كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

فجملة {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} توكيد لفظي لجملة {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وعن ابن عباس {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما ينزل بكم من عذاب في القبر {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} عند البعث إن ما وعدتم به صدق، أي تجعل كل جملة مرادا بها تهديد بشيء خاص. وهذا من مستتبعات التراكيب والتعويل على معونة القرائن بتقدير مفعول خاص لكل من فعلي {تَعْلَمُونَ} ، وليس تكرير الجملة بمقتض ذلك في أصل الكلام. ومفاد التكرير حاصل على كل حال.
[5] {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} .
أعيد الزجر ثالث مرة زيادة في إبطال ما هم عليه من اللهو عن التدبر في أقوال القرآن لعلهم يقلعون عن انكبابهم عن التكاثر مما هم يتكاثرون فيه ولهوهم به عن النظر في دعوة الحق والتوحيد. وحذف مفعول {تَعْلَمُونَ} للوجه الذي تقدم في {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وجواب {لو} محذوف.
وجملة {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} تهويل وإزعاج لأن حذف جواب {لو} يجعل النفوس تذهب في تقديره كل مذهب ممكن. والمعنى: لو تعلمون علم اليقين لتبين لكم حال مفظع عظيم، وهي بيان لما في {كلا} من الزجر.
والمضارع في قوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} مراد به زمن الحال، أي لو علمتم الآن علم اليقين لعلمتم أمرا عظيما.
ولفعل الشرط مع {لو} أحوال كثيرة واعتبارات، فقد يقع بلفظ الماضي وقد يقع بلفظ المضارع وفي كليهما قد يكون استعماله في أصل معناه. وقد يكون منزلا منزلة غير معناه، وهو هنا مستعمل في معناه من الحال بدون تنزيل ولا تأويل.
وإضافة {عِلْمَ} إلى {الْيَقِينِ} إضافة بيانية فإن اليقين علم، أي لو علمتم علما مطابقا للواقع لبان لكم شنيع ما أنتم فيه ولكن علمهم بأحوالهم جهل مركب من أوهام وتخيلات، وفي هذا نداء عليهم بالتقصير في اكتساب العلم الصحيح. وهذا خطاب للمشركين الذين لا يؤمنون بالجزاء وليس خطابا للمسلمين لأن المسلمين يعلمون ذلك علم اليقين. وأعلم أن هذا المركب هو {عِلْمَ الْيَقِينِ} نقل في الاصطلاح العلمي فصار لقبا لحالة من مدركات العقل وقد تقدم بيان ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} في سورة الحاقة [51] فارجع إليه.
[6-7] {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} .

استئناف بياني لأن ما سبقه من الزجر والردع المكرر ومن الوعيد المؤكد على إجماله يثير في نفس السامع سؤالا عما يترقب من هذا الزجر والوعيد فكان قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جوابا عما يجيش في نفس السامع.
وليس قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواب "لو" على معنى: لو تعلمون علم اليقين لكنتم كمن ترون الجحيم، أي لترونها بقلوبكم، لأن نظم الكلام صيغة قسم بدليل قرنه بنون التوكيد، فليست هذه اللام لام جواب "لو" لأن جواب "لو" ممتنع الوقوع فلا تقترن به نون التوكيد.
والإخبار عن رؤيتهم الجحيم كناية عن الوقوع فيها، فإن الوقوع في الشيء يستلزم رؤيته فيكنى بالرؤية عن الحضور كقول جعفر بن علبة الحارثي:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
وأكد ذلك بقوله: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} قصدا لتحقيق الوعيد بمعناه الكنائي. وقد عطف هذا التأكيد ب {ثم} التي هي للتراخي الرتبي على نحو ما قررناه آنفا في قوله: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:4]، وليس هنالك رؤيتان تقع إحداهما بعد الأخرى بمهلة.
و {عَيْنَ الْيَقِينِ} : اليقين الذي لا يشوبه تردد. فلفظ عين مجاز عن حقيقة الشيء الخالصة غير الناقصة ولا المشابهة.
وإضافة {عَيْنَ} إلى {الْيَقِينِ} بيانية كإضافة {حق} إلى {الْيَقِينِ} في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة:95].
وانتصب {عَيْنَ} على النيابة عن المفعول المطلق لأنه في المعنى صفة لمصدر محذوف، والتقدير ثم لترونها رؤية عين اليقين.
وقرأه الجمهور {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} بفتح المثناة الفوقية. وقرأه ابن عامر والكسائي بضم المثناة من "أراه".
وأما {لَتَرَوُنَّهَا} فلم يختلف القراء في قراءته بفتح المثناة.
وأشار في "الكشاف" إلى أن هذه الآيات المفتتحة بقوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3] والمنتهية بقوله: {عَيْنَ الْيَقِينِ} ، اشتملت على وجوه من تقوية الإنذار والزجر،

فافتتحت بحرف الردع والتنبيه، وجيء بعده بحرف {ثم} الدال على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول. وكرر حرف الردع والتنبيه وحذف جواب {لَوْ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:5] لما في حذفه من مبالغة التهويل، وأتي بلام القسم لتوكيد الوعيد. وأكد هذا القسم بقسم آخر، فهذه ستة وجوه.
وأقول زيادة على ذلك: إن في قوله: {عَيْنَ الْيَقِينِ} تأكيدين للرؤية بأنها يقين وأن اليقين حقيقة. والقول في إضافة {عَيْنَ الْيَقِينِ} كالقول في إضافة {عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5] المذكور آنفا.
[8] {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} .
أعقب التوبيخ والوعيد على لهوهم بالتكاثر عن النظر في دعوة الإسلام من حيث إن التكاثر صدهم عن قبول ما ينجيهم، بتهديد وتخويف من مؤاخذتهم على ما في التكاثر من نعيم تمتعوا به في الدنيا ولم يشكروا الله عليه بقوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} ، أي عن النعيم الذي خولتموه في الدنيا فلم تشكروا الله عليه وكان به بطركم.
وعطف هذا الكلام بحرف {ثم} الدال على التراخي الرتبي في عطفه الجمل من أجل أن الحساب على النعيم الذي هو نعمة من الله أشد عليهم لأنهم ما كانوا يترقبونه، لأن تلبسهم بالإشراك وهم في نعيم أشد كفرانا للذي أنعم عليهم.
و {النَّعِيمِ} : اسم لما يلذ لإنسان مما ليس ملازما له، فالصحة وسلامة الحواس وسلامة الإدراك والنوم واليقظة ليست من النعيم، وشرب الماء وأكل الطعام والتلذذ بالمسموعات وبما فيه فخر وبرؤية المحاسن، تعد من النعيم.
والنعيم أخص من النعمة بكسر النون ومرادف للنعمة بفتح النون.
وتقدم النعيم عند قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} في سورة براءة [21].
والخطاب موجه إلى المشركين على نسق الخطابات السابقة.
والجملة المضاف إليها "إذ" من قوله: {يَوْمَئِذٍ} محذوف دل عليها قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:6] أي يوم إذ ترون الجحيم يغلظ عليكم العذاب.
وهذا السؤال عن النعيم الموجه إلى المشركين هو غير السؤال الذي يسأله كل منعم عليه فيما صرف فيه النعمة، فإن النعمة لما لم تكن خاصة بالمشركين خلافا للتكاثر كان

السؤال عنها حقيقا بكل منعم عليه وإن اختلفت أحوال الجزاء المترتب على هذا السؤال.
ويؤيده ما ورد في حديث مسلم عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر فقاما معه فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته. إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم إضيافا مني فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب وأخذ المدية فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم يوم القيامة" الحديث. فهذا سؤال عن النعيم ثبت بالسنة وهو غير الذي جاء في هذه الآية. والأنصاري هو أبو الهيثم بن التيهان واسمه مالك.
ومعنى الحديث: لتسألن عن شكر تلك النعمة، أراد تذكيرهم بالشكر في كل نعمة. وسؤال المؤمنين سؤال لترتيب الثواب على الشكر أو لأجل المؤاخذة بالنعيم الحرام.
وذكر القرطبي عن الحسن لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار، وروي1 أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب2 وما عذب، أنخاف أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه? فقال عليه السلام: " ذلك للكفار ثم قرأ {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:17].
قال القشيري: والجمع بين الأخبار أن الكل يسألون، ولكن سؤال الكافر سؤال توبيخ لأنه قد ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر.
والجملة المضاف إليها "إذ" من قوله: {يَوْمَئِذٍ} محذوفة دل عليها قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:6] أي يوم إذ ترون الجحيم فيغلظ عليكم العذاب.
ـــــــ
1 ذكره القرطبي عن القشيري.
2 يقال: ذنبت البسرة، إذا ظهر مثل الوكت من جهة ذنبها، أي بدأ إرطابها. والرطب يسمى التذنوب بفتح المثناة الفوقية.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العصرذكر ابن كثير أن الطبراني روى بسنده عن عبيد الله بن حصين قال كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر الخ ما سيأتي.
وكذلك تسميتها في مصاحف كثيرة وفي معظم كتب التفسير وكذلك هي في مصحف عتيق بالخط الكوفي من المصاحف القيروانية في القرن الخامس.
وسميت في بعض كتب التفسير وفي "صحيح البخاري" "سورة العصر" بإثبات الواو على حكاية أول كلمة فيها، أي سورة هذه الكلمة.
وهي مكية في قول الجمهور وإطلاق جمهور المفسرين. وعن قتادة ومجاهد ومقاتل أنها مدنية. وروي عن ابن عباس ولم يذكرها صاحب "الإتقان" في عداد السور المختلف فيها.
وقد عدت الثالثة عشرة في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الانشراح وقبل سورة العاديات.
وآيها ثلاث آيات.
وهي إحدى سور ثلاث هن أقصر السور عدد آيات: هي والكوثر وسورة النصر.
أغراضها
واشتملت على إثبات الخسران الشديد لأهل الشرك ومن كان مثلهم من أهل الكفر بالإسلام بعد أن بلغت دعوته، وكذلك من تقلد أعمال الباطل التي حذر الإسلام المسلمين

منها.
وعلى إثبات نجاة وفوز الذين آمنوا وعملوا الصالحات والداعين منهم إلى الحق.
وعلى فضيلة الصبر على تزكية النفس ودعوة الحق.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذوها شعارا لهم في ملتقاهم. روى الطبراني بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله بن الحصين الأنصاري من التابعين أنه قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها ثم يسلم أحدهما على الآخر أي سلام التفرق وهو سنة أيضا مثل سلام القدوم.
وعن الشافعي: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم. وفي رواية عنه: لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم. وقال غيره: إنها شملت جميع علوم القرآن. وسيأتي بيانه.
[1-3] {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
أقسم الله تعالى بالعصر قسما يراد به تأكيد الخبر كما هو شأن أقسام القرآن.
والمقسم به من مظاهر بديع التكوين الرباني الدال على عظيم قدرته وسعة علمه.
وللعصر معان يتعين أن يكون المراد منها لا يعدوا أن يكون حالة دالة على صفة من صفات الأفعال الربانية، يتعين إما بإضافته إلى ما يقدر، أو بالقرينة، أو بالعهد، وأيا ما كان المراد منه هنا فإن القسم به باعتبار أنه زمن يذكر بعظيم قدرة الله تعالى في خلق العالم وأحواله، وبأمور عظيمة مباركة مثل الصلاة المخصوصة أو عصر معين مبارك.
وأشهر إطلاق لفظ العصر أنه علم بالغلبة لوقت ما بين آخر وقت الظهر وبين اصفرار الشمس فمبدؤه إذا صار ظل الجسم مثله بعد القدر الذي كان عليه عند زوال الشمس ويمتد إلى أن يصير ظل الجسم مثلي قدره بعد الظل الذي كان له عند زوال الشمس. وذلك وقت اصفرار الشمس، والعصر مبدأ العشي. ويعقبه الأصيل والاحمرار وهو ما قبل غروب الشمس قال الحارث بن حلزة:
آنست نبأة وأفزعها القن ... اص عصرا وقد دنا الإمساء
فذلك وقت يؤذن بقرب انتهاء النهار، ويذكر بخلقة الشمس والأرض، ونظام حركة

الأرض حول الشمس، وهي الحركة التي يتكون منها الليل والنهار كل يوم وهو من هذا الوجه كالقسم بالضحى وبالليل والنهار وبالفجر من الأحوال الجوية المتغيرة المتغير بتوجه شعاع الشمس نحو الكرة الأرضية.
وفي ذلك الوقت يتهيأ الناس للانقطاع عن أعمالهم في النهار كالقيام على حقولهم وجناتهم، وتجاراتهم في أسواقهم، فيذكر بحكمة نظام المجتمع الإنساني وما ألهم الله في غريزته من دأب عن عمل ونظام لابتدائه وانقطاعه. وفيه يتحفز الناس للإقبال على بيوتهم لمبيتهم والتأنس بأهليهم وأولادهم. وهو من النعمة أو من النعيم، وفيه إيماء إلى التذكير بمثل الحياة حين تدنو آجال الناس بعد مضي أطوار الشباب والاكتهال والهرم.
وتعريفه باللام على هذه الوجوه تعريف العهد الذهني أي كل عصر.
ويطلق العصر على الصلاة الموقتة بوقت العصر. وهي صلاة معظمة. قيل: هي المراد بالوسطى في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]. وجاء في الحديث "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" . وورد في الحديث الصحيح "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة" فذكر "ورجل حلف يمينا فاجرة بعد العصر على سلعة لقد أعطي بها ما لم يعط" وتعريفه على هذا تعريف العهد وصار علما بالغلبة كما هو شأن كثير من أسماء الأجناس المعرفة باللام مثل العقبة.
ويطلق العصر على مدة معلومة لوجود جيل من الناس، أو ملك أو نبي، أو دين، ويعين بالإضافة، فيقال: عصر الفطحل، وعصر إبراهيم، وعصر الإسكندر، وعصر الجاهلية، فيجوز أن يكون مراد هذا الإطلاق هنا ويكون المعني به عصر النبي صلى الله عليه وسلم، والتعريف فيه تعريف العهد الحضوري مثل العريف في "اليوم" من قولك: فعلت اليوم كذا، فالقسم به كالقسم بحياته في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ} . قال الفخر: فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2]، وبعمره في قوله: {لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72]. اهـ.
ويجوز أن يراد عصر الإسلام كله وهو خاتمة عصور الأديان لهذا العالم وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم عصر الأمة الإسلامية بالنسبة إلى عصر اليهود وعصر النصارى بما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس بقوله "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء يعملون له إلى الليل فعملت اليهود إلى نصف النهار ثم قالوا لا حاجة لنا إلى أجرك وما عملنا باطل، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي

شرطت لهم فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا، واستأجر قوما أن يعملوا بقية يومهم فعملوا حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما فأنتم هم". فلعل ذلك التمثيل النبوي له اتصال بالرمز إلى عصر الإسلام في هذه الآية.
ويجوز أن يفسر العصر في هذه الآية بالزمان كله فقال ابن عطية: قال أبي بن كعب: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العصر فقال: "أقسم ربكم بآخر النهار" . وهذه المعاني لا يفي باحتمالها غير لفظ العصر.
ومناسبة القسم بالعصر لغرض السورة على إرادة عصر الإسلام ظاهرة فإنها بينت حال الناس في عصر الإسلام بين من كفر به ومن آمن واستوفى حظه من الأعمال التي جاء بها الإسلام، ويعرف منه حال من أسلموا وكان في أعمالهم تقصير متفاوت، أما أحوال الأمم التي كانت قبل الإسلام فكانت مختلفة بحسب مجيء الرسل إلى بعض الأمم، وبقاء بعض الأمم بدون شرائع متمسكة بغير دين الإسلام من الشرك أو بدين جاء الإسلام بنسخه مثل اليهودية والنصرانية قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} في [سورة آل عمران: 85].
وتعريف {الإنسان} تعريف الجنس مراد به الاستغراق وهو استغراق عرفي لأنه يستغرق أفراد النوع الإنساني الموجودين في زمن نزول الآية وهو زمن ظهور الإسلام كما علمت قريبا. ومخصوص بالناس الذين بلغتهم الدعوة في بلاد العالم على تفاوتها. ولما استثني منه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بقي حكمه متحققا في غير المؤمنين كما سيأتي...
والخسر: مصدر وهو ضد الربح في التجارة، استعير هنا لسوء العاقبة لمن يظن لنفسه عاقبة حسنة، وتلك هي العاقبة الدائمة وهي عاقبة الإنسان في آخرته من نعيم أو عذاب.
وقد تقدم في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} في [سورة البقرة: 16]، وتكررت نظائره في القرآن آنفا وبعيدا.
والظرفية في قوله: {لَفِي خُسْرٍ} مجازية شبهت ملازمة الخسر بإحاطة الظرف بالمظروف فكانت أبلغ من أن يقال: إن الإنسان لخاسر.

ومجيء هذا الخبر على العموم مع تأكيده بالقسم وحرف التوكيد في جوابه، يفيد التهويل والإنذار بالحالة المحيطة بمعظم الناس.
وأعقب الاستثناء بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الآية فيتقرر الحكم تماما في نفس السامع مبينا أن الناس فريقان: فريق يلحقه الخسران، وفريق لا يلحقه شيء منه، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يلحقهم الخسران بحال إذا لم يتركوا شيئا من الصالحات بارتكاب أضدادها وهي السيئات.
ومن أكبر الأعمال الصالحات التوبة من الذنوب لمقترفيها، فمن تحقق فيه وصف الإيمان ولم يعمل السيئات أو عملها وتاب منها فقد تحقق له ضد الخسران وهو الربح المجازي، أي حسن عاقبة أمره، وأما من لم يعمل الصالحات ولم يتب من سيئاته فقد تحقق فيه حكم المستثنى منه وهو الخسران.
وهذا الخسر متفاوت فأعظمه وخالده الخسر المنجر عن انتفاء الإيمان بوحدانية الله وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم دون ذلك تكون مراتب الخسر متفاوتة بحسب كثرة الأعمال السيئة ظاهرها وباطنها. وما حدده الإسلام لذلك من مراتب الأعمال وغفران بعض اللمم إذا ترك صاحبه الكبائر والفواحش وهو ما فسر به قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
وهذا الخبر مراد به الحصول في المستقبل بقرينه مقام الإنذار والوعيد، أي لفي خسر في الحياة الأبدية الآخرة فلا التفات إلى أحوال الناس في الحياة الدنيا، قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197].
وتنكير {خسر} يجوز أن يكون للتنويع، ويجوز أن يكون مفيدا للتعظيم والتعميم في مقام التهويل وفي سياق القسم.
والمعنى: أن الناس لفي خسران عظيم وهم المشركون.
والتعريف في قوله: {الصالحات} تعريف الجنس مراد به الاستغراق، أي عملوا جميع الأعمال الصالحة التي أمروا بعملها بأمر الدين وعمل الصالحات يشمل ترك السيئات. وقد أفاد استثناء المتصفين بمضمون الصلة ومعطوفها إيماء إلى علة حكم الاستثناء وهو نقيض الحكم الثابت للمستثنى منه فإنهم ليسوا في خسر لأجل أنهم آمنوا

وعملوا الصالحات.
فأما الإيمان فهو حقيقة مقول على جزئياتها بالتواطئ. وأما الصالحات فعمومها مقول عليه بالتشكك، فيشير إلى أن انتفاء الخسران عنهم يتقدر بمقدار ما عملوه من الصالحات وفي ذلك مراتب كثيرة.
وقد دل استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أن يكونوا في خسر على أن سبب كون بقية الإنسان في خسر هو عدم الإيمان والعمل الصالح بدلالة مفهوم الصفة. وعلم من الموصول أن الإيمان والعمل الصالح هما سبب انتفاء إحاطة الخسر بالإنسان.
وعطف على عمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان ذلك من عمل الصالحات، عطف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يغفل عنه يظن أن العمل الصالح هو ما أثره عمل المرء في خاصته، فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشاد المسلم غيره ودعوته إلى الحق، فالتواصي بالحق يشمل تعليم حقائق الهدي وعقائد الصواب وإراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك المنكر.
والتواصي بالصبر عطف على التواصي بالحق عطف الخاص على العام أيضا وإن كان خصوصه خصوصا من وجه لأن الصبر تحمل مشقة إقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في إقامة بعض الحق.
وحقيقة الصبر أنه: منع المرء نفسه من تحصيل ما يشتهيه أو من محاولة تحصيله إن كان صعب الحصول فيترك محاولة تحصيله لخوف ضر ينشأ عن تناوله كخوف غضب الله أو عقاب ولاة الأمور أو لرغبة في حصول نفع منه كالصبر على مشقة الجهاد والحج رغبة في الثواب والصبر على الأعمال الشاقة رغبة في تحصيل مال أو سمعة أو نحو ذلك.
ومن الصبر على ما يلاقيه المسلم إذا أمر بالمعروف من امتعاض بعض المأمورين به أو من أذاهم بالقول كمن يقول لآمره: هلا نظرت في أمر نفسك، أو نحو ذلك.
وأما تحمل مشقة فعل المنكرات كالصبر على تجشم السهر في اللهو والمعاصي، والصبر على بشاعة طعم الخمر لشاربها، فليس من الصبر لأن ذلك التحمل منبعث عن رجحان اشتهاء تلك المشقة على كراهية المشقة التي تعترضه في تركها.

وقد اشتمل قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} على إقامة المصالح الدينية كلها، فالعقائد الإسلامية والأخلاق الدينية مندرجة في الحق، والأعمال الصالحة وتجنب السيئات مندرجة في الصبر.
والتخلق بالصبر ملاك فضائل الأخلاق كلها فإن الارتياض بالأخلاق الحميدة لا يخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة، ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبر عليه حتى تصير مكارم الأخلاق ملكة لمن راض نفسه عليها، كما قال عمرو بن العاص:
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلفى له الدهر سبة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
وكذلك الأعمال الصالحة كلها لا تخلو من إكراه النفس على ترك ما يميل إليه. وفي الحديث حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات. وعن علي بن أبي طالب: "الصبر مطية لا تكبو".
وقد مضى الكلام على الصبر مشبعا عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} في [سورة البقرة: 45].
وأفادت صيغة التواصي بالحق وبالصبر أن يكون شأن حياة الممنين قائما على شيوع التآمر بهما ديدنا لهم. وذلك يقتضي اتصاف المؤمنين بإقامة الحق وصبرهم على المكاره في مصالح الإسلام وأمته لما يقتضيه عرف الناس من أن أحدا لا يوصي غيره بملازمة أمر إلا وهو يرى ذلك الأمر خليقا بالملازمة إذ قل أن يقدم أحد على أمر بحق هو لا يفعله أو أمر بصبر وهو ذو جزع، وقد قال تعالى توبيخا لبني إسرائيل {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقد تقدم هذا المعنى عند قوله تعالى: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} في [سورة الفجر: 18].

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الهمزةسميت هذه السورة في المصاحف ومعظم التفاسير "سورة الهمزة" بلام التعريف. وعنونها في "صحيح البخاري" وبعض التفاسير "سورة ويل لكل همزة". وذكر الفيروز آبادي في "بصائر ذوي التمييز" أنها تسمى "سورة الحطمة" لوقوع هذه الكلمة فيها.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت الثانية والثلاثين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة القيامة وقبل سورة المرسلات.
وآيها تسع بالاتفاق.
روي أنها نزلت في جماعة من المشركين كانوا أقاموا أنفسهم للمز المسلمين وسبهم واختلاق الأحدوثات السيئة عنهم. وسمي من هؤلاء المشركين: الوليد بن المغيرة المخزومي، وأمية بن خلف، وأبي بن خلف وجميل بن معمر بن بني جمح وهذا أسلم يوم الفتح وشهد حنينا والعاص بن وائل من بني سهم. وكلهم من سادة قريش. وسمي الأسود بن عبد يغوث، والأخنس بن شريق الثقفيان من سادة ثقيف من أهل الطائف. وكل هؤلاء من أهل الثراء في الجاهلية والازدهار بثرائهم وسؤددهم. وجاءت آية السورة عامة فعم حكمها المسمين ومن كان على شاكلتهم من المشركين ولم تذكر أسماءهم.
أغراضها
فغرض هذه السورة وعيد جماعة من المشركين جعلوا همز المسلمين ولمزهم ضربا من ضروب أذاهم طمعا في أن يلجئهم الملل من أصناف الأذى، إلى الانصراف عن الإسلام والرجوع إلى الشرك.

[1-7] {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ، نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} .
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا} .
كلمة ويل له دعاء على المجرور اسمه باللام بأن يناله الويل وهو سوء الحال كما تقدم غير مرة منها قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} في [سورة البقرة: 79].
والدعاء هنا مستعمل في الوعيد بالعقاب.
وكلمة كل تشعر بأن المهددين بهذا الوعيد جماعة وهم الذين اتخذوا همز المسلمين ولمزهم ديدنا لهم أولئك الذين تقدم ذكرهم في سبب نزول السورة.
وهمزة ولمزة، بوزن فعلة صيغة تدل على كثرة صدور الفعل المصاغ منه. وأنه صار عادة لصاحبه كقولهم: ضحكة لكثير الضحك، ولعنة لكثير اللعن. وأصلها: أن صيغة فعل بضم ففتح ترد للمبالغة في فاعل كما صرح به الرضي في "شرح الكافية" يقال: رجل حطم إذا كان قليل الرحمة للماشية أي والدواب.
ومنه قولهم: ختع "بخاء معجمة ومثناة فوقية" وهو الدليل الماهر بالدلالة على الطريق فإذا أريدت زيادة المبالغة في الوصف ألحق به الهاء كما ألحقت في: علامة ورحالة، فيقولون: رجل حطمة وضحكة ومنه همزة، وبتلك المبالغة الثانية يفيد أن ذلك تفاقم منه حتى صار له عادة قد ضري بها كما في "الكشاف"، وقد قالوا: إن عيبة مساو لعيابة، فمن الأمثلة ما سمع فيه الوصف بصيغتي فعل وفعلة نحو حطم وحطمة بدون هاء وبهاء، ومن الأمثلة ما سمع فيه فعلة دون فعل نحو رجل ضحكة، ومن الأمثلة ما سمع فيه فعل دون فعلة وذلك في الشتم مع حرف النداء يا غدر ويا فسق ويا خبث ويا لكع.
قال المرادي في "شرح التسهيل" قال: بعضهم ولم يسمع غيرها ولا يقاس عليها وعن سيبويه أنه أجاز القياس عليها في النداء اه. قلت: وعلى قول سيبويه بنى الحريري قوله في "المقامة السابعة والثلاثين" صه يا عقق، يا من هو الشجا والشرق.

وهمزة: وصف مشتق من الهمز. وهو أن يعيب أحدا أحدا بالإشارة بالعين أو بالشدق أو بالرأس بحضرته أو عند توليه، ويقال: هامز وهماز، وصيغة فعلة يدل على تمكن الوصف من الموصوف.
ووقع {همزة} وصفا لمحذوف تقديره: ويل لكل شخص همزة، فلما حذف موصوفه صار الوصف قائما مقامه فأضيف إليه {كل} .
ولمزة: وصف مشتق من اللمز وهو المواجهة بالعيب، وصيغته دالة على أن ذلك الوصف ملكة لصاحبه كما في همزة.
وهذان الوصفان من معاملة أهل الشرك للمؤمنين يومئذ، ومن عامل من المسلمين أحدا من أهل دينه بمثل ذلك كان له نصيب من هذا الوعيد.
فمن اتصف بشيء من هذا الخلق الذميم من المسلمين مع أهل دينه فإنها خصلة من خصال أهل الشرك. وهي ذميمة تدخل في أذى المسلم وله مراتب كثيرة بحسب قوة الأذى وتكرره ولم يعد من الكبائر إلا ضرب المسلم. وسب الصحابة رضي الله عنهم. وإدمان هذا الأذى بأن يتخذه ديدنا فهو راجع إلى إدمان الصغائر وهو معدود من الكبائر.
وأتبع {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ} لزيادة تشنيع صفتيه الذميمتين بصفة الحرص على المال. وإنما ينشأ ذلك من بخل النفس والتخوف من الفقر، والمقصود من ذلك دخول أولئك الذين عرفوا بهمز المسلمين ولمزهم الذين قيل إنهم سبب نزول السورة لتعيينهم في هذا الوعيد.
واسم الموصول من قوله: {الَّذِي جَمَعَ مَالاً} نعت آخر ولم يعطف {الذي} بالواو لأن ذكر الأوصاف المتعددة للموصوف الواحد يجوز أن يكون بدون عطف نحو قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 10-13].
والمال: مكاسب الإنسان التي تنفعه وتكفي مؤونة حاجته من طعام ولباس وما يتخذ منه ذلك كالأنعام والأشجار ذات الثمار المثمرة. وقد غلب لفظ المال في كل قوم من العرب على ما هو كثير من مشمولاتهم فغلب اسم المال بين أهل الخيام على الإبل قال زهير:
فكلا أراهم أصبحوا يعقلونه ... صحيحات مال طالعات بمخرم

يريد إبل الدية ولذلك قال: طالعات بمخرم.
وهو عند أهل القرى الذين يتخذون الحوائط يغلب على النخل يقولون خرج فلان إلى ماله، أي إلى جناته. وفي كلام أبي هريرة "وأن إخواني الأنصار شغلهم العمل في أموالهم وقال أبو طلحة وإن أحب أموالي إلي بئر حاء".
وغلب عند أهل مكة على الدراهم لأن أهل مكة أهل تجر ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: "أين المال الذي عند أم الفضل" .
وتقدم في قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [سورة آل عمران: 92].
ومعنى {عدده} أكثر من عده، أي حسابه لشدة ولعه بجمعه فالتضعيف للمبالغة في عد ومعاودته.
وقرأ الجمهور {جَمَعَ مَالاً} بتخفيف الميم. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورويس عن يعقوب وخلف بتشديد الميم مزاوجا لقوله: {عَدَّدَهُ} وهو مبالغة في {جمع} . وعل قراءة الجمهور دل تضعيف {عدده} على معنى تكلف جمعه بطريق الكناية لأنه لا يكرر عده إلا ليزيد جمعه.
ويجوز أن يكون {عَدَّدَهُ} بمعنى أكثر إعداده، أي إعداد أنواعه فيكون كقوله تعالى: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14].
وجملة {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} يجوز أن تكون حالا من همزة فيكون مستعملا في التهكم عليه في حرصه على جمع المال وتعديده لأنه لا يوحد من يحسب أن ماله يخلده، فيكون الكلام من قبيل التمثيل، أو تكون الحال مرادا بها التشبيه وهو تشبيه بليغ.
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والخبر مستعملا في الإنكار، أو على تقدير همزة استفهام محذوفة مستعملا في التهكم به بأنه موقن بأن مال يخلده حتى كأنه حصل إخلاده وثبت.
والهمزة في {أخلده} للتعدية، أي جعله خالدا.
وقرأ الجمهور {يحسب} بكسر السين، وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر

بفتح السين وهما لغتان.
ومعنى الآية: أن الذين جمعوا المال يشبه حالهم حال من يحسب أن المال يقيهم الموت ويجعلهم خالدين لأن الخلود في الدنيا أقصى متمناهم إذ لا يؤمنون بحياة أخرى خالدة.
و {كلا} إبطال لأن يكون المال مخلدا لهم. وزجر عن التلبس بالحالة الشنيعة التي جعلتهم في حال من يحسب أن المال يخلد صاحبه، أو إبطال للحرص في جمع المال جمعا يمنع به حقوق الله في المال من نفقات وزكاة.
{كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ، نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} .
استئناف بياني ناشئ عن ما تضمنته جملة {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} من التهكم والإنكار، وما أفاده حرف الزجر من معنى التوعد.
والمعنى: ليهلكن فلينبذن في الحطمة.
واللام جواب قسم محذوف. والضمير عائد إلى الهمزة.
والنبذ: الإلقاء والطرح، وأكثر استعماله في إلقاء ما يكره. قال صاحب الكشاف في قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [القصص: 40] شبههم استحقارا لهم بحصيات أخذهن آخذ بكفه فطرحهن اه.
والحطمة: صفة بوزن فعلة، مثل ما تقدم في الهمزة، أي لينبذن في شيء يحطمه، أي يكسره ويدقه.
والظاهر أن اللام لتعريف العهد لأنه اعتبر الوصف علما بالغلبة على شيء يحطم وأريد بذلك جهنم، وأن إطلاق هذا الوصف على جهنم من مصطلحات القرآن. وليس في كلام العرب إطلاق هذا الوصف على النار.
فجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} في موضع حال من قوله: {الحطمة} والرابط إعادة لفظ الحطمة، وذلك إظهار في مقام الإظمار للتهويل كقوله: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} وما فيها من الاستفهام، وفعل الدراية يفيد تهويل الحطمة، وقد تقدم {مَا أَدْرَاكَ} غير مرة منها عند قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} في

[سورة الانفطار: 17].
وجملة {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} جواب على جملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} مفيد مجموعهما بيان الحطمة ما هي، وموقع الجملة موقع الاستئناف البياني، والتقدير هي، أي الحطمة نار الله، فحذف المبتدأ من الجملة جريا على طريقة استعمال أمثاله من كل إخبار عن شيء بعد تقدم حديث عنه وأوصاف له، وقد تقدم عند قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} في [سورة البقرة: من الآية18].
وإضافة {نار} إلى اسم الجلالة للترويع بها بأنها نار خلقها القادر على خلق الأمور العظيمة.
ووصف {نار} بـ {موقدة} ، وهو اسم مفعول من: أوقد النار، إذا أشعلها وألهبها. والتوقد: ابتداء التهاب النار فإذا صارت جمرا فقد خف لهبها، أو زال، فوصف {نار} بـ {موقدة} يفيد أنها لا تزول تلتهب ولا يزول لهيبها. وهذا كما وصفت نار الأخدود بذات الوقود بفتح الواو في سورة البروج، أي النار التي يجد اتقادها بوقود وهو الحطب الذي يلقى في النار لتتقد فليس الوصف بالموقدة هنا تأكيدا.
ووصفت {نَارُ اللَّهِ} وصفا ثانيا بـ {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} .
والاطلاع يجوز أن يكون بمعنى الإتيان مبالغة في طلع، أي الإتيان السريع بقوة واستيلاء، فالمعنى: التي تنفذ إلى الأفئدة فتحرقها في وقت حرق ظاهر الجسد.
وأن يكون بمعنى الكشف والمشاهدة قال تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55]، فيفيد أن النار تحرق الأفئدة إحراق العالم بما تحتوي عليه الأفئدة من الكفر فتصيب كل فؤاد بما هو كفاؤه من شدة الحرق على حسب مبلغ سوء اعتقاده، وذلك بتقدير من الله بين شدة النار وقابلية المتأثر بها لا يعلمه إلا مقدره.
[8-9] {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} .
هذه جملة يجوز أن تكون صفة ثالثة ل {نَارُ اللَّهِ} بدون عاطف، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا ابتدائيا وتأكيدها ب {إن} لتهويل الوعيد بما ينفي عنه احتمال المجاز أو المبالغة.
وموصدة: اسم مفعول من أوصد الباب، إذا أغلقه غلقا مطبقا. ويقال: اآصد

بهمزتين إحداهما أصلية والأخرى همزة التعدية، ويقال: أصد الباب فعلا ثلاثيا، ولا يقال: وصد بالواو بمعنى أغلق.
وقرأ الجمهور {موصدة} بواو بعد الميم على تخفيف الهمزة. وقرأه أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزة ساكنة بعد الميم المضمومة.
ومعنى إيصادها عليهم: ملازمة العذاب واليأس من الإفلات منه كحال المساجين الذين أغلق عليهم باب السجن تمثيل تقريب لشدة العذاب بما هو متعارف في أحوال الناس، وحال عذاب جهنم أشد مما يبلغه تصور العقول المعتاد.
وقوله: {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} حال: إما من ضمير {عليهم} أي في حال كونهم في عمد، أي موثوقين في عمد كما يوثق المسجون المغلظ عليه من رجليه في فلقة ذات ثقب يدخل في رجله أو في عنقه كالقرام. وإما حال من ضمير {إنها} ، أي أن النار الموقدة في عمد، أي متوسطة عمدا كما تكون نار الشواء إذ توضع عمد وتجعل النار تحتها تمثيلا لأهلها بالشواء.
و {عمد} قرأه الجمهور بفتحتين على أنه اسم جمع عمود مثل: أديم وأدم، وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف عمد بضمتين وهو جمع عمود، والعمود: خشبة غليظة مستطيلة.
والممددة: المجعولة طويلة جدا، وهو اسم مفعول من مدده، إذا بالغ في مده، أي الزيادة فيه.
وكل هذه الأوصاف تقوية لتمثيل شدة الإغلاظ عليهم بأقصى ما يبلغه متعارف الناس من الأحوال.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفيلوردت تسميتها في كلام بعض السلف سورة {أَلَمْ تَرَ} . روى القرطبي في تفسير "سورة قريش" عن عمرو بن ميمون قال: صليت المغرب خلف عمر ابن الخطاب فقرأ في الركعة الثانية {أَلَمْ تَرَ} و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]. وكذلك عنونها البخاري. وسميت في جميع المصاحف وكتب التفسير "سورة الفيل".
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت التاسعة عشرة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وقبل "سورة الفلق". وقيل قبل "سورة قريش" لقول الأخفش إن قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] متعلق بقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5]، ولأن أبي بن كعب جعلها وسورة قريش سورة واحدة في مصحفه ولم يفصل بينهما بالبسملة ولخبر عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب المذكور آنفا روى أن عمر بن الخطاب قرأ مرة في المغرب في الركعة الثانية سورة الفيل وسورة قريش، أي ولم يكن الصحابة يقرأون في الركعة من صلاة الفرض سورتين لأن السنة قراءة الفاتحة وسورة فدل أنهما عنده سورة واحدة. ويجوز أن تكون سورة قريش نزلت بعد سورة الفلق وألحقت بسورة الفيل فلا يتم الاحتجاج بما في مصحف أبي بن كعب ولا بما رواه عمرو بن ميمون.
وآيها خمس.
أغراضها
وقد تضمنت التذكير بأن الكعبة حرم الله وأن الله حماه ممن أرادوا به سوءا أو أظهر غضبه عليهم فعذبهم لأنهم ظلموا بطمعهم في هدم مسجد إبراهيم وهو عندهم في كتابهم،

وذلك ما سماه الله كيدا، وليكون ما حل بهم تذكرة لقريش بأن فاعل ذلك هو رب ذلك البيت وأن لا حظ فيه للأصنام التي نصبوها حوله.
وتنبيه قريش أو تذكيرهم بما ظهر من كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله إذ أهلك أصحاب الفيل في عام ولادته.
ومن وراء ذلك تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يدفع عنه كيد المشركين فإن الذي دفع كيد من يكيد لبيته لأحق بأن يدفع كيد من يكيد لرسوله صلى الله عليه وسلم ودينه ويشعر بهذا قوله: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:2].
ومن وراء ذلك كله التذكير بأن الله غالب على أمره، وأن لا تغر المشركين قوتهم ووفرة عددهم ولا يوهن النبي صلى الله عليه وسلم تألب قبائلهم عليه فقد أهلك الله من هو أشد منهم قوة وأكثر جمعا.
ولم يتكرر في القرآن ذكر إهلاك أصحاب الفيل خلافا لقصص غيرهم من الأمم لوجهين: أحدهما أن هلاك أصحاب الفيل لم يكن لأجل تكذيب رسول من الله، وثانيهما أن لا يتخذ من المشركين غرورا بمكانة لهم عند الله كغرورهم بقولهم المحكي في قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 19] الآية وقوله: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34].
[1] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} .
استفهام تقريري وقد بينا غير مرة أن الاستفهام التقريري كثيرا ما يكون على نفي المقرر بإثباته للثقة فإن المقرر لا يسعه إلا إثبات المنفي وانظر عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} في [سورة البقرة: 243]. والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته. وعليه فالتقرير مستعمل مجازا في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصا للنبي صلى الله عليه وسلم فيكون من باب قوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1-2]، وفيه مع ذلك تعريض بكفران قريش نعمة عظيمة من نعم الله عليهم إذ لم يزالوا يعبدون غيره.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه قوله: {ربك} . فمهيع هذه الآية شبيه بقوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} [الضحى:6] الآيات وقوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ

حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1-2]، على أحد الوجوه المتقدمة.
فالرؤية يجوز أن تكون مجازية مستعارة للعلم البالغ من اليقين حد الأمر المرئي لتواتر ما فعل الله بأصحاب الفيل بين أهل مكة وبقاء بعض آثار ذلك يشاهدونه. وقال أبو صالح: رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة سودا مخططة بحمرة. وقال عتاب بن أسيد: أدركت سائس الفيل وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس. وقالت عائشة: لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس. وفعل الرؤية معلق بالاستفهام.
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية بالنسب لمن تجاوز سنه نيفا وخمسين سنة عند نزول الآية ممن شهد حادث الفيل غلاما أو فتى مثل أبي قحافة وأبي طالب وأبي بن خلف.
و {كيف} للاستفهام سد مسد مفعولين أو مفعول {تر} ، أي لم تر جواب هذا الاستفهام كما تقول: هل زيد قائم? وهو نصب على الحال من فاعل {تر} . ويجوز أن يكون كيف مجردا عن معنى الاستفهام مرادا منه مجرد الكيفية فيكون نصبا على المفعول به.
وإيثار {كيف} دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول فلم يقل: ألم تر ما فعل ربك، أو الذي فعل ربك، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة.
وأوثر لفظ {فَعَلَ رَبُّكَ} دون غيره لأن مدلول هذا الفعل يعم أعمالا كثيرة لا يدل عليها غيره.
وجيء في تعريف الله سبحانه بوصف {رب} مضافا إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود من التذكير بهذه القصة تكريم النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصا لنبوته إذ كان ذلك عام مولده.
وأصحاب الفيل: الحبشة الذين جاءوا مكة غازين مضمرين هدم الكعبة انتقاما من العرب من أجل ما فعله أحد بني كنانة الذين كانوا أصحاب النسيء في أشهر الحج. وكان خبر ذلك وسببه أن الحبشة قد ملكوا اليمن بعد واقعة الأخدود التي عذب فيها الملك ذو نواس النصاري، وصار أمير الحبشة على اليمن رجلا يقال له أبرهة وأن أبرهة بنى كنيسة عظيمة في صنعاء دعاها القليس بفتح القاف وكسر اللام بعدها تحتية ساكنة،

وبعضهم يقولها بضم القاف وفتح اللام وسكون التحتية. وفي "القاموس" بضم القاف وتشديد اللام مفتوحة وسكون الياء. وكتبه السهيلي بنون بعد اللام ولم يضبطه وزعم أنه اسم مأخوذ من معاني القلس للارتفاع. ومنه القلنسوة واقتصر على ذلك ولم أعرف أصل هذا اللفظ فإما أن يكون اسم جنس للكنيسة ولعل لفظ كنيسة في العربية معرب منه، وإما أن يكون، علما وضعوه لهذه الكنيسة الخاصة وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون الكعبة فروي أن رجلا من بني فقيم من بني كنانة وكانوا أهل النسيء للعرب كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} في [سورة براءة: 37]، قصد الكناني صنعاء حتى جاء القليس فأحدث فيها تحقيرا لها ليتسامع العرب بذلك فغضب أبرهة وأزمع غزو مكة ليهدم الكعبة وسار حتى نزل خارج مكة ليلا بمكان يقال له المغمس كمعظم موضع قرب مكة في طريق الطائف أو ذو الغميس لم أر ضبطه وأرسل إلى عبد المطلب ليحذره من أن يحاربوه وجرى بينهما كلام، وأمر عبد المطلب آله وجميع أهل مكة بالخروج منها إلى الجبال المحيطة بها خشية من معرة الجيش إذا دخلوا مكة. فلما أصبح هيأ جيشه لدخول مكة وكان أبرهة راكبا فيلا وجيشه معه فبينا هو يتهيأ لذلك إذ أصاب جنده داء عضال هو الجدري الفتاك يتساقط منه الأنامل، ورأوا قبل ذلك طيرا ترميهم بحجارة لا تصيب أحدا إلا هلك وهي طير من جند الله فهلك معظم الجيش وأدبر بعضهم ومرض أبرهة فقفل راجعا إلى صنعاء مريضا. فهلك في صنعاء وكفى الله أهل مكة أمر عدوهم. وكان ذلك في شهر محرم الموافق لشهر شباط فبراير سنة 570 بعد ميلاد عيسى عليه السلام، وبعد هذا الحادث بخمسين يوما ولد النبي صلى الله عليه وسلم على أصح الأخبار وفيها اختلاف كثير.
والتعريف في {الفيل} للعهد، وهو فيل أبرهة قائد الجيش كما قالوا للجيش الذي خرج مع عائشة أم المؤمنين أصحاب الجمل يريدون الجمل الذي كانت عليه عائشة، مع أن في الجيش جمالا أخرى. وقد قيل أن جيش أبرهة لم يكن فيه إلا فيل واحد، هو فيل أبرهة وكان اسمه محمود. وقيل كان فيه فيلة أخرى، قيل ثمانية وقيل اثنا عشر. وقال بعض: ألف فيل ووقع في رجز ينسب إلى عبد المطلب:
أنت منعت الحبش والأفيالا
فيكون التعريف تعريف الجنس ويكون العهد مستفادا من الإضافة.
والفيل: حيوان عظيم من ذوات الأربع ذوات الخف، من حيوان البلاد الحارة ذات الأنهار من الهند والصين والحبشة والسودان. ولا يوجد في غير ذلك إلا مجلوبا، وهو

ذكي قابل للتأنس والتربية، ضخم الجثة أضخم من البعير، وأعلى منه بقليل وأكثر لحما وأكبر بطنا. وخف رجله يشبه خف البعير وعنقه قصير جدا له خرطوم طويل هو أنفه يتناول به طعامه وينتشق به الماء فيفرغه في فيه ويدفع به عن نفسه يختطف به ويلويه على ما يريد أذاه من الحيوان ويلقيه على الأرض ويدوسه بقوائمه. وفي عينيه خزر وأذناه كبيرتان مسترخيتان، وذنبه قصير أقصر من ذنب البعير وقوائمه غليظة. ومناسمه كمناسم البعير وللذكر منه نابان طويلان بارزان من فمه يتخذ الناس منها العاج. وجلده أجرد مثل جلد البقر، أصهب اللون قاتم كلون الفار ويكون منه الأبيض الجلد. وهو مركوب وحامل أثقال وأهل الهند والصين يجعلون الفيل كالحصن في الحرب يجعلون محفة على ظهره تسع ستة جنود. ولم يكن الفيل معروفا عند العرب فلذلك قل أن يذكر في كلامهم وأول فيل دخل بلاد العرب هو الفيل المذكور في هذه السورة.
وقد ذكرت أشعار لهم في ذكر هذه الحادثة في السيرة. ولكن العرب كانوا يسمعون أخبار الفيل ويتخيلونه عظيما قويا، قال لبيد:
ومقام ضيق فرجته ... ببيان ولسان وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامي ورحل
وقال كعب بن زهير في قصيدته:
لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
وكنت رأيت أن... قال إن أمه أرته أو حدثته أنها رأت روث الفيل بمكة حول الكعبة ولعلهم تركوا إزالته ليبقى تذكرة.
وعن عائشة وعتاب بن أسيد: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس.
والمعنى: ألم تعلم الحالة العجيبة التي فعلها الله بأصحاب الفيل، فهذا تقرير على إجمال يفسره ما بعده.
[2-5] {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} .

هذه الجمل بيان لما في جملة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل: 1] من الإجمال. وسمى حربهم كيدا لأنه عمل ظاهره الغضب من فعل الكناني الذي قعد في القليس وإنما هو تعلة تعللوا بها لإيجاد سبب لحرب أهل مكة وهدم الكعبة لينصرف العرب إلى حج القليس في صنعاء فيتنصروا.
أو أريد بكيدهم بناءهم القليس مظهرين أنهم بنوا كنيسة وهم يريدون أن يبطلوا الحج إلى الكعبة ويصرفوا العرب إلى صنعاء.
والكيد: الاحتيال على إلحاق ضر بالغير ومعالجة إيقاعه.
والتضليل: جعل الغير ضالا، أي لا يهتدي لمراده وهو هنا مجاز في الإبطال وعدم نوال المقصود لأن ضلال الطريق عدم وصول السائر.
وظرفية الكيد في التضليل مجازية، استعير حرف الظرفية لمعنى المصاحبة الشديدة، أي أبطل كيدهم بتضليل، أي مصاحبا للتضليل لا يفارقه، والمعنى: أنه أبطله إبطالا شديدا إذ لم ينتفعوا بقوتهم مع ضعف أهل مكة وقلة عددهم. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] أي ضياع وتلف، وقد شمل تضليل كيدهم جميع ما حل بهم من أسباب الخيبة وسوء المنقلب.
وجملة {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} يجوز أن تجعل معطوفة على جملة {فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] أي وكيف أرسل عليهم طيرا من صفتها كيت وكيت، فبعد ا، وقع التقرير على ما فعل الله بهم من تضليل كيدهم عطف عليه تقرير بعلم ما سلط عليهم من العقاب على كيدهم تذكيرا بما حل بهم من نقمة الله تعالى، لقصدهم تخريب الكعبة، فذلك من عناية الله ببيته لإظهار توطئته لبعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بدينه في ذلك البلد، إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، فكما كان إرسال الطير عليهم من أسباب تضليل كيدهم، كان فيه جزاء لهم، ليعلموا أن الله مانع بيته، وتكون جملة {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.
ويجوز أن تجعل {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ} عطفا على جملة {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} فيكون داخلا في حيز التقرير الثاني بأن الله جعل كيدهم في تضليل، وخص ذلك بالذكر لجمعه بين كونه مبطل لكيدهم وكونه عقوبة لهم، ومجيئه بلفظ الماضي باعتبار أن المضارع في قوله: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} قلب زمانه إلى المضي لدخول حرف

{لم} كما تقدم في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} في [سورة الضحى 6-7]، فكأنه قيل: أليس جعل كيدهم في تضليل.
والطير: اسم جمع طائر، وهو الحيوان الذي يرتفع بالجو بعمل جناحيه. وتنكيره للنوعية لأنه نوع لم يكن معروفا عند العرب. وقد اختلف القصاصون في صفته اختلافا خياليا. والصحيح ما روي عن عائشة: أنها أشبه شيء بالخطاطيف، وعن غيرها أنها تشبه الوطواط.
و {أبابيل} : جماعات. قال الفراء وأبو عبيدة: أبابيل اسم جمع لا واحد له من لفظة عباديد وشماطيط وتبعهما الجوهري، وقال الرؤاسي والزمخشري: أحد أبابيل إبالة مشددة الموحدة مكسورة الهمزة. ومنه قولهم في المثل: ضغث على إبالة، وهي الحزمة الكبيرة من الحطب، وعليه فوصف الطير بأبابيل على وجه التشبيه البليغ.
وجملة {ترميهم} حال من {طيرا} وجيء بصيغة المضارع لاستحضار الحالة بحيث تخيل للسامع كالحادثة في زمن الحال ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر: 9] الآية.
وحجارة: اسم جمع حجر. وعن ابن عباس قال: طين في حجارة، وعنه أن سجيل معرب سنك كل من الفارسية، أي عن كلمة سنك وضبط بفتح السين وسكون النون وكسر الكاف اسم الحجر وكلمة كل بكسر الكاف اسم الطين وجموع الكلمتين يراد به الآجر.
وكلتا الكلمتين بالكاف الفارسية المعمدة وهي بين مخرج الكاف ومخرج القاف، ولذلك تكون {من} بيانية، أي حجارة هي سجيل، وقد عد السبكي كلمة سجيل في منظومته في المعرب الواقع في القرآن.
وقد أشار إلى أصل معناه قوله تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذريات:33] مع قوله في آيات أخر {حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} فعلم أنه حجر أصله طين.
وجاء نظيره في قصة قوم لوط في سورة هود {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82] وفي سورة الحجر {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر:74] فتعين أن تكون الحجارة التي أرسلت على أصحاب الفيل من جنس الحجارة التي أمطرت على قوم لوط أي ليست حجرا صخريا ولكنها طين متحجر دلالة على أنها

مخلوقة لعذابهم.
قال ابن عباس: كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده فكان ذلك أول الجدري1. وقال عكرمة: إذا أصاب أحدهم منها خرج به الجدري.
وقد قيل إن الجدري لم يكن معروفا في مكة قبل ذلك.
وروي أن الحجر كان قدر الحمص. روى أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي قال: رأيت الحصى التي رمي بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص حمرا بحتمة أي سوداء كأنها جزع ظفار. وعن ابن عباس: أنه رأى من هذه الحجارة عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة بالجزع الظفاري.
والعصف: ورق الزرع وهو جمع عصفة. والعصف إذا دخلته البهائم فأكلته داسته بأرجلها وأكلت أطرافه وطرحته على الأرض بعد أن كان أخضر يانعا. وهذا تمثيل لحال أصحاب الفيل بعد تلك النضرة والقوة كيف صاروا متساقطين على الأرض هالكين.
ـــــــ
1 بضم الجيم وفتح الدال المهملة ويقال بفتحهما لغتان: قروح إذا كثرت أهلكت وإذا أصابت الجلد بقي أثرها حفرا وتصيب العين فيعمى المصاب.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة قريشسميت هذه السورة في عهد السلف "سورة لإيلاف قريش" قال عمرو بن ميمون الأودي صلى عمر بن الخطاب المغرب فقرأ في الركعة الثانية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} وهذا ظاهر في إرادة التسمية ولم يعدها في "الإتقان" في السور التي لها أكثر من اسم.
وسميت في المصاحف وكتب التفسير "سورة قريش" لوقوع اسم قريش فيها ولم يقع في غيرها، وبذلك عنونها البخاري في "صحيحه".
والسورة مكية عند جماهير العلماء. وقال ابن عطية: بلا خلاف. وفي القرطبي عن الكلبي والضحاك أنها مدنية، ولم يذكرها في "الإتقان" مع السور المختلف فيها.
وقد عدت التاسعة والعشرين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة التين وقبل سورة القارعة.
وهي سورة مستقلة بإجماع المسلمين على أنها سورة خاصة.
وجعلها أبي بن كعب مع سورة الفيل سورة واحدة ولم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة التي كانوا يجعلونها علامة فصل بين السور، وهو ظاهر خبر عمرو بن ميمون عن قراءة عمر بن الخطاب. والإجماع الواقع بعد ذلك نقض ذلك.
وعدد آياتها أربع عند جمهور العادين. وعدها أهل مكة والمدينة خمس آيات.
ورأيت في مصحف عتيق من المصاحف المكتوبة في القيروان عددها أربع آيات مع أن قراءة أهل القيروان قراءة أهل المدينة.

أغراضها
أمر قريش بتوحيد الله تعالى بالربوبية تذكيرا لهم بنعمة أن الله مكن لهم السير في الأرض للتجارة برحلتي الشتاء والصيف لا يخشون عاديا يعدو عليهم.
وبأنه أمنهم من المجاعات وأمنهم من المخاوف لما وقر في نفوس العرب من حرمتهم لأنهم سكان الحرم وعمار الكعبة.
وبما ألهم الناس من جلب الميرة إليهم من الآفاق المجاورة كبلاد الحبشة.
ورد القبائل فلا يغير على بلدهم أحد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67] فأكسبهم ذلك مهابة في نفوس الناس وعطفا منهم.
[1-4] {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} .
افتتاح مبدع إذ كان بمجرور بلام التعليل وليس بإثره بالقرب ما يصلح للتعليق به ففيه تشويق إلى متعلق هذا المجرور. وزاده الطول تشويقا إذ فصل بينه وبين متعلقه بالفتح بخمس كلمات، فيتعلق {لِإِيلافِ} بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا} .
وتقديم هذا المجرور للاهتمام به إذ هو من أسباب أمرهم بعبادة الله التي أعرضوا عنها بعبادة الأصنام والمجرور متعلق بفعل {ليعبدوا} .
وأصل نظم الكلام: لتعبد قريش رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فلما اقتضى قصد الاهتمام بالمعمول تقديمه على عامله، تولد من تقديمه معنى جعله شرطا لعامله فاقترن عامله بالفاء التي هي من شأن جواب الشرط، فالفاء الداخلة في قوله: {فَلْيَعْبُدُوا} مؤذنة بأن ما قبلها من قوة الشرط، أي مؤذنة بأن تقديم المعمول مقصود به اهتمام خاص وعناية قوية هي عناية المشترط بشرطه، وتعليق بقية كلامه عليه لما ينتظره من جوابه، وهذا أسلوب من الإيجاز بديع.
قال في "الكشاف" دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى إما لا فيعبدوه لإيلافهم، أي أن نعم الله عليهم لا تحصى فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة اه.

وقال الزجاج في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:3] دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره اه. وهو معنى ما في "الكشاف" . وسكتا عن منشأ حصول معنى الشرط وذلك أن مثل هذا جار عند تقديم الجار والمجرور، ونحوه من متعلقات الفعل وانظر قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} في [سورة البقرة: 40]، ومنه قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} في [سورة يونس: 58]، وقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ} في سورة [الشورى: 15]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن الجهاد فقال له: "ألك أبوان?" فقال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد" .
ويجوز أن تجعل اللام متعلقة بفعل أعجبوا محذوفا ينبئ عنه اللام لكثرة وقوع مجرور بها بعد مادة التعجب، يقال: عجبا لك، وعجبا لتلك القضية، ومنه قول امرئ القيس فيا لك من ليل لأن حرف النداء مراد به التعجب فتكون الفاء في قوله: {فليعبدوا} تفريعا على التعجب.
وجوز الفراء وابن إسحاق في "السيرة" أن يكون {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} متعلقا بما في [سورة الفيل:5] من قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} قال القرطبي. وهو معنى قول مجاهد ورواية ابن جبير عن ابن عباس. قال الزمخشري: وهذا بمنزلة التضمين في الشعر وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به اه. يعنون أن هذه السورة وإن كانت سورة مستقلة فهي ملحقة بسورة الفيل فكما تلحق الآية بآية نزلت قبلها، تلحق آيات هي سورة فتتعلق بسورة نزلت قبلها.
والإيلاف: مصدر أألف بهمزتين بمعنى ألف وهما لغتان، والأصل هو ألف، وصيغة الإفعال فيه للمبالغة لأن أصلها أن تدل على حصول الفعل من الجانبين، فصارت تستعمل في إفادة قول الفعل مجازا ثم شاع ذلك في بعض الأفعال حتى ساوى الحقيقة مثل سافر، وعافاه الله، وقاتلهم الله.
وقرأه الجمهور في الموضعين {لإيلاف} بياء بعد الهمزة وهي تخفيف للهمزة الثانية. وقرأه ابن عامر "لإلاف" الأول بحذف الياء التي أصلها همزة ثانية، وقرأه {إيلافهم} بإثبات الياء مثل الجمهور. وقرأ أبو جعفر "ليلاف قريش" بحذف الهمزة الأولى. وقرأ "إلافهم" بهمزة مكسورة من غير ياء.
وذكر ابن عطية والقرطبي: إن أبا بكر عن عاصم قرأ بتحقيق الهمزتين في "لإألاف" وفي "إألافهم"، وذكر ابن عطية عن أبي علي الفارسي أن تحقيق الهمزتين لا وجه له.

قلت: لا يوجد في كتب القراءات التي عرفناها نسبة هذه القراءة إلى أبي بكر عن عاصم. والمعروف أن عاصما موافق للجمهور في جعل ثانية الهمزتين ياء، فهذه رواية ضعيفة عن أبي بكر عن عاصم.
وقد كتب في المصحف "إلفهم" بدون ياء بعد الهمزة وأما الألف المدة التي بعد اللام التي هي عين الكلمة فلم تكتب في الكلمتين في المصحف على عادة أكثر المدات مثلها، والقراءات روايات وليس خط المصحف إلا كالتذكرة للقارئ، ورسم المصحف سنة متبعة سنها الصحابة الذين عينوا لنسخ المصاحف وإضافة "إيلاف" إلى {قريش} على معنى إضافة المصدر إلى فاعله وحذف مفعوله لأنه هنا أطلق بالمعنى الاسمي لتلك العادة فهي إضافة معنوية بتقدير اللام.
وقريش: لقب الجد الذي يجمع بطون كثيرة وهو فهر بن مالك بن النضر ابن كنانة. هذا قول جمهور النسابين وما فوق فهر فهم من كنانة، ولقب فهر بلقب قريش بصيغة التصغير وهو على الصحيح تصغير قرش بفتح القاف وسكون الراء وشين معجمة اسم نوع من الحوت قوي يعدو على الحيتان وعلى السفن.
وقال بعض النسابين: أن قريشا لقب النضر بن كنانة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن قريش? فقال: "من ولد النضر" وفي رواية أنه قال "إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا" . فجميع أهل مكة هم قريش وفيهم كانت مناصب أهل مكة في الجاهلية موزعة بينهم وكانت بنو كنانة بخيف منى. ولهم مناصب في أعمال الحج خاصة منها النسيء.
وقوله: {إيلافهم} عطف بيان من {إِيلافِ قُرَيْشٍ} وهو من أسلوب الإجمال، فالتفصيل للعناية بالخبر ليتمكن في ذهن السامع ومنه قوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36-37] حكاية لكلام فرعون، وقول امرئ القيس:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
والرحلة بكسر الراء: اسم للارتحال، وهو المسير من مكان إلى آخر بعيد، ولذلك سمي البعير الذي يسافر عليه راحلة.
وإضافة رحلة إلى الشتاء من إضافة الفعل إلى زمانه الذي يقع فيه فقد يكون الفعل مستغرقا لزمانه مثل قولك: سهر الليل، وقد يكون وقتا لابتدائه مثل صلاة الظهر، وظاهر

الإضافة أن رحلة الشتاء والصيف معروفة معهودة، وهما رحلتان. فعطف {والصيف} على تقدير مضاف، أي ورحلة الصيف، لظهور أنه لا تكون رحلة واحدة تبتدأ في زمانين فتعين أنهما رحلتان في زمنين.
وجوز الزمخشري: أن يكون لفظ {رحلة} المفرد مضافا إلى شيئين لظهور المراد وأمن اللبس، وقال أبو حيان: هذا عند سيبويه لا يجوز إلى في الضرورة.
والشتاء أسم لفصل من السنة الشمسية المقسمة إلى أربعة فصول. وفصل تسعة وثمانون يوما وبضع دقائق مبدؤها حلول الشمس في برج الجدي. ونهايتها خروج الشمس من برج الحوت، وبروجه ثلاثة: الجدي، والدلو، والحوت، وفصل الشتاء مدة البرد.
والصيف: اسم لفصل من السنة الشمسية، وهو زمن الحر ومدته ثلاثة وتسعون يوما وبضع ساعات، مبدأها حلول الشمس في برج السرطان ونهايته خروج الشمس من برج السنبلة، وبروجه ثلاثة، السرطان، والأسد، والسنبلة.
قال ابن العربي: قال مالك: الشتاء نصف السنة والصيف نصفها ولم أزل أرى ربيعة ابن أبي عبد الرحمان ومن معه لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا يعني طلوع الثريا عند الفجر وذلك أول فصل الصيف وهو يوم التاسع عشر من بشنس وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس اه. وشهر بشنس هو التاسع من أشهر السنة القبطية المجزأة إلى اثني عشر شهرا.
وشهر بشنس يبتدأ في اليوم السادس والعشرين من شهر نيسان أبريل وهو ثلاثون يوما ينتهي يوم 25 من شهر "إيار- ماية".
وطلوع الثريا عند الفجر وهو يوم تسعة عشر من شهر بشنس من أشهر القبط. قال أيمة اللغة: فالصيف عند العامة نصف السنة وهو ستة أشهر والشتاء نصف السنة وهو ستة أشهر.
والسنة بالتحقيق أربعة فصول: الصيف: ثلاثة أشهر، وهو الذي يسميه أهل العراق وخراسان الربيع، ويليه القيظ ثلاثة أشهر، وهو شدة الحر، ويليه الخريف ثلاثة أشهر، ويليه الشتاء ثلاثة أشهر. وهذه الآية صالحة للاصطلاحين. واصطلاح علماء الميقات تقسيم السنة إلى ربيع وصيف وخريف وشتاء، ومبدأ السنة الربيع هو دخول الشمس في

برج الحمل. وهاتان الرحلتان هما رحلة تجارة وميرة كانت قريش تجهزهما في هذين الفصلين من السنة إحداهما في الشتاء إلى بلاد الحبشة ثم اليمن يبلغون بها بلاد حمير، والأخرى في الصيف إلى الشام يبلغون بها مدينة بصرى من بلاد الشام.
وكان الذين سن لهم هاتين الرحلتين هاشم بن عبد مناف، وسبب ذلك أنهم كانوا يعتريهم خصاصة فإذا لم يجد أهل بيت طعاما لقوتهم حمل رب البيت عياله إلى موضع معروف فضرب عليهم خباء وبقوا فيه حتى يموتوا جوعا ويسمى ذلك الاعتفار بالعين المهملة وبالراء وقيل بالدال عوض الراء وبفاء فحدث أن أهل بيت من بني مخزوم أصابتهم فاقة شديدة فهموا بالاعتفار فبلغ خبرهم هاشما لأن أحد أبنائهم كان تربا لأسد بن هاشم، فقام هاشم خطيبا في قريش وقال إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب وتذلون وتعز العرب وأنتم أهل حرم الله والناس لكم تبع ويكاد هذا الاعتفار يأتي عليكم، ثم جمع كل بني أب على رحلتين للتجارات فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير من عشيرته حتى صار فقيرهم كغنيهم، وفيه يقول مطرود الخزاعي:
يأيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف
الآخذون العهد من آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف
وأخالطون غنيهم بفقيرهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي
ولم تزل الرحلتان من إيلاف قريش حتى جاء الإسلام وهم على ذلك.
والمعروف المشهور أن الذي سن الإيلاف هو هاشم، وهو المروي عن ابن عباس وذكر ابن العربي عن الهروي: أن أصحاب الإيلاف هاشم وإخوته الثلاثة الآخرون عبد شمس، والمطلب، ونوفل، وأن واحد منهم أخذ حبلا، أي عهدا من أحد الملوك الذين يمرون في تجارتهم على بلادهم وهم ملك الشام، وملك الحبشة، وملك اليمن، وملك فارس. فأخذ هاشم هذا من ملك الشام وهو ملك الروم، وأخذ عبد شمس من نجاشي الحبشة وأخذ المطلب من ملك اليمن وأخذ نوفل من كسرى ملك فارس، فكانوا يجعلون جعلا لرؤساء القبائل وسادات العشائر يسمى الإيلاف أيضا، يعطونهم شيئا من الربح ويحملون إليهم متاعا ويسوقون إليهم إبلا مع إبلهم ليكفوهم مؤونة الأسفار وهم يكفون قريش دفع الأعداء فاجتمع لهم بذلك أمن الطريق كله إلى اليمن وإلى الشام وكانوا يسممون المجيرين.
وقد توهم النقاش من هذا أن لكل واحد من هؤلاء الأربعة رحلة فزعم أن الرحل

كانت أربعا، قال ابن عطية: وهذا قول مردود، وصدق ابن عطية فإن كون أصحاب العهد الذي كان به الإيلاف أربعة لا يقتضي أن تكون الرحلات أربعا، فإن ذلك لم يقله أحد. ولعل هؤلاء الاخوة كانوا يتداولون السفر مع الرحلات على التناوب لأنهم المعروفون عند القبائل التي تمر عليهم العير، أو لأنهم توارثوا ذلك بعد موت هاشم فكانت تضاف العير إلى أحدهم كما أضافوا العير التي تعرض المسلمون لها يوم بدر عير أبي سفيان إذ هو يومئذ سيد أهل الوادي بمكة.
ومعنى الآية تذكير قريش بنعمة الله عليهم إذ يسر لهم ما لم يتأت لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين وغارات المغيرين في السنة كلها بما يسر لهم من بناء الكعبة وشرعة الحج وإن جعلهم عمار المسجد الحرام وجعل لهم مهابة وحرمة في نفوس العرب كلهم في الأشهر الحرم وفي غيرها.
وعند القبائل التي تحرم الأشهر الحرم والقبائل التي لا تحرمها مثل طيء وقضاعة وخثعم، فتيسرت لهم الأسفار في بلاد العرب من جنوبها إلى شمالها، ولاذ بهم أصحاب الحاجات يسافرون معهم، وأصحاب التجارات يحملونهم سلعهم، وصارت مكة وسطا تجلب إليها السلع من جميع البلاد العربية فتوزع إلى طالبيها في بقية البلاد، فاستغنى أهل مكة بالتجارة إذ لم يكونوا أهل زرع ولا ضرع إذ كانوا بواد غير ذي زرع وكانوا يجلبون أقواتهم فيجلبون من بلاد اليمن الحبوب من بر وشعير وذرة وزبيب وأديم وثياب والسيوف اليمانية، ومن بلاد الشام الحبوب والتمر والزيت والزبيب والثياب والسيوف المشرفية، زيادة على ما جعل لهم مع معظم العرب من الأشهر الحرم، وما أقيم لهم من مواسم الحج وأسواقه كما يشير إليه قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} .
فذلك وجه تعليل الأمر بتوحيدهم الله بخصوص نعمة هذا الإيلاف مع أن لله عليهم نعم كثيرة لأن هذا الإيلاف كان سببا جامعا لأهم النعم التي بها قوام بقائهم.
وقد تقدم آنفا الكلام على معنى الفاء من قوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} . على الوجوه كلها.
والعبادة التي أمروا بها عبادة الله وحده دون إشراك الشركاء معه في العبادة لأن إشراك من لا يستحق العبادة مع الله الذي هو الحقيق بها ليس بعبادة أو لأنهم شغلوا بعبادة الأصنام عن عبادة الله فلا يذكرون الله إلا في أيام الحج في التلبية على أنهم قد زاد بعضهم فيها بعد قولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.

وتعريف {رب} بالإضافة إلى {هَذَا الْبَيْتِ} دون أن يقال: فليعبدوا الله، لما يومئ إليه لفظ {رب} من استحقاقه الإفراد بالعبادة دون شريك.
وأوثر إضافة {رب} إلى {هَذَا الْبَيْتِ} دون أن يقال: ربهم للإيماء إلى أن البيت هو أصل نعمة الإيلاف بأن أمر إبراهيم ببناء البيت الحرام فكان سببا لرفعة شأنهم بين العرب قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] وذلك إدماج للتنويه بشأن البيت الحرام وفضله.
والبيت معهود عند المخاطبين.
والإشارة إليه لأنه بذلك العهد كان كالحاضر في مقام الكلام علىأن البيت بهذا التعريف باللام صار علما بالغلبة على الكعبة و"رب البيت" هو الله والعرب يعترفون بذلك.
وأجري وصف الرب بطريقة الموصول {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} لما يؤذن به من التعليل للأمر بعبادة رب البيت الحرام بعلة أخرى زيادة على نعمة تيسير التجارة لهم، وذلك مما جعلهم أهل ثراء، وهما نعمة إطعامهم وأمنهم. وهذه إشارة إلى ما يسر لهم من ورود سفن الحبشة في البحر إلى جدة تحمل الطعام ليبيعوه هناك. فكانت قريش يخرجون إلى جدة بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين. وكان أهل تبالة وجرش من بلاد اليمن المخصبة يحملون الطعام في مكة فكانوا في سعة من العيش بوفر الطعام في بلادهم كذلك يسر لهم إقامة الأسواق حول مكة في أشهر الحج وهي سوق مجنة، وسوق ذي المجاز، وسوق عكاظ، فتأتيهم فيها الأرزاق ويتسع العيش، وإشارة إلى ما ألقي في نفوس العرب من حرمة مكة وأهلها فلا يريدهم أحد بتخويف. وتلك دعوة إبراهيم عليه السلام إذ قال {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126] فلم يتخلف ذلك عنهم إلا حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته "اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف" فأصابتهم مجاعة وقحط سبع سنين وذلك أول الهجرة.
و {من} الداخلة على {جوع} وعلى {خوف} معناها البدلية، أي أطعمهم بدلا من الجوع وآمنهم بدلا من الخوف. ومعنى البدلية هو أن حالة بلادهم تقتضي أن يكون أهلها في جوع فإطعامهم بدل من الجوع الذي تقتضيه البلاد، وأن حالتهم في قلة العدد وكونهم أهل حضر وليسوا أهل بأس ولا فروسية ولا شكة سلاح تقتضي أن يكونوا معرضين

لغارات القبائل فجعل الله لهم الأمن في الحرم عوضا عن الخوف الذي تقتضيه قلتهم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67].
وتنكير {جوع} و {خوف} للنوعية لا للتعظيم إذ لم يحل بهم جوع وخوف من قبل، قال مساور بن هند في هجاء بني أسد:
زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم الاف
أولئك أومنوا جوعا وخوفا ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الماعونسميت هذه السورة في كثير من المصاحف وكتب التفسير "سورة الماعون" لورود لفظ الماعون فيها دون غيرها.
وسميت في بعض التفاسير "سورة أرأيت" وكذلك في مصحف من مصاحف القيروان في القرن الخامس، وكذلك عنونها في "صحيح البخاري".
وعنونها ابن عطية ب "سورة أرأيت الذي". وقال الكواشي في "التلخيص" "سورة الماعون والدين وأرأيت"، وفي "الإتقان": وتسمى "سورة الدين" وفي "حاشيتي الخفاجي وسعدي" تسمى "سورة التكذيب" وقال البقاعي في "نظم الدرر" تسمى "سورة اليتيم". وهذه ستة أسماء.
وهي مكية في قول الأكثر. وروي عن ابن عباس، وقال القرطبي عن قتادة: هي مدنية. وروي عن ابن عباس أيضا. وفي "الإتقان": قيل نزلت ثلاث أولها بمكة أي إلى قوله: {الْمِسْكِينِ} [الماعون: 3] وبقيتها نزلت بالمدينة، أي بناء على أن قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] إلى آخر السورة أريد بها المنافقون وهو مروي عن ابن عباس وقاله هبة الله الضرير1 وهو الأظهر.
وعدت السابعة عشرة في عداد نزول السور بناء على أنها مكية، نزلت بعد سورة التكاثر وقبل سورة الكافرون.
وعدت آياتها ستا عند معظم العادين: وحكى الآلوسي: أن الذين عدوا آياتها ستا أهل
ـــــــ
1 هبة الله بن سلامة بن نصر بن علي أبو القاسم الضرير البغدادي المفسر له "كتاب الناسخ والمنسوخ"، كانت له حلقة في جامع المنصور توفي سنة 410، "تاريخ بغداد"، و"نكت الهميان".

العراق أي البصرة والكوفة وقال الشيخ علي النوري الصفاقسي في "غيث النفع": وآيها سبع حمصي أي شامي وست في الباقي. وهذا يخالف ما قاله الآلوسي.
أغراضها
من مقاصد التعجيب من حال من كذبوا بالبعث وتفظيع أعمالهم من الاعتداء على الضعيف واحتقاره والإمساك عن إطعام المسكين، والإعراض عن قواعد الإسلام من الصلاة والزكاة لأنه لا يخطر بباله أن يكون في فعله ذلك ما يجلب له غضب الله وعقابه.
[1-3] {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} .
الاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المكذبين بالجزاء، وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع. فالتعجب من تكذيبهم بالدين وما تفرع عليه من دع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين وقد صيغ هذا التعجيب في نظم مشوق لأن الاستفهام عن رؤية من ثبتت له صلة الموصول يذهب بذهن السامع مذاهب شتى من تعرف المقصد بهذا الاستفهام، فإن التكذيب بالدين شائع فيهم فلا يكون مثارا للتعجب فيترقب السامع ماذا يرد بعده وهو قوله: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} .
وفي إقحام اسم الإشارة واسم الموصول بعد الفاء زيادة تشويق حتى تقرع الصلة سمع السامع فتتمكن منه كمال تمكن.
وأصل ظاهر الكلام أن يقال: أرأيت الذي يكذب بالدين فيدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين.
والإشارة إلى الذي يكذب بالدين باسم الإشارة لتمييزه أكمل تمييز حتى يتبصر السمع فيه وفي صفته، أو لتنزيله منزلة الظاهر الواضح بحيث يشار إليه.
والفاء لعطف الصفة الثانية على الأولى لإفادة تسبب مجموع الصفتين في الحكم المقصود من الكلام، وذلك شأنها في عطف الصفات إذا كان موصوفها واحدا مثل قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} [الصافات: 1-3].
فمعنى الآية عطف صفتي: دع اليتيم، وعدم إطعام المسكين على جزم التكذيب بالدين.

وهذا يفيد تشويه إنكار البعث بما ينشأ عن إنكاره من المذام ومن مخالفة للحق ومنافيا لما تقتضيه الحكمة من التكليف، وفي ذلك كناية عن تحذير المسلمين من الاقتراب من إحدى هاتين الصفتين بأنهما من صفات الذين لا يؤمنون بالجزاء.
وجيء في {يكذب} ، {يدع} ، {ويحض} بصيغة المضارع لإفادة تكرر ذلك منه ودوامه.
وهذا إيذان بأن الإيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة التي يصير ذلك لها خلقا إذا شبت عليه، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتاج إلى أمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات حتى إذا اختلى بنفسه وأمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النكراء.
والرؤية بصرية يتعدى فعلها إلى مفعول واحد، فإن المكذبين بالدين معروفون وأعمالهم مشهورة، فنزلت شهرتهم بذلك منزلة الأمر المبصر المشاهد.
وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي بعد الراء من أرأيت ألفا. وروى المصريون عن ورش عن نافع إبدالها ألفا وهو الذي قرأنا به في تونس، وهكذا في فعل "رأى" كلما وقع بعد الهمزة استفهام وذلك فرار من تحقيق الهمزتين، قرأ الجمهور بتحقيقها.
وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي بعد الراء في كل فعل من هذا القبيل. واسم الموصول وصلته مراد بهما جنس اتصف بذلك. وأكثر المفسرين درجوا على ذلك.
وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقيل في الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل في عمر بن عائذ المخزومي، وقيل في أبي سفيان بن حرب قبل إسلامه بسبب أنه كان ينحر كل أسبوع جزورا فجاءه مرة يتيم فسأله من لحمها فقرعه بعصا. وقيل في أبي جهل: كان وصيا على يتيم فأتاه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعا شنيعا.
والذين جعلوا السورة مدنية قالوا: نزلت في منافق لم يسموه، وهذه أقوال معزو بعضها إلى بعض التابعين ولو تعينت لشخص معين لم يكن سبب نزولها مخصصا حكمها بما نزلت بسببه.
ومعنى {يدع} يدفع بعنف وقهر، قال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} [الطور:13].

والحض: الحث، وهو أن تطلب غيرك فعلا بتأكيد.
والطعام: اسم الإطعام، وهو اسم مصدر إلى مفعوله إضافة لفظية. ويجوز أن يكون الطعام مرادا به ما يطعم كما في قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ} [البقرة: 259] فتكون إضافة طعام إلى مسكين معنوية على معنى اللام، أي الطعام الذي هو حقه على الأغنياء ويكون فيه تقدير مضاف مجرور ب”على” تقديره: على إعطاء طعام المسكين.
وكني بنفي الحض عن نفي الإطعام لأن الذي يشح بالحض على الإطعام هو بالإطعام أشح كما تقدم في قوله: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} في [سورة الفجر:18] وقوله: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} في [سورة الحاقة: 34].
والمسكين: الفقير، ويطلق على الشديد الفقر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} في [سورة التوبة: 60].
[4-7] {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} .
موقع الفاء صريح في اتصال ما بعدها بما قبلها من الكلام على معنى التفريع والترتيب والتسبب.
فيجيء على القول أن السورة مكية بأجمعها أن يكون المراد بالمصلين عين المراد بالذي يكذب بالدين، ويدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فقوله: {لِلْمُصَلِّينَ} إظهار في مقام الإضمار كأنه قيل: فويل له على سهوه عن الصلاة، وعلى الرياء، وعلى منع الماعون، دعا إليه زيادة تعداد صفاته الذميمة بأسلوب سليم عن تتابع ست صفات لأن ذلك التتابع لا يخلو من كثرة تكرار النظائر فيشبه تتابع الإضافات الذي قيل إنه مناكد للفصاحة، مع الإشارة بتوسيط ويل له إلى أن الويل ناشئ عن جميع تلك الصفات التي هو هلها وهذا المعنى أشار إليه كلام الكشاف بغموض.
فوصفهم ب {المصلين} إذن تهكم، والمراد عدمه، أي الذين لا يصلون، أي ليسوا بمسلمين كقوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:43-44] وقرينة التهكم وصفهم ب {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} .
وعلى القول بأنها مدنية أو أن هذه الآية وما بعدها منها مدنية يكون المراد

بـ {الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} المنافقين. وروى هذا ابن وهب وأشهب عن مالك فتكون الفاء قي قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} من هذه الجملة لربطها بما قبلها لأن الله أراد ارتباط هذا الكلام بعضه ببعض.
وجيء في هذه الصفة بصيغة الجمع لأن المراد ب {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} : جنس المكذبين على أظهر الأقوال. فإن كان المراد به معينا على بعض تلك الأقوال المتقدمة كانت صيغة الجمع تذليلا يشمله وغيره فإنه واحد من المتصفين بصفة ترك الصلاة، وصفة الرياء، وصفة منع الماعون.
وقوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} صفة {لِلْمُصَلِّينَ} مقيدة لحكم الموصوف فإن الويل للمصلي الساهي عن صلاته لا للمصلي على الإطلاق.
فيكون قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} ترشيحا للتهكم الواقع في إطلاق وصف المصلين عليهم.
وعدي {ساهون} بحرف {عن} لإفادة إنهم تجاوزوا إقامة صلاتهم وتركوها ولا علاقة لهذه الآية بأحكام السهو في الصلاة.
وقوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} يجوز أن يكون معناه الذين لا يؤدون الصلاة إلا رياء فإذا خلوا تركوا الصلاة.
ويجوز أن يكون معناه: الذين يصلون دون نية وإخلاص فهم في حالة الصلاة بمنزلة الساهي عما يفعل فيكون إطلاق {ساهون} تهكما كما قال تعالى: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} في المنافقين في [سورة النساء:142].
ويراءون يقصدون أن يرى الناس أنهم على حال حسن وهم بخلافه ليتحدث الناس لهم بمحاسن ما هم بموصوفين بها ولذلك كثر أن تعطف السمعة على الرياء فيقال: رياء وسمعة.
وهذا الفعل وارد في الكلام على صيغة المفاعلة ولم يسمع منه فعل مجرد لأنه يلازمه تكرير الإراءة.
و { الماعون} : يطلق على الإعانة بالمال، فالمعنى: يمنعون فضلهم أو يمنعون

الصدقة على الفقراء. فقد كانت الصدقة واجبة في صدر الإسلام بغير تعيين قبل مشروعية الزكاة.
وقال سعيد بن المسيب وابن شهاب: الماعون المال بلسان قريش.
وروى أشهب عن مالك: الماعون الزكاة: ويشهد له قول الراعي:
قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا
لأنه أراد بالتهليل الصلاة فجمع بينها وبين الزكاة.
ويطلق على ما يستعان به على عمل البيت من آنية وآلات طبخ وشد وحفر ونحو ذلك مما لا خسارة على صاحبه في إعارته وإعطاءه. وعن عائشة: الماعون الماء والنار والملح. وهذا ذم لهم بمنتهى البخل. وهو الشح بما لا يزرأهم.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {هُمْ يُرَاؤُونَ} لتقوية الحكم، أي تأكيده.
فأما على القول بأن السورة مدنية أو بأن هذه الآيات الثلاث مدنية يكون المراد بالمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون والصلاة بعدها: المنافقين، فإطلاق المصلين عليهم بمعنى المتظاهرين بأنهم يصلون وهو من إطلاق الفعل على صورته كقوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} [التوبة: 64] أي يظهرون أنهم يحذرون تنزيل سورة.
و {يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أي الصدقة أو الزكاة قال تعالى في المنافقين {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة: 67] فلما عرفوا بهذه الخلال كان مفاد فاء التفريع أن أولئك المتظاهرين بالصلاة وهم تاركوها في خاصتهم هم من جملة المكذبين بيوم الدين ويدعون اليتيم ولا يحضون على طعام المسكين.
وحكى هبة الله بن سلامة في "كتاب الناسخ والمنسوخ": أن هذه الآيات الثلاث نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول، أي فإطلاق صيغة الجمع عليه مراد بها واحد على حد قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] أي الرسول إليهم.
والسهور حقيقته: الذهول عن أمر سبق علمه، وهو هنا مستعار للإعراض والترك عن عمد استعارة تهكمية مثل قوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 41] أي تعرضون عنهم، ومثله استعارة الغفلة للإعراض في قوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا

غَافِلِينَ} في [سورة الأعراف: 136] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} في [سورة يونس: 7]، وليس المقصود الوعيد على السهو الحقيقي عن الصلاة لأن حكم النسيان مرفوع على هذه الأمة، وذلك ينادي على أن وصفهم بالمصلين تهكم بهم بأنهم لا يصلون.
واعلم أنه إذا أراد الله إنزال شيء من القرآن ملحقا بشيء قبله جعل نظم الملحق مناسبا لما هو متصل به، فتكون الفاء للتفريع. وهذه نكتة لم يسبق لنا إظهارها فعليك ملاحظتها في كل ما ثبت أنه نزل من القرآن ملحقا بشيء نزل قبله منه.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكوثرسميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها في جميع التفاسير أيضا "سورة الكوثر" وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من "جامعه". وعنونها البخاري في صحيحه سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ولم يعدها في "الإتقان" مع السور التي ليس لها أكثر من اسم. ونقل سعد الله الشهير بسعدي في "حاشيته على تفسير البيضاوي" عن البقاعي أنها تسمى "سورة النحر".
وهل هي مكية أو مدنية? تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا، فهي مكية عند الجمهور وأقتصر عليه أكثر المفسرين، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال: أجمع من نعرفه على أنها مكية. قال الخفاجي: وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها.
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة هي مدنية ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال: "أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] ثم قال: أتدرون ما الكوثر?" قلنا الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة" الحديث. وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ آنفا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا.
ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أن تكون السورة مكية، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى: {وانحر} من أن النحر في الحج أو يوم

الأضحى تكون السورة مدنية ويبعث على أن قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ليس ردا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك.
والأظهر أن هذه السورة مدنية وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها.
وعلى القول بأنها مكية عدوها الخامسة عشرة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العاديات وقبل سورة التكاثر. وعلى القول بأنها مدنية فقد قيل: إنها نزلت في الحديبية.
وعدد آيها ثلاث بالاتفاق.
وهي أقصر سور القرآن عدد كلمات وعدد حروف، وأما في عدد الآيات فسورة العصر وسورة النصر مثلها ولكن كلماتها أكثر.
أغراضها
اشتملت على بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة.
وأمره بأن يشكر الله على ذلك بالإقبال على العبادة.
وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة وهم مغضوب عليهم من الله تعالى لأنهم أبغضوا رسوله، وغضب الله بتر لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله.
وإن انقطاع الولد الذكر فليس بترا لأن ذلك لا أثر له في كلام الإنسان.
[1-2] {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} .
افتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر. والإشعار بأنه شيء عظيم يستتبع الإشعار بتنويه شأن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]. والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الأخبار بعطاء سابق.
وضمير العظمة مشعر بالامتنان بعطاء عظيم.
و { الْكَوْثَرَ} : اسم في اللغة الخير الكثير صيغ على زنة فوعل، وهي من صيغ

الأسماء الجامدة غالبا نحو الكوكب، والجورب، والحوشب والدوسر1، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها، ولما وقع هنا فيها مادة الكثر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة، وهو أحسن ما فسر به وأضبطه، ونضيره: جوهر، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوه، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها.
ويوصف الرجل صاحب الخير الكثير بكوثر من باب الوصف بالمصدر كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص الأسدي:
وصاحب ملحوب فجعنا بفقده ... وعند الرداع بيت آخر كوثر
"ملحوب والرداع" كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة، فوصف البيت بالكوثر ولاحظ الكميث هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان:
وأنت كثير يا ابن مروان طيب ... وكان أبوك ابن العقايل كوثرا
وسمي نهر الجنة كوثرا كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم آنفا.
وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعموها أنه الخير الكثير، وروي عن ابن عباس قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس: إن ناس يقولون هو نهر في الجنة، فقال: هو من الخير الكثير. وعن عكرمة: الكوثر هنا: النبوءة والكتاب، وعن الحسن: هو القرآن، وعن المغيرة: أنه الإسلام، وعن أبي بكر بن عياش: هو كثرة الأمة، وحكى الماوردي: أنه رفعة الذكر، وأنه نور القلب، وأنه الشفاعة. وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره.
وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وإزالة ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه: هو أبتر، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر، إبطالا لقولهم.
وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} اعتراض والفاء للتفريع على هذه البشارة بأن يشكر ربه عليها، فإن الصلاة أفعال وأقوال دالة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته.
وناسب أن يكون الشكر بالازدياد مما عاداه عليه المشركون وغيرهم ممن قالوا مقالتهم الشنعاء: إنه أبتر، فإن الصلاة لله شكر له وإغاظة للذين ينهونه عن الصلاة كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10] لأنهم إنما نهوه عن الصلاة التي هي لوجه الله دون العبادة لأصنامهم، وكذلك النحر لله.
ـــــــ
1 الجورب: ثوب يجعل في صورة خف وتلف فيه الرجل، والحوشب: المنتفخ الجنبين وعظم في باطن الحافر، واسم للأرنب الذكر، والثعلب الذكر، والدوسر: الضخم الشديد.

والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} دون: فصل لنا، لما في لفظ الرب من الإيماء إلى استحقاقه العبادة لأجل ربوبيته فضلا عن فرط إنعامه.
وإضافة رب إلى ضمير المخاطب لقصد تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتقريبه، وفيه تعريض بأنه يربه ويرأف به.
ويتعين أن في تفريع الأمر بالنحر مع الأمر بالصلاة على أن أعطاه الكوثر خصوصية تناسب الغرض الذي نزلت السورة له، ألا ترى أنه لم يذكر الأمر بالنحر مع الصلاة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} في [سورة الحجر: 97-98].
ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صد المشركين إياه عن البيت في الحديبية، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيرا كثيرا، أي قدره له في المستقبل وعبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه، فيكون معنى الآية كمعنى قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] فإنه نزل في أمر الحديبية فقد قال له عمر بن الخطاب: أفتح هذا? قال: نعم.
وهذا يرجع إلى ما رواه الطبري عن قول سعيد بن جبير: أن قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أمر بأن يصلي وينحر هديه وينصرف من الحديبية.
وأفادت اللام من قوله: {لربك} أنه يخص الله في صلاته فلا يصلي لغيره. ففيه تعريض للمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها.
وعطف {وانحر} على {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} يقتضي تقدير متعلقه مماثلا لمتعلق {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} لدلالة ما قبله عليه كما في قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] أي وأبصر بهم، فالتقدير: وانحر له. وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قربانا للأصنام فإن كانت السورة مكية فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اقترب وقت الحج وكان يحج كل عام قبل البعثة وبعدها وقد تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته، وهو يود أن يطعم المحاويج من أهل مكة ومن يحضر في الموسم ويتحرج من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين، أي لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناويا بما تنحره أنه لله.
وإن كانت السورة مدنية وكان نزولها قبل فرض الحج كان النحر مرادا به الضحايا يوم عيد النحر ولذلك قال كثير من الفقهاء إن قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} مراد به صلاة العيد،

وروي ذلك عن مالك في تفسير الآية وقال لم يبلغني فيه شيء.
واخذوا من وقوع الأمر بالنحر بعد الأمر بالصلاة دلالة على أن الضحية تكون بعد الصلاة، وعليه فالأمر بالنحر دون الذبح مع أن الضأن أفضل في الضحايا وهي لا تنحر وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضح إلا بالضأن تغليب للفظ النحر وهو الذي روعي في تسمية يوم الأضحى يوم النحر وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج أو ليشمل الهدايا التي عطل إرسالها في يوم الحديبية كما علمت آنفا. ويرشح إيثار النحر رعي فاصلة الراء في السورة. وللمفسرين الأولين أقوال أخر في تفسير انحر تجعله لفظا غريبا.
[3] {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} .
استئناف يجوز أن يكون استئنافا ابتدائيا. ويجوز أن تكون الجملة تعليل لحرف {إن} إذا لم يكن لرد الإنكار يكثر أن يفيد التعليل كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} في [سورة البقرة: 32].
واشتمال الكلام على صيغة قصر وعلى ضمير غائب وعلى لفظ الأبتر مؤذن بأن المقصود به رد كلام صادر من معين، وحكاية لفظ مراد بالرد، قال الواحدي: قال ابن عباس: إن العاصي بن وائل السهمي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام عند باب بني سهم فتحدث معه وأناس من صناديد قريش في المسجد فلما دخل العاصي عليهم قالوا له: من الذي كنت تتحدث معه فقال: ذلك الأبتر، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن مات ابنه القاسم قبل عبد الله فانقطع بموت عبد الله الذكور من ولده صلى الله عليه وسلم يومئذ، وكانوا يصفون من ليس له ابن بأبتر فأنزل الله هذه السورة، فحصل القصر في قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} لأن ضمير الفصل يفيد قصر صفة الأبتر على الموصوف وهو شانئ النبي صلى الله عليه وسلم، قصر المسند على المسند إليه وهو قصر قلب، أي هو الأبتر لا أنت.
و { الْأَبْتَرُ} : حقيقته المقطوع بعضه وغلب على المقطوع ذنبه من الدواب ويستعار لمن نقص منه ما هو من الخير في نظر الناس تشبيها بالدابة المقطوع ذنبها تشبيه معقول بمحسوس كما في الحديث "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر" يقال: بتر شيئا إذا قطع بعضه وبتر بالكسر كفرح فهو أبتر، ويقال للذي لا عقب له ذكورا هو أبتر على الاستعارة تشبيه متخيل بمحسوس شبهوه بالدابة المقطوع ذنبها لأنه قطع أثره في تخيل

أهل العرف.
ومعنى الأبتر في الآية الذي لا خير فيه وهو رد لقول العاصي بن وائل أو غيره في حق النبي صلى الله عليه وسلم فبهذا المعنى استقام وصف العاصي أو غيره بالأبتر دون المعنى الذي عناه هو حيث لمز النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أبتر، أي لا عقب له لأن العاصي بن وائل له عقب فابنه عمرو الصحابي الجليل، وابن ابنه عبد الله بن عمرو ابن العاص الصحابي الجليل ولعبد الله عقب كثير. قال ابن حزم في الجمهرة عقبه بمكة وبالرهط1.
فقوله تعالى: {هُوَ الْأَبْتَرُ} اقتضت صيغة القصر إثبات صفة الأبتر لشانئ النبي صلى الله عليه وسلم ونفيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأبتر بمعنى الذي لا خير فيه.
ولكن لما كان وصف الأبتر في الآية جيء به لمحاكاة قول القائل محمد أبتر إبطال لقوله ذلك، وكان عرفهم في وصف الأبتر أنه الذي لاعقب له تعين أن يكون هذا الإبطال ضربا من الأسلوب الحكيم وهو تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أن الأحق غير ما عناه من كلامه كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو ناقص حظ الخير، أي ليس ينقص للمرء أنه لا ولد له لأن ذلك لا يعود على المرء بنقص في صفاته وخلائقه وعقله. وهب أنه لم يولد له البتة، وإنما أصطلح الناس على اعتباره نقصا لرغبتهم في الولد بناء على ما كانت عليه أحوالهم الاجتماعية من الاعتماد على الجهود البدنية فهم يبتغون الولد الذكور رجاء الاستعانة بهم عند الكبر وذلك أمر قد يعرض وقد لا يعرض أو لمحبة ذكر المرء بعد موته وذلك أمر وهمي، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أغناه الله بالقناعة، وأعزه بالتأييد، وقد جعل الله له لسان صدق لم يجعل مثله لأحد من خلقه، فتمحض أن كماله الذاتي بما علمه الله فيه إذ جعل فيه رسالته، وأن كماله العرضي بأصحابه وأمته إذ جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
وفي الآية محسن الاستخدام التقديري لأن سوق الإبطال بطريق القصر بقوله: {هُوَ الْأَبْتَرُ} نفي وصل الأبتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بمعنى غير المعنى الذي عناه شانئه
ـــــــ
1 كذا في طبعة "جمهرة ابن حزم". وقال ياقوت: الرهط موبضع في شعر هذيل.
وأقول : لعله تحريف راهط وراهط موضع بغوطة دمشق.

فهو استخدام ينشأ من صيغة القصر بناء على أن ليس الاستخدام منحصر في استعمال الضمير في غير معنى معاده، على ما حققه أستاذنا العلامة سال أبو حاجب وجعله وجها في واو العطف من قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر: 22] لأن العطف بمعنى إعادة العامل فكأنه قال: وجاء الملك، وهو مجيء مغاير لمعنى مجيء الله تعالى، قال وقد سبقنا الخفاجي إلى ذلك إذ أجراه في حرف الاستثناء في "طراز المجالس" في قول محمد الصالحي من شعراء الشام:
وحديث حبي ليس بال ... منسوخ إلا في الدفاتر
والشانئ: المبغض وهو فاعل من الشناءة وهي البغض ويقال فيه: الشنآن، وهو يشمل كل مبغض له من أهل الكفر فكلهم بتر من الخير ما دام فيه شنآن للنبي صلى الله عليه وسلم فأما من أسلموا منهم فقد أنقلب بعضهم محبة له واعتزازا به.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكافرونعنونت هذه السورة في المصاحف التي بأيدينا قديمها وحديثها وفي معظم التفاسير "سورة الكافرون" بإضافة "سورة" إلى {الْكَافِرُونَ} وثبوت واو الرفع في {الْكَافِرُونَ} على حكاية لفظ القرآن الواقع في أولها.
ووقع في "الكشاف" و"تفسير ابن عطية" و"حرز الأماني" "سورة الكافرون" بياء الخفض في لفظ {الْكَافِرُونَ} بإضافة "سورة" إليه أن المراد سورة ذكر الكافرين، أو نداء الكافرين، وعنونها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].
قال في "الكشاف" و"الإتقان": وتسمى هي وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بالمشققشتين لأنهما تشقشقان من الشرك أي تبرئان منه يقال: قشقش، إذ أزال المرض.
وتسمى أيضا سورة الإخلاص فيكون هذان الاسمان مشتركين بينها وبين سورة قل هو الله أحد.
وقد ذكر في سورة براءة أن سورة براءة تسمى المقشقشة لأنها تقشقش، أي تبرئ من النفاق فيكون هذا مشتركا بين السور الثلاث فيحتاج إلى التمييز.
وقال سعد الله المعروف بسعدي عن "جمال القراء" أنها تسمى سورة العبادة وفي "بصائر ذوي التمييز" للفيروز آبادي تسمى "سورة الدين".
وهي مكية بالاتفاق في حكاية ابن عطية وابن كثير، وروي عن ابن الزبير أنها مدنية.
وقد عدت الثامنة عشرة في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الماعون وقبل سورة الفيل.
وعدد آياتها ست.

أغراضها
وسبب نزولها فيما حكاه الواحدي في أسباب النزول وابن إسحاق في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف في الكعبة فاعترضه الأسود بن المطلب بن أسد، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل. وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد سنة وتعبد ما نعبد سنة فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظه منا وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه فقال: "معاذ الله أن أشرك به غيره" ، فأنزل الله فيهم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} السورة كلها فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقرأها عليهم فيئسوا منه عند ذلك وإنما عرضوا عليه ذلك لأنهم رأوا حرصه على أن يؤمنوا فطمعوا أن يستزلوه إلى الاعتراف بإلهية أصنامهم.
وعن ابن عباس: فيئسوا منه وآذوه وآذوا أصحابه.
وبهذا يعلم الغرض الذي اشتملت عليه وأنه تأييسهم من أن يوافقهم في شيء مما هم عليه من الكفر بالقول الفصل المؤكد في الحال والاستقبال وأن دين الإسلام لا يخالط شيئا من دين الشرك.
[1-3] {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} .
افتتاحها ب {قل} للاهتمام بما بعد القول بأنه كلام يراد إبلاغه إلى الناس بوجه خاص منصوص فيه على أنه مرسل بقول يبلغه وإلا فإن القرآن كله مأمور بإبلاغه، ولهذه الآية نظائر في القرآن مفتتحة بالأمر بالقول في غير جواب عن سؤال منها {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} في [سورة الجمعة:6]. والسور المفتتحة بالأمر بالقول خمس سور: {قُلْ أُوحِيَ} [الجن: 1]، وسورة الكافرون، وسورة الإخلاص، والمعوذتان، فالثلاث الأول لقول يبلغه، والمعوذتان لقول يقوله لتعويذ نفسه.
والنداء موجه للأربعة الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، كما في خبر سبب النزول وذلك الذي يقتضيه قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} كما سيأتي.
وابتدئ خطابهم بالنداء لإبلاغهم، لأن النداء يستدعي إقبال أذهانهم على ما سيلقي

عليهم.
ونودوا بوصف الكافرين تحقيرا لهم وتأييدا لوجه التبرؤ منهم وإيذانا بأنه لا يخشاهم إذا ناداهم بما يكرهون مما يثير غضبهم لأن الله كفاه إياهم وعصمه من أذاهم. قال القرطبي: قال أبو بكر بن الأنباري: إن المعنى: قل للذين كفروا يا أيها الكافرون أن يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم: يا أيها الكافرون وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر.
فقوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إخبار عن نفسه بما حصل منها.
والمعنى: لا تحصل مني عبادتي ما تعبدون في أزمنة في المستقبل تحقيقا لأن المضارع يحتمل الحال والاستقبال فإذا دخل عليه "لا" النافية أفادت انتفاءه في أزمنة المستقبل كما درج عليه في "الكشاف"، وهو قول جمهور أهل العربية. ومن أجل ذلك كان حرف "لن" مفيدا تأكيد النفي في المستقبل زيادة على منطلق النفي، ولذلك قال الخليل: أصل "لن": لا أن، فلما أقادت "لا" وحدها نفي المستقبل كان تقدير "أن" بعد "لا" مفيدا تأكيد ذلك النفي في المستقبل فمن أجل ذلك قالوا أن "لن" تفيد تأكيد النفي في المستقبل فعلمنا أن "لا" كانت مفيدة نفي الفعل في المستقبل. وخالفهم ابن مالك كما في "مغني اللبيب"، وأبو حيان كما قال في هذه السورة، والسهيلي عند كلامه على نزول هذه السورة في "الروض الآنف".
ونفي عبادته آلهتهم في المستقبل يفيد نفي أن يعبدها في الحال بدلالة فحوى الخطاب، ولأنهم ما عرضوا عليه إلا أن يعبد آلهتهم بعد سنة مستقبلة.
ولذلك جاء في جانب نفي عبادتهم لله بنفي اسم الفاعل الذي هو حقيقة في الحال بقوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ، أي ما أنتم بمغيرين إشراككم الآن لأنهم عرضوا عليه لأن يبتدئوا هم فهم يعبدوا الرب الذي يعبده النبي صلى الله عليه وسلم سنة. وبهذا تعلم وجه المخالفة بين نظم الجملتين في أسلوب الاستعمال البليغ.
وهذا أخباره إياهم بأنه يعلم إنهم غير فاعلين ذلك من الآن بإنباء الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، بذلك فكان قوله هذا من دلائل نبوءته نضير قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] فإن أولئك النفر بأربعة لم يسلم منهم أحد فماتوا على شركهم.
وما صدق {مَا أَعْبُدُ} هو الله تعالى وعبر بـ"ما" الموصولة لأنها موضوعة للعاقل وغيره من المختار وإنما تختص بـ"من" بالعاقل، فلا مانع من إطلاق "ما" على العاقل إذا

كان اللبس مأمونا. وقال السهيلي في "الروض الآنف": أن "ما" الموصولة يؤتى بها لقصد الإبهام لتفيد المبالغة في التفخيم كقول العرب: سبحان ما سبح الرعد بحمده، وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} كما تقدم في [سورة الشمس: 5].
[4] {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} .
عطف على {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] عطف الجملة على الجملة لمناسبة نفي أن يعبدوا الله فأردف بنفي أن يعبد هو آلهتهم، وعطفه بالواو صارف عن أن يكون المقصود به تأكيد {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فجاء به على طريقة {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} بالجملة الاسمية. للدلالة على الثبات، ويكون الخبر اسم فاعل دالا على زمان لحال، فلما نفى عن نفسه أن يعبد في المستقبل ما يعبدونه بقوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} كما تقدم آنفا، صرح هنا بما تقتضيه دلالة الفحوى على نفي أن يعبد آلهتهم في الحال، بما هو صريح الدلالة على ذلك لأن المقام يقتضي مزيد البيان، فاقتضى الاعتماد على دلالة المنطوق إطنابا في الكلام، لتأييسهم مما راودوه عليه ولمقابلة كلامهم المردود بمثله في إفادة الثبات. وحصل من ذلك تقرير المعنى السابق وتأكيده، تبعا لمدلول الجملة لا لموقعها، لأن موقعها أنها عطف على جملة {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وليس توكيدا لجملة {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} بمرادفها لأن التوكيد للفظ بالمرادف لا يعرف إلا في المفردات ولأن وجود الواو يعين أنها معطوفة إذ ليس في جملة {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} واو حتى يكون الواو في هذه الجملة مؤكدا لها.
ولا يجوز الفصل بين الجملتين بالواو لأن الواو لا يفصل بها بين الجملتين في التوكيد اللفظي. والأجود الفصل بـ"ثم" كما في "التسهيل" مقتصرا على "ثم". وزاد الرضي الفاء ولم يأتي له بشاهد ولكنه قال وقد تكون "ثم" والفاء لمجرد التدرج في الارتقاء وإن لم يكن المعطوف مترتبا في الذكر على المعطوف عليه وذلك إذا تكرر الأول بلفظه نحو: بالله، فالله، ونحو والله ثم والله.
وجيء بالفعل الماضي في قوله: {مَا عَبَدْتُمْ} للدلالة على رسوخهم في عبادة الأصنام من أزمان مضت، وفيه رمز إلى تنزهه صلى الله عليه وسلم من عبادة الأصنام من سالف الزمان وإلا لقال: ولا أنا عابد ما كنا نعبد.
[5] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}

عطف على جملة {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون:4] لبيان تمام الاختلاف لبيان حالهم وحاله وإخبار بأنهم لا يعبدون الله إخبارا ثانيا تنبيها على أن الله أعلمه بأنهم لا يعبدون الله، وتقوية لدلالة هذين الإخبار عن نبوءته صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عنهم بذلك فمات أولئك كلهم على الكفر وكانت هذه السورة من دلائل النبوة.
وقد حصل من ذكر هذه الجملة بمثل نظيرتها السابقة توكيد للجملة السابقة توكيدا للمعنى الأصلي منها، وليس موقعها موقع التوكيد لوجود واو العطف كما علمت آنفا في قوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} .
ولذلك فالواو في قوله هنا {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} عاطفة جملة على جملة لأجل ما اقتضته جملة {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} من المناسبة.
ويجوز أن تكون جملة {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} تأكيدا لفظيا لنظيرتها السابقة بتمامها بما فيها من واو العطف في نظيرتها السابقة وتكون جملة {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} معترضة بين التأكيد والمؤكد.
والمقصود من التأكيد تحقيق تكذيبهم في عرضهم أنهم يعبدون رب محمد صلى الله عليه وسلم.
[6] {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} .
تذييل وفذلكة للكلام السابق بما فيه من التأكيدات، وقد أرسل هذا الكلام إرسال المثل وهو أجمع وأوجز من قول قيس بن الخطيم:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
ووقع في "تفسير الفخر" هنا جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة وذلك غير جائز لأن تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه ثم يعمل بموجبه اه.
وهذا كلام غير محرر لأن التمثل به لا ينافي العمل بموجبه وما التمثل به إلا من تمام بلاغته واستعداد للعمل به. وهذا المقدار من التفسير تركه الفخر في المسودة.
وقدم في كلتا الجملتين المسند على المسند إليه ليفيد قصر المسند إليه على المسند، أي دينكم مقصور على الكون بأنه لكم لا يتجاوزكم إلى الكون لي، وديني مقصور على الكون بأنه لا يتجاوزني إلى كونه لكم، أي لأنهم محقق عدم إسلامهم. فالقصر قصر أفراد، واللام في الموضعين لشبه الملك وهو الاختصاص أو الاستحقاق.

والدين: العقيدة والملة، وهو معلومات وعقائد يعتقدها المرء فتجري أعماله على مقتضاها، فلذلك سمي دينا لأن أصل معنى الدين المعاملة والجزاء.
وقرأ الجمهور {دين} بدون ياء بعد النون على أن ياء المتكلم محذوفة للتخفيف مع بقاء الكسرة على النون. وقرأه يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف. وقد كتبت هذه الكلمة في المصحف بدون ياء اعتمادا على حفظ الحفاظ لأن الذي يثبت الياء مثل يعقوب يشبع الكسرة إذ ليست الياء إلا مدة للكسرة فعدم رسمها في الخط لا يقتضي إسقاطها في اللفظ.
وقرأ نافع والبزي عن أبن كثير وهشام عن أبي عامر وحفص عن عاصم بفتح الياء في قوله: {ولي} . وقرأه قنبل عن ابن كثير واب ذكوان عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب وخلف بسكون الياء.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النصرسميت هذه السورة في كلام السلف "سورة إذا جاء نصر الله والفتح". روى البخاري إن عائشة قالت: "لما نزلت سورة إذا جاء نصر الله والفتح" الحديث.
وسميت في المصاحف وفي معظم التفاسير "سورة النصر" لذكر نصر الله فيها، فسميت بالنصر المعهود عهدا ذكريا.
وهي معنونة في "جامع الترمذي" "سورة الفتح" لوقوع هذا اللفظ فيها فيكون هذا الاسم مشتركا بينها وبين {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} .
وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع في "الإتقان" لما فيها من الإيماء إلى وداعه صلى الله عليه وسلم اهـ. يعني من الإشارة إلى اقتراب لحاقه بالرفيق الأعلى كما سيأتي عن عائشة.
وهي مدنية بالاتفاق. واختلف في وقت نزولها فقيل نزلت منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر أي في سنة سبع ، ويؤيده ما رواه الطبري والطبراني عن ابن عباس بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء نصر أهل اليمن" فقال رجل: يا رسول الله وما أهل اليمن? قال: "قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية" اهـ، ومجيء أهل اليمن أول مرة هو مجيء وفد الأشعريين عام غزوة خيبر.
ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالفتح في الآية هو فتح مكة وعليه فالفتح مستقبل دخول الناس في الدين أفواجا مستقبل أيضا وهو الأليق باستعمال إذا ويحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم جاء نصر الله والفتح على أنه استعمال الماضي في معنى المضارع

لتحقق وقوعه أو لأن النصر في خيبر كان بادرة لفتح مكة.
وعن قتادة: نزلت قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين. وقال الواحدي عن ابن عباس نزلت منصرفه من حنين ، فيكون الفتح قد مضى ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبلا، وهو في سنة الوفود سنة تسع، وعليه تكون "إذا" مستعملة في مجرد التوقيت دون تعيين.
وروى البزاز والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر أنها أنزلت أواسط أيام التشريق أي عام حجة الوداع. وضعفه ابن رجب بأن فيه موسى ابن عبيدة وهو ضعيف. وقال أحمد بن حنبل: لا تحل الرواية عنه وإن صحت هذه الرواية كان الفتح ودخول الناس في الدين أفواجا قد مضيا.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها نحو ثلاثة أشهر وعليه تكون “إذا” مستعملة للزمن الماضي لأن الفتح ودخول الناس في الدين قد وقعا.
وقد تظافرت الأخبار رواية وتأويلا أن هذه السورة تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في ذلك ما يرجح أحد الأقوال في وقت نزولها إذ لا خلاف في أن هذا الإيماء يشير إلى توقيت مجيء النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا فإذا حصل ذلك حان الأجل الشريف.
وفي حديث ابن عباس في صحيح البخاري، هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3].
وفي هذا ما يؤول ما في بعض الأخبار من إشارة إلى اقتراب ذلك الأجل مثل ما في حديث ابن عباس عند البيهقي في دلائل النبوة والدارمي وابن مردويه لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال: "أنه قد نعيت إلى نفسي فبكت" الخ، فإن قوله لما نزلت مدرج من الراوي، وإنما هو إعلام لها في مرضه كما جاء في حديث الوفاة في الصحيحين فهذا جمع بين ما يلوح منه تعارض في هذا الشأن.
وعدها جابر بن زيد السورة المائة والثلاث في ترتيب نزول السور، وقال نزلت بعد سورة الحشر وقبل سورة النور. وهذا جار على رواية أنها نزلت عقب غزوة خيبر.
وعن ابن عباس أنها آخر سورة نزلت من القرآن فتكون على قوله السورة المائة وأربع عشرة نزلت بعد سورة براءة ولم تنزل بعدها سورة أخرى.

وعدد آياتها ثلاث وهي مساوية لسورة الكوثر في عدد الآيات إلا أنها أطول من سورة الكوثر عدة كلمات، وأقصر من سورة العصر. وهاته الثلاث متساوية في عدد الآيات. وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق السبعي في حديث طعن عمر بن الخطاب "رض" فصلى عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة بأقصر سورتين في القرآن {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1].
أغراضها
والغرض منها الوعد بنصر كامل من عند الله أو بفتح مكة، والبشارة بدخول خلائق كثيرة في الإسلام بفتح وبدونه إن كان نزولها عند منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر كما قال ابن أحد قوليه.
والإيماء إلى أنه حين يقع ذلك فقد اقترب انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآخرة.
ووعدوه بأن الله غفر له مغفرة تامة لا مؤاخذة عليه بعدها في شيء مما يختلج في نفسه الخوف أن يكون منه تقصير يقتضيه تحديد القوة الإنسانية الحد الذي لا يفي بما تطلبه همته الملكية بحيث يكون قد ساوى الحد الملكي الذي وصفه الله تعالى في الملائكة بقوله: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الانبياء:20].
[1-3] {ذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} .
{إذا} اسم زمان مبهم يتعين مقداره بمضمون جملة يضاف إليها هو. ف {إذا} اسم زمان مطلق، فقد يستعمل للزمن المستقبل غالبا. ولذلك يضمن معنى الشرط غالبا، ويكون الفعل الذي تضاف إليه بصيغة الماضي غالبا لإفادة التحقق، وقد يكون مضارعا كقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29].
ويستعمل في الزمن الماضي وحينئذ يتعين أن تقع الجملة بعده بصيغة الماضي، ولا تضمن {إذا} معنى الشرط حينئذ وإنما هي لمجرد الإخبار دون قصد تعليق نحو {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11].

و {إذا} هنا مضمنة الشرط لا محالة لوجود الفاء بقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وقضية الاستقبال وعدمه تقدمت.
والنصر: الإعانة على العدو. ونصر الله يعقبه التغلب على العدو. و { الفتح} : امتلاك بلد العدو وأرضه لأنه يكون بفتح باب البلد كقوله تعالى: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة: 23]، ويكون باقتحام ثغور الأرض ومحارسها فقد كانوا ينزلون بالأرضين التي لها شعاب وثغور قال لبيد:
وأجن عورات الثغور ظلامها
وقد فتح المسلمون خيبر قبل نزول هذه الآية فتعين أن الفتح المذكور فيها فتح آخر وهو فتح مكة كما يشعر به التعريف بلام العهد،وهو المعهود في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح: 1-3].
فإضافة {نصر} إلى {الله} تشعر بتعظيم هذا النصر وأنه نصر عزيز خارق للعادة اعتنى الله بإيجاد أسبابه ولم تجر على متعارف تولد الحوادث عن أمثالها.
و {جاء} مستعمل في معنى: حصل وتحقق مجازا.
والتعريف في {الفتح} للعهد وقد وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم به غير مرة من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:27]. وهذه الآية نزلت عام الحديبية وذلك قبل نزول سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على جميع الأقوال.
وقد اتفقت أقوال المفسرين من السلف فمن بعدهم على أن الفتح المذكور في هذه السورة هو فتح مكة إلا رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هو فتح المدائن والقصور، يعني الحصون. وقد كان فتح مكة يخالج نفوس العرب كلهم فالمسلمون كانوا يرجونه ويعلمون ما أشار به القرآن من الوعد وأهل مكة يتوقعونه وبقية العرب ينتظرون ماذا يكون الحال بين أهل مكة وبين النبي صلى الله عليه وسلم ويتلومون بدخولهم في الإسلام فتح مكة يقولون: إن ظهر محمد على قومه فهو نبي. وتكرر أن صد بعضهم بعضا ممن يريد اتباع الإسلام، عن الدخول فيه وإنظاره إلى ما سيظهر من غلب الإسلام أو غلب الشرك.

أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي.
وعن الحسن: لما فتحت مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا: أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس لنا به يدان فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا. فعلى قول الجمهور في أن الفتح هو فتح مكة يستقيم أن تكون هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر وهو قول الأكثرين في وقت نزولها.
ويحتمل على قول القائلين بأنها نزلت عقب غزوة حنين أن يكون الفتح قد مضى ويكون التعليق على مجموع فتح مكة ومجيء نصر من الله آخر ودخول الناس في الإسلام وذلك بما فتح عليه بعد ذلك ودخول العرب كلهم في الإسلام سنة الوفود.
وعلى ما روي عن ابن عمر إنها نزلت في حجة الوداع يكون تعليق جملة فسبح بحمد ربك على الشرط الماضي مرادا به التذكير بأنه حصل، أي إذا تحقق ما وعدناك به من النصر والفتح وعموم الإسلام بلاد العرب {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، وهو مراد من قال من المفسرين "إذا" بمعنى "قد"، فهو تفسير حاصل المعنى، وليست "إذا" مما يأتي بمعنى "قد".
والرؤية في قوله: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ} يجوز أن تكون عملية، أي وعلمت علم اليقين أن الناس يدخلون في دين الله أفواجا وذلك بالأخبار الواردة من آفاق بلاد العرب ومواطن قبائلهم وبمن يحضر من وفودهم. فيكون جملة {يَدْخُلُونَ} في محل المفعول الثاني لـ {رأيت} .
ويجوز أن تكون رؤية بصرية بأن رأى أفواج وفود العرب يردون إلى المدينة يدخلون في الإسلام وذلك سنة تسع، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ببصره ما علم منه دخولهم كلهم في الإسلام بمن حضر معه الموقف في حجة الوداع فقد كانوا مائة ألف من مختلف قبائل العرب فتكون جملة {يَدْخُلُونَ} في موضع الحال من الناس.
و {دِينِ اللَّهِ} هو الإسلام لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران:19] وقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
والدخول في الدين: مستعار للنطق بكلمة الشهادة والتزام أحكام الدين الناشئة عن

تلك الشهادة. فشبه الدين ببيت أو حظيرة على طريقة المكنية ورمز إليه بما هو من لوازم المشبه به وهو الدخول على تشبيه التلبس بالدين بتلبس المظروف بالظرف، ففيه استعارة أخرى تصريحية.
والناس: اسم جمع يدل على جماعة من الآدميين، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} في [سورة البقرة:8]. وإذا عرف اسم ناس باللام احتملت العهد نحو {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ} [آل عمران: 173]، واحتملت الجنس نحو {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]، واحتملت الاستغراق نحو {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} [البقرة:8]، ونحو {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1].
والتعريف في هذه الآية للاستغراق العرفي، أي جميع الناس الذين يخطرون بالبال لعدم إرادة معهودين معينين ولاستحالة دخول كل إنسان في دين الله بدليل المشاهدة، فالمعنى: ورأيت ناسا كثيرين أو رأيت العرب.
قال ابن عطية: قال أبو عمر بن عبد البر النمري رحمه الله في كتاب الاستيعاب في باب خراش الهذلي: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر بل دخل الكل في الإسلام بعد حين والطائف، منهم من قدم ومنهم من قدم وافده اه. وإنما يراد عرب الحجاز ونجد واليمن لأن من عرب الشام والعراق من لم يدخلوا في الإسلام، وهم: تغلب وغسان في مشارف الشام، وكذلك لخم وكلب من العراق فهؤلاء كانوا نصارى ولم يسلم من أسلم منهم إلا بعد فتح الشام والعراق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون في دين الله رؤية بصرية.
ويجوز أن يكون الله أعلمه بذلك أن جعلن الرؤية علمية.
والأفواج: جمع فوج وهو الجماعة الكثيرة، وتقدم عند قوله تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} في [سورة ص: 59]، أي يدخلون في الإسلام، وانتصب {أفواجا} على الحال من ضمير {يَدْخُلُونَ} .
وجملة {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} جواب {إذا} باعتبار ما تضمنته من معنى الشرط، وفعل {فسبح} هو العامل في {إذا} النصب على الظرفية، والفاء رابطة للجواب لأنه فعل إنشاء.
وقرن التسبيح بالحمد بباء المصاحبة المقتضية أن التسبيح لاحق للحمد لأن باء

المصاحبة بمعنى "مع" فهي مثل "مع" في إنها تدخل على المتبوع فكان حمد الله على حصول النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام شيئا مفروغا منه لا يحتاج إلى الأمر بإيقاعه لأن شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قد فعله، وإنما يحتاج إلى تذكيره بتسبيح خاص لم يحصل من قبل في تسبيحاته وباستغفار خاص لم يحصل من قبل في استغفاره.
ويجوز أن يكون التسبيح المأمور به تسبيح ابتهاج وتعجب من تيسير الله تعالى له ما لا يخطر ببال أحد أن يتم له ذلك، فإن سبحان الله ونحوه يستعمل في التعجب كقول الأعشى:
قد قلت لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
وفي تقديم الأمر بالتسبيح والحمد على الأمر بالاستغفار تمهيد لإجابة استغفاره على عادة العرب في تقديم الثناء قبل سؤال الحاجة كما قال ابن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخلو عن تسبيح الله فأريد تسبيح يقارن الحمد على ما أعطيه من النصر والفتح ودخول الأمة في الإسلام.
وعطف الأمر باستغفار الله تعالى على الأمر بالتسبيح مع الحمد يقتضي أنه من حيز جواب {إذا} ، وأنه استغفار يحصل مع الحمد مثل ما قرر في {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، فيدل على أنه استغفار خاص لأن الاستغفار الذي يعم طلب غفران التقصير ونحوه مأمور به من قبل وهو من شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال "إنه ليعان على قلبي فاستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة" فكان تعليق الأمر بالتسبيح وبالاستغفار على حصول النصر والفتح إيماء إلى تسبيح واستغفار يحصل بهما تقرب لم ينو من قبل? وهو التهيؤ للقاء الله، وأن حياته الدنيوية أوشكت على الانتهاء، وانتهاء أعمال الطاعات والقربات التي تزيد النبي صلى الله عليه وسلم في رفع درجاته عند ربه فلم يبق إلا أن يسأل ربه التجاوز عما يعرض له من اشتغال ببعض الحظوظ الضرورية للحياة أو من اشتغال بمهم من أحوال الأمة يفوته بسببه أمر آخر هو أهم منه، مثل فداء أسرى بدر مع فوات مصلحة استئصالهم الذي هو أصلح للأمة فعوتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال:67] الآية، أو من ضرورات الإنسان كالنوم والطعام التي تنقص من حالة شبهه بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فكان هذا إيذانا باقتراب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بانتقاله من حياة تحمل أعباء الرسالة إلى حياة أبدية في العلويات الملكية.

والكلام من قبيل الكناية الرمزية وهي لا تنافي إرادة المعنى الصريح بأن يحمل الأمر بالتسبيح والاستغفار على معنى الإكثار من قول ذلك. وقد دل ذوق الكلام بعض ذوي الأفهام النافذة من الصحابة على هذا المعنى وغاصت عليه مثل أبي بكر وعمر والعباس وابنه عبد الله وابن مسعود، فعن مقاتل لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ففرحوا واستبشروا وبكى العباس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا عم?" قال: نعيت إليك نفسك. فقال: "إنه لكما تقول" . وفي رواية نزلت في منى فبكى عمر والعباس فقيل لهما، فقالا: فيه نعي رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدقتما نعيت إلي نفسي" .
وفي صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فوجد بعضهم من ذلك، فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم. قال: فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقالوا: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقال: ما تقول يابن عباس? قلت: ليس كذلك ولكن أخبر الله نبيه حضور أجله فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} . فذلك علامة موتك? فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول فهذا فهم عمر والعباس وعبد الله ابنه.
وقال في "الكشاف": روي أنه لما نزلت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله عز وجل. فعلم أبو بكر فقال: فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا اه.
قال ابن حجر في "تخريج أحاديث الكشاف": الحديث متفق عليه إلا صدره دون أوله من كونه كان عند نزول السورة اه. ويحتمل أن يكون بكاء أبي بكر تكرر مرتين أولاهما عند نزول سورة النصر كما في رواية "الكشاف" والثانية عند خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه.
وعن ابن مسعود أن هذه السورة تسمى سورة التوديع أي لأنهم علموا أنها إيذان بقرب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتقديم التسبيح والحمد على الاستغفار لأن التسبيح راجع إلى وصف الله تعالى بالتنزه عن النقص وهو يجمع صفات السلب، فالتسبيح متمحض لجانب الله تعالى، ولأن الحمد ثناء على الله لإنعامه، وهو أداء العبد ما يجب عليه الشكر المنعم فهو مستلزم إثبات صفات الكمال لله التي هي منشأ إنعامه على عبده فهو جامع بين جانب الله وحظ العبد، وأما الاستغفار فهو حظ للعبد وحده لأنه طلبه الله أن يعفو عما يؤاخذه عليه.

ومقتضى الظاهر أن يقول: فسبح بحمده، لتقدم اسم الجلالة في قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} فعدل على الضمير إلى الاسم الظاهر وهو ربك لما في صفة "رب" وإضافتها إلى ضمير المخاطب من الإيماء إلى أن من حكمة ذلك النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام نعمة أنعم الله بها عليه إذا حصل هذا الخير الجليل بواسطته فذلك تكريم له وعناية به وهو شأن تلطف الرب بالمربوب، لأن معناه السيادة المرفوقة بالرفق والإبلاغ إلى الكمال.
وقد انتهى الكلام عند قوله: {وَاسْتَغْفِرْهُ} . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في قراءته يقف عند {وَاسْتَغْفِرْهُ} ثم يكمل السورة.
[3] {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} .
تذييل للكلام السابق كله وتعليل لما يقتضي التعليل فيه من الأمر باستغفار ربه باعتبار الصريح من الكلام السابق كما سيتبين لك.
وتواب: مثال مبالغة من تاب عليه. وفعل تاب المتعدي بحرف "على" يطلق بمعنى وفق للتوبة، أثبته في اللسان والقاموس، وهذا الإطلاق خاص بما أسند إلى الله.
وقد اشتملت الجملة على أربع مؤكدات هي: أن، وكان، وصيغة المبالغة في التواب، وتنوين التعظيم فيه.
وحيث كان التوكيد بـ"إن" هنا غير مقصود به رد إنكار ولا إزالة تردد إذ لا يفرضان في جانب المخاطب صلى الله عليه وسلم، فقد تمخض "إن" لإفادة الاهتمام الخبر بتأكيده. وقد تقرر أن من شأن "إن" إذا جاءت على هذا الوجه أن تغني غناء فاء الترتيب والتسبب وتفيد التعليل وربط الكلام بما قبله كما تفيده الفاء، وقد تقدم غير مرة، منها عند قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} في [سورة البقرة:32]، فالمعنى: هو شديد القبول لتوبة عباده كثير قبوله إياها.
وإذ قد كان الكلام تذييلا وتعليلا للكلام السابق تعين أن حذف متعلق {تَوَّابًا} يقدر بنحو: على التائبين. وهذا المقدار مراد به العموم، وهو عموم مخصوص بالمشيئة تخصصه أدلة وصف الربوبية، ولما ذكر دليل العموم عقب أمره بالاستغفار أفاد انه إذا استغفره غفر له دلالة تقتضيها مستتبعات التراكيب، فأفادت هذه لجملة تعليل الأمر بالاستغفار لأن الاستغفار طلب الغفر، فالطالب يترقب إجابة طلبه، وأما ما في الجملة من الأمر بالتسبيح

والحمد فلا يحتاج إلى تعليل لأنهما إنشاء تنزيه وثناء على الله.
ومن وراء ذلك أفادت الجملة إشارة إلى وعد بحسن القبول عند الله تعالى حينما يقدم على العالم القدسي، وهذا معنى كنائي لأن من عرف بكثرة قبول توبة التائبين شأنه أن يكرم وفادة الوافدين الذين سعوا جهودهم في مرضاته بمنتهى الاستطاعة، أو هو مجاز بعلاقة اللزوم العرفي لأن منتهى ما يخافه الأحبة عند اللقاء مرارة العتاب، فالإخبار بأنه تواب اقتضى أنه لا يخاف عتابا.
فهذه الجملة بمدلولها الصريح ومدلولها الكنائي أو المجازي ومستتبعاتها تعليل لما تضمنته الجملة التي قبلها من معنى صريح أو كنائي يناسبه التعليل بالتسبيح والحمد باعتبارهما تمهيدا للأمر بالاستغفار كما تقدم آنفا لا يحتاجان إلى التعليل، أو يغني تعليل الممهد له بهما عن تعليلهما ولكنهما باعتبار كونهما رمزا إلى مداناة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون ما في قوله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} من الوعد بحسن القبول تعليلا لمدلولهما الكنائي، وأما الأمر بالاستغفار فمناسبة التعليل له بقوله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} ناهضة باعتبار كلتا دلالتيه الصريحة والكنائية، أي أنه متقبل استغفارك ومتقبلك بأحسن قبول، شأن من عهد من الصفح والتكرم.
وفعل {كان} هنا مستعمل في لازم معنى الاتصاف بالوصف في الزمن الماضي. وهو أن هذا الوصف ذاتي له لا يتخلف معموله عن عباده فقد دل استقراء القرآن على إخبار الله عن نفسه بذلك من مبدأ الخليقة قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37].
ومقتضى الظاهر أن يقال: إنه كان غفارا، كما في آية {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10] فيجري الوصف على ما يناسب قوله: {وَاسْتَغْفِرْهُ} ، فعدل عن ذلك تلطفا مع النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمره بالاستغفار ليس مقتضيا إثبات ذنب له لما علمت آنفا من أن وصف {تواب} جاء من تاب عليه الذي يستعمل بمعنى وفقه للتوبة إيماء إلى أن أمره بالاستغفار إرشاد إلى مقام التأدب مع الله تعالى، فإنه لا يسأل عما يفعل بعباده، لولا تفضله بما بين لهم من مراده، ولأن وصف {تواب} أشد ملائمة لإقامة الفاصلة مع فاصلة {أفواجا} لأن حرف الجيم وحرف الباء كليهما حرف من الحروف الموصوفة بالشدة، بخلاف حرف الراء فهو من الحروف التي صفتها بين الشدة والرخوة.
وروي في "الصحيح" عن عائشة قالت ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت

عليه سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول: "سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن أي يتأول الأمر في قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} على ظاهره كما تأوله في مقام آخر على معنى اقتراب أجله صلى الله عليه وسلم.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المسدسميت هذه السورة في أكثر المصاحف "سورة تبت" وكذلك عنونها الترمذي في "جامعه" وفي أكثر كتب التفسير، تسمية لها بأول كلمة فيها.
وسميت في بعض المصاحف وفي بعض التفاسير "سورة المسد". واقتصر في "الإتقان" على هذين.
وسماها جمع من المفسرين "سورة أبي لهب" على تقدير: سورة ذكر أبي لهب. وعنونها أبو حيان في "تفسيره" "سورة اللهب" ولم أره لغيره.
وعنونها ابن العربي في "أحكام القرآن" سورة ما كان من أبي لهب وهو عنوان وليس باسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت السادسة من السور نزولا، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة التكوير.
وعدد آيها خمس.
روي أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة. وسبب نزولها على ما في "الصحيحين" عن ابن عباس قال صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا فنادى "يا صباحاه" كلمة ينادى بها للإنذار من عدو يصبح القوم فاجتمعت إليه قريش فقال: "إني نذير لكم من يدي عذاب شديد أرأيتم لو أني أخبرتكم أن العدو ممسيكم أو مصبحكم أكنتم تصدقوني? قالوا: ما جربنا عليك كذبا، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا? فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]. ووقع في الصحيحين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وقومك منهم

المخلصين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا إلى آخر الحديث المتقدم.
ومعلوم أن آية {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} من [سورة الشعراء: 214]، وهي متأخرة النزول عن سورة تبت، وتأويل ذلك أن آية تشبه آية سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب لما رواه أبو أسامة يبلغ ابن عباس لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وقومك منهم المخلصين ولم يقل من سورة الشعراء خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فتعين أن آية سورة الشعراء تشبه صدر الآية التي نزلت قبل نزول سورة أبي لهب.
أغراضها
زجر أبي لهب على قوله تبت لك ألهذا جمعتنا? ووعيده على ذلك، ووعيد امرأته على انتصارها لزوجها، وبغضها النبي صلى الله عليه وسلم.
[1] {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .
افتتاح السورة بالتبات مشعر بأنها نزلت لتوبيخ ووعيد، فذلك براعة استهلال مثل ما تفتتح أشعار الهجاء بما يؤذن بالذم والشتم ومنه قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] إذ افتتحت السورة المشتملة على وعيد المطففين للفظ الويل ومن هذا القبيل قول عبد الرحمان بن الحكم من شعراء "الحماسة" :
لحا الله قيسا قيس عيلان إنها ... أضاعت ثغور المسلمين وولت
وقول أبي تمام في طالعة هجاء:
النار والعار والمكروه والعطب
ومنه أخذ أبو بكر بن الخازن قوله في طالع قصيدة هناء بمولد:
مجشري فقد أنجز الإقبال ما وعد
والتب: الخسران والهلاك، والكلام دعاء وتقريع لأبي لهب دافع الله به عن نبيه بمثال اللفظ الذي شتم به أبو لهب محمد صلى الله عليه وسلم جزاء وفاقا.
وإسناد التب إلى اليدين لما روي من أن أبا لهب لما قال للنبي تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا أخذ بيد حجرا ليرميه به. وروي عن طارق المحاربي قال بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا برجل حديث السن يقول: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله

تفلحوا، وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه ساقيه وعرقوبيه يقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت: من هذا? فقالوا: هذا محمد يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب، فوقع الدعاء على يديه لأنهما سبب أذا النبي صلى الله عليه وسلم كما يقال للذي يتكلم بمكروه بفيك الحجارة أو بفيك الكثكث.
وقول النابغة:
قعود الذي أبياتهم يثمدونهم ... رمى الله في تلك الأكف الكوانع
ويقال بضد ذلك للذي يقول كلاما حسنا: لافض فوك، وقال إعرابي من بني أسد:
دعوت لما نابني مسورا ... فلبى فلبي يدي مسور
لأنه دعاه لما نابه من العدو للنصر، والنصر يكون بعمل اليد بالضرب أو الطعن.
وأبو لهب: هو عبد العزى بن عبد المطلب وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو عيبة تكنية باسم ابنه، وأما كنيته بأبي لهب في الآية فقيل كان يكنى بذلك في الجاهلية لحسنه وإشراق وجهه وأنه اشتهر بتلك الكنية كما اقتضاه حديث طارق المحاربي، ومثله حديث عن ربيعة بن عباد الديلي في "مسند أحمد". فسماه القرآن بكنيته دون اسمه لأن في اسمه عبادة العزى، وذلك لا يقره القرآن، أو لأنه كان بكنيته أشهر منه باسمه العلم، أ، لأن في كنيته ما يتأتى به التوجيه بكونه صائرا إلى النار، وذلك كناية عن كونه جهنميا، لأن اللهب ألسنة النار إذا اشتعلت وزال عنها الدخان. والأب: يطلق على ملازم ما أضيف إليه كقولهم أبوها وكيالها وكما كني إبراهيم عليه السلام: أبا الضيفان وكنى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمان بن صخر الدوسي: أبا هريرة لأنه حمل هرة في كم قميصه، وكني شهر رمضان: أبا البركات، وكني الذئب: أبا جعدة والجعدة سخلة المعز لأنه يلازم طلبها لافتراسها، فكانت كنية أبي لهب صالحة موافقة لحاله من استحقاقه لهب جهنم فصار هذا التوجيه كناية عن كونه جهنميا لينتقل من جعل أبي لهب بمعنى ملازم اللهب إلى لازم تلك الملازمة في العرف، وهو من أهل جهنم وهو لزوم ادعائي مبني على التفاؤل بالأسماء ونحوها كما أشار إليه التفتزاني في مبحث العلمية من "شرح المفتاح" وأنشد قول الشاعر:
قصدت أبا المحاسن كي أراه ... لشوق كان يجذبني إليه
فلما أن رأيت رأيت فردا ... ولم أر من بنيه ابنا لديه
وقد يكون أبو لهب كنيته الحطب كما أنبأ عنه ما روي عن أبي هريرة أن ابنة أبي

لهب قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إن الناس يصيحون بي ويقولون إني ابنة حطب النار الحديث.
وقرأ الجمهور لفظ {لهب} بفتح الهاء، وقرأه ابن كثير بسكون الهاء، وهو لغة لأنهم كثيرا ما يسكنون عين الكلمة المتحركة مع الفاء، وقد يكون ذلك لأن {لهب} صار جزء علم والعرب قد يغيرون بعض حركات الاسم إذا نقلوه إلى العلمية كما قالوا: شمس بضم الشين. ولشمس بن مالك الشاعر الذي ذكره تأبط شرا في قوله:
إني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك
قال أبو الفتح بن جني في كتاب إعراب الحماسة يجوز أن يكون ضم الشين على وجه تغيير الأعلام نحو معد يكرب، وتهلك وموهب وغير ذلك مما غير على حال نظائره لأجل العلمية الحادثة فيه اه.
وكما قالوا: أبو سلمى بضم السين كنية والد زهير بن أبي سلمى لأنهم نقلوا اسم سلمى بفتح السين من أسماء النساء إلى جعله اسم رجل يكنى به لأنهم لا يكنون بأسماء النساء غالبا. ولذلك لم يسكن ابن كثير الهاء من قوله تعالى: {ذَاتَ لَهَبٍ} وقراءة ابن كثير قراءة أهل مكة فلعل أهل مكة اشتهرت بينهم كنية أبي لهب بسكون الهاء تحقيقا لكثرة دورانها على الألسنة في زمانه.
وجملة {وتب} إما معطوفة على جملة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} عطف الدعاء على الدعاء إذا كان إسناد التبات إلى اليدين لأنهما آلة الأذى بالرمي في الحجارة كما في خبر طارق المحاربي، فأعيد الدعاء على جميعه إغلاظا له في الشتم والتفريع، وتفيد بذلك تأكيدا لجملة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} لأنها بمعناها وإنما اختلفا في الكلية والجزئية، وذلك الاختلاف هو مقتضي عطفها، وإلا لكان التوكيد غير معطوف لأن التوكيد اللفظي لا يعطف بالواو كما تقدم في سورة الكافرون.
وإما أن تكون في موضع الحال، والواو واو الحال ولا تكون دعاء إنما هي تحقيق لحصول ما دعي عليه به كقول النابغة:
جزى ربه عني عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
فيكون الكلام قبله مستعملا في الذم والشماتة به أو لطلب الإزدياد، ويؤيد هذا الوجه قراءة عبد الله بن مسعود وقد تب فيتمحض الكلام قبله لمعنى الذم والتحقير دون

معنى طلب حصول التبات له، وذلك كقول عبد الله بن رواحة حين خروجه إلى غزوة مؤتة التي استشهد فيها:
حتى إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا
يعني ويقولوا: وقد رشدا، فيصير قوله: أرشدك الله من غاز لمجرد الثناء والغبطة بما حصله من الشهادة.
[2] {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} .
استئناف ابتدائي للانتقال من إنشاء الشتم والتوبيخ إلى الإعلام بأنه آيس من النجاة من هذا التبات، ولا يغنيه ماله، ولا كسبه، أي لا يغني عنه ذلك في دفع شيء عنه في الآخرة.
والتعبير بالماضي في قوله: {مَا أَغْنَى} لتحقيق وقوع عدم الإغناء.
و {مَا } نافية، ويجوز أن تكون استفهامية للتوبيخ والإنكار.
والمال: الممتلكات المتمولة، وغلب على العرب إطلاقه على الإبل، ومن كلام عمر لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله الخ في اتقاء دعوة المظلوم، من الموطأ، وقال زهير:
صحيحات مال طالعات بمخرم
وأهل المدينة وخيبر والبحرين يغلب عندهم على النخيل، وقد تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} في [سورة البقرة:29] وفي مواضع.
{وَمَا كَسَبَ} موصول وصلته والعائد محذوف جوازا لأنه ضمير نصب، والتقدير: وما كسبه، أي ما جمعه. والمراد به: ما يملكه من غير النعم من نقود وسلاح وربع وعروض وطعام، ويجوز أن يراد بماله: جميع ماله، ويكون عطف {وَمَا كَسَبَ} من ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به، أي ما أغنى عنه ماله التالد وهو ما ورثه عن أبيه عبد المطلب وما كسبه هو بنفسه وهو طريفه.
وروي عن ابن مسعود أن أبا لهب قال إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا افتدي نفسي يوم القيامة بمالي وولدي فأنزل الله {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} وقال ابن

عباس {مَا كَسَبَ} هو ولده فإن الولد من كسب أخيه.
[3] {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} .
بيان لجملة {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أي لا يغني عنه شيء من عذاب جهنم. ونزل هذا القرآن في حياة أبي لهب وقد مات بعد ذلك كافرا، فكانت هذه الآية إعلاما بأنه لا يسلم وكانت من دلائل النبوة.
والسين للتحقيق مثل قوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:98].
و"يصلى نارا" يشوى بها ويحس بإحراقها. وأصل الفعل: صلاه بالنار، إذا شواه ثم جاء منه صلي كأفعال الإحساس مثل فرح ومرض. ونصب "نارا" على نزع الخافض.
ووصف النار بـ {ذَاتَ لَهَبٍ} لزيادة تقرير المناسبة بين اسمه وبين كفره إذ هو أبو لهب والنار ذات لهب.
وهو ما تقدم الإيماء إليه بذكر كنيته كما قدمناه آنفا، وفي وصف النار بذلك زيادة كشف بحقيقة النار وهو مثل التأكيد.
وبين لفظي {لهب} الأول و {لهب} الثاني الجناس التام.
[4-5] {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} .
أعقب ذم أبي لهب ووعيده بمثل ذلك لامرأته لأنها كانت تشاركه في أذى النبي صلى الله عليه وسلم وتعينه عليه.
وامرأته: أي زوجه قال تعالى في قصة إبراهيم {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71] وفي قصة لوط {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ} [الأعراف:83]، وفي قصة يوسف {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:30].
وامرأة أبي لهب هي أم جميل، واسمها أروى بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان بن حرب، وقيل: اسمها العوراء، فقيل هو وصف وإنها كانت عوراء وقيل اسمها، وذكر بعضهم: إن اسمها العواء بهمزة بعد الواو.
وكانت أم جميل هذه تحمل حطب العضاه والشوك فتضعه في الليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يسلك منه إلى بيته ليعقر قدميه.

فلما حصل لأبي لهب وعيد مقتبس من كنيته جعل لامرأته وعيد مقتبس لفظه من فعلها وهو حمل الحطب في الدنيا، فأنذرت بأنها تحمل الحطب في جهنم ليوقد به على زوجها، وذلك خزي لها ولزوجها إذ جعل شدة عذابه على يد أحب الناس إليه، وجعلها سببا لعذاب أعز الناس عليها.
فقوله: {وَامْرَأَتُهُ} عطف على الضمير المستتر في {سَيَصْلَى} [المسد:3] أي وتصلى امرأته نارا.
وقوله: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} قرأه الجمهور برفع {حمالة} على أنه صفة لامرأته فيحتما أنها صفتها في جهنم ويحتمل أنها صفتها التي كانت تعمل في الدنيا بجلب حطب العضاه لتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التوجيه والإيماء إلى تعليل تعذيبها بذلك.
وقرأه عاصم بنصب {حمالة} على الحال من {امرأته} . وفيه من التوجيه والإيماء ما في قراءة الرفع.
وجملة {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} صفة ثانية أو حال ثانية وذلك إخبار بما تعامل به في الآخرة، أي يجعل لها حبل في عنقها تحمل فيه الحطب في جهنم لإسعار النار على زوجها جزاء مماثلا لعملها في الدنيا الذي أغضب الله تعالى عليها.
والجيد: العنق، وغلب في الاستعمال على عنق المرأة وعلى محل القلادة منه فقل أن يذكر العنق في وصف النساء في الشعر العربي إلا إذا كان عنقا موصوفا بالحسن وقد جمعهما امرئ القيس في قوله:
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل
قال السهيلي في الروض: والمعروف أن يذكر العنق إذا ذكر الحلي أو الحسن فإنما حسن هنا ذكر الجيد في حكم البلاغة لأنها امرأة والنساء تحلي أجيادهن وأم جميل لا حلي لها في الآخرة إلا الحبل المجعول في عنقها فلما أقيم لها ذلك مقام الحلي ذكر الجيد معه ، ألا ترى إلى قول الأعشى:
يوم تبدي لنا قتيلة عن جي ... د أسيل تزينه الأطواق
ولم يقل عن عنق، وقول الآخر:
وأحسن من عقد المليحة جيدها

ولم يقل عنقها ولو قال لكان غثا من الكلام. اه.
قلت: وأما قول المعري:
الحجل للرجل والتاج المنيف لما ... فوق الحجاج وعقد الدر للعنق
فإنما حسنه ما بين العقد والعنق من الجناس إتماما للمجانسة التي بين الحجل والرجل، والتاج والحجاج، وهو مقصود الشاعر.
والحبل: ما يربط به الأشياء التي يراد اتصال بعضها ببعض وتقيد به الدابة والمسجون كي لا يبرح من المكان، وهو ضفير من الليف أو من سيور جلد في طول متفاوت على حسب قوة ما يشد به أو يربط في وتده أو حلقة أو شجرة بحيث يمنع المربوط به من مغادرة موضعه إلى غيره إلى بعد يراد، وتربط به قلوع السفن في الأرض في الشواطئ، وتقدم في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} ، وقوله: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ} كلاها في [سورة آل عمران: 103-112]، ويقال: حبله إذا ربطه.
والمسد: ليف من ليف اليمن شديد، والحبال التي تفتل منه تكون قوية وصلبة.
وقدم الخبر من قوله: {فِي جِيدِهَا} للاهتمام بوصف تلك الحالة الفضيعة التي عوضت فيها بحبل في جيدها عن العقد الذي كانت تحلي به جيدها في الدنيا فتربط بها إذا كانت هي وزوجها من أهل الثراء وسادة أهل البطحاء، وقد ماتت أم جميل على الشرك.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإخلاص
المشهور في تسميتها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيما جرى من لفظه وفي أكثر ما روي عن الصحابة تسميتها "سورة قل هو الله أحد".
روى الترمذي عن أبي هريرة، وروى أحمد عن أبي مسعود الأنصاري وعن أم كلثوم بنت عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" وهو ظاهر في أن أراد تسميتها بتلك الجملة لأجل تأنيث الضمير من قوله تعدل فإنه على تأويلها بمعنى السورة.
وقد روي عن جمع من الصحابة ما فيه تسميتها بذلك، فذلك هو الاسم الوارد في السنة.
ويؤخذ من حديث البخاري عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الله الواحد الصمد ثلث القرآن" فذكر ألفاظا تخالف ما تقرأ به، ومحمله على إرادة التسمية. وذكر القرطبي أن رجلا لم يسمه قرأ كذلك والناس يستمعون وادعى أن ما قرأ به هو الصواب وقد ذمه القرطبي وسبه.
وسميت في أكثر المصاحف وفي معظم التفاسير وفي "جامع الترمذي" "سورة الإخلاص" واشتهر هذا الاسم لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة لأن فيها تعليم الناس إخلاص العبادة لله تعالى، أي سلامة الاعتقاد من الإشراك بالله غيره في الإلهية.
وسميت في بعض المصاحف التونسية سورة التوحيد لأنها تشتمل على إثبات أنه تعالى واحد.
وفي "الإتقان" أنها تسمى سورة الأساس لاشتمالها على توحيد الله وهو أساس

الإسلام. وفي "الكشاف" روي عن أبي وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم إست السماوات السبع والأرضون السبع على {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1. يعني ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته.
وذكر في "الكشاف": أنها وسورة الكافرون تسميان المقشقشتين، أي المبرئتين من الشرك ومن النفاق.
وسماها البقاعي في "نظم الدرر" سورة الصمد ، وهو من الأسماء التي جمعها الفخر. وقد عقد الفخر في "التفسير الكبير" فصلا لأسماء هذه السورة فذكر لها عشرين اسما بإضافة عنوان سورة إلى كل اسم منها ولم يذكر أسانيدها فعليك بتتبعها على تفاوت فيها وهي: التفريد، والتجريد لأنه لم يذكر فيها سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال ، والتوحيد كذلك ، والإخلاص لما ذكرناه آنفا ، والنجاة لأنها تنجي من الكفر في الدنيا ومن النار في الآخرة ، والولاية لأن من عرف الله بوحدانيته فهو من أوليائه المؤمنين الذين لا يتولون غير الله والنسبة لما روي أنها نزلت لما قال المشركون: أنسب لنا ربك، كما سيأتي ، والمعرفة لأنها أحاطت بالصفات التي لا تتم معرفة الله إلا بمعرفتها والجمال لأنها جمعت أصول صفات الله وهي أجمل الصفات وأكملها، ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الله جميل يحب الجمال" فسألوه عن ذلك فقال: "أحد صمد لم يلد ولم يولد" ، والمقشقشة يقال: قشقش الدواء الجرب إذا أبرأه لأنها تقشقش من الشرك، وقد تقدم آنفا أنه اسم لسورة الكافرون أيضا ، والمعوذة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مضعون وهو مريض فعوذه بها وبالسورتين اللتين بعدها وقال له: "تعوذ بها" . والصمد لأن هذا اللفظ خص بها ، والأساس لأنها أساس العقيدة الأسلامية والمانعة لما روي: أنها تمنع عذاب القبر ولفحات النار والمحضر لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت. والمنفرة لأن الشيطان ينفر عند قراءتها والبراءة لأنها تبرئ من الشرك ، والمذكرة لأنها تذكر خالص التوحيد الذي هو مودع في الفطرة ، والنور لما روي: أن نور القرآن قل هو الله أحد ، والأمان لأن من اعتقد ما فيها أمن من العذاب.
وبضميمة اسمها المشهور {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تبلغ أسماؤها اثنين وعشرين، وقال الفيروز آبادي في بصائر التمييز أنها تسمى الشافية فتبلغ واحدا وعشرين اسما.
ـــــــ
1 يثال أس البناء إذا أقامه وفي نسخة أسست، وهذا الحديث ضعيف.

وهي مكية في قول الجمهور، وقال قتادة والضحاك والسدي وأبو العالية والقرضي: هي مدنية ونسب كلا القولين إلى ابن عباس.
ومنشأ هذا الخلاف الاختلاف في سبب نزولها فروى الترمذي عن أبي بن كعب، وروى عبيد العطار عن ابن مسعود، وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فنزلت قل هو الله أحد إلى آخرها فتكون مكية.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعو أخا لبيد أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر: إلام تدعونا? قال: "إلى الله" ، قال: صفه لنا أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب? يحسي لجهله أن الإله صنم كأصنامهم من معدن أو خشب أو حجارة فنزلت هذه السورة، لإتكون مدنية لأنهما ما أتياه إلا بعد الهجرة.
وقال الواحدي أن أحبار اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فنزلت.
والصحيح أنه مكية فإنها جمعت أصل التوحيد وهو الأكثر فيما نزل من القرآن بمكة، ولعل تأويل من قال: إنها نزلت حينما سأل عامر بن الطفيل وأربد، أو حينما سأل أحبار اليهود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم هذه السورة، فظنها الراوي من الأنصار نزلت ساعتئذ أو لم يضبط الرواة عنهم عبارتهم تمام الضبط.
قال في "الإتقان": وجمع بعضهم بين الروايتين بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية كما بينته في أسباب النزول اه.
وعلى الأصح من أنها مكية عدت السورة الثانية والعشرون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس وقبل سورة النجم.
وآياتها عند أهل العدد بالمدينة والكوفة والبصرة أربع، وعند أهل مكة والشام خمس باعتبار {لَمْ يَلِدْ} آية {وَلَمْ يُولَدْ} آية.
أغراضها
إثبات وحدانية الله تعالى.
وأنه لا يقصد في الحوائج غيره وتنزيهه عن سمات المحدثات.
وإبطال أن يكون له ابن.

وإبطال أن يكون المولود إلها مثل عيسى عليه السلام.
والأحاديث في فضائلها كثيرة وقد صح أنها تعدل ثلث القرآن. وتأويل هذا الحديث مذكور في شرح "الموطأ" و"الصحيحين".
[1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
افتتاح هذه السورة بالأمر بالقول لإظهار العناية بما بعد فعل القول كما علمت ذلك عند قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].
ولذلك الأمر في هذه السورة فائدة أخرى، وهي أنها نزلت على سبب قول المشركين: انسب لنا ربك، فكانت جوابا عن سؤالهم فلذلك قيل له {قل} كما قال تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] فكان للأمر بفعل {قل} فائدتان.
وضمير {هو} ضمير الشأن لإفادة الاهتمام بالجملة التي بعده، وإذا سمعه الذين سألوا تطلعوا إلى ما بعده.
ويجوز أن يكون {هو} أيضا عائدا إلى الرب في سؤال المشركين حين قالوا: انسب لنا ربك.
ومن العلماء من عد ضمير {هو} في هذه السورة اسما من أسماء الله الحسنى وهي طريقة صوفية درج عليها فخر الدين الرازي في "شرح الأسماء الحسنى" نقله ابن عرفة عنه في "تفسيره" وذكر الفخر ذلك في "مفاتيح الغيب" ولا بد من المزج بين كلاميه.
وحاصلهما قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها ثلاثة أسماء لله تعالى تنبيها على ثلاثة مقامات.
الأول: مقام السابقين المقربين الناظرين إلى حقائق الأشياء من حيث هي هي، فلا جرم ما رأوا موجودا سوى الله لأنه هو الذي لأجله يجب وجوده فما سوى الله عندهم معدوم فقوله: {هو} إشارة مطلقة. ولما كان المشار إليه معينا انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين فكان قوله: {هو} إشارة من هؤلاء المقربين إلى الله فلم يفتقروا في تلك الإشارة إلى مميز فكانت لفظة {هو} كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء.
المقام الثاني: مقام أصحاب اليمين المقتصدين فهم شاهدوا الحق موجودا وشاهدوا الممكنات موجودة فحصلت كثرة في الموجودات فلم تكن لفظة {هو} تامة الإفادة في

حقهم فافتقروا معها إلى مميز فقيل لأجلهم {هُوَ اللَّهُ} .
والمقام الثالث مقام أصحاب الشمال وهم الذين يجوزون تعدد الآلهة فقرن لفظ {أحد} بقوله: {هُوَ اللَّهُ} إبطالا لمقالتهم اهـ.
فاسمه تعالى العلم ابتدئ به قبل إجراء الأخبار عليه ليكون ذلك طريق استحضار صفاته كلها عند التخاطب بين المسلمين وعد المحاجة بينهم وبين المشركين، فإن هذا الاسم معروف عند جميع العرب فمسماه لا نزاع في وجوده ولكنهم كانوا يصفونه بصفات تنزه عنها.
أما {أَحَدٌ} فاسم بمعنى واحد. وأصل همزته الواو، فيقال: وحد كما يقال أحد، قلبت الواو همزة على غير قياس لأنها مفتوحة بخلاف قلب واو وجوه ومعناه منفرد قال النابغة:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنس وحد
أي كأني وضعت الرجل على ثور وحش أحس بأنسي وهو منفرد عن قطيعه.
وهو صفة مشبهة مثل حسن، يقال: وحد مثل كرم، ووحد مثل فرح. وصيغة الصفة المشبهة تفيد تمكن الوصف في موصوفها بأنه ذاتي له، فلذلك أوثر {أَحَدٌ} هنا على واحد لأن واحد اسم فاعل لا يفيد التمكن. ف واحد و {أَحَدٌ} وصفان مصوغان بالتصريف لمادة متحدة وهي مادة الوحدة يعني التفرد.
هذا هو أصل إطلاقه وتفرعت عنه إطلاقات صارت حقائق للفظ أحد، أشهرها أنه يستعمل اسما بمعنى إنسان في خصوص النفي نحو قوله تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} في [البقرة: 185]، وقوله: {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:38] في الكهف وكذلك إطلاقه على العدد في الحساب نحو: أحد عشر، وأحد وعشرين، ومؤنثه إحدى، ومن العلماء من خلط بين واحد وبين أحد فوقع في ارتباك.
فوصف الله بأنه {أحد} معناه: أنه منفرد بالحقيقة التي لوحظت في اسمه العلم وهي الإلهية المعروفة، فإذا قيل { اللَّهُ أَحَدٌ} فالمراد أنه منفرد بالإلهية. وإذا قيل الله واحد، فالمراد أنه واحد لا متعدد فمن دونه ليس بإله. ومآل الوصفين. ومآل الوصفين إلى معنى نفي الشريك له تعالى في إلهيته.
فلما أريد في صدر البعثة إثبات الوحدة الكاملة لله تعليما للناس كلهم، وإبطالا

لعقيدة الشرك وصف الله في هذه السورة بـ {أحد} ولم يوصف ب واحد لأن الصفة المشبهة نهاية ما يمكن به تقريب معنى وحدة الله تعالى إلى عقول أهل اللسان العربي المبين.
وقال ابن سينا في تفسير له لهذه السورة: إن {أحد} دال على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه وأنه لا كثرة هناك أصلا لا كثرة معنوية وهي كثرة المقومات والأجناس والفصول، ولا كثرة حسية وهي كثرة الأجزاء الخارجية المتمايزة عقلا كما في المادة والصورة. والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما في الجسم، وذلك متضمن لكونه سبحانه منزها عن الجنس والفصل، والمادة والصورة، والأعراض والأبعاض، والأعضاء والأشكال، والألوان، وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة والبساطة الحقة اللائقة بكرم وجهه عز وجل على أن يشبهه شيء أو يساويه سبحانه شيء. وتبيينه: أما الواحد فمقول على ما تحته بالتشكيك، والذي لا ينقسم بوجهه أصلا أولى بالواحدية مما ينقسم من بعض الوجوه، والذي لا ينقسم انقساما عقليا أولى بالواحدية من الذي ينقسم انقساما بالحس بالقوة ثم بالفعل، فأحد جامع للدلالة على الواحدية من جميع الوجوه وأنه لا كثرة في موصوفه اهـ.
قلت: قد فهم المسلمون هذا فقد روي أن بلالا كان إذا عذب على الإسلام يقول: أحد أحد. وكان شعار المسلمين يوم بدر: أحد أحد.
والذي درج عليه أكثر الباحثين في أسماء الله تعالى أن {أحد} ليس ملحقا بالأسماء الحسنى لأنه لم يرد ذكره في حديث أبي هريرة عند الترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعا وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة" . وعدها ولم يذكر فيها وصف أحد، وذكر وصف واحد وعلى ذلك درج إمام الحرمين في كتاب الإرشاد وكتاب اللمع والغزالي في شرح الأسماء الحسنى.
وقال الفهري في "شرحه على لمع الأدلة" لإمام الحرمين عند ذكر اسمه تعالى {الواحد} . وقد ورد في بعض الروايات الأحد فلم يجمع بين الاسمين في اسم.
ودرج ابن برجان الأشبيلي في "شرح الأسماء"1 والشيخ محمد بن محمد الكومي
ـــــــ
1 هو عبد السلام بن عبد الرحمن شهر بابن برجان بفتح الباء وبشديد الراء المفتوحة اللخمي الإشبيلي المتوفى سنة 536هـ، له، "شرح على الأسماء الحسنى" وأبلغها إلى مائة واثنين وثلاثين اسما.

"بالميم" التونسي، ولطف الله الأرضرومي في "معارج النور"، على عد أحد في عداد الأسماء الحسنى مع اسمه الواحد فقالا: الواحد الأحد بحيث هو كالتأكيد له كما يقتضيه عدهم الأسماء تسعة وتسعين، وهذا بناء على أن حديث أبي هريرة لم يقتض حصر الأسماء الحسنى في التسعة والتسعين، وإنما هو لبيان فضيلة تلك الأسماء المعدودة فيه.
والمعنى: أن الله منفرد بالإلهية لا يشاركه فيها شيء من الموجودات. وهذا إبطال للشرك الذي يدين به أهل الشرك، وللتثليث الذي أحدثه النصارى الملكانية وللثانوية عند المجوس، وللعد الذي لا يحصى عند البراهمة.
فقوله: {اللَّهُ أَحَدٌ} نظير قوله في الآية الأخرى {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]. وهذا هو المعنى الذي يدركه المخاطبون في هذه الآية السائلون عن نسبة الله، أي حقيقته، فابتدئ لهم بأنه واحد ليعلموا أن الأصنام ليست من الإلهية في شيء.
ثم أن الأحدية تقتضي الوجود لا محالة فبطل قول المعطلة والدهريين.
وقد اصطلح علماء الكلام من أهل السنة على استخراج الصفات السلبية الربانية من معنى الأحدية لأنه إذا كان منفردا بالإلهية كان مستغنيا عن المخصص بالإيجاب لأنه لو افتقر إلى من يوجده لكان من يوجده إلها أول منه فلذلك كان وجود الله قديما غير مسبوق بعدم ولا محتاج إلى مخصص للوجود بدلا عن العدم، وكان مستعينا على الإمداد بالوجود فكان باقيا، وكان غنيا عن غيره، وكان مخالفا للحوادث وإلا لاحتاج مثلها إلى المخصص فكان وصفه تعالى ب {أحد} جامعا للصفات السلبية. ومثل ذلك يقال في مرادفه وهو وصف واحد.
واصطلحوا على أن أحدية الله أحدية واجبة كاملة، فالله تعالى واحد من جميع الوجوه. وعلى كل التقادير فليس لكنه الله كثرة أصلا لا كثرة معنوية وهي تعدد المقومات من الأجناس والفصول التي تتقوم منها المواهي، ولا كثرة الأجزاء في الخارج التي تتقوم منها الأجسام. فأفاد وصف {أحد} أنه منزه عن الجنس والفصل والمادة والصورة، والأعراض والأبعاض، والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما ينافي الوحدة الكاملة كما أشار إليه ابن سينا.
قال في "الكشاف": وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم {اللَّهُ أَحَدٌ} بغير {قُلْ هُوَ} اه ولعله أخذه مما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من قرأ {اللَّهُ أَحَدٌ} كان بعدل ثلث القرآن" ، كما ذكره

بأثر قراءة أبي بدون {قل} مما تأوله الطيبي إذ قال وهذا استشهاد على هذه القراءة.
وعندي إن صح ما روي من القراءة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها التلاوة وإنما قصد الامتثال لما أمر بأن يقول. وهذا كما كان يكثر أن يقول سبحان ربي العظيم وبحمده اللهم اغفر لي يتأول قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3].
[2] {اللَّهُ الصَّمَدُ} .
جملة ثانية محكية بالقول المحكي به جملة {اللَّهُ أَحَدٌ} ، فهي خبر ثاني عن الضمير. والخبر المتعدد يجوز عطفه وفصله، وإنما فصلت عن التي قبلها لأن هذه الجمل مسوقة لتلقين السامعين فكانت جديرة بأن تكون كل جملة مستقلة بذاتها غير ملحقة بالتي قبلها بالعطف، على طريقة إلقاء المسائل على المتعلم نحو أن يقول: الحوز شرط صحة الحبس، الحوز لا يتم إلا بالمعاينة، ونحو قولك: عنترة من فحول الشعراء، عنترة من أبطال الفرسان.
ولهذا الاعتبار وقع إظهار اسم الجلالة في قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} وكان مقتضى الظاهر أن يقال: هو الصمد.
و { الصَّمَدُ} : السيد الذي لا يستغنى عنه في المهمات، وهو سيد القوم المطاع فيهم.
قال في "الكشاف": وهو فعل بمعنى مفعول من: صمد إليه، إذا قصده، فالصمد المصمود في الحوائج. قلت: ونظيره السند الذي تسند إليه الأمور المهمة. والفلق اسم الصباح بأنه يتفلق عنه الليل.
و { الصَّمَدُ} : من صفات الله، والله هو الصمد الحق الكامل الصمدية على وجه العموم.
فالصمد من الأسماء التسعة والتسعين في حديث أبي هريرة عند الترمذي. ومعناه: المفتقر إليه كل ما عداه، فالمعدوم مفتقر وجوده إليه والموجود مفتقر في شؤونه إليه.
وقد كثرت عبارات المفسرين من السلف في معنى الصمد، وكلها مندرجة تحت هذا المعنى الجامع، وقد أنهاها فخر الدين إلى ثمانية عشر قولا. ويشمل هذا الاسم صفات الله المعنوية الإضافية وهي كونه تعالى حيا، عالما، مريدا، قادرا، متكلما، سميعا،

بصيرا، لأنه لو انتفى عنه أحد هذه الصفات لم يكن مصمودا إليه.
وصيغة {اللَّهُ الصَّمَدُ} صيغة قصر بسبب تعريف المسند فتفيد قصر صفة الصمدية على الله تعالى، وهو قصر قلب الإبطال ما تعوده أهل الشرك في الجاهلية من دعائهم أصنامهم في حوائجهم والفزع إليها في نوائبهم حتى نسوا الله. قال أبو سفيان ليلة فتح مكة وهو بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقال له النبي صلى الله عليه وسلم "أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا" .
[3] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} .
جملة {لَمْ يَلِدْ} خبر ثاني عن اسم الجلالة من قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} ، أو حال من المبتدأ أو بدل اشتمال من جملة {اللَّهُ الصَّمَدُ} ، لأن من يصمد إليه لا يكون من حاله أن يلد لأن طلب الولد لقصد الاستعانة به في إقامة شؤون الوالد وتدارك عجزه، ولذلك استدل على إبطال قولهم {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} بإثبات أنه الغني في قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس:68]
فبعد أن أبطلت الآية الأولى من هذه السورة تعدد الإله بالأصالة والاستقلال، أبطلت هذه الآية تعدد الإله بطريق تولد إله عن إله، لأن المتولد مساو لما تولد عنه.
والتعدد بالتولد مساو في الاستحالة لتعدد الإله بالأصالة لتساوي ما يلزم على التعدد في كليهما من فساد الأكوان المشار إليه بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وهو برهان التمانع ولأنه لو تولد عن الله موجود آخر للزم انفصال جزء عن الله تعالى وذلك مناف للأحدية كما علمت آنفا وبطل اعتقاد المشركين من العرب أن الملائكة بنات الله تعالى فعبدوا الملائكة لذلك، لأن النبوة للإله تقتضي إلهية الابن قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26].
وجملة {وَلَمْ يُولَدْ} عطف على جملة {لَمْ يَلِدْ} ، أي ولم يلده غيره وهي بمنزلة الاحتراس سدا لتجويز أن يكون له والد، فأردف نفي الولد بنفي الوالد. وإنما قدم نفي الولد بأنه أهم إذ قد نسب أهل الضلالة الولد إلى الله تعالى ولم ينسبوا إلى الله والدا. وفيه الإيماء إلى أن من يكون مولودا مثل عيسى لا يكون إلها لأنه لو كان الإله مولودا لكان وجوده مسبوقا بعدم لا محالة وذلك محال لأنه لو كان مسبوقا بعدم لكان مفتقرا إلى من يخصصه بالوجود بعد العدم، فحصل من مجموع جملة {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}

إبطال أن يكون الله والدا لمولود، أو مولودا من والد بالصراحة. وبطلت إلهية كل مولود بطريق الكناية فبطلت العقائد المبنية على تولد الإله مثل عقيدة زرادشت الثانوية القائلة بوجود إلهين: إله الخير وهو الأصل، وإله الشر وهو متولد عن إله الخير، لأن إله الخير وهو المسمى عندهم يزدان فكر فكرة سوء فتولد منه إله الشر المسمى عندهم أهرمن وقد أشار إلى مذهبهم أبو العلاء بقوله:
قال أناس باطل زعمهم ... فراقبوا الله ولا تزعمن
فكر (يزدان) على غرة ... فصيغ من تفكيره (أهرمن)
وبطلت عقيدة النصارى بإلهية عيسى عليه السلام بتوهمهم أنه ابن الله وأن ابن الله لا يكون إلا إلها بأن الإله يستحيل أن يكون له ولد فليس عيسى بابن الله، وبأن الإله يستحيل أن يكون مولودا بعد عدم. فالمولود المتفق على أنه مولود يستحيل أن يكون إلها فبطل أن يكون عيسى إلها.
فلما أبطلت الجملة الاسمية الأولى إلهية إله غير الله بالأصالة، وأبطلت الجملة الثانية إلهية غير الله بالاستحقاق، أبطلت هذه الجملة إلهية غير الله بالفرعية والتولد بطريق الكناية.
وإنما نفي أن يكون الله والدا وأن يكون مولودا في الزمن الماضي، لأن عقيدة التولد ادعت وقوع ذلك في زمن مضى، ولم يدع أحد أن الله سيتخذ ولدا في المستقبل.
[4] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
في معنى التذليل للجمل التي قبلها لأنها أعم من مضمونها لأن تلك الصفات المتقدمة صريحها وكنايتها وضمنيها لا يشبهه فيها غيره، مع إفادة هذه انتفاء شبيه له فيما عداها مثل صفات الأفعال كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73].
والواو في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} اعتراضية، وهي واو الحال، كالواو في قوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:17] فإنها تذليل لجملة {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} [سبأ:17]، ويجوز أن يكون الواو عاطفة إن جعلت الواو الأولى عاطفة فيكون المقصود من الجملة إثبات وصف مخالفته تعالى للحوادث وتكون استفادة معنى التذليل تبعا للمعنى، والنكت ولا تتزاحم.

والكفؤ: بضم الكاف وضم الفاء وهمزة في آخره. وبه قرأ نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر، إلا أن الثلاثة الأولين حققوا الهمزة وأبو جعفر سهلها ويقال: كفء بضم الكاف وسكون الفاء وبالهمز، وبه قرأ حمزة ويعقوب، ويقال {كفؤا} بالواو عوض الهمز، وبه قرأ حفص عن عاصم وهي لغات ثلاث فصيحة.
ومعناه: المساوي والمماثل في الصفات.
و {أحد} هنا بمعنى إنسان أو موجود، وهو من الأسماء النكرات الملازمة للوقوع في حيز النفي.
وحصل بهذا جناس تام مع قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وتقديم خبر "كان" على اسمها للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بذكر الكفؤ عقب الفعل المنفي ليكون أسلق إلى السمع.
وتقديم المجرور بقوله: {له} على متعلقه وهو {كفوا} للاهتمام باستحقاق الله نفي كفاءة أحد له، فكان هذا الاهتمام مرجحا تقديم المجرور على متعلقه وإن كان الأصل تأخير المتعلق إذ كان ظرفا لغويا. وتأخيره عند سيبويه أحسن ما لم يقتضي التقديم مقتضى كما أشار إليه في "الكشاف".
وقد وردت في فصل هذه السورة أخبار صحيحة وحسنة استوفاها المفسرون. وثبت في الحديث الصحيح في "الموطأ" و"الصحيحين" من طرق عدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" .
واختلفت التأويلات التي تأول بها أصحاب معاني الآثار بهذا الحديث ويجمعها أربعة تأويلات:
الأول: أنها تعدل ثلث القرآن في ثواب القراءة، أي تعدل ثلث القرآن إذا قرئ بدونها حتى لو كررها القارئ ثلاث مرات كان له ثواب من قرأ القرآن كله.
الثاني: أنها تعدل ثلث القرآن إذا قرأها من لا يحسن غيرها من سور القرآن.
الثالث: أنها تعدل ثلث معاني القرآن باعتبار أجناس المعاني لأن معاني القرآن أحكام وأخبار وتوحيد، وقد انفردت هذه السورة بجمعها أصول العقيدة الإسلامية ما لم يجمعه غيرها.
وأقول: أن ذلك كان قبل نزول آيات مثلها مثل آية الكرسي، أو لأنه لا توجد سورة

واحدة جامعة لما في سورة الإخلاص.
التأويل الرابع : أنها تعدل ثلث القرآن في الثواب مثل التأويل الأول ولكن لا يكون تكريرها ثلاث مرات بمنزلة قراءة ختمة كاملة.
قال ابن رشد في "البيان والتحصيل"1: أجمع العلماء على أن من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثلاث مرات لا يساوي في الأجر من أحيا بالقرآن كله اهـ. فيكون هذا التأويل قيدا للتأويل الأول، ولكن في حكايته الإجماع على أن ذلك هو المراد نظر، فإن في بعض الأحاديث ما هو صريح في أن تكريرها ثلاث مرات يعدل قراءة ختمة كاملة.
قال ابن رشد: واختلافهم في تأويل الحديث لا يرتفع بشيء منه عن الحديث الأشكال ولا يتخلص عن أن يكون فيه اعتراض.
وقال أبو عمر بن عبد البر السكوت على هذه المسألة أفضل من الكلام فيها.
ـــــــ
1 في سماع ابن القاسم عن مالك من كتاب الصلاة الثاني.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفلقسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} . روى النسائي عن عقبة بن عامر قال: اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب فوضعت يدي على قدمه فقلت: أقرئني يا رسول الله سورة هود وسورة يوسف، فقال: "لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .
وهذا ظاهر في أنه أراد سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} لأنه كان جوابا على قول عقبة: أقرأني سورة هود الخ، ولأنه عطف على قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ولم يتم سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} .
عنونها البخاري في "صحيحه" "سورة قل أعوذ برب الفلق" بإضافة سورة إلى أول جملة منها.
وجاء في بعض كلام الصحابة تسميتها مع سورة الناس "المعوذتين". روى أبو داود والترمذي وأحمد عن عقبة بن عامر قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات بكسر الواو المشددة وبصيغة الجمع بتأويل الآيات المعوذات، أي آيات السورتين وفي رواية بالمعوذتين في دبر كل صلاة. ولم يذكر أحد من المفسرين أن الواحدة منهما تسمى المعوذة بالإفراد، وقد سماها ابن عطية سورة المعوذة الأولى، فإضافة سورة إلى المعوذة من إضافة المسمى إلى الاسم، ووصف السورة بذلك مجاز يجعلها كالذي يدل الخائف على المكان الذي يعصمه من مخيفه أو كالذي يدخله المعاذ.
وسميت في أكثر المصاحف ومعظم كتب التفسير "سورة الفلق".
وفي "الإتقان": أنها وسورة الناس تسميان المشقشقتين بتقديم الشينين على

القافين من قولهم خطيب مشقشق اه. أي مسترسل القول تشبيها له بالفحل الكريم من الإبل يهدر بشقشقة وهي كاللحم يبرز من فيه إذا غضب ولم أحقق وجه وصف المعوذتين بذلك.
وفي "تفسير القرطبي" و"الكشاف" أنها وسورة الناس تسميان المشقشقتين بتقديم القاف على الشينين زاد القرطبي: أي تبرئان من النفاق، وكذلك قال الطيبي، فيكون اسم المقشقشة مشتركا بين أربع سور هذه، وسورة الناس، وسورة براءة، وسورة الكافرون.
واختلف فيها أمكية هي أم مدنية، فقال جابر بن زيد والحسن وعطاء وعكرمة: مكية، ورواه كريب عن ابن عباس. وقال قتادة: هي مدنية، ورواه أبو صالح عن ابن عباس.
والأصح أنها مكية لأن رواية كريب عن ابن عباس مقبولة بخلاف رواية أبي صالح عن ابن عباس ففيها متكلم.
وقال الواحدي: قال المفسرون إنها نزلت بسبب أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في "الصحاح" أنها نزلت بهذا السبب، وبنى صاحب الإتقان عليه ترجيح أن السورة مدنية وسنتكلم على قصة لبيد بن الأعصم عند قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4].
وقد قيل: أن سبب نزولها والسورة بعدها: أن قريشا ندبوا، أي ندبوا من اشتهر بينهم أنه يصيب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه فأنزل الله المعوذتين ليتعوذ منهم بهما، ذكره الفخر عن سعيد بن المسيب ولم يسنده.
وعدت العشرين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الفيل وقبل سورة الناس.
وعدد آياتها خمس بالاتفاق.
واشتهر عن عبد الله بن مسعود في "الصحيح" أنه كان ينكر أن تكون المعوذتان من القرآن ويقول: إنما أمر رسول الله أن يتعوذ بهما، أي ولم يؤمر بأنهما من القرآن. وقد أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على القراءة بهما في الصلاة وكتبا في مصاحفهم، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في صلاته.

أغراضها
والغرض منها تعليم النبي صلى الله عليه وسلم كلمات للتعوذ بالله من شر ما يتقى شره من المخلوقات الشريرة، والأوقات التي يكثر فيها حدوث الشر، والأحوال التي يستر أحوال الشر من ورائها لئلا يرمى فاعلوها بتبعاتها، فعلم الله نبيه هذه المعوذة ليتعوذ بها، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهذه السورة وأختها ويأمر أصحابه بالتعوذ بهما فكان التعوذ بهما من سنة المسلمين.
[1-2] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} .
الأمر بالقول يقتضي المحافظة على هذه الألفاظ لأنها التي عينها الله للنبي صلى الله عليه وسلم ليتعوذ بها فإجاباتها مرجوة، إذ ليس هذا المقول مشتملا على شيء يكلف به أو يعمل حتى يكون المراد: قل لهم كذا كما في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وإنما هو إنشاء معنى في النفس تدل عليه هذه الأقوال الخاصة.
وقد روي عن ابن مسعود في أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين فقال قيل لي قل فقلت لكم قولوا. يريد بذلك المحافظة على هذه الألفاظ للتعوذ وإذ قد كانت من القرآن فالمحافظة على ألفاظها متعينة والتعوذ يحصل بمعناها وبألفاظها حتى كلمة {قل} .
والخطاب في {قل} للنبي صلى الله عليه وسلم وإذا قد كان قرآنا كان خطاب النبي صلى الله عليه وسلم به يشمل الأمة حيث لا دليل على تخصيصه به، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بالتعوذ بهذه السورة ولذلك أيضا كان يعوذ بهما الحسن والحسين كما ثبت في "الصحيح"، فتكون صيغة الأمر الموجهة إلى المخاطب مستعملة في معنيي الخطاب من توجهه إلى معين وهو الأصل، ومن إرادة كل من يصح خطابه وهو طريق من طرق الخطاب تدل على قصده القرائن، فيكون من استعمال المشترك في معنييه.
واستعمال صيغة التكلم في فعل {أعوذ} يتبع ما يراد بصيغة الخطاب في فعل {قل} فهو مأمور به لكل من يريد التعوذ بها.
وأما تعويذ قارئها غيره بها كما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بالمعوذتين الحسن والحسين. وما روي عن عائشة قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنفث به عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها ، فلذلك

على نية النيابة عمن لا يحسن أن يعوذ نفسه بنفسه بتلك الكلمات بعجز أو صغر أو عدم حفظ.
والعوذ: اللجأ إلى شيء يقي من يلجأ إليه من يخافه، يقال: عاذ بفلان، وعاذ بحصن، ويقال: استعاذ، إذا سأل غيره أن يعيذه قال تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200]. وعاذ من كذا، إذا صار إلى ما يعيذه منه قال تعالى {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98].
و {الفلق} : الصبح، وهو فعل بمعنى مفعول مثل الصمد لأن الليل شبه بشيء مغلق ينفلق عن الصبح، وحقيقة الفلق: الانشقاق عن باطن شيء، واستعير لظهور الصبح بعد ظلمة الليل. وهذا مثل استعارة الإخراج لظهور النور بعد الظلام في قوله تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:29]، واستعارة السلخ له في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37].
ورب الفلق: هو الله، لأنه الذي خلق أسباب ظهور الصبح، وتخصيص وصف الله بأنه رب الفلق دون وصف آخر لأن شرا كثيرا يحدث في الليل من لصوص، وسباع، وذوات سموم، وتعذر السير، وعسر النجدة، وبعد الاستغاثة واشتداد آلام المرضى، حتى ظن بعض أهل الضلالة الليل إله الشر.
والمعنى: أعوذ بفالق الصبح منجاة من شرور الليل، فإنه قادر على أن ينجيني في الليل من الشر كما أنجي أهل الأرض كلهم بأن خلق لهم الصبح، فوصف الله بالصفة التي فيها تمهيد للإجابة.
[3] {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} .
عطف أشياء خاصة هي مما شمله عموم {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]، وهي ثلاثة أنواع من أنواع الشرور:
أحدهما: وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل.
والثاني: صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير.
والثالث: صنف من الناس ذو خلق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به.

وأعيدت كلمة {مِنْ شَرِّ} بعد حرف العطف في هذه الجملة. وفي الجملتين المعطوفتين عليها مع أن حرف العطف مغن عن إعادة العامل قصدا لتأكيد الدعاء تعرضا للإجابة. وهذا من الابتهال فيناسبه الإطناب.
والغاسق: وصف الليل إذا اشتدت ظلمته يقال: غسق الليل يغسق، ذا أظلم قال تعالى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:79]. فالغاسق صفة لموصوف محذوف لظهوره من معنى وصفه مثل الجواري في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ} [الشورى:32] وتنكير {غَاسِقٍ} للجنس لأن المراد جنس الليل.
وتنكير {غَاسِقٍ} في مقام الدعاء يراد به العموم لأن مقام الدعاء يناسب التعميم. ومنه قول الحريري في المقامة الخامسة: يا أهل ذا المعنى وقيتم ضرا أي وقيتم كل ضر.
وإضافة الشر إلى غاسق من إضافة الاسم إلى زمانه على معنى في كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ:33].
والليل: تكثر فيه حوادث السوء من اللصوص والسباع والهوام كما تقدم آنفا.
وتقييد ذلك بظرف {إِذَا وَقَبَ} أي إذا اشتد ظلمته لأن ذلك وقت يتحينه الشطار وأصحاب الدعارة والعيث، لتحقق غلبة الغفلة والنوم على الناس فيه، يقال: أغدر الليل، لأنه إذا اشتد ظلامه كثر الغدر فيه، فعبر عن ذلك بأنه أغدر، أي صار ذا غدر على طريق المجاز العقلي.
ومعنى {وقب} دخل وتغلغل في الشيء، ومنه الوقبة: اسم النقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، ووقبت الشمس غابت، خص بالتعوذ أشد أوقات الليل توقعا لحصول المكروه.
[4] {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} .
هذا النوع الثاني من الأنواع الخاصة المعطوفة على العام من قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]. وعطف {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} على شر الليل لأن الليل وقت يتحين فيه السحرة إجراء شعوذتهم لئلا يطلع عليهم أحد.
والنفث: نفخ مع تحريك اللسان بدون إخراج ريق فهو أقل من التفل، يفعله السحرة

إذا وضعوا علاج سحرهم في شيء وعقدوا عليه عقدا ثم نفثوا عليها.
فالمراد بـ {النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} : النساء الساحرات، وإنما جيء بصفة المؤنث لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحر النساء لأن نساءهم لا شغل لهن بعد تهيئة لوازم الطعام والماء والنظافة، فلذلك يكثر انكبابهن على مثل هاته السفاسف من السحر والتكهن ونحو ذلك، فالأوهام الباطلة تتفشى بينهن، وكان العرب يزعمون أن الغول ساحرة من الجن. وورد في خبر هجرة الحبشة أن عمارة ابن الوليد بن المغيرة اتهم بزوجة النجاشي وأن النجاشي دعا له السواحر فنفخن في إحليله فصار مسلوب العقل هائما على وجهه ولحق بالوحوش.
و {العقد} : جمع عقدة وهي ربط في خيط أو وتر يزعم السحرة أنه سحر المسحور يستمر ما دامت تلك العقدة معقودة، ولذلك يخافون من حلها فيدفنونها أو يخبئونها في محل لا يهتدى إليه. أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من شر السحرة لأنه ضمن له أن لا يلحقه شر السحرة، وذلك إبطال لقول المشركين في أكاذيبهم إنه مسحور، قال تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا} [الفرقان:8].
وجملة القول هنا: أنه لما كان الأصح أن السورة مكية فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمون من أن يصيبه شر النفاثات لأن الله أعاذه منها.
وأما السحر فقد بسطنا القول فيه عند قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} في سورة [البقرة:102].
وإنما جعلت الاستعاذة من النفاثات لا من النفث، فلم يقل: إذا نفثن في العقد، للإشارة إلى أن نفثهن في العقد ليس بشيء يجلب ضرا بذاته وإنما يجلب الضر النافثات وهن متعاطيات السحر، لأن الساحر يحرص على أن لا يترك شيئا مما يحقق له ما يعلمه لأجله إلا احتال على إيصاله إليه، فربما له في طعامه أو شرابه عناصر مفسدة للعقل أو مهلكة بقصد أو غير قصد، أو قاذورات يفسد اختلاطها بالجسد بعض عناصر انتظام الجسم يختل بها نشاطه أو إرادته، وربما أغرى به من يغتاله أو من يتجسس على أحواله ليرى لمن يسألونه السحر سحره لا يختلف ولا يخطئ.
وتعريف {النفاثات} تعريف الجنس وهو في معنى النكرة لا تفاوت في المعنى بينه وبين قوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ} وقوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} [الفلق:5]. وإنما

أوثر لفظ {النفاثات} بالتعريف لأن التعريف في مثله للإشارة إلى أنه حقيقة معلومة للسامع مثل التعريف في قولهم أرسلها العراك كما تقدم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في [سورة الفاتحة:2].
وتعريف {النفاثات} باللام إشارة إلى أنهن معهودات بين العرب.
[5] {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} .
عطف شر الحاسد على شر الساحر المعطوف على شر الليل، لمناسبة بينه وبين المعطوف عليه مباشرة وبينه وبين المعطوف عليه بواسطته، فإن مما يدعو الحاسد إلى أذى المحسود أن يتطلب حصول أذاه لتوهم أن السحر يزيل النعمة التي حسده عليها ولأن ثوران وجدان الجسد يكثر في وقت الليل، لأن الليل وقت والخلوة وخطور الخواطر النفسية والتفكر في الأحوال الحافة بالحاسد وبالمحسود.
والحسد: إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير بتلك الحالة أو على مشاركته الحاسد فيها. وقد يطلق اسم الحسد على الغبطة مجازا.
والغبطة: تمني المرء أن يكون له من الخير مثل ما لمن يروق حاله في نظره، وهو محمل الحديث الصحيح "لا حسد إلا في اثنتين" ، أي لا غبطة، أي لا تحقق الغبطة إلا في تينك الخصلتين، وقد بين شهاب الدين القرافي الفرق بين الحسد والغبطة في الفرق الثامن والخمسين والمائتين.
فقد يغلب الحسد صبر الحاسد وأناته فيحمله على إيصال الأذى للمحسود بإتلاف أسباب نعمته أو إهلاكها رأسا. وقد كان الحسد أول أسباب الجنايات في الدنيا إذ حسد أحد ابني آدم أخاه على أن قبل قرباه ولم يقبل من الآخر، كما قصه الله تعالى في سورة العقود.
وتقييد الاستعاذة من شره بوقت {إِذَا حَسَدَ} لأنه حينئذ يندفع إلى عمل الشر بالمحسود حين يجيش الحسد في نفسه فتتحرك له الحيل والنوايا لإلحاق الضر به. والمراد من الحسد في قوله: {إِذَا حَسَدَ} حسد خاص وهو البالغ أشد حقيقته فلا إشكال في تقييد الحسد بـ {حسد} وذلك قول عمرو بن معد يكرب:

وبدت لميس كأنها ... بدر السماء إذا تبدى
أي تجلى واضحا منيرا.
ولما كان الحسد يستلزم كون المحسود في حالة حسنة كثر في كلام العرب الكناية عن السيد بالمحسود، وبعكسه الكناية عن سيئ الحال بالحاسد وعليه قول أبي الأسود:
حسدوا الفتى أن لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا إنه لمشوم
وقول بشارة بن برد:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الناستقدم عند تفسير أول سورة الفلق أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى سورة الناس {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .
وتقدم في سورة الفلق أنها وسورة الناس تسميان "المعوذتين"، و"المشقشقتين" بتقديم الشين على القافين، وتقدم أيضا أن الزمخشري والقرطبي ذكرا أنهما تسميان "المشقشقتين" بتقديم القافين على الشينين، وعنونها ابن عطية في "المحرر الوجيز" "سورة المعوذة الثانية" بإضافة "سورة" إلى "المعوذة" من إضافة الموصوف إلى الصفة. وعنونهما الترمذي "المعوذتين"، وعنونها البخاري في "صحيحه" "سورة قل أعوذ برب الناس".
وفي مصاحفنا القديمة والحديثة المغربية والمشرقية تسمية هذه السورة "سورة الناس" وكذلك أكثر كتب التفسير.
وهي مكية في قول الذين قالوا في سورة الفلق أنها مكية، ومدنية في قول الذين قالوا في سورة الفلق أنها مدنية. والصحيح أنهما نزلتا متعاقبتين، فالخلاف في إحداهما كالخلاف في الأخرى.
وقال في "الإتقان": أن سبب نزولها قصة سحر لبيد بن الأعصم، وأنها نزلت مع "سورة الفلق" وقد سبقه على ذلك القرطبي والواحدي، وقد علمت تزييفه في سورة الفلق.
وعلى الصحيح من أنها مكية فقد عدت الحادية والعشرين من السور، نزلت عقب سورة الفلق وقبل سورة الإخلاص.
وعد آيها ست آيات، وذكر في "الإتقان" قولا: إنها سبع آيات وليس معزوا لأهل العدد.

أغراضها
إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم لأن يتعوذ بالله ربه من شر الوسواس الذي يحاول إفساد عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وإفساد إرشاده ويلقي في نفوس الناس الإغراض عن دعوته. وفي هذا الأمر إيماء إلى الله تعالى معيذه في ذلك فعاصمه في نفسه من تسلط وسوسة الوسواس عليه، ومتمم دعوته حتى تعم في الناس. ويتبع ذلك تعليم المسلمين التعوذ بذلك، فيكون لهم من هذا التعوذ بذلك، فيكون لهم من هذا التعوذ ما هو حظهم. ومن قابلية التعرض إلى الوسواس، ومن السلامة منه بمقدار مراتبهم في الزلفى.
[1-6] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} .
شابهت فاتحتها فاتحة سورة الفلق إلا أن سورة الفلق تعوذ من شرور المخلوقات من حيوان وناس، وسورة الناس تعوذ من شرور مخلوقات خفية وهي الشياطين.
والقول في الأمر بالقول، وفي المقول، وفي أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود شموله أمته، كالقول في نظيره في سورة الفلق سواء.
وعرف {رب} بإضافته إلى {الناس} دون غيرهم من المربوبين لأن الاستعاذة من شر من يلقيه الشيطان في قلوب الناس فيضلون ويضلون، فالشر المستعاذ منه مصبه إلى الناس، فناسب أن يستحضر المستعاذ إليه بعنوان أنه رب من يلقون الشر ومن يلقى إليهم ليصرف هؤلاء ويدفع عن الآخرين كما يقال لمولى العبد: يا مولى فلان كف عني عبدك.
وقد رتبت أوصاف الله بالنسبة إلى الناس ترتيبا مدرجا فإن الله خالقهم، ثم هم غير خارجين عن حكمه إذا شاء أن يتصرف في شؤونهم، ثم زيد بيانا بوصف إلهيته لهم ليتبين أن ربوبيته لهم وحاكميته فيهم ليست كربوبية بعضهم بعضا وحاكمية بعضهم في بعض.
وفي هذا الترتيب إشعار أيضا بمراتب النظر في معرفة الله تعالى فإن الناظر يعلن بادئ ذي بدء بأن له ربا بسبب ما يشعر به من وجود نفسه، ونعمة تركيبه، ثم يتغلغل في النظر فيشعر بأن ربه هو الملك الحق الغني عن الخلق، ثم يعلم أنه المستحق للعبادة فهو إله الناس كلهم.

و {مَلِكِ النَّاسِ} عطف بيان من {رَبِّ النَّاسِ} وكذلك {إِلَهِ النَّاسِ} فتكرير لفظ {الناس} دون اكتفاء بضميره لأن عطف البيان يقتضي الإظهار ليكون الاسم المبين بكسر الياء مستقلا بنفسه لأن عطف البيان بمنزلة علم للاسم المبين بالفتح.
و { النَّاسِ} : اسم جمع للبشر جميعهم أو طائفة منهم ولا يطلق على غيرهم على التحقيق.
و {الْوَسْوَاسِ} : المتكلم بالوسوسة، وهي الكلام الخفي قال رؤبة يصف صائدا في قترته:
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق
فالوسواس اسم فاعل ويطلق الوسواس بفتح الواو مجازا على ما يخطر بنفس المرء من الخواطر التي يتوهمها مثل كلام يكلم به نفسه قال عروة بن أذينة:
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
والتعريف في {الْوَسْوَاسِ} تعريف الجنس وإطلاق {الْوَسْوَاسِ} على معنييه المجازي والحقيقي يشمل الشياطين التي تلقي في أنفس الناس الخواطر الشريرة قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه:121]، ويشمل الوسواس كل من يتكلم كلاما خفيا من الناس وهم أصحاب المكائد والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراء بالضلال والإعراض عن الهدى، لأن شأن مذاكرة هؤلاء بعضهم مع بعض أن تكون سرا لئلا يطلع عليها من يريدون الإيقاع به، وهم الذين يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم الدوائر ويغرون الناس بأذيته.
و { الْخَنَّاسِ} : الشديد الخنس والكثيرة. والمراد أنه صار عادة له. والخنس والخنوس: الاختفاء. والشيطان يلقب بـ {الْخَنَّاسِ} لأنه يتصل بعقل الإنسان وعزمه من غير شعور منه فكأنه خنس فيه، وأهل المكر والكيد والتختل خناسون لأنهم يتحيلون غفلات الناس ويتسترون بأنواع الحيل لكيلا يشعر الناس بهم.
فالتعريف في {الْخَنَّاسِ} على وزن تعريف موصوفه، ولأن خواطر الشر يهم بها صاحبها فيطرق ويتردد ويخاف تبعاتها ويزجره النفس اللوامة، أو يزعه وازع الدين أو الحياء أو خوف العقاب عند الله أو عند الناس ثم تعاوده حتى يطمئن لها ويرتاض بها فيصمم على فعلها فيقترفها، فكأن الشيطان يبدو له ثم يختفي، ثم يبدو ثم يختفي حتى

يتمكن من تدليته بغرور.
ووصف {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} بـ {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} لتقؤيب تصوير الوسوسة كي يتقيها المرء إذا اعترته لخفائها، وذلك بأن بين أن مكان إلقاء الوسوسة هو صدور الناس وبواطنهم فعبر بها عن الإحساس النفسي كما قال تعالى: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وقال تعالى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "الأثم ما حاك في الصدر وتردد في القلب" ، فغاية الوسواس من وسوسته بثها في نفس المغرور والمشبوك في فخه، فوسوسة الشيطانين اتصالات جاذبية النفوس نحو داعية الشياطين وقد قربها النبي صلى الله عليه وسلم في آثار كثيرة بأنواع من التقريب منها أنها كالخراطيم يمدها الشيطان إلى قلب الإنسان وشببها مرة بالنفث، ومرة بالإبساس. وفي الحديث "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما" .
وإطلاق فعل {يُوَسْوِسُ} على هذا العمل الشيطاني مجاز إذ ليس للشيطان كلام في باطن الإنسان. وأما إطلاقه على تسويل الإنسان لغيره عمل السوء فهو حقيقة. وتعلق المجرور من قوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} بفعل {يُوَسْوِسُ} بالنسبة لوسوسة الشيطان تعلق حقيقي، وأما بالنسبة لوسوسة الناس فهو مجاز عقلي لأن وسوسة الناس سبب لوقوع أثرها في الصدور فكان في كل من فعل {يُوَسْوِسُ} ومتعلقه استعمال اللفظين في الحقيقة والمجاز.
و {من} في قوله: {مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيانية بينت {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} بأنه جنس ينحل باعتبار إرادة حقيقته ومجازه إلى صنفين: صنف من الجنة وهو أصله، وصنف من الناس وما هو إلا تبع وولي للصنف الأول، وجمع الله هذين الصنفين في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112].
ووجه الحاجة إلى هذا البيان خفاء ما ينجر من وسوسة نوع الإنسان، لأن الأمم اعتادوا أن يحذرهم المصلحون من وسوسة الشيطان، وربما لا يخطر بالبال أن من الوسواس ما هو شر من وسواس الشياطين، وهو وسوسة أهل نوعهم وهو أشد خطرا وهم بالتعوذ منهم أجدر، لأنهم منهم أقرب وهو عليهم أخطر، وأنهم في وسائل الضر أدخل وأقدر.

ولا يستقيم أن يكون {من} بيانا للناس إذ لا يطلق اسم { النَّاسِ} على ما يشمل الجن ومن زعم ذلك فقد أبعد.
وقدم {الْجِنَّةِ} على { النَّاسِ} هنا لأنهم أصل الوسواس كما علمت بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] لأن خبثاء الناس أشد مخالطة للأنبياء من الشياطين، لأن الله عصم أنبيائه من تسلط الشياطين على نفوسهم قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] فإن الله أراد إبلاغ وحيه لأنبيائه فزكى نفوسهم من خبث وسوسة الشياطين، ولم يعصمهم من لحاق ضر الناس بهم والكيد لهم لضعف خطره، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ولكنه ضمن لرسله النجاة من كل ما يقطع إبلاغ الرسالة إلى أن يتم مراد الله.
والجنة: اسم جمع جني بياء النسب إلى نوع الجن، فالجني الواحد من نوع الجن كما يقال: إنسي للواحد من الإنس.
وتكرير كلمة { النَّاسِ} في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهار في مقام الإضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى وملكه وإلهيته للناس كلهم كقوله تعالى: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ} [آل عمران:78].
وأما تكريره المرة الثالثة بقوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} فهو إظهار لأجل بعد المعاد.
وأما تكريره المرة الرابعة بقوله: {مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس، وذلك غير ما صدق كلمة { النَّاسِ} في المرات السابقة.
والله يكفينا شر الفريقين، وينفعنا بصالح الثقلين.
تم تفسير "سورة الناس" وبه تم تفسير القرآن العظيم.
يقول محمد الطاهر ابن عاشور: قد وفيت بما نويت، وحقق الله ما ارتجيت فجئت بما سمح به الجهد من بيان معاني القرآن ودقائق نظامه وخصائص بلاغته، مما اقتبس الذهن من أقوال الأئمة، واقتدح من زند لإنارة الفكر وإلهاب الهمة، وقد جئت بما أرجو أن أكون وفقت فيه للإبانة عن حقائق مغفول عنها، ودقائق ربما جلت وجوها ولم تجل كنها، فإن هذا منال لا يبلغ العقل البشري إلى تمامه، ومن رام ذلك فقد رام والجوزاء

دون مرامه1 .
وإن كلام رب الناس، حقيق بأن يخدم سعيا على الرأس، وما أدى هذا الحق إلا قلم المفسر يسعى على القرطاس، وإن قلمي طالما استن بشوط فسيح، وكم زجر عند الكلال والإعياء زجر المنيح، وإذ قد أتى على التمام فقد حق له أن يستريح.
وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف. فكانت مدة تأليفه تسعا وثلاثين سنة وستة أشهر. وهي حقبة لم تخلو من أشغال صارفة، ومؤلفات أخرى أفنانها وارفة، ومنازع بقريحة شاربة طورا وطورا غارفة، وما خلا ذلك من تشتت بال، وتطور أحوال، مما لم تخلو عن الشكاية منه الأجيال، ولا كفران الله فإن نعمه أوفى، ومكاييل فضله علي لا تطفف ولا تكفا.
وأرجو منه تعالى لهذا التفسير أن ينجد ويغور، وأن ينفع به الخاصة والجمهور، ويجعلني به من الذين يرجون تجارة لن تبور.
وكان تمامه بمنزلي ببلد المرسى شرقي مدينة تونس، وكتبه محمد الطاهر ابن عاشور.
ـــــــ
"1" تضمين لمصراع بيت المعري:
برومك والجوزاء دون مرامه ... عدو بعيب البدر عند تمامه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68