كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

والمحيص: مصدر ميمي كالمغيب والمشيب وهو النجاة. ويقال: حاص عنه، أي نجا منه. ويجوز أن يكون اسم مكان من حاص أيضا، أي ما لنا ملجأ ومكان ننجو فيه.
[22] {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أفضت مجادلة الضعفاء وسادتهم في تغريرهم بالضلالة إلى نطق مصدر الضلالة وهو الشيطان: إما لأنهم بعد أن اعتذر إليهم كبراؤهم بالحرمان من الهدى علموا أن سبب إضلالهم هو الشيطان لأن نفي الاهتداء يرادفه الضلال، وإما لأن المستكبرين انتقلوا من الاعتذار للضعفاء إلى ملامة الشيطان الموسوس لهم ما أوجب ضلالهم، وكل ذلك بعلم يقع في نفوسهم كالوجدان. على أن قوله: {فَلا تَلُومُونِي} يظهر منه أنه توجه إليه ملام صريح، ويحتمل أنه توقعه فدفعه قبل وقوعه وأنه يتوجه إليه بطريقة التعريض، فجملة {وَقَالَ الشَّيْطَانُ} عطف على جملة {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ}.
والمقصود من وصف هذا الموقف إثارة بغض الشيطان في نفوس أهل الكفر ليأخذوا حذرهم بدفاع وسواسه لأن هذا الخطاب الذي يخاطبهم به الشيطان مليء بإضماره الشر لهم فيما وعدهم في الدنيا مما شأنه أن يستفز غضبهم من كيده لهم وسخريته بهم، فيورثهم ذلك كراهية له وسوء ظنهم بما يتوقعون إتيانه إليهم من قبله. وذلك أصل عظيم في الموعظة والتلابية.
ومعنى {قُضِيَ الْأَمْرُ} تمم الشأن، أي إذن الله وحكمه. ومعنى إتمامه: ظهوره، وهو أمره تعالى بتمييز أهل الضلالة وأهل الهداية، قال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [سورة يس: 59]، وذلك بتوجيه كل فريق إلى مقره الذي استحقه بعمله، فيتصدى الشيطان للتخفيف عن الملام عن نفسه بتشريك الذين أضلهم معه في تبعة ضلالهم، وقد أنطقه الله بذلك لإعلان الحق، وشهادة عليهم بأن لهم كسبا في اختيار الانطباع إلى دعوة الضلال دون دعوة الحق. فهذا شبيه شهدة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقولهم لهم: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} إظهار للحقيقة وتسجيلا على أهل الضلالة وقمعا لسفسطتهم.

وأخبر الله بها الناس استقصاء في الإبلاغ ليحيط الناس علما بكل ما سيحل بهم. وإيقاظا لهم ليتأملوا الحقائق الخفية فتصبح بينة واضحة. فقول الشيطان {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} إبطال لإفراده باللوم أو لابتداء توجيه الملام إليه في حين أنهم أجدر باللوم أو بابتداء توجيهه.
وأما وقع كلام الشيطان من نفوس الذين خاطبهم فهو موقع الحسرة من نفوسهم زيادة في عذاب النفس.
وإضافة {وَعْدَ} إلى {الْحَقِّ} من إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف، أي الوعد الحق الذي لا نقض له.
والحق: هنا بمعنى الصدق والوفاء بالموعود به. وضده: الإخلاف، ولذلك قال: {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [سورة إبراهيم: 22]، أي كذبت موعدي. وشمل وعد الحق جميع ما وعدهم الله بالقرآن على لسان رسوله - عليه الصلاة والسلام -. وشمل الخلف جميع ما كان يعدهم الشيطان على لسان أوليائه وما يعدهم إلا غرورا.
والسلطان: اسم مصدر تسلط عليه، أي غلبه وقهره، أي لم أكن مجبرا لكم على اتباعي فيما أمرتكم.
والاستثناء في {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} استثناء منقطع لأن ما بعد حرف الاستثناء ليس من جنس ما قبله. فالمعنى: لكني دعوتكم فاستجبتم لي.
وتفرع على ذلك {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}. والمقصود: لوموا أنفسكم، أي إذ قبلتم إشارتي ودعوتي. وقد تقدم بيانه صدر الكلام على الآية.
ومجموع الجملتين يفيد معنى القصر، كأنه قال: فلا تلوموا إلا أنفسكم، وهو في معنى قصر قلب بالنسبة إلى إفراده باللوم وحقهم التشريك فقلب اعتقادهم إفراده دون اعتبار الشركة، وهذا من نادر معاني القصر الإضافي، وهو مبني على اعتبار أجدر الطرفين بالرد، وهو طرف اعتقاد العكس بحيث صار التشريك كالملغى لأن الحظ الأوفر لأحد الشريكين.
وجملة {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}، بيان لجملة النهي عن لومه لأن لومه فيه تعريض بانهم يتطلبون منه حيلة لنجاتهم، فنفي ذلك عن نفسه بعد أن نهاهم عن أن يلوموه.

والإصراخ: الإغاثة، اشتق من الصراخ لأن المستغيث يصرخ بأعلى صوته، فقيل: أصرخه، إذا أجاب صراخه، كما قالوا: أعتبه، إذا قبل استعتابه. وأما عطف {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} فالمقصود منه استقصاء عدم غناء أحدهما عن الآخر.
وقرأ الجمهور {بِمُصْرِخِيَّ} بفتح التحتية مشددة. وأصله بمصرخيي بياءين: أولاهما ياء جمع المذكر المجرور، وثانيهما ياء المتكلم، وحقها السكون فلما التقت الياءان ساكنتين وقع التخلص من التقاء الساكنين بالفتحة لخفة الفتحة.
وقرأ حمزة وخلف {بِمُصرِخيِّ} - بكسر الياء - تخلصا من التقاء الساكنين بالكسرة لأن الكسرة هو أصل التخلص من التقاء الساكنين. قال الفراء: تحريك الياء بالكسر لأنه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، إلا أن كسر ياء المتكلم في مثله نادر. وأنشد في تنظير هذا التخلص بالكسر قول الأغلب العجلي:
قال لها هل لك يا تافي ... قالت له: ما أنت بالمرضي
أراد هل لك في يا هذه. وقال أبو على الفارسي: زعم قطرب أنها لغة بني يربوع. وعن أبي عمرو بن العلاء أنه أجاز الكسر. واتفق الجميع على أن التخلص بالفتحة في مثله أشهر من التخلص بالكسرة وإن كان التخلص بالكسرة هو القياس، وقد أثبته سند قراءة حمزة. وقد تحامل عليه الزجاج وتبعه الزمخشري وسبقهما في ذلك أبو عبيد والأخفش بن سعيد وابن النحاس ولم يطلع الزجاج والزمخشري على نسبة ذلك البيت للأغلب العجلي.
والذي ظهر لي أن هذه القراءة قرأ بها بنو يربوع من تميم، وبنو عجل ابن لجيم من بكر بن وائل، فقرأوا بلهجتهم أخذا بالرخصة للقبائل أن يقرأوا القرآن بلهجاتهم وهي الرخصة التي أشار إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه"، كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير، ثم نسخت تلك الرخصة بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الأعوام الأخيرة من حياته المباركة ولم يثبت ما ينسخها في هذه الآية. واستقر الأمر على قبول كل قراءة صح سندها ووافقت وجها في العربية ولم تخالف رسم المصحف الإمام. وهذه الشروط متوفرة في قراءة حمزة هذه كما علمت آنفا فقصارى أمرها أنها تتنزل منزلة ما ينطق به أحد فصحاء العرب على لغة قبائلها بحيث لو قرئ بها في الصلاة لصحت عند مالك وأصحابه.
وجملة {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} استئناف آخر من تبعات عبادتهم إياه قصد منه دفع زيادة العذاب عنه بإظهار الخضوع لله تعالى. وأرادت بقوله: {كَفَرْتُ}

شدة التبري من إشراكهم إياه في العبادة، فإن أراد من مضى فعل {كَفَرْتُ} مضي الأزمنة كلها، أي كنت غير راض بإشراككم إياي فهو كذب منه أظهر به التذلل، وإن كان مراده من المضي إنشاء عدم الرضى بإشراكهم إياه فهو ندامة بمنزلة التوبة حيث لا يقبل متاب. و {مِنْ قَبْلُ} على التقديرين متعلق بـ {أَشْرَكْتُمُونِ}.
والإشراك الذي كفر به إياه في العبادة بأن عبدوه مع الله لأن من المشركين من يعبدون الشياطين والجن، فهؤلاء يعبدون جنس الشيطان مباشرة، ومنهم من يعبدون الأصنام فهم يعبدون الشياطين بواسطة عبادة آلهته.
وجملة {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من الكلام المحكي عن الشيطان. وهي في موقع التعليل لما تقدم من قوله: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} ، أي لأنه لا يدفع عنك العذاب دافع فهو واقع بكم.
[23] {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ}.
عطف على جملة {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً} ، وهو انتقال لوصف حال المؤمنين يومئذ بمناسبة ذكر حال المشركين لأن حال المؤمنين يومئذ من جملة الأحوال المقصودة بالوصف إظهار لتفاوت الأحوال، فلم يدخل المؤمنون يومئذ في المنازعة والمجادلة تنزيها لهم عن الخوض في تلك الغمرة، مع التنبيه على أنهم حينئذ في سلامة ودعه.
ويجوز جعل الواو للحال، أي برزوا وقال الضعفاء وقال الكبراء وقال الشيطان إلخ وقد أدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات، فيكون إشارة إلى أنهم فازوا بنزل الكرامة من أول وهلة.
وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} إشارة إلى العناية والاهتمام، فهو إذن أخص من أمر القضاء العام.
وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} تقدم نظيره في أول سورة يونس.
[24 - 26] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ

قَرَارٍ}.
استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة ما حكي عن أحوال أهل الضلالة وأحوال أهل الهداية ابتداء من قوله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً} إلى قوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ}، فضرب الله مثلا لكلمة الإيمان وكلمة الشرك. فقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} إيقاظ ليترقب ما يرد بعد هذا الكلام، وذلك مثل قولهم: ألم تعلم. ولم يكن هذا المثل مما سبق ضربه قبل نزول الآية بل الآية هي التي جاءت به، فالكلام تشويق إلى علم هذا المثل. وصوغ التشويق إليه في صيغة الزمن الماضي الدال عليها حرف {لَمْ} التي هي لنفي الفعل في الزمن الماضي والدال عليها فعل {ضَرَبَ} بصيغة الماضي لقصد الزيادة في التشويق لمعرفة هذا المثل وما مثل به.
والاستفهام في {أَلَمْ} ، نزل المخاطب منزلة من لم يعلم فأنكر عليه عدم العلم أو هو مستعمل في التعجب من عدم العلم بذلك مع أنه مما تتوفر الدواعي على علمه. أو هو للتقرير. ومثله في التقرير كثير، وهو كناية في التحريض على العلم بذلك.
والخطاب لكل من يصلح للخطاب. والرؤية علمية معلق فعلها عن العمل بما وليها من الاستفهام بـ {كَيْفَ}. وإيثار {كَيْفَ} هنا للدلالة على أن حالة ضرب هذا المثل ذات كيفية عجيبة من بلاغته وانطباقه.
وتقدم المثل في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} في سورة البقرة [17].
وضرب المثل: نظم تركيبه الدال على تشبيه الحالة، وتقدم عند قوله: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة [26].
وإسناد {ضَرَبَ} إلى اسم الجلالة لأن الله أوحى به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
والمثل لما كان معنى متضمنا عدة أشياء صح الاقتصار في تعليق فعل {ضَرَبَ} به على وجه إجمال يفسره قوله: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ} إلى آخره، فانتصب {كَلِمَةً} على البدلية من {مَثَلاً} بدل مفصل من مجمل، لأن المثل يتعلق بها لما تدل عليه الإضافة في نظيره في قوله: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ}.
والكلمة الطيبة قيل: هي كلمة الإسلام، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والكلمة الخبيثة: كلمة الشرك.

والطيبة: النافعة. استعير الطيب للنفع لحسن وقعه في النفوس كوقع الروائح الذكية. وتقدم عند قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} في سورة يونس [22].
والفرع: ما امتد من الشيء وعلا، مشتق من الافتراع وهو الاعتلاء. وفرع الشجرة: غصنها، وأصل الشجرة: جذرها.
والسماء: مستعمل في الارتفاع، وذلك مما يزيد الشجرة بهجة وحسن منظر.
والأكل بضم الهمزة المأكول، وإضافة إلى ضمير الشجرة على معنى اللام. وتقدم عند قوله: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} في سورة الرعد [4].
فالمشبه هو الهيئة الحاصلة من البهجة في الحس والفرح في النفس وازدياد أصول النفع باكتساب المنافع المتتالية بهيئة رسوخ الأصل، وجمال المنظر، ونماء أغصان الأشجار، ووفرة الثمار، ومتعة أكلها. وكل جزء من أجزاء إحدى الهيئتين يقابله الجزء الآخر من الهيئة الأخرى، وذلك أكمل أحوال التمثيل أن يكون قابلا لجمع التشبيه وتفريعه.
وكذلك القول في تمثيل حال الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة على الضد بجميع الصفات الماضية من اضطراب الاعتقاد، وضيق الصدر، وكدر التفكير، والضر المتعاقب. وقد اختصر فيها التمثيل اختصارا اكتفاء بالمضاد، فانتفت عنها سائر المنافع للكلمة الطيبة.
وفي "جامع الترمذي" عن إنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} قال: هي النخلة . {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} قال: هي الحنظل".
وجملة {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} صفة ل {شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} لأن الناس لا يتركونها تلتفت على الأشجار فتقتلها. والاجتثاث: قطع الشيء كله، مشتق من الجثة وهي الذات. و {مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} تصوير لـ {اجْتُثَّتْ}. وهذا مقابل قوله في صفة الشجرة الطيبة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}.
وجملة {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} تأكيد لمعنى الاجتثاث لأن الاجتثاث من انعدام القرار.

والأظهر أن المراد بالكلمة الطيبة القرآن وإرشاده، وبالكلمة الخبيثة تعاليم أهل الشرك وعقائدهم، ف"الكلمة" في الموضعين مطلقة على القول والكلام، كما دل عليه قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}. والمقصود مع التمثيل إظهار المقابلة بين الحالين إلا أن الغرض في هذا المقام بتمثيل كل حالة على حدة بخلاف ما يأتي عند قوله في سورة النحل {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً} - إلى قوله -: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} ، فانظر بيانه هنالك.
وجملة {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. والواو واو الاعتراض. ومعنى "لعل" رجاء تذكيرهم، أي تهيئة التذكر لهم، وقد مضت نظائرها.
[27] {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
جملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عما أثاره تمثيل الكلمة الطيبة بالشجرة الثابتة الأصل بأن يسأل عن الثابت المشبه به: ما هو أثره في الحالة المشبهة? فيجاب بأن ذلك الثبات طهر في قلوب أصحاب الحالة المشبهة وهم الذين آمنوا إذ ثبتوا على الدين ولم يتزعزعوا فيه لأنهم استثمروا من شجرة أصلها ثابت.
والقول: الكلام. والثابت: الصادق الذي لا شك فيه. والمراد به أقوال القرآن لأنها صادقة المعاني واضحة الدليل، فالتعريف في {ِالْقَوْلِ} لاستغراق الأقوال الثابتة. والباء في {بِالْقَوْلِ} للسببية.
ومعنى تثبيت الذين آمنوا بها أن الله يسر لهم فيهم الأقوال الإلهية على وجهها وإدراك دلائلها حتى اطمأنت إليها قلوبهم ولم يخامرهم فيها شك فأصبحوا ثابتين في إيمانهم غير مزعزعين بها غير مترددين.
وذلك في الحياة الدنيا ظاهر، وأما في الآخرة فبإلفائهم الأحوال على نحو مما علموه في الدنيا، فيم تعترهم ندامة ولا لهف. ويكون ذلك بمظاهر كثيرة يظهر فيها ثباتهم بالحق قولا وانسياقا، وتظهر فيها فتنة غير المؤمنين في الأحوال كلها.
وتفسير ذلك بمقابلته بقوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} ، أي المشركين، أي يجعلهم في حيرة وعماية في الدنيا وفي الآخرة. والضلال: اضطراب وارتباك. فهو الأثر المناسب

لسببه، أعني الكلمة التي اجتثت من فوق الأرض كما دلت عليه المقابلة.
والظالمون: المشركون. قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان:13].
ومن مظاهر هذا التثبيت فيهما ما ورد من وصف فتنة سؤال القبر. روى البخاري والترمذي عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}.
وجملة {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} كالتذييل لما قبلها. وتحت إبهام {مَا يَشَاءُ} وعمومه مطاو كثيرة: من ارتباط ذلك بمراتب النفوس، وصفاء النيات في تطلب الإرشاد، وتربية ذلك في النفوس بنمائه في الخير والشر حتى تبلغ بذور تينك الشجرتين منتهى أمدهما من ارتفاع في السماء واجتثاث من فوق الأرض المعبر عنها بالتثبيت والإضلال. وفي كل تلك الأحوال مراتب ودرجات لا تبلغ عقول البشر تفصيلها.
وإظهار اسم الجلالة في {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} لقصد أن تكون كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة بدلالتها حتى تسير مسير المثل.
[28، 29] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}.
أعقب تمثيل الدينين ببيان آثارهما في أصحابهما. وابتدئ بذكر أحوال المشركين لأنها أعجب والعبرة بها أولى والحذر مقدم على التحلي بضدها،ثم أعقب بذكر أحوال المؤمنين بقوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ.
والاستفهام مستعمل في التشويق إلى رؤية ذلك.
والرؤية: هنا بصرية متعلقها مما يرى، ولأن تعدية فعلها ب {إِلَى} يرجح ذلك، كما في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [سورة البقرة: 258].
وقد نزل المخاطب منزلة من لم ير. والخطاب لمن يصح منه النظر إلى حال هؤلاء الذين بدلوا نعمة الله مع وضوح حالهم.
والكفر: كفران النعمة، وهو ضد الشكر، والإشراك بالله من كفران نعمته.

وفي قوله: {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} محسن الاحتباك. وتقدير الكلام: بدلوا نعمة الله وشكرها كفرا بها ونقمة منه، كما دل عليه قوله: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} الخ.
واستعير التبديل لوضع الشيء في الموضع الذي يستحقه شيء آخر، لأنه يشبه تبديل الذات بالذات.
والذين بدلوا هذا التبديل فريق معروفون، بقرينة قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} ، وهم الذين تلقوا الكلمة الخبيثة من الشيطان، أي كلمة الشرك، وهم الذين استكبروا من مشركي أهل مكة فكابروا دعوة الإسلام وكذبوا النبيء صلى الله عليه وسلم، وشردوا من استطاعوا، وتسببوا في إحلال قومهم دار البوار، فإسناد فعل {أَحَلُّوا} إليهم على طريقة المجاز العقلي.
ونعمة الله التي بدلوها هي نعمة أن بوأهم حرمه، وأمنهم في سفرهم وإقامتهم، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، وسلمهم مما أصاب غيرهم من الحروب والغارات والعدوان، فكفروا بمن وهبهم هذه النعم وعبدوا الحجارة. ثم أنعم الله عليهم بان بعث فيهم أفضل أنبيائه صلى الله عليه وسلم وهداهم إلى الحق، وهيأ لهم أسباب السيادة والنجاة في الدنيا والآخرة، فبدلوا شكر ذلك بالكفر به، فنعمة الله الكبرى هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ودعوة إبراهيم وبنيته - عليهم السلام -.
وقومهم: هم الذين اتبعوهم في ملازمة الكفر حتى ماتوا كفارا، فهم أحق بأن يضافوا إليهم.
والبوار: الهلاك والخسران. وداره: محله الذي وقع فيه.
والإحلال بها: الإنزال فيها. والمراد بالإحلال التسبب فيه، أي كانوا سببا لحلول قومهم بدار البوار. وهي جهنم في الآخرة. ومواقع القتل والخزي في الدنيا مثل: موقع بدر. فيجوز أن يكون {دَارَ الْبَوَارِ} جهنم، وبه فسر علي وابن عباس وكثير من العلماء، ويجوز أن تكون أرض بدر وهو رواية عن علي وعن ابن عباس.
واستعمال صيغة المضي في {أَحَلُّوا} لقصد التحقيق لأن الإحلال متأخر زمنه فإن السورة مكية.
والمراد بـ {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} صناديد المشركين من قريش، فعلى تفسير {دَارَ الْبَوَارِ} بدار البوار في الآخرة يكون قوله: {جَهَنَّمَ} بدلا من {دَارَ الْبَوَارِ} وجملة {يَصْلَوْنَهَا} حالا من {جَهَنَّمَ} ، فتخص {دَارَ الْبَوَارِ} بأعظم أفرادها وهو النار، ويجعل ذلك من ذكر بعض الأفراد لأهميته.

وعلى تفسير {دَارَ الْبَوَارِ} بأرض بدر يكون قوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا. وانتصاب جهنم على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه فعل {يَصْلَوْنَهَا} على طريقة الاشتغال.
وما يروون عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن علي كرم الله وجهه أن {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} هم الأفجران من قريش: بنو أمية وبنو المغيرة بن مخزوم، قال: فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين وأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر. فلا أحسبه إلا من وضع بعض المغرضين المضادين لبني أمية. وفي روايات عن علي كرم الله وجهه أنه قال: هم كفار قريش، ولا يريد عمر ولا علي - رضي الله عنهما - من أسلموا من بني أمية فإن ذلك لا يقوله مسلم فاحذروا الإفهام الخطئة. وكذا ما روي عن أبن عباس: أنهم جبلة بن الأيهم ومن اتبعوه من العرب الذين تنصروا في زمن عمر وحلوا ببلاد الروم، فإذا صح عنه فكلامه على معنى التنظير والتمثيل وإلا فكيف يكون هو المراد من الآية وإنما حدث ذلك في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وجملة {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} عطف على جملة {يَصْلَوْنَهَا} ، أو حال من {جَهَنَّمَ}. والتقدير: وبئس القرار هي.
[30] {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}.
عطف على {بَدَّلُوا} و {أَحَلُّوا} ، فالضمير راجع إلى {الَّذِينَ} وهم أئمة الشرك. والجعل يصدق باختراع ذلك كما فعل عمرو بن لحي وهو من خزاعة. ويصدق بتقرير ذلك ونشره والاحتجاج له، مثل وضع أهل مكة الأصنام في الكعبة ووضع هبل على سطحها.
والأنداد: جمع ند بكسر النون، وهو المماثل في مجد ورفعة، وتقدم عند قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} في سورة البقرة[22].
وقرأ الجمهور {لِيُضِلُّوا} بضم الياء التحتية من أضل غيره إذا جعله ضالا، فجعل الإضلال علة لجعلهم لله أندادا، وإن كانوا لم يقصدوا تضليل الناس وإنما قصدوا مقاصد هي مساوية للتضليل لأنها أوقعت الناس في الضلال، فعبر على مساوي التضليل بالتضليل لأنه آيل إليه وإن لم يقصدوه، فكأنه قيل: للضلال عن سبيله، تشنيعا عليهم بغاية فعلهم وهم ما أضلوا إلا وقد ضلوا، فعلم أنهم ضلوا وأضلوا، وذلك إيجاز.

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب {لِيُضِلُّوا} - بفتح الياء - والمعنى: ليستمر ضلالهم فإنهم حين جعلوا الأنداد كان ضلالهم حاصلا في زمن الحال. ومعنى لام التعليل أن تكون مستقبلة لأنها بتقدير {أَنْ} المصدرية بعد لام التعليل.
ويعلم أنهم أضلوا الناس من قوله: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}.
وسبيل الله: كل عمل يجري على ما يرضي الله. شبه العمل بالطريق الموصلة إلى المحلة، وقد تقدم غير مرة.
وجملة {قُلْ تَمَتَّعُوا} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن المخاطب ب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا} إذا علم هذه الأحوال يتساءل عن الجزاء المناسب لجرمهم وكيف تركهم الله يرفلون في النعيم، فأجيب بأنهم يصيرون إلى النار، أي يموتون فيصيرون إلى العذاب.
وأمر بان يبلغهم ذلك لأنهم كانوا يزدهون بأنهم في تنعم وسيادة، وهذا كقوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} في سورة آل عمران [196, 197].
[31] {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}.
استئناف نشأ عن ذكر حال الفريق الذي حقت عليه الكلمة الخبيثة بذكر حال مقابله، وهو الفريق الذي حقت عليه الكلمة الطيبة. فلما ابتدئ بالفريق الأول لقصد الموعظة والتخلي ثني بالفريق الثاني على طريقة الاعتراض بين أغراض الكلام كما سيأتي في الآية عقبها.
ونظيره قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} - إلى أن قال -: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة الإسراء: 50, 52].
ولما كانوا متحلين بالكمال صيغ الحديث عنهم بعنوان الوصف بالإيمان، وبصيغة الأمر بما هم فيه من صلاة وإنفاق لقصد الدوام على ذلك، فحصلت بذلك مناسبة وقع هذه الآية بعد التي قبلها لمناسبة تضاد الحالين.
ولما كان المؤمنون يقيمون الصلاة من قبل وينفقون من قبل تعين أن المراد الاستزادة

من ذلك، ولذلك اختير المضارع مع تقدير لام الأمر دون صيغة فعل الأمر لأن المضارع دال على التجدد، فهو مع لم الأمر يلاقي حال المتلبس بالفعل الذي يؤمر به بخلاف صيغة "افعل" فإن أصلها طلب إيجاد الفعل المأمور به من لم يكن ملتبسا به، فأصل {يُقِيمُوا الصَّلاةَ} ليقيموا، فحذفت لام الأمر تخفيفا.
وهذه هي نكتة ورود مثل هذا التركيب في مواضع وروده، كما في هذه الآية وفي قوله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} في سورة الإسراء[52]، أي قل لهم ليقيموا وليقولوا، فحكي بالمعنى.
وعندي: أن منه قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} في سورة الحجر، أي ذرهم ليأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل. فهو أمر مستعمل في الإملاء والتهديد، ولذلك نوقن بأن الأفعال هذه معمولة للام أمر محذوفة. وهذا قول الكسائي إذا وقع الفعل المجزوم بلام الأمر محذوفة بعد تقدم فعل قل، كما في مغني اللبيب ووافقه ابن مالك في شرح الكافية. وقال بعضهم: جزم الفعل المضارع في جواب الأمر ب {قُلْ} على تقدير فعل محذوف هو المقول دل عليه ما بعده. والتقدير: قل لعبادي أقيموا يقيموا وأنفقوا ينفقوا. وقال الكسائي وابن مالك إن ذلك خاص بما يقع بعد الأمر بالقول كما في هذه الآية، وفاتهم نحو آية {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا}.
وزيادة {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} للتذكير بالنعمة تحريضا على الإنفاق ليكون شكرا للنعمة.
و {سِرّاً وَعَلانِيَةً} حالان من ضمير {يُنْفِقُوا}. وهما مصدران. وقد تقدم عند قوله تعالى: {سِرّاً وَعَلانِيَةً} في سورة البقرة[274]. والمقصود تعميم الأحوال في طلب الإنفاق لكيلا يظنوا أن الإعلان يجر إلى الرياء كما كان حال الجاهلية، أو أن الإنفاق سرا يفضي إلى إخفاء الغني نعمة الله فيجر إلى كفران النعمة، فربما توخى المرء أحد الحالين فأفضى إلى ترك الإنفاق في الحال الآخر فتعطل نفع كثير وثواب جزيل، فبين الله للناس أن الإنفاق بر لا يكدره ما يحف به من الأحوال، "وإنما الأعمال بالنيات". وقد تقدم شيء من هذا عند قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [سورة التوبة: 79] الآية.
وقيل المقصود من السر الإنفاق المتطوع به، ومن العلانية الإنفاق الواجب.
وتقديم السر على العلانية تنبيه على أنه أولى الحالين لبعده عن خواطر الرياء، ولأن

فيه استبقاء لبعض حياء المتصدق عليه.
وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ} الخ متعلق بفعل {يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا}، أي ليفعلوا ذينك الأمرين قبل حلول اليوم الذي تتعذر فيه المعاوضات والإنفاق. وهذا كناية عن عظيم منافع إقامة الصلاة والإنفاق قبل يوم الجزاء عنهما حين يتمنون أن يكونوا ازدادوا من ذينك لما يسرهم من ثوابهما فلا يجدون سبيلا للاستزادة منهما، إذ لا بيع يومئذ فيشتري الثواب ولا خلال من شأنها الإرفاد والإسعاف بالثواب. فالمراد بالبيع المعاوضة وبالخلال الكناية عن التبرع.
ونظيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} في سورة البقرة[254].
وبهذا تبين أن المراد من الخلال هنا آثارها، بقرينة المقام، وليس المراد نفي الخلة، أي الصحبة والمودة لأن المودة ثابتة بين المتقين، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [سورة الزخرف: 67]. وقد كفى بنفي البيع والخلال التي هي وسائل النوال والإرفاد عن انتفاء الاستزادة.
وإدخال حرف الجر على اسم الزمان هو {قَبْلِ} لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة.
وقرأ الجمهور {لا بَيْعٌ} بالرفع. وقرا ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب بالبناء على الفتح. وهما وجهان في نفي النكرة بحرف {لا}.
[32 - 34] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
استئناف واقع موقع الاستدلال على ما تضمنته جملة {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} الآية. وقد فصل بينه وبين المستدل عليه بجملة {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} الآية. وأدمج في الاستدلال تعدادهم لنعم تستحق الشكر عليها ليظهر حال الذين كفروهما، وبالضد حال الذين شكروا عليها، وليزداد الشاكرون شكرا. فالمقصود الأول هو

الاستدلال على أهل الجاهلية، كما يدل عليه تعقيبه بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم: 35]. فجيء في هذه الآية بنعم عامة مشهودة محسوسة لا يستطاع إنكارها إلا أنها للتذكير بأن المنعم بها وموجدها هو الله تعالى.
وافتتح الكلام باسم الموجد لأن تعينه هو الغرض الأهم. وأخبر عنه بالموصول لأن الصلة معلومة الانتساب إليه والثبوت له، إذ لا ينازع المشركون في أن الله هو صاحب الخلق ولا يدعون أن الأصنام تخلق شيئا، كما قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة لقمان: 25]، فخلق السماوات والأرض دليل على إلهية خالقها وتمهيد للنعم المودعة فيها، فإنزال الماء من السماء إلى الأرض، وإخراج الثمرات من الأرض، والبحار والأنهار من الأرض. والشمس والقمر من السماء، والليل والنهار من السماء ومن الأرض، وقد مضى بيان هذه النعم في آيات مضت.
والرزق: القوت. والتسخير: حقيقته التذليل والتطويع، وهو مجاز في جعل السيء قابلا لتصرف غيره فيه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} في سورة الأعراف [54]. وقوله: {لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ} هو علة تسخير صنعها.
ومعنى تسخير الفلك: تسخير ذاتها بإلهام البشر لصنعها وشكلها بكيفية تجري في البحر بدون مانع.
وقوله: {بِأَمْرِهِ} بـ {تَجْرِيَ}.
والأمر: هنا الإذن، أي تيسير جريها في البحر، وذلك بكف العواصف عنها وبإعانتها بالريح الرخاء، وهذا كقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [سورة الحج: 65]. وعبر هذا الأمر بالنعمة في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} [سورة لقمان: 31]، وقد بينته آية {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} الآية[سورة الشورى: 32-33].
وتسخير الأنهار: خلقها على كيفية تقتضي انتقال الماء من مكان إلى مكان وقراره في بعض المنخفضات فيسقى منه من تمر عليه وينزل على ضفافه حيث تستقر مياهه، وخلق بعضها مستمرة القرار كالدجلة والفرات والنيل للشرب ولسير السفن فيها.

وتسخير الشمس والقمر: خلقهما بأحوال ناسبت انتفاع البشر بضيائهما، وضبط أوقاتهم بسيرهما.
ومعنى {دَائِبَيْنِ} دائبين على حالات لا تختلف إذ لو اختلفت لم يستطع البشر ضبطها فوقعوا في حيرة وشك.
والفلك: جمع لفظه كلفظ مفرده. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} في سورة البقرة[164].
ومعنى {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أعطاكم بعضا من جميع مرغوباتكم الخارجة عن اكتسابكم بحيث شانكم فيها أن تسألوا الله إياها، وذلك مثل توالد الأنعام، وإخراج الثمار والحب، ودفع العوادي عن جميع ذلك: كدفع الأمراض عن الأنعام، ودفع الجوائح عن الثمار والحب.
فجملة {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} نعيم بعد خصوص، فهي بمنزلة التذييل لما قبلها لحكم يعلمها الله ولا يعلمونها {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [سورة الشورى: 27]، وأن الإنعام والامتنان يكون بمقدار البذل لا بمقدار الحرمان. وبهذا يتبين تفسير الآية.
وجملة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} تأكيد للتذييل وزيادة في التعميم، تنبيها على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم وكثير منه لا يحيطون بعلمه او لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم.
فمعنى {إِنْ تَعُدُّوا} إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه. وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم، كنعمة النفس، ونعمة الحواس، ونعمة هضم الطعام والشراب، ونعمة الدورة الدموية، ونعمة الصحة، وللفخر هنا تقرير نفيس فأنظره.
والإحصاء: ضبط العدد، وهو مشتق من الحصا اسما للعدد، وهو منقول من الحصى، وهو صغار الحجارة لأنهم كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبا للغلط.
وجملة {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} تأكيد لمعنى الاستفهام الإنكاري المستعمل في تحقيق تبديل النعمة كفرا، فلذلك فصلت عنها.
والمراد بـ {الْأِنْسَانَ} صنف منه، وهو المتصف بمضمون الجملة المؤكدة وتأكيدها،

فالإنسان هو المشرك، مثل الذي في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [سورة الشورى: 66]، وهو استعمال كثير في القرآن.
وصيغتا المبالغة في {ظَلُومٌ كَفَّارٌ} اقتضاهما كثرة النعم المفاد من قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}، إذ بمقدار كثرة النعم يكثر كفر الكافرين بها إذ أعرضوا عن عبادة المنعم وعبدوا ما لا يغني عنهم شيئا، فأما المؤمنون فلا يجحدون نعم الله ولا يعبدون غيره.
[35، 36] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
عطف على جملة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} [سورة إبراهيم: 28] فإنهم كما بدلوا نعمة الله كفرا أهملوا الشكر على ما بوأهم الله من النعم بإجابة دعوة أبيهم إبراهيم - عليه السلام - وبدلوا اقتداءهم بسلفهم الصالح اقتداء بأسلافهم من أهل الضلالة، وبدلوا دعاء سلفهم الصالح لهم بالإنعام عليهم كفرا بمفيض تلك النعم.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} بأن انتقل من ذكر النعم العامة للناس التي يدخل تحت منتها أهل مكة بحكم العموم إلى ذكر النعم التي خص الله بها أهل مكة. وغير الأسلوب في الامتنان بها إلى أسلوب الحكاية عن إبراهيم لإدماج التنويه بإبراهيم - عليه السلام - والتعريض بذريته من المشركين.
و"إذا" اسم زمان ماض منصوب على المفعولية لفعل محذوف شائع الحذف في أمثاله، تقديره: واذكر إذ قال إبراهيم، زيادة في التعجيب من شأن المشركين الذي مر في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} ، فموقع العبرة من الحالين واحد.
و {رَبِّ} منادى محذوف منه حرف النداء. وأصله "ربي"، حذفت ياء المتكلم تخفيفا، وهو كثير في المنادى المضاف إلى الياء.
والبلد: المكان المعين من الأرض، ويطلق على القرية. والتعريف في {الْبَلَدَ} تعريف العهد لأنه معهود بالحضور. و {الْبَلَدَ} بدل من اسم الإشارة.
وحكاية دعائه بدون بيان البلد إبهام يرد بعده البيان بقوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}

[سورة إبراهيم: 37], أو هو حوالة على ما في علم العرب من أنه مكة. وقد مضى في سورة البقرة تفسير نظيره. والتعريف هنا للعهد، والتنكير في آية البقرة تنكير النوعية، فهنا دعا للبلد بأن يكون آمنا، وفي آية سورة البقرة دعا لمشار إليه أن يجعله الله من نوع البلاد الآمنة، فمآل المفادين متحد.
{وَاجْنُبْنِي} أمر من الثلاثي المجرد، يقال: جنبه الشيء، إذا جعله جانبا عنه، أي باعده عنه، وهي لغة أهل نجد. وأهل الحجاز يقولون: جنبه بالتضعيف أو أجنبه بالهمز. وجاء القرآن هنا بلغة أهل نجد لأنها أخف.
وأراد ببنيه أبناء صلبه، وهم يومئذ إسماعيل وإسحاق، فهو من استعمال الجمع في التثنية، أو أراد جميع نسله تعميما في الخير فاستجيب له في البعض.
والأصنام: جمع صنم، وهو صورة أو حجارة أو بناء يتخذ معبودا ويدعى إلها. وأراد إبراهيم - عليه السلام - مثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، أصنام قوم نوح، ومثل الأصنام التي عبدها قوم إبراهيم.
وإعادة النداء في قوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} لإنشاء التحسر على ذلك.
وجملة {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} تعليل للدعوة بإجنابه عبادتها بأنها ضلال راج بين كثير من الناس، فحق للمؤمن الضنين بإيمانه أن يخشى أن تجترفه فتنتها، فافتتاح الجملة بحرف التوكيد لما يفيده حرف "إن" في هذا المقام من معنى التعليل.
وذلك أن إبراهيم - عليه السلام - خرج من بلده أور الكلدانيين إنكارا على عبدة الأصنام، فقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [سورة الصافات: 99] وقال لقومه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم: 48]. فلما مر بمصر وجدهم يعبدون الأصنام ثم دخل فلسطين فوجدهم عبدة أصنام، ثم جاء عربة تهامة فأسكن بها زوجه فوجدها خالية ووجد حولها جرهم قوما على الفطرة والسذاجة فأسكن بها هاجر وابنه إسماعيل - عليه السلام -. ثم أقام هنالك معلم التوحيد، وهو بيت الله الكعبة بناه هو وابنه إسماعيل، وأراد أن يكون مأوى التوحيد، وأقام ابنه هنالك ليكون داعية للتوحيد. فلا جرم سأل أن يكون ذلك بلدا آمنا حتى يسلم ساكنوه وحتى يأوى إليهم من إذا آوى إليهم لقنوه أصول التوحيد.

ففرع على ذلك قوله: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} ، أي فمن تبعني من الناس فتجنب عبادة الأصنام فهو مني، فدخل في ذلك أبوه وقومه، ويدخل فيه ذريته لأن الشرط يصلح للماضي والمستقبل.
و"من" في قوله: {مني} اتصالية. وأصلها التبعيض المجازي، أي فإنه متصل بي اتصال البعض بكله.
وقوله: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تأدب في مقام الدعاء ونفع للعصاة من الناس بقدر ما يستطيعه. والمعنى: ومن عصاني أفوض أمره إلى رحمتك وغفرانك. وليس المقصود الدعاء بالمغفرة لمن عصى. وهذا من غلبة الحلم على إبراهيم - عليه السلام - وخشية من استئصال عصاة ذريته. ولذلك متعهم الله قليلا في الحياة الدنيا، كما أشار إليه قوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة البقرة: 126] وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [سورة الزخرف: 27]. وسوق هذه الدعوة هنا للتعريض بالمشركين من العرب بأنهم لم يبروا بأبيهم إبراهيم - عليه السلام -.
وإذ كان قوله: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تفويضا لم يكن فيه دلالة على أن الله يغفر لمن يشرك به.
[37] {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
جملة {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} مستأنفة لابتداء دعاء آخر. وافتتحت بالنداء لزيادة التضرع. وفي كون النداء تأكيدا لنداء سابق ضرب من الربط بين الجمل المفتتحة بالنداء ربط المثل بمثله.
وأضيف الرب هنا إلى ضمير الجمع خلافا لسابقيه لأن الدعاء الذي افتتح به فيه حظ للداعي ولأبنائه. ولعل إسماعيل - عليه السلام - حاضر معه حين الدعاء كما تدل له الآية الأخرى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إلى قوله: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [سورة البقرة: 127]. وذلك من معنى الشكر المسؤول هنا.

و {مِنْ} في قوله: {مِنْ ذُرِّيَّتِي} بمعنى بعض، يعني إسماعيل - عليه السلام - وهو بعض ذريته، فكان هذا الدعاء صدر من إبراهيم - عليه السلام - بعد زمان من بناء الكعبة وتقري مكة، كما دل عليه قوله في دعائه هذا {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [سورة إبراهيم: 39]، فذكر إسحاق - عليه السلام -.
والواد: الأرض بين الجبال، وهو وادي مكة. و {غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} صفة، أي بواد لا يصلح للنبت لأنه حجارة، فإن كلمة ذو تدل على صاحب ما أضيفت إليه وتمكنه منه، فإذا قيل: ذو مال، فالمال ثابت له، وإذا أريد ضد ذلك قيل: غير ذي كذا، كقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [سورة الزمر: 28]، أي لا يعتريه شيء من العوج. ولأجل هذا الاستعمال لم يقل بواد لا يزرع أو لا زرع به.
و {عِنْدَ بَيْتِكَ} صفة ثانية لواد أو حال.
والمحرم: الممنع من تناول الأيدي إياه بما يفسده أو يضر أهله بما جعل الله له في نفوس الأمم من التوقير والتعظيم، وبما شاهدوه من هلكة من يريد فيه بإلحاد بظلم. وما أصحاب الفيل منهم ببعيد.
وعلق {لِيُقِيمُوا} بـ {أَسْكَنْتُ} ، أي علة الإسكان بذلك الوادي عند ذلك البيت أن لا يشغلهم عن إقامة الصلاة في ذلك البيت شاغل فيكون البيت معمورا أبدا.
وتوسيط النداء للاهتمام بمقدمة الدعاء زيادة في الضراعة. وتهيأ بذلك أن يفرع عليه الدعاء لهم بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، لأن همة الصالحين في إقامة الدين.
والأفئدة: جمع فؤاد، وهو القلب. والمراد به هنا النفس والعقل.
والمراد: فاجعل أناسا يهوون إليهم. فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد. فلما ذكر {أَفْئِدَةً} لهذه النكتة حسن بيانه بأنهم {مِنَ النَّاسِ} ، فـ {مِنَ} بيانية لا تبعيضية، إذ لا طائل تحته. والمعنى: فاجعل أناسا يقصدونهم بحبات قلوبهم.
وتهوي - مضارع هوى بفتح الواو-: سقط. وأطلق هنا على الإسراع في المشي استعارة، كقول امرئ القيس:
كجلمود صخر حطه السيل من عل

ولذلك عدي باللام دون {عَلَى}.
والإسراع: جعل كناية عن المحبة والشوق إلى زيارتهم.
والمقصود من هذا الدعاء تأنيس مكانهم بتردد الزائرين وقضاء حوائجهم منهم.
والتنكير مطلق يحمل على المتعارف في عمران المدن والأسواق بالواردين، فلذلك لم يقيده في الدعاء بما يدل على الكثرة اكتفاء بما هو معروف.
ومحبة الناس إياهم يحصل معها محبة البلد وتكرير زيارته، وذلك سبب لاستئناسهم به ورغبتهم في إقامة شعائره، فيؤول إلى الدعوة إلى الدين.
ورجاء شكرهم داخل في الدعاء لأنه جعل تكملة له تعرضا للإجابة وزيادة في الدعاء لهم بان يكونوا من الشاكرين. والمقصود: توفر أسباب الانقطاع إلى العبادة وانتفاء ما يحول بينهم وبينها من فتنة الكدح للاكتساب.
[38] {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}.
جاء بهذا التوجه إلى الله جامعا لما في ضميره، وفذلكة للجمل الماضية لما اشتملت عليه من ذكر ضلال كثير من الناس، وذكر من اتبع دعوته ومن عصاه، وذكر أنه أراد من إسكان أبنائه بمكة رجاء أن يكونوا حراس بيت الله، وأن يقيموا الصلاة، وأن يشكروا النعم المسؤولة لهم. وفيه تعليم لأهله وأتباعه بعموم علم الله تعالى حتى يراقبوه في جميع الأحوال ويخلصوا النية إليه.
وجملة {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} تذييل لجملة {إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} ، أي تعلم أحوالنا وتعلم كل شيء. ولكونها تذييلا أظهر فيها اسم الجلالة ليكون التذييل مستقلا بنفسه بمنزلة المثل والكلام الجامع.
[39] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}.
لما دعا الله لأهم ما يهمه وهو إقامة التوحيد وكان يرجو إجابة دعوته وأن ذلك ليس بعجب في أمر الله خطر بباله نعمة الله عليه بما كان يسأله وهو أن وهب له ولدين في إبان

الكبر وحين اليأس من الولادة فناجى الله فحمده على ذلك وأثنى عليه بأنه سميع الدعاء، أي مجيب، أي متصف بالإجابة وصفا ذاتيا، تمهيدا لإجابة دعوته هذه كما أجاب دعوته سلفا. فهذا مناسبة موقع هذه الجملة بعد ما قبلها بقرينة قوله: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}.
واسم الموصول إيماء إلى وجه بناء الحمد. و {عَلَى} في قوله: {عَلَى الْكِبَرِ} للاستعلاء المجازي بمعنى مع، أي وهب ذلك تعليا على الحالة التي شأنها أن لا تسمح بذلك. ولذلك يفسرون {عَلَى} هذه بمعنى {مَعَ} ، أي مع الكبر الذي لا تحصل معه الولادة. وكان عمر إبراهيم حين ولد له إسماعيل عليهما السلام ستا وثمانين سنة {86}. وعمره حين ولد له إسحاق عليهما السلام مائة سنة {100}. وكان لا يولد له من قبل.
وجملة {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} تعليل لجملة {وَهَبْ} ، أي وهب ذلك لأنه سميع الدعاء. والسميع مستعمل في إجابة المطلوب كناية، وصيغ بمثال المبالغة أو الصفة المشبهة ليدل على كثرة ذلك وأن ذلك شأنه، فيفيد أنه وصف ذاتي لله تعالى.
[40، 41] {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}.
جملة مستأنفة من تمام دعائه. وفعل {اجْعَلْنِي} مستعمل في التكوين، كما تقدم آنفا، أي اجعلني في المستقبل مقيم الصلاة.
والإقامة: الإدامة، وتقدم في صدر سورة البقرة.
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} صفة لموصوف محذوف معطوف على ياء المتكلم. والتقدير: واجعل مقيمين للصلاة من ذريتي.
و {مِنْ} ابتدائية وليست للتبعيض، لأن إبراهيم - عليه السلام - لا يسأل الله إلا أكمل ما يحبه لنفسه ولذريته. ويجوز أن تكون {مِنْ} للتبعيض بناء على أن الله أعلمه بأن يكون من ذريته فريق يقيمون الصلاة وفريق لا يقيمونها، أي لا يؤمنون. وهذا وجه ضعيف لأنه يقتضي أن يكون الدعاء تحصيلا لحاصل، وهو بعيد، وكيف وقد قال {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم: 35] ولم يقل: ومن بني.
ودعاؤه بتقبل دعائه ضراعة بعد ضراعة.

وحذفت ياء المتكلم في {دُعَاءِ} في قراءة الجمهور تخفيفا كما تقدم في قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} في سورة الرعد [30].
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة بإثبات الياء ساكنة.
ثم دعا بالمغفرة لنفسه وللمؤمنين ولوالديه ما تقدم منه ومن المؤمنين قبل نبوءته وما استمر عليه أبوه بعد دعوته من الشرك، أما أمه فلعلها توفيت قبل نبوءته. وهذا الدعاء لأبويه قبل أن يتبين له أن أباه عدو لله كما في آية سورة براءة.
ومعنى {يَقُومُ الْحِسَابُ}: يثبت. استعير القيام للثبوت تبعا لتشبيه الحساب بإنسان قائم، لأن حالة القيام أقوى أحوال الإنسان إذ هو انتصاب للعمل. ومنه قولهم: قامت الحرب على ساق، إذ قويت واشتدت. وقولهم: ترجلت الشمس، إذا قوي ضوءها، وتقدم عند قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في أول سورة البقرة [4].
[42، 43] {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}.
عطف على الجمل السابقة، وله اتصال بجملة {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [سورة إبراهيم: 30] الذي هو وعيد للمشركين وإنذار لهم بان لا يغتروا بسلامتهم وأمنهم تنبيها لهم على أن ذلك متاع قليل زائل، فأكد ذلك الوعيد بهذه الآية، مع إدماج تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يتطاولون به من النعمة والدعة، كما دل عليه التفريع في قوله: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [سورة إبراهيم: 47]. وفي معنى الآية قوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [سورة المزمل: 11].
وباعتبار ما فيه من زيادة معنى التسلية وما انضم إليه من وصف فظاعة حال المشركين يوم الحشر حسن اقتران هذه الجملة بالعاطف ولم تفصل.
وصيغة {لا تَحْسَبَنَّ} ظاهرها نهي عن حسبان ذلك. وهذا النهي كناية عن إثبات وتحقيق ضد المنهي عنه في المقام الذي من شانه أن يثير للناس ظن وقوع المنهي عنه لقوة الأسباب المثيرة لذلك. وذلك أن إمهالهم وتأخير عقوبتهم يشبه حالة الغافل عن أعمالهم، أي تحقق أن الله ليس بغافل، وهو كناية ثانية عن لازم عدم الغفلة وهو المؤاخذة, فهو

كناية بمرتبتين، ذلك لأن النهي عن الشيء يؤذن بان المنهي عنه بحيث يتلبس به المخاطب، فنهيه عنه تحذير من التلبس به بقطع النظر عن تقدير تلبس المخاطب بذلك الحسبان. وعلى هذا الاستعمال جاءت الآية سواء جعلنا الخطاب لكل من يصح أن يخاطب فيدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم أم جعلناه للنبي ابتداء ويدخل فيه أمته.
ونفي الغفلة عن الله ليس جاريا على صريح معناه لأن ذلك لا يظنه مؤمن بل هو كناية عن النهي عن استعجال العذاب للظالمين. ومنه جاء معنى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم.
والغفلة: الذهول، وتقدم في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} في سورة الأنعام [156].
والمراد بالظلم هنا الشرك، لأنه ظلم للنفس بإيقاعها في سبب العذاب المؤلم. وظلم لله بالاعتداء على ما يجب له من الاعتراف بالوحدانية. ويشمل ذلك ما كان من الظلم دون الشرك مثل ظلم الناس بالاعتداء عليهم أو حرمانهم حقوقهم فإن الله غير غافل عن ذلك. ولذلك قال سفيان بن عيينة: هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم.
وقوله: {فِيهِ الْأَبْصَارُ} مبنية لجملة {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً...} الخ.
وشخوص البصر: ارتفاعه كنظر المبهوت الخائف.
وأل في {الْأَبْصَارُ} للعموم، أي تشخص فيه أبصار الناس من هول ما يرون. ومن جملة ذلك مشاهدة هول أحوال الظالمين.
والإهطاع: إسراع المشي مع مد العنق كالمتختل، وهي هيئة الخائف.
وإقناع الرأس: طأطأته من الذل، وهو مشتق من قنع من باب منع إذا تذلل. و {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} حالان.
وجملة {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} في موضع الحال أيضا. والطرف: تحرك جفن العين.
ومعنى {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ} لا يرجع إليهم، أي لا يعود إلى معتاده، أي لا يستطيعون تحويله. فهو كناية عن هول ما شاهدوه بحيث يبقون ناظرين إليه لا تطرف أعينهم.
وقوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} تشبيه بليغ، إذ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول.

والهواء في كلام العرب: الخلاء. وليس هو المعنى المصطلح عليه في علم الطب وعلم الهيئة.
[44, 45] {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}.
{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} عطف على جملة {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [سورة إبراهيم: 42]، أي تسل عنهم ولا تملل من دعوتهم وأنذرهم.
والناس: يعم جميع البشر. والمقصود: الكافرون، بقرينة قوله: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا}. ولك أن تجعل الناس ناسا معهودين وهم المشركون.
و {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} منصوب على أنه مفعول ثان ل {أَنْذِرِ} ، وهو مضاف إلى الجملة. وفعل الإنذار يتعدى إلى مفعول ثان على التوسع لتضمينه معنى التحذير، كما في الحديث "ما من نبي إلا أنذر قومه الدجال".
وإتيان العذاب مستعمل في معنى وقوعه مجازا مرسلا.
والعذاب: عذاب الآخرة، أو عذاب الدنيا الذي هدد به المشركون و{الَّذِينَ ظَلَمُوا}: المشركون.
وطلب تأخير العذاب إن كان مرادا به عذاب الآخرة فالتأخير بمعنى تأخير الحساب، أي يقول الذين ظلموا: أرجعنا إلى الدنيا لنجيب دعوتك. وهذا كما في قوله تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [سورة المؤمنون: 99, 100]، فالتأخير مستعمل في الإعادة إلى الحياة الدنيا مجازا مرسلا بعلاقة الأول. والرسل: جميع الرسل الذين جاءوهم بدعوة الله.
وإن حمل على عذاب الدنيا فالمعنى: أن المشركين يقولون ذلك حين يرون ابتداء العذاب فيهم. فالتأخير على هذا حقيقة. والرسل على هذا المحمل مستعمل في الواحد

مجازا، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم.
والقريب: القليل الزمن. شبه الزمان بالمسافة، أي أخرنا مقدار ما نجيب به دعوتك.
{أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}.
لما ذكر قبل هذه الجملة طلب الذين ظلموا من ربهم تعين أن الكلام الواقع بعدها يتضمن الجواب عن طلبهم فهو بتقدير قول محذوف، أي يقال لهم. وقد عدل عن الجواب بالإجابة أو الرفض إلى التقرير والتوبيخ لأن ذلك يستلزم رفض ما سألوه.
وافتتحت جملة الجواب بواو العطف تنبيها على معطوف عليه مقدر هو رفض ما سألوه، حذف إيجازا لأن شأن مستحق التوبيخ أن لا يعطى سؤله. فالتقدير: كلا وألم تكونوا أقسمتم... الخ.
والزوال: الانتقال من المكان. وأريد به هنا الزوال من القبور إلى الحساب.
وحذف متعلق {زوال} لظهور المراد، قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [سورة النحل: 38].
وجملة {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} بيان لجملة {أَقْسَمْتُمْ}. وليست على تقدير قول محذوف ولذلك لم يراع فيها طريق ضمير المتكلم فلم يقل: ما لنا من زوال، بل جيء بضمير الخطاب المناسب لقوله: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ}.
وهذا القسم قد يكون صادرا من جميع الظالمين حين كانوا في الدنيا لأنهم كانوا يتلقون تعاليم واحدة في الشرك يتلقاها الخلف عن سلفهم.
ويجوز أن يكون ذلك صادرا من معظم هذه الأمم أو بعضها ولكن بقيتهم مضمرون لمعنى هذا القسم.
وكذلك الخطاب في قوله: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} فإنه يعم جميع أمم الشرك عدا الأمة الأولى منهم. وهذا من تخصيص العموم بالعقل إذ لا بد أن تكون الأمة الأولى من أهل الشرك لم تسكن في مساكن مشركين.
والمراد بالسكنى: الحلول، ولذلك عدي بحرف الظرفية خلافا لأصل فعله المتعدي

بنفسه. وكان العرب يمرون على ديار ثمود في رحلتهم إلى الشام ويحطون الرحال هنالك، ويمرون على ديار عاد في رحلتهم إلى اليمن.
وتبين ما فعل الله بهم من العقاب حاصل من مشاهدة آثار العذاب من خسف وفناء استئصال.
وضرب الأمثال بأقوال المواعظ على ألسنة الرسل عليهم السلام، ووصف الأحوال الخفية.
وقد جمع لهم في إقامة الحجة بين دلائل الآثار والمشاهدة ودلائل الموعظة..
[46] {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}.
يجوز أن يكون عطف خبر على خبر، ويجوز أن يكون حالا من {النَّاسَ} في قوله: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ} ، أي أنذرهم في حال وقوع مكرهم.
والمكر: تبييت فعل السوء بالغير وإضماره. وتقدم في قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [54] في سورة آل عمران، وفي قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} في سورة الأعراف [99].
وانتصب {مَكْرَهُمْ} الأول على أنه مفعول مطلق لفعل {مَكَرُوا} لبيان النوع، أي المكر الذي اشتهروا به، فإضافة {مَكْرُ} إلى ضمير {هُمْ} من إضافة المصدر إلى فاعله. وكذلك إضافة مكر الثاني إلى ضمير {هُمْ}.
والعندية إما عندية علم، أي وفي علم الله مكرهم، فهو تعريض بالوعيد والتهديد بالمؤاخذة بسوء فعلهم، وإما عندية تكوين ما سمي بمكر الله وتقديره في إرادة الله، فيكون وعيدا بالجزاء على مكرهم.
وقرأ الجمهور {لِتَزُولَ} بكسر اللام وبنصب الفعل المضارع بعدها فتكون "إن" نافية ولام {لِتَزُولَ} لام الجحود، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال، وهو استخفاف بهم، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر أمثالهم، وما هو بالذي تزول منه الجبال. وفي هذا تعريض بان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم لأنهم كالجبال الرواسي.
وقرأ الكسائي وحده - بفتح اللام الأولى - من {لِتَزُولَ} ورفع اللام الثانية على أن

تكون {إِنْ} مخففة من {إِنْ} المؤكدة وقد أكمل إعمالها، واللام فارقة بينها وبين النافية، فيكون الكلام إثباتا لزوال الجبال من مكرهم، أي هو مكر عظيم لتزول منه الجبال لو كان لها أن تزول، أي جديرة، فهو مستعمل في معنى الجدارة والتأهل للزوال لو كانت زائلة. وهذا من المبالغة في حصول أمر شنيع أو شديد في نوعه على نحو قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [سورة مريم: 90].
[47] {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.
تفريع على جميع ما تقدم من قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [سورة إبراهيم: 42]. وهذا محل التسلية. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وتقدم نظيره آنفا عند قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}، لأن تأخير ما وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم من إنزال العقاب بأعدائه يشبه حال المخلف وعده، فلذلك نهي عن حسبانه.
وأضيف {مُخْلِفَ} إلى مفعوله الثاني وهو {وَعْدِهِ} وإن كان المفعول الأول هو الأصل في التقديم والإضافة إليه لأن الاهتمام بنفي إخلاف الوعد أشد، فلذلك قدم {وَعْدِهِ} على {رُسُلَهُ}.
و {رُسُلَهُ} جمع مراد به النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة، فهو جمع مستعمل في الواحد مجازا. وهذا تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم بان الله منجز له ما وعده من نصره على الكافرين به. فأما وعده للرسل السابقين فذلك أمر قد تحقق فلا يناسب أن يكون مرادا من طاهر جمع {رُسُلَهُ}.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} تعليل للنهي عن حسبانه مخلف وعده.
والعزة: القدرة. والمعنى: أن موجب إخلاف الوعد منتف عن الله تعالى لأن إخلاف الوعد يكون إما عن عجز وإما عن عدم اعتياد الموعود به، فالعزة تنفي الأول وكونه صاحب انتقام ينفي الثاني. وهذه الجملة تذييل أيضا وبها تم الكلام.
[48 - 51] {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
استئناف لزيادة الإنذار بيوم الحساب، لأن في هذا تبيين بعض ما في ذلك اليوم من الأهوال؛ فلك أن تجعل {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ} متعلقا بقوله: {سَرِيعُ الْحِسَابِ} قدم عليه

للاهتمام بوصف ما يحصل فيه، فجاء على هذا النظم ليحصل من التشويق إلى وصف هذا اليوم لما فيه من التهويل.
ولك أن تجعله متعلقا بفعل محذوف تقديره: أذكر يوم تبدل الأرض، وتجعل جملة {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} على هذا تذييلا.
ولك أن تجعله متعلقا بفعل محذوف دل عليه قوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}. والتقدير: يجزي الله كل نفس بما كسبت يوم تبدل الأرض.. الخ.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} تذييل أيضا.
والتبديل: التغيير في شيء إما بتغيير صفاته، كقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [سورة الفرقان: 70]، وقولك: بدلت الحلقة خاتما؛ وإما بتغيير ذاته وإزالتها بذات أخرى، كقوله تعالى: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [سورة النساء: 56]، وقوله: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} [سورة سبأ: 16].
وتبديل الأرض والسماوات يوم القيامة: إما بتغيير الأوصاف التي كانت لها وإبطال النظم المعروفة فيها في الحياة الدنيا، وإما بإزالتها ووجدان أرض وسماوات أخرى في العالم الأخروي. وحاصل المعنى: استبدال العالم المعهود بعالم جديد.
ومعنى {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} مثل ما ذكر في قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً}. والوصف ب {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} للرد على المشركين الذين أثبتوا له شركاء وزعموا أنهم يدافعون عن أتباعهم. وضمير {بَرَزُوا} عائد إلى معلوم من السياق، أي وبرز الناس أو برز المشركون.
والتقرين: وضع اثنين في قرن، أي حبل.
والأصفاد: جمع صفاد بوزن كتاب، وهو القيد والغل.
والسرابيل: جمع سربال وهو القميص. وجملة {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} حال من {الْمُجْرِمِينَ}.
والقطران: دهن من تركيب كيمياوي قديم عند البشر يصنعونه من إغلاء شجر الأرز وشجر السرو وشجر الأبهل بضم الهمزة والهاء وبينهما موحدة ساكنة وهو شجر من فصيلة العرعر، ومن شجر العرعر: بأن تقطع الأخشاب وتجعل في قبة مبنية على بلاط سوي

وفي القبة قناة إلى خارج، وتوقد النار حول تلك الأخشاب فتصعد الأبخرة منها ويسري ماء البخار في القناة فتصب في إناء آخر موضوع تحت القناة فيتجمع منه ماء أسود يعلوه زبد خائر أسود، فالماء يعرف بالسائل والزبد يعرف بالبرقي. ويتخذ للتداوي من الجرب للإبل ولغير ذلك مما هو موصوف في كتب الطب وعلم الاقرباذين.
وجعلت سرابيلهم من قطران لأنه شديد الحرارة فيؤلم الجلد الواقع هو عليه، فهو لباسهم قبل دخول النار ابتداء بالعذاب حتى يقعوا في النار.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} مستأنفة، إما لتحقيق أن ذلك واقع كقوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [سورة الذاريات: 5, 6]، وإما استئناف ابتدائي. وأخرت إلى آخر الكلام لتقديم {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ} إذا قدر معمولا لها كما ذكرناه آنفا.
[52] {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
الإشارة إلى الكلام السابق في السورة كلها من أين ابتدأته أصبت مراد الإشارة، والأحسن أن يكون للسورة كلها.
والبلاغ: اسم مصدر التبليغ، أي هذا المقدار من القرآن في هذه السورة تبليغ للناس كلهم.
واللام في {لِلنَّاسِ} هي المعروفة بلام التبليغ، وهي التي تدخل على اسم من يسمع قولا أو ما في معناه.
وعطف {وَلِيُنْذَرُوا} على {بَلاغٌ} عطف على كلام مقدر يدل عليه لفظ {بَلاغٌ} ، إذ ليس في الجملة التي قبله ما يصلح لأن يعطف هذا عليه فإن وجود لام الجر مع وجود واو العطف مانع من جعله عطفا على الخبر، لأن المجرور إذا وقع خبرا عن المبتدأ اتصل به مباشرة دون عطف إذ هو بتقدير كائن أو مستقر، وإنما تعطف الأخبار إذا كانت أوصافا. والتقدير: هذا بلاغ للناس ليستيقظوا من غفلتهم ولينذروا به.
واللام في {وَلِيُنْذَرُوا} لام كي. وقد تقدم قريب من نظم هذه الآية في قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} في سورة الأنعام [92].

والمعنى: وليعلموا مما ذكر فيه من الأدلة ما الله إلا إله واحد، أي مقصور على الإلهية الموحدة. وهذا قصر موصوف على صفة وهو إضافي، أي أنه تعالى لا يتجاوز تلك الصفة إلى صفة التعدد بالكثرة أو التثليث، كقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [سورة النساء: 171].
والتذكر: النظر في أدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه، ولذلك خص بذوي الألباب تنزيلا لغيرهم منزلة من لا عقول لهم {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان: 44].
وقد رتبت صفات الآيات المشار إليها باسم الإشارة على ترتيب عقلي بحسب حصول بعضها عقب بعض، فابتدئ بالصفة العامة وهي حصول التبليغ، ثم ما يعقب حصول التبليغ من الإنذار، ثم ما ينشأ عنه من العلم بالوحدانية لما في خلال هذه السورة من الدلائل، ثم بالتذكير في ما جاء به ذلك البلاغ وهو تفاصيل العلم والعمل. وهذه المراتب هي جامع حكمة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم موزعة على من بلغ إليهم. ويختص السلمون بمضمون قوله: {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

المجلد الثالث عشر
سورة الحجر...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجر
سميت هذه السورة الحجر، ولا يعرف لها اسم غيره. ووجه التسمية أن اسم الحجر لم يذكر في غيرها.
والحجر اسم البلاد المعروفة به وهو حجر ثمود. وثمود هم أصحاب الحجر. وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ} والمكتبون في كتاتيب تونس يدعونها سورة {رُبَمَا} لأن كلمة "ربما" لم تقع في القرآن كله إلا في أول هذه السورة.
وهي مكية كلها وحكي الاتفاق عليه.
وعن الحسن استثناء قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} بناء على أن سبعا من المثاني هي سورة الفاتحة وعلى أنها مدنية. وهذا لا يصح لأن الأصح أن الفاتحة مكية.
واستثناء قوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} بناء على تفسيرهم {الْمُقْتَسِمِينَ} بأهل الكتاب وهو صحيح، وتفسير {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أنهم قالوا: ما وافق منه كتابنا فهو صدق وما خالف كتابنا فهو كذب.ولم يقل ذلك إلا يهود المدينة، وهذا لا نصححه كما نبينه عند الكلام على تلك الآية.
ولو سلم هذا التفسير من جهتيه فقد يكون لأن اليهود سمعوا القرآن قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل فقالوا ذلك حينئذ،على أنه قد روي أن قريشا لما أهمهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم استشاروا في أمره يهود المدينة.
وقال في "الاتقان" ينبغي استثناء قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا

الْمُسْتَأْخِرِينَ} لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها وأنها في صفوف الصلاة اهـ.
وهو يشير بذلك إلى ما رواه الترمذي من طريق نوح بن قيس الجذامي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال:كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر (أي من صفوف الرجال) فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}. قال الترمذي ورواه جعفر بن سليمان ولم يذكر ابن عباس. وهذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح اه. وهذا توهين لطريق نوح.
قال ابن كثير في تفسيره:"وهذا الحديث فيه نكارة شديدة. والظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ليس فيه لابن عباس ذكر، فلا اعتماد إلا على حديث جعفر بن سليمان وهو مقطوع.
وعلى تصحيح أنها مكية فقد عدت الرابعة والخمسين في عدد نزول السور؛ نزلت بعد سورة يوسف وقبل سورة الأنعام.
ومن العجيب اختلافهم في وقت نزول هذه السورة وهي مشتملة على آية {فاصدع بما تؤمر} وقد نزلت عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم في آخر السنة الرابعة من بعثته.
وعدد آيها تسع وتسعون باتفاق العادين.
مقاصد هذه السورة
افتتحت بالحروف المقطعة التي فيها تعريض بالتحدي بأعجاز القرآن.
وعلى التنويه بفضل القرآن وهديه.
وإنذار المشركين بندم يندمونه على عدم إسلامهم.
وتوبيخهم بأنهم شغلهم عن الهدى انغماسهم في شهواتهم.
وإنذارهم بالهلاك عند حلول إبان الوعيد الذي عينه الله في علمه.
وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم إيمان من لم يؤمنوا، وما يقولونه في شأنه وما يتوركون بطلبه منه، وأن تلك عادة المكذبين مع رسلهم.

وأنهم لا تجدي فيهم الآيات والنذر لو أسعفوا بمجيء آيات حسب اقتراحهم به وأن الله حافظ كتابه من كيدهم.
ثم إقامة الحجة عليهم بعظيم صنع الله وما فيه من نعم عليهم.
وذكر البعث ودلائل إمكانه.
وانتقل إلى خلق نوع الإنسان وما شرف الله به هذا النوع.
وقصة كفر الشيطان.
ثم ذكر قصة إبراهيم ولوط - عليهما السلام - وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر.
وختمت بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وانتظار ساعة النصر، وأن يصفح عن الذين يؤذونه، ويكل أمرهم إلى الله، ويشتغل بالمؤمنين، وأن الله كافيه أعداءه.
مع ما تخلل ذلك من الاعتراض والإدماج من ذكر خلق الجن، واستراقهم السمع، ووصف أحوال المتقين، والترغيب في المغفرة، والترهيب من العذاب.
[1] {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1]
{آلر}.
تقدم الكلام على نظير فاتحة هذه السورة في أول سورة يونس.
وتقدم في أول سورة البقرة ما في مثل هذه الفواتح من إعلان التحدي بإعجاز القرآن.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}
الإشارة إلى ما هو معروف قبل هذه السورة من مقدار ما نزل بالقرآن. أي الآيات المعروفة عندكم المتميزة لديكم تميزا كتميز الشيء الذي تمكن الإشارة إليه هي آيات الكتاب. وهذه الإشارة لتنزيل آيات القرآن منزلة الحاضر المشاهد.
و {الْكِتَابِ}: علم بالغلبة على القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للهدى والإرشاد إلى الشريعة. وسمي كتابا لأنهم مأمورون بكتابة ما ينزل منه لحفظه ومراجعته؛ فقد سمي القرآن كتابا قبل أن يكتب ويجمع لأنه بحيث يكون كتابا.

ووقعت هذه الآية في مفتتح تهديد المكذبين بالقرآن لقصد الإعذار إليهم باستدعائهم للنظر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقية دينه.
ولما كان أصل التعريف باللام في الاسم المجعول علما بالغلبة جائيا من التوسل بحرف التعريف إلى الدلالة على معنى كمال الجنس في المعرف به لم ينقطع عن العلم بالغلبة أنه فائق في جنسه بمعونة المقام، فاقتضى أن تلك الآيات هي آيات كتاب بالغ منتهى كمال جنسه، أي من كتب الشرائع.
وعطف {وَقُرْآنٍ} على {الْكِتَابِ} لأن اسم القرآن جعل علما على ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز والتشريع، فهو الاسم العلم لكتاب الإسلام مثل اسم التوراة والإنجيل والزبور للكتب المشتهرة بتلك الأسماء.
فاسم القرآن أرسخ في التعريف به من الكتاب لأن العلم الأصلي أدخل في تعريف المسمى من العلم بالغلبة، فسواء نكر لفظ القرآن أو عرف باللام فهو علم على كتاب الإسلام. فإن نكر فتنكيره على أصل الأعلام، وإن عرف فتعريفه للمح الأصل قبل العلمية كتعريف الأعلام المنقولة من أسماء الفاعلين لأن"القرآن"منقول من المصدر الدال على القراءة، أي المقروء الذي إذا قرئ فهو منتهى القراءة.
وفي التسمية بالمصدر من معنى قوة الاتصاف بمادة المصدر ما هو معلوم.
وللإشارة إلى ما في كل من العلمين من معنى ليس في العلم الآخر حسن الجمع بينهما بطريق العطف، وهو من عطف ما يعبر عنه بعطف التفسير لأن"قرآن"بمنزلة عطف البيان من"كتاب"وهو شبيه بعطف الصفة على الموصوف وما هو منه، ولكنه أشبهه لأن المعطوف متبوع بوصف وهو {مُبِينٍ}. وهذا كله اعتبار بالمعنى.
وابتدئ بالمعرف باللام لما في التعريف من إيذان بالشهرة والوضوح وما فيه من الدلالة على معنى الكمال، ولأن المعرف هو أصل الإخبار والأوصاف.ثم جيء بالمنكر لأنه أريد وصفه بالمبين، والمنكر أنسب بإجراء الأوصاف عليه، ولأن التنكير يدل على التفخيم والتعظيم، فوزعت الدلالتان على نكتة التعريف ونكتة التنكير.
فأما تقديم الكتاب على القرآن في الذكر فلأن سياق الكلام توبيخ الكافرين وتهديدهم بأنهم سيجيء وقت يتمنون فيه أن لو كانوا مؤمنين. فلما كان الكلام موجها إلى المنكرين ناسب أن يستحضر المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بعنوانه الأعم وهو كونه كتابا،لأنهم

حين جادلوا ما جالسوا إلا في كتاب فقالوا: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام:157] ولأنهم يعرفون ما عند الأمم الآخرين بعنوان"كتاب"،ويعرفونهم بعنوان"أهل الكتاب".
فأما عنوان "القرآن" فهو مناسب لكون الكتاب مقروءا مدروسا وإنما يقرأه ويدرسه المؤمنون به. ولذلك قدم عنوان "القرآن" في سورة النمل كما سيأتي.
و المبين: اسم الفاعل من أبان القاصر الذي هو بمعنى بان مبالغة في ظهوره، أي ظهور قرآنيته العظيمة، أي ظهور إعجازه الذي تحققه المعاندون وغيرهم.
وإنما لم نجعل المبين بمعنى أبان المتعدي لأن كونه بينا في نفسه أشد في توبيخ منكريه من وصفه بأنه مظهر لما اشتمل عليه. وسيجيء قريب من هذه الآية في أول سورة النمل.
[2] {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2]
استئناف ابتدائي وهو مفتتح الغرض وما قبله كالتنبيه والإنذار.
و {رُبَمَا} مركبة من "رب". وهو حرف يدل على تنكير مدخوله ويجر ويختص بالأسماء. وهو بتخفيف الباء وتشديدها في جميع الأحوال. وفيها عدة لغات.
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بتخفيف الباء. وقرأ الباقون بتشديدها.
واقترنت بها "ما" الكافة ل "رب" عن العمل. ودخول "ما" بعد "رب" يكف عملها غالبا. وبذلك يصح دخولها على الأفعال. فإذا دخلت على الفعل فالغالب أن يراد بها التقليل.
والأكثر أن يكون فعلا ماضيا، وقد يكون مضارعا للدلالة على الاستقبال كما هنا. ولا حاجة إلى تأويله بالماضي في التحقق.
ومن النحويين من أوجب دخولها على الماضي، وتأول نحو الآية بأنه منزل منزلة الماضي لتحققه. ومعنى الاستقبال هنا واضح لأن الكفار لم يودوا أن يكونوا مسلمين قبل ظهور قوة الإسلام من وقت الهجرة.
والكلام خبر مستعمل في التهديد والتهويل في عدم اتباعهم دين الإسلام والمعنى:

قد يود الذين كفروا لو كانوا أسلموا.
والتقليل هنا مستعمل في التهكم والتخويف، أي احذروا ودادتكم أن تكونوا مسلمين، فلعلها أن تقع نادرا كما يقول العرب في التوبيخ: لعلك ستندم على فعلك، وهم لا يشكون في تندمه، وإنما يريدون أنه لو كان الندم مشكوكا فيه لكان حقا عليك أن تفعل ما قد تندم على التفريط فيه لكي لا تندم، لأن العاقل يتحرز من الضر المظنون كما يتحرز من المتيقن.
والمعنى أنهم قد يودون أن يكونوا أسلموا ولكن بعد الفوات.
والإتيان بفعل الكون الماضي للدلالة على أنهم يودون الإسلام بعد مضي وقت التمكن من إيقاعه، وذلك عند ما يقتلون بأيدي المسلمين، وعند حضور يوم الجزاء؛ وقد ود المشركون ذلك غير مرة في الحياة الدنيا حين شاهدوا نصر المسلمين.
وعن ابن مسعود:ود كفار قريش ذلك يوم بدر حين رأوا نصر المسلمين. ويتمنون ذلك في الآخرة حين يساقون إلى النار لكفرهم، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [سورة الفرقان:27]. وكذلك إذا أخرج عصاة المسلمين من النار ود الذين كفروا في النار لو كانوا مسلمين، على أنهم قد ردوا ذلك غير مرة وكتموه في نفوسهم عنادا وكفرا. قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:27]، أي فلا يصرحون به.
و {لَوْ} في {لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} مستعملة في التمني لأن أصلها الشرطية إذ هي حرف امتناع لامتناع، فهي مناسبة لمعنى التمني الذي هو طلب الأمر الممتنع الحصول، فإذا وقعت بعد ما يدل على التمني استعملت في ذلك كأنها على تقدير قول محذوف يقوله المتمني، ولما حذف فعل القول عدل في حكاية المقول إلى حكايته بالمعنى. فأصل {لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} لو كنا مسلمين.
والتزم حذف جواب {لَوْ} اكتفاء بدلالة المقام عليه ثم شاع حذف القول، فأفادت {لَوْ} معنى المصدرية فصار المعنى: يود الذين كفروا كونهم مسلمين، ولذلك عدوها من حروف المصدرية وإنما المصدر معنى عارض في الكلام وليس مدلولها بالوضع.
[3] {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}

لما دلت "رب" على التقليل اقتضت أن استمرارهم على غلوائهم هو أكثر حالهم، وهو الإعراض عما يدعوهم إليه الإسلام من الكمال النفسي فبإعراضهم عنه رضوا لأنفسهم بحياة الأنعام، وهي الاقتصار على اللذات الجسدية، فخوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يعرض لهم بذلك من أن حياتهم حياة أكل وشرب. وذلك مما يتعيرون به في مجاري أقوالهم كما في قول الحطيئة:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وهم منغمسون فيما يتعيرون به في أعمالهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [سورة محمد:12].
و {ذَرْ} أمر لم يسمع له ماض في كلامهم. وهو بمعنى الترك. وتقدم في قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} في سورة الأنعام [70].
والأمر بتركهم مستعمل في لازمه وهو قلة جدوى الحرص على إصلاحهم. وليس مستعملا في الإذن بمتاركتهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالدوام على دعائهم. قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً} إلى قوله: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [سورة الأنعام:70]" وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ". فما أمره بتركهم إلا وقد أعقبه بأمره بالتذكير بالقرآن، فعلم أن الترك مستعمل في عدم الرجاء في صلاحهم. وهذا كقول كبشة أخت عمرو بن معد يكرب في قتل أخيها عبد الله تستنهض أخاها عمرا للأخذ بثأره:
ودع عنك إن عمرا مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم
وقد يستعمل هذا الفعل وما يراد به كناية عن عدم الاحتياج إلى الإعانة أو عن عدم قبول الوساطة كقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [سورة المدثر:11]، وقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [سورة المزمل:11].
وقد يستعمل في الترك المجازي بتنزيل المخاطب منزلة المتلبس بالضد كقول أبي تمام:
دعوني أنح من قبل نوح الحمائم ... ولا تجعلوني عرضة للوائم
إذ مثل هذا يقال عند اليأس والقنوط عن صلاح المرء.
وقد حذف متعلق الترك لأن الفعل نزل منزلة ما لا يحتاج إلى متعلق، إذ المعني به ترك الاشتغال بهم والبعد عنهم، فذلك عدي فعل الترك إلى ذواتهم ليدل على اليأس

منهم.
و {يَأْكُلُوا} مجزوم بلام الأمر محذوفة كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} في سورة إبراهيم [31]. وهو أمر التوبيخ والتوعد والإنذار بقرينة قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. وهو كقوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46].
ولا يحسن جعله مجزوما في جواب {ذَرْهُمْ} لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم.
والتمتع: الانتفاع بالمتاع. وقد تقدم غير مرة،منها قوله: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأعراف [24].
وإلهاء الأمل إياهم: هو إنساؤه إياهم ما حقهم أن يتذكروه؛ بأن يصرفهم تطلب ما لا ينالون عن التفكير في البعث والحياة والآخرة.
و {الْأَمَلُ}: مصدر. وهو ظن حصول أمر مرغوب في حصوله مع استبعاد حصوله. فهو واسطة بين الرجاء والطمع. ألا ترى إلى قول كعب:
أرجو وآمل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدينا منك تنويل
وتفرع على التعريض التصريح بالوعيد بقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} بأنه مما يستعمل في الوعيد كثيرا حتى صار كالحقيقة. وفيه إشارة إلى أن لإمهالهم أجلا معلوما كقوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [سورة الفرقان:42].
[4 – 5] {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}
اعتراض تذييلي لأن في هذه الجملة حكما يشملهم وهو حكم إمهال الأمم التي حق عليها الهلاك، أي ما أهلكنا أمة إلا وقد متعناها زمنا وكان لهلاكها أجل ووقت محدود، فهي ممتعة قبل حلوله، وهي مأخوذة عند إبانه.
وهذا تعريض لتهديد ووعيد مؤيد بتنظيرهم بالمكذبين السالفين.
وإنما ذكر حال القرى التي أهلكت من قبل لتذكير هؤلاء بسنة الله في إمهال الظالمين لئلا يغرهم ما هم فيه من التمتع فيحسبوا أنهم أفلتوا من الوعيد. وهذا تهديد لا يقتضي أن

المشركين قدر الله أجلا لهلاكهم، فإن الله لم يستأصلهم ولكن هدى كثيرا منهم إلى الإسلام بالسيف وأهلك سادتهم يوم بدر.
و القرية: المدينة. وتقدمت عند قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} في سورة البقرة [259].
والكتاب: القدر المحدود عند الله. شبه بالكتاب في أنه لا يقبل الزيادة والنقص. وهو معلوم عند الله لا يضل ربي ولا ينسى.
وجملة {وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} في موضع الحال، وكفاك علما على ذلك اقترانها بالواو فهي استثناء من عموم أحوال، وصاحب الحال هو {قَرْيَةٍ} وهو وإن كان نكرة فإن وقوعها في سياق النفي سوغ مجيء الحال منه كما سوغ العموم صحة الإخبار عن النكرة.
وجملة {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} بيان لجملة {وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} لبيان فائدة التحديد:أنه عدم المجاوزة بدءا ونهاية.
ومعنى "تسبق أجلها" تفوته، أي تعدم قبل حلوله، شبه ذلك بالسبق.
و {يَسْتَأْخِرُونَ}: يتأخرون. فالسين والتاء للتأكيد.
وأنث مفردا ضمير الأمة مرة مراعاة للفظ، وجمع مذكرا مراعاة للمعنى. وحذف متعلق "يستأخرون" للعلم به، أي وما يستأخرون عنه.
[6-7] {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
عطف على جملة {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [سورة الحجر:3].
والمناسبة أن المعطوف عليها تضمنت انهماكهم في الملذات والآمال وهذه تضمنت توغلهم في الكفر وتكذيبهم الرسالة المحمدية.
والمعنى: ذرهم يكذبون ويقولون شتى القول من التكذيب والاستهزاء.
والجملة كلها من مقولهم.
والنداء في {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} للتشهير بالوصف المنادى به، واختيار الموصولية لما في الصلة من المعنى الذي جعلوه سبب التهكم. وقرينة التهكم قولهم:

{إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}. وقد أرادوا الاستهزاء بوصفه فأنطقهم الله بالحق فيه صرفا لألسنتهم عن الشتم. وهذا كما كانوا إذا شتموا النبي صلى الله عليه وسلم أو هجوه يدعونه مذمما؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "ألم تري كيف صرف الله عني أذى المشركين وسبهم، يسبون مذمما وأنا محمد".
وفي هذا إسناد الصلة إلى الموصول بحسب ما يدعيه صاحب اسم الموصول لا بحسب اعتقاد المتكلم على طريقة التهكم.
و {الذِّكْرُ}: مصدر ذكر، إذا تلفظ. ومصدر ذكر إذا خطر بباله شيء.فالذكر الكلام الموحى به ليتلى ويكرر، فهو للتلاوة لأنه يذكر ويعاد؛ إما لأن فيه التذكير بالله واليوم الآخر، وإما بمعنى أن به ذكرهم في الآخرين. وقد شملها قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [سورة الانبياء:10] وقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] والمراد به هنا القرآن.
فتسمية القرآن ذكرا تسمية جامعة عجيبة لم يكن للعرب علم بها من قبل أن ترد في القرآن.
وكذلك تسميته قرآنا لأنه قصد من إنزاله أن يقرأ، فصار الذكر والقرآن صنفين من أصناف الكلام الذي يلقى للناس لقصد وعيه وتلاوته، كما كان من أنواع الكلام الشعر والخطبة والقصة والأسطورة.
ويدلك لهذا قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يّس:69]،
فنفى أن يكون الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم شعرا، ووصفه بأنه ذكر وقرآن،ولا يخفى أن وصفه بذلك يقتضي مغايرة بين الموصوف والصفة، وهي مغايرة باعتبار ما في الصفتين من المعنى الذي أشرنا إليه. فالمراد: أنه من صنف الذكر ومن صنف القرآن لا من صنف الشعر ولا من صنف الأساطير.
ثم صار "القرآن" بالتعريف باللام علما بالغلبة على الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم كما علمت آنفا.
وإنما وصفوه بالجنون لتوهمهم أن ادعاء نزول الوحي عليه لا يصدر من عاقل، لأن ذلك عندهم مخالف للواقع توهما منهم بان ما لا تقبله عقولهم التي عليها غشاوة ليس من شأنه أن يقبله العقلاء فالداعي به غير عاقل.
والمجنون: الذي جن، أي أصابه فساد في العقل من أثر مس الجن إياه في

اعتقادهم، فالمجنون اسم مفعول مشتق من الفعل المبني للمجهول وهو من الأفعال التي لم ترد إلا مسندة للمجهول.
وتأكيد الجملة ب "إن" واللام لقصدهم تحقيق ذلك له لعله يرتدع عن الاستمرار فيه أو لقصدهم تحقيقه للسامعين حاضري مجالسهم.
وجملة {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} استدلال على ما اقتضته الجملة قبلها باعتبار أن المقصود منها تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم لأن ما يصدر من المجنون من الكلام لا يكون جاريا على مطابقة الواقع فأكثره كذب.
و {لَوْ مَا} حرف تخصيص بمنزلة لولا التحضيضية. ويلزم دخولها الجملة الفعلية.
والمراد بالإتيان بالملائكة حضورهم عندهم ليخبرهم بصدقة في الرسالة. وهذا كما حكى الله في الآية الأخرى بقوله تعالى: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الاسراء:92].
و {مِنَ الصَّادِقِينَ} أي من الناس الذين صفتهم الصدق، وهو أقوى من "إن كنت صادقا"، كما تقدم في قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في سورة براءة [219]، وفي قوله: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة [67].
[8] {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ}
مستأنفة ابتدائية جوابا لكلامهم وشبهاتهم ومقترحاتهم.
وابتدئ في الجواب بإزالة شبهتهم إذ قالوا: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} [سورة الحجر:7]. أريد منه إزالة جهالتهم إذ سألوا نزول الملائكة علامة على التصديق لأنهم وإن طلبوا ذلك بقصد التهكم فهم مع ذلك معتقدون أن نزول الملائكة هو آية صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان جوابهم مشوبا بطرف من الأسلوب الحكيم، وهو صرفهم إلى تعليمهم الميز بين آيات الرسل وبين آيات العذاب، فأراد الله أن لا يدخرهم هديا وإلا فهم أحرياء بأن لا يجابوا.
والنزول:التدلي من علو إلى سفل. والمراد به هنا انتقال الملائكة من العالم العلوي إلى العالم الأرضي نزولا مخصوصا. وهو نزولهم لتنفيذ أمر الله بعذاب يرسله على

الكافرين،كما أنزلوا إلى مدائن لوط - عليه السلام -. وليس مثل نزول جبريل عليه السلام أو غيره من الملائكة إلى الرسل عليهم السلام بالشرائع أو بالوحي. قال تعالى في ذكر زكرياء - عليه السلام - {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [سورة آل عمران:39].
والمراد ب"الحق"هنا الشيء الحاقّ، أي المقضي، مثل إطلاق القضاء بمعنى المقضي. وهو هنا صفة لمحذوف يعلم من المقام، أي العذاب الحاق.قال تعالى: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [سورة الحج:18] وبقرينة قوله: {وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ}، أي لا تنزل الملائكة للناس غير الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا مصاحبين للعذاب الحاق على الناس كما تنزلت الملائكة على قوم لوط وهو عذاب الاستئصال. ولو تنزلت الملائكة لعجل للمنزل عليهم ولما أمهلوا.
ويفهم من هذا أن الله منظرهم، لأنه لم يرد استئصالهم، لأنه أراد أن يكون نشر الدين بواسطتهم فأمهلهم حتى اهتدوا ولكنه أهلك كبراءهم ومدبريهم.
ونظير هذا قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ}. وقد نزلت الملائكة عليهم يوم بدر يقطعون رؤوس المشركين.
والأنظار: التأخير والتأجيل.
و {إِذاً} حرف جواب وجزاء. وقد سقطت هنا بين جزأي جوابها رعيا لمناسبة عطف جوابها على قول: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ}. وكان شأن "إِذاً" أن تكون في صدر جوابها. وجملتها هي الجواب المقصود لقولهم: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} [سورة الحجر:7]. وجملة {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} مقدمة من تأخير لأنها تعليل للجواب، فقدم لأنه أوقع في الرد، ولأنه أسعد بإيجاز الجواب.
وتقدير الكلام لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين إذن ما كنتم منظرين بالحياة ولعجل لكم الاستئصال إذ ما تنزل الملائكة إلا مصحوبين بالعذاب الحاق. وهذا المعنى وارد في قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [سورة العنكبوت:53].

وقرأ الجمهور {مَا تَنْزِلُ} بفتح التاء على أن أصله" تتنزل ".
وقرأ أبو بكر عن عاصم بضم التاء وفتح الزاي على البناء للمجهول ورفع الملائكة على النيابة.
وقرأ الكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ} بنون في أوله وكسر الزاي ونصب الملائكة على المفعولي.
[9] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} استئناف ابتدائي لإبطال جزاء من كلامهم المستهزئين به، إذ قالوا {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [الحجر: من الآية6]، بعد أن عجل كشف شبهتهم في قولهم {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [ "الحجر:7].
جاء نشر الجوابين على عكس لف المقالين اهتماما بالابتداء برد المقال الثاني بما فيه من الشبهة بالتعجيز والإفحام، ثم ثني العنان إلى رد تعريضهم بالاستهزاء وسؤال رؤية الملائكة.
وكان هذا الجواب من نوع القول بالموجب بتقرير إنزال الذكر على الرسول صلى الله عليه وسلم مجاراة لظاهر كلامهم. والمقصود الرد عليهم في استهزائهم، فأكد الخبر ب {إِنَّا} وضمير الفصل مع موافقته لما في الواقع كقوله: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: من الآية1].
ثم زاد ذلك ارتقاء ونكاية لهم بأن منزل الذكر هو حافظه من كيد الأعداء؛ فجملة {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} معترضة، والواو اعتراضية.
والضمير المجرور باللام عائد إلى {الذِّكْرَ}، واللام لتقوية عمل العامل لضعفه بالتأخير عن معموله.
وشمل حفظه الحفظ من التلاشي، والحفظ من الزيادة والنقصان فيه، بأن يسر تواتره وأسباب ذلك، وسلمه من التبديل والتغيير حتى حفظته الأمة عن ظهور قلوبها من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقر بين الأمة بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وصار حفاظه بالغين عدد التواتر في كل مصر.
وقد حكى عياض في" المدارك": أن القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي

البصري1 سئل عن السر في تطرق التغيير للكتب السالفة وسلامة القرآن من طرق التغيير له. فأجاب بأن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: من الآية44] وتولى حفظ القرآن بذاته تعالى فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
قال أبو الحسن بن المنتاب ذكرت هذا الكلام للمحاملي فقال لي: لا أحسن من هذا الكلام2.
وفي تفسير "القرطبي" في خبر رواه عن يحيى بن أكثم: أنه ذكر قصة إسلام رجل يهودي في زمن المأمون، وحدث بها سفيان بن عيينة فقال سفيان: قال الله في التوراة والإنجيل {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ َوَإِنَّا لَهُ لحَافِظُونَ} فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع اه. ولعل هذا من توارد الخواطر.
وفي هذا مع التنويه بشأن القرآن إغاضة للمشركين بأن أمر هذا الدين سيتم وينتشر القرآن ويبقى على مر الأزمان. وهذا من التحدي ليكون هذا الكلام كالدليل على أن القرآن منزل من عند الله آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان من قول البشر أو لم يكن آية لتطرقت إليه الزيادة والنقصان ولاشتمل على الاختلاف، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء:82 ].
[10،11] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وََََمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
ـــــــ
1و القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد الأزدي البصري ثم البغدادي الما لكي الإمام المفسر قاضي بغداد ولد سنة 200 وتوفي في ذي الحجة سنة 382 أخذ عن اصحاب مالك بن أنس مثل عبد الله بن مسلمة القعنبي, وأخذ عن أيمة الحديث مثل إسماعيل بن أبي أويس وعلي بن المديني وأبي بكر بن أبي شيبة.قال الباجي لم تحصل درجة الإجتهاد واجتماع آلته بعد مالك إلا لإسماعيل القاضي.
2الحسن عبيد الله بن المنتاب البغدادي قاضي المدينة المنورة في زمن المقتدر "من سنة 295 إلى 320 كان من أصحاب القاضي إسماعيل. والمحاملي نسبة إلى صنع المحامل فهو بفتح الميم ,وهو الحسين بن إسماعيل. وولي قضاء الكوفة وتوفي سنة380.

عطف على جملة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر من الآية9] باعتبار أن تلك جواب عن استهزائهم في قولهم {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]
فإن جملة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} قول بموجب قولهم {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} وجملة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} إبطال لاستهزائهم على طريقة التمثيل بنظرائهم من الأمم السالفة.
وفي هذا التنظير تحقيق لكفرهم لأن كفر أولئك السالفين مقر عند الأمم ومتحدث به بينهم.
وفيه أيضا تعريض بوعيد أمثالهم وإدماج بالكناية عن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم.
والتأكيد بلام القسم وقد لتحقيق سبق الإرسال من الله، مثل الإرسال الذي جحدوه واستعجبوه كقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} [يونس: من الآية2]. وذلك مقتضى موقع قوله: {منْ قَبْلِكَ}
والشيع: جمع شيعة وهي الفرقة التي أمرها واحد، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} [الأنعام: من الآية65]. ويأتي في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} [مريم: من الآية69]، أي في أمم الأولين، أي القرون الأولى فإن من الأمم من أرسل إليهم ومن الأمم من لم يرسل إليهم. فهذا وجه إضافة {شِيَعِ} إلى {الْأَوَّلِينَ}
و {كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يدل على تكرر ذلك منهم وأنه سنتهم، ف كان دلت على أنه سجية لهم، والمضارع دل على تكرره منهم.
ومفعول {أَرْسَلْنَا} محذوف دلت عليه صيغة الفعل، أي رسلا، ودل عليه قوله: {مِنْ رَسُولٍ}
وتقديم المجرور على {يَسْتَهْزِئُونَ} يفيد القصر للمبالغة، لأنهم لما كانوا يكثرون الاستهزاء برسولهم وصار ذلك سجية لهم نزلوا منزلة من ليس له عمل إلا الاستهزاء بالرسول.
[12،13] {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}.

استئناف بياني ناشئ عن سؤال يخطر ببال السامع لقوله: {وََََمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة الحجر:13] فيتساءل كيف تواردت هذه الأمم على طريق واحد من الضلال فلم تفدهم دعوة الرسل - عليهم السلام - كما قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات:53].
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر:9]؛ إذ قد يخطر بالبال أن حفظ الذكر يقتضي أن لا يكفر به من كفر. فأجيب بأن ذلك عقاب من الله لهم لإجرامهم وتلقيهم الحق بالسخرية وعدم التدبر، ولأجل هذا اختير لهم وصف المجرمين دون الكافرين لأن وصف الكفر صار لهم كاللقب لا يشعر بمعنى التعليل. ونظيره قوله في الآية الأخرى {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [ التوبة:125].
والتعبير بصيغة المضارع في {نَسْلُكُهُ} للدلالة على أن المقصود أسلاك في زمن الحال، أي زمن نزول القرآن، ليعلم أن المقصود بيان تلقي المشركين للقرآن، فلا يتوهم أن المراد بالمجرمين شيع الأولين مع ما يفيده المضارع من الدلالة على التجديد المناسب لقوله: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}، أي تجدد لهؤلاء إبلاغ القرآن على سنة إبلاغ الرسالات من قبلهم.
وفيه تعريض بان ذلك أعذار لهم ليحل بهم العذاب كما حل بمن قبلهم.
والمشار إليه بقوله: {كَذَلِكَ} هو السلك المأخوذ من {نَسْلُكُهُ} على طريقة أمثالها المقررة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143].
والسلك: الإدخال. قال الأعشى:
كما سلك السكي في الباب فيتق
أي مثل السلك الذي سنصفه نسلك الذكر في قلوب المجرمين، أي هكذا نولج القرآن في عقول المشركين، فإنهم يسمعونه ويفهمونه إذ هو من كلامهم ويدركون خصائصه؛ ولكنه لا يستقر في عقولهم استقرار تصديق به بل هم مكذبون به، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125].

وبهذا السلوك تقوم الحجة عليهم بتبليغ القرآن إليهم ويعاد إسماعهم إياه المرة بعد المرة لتقوم الحجة.
فضمير {نَسْلُكُهُ} و {بِهِ} عائدان إلى {الذِّكْرَ} الذكر في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [سورة الحجر:9]؛ أي القرآن.
والمجرمون هم كفار قريش.
وجملة {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} بيان للسلك المشبه به أو حال من المجرمين، أي تعيه عقولهم ولا يؤمنون به. وهذا عام مراد به من ماتوا على الكفر منهم. والمراد أنهم لا يؤمنون وقتا ما.
وجملة {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} معترضة بين جملة {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} وجملة {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ} [الحجر:14] الخ.
والكلام تعريض بالتهديد بان يحل بهم ما حل بالأمم الماضية معاملة للنظير بنظيره، لأن كون سنة الأولين مضت أمر معلوم غير مفيد ذكره، فكان الخبر مستعملا في لازمه بقرينة تعذر الحمل على أصل الخبرية.
والسنة: العادة المألوفة. وتقدم في قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} في سورة آل عمران [137]. وإضافتها إلى {الْأَوَّلِينَ} باعتبار تعلقها بهم، وإنما هي سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا، والإضافة لأدنى ملابسة.
[14،15] {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}
عطف على جملة {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [سورة الحجر:13] وهو كلام جامع لإبطال جميع معاذيرهم من قولهم: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} [سورة الحجر:7] وقولهم: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [سورة الحجر:6] بأنهم لا يطلبون الدلالة على صدقه، لأن دلائل الصدق بينة، ولكنهم ينتحلون المعاذير المختلفة.
والكلام الجامع لإبطال معاذيرهم: أنهم لو فتح الله بابا من السماء حين سألوا آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، أي بطلب من الرسول فاتصلوا بعالم القدس والنفوس الملكية ورأوا ذلك رأي العين لاعتذروا بأنها تخيلات وأنهم سحروا فرأوا ما ليس بشيء شيئا.

ونظيره قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سورة الأنعام:7].
و"ظلّ" تدل على الكون في النهار، أي وكان ذلك في وضح النهار وتبين الأشباح وعدم التردد في المرئي.
والعروج: الصعود. ويجوز في مضارعه ضم الراء وبه القراءة وكسرها، أي فكانوا يصعدون في ذلك الباب نهارا.
و {سُكِّرَتْ} - بضم السين وتشديد الكاف - في قراءة الجمهور، وبتخفيف الكاف في قراءة ابن كثير. وهو مبني للمجهول على القراءتين، أي سدت. يقال: سكر الباب بالتشديد وسكره بالتخفيف إذا سده.
والمعنى: لجحدوا أن يكونوا رأوا شيئا.
وأتوا بصيغة الحصر للدلالة على أنهم قد بتوا القول في ذلك. ورد بعضهم على بعض ظن أن يكونوا رأوا أبواب السماء وعرجوا فيها، وزعموا أنهم ما كانوا يبصرون، ثم أضربوا عن ذلك إضراب المتردد المتحير ينتقل من فرض إلى فرض فقالوا: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}، أي ما رأيناه هو تخيلات المسحور، أي فعادوا إلى إلقاء تبعة ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سحرهم حين سأل لهم الله أن يفتح بابا من السماء ففتحه لهم.
وقد تقدم الكلام على السحر وأحواله عند قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} في سورة البقرة [102]
وإقحام كلمة {قَوْمٌ} هنا دون أن يقولوا: بل نحن مسحورون، لأن ذكرها يقتضي أن السحر قد تمكن منهم واستوى فيه جميعهم حتى صار من خصائص قوميتهم كما تقدم تبيينه عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164]. وتكرر ذلك.
[16-18] {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}.
لما جرى الكلام السابق في شأن تكذيب المشركين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما تركوا به في ذلك، وكان الأصل الأصيل الذي بنوا عليه صرح التكذيب أصلين هما إبطاله إلهية أصنامهم، وإثباته البعث، انبرى القرآن يبين لهم دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية، فذكر

الدلائل الواضحة من خلق السماوات والأرض، ثم أعقبها بدلائل إمكان البعث من خلق الحياة والموت وانقراض أمم وخلفها بأخرى في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [سورة الحجر:23] الآية. وصادف ذلك مناسبة ذكر فتح أبواب السماء في تصوير غلوائهم بعنادهم، فكان الانتقال إليه تخلصا بديعا.
وفيه ضرب من الاستدلال على مكابرتهم فإنهم لو أرادوا الحق لكان لهم في دلالة ما هو منهم غنية عن تطلب خوارق العادات.
والخبر مستعمل في التذكير والاستدلال لأن مدلول هذه الأخبار معلوم لديهم.
وافتتح الكلام بلام القسم وحرف التحقيق تنزيلا للمخاطبين الذاهلين عن الاستدلال بذلك منزلة المتردد فأكد لهم الكلام بمؤكدين. ومرجع التأكيد إلى تحقيق الاستدلال وإلى الإلجاء إلى الإقرار بذلك.
والبروج: جمع برج - بضم الباء -. وحقيقته البناء الكبير المتخذ للسكنى أو للتحصن. وهو يرادف القصر،قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} في سورة النساء [78].
وأطلق البرج على بقعة معينة من سمت طائفة من النجوم غير السيارة "وتسمى النجوم الثوابت" متجمع بعضها بقرب بعض على أبعاد بينها لا تتغير فيما يشاهد من الجو، فتلك الطائفة تكون بشكل واحد يشابه نقطا لو خططت بينها خطوط لخرج منها شبه صورة حيوان أو آلة سموا باسمها تلك النجوم المشابهة لهيئتها وهي واقعة في خط سير الشمس.
وقد سماها الأقدمون من علماء التوقيت بما يرادف معنى الدار أو المكان. وسماها العرب بروجا ودارات على سبيل الاستعارة المجعولة سببا لوضع الاسم؛ تخيلوا أنها منازل للشمس لأنهم وقتوا بجهتها سمت موقع الشمس من قبة الجو نهارا فيما يخيل للناظر أن الشمس تسير في شبه قوس الدائرة. وجعلوها اثني عشر مكانا بعدد شهور السنة الشمسية وما هي في الحقيقة إلا سموت لجهات تقابل كل جهة منها الأرض من جهة وراء الشمس مدة معينة. ثم إذا انتقل موقع الأرض من مدارها كل شهر من السنة تتغير الجهة المقابلة لها. فبما كان لها من النظام تسنى أن تجعل علامات لمواقيت حلول الفصول الأربعة وحلول الأشهر الاثني عشر، فهم ضبطوا لتلك العلامات حدودا وهمية عينوا مكانها في الليل من جهة موقع الشمس في النهار وأعادوا رصدها يوما فيوما.وكلما

مضت مدة شهر من السنة ضبطوا للشهر الذي يليه علامات في الجهة المقابلة لموقع الشمس في تلك المدة. وهكذا، حتى رأوا بعد اثني عشر شهرا أنهم قد رجعوا إلى مقابلة الجهة التي ابتدأوا منها فجعلوا ذلك حولا كاملا. وتلك المسافة التي تخال الشمس قد اجتازتها في مدة السنة سموها دائرة البروج أو منطقة البروج. وللتمييز بين تلك الطوائف من النجوم جعلوا لها أسماء الأشياء التي شبهوها بها وأضافوا البرج إليها.
وهي على هذا الترتيب ابتداء من برج مدخل فصل الربيع: الحمل، الثور، الجوزاء، "مشتقة من الجوز - بفتح فسكون الوسط - لأنها معترضة في وسط السماء"، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدلو، الحوت.
فاعتبروا لبرج الحمل شهر "أبرير" وهكذا، وذلك بمصادفة أن كانت الشمس يومئذ في سمت شكل نجمي شبهوه بنقط خطوط صورة كبش. وبذلك يعتقد أن الأقدمين ضبطوا السنة الشمسية وقسموها إلى الفصول الأربعة، وإلى الأشهر الاثني عشر قبل أن يضبطوا البروج. وإنما ضبطوا البروج لقصد توقيت ابتداء الفصول بالضبط ليعرفوا ما مضى من مدتها وما بقي.
وأول من رسم هذه الرسوم الكلدانيون، ثم انتقل علمهم إلى بقية الأمم، ومنهم العرب فعرفوها وضبطوها وسموها بلغتهم.
ولذلك أقام القرآن الاستدلال بالبروج على عظيم قدرته وانفراده بالخلق لأنهم قد عرفوا دقائقها ونظامها الذي تهيأت به لأن تكون وسيلة ضبط المواقيت بحيث لا تخلف ملاحظة راصدها. وما خلقها الله بتلك الحالة إلا ليجعلها صالحة لضبط المواقيت كما قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [سورة يونس: من الآية5]. ثم ارتقى في الاستدلال بكون هذه البروج العظيمة الصنع قد جعلت بأشكال تقع موقع الحسن في الأنظار فكانت زينة للناظرين يتمتعون بمشاهدتها في الليل فكانت الفوائد منها عديدة.
وأما قوله: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} فهو إدماج للتعليم في أثناء الاستدلال. وفيه التنويه بعصمة الوحي من أن يتطرقه الزيادة والنقص، بأن العوالم التي يصدر منها الوحي وينتقل فيها محفوظة من العناصر الخبيثة.فهو يرتبط بقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: 9].
وكانوا يقولون: محمد كاهن؛ ولذلك قال الوليد بن المغيرة لما حاورهم فيما أعدوا

من الاعتذار لوفود العرب في موسم الحج إذا سألوهم عن هذا الرجل الذي ادعى النبوءة. وقد عرضوا عليه أن يقولوا: هو كاهن، فكان من كلام الوليد أن قال"... ولا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه". قال تعالى: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الحاقة:42].
وكان الكهان يزعمون أن لهم شياطين تأتيهم بخبر السماء، وهم كاذبون ويتفاوتون في الكذب.
والمراد بالحفظ من الشياطين الحفظ من استقرارها وتمكنها من السماوات. والشيطان تقدم في سورة البقرة.
والرجيم: المحقر، لأن العرب كانوا إذا احتقروا أحدا حصبوه بالحصباء،كقوله تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [سورة الحجر:34]، أي ذميم محقر.
والرجام - بضم الراء - الحجارة. قيل، هي أصل الاشتقاق. ويحتمل العكس. وقد كان العرب يرجمون قبر أبي رغال الثقفي الذي كان دليل جيش الحبشة إلى مكة. قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال
والرجم عادة قديمة حكاها القرآن عن قوم نوح {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [سورة الشعراء:116]. وعن أبي إبراهيم {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [سورة مريم:46]. وقال قوم شعيب: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [سورة هود:91].
وليس المراد به الرجم المذكور عقبه في قوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} لأن الاستثناء يمنع من ذلك في قوله: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}.
واستراق السمع: سرقته. صيغ وزن الافتعال للتكليف. ومعنى استراقه الاستماع بخفية من المتحدث كأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه.
و"أتبعه"بمعنى تبعه. والهمزة زائدة مثل همزة أبان بمعنى بان. وتقدم في قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} في سورة الأعراف [175].
والمبين: الظاهر البين.
وفيه تعليم لهم بان الشهب التي يشاهدونها متساقطة في السماء هي رجوم للشياطين المسترقة طردا لها عن استراق السمع كاملا، فقد عرفوا ذلك من عهد الجاهلية ولم يعرفوا

والمقصود من منع الشياطين من ذلك منعهم الاطلاع على ما أراد الله عدم اطلاعهم عليه من أمر التكوين ونحوه؛ مما لو ألقته الشياطين في علم أوليائهم لكان ذلك فسادا في الأرض. وربما استدرج الله الشياطين وأولياءهم فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان، فلما أراد الله عصمة الوحي منعهم من ذلك بتاتا فجعل للشهب قوة خرق التموجات التي تتلقى منها الشياطين المسترقون السمع وتمزيق تلك التدرجات الموصوفة في الحديث الصحيح.
ثم إن ظاهر الآية لا يقتضي أكثر من تحكك مسترق السمع على السماوات لتحصيل انكشافات جبل المسترق على الحرص على تحصيلها. وفي آية الشعراء ما يقتضي أن هذا المسترق يلقي ما تلقاه من الانكشافات إلى غيره لقوله: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [سورة الشعراء:223].
ومقتضى تكوين الشهب للرجم أن هذا الاستراق قد منع عن الشياطين.
وفي سورة الجن دلالة على أنه منع بعد البعثة ونزول القرآن إحكاما لحفظ الوحي من أن يلتبس على الناس بالكهانة، فيكون ما اقتضاه حديث عائشة وأبي هريرة - رضي الله عنهما - من استراق الجن السمع وصفا للكهانة السابقة.ويكون قوله: "ليسوا بشيء" وصفا لآخر أمرهم.
وقد ثبت بالكتاب والسنة وجود مخلوقات تسمى بالجن وبالشياطين مع قوله: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [سورة صّ:37] الآية. والأكثر أن يخص باسم الجن نوع لا يخالط خواطر البشر، ويخص باسم الشياطين نوع دابة الوسوسة في عقول البشر بإلقاء الخواطر الفاسدة.
وظواهر الأخبار الصحيحة من الكتاب والسنة تدل على أن هذه المخلوقات أصناف، وأنها سابحة في الأجواء وفي طبقات مما وراء الهواء وتتصل بالأرض، وأن منها أصنافا لها اتصال بالنفوس البشرية دون الأجسام وهو الوسواس ولا يخلو منه البشر.
وبعض ظواهر الأخبار من السنة تقتضي أن صنفا له اتصال بنفوس ذات استعداد خاص لاستفادة معرفة الواقعات قبل وقوعها أو الواقعات التي يبعد في مجاري العادات بلوغ وقوعها، فتسبق بعض النفوس بمعرفتها قبل بلوغها المعتاد. وهذه النفوس هي نفوس الكهان وأهل الشعوذة، وهذا الصنف من المخلوقات من الجن أو الشياطين هو المسمى

بمسترق السمع وهو المستثنى بقوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ}. فهذا الصنف إذا اتصل بتلك النفوس المستعدة للاختلاط به حجز بعض قواها العقلية عن بعض فأكسب البعض المحجوز عنه ازدياد تأثير في وظائفه بما يرتد عليه من جراء تفرغ القوة الذهنية من الاشتغال بمزاحمة إلى التوجه إليه وحده، فتكسبه قدرة على تجاوز الحد المعتاد لأمثاله، فيخترق الحدود المتعارفة لأمثاله اختراقا ما، فربما خلصت إليه تموجات هي أوساط بين تموجات كرة الهواء و تموجات الطبقات العليا المجاورة لها، مما وراء الكرة الهوائية.
ولنفرض أن هذه الطبقة هي المسماة بالسماء الدنيا وأن هذه التموجات هي تموجات الأثير فإنها تحفظ الأصوات مثلا.
ثم هذه التموجات التي تخلص إلى عقول أهل هذه النفوس المستعدة لها تخلص إليها مقطعة مجملة فيستعين أصحاب تلك النفوس على تأليفها وتأويلها بما في طباعهم من ذكاء وزكانة، ويخبرون بحاصل ما استخلصوه من بين ما تلقفوه وما ألفوه وما أولوه. وهم في مصادفة بعض الصدق متفاوتون على مقدار تفاوتهم في حدة الذكاء وصفاء الفهم والمقارنة بين الأشياء، وعلى مقدار دربتهم ورسوخهم في معالجة مهنتهم وتقادم عهدهم فيها. فهؤلاء هم الكهان. وكانوا كثيرين بين قبائل العرب. وتختلف سمعتهم بين أقوامهم بمقدار مصادفتهم لما في عقول أقوامهم. ولا شك أن لسذاجة عقول القوم أثرا ما، وكان أقوامهم يعدون المعمرين منهم أقرب إلى الإصابة فيما ينبئون به، وهم بفرط فطنتهم واستغفالهم الله من مريديهم لا يصدرون إلا كلاما مجملا موجها قابلا للتأويل بعدة احتمالات، بحيث لا يؤخذون بالتكذيب الصريح، فيكلون تأويل كلماتهم إلى ما يحدث للناس في مثل الأغراض الصادرة فيها تلك الكلمات، وكلامهم خلو من الإرشاد والحقائق الصالحة.
وهم بحيلتهم واطلاعهم على مياذين النفوس ومؤثراتها التزموا أن يصوغوا كلامهم الذي يخبرون به في صيغة خاصة ملتزما فيها فقرات قصيرة مختتمة بأسجاع، لأن الناس يحسبون مزاوجة الفقرة لأختها دليلا على مصادفتها الحق والواقع، وأنها أمارة صدق. وكانوا في الغالب يلوذون بالعزلة، ويكثرون النظر في النجوم ليلا لتتفرغ أذهانهم. فهذا حال الكهان وهو قائم على أساس الدجل والحيلة والشعوذة مع الاستعانة باستعداد خاص في النفس وقوة تخترق الحواجز المألوفة.
وهذا يفسره ما في كتاب الأدب من "صحيح البخاري" عن عائشة: أن ناسا سألوا

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: "ليسوا بشيء" "أي لا وجود لما يزعمونه". فقيل: يا رسول الله فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة1 "فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة". 11
وما في تفسير سورة الحجر من "صحيح البخاري" من حديث سفيان عن أبي هريرة قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قضى الله الأمر في السماء "أي أمر أو أوحى" وضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله "فإنهم المأمورون كل في وظيفته" كالسلة على صفوان ينفذهم ذلك "أي يحصل العلم لهم.وتقريبها حركات آلة تلقي الرسائل البرقية تلغراف"... فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر "أي هي طبقات مفاوتة في العلو". ووصف سفيان بيده نحرفها وفرج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض "فيسمع المسترق الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الكاهن أو الساحر"، فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة. فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا للكلمة التي سمعت من السماء".
أما أخبار الكهان وقصصهم فأكثرها موضوعات وتكاذيب. وأصحها حديث سواد بن قارب في قصة إسلام عمر - رضي الله عنه - من "صحيح البخاري".
وهذه الظواهر كلها لا تقتضي إلا إدراك المسموعات من كلام الملائكة. ولا محالة أنها مقربة بالمسموعات، لأنها دلالة على عزائم النفوس الملكية وتوجهاتها نحو مسخراتها.
وعبر عنه بالسمع لأنه يؤول إلى الخبر، فالذي يحصل لمسترق السمع شعور ما تتوجه الملائكة لتسخيره، والذي يحصل للكاهن كذلك. والمآل أن الكاهن يخبر به فيؤول إلى مسموع.
[19،20] {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}
ـــــــ
1 قرت الدجاجة تقر قرا: أخف صوتها.

انتقال من الاستدلال بالآيات السماوية إلى الاستدلال بالآيات الأرضية لمناسبة المضادة.
وتقدم الكلام على معنى {مَدَدْنَاهَا} وعلى "الرواسي" في سورة الرعد.
والموزون: مستعار للمقدر المضبوط.
و {معايش}: جمع معيشة. وبعد الألف ياء تحتية لا همزة كما تقدم في صدر سورة الأعراف.
{وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} عطف على الضمير المجرور في {لَكُمْ}، إذ لا يلزم للعطف على الضمير المجرور المنفصل الفصل بضمير منفصل على التحقيق، أي جعلنا لكم أيها المخاطبين في الأرض معايش، وجعلنا في الأرض معايش لمن لستم له برازقين، أي لمن لستم له بمطعمين.
وما صدق {مَنْ} الذي يأكل طعامه مما في الأرض، وهي الموجودات التي تقتات من نبات الأرض ولا يعقلها الناس.
والإتيان ب {مَنْ} التي الغالب استعمالها للعاقل للتغليب.
ومعنى {لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} نفي أن يكونوا رازقيه لأن الرزق الإطعام. ومصدر رزقه الرزق - بفتح الراء -. وأما الرِّزق - بكسر الراء - فهو الاسم وهو القوت.
[21] {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}
هذا اعتراض ناشئ عن قوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [سورة الحجر:19]، وهو تذييل.
والمراد بالشيء ما هو نافع للناس بقرينة قوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} الآية. وفي الكلام حذف الصفة كقوله تعالى: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [سورة الكهف:79] أي سفينة صالحة.
والخزائن تمثيل لصلوحية القدرة الإلهية لتكوين الأشياء النافعة. شبهت هيئة إيجاد الأشياء النافعة بهيئة إخراج المخزونات من الخزائن على طريقة التمثيلية المكنية، ورمز إلى الهيئة المشبه بها بما هو من لوازمها وهو الخزائن. وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} في سورة الأنعام [50].
وشمل ذلك الأشياء المتفرقة في العالم التي تصل إلى الناس بدوافع وأسباب تستتب

في أحوال مخصوصة، أو بتركيب شيء مع شيء مثل نزول البرد من السحاب وانفجار العيون من الأرض بقصد أو على وجه المصادفة.
وقوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} أطلق الإنزال على تمكين الناس من الأمور التي خلقها الله لنفعهم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} في سورة البقرة [29]، إطلاقا مجازيا لأن ما خلقه الله لما كان من أثر أمر التكوين الإلهي شبه تمكين الناس منه بإنزال شيء من علو باعتبار أنه من العالم اللدني، وهو علو معنوي. أو باعتبار أن تصاريف الأمور كائن في العوالم العلوية، وهذا كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَة} في سورة الزمر [6]. وقوله تعالى: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} في سورة الطلاق [12].
والقدر - بفتح الدال -: التقدير. وتقدم عند قوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} في سورة الرعد [17].
والمراد بـ {مَعْلُومٍ} أنه معلوم تقديره عند الله تعالى.
[22] {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}
انتقال من الاستدلال بظواهر السماء وظواهر الأرض إلى الاستدلال بظواهر كرة الهواء الواقعة بين السماء والأرض، وذلك للاستدلال بفعل الرياح والمنة بما فيها من الفوائد.
والإرسال: مجاز في نقل الشيء من مكان إلى مكان. وهذا يدل على أن الرياح مستمرة الهبوب في الكرة الهوائية. وهي تظهر في مكان آتية إليه من مكان آخر وهكذا...
و {لَوَاقِحَ} حال من {الرِّيَاحَ}. وقع هذا الحال إدماجا لإفادة معنيين كما سيأتي عن مالك - رحمه الله -.
و {لَوَاقِحَ} صالح لأن يكون جمع لاقح وهي الناقة الحبلى. واستعمل هنا استعارة للريح المشتملة على الرطوبة التي تكون سببا في نزول المطر، كما استعمل في ضدها العقيم ضد اللاقح في قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [سورة الذاريات:41].

وصالح لأن يكون جمع ملقح وهو الذي يجعل غيره لاقحا، أي الفحل إذا ألقح الناقة، فإن فواعل يجئ جمع مفعل مذكر نادرا كقول الحارث أو ضرار النهشلي:
لبيك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوايح
روعي فيه جواز تأنيث المشبه به. وهي جمع الفحول لأن جمع ما لا يعقل يجوز تأنيثه.
ومعنى الإلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ثم ينزل مطرا على الأرض؛ وأنها تلقح الشجر ذي الثمرة بأن تنقل إلى نوره غبرة دقيقة من نور الشجر الذكر فتصلح ثمرته أو تثبت، وبدون ذلك تثبت أو لا تصلح. وهذا هو الإبار. وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة. وبعضه يكتفي منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر.
ومن بلاغه الآية إيراد هذا الوصف لإفادة كلا العملين اللذين تعملهما الرياح وقد فسرت الآية بهما. واقتصر جمهور المفسرين على أنها لواقح السحاب بالمطر.
وروى أبو بكر بن العربي عن مالك أنه قال: قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أريد ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فسادا لا خير فيه. ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت.
وفرع قوله: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} على قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ}.
وقرأ حمزة {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَحَ لَوَاقِحَ} بإفراد"الريح"وجمع"لواقح"على إرادة الجنس والجنس له عدة أفراد.
و {أَسْقَيْنَاكُمُوهُ} بمعنى جعلناه سيقا، فالهمزة فيه للجعل. وكثر إطلاق أسقى بمعنى سقي.
واستعمل الخزن هنا في معنى الخزن في قوله آنفا {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُه} [سورة الحجر:21] أي وما أنتم له بمحافظين ومنشئين عندما تريدون.
[23] {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ}

لما جرى ذكر إنزال المطر وكان مما يسبق إلى الأذهان عند ذكر المطر إحياء الأرض به ناسب أن يذكر بعده جنس الإحياء كله لما فيه من غرض الاستدلال على الغافلين عن الوحدانية، ولأن فيه دليلا على إمكان البعث. والمقصود ذكر الإحياء ولذلك قدم.وذكر الإماتة للتكميل.
والجملة عطف على جملة {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [سورة الحجر:16] للدلالة على القدرة وعموم التصرف.
وضمير"نَحْنُ"ضمير فصل دخلت عليه لام الابتداء. وأكد الخبر ب "إن" واللام وضمير الفصل لتحقيقه وتنزيلا للمخاطبين في إشراكهم منزلة المنكرين للإحياء والإماتة.
والمراد بالإحياء تكوين الموجودات التي فيها الحياة وإحياؤها أيضا بعد فناء الأجسام. وقد أدمج في الاستدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف إثبات البعث ودفع استبعاد وقوعه واستحالته.
ولما كان المشركون منكرين من الإحياء كان توكيد الخبر مستعملا في معنييه الحقيقي والتنزيلي.
وجملة {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} عطف على جملة {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ}.
ومعنى الإرث هنا البقاء بعد الموجودات تشبيها بالإرث وهو أخذ مل يتركه الميت من أرض وغيرها.
[24،25] {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
لما ذكر الإحياء والإماتة وكان الإحياء بكسر الهمزة يذكر بالأحياء بفتحها، وكانت الإماتة تذكر بالأموات الماضين تخلص من الاستدلال بالإحياء والإماتة على عظم القدرة إلى الاستدلال بلازم ذلك على عظم علم الله وهو علمه بالأمم البائدة وعلم الأمم الحاضرة? فأريد بالمستقدمين الذين تقدموا الأحياء إلى الموت أو إلى الآخرة، فالتقدم فيه بمعنى المضي، وبالمستأخرين الذين تأخروا وهم بعد انقراض غيرهم إلى أجل يأتي.
والسين والتاء في الوصفين للتأكيد مثل استجاب، ولكن قولهم استقدم بمعنى تقدم

على خلاف القياس لأن فعله رباعي. وقد تقدم عند قوله تعالى: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} في سورة الأعراف [34].
وقد تقدم في طالع تفسير هذه السورة الخبر الذي أخرجه الترمذي في جامعه من طريق نوح بن قيس ومن طريق جعفر بن سليمان في سبب نزول هذه الآية. وهو خبر واه لا يلاقي انتظام الآيات ولا يكون إلا من التفاسير الضعيفة.
وجملة {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} نتيجة هذه الأدلة من قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} [سورة الحجر:23] فإن الذي يحيي الحياة الأولى قادر على الحياة الثانية بالأولى، والذي قدر الموت ما قدره عبثا بعد أن أوجد الموجودات إلا لتستقبلوا حياة أبدية، ولولا ذلك لقدر الدوام على الحياة الأولى، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} [سورة الملك:2].
وللإشارة إلى هذا المعنى من حكمة الإحياء والإماتة أتبعه بقوله: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} تعليلا لجملة {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} لأن شأن {إِنَّ} إذا جاءت في غير معنى الرد على المنكر أن تفيد معنى التعليل والربط بما قبلها.
والحكيم: الموصوف بالحكمة. وتقدم عند قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [سورة البقرة: 269] وعند قوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في سورة البقرة [209].
و "العليم" الموصوف بالعلم العام، أي المحيط، وتقدم عند قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} في سورة آل عمران [140].
وقد أكدت جملة {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} بحرف التوكيد وبضمير الفصل لرد إنكارهم الشديد للحشر. وقد أسند الحشر إلى الله بعنوان كونه رب محمد صلى الله عليه وسلم تنويها بشأن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كذبوه في الخبر عن البعث {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سورة سبأ:7-8]
أي فكيف ظنك بجزائه مكذبيك إذا حشرهم.
[26،27] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}

تكملة لإقامة الدليل على انفراده تعالى بخلق أجناس العوالم وما فيها. ومنه يتخلص إلى التذكير بعداوة الشيطان للبشر ليأخذوا حذرهم منه ويحاسبوا أنفسهم على ما يخامرها من وسواسه بما يرديهم. جاء بمناسبة ذكر الإحياء والإماتة فإن أهم الإحياء هو إيجاد النوع الإنساني. ففي هذا الخبر استدلال على عظيم القدرة والحكمة وعلى إمكان البعث، وموعظة وذكرى. والمراد بالإنسان - آدم عليه السلام -.
والصلصال: الطين الذي يترك حتى ييبس فإذا يبس فهو صلصال وهو شبه الفخار؛ إلا أن الفخار هو ما يبس بالطبخ بالنار. قال تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [سورة الرحمن:14].
والحمأ: الطين إذا اسودّ وكرهت رائحته. وقوله: {حَمَأٍ} صفة لـ {صَلْصَالٍ}. و {مَسْنُونٍ} صفة لـ {حَمَأٍ} أو لـ {صَلْصَالٍ}. وإذ كان الصلصال من الحمأ فصفة أحدهما صفة للآخر.
والمسنون: الذي طالت مدة مكثه، وهو اسم مفعول من فعل سنة إذا تركه مدة طويلة تشبه السنة. وأحسب أن فعل "سن" بمعنى ترك شيئا مدة طويلة غير مسموع.
ولعل "تسنه" بمعنى تغير من طول المدة أصله مطاوع سنة ثم تنوسي منه معنى المطاوعة. وقد تقدم قوله تعالى: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} في سورة البقرة [259].
والمقصود من ذكر هذه الأشياء التنبيه على عجيب صنع الله تعالى إذا أخرج من هذه الحالة المهينة نوعا هو سيد أنواع عالم المادة ذات الحياة.
وفيه إشارة إلى أن ماهية الحياة تتقوم من الترابية والرطوبة والتعفن، وهو يعطي حرارة ضعيفة. ولذلك تنشأ في الأجرام المتعفنة حيوانات مثل الدود، ولذلك أيضا تنشأ في الأمزجة المتعفنة الحمى.
وفيه إشارة إلى الأطوار التي مرت على مادة خلق الإنسان.
وتوكيد الجملة بلام قسم وبحرف "قد" لزيادة التحقق تنبيها على أهمية هذا الخلق وأنه بهذه الصفة.
وعطف جملة {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ} إدماج وتمهيد إلى بيان نشأة العداوة بين آدم وجند إبليس.

وأكدت جملة {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ} بصيغة الاشتغال التي هي تقوية للفعل بتقدير نظير المحذوف، ولما فيها من الاهتمام بالإجمال ثم التفصيل لمثل الغرض الذي أكدت به جملة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} الخ.
وفائدة قوله: {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل خلق الإنسان تعليم أن خلق الجان أسبق لأنه مخلوق من عنصر الحرارة أسبق من الرطوبة.
و {السَّمُومِ} السموم - بفتح السين -: الريح الحارة. فالجن مخلوق من النارية والهوائية ليحصل الاعتدال في الحرارة فيقبل الحياة الخاصة اللائقة بخلقه الجن، فكما كون الله الحمأة الصلصال المسنون لخلق الإنسان، كون ريحا حارة وجعل منها الجن. فهو مكون من حرارة زائدة على مقدار حرارة الإنسان ومن تهوية قوية. والحكمة كلها في إتقان المزج والتركيب.
[28-35] {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}
عطف قصة على قصة.
و {إِذْ} مفعول لفعل "اذكر" محذوف. وقد تقدم الكلام في نظائره في سورة البقرة وفي سورة الأعراف.
والبشر: مرادف الإنسان، أي أني خالق إنسانا. وقد فهم الملائكة الحقيقة بما ألقى الله فيهم من العلم، أو أن الله وصف لهم حقيقة الإنسان بالمعنى الذي عبر عنه في القرآن بالعبارة الجامعة لذلك المعنى.
وإنما ذكر للملائكة المادة التي منها خلق البشر ليعلموا أن شرف الموجودات بمزاياها لا بمادة تركيبها كما أومأ إلى ذلك قوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}.
والتسوية: تعديل ذات الشيء. وقد أطلقت هنا على اعتدال العناصر فيه واكتمالها

بحيث صارت قابلة لنفخ الروح.
والنفخ: حقيقته إخراج الهواء مضغوطا بين الشفتين مضمومتين كالصفير واستعير هنا لوضع قوة لطيفة السريان قوية التأثير دفعة واحدة. وليس ثمة نفخ ولا منفوخ.
وتقريب نفخ الروح في الحي أنه تكون القوة البخارية أو الكهربائية المنبعثة من القلب عند انتهاء استواء المزاج و تركيب أجزاء المزاج تكونا سريعا دفعيا وجريان آثار تلك القوة في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن في تجاويف جميع أعضائه الرئيسة وغيرها.
وإسناد النفخ وإضافة الروح إلى ضمير اسم الجلالة تنويه بهذا المخلوق. وفيه إيماء إلى أن حقائق العناصر عند الله تعالى لا تتفاضل إلا بتفاضل آثارها وأعمالها، وأن كراهة الذات أو الرائحة إلى حالة يكرهها بعض الناس أو كلهم إنما هو تابع لما يلائم الإدراك الحسي أو ينافره تبعا لطباع الأمزجة أو لإلف العادة ولا يؤبه في علم الله تعالى. وهذا هو ضابط وصف القذارة والنزاهة عند البشر.
ألا ترى أن المني يستقذر في الحس البشري على أن منه تكوين نوعه، ومنه تخلقت أفاضل البشر. وكذلك المسك طيب في الحس البشري لملاءمة رائحته للشم وما هو إلا غدة من خارجات بعض أنواع الغزال، قال تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:7-9].
وهذا تأصيل لكون عالم الحقائق غير خاضع لعالم الأوهام.وفي الحديث: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". وفيه: "لا يكلم أحد في سبيل الله؛ والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة ودمه يشخب اللون لون الدم والريح ريح المسك".
ومعنى {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} اسقطوا له ساجدين، وهذه الحال لإفادة نوع الوقوع، وهو الوقوع لقصد التعظيم. كقوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} [سورة يوسف: 100]. وهذا تمثيل لتعظيم يناسب أحوال الملائكة وأشكالهم تقديرا لبديع الصنع والصلاحية لمختلف الأحوال الدال على تمام علم الله وعظيم قدرته.
وأمر الملائكة بالسجود لا ينافي تحريم بالسجود في الإسلام لغير الله من وجوه:
أحدهما: أن ذلك المنع لسد ذريعة الإشراك والملائكة معصومون من تطرق ذلك إليهم.

وثانيها: أن شريعة الإسلام امتازت بنهاية مبالغ الحق والصلاح، فجاءت بما لم تجئ به الشرائع السالفة لأن الله أراد بلوغ أتباعها أوج الكمال في المدارك ولم يكن السجود من قبل محظورا فقد سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف - عليهم السلام - وكانوا أهل إيمان.
وثالثها: أن هذا إخبار عن أحوال العالم العلوي، ولا تقاس أحكامه على تكاليف عالم الدنيا.
وقوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} عنوان على طاعة الملائكة.
و {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} تأكيد على تأكيد، أي لم يتخلف عن السجود أحد منهم.
وقوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} تقدم القول على نظيره في سورة البقرة وسورة الأعراف.
وقوله هنا {أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} بيان لقوله في سورة البقرة [34] {وَاسْتَكْبَرَ}، لأنه أبى أن يسجد وأن يساوي الملائكة في الرضى بالسجود. فدل هذا على أنه عصى وأنه ترفع عن متابعة غيره.
وجملة {مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} استفهام توبيخ. ومعناه أي شيء ثبت لك، أي متمكنا منك، لأن اللام تفيد الملك. و {أَلَّا تَكُونَ} معمول لحرف جر محذوف تقديره "في". وحذف حرف الجر مطرد مع "أن". وحرف "أن" يفيد المصدرية. فالتقدير في انتفاء كونك من الساجدين.
وقوله: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} جحود. وقد تقدم أنه أشد في النفي من "لا أسجد" في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ} في آخر العقودالمائدة:116].
وقوله: {لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} تأييد لإبايته من السجود بأن المخلوق من ذلك الطين حقير ذميم لا يستأهل السجود. وهذا ضلال نشأ عن تحكيم الأوهام بإعطاء الشيء حكم وقعه في الحاسة الوهمية دون وقعه في الحاسة العقلية، وإعطاء حكم ما منه التكوين للشيء الكائن. فشتان بين ذكر ذلك في قوله تعالى للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} وبين مقصد الشيطان من حكاية ذلك في تعليل امتناعه من السجود للمخلوق منه بإعادة الله الألفاظ التي وصف بها الملائكة. وزاد فقال ما حكي عنه في سورة ص [76] إذ قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ

طِينٍ} ولم يحك عنه هنا.
وبمجموع ما حكي عنه هنا وهناك كان إبليس مصرحا بتخطئة الخالق، كافرا بصفاته، فاستحق الطرد من عالم القدس. وقد بيناه في سورة ص.
وعطفت جملة أمره بالخروج بالفاء لأن ذلك الأمر تفرع على جوابه المنبئ عن كفره وعدم تأهله للبقاء في السماوات.
والفاء في {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} دالة على سبب إخراجه من السماوات. و إن مؤذنة بالتعليل. وذلك إيماء إلى سبب إخراجه من عوالم القدس، وهو ما يقتضيه وصفه بالرجيم من تلوث الطوية وخبث النفس، أي حيث ظهر هذا فيك فقد خبثت نفسك خبثا لا يرجى بعده صلاح فلا تبقى في عالم القدس والنزاهة.
والرجيم: المطرود. وهو كناية عن الحقارة. وتقدم في أول هذه السورة {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [سورة الحجر:17].
وضمير {منها} عائد إلى السماوات وإن لم تذكر لدلالة ذكر الملائكة عليها. وقيل: إلى الجنة. وقد اختلف علماؤنا في أنها موجودة.
و {اللَّعْنَةَ}: السب بالطرد.و "على" مستعملة في الاستعلاء المجازي؛ وهو تمكن اللعنة والشتم منه حتى كأنه يقع فوقه.
وجعل {يَوْمِ الدِّينِ} وهو يوم الجزاء غاية للعن استعمالا في معنى الدوام، كأنه قيل أبدا. وليس ذلك بمقتضي أن اللعنة تنتهي يوم القيامة ويخلقها ضدها، ولكن المراد أن اللعنة عليه في الدنيا إلى أن يلاقي جزاء عمله فذلك يومئذ أشد من اللعنة.
[36-38] {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}
سؤاله النظرة بعد إعلامه بأنه معلون إلى يوم الدين فاض به خبث جبلته البالغ نهاية الخباثة التي لا يشفيها إلا دوام الإفساد في هذا العالم، فكانت هذه الرغبة مجلبة لدوام شقوته.
ولما كانت اللعنة تستمر بعد انعدام الملعون إذا اشتهر بين الناس بسوء لم يكن توقيتها بالأبد مقيدا حياة الملعون، فلذلك لم يكن لإبليس غنى بقوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ

الدِّينِ} عن أن يسأل الإبقاء إلى يوم الدين ليكون مصدر الشرور للنفوس قضاء لما جبل عليه من بث الخبث؛ فكان بذلك حريصا على دوامها بما يوجه إليه من اللعنة، فسأل النظرة حبا للبقاء لما في البقاء من استمرار عمله.
وخاطب الله بصفة الربوبية تخضعا وحثا على الإجابة. والفاء في {فَأَنْظِرْنِي} فاء التفريع. فرع السؤال عن الإخراج.
ووسّط النداء بين ذلك.
وذكرت هذه الحالة من أوصاف نفسيته بعثا لكراهيته في نفوس البشر الذين يرون أن حق النفس الأبية أن تأنف من الحياة الذميمة المحقرة، وذلك شأن العرب، فإذا علموا هذا الحوص من حال إبليس أبغضوه واحتقروه فلم يرضوا بكل عمل ينسب إليه.
والإنظار: الإمهال والتأخير. وتقدم في قوله: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} في سورة البقرة [280]. والمراد تأخير إماتته لأن الإنظار لا يكون للذات، فتعين أنه لبعض أحوالها وهو الموت بقرينة السياق.
وعبر عن يوم الدين بـ {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} تمهيدا لما عقد عليه العزم من إغواء البشر، فأراد الإنظار إلى آخر مدة وجود نوع الإنسان في الدنيا. وخلق الله فيه حب النظرة التي قدرها الله له وخلقه لأجلها وأجل آثارها ليحمل أوزار تبعة ذلك بسبب كسبه واختياره تلك الحالة، فإن ذلك الكسب والاختيار هو الذي يجعله ملائما لما خلق له، كما أومأ إلى ذلك البيان النبوي بقوله: "كل ميسر لما خلق له".
وضمير {يُبْعَثُونَ} للبشر المعلومين من تركيب خلق آدم عليه السلام، وأنه يكون له نسل ولا سيما حيث خلقت زوجه حينئذ فإن ذلك يقتضي أن يكون منهما نسل.
وعبر عن يوم البعث بـ {يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} تفننا تفاديا من إعادة اللفظ قضاء لحق حسن النظم، ولما فيه من التعليم بأن الله يعلم ذلك الأجل، فالمراد: المعلوم لدينا. ويجوز أن يراد المعلوم للناس أيضا علما إجماليا.
وفيه تعريض بأن من لم يؤمنوا بذلك اليوم من الناس لا يعبأ بهم فهم كالعدم.
وهذا الإنظار رمز إلهي على أن ناموس الشر لا ينقضي من عالم الحياة الدنيا وأن نظامها قائم على التصارع بين الخير والشر والأخيار والأشرار، قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ

بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [سورة الانبياء:18] وقال: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد:17]. فلذلك لم يستغن نظام العالم عن إقامة قوانين العدل والصلاح وإيداعها إلى الكفاة لتنفيذها والذود عنها.
وعطفت مقولات هذه الأقوال بالفاء لأن كل قول منها أثاره الكلام الذي قبله فتفرع عنه.
[39،39] {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}
الباء في {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} للسببية، و "ما" موصولة، أي بسبب إغوائك إياي، أي بسبب أن خلقتني غاويا فسأغوي الناس.
واللام في {لَأُزَيِّنَنَّ} لام قسم محذوف مراد بها التأكيد، وهو القسم المصرح به في قوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [صّ:82].
والتزيين: التحسين، أي جعل الشيء زينا، أي حسنا. وحذف مفعول {لَأُزَيِّنَنَّ} لظهوره من المقام، أي لأزينن لهم الشر والسيئات فيرونها حسنة، وأزين لهم الإقبال على الملاذ التي تشغلهم عن الواجبات. وتقدم عند قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} في سورة البقرة [212].
والإغواء: جعلهم غاوين. والغواية - بفتح الغين -: الضلال. والمعنى: ولأضلنهم. وإغواء الناس كلهم هو أشد أحوال غاية المغوي إذ كانت غوايته متعدية إلى أيجاد غواية غيره.
وبهذا يعلم أن قوله: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} إشارة إلى غواية يعلمها الله وهي التي جبله عليها، فلذلك اختير لحكايتها طريقة الموصولية، ويعلم أن كلام الشيطان هذا طفح بما في جبلته، وليس هو تشفيا أو إغاظة لأن العظمة الإلهية تصده عن ذلك.
وزيادة {فِي الْأَرْضِ} لأنها أول ما يخطر بباله عند خطور الغواية لاقتران الغواية بالنزول إلى الأرض الذي دل عليه قوله تعالى: {فَاخْرُجْ مِنْهَا} [سورة الحجر:34]، أي اخرج من الجنة إلى الأرض كما جاء في الآية الأخرى قال: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [سورة البقرة:36]، ولأن جعل التزيين في الأرض يفيد

انتشاره في جميع ما على الأرض من الذوات وأحوالها.
وضمائر: {لَهُمْ}، و {لَأُغْوِيَنَّهُمْ} و {مِنْهُمُ} ، لبني آدم، لأنه قد علم علما ألقي في وجدانه بان آدم عليه السلام ستكون له ذرية، أو اكتسب ذلك من أخبار العالم العلوي أيام كان من أهله وملئه.
وجعل المغْوَين هم الأصل، واستثنى منهم عباد الله المخلصين لأن عزيمته منصرفة إلى الإغواء، فهو الملحوظ ابتداء عنده، على أن المغوين هم الأكثر. وعكسه قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [سورة الحجر:42]. والاستثناء لا يشعر بقلة المستثنى بالنسبة للمستثنى منه ولا العكس.
وقرئ {الْمُخْلَصِينَ} - بفتح اللام - لنافع وحمزة وعاصم والكسائي على معنى الذين أخلصتهم وطهرتهم. و - بكسر اللام - لابن كثير وابن عامر وأبي عمرو، أي الذين أخلصوا لك في العمل.
[41-44] {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}
الصراط المستقيم: هو الخبر والرشاد.
فالإشارة إلى ما يؤخذ من الجملة الواقعة بعد اسم الإشارة المبينة للإخبار عن اسم الإشارة وهي جملة {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}، فتكون الإشارة إلى غير مشاهد تنزيلا له منزلة المشاهد، وتنزيلا للمسموع منزلة المرئي.
ثم إن هذا المنزل منزلة المشاهد هو مع ذلك غير مذكور لقصد التشويق إلى سماعه عند ذكره. فاسم الإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن، كما يكتب في العهود والعقود: هذا ما قاضى عليه فلان فلانا أنه كيت و كيت، أو هذا ما اشترى فلان من فلان أنه باعه كذا وكذا.
ويجوز أن تكون الإشارة إلى الاستثناء الذي سبق في حكاية كلام إبليس من قوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة الحجر:40] لتضمنه أنه لا يستطيع غواية العباد الذين أخلصهم الله للخير، فتكون جملة {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} مستأنفة

أفادت نفي سلطانه.
والصراط: مستعار للعمل الذي يقصد منه عامله فائدة. شبه بالطريق الموصل إلى المكان المطلوب وصوله إليه، أي هذا هو السنة التي وضعتها في الناس وفي غوايتك إياهم وهي أنك لا تغوي إلا من اتبعك من الغاوين، أو أنك تغوي من عدا عبادي المخلصين.
و {مُسْتَقِيمٌ} نعت لـ {صِرَاطٌ}، أي لا اعوجاج فيه. واستعيرت الاستقامة لملازمة الحالة الكاملة.
و {عَلَيَّ} مستعملة في الوجوب المجازي، وهو الفعل الدائم الذي لا يتخلف كقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [سورة الليل:12]، أي أنا التزمنا الهدى لا نحيد عنه لأنه مقتضى الحكمة وعظمة الإلهية.
وهذه الجملة مما يرسل من الأمثال القرآنية.
وقرأ الجمهور {عَلَيَّ} بفتح اللام - وفتح الياء على أنها "على" اتصلت بها ياء المتكلم. وقرأه يعقوب - بكسر اللام وضم الياء وتنوينها - على أنه وصف من العلو وصف به صراط، أي صراط شريف عظيم القدر.
والمعنى أن الله وضع سنة في نفوس البشر أن الشيطان لا يتسلط إلا على من كان غاويا، أي مائلا للغواية مكتسبا لها دون من كبح نفسه عن الشر. فإن العاقل إذا تعلق به وسواس الشيطان علم ما فيه من إضلال وعلم أن الهدى في خلافه فإذا توفق وحمل نفسه على اختيار الهدى وصرف إليه عزمه قوي على الشيطان فلم يكن له عليه سلطان، وإذا مال إلى الضلال واستحسنه واختار إرضاء شهوته صار متهيئا إلى الغواية فأغواه الشيطان فغوى. فالاتباع مجاز بمعنى الطاعة واستحسان الرأي كقوله: {اتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران:31].
وإطلاق {الْغَاوِينَ} من باب إطلاق اسم الفاعل على الحصول في المستقبل بالقرينة لأنه لو كان غاويا بالفعل لم يكن لسلطان الشيطان عليه فائدة. وقد دل على هذا المعنى تعلق نفي السلطان بجميع العباد، ثم استثناء من كان غاويا. فلما كان سلطان الشيطان لا يتسلط إلا على من كان غاويا علمنا أن ثمة وصفا بالغواية هو مهيئ تسلط سلطان الشيطان على موصوفه. وذلك هو الموصوف بالغواية بالقوة لا بالفعل، أي بالاستعداد

للغواية لا بوقوعها.
فالإضافة في قوله تعالى: {عِبَادِي} للعموم كما هو شأن الجمع المعرف بالإضافة، والاستثناء حقيقي ولا حيرة في ذلك.
وضمير"موعدهم"عائد إلى {مَنِ اتَّبَعَكَ}، والموعد مكان الوعد. وأطلق هنا على المصير إلى الله استعير الموعد لمكان اللقاء تشبيها له بالمكان المعين بين الناس للقاء معين وهو الوعد.
ووجه الشبه تحقق المجيء بجامع الحرص عليه شأن المواعيد، لأن إخلاف الوعد محذور، وفي ذلك تمليح بهم لأنهم ينكرون البعث والجزاء، فجعلوا بمنزلة من عين ذلك المكان للإتيان.
وجملة {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} مستأنفة لوصف حال جهنم وأبوابها لإعداد الناس بحيث لا تضيق عن دخولهم.
والظاهر أن السبعة مستعملة في الكثرة فيكون كقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [سورة الرعد:23]؛ أو أريد بالأبواب الكناية عن طبقات جهنم لأن الأبواب تقتضي منازل فهي مراتب مناسبة لمراتب الإجرام بان تكون أصول الجرائم سبعة تتفرع عنها جميع المعاصي الكبائر. وعسى أن نتمكن من تشجيرها في وقت آخر.
وقد يكون من جملة طبقاتها طبقة النفاق قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [سورة النساء:145]. وانظر ما قدمناه من تفريع ما ينشأ عن النفاق من المذام في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} في سورة البقرة [8].
وجملة {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} صفة لـ {أَبْوَابٍ} وتقسيمها بالتعيين يعلمه الله تعالى. وضمير {مِنْهُمْ} عائد لـ {مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}، أي لكل باب فريق يدخل منه، أو لكل طبقة من النار قسم من أهل النار مقسوم على طبقات أقسام النار.
واعلم أن هذه الأقوال التي صدرت من الشيطان لدى الحضرة القدسية هي انكشاف لجبلة التطور الذي تكيفت به نفس إبليس من حين أبى من السجود وكيف تولد كل فصل من ذلك التطور عما قبله حتى تقومت الماهية الشيطانية بمقوماتها كاملة عندما صدر منه قوله: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة

الحجر:40]، فكلما حدث في جبلته فصل من تلك الماهية صدر منه قول يدل عليه؛ فهو شبيه بنطق الجوارح بالشهادة على أهل الضلالة يوم الحساب.
وأما الأقوال الإلهية التي أجيبت بها أقوال الشيطان فمظهر للأوامر التكوينية التي قدرها الله تعالى في علمه لتطور أطوار إبليس المقومة لماهية الشيطنة، وللألطاف التي قدرها الله لمن يعتصم بها من عباده لمقاومة سلطان الشيطان. وليست تلك الأقوال كلها بمناظرة بين الله وأحد مخلوقاته ولا بغلبة من الشيطان لخالقه، فإن ضعفه تجاه عزة خالقه لا يبلغ به إلى ذلك.
[45-48] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}
استئناف ابتدائي، انتقال من وعيد المجرمين إلى بشارة المتقين على عادة القرآن في التفنن.
والمتقون: الموصوفون بالتقوى. وتقدمت عند صدر سورة البقرة.
و الجنات: جمع جنة. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في أول سورة البقرة [25].
و العيون: جمع عين اسم لثقب أرضي يخرج منه الماء من الأرض. فقد يكون انفجارها بدون عمل الإنسان. وأسبابه كثيرة تقدمت عند قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} في سورة البقرة [74]. وقد يكون بفعل فاعل وهو التفجير.
وجملة {ادْخُلُوهَا} معمولة لقول محذوف يقدر حالا من {الْمُتَّقِينَ} والقرينة ظاهرة. والتقدير: يقال لهم ادخلوها. والقائل هو الملائكة عند إدخال المتقين الجنة.
والباء من {بِسَلامٍ} للمصاحبة.
والسلام: التحية. وتقدم في قوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} في سورة الأنعام [54].
والأمن النجاة من الخوف.

وجملة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} عطف على الخبر، وهو {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}. والتقدير: إن المتقين نزعنا ما في صدورهم من غل.
والغل - بكسر الغين - البغض. وتقدم في قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} في سورة الأعراف [43]، أي ما كان بين بعضهم من غل في الدنيا.
و {إِخْوَاناً} حال، وهو على معنى التشبيه، أي كالإخوان، أي كحال الإخوان في الدنيا.
وأول من يدخل في هذا العموم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم من الحوادث الدافع إليها اختلاف الاجتهاد في إقامة مصالح المسلمين، والشدة في إقامة الحق على حسب اجتهادهم. كما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إني لأرجو من أن أكون أنا و طلحة ممن قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً}. فقال جاهل من شيعة علي اسمه الحارث بن الأعور الهمذاني: كلا الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد. فقال علي: "فلمن هذه الآية لا أم لك بفيك التراب".
والسرر: جمع سرير. وهو محمل كالكرسي متسع يمكن الاضطجاع عليه. والاتكاء: مجلس أصحاب الدعة والرفاهية لتمكن الجالس عليه من التقلب كيف شاء حتى إذا مل جلسة انقلب لغيرها.
والتقابل: كون الواحد قبالة غيره، وهو أدخل في التأنس بالرؤية والمحادثة.
والمس: كناية عن الإصابة.
والنصب: التعب الناشئ عن استعمال الجهد.
[49،50] {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}
هذا تصدير لذكر القصص التي أريد من التذكير بها الموعظة بما حل بأهلها، وهي قصة قوم لوط وقصة أصحاب الأيكة وقصة ثمود.
وابتدئ ذلك بقصة إبراهيم - عليه السلام - لما فيها من كرامة الله له تعريضا بالمشركين إذ لم يقتفوا آثاره في التوحيد.

فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا وهو مرتبط بقوله في أوائل السورة: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [سورة الحجر:4].
وابتداء الكلام بفعل الإنباء لتشويق السامعين إلى ما بعده كقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [سورة البروج:17] ونحوه. والمقصود هو قوله تعالى الآتي: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [سورة الحجر:51]. وإنما قدم الأمر بإعلام الناس بمغفرة الله وعذابه ابتداء بالموعظة الأصلية قبل الموعظة بجزئيات حوادث الانتقام من المعاندين وإنجاء من بينهم من المؤمنين لأن ذلك دائر بين أثر الغفران وبين أثر العذاب.
وقدمت المغفرة على العذاب لسبق رحمته غضبه.
وضمير {أَنَا} وضمير {هُوَ} ضميرا فصل يفيدان تأكيد الخبر.
واعلم أن في قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي} إلى {الرَّحِيمُ} من المحسنات البديعة محسن الاتزان إذا سكنت ياء {أني} على قراءة الجمهور بتسكينها، فإن الآية تأتي متزنة على ميزان بحر المجتث الذي لحقه الخبن في عروضه وضربه فهو متفعلن فعلاتن مرتين.
[51-56] {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}
هذا العطف مع اتحاد الفعل المعطوف بالفعل المعطوف عليه الصيغة دليل على أن المقصود الإنباء بكلا الأمرين لمناسبة ذكر القصة أنها من مظاهر رحمته تعالى وعذابه.
و {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}: الملائكة الذين تشكلوا بشكل أناس غرباء مارين ببيته. وتقدمت القصة في سورة هود.
وجملة {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} جاءت مفصولة بدون عطف لأنها جواب عن جملة {فَقَالُوا سَلاماً}. وقد طوي ذكر رده السلام عليهم إيجازا لظهوره.صرح به في قوله: {قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [سورة الذريات:25]، أي قال إنا منكم وجلون بعد أن رد السلام. وفي سورة هود أنه أوجس منهم خيفة حين رآهم لم يمدوا أيديهم للأكل.
وضمير {إِنَّا} من كلام إبراهيم - عليه السلام - فهو يعني به نفسه وأهله،لأن

الضيف طرقوا بيتهم في غير وقت طروق الضيف فظنهم يريدون به شرا؛ فلما سلموا عليه فاتحهم بطلب الأمن، فقال: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}، أي أخفتمونا. وفي سورة الذاريات أنه قال لهم: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [سورة الذريات:25].
والوجل: الخائف. والوجل بفتح الجيم الخوف. ووقع في سورة هود [70] {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}.
وقد جمع في هذه الآية متفرق كلام الملائكة، فاقتصر على مجاوبتهم إياه عن قوله: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}، فنهاية الجواب هو {لا تَوْجَلْ}.
وأما جملة: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} فهي استئناف كلام آخر بعد أن قدم إليهم القرى وحضرت امرأته فبشروه بحضرتها كما فصل في سورة هود.
والغلام العليم: إسحاق - عليه السلام - أي عليم بالشريعة بأن يكون نبيا.
وقد حكي هنا قولهم لإبراهيم - عليه السلام -، وحكي في سورة هود قولهم لامرأته لأن البشارة كانت لهما معا فقد تكون حاصلة في وقت واحد فهي بشارتان باعتبار المبشر، وقد تكون حصلت في وقتين متقاربين بشروه بانفراد ثم جاءت امرأته فبشروها.
وقرأ الجمهور {نُبَشِّرُكَ} - بضم النون وفتح الموحدة وتشديد الشين المكسورة مضارع بشر بالتشديد -. وقرأ حمزة {نَبْشَرُكَ} - بفتح النون وسكون الموحدة وضم الشين - وهي لغة. يقال: بشره يبشره من باب نصر.
والاستفهام في {أَبَشَّرْتُمُونِي} للتعجب.
و {عَلَى} بمعنى "مع": دالة على شدة اقتران البشارة بمس الكبر إياه.
والمس: الإصابة. والمعنى تعجب من بشارته بولد مع أن الكبر مسه.
وأكد هذا التعجب بالاستفهام الثاني بقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} استفهام تعجب. نزل الأمر العجيب المعلوم منزلة الأمر غير المعلوم لأنه يكاد يكون غير معلوم.
وقد علم إبراهيم عليه السلام من البشارة أنهم ملائكة صادقون فتعين أن الاستفهام للتعجب.
وحذف مفعول "بشرتموني" لدلالة الكلام عليه.

قرأ نافع {تُبَشِّرُونِ} - بكسر النون مخففة دون إشباع - على حذف نون الرفع وحذف ياء المتكلم وكل ذلك تخفيف فصيح. وقرأ أبن كثير - بكسر النون مشددة - على حذف ياء المتكلم خاصة. وقرأ الباقون - بفتح النون - على حذف المفعول لظهوره من المقام، أي تبشرونني.
وجواب الملائكة إياه بأنهم بشروه بالخبر الحق، أي الثابت لا شك فيه إبطالا لما اقتضاه استفهامه بقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} من أن ما بشروه به أمر يكاد أن يكون منتفيا وباطلا. فكلامهم رد لكلامه وليس جواب على استفهامه لأنه استفهام غير حقيقي.
ثم نهوه عن استبعاد ذلك بأنه استبعاد رحمة القدير بعد أن علم أن المبشرين بها مرسلون إليه من الله فاستبعاد ذلك يفضي إلى القنوط من رحمة الله فقالوا: {فلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}. ذلك أنه لما استبعد ذلك استبعاد المتعجب من حصوله كان ذلك أثرا من آثار رسوخ الأمور المعتادة في نفسه بحيث لم يقلعه منها الخبر الذي يعلم صدقه فبقى في نفسه بقية من التردد في حصول ذلك فقاربت حالة تلك حال الذين ييأسو من أمر الله. ولما كان إبراهيم - عليه السلام - منزها من القنوط من رحمة الله جاءوا في موعظته بطريقة الأدب المناسب فنهوه عن أن، يكون من زمرة القانطين تحذيرا له مما يدخله في تلك الزمرة، ولم يفرضوا أن يكون هو قانطا لرفعة مقام نبوته عن ذلك. وهو في هذا المقام كحالة في مقام ما حكاه الله عنه من قوله: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [سورة البقرة:260].
وهذا النهي كقوله الله تعالى لنوح - عليه السلام - {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [سورة هود:46].
وقد ذكرته الموعظة مقام نسيه فقال: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}. وهو استفهام إنكار في معنى النفي، ولذلك استثنى منه {إِلَّا الضَّالُّونَ}. يعني أنه لم يذهب اجتناب القنوط من رحمة الله، ولكنه امتلكه المعتاد فتعجب فصار ذلك كالذهول عن المعلوم فلما نبهه الملائكة أدنى تنبيه تذكر.
القنوط: اليأس.
وقرأ الجمهور {وَمَنْ يَقْنَطُ} - بفتح النون -. وقرأه أبو عمرو والكسائي ويعقوب وخلف - بكسر النون - وهما لغتان في فعل قنط.

قال أبو علي الفارسي: قنَط يقنِط - بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل - من أعلى اللغات. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [سورة الشورى: 28].
قلت: ومن فصاحة القرآن اختياره كل لغة في موضع كونها فيه أفصح، فما جاء فيه إلا الفتح في الماضي، وجاء المضارع بالفتح والكسر على القراءتين.
[57-60] {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}
حكاية هذا الحوار بين إبراهيم والملائكة عليهم السلام لأنه يجمع بين بيان فضل إبراهيم - عليه السلام - وبين موعظة قريش بما حل ببعض الأمم المكذبين انتقل إبراهيم عليه السلام إلى سؤالهم عن سبب نزولهم إلى الأرض، لأنه يعلم أن الملائكة لا ينزلون إلا لأمر عظيم كما قال تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [سورة الحجر:8]. وقد نزل الملائكة يوم بدر لاستئصال سادة المشركين ورؤسائهم.
والخطب تقدم في قوله تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} في [سورة يوسف:51].
والقوم المجرمون هم قوم سدوم وقراها. وتقدم ذكرهم في سورة هود.
والاستثناء في {إِلَّا آلَ لُوطٍ} منقطع لأنهم غير مجرمين. واستثناء {إِلَّا امْرَأَتَهُ} متصل لأنها من آل لوط.
وجملة {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} استئناف بياني لبيان الإجمال الذي في استثناء آل لوط من متعلق فعل {أُرْسِلْنَا} لدفع احتمال أنهم لم يرسلوا إليهم ولا أمروا بإنجائهم.
وفي قوله: {أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} إيجاز حذف وتقدير الكلام: إنا أرسلنا إلى لوط لأجل قوم مجرمين، أي لعذابهم. ودل ذلك على الاستثناء في {إِلَّا آلَ لُوطٍ}.
وقرأ الجمهور {لَمُنَجُّوهُمْ} - بفتح النون وتشديد الجيم - مضارع نجّى المضاعف. وقرأ حمزة والكسائي وخلف - بسكون النون وتخفيف الجيم - مضارع أنجى المهموز.
وإسناد التقدير إلى ضمير الملائكة لأنهم مزمعون على سببه. وهو ما وكلوا به من تحذير لوط عليه السلام وآله من الالتفات إلى العذاب، وتركهم تحذير امرأته حتى التفتت فحل بها ما حل بقوم لوط.

وقرأ الجمهور {قَدَّرْنَا} - بتشديد الدال - من التقدير. وقرأه أبو بكر عن عاصم - بتخفيف الدال - من قدر المجرد وهما لغتان.
وجملة {إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} مستأنفة.و "إن" متعلقة لفعل {قَدَّرْنَا} عن العمل في مفعوله. وأصل الكلام غبورها، أي ذهابها وهلاكها.
والتعليق يطرأ على الأفعال كلها وإنما يكثر في أفعال القلوب ويقل في غيرها. وليس من خصائصها على التحقق.
وتقدم ذكر الغابرين في سورة الأعراف.
[61-65] {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}
تفريع على حكاية قصتهم مع إبراهيم وقد طوى ما هو معلوم من خروج الملائكة من عند إبراهيم. والتقدير: ففارقوه وذهبوا إلى لوط فلما جاءوا لوطا.
وعبر بآل لوط - عليه السلام - لأنهم نزلوا في منزلة بين أهله فجاءوا آله وإن كان المقصود بالخطاب والمجيء هو لوط.
وتولى لوط - عليه السلام - تلقيهم كما هو شأن كبير المنزل ولكنه وجدهم في شكل غير معروف في القبائل التي كانت تمر بهم فألهم إلى أن لهم قصة غريبة ولذلك قال لهم:
{إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}، أي لا تعرف قبيلتكم.وتقدم قوله تعالى: {نَكِرَهُمْ} في سورة هود [70].
وقد أجابوه بما يزيل ذلك إذ {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} إضرابا عن قوله {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} وإبطالا لما ظنه من كونهم من البشر الذين لم يعرف قبيلتهم فلا يأمنهم أن يعاملوه بما يضره.
وعبر عن العذاب بـ {ما كانوا فيه يمترون} إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التعذيب، أي بالأمر الذي كان قومك يشكون في حلوله بهم وهو العذاب، فعلم أنهم ملائكة.
والمراد بالحق الخبر الحق، ولذلك ذيل بجملة {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}

وقوله: {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} حكاية لخطاب الملائكة لوطا عليه السلام لمعنى عباراتهم محولة إلى نظم عربي يفيد معنى كلامهم في نظم عربي بليغ، فبنا أن نبين خصائص هذا النظم العربي: فإعادة فعل {أَتَيْنَاكَ} بعد واو العطف مع أن فعل {أَتَيْنَاكَ} مرادف لفعل {جِئْنَاكَ} دون أن يقول: و {بِالْحَقِّ} بالحق، يحتمل أن يكون للتأكيد اللفظي بالمرادف. والتعبير في أحد الفعلين بمادة المجيء وفي الفعل الآخر بمادة الإتيان لمجرد التفنن لدفع تكرار الفعل الواحد، كقوله تعالى في سورة الفرقان [33] {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}. وعليه تكون الباء في قوله: {بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} وقوله: {بِالْحَقِّ} للملابسة.
ويحتمل أن تكون لذكر الفعل الثاني وهو {وَأَتَيْنَاكَ} خصوصية لا تفي بها واو العطف وهي مراعاة اختلاف المجرورين بالباء في مناسبة كل منها للفعل الذي تعلق هو به. فلما كان المتعلق بفعل {جِئْنَاكَ} أمرا حسيا وهو العذاب الذي كانوا فيه يمترون، وكان ما يصح أن يسند إليه المجيء بمعنى كالحقيقي، إذ هو مجيء مجازي مشهور مسو للحقيقي، أوثر فعل {جِئْنَاكَ} ليسند إلى ضمير المخاطبين ويعلق به"ما كانوا فيه يمترون". وتكون الباء المتعلقة به للتعددية لأنه أجاءوا العذاب، قوله تعالى: {بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} موقع مفعول به، كما تقول "ذهبت به" بمعنى أذهبته وإن كنت لم تذهب معه، ألا ترى إلى قوله تعالى:" {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} [سورة الزخرف:41] أي نذهبك من الدنيا، أي نميتك. فهذه الباء للتعدية وهي بمنزلة همزة التعدية.
وأما متلق فعل {أَتَيْنَاكَ} وهو {بِالْحَقِّ} فهو أمر معنوي لا يقع منه الإتيان فلا يتعلق الإتيان بفعل الإتيان مادة المجيء إلى مادة الإتيان تنبيها على إرادة معنى غير المراد بالفعل السابق، أعني المجيء المجازي. فإن هذا الإتيان مسند إلى الملائكة بمعناه الحقيقي، وكانوا في إتيانهم ملابسين للحق، أي الصدق، وليس الصدق مسندا إليه الإتيان. فالباء في قوله تعالى: {بِالْحَقِّ} للملابسة لا للتعددية.
والقطع - بكسر القاف وسكون الطاء - الجزء الأخير من الليل. وتقدم عند قوله تعالى: {قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} في سورة يونس [27].
وأمروه أن يجعل أهله قدامه ويكون من خلفهم، فهو يتبع أدبارهم، أي ظهورهم ليكون كالحائل بينهم وبين العذاب الذي يحل بقومه بعقب خروجه تنويها ببركة الرسول -

عليه السلام -، ولأنهم أمروه أن لا يلتفت أحد من أهله إلى ديار قومهم لأن العذاب يكون قد نزل بديارهم. فبكونه وراء أهله يخافون الالتفات لأنه يراقبهم. وقد مضى تفضيل ذلك في سورة هود، وأن امرأته التفتت فأصابها العذاب.
و {حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} أي حيث تؤمرون بالمضي. ولم يبينوا له المكان الذي يقصده إلا وقت الخروج، وهو مدينة عمورية، كما تقدم في سورة هود.
[66] {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ}
{قَضَيْنَا} قدرنا، وضمن معنى أوحينا فعدي ب "إلى". والتقدير: وقضينا ذلك الأمر فأوحينا إليه، أي إلى لوط عليه السلام أي أوحينا إليه بما قضينا.
و {ذَلِكَ الْأَمْرَ} إبهام للتهويل. والإشارة للتعظيم، أي الأمر العظيم.
و {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ} جملة مفسرة لـ {ذَلِكَ الْأَمْرَ} وهي المناسبة للفعل المضمن وهو "أوحينا". فصار التقدير: وقضينا الأمر وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع. فنظم الكلام هذا النظم البديع الوافر المعنى بما في قوله: {ذَلِكَ الْأَمْرَ} من الإبهام والتعظم.
ومجيء جملة {دَابِرَ} مفسرة مع صلوحية {أَنَّ} لبيان كل من إبهام الإشارة ومن فعل "أوحينا" المقدر المضمن، فتم ذلك إيجاز بديع معجز.
والدابر: الآخر، أي آخر شخص.
وقطعه: إزالته. وهو كناية عن استئصالهم كلهم، كما تقدم عند قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} في سورة الأنعام [45].
وإشارة {هَؤُلاءِ} إلى قومه.
و {مُصْبِحِينَ} داخلين في الصباح، أي في أول وقته، وهو حال من اسم الإشارة. ومبدأ الصباح وقت شروق الشمس ولذلك قال بعده:" {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [سورة الحجر:73]
[67-69] {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ}

عطف جزء من قصة قوم لوط وهو الجزء الأهم فيها.
ومجيء أهل المدينة إليه ومحاورته معهم كان قبل أن يعلم أنهم ملائكة ولو علم ذلك لما أشفق مما عزم عليه أهل المدينة لما علم بما عزموا عليه بعد مجادلتهم معه، كما جاء في قوله تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} في سورة هود [81]. والواو لا تفيد ترتب معطوفها.
ويجوز جعل الجملة في موضع الحال من ضمير لوط المستتر في فعل {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [سورة الحجر:]، أو من الهاء في {إِلَيْهِ}ولا إشكال حينئذ.والمدينة هي سدوم.
و {يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون ويسرون. وهو مطاوع بشره فاستبشر، قال تعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} في سورة براءة [111]. وصيغ بصيغة المضارع لإفادة التجدد مبالغة في الفرح. وذلك أنهم علموا أن رجالا غرباء حلوا ببيت لوط - عليه السلام - ففرحوا بذلك ليغتصبوهم كعادتهم السيئة. وقد تقدمت القصة في سورة هود.
والفضح والفضيحة: شهرة حال شنيعة. وكانوا يتعيرون بإهانة الضيف ويعد ذلك مذلة لمضيفه. وقد ذكرهم بالوازع الديني وإن كانوا كفارا استقصاء للدعوة التي جاء بها، وبالوازع العرفي فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ} كما في قول عبد بني الحسحاس:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
والخزي: الذل والإهانة. وتقدم في قوله تعالى: {إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في أوائل سورة البقرة [85]. وتقدم في مثل هذه القصة في سورة هود.
[70-77] {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}
الواو في {أَوَلَمْ نَنْهَكَ} عطف على كلام لوط - عليه السلام - جار على طريقة العطف على كلام الغير كقوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} بعد قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} في سورة البقرة [124].

والاستفهام إنكاري، والمعطوف هو الإنكار.
و {الْعَالَمِينَ} الناس. وتعدية النهي إلى ذات العالمين على تقدير مضاف دل عليه المقام، أي ألم ننهك عن حماية الناس أو عن إجارتهم، أي أن عليك أن تخلي بيننا وبين عادتنا حتى لا يطمع المارون في حمايتك، وقد كانوا يقطعون السبيل يتعرضون للمارين على قراهم. و {الْعَالَمِينَ} تقدم في الفاتحة. وأرادوا به هنا أصناف القبائل لقصد التعميم.
وعرض عليهم بناته ظنا أن ذلك يردعهم ويطفئ شبقهم. ولذلك قال: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}.
وقد تقدم في سورة هود معنى عرضه بناته، وأن قوله: {بَنَاتِي} يجوز أن يراد به بنات صلبه وكن اثنتين أو ثلاثا، ويجوز أن يراد به بنات القوم كلهم تنزيلا لهم منزلة بناته لأن النبي كأب لأمته.
وجملة {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} معترضة بين أجزاء القصة للعبرة في عدم جدوى الموعظة فيمن يكون في سكرة هواه.
والمخاطب بها محمد صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى. وقيل هو من كلام الملائكة بتقدير قول.
وكلمة {لَعَمْرُكَ} صيغة قسم. واللام الداخلة على لفظ "عمر" لام القسم.
والعمر - بفتح العين وسكون اللام - أصله لغة في العمر بضم العين، فخص المفتوح بصيغة القسم لخفته بالفتح لأن القسم كثير الدوران في الكلام. فهو قسم بحياة المخاطب به. وهو في الاستعمال إذا دخلت عليه لم القسم رفعوه على الابتداء محذوف الخبر وجوبا. والتقدير: لعمرك قسمي.
وهو من المواضع التي يحذف فيها الخبر حذفا لازما في استعمال العرب اكتفاء بدلالة اللام على معنى القسم. وقد يستعملونه بغير اللام فحينئذ يقرنونه باسم الجلالة وينصبونهما، كقول عمر بن أبي ربيعة:
عمرك الله كيف يلتقيان
فنصب عمر بنزع الخافض وهو باء القسم ونصب اسم الجلالة على أنه مفعول المصدر، أي بتعميرك الله بمعنى بتعظيمك الله، أي قولك الله لعمرك تعظيما لله لأن القسم

باسم أحد تعظيم له، فاستعمل لفظ القسم كناية عن التعظيم، كما استعمل لفظ التحية كناية عن التعظيم في كلمات التشهد "التحيات لله" أي أقسم عليك بتعظيمك ربك. هذا ما يظهر لي في توجيه النصب، وقد خالفت فيه أقوال أهل اللغة بعض مخالفة لأدفع ما عرض لهم من إشكال.
والسكرة: ذهاب العقل. مشتقة من السكر - بفتح السين - وهو السد والغلق. وأطلقت هنا على الضلال تشبيها لغلبة دواعي الهوى على دواعي الرشاد بذهاب العقل وغشيته.
و {يَعْمَهُونَ} يتحيرون ولا يهتدون. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة [15].
وجملة {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} تفريع على جملة {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} [سورة الحجر:].
و {الصَّيْحَةُ}: صعقة في الهواء، وهي صواعق وزلازل وفيها حجارة من سجيل. وقد مضى بيانها في سورة هود.
وانتصب {مُشْرِقِينَ} على الحال من ضمير الغيبة. وهو اسم فاعل من أشرقوا إذا دخلوا في وقت شروق الشمس.
وضميرا {عَالِيَهَا سَافِلَهَا} للمدينة. وضمير {عَلَيْهِمْ} عائد إلى ما عادت عليه ضمائر الجمع قبله.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: تذييل. والآيات: الأدلة، أي دلائل على حقائق من الهداية وضدها، وعلى تعرض المكذبين رسلهم لعقاب شديد.
والإشارة {فِي ذَلِكَ} إلى جميع ما تضمنته القصة المبدوءة بقوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [سورة الحجر:51]. ففيها من الآيات آية نزول الملائكة في بيت إبراهيم - عليه السلام - كرامة له، وبشارته بغلام عليم، وإعلام الله إياه بما سيحل بقوم لوط كرامة لإبراهيم - عليهما السلام -، ونصر الله لوطا بالملائكة، وإنجاء لوط - عليه السلام - وآله، وإهلاك قومه وامرأته لمناصرتها إياهم، وآية عماية أهل الضلالة عن دلائل الإنابة، وآية غضب الله على المسترسلين في عصيان الرسل.

وتقدم الكلام على لفظ آية عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} في سورة البقرة [39]. وقوله: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} في سورة الأنعام [37].
والمتوسمون أصحاب التوسم وهو التأمل في السمة، أي العلامة الدالة على المعلم، والمراد للمتأملين في الأسباب وعواقبها وأولئك هم المؤمنون. وهو تعريض بالذين لم تردعهم العبر بأنهم دون مرتبة النظر تعريضا بالمشركين الذين لم يتعظوا؛ بان يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم التي عرفوا أخبارها ورأوا آثارها.
ولذلك أعقب الجملة بجملة {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}، أي المدينة المذكورة آنفا هي بطريق باق يشاهد كثير منكم آثارها في بلاد فلسطين في طريق تجارتكم إلى الشام وما حولها، وهذا كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة الصافات:137،138].
والمقيم: أصله الشخص المستقر في مكانه غير مرتحل. وهو هنا مستعار لآثار المدينة الباقية في المكان بتشبيهه بالشخص المقيم.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} تذييل. والإشارة إلى ما تقدم من قوله من القصة مع ما انضم إليها من التذكير بان قراهم واضحة فيها آثار الخسف والأمطار بالحجارة المحماة.
وعبر في التذييل بالمؤمنين للتنبيه على أن المتوسمين هم المؤمنون.
وجعل ذلك "آية" بالإفراد تفننا لأن "آية" اسم جنس يصدق بالمتعدد، على أن مجموع ما حصل لهم آية على المقصود من القصة وهو عاقبة المكذبين. وفي مطاوي تلك الآيات آيات. والذي في درة التنزيل، أي الفرق بين جمع الآيات في الأول، وإفراده ثانيا في هذه الآية بأن ما قص من حديث لوط وضيف إبراهيم وما كان من عاقبة أمرهم كل جزء من ذلك في نفسه آية.فالمشار إليه بذلك هو عدة آيات. وأما كون قرية لوط بسبيل مقيم فهو في جملته آية واحدة. فتأمل.
[78،79] {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}
{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}.

عطف قصة على قصة لما في كلتيهما من الموعظة. وذكر هاتين القصتين المعطوفتين تكميل وإدماج إذ لا علاقة بينهما وبين ما قبلهما من قصة إبراهيم والملائكة. وخص بالذكر أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر لأنهم مثل قوم لوط في موعظة المشركين من الملائكة لأن أهل مكة يشاهدون ديار هذه الأمم الثلاث.
و {إِنْ} مخففة "إنّ" وقد أهمل عملها بالتخفيف فدخلت على جملة فعلية. واللام الداخلة على "لظالمين" اللام الفارقة بين "إن" التي أصلها مشددة وبين "إن" النافية.
و {الْأَيْكَةِ}: الغيضة من الأشجار الملتف بعضها ببعض. واسم الجمع "أيك"، وأطلقت هنا مرادا بها الجنس إذ قد كانت منازلهم في غيضة من الأشجار الكثيرة والورق. وقد تخفف الأيكة فيقال:ليكة.
و {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ}: هم قوم شعيب - عليه السلام - وهم مدين. وقيل أصحاب الأيكة فريق من قوم شعيب غير أهل مدين. فأهل مدين سكان الحاضرة وأصحاب الأيكة هم باديتهم وكان شعيب رسولا إليهم جميعا. قال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [سورة الشعراء:176-177]. وسيأتي الكلام على ذلك مستوفي في سورة الشعراء.
والظالمون: المشركون.
والانتقام: العقوبة لأجل ذنب، مشتقة من النقم، وهو الإنكار على الفعل. يقال: نقم عليه كما في هذه الآية، ونقم منه أيضا. وتقدم في قوله: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} في سورة الأعراف [126]. وأجمل الانتقام في هذه الآية وبين في آيات أخرى مثل آية هود.
{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}
ضمير {إِنَّهُمَا} لقرية قوم لوط وأيكة قوم شعيب - عليهما السلام -.
والإمام: الطريق الواضح لأنه يأتم به السائر، أي يعرف أنه يوصل إذ لا يخفى عنه شيء منه. والبين، أي أن كلتا القريتين بطريق القوافل بأهل مكة.
وقد تقدم آنفا قوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} فإدخال مدينة لوط عليه السلام في الضمير هنا تأكيد للأول.
ويظهر أن ضمير التثنية عائد على أصحاب الأيكة باعتبار أنهم قبيلتان، وهما مدين

وسكان الغيضة الأصليون الذين نزل مدين بجوارهم، فإن إبراهيم - عليه السلام - أسكن ابنه مدين في شرق بلاد الخليل، ولا يكون إلا في أرض مأهولة. وهذا عندي هو مقتضى ذكر قوم شعيب - عليه السلام - باسم مدين مرات وباسم أصحاب الأيكة مرات. وسيأتي لذلك زيادة إيضاح في سورة الشعراء.
[80-84] {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
جمعت قصص هؤلاء الأمم الثلاث: قوم لوط، وأصحاب الأيكة، وأصحاب الحجر في نسق، لتماثل حال العذاب الذي سلط عليها وهو عذاب الصيحة والرجفة والصاعقة.
وأصحاب الحجر هم ثمود كانوا ينزلون الحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم -. والحجر: المكان المحجور، أي الممنوع من الناس بسبب اختصاص به، أو اشتق من الحجارة لأنهم كانوا ينحتون بيوتهم في صخر الجبل نحتا محكما. وقد جعلت طبقات وفي وسطها بئر عظيمة وبئار كثيرة.
والحجر هو المعروف بوادي القرى وهو بين المدينة والشام، وهو المعروف اليوم باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك.
وأما حجر اليمامة مدينة بني حنيفة فهي - بفتح الحاء - وهي في بلاد نجد وتسمى العروض وهي اليوم من بلاد البحرين.
وقد توهم بعض المستشرقين من الإفرنج أن البيوت المنحوتة في ذلك الجبل كانت قبورا، وتعلقوا بحجج وهمية. ومما يفند أقوالهم خلو تلك الكهوف عن أجساد آدمية. وإذا كانت تلك قبورا فأين كانت منازل الأحياء?.
والظاهر أن ثمود لما أخذتهم الصيحة كانوا منتشرين في خارج البيوت لقوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ}. وقد وجدت في مداخل تلك البيوت نقر صغيرة تدل على أنها مجعولة لوصد أبواب المداخل في الليل.
وتعريف {الْمُرْسَلِينَ} للجنس، فيصدق بالواحد، إذ المراد أنهم كذبوا صالحا -

عليه السلام فهو كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [سورة الشعراء:105]. وقد تقدم. وكذلك جمع الآيات في قوله: {آيَاتِنَا} مراد به الجنس، وهي آية الناقة، أو أريد أنها آية تشتمل على آيات في كيفية خروجها من صخرة، وحياتها، ورعيها، وشربها. وقد روي أنها خرج معها فصيلها، فهما آيتان.
وجملة {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ} معترضة. والنحت: بري الحجر أو العود من وسطه أو من جوانبه.
و {مِنَ الْجِبَالِ} تبعيض متعلق بـ {يَنْحِتُونَ}. والمعنى من صخر الجبال، لما دل عليه فعل {يَنْحِتُونَ}.
و {آمِنِينَ} حال من ضمير {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ} وهي حال مقدرة، أي مقدرين أن يكونوا آمنين عقب نحتها وسكناها. وكانت لهم بمنزلة الحصون لا ينالهم فيها العدو.
ولكنهم نسوا أنها لا تأمنهم من عذاب الله فلذلك قال: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
والفاء في {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} للتعقيب والسببية. و {مُصْبِحِينَ} حال، أي داخلين في وقت الصباح.
و {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي يصنعون، أي البيوت التي عنوا بتحصينها وتحسينها كما دل عليه فعل {كَانُوا}. وصيغة المضارع في {يَكْسِبُونَ} لدلالتها على التكرر والتجدد المكنى به عن إتقان الصنعة. وبذلك كان موقع الموصول والصلة أبلغ من موقع لفظ بيوتهم مثلا، ليدل على أن الذي لم يغن عنهم شيء متخذ للإغناء ومن شأنه ذلك.
[85،86] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}
موقع الواو في صدر هذه الجملة بديع. فهذه الجملة صالحة لأن تكون تذييلا لقصص الأمم المعذبة ببيان أن ما أصابهم قد استحقوه فهو من عدل الله بالجزاء على الأعمال بما يناسبها، ولأن تكون تصديرا للجملة التي بعدها وهي جملة {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ}. والمراد ساعة جزاء المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم أي ساعة البعث. فعلى الأول تكون الواو اعتراضية أو حالية، وعلى الثاني عاطفة جملة على جملة وخبرا على خبر.

على أنه قد يكون العطف في الحالين لجعلها مستقلة بإفادة مضمونها لأهميته مع كونها مكملة لغيرها، وإنما أكسبها هذا الموقع البديع نظم الجمل المعجز والتنقل من غرض إلى غرض بما بينها من المناسبة.
وتشمل {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} أصناف المخلوقات من حيوان وجماد، فشمل الأمم التي على الأرض وما حل بها، وشمل الملائكة الموكلين بإنزال العذاب، وشمل الحوادث الكونية التي حلت بالأمم من الزلازل والصواعق و الكسف.
والباء في {إِلَّا بِالْحَقِّ} للملابسة متعلقة بـ {خَلَقْنَا} ، أي خلقا ملابسا للحق ومقارنا له بحيث يكون الحق باديا في جميع أحوال المخلوقات.
والملابسة هنا عرفيه؛ فقد يتأخر ظهور الحق عن خلق بعض الأحوال والحوادث تأخرا متفاوتا. فالملابسة بين الخلق والحق تختلف باختلاف الأحوال من ظهور الحق وخفائه؛ على أنه لا يلبث أن يظهر في عاقبة الأمور كما دل عليه قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [سورة الانبياء: 18].
والحق: هنا هو إجراء أحوال المخلوقات على نظام ملائم للحكمة والمناسبة في الخير والشر، والكمال والنقص، والسمو والخفض، في كل نوع بما يليق بماهيته وحقيقته وما يصلحه، وما يصلح هو له، بحسب ما يقتضيه النظام العام لا بحسب الأميال والشهوات، فإذا لاح ذلك الحق الموصوف مقارنا وجوده لوجود محقوقه فالمر واضح، وإذا لاح تخلف شيء عن مناسبة فبالتأمل والبحث يتضح أن وراء ذلك مناسبة قضت بتعطيل المقارنة المحقوقة، ثم لا يتبدل الحق آخر الأمر.
وهذا التأويل يظهره موقع الآية عقب ذكر عقاب الأمم التي طغت وظلمت، فإن ذلك جزاء مناسب تمردها وفسادها، وأنها وإن أمهلت حينا برحمة من الله لحكمة استبقاء عمران جزء من العالم زمانا فهي لم تفلت من العذاب المستحق لها، وهو من الحق أيضا فما كان إمهالها إلا حقا، وما كان حلول العذاب بها إلا حقا عند حلول أسبابه، وهو التمرد على أنبيائهم. وكذلك القول في جزاء الآخرة أن تعطل الجزاء في الدنيا بسبب عطل ما اقتضته الحكمة العامة أو الخاصة.
وموقع جملة {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} في الكلام يجعلها بمنزلة نتيجة الاستدلال، فمن عرف أن جميع المخلوقات خلقت خلقا ملابسا للحق وأيقن به علم أن الحق لا يتخلف

عن مستحقه ولو غاب وتأخر، وإن كان نظام حوادث الدنيا قد يعطل ظهور الحق في نصابه وتخلفه عن أربابه.
فعلم أن وراء هذا النظام نظاما مدخرا يتصل فيه الحق بكل مستحق إن خيرا وإن شرا، فلا يحسبن من فات من الذين ظلموا قبل حلول العذاب بهم مفلتا من الجزاء فإن الله قد أعد عالما آخر يعطي فيه الأمور مستحقيها.
فلذلك أعقب الله و {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} بآية {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ}، أي أن ساعة إنفاذ الحق آتية لا محالة فلا يريبك ما تراه من سلامة مكذبيك وإمهالهم كما قال تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [سورة يونس:46]. والمقصود من هذا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما لقيه من أذى المشركين وتكذيبهم واستمرارهم على ذلك إلى أمد معلوم.
وقد كانت هذه الجملة في مقتضى الظاهر حرية بالفصل وعدم العطف لأن حقها الاستئناف ولكنها عطفت لإبرازها في صورة الكلام المستقل اهتماما بمضمونها، ولأنها تسلية للرسول - عليه الصلاة والسلام - على ما يلقاه من قومه، وليصح تفريع أمره بالصفح عنهم في الدنيا لأن جزاءهم موكول إلى الوقت المقدر.
وفي إمهال الله تعالى المشركين ثم في إنجائهم من عذاب الاستئصال حكمة تحقق بها مراد الله من بقاء هذا الدين وانتشاره في العالم بتبليغ العرب إياه وحمله إلى الأمم.
والمراد بالساعة ساعة البعث وذلك الذي افتتحت به السورة. وذلك انتقال من تهديدهم ووعيدهم بعذاب الدنيا إلى تهديدهم بعذاب الآخرة. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} في سورة الأحقاف [3].
وتفريع {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} باعتبار المعنى الكنائي له، وهو أن الجزاء على أعمالهم موكول إلى الله تعالى فلذلك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن أذاهم وسوء تلقيهم للدعوة.
و {الصَّفْحَ}: العفو. وقد تقدم في قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} في سورة العقود [13]. وهو مستعمل هنا في لازمه وهو عدم الحزن والغضب من صنيع أعداء الدين وحذف متعلق الصفح لظهوره، أي عمن كذبك وآذاك.

و {الْجَمِيلَ}: الحسن. والمراد الصفح الكامل.
ثم إن في هذه الآية ضربا من رد العجز على الصدر، إذ كان قد وقع الاستدلال على المكذبين بالبعث بخلق السماوات والأرض عند قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [سورة الحجر:14-16] الآيات. وختمت بآية {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} إلى قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} [سورة الحجر:23-25].
وانتقل هنالك إلى التذكير بخلق آدم عليه السلام وما فيه من العبر. ثم إلى سوق قصص الأمم التي عقبت عصور الخلقة الأولى فآن الأوان للعود إلى حيث افترق طريق النظم حيث ذكر خلق السماوات ودلالته على البعث بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} الآيات، فجاءت على وزان قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [سورة الحجر:] الآيات. فإن ذلك خلق بديع.
وزيد هنا أن ذلك خلق بالحق.
وكان قوله تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} فذلكة لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} إلى قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [سورة الحجر:25]. فعاد سياق الكلام إلى حيث فارق مهيعه. ولذلك تخلص إلى ذكر القرآن بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} [سورة الحجر:87] الناظر إلى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر:9].
وجملة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَالقُ الْعَلِيمُ} في موقع التعليل للأمر بالصفح عنهم، أي لأن في الصفح عنهم مصلحة لك ولهم يعلمها ربك، فمصلحة النبي صلى الله عليه وسلم في الصفح هي كمال أخلاقه، ومصلحتهم في الصفح رجاء إيمانهم، فالله الخلاق لكم ولهم ولنفسهم وأنفسهم، العليم بما يأتيه كل منكم، وهذا كقوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة فاطر:8].
ومناسبته لقوله تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} ظاهرة.
وفي وصفه بـ {الْخَالقُ الْعَلِيمُ} إيماء إلى بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يخلق من أولئك من يعلم أنهم يكونون أولياء للنبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين آمنوا بعد نزول هذه الآية والذين

ولدوا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده".
وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وكان في أيام الجاهلية من المؤذين للنبي صلى الله عليه وسلم:
دعاني داع غير نفسي وردني ... إلى الله من أطردته كل مطرد
يعني بالداعي النبي صلى الله عليه وسلم.
وتلك هي نكتة ذكر وصف {الْخَالقُ} دون غيره من الأسماء الحسنى.
والعدول إلى {إن ربك} دون "إن الله" للإشارة إلى أن الذي هو ربه ومدبر أمره لا يأمره إلا بما فيه صلاحه ولا يقدر إلا ما فيه خيره.
[87] {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}
اعتراض بين جملة {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} وجملة {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [الحجر:88] الآية.
أتبع التسلية والوعد بالمنة ليذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنعمة العظيمة فيطمئن بأنه كما أحسن إليه بالنعم الحاصلة فهو منجزه الوعود الصادقة.
وفي هذا الامتنان تعريض بالرد على المكذبين. وهو ناظر إلى قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} إلى قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر:9].
فالجملة عطف على الجمل السابقة عطف الغرض على الغرض والقصة على القصة. وهذا افتتاح غرض من التنويه بالقرآن والتحقير لعيش المشركين.
وإيتاء القرآن: أي إعطاؤه، وهو تنزيله عليه والوحي به إليه.
وأوثر فعل {آتَيْنَاكَ} دون "أوحينا" أو "أنزلنا" لأن الإعطاء أظهر في الإكرام والمنة.
وجعل {الْقُرْآنَ} معطوفا على {سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} يشعر بأن السبع المثاني من القرآن. وذلك ما درج عليه جمهور المفسرين ودل عليه الحديث الآتي.
وقد وصف القرآن في سورة الزمر [23] بالمثاني في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ}، فتعين أن السبع هي أشياء تجري تسميتها على التأنيث لأنها

أجري عليها اسم عدد المؤنث. ويتعين أن المراد آيات أو سور من القرآن، وأن {مِنَ} تبعيضية. وذلك أيضا شأن {مِنَ} إذا وقعت بعد اسم عدد. وأن المراد أجزاء من القرآن آيات أو سور لها مزية اقتضت تخصيصها بالذكر من بين سائر القرآن، وأن المثاني أسماء القرآن كما ذلت عليه آية الزمر، وكما اقتضته {مِنَ} التبعيضية، ولكون المثاني غير السبع مغايرة بالكلية والجزئية تصحيحا للعطف.
و {الْمَثَانِي} يجوز أن يكون جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون اسم مفعول مشتقا من ثنى إذا كرر تكريرة. قيل {الْمَثَانِي} جمع مثناة - بفتح الميم وسكون الثاء المثلثة وبهاء تأنيث في آخره -. فهو مشتق من اسم الاثنين.
والأصح أن السبع المثاني هي سورة فاتحة الكتاب لأنها يثنى بها، أي تعاد في كل ركعة من الصلاة فاشتقاقها من اسم الاثنين المراد به مطلق التكرير، فيكون استعماله هذا مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق، أو كناية لأن التكرير لازم كما استعملت صيغة التثنية فيه في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [سورة الملك:4] أي كرات وفي قولهم: لبيك وسعديك ودواليك.
أو هو جمع مثناة مصدرا ميميا على وزن المفعلة أطلق المصدر على المفعول.
ثم إن كان المراد بالسبع سبع آيات فالمؤتى هو سورة الفاتحة لأنها سبع آيات وهذا الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد بن المعلى وأبي بن كعب وأبي هريرة في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أم القرآن هي السبع المثاني" فهو الأولى بالاعتماد عليه.
وقد تقدم ذلك في ذكر أسماء الفاتحة. ومعنى التكرير في الفاتحة أنها تكرر في الصلاة.
وعن ابن عباس: أن السبع المثاني هي السور السبع الطوال: أولاها البقرة وآخرها براءة. وقيل: السور التي فوق ذوات المئين.
وعطف {القرآن} على السبع من عطف الكل على الجزء لقصد التذعميم ليعلم أن إيتاء القرآن كله نعمة عظيمة. وفي حديث أبي سعيد بن المعلى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والقرآن العظيم الذي أوتيه" على تأويله بأن كلمة "القرآن" مرفوعة بالابتداء "والذي أوتيته" خبره.

وأجري وصف {الْعَظِيمَ} على القرآن تنويها به.
وإن كان المراد بالسبع سورا كما هو مروي من قول ابن عباس وكثير من الصحابة والسلف واختلفوا في تعيينها بما لا ينثلج له الصدر، فيكون إبهامها مقصودا لصرف الناس للعناية بجميع ما نزل من سور القرآن كما أبهمت ليلة القدر.
[88،89] {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ}
استئناف بياني لما يثيره المقصود من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [سورة الحجر:85]، ومن تساؤل يجيش في النفس عن الإملاء للمكذبين في النعمة والترف مع ما رمقوا به من الغضب والوعيد فكانت جملة {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} بيانا لما يختلج في نفس السامع من ذلك، ولكونها بهذه المثابة فصلت عن التي قبلها فصل البيان عن المبين.
ولولا أن الجملة التي وقعت قبلها كانت بمنزلة التمهيد لها والإجمال لمضمونها لعطفت هذه الجملة لأنها تكون حينئذ مجرد نهي لا اتصال له بما قبله، كما عطفت نظيرتها في قوله تعالى في سورة طه [129-131] {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. فلما فصلت الجملة هنا فهم أن الجملة التي قبلها مقصودة التمهيد بهذه الجملة ولو عطفت هذه لما فهم هذا المعنى البديع من النظم.
والمد: أصله الزيادة. وأطلق على بسط الجسم وتطويله. يقال: مد يده إلى كذا، ومد رجله في الأرض. ثم استعير للزيادة من شيء. ومنه مدد الجيش، ومد البحر، والمد في العمر. وتلك إطلاقات شائعة صارت حقيقة. واستعير المد هنا إلى التحديق بالنظر والطموح به تشبيها له بمد اليد للمتناول لأن المنهي عنه نظر الإعجاب مما هم فيه من حسن الحال في رفاهية عيشهم مع كفرهم، أي فإن ما أوتيته أعظم من ذلك فلو كانوا بمحل العناية لاتبعوا ما آتيناك ولكنهم رضوا بالمتاع العاجل فليسوا ممن يعجب حالهم.
والأزواج هنا يحتمل أن يكون على معاناة المشهور، أي الكفار ونسائهم. ووجه تخصيصهم بالذكر أن حالتهم أتم أحوال التمتع لاستكمالها جميع اللذات والأنس.

ويحتمل أن يراد به المجاز عن الأصناف وهو استعمال أثبته الراغب. فوجه ذكره في الآية أن التمتع الذي تمتد إلى مثله العين ليس ثابتا لجميع الكفار بل هو شأن كبرائهم، أي فإن فيهم من هم في حال خصاصة فاعتبر بهم كيف جمع لهم الكفر وشظف العيش.
والنهي عن الحزن شامل لكل حال من أحوالهم من شأنها أن تحزن الرسول عليه الصلاة والسلام وتؤسفه. فمن ذلك كفرهم كما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [سورة الكهف:6]. ومنه حلول العذاب بهم مثل ما حل بهم يوم بدر فإنهم سادة أهل مكة، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحسر على إصرارهم حتى حل بهم ما حل من العذاب. ففي هذا النهي كناية عن قلة الاكتراث بهم وعن توعدهم بأن سيحل بهم ما يثير الحزن لهم، وكناية عن رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس.
ولما كان هذا النهي يتضمن شدة قلب وغلظة لا جرم اعترضه بالأمر بالرفق للمؤمنين بقوله {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} . وهو اعتراض مراد منه الاحتراس. وهذا كقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [سورة الفتح:29].
وخفض الجناح تمثيل للرفق والتواضع بحال الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع خفض جناحه يريد الدنو، وكذلك يصنع إذا لاعب أنثاه فهو راكن إلى المسالمة والرفق، أو الذي يتهيأ لحضن فراخه. وفي ضمن هذه التمثيلية استعارة مكنية، والجناح تخييل. وقد بسطناه في سورة الإسراء في قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [سورة الاسراء:24] وقد شاعت هذه التمثيلية حتى صارت كالمثل في التواضع واللين في المعاملة. وضد ذلك رفع الجناح تمثيل للجفاء والشدة.
ومن شعر العلامة الزمخشري يخاطب من كان متواضعا فظهر منه تكبر "ذكره في سورة الشعراء":
وأنت الشهير بخفض الجناح ... فلا تك في رفعة أجدلا
وفي هذه الآية تمهيد لما يجيء بعدها من قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الحجر:94].
وجملة {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} عطف على جملة {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}. فالمقول لهم هذا القول هم المتحدث عنهم بالضمائر السابقة في قوله تعالى: {مِنْهُمْ} وقوله: {عَلَيْهِمْ} فالتقدير:وقل لهم لأن هذا القول مراد منه المتاركة، أي ما على إلا

إنذاركم، والقرينة هي ذكر النذارة دون المباشرة لأن النذارة تناسب المكذبين إذ النذارة هي الإعلام بحدث فيه ضر.
والنذير: فعيل بمعنى مفعل مثل الحكيم بمعنى المحكم، وضرب وجميع أي موجع.
والقصر المستفاد من ضمير الفصل ومن تعريف الجزأين قصر قلب، أي كما تحسبون أنكم تغيظونني بعدم إيمانكم فإني نذير مبين غير متقايض معكم لتحصيل إيمانكم.
و {المبين}: الموضح المصرح.
[90،91] {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}
التشبيه الذي أفاده الكاف تشبيه بالذي أنزل على المقتسمين.
و "ما" موصولة أو مصدرية، وهي المشبه به.
وأما المشبه فيجوز أن يكون الإيتاء المأخوذ من فعل {آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} [سورة الحجر:87]، أي إيتاء كالذي أنزلنا أو كإنزالنا على المقتسمين. شبه إيتاء بعض القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم بما أنزل عليه في شأن المقتسمين، أي أنزلناه على رسل المقتسمين بحسب التفسيرين الآتيين في معنى {الْمُقْتَسِمِينَ}.
ويجوز أن يكون المشبه الإنذار المأخوذ من قوله تعالى: {إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [سورة الحجر:89]، أي الإنذار بالعقاب من قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الحجر:92،93].
وأسلوب الكلام على هذين الوجهين أسلوب تخلص من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إلى وعيد المشركين الطاعنين في القرآن بأنهم سيحاسبون على مطاعنهم.
وهو إما وعيد صريح إن أريد بالمقتسمين نفس المراد من الضميرين في قوله تعالى: {أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [سورة الحجر:88].
وحرف {على} هنا بمعنى لام التعليل كما في قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [سورة البقرة:185] وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [سورة المائدة:4]، وقول علقمة بن شيبان من بني تيم الله بن ثعلبة:
ونطاعن الأعداء عن أبنائنا ... وعلى بصائرنا وإن لم نبصر

ولفظ {الْمُقْتَسِمِينَ} افتعال من قسم إذا جعل شيئا أقساما. وصيغة الافتعال هنا تقتضي تكلف الفعل.
والمقتسمون يجوز أن يراد بهم جمع من المشركين، من قريش وهم ستة عشر رجلا، سنذكر أسماءهم، فيكون المراد بالقرآن مسمى هذا الاسم العلم، وهو كتاب الإسلام.
ويجوز أن يراد بهم طوائف أهل الكتاب قسموا كتابهم أقساما، منها ما أظهروه ومنها ما انسوه، فيكون القرآن مصدرا أطلق بمعناه اللغوي، أي المقروء من كتبهم؛ أو قسموا كتاب الإسلام، منه ما صدقوا به وهو مما وافق دينهم، ومنه ما كذبوا به وهو ما خالف ما هم عليه.
وقد أجمل المراد بالمقتسمين إجمالا بينه وصفهم بالصلة في قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}؛ فلا يحتمل أن يكون المقتسمون غير الفريقين المذكورين آنفا.
ومعنى التقسيم والتجزئة هنا تفرقة الصفات والأحوال لا تجزئه الذات.
و {الْقُرْآنَ} هنا يجوز أن يكون المراد به الاسم المجعول علما لكتاب الإسلام. ويجوز أن يكون المراد به الكتاب المقروء فيصدق بالتوراة والإنجيل.
و {عِضِينَ} جمع عضة، والعضة: الجزء والقطعة من الشيء. وأصلها عضو فحذفت الواو التي هي لام الكلمة وعوض عنها الهاء مثل الهاء في سنة وشفة. وحذف اللام قصد منه تخفيف الكلمة لأن الواو في آخر الكلمة تثقل عند الوقف عليها، فعوضوا عنها حرفا لئلا تبقى الكلمة على حرفين، وجعلوا العوض هاء لأنها أسعد الحروف بحالة الوقف. وجمع "عضة" على صيغة جمع المذكر السالم على وجه شاذ.
وعلى الوجهين المتقدمين في المراد من القرآن في هذه الآية فالمقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين هم أهل الكتاب اليهود والنصارى فهم جحدوا بعض ما انزل إليهم من القرآن، أطلق على كتابهم القرآن لأنه كتاب مقروء، فأظهروا بعضا وكتموا بعضا، قال الله تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [سورة الأنعام:91] فكانوا فيما كتموه شبيهين بالمشركين فيما رفضوه من القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهم أيضا جعلوا القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم عضين فصدقوا بعضه وهو ما وافق أحوالهم وكذبوا بعضه المخالف لأهوائهم مثل نسخ شريعتهم وإبطال بنوة عيسى لله تعالى، فكانوا إذا سألهم المشركون: هل القرآن صدق? قالوا: بعضه صدق وبعضه كذب، فأشبه اختلافهم اختلاف

المشركين في وصف القرآن بأوصاف مختلفة، كقولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]، و"قول كاهن"، و"قول شاعر".
وروي عن قتادة أن المقتسمين نفر من مشركي قريش جمعهم الوليد بن المغيرة لما جاء وقت الحج فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا، فانتدب لذلك ستة عشر رجلا فتقاسموا مداخل مكة وطرقها لينفروا الناس عن الإسلام، فبعضهم يقول: لا تغتروا بهذا القرآن فهو سحر، وبعضهم يقول: هو شعر، وبعضهم يقول: كلام مجنون، وبعضهم يقول: قول كاهن، وبعضهم يقول: هو أساطير الأولين اكتتبها، فقد قسموا القرآن أنواعا باعتبار اختلاف أوصافه.
وهؤلاء النفر هم: حنظلة بن أبي سفيان، وعتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وأخوه العاص، وأبو قيس بن الوليد، وقيس بن الفاكه، وزهير بن أمية، وهلال بن عبد الأسود، والسائب بن صيفي، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، و زمعة ابن الحجاج، وأمية بن خلف، و أوس بن المغيرة.
واعلم أن معنى المقتسمين على الوجه المختار المقتسمون القرآن. وهذا هو معنى {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}، فكان ثاني الوصفين بيانا لأولهما وإنما اختلفت العبارتان للتفنن.
وأن ذم المشبه بهم يقتضي ذم المشبهين فعلم أن المشبهين قد تلقوا القرآن العظيم بالرد والتكذيب.
[97،98] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
الفاء للتفريع، وهذا تفريع على ما سبق من قوله تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [سورة الحجر:85].
والوا للقسم، فالمفرع هو القسم وجوابه. والمقصود بالقسم تأكيد الخبر. وليس الرسول صلى الله عليه وسلم ممن يشك في صدق هذا الوعيد؛ ولكن التأكيد متسلط على ما في الخبر من تهديد معاد ضمير النصب في {لَنَسْأَلَنَّهُمْ}.
ووصف الرب مضافا إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن في السؤال المقسم عليه حظا من التنويه به، وهو سؤال الله المكذبين عن تكذيبهم إياه سؤال رب يغضب لرسوله - عليه الصلاة والسلام -.

والسؤال مستعمل في لازم معناه وهو عقاب المسؤول كقوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [سورة التكاثر:8] فهو وعيد للفريقين.
[94-96] {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
تفريع على جملة {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} [سورة الحجر:87] بصريحه وكنايته عن التسلية على ما يلاقيه من تكذيب قومه.
نزلت هذه الآية في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة ورسول الله - عليه الصلاة والسلام - مختف في دار الأرقم بن أبي الأرقم. روي عن عبد الله بن مسعود قال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فخرج هو وأصحابه. يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت سورة المدثر كان يدعو الناس خفية وكان من أسلم من الناس إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشعاب يستخفي بصلاته من المشركين، فلحقهم المشركون يستهزئون بهم ويعيبون صلاتهم، فحدث تضارب بينهم وبين سعد ابن أبي وقاص أدمى فيه سعد رجلا من المشركين. فبعد تلك الوقعة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دار الأرقم عند الصفا فكانوا يقيمون الصلاة بها واستمروا كذلك ثلاث سنين أو تزيد، فنزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الآية. وبنزولها ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الاختفاء بدار الأرقم وأعلن بالدعوة للإسلام جهرا.
و الصدع: الجهر والإعلان. وأصله الانشقاق. ومنه انصداع الإناء، أي انشقاقه. فاستعمل الصدع في لازم الانشقاق وهو ظهور الأمر المحجوب وراء الشيء المنصدع؛ فالمراد هنا الجهر والإعلان.
وما صدق"ما تؤمر"هو الدعوة إلى الإسلام.
وقصد شمول الأمر كل ما أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - بتبليغه هو نكتة حذف متعلق {تُؤْمَرُ}، فلم يصرح بنحو بتبليغه أو بالأمر به أو بالدعوة إليه. وهو إيجاز بديع.
والإعراض عن المشركين الإعراض عن بعض أحوالهم لا عن ذواتهم. وذلك إبايتهم الجهر بدعوة الإسلام بين ظهرانيهم، وعن استهزائهم، وعن تصديهم إلى أذى المسلمين.

وليس المراد الإعراض عن دعوتهم لأن قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} مانع من ذلك، وكذلك جملة {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ}.
وجملة {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} تعليل للأمر بالإعلان بما أمر به فإن اختفاء النبي صلى الله عليه وسلم بدار الأرقم كان بأمر من الله تعالى لحكمة علمها الله أهمها تعدد الداخلين في الإسلام في تلك المدة بحيث يغتاظ المشركون من وفرة الداخلين في الدين مع أن دعوته مخفية، ثم إن الله أمر رسوله - عليه الصلاة والسلام - بإعلان دعوته لحكمة أعلى تهيأ اعتبارها في علمه تعالى.
والتعبير عنهم بوصف {الْمُسْتَهْزِئينَ} إيماء إلى أنه كفاه استهزاءهم وهو أقل أنواع الأذى، فكفايته ما هو أشد من الاستهزاء من الأذى مفهوم بطريق الأحرى.
وتأكيد الخبر بـ"إن" لتحقيقه اهتماما بشأنه لا للشك في تحققه.
والتعريف في {الْمُسْتَهْزِئينَ} للجنس فيفيد العموم، أي كفيناك كل مستهزئ. وفي التعبير عنهم بهذا الوصف إيماء إلى أن قصارى ما يؤذونه به الاستهزاء، كقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [سورة آل عمران:111]، فقد صرفهم الله عن أن يؤذوا النبي بغير الاستهزاء. وذلك لطف من الله برسوله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الكفاية تولي الكافي مهم المكفي، فالكافي هو متولي عمل عن غيره لأنه أقدر عليه أو لأنه يبتغي راحة المكفي. يقال: كفيت مهمك، فيتعدى الفعل إلى مفعولين ثانيهما هو المهم المكفي منه. فالأصل أن يكون مصدرا فإذا كان اسم ذات فالمراد أحواله التي يدل عليها المقام، فإذا قلت: كفيتك عدوك، فالمراد: كفيتك بأسه، وإذا قلت: كفيتك غريمك، فالمراد: كفيتك مطالبته. فلما قال هنا {كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} فهم أن المراد كفيناك الانتقام منهم وإراحتك من استهزائهم. وكانوا يستهزئون بصنوف من الاستهزاء كما تقدم.
ويأتي في آيات كثيرة من استهزائهم استهزاؤهم بأسماء سور القرآن مثل سورة العنكبوت وسورة البقرة، كما في "الإتقان" في ذكر أسماء السور.
وعد من كبرائهم خمسة هم: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن عيطلة "ويقال ابن عيطل وهو اسم أمه دعي لها واسم أبيه قيس. وفي "الكشاف" و"القرطبي" أنه ابن الطلاطلة، ومثله في"القاموس"، وهي بضم الطاء

الأولى وكسر الطاء الثانية" والعاصي بن وائل، هلكوا بمكة متتابعين، وكان هلاكهم العجيب المحكي في كتب السيرة صارفا أتباعهم عن الاستهزاء لانفراط عقدهم.
وقد يكون من أسباب كفايتهم زيادة الداخلين في الإسلام بحيث صار بأس المسلمين مخشيا؛ وقد أسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فاعتز به المسلمون، ولم يبق من أذى المشركين إياهم إلا الاستهزاء، ثم أسلم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فخشيه سفهاء المشركين، وكان إسلامه في حدود سنة خمس من البعثة.
و وصفهم بـ {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} للتشويه بحالهم، ولتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم ما اقتصروا على الافتراء عليه فقد افتروا على الله.
وصيغة المضارع في قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ} للإشارة إلى أنهم مستمرون على ذلك مجددون له.
وفرع على الأمرين الوعيد بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. وحذف مفعول {يَعْلَمُونَ} لدلالة المقام عليه، أي فسوف يعلمون جزاء بهتانهم.
[97-99] {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}
لما كان الوعيد مؤذنا بإمهالهم قليلا كما قال تعالى: {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [سورة المزمل:11] كما دل عليه حرف التنفيس في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [سورة الحجر:96] طمأن الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه مطلع على تحرجه من أذاهم وبهتانهم من أقوال الشرك وأقوال الاستهزاء فأمره بالثبات والتفويض إلى ربه لأن الحكمة في إمهالهم، ولذلك افتتحت الجملة بلام القسم وحرف التحقيق.
وليس المخاطب ممن يداخله الشك في خبر الله تعالى ولكن التحقيق كناية عن الاهتمام بالمخبر وأنه بمحل العناية من الله؛ فالجملة معطوفة على جملة {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [سورة الحجر:95] أو حال.
وضيق الصدر: مجاز عن كدر النفس. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} في سورة هود [12].
وفرع على جملة {وَلَقَدْ نَعْلَمُ} أمره بتسبيح الله تعالى وتنزيهه عما يقولونه من نسبة

الشريك، أي عليك بتنزيه ربك فلا يضرك شركهم. على أن التسبيح قد يستعمل في معناه الكنائي مع معناه الأصلي فيفيد الإنكار على المشركين فيما يقولون، أي فاقتصر في دفعهم على إنكار كلامهم. وهذا مثل قوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [سورة الاسراء:93].
والباء في {بِحَمْدِ رَبِّكَ} للمصاحبة. والتقدير: فسبح ربك بحمده؛ فحذف من الأول لدلالة الثاني. وتسبح الله تنزيهه بقول: سبحان الله.
والأمر في {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ} مستعملان في طلب الدوام.
و {مِنَ السَّاجِدِينَ} أبلغ في الاتصاف بالسجود من "ساجدا" كما تقدم في قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في سورة براءة [119]، وقوله {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة [67] ونظائرهما.
والساجدون: هم المصلون. فالمعنى: ودم على الصلاة أنت ومن معك.
وليس هذا موضع سجدة من سجود التلاوة عند أحد من فقهاء المسلمين. وفي"تفسير القرطبي"عن أبي بكر النقاش أن أبا حذيفة "لعله يعني به أبا حذيفة اليمان ابن المغيرة البصري من أصحاب عكرمة وكان منكر الحديث" واليمان بن رئاب "كذا" رأياها سجدة تلاوة واجبة.
قال ابن العربي شاهدت الإمام بمحراب زكرياء من البيت المقدس سجد في هذا الموضع حين قراءته في تراويح رمضان وسجدت معه فيها وسجود الإمام عجيب وسجود أبي بكر بن العربي معه أعجب للإجماع؛ على أنه لا سجدة هنا، فالسجود فيها يعد زيادة وهي بدعة لا محالة.
و {الْيَقِينُ}: المقطوع به الذي لا شك فيه وهو النصر الذي وعده الله به.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النحلسميت هذه السورة عند السلف سورة النحل، وهو اسمها المشهور في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة.
ووجه تسميتها بذلك أن لفظ النحل لم يذكر في سورة أخرى.
وعن قتادة أنها تسمى سورة النِعَم - أي بكسر النون وفتح العين -. قال ابن عطية: لما عدد الله فيها من النعم على عباده.
وهي مكية في قول الجمهور وهو عن أبن عباس وابن الزبير. وقيل: إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [سورة النحل:126] إلى آخر السورة. قيل: نزلت في نسخ عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمثل بسبعين من المشركين أن أظفره الله بهم مكافأة على تمثيلهم بحمزة.
وعن قتادة وجابر بن زيد أن أولها مكي إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [سورة النحل:41] فهو مدني إلى آخر السورة.
وسيأتي في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} [سورة النحل:79] ما يرجح أن بعض السورة مكي وبعضها مدني، وبعضها نزل بعد الهجرة إلى الحبشة كما يدل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [سورة النحل:110]، وبعضها متأخر النزول عن سورة الأنعام لقوله في هذه {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [سورة النحل:118]، يعني بما قص من قبل قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [سورة الأنعام:146]

الآيات.
وذكر القرطبي أنه روي عن عثمان بن مظعون: لما نزلت هذه الآية قرأتها على أبي طالب فتعجب وقال: يا آل غالب اتبعوا ابن أخي تفلحوا فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق.
وروى أحمد عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون لما نزلت هذه الآية كان جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم قال: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يضعها في موضعها هذا من هذه السورة.
وهذه السورة نزلت بعد سورة الأنبياء وقبل سورة الم السجدة. وقد عدت الثانية والسبعين في ترتيب نزول السور.
وآيها مائة وثمان وعشرون بلا خلاف. ووقع للخفاجي عن الداني أنها نيف وتسعون. ولعله خطأ أو تحريف أو نقص.
أغراض هذه السورة
معظم ما اشتملت عليه السورة إكثار متنوع الأدلة على تفرد الله تعالى بالإلهية، والأدلة على فساد دين الشرك وإظهار شناعته.
وأدلة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنزال القرآن عليه - عليه الصلاة والسلام -.
وإن شريعة الإسلام قائمة على أصول ملة إبراهيم - عليه السلام -.
وإثبات البعث والجزاء؛ فابتدئت بالإنذار بأنه قد اقترب حلول ما أنذر به المشركون من عذاب الله الذي يستهزئون به، وتلا ذلك قرع المشركين وزجرهم على تصلبهم في شركهم وتكذيبهم.
وانتقل إلى الاستدلال على إبطال عقيدة الشرك؛ فابتدئ بالتذكير بخلق السماوات والأرض، وما في السماء من شمس وقمر ونجوم، وما في الأرض من ناس وحيوان ونبات وبحار وجبال، وأعراض الليل والنهار.

وما في أطوار الإنسان وأحواله من العبر.
وخصت النحل وثمراتها بالذكر لوفرة منافعها والاعتبار بإلهامها إلى تدبير بيوتها وإفراز شهدها.
والتنويه بالقرآن وتنزيهه عن اقتراب الشيطان، وإبطال افترائهم على القرآن.
والاستدلال على إمكان البعث وأنه تكوين كتكوين الموجودات.
والتحذير مما حل بالأمم التي أشركت بالله وكذبت رسله عليهم السلام عذاب الدنيا وما ينتظرهم من عذاب الآخرة. وقابل ذلك بضده من نعيم المتقين المصدقين والصابرين على أذى المشركين والذين هاجروا في الله وظلموا.
والتحذير من الارتداد عن الإسلام، والترخيص لمن أكره على الكفر في التقية من المكرهين.
والأمر بأصول من الشريعة؛ من تأصيل العدل، والإحسان، والمواساة، والوفاء بالعهد، وإبطال الفحشاء والمنكر والبغي، ونقض العهود، وما على ذلك من جزاء بالخير في الدنيا والآخرة.
وأدمج في ذلك ما فيها من العبر والدلائل، والامتنان على الناس بما في ذلك من المنافع الطيبات المنتظمة، والمحاسن، وحسن المناظر، ومعرفة الأوقات، وعلامات السير في البر والبحر، ومن ضرب الأمثال.
ومقابلة الأعمال بأضدادها.
والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان.
والإنذار بعواقب كفران النعمة.
ثم عرض لهم بالدعوة إلى التوبة {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [سورة النحل:119] الخ....
وملاك طرائق دعوة الإسلام {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [سورة النحل:125].
وتثبيت الرسول - عليه الصلاة والسلام - ووعده بتأييد الله إياه.
[1] {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}
لما كان معظم أغراض هذه السورة زجر المشركين عن الإشراك وتوابعه وإنذارهم بسوء عاقبة ذلك، وكان قد تكرر وعيدهم من قبل في آيات كثيرة بيوم يكون الفارق بين الحق والباطل فتزول فيه شوكتهم وتذهب شدتهم. وكانوا قد استبطأوا ذلك اليوم حتى اطمأنوا أنه غير واقع فصاروا يهزأون بالنبي - عليه الصلاة والسلام - والمسلمين فيستعجلون حلول ذلك اليوم.
صدرت السورة بالوعيد المصوغ في صورة الخبر بأن قد حل ذلك المتوعد به. فجيء بالماضي المراد به المستقبل المحقق الوقوع بقرينة تفريع {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}، لأن النهي عن استعجال حلول ذلك اليوم يقتضي أنه لما يحل بعد.
والأمر: مصدر بمعنى المفعول، كالوعد بمعنى الموعود، أي ما أمر الله به. والمراد من الأمر به تقديره وإرادة حصوله في الأجل المسمى الذي تقتضيه الحكمة.
وفي التعبير عنه بأمر الله إبهام يفيد تهويله وعظمته لإضافته لمن لا يعظم عليه شيء. وقد عبر عنه تارات بوعد الله ومرات بأجل الله ونحو ذلك.
والخطاب للمشركين ابتداء لأن استعجال العذاب من خصالهم، قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [سورة الحج:47].
ويجوز أن يكون شاملا للمؤمنين لأن عذاب الله وإن كان الكافرون يستعجلون به تهكما لظنهم أنه غير آت، فإن المؤمنين يضمرون في نفوسهم استبطاءه ويحبون تعجيله للكافرين.
فجملة {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} تفريع على {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} وهي من المقصود بالإنذار.
والاستعجال: طلب تعجيل حصول شيء، فمفعوله هو الذي يقع التعجيل به. ويتعدى الفعل إلى أكثر من واحد بالباء فقالوا: استعجل بكذا. وقد مضى في سورة الأنعام [57] قوله تعالى: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}.
فضمير {تَسْتَعْجِلُوهُ} إما عائد إلى الله تعالى، أي فلا تستعجلوا الله. وحذف المتعلق بـ {تَسْتَعْجِلُوهُ} لدلالة قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} عليه. والتقدير: فلا تستعجلوا الله بأمره، على نحو قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [سورة الانبياء:37].

وقيل الضمير عائد إلى {أَمْرُ اللَّهِ}، وعليه تكون تعدية فعل الاستعجال إليه على نزع الخافض.
والمراد من النهي هنا دقيق لم يذكروه في موارد صيغ النهي. ويجدر أن يكون للتسوية كما ترد صيغة الأمر للتسوية، أي لا جدوى في استعجاله لأنه لا يعجل قبل وقته المؤجل له.
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
مستأنفة استئنافا ابتدائيا لأنها المقصود من الوعيد إذ الوعيد والزجر إنما كانا لأجل إبطال الإشراك. فكانت جملة {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} كالمقدمة وجملة {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} كالمقصد.
و "ما" في قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} مصدرية، أي عن إشراكهم غيره معه.
وقرأ الجمهور {يُشْرِكُونَ} بالتحتية على طريقة الالتفات، فعدل عن الخطاب ليختص التبرئ من شانهم أن ينزلوا عن شرف الخطاب إلى الغيبة.
وقرأه حمزة والكسائي بالمثناة الفوقية تبعا لقوله: {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}.
[2] {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}
كان استعجالهم بالعذاب استهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبه، وكان ناشئا عن عقيدة الإشراك التي من أصولها استحالة إرسال الرسل من البشر.
وأتبع تحقيق مجيء العذاب بتنزيه الله عن الشريك فقفي ذلك بتبرئة الرسول صلى الله عليه وسلم من الكذب فيما يبلغه عن ربه ووصف لهم الإرسال وصفا موجزا. وهذا اعتراض في أثناء الاستدلال على التوحيد.
والمراد بالملائكة الواحد منهم وهو جبرائيل - عليه السلام -.
والروح: الوحي. أطلق عليه اسم الروح على وجه الاستعارة لأن الوحي به هدى للعقول الحق، فشبه الوحي بالروح كما يشبه العلم الحق بالحياة،وكما يشبه الجهل بالموت قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [سورة الأنعام:122].

ووجه تشبيه الوحي بالروح أن الوحي إذا وعته العقول حلت بها الحياة المعنوية وهو العلم كما أن الروح إذا حل في الجسم حلت به الحياة الحسية، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [سورة الشورى:52].
ومعنى {مِنْ أَمْرِهِ} الجنس، أي من أموره، وهي شؤونه ومقدراته التي استأثر بها. وذلك إضافته إلى الله كما هنا وكما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا}، وقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [سورة الرعد:11]، وقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [سورة الاسراء:85] لما تفيده الإضافة من التخصيص.
وقرأ الجمهور {يُنَزِّلُ} - بياء تحتية مضمومة وفتح النون وتشديد الزاي مكسورة - , وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب - بسكون النون وتخفيف الزاي مكسورة، و {الْمَلائِكَةَ} منصوبا.
وقرأه روح عن يعقوب - بتاء فوقية مفتوحة وفتح النون وتشديد الزاي مفتوحة ورفع {الْمَلائِكَة} على أن أصله تتنزل.
وقوله تعالى: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} رد على فنون من تكذيبهم. فقد قالوا: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [سورة الزخرف:31] وقالوا: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [سورة الزخرف:53] أي كان ملكا، وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [سورة الفرقان:7]. ومشيئة الله جارية على وفق حكمته، قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاته} [سورة الأنعام:].
و {أَنْذِرُوا} تفسير لفعل {يُنَزِّلُ} لأنه في تقدير ينزل الملائكة بالوحي.
وقوله: {بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} اعتراض واستطراد بين فعل {يُنَزِّلُ} ومفسره.
و {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} متعلق بـ {أَنْذِرُوا} على حذف حرف الجر حذفا مطردا مع "أنّ". والتقدير: أنذروا بأنه لا إله إلا أنا. والضمير المنصوب بـ "أنّ" ضمير الشأن. ولما كان هذا الخبر مسوقا للذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى وكان ذلك ضلالا يستحقون عليه العقاب جعل إخبارهم بضد اعتقادهم مما هم فيه إنذارا.
وفرع عليه {فَاتَّقُونِ} وهو أمر بالتقوى الشاملة لجميع الشريعة.

وقد أحاطت جملة {أنَْ أَنْذِرُوا} إلى قوله تعالى: {فَاتَّقُونِ} بالشريعة كلها، لأن جملة {أنَْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} تنبيه على ما يرجع من الشريعة إلى إصلاح الاعتقاد وهو الأمر بكمال القوة العقلية.
وجملة {فَاتَّقُونِ} تنبيه على الاجتناب والامتثال اللذين هما منتهى كمال القوة العملية.
[3] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة النحل:3]
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة النحل:1] لأنهم إذا سمعوا ذلك ترقبوا دليل تنزيه الله عن أن يكون له شركاء.فابتدئ بالدلالة على اختصاصه بالخلق والتقدير، وذلك دليل على أن ما يخلق لا يوصف بالإلهية كما أنبأ عنه التفرع عقب هذه الأدلة بقوله الآتي: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل:17].
وأعقب قوله: {سُبْحَانَهُ} بقوله: {وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} تحقيقا لنتيجة الدليل، كما يذكر المطلوب قبل ذكر القياس في صناعة المنطق ثم يذكر ذلك المطلوب عقب القياس في صورة النتيجة تحقيقا للوحدانية، لأن الضلال فيها هو أصل انتقاص عقائد أهل الشرك، ولأن إشراكهم هو الذي حداهم إلى إنكار نبوة من جاء ينهاهم عن الشرك فلا جرم كان الاعتناء بإثبات الوحدانية وإبطال الشرك مقدما على إثبات صدق الرسول - عليه الصلاة والسلام - المبدأ به في أول السورة بقوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [سورة النحل:2].
وعددت دلائل من الخلق كلها متضمنة نعما جمة على الناس إدماجا للامتنان بنعم الله عليهم وتعريضا بأن المنعم عليهم الذين عبدوا غيره قد كفروا نعمته عليهم؛ إذ شكروا ما لم ينعم عليهم ونسوا من انفرد بالإنعام، وذلك أعظم الكفران، كما دل على ذلك عطف {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [سورة النحل:18] على جملة {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [سورة النحل:17].
والاستدلال بخلق السماوات والأرض أكبر من سائر الأدلة وأجمع لأنها محوية لهما، ولأنهما من أعظم الموجودات. فلذلك ابتدئ بهما. ولكن ما فيه من إجمال المحويات اقتضى أن يعقب بالاستدلال بأصناف الخلق والمخلوقات فثني بخلق الإنسان

وأطواره وهو أعجب الموجودات المشاهدة، ثم بخلق الحيوان وأحواله لأنه جمع الأنواع التي تلي الإنسان في إتقان الصنع مع ما في أنواعها من المنن، ثم بخلق ما به حياة الإنسان والحيوان وهو الماء والنبات، ثم بخلق أسباب الأزمنة والفصول والمواقيت، ثم بخلق المعادن الأرضية، وانتقل إلى الاستدلال بخلق البحار ثم بخلق الجبال والأنهار والطرقات وعلامات الاهتداء في السير. وسيأتي تفصيله.
والباء في قوله: {بِالْحَقِّ} للملابسة. وهي متعلقة بـ {خَلَقَ} إذ الخلق هو الملابس للحق.
والحق: هنا ضد العبث، فهو هنا بمعنى الحكمة والجد؛ ألا ترى إلى قوله تعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38-39].
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [سورة صّ:27]. والحق والصدق يطلقان وصفين لكمال الشيء في نوعه.
وجملة {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} معترضة.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {تَعَالَى عَمَّا تُشْرِكُونَ} بمثناة فوقية.
[4] {خَلَقَ الْإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}
استئناف بياني أيضا. وهو استدلال آخر على انفراده تعالى بالإلهية ووحدانيته فيها. وذلك أنه بعد أن استدل عليهم بخلق العوالم العليا والسفلى وهي مشاهدة لديهم انتقل إلى الاستدلال عليهم بخلق أنفسهم المعلوم لهم. وأيضا لما استدل على وحدانيته بخلق أعظم الأشياء المعلومة لهم استدل عليهم أيضا بخلق أعجب الأشياء للمتأمل وهو الإنسان في طرفي أطواره من كونه نطفة مهينة إلى كونه عاقلا فصيحا مبينا بمقاصده وعلومه.
وتعريف {الْإنْسَانَ} للعهد الذهني، وهو تعريف الجنس، أي خلق الجنس المعلوم الذي تدعونه بالإنسان.
وقد ذكر للاعتبار بخلق الإنسان ثلاثة اعتبارات: جنسه المعلوم بماهيته وخواصه من الحيوانية والناطقية وحسن القوام، وبقية أحوال كونه، ومبدأ خلقه وهو النطفة التي هي أمهن شيء نشأ منها أشرف نوع، ومنتهى ما شرفه به وهو العقل. وذلك في جملتين وشبه جملة {خَلَقَ الْإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}.

والخصيم من صيغ المبالغة، أي كثير الخصام.
و {مُبِينٌ} خبر ثان عن ضمير {فَإِذَا هُوَ}، أي فإذا هو متكلم مفصح عما في ضميره ومراده بالحق أو بالباطل والمنطبق بأنواع الحجة حتى السفسطة.
والمراد: الخصام في إثبات الشركاء، وإبطال الوحدانية، وتكذيب من يدعون إلى التوحيد، كما دل عليه قوله تعالى في سورة يس [78،77]: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}.
والإنسان بحرف" إذا "المفاجأة استعارة تبعية. استعير الحرف الدال على معنى المفاجأة لمعنى ترتب الشيء على غير ما يظن أن يترتب عليه. وهذا معنى لم يوضع له حرف. ولا مفاجأة بالحقيقة هنا لأن الله لم يفاجأه ذلك ولا فجأ أحدا، ولكن المعنى أنه بحيث لو تدبر الناظر في خلق الإنسان لترقب منه الاعتراف بوحدانية خالقه وبقدرته على إعادة خلقه، فإذا سمع منه الإشراك والمجادلة في إبطال الوحدانية وفي إنكار البعث كان كمن فجأه ذلك. ولما كان حرف المفاجأة يدل على حصول الفجأة للمتكلم به تعين أن تكون المفاجأة استعارة تبعية.
فإقحام حرف المفاجأة جعل الكلام مفهما أمرين هما: التعجيب من تطور الإنسان من أمهن حالة إلى أبدع حالة وهي حالة الخصومة والإبانة الناشئتين عن التفكير والتعقل، والدلالة على كفرانه النعمة وصرفه ما أنعم به عليه في عصيان المنعم عليه. فالجملة في حد ذاتها تنويه، وبضميمة حرف المفاجأة أدمجت مع التنويه التعجيب. ولو قيل: فهو خصيم أو فكان خصيما لم يحصل هذا المعنى البليغ.
[5-7] {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
يجوز أن يعطف {وَالْأَنْعَامَ} عطف المفرد على المفرد عطفا على {الإِنْسَان} [سورة النحل:4]، أي خلق الإنسان من نطفة والأنعام، وهي أيضا مخلوقة من نطفة، فيحصل اعتبار بهذا التكوين العجيب لشبهه بتكوين الإنسان، وتكون جملة {خَلَقَهَا} بمتعلقاتها مستأنفة، فيحصل بذلك الامتنان.

ويجوز أن يكون عطف الجملة على الجملة، فيكون نصب {الْأَنْعَامَ} بفعل ضمر يفسره المذكور بعده على طريقة الاستغلال. والتقدير: وخلق الأنعام خلقها. فيكون الكلام مفيدا للتأكيد لقصد تقوية الحكم اهتماما بما في الأنعام من الفوائد؛ فيكون امتنانا على المخاطبين، وتعريضا بهم، فإنهم كفروا نعمة الله بخلقها فجعلوا من نتاجها لشركائهم وجعلوا لله نصيبا. وأي كفران أعظم من أن يتقرب بالمخلوقات إلى غير من خلقها. وليس في الكلام حصر على كلا التقديرين.
وجملة {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} في موضع الحال من الضمير المنصوب في {خَلَقَهَا} على كلا التقديرين؛ إلا أن الوجه الأول تمام مقابلة لقوله تعالى: {خَلَقَ الْإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [سورة النحل:4] من حيث حصول الاعتبار ابتداء ثم التعريض بالكفران ثانيا، بخلاف الوجه الثاني فإن صريحه الامتنان ويحصل الاعتبار بطريق الكناية من الاهتمام.
والمقصود من الاستدلال هو قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} وما بعده إدماج للامتنان.
و {الْأَنْعَامَ}: الإبل، والبقر، والغنم، والمعز. وتقدم في سورة الأنعام. وأشهر الأنعام عند العرب الإبل، ولذلك يغلب أن يطلق لفظ الأنعام عندهم على الإبل.
والخطاب صالح لشمول المشركين، وهم المقصود ابتداء من الاستدلال، وأن يشمل جميع الناس ولا سيما فيما تضمنه الكلام من الامتنان.
وفيه التفات من طريق الغيبة الذي في قوله تعالى: {عما يشركون} [سورة النحل:3] باعتبار بعض المخاطبين.
والدفء - بكسر الدال - اسم لما يتدفأ به كالملء والحمل. وهو الثياب المنسوجة من أوبار الأنعام وأصوافها وأشعارها تتخذ منها الخيام والملابس.
فلما كانت تلك مادة النسج جعل المنسوج كأنه مظروف في الأنعام.
وخص الدفء بالذكر من بين عموم المنافع للعناية به.
وعطف {مَنَافِعُ} على {دِفْءٌ} من عطف العام على الخاص لأن أمر الدفء قلما تستحضره الخواطر.

ثم عطف الأكل منها لأنه من ذواتها لا من ثمراتها.
وجملة {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} عطف على جملة {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}.
وجملة {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} عطف على جملة {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}. وهذا امتنان بنعمة تسخيرها للأكل منها والتغذي، واسترداد القوة لما يحصل من تغذيتها.
وتقديم المجرور في قوله تعالى: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} للاهتمام، لأنهم شديدو الرغبة في أكل اللحوم، وللرعاية على الفاصلة. والإتيان بالمضارع في {تَأْكُلُونَ} لأن ذلك من الأعمال المتكررة.
والإراحة: فعل الرواح، وهو الرجوع إلى المعاطن يقال: أراح نعمه إذا أعادها بعد السروح.
والسروح: الإسامة، أي الغدو بها إلى المراعي. يقال: سرحها بتخفيف الراء سرحا وسروحا، وسرحها - بتشديد الراء - تسريحا.
وتقديم الإراحة على التسريح لأن الجمال عند الإراحة أقوى وأبهج، لأنها تقل حينئذ ملأى البطون حافلة الضروع مرحة بمسرة الشبع ومحبة الرجوع إلى منازلها من معاطن ومرابض.
والإتيان بالمضارع في {تُرِيحُونَ} و {تَسْرَحُونَ} لأن ذلك من الأحوال المتكررة. وفي تكررها تكرر النعمة بمناظرها.
وجملة {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} معطوفة على {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ}. فهي في موضع الحال أيضا. والضمير عائد إلى أشهر الأنعام عندهم وهي الإبل، كقولها في قصة أم زرع ركب شريا وأخذ خطيا فأراح على نعما ثريا، فإن النعم التي تؤخذ بالرمح هي الإبل لأنها تؤخذ بالغارة.
وضمير {وَتَحْمِلُ} عائد إلى بعض الأنعام بالقرينة. واختيار الفعل المضارع بتكرر ذلك الفعل.
والأثقال: جمع ثقل - بفتحتين - وهو ما يثقل على الناس حمله بأنفسهم.
والمراد بـ {بَلَدٍ} جنس الذي يرتحلون إليه كالشام واليمن بالنسبة إلى أهل الحجاز، ومنهم أهل مكة في رحلة الصيف والشتاء والرحلة إلى الحج.

وقد أفاد {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} معنى تحملكم وتبلغكم، بطريقة الكناية القريبة من التصريح. ولذلك عقب بقوله تعالى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ}.
وجملة {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ} صفة لـ {بَلَدٍ}، وهي مفيدة معنى البعد، لأن بلوغ المسافر إلى بلد بمشقة هو من شان البلد البعيد، أي لا تبلغونه بدون الأنعام الحاملة أثقالكم.
والشق - بكسر الشين - في قراءة الجمهور: المشقة. والباء للملابسة. والمشقة: التعب الشديد.
وما بعد أداة الاستثناء مستثنى من أحوال لضمير المخاطبين.
وقرأ أبو جعفر {إِلَّا بِشَقِّ الْأَنْفُسِ} - بفتح الشين - وهو لغة في الشق المكسور الشين.
وقد نفت الجملة أن يكونوا بالغيه إلا بمشقة، فأفاد ظاهرها أنهم كانوا يبلغونه بدون الرواحل بمشقة وليس مقصودا، إذ كان الحمل على الأنعام مقارنا للأسفار بالانتقال إلى البلاد البعيدة، بل المراد: لم تكونوا بالغيه لولا الإبل أو بدون الإبل، فحذف لقرينة السياق.
وجملة {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} تعليل لجملة {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} ، أي خلقها لهذه المنافع لأنه رؤوف رحيم بكم.
[8] {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}
و {الْخَيْلَ} معطوف على {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} [سورة النحل:5] فالتقدير: وخلق الخيل.
والقول في مناط الاستدلال وما بعده من الامتنان والعبرة في كل كالقول فيما تقدم من قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} الآية.
والفعل المحذوف يتعلق به {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ، أي خلقها الله لتكونا مراكب للبشر، ولولا ذلك لم تكن في وجودها فائدة لعمران العالم.

وعطف {وَزِينَةً} بالنصب عطفا على شبه الجملة في {لِتَرْكَبُوهَا}، فجُنِّب قرنه بلام التعليل من أجل توفر شرط انتصابه على المفعولية لأجله، لأن فاعله وفاعل عامله واحد، فإن عامله فعل {خَلَقَ} في قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} إلى قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ} فذلك كله مفعول به لفعل {خَلَقَهَا}.
ولا مرية في أن فاعل جعلها زينة هو الله تعالى، لأن المقصود أنها في ذاتها زينة، أي خلقها تزين الأرض، أو زين بها الأرض، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [سورة الملك:5].
وهذا النصب أوضح دليل على أن المفعول لأجله منصوب على تقدير لام التعليل.
وهذا واقع موقع الامتنان فكان مقتصرا على ما ينتفع به المخاطبون الأولون في عادتهم.
وقد اقتصر على منة الركوب على الخيل والبغال والحمير والزينة، ولم يذكر الحمل عليها كما قال في شأن الأنعام: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} ، لأنهم لم تكن من عادتهم الحمل على الخيل والبغال والحمير، فإن الخيل كانت تركب للغزو وللصيد، والبغال تركب للمشي والغزو، والحمير تركب للتنقل في القرى وشبهها.
وفي حديث البخاري عن ابن عباس في حجة الوداع أنه قال:"جئت على حمار أتان ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس" الحديث.
وكان أبو سيارة يجيز بالناس من عرفة في الجاهلية على حمار وقال فيه:
خلوا السبيل عن أبي سياره ... وعن مواليه بني فزاره
حتى يجيز راكبا حماره ... مستقبل الكعبة يدعو جاره
فلا يتعلق الامتنان بنعمة غير مستعملة عند النعم عليهم، وإن كان الشيء المنعم به قد تكون له منافع لا يقصدها المخاطبون مثل الحرث بالإبل والخيل والبغال والحمير، وهو مما يفعله المسلمون ولا يعرف منكر عليهم.
أو منافع لم يتفطن لها المخاطبون مثل ما ظهر من منافع الأدوية في الحيوان مما لم يكن معروفا للناس من قبل، فيدخل كل ذلك في عموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} في سورة البقرة. فإنه عموم في الذوات يستلزم عموم

الأحوال عدا ما خصصه الدليل مما في آية الأنعام [145] {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية.
وبهذا يعلم أن لا دليل في هذه الآية على تحريم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير لأن أكلها نادر الخطور بالبال لقلته، وكيف وقد أكل المسلمون لحوم الحمر في غزوة خيبر بدون أن يستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في حالة اضطرار، وآية سورة النحل يومئذ مقروءة منذ سنين كثيرة فلم ينكر عليهم أحد ولا أنكره النبي صلى الله عليه وسلم.
كما جاء في الصحيح: أنه أتي فقيل له: أكلت الحمر، فسكت، ثم أتي فقيل: أكلت الحمر فسكت. ثم أتي فقيل: أفنيت الحمر فنادي النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ورسوله ينهيانكم عن أكل لحوم الحمر. فأهرقت القدور.
وأن الخيل والبغال والحمير سواء في أن الآية لا تشمل حكم أكلها. فالمصير في جواز أكلها ومنعه إلى أدلة أخرى.
فأما الخيل والبغال ففي جواز أكلها خلاف قوي بين أهل العلم، وجمهورهم أباحوا أكلها. وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ابن الحسن والظاهري. وروي عن ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر وعطاء والزهري والنخعي وابن جبير.
وقال مالك وأبو حنيفة: يحرم أكل لحوم الخيل. وروي عن ابن عباس واحتج بقوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}، ولو كانت مباحة الأكل لامتن بأكلها كما امتن في الأنعام بقوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [سورة النحل:5]. وهو دليل لا ينهض بمفرده. فيجاب عنه بما قررنا من جريان الكلام على مراعاة عادة المخاطبين به. وقد ثبتت أحاديث كثيرة أن المسلمين أكلوا لحوم الخيل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه. ولكنه كان نادرا في عادتهم.
وعن مالك رضي الله عنه رواية بكراهة لحوم الخيل واختار ذلك القرطبي.
وأما الحمير فقد ثبت أكل المسلمين لحومها يوم خيبر. ثم نهوا عن ذلك كما في الحديث المتقدم. واختلف في محمل ذلك، فحمله الجمهور على التحريم لذات الحمير. وحمله بعضهم على تأويل أنها كانت حمولتهم يومئذ فلو استرسلوا على أكلها لانقطعوا بذلك المكان فآبوا رجالا ولم يستطيعوا حمل أمتعتهم. وهذا رأي فريق من السلف. وأخذ فريق من السلف بظاهر النهي فقالوا بتحريم أكل لحوم الحمر الإنسية لأنها مورد النهي وأبقوا الوحشية على الإباحة الأصلية. وهو قول جمهور الأئمة مالك وأبي حنيفة

والشافعي - رضي الله عنهم - وغيرهم.
وفي هذا إثبات حكم تعبدي في التفرقة وهو مما ر ينبغي المصير إليه في الاجتهاد إلا بنص لا يقبل التأويل كما بيناه في كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية".
على أنه لا يعرف في الشريعة أن يحرم صنف إنسي لنوع من الحيوان دون وحشية.
وأما البغال فالجمهور على تحريمها. فأما من قال بحرمة أكل الخيل فلأن البغال صنف مركب من نوعين محرمين، فتعين أن يكون أكله حراما. ومن قال بإباحة أكل الخيل فلتغليب تحريم أحد النوعين المركب منهما وهو الحمير على تحليل النوع الآخر وهو الخيل. وعن عطاء أنه رآها حلالا.
والخيل: اسم جمع لا واحد له من لفظه على الأصح. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} في سورة آل عمران [14].
و {الْبِغَالَ}: جمع بغل. وهو اسم للذكر والأنثى من نوع أمه من الخيل وأبوه من الحمير. وهو من الأنواع النادرة والمتولدة من نوعين. وعكسه البرذون. ومن خصائص البغال عقم أنثاها بحيث لا تلد.
و {الْحَمِيرَ}: جمع تكسير حمار وقد يجمع على أحمرة وعلى حمر. وهو غالب للذكر من النوع، وأما الأنثى فأتان. وقد روعي في الجمع التغليب.
{وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}
اعتراض في آخر الكلام أو في وسطه على ما سيأتي.
و {وَيَخْلُقُ} مضارع مراد به زمن الحال لا الاستقبال، أي هو، الآن يخلق ما لا تعلمون أيها الناس مما هو مخلوق لنفعهم وهم لا يشعرون به، فكما خلق لهم الأنعام والكراع خلق لهم ويخلق لهم خلائق أخرى لا يعلمونها الآن، فيدخل في ذلك ما هو غير معهود أو غير معلوم للمخاطبين وهو معلوم عند أمم أخرى كالفيل عند الحبشة والهنود، وما هو غير معلوم لأحد ثم يعلمه الناس من بعد مثل دواب الجهات القطبية كالفقمة والدب الأبيض. ودواب القارة الأمريكية التي كانت مجهولة للناس في وقت نزول القرآن، فيكون المضارع مستعملا في الحال للتجديد، أي هو خالق ويخلق.
ويدخل فيه كما قبل ما يخلقه الله من المخلوقات في الجنة، غير أن ذلك خاص

بالمؤمنين، فالظاهر أنه غير مقصود من سياق الامتنان العام للناس المتوسل به إلى إقامة الحجة على كافري النعمة.
فالذي يظهر لي أن هذه الآية من معجزات القرآن الغيبية العلمية، وأنها إيماء إلى أن الله سيلهم البشر اختراع مراكب هي أجدى عليهم من الخيل والبغال والحمير، وتلك العجلات التي يركبها الواحد ويحركها برجليه وتسمى بسكلات، وأرتال السكك الحديدية، والسيارات المسيرة بمصفى النفط وتسمى أطوموبيل، ثم الطائرات التي تسير بالنفط المصفى في الهواء. فكل هذه مخلوقات نشأت في عصور متتابعة لم يكن يعلمها من كانوا قبل عصر وجود كل منها.
وإلهام الله الناس لاختراعها هو ملحق بخلق الله، فالله هو الذي ألهم المخترعين من البشر بما فطرهم عليه من الذكاء والعلم وبما تدرجوا في سلم الحضارة واقتباس بعضهم من بعض إلى اختراعها، فهي بذلك مخلوقة لله تعالى لأن الكل من نعمته.
[9] {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}
جملة معترضة. اقتضت اعتراضها مناسبة الامتنان بنعمة تيسير الأسفار بالرواحل والخيل والبغال والحمير.
فلما ذكرت نعمة تيسير السبيل الموصلة إلى المقاصد الجثمانية ارتقي إلى التذكير بسبيل الوصول إلى المقاصد الروحانية وهو سبيل الهدى، فكان تعهد الله بهذه السبيل نعمة أعظم من تيسير المسالك الجثمانية لأن سبيل الهدى تحصل به السعادة الأبدية. وهذا السبيل هي موهبة العقل الإنساني الفارق بين الحق والباطل، وإرسال الرسل لدعوة الناس إلى الحق، وتذكيرهم بما يغفلون عنه، وإرشادهم إلى ما لا تصل إليه عقولهم أو تصل إليه بمشقة على خطر من التورط في بنيات الطريق.
فالسبيل: مجاز لما يأتيه الناس من الأعمال من حيث هي موصلة إلى دار الثواب أو دار العقاب، كما في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108]. ويزيد هذه المناسبة بيانا لما شرحت دلائل التوحيد ناسب التنبيه على أن ذلك طريق للهدى، وإزالة للعذر، وأن من بين الطرق التي يسلكها الناس طريق ضلال وجور.
وقد استعير لتعهد الله بتبيين سبيل الهدى حرف {على} المستعار كثيرا في القرآن وكلام العرب لمعنى التعهد، كقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}. شبه التزام هذا البيان

والتعهد به بالحق والواجب على المحقوق به.
والقصد: استقامة الطريق. وقع هنا وصفا للسبيل من قبيل الوصف بالمصدر، لأنه يقال: طريق قاصد، أي مستقيم، وذلك أقوى في الوصف بالاستقامة كشأن الوصف بالمصادر، وإضافة {قَصْدُ} إلى {السَّبِيلِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، وهي صفة مخصصة لأن التعريف في {السَّبِيلِ} للجنس. ويتعين تقدير مضاف لأن الذي تعهد الله به هو بيان السبيل لا ذات السبيل.
وضمير {وَمِنْهَا} عائد إلى {السَّبِيلِ} على اعتبار جواز تأنيثه.
و {جَائِرٌ} وصف لـ {السَّبِيلِ} السبيل باعتبار استعماله مذكرا. أي من جنس السبيل الذي منه أيضا قصد سبيل جائر غير قصد.
والجائر: هو الحائد عن الاستقامة. وكنى به عن طريق غير موصل إلى المقصود، أي إلى الخير، وهو المفضي إلى ضر، فهو جائز بسالكه. ووصفه بالجائر على طريقة المجاز العقلي. ولم يضف السبيل الجائر إلى الله لأن سبيل الضلال اخترعها أهل الضلالة اختراعا لا يشهد له العقل الذي فطر الله الناس عليه، وقد نهى الله الناس عن سلوكها.
وجملة {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} تذييل.
[10] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}
استئناف لذكر دليل آخر من مظاهر بديع خلق الله تعالى أدمج فيه امتنان بما يأتي به ذلك الماء العجيب من المنافع للناس من نعمة الشراب ونعمة الطعام للحيوان الذي به قوام حياة الناس وللناس أنفسهم.
وصيغة تعريف المسند إليه والمسند أفادت الحصر، أي هو لا غيره. وهذا قصر على خلاف مقتضى الظاهر، لأن المخاطبين لا ينكرون ذلك ولا يدعون له شريكا في ذلك، ولكنهم لما عبدوا أصناما لم تنعم عليهم بذلك كان حالهم كحال من يدعي أن الأصنام أنعمت عليهم بهذه النعم، فنزلوا منزلة من يدعي الشركة لله في الخلق، فكان القصر قصر إفراد تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر.
وأنزل الماء من السماء تقدم معناه عند قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ

بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} في سورة البقرة [22].
وذكر في الماء منّتين: الشراب منه، والإنبات للشجر والزرع.
وجملة {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} صفة لـ {مَاءً}، و {لَكُمْ} متعلق بـ {شَرَابٌ} قدم عليه للاهتمام،
و {مِنْهُ} خبر مقدم كذلك، وتقديمه سوغ أن يكون المبتدأ نكرة.
والشراب: اسم للمشروب، وهو المائع الذي تشتفه الشفتان وتبلغه إلى الحلق فيبلع دون مضغ.
و "من" تبعيضية. وقوله تعالى و {وَمِنْهُ شَجَرٌ} نظير قوله: {مِنْهُ شَرَابٌ} وأعيد حرف "من" بعد واو العطف لأن حرف "من" هنا للابتداء، أو للسببية فلا يحسن عطف {شَجَرٌ} على {شَرَابٌ}.
والشجر: يطلق على النبات ذي الساق الصلبة، ويطلق على مطلق العشب والكلأ تغليبا.
وروعي هذا التغليب هنا لأنه غالب مرعى أنعام أهل الحجاز لقلة الكلأ في أرضهم، فهم يرعون الشعاري والغابات. وفي حديث: "ضالة الإبل تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيها ربذها".
ومن الدقائق البلاغية الإتيان بحرف "في" الظرفية، فالإسامة فيه تكون بالأكل منه والأكل مما تحته من العشب.
والإسامة: إطلاق الإبل للسوم وهو الرعي. يقال: سامت الماشية فهي سائمة وأسامها ربذها.
[11] {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
جملة {يُنْبِتُ} حال من ضمير {أنزل} [سورة النحل:10]، أي ينبت الله لكم.
وإنما لم يعطف هذا على جملة {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} [سورة النحل:10] لأنه ليس مما يحصل بنزول الماء وحده بل لا بد معه زرع وغرس.
وهذا الإتيان من دلائل عظيم القدرة الربذانية، فالغرض منه الاستدلال ممزوجا

بالتذكير بالنعمة، كما دل عليه قوله: {لَكُمْ} على وزان ما تقدم في قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل:5] الآية، وقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل:8] الآية.
وأسند الإنبات إلى الله لأنه الملهم لأسبابه والخالق لأصوله تنبيها للناس على دفع غرورهم بقدرة أنفسهم، ولذلك قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لكثرة ما تحت ذلك من الدقائق.
وذكر الزرع والزيتون وما معهما تقدم غير مرة في سورة الأنعام.
والتفكير تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} في سورة الأنعام [50].
وإقحام لفظ "قوم" للدلالة على أن التفكير من سجاياهم، كما تقدم عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164].
{وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} عطف على {الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ}، أي وينبت لكم به من الثمرات مما لم يذكر هنا.
والتعريف تعريف الجنس. والمراد: أجناس ثمرات الأرض التي ينبتها الماء، ولكل قوم من الناس ثمرات أرضهم وجوهم. و {مِنْ} تبعيضية قصد منها تنويع الامتنان على كل قوم بما نالهم من نعم الثمرات. وإنما لم تدخل على الزرع وما عطف عليه لأنها من الثمرات التي تنبت في كل مكان.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} تذييل.
والآية: الدلالة على أنه تعالى المبدع الحكيم. وتلك هي إنبات أصناف مختلفة من ماء واحد، كما قال: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} في سورة الرعد [4].
ونيطت دلالة هذه بوصف التفكير لأنها دلالة خفية لحصولها بالتدريج. وهو تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بما في ذلك من دلالة على تفرد الله بالإلهية بأنهم قوم لا يتفكرون.
وقرا الجمهور {يُنْبِتُ} بياء الغيبة. وقرأه أبو بكر عن عاصم بنون العظمة.

[12] {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
آيات أخرى على دقيق صنع الله تعالى وعلمه ممزوجة بامتنان.
وتقدم ما يفسر هذه الآية في صدر سورة يونس. وتسخير هذه الأشياء تقدم عند قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} في أوائل سورة الأعراف [54] وفي أوائل سورة الرعد وفي سورة إبراهيم.
وهذا انتقال للاستدلال بإتقان الصنع على وحدانية الصانع وعلمه. وإدماج بين الاستدلال والامتنان. ونيطت الدلالات بوصف العقل لأن أصل العقل كاف في الاستدلال بها على الوحدانية والقدرة، إذ هي دلائل بينة واضحة حاصلة بالمشاهدة كل يوم وليلة.
وتقدم وجه إقحام لفظ "قوم" آنفا، وأن الجملة تذييل.
وقرأ الجمهور جميع هذه الأسماء منصوبة على المفعولية لفعل"سخر". وقرأ ابن عامر {وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالنُّجُوم} بالرفع على الابتداء ورفع {مُسَخَّرَاتٍ} على أنه خبر عنها. فنكتة اختلاف الإعراب الإشارة إلى الفرق بين التسخيرين. وقرأ حفص برفع {النُّجُومُ} {مُسَخَّرَاتٌ}. ونكتة اختلاف الأسلوب الفرق بين التسخيرين من حيث إن الأول واضح والآخر خفي لقلة من يرقب حركات النجوم.
والمراد بأمره أمر التكوين للنظام الشمسي المعروف.
وقد أبدى الفخر في كتاب "درة التنزيل" وجها للفرق بين إفراد آية في المرة الأولى والثالثة وبين جمع آيات في المرة الثانية: بان ما ذكر أول وثالثا يرجع إلى ما نجم من الأرض، فجميعه آية واحدة تابعة لخلق الأرض وما تحتويه "أي وهو كله ذو حالة واحدة وهي حالة النبات في الأرض في الأول وحالة واحدة وهي حالة الذرء في التناسل في الحيوان في الآية الثالثة" وأما ما ذكر في المرة الثانية فإنه راجع إلى اختلاف أحوال الشمس والقمر والكواكب، وفي كل واحد منها نظام يخصه ودلائل تخالف دلائل غيره، فكان ما ذكر في ذلك مجموع آيات "أي لأن بعضها أعراض كالليل والنهار وبعضها أجرام لها أنظمة مختلفة ودلالات متعددة".
[13] {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ

يَذَّكَّرُونَ}
عطف على {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [سورة النحل: 12]، أي وسخر لكم ما ذرأ لكم في الأرض. وهو دليل على دقيق الصنع والحكمة لقوله تعالى: {مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}. وأومئ إلى ما فيه من منة بقوله {لكم}.
والذرء: الخلق بالتناسل والتولد بالحمل والتفريخ، فليس الإنبات ذرءا، وهو شامل للأنعام والكراع "وقد مضت المنة به" ولغيرها مثل كلاب الصيد والحراسة، وجوارح الصيد، والطيور، والوحوش المأكولة، ومن الشجر والنبات.
وزيد هنا وصف اختلاف ألوانه وهو زيادة للتعجيب ولا دخل له في الامتنان، فهو كقوله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} في سورة الرعد [4]، وقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌوَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} في سورة فاطر [27]. وبذلك صار هذا آية مستقلة فلذلك ذيله بجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}، ولكون محل الاستدلال هو اختلاف الألوان مع اتحاد أصل الذرء أفردت الآية في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}.
والألوان: جمع لون. وهو كيفية لسطوح الأجسام مدركة بالبصر تنشأ من امتزاج بعض العناصر بالسطح بأصل الخلقة أو بصبغها بعنصر ذي لون معروف. وتنشأ من اختلاط عنصرين فاكثر ألوان غير متناهية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} في سورة البقرة [69].
ونيط الاستدلال باختلاف الألوان بوصف التذكر لأنه استدلال يحصل بمجرد تذكر الألوان المختلفة إذ هي مشهورة.
وإقحام لفظ "قوم" وكون الجملة تذييلا تقدم آنفا.
وأبدى الفخر في"درة التنزيل" وجها لاختلاف الأوصاف في قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل:11] وقوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [سورة النحل:12] وقوله: {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}: بأن ذلك لمراعاة اختلاف شدة الحاجة إلى قوة التأمل بدلالة المخلوقات الناجمة عن الأرض يحتاج إلى التفكير، وهو إعمال المؤدى إلى العلم. ودلالة ما ذرأه في الأرض من الحيوان محتاجة إلى مزيد تأمل في التفكير للاستدلال على اختلاف أحوالها وتناسلها وفوائدها، فكانت بحاجة إلى التذكير، وهو التفكر مع تذكر أجناسها

واختلاف خصائصها. وأما دلالة تسخير الليل والنهار والعوالم العلوية فلأنها أدق وأحوج إلى التعمق. عبر عن المستدلين عليها بأنهم يعقلون، والتعقل هو أعلى أحوال الاستدلال اه.
[14] {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
القول في هذا الاستدلال وإدماج الامتنان فيه كالقول فيما سبق.
وتقدم الكلام على تسخير الفلك في البحر وتسخير الأنهار في أثناء سورة إبراهيم.
ومن تسخير البحر خلقه على هيئة يمكن معها السبح والسير بالفلك، وتمكين السابحين والماخرين من صيد الحيتان المخلوقة فيه والمسخرة لحيل الصائدين. وزيد في الامتنان أن لحم صيده طري.
و "من" ابتدائية، أي تأكلوا لحما طريا صادرا من البحر.
والطري: ضد اليابس. والمصدر: الطراوة. وفعله: طرو، بوزن خشن.
والحلية: ما يتحلى به الناس، أي يتزينون. وتقدم في قوله تعالى: {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} في سورة الرعد [17]. وذلك اللؤلؤ والمرجان؛ فاللؤلؤ يوجد في بعض البحار مثل الخليج الفارسي، والمرجان؛ يوجد في جميع البحار ويكثر ويقل. وسيأتي الكلام على اللؤلؤ في سورة الحج، وفي سورة الرحمان. ويأتي الكلام على المرجان في سورة الرحمان.
والاستخراج: كثرة الإخراج، فالسين والتاء للتأكيد مثل: استجاب لمعنى أجاب.
واللبس: جعل الثوب والعمامة والمصوغ على الجسد. يقال: لبس التاج، ولبس الخاتم، ولبس القميص. وتقدم عند قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} في سورة الأعراف [26].
وإسناد لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور تغليب، وإلا فإن غالب الحلية يلبسها النساء عدا الخواتيم وحلية السيوف.
وجملة {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} معترضة بين الجمل المتعاطفة مع إمكان العطف

لقصد مخالفة الأسلوب للتعجيب من تسخير السير في البحر باستحضار الحالة العجيبة بواسطة فعل الرؤية. وهو يستعمل في التعجيب كثيرا بصيغ كثيرة نحو: ولو ترى، و أرأيت، وماذا ترى. واجتلاب فعل الرؤية في أمثاله يفيد الحث على معرفة ذلك. فهذا النظم للكلام لإفادة هذا المعنى ولولاها لكان الكلام هكذا: وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وتبتغوا من فضله في فلك مواخر.
وعطف {وَلِتَبْتَغُوا} على {وَتَسْتَخْرِجُوا} ليكون من جملة النعم التي نشأت عن حكمة تسخير البحر. ولم يجعل علة لمخر الفلك كما جعل في سورة فاطر [12] {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} لأن تلك لم تصدر بمنة تسخير البحر بل جاءت في غرض آخر.
وأعيد حرف التعليل في قوله تعالى: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه} لأجل البعد بسبب الجملة المعترضة.
والابتغاء من فضل الله: التجارة كما عبر عنها بذلك في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة البقرة [198].
وعطف {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} على بقية العلل لأنه من الحكم التي سخر الله بها البحر للناس حملا لهم على الاعتراف لله بالعبودية ونبذهم إشراك غير به فيها. وهو تعريض بالذين أشركوا.
[15،16] {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}
انتقال إلى الاستدلال والامتنان بما على سطح الأرض من المخلوقات العظيمة التي في وجودها لطف بالإنسان. وهذه المخلوقات لما كانت مجعولة كالتكملة للأرض وموضوعة على ظاهر سطحها عبر عن خلقها ووضعها بالإلقاء الذي هو رمي شيء على الأرض. ولعل خلقها كان متأخرا عن خلق الأرض، إذ لعل الجبال انبثقت باضطرابات أرضية كالزلزال العظيم ثم حدثت الأنهار بتهاطل الأمطار. وأما السبل والعلامات فتأخر وجودها ظاهر، فصار خلق هذه الأربعة شبيها بإلقاء شيء في شيء بعد تمامه.
ولعل أصل تكوين الجبال كان من شظايا رمت بها الكواكب فصادفت سطح

الأرض، كما أن الأمطار تهاطلت فكونت الأنهار؛ فيكون تشبيه حصول هذين بالإلقاء بينا. وإطلاقه على وضع السبل والعلامات تغليب. ومن إطلاق الإلقاء على الإعطاء ونحوه قوله تعالى: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة القمر: [25].
و {رَوَاسِيَ} جمع راس. وهو وصف من الرسو بفتح الراء وسكون السين. ويقال بضم الراء والسين مشددة وتشديد الواو. وهو الثبات والتمكن في المكان قال تعالى: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13].
ويطلق على الجبل راس بمنزلة الوصف الغالب. وجمعه على زنة فواعل على خلاف القياس. وهو من النوادر مثل عواذل فوارس. وتقدم بعض الكلام عليه في أول الرعد.
وقوله تعالى: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} تعليل لإلقاء الرواسي في الأرض. والميد: الاضطراب. وضمير {تَمِيدَ} عائد إلى {الأرض} بقرينة قرنه بقوله تعالى: {بِكُمْ}، لأن الميد إذا عدي بالباء علم أن المجرور بالباء هو الشيء المستقر في الظرف المائد، والاضطراب يعطل مصالح الناس ويلحق بهم آلاما.
ولما كان المقام مقام امتنان علم أن المعلل به هو انتفاء الميد لا وقوعه. فالكلام جار على حذف تقتضيه القرينة، ومثله كثير في القرآن وكلام العرب، قال عمرو بن كلثوم:
فعجلنا القرى أن تشتمونا
أراد أن لا تشتمونا. فالعلة هي انتفاء الشتم لا وقوعه. ونحاة الكوفة يخرجون أمثال ذلك على حذف حرف النفي بعد {أَنْ}. والتقدير: لأن لا تميد بكم ولئلا تشتمونا، وهو الظاهر. ونحاة البصرة يخرجون مثله على حذف مضاف بين الفعل المعلل و {أَنْ}. تقديره: كراهية أن تميد بكم.
وهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية معنى غامض. ولعل الله جعل نتوء الجبال على سطح الأرض معدلا لكرويتها بحيث لا تكون بحد من الملاسة يخفف حركتها في الفضاء تخفيفا يوجب شدة اضطرابها.
ونعمة الأنهار عظيمة، فإن منها شرابهم وسقي حرثهم، وفيها تجري سفنهم لأسفارهم.

ولهذه المنة الأخيرة عطف عليها {وَسُبُلاً} جمع سبيل. وهو الطريق الذي يسافر فيه برا.
وجملة {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} معترضة، أي رجاء اهتدائكم. وهو كلام موجه. يصلح للاهتداء إلى المقاصد في الأسفار من رسم الطرق وإقامة المراسي على الأنهار واعتبار المسافات. وكل ذلك من جعل الله تعالى لأن ذلك حاصل بإلهامه. ويصلح للاهتداء إلى الدين الحق وهو دين التوحيد، لأن في تلك الأشياء دلالة على الخالق المتوحد بالخلق.
والعلامات: الأمارات التي ألهم الله الناس أن يضعوها أو يتعارفوها لتكون دلالة على المسافات والمسالك المأمونة في البر والبحر فتتبعها السابلة.
وجملة {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} معطوفة على جملة {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ}، لأنها في معنى: وهداكم بالنجم فأنتم تهتدون به. وهذه منة بالاهتداء في الليل لأن السبيل والعلامات إنما تهدي في النهار، وقد يضطر السالك إلى السير ليلا؛ فمواقع النجوم علامات لاهتداء الناس الشائرين ليلا تعرف بها السماوات، وأخص من يهتدي بها البحارة لأنهم لا يستطيعون الإرساء في كل ليلة فهم مضطرون إلى السير ليلا، وهي هداية عظيمة في وقت ارتباك الطريق على السائر، ولذلك قدم المتعلق في قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ} تقديما يفيد الاهتمام، وكذلك بالمسند الفعلي في قوله تعالى: {هُمْ يَهْتَدُونَ}.
وعدل عن الخطاب إلى الغيبة التفاتا يومئ إلى فريق خاص وهم السيارة والملاحون فإن هدايتهم بهذه النجوم لا غير.
والتعريف في "النجم" تعريف الجنس. والمقصود منه النجوم التي تعارفها الناس للاهتداء بها مثل القطب. وتقدم في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} في سورة الأنعام [97].
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله تعالى: {هُمْ يَهْتَدُونَ} لمجرد تقوي الحكم، إذ لا يسمح المقام بقصد القصر وإن تكلفه في"الكشاف".
[17،18] {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
بعد أن أقيمت الدلائل على انفراد الله بالخلق ابتداء من قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [سورة النحل:3] وثبتت المنة وحق الشكر، فرع على ذلك هاتان الجملتان لتكونا كالنتيجتين للأدلة السابقة إنكارا على المشركين فالاستفهام عن المساواة إنكاري، أي لا يستوي من يخلق بمن لا يخلق. فالكاف للماثلة، وهي مورد الإنكار حيث جعلوا الأصنام آلهة شريكة لله تعالى. ومن مضمون الصلتين يعرف أي الموصولين أولى بالإلهية فيظهر مورد الإنكار.
وحين كان المراد بمن لا يخلق الأصنام كان إطلاق "من" الغالبة في العاقل مشاكلة لقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ}.
وفرع على إنكار التسوية استفهام عن عدم التذكر في انتفائها. فالاستفهام في قوله: {فَلا تَذَكَّرُونَ} مستعمل في الإنكار على انتفاء التذكر، وذلك يختلف باختلاف المخاطبين. فهو إنكار على إعراض المشركين عن التذكر في ذلك.
وجملة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} عطف على جملة {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}. وهي كالتكملة لها لأنها نتيجة لما تضمنته تلك الأدلة من الامتنان كما تقدم. وهي بمنزلة التذييل للامتنان لأن فيها عموما يشمل النعم المذكورة وغيرها.
وهذا كلام جامع للتنبيه على وفرة نعم الله تعالى على الناس بحيث لا يستطيع عدها العادون، وإذا كانت كذلك فقد حصل التنبيه إلى كثرتها بمعرفة أصولها وما يحويها من العوالم.
وفي هذا إيماء إلى الاستكثار من الشكر على مجمل النعم، وتعريض بفظاعة كفر من كفروا بهذا المنعم، وتغليظ التهديد لهم. وتقدم نظيرها في سورة إبراهيم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} استئناف عقب به تغليظ الكفر والتهديد عليه تنبيها على تمكنهم من تدارك أمرهم بأن يقلعوا عن الشرك، ويتأهبوا للشكر بما يطيقون، على عادة القرآن من تعقيب الزواجر بالرغائب كيلا يقنط المسرفون.
وقد خولف بين ختام هذه الآية وختام آية سورة إبراهيم، إذ وقع هنالك {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [سورة ابراهيم:34] لأن تلك جاءت في سياق وعيد وتهديد عقب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} [سورة ابراهيم:28] فكان المناسب لها تسجيل ظلمهم وكفرهم بنعمة الله.
وأما هذه الآية فقد جاءت خطابا للفريقين كما كانت النعم المعدودة عليهم منتفعا بها

كلاهما.
ثم كان من اللطائف أن وقبل الوصفان اللذان في آية سورة إبراهيم {لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} بوصفين هنا {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} إشارة إلى أن تلك النعم كانت سببا لظلم الإنسان وكفره وهي سبب لغفران الله ورحمته. والأمر في ذلك منوط الإنسان.
[19] {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}
عطف على جملة {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ}. فبعد أن أثبت أن الله منفرد بصفة الخلق دون غيره بالأدلة العديدة ثم باستنساخ ذلك بقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} انتقل هنا إلى إثبات أنه منفرد بعموم العلم.
ولم يقدم لهذا الخبر استدلال ولا عقب بالدليل لأنه مما دلت عليه أدلة الانفراد بالخلق، لأن خالق أجزاء الإنسان الظاهرة والباطنة يجب له أن يكون عالما بدقائق حركات تلك الأجزاء وهي بين ظاهر وخفي، فلذلك قال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
والمخاطب هنا هم المخاطبون بقوله تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل:17] وفيه تعريض بالتهديد والوعيد بأن الله محاسبهم على كفرهم.
وفيه إعلام بأن أصنامهم بخلاف ذلك كما دل عليه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي فإنه يفيد القصر لرد دعوى الشركة.
وقرأ حفص {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} بالتحتية فيهما، وهو التفات من الخطاب إلى الغيبة. وعلى قراءته تكون الجملة أظهر في التهديد منها في قصد التعليم.
[20،21] {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}
عطف على جملة {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [سورة النحل:17] وجملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [سورة النحل:19].
وما صدق {الَّذِينَ} الأصنام. وظاهر أن الخطاب هنا متمحض للمشركين وهم بعض المخاطبين في الضمائر السابقة.

والمقصود من هذه الجملة التصريح بما استفيد ضمنا مما قبلها وهو نفي الخالقية ونفي العلم عن الأصنام.
فالخبر الأول وهو جملة {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} استفيد من جملة {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [سورة النحل:17]. وعطف {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ارتقاء في الاستدلال على انتفاء إلهيتها.
والخبر الثاني وهو جملة {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} تصريح بما استفيد من جملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [سورة النحل:19] بطريقة نفي الشيء بنفي ملزومه. وهي طريقة الكناية التي هي كذكر الشيء بدليله. فنفي الحياة عن الأصنام في قوله: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} يستلزم نفي العلم عنها لأن الحياة شرط في قبول العلم، ولأن نفي أن يكونوا يعلمون ما هو من أحوالهم يستلزم انتفاء أن يعلموا أحوال غيرهم بدلالة فحوى الخطاب، ومن كان هكذا فهو غير إله.
وأسند {يُخْلَقُونَ} إلى النائب لظهور الفاعل من المقام، أي وهم مخلوقون لله تعالى، فإنهم من الحجارة التي هي من خلق الله، ولا يخرجها نحت البشر إياها على صور وأشكال عن كون الأصل مخلوقا لله تعالى. كما قال تعالى حكاية عن إبراهيم - عليه السلام - قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات:96].
وجملة {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} تأكيد لمضمون جملة {أَمْوَاتٌ} ، للدلالة على عراقة وصف الموت فيهم بأنه ليس فيه شائبة حياة لأنهم حجارة.
ووصفت الحجارة بالموت باعتبار كون الموت عدم الحياة. ولا يشترط في الوصف بأسماء الإعدام قبول الموصوفات بها لملكاتها، كما اصطلح عليه الحكماء، لأن ذلك اصطلاح منطقي دعا إليه تنظيم أصول المحاجة.
وقرأ عاصم ويعقوب {يدعون} بالتحتية. وفيها زيادة تبيين لصرف الخطاب إلى المشركين في قراءة الجمهور.
وجملة {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} إدماج لإثبات البعث عقب الكلام على إثبات الوحدانية لله تعالى، لأن هذين هما أصل إبطال عقيدة المشركين، وتمهيد لوجه التلازم بين إنكار البعث وبين إنكار التوحيد في قوله تعالى: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل:22]. ولذلك فالظاهر أن ضميري {يَشْعُرُونَ}

و {يُبْعَثُونَ} عائدان إلى الكفار على طريق الالتفات في قراءة الجمهور، وعلى تناسق الضمائر في قراءة عاصم ويعقوب.
والمقصود من نفي شعورهم بالبعث تهديدهم بان البعث الذي أنكروه واقع وأنهم لا يدرون متى يبغتهم،كما قال تعالى: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [سورة الأعراف:187].
والبعث: حقيقته الإرسال من مكان إلى آخر. ويطلق على إثارة الجاثم. ومنه قولهم: بعثت البعير، إذا أثرته من مبركه. ولعله من إطلاق اسم الشيء على سببه. وقد غلب البعث في اصطلاح القرآن على إحضار الناس إلى الحساب بعد الموت. فمن كان منهم ميتا فبعثه من جدثه، ومن كان منهم حيا فصادفته ساعة انتهاء الدنيا فمات ساعتئذ فبعثه هو إحياؤه عقب الموت، وبذلك لا يعكر إسناد نفي الشعور بوقت البعث عن الكفار الأحياء المهددين. ولا يستقيم أن يكون ضمير {يَشْعُرُونَ} عائدا إلى {الذين تدعون} ، أي الأصنام.
و {أَيَّانَ} اسم استفهام عن الزمان. مركبة من "أي" و "آن" بمعنى أي زمن، وهي معلقة لفعل {يَشْعُرُونَ} عن العمل بالاستفهام، والمعنى: وما يشعرون بزمن بعثهم. وتقدم {أَيَّانَ} في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} في سورة الأعراف [187].
[22،23] {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}
استئناف نتيجة لحاصل المحاجة الماضية، أي قد ثبت بما تقدم إبطال إلهية غير الله، فثبت أن لكم إلها واحدا لا شريك له، ولكون ما مضى كافيا في إبطال إنكارهم الوحدانية عريت الجملة عن المؤكد تنزيلا لحال المشركين بعدما سمعوا من الأدلة منزلة من لا يظن به أنه يتردد في ذلك بخلاف قوله تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} في سورة الصافات، لأن ذلك ابتداء كلام لم يتقدمه دليل، كما أن قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} في سورة البقرة [163] خطاب لأهل الكتاب.
وتفرع عليه الإخبار بجملة {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} ، وهو تفريع الأخبار عن الأخبار، أي يتفرع على هذه القضية القاطعة بما تقدم من الدلائل أنكم قلوبكم منكرة وأنتم مستكبرون وأن ذلك ناشئ عن عدم إيمانكم بالآخرة.
والتعبير عن المشركين بالموصول وصلته "الذين لا يؤمنون بالآخرة" لأنهم قد عرفوا

بمضمون الصلة واشتهروا بها اشتهار لمز وتنقيص عند المؤمنين، كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [سورة الفرقان:21]، وللإيماء إلى أن لهذه الصلة ارتباطا باستمرارهم على العناد. لأن انتفاء إيمانهم بالبعث والحساب قد جرأهم على نبذ دعوة الإسلام ظهريا فلم يتوقعوا مؤاخذة على نبذها، على تقدير أنها حق فينظروا في دلائل أحقيتها مع أنهم يؤمنون بالله ولمنهم لا يؤمنون بأنه أعد للناس يوم جزاء على أعمالهم.
ومعنى {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} جاحدة بما هو واقع. استعمل الإنكار في جحد الأمر الواقع لأنه ضد الإقرار. فحذف متعلق {مُنْكِرَةٌ} لدلالة المقام عليه، أي منكرة للوحدانية.
وعبر بالجملة الاسمية {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} للدلالة على أن الإنكار ثابت لهم دائم لاستمرارهم على الإنكار بعد ما تبين من الأدلة. وذلك يفيد أن الإنكار صار لهم سجية وتمكن من نفوسهم لأنهم ضروا به من حيث إنهم لا يؤمنون بالآخرة فاعتادوا عدم التبصر في العواقب.
وكذلك جملة {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} بنيت على الاسمية للدلالة على تمكن الاستكبار منهم. وقد خولف ذلك في آية سورة الفرقان {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [ الفرقان: من الآية21] لأن تلك الآية لم تتقدمها دلائل على الوحدانية مثل الدلائل المذكور في هذه الآية.
وجملة {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.
والجرم بالتحريك: أصله البد. وكثر في الاستعمال حتى صار بمعنى حقا. وقد تقدم عند قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} في سورة هود [22 ]
وقوله {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} في موضع جر بحرف جر محذوف متعلق ب {جَرَمَ}. وخبر "لا" النافية محذوف لظهوره، إذ التقدير: لا جرم موجود. وحذف الخبر في مثله كثير. والتقدير: لا جرم في أن الله يعلم أو لا جرم من أنه يعلم، أي لا بد أنه يعلم، أي لا بد من علمه، أي لا شك في ذلك.
وجملة {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} خبر مستعمل كناية عن الوعيد بالمؤاخذة بما يخفون وما يظهرون من الإنكار والاستكبار وغيرها بالمؤاخذة بما يخفون وما يظهرون من الإنكار والاستكبار وغيرها مؤاخذة عقاب وانتقام، فلذلك عقب بجملة {إِنَّهُ لا يُحِبُّ

الْمُسْتَكْبِرِينَ} الواقعة موقع التعليل والتذييل لها، لأن الذي لا يحب فعلا وهو قادر يجازي فاعله بالسوء.
والتعريف في {الْمُسْتَكْبِرِينَ} للاستغراق، لأن شأن التذييل العموم. ويشمل هؤلاء المتحدث عنهم فيكون إثبات العقاب لهم كإثبات الشيء بدليله.
[24, 25] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} عطف على جملة {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} [النحل:22] لأن مضمون هذه من أحوالهم المتقدم بعضها، فإنه ذكر استكبارهم وإنكارهم الوحدانية، وأتبع بمعاذيرهم الباطلة لإنكار نبوع محمد صلى الله عليه وسلم وبصدهم الناس عن اتباع الإسلام. والتقدير: قلوبهم منكرة ومستكبرة فلا يعترفون بالنبوة ولا يخلون بينك وبين من يتطلب الهدى مضلون للناس صادونهم عن الإسلام.
وذكر فعل القول يقتضي صدوره عن قائل يسألهم عن أمر حدث بينهم وليس على سبيل الفرض، وأنهم يجيبون بما ذكر مكرا بالدين وتظاهرا بمظهر الناصحين للمسترشدين المستنصحين بقرينة قوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
و {إِذَا} ظرف مضمن معنى الشرط. وهذا الشرط يؤذن بتكرر هذين القولين. وقد ذكر المفسرون أن قريشا لما أهمهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا تأثير القرآن في نفوس الناس، وأخذ أتباع الإسلام يكثرون، وصار الواردون إلى مكة في موسم الحج وغيره يسألون الناس عن هذا القرآن، وماذا يدعو إليه، دبر لهم الوليد بن المغيرة معاذير واختلاقا يختلفونه ليقنعوا السائلين به، فندب منهم ستة عشر رجلا بعثهم أيام الموسم يقعدون في عقبات مكة وطرقها التي يرد منها الناس، يقولون لمن سألهم لا تغتروا بهذا الذي يدعي أنه نبي فإنه مجنون أو ساحر أو شاعر أو كاهن وأن الكلام الذي يقوله أساطير من أساطير الأولين اكتتبها. وقد تقدم ذلك في آخر سورة الحجر. وكان النضر بن الحارث يقول: "أنا أقرأ عليكم ما هو أجمل من حديث محمد أحاديث رستم وإسفنديار." وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} سورة الأنعام: [93].

ومساءلة العرب عن بعث النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة واقعة. وأصرحها ما رواه البخاري عن أبي ذر أنه قال: "كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي أنيس: انطلق إلى هذا الرجل كلمه وائتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ما عندك? فقال: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر. فقلت: لم تشفني من الخبر، فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد..." إلى آخر الحديث.
وسؤال السائلين لطلب الخبر عن المنزل من الله يدل على أن سؤالهم سؤال مسترشد عن دعوى بلغتهم وشاع خبرها في بلاد العرب، وأنهم سألوا عن حسن طوية، ويصوغون السؤال عن الخبر كما بلغتهم دعوته.
وأما الجواب فهو جواب بليغ تضمن بيان نوع هذا الكلام، وإبطال أن يكون منزلا من عند الله لأن أساطير الأولين معروفة والمنزل من عند الله شأنه أن يكون غير معروف من قبل.
و {مَاذَا} كلمة مركبة من "ما" الاستفهامية واسم الإشارة، ويقع بعدها فعل هو صلة لموصول محذوف ناب عنه اسم الإشارة. والمعنى: ما هذا الذي أنزل.
و "ما" يستفهم بها عن بيان الجنس ونحوه. وموضعها أنها خبر مقدم. وموضع اسم الإشارة الابتداء. والتقدير: هذا الذي أنزل ربكم ما هو. وقد تسامح النحويون فقالوا: إن "ذا" من قولهم "ماذا" صارت اسم موصول. وتقدم عند قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} في سورة البقرة [215].
و {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} خبر مبتدأ محذوف دل عليه ما في السؤال. والتقدير: هو أساطير الأولين، أي المسؤول عنه أساطير الأولين.
ويعلم من ذلك أنه ليس منزلا من ربهم لأن أساطير الأولين لا تكون منزلة من الله كما قلناه آنفا. ولذلك لم يقع {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} منصوبا لأنه لو نصب لاقتضى التقدير: أنزل أساطير الأولين، وهو كلام متناقض. لأن أساطير الأولين السابقة لا تكون الذي أنزل الله الآن.
والأساطير: جمع أسطار الذي هو جمع سطر. فأساطير جمع الجمع. وقال المبرد: جمع أسطورة بضم الهمزة كأرجوحة. وهي مؤنثة باعتبار أنها قصة مكتوبة. وهذا الذي

ذكره المبرد أولى لأنها أساطير في الأكثر يعني بها القصص لا كل كتاب مسطور. وقد تقدم عند قوله تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} في سورة الأنعام [25].
واللام في {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ} تعليل لفعل {قالوا} ، وهي غاية وليست بعلة لأنهم لما قالوا {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} لم يريدوا أن يكون قولهم سببا لأن يحملوا أوزار الذين يضلونهم، فاللام مستعملة مجازا في العاقبة مثل {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [سورة القصص: 8]
والتقدير: قالوا ذلك القول كحال من يغرى على ما يجر إليه زيادة الضر إذ حملوا بذلك أوزار الذين يضلونهم زيادة على أوزارهم.
والأوزار: حقيقتها الأثقال. جمع وزر - بكسر الواو وسكون الزاي - وهو الثقل. واستعمل في الجرم والذنب، لأنه يثقل فاعله عن الخلاص من الألم والعناء، فأصل ذلك استعارة بتشبيه الجرم والذنب بالوزر. وشاعت هذه الاستعارة، قال تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} في سورة الأنعام [31]. كما يعبر عن الذنوب بالأثقال قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [سورة العنكبوت:13].
وحمل الأوزار تمثيل لحالة وقوعهم في تبعات جرائمهم بحالة حامل الثقل لا يستطيع تفصيلا منه، فلما شبه الإثم بالثقل فأطلق عليه الوزر شبه التورط في تبعاته بحمل التقل على طريقة التخييلية، وحصل من الاستعارتين المفرقتين استعارة تمثيلية للهيئة كلها. وهذا من أبدع التمثيل أن تكون الاستعارة التمثيلية صالحة للتفريق إلى عدة تشابيه أو استعارات.
وإضافة الأوزار إلى ضمير "هم" لأنهم مصدرها.
ووصفت الأوزار بـ {كَامِلَةً} تحقيقا لوفائها وشدة ثقلها ليسري ذلك إلى شدة ارتباكهم في تبعاتها إذ هو المقصود من إضافة الحمل إلى الأوزار.
و {وَمِنْ} في قوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} للسببية متعلقة بفعل محذوف دل عليه حرف العطف وحرف الجر بعده إذ لا بد لحرف الجر من متعلق. وتقديره: ويحملوا. ومفعول الفعل محذوف دل عليه مفعول نظيره. والتقدير: ويحملوا أوزارا ناشئة عن أوزار الذين يضلونهم، أي ناشئة لهم عن تسببهم في ضلال المضللين - بفتح اللام -

فإن تسببهم في الضلال يقتضي مساواة المضلل للضال في جريمة الضلال، إذ لولا إضلاله إياه لاهتدى بنظره أو بسؤال الناصحين. وفي الحديث الصحيح "ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا".
و {بِغَيْرِ عِلْمٍ} في موضع الحال من ضمير النصب في {يُضِلُّونَهُمْ}، أي يضلون ناسا غير عالمين يحسبون إضلالهم نصحا. والمقصود من هذا الحال تفظيع التضليل لا تقييده فإن التضليل لا يكون إلا عن عدم علم كلا أو بغضا.
وجملة {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} تذييل. افتح بحرف التنبيه اهتماما بما تتضمنه للتحذير من الوقوع فيه أو للإقلاع عنه.
[26] {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُِ من فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}
لما ذكر عاقبة إضلالهم وصدهم السائلين عن القرآن والإسلام في الآخرة أتبع بالتهديد بأن يقع لهم ما وقع فيه أمثالهم في الدنيا من الخزي والعذاب مع التأييس من أن يبلغوا بصنعهم ذلك مبلغ مرادهم، وأنهم خائبون في صنعهم كما خاب من قبلهم الذين مكروا برسلهم.
ولما كان جوابهم السائلين عن القرآن بقولهم هو {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة النحل: 24] مظهرينه بمظهر النصيحة والإرشاد وهم يريدون الاستبقاء على كفرهم، سمي ذلك مكرا بالمؤمنين، إذ المكر إلحاق الضر بالغير في صورة تمويهه بالنصح والنفع، فنظر فعلهم بمكر من قبلهم، أي من الأمم السابقة الذين مكروا بغيرهم مثل قوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم فرعون، قال تعالى في قوم صالح: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النمل:50] الآية، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123].
فالتعريف بالموصول في قوله تعالى {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مساو للتعريف بلام الجنس.
ومعنى {أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ } استعارة بتشبيه القاصد للانتقام بالجائي نحو المنتقم منه، ومنه قوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: من الآية].

وقوله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} تمثيل لحالات استئصال الأمم، فالبنيان مصدر بمعنى المفعول. أي المبنى، وهو هنا مستعار للقوة والعزة والمنعة وعلو القدر.
وإطلاق البناء على مثل هذا وارد في فصيح الكلام. قال عبدة بن الطبيب:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
وقالت سعدة أم الكميت بن معروف:
بنى لك معروف بناء هدمته ... وللشرف العادي بان وهادم
و {مِنَ الْقَوَاعِدِ} متعلق بـ {أَتَى} و {مِنَ} ابتدائية، ومجرورها هو مبدأ الإتيان الذي هو بمعنى الاستئصال، فهو في معنى هدمه.
و {الْقَوَاعِدِ}: الأسس والأساطين التي تجعل عمدا للبناء يقام عليها السقف. وهو تخييل أو ترشيح، إذ ليس في الكلام شيء يشبه بالقواعد.
والخرور: السقوط والهوي، ففعل خر مستعار لزوال ما به المنعة نظير قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} [الحشر: من الآية2].
و {السَّقْفُ}: حقيقته غطاء الفراغ الذي بين جدران البيت، يجعل على الجدران وتكون من حجر ومن أعواد، وهو هنا مستعار لما استعير له البناء.
و {من فَوْقِهِمْ} تأكيد لجملة {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُِ}.
ومن مجموع هذه الاستعارات تتركب الاستعارة التمثيلية. وهي تشبيه هيئة القوم الذين مكروا في المنعة فأخذهم الله بسرعة وأزال تلك العزة بهيئة قوم أقاموا بنيانا عظيما ذا دعائم وآووا إليه فاستأصله الله من قواعده فخر سقف البناء دفعة على أصحابه فهلكوا جميعا. فهذا من إبداع التمثيلية لأنها تنحل إلى عدة استعارات.
وجملة {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ} عطف على جملة {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}. وأل في {الْعَذَابُ} للعهد فهي مفيدة مضمون قوله {من فَوْقِهِمْ} مع زيادة قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}. فباعتبار هذه الزيادة وردت معطوفة لحصول المغايرة وإلا فإن شأن المؤكدة أن لا تعطف. والمعنى: أن العذاب المذكور حل بهم بغتة وهم لا يشعرون فإن الأخذ فجأة أشد نكاية لما يصحبه من الرعب الشديد بخلاف الشيء الوارد تدريجا فإن

النفس تتلقاه بصبر.
[27] {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} عطف على {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل:25]، لأن ذلك وعيد لهم وهذا تكملة له.
وضمير الجمع في قوله تعالى: {يُخْزِيهِمْ} عائد إلى ما عاد إليه الضمير المجرور باللام في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل: من الآية24]. وذلك عائد إلى {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، فإن خزي الآخرة أعظم من استئصال نعيم الدنيا.
والخزي: الإهانة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ} [البقرة: من الآية85].
وتقديم الظرف للاهتمام بيوم القيامة لأنه يوم الأحوال الأبدية فما فيه من العذاب مهول للسامعين.
و {أَيْنَ} للاستفهام عن المكان، وهو يقتضي العلم بوجود من يحل في المكان. ولما كان المقام هنا مقام تهكم كان الاستفهام عن المكان مستعملا في التهكم ليظهر لهم كالطماعية للبحث عن آلهتهم، وهم علموا أن لا وجود لهم ولا مكان لحلولهم.
وإضافة الشركاء إلى ضمير الجلالة زيادة في التوبيخ، لأن مظهر عظمة الله تعالى يومئذ للعيان ينافي أن يكون له شريك، فالمخاطبون عالمون حينئذ بتعذر المشاركة.
والموصول من قوله تعالى: {الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} للتنبيه على ضلالهم وخطئهم في ادعاء المشاركة مثل الذي في قول عبدة:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
والمشاقة: المشادة في الخصومة. كأنها خصومة لا سبيل معها إلى الوفاق، إذ قد صار كل خصم في شق غير شق الآخر.

وقرأ نافع {تُشَاقُّونَ} بكسر النون على حذف ياء المتكلم، أي تعاندونني، وذلك بإنكارهم ما أمرهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقرأ البقية {تُشَاقُّونَ} بفتح النون وحذف المفعول للعلم، أي تعاندون من يدعوكم إلى التوحيد.
و "في" للظرفية المجازية مع حذف مضاف، إذ المشاقة لا تكون في الذوات بل في المعاني. والتقدير: في إلهيتهم أو في شانهم.
{قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}
جملة ابتدائية حكت قول أفاضل الخلائق حين يسمعون قول الله تعالى على لسان ملائكة العذاب: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}.
وجيء بجملة {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} غير معطوفة لأنها واقعة موقع الجواب لقوله: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} للتنبيه على أن الذين أوتوا العلم ابتدروا الجواب لما وجم المشركون فلم يحيروا جوابا، فأجاب الذين أوتوا العلم جوابا جامعا لنفي أن يكون الشركاء المزعومون مغنين عن الذين أشركوا شيئا، وأن الخزي والسوء أحاطا بالكافرين.
والتعبير بالمضي لتحقيق وقوع القول.
والذين أوتوا العلم هم الذين آتاهم الله علم الحقائق من الرسل والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- والمؤمنون، كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم: من الآية56]، أي يقولون في ذلك الموقف من جراء ما يشاهدوا من مهيأ العذاب للكافرين كلاما يدل على حصر الخزي والضر يوم القيامة في الكون على الكافرين. وقد قصر ادعائي المعرف بلام الجنس على حد النهاية في جنسه حتى كأن غيره من جنسه ليس من ذلك الجنس.
وتأكيد الجملة بحرف التوكيد وبصيغة القصر والإتيان بحرف الاستعلاء الدال على تمكن الخزي والسوء منهم يفيد معنى التعجب من هول ما أعد لهم.
[28, 29] {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}.

القرينة ظاهرة على أن قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ليست من مقول الذين أوتوا العلم يوم القيامة، إذ لا مناسبة لأن يعرف الكافرون يوم القيامة بأنهم الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، فإن صيغة المضارع في قوله تعالى {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} قريبة من الصريح في أن هذا التوفي محكي في حال حصوله وهم يوم القيامة مضت وفاتهم ولا فائدة أخرى في ذكر تلك يومئذ، فالوجه أن يكون هذا كلاما مستأنفا.
وعن عكرمة: نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم اسلموا مكة ولم يهاجروا فأخرجهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا ببدر.
فالوجه أن {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} بدل من {الَّذِينَ} في قوله تعالى: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [النحل: من الآية22] أو صفة لهم، كما يومئ إليه وصفهم في آخر الآية بالمتكبرين في قوله تعالى: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} فهم الذين وصفوا فيما قبل بقوله تعالى: {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل لآية22]، وما بينهما اعتراض. وإن أبيت ذلك لبعد ما بين المتبوع والتابع فاجعل {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} خبرا لمبتدأ محذوف. والتقدير: هم الذين تتوفاهم الملائكة.
وحذف المسند إليه جار على الاستعمال في أمثاله من كل مسند إليه جرى فيما سلف من الكلام. أخبر عنه وحدث عن شأنه، وهو ما يعرف عند السكاكي بالحذف المتبع فيه الاستعمال. ويقابل هذا قوله تعالى فيما يأتي {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: من الآية32] فإنه صفة {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: من الآية30] فهذه نظيره.
والمقصود من هذه الصلة وصف حالة الذين يموتون على الشرك؛ فيعد أن ذكر حال حلول العذاب بمن حل بهم الاستئصال وما يحل بهم يوم القيامة ذكرت حالة وفاتهم التي هي بين حالي الدنيا والآخرة، وهي حال تعرض لجميعهم سواء منهم من أدركه الاستئصال ومن هلك قبل ذلك.
وأطبق من تصدى لربطه بما قبله من المفسرين، على جعل {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية بدلا من {الْكَافِرِينَ} في قوله تعالى: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة النحل:27] أو صفة له. وسكت عنه صاحب "الكشاف " "وهو سكوت من ذهب ". وقال الخفاجي: وهو يصح فيه أن يكون مقولا للقول وغير مندرج تحته. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون {الَّذِينَ} مرتفعا بالابتداء منقطعا مما قبله وخبره في قوله: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} [ سورة النحل:28] ا هـ.

واقتران الفعل بتاء المضارعة التي للمؤنث في قراءة الجمهور باعتبار إسناده إلى الجماعة. وقرأ حمزة وخلف {يَتَوَفَّاهُمُ} بالتحتية على الأصل.
وظلم النفس: الشرك.
والإلقاء: مستعار إلى الإظهار المقترن بمذلة. شبه بإلقاء السلاح على الأرض، ذلك أنهم تركوا استكبارهم وإنكارهم وأسرعوا إلى الاعتراف والخضوع لما ذاقوا عذاب انتزاع أرواحهم.
والسلم - بفتح السين وفتح اللام - الاستسلام. وتقدم الإلقاء والسلم عند قوله تعالى: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} في سورة النساء [90]. وتقدم الإلقاء الحقيقي عند قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} في أول هذه السورة [15].
ووصفهم بـ {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} يرمي إلى أن توفي الملائكة إياهم ملابس لغلظة وتعذيب، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [سورة الأنفال:50].
وجملة {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} مقول قول محذوف دل عليه {أَلْقَوُا السَّلَمَ}، لأن إلقاء السلم أول مظاهره القول الدال على الخضوع. يقولون ذلك للملائكة الذين ينتزعون أرواحهم ليكفوا عنهم تعذيب الانتزاع، وهم من اضطراب عقولهم يحسبون الملائكة إنما يجربونهم بالعذاب ليطلعوا على دخيلة أمرهم، فيحسبون أنهم إن كذبوهم راج كذبهم على الملائكة فكفوا عنهم العذاب، لذلك جحدوا أن يكونوا يعملون سوءا من قبل.
ولذلك فجملة {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} جواب الملائكة لهم، ولذلك افتتحت بالحرف الذي يبطل به النفي وهو {بَلَى}. وقد جعلوا علم الله بما كانوا يعملون كناية عن تكذيبهم في قولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}، وكناية على أنهم ما عاملوهم بالعذاب إلا بأمر من الله تعالى العالم بهم.
وأسندوا العلم إلى الله دون أن يقولوا: إنا نعلم ما كنتم تعملون، أدبا مع الله وإشعارا بأنهم ما علموا ذلك إلا بتعليم من الله تعالى.
وتفريع {فادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} على إبطال نفيهم عمل السوء ظاهر، لأن إثبات كونهم كانوا يعملون السوء يقتضي استحقاقهم العذاب، وذلك عندما كشف لهم عن مقرهم الأخير، كما جاء في الحديث: "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار".

ونظيره قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50].
وجملة {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} تذييل.يحتمل أن يكون حكاية كلام الملائكة،والأظهر أنه من كلام الله الحكاية لا من المحكي، ووصفهم بالمتكبرين يرجح ذلك، فإنه لربط هذه الصفة بالموصوف في قوله تعالى: {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل:22]. واللام الداخلة على "بئس" لام القسم.
والمثوى. المرجع. من ثوى إذا رجع، أو المقام من ثوى إذا أقام وتقدم في قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} في سورة الأنعام [128].
ولم يعبر عن جهنم بالدار كما عبر عن الجنة فيما يأتي بقوله تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [سورة النحل:30] تحقيرا لهم وأنهم ليسوا في جهنم بمنزلة أهل الدار بل هم متراصون في النار وهم في مثوى، أي محل ثواء.
[30،31] {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً}
لما افتتحت صفة سيئات الكافرين وعواقبها بأنهم إذا قيل لهم: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [سورة النحل:24] قالوا: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة النحل:24]، جاءت هنا مقابلة حالهم بحال حسنات المؤمنين وحسن عواقبها، فافتتح ذلك بمقابل ما افتتحت به قصة الكافرين، فجاء النظير بين القصتين في أبدع نظم.
وهذه الجملة معطوفة على الجمل التي قبلها، وهي معترضة في خلال أحوال المشركين استطرادا. ولم يقترن هذه الجملة بأداة الشرط كما قرنت مقابلتها بها {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ}، لأن قولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} لما كان كذبا اختلقوه كان مظنة أن يقلع عنه قائله وأن يرعوي إلى الحق وأن لا يجمع عليه القائلون، قرن بأداة الشرط المقتضية تكرر ذلك للدلالة على إصرارهم على الكفر، بخلاف ما هنا فإن الصدق مظنة استمرار قائله عليه فليس بحاجة إلى التنبيه على تكرار منه.
والذين اتقوا: هم المؤمنون لأن الإيمان تقوى الله وخشية غضبه. والمراد بهم

المؤمنون المعهودون في مكة، فالموصول للعهد.
والمعنى أن المؤمنين سئلوا عن القرآن، ومن جاء به، فأرشدوا السائلين ولم يترددوا في الكشف عن حقيقة القرآن بأوجز بيان وأجمعه، وهو كلمة {خَيْراً} المنصوبة، فإن شامل لكل خير في الدنيا وكل خير في الآخرة، ونصبها دال على أنهم جعلوها معمولة لـ {أَنْزَلَ} الواقع في سؤال السائلين، فدل النصب على أنهم مصدقون بأن القرآن منزل من عند الله، وهذا وجه المخالفة بين الرفع في جواب المشركين حين قيل لهم: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة النحل:24] بالرفع وبين النصب في كلام المؤمنين حين قيل لهم {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} بالنصب. وقد تقدم ذلك آنفا عند قوله تعالى: {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}
مستأنفة ابتدائية، وهي كلام من الله تعالى مثل نظيرها في آية {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ} في سورة الزمر [10]، وليست من حكاية قول الذين اتقوا.
والذين أحسنوا: هم المتقون فهو من الإظهار في مقام الإضمار توصيلا بالإتيان بالموصول إلى وجه بناء الخبر، أي جزاءهم حسنة لأنهم أحسنوا.
وقوله تعالى: {هَذِهِ الدُّنْيَا} يجوز أن يتعلق بفعل {أَحْسَنُوا}. ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا حالا من {حَسَنَة}. وانظر ما يأتي في نظر هذه الآية من سورة الزمر من نكتة التوسيط.
ومعنى {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} أنها خير لهم من الدنيا فإذا كانت لهم في الدنيا حسنة فلهم في الآخرة أحسن، فكما كان للذين كفروا عذاب الدنيا وعذاب جهنم كان للذين اتقوا خير الدنيا وخير الآخرة. فهذا مقابل قوله تعالى في حق المشركين {ليحملوا أوزارهم كاملة} [سورة النحل:25] وقوله تعالى: {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النحل:26].
وحسنة الدنيا هي الحياة الطيبة وما فتح الله لهم من زهرة الدنيا مع نعمة الإيمان.

وخير الآخرة هو النعيم الدائم، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة النحل:97].
وقوله تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} مقابل قوله تعالى في ضدهم {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [سورة النحل:29].
وقد تقدم آنفا وجه تسمية جهنم مثوى والجنة دارا.
و "نِعم" فعل مدح غير متصرف، ومرفوعه فاعل دال على جنس الممدوح، ويذكر بعده مرفوع آخر يسمى المخصوص بالمدح، وهو مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر محذوف المبتدإ. فإذا تقدم ما يدل على المخصوص بالمدح لم يذكر بعد ذلك كما هنا، فإن تقدم {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} دل على أن المخصوص بالمدح هو دار الآخرة. والمعنى: ولنعم دار المتقين دار الآخرة.
وارتفع {جَنَّاتُ عَدْنٍ} على أنه خبر لمبتدإ محذوف مما حذف فيه المسند إليه جريا على الاستعمال في مسند إليه جرى كلام عليه من قبل، كما تقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النحل:29]. والتقدير: هي جنات عدن، أي دار المتقين جنات عدن.
وجملة {يَدْخُلُونَهَا} حال من { الْمُتَّقِينَ}. والمقصود من ذكره استحضار تلك الحالة البديعة حالة دخولهم لدار الخير والحسنى والجنات.
وجملة {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} حال ضمير من ضمير الرفع في {يَدْخُلُونَهَا}. ومضمونها مكمل لما في جملة {يَدْخُلُونَهَا} من استحضار الحالة البديعة.
وجملة {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} مستأنفة، والإتيان باسم الإشارة لتمييز الجزاء والتنويه به. وجعل الجزاء لتمييزه وكماله بحيث يشبه به جزاء المتقين. والتقدير: يجزي الله المتقين جزاء كذلك الجزاء الذي علمتموه. وهو تذييل لأن التعريف في {الْمُتَّقِينَ} للعموم.
[32] {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
مقابل قوله في أضدادهم {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}، فما قيل في

مقابلة يقال فيه.
وقرأ الجمهور {تَتَوَفَّاهُمُ} بفوقيتين، مثل نظيره. وقرأه حمزة وخلف بتحية أولى كذلك.
والطيب: بزنة فيعل، مثل قيم وميت، وهو مبالغة في الاتصاف بالطيب وهو حسن الرائحة. ويطلق على محاسن الأخلاق وكمال النفس على وجه المجاز المشهور فتوصف به المحسوسات كقوله تعالى: {حَلالاً طَيِّباً} [سورة البقرة:168] والمعاني والنفسيات كقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [سورة الزمر:73]. وقولهم: طبت نفسا. ومنه قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سورة الأعراف:58]. وفي الحديث: "إن الله طيب لا يقبل ألا طيبا" أي مالا طيبا حلالا. فقوله تعالى هنا {طَيِّبِينَ} يجمع كل هذه المعاني، أي تتوفاهم الملائكة منزهين من الشرك مطمئني النفوس. وهذا مقابل قوله في أضدادهم {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النحل:28].
وجملة {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} حال من {الْمَلائِكَةُ} وهي حال مقارنة لـ {تَتَوَفَّاهُمُ}، أي يتوفونهم مسلمين عليهم، وهو سلام تأنيس وإكرام حين مجيئهم ليتوفوهم، لأن فعل {تَتَوَفَّاهُمُ} يبتدئ من وقت حلول الملائكة إلى أن تنتزع الأرواح وهي حصة قصيرة.
وقولهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هو مقابل قولهم لأضدادهم {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} [سورة النحل:28،29]. والقول في الأمر بالدخول للجنة حين التوفي كالقول في ضده المتقدم آنفا. وهو هنا نعيم المكاشفة.
[33،34] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
استئناف بياني ناشئ عن جملة {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة الرعد:42] لأنها تثير سؤال من يسأل عن إبان حلول العذاب على هؤلاء كما حل بالذين من قبلهم، فقيل: ما ينظرون إلا أحد أمرين هما مجيء الملائكة لقبض أرواحهم فيحق عليهم الوعيد المتقدم، أو أن يأتي أمر الله. والمراد به الاستئصال المعرض بالتهديد في قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [سورة النحل:26].

والاستفهام إنكاري في معنى النفي، ولذلك جاء بعد الاستثناء.
و {يَنْظُرُونَ} هنا بمعنى الانتظار وهو النظرة. والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تذكيرا بتحقيق الوعيد وعدم استبطائه وتعريضا بالمشركين بالتحذير من اغترارهم بتأخر الوعيد وحثا لهم على المبادرة بالإيمان.
وإسناد الانتظار المذكور إليهم على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيلهم منزلة من ينتظر أحد الأمرين، لأن حالهم من الإعراض عن الوعيد وعدم التفكر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم مع ظهور تلك الدلائل وإفادتها التحقق كحال من أيقن حلول أحد الأمرين به فهو يترقب أحدهما، كما تقول لمن لا يأخذ حذره من العدو: ما تترقب أن تقع أسيرا. ومنه قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة يونس:102] وقوله تعالى: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [سورة القصص:19]. وهذا قريب من تأكيد الشيء بما يشبه ضده وما هو بذلك.
وجملة {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} تنظير بأحوال الأمم الماضية تحقيقا للغرضين.
والإشارة إلى الانتظار المأخوذ من {يَنْظُرُونَ} المراد منه الإعراض والإبطاء، أي كإبطائهم فعل الذين من قبلهم، أن يأخذهم العذاب بغتة كما أخذ الذين من قبلهم. وهذا التحذير لهم وقد رفع الله عذاب الاستئصال عن أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - ببركته ولإرادته انتشار دينه.
و {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} هم المذكورون في قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة الرعد:42].
وجملة {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} معترضة بين جملة {فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وجملة {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}.
ووجه هذا الاعتراض أن التعرض إلى ما فعله الذين من قبلهم يشير إلى ما كان من عاقبتهم وهو استئصالهم، فعقب بقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}، أي فيما أصابهم.
ولما كان هذا الاعتراض مشتملا على أنهم ظلموا أنفسهم صار تفريع {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} عليه أو على ما قبله. وهو أسلوب من نظم الكلام عزيز. وتقدير

أصله: كذلك فعل الذين من قبلهم وظلموا أنفسهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله. ففي تغيير الأسلوب المتعارف تشويق إلى الخبر، وتهويل له بأنه ظلم أنفسهم، وأن الله لم يظلمهم، فيترقب السامع خبرا مفظعا وهو {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}.
وإصابة السيئات إما بتقدير مضاف، أي أصابهم جزاؤها، أو جعلت أعمالهم السيئة كأنها هي التي أصابتهم لأنها سبب ما أصابهم، فهو مجاز عقلي.
و {حاق}: أحاط. والحيق: الإحاطة. ثم خص الاستعمال الحيق بالإحاطة الشر. وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} في أوائل سورة الأنعام [10].
و {مَا} موصولة، ما صدقها العذاب المتوعدون به. والباء في {به} للسببية. وهو ظرف مستقر هو صفة لمفعول مطلق. والتقدير: الذي يستهزئون استهزاء بسببه، أي بسبب تكذيبهم وقوعه. وهذا استعمال في مثله. وقد تكرر في القرآن، من ذلك ما في سورة الأحقاف، وليست الباء لتعدية فعل {يَسْتَهْزِئُونَ}. وقدم المجرور على عامل موصوفه للرعاية على الفاصلة.
[35] {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
عطف قصة على قصة لحكاية حال من أحوال شبهاتهم ومكابرتهم وباب من أبواب تكذيبهم.
وذلك أنهم كانوا يحاولون إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يقول: إن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، وإنه القادر عليهم وعلى آلهتهم، وإنه لا يرضى بان يعبد ما سواه، وإنه ينهاهم عن البحيرة والسائبة ونحوهما، فحسبوا أنهم خصموا النبي صلى الله عليه وسلم وحاجوه فقالوا له: لو شاء الله أن لا تعبد أصناما لما أقدرنا على عبادتها، ولو شار أن لا نحرم ما حرمنا من نحو البحيرة والسائبة لما أقرنا على تحريم ذلك. وذلك قصد إفحام وتكذيب.
وهذا رده الله عليهم بتنظير أعمالهم بأعمال الأمم الذين أهلكهم الله فلو كان الله يرضى بما علموه لما عاقبهم بالاستئصال، فكانت عاقبتهم نزول العذاب بقوله تعالى:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68