يؤمنون أبدا فهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده، وأطلق القلة على العدم، وفسر به قول تأبط شرا:
قليل التشكي للمهم يصيبه
...
كثير الهوى شتى النوى والمسالك
قال الجاحظ في كتاب البيان عند قول عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يصف أرض نصيبين كثيرة العقارب قليلة الأقارب، يضعون قليلا في موضع ليس، كقولهم: فلان قليل الحياء. ليس مرادهم أن هناك حياء وإن قل. قلت: ومنه قول العرب: قل رجل يقول ذلك، يريدون أنه غير موجود. وقال صاحب الكشاف عند قوله تعالى {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} والمعنى نفي التذكير، والقلة مستعمل في معنى النفي. وإنما استعملت العرب القلة عوضا عن النفي لضرب من الاحتراز والاقتصاد، فكأن المتكلم يخشى أن يتلقى عموم نفيه بالإنكار فيتنازل عنه إلى إثبات قليل وهو يريد النفي.
[47] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} .
أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم، وإقامة الحجة عليهم، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وزع، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تعن من فرص الموعظة والهدى إلا انتهزها، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسموا أحوال تأثر نفوس المخاطبين ومظان ارعوائها عن الباطل، وتبصرها في الحق، فيندوها حينئذ بقاورع الموعظة والإرشاد، كما أشار إليه الحريري في المقامة 11 إذ قال فلما ألحدوا الميت، وفات قول ليت، أشرف شيخ من رباوة، متأبطا لهراوة، فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون الخ، لذلك جئ بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} الآية عقب ما تقدم.
وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران:23] لأن ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنهم شرقوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنهم أوتوا الكتاب كله

حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم، وأوتوا نصيبا منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم، فالذي لم يعملوا به منه كأنهم لم يؤتوه.
وجيء بالصلتين في قوله {بِمَا نَزَّلْنَا} وقوله {لِمَا مَعَكُمْ} دون الاسمين العلمين، وهما: القرآن والتوراة: لما في قوله {بِمَا نَزَّلْنَا} من التذكير بعظم شأن القرآن أنه منزل بإنزال الله، ولما في قوله لما معكم من التعريض بهم في أن التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حق علمه ولا يعملون بما فيه، على حد قوله كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وقوله {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} تهديد أو وعيد، ومعنى {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ} أي آمنوا في زمن يبتدئ من قبل الطمس، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه، وهذا تهديد بأن يحل بهم أمر عظيم، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلط الله عليهم ما يفسد به محياهم فإن قدرة الله صالحة لذلك، ويحتمل أن يكون الطمس مجازا على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإن الوجوه مجامع الحواس.
والتهديد لا يقتضي وقوع المهدد به، وفي الحديث "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله وجهه وجه حمار" .
وأصل الطمس إزالة الآثار الماثلة. قال كعب:
عرضتها طامس الأعلام مجهول
وقد يطلق الطمس مجازا على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه. ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميز والمعرفة منها.
وقوله {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} عطف لمجرد التعقيب لا للتسبب؛ أي من قبل أن يحصل الأمران: الطمس والرد على الأدبار، أي تنكيس الرؤوس إلى الوراء، وإن كان الطمس هنا مجازا وهو الظاهر، فهو وعيد بزوال وجاهة اليهود في بلاد العرب، ورميهم بالمذلة بعد أن كانوا هناك أعزة ذوي مال وعدة، فقد كان منهم السموأل قبل البعثة، ومنهم أبو رافع تاجر أهل الحجاز، ومنهم كعب بن الأشرف، سيد جهته في عصر الهجرة.
والرد على الأدبار على هذا الوجه: يحتمل أن يكون مجازا بمعنى القهقرى، أي إصارتهم إلى بئس المصير؛ ويحتمل أن يكون حقيقة وهو ردهم من حيث أتوا، أي

إجلاؤهم من بلاد العرب إلى الشام.
والفاء على هذا الوجه للتعقيب والتسبب معا، والكلام وعيد، والوعيد حاصل، فقد رماهم الله بالذل، ثم أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عمر بن الخطاب إلى أذرعات.
وقوله {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} أريد باللعن هنا لخزي، فهو غير الطمس، فإن كان الطمس مرادا به المسخ فاللعن مراد به الذل، وإن كان الطمس مرادا به الذل فاللعن مراد به المسخ.
و {أَصْحَابَ السَّبْتِ} هم الذين في قوله {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. وقد تقدم في سورة البقرة} [65].
[48] {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً}.
يجوز أن تكون هذه الجملة متعلقة بما قبلها من تهديد اليهود بعقاب في الدنيا، فالكلام مسوق لترغيب اليهود في الإسلام، وإعلامهم بأنهم بحيث يتجاوز الله عنهم عند حصول إيمانهم، ولو كان عذاب الطمس نازلا عليهم، فالمراد بالغفران التجاوز في الدنيا عن المؤاخذة لهم بعظم كفرهم وذنوبهم، أي يرفع العذاب عنهم. وتتضمن الآية تهديدا للمشركين بعذاب الدنيا يحل بهم فلا ينفعهم الإيمان بعد حلول العذاب، كما قال تعالى {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98] الآية. وعلى هذا الوجه يكون حرف إن في موقع التعليل والتسبب، أي آمنوا بالقرآن من قبل أن ينزل بكم العذاب، لأن الله يغفر ما دون الإشراك به، كقوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، أي ليعذبهم عذاب الدنيا، ثم قال {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال:34]، أي في الدنيا، وهو عذاب الجوع والسيف، وقوله {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:10، 11]، أي دخان عام المجاعة في قريش. ثم قال {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:15، 16] أي بطشه يوم بدر؛ أو يكون المراد بالغفران التسامح، فإن الإسلام قبل من أهل الكتابين الدخول تحت ذمة الإسلام دون الدخول في دين الإسلام، وذلك حكم الجزية، ولم يرض من المشركين إلا بالإيمان دون الجزية، لقوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا

سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]. وقال في شأن أهل الكتاب {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة، وقعت اعتراضا بين قوارع أهل الكتاب ومواعظهم، فيكون حرف إن لتوكيد الخبر لقصد دفع احتمال المجاز أو المبالغة في الوعيد، وهو إما تمهيد لما بعده لتشنيع جرم الشرك بالله ليكون تمهيدا لتشنيع حال الذين فضلوا الشرك على الإيمان، وإظهار لمقدار التعجيب من شانهم الآتي في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:51]، أي فكيف ترضون بحال من لا يرضى الله عنه. والمغفرة على هذا الوجه يصح حملها على معنى التجاوز الدنيوي، وعلى معنى التجاوز في الآخرة على وجه الإجمال.
وإما أن يكون استئناف تعليم حكم في مغفرة ذنوب العصاة: ابتدئ بمحكم وهو قوله {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، وذيل بمتشابه وهو قوله {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ؛ فالمغفرة مراد منها التجاوز في الآخرة. قال القرطبي فهذا من المتشابه الذي تكلم العلماء فيه وهو يريد أن ظاهرها يقتضي أمور مشكلة:
الأول: أنه يقتضي أن الله قد يغفر الكفر الذي ليس بشرك ككفر اليهود.
الثاني: أنه يغفر لمرتكب الذنوب ولو لم يتب.
الثالث: أنه قد لا يغفر للكافر بعد إيمانه وللمذنب بعد توبته، لأنه وكل الغفران إلى المشيئة، وهي تلاقي الوقوع والانتفاء. وكل هذه الثلاثة قد جاءت الأدلة المتظافرة على خلافها، واتفقت الأمة على مخالفة ظاهرها، فكانت الآية من المتشابه عند جميع المسلمين. قال ابن عطية: وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد. وتلخيص الكلام فيها أن يقال: الناس أربعة أصناف: كافر مات على كفره، فهذا مخلد في النار بإجماع، ومؤمن محسن لم يذنب قط ومات على ذلك فهو في الجنة محتوم عليه حسب الوعد من الله بإجماع، وتائب مات على توبته فهذا عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن، ومذنب مات قبل توبته فهذا هو موضع الخلاف: فقالت المرجئة: هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته، وجعلوا آيات الوعيد كلها مخصصة بالكفار وآيات الوعد عامة في المؤمنين؛ وقالت المعتزلة: إذا كان صاحب كبيرة فهو في

النار لا محالة، وقالت الخوارج: إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلد ولا إيمانه له، وجعلوا آيات الوعد كلها مخصصة بالمؤمن المحسن والمؤمن التائب، وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفارا أو مؤمنين، وقال أهل السنة: آيات الوعد ظاهرة العموم ولا يصح نفوذ كلها لوجهه بسبب تعارضها كقوله تعالى {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:15، 16] وقوله {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن:23]، فلا يد أن نقول: إن آيات الوعد لفظها لفظ العموم، والمراد به الخصوص: في المؤمن المحسن، وفيمن سبق في علم الله تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة، وأن آيات الوعيد لفظها عموم والمراد به الخصوص في الكفرة، وفيمن سبق علمه تعالى أنه يعذبه من العصاة. وآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} جلت الشك وذلك أن قوله {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} مبطل للمعتزلة، وقوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} رادا على المرجئة دال على أن غفران ما دون الشرك لقوم دون قوم، ولعله بنى كلامه على تأويل الشرك به بما يشمل الكفر كله، أو بناه على أن اليهود أشركوا فقالوا: عزير ابن الله، والنصارى أشركوا فقالوا: المسيح ابن الله، وهو تأويل الشافعي فيما نسبه إليه فخر الدين، وهو تأويل بعيد. فالإشراك له معناه في الشريعة، والكفر دونه له معناه.
والمعتزلة تأولوا الآية بما أشار إليه في الكشاف: بأن قوله {لِمَنْ يَشَاءُ} معمول يتنازعه {لا يغفر} المنفي {ويغفر} المثبت. وتحقيق كلامه أن يكون المعنى عليه: إن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء، ويصير معنى لا يغفر لمن يشاء أنه لا يشاء المغفرة له إذ لو شاء المغفرة له لغفر له، لأن مشيئة الله الممكن لا يمنعها شيء، وهي لا تتعلق بالمستحيل، فلما قال {لا يغفر} علمنا أن من يشاء معناه لا يشاء أن يغفر، فيكون الكلام من قبيل الكناية، مثل قولهم: لا أعرفنك تفعل كذا، أي لا تفعل فأعرفك فاعلا، وهذا التأويل تعسف بين.
وأحسب أن تأويل الخوارج قريب من هذا. وأما المرجئة فتأولوا بما نقله عنهم ابن عطية: أن مفعول {من يشاء} محذوف دل عليه قوله {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، أي ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء الإيمان، أي لمن آمن، وهي تعسفات تكره القرآن على خدمة مذاهبهم. وعندي أن هذه الآية، إن كانت مرادا بها الإعلام بأحوال مغفرة الذنوب فهي آية اقتصر فيها على بيان المقصود، وهو تهويل شأن الإشراك، وأجمل ما عداه إجمالا عجيبا، بأن أدخلت صوره كلها في قوله {لِمَنْ يَشَاءُ} المقتضي مغفرة لفريق مبهم ومؤاخذة لفريق

مبهم. والحوالة في بيان هذا المجمل على الأدلة الأخرى المستقراة من الكتاب والسنة، ولو كانت هذه الآية مما نزل في أول البعثة لأمكن أن يقال: إن ما بعدها من الآيات نسخ ما تضمنته، ولا يهولنا أنها خبر لأنها خبر مقصود منه حكم تكليفي، ولكنها نزلت بعد معظم القرآن، فتعين أنها تنظر إلى كل ما تقدمها، وبذلك يستغني جميع طوائف المسلمين عن التعسف في تأويلها كل بما يساعد نحلته، وتصبح صالحة لمحامل الجميع، والمرجع في تأويلها إلى الأدلة المبينة، وعلى هذا يتعين حمل الإشراك بما يشمل اليهودية والنصرانية، ولعله نظر فيه إلى قول ابن عمر في تحريم تزوج اليهودية والنصرانية بأنهما مشركتان. وقال: أي شرك أعظم من أن يدعى لله ابن.
وأدلة الشريعة صريحة في اختلاف مفهوم هذين الوصفين، وكون طائفة من اليهود قالوا: عزر ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، لا يقتضي جعلهم مشركين إذ لم يدعوا مع ذلك لهذين إلهية تشارك الله تعالى، واختلاف الأحكام التكليفية بين الكفرين دليل على أن لا يراد بهذا اللفظ مفهوم مطلق الكفر، على أنه ماذا يغني هذا التأويل إذا كان بعض الكفرة لا يقول بإلهية غير الله مثل معظم اليهود.
وقد اتفق المسلمون كلهم على أن التوبة من الكفر، أي الإيمان، يوجب مغفرته سواء كان كفر إشراك أن كفرا بالإسلام، لا شك في ذلك، إما بوعد الله عند أهل السنة، أو بالوجوب العقلي عند المعتزلة؛ وأن الموت على الكفر مطلقا لا يغفر بلا شك، إما بوعيد الله، أو بالوجوب العقلي؛ وأن المذنب إذا تاب يغفر ذنبه قطعا، إما بوعد الله أو بالوجوب العقلي. واختلف في المذنب إذا مات على ذنبه ولم يتب أو لم يكن له من الحسنات ما يغطي على ذنوبه، فقال أهل السنة: يعاقب ولا يخلد في العذاب بنص الشريعة، لا بالوجوب، وهو معنى المشيئة، فقد شاء الله ذلك وعرفنا مشيئته بأدلة الكتاب والسنة.
وقال المعتزلة والخوارج: هو في النار خالدا بالوجوب العقلي، وقال المرجئة: لا يعاقب بحال، وكل هاته الأقسام داخل في إجمال {لِمَنْ يَشَاءُ}.
وقوله {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} زيادة في تشنيع حال الشرك. والافتراء: الكذب الذي لا شبهة للكاذب فيه، لأنه مشتق من الفري. وهو قطع الجلد. وهذا مثل ما أطلقوا عليه لفظ الاختلاق من الخلق. وهو قطع الجلد، وتقدم عند قوله

تعالى {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} في سورة آل عمران. والإثم العظيم: الفاحشة الشديدة.
[50,49] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} .
تعجيب من حال اليهود إذ يقولون {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً} [البقرة:111] ونحو ذلك من إدلالهم الكاذب.
وقوله {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} إبطال لمعتقدهم بإثبات ضده، وهو أن التزكية شهادة من الله، ولا ينفع أحدا أن يزكي نفسه. وفي تصدير الجملة ب بل تصريح بإبطال تزكيتهم. وأن الذين زكوا أنفسهم لا حظ لهم في تزكية الله، وأنهم ليسوا ممن يشاء الله تزكيته، ولو لم يذكر بل فقيل و {اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} لكان لهم مطمع أن يكونوا ممن زكاه الله تعالى.
ومعنى {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي أن الله لم يحرمهم ما هم به أحرياء، وأن تزكية الله غيرهم لا تعد ظلما لهم لأن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل ولا يظلم أحدا.
والفتيل: شبه خيط في شق نواة التمرة، وقد شاع استعارته للقلة إذ هو لا ينتفع به ولا له مرأى واضح.
وانتصب {فتيلا} على النيابة عن المفعول المطلق، لأنه على معنى التشبيه، إذ التقدير: ظلما كالفتيل، أي بقدره، فحذفت أداة التشبيه، وهو كقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40].
وقوله {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} جعل افتراءهم الكذب، لشدة تحقق وقوعه، كأنه أمر مرئي ينظره الناس بأعينهم، وإنما هو مما يسمع ويعقل، وكلمة {وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} نهاية في بلوغه غاية الإثم كما يؤذن به تركيب كفى به كذا، وقد تقدم القول في كفى عند قوله آنفا {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [الفتح:28].
[52.51] {أََلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} .

أعيد التعجيب من اليهود، الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، بما هو أعجب من حالهم التي مر ذكرها في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} [النساء:44]؛ فإن إيمانهم بالجبت والطاغوت وتصويبهم للمشركين تباعد منهم عن أصول شرعهم بمراحل شاسعة، لأن أول قواعد التوراة وأولى كلماتها العشر هي لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالا منحوتا، لا تسجد لهن ولا تعبدهن. وتقدم بيان تركيب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} آنفا في سورة آل عمران [23].
والجبت: كلمة معربة من الحبشية، أي الشيطان واليحر؛ لأن مادة: ج - ب - ت مهملة في العربية، فتعين أن تكون هذه الكلمة دخيلة. وقيل: أصلها جبس: وهو ما لا خير فيه، فأبدلت السين تاء كما أبدلت في قول علباء بن أرقم:
يا لعن الله بني السعلات، عمرو بن يربوع شرار النات، ليسوا أعفاء ولا أكيات، أي شرار الناس ولا بأكياس، وكما قالوا: الجت بمعنى الجس.
والطاغوت: الأصنام كذا فسره الجمهور هنا ونقل عن مالك بن أنس. وهو اسم يقع على الواحد والجمع فيقال: للصنم طاغوت وللأصنام طاغوت، فهو نظير طفل وفلك. ولعل التزام اقترانه بلام تعريف الجنس هو الذي سوغ إطلاقه على الواحد والجمع نظير الكتاب والكتب. ثم لما شاع ذلك طردوه حتى في حالة تجرده عن اللام، قال تعالى {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60] فأفرده، وقال {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر:17]، وقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ} [البقرة:257] الخ. وهذا الاسم مشتق من طغى يطغوا إذا تعاظم وترفع، وأصله مصدر بوزن فعلوت للمبالغة، مثل: رهبوت، وملكوت، ورحموت، وجبروت، فأصله طغووت فوقع فيه قلب مكاني بتقديم لام الكلمة على عينها فصار طوغوت بوزن فلعوت، والقصد من هذا القلب تأتي إبدال الواو ألفا بتحركها وانفتاح ما قبلها، وهم قد يقلبون حروف الكلمة ليتأتى الإبدال كما قلبوا أرءام جمع ريم إلى آرام ليتأتى إبدال الهمزة الثانية الساكنة ألفا بعد الأولى المفتوحة، وقد ينزلون هذا الاسم منزلة المفرد فيجمعونه جمع تكسير على طواغيت ووزنه فعاليل، وورد في الحديث: لا تحلفوا بالطواغيت. وفي كلام ابن المسيب في صحيح البخاري: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت.
وقد يطلق الطاغوت على عظيم أهل الشرك كالكاهن، لأنهم يعظمون لأجل

أصنامهم كما سيأتي في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] وفيهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، فإنهم بعد وقعة أحد طمعوا أن يسعوا في استئصال المسلمين، فخرجوا إلى مكة ليحالفوا المشركين على قتال المسلمين، فنزل كعب عند أبي سفيان، ونزل بقيتهم في دور قريش، فقال لهم المشركون أنتم أهل كتاب ولعلكم أن تكونوا أدنى إلى محمد وأتباعه منكم إلينا فلا نأمن مكركم فقالوا لهم إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعوا إليه محمد وأنتم أهدى سبيلا فقال لهم المشركون فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا، ونزلت هذه الآية إعلاما من الله لرسوله بما بيته اليهود وأهل مكة.
واللام في قوله {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} لام العلة، أي يقلون لأجل الذين كفروا وليس لام تعدية فعل القول. وأريد بهم مشركوا مكة وذلك اصطلاح القرآن في إطلاق صفة الكفر أنه الشرك، والإشارة بقوله {هَؤُلاءِ أَهْدَى} إلى الذين كفروا، وهو حكاية للقول بمعناه، لأنهم إنما قالوا أنتم أهدى من محمد وأصحابه، أو قال بعض اليهود لبعض في شأن أهل مكة {هَؤُلاءِ أَهْدَى}، أي حين تناجوا وزوروا ما سيقولونه، وكذلك قوله {مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} حكاية لقولهم بالمعنى نداء على غلطهم، لأنهم إنما قالوا هؤلاء أهدى من محمد وأتباعه وإذ كان محمد وأتباعه مؤمنين فقد لزم من قولهم: إن المشركين أهدى من المؤمنين. وهذا محل التعجيب.
وعقب التعجيب بقوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} . وموقع اسم الإشارة هنا في نهاية الرشاقة، لأن من بلغ من وصف حاله هذا المبلغ صار كالمشاهد، فناسب بعد قوله {ألم تر} أن يشار إلى هذا الفريق المدعى أنه مرئي، فيقال: أولئك. وفي اسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما سيذكر من الحكم لأجل ما تقدم من أحوالهم.
والصلة التي في قوله {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} ليس معلوما للمخاطبين اتصاف المخبر عنهم بها اتصاف من اشتهر بها؛ فالمقصود أن هؤلاء هم الذين إن سمعتم بقوم لعنهم الله فهم هم.
ويجوز أن يكون المسلمون قد علموا أن اليهود ملعونون، فالمقصود من الصلة هو ما عطف عليها بقوله {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} . والموصول على كلا الاحتمالين فيه إيماء إلى تعليل الإخبار الضمني عنهم: بأنهم لا نصير لهم، لأنهم لعنهم الله، والذي

يلعنه لا نصير له. وهذا مقابل قوله في شأن المسلمين والله أعلم بأعدائكم {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} [النساء:45].
[55,53] {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} .
أم للإضراب الانتقالي، وهي تؤذن بهمزة استفهام محذوفة بعدها، أي: بل ألهم نصيب من الملك فلا يؤتون الناس نقيرا.
والاستفهام إنكاري حكمه حكم النفي. والعطف بالفاء على جملة {لَهُمْ نَصِيبٌ} ، وكذلك إذن هي جزاء لجملة {لَهُمْ نَصِيبٌ} ، واعتبر الاستفهام داخلا على مجموع الجملة وجزائها معا، لأنهم ينتفي إعطاؤهم الناس نفيرا على تقدير ثبوت الملك لهم لا على انتفائه. وهذا الكلام تهكم عليهم في انتظارهم أن يرجع إليهم ملك إسرائيل، وتسجيل عليهم بالبخل الذي لا يؤاتي من يرجون الملك. كما قال أبو الفتح البستي:
إذا ملك لم يكن ذا هبه
...
فدعه فدولته ذاهبه وشحهم
وبخلهم معروف مشهور.
والنقير: شكلة في النواة كالدائرة، يضرب بها المثل في القلة.
ولذلك عقب هذا الكلام بقوله {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
والاستفهام المقدر بعد أم هذه إنكار على حسدهم، وليس مفيدا لنفي الحسد لأنه واقع. والمراد بالناس النبي صلى الله عليه وسلم، والفضل النبوة، أو المراد به النبي والمؤمنون، والفضل الهدى والإيمان.
وقوله {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ} عطف على مقدر من معنى الاستفهام الإنكاري، وتوجيها للإنكار عليهم، أي فلا بدع فيما حسدوه إذ قد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك.
وآل إبراهيم: أبناؤه وعقبه ونسله، وهو داخل في الحكم لأنهم إنما أعطوه لأجل كرامته عند الله ووعد الله إياه بذلك. وتعريف الكتاب تعريف الجنس، فيصدق بالمتعدد، فيشمل صحف إبراهيم، وصحف موسى، وما أنزل بعد ذلك. والحكمة:

النبوة. والملك: هو ما وعد الله به إبراهيم أن يعطيه ذريته وما آتى الله داود وسليمان وملوك إسرائيل.
وضمير {منهم} يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {يحسدون} . وضمير ب يعود إلى الناس المراد منه محمد صلى الله عليه وسلم: أي فمن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من آمن بمحمد، ومنهم من أعرض. والتفريع في قوله {فمنهم} على هذا التفسير ناشيء على قوله {أم يحسدون الناس} . ويجوز أن يعود ضمير {فمنهم} إلى آل إبراهيم، وضمير {به} إلى إبراهيم، أي فقد آتيناهم ما ذكر. ومن آله من آمن به، ومنهم من كفر مثل أبيه آزر، وامرأة ابن أخيه لوط، أي فليس تكذيب اليهود محمدا بأعجب من ذلك، {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء:77]، ليكون قد حصل الاحتجاج عليهم في الأمرين في إبطال مستند تكذيبهم، بإثبات النبوة ليس ببدع، وأن محمدا من آل إبراهيم، فليس إرساله بأعجب من إرسال موسى. وفي تذكيرهم بأن هذه سنة الأنبياء حتى لا يعدوا تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم ثلمة في نبوته، إذ لا يعرف رسول أجمع أهل دعوته على تصديقه من إبراهيم فمن بعده.
وقوله {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} تهديد ووعيد للذين يؤمنون بالجبت والطاغوت. وتفسير هذا التركيب تقدم في قوله تعالى {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً} من هذه السورة [النساء:45].
[57,56] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} .
تهديد ووعيد لجميع الكافرين، فهي أعم مما قبلها، فلها حكم التذييل، ولذلك فصلت. والإصلاء: مصدر أصلاه، ويقال: صلاه صليا، ومعناه شي اللحم على النار، وقد تقدم الكلام على صلى عند قوله تعالى {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] وقوله {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} في هذه السورة [النساء:30]. وتقدم أيضا الكلام على سوف في الآية الأخيرة. {ونصليهم} بضم النون من الإصلاء. و {نضجت} بلغت نهاية الشيء، يقال: نضج الشواء إذا بلغ حد الشيء، ويقال: نضج الطبيخ إذا بلغ حد الطبخ، والمعنى: كامن احترقت جلودهم، فلم يبق فيها حياة وإحساس، بدلناهم، أي عوضناهم جلودا غيرها،

والتبديل يقتضي المغايرة كما تقدم في قوله في سورة البقرة [النساء:61] {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} . فقوله {غيرها} تأكيد لما دل عليه فعل التبديل. وانتصب {نارا} على أنه مفعول ثان لأنه من باب أعطى.
وقوله {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} تعليل لقوله {بدلناهم} لأن الجلد هو الذي يوصل إحساس العذاب إلى النفس بحسب عادة خلق الله تعالى. فلو لم يبدل الجلد بعد احتراقه لما وصل عذاب النار إلى النفس. وتبديل الجلد مع بقاء نفس صاحبه لا ينافي العدل لأن الجلد وسيلة إبلاغ العذاب وليس هو المقصود بالتعذيب، ولأنه ناشيء عن الجلد الأول كما أن إعادة الأجسام في الحشر بعد اضمحلالها لا يوجب أن تكون أناسا غير الذين استحقوا الثواب والعقاب لأنها لما أودعت النفوس التي اكتسبت الخير والشر فقد صارت هي هي ولا سيما إذا كانت إعادتها عن إنبات من إعجاب الأذناب. حسبما ورد به الأثر، لأن الناشيء عن الشيء هو منه كالنخلة من النواة.
وقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} واقع موقع التعليل لما قبله، فالعزة يتأتى بها تمام القدرة في عقوبة المجترئ على الله، والحكمة يتأتى بها تلك الكيفية في إصلائهم النار.
وقوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ذكر هنا للمقابلة وزيادة الغيظ للكافرين. واقتصر من نعيم الآخرة على لذة الجنات والأزواج الصالحات، لأنهما أحب اللذات المتعارفة للسامعين، فالزوجة الصالحة آنس شيء للإنسان، والجنات محل النعيم وحسن النظر.
وقوله {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} هو من تمام محاسن الجنات، لأن الظل إنما يكون مع الشمس، وذلك جمال الجنات ولذة التنعيم برؤية النور مع انفتاح حره. ووصف بالظليل وصفا مشتقا من اسم الموصوف للدلالة على بلوغه الغاية في جنسه، فقد يأتون بمثل هذا الوصف بوزن فعيل: كما هنا، وقولهم: داء دوي، ويأتون به بوزن أفعل: كقولهم: ليل ألليل، ويوم أيوم، ويأتون بوزن فاعل: كقولهم: شعر شاعر، ونصب ناصب.
[58] {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} .
استئناف ابتدائي قصد منه الإفاضة في بيان شرائع العدل والحكم، ونظام الطاعة،

وذلك من الأعراض التشريعية الكبرى التي تضمنتها هذه السورة، ولا يتعين تطلب المناسبة بينه وبين ما سبقه، فالمناسبة هي الانتقال من أحكام تشريعية إلى أحكام أخرى في أغراض أخرى. وهنا مناسبة، وهي أن ما استطرد من ذكر أحوال أهل الكتاب في تحريفهم الكلم عن مواضعه، وليهم ألسنتهم بكلمات فيها توجيه من السب، وافترائهم على الله الكذب، وحسدهم بإنكار فضل الله إذ آتاه الرسول والمؤمنين، كل ذلك يشتمل على خيانة أمانة الدين، والعلم، والحق، والنعمة، وهي أمانات معنوية، فناسب أن يعقب ذلك بالأمر بأداء الأمانة الحسية إلى أهلها ويتخلص إلى هذا التشريع.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} صريحة في الأمر والوجوب، مثل صراحة النهي في قوله في الحديث "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم". وإن فيها لمجرد الاهتمام بالخبر لظهور أن مثل الخبر لا يقبل الشك حتى يؤكد لأنه إخبار عن إيجاد شيء لا عن وجوه، فهو والإنشاد سواء.
والخطاب لكل من يصلح لتلقي هذا الخطاب والعمل به من كل مؤتمن على شيء، ومن كل من تولى الحكم بين الناس في الحقوق.
والأداء حقيقته في تسليم ذات لمن يستحقها، يقال: أدى إليه كذا، أي دفعه وسلمه، ومنه أداء الدين. وتقدم في قوله تعالى {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} في سورة آل عمران [آل عمران:75]. وأصل أدى أن يكون مضاعف أدى بالتخفيف بمعنى أوصل، لكنهم أهملوا أدى المخفف واستغنوا عنه بالمضاعف.
ويطلق الأداء مجازا على الاعتراف والوفاء بشيء، وعلى هذا فيطلق أداء الأمانة على قول الحق والاعتراف به وتبليغ العلم والشريعة على حقها. والمراد هنا هو الأول من المعنيين، ويعرف حكم غيره منهما أو من أحدهما بالقياس عليه قياس الأدون.
والأمانة: الشيء الذي يجعله صاحبه عند شخص ليحفظه إلى أن يطلبه منه، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} في سورة البقرة [283]. وتطلق الأمانة مجازا على ما يجب على المكلف إبلاغه إلى أربابه ومستحقيه من الخاصة والعامة كالدين والعلم والعهود والجوار والنصيحة ونحوها، وضدها الخيانة في الإطلاقين. والأمر للوجوب.
والأمانات من صيغ العموم. فلذلك قال جمهور العلماء فيمن أمنه رجل على شيء

وكان للأمين حق عند المؤتمن جحده إياه: إنه لا يجوز له أخذ الأمانة عوض حقه لأن ذلك خيانة، ومنعه مالك في المدونة، وعن ابن عبد الحكم: أنه يجوز له أن يجحده بمقدار ما عليه له، وهو قول الشافعي. قال الطبري عن ابن عباس، وزيد بن أسلم، وشهر بن حوشب، ومكحول: أن المخاطب ولاة الأمور، أمرهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها. وقيل: نزلت في أمر عثمان بن طلحة بن أبي طلحة.
وأهل الأمانة هم مستحقوها، يقال: أهل الدار، أي أصحابها. وذكر الواحدي في أسباب النزول، بسند ضعيف: أن الآية نزلت يوم فتح مكة إذ سلم عثمان بن طلحة ابن أبي طلحة العبدري الحجبي كفتاح الكعبة للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت سدانة الكعبة بيده، وهو من بني عبد الدار وكانت السدانة فيهم، فسأل العباس بن عبد المطلب من رسول الله أن يجعل له سدانة الكعبة يضمها من السقاية، وكانت السقاية بيده، وهي في بني هاشم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة وابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، فدفع لهما مفتاح الكعبة وتلا هذه الآية، قال عمر ابن الخطاب: وما كنت سمعتها منه قبل ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن طلحة "خذوها خالدة تالدة لا ينتزعها منكم إلا ظالم" ، ولم يكن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة أخذ انتزاع، ولكنه أخذه ينتظر الوحي في شأنه، لأن كون المفتاح بيد عثمان بن طلحة مستصحب من قبل الإسلام، ولم يغير الإسلام حوزه إياه، فلما نزلت الآية تقرر حق بني عبد الدار فيه بحكم الإسلام، فبقيت سدانة الكعبة في بني عبد الدار، ونزل عثمان بن طلحة عنها لابن عمه شيبة بن عثمان، وكانت السدانة من مناصب قريش في الجاهلية1 فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم بعضها في خطبة يوم الفتح أو حجة الوداع، ما عدا السقاية والسدانة.
فإطلاق اسم الأمانة في الآية حقيقة، لأن عثمان سلم مفتاح الكعبة للنبي صلى الله عليه وسلم دون أن يسقط حقه.
ـــــــ
1 مناصب قريش في الجاهلية وتسمى مآثر قريش هي: السقاية وهي سقي الحجيج من ماء زمزم وكانت لبني هاشم والسدانة بكسر السين وهي حجابة الكعبة وهي لبني عبد الدار والسفارة لبني عدي والرفادة بكسر الراء وهي أموال تجمعها قريش لإعانة الجاج المعوزين وهي لبني نوفل والديات والحمالات وهي لبني تيم والراية تسمى العقاب وهي لبني أمية والمشورة لبني أسد بن عبد العزى والأعنة والقبة وهي شئون الحرب كانوا يضربون قبة ويجتمعون إليها عند تجهيز الجيوش وهي لبني مخزوم والحكومة وأموال الآلهة لبني سهم والإزلام لبني حمج.

والأداء حينئذ مستعمل في معناه الحقيقي، لأن الحق هنا ذات يمكن إيصالها بالفعل لمستحقيها، فتكون الآية آمره بجميع أنواع الإيصال والوفاءات، ومن جملة ذلك دفع الأمانات الحقيقة، فلا مجاز في لفظ تؤدوا.
وقوله {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} عطف {أَنْ تَحْكُمُوا} على {أن تؤدوا} وفصل بين العاطف والمعطوف الظرف، وهو جائز، مثل قوله {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة:201] وكذلك في عطف الأفعال على الصحيح: مثل {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:129، 130].
والحكم مصدر حكم بين المتنازعين، أي اعتنى بإظهار المحق منهما من المبطل، أو إظهار الحق لأحدهما وصرح بذلك، وهو مشتق من الحكم بفتح الخاء وهو الردع عن فعل ما لا ينبغي، ومنه سميت حكمة اللجام، وهي الحديدة التي تجعل في فم الفرس، ويقال: أحكم فلانا، أي أمسكه.
والعدل: ضد الجور، فهو في اللغة التسوية، يقال: عدل كذا بكذا، أي سواه به ووازنه عدلا {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، ثم شاع إطلاقه على إيصال الحق إلى أهله، ودفه المعتدي على الحق عن مستحقه، إطلاقا ناشئا عما اعتاده الناس أن الجور يصدر من الطغاة الذين لا يعدون أنفسهم سواء مع عموم الناس، فهم إن شاءوا عدلوا وأنصفوا، وإن شاءوا جاروا وظلموا، قال لبيد:
ومقسم يعطي العشيرة حقها
...
ومغذمر لحقوقها هضامها1
فأطلق لفظ العدل الذي هو التسوية على تسوية نافعة يحصل بها الصلاح والأمن، وذلك فك الشيء من يد المعتدي، لأنه تظهر فيه التسوية بين المتنازعين، فهو كناية غالية، ومظهر ذلك هو الحكم لصاحب الحق بأخذ حقه ممن اعتدى عليه، ولذلك قال تعالى هنا {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا} ، ثم توسعوا في هذا الإطلاق حتى صار يطلق على إبلاغ الحق إلى ربه ولو لم يحصل اعتداء ولا نزاع.
والعدل: مساواة بين الناس أو بين أفراد أمة: في تعيين الأشياء لمستحقها، وفي تمكين كل ذي حق من حقه، بدون تأخير، فهو مساواة في استحقاق الأشياء وفي وسائل تمكينها بأيدي أربابها، فالأول هو العدل في تعيين الحقوق، والثاني هو العدل في التنفيذ،
ـــــــ
1 المغذمر ذو الغذمرة وهي ظهور الغضب في القول والهضام صاحب الهضم وهو الكسر والظلم.

وليس العدل في توزيع الأشياء بين الناس سواء بدون استحقاق.
فالعدل وسط بين طرفين، هما: الإفراط في تخويل ذي الحق حقه، أي بإعطائه أكثر من حقه، والتفريط في ذلك، أي بالإجحاف له من حقه، وكلا الطرفين يسمى جورا، وكذلك الإفراط والتفريط في تنفيذ الإعطاء بتقديمه على وقته، كإعطاء المال بيد السفيه، أو تأخيره كإبقاء المال بيد الوصي بعد الرشد، ولذلك قال تعالى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} إلى قوله {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:5، 6]؛ فالعدل يدخل في جميع المعاملات. وهو حسن في الفطرة لأنه كما يصد المعتدي عن اعتدائه، كذلك يصد غيره عن الاعتداء عليه، كما قال تعالى {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]. وإذ قد كان العدل بهذه الاعتبارات تجول في تحديده إفهام مخطئة تعين أن تسن الشرائع لظبطه على حسب مدارك المشرعين ومصطلحات المشرع لهم، على أنها معظمها لم يسلم من تحريف لحقيقة العدل في بعض الأحوال، فإن بعض القوانين أسست بدافعة الغضب والأنانية، فتضمنت أخطاء فاحشة مثل القوانين التي يمليها الثوار بدافع الغضب على من كانوا متولين الأمور قبلهم، وبعض القوانين المتفرعة عن تحيلات وأوهام، كقوانين أهل الجاهلية والأمم العريقة في الوثنية.
ونجد القوانين التي سنها الحكماء أمكن في تحقيق منافع العدل مثل قوانين أثنيه وإسبرطة، وأعلى القوانين هي الشرائع الإلهية لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم، وأعظمها شريعة الإسلام لابتنائها على أساس المصالح الخالصة أو الراجحة، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالة، فإنها لا تعبأ بالأنانية والهوى، ولا بعوائد الفساد، ولأنها لا تبنى على مصالح قبيلة خاصة، أو بلد خاص، بل تبتني على مصالح النوع البشري وتقويمه وهديه إلى سواء السبيل، ومن أجل هذا لم يزل الصالحون من القادة يدونون بيان الحقوق حفظا للعدل بقدر الإمكان وخاصة الشرائع الإلهية، قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] أي العدل. فمنها المنصوص عليه على لسان رسول البشرية ومنها ما استنبطه علماء تلك الشريعة فهو مدرج فيها ونلحق بها.
وإنما قيد الأمر بالعدل بحالة التصدي للحكم بين الناس، وأطلق الأمر برد الأمانات إلى أهلها عن التقييد: لأن كل أحد لا يخلوا من أن تقع بيده أمانة لغيره لا سيما على اعتبار تعميم المراد بالأمانات الشامل لما يجب على المرء إبلاغه لمستحقه كما تقدم،

بخلاف العدل فإنما يؤمر به ولاة الحكم بين الناس، وليس كل أحد أهلا لتولي ذلك فتلك نكتة قوله {وََإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ} . قال الفخر: {وََإِذَا حَكَمْتُمْ} هو كالتصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم بل ذلك لبعضهم، فالآية مجملة في أنه بأي طريق يصير حاكما ولما دلت الدلائل على أنه لا بد للأمة من إمام وأنه ينصب القضاة والولاة وصارت تلك الدلائل لهذه الآية.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ} واقعة موقع التحريض على امتثال الأمر، فكانت بمنزلة التعليل ، وأغنت إن في صدر الجملة عن ذكر فاء التعقيب، كما هو الشأن إذا جاءت إن للاهتمام دون التأكيد.
ونعما أصله نعم ما ركبت نعم مع ما بعد طرح حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة، وأدغم الميمان وحركت العين الساكنة بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين.
وما جوز النحاة أن تكون اسم موصول، أو نكرة موصوفة، أو نكرة تامة. والجملة التي بعد ما تجري على ما يناسب معنى ما ، وقيل: ما زائدة كافة نعم عن العمل.
والوعظ: التذكير والنصح، وقد يكون فيه زجر وتخويف.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} أي عليما بما تفعلون وما تقولون، وهذه بشارة ونذارة.
[59] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .
لما أمر الله الأمة بالحكم بالعدل عقب ذلك بخطابهم بالأمر بطاعة الحكام ولاة أمورهم، لأن الطاعة لهم هي مظهر نفوذ العدل الذي يحكم به حكامهم، فطاعة الرسول تشتمل على احترام العدل المشروع لهم وعلى تنفيذه، وطاعة ولاة الأمور تنفيذ للعدل، وأشار بهذا التعقيب إلى أن الطاعة المأمور بها هي الطاعة في المعروف، ولهذا قال علي حق على إمام أن يحكم بالعدل ويودي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا. أمر الله بطاعة الله ورسوله وذلك بمعنى طاعة الشريعة، فإن الله هو منزل

الشريعة ورسوله مبلغها والحاكم بها في حضرته.
وإنما أعيد فعل {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} مع أن حرف العطف يغني عن إعادته إظهارا للاهتمام بتحصيل طاعة الرسول لتكون أعلى مرتبة من طاعة أولي الأمر، ولينبه على وجوب طاعته فيما يأمر به، ولو كان أمره غير مقترن بقرائن تبليغ الوحي لئلا يتوهم السامع أن طاعة الرسول المأمور بها ترجع إلى طاعة الله فيما يبلغه عن الله دون ما يأمر به في غير التشريع، فإن امتثال أمره كله خير، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا سعيد بن المعلي، وأبو سعيد يصلي، فلم يجبه فلما فرغ من صلاته جاءه فقال له ما منعك أن تجيبني فقال كنت أصلي فقال ألم يقل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال:24]، ولذلك كانوا إذا لم يعلموا مرادا الرسول من أمره ربما سألوه: أهو أمر تشريع أم هو الرأي والنظر، كما قال له الحجاب بن المنذر يوم بدر حين نزل جيش المسلمين: أهذا منزل أنزله الله ليس لنا أن نجتازه أم هو الرأي والحرب والمكيدة? قال: "بل الرأي والحرب والمكيدة.." الحديث. ولما كلم بريرة في أن تراجع زوجها مغيثا بعد أن عتقت، قالت له: أتأمر يا رسول الله أم تشفع، قال: "بل أشفع" ، قالت: لا أبقى معه.
ولهذا لم يعد فعل فردوه في قوله {والرسول} لأن ذلك في التحاكم بينهم، والتحاكم لا يكون إلا للأخذ بحكم الله في شرعه، ولذلك تكريرا لفعل الطاعة في نظائر هذه الآية التي لم يعطف فيها أولوا الأمر مثل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20] وقوله {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52]
إذ طاعة الرسول مساوية لطاعة الله لأن الرسول هو المبلغ عن الله فلا يتلقى أمر الله إلا منه، وهو منفذ أمر الله بنفسه، فطاعته طاعة تلق وطاعة امتثال، لأنه مبلغ ومنفذ، بخلاف أولي الأمر فإنهم منفذون لما بلغه الرسول فطاعتهم طاعة امتثال خاصة. ولذلك كانوا إذا أمرهم بعمل في غير أمور التشريع، يسألونه أهذا أمر أم رأي وإشارة فإنه لما قال للذين يأبرون النخل "لو تفعلوا لصلح".
وقوله {وَأُولِي الْأَمْرِ} يعني ذويه وهم أصحاب الأمر والمتولون له. والأمر هو الشأن، أي ما يهتم به من الأحوال والشؤون، فأولوا الأمر من الأمة ومن القوم هم الذين يسند الناس إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنه من خصائصهم، فلذلك يقال لهم: ذوو الأمر وأولوا الأمر، ويقال في ضد ذلك: ليس له من

الأمر شيء. ولما أمر الله بطاعة أولي الأمر علمنا أن أولي الأمر في نظر الشريعة طائفة معينة، وهم قدوة الأمة وأمناؤها، فعلمنا أن تلك الصفة تثبت لهم بطرق شرعية إذ أمور الإسلام لا تخرج عن الدائرة الشرعية، وطريق ثبوت هذه الصفة لهم إما الولاية المسندة إليهم من الخليفة ونحوه، أو من جماعات المسلمين إذا لم يكن لهم سلطان، وإما صفات الكمال التي تجعلهم محل اقتداء الأمة بهم وهي الإسلام والعلم والعدالة، فأهل العلم العدول: من أولي الأمر لأن صفة العلم لا تحتاج إلى ولاية، بل هي صفة قائمة بأربابها الذين اشتهروا بين الأمة بها، لما جرب من علمهم واتقائهم في الفتوى والتعليم. قال مالك أولوا الأمر: أهل القرآن والعلم يعني أهل العلم بالقرآن والاجتهاد. فأولوا الأمر هنا هم من عدا الرسول من الخليفة إلى والي الحسبة، ومن قواد الجيوش ومن فقهاء الصحابة والمجتهدين إلى العلم في الأزمنة المتأخرة، وأولوا الأمر هم الذين يطلق عليهم أيضا أهل الحل والعقد.
وإنما أمر بذلك بعد الأمر بالعدل وأداء الأمانة لأن هذين الأمرين قوام نظام الأمة وهو تناصح الأمراء والرعية وانثبات الثقة بينهم.
ولما كانت الحوادث لا تخلوا من حدوث الخلاف بين الرعية، وبينهم وبين ولاة أمورهم، أرشدهم الله إلى طريقة فصل الخلاف بالرد إلى الله وإلى الرسول، ومعنى الرد إلى الله الرد إلى كتابه، كما دل على ذلك قوله في نظيره {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [النساء:104]
ومعنى الرد {إِلَى الرَّسُولِ} [النساء:83] إنهاء الأمور إليه في حياته وحضرته، كما دل عليه قوله في نظيره وإلى الرسول فأما بعد وفاته أو في غيبته، فالرد إليه الرجوع إلى أقواله وأفعاله، والاحتذاء بسنته، وروى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكة يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" . وفي روايته عن العرباض ابن سارية أنه سمع رسول الله يخطب يقول "أيحسب أحدكم وهو متكئ على أريكته وقد يظن أن الله يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر" ، وأخرجه الترمذي من حديث المقدام. وعرض الحوادث على مقياس تصرفاته والصريح من السنة.
والتنازع: شدة الاختلاف، وهو تفاعل من النزع، أي الأخذ، قال الأعشى:

نازعتهم قضب الريحان متكئا
...
وقهوة مزة راووقها خضل
فأطلق التنازع على الاختلاف الشديد على طريق الاستعارة، لأن الاختلاف الشديد يشبه التجاذب بين شخصين، وغلب ذلك حتى ساوى الحقيقة، قال الله تعالى {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46] {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:62].
وضمير {تنازعتم} راجع للذين آمنوا فيشمل كل من يمكن بينهم التنازع، وهم من عدا الرسول، إذ لا ينازعه المؤمنون، فشمل تنازع العموم بعضهم مع بعض، وشمل تنازع ولاة الأمور بعضهم مع بعض، كتنازع الوزراء مع الأمير أو بعضهم مع بعض، وشمل تنازع الرعية مع ولاة أمورهم، وشمل تنازع العلماء بعضهم مع بعض في شؤون علم الدين. وإذا نظرنا إلى ما ذكر في سبب النزول نجد المراد ابتداء هو الخلاف بين الأمراء والأمة، ولذلك نجد المفسرين قد فسروه ببعض صور من هذه الصور، فليس مقصدهم قصر الآية على ما قسوا به. وأحسن عباراتهم في هذا قول الطبري: يعني فإن اختلفتم أيها المؤمنون أنتم فيما بينكم أو أنتم وأولوا أمركم فيه. وعن مجاهد فإن تنازع العلماء ردوه إلى الله.
ولفظ شيء نكرة متوغلة في الإبهام فهو في حيز الشرط يفيد العموم، أي في كل شيء، فيصدق بالتنازع في الخصومة على الحقوق، ويصدق بالتنازع في اختلاف الآراء عند المشاورة أو عند مباشرة عمل ما، كتنازع ولاة الأمور في إجراء أحوال الأمة. ولقد حسن موقع كلمة شيء هنا تعميم الحوادث وأنواع الاختلاف، فكان من المواقع الرشيقة في تقسيم عبد القاهر، وقد تقدم تحقيق مواقع لفظ شيء عند قوله تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} في سورة البقرة [155].
والرد هنا مجاز في التحاكم إلى الحاكم وفي تحكيم ذي الرأي عند اختلاف الآراء.
وحقيقته إرجاع الشيء إلى صاحبه مثل العارية والمغصوب، ثم أطلق على التخلي عن الانتصاف بتفويض الحكم إلى الحاكم، وعن عدم تصويب الرأي بتفويض تصويبه إلى الغير، إطلاقا على طريق الاستعارة، وغلب هذا الإطلاق في الكلام حتى ساوى الحقيقة.
وعموم لفظ شيء في سياق الشرط يقتضي عموم الأمر بالرد إلى الله والرسول، وعموم أحوال التنازع، تبعا لعموم الأشياء المتنازع فيها، فمن ذلك الخصومات والدعاوى في الحقوق، وهو المتبادر من الآية بادئ بدء بقرينة قوله عقبه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} فإن هذا

كالمقدمة لذلك فأشبه سبب نزول، ولذلك هو المتبادر وهو لا يمنع من عموم العام، ومن ذلك التنازع في طرق تنفيذ الأوامر العامة، كما يحصل بين أفراد الجيوش وبين بعض قوادهم. وقد قيل: إن الآية نزلت في نزاع حدث بين أمير سرية الأنصار عبد الله بن حذافة السهمي كما سيأتي، ومن ذلك الاختلاف بين أهل الحل والعقد في شؤون مصالح المسلمين، وما يرومون حمل الناس عليه.
ومن ذلك اختلاف أهل العلم في الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد والنظر في أدلة الشريعة.
فكل هذا الاختلاف والتنازع بأمور أصحابه برد أمره إلى الله والرسول. ورد كل نوع من ذلك يتعين أن يكون بحيث يرجى معه زوال الاختلاف، وذلك ببذل الجهد والوسع في الوصول إلى الحق الجلي في تلك الأحوال. فما روى عن مجاهد وميمون بن مهران في تفسير التنازع بتنازع أهل العلم إنما هو تنبيه على الفرد الأخفى من أفراد العموم، وليس تخصيصا للعموم.
وذكر الرد إلى الله في هذا مقصود منه مراقبة الله تعالى في طلب انجلاء الحق في مواقع النزاع، تعظيما لله تعالى، فإن الرد إلى الرسول يحصل به الرد إلى الله، إذ الرسول هو المنبئ عن مراد الله تعالى، فذكر اسم الله هنا هو بمنزلة ذكره في قوله {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] الآية.
ثم الرد إلى الرسول في حياة الرسول وحضوره ظاهر وهو المتبادر من الآية، وأما الرد إليه في غيبته أو بعد وفاته، فبالتحاكم إلى الحكام الذين أقامهم الرسول أو أمرهم فالتعيين، وإلى الحكام الذين نصبهم ولاة للحكم بين الناس بالشريعة ممن يظن به العلم بوجوه الشريعة وتصاريفها، فإن تعيين صفات الحكام وشروطهم وطرق توليتهم، فيما ورد عن الرسول من أدلة صفات الحكام، يقوم مقام تعيين أشخاصهم، وبالتأمل في تصرفاته وسنته ثم الصدر على ما يتبين من حال يظنها هي مراد الرسول لو سئل عنها في جميع أحوال النزاع في فهم الشريعة واستنباط أحكامها المسكوت عنها من الرسول، أو المجهول قوله فيها.
وقوله {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} تحريض وتحذير معا، لأن الإيمان بالله واليوم الآخر وازعان يزعان من مخالفة الشرع، والتعريض بمصالح الأمة للتلاشي، وعن الأخذ بالحظوظ العاجلة مع العلم بأنها لا ترضي الله وتضر الأمة، فلا جرم أن يكون دأب

المسلم الصادق الإقدام عند اتضاح المصالح، والتأمل عند التباس الأمر والصدر بعد عرض المشكلات على أصول الشريعة.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ} مع أنهم خوطبوا ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : أي إن كنتم تؤمنون حقا، وتلازمون واجبات المؤمن، ولذلك قال تعالى {ذَلِكَ خَيْرٌ} فجئ باسم الإشارة للتنويه، وهي إشارة إلى الرد المأخوذ من فردوه. وخير اسم لما فيه نفع، وهو ضد الشر، وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة، والمراد كون الخير وقوة الحسن. والتأويل: مصدر أول الشيء إذا أرجعه، مشتق من آل يؤول إذا رجع، وهو هنا بمعنى أحسن ردا وصرفا. أخرج البخاري عن ابن عباس قال: نزل قوله {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي في سرية.وأخرج في كتاب المغازي عن على قال: بعث النبي سرية فاستعمل عليها رجلا الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب، فقال أليس أمركم النبي أن تطيعوني قالوا بلى قال فأجمعوا حطبا فجمعوا، قال أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال ادخلوها، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون فررنا إلى النبي من النار، فما زالوا حتى خمدت النار فسكن غضبه فبلغ ذلك النبي فقال "لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف" .
فقول ابن عباس: نزلت في عبد الله بن حذافة، يحتمل أنه أراد نزلت حين تعيينه أميرا على السرية وأن الأمر الذي فيها هو الذي أوجب تردد أهل السرية في الدخول في النار، ويحتمل أنها نزلت بعد ما بلغ خبرهم رسول الله، فيكون المقصود منها هو قوله {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} الخ، ويكون ابتداؤها بالأمر بالطاعة لئلا يظن أن ما فعله ذلك الأمير يبطل الأمر بالطاعة.
[61,60] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}.
استئناف ابتدائي للتعجيب من حال هؤلاء، ناسب الانتقال إليه من مضمون جملة {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء"59]. والموصول مراد به قوم معروفون وهم فريق من

المنافقين الذين كانوا من اليهود وأظهروا الإسلام لقوله {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ} ، ولذلك قال {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}. وقد اختلفت الروايات في سبب نزول هذه الآية اختلافا متقاربا: فعن قتادة والشعبي أن يهوديا اختصم مع منافق اسمه بشر فدعا اليهودي المنافق إلى التحاكم عند النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه أنه لا يأخذ الرشوة ولا يجور في الحكم، ودعا المنافق إلى التحاكم عند كاهن من جهينة كان بالمدينة.
وعن ابن عباس أن اليهودي دعا المنافق إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن المنافق دعا إلى كعب ابن الأشرف. فأبى اليهودي وانصرفا معا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي، فلما خرجا، قال المنافق: لا أرضى، انطلق بنا إلى أبي بكر، فحكم أبو بكر بمثل حكم رسول الله، فقال المنافق: انطلق بنا إلى عمر، فلما بلغ عمر، وأخبره اليهودي الخبر وصدقه المنافق، قال عمر: رويدكما حتى أخرج إليكما، فدخل وأخذ سيفه ثم ضرب به المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنزلت الآية وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل فلقبه النبي صلى الله عليه وسلم الفاروق.
وقال السدي: كان بين قريظة والخزرج حلف، وبين النضير والأوس حلف، في الجاهلية وكانت النضير أكثر وأشرف، فكانوا إذا قتل قرظي نضيريا قتل به وأخذ أهل القتيل دية صاحبهم بعد قتل قاتله، وكانت الدية مائة وسق من تمر، وإذا قتل نضيري قرظيا لم يقتل به وأعطى ديته فقط: ستين وسقا. فلما أسلم نفر من قريظة والنضير قتل نضيري قرظيا واختصموا، فقالت النضير: نعطيكم ستين وسقا كما كنا اصطلحنا في الجاهلية، وقالت قريظة: هذا شيء فعلتموه في الجاهلية لأنكم كثرتم وقللنا فقهرتمونا، ونحن اليوم اخوة وديننا ودينكم واحد، فقال بعضهم وكان منافقا: انطلقوا إلى أبي بردة وكان أبو بردة كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه فيه. وقال المسلمون: لا بل ننطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية. وأبو بردة بدال بعد الراء على الصحيح، وكذلك وقع في مفاتيح الغيب وفي الإصابة لبن حجر، ووقع في كتب كثيرة بزاي بعد الراء وهو تحريف اشتبه بأبي برزة الأسلمي نضلة بن عبيد ولم يكن أبو برزة كاهنا قط. ونسب أبو بردة الكاهن بالأسلمي، وذكر بعض المفسرين: أنه كان في جهينة. وبعضهم ذكر أنه كان بالمدينة، وقال البغوي عن جابر بن عبد الله: كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها واحد في جهينة وواحد في أسلم، وفي كل حي واحد كهان.
وفي رواية عكرمة أن الذين عناهم الله تعالى ناس من أسلم تنافروا إلى أبي بردة

الأسلمي، وفي رواية قتادة: أن الآية نزلت في رجلين أحدهما اسمه بشر من الأنصار، والآخر من اليهود تدارءا في حق، فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه بأنه يقضي بالحق، ودعاه الأنصاري إلى التحاكم للكاهن لأنه علم أنه يرتشي، فيقضي له، فنزلت فيهما هذه الآية، وفي رواية الشعبي مثل ما قال قتادة، ولكنه وصف الأنصاري بأنه منافق. وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن الخصومة بين منافق ويهودي، فقال اليهودي لننطلق إلى محمد وقال المنافق بل نأتي كعب بن الأشرف اليهودي وهو الذي سماه الله الطاغوت.
وصيغة الجمع في قوله {الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} مراد بها واحد. وجيء باسم الموصول الجماعة لأن المقام مقام توبيخ، كقولهم: ما بال أقوام يقولون كذا، ليشمل المقصود ومن كان على شاكلته. والزعم: خبر كاذب، أو مشوب بخطأ، أو بحيث يتهمه الناس بذلك، فإن الأعشى لما قال يمدح قيسا بن معد يكرب الكندي:
ونبئت قيسا ولم أبله
...
كما زعموا خير أهل اليمن
غضب قيس وقال وما هو إلا الزعم، وقال تعالى {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7]، ويقول المحدث عن حديث غريب فزعم فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، أي لإلقاء العهدة على المخبر، ومنه ما يقع في كتاب سيبويه من قوله زعم الخليل، ولذلك قالوا: الزعم مطية الكذب.
ويستعمل الزعم في الخبر المحقق بالقرينة، كقوله:
زعم العواذل أنني في غمرة
...
صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي
فقوله {صدقوا} هو القرينة. ومضارعه مثلت العين، والأفصح فيه الفتح.
وقد كان الذين أرادوا التحاكم إلى الطاغوت من المنافقين، كما هو الظاهر، فإطلاق الزعم على إيمانهم ظاهر.
وعطف قوله {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} لأن هؤلاء المنافقين كانوا من اليهود، وقد دخل المعطوف في حيز الزعم فدل على أن إيمانهم بما أنزل من قبل لم يكن مطردا، فلذلك كان ادعاؤهم ذلك، لانتفاء إيمانهم بالتوراة في أحوال كثيرة مثل هذا، إذ لو كانوا يؤمنون بها حقا، لم يكونوا ليتحاكموا إلى الكهان، وشريعة موسى عليه السلام تحذر منهم.

وقوله {يريدون} أي يحبون محبة تبعث على فعل المحبوب.
والطاغوت هنا هم الأصنام، بدليل قوله {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} ، ولكن فسروه بالكاهن، أو بعظيم اليهود، كما رأيت في سبب نزول الآية. فإذا كان كذلك فهو إطلاق مجازي بتشبيه عظيم الكفر بالصنم المعبود لغلو قومه في تقديمه، وإما لأن الكاهن يترجم عن أقوال الصنم في زعمه، وقد تقدم اشتقاق الطاغوت عند قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] من هذه السورة. وإنما قال {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] أي يحب ذلك ويحسنه لهم، لأنه ألقى في نفوسهم الدعاء إلى تحكيم الكهان والانصراف عن حكم الرسول، أو المعنى: يريد أن يضلهم في المستقبل بسبب فعلتهم هذه لولا أن أيقظهم الله وتابوا مما صنعوا.
والضلال البعيد هو الكفر، ووصفه بالبعيد مجاز في شدة الضلال بتنزيله منزلة جنس ذي مسافة كان هذا الفرد منه بالغا غاية المسافة، قال الشاعر:
ضيعت حزمي في إبعادي الأملا
وقوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا} الآية أي إذا قيل لهم احضروا أو إيتوا، فإن تعال كلمة تدل على الأمر بالحصور والإقبال، فمفادها مفاد حرف النداء إلا أنها لا تنبيه فيها. وقد اختلف أئمة العربية في أنه فعل أو اسم فعل، والأصح أنه فعل لأنه مستق من مادة العلو، ولذلك قال الجوهري في الصحاح والتعالي والارتفاع، تقول منه، إذا أمرت: تعال يا رجل، ومثله في القاموس، ولأنه تتصل به ضمائر الرفع، وهو فعل مبني على الفتح على غير سنة فعل الأمر، فذلك البناء هو الذي حدا فريقا من أهل العربية على القول بأنه اسم فعل، وليس ذلك القول ببعيد، ولم يرد عن العرب غير فتح اللام، فلذلك كان كسر اللام في قول أبي فراس:
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا
...
تعالى أقاسمك الهموم تعالي
بكسر لام القافية المكسورة، معدودا لحنا.
وفي الكشاف أن أهل مكة أي في زمان الزمخشري يقولون تعالى للمرأة. فذلك من اللحن الذي دخل في اللغة العربية بسبب انتشار الدخلاء بينهم.
ووجه اشتقاق تعال من مادة العلو أنهم تخيلوا المنادي في علو والمنادى بالفتح في سفل، لأنهم كانوا يجعلون بيوتهم في المرتفعات لأنها أحصن لهم، ولذلك كان أصله

أن يدل على طلب حضور لنفع، قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} في سورة المائدة [104]: تعال نداء ببر، هذا أصله، ثم استعمل حيث البر وحيث ضده. وقال في تفسير آية النساء: وهي لفظة مأخوذة من العلو لما استعملت في دعاء الإنسان وجلبه صيغت من العلو تحسينا للأدب كما تقول: ارتفع إلى الحق ونحوه. واعلم أن تعال لما كانت فعلا جامدا لم يصح أن يصاغ منه غير الأمر، فلا تقول: تعاليت بمعنى حضرت، ولا تنهى عنه فتقول: لا تتعال. قال في الصحاح ولا يجوز أن يقال منه تعاليت ولا ينهى عنه. وفي الصحاح عقبه وتقول: قد تعاليت وإلى أي شيء أتعالى يعني أنه يتصرف في خصوص جواب الطلب لمن قال لك تعال، وتبعه في هذا صاحب اللسان وأغفل العبارة التي قبله، وأما صاحب تاج العروس فربما أخطأ إذ قال قال الجوهري: ولا يجوز أن يقال منه: تعاليت وإلى أي شيء أتعالى ولعل النسخة قد وقع فيها نقص أو خطأ من الناسخ لظنه في العبارة تكريرا، وإنما نبهت على هذا لئلا تقع في أخطاء وحيرة.
وتعالوا مستعمل هنا مجازا، إذ ليس ثمة حضور وإتيان، فهو مجاز في تحكيم كتاب الله وتحكيم الرسول في حضوره، ولذلك قال {إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} إذ لا يحكم الله إلا بواسطة كلامه، وأما تحكيم الرسول فأريد به تحكيم ذاته القوم المخبر عنهم كانوا من المنافقين وهم بالمدينة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. وصدودا مفعول مطلق للتوكيد، ولقصد التوصل بتنوين {صدودا} لإفادة أنه تنوين تعظيم.
[63,62] {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} .
تفريع على قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} [النساء:61] الآية، لأن الصدود عن ذلك يوجب غضب الله عليهم، فيوشك أن يصيبهم الله بمصيبة من غير فعل أحد، مثل انكشاف حالهم للمؤمنين فيعرفوا بالكفر فيصبحوا مهددين، أو مصيبة من أمر الله رسوله والمؤمنين بأن يظهروا لهم العداوة وأن يقتلوهم لنفاقهم فيجيئوا يعتذرون بأنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى أهل الطاغوت إلا قصد الإحسان إليهم وتأليفهم إلى الإيمان والتوفيق بينهم وبين المؤمنين. وهذا وعيد لأن {إذا} للمستقبل، فالفعلان بعدها: وهما {أصابتهم} و {جاؤوك} مستقبلان، وهو مثل قوله {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً}.
و {كيف} خبر مبتدأ محذوف معلوم من سياق الكلام: أي كيف حالهم حين تصيبهم مصيبة بسبب ما فعلوا فيجيئونك معتذرين.
والاستفهام مستعمل في التهويل، كما تقدم القول فيه في قوله تعالى آنفا {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}.
وتركيب كيف بك يقال إذا أريدت بشارة أو وعيد تعجيبا أو تهويلا. فمن الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لسراقة بن مالك: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى" بشارة بأن سواري كسرى سيقعان بيد جيش المسلمين، فلما أتى بسواري كسرى في غنائم فتح فارس ألبسها عمر بن الخطاب سراقة بن مالك تحقيقا لمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الثاني قوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران:25] وقد جمع الأمرين قوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] الآية.
وقوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} جاء باسم الإشارة لتمييزهم للسامعين أكمل تمييز، لأنهم قد حصل من ذكر صفاتهم ما جعلهم كالمشاهدين، وأراد بما في قلوبهم الكفر الذي أبطنوه وأمر رسوله بالإعراض عنهم.
وحقيقة الإعراض عدم الالتفات إلى الشيء بقصد التباعد عنه، مشتق من العرض بضم العين وهو الجانب، فلعل أصل الهمزة في فعل أعرض للدخول في الشيء، أي دخل في عرض المكان، أو الهمزة للصيرورة، أي صار ذا عرض، أي جانب، أي أظهر جانبه لغيره ولم يظهر له وجهه، ثم استعمل استعمالا شائعا في الترك والإمساك عن المخالطة والمحادثة، لأنه يتضمن الإعراض غالبا، يقال: أعرض عنه كما يقال: صد عنه، كقوله تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنفال:68] ولذلك كثر هذا اللفظ في أشعار المتيمين رديفا للصدود، وهذا أقرب المعاني إلى المعنى الحقيقي، فهو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم، وقد شاع ذلك في الكلام ثم أطلق على العفو وعد المؤاخذة بتشبيه حالة من يعفوا بحالة من لا يلتفت إلى الشيء فيوليه عرض وجهه، كما استعمل صفح في هذا المعنى مشتقا من صفحة الوجه،

أي جانبه، وهو أبعد عن المعنى الحقيقي من الأول لأنه مبني على التشبيه.
والوعظ: الأمر بفعل الخير وترك الشر بطريقة فيها تخويف وترقيق يحملان على ?الامتثال، والاسم منه الموعظة، وتقدم آنفا عند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58]. فهذا الإعراض إعراض صفح أو إعراض عدم الحزن من صدودهم عنك، أي لا تهتم بصدودهم، فإن الله مجازيهم، بدليل قوله {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} ، وذلك إبلاغ لهم في المعذرة، ورجاء لصلاح حالهم، شأن الناصح الساعي بكل وسيلة إلى الإرشاد والهدى.
والبليغ فعيل بمعنى بالغ بلوغا شديدا بقوة، أي: بالغا إلى نفوسهم متغلغلا فيها. وقوله {في أنفسهم} يجوز أن يتعلق بقوله {لآبليغا} ، وإنما قدم المجرور للاهتمام بإصلاح أنفسهم مع الرعاية على الفاصلة، ويجوز أن يتعلق بفعل قل لهم، أي {قل لهم} قولا في شأن أنفسهم، فظرفية في ظرفية مجازية، شبهت أنفسهم بظرف للقول.
[64] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} .
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}.
جملة معترضة في خلال الخبر عن قضية المنافق الذي تحاكم إلى الطاغوت. وهو رجوع إلى الغرض الأول، وهو الإنحاء عليهم في إعراضهم عن التحاكم إلى الرسول، وأن إعراضهم ذلك مؤذن بنفاقهم: ببيان أن معنى الإيمان الرضا بحكم الرسول إذ ما جاء الرسول إلا ليطاع فكيف يعرض عنه.
وقوله {بإذن الله} في موضع الحال من الضمير في يطاع أي متلبسا في ذلك بإذن الله أي بأمره ووصايته، إذ لا تظهر فائدة الشرائع بدون امتثالها. فمن الرسل من أطيع، ومنهم من عصي تارة أو دائما، وقد عصي موسى في مواقع، وعصى عيسى في معظم أمره، ولم يعص محمد من المؤمنين به المحقين إلا بتأويل، مثل ما وقع في يوم أحد إذ قال الله تعالى {وعصيتم} [آل عمران:152]، وإنما هو عصيان بتأول، ولكنه اعتبر عصيانا لكونه في الواقع مخالفة لأمر الرسول، ولذلك كان أكمل مظاهر الرسالة تأييد الرسول بالسلطان، وكون السلطان في شخصه لكيلا يكون في حاجة إلى غيره، وإنما تم هذا المظهر في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك وصف بأنه نبي الملاحم، وقد ابتدأت بوارق

ذلك في رسالة موسى عليه السلام، ولم تستكمل، وكملت لمحمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد:25] ولا أحسبه أراد برسله إلا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وكان هو المراد من الجمع لأنه الأكمل فيهم.
[64] {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}.
عطف على جملة {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء:62] توبيخا لهم على تحاكمهم إذ كان ذلك عصيانا، فإنهم ما كفاهم أن أعرضوا عن تحكيم الرسول حتى زادوا فصدوا عمن قال لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول. فلو استفاقوا حينئذ من علوائهم لعلموا أن إرادتهم أن يتحاكموا إلى الكفار والكهنة جريمة يجب الاستغفار منها ولكنهم أصروا واستكبروا. وفي ذكر لو وجعل {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} جوابا لها إشارة إلى أنهم لما لم يفعلوا فقد حرموا الغفران.
وكان فعل هذا المنافق ظلما لنفسه، لأنه أقحمها في معصية الله ومعصية الرسول، فجر لها عقاب الآخرة وعرضها لمصائب الانتقام في العاجلة.
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[65].
تفريع عن قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:60] وما بعده إذ تضمن ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا وهم يزعمون أنهم مؤمنون، فكان الزعم إشارة إلى انتفاء إيمانهم، ثم أردف بما هو أصرح وهو أن أفعالهم تنافي كونهم مؤمنين بقوله {لا يُؤْمِنُونَ} ، وأكده بالقسم وبالتوكيد اللفظي.
وأصل الكلام: فوربك لا يؤمنون، والعرب تأتي بحرف النفي قبل القسم إذا كان جواب القسم منفيا للتعجيل بإفادة أن ما بعد حرف العطف فسم على النفي لما تضمنته الجملة المعطوف عليها. فتقديم النفي للاهتمام بالنفي، كقول قيس بن عاصم:
فلا والله أشربها صحيحا
...
ولا أشفى بها أبدا سقيما

ويكثر أن يأتوا مع حرف النفي بعد العاطف بحرف نفي مثله في الجواب ليحصل مع الاهتمام التأكيد، كما في هذه الآية، وهو الاستعمال الأكثر، ولم أر في كلام العرب تقديم لا على حرف العطف إبطالا للكلام السابق، ووقع في قول أبي تمام:
لا والذي هو عالم أن النوى
...
صبر وأن أبا الحسين كريم
وليست لا هذه هي التي ترد مع فعل القسم مزيدة والكلام معها على الإثبات، نحو {لا أقسم} [القيامة:1 وفي غير القسم نحو {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد:29]، لأن تلك ليس الكلام معها على النفي، وهذه الكلام معها نفي، فهي تأكيد له على ما اختاره أكثر المحققين خلافا لصاحب الكشاف، ولا يلزم أن تكون مواقع الحرف الواحد متحدة في المواقع المتقاربة.
وقد نفي عن هؤلاء المنافقين أن يكونوا مؤمنين كما يزعمون في حال يظنهم الناس مؤمنين، ولا يشعر الناس بكفرهم، فلذلك احتاج الخبر للتأكيد بالقسم وبالتوكيد اللفظي، لأنه كشف لباطن حالهم. والمقسم عليه هو: الغاية، وما عطف عليها بثم، معا، فإن هم حكموا غير الرسول فيما شجر بينهم فهم غير مؤمنين، أي إذا كان انصرافهم عن تحكيم الرسول للخشية من جوره كما هو معلوم من السياق فافتضح كفرهم، وأعلم الله الأمة أن هؤلاء لا يكونون مؤمنين حتى يحكموا الرسول ولا يجدوا في أنفسهم حرجا من حكمه، أي حرجا يصرفهم عن تحكيمه، أو يسخطهم من حكمه بعد تحكيمه، وقد علم من هذا أن المؤمنين لا ينصرفون عن تحكيم الرسول ولا يجدون في أنفسهم حرجا من قضائه بحكم قياس الأحرى.
وليس المراد الحرج الذي يجده المحكوم عليه من كراهية ما يلوم به إذا لم يخامره شك في عدل الرسول وفي إصابته وجه الحق. وقد بين الله تعالى في سورة النور كيف يكون الإعراض عن حكم الرسول كفرا، سواء كان من منافق أم من مؤمن، إذ قال في شأن المنافقين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ثم قال إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، لأن حكم الرسول بما شرع الله من الأحكام لا يحتمل الحيف إذ لا يشرع الله إلا بالحق، ولا يخالف الرسول في حكمه شرع الله تعالى. ولهذا كانت هذه الآية خاصة بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فأما الإعراض عن حكم غير الرسول فليس بكفر إذا جوز

المعرض على الحاكم عدم إصابته حكم الله تعالى، أو عدم العدل في الحكم. وقد كره العباس وعلي حكم أبي بكر وحكم عمر في قضية ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من أرض فدك، لأنهما كانا يريان أن اجتهاد أبي بكر وعمر في ذلك ليس من الصواب، وقد قال عينية بن حصن لعمر: إنك لا تقسم بالسوية ولا تعدل في القضية فلم يعد طعنه في حكم عمر كفرا منه. ثم إن الإعراض عن التقاضي لدى قاض يحكم بشريعة الإسلام قد يكون للطعن في الأحكام الإسلامية الثابت كونها حكم الله تعالى، وذلك كفر لدخوله تحت قوله تعالى {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} [النور:50]؛ وقد يكون لمجرد متابعة الهوى إذا كان الحكم المخالف للشرع ملائما لهوى المحكوم له، وهذا فسوق وضلال، كشأن كل مخالفة يخالف بها المكلف أحكام الشريعة لاتباع الأعراض الدنيوية، وقد يكون للطعن في الحاكم وظن الجور به إذا كان غير معصوم، وهذا فيه مراتب بحسب التمكن من الانتصاف من الحاكم وتقويمه، وسيجيء بيان هذا عند قوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} في سورة العقود [44].
ومعنى {شجر} تداخل واختلف ولم يتبين فيه الإنصاف، وأصله من الشجر لأنه يلتف بعضه ببعض وتلتف أغصانه. وقالوا: شجر أمرهم، أي كان بينهم الشر. والحرج: الضيق الشديد {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125].
وتقريع قوله {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية على ما قبله يقتضي أن سبب نزول هذه الآية هو قضية الخصومة بين اليهودي والمنافق، وتحاكم المنافق فيها للكاهن، وهذا هو الذي يقتضيه نظم الكلام، وعليه جمهور المفسرين، وقاله مجاهد، وعطاء، والشعبي.
وفي البخاري عن الزبير: أحسب هذه الآية نزلت في خصومة بيني وبين أحد الأنصار في شراج من الحرة أي مسيل مياه جمع شرج بفتح فسكون وهو مسيل الماء يأتي من حرة المدينة إلى الحوائط التي بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فقال الأنصاري: لأن كان ابن عمتك. فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "اسق يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر ثم أرسل إلى جارك واستوف حقك" والجدر هو ما يدار بالنخل من التراب كالجدار فكان قضاؤه الأول صلحا، وكان قضاؤه الثاني أخذا بالحق، وكأن هذا الأنصاري ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد الصلح بينهم على وجه فيه توفير لحق الزبير جبرا لخاطره، ولم ير في ذلك ما ينافي العصمة، فقد كان الصحابة متفاوتين في العلم. بحقائق صفات الرسول مدفوعين في سبر النفوس بما اعتادوه من

الأميال والمصانعات، فنهاهم الله تعالى على أن ذلك يجر إلى الطعن في العصمة. وليس هذا الأنصاري بمنافق ولا شاك في الرسول، فإنهم وصفوه بالأنصاري وهو وصف لخيرة من المؤمنين، وما وصفوه بالمنافق، ولكنه جهل وغفل فعفا عنه رسول الله ولم يستتبه. وهذه القصية ترجع إلى النظر في التكفير بلازم القول والفعل، وفيها تفصيل حسن لابن رشد في البيان والتحصيل في كتاب الجنائز وكتاب المرتدين. خلاصته: أنه لابد من تنبيه من يصدر منه مثل هذا على ما يلزم قوله من لازم الكفر فإن التزمه ولم يرجع عد كافرا، لأن المرء قد يغفل عن دلالة الالتزام، ويؤخذ هذا على هذا الوجه في سبب النزول من أسلوب الآية لقوله {لا يُؤْمِنُونَ} إلى قوله {تسليما} فنبه الأنصاري بأنه قد التبس بحالة تنافي الإيمان في خفاء إن استمر عليها بعد التنبيه على عاقبتها لم يكن مؤمنا.
والأنصاري، قيل: هو غير معروف، وحبذا إخفاؤه، وقيل: هو ثعلبة بن حاطب، ووقع في الكشاف أنه حاطب بن أبي بلتعة، وهو سهو من مؤلفه، وقيل: ثابت بن قيس بن شماس، وعلى هذه الرواية في سبب النزول يكون معنى قوله {لا يُؤْمِنُونَ} أنه لا يستمر إيمانهم. والظاهر عندي أن الحادثتين وقعتا في زمن متقارب ونزلت الآية في شأن حادثة بشر المنافق فظنها الزبير نزلت في حادثته مع الأنصاري.
[68,66] {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} .
لم يظهر وجه اتصاله بما قبله ليعطف عليه، لأن ما ذكر هنا ليس أولى بالحكم من المذكور قبله، أي ليس أولى بالامتثال حتى يقال: لو أنا كلفناهم بالرضا بما هو دون قطع الحقوق لما رضوا، بل المفروض هنا أشد على النفوس مما عصوا فيه. فقال جماعة من المفسرين: وجه اتصالها أن المنافق لما لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم وأراد التحاكم إلى الطاغوت، وقالت اليهود: ما أسخف هؤلاء يؤمنون بمحمد ثم لا يرضون بحكمه، ونحن قد أمرنا نبينا بقتل أنفسنا ففعلنا وبلغت القتلى منا سبعين ألفا؛ فقال ثابت ابن قيس بن شماس: لو كتب ذلك علينا لفعلنا، فنزلت هذه الآية تصديقا لثابت بن قيس. ولا يخفى بعده عن السياق لأنه لو كان كذلك لما قيل {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} بل قيل: لفعله فريق منهم. وقال الفخر: هي توبيخ للمنافقين، أي لو شددنا عليهم التكليف لما كان من العجب ظهور عنادهم، ولكنا رحمناهم بتكليفهم اليسر فليتركوا العناد. وهي على هذا

الوجه تصلح لأن تكون تحريضا للمؤمنين على امتثال الرسول وانتفاء الحرج عنهم من أحكامه، فإنه لم يكلفهم إلا اليسر، كل هذا محمول على أن المراد بقتل النفوس أن يقتل أحد نفسه بنفسه.
وعندي أن ذكر ذلك هن من براعة المقطع تهيئة لانتقال الكلام إلى التحريض على الجهاد الآتي في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] وأن المراد ب {اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} : ليقتل بعضكم بعضا فإن المؤمنين يقاتلون قومهم وأقاربهم من المشركين في الجهاد المأمور به بدليل قوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} الآية. والمراد بالخروج من الديار الهجرة، أي كتبنا عليهم هجرة من المدينة، وفي هذا تنويه بالمهاجرين والمجاهدين.
وقرأ الجمهور {إلا قليل} بالرفع على البدل من الواو في {ما فعلوه} على الاستثناء. وقرأه ابن عامر بالنصب على أحد وجهي الاستثناء من الكلام المنفي.
ومعنى {مَا يُوعَظُونَ بِهِ} علم من قوله {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} [النساء:63]، أي ما يؤمرون به أمر تحذير وترقيق، أي مضمون ما يوعظون لأن الوعظ هو الكلام والأمر، والمفعول هو المأمور به، أي لو فعلوا كل ما يبلغهم الرسول، ومن ذلك الجهاد والهجرة. وكونه خيرا أن فيه خير الدنيا لأن الله يعلم وهم لا يعلمون.
ومعنى كونه {أَشَدَّ تَثْبِيتاً} يحتمل أنه التثبيت على الإيمان وبذلك فسروه ويحتمل عندي أنه أشد تثبيتا لهم، أي لبقائهم بين أعدائهم ولعزتهم وحياتهم الحقيقية فإنهم إنما يكرهون القتال استبقاء لأنفسهم، ويكرهون المهاجرة حبا لأوطانهم، فعلمهم الله أن الجهاد والتغرب فيه أو في غيره أشد تثبيتا لهم، لأنه يذود عنهم أعداءهم، كما قال الحصين بن الحمام:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
...
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ومما دل على أن المراد بالخير خير الدنيا، وبالتثبيت التثبيت فيها، قوله عاطفا عليه {وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} .
وجملة {وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا} معطوفة على جواب لو، والتقدير: لكان خيرا وأشد تثبيتا ولآتيناهم الخ، ووجود اللام التي تقع في جواب لو مؤذن بذلك. وأما واو العطف فلوصل الجملة المعطوفة بالجملة المعطوف عليها. وأما إذن فهي حرف جواب

وجزاء، أي في معنى جواب لكلام سبقها ولا تختص بالسؤال، فأدخلت في جواب لو بعطفها على الجواب تأكيدا لمعنى الجزاء، فقد أجيبت لو في الآية بجوابين في المعنى لأن المعطوف على الجواب جواب، ولا يحسن اجتماع جوابين إلا بوجود حرف عطف، وقريب مما في هذه الآية قول العنبري في الحماسة:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
...
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذن لقام بنصري معشر خشن
...
عند الحفيظة أن ذو لوثة لانا
قال المرزوقي: يجوز أن يكون إذن لقام جواب: لو كنت من مازن في البيت السابق كأنه أجيب بجوابين، وجعل الزمخشري قوله {وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ} جواب سؤال مقدر، كأنه: قيل وماذا يكون لهم بعد التثبيت، فقيل: وإذن لآتيناهم. قال التفتزاني: على أن الواو للاستئناف، أي لأن العطف ينافي تقدير سؤال. والحق أن ما صار إليه في الكشاف تكلف لا داعي إليه إلا التزام كون إذن حرفا لجواب سائل، والوجه أن الجواب هو ما يتلقى به كلام آخر سواء كان سؤالا أو شرطا أو غيرهما.
وقوله {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} أي لفتحنا لهم طرق العلم والهداية، لأن تصديهم لامتثال ما أمروا به هو مبدأ تخلية النفوس عن التعلق بأوهامها وعوائدها الحاجبة لها عن درك الحقائق، فإذا ابتدأوا يرفضون هذه المواقع فقد استعدوا لتلقي الحكمة والكمالات النفسانية ففاضت عليهم المعارف تترى بدلالة بعضها على بعض وبتيسير الله صعبها بأنوار الهداية والتوفيق، ولا شك أن الطاعة مفتاح المعارف بعد تعاطي أسبابها.
[70,69] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً[69] ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً}[70].
تذييل لجملة {وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} [النساء:67] وإنما عطفت باعتبار إلحاقها بجملة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} على جملة {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء:66]. وجيء باسم الإشارة في جملة جواب الشرط للتنبيه على جدارتهم بمضمون الخبر عن اسم الإشارة لأجل مضمون الكلام الذي قبل اسم الإشارة. والمعية معية المنزلة في الجنة وإن كانت الدرجات متفاوتة.
ومعنى {مَنْ يُطِعِ} من يتصف بتمام معنى الطاعة، أي أن لا يعصي الله ورسوله.

ودلت مع على أن مكانة مدخولها أرسخ وأعرف، وفي الحديث الصحيح "أنت مع من أحببت" . والصديقون هم الذين صدقوا الأنبياء ابتداء، مثل الحواريين والسابقين الأولين من المؤمنين. وأما الشهداء فهم من قتلوا في سبيل إعلاء كلمة الله. والصالحون الذين لزمتهم الاستقامة.
وحسن فعل مراد به المدح ملحق بنعم ومضمن معنى التعجيب من حسنهم، وذلك شأن فعل بضم العين من الثلاثي أن يدل على مدح أو ذم بحسب مادته مع التعجب، وأصل الفعل حسن بفتحتين فحول إلى فعل بضم العين لقصد المدح والتعجب. و {أولئك} فاعل {حسن}. و {رفيقا} تمييز، أي ما أحسنهم حسنوا من جنس الرفقاء. والرفيق يستوي فيه الواحد والجمع، وفي حديث الوفاة "الرفيق الأعلى". وتعريف الجزأين في قوله {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} يفيد الحصر وهو حصر ادعائي لأن فضل الله أنواع، وأصناف، ولكنه أريد المبالغة في قوة هذا الفضل، فهو كقولهم: أنت الرجل.
والتذييل بقوله {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} للإشارة إلى أن الذين تلبسوا بهذه المنقبة، وإن لم يعلمهم الناس، فإن الله يعلمهم والجزاء بيده فهو يوفيهم الجزاء على قدر ما علم منهم، وقد تقدم نظيره في هذه السورة.
[73,71] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً}
استئناف وانتقال إلى التحريض على الجهاد بمناسبة لطيفة، فإنه انتقل من طاعة الرسول إلى ذكر أشد التكاليف، ثم ذكر الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وكان الحال أدعى إلى التنويه بشأن الشهادة دون بقية الخلال المذكورة معها الممكنة النوال. وهذه الآية تشير لا محالة إلى تهيئة غزوة من غزوات المسلمين، وليس في كلام السلف ذكر سبب نزولها، ولا شك أنها لم تكن أول غزوة لأن غزوة بدر وقعت قبل نزول هذه السورة، وكذلك غزوة أحد التي نزلت فيها سورة آل عمران، وليست نازلة في غزوة الأحزاب لأن قوله {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} يقتضي أنهم غازون لا مغزوون، ولعلها نزلت لمجرد التنبيه إلى قواعد الاستعداد لغزو العدو، والتحذير من

العدو الكاشح، ومن العدو الكائد، ولعلها إعداد لغزوة الفتح، فإن هذه السورة نزلت في سنة ست، وكان فتح مكة في سنة ثمان، ولا شك أن تلك المدة كانت مدة اشتداد التألب من العرب كلهم لنصرة مشركي قريش والذب عن آلهتهم، ويدل لذلك قوله بعد {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} [النساء:75] الخ، وقوله {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} [النساء:141]فإن اسم الفتح أريد به فتح مكة في مواضع كثيرة كقوله {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:27].
وابتدأ بالأمر بأخذ الحذر. وهي أكبر قواعد القتال لاتقاء خدع الأعداء. والحذر: هو توقي المكروه.
ومعنى ذلك أن لا يغتروا بما بينهم وبين العدو من هدنة صلح الحديبية، فإن العدو وأنصاره يتربصون بهم الدوائر، ومن بينهم منافقون هم أعداء في صورة أولياء، وهم الذين عنوا بقوله {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} إلى {فَوْزاً عَظِيماً}.
ولفظ خذوا استعارة لمعنى شدة الحذر وملازمته، لأن حقيقة الأخذ تناول الشيء الذي كان بعيدا عنك، ولما كان النسيان والغفلة يشبهان البعد والإلقاء كان التذكر والتيقظ يشبهان أخذ الشيء بعد إلقائه، كقوله {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199]، وقولهم: أخذ عليه عهدا وميثاقا. وليس الحذر مجازا في السلاح كما توهمه كثير، فإن الله تعالى قال في الآية الأخرى {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102]، فعطف السلاح عليه.
وقوله {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} تفريع عن أخذ الحذر لأنهم إذا أخذوا حذرهم تخيروا أساليب القتال بحسب حال العدو، و {انفروا} بمعنى اخرجوا للحرب، ومصدره النفر، بخلاف نفر ينفر بضم الفاء في المضارع فمصدره النفور.
وثبات بضم الثاء جمع ثبة بضم الثاء أيضا وهي الجماعة، وأصلها ثبية أو ثبوة بالياء أو الواو، والأظهر أنها بالواو، لأن الكلمات التي بقي من أصولها حرفان وفي آخرها هاء التأنيث أصلها الواو نحو عزة وعضة فوزنها فعة، وأما ثبة الحوض، وهي وسطه الذي يجتمع فيه الماء فهي من ثاب يثوب إذا رجع، وأصلها ثوبة فخففت فصارت بوزن فلة، واستدلوا على ذلك بأنها تصغر على ثوبية، وأن الثبة بمعنى الجماعة تصغر على تبية. قال النحاس: ربما توهم الضعيف في اللغة أنهما واحد مع أن بينهما فرقا ومع هذا فقد جعلهما صاحب القاموس من واد واحد وهو حسن، إذ قد تكون ثبة الحوض مأخوذة من الاجتماع إلا إذا ثبت اختلاف التصغير بسماع صحيح.

وانتصب {ثبات} على الحال، لأنه في تأويل: متفرقين، ومعنى {جميعا} جيشا واحدا.
وقوله {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} أي من جماعتكم وعدادكم، والخبر الوارد فيهم ظاهر منه أنهم ليسوا بمؤمنين في خلوتهم، لأن المؤمن إن أبطأ عن الجهاد لا يقول قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا، فهؤلاء منافقون، وقد أخبر الله عنهم بمثل هذا صراحة في آخر هذه السورة بقوله {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} إلى قوله {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:138، 141]. وعلى كون المراد ب {مَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} المنافقين حمل الآية مجاهد، وقتادة، وابن جريج. وقيل: أريد بهم ضعفة المؤمنين يتثاقلون عن الخروج إلى أن يتضح أمر النصر. قال الفخر وهذا اختيار جماعة من المفسرين وعلى هذا فمعنى منكم أي من أهل دينكم. وعلى كلا القولين فقد أكد الخبر بأقوى المؤكدات لأن هذا الخبر من شأنه أن يتلقى بالاستغراب. وبطأ بالتضعيف قاصر، بمعنى تثاقل في نفسه عن أمر، وهو الإبطاء عن الخروج إبطاء بداعي النفاق أو الجبن. والإخبار بذلك يستتبع الإنكار عليه، والتعريض به، مع كون الخبر باقيا على حقيقته لأن مستتبعات التراكيب لا توصف بالمجاز.
وقوله {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} تفريع عن {ليبطئن}، إذ هذا الإبطاء تارة يجر له الابتهاج بالسلامة، وتارة يجر له الحسرة والندامة.
والمصيبة اسم لما أصاب الإنسان من شر، والمراد هنا مصيبة الحرب أعني الهزيمة من قتل وأسر.
ومعنى {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} الإنعام بالسلامة: فإن كان من المنافقين فوصف ذلك بالنعمة ظاهر، لأن القتل عندهم مصيبة محضة إذ لا يرجون منه ثوابا؛ وإن كان من ضعفة المؤمنين فهو قد عد نعمة البقاء أولى من نعمة فضل الشهادة لشدة الجبن، وهذا من تغليب الداعي الجبلي على الداعي الشرعي.
والشهيد على الوجه الأول: إما بمعنى الحاضر المشاهد للقتال، وإما تهكم منه على المؤمنين مثل قوله {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون:7]؛ وعلى الوجه الثاني الشهيد بمعناه الشرعي وهو القتيل في الجهاد. وأكد قوله {وَلَئِنْ

أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ} ، باللام الموطئة للقسم وبلام جواب القسم وبنون التوكيد، تنبيها على غريب حالته حتى ينزل سامعها منزلة المنكر لوقوع ذلك منه. والمراد من الفضل الفتح والغنيمة. وهذا المبطئ يتمنى أن لو كان مع الجيش ليفوز فوزا عظيما، وهو الفوز بالغنيمة والفوز بأجر الجهاد، حيث وقعت السلامة والفوز برضا الرسول، ولذلك أتبع {أفوز} بالمصدر والوصف بعظيم. ووجه غريب حاله أنه أصبح متلهفا على ما فاته بنفسه، وأنه يود أن تجري المقادير على وفق مراده، فإذا قعد عن الخروج لا يصيب المسلمين فضل من الله.
وجملة {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} معترضة بين فعل القول ومقوله. والمودة الصحبة والمحبة؛ وإما أن يكون إطلاق المودة على سبيل الاستعارة الصورية إن كان المراد به المنافق، وإما أن تكون حقيقة إن أريد ضعفة المؤمنين.
وشبه حالهم في حين هذا القول بحال من لم تسبق بينه وبين المخاطبين مودة حقيقية أو صورية، فاقتضى التشبيه أنه كان بينه وبينهم مودة من قبل هذا القول.
ووجه هذا التشبيه أنه لما تمنى أن لو كان معهم وتحسر على فوات فوزه لو حضر معهم، كان حاله في تفريطه رفقتهم يشبه حال من لم يكن له اتصال بهم بحيث لا يشهد ما أزمعوا عليه من الخروج للجهاد، فهذا التشبيه مسوق مساق زيادة تنديمه وتحسيره، أي أنه الذي أضاع على نفسه سبب الانتفاع بما حصل لرفقته من الخير، أي أنه قد كان له من الخلطة مع الغانمين ما شانه أن يكون سببا في خروجه معهم، وانتفاعه بثواب النصر وفخره ونعمة الغنيمة.
وقرأ الجمهور {لم يكن} بياء الغيبة وهو طريقة في إسناد الفعل لما لفظه مؤنث غير حقيقي التأنيث، مثل لفظ {مودة} هنا، ولا سيما إذا كان فصل بين الفعل وفاعله. وقرأ ابن كثير، وحفص، ورويس عن يعقوب بالتاء الفوقية علامة المضارع المسند إلى المؤنث اعتبارا بتأنيث لفظ مودة.
[76,74] {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ

كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}.
الفاء: إما للتفريع، تفريع الأمر على الآخر، أي فرع {فليقاتل} على {خذوا حذركم فانفروا} [النساء:71]، أو هي فاء فصيحة، أفصحت عما دل عليه ما تقدم من قوله {خُذُوا حِذْرَكُمْ} وقوله {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:72] لأن جميع ذلك اقتضى الأمر بأخذ الحذر، وهو مهيء لطلب القتال والأمر بالنفير والإعلام بمن حالهم حال المتردد المتقاعس، أي فإذا علمتم جميع ذلك، فالذين يقاتلون في سبيل الله هم الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة لا كل أحد.
و {يشرون} معناه يبيعون، لأن شرى مقابل اشترى، مثل باع وابتاع وأكرى واكترى، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} في سورة البقرة [16]. فالذين يشرون الحياة الدنيا هم الذين يبذلونها ويرغبون في حظ الآخرة، وإسناد القتال المأمور به إلى أصحاب هذه الصلة وهي: {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} للتنويه بفضل المقاتلين في سبيل الله، لأن في الصلة إيماء إلى علة الخبر، أي يبعثهم على القتال في سبيل الله بذلهم حياتهم الدنيا لطلب الحياة الأبدية، وفضيحة أمر المبطئين حتى يرتدعوا عن التخلف، وحتى يكشف المنافقون عن دخيلتهم، فكان معنى الكلام: فليقاتل في سبيل الله المؤمنون حقا فإنهم يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، ولا يفهم أحد من قوله {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ} أن الأمر بالقتال مختص بفريق دون آخر. لأن بذل الحياة في الحصول على ثواب الآخرة شيء غير ظاهر حتى يعلق التكليف به، وإنما هو ضمائر بين العباد وربهم، فتعين أن إسناد الأمر إلى أصحاب هذه الصلة مقصود منه الثناء على المجاهدين، وتحقير المبطئين، كما يقول القائل ليس بعشك فادرجي. فهذا تفسير الآية بوجه لا يعتريه إشكال. ودخل في قوله {أو يغلب} أصناف الغلبة على العدو بقتلهم أو أسرهم أو غنم أموالهم.
وإنما اقتصر على القتل والغلبة في قوله {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} ولم يزد أو يؤسر إباية من أن يذكر لهم حالة ذميمة لا يرضاها الله للمؤمنين، وهي حالة الأسر؛ فسكت عنها لئلا يذكرها في معرض الترغيب وإن كان للمسلم عليها أجر عظيم أيضا إذا بذل جهده في الحرب فغلب إذ الحرب لا تخلو من ذلك، وليس بمأمور أن يلقي بيده إلى التهلكة إذا علم أنه لا يجدي عنه الاستبسال، فإن من منافع الإسلام استبقاء رجاله لدفاع العدو.
والخطاب في قوله {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ} التفات من طريق

الغيبة، وهو طريق الموصول في قوله {الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} إلى طريق المخاطبة.
ومعنى {مَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ} ما يمنعكم من القتال، وأصل التركيب: أي شيء حق لكم في حال كونكم {لا تُقَاتِلُونَ} ، فجملة لا تقاتلون حال من الضمير المجرور للدلالة على ما منه الاستفهام.
والاستفهام إنكاري، أي لا شيء لكم في حال لا تقاتلون، والمراد أن الذي هو لكم هو أن تقاتلوا، فهو بمنزلة أمر، أي قاتلوا في سبيل الله لا يصدكم شيء عن القتال، وقد تقدم قريب منه عند قوله تعالى {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سورة البقرة [246].
ومعنى {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأجل دينه ولمرضاته، فحرف في للتعليل، ولأجل المستضعفين، أي لنفعهم ودفع المشركين عنهم.
والمستضعفون الذين يعدهم الناس ضعفاء، فالسين والتاء للحسبان، وأراد بهم من بقي من المؤمنين بمكة من الرجال الذين منعهم المشركون من الهجرة بمقتضى الصلح الذي انعقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سفير قريش سهيل بن عمرو؛ إذ كان من الشروط التي انعقد عليها الصلح: أن من جاء إلى مكة من المسلمين مرتدا عن الإسلام لا يرد إلى المسلمين، ومن جاء إلى المدينة فارا من مكة مؤمنا يرد إلى مكة. ومن المستضعفين الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة. وأما النساء فهن ذوات الأزواج أو ولايى الأولياء المشركين اللائي يمنعهن أزواجهن وأولياؤهن من الهجرة: مثل أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وأم الفضل لبابة بنت الحارث زوج العباس، فقد كن يؤذين ويحقرن. وأما الولدان فهم الصغار من أولاد المؤمنين والمؤمنات، فإنهم كانوا يألمون من مشاهدة تعذيب آبائهم وذويهم وإيذاء أمهاتهم وحاضناتهم. وعن ابن عباس أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
والقتال في سبيل هؤلاء ظاهر، لإنقاذهم من فتنة المشركين، وإنقاذ الولدان من أن يشبوا على أحوال الكفر أو جهل الإيمان.
والقرية هي مكة. وسألوا الخروج منها لما كدر قدسها من ظلم أهلها، أي ظلم الشرك وظلم المؤمنين، فكراهية المقام بها من جهة أنها صارت يومئذ دار شرك ومناواة لدين الإسلام وأهله، ومن أجل ذلك أحلها الله لرسوله أن يقاتل أهلها، وقد قال عباس بن مرداس يفتخر باقتحام خيل قومه في زمرة المسلمين يوم فتح مكة:

شهدن مع النبي مسومات
...
حنينا وهي دامية الحوامي
ووقعة خالد شهدت وحكت
...
سنابكها على البلد الحرام
وقد سألوا من الله وليا ونصيرا، إذ لم يكن لهم يومئذ ولي ولا نصير فنصرهم الله بنبيه والمؤمنين يوم الفتح.
وأشارت الآية إلى أن الله استجاب دعوتهم وهيأ لهم النصر بيد المؤمنين فقال {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}، أي فجند الله لهم عاقبة النصر، ولذلك فرع عليه الأمر بقوله {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} .
والطاغوت: الأصنام، وتقدم تفسيره في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} في هذه السورة [5]، وقوله {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60].
والمراد بكيد الشيطان تدبيره، وهو ما يظهر على أنصاره من الكيد للمسلمين والتدبير لتأليب الناس عليهم. وأكد الجملة بمؤكدين إن وكان الزائدة الدالة على تقرر وصف الضعف لكيد الشيطان.
[79,77] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً[77] أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}.
تهيأ المقام للتذكير بحال فريق من المسلمين اختلف أول حاله وآخره، فاستطرد هنا

التعجيب من شأنهم على طريقة الاعتراض في أثناء الحث على الجهاد، وهؤلاء فريق يودون أن يؤذن لهم بالقتال فلما كتب عليهم القتال في إبانه جبنوا. وقد علم معنى حرصهم على القتال قبل أن يعرض عليهم من قوله {قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} ، لأن كف اليد مراد منه ترك القتال، كما قال {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح:24].
والجملة معترضة بين جملة {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:75] والجمل التي بعدها وبين جملة {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:74] الآية اقتضت اعتراضها مناسبة العبرة بحال هذا الفريق وتقلبها، فالذين قيل لهم ذلك هم جميع المسلمين، وسبب القول لهم هو سؤال فريق منهم، ومحل التعجيب إنما هو حال ذلك الفريق من المسلمين. ومعنى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} أنه كتب عليكم في عموم المسلمين القادرين. وقد دلت إذا الفجائية على أن هذا الفريق لم يكن تترقب منهم هذه الحالة، لأنهم كانوا يظهرون من الحريصين على القتال. قال جمهور المفسرين: إن هاته الآية نزلت في طائفة من المسلمين كانوا لقوا بمكة من المشركين أذى شديدا، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة واستأذنوه في قتال المشركين، فقال لهم "إني أمرت بالعفو فكفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وفرض الجهاد جبن فريق من جملة الذين استأذنوه في القتال، ففيهم نزلت الآية.
والمروي عن ابن عباس أن من هؤلاء عبد الرحمان بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والمقداد بن الأسود، وقدامة بن مظعون، وأصحابهم، وعلى هذا فقوله {كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} مسوق مساق التوبيخ لهم حيث رغبوا تأخير العمل بأمر الله بالجهاد لخوفهم من بأس المشركين، فالتشبيه جار على طريقة المبالغة لأن حمل هذا الكلام على ظاهر الإخبار لا يلائم حالهم من فضيلة الإيمان والهجرة.
وقال السدي: الذين قيل لهم كفوا أيديكم قوم أسلموا قبل أن يفرض القتال وسألوا أن يفرض عليهم القتال فلما فرض القتال إذا فريق يخشون الناس. واختلف المفسرون في المعني بالفريق من قوله تعالى {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} فقيل: هم فريق من الذين استأذنوا في مكة في أن يقاتلوا المشركين، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والكلبي، وهو ظاهر الآية، ولعل الذي حول عزمهم أنهم صاروا في أمن وسلامة من الإذلال والأذى، فزال عنهم الاضطرار للدفاع عن أنفسهم. وحكى القرطبي: أنه قيل: إن هذا الفريق هم المنافقون. وعلى هذا الوجه يتعين تأويل نظم الآية بأن المسلمين الذين

استأذنوا في قتل المشركين وهم في مكة أنهم لما هاجروا إلى المدينة كرروا الرغبة في قتال المشركين، وأعاد النبي صلى الله عليه وسلم تهدئتهم زمانا، وأن المنافقين تظاهروا بالرغبة في ذلك تمويها للنفاق، فلما كتب القتال على المسلمين جبن المنافقون، وهذا هو الملائم للإخبار عنهم بأنهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد. وتأويل وصفهم بقوله {منهم} : أي من الذين قيل لهم: كفوا أيديكم، وهذا على غموضه هو الذي ينسجم مع أسلوب بقية الكلام في قوله {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وما بعده، كما سيأتي، أما على قول السدي فلا حاجة إلى تأويل الآية.
فالاستفهام في قوله {ألم تر} للتعجيب، وقد تقدمت نظائره. والمتعجب منهم ليسوا هم جميع الذين قيل لهم في مكة: كفوا أيديكم، بل فريق آخر من صفتهم أنهم يخشون الناس كخشية الله. وإنما علق التعجيب بجميع الذين قيل لهم باعتبار أن فريقا منهم حالهم كما وصف، فالتقدير: ألم تر إلى فريق من الذين قيل لهم: كفوا أيديكم.
والقول في تركيب قوله {كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} كالقول في نظيره، وهو قوله تعالى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} في سورة البقرة [200].
وقولهم {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} إنما هو قولهم في نفوسهم على معنى عدم الاهتداء لحكمة تعليل الأمر بالقتال وظنهم أن ذلك بلوى. والأجل القريب مدة متأخرة ريثما يتم استعدادهم، مثل قوله {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون:10].
وقيل: المراد من الأجل العمر، بمعنى لولا أخرتنا إلى أن تنقضي آجالنا دون قتال، فيصير تمنيا لانتفاء فرض القتال، وهذا بعيد لعدم ملائمته لسياق الكلام، إذ ليس الموت في القتال غير الموت بالأجل، ولعدم ملاءمته لوصفه بقريب، لأن أجل المرء لا يعرف أقريب هو أم بعيد إلا إذا أريد تقليل الحياة كلها. وعلى كلا الوجهين فالقتال المشار إليه هنا هو أول قتال أمروا به، والآية ذكرتهم بذلك في وقت نزولها حين التهيؤ للأمر بفتح مكة. وقال السدي: أريد بالفريق بعض من قبائل العرب دخلوا في الإسلام حديثا قبل أن يكون القتال من فرائضه وكانوا يتمنون أن يقاتلوا فلما كتب عليهم القتال جبنوا لضعف إيمانهم، ويكون القتال الذي خافوه هو غزو مكة، وذلك أنهم خشوا بأس المشركين.
وقولهم {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} يحتمل أن يكون قولا في نفوسهم، ويحتمل أنه مع ذلك قول بأفواههم، ويبدو هو المتعين إذا كان المراد بالفريق فريق المنافقين؛ فهم يقولون: ربنا لم كتبت علينا القتال بألسنتهم علنا ليوقعوا الوهن في قلوب المستعدين له

وهم لا يعتقدون أن الله كتب عليهم القتال. وقال ابن جرير عن مجاهد: نزلت في اليهود، وعليه تكون الآية مثالا ضربه الله للمسلمين الذين أوجب عليهم القتال، تحذيرا لهم في الوقوع في مثل ذلك، فيكون على طريقة قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً} الآية في سورة البقرة [246].
والرؤية بصرية، وهي على بعض الوجوه المروية بصرية حقيقية، وعلى بعضها بصرية تنزيلية، للمبالغة في اشتهار ذلك.
وانتصب {خشية} على التمييز لنسبة {أشد} . كما تقدم في قوله تعالى {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} وقد مر ما فيه في سورة البقرة[200].
والجواب بقوله {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} جواب عن قولهم {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} سواء كان قولهم لسانيا وهو بين، أم كان نفسيا، ليعلموا أن الله أطلع رسوله على ما تضمره نفوسهم، أي أن التأخير لا يفيد والتعلق بالتأخير لاستبقاء الحياة لا يوازي حظ الآخرة، وبذلك يبطل ما أرادوا من الفتنة بقولهم {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} .
وموقع قوله {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} موقع زيادة التوبيخ الذي اقتضاه قوله {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} ، أي ولا تنقصون شيئا من أعماركم المكتوبة، فلا وجه للخوف وطلب تأخير فرض القتال؛ وعلى تفسير الأجل في {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} بأجل العمر، وهو الوجه المستبعد، يكون معنى {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} تغليطهم في اعتقادهم أن القتل يعجل الأجل، فيقتضي أن يكون ذلك عقيدة للمؤمنين إن كانوا هم المخاطبين قبل رسوخ تفاصيل عقائد الإسلام فيهم، أو أن ذلك عقيدة المنافقين إن كانوا هم المخاطبين.
وقيل معنى نفي الظلم هنا أنهم لا يظلمون بنقص ثواب جهادهم، فيكون موقعه موقع التشجيع لإزالة الخوف، ويكون نصبه على النيابة عن المفعول المطلق. وقيل: معناه أنهم لا يظلمون بنقص أقل زمن من آجالهم، ويجيء على هذا التفسير أن يجعل {تُظْلَمُونَ} بمعنى تنقصون، كقوله تعالى {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} [الكهف:33] أي كلتا الجنتين من أكلها، ويكون {فتيلا} مفعولا به، أي لا تنقصون من أعماركم ساعة، فلا موجب للجبن.
وقرأ الجمهور: {ولا تظلمون} بتاء الخطاب على أنه أمر الرسول أن يقوله لهم. وقرأه ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وروح عن يعقوب، وخلف بياء

الغيبة على أن يكون مما أخبر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلغه إليهم.
والفتيل تقدم آنفا عند قوله تعالى {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:49].
وجملة {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} يجوز أن تكون من تمام القول المحكي بقوله {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} . وإنما لم تعطف على جملة {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} لاختلاف الغرضين، لأن جملة {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} وما عطف عليها تغليظ لهم في طلب التأخير إلى أجل قريب، وجملة {أَيْنَمَا تَكُونُوا} الخ مسوقة لإشعارهم بأن الجبن هو الذي حملهم على طلب التأخير إلى أمد قريب، لأنهم توهموا أن مواقع القتال تدني الموت من الناس، ويحتمل أن يكون القول قد تم، وأن جملة أينما تكونوا توجه إليهم بالخطاب من الله تعالى، أو توجه لجميع الأمة بالخطاب، فتكون على كلا الأمرين معترضة بين أجراء الكلام. وأينما شرط يستغرق الأمكنة ولو في قوله {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ} وصلية وقد تقدم تفصيل معناها واستعمالها عند قوله في سورة آل عمران[91] {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} .
والبروج جمع برج، وهو البناء القوي والحصن. والمشيدة: المبنية بالشيد، وهو الجص، وتطلق على المرفوعة العالية، لأنهم إذا أطالوا البناء بنوه بالجص، فالوصف به مراد به معنى الكنائي. وقد يطلق البروج على منازل كواكب السماء كقوله تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [الفرقان:61] وقوله {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1]. وعن مالك أنه قال: البروج هنا بروج الكواكب، أي ولو بلغتم السماء. وعليه يكون وصف {مشيدة} مجازا في الارتفاع، وهو بعيد.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} .
يتعين على المختار مما روي في تعيين الفريق الذين ذكروا في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} من أنهم فريق من المؤمنين المهاجرين أن يكون ضمير الجمع في قوله {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} عائدا إلى المنافقين لأنهم معلومون من المقام، ولسبق ذكرهم في قوله {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:72] وتكون الجملة معطوفة عطف

قصة على قصة، فإن ما حكي في هذه الآية لا يليق إلا بالمنافقين، ويكون الغرض انتقل من التحريض على القتال إلى وصف الذين لا يستجيبون إلى القتال لأنهم لا يؤمنون بما يبلغهم النبي صلى الله عليه وسلم من وعد الله بنصر المؤمنين. وأما على رواية السدي فيحتمل أن هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام حديثا من قبائل العرب كانوا على شفا الشك فإذا حل بهم سوء أو بؤس تطيروا بالإسلام فقالوا: هذه الحالة السوأى من شؤم الإسلام. وقد قيل: إن بعض الأعراب كان إذا أسلم وهاجر إلى المدينة فنمت أنعامه ورفهت حاله حمد الإسلام، وإذا أصابه مرض أو موتان في أنعامه تطير بالإسلام فارتد عنه، ومنه حديث الأعرابي الذي أصابته الحمى في المدينة فاستقال من النبي بيعته وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها.
والقول المراد في قوله {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} {يََقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} هو قول نفسي، لأنهم لم يكونوا يجترئون على أن يقولوا ذلك علنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يظهرون الإيمان به. أو هو قول يقولونه بين إخوانهم من المنافقين، يقولون: هذه من عند محمد، فيكون الإتيان بكاف الخطاب من قبيل حكاية كلامهم بحاصل معناه على حسب مقام الحاكي والمحكي له، وهو وجه مطروق في حكاية كلام الغائب عن المخاطب إذا حكى كلامه لذلك المخاطب. ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117]. والمأمور به هو: أن اعبدوا الله ربك وربهم. وورد أن قائل ذلك هم اليهود، فالضمير عائد على غير مذكور في الكلام السابق، لأن المعني به معروفون في وقت نزول الآية، وقديما قيل لأسلافهم {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف:131]. والمراد بالحسنة والسيئة هنا ما تعارفه العرب من قبل اصطلاح الشريعة أعني الكائنة الملائمة والكائنة المنافرة، كقوله {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف:131] وقوله {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة:201]، وتعلق فعل الإصابة بهما دليل على ذلك، أما الحسنة والسيئة بالاصطلاح الشرعي، أعني الفعل المثاب عليه والفعل المعاقب عليه، فلا محمل لهما هنا إذ لا يكونان إصابتين، ولا تعرف إصابتهما لأنهما اعتباران شرعيان. قيل: كان اليهود يقولون: لما جاء محمد المدينة قلت الثمار، وغلت الأسعار. فجعلوا كون الرسول بالمدينة هو المؤثر في حدوث السيئات، وأنه لولاه لكانت الحوادث كلها جارية على ما يلائمهم، ولذلك جيء في حكاية كلامهم بما يدل على أنهم أرادوا هذا المعنى، وهو كلمة عند في الموضعين: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} ، إذ

العندية هنا عندية التأثير التام بدليل التسوية في التعبير، فإذا كان ما جاء من عند الله معناه من تقديره وتأثير قدرته، فكذلك مساويه وهو ما جاء من عند الرسول. وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء، وهذا يقتضي أن فعل ذلك من مهاجرة العرب: يقولونه إذا أرادوا الارتداد وهم أهل جفاء وغلظة، فلعل فيهم من شافه الرسول بمثل قولهم {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} . ومعنى {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} في اعتقادهم أنه الذي ساقها إليهم وأتحفهم بها لما هو معتاده من الإكرام لهم، وخاصة إذا كان قائل ذلك اليهود. ومعنى {مِنْ عِنْدِكَ} أي من شؤم قدومك، لأن الله لا يعاملهم إلا بالكرامة، ولكنه صار يتخولهم بالإساءة لقصد أذى المسلمين فتلحق الإساءة اليهود من جراء المسلمين على حد {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} [الأنفال:25] الآية.
وقد علمه الله أن يجيب بأن كلا من عند الله، لأنه لا معنى لكون شيء من عند الله إلا أنه الذي قدر ذلك وهيأ أسبابه، إذ لا يدفعهم إلى الحسنات مباشرة. وإن كان كذلك فكما أن الحسنة من عنده، فكذلك السيئة بهذا المعنى بقطع النظر عما أراده بالإحسان والإساءة، والتفرقة بينهما من هذه الجهة لا تصدر إلا عن عقل غير منضبط التفكير، لأنهم جعلوا الحوادث من الله وبعضها من غير الله فلذلك قال {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} أي يكادون أن لا يفقهوا حديثا، أي أن لا يفقهوا كلام من يكلمهم. وهذا مدلول فعل كاد إذا وقع في سياق النفي، كما تقدم في قوله {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71].
والإصابة: حصول حال أو ذات في ذات، يقال: أصابه مرض، وأصابته نعمة، وأصابه سهم، وهي، مشتقة من اسم الصوب الذي هو المطر، ولذلك كان ما يتصرف من الإصابة مشعرا بحصول مفاجئ أو قاهر.
وبعد أن أمر الله رسوله بما يجيب به هؤلاء الضالين علمه حقيقة التفصيل في إصابة الحسنة والسيئة من جهة تمحض النسبة إلى الله تعالى أو اختلاطها بالانتساب إلى العبد، فقال {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}. ووجه الخطاب للرسول لأنه المبلغ عن الله، ولأن هذا الجواب لإبطال ما نسبه الضالون إليه من كونه مصدر السيئات التي تصيبهم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68