كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

حسبان المشركين المنكور ولكنه كلام مستأنف، والمعنى: أنه لما أنكر حسبان استواء الكافرين والمؤمنين خطر ببال السامع أن يسأل كيف واقع حال الفريقين فأجيب بأن حال محياهم وهو مقياس حال مماتهم، أي حالهم في الآخرة مختلف كما هو في الدنيا مختلف، فالمؤمنون يحيون في الإقبال على ربهم ورجاء فضله، والكافرون يعيشون معرضين عن عبادة ربهم آيسين من البعث والجزاء. وهذا ليس عين الجواب ولكنه من الاكتفاء بعلة الجواب عن ذكره. والتقدير: حال الفريقين مختلف في الآخرة كما كان مختلفا في الحياة.
وجملة {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} تذييل لما قبلها من إنكار حسبانهم وما اتصل بذلك الإنكار من المعاني.
واعلم أن هذه الآية وإن كان موردها في تخالف حالي المشركين والمؤمنين فإن نوط الحكم فيها بصلة {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} يجعل منها إيماء إلى تفاوت حالي المسيئين والمحسنين من أهل الإيمان وإن لم يحسب أحد من المؤمنين ذلك وعن تميم الداري أنه بات ليلة يقرأ هذه الآية ويركع ويسجد ويبكي إلى الصباح. وروي مثل ذلك عن الربيع بن خيثم وعن الفضيل بن عياص: أنه كان كثيرا ما يردد من أول الليل هذه الآية ثم يقول: ليت شعري من أي الفريقين أنت. يخاطب نفسه فكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين.
والمحيا والممات: مصدران ميميان أو اسما زمان، أي حياتهم وموتهم، وهو على كلا الاعتبارين بتقدير مضاف، أي حالة محياهم وحالات مماتهم.
[22] {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} الجملة معترضة والواو اعتراضية وهو اعتراض بين الكلام المتقدم وبين ما فرع عليه من قوله {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] هو كالدليل على انتفاء أن يكون الذين اجترحوا السيئات الذين هم في بحبوحة عيش مدة حياتهم أن يكونوا في نعيم بعد مماتهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات مدة حياتهم فكان جزاؤهم النعيم بعد مماتهم، أي بعد حياتهم الثانية بأن خلق السماوات والأرض بالعدل يستدعي التفاوت بين المسيء والمحسن، والانتصاف للمعتدى عليه من المعتدي.
ووجه الاستدلال أن خلق السماوات والأرض تبين كونه في تمام الإتقان والنظام

بحيث إن دلائل إرادة العدل في تصاريفها قائمة، وما أودعه الخالق في المخلوقات من القوى مناسب لتحصيل ذلك النظام الذي فيه صلاحهم فإذا استعملوها في الإفساد والإساءة كان من إتمام إقامة النظام أن يعاقبوا على تلك الإساءة والمشاهد أن المسيء كثير ما عكف على إساءته حتى الممات، فلو لم يكن الجزاء بعد الموت حصل اختلال في نظام خلق المخلوقات وخلق القوى الصادر عنها الإحسان والإساءة، وهذا المعنى تكرر في آيات كثيرة وكلما ذكر شيء منه أتبع بذكر الجزاء، وقد تقدم في سورة آل عمران [191] قوله {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقوله في سورة الدخان [38-40] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}
والباء في قوله {بالحق} للسببية أو للملابسة، أي خلقا للسبب الحق أو ملابسا للحق لا يتخلف الحق عن حال من أحواله.
والحق: اسم جامع لما شأنه أن يحق ويثبت، ومن شأن الحكمة والحكيم أن يقيمه، ولذلك أشير بقوله {وَخَلَقَ اللَّهُ} فإن اسم الجلالة جامع لصفات الكمال وتصرفات الحكمة.
وعطف {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} على {بالحق} لأن المعطوف عليه المجرور بالياء فيه معنى التعليل، وهذا تفصيل بعد إجمال فإن الجزاء على الفعل بما يناسبه هو من الحق، ولأن تعليل الخلق بعلة الجزاء من تفصيل معنى الحق وآثار كون الحق سببا لخلق السماوات والأرض أو ملابسا لأحوال خلقهما، فظهرت المناسبة بين الباء في المعطوف عليه واللام في المعطوف.
والباء في {بِمَا كَسَبَتْ} للتعويض. وما كسبته النفس لا تجزى به بل تجازى بمثله وما يناسبه، فالكلام على حذف مضاف، أي بمثل ما كسبته. وهذه المماثلة مماثلة في النوع، وأما تقدير تلك المماثلة فذلك موكول إلى الله تعالى ومراعى فيه عظمة عالم الجزاء في الخير والشر ومقدار تمرد المسيء وامتثال المحسن، بخلاف الحدود والزواجر فإنها مقدرة بما يناسب عالم الدنيا من الضعف.
ولهذا أعقبه بقوله {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فضمير {وهم} عائد إلى {كُلُّ نَفْسٍ} فإن ذلك الجزاء مما اقتضاه العدل الذي جعل سببا أو ملابسا لخلق السماوات والأرض وما فيهما، فهو عدل، فليس من الظلم في شيء

فالمجازى غير مظلوم، وبالجزاء أيضا ينتفي أثر ظلم الظالم عن المظلوم إذ لو ترك الجزاء لاستمر المظلوم مظلوما.
[23] {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]
لما كان الذين حسبوا أن يكونوا في الآخرة في نعمة وعزة كما كانوا في الدنيا قالوا ذلك عن غير دليل ولا نظر ولكن عن اتباع ما يشتهون لأنفسهم من دوام الحال الحسن تفرع على حسبانهم التعجيب من حالهم، فعطف بالفاء الاستفهام المستعمل في التعجيب، وجعل استفهاما عن رؤية حالهم، للإشارة إلى بلوغ حالهم من الظهور إلى حد أن تكون مرئية.
وأصل التركيب {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الخ، فقدمت همزة الاستفهام، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود من معه من المسلمين، أو الخطاب لغير معين، أي تناهت حالهم في الظهور فلا يختص بها مخاطب.
و {من} الموصولة صادقة على فريق المستهزئين الذين حسبوا أن يكون محياهم ومماتهم سواء بقرينة ضمير الجمع في الجملة المعطوفة بقوله {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] الخ.
والمعنى: أن حجاجهم المسلمين مركز على اتباع الهوى والمغالطة، فلا نهوض لحجتهم لا في النفس الأمر ولا فيما أرادوه، على فرض وقوع البعث من أن يكونوا آمنين من أهوال البعث، وأنهم لا يرجى لهم اهتداء لأن الله خلقهم غير قابلين للهدى فلا يستطيع غيره هداهم.
و {إلهه} يجوز أن يكون أطلق على ما يلازم طاعته حتى كأنه معبود فيكون هذا الإطلاق بطريقة التشبيه البليغ، أي اتخذ هواه كإله له لا يخالف له أمرا.
ويجوز أن يبقى {إلهه} على الحقيقة ويكون {هواه} بمعنى مهويه، أي عبد إلها لأنه يحب أن يعبده، يعني الذين اتخذوا الأصنام آلهة لا يقلعون عن عبادتهم لأنهم أحبوها، أي ألفوها وتعلقت قلوبهم بعبادتها، كقوله تعالى {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93].
ومعنى {أَضَلَّهُ اللَّهُ} أنه حفهم بأسباب الضلالة من عقول مكابرة ونفوس ضعيفة،

اعتادت اتباع ما تشتهيه لا تستطيع حمل المصابرة والرضى بما فيه كراهية لها. فصارت أسماعهم كالمختوم عليها في عدم الانتفاع فالمواعظ والبراهين، وقلوبهم كالمختوم عليها في عدم نفوذ النصائح ودلائل الأدلة إليها، وأبصارهم كالمغطاة بغشاوات فلا تنتفع بمشاهدة المصنوعات الإلهية الدالة على انفراد الله بالإلهية وعلى أن بعد هذا العالم بعثا وجزاء.
ومعنى {عَلَى عِلْمٍ} أنهم أحاطت بهم أسباب الضلالة مع أنهم أهل علم، أي عقول سليمة أو مع أنهم بلغهم العلم بما يهديهم وذلك بالقرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام.
فحرف {على} هنا معناه المصاحبة بمعنى {مع} وأصل هذا المعنى استعارة معنى الاستعلاء للاستعلاء المجازي وهو التمكن بين الوصف والموصوف. وشاع ذلك حتى صار معنى من معاني {على} كما في قول الحارث بن حلزة:
فيقينا على الشناءة تنمينا ... حصون وعزة قعساء
والمعنى: أنه ضال مع ما له من صفة العلم، فالعلم هنا من وصف من اتخذ إلهه هواه وهو متمكن من العلم لو خلع عن نفسه المكابرة والميل إلى الهوى.
وقرأ الجمهور {غشاوة} بكسر الغين وفتح الشين بعدها ألف. وقرأه حمزة والكسائي وخلف {غشوة} بفتح الغين وسكون الشين وهو من التسمية بالمصدر وهي لغة. وتقدم معنى الختم والغشاوة في أول سورة البقرة.
وفرع على هذه الصلة استفهام إنكاري أن يكون غير الله يستطيع أن يهديهم، والمراد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم لشدة أسفه لأغراضهم وبقائهم في الضلالة.
و {مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} بمعنى: دون الله، وتقدم عند قوله تعالى {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} آخر سورة الأعراف.[185]
وفرع على ذلك استفهام عن عدم تذكر المخاطبين لهذه الحقيقة، أي كيف نسوها حتى ألحوا في الطمع بهداية أولئك الضالين وأسفوا لعدم جدوى الحجة لديهم وهو استفهام إنكاري.
ومن المفسرين من حمل {من} الموصولة في قوله {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} على معين فقال مقاتل: هو أبو جهل بسبب حديث جرى بينه وبين الوليد بن المغيرة كانا يطوفان ليلة فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل: والله إني لأعلم إنه لصادق فقال له

المغيرة: مه، وما دلك على ذلك، قال: كنا نسميه في صباه الصادق الأمين فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن قال: فما يمنعك أن تؤمن به قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى إن اتبعته أبدا فنزلت هذه الآية. وإذا صح هذا فإن مطابقة القصة لقوله تعالى {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} ظاهرة. وعن مقاتل أيضا: أنها نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين كان يعبد من الأصنام ما تهواه نفسه.
وهذه الآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى الباعث للمؤمنين على أعمالهم ويتركوا اتباع أدلة الحق، فإذا كان الحق محبوبا لأحد فذلك من التخلق بمحبة الحق تبعا للدليل مثل ما يهوى المؤمن الصلاة والجماعة وقيام رمضان وتلاوة القرآن وفي الحديث أرحنا بها يا بلال يعني الإقامة للصلاة. وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" وعن أبي الدرداء إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه فإن كان عمله تبعا لهواه فيومه يوم سوء وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح.
وأما اتباع الأمر المحبوب لإرضاء النفس دون نظر في صلاحه أو فساده فذلك سبب الضلال وسوء السيرة.
قال عمرو بن العاصي:
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبة ... اذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
ومن الكلمات المأثورة "ثلاث من المهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" ويروى حديثا ضعيف السند. وقدم السمع على القلب هنا بخلاف آية سورة البقرة {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] لأن المخبر عنهم هنا لما أخبر عنهم بأنهم اتخذوا إلههم هواهم، فقد تقرر أنهم عقدوا قلوبهم على الهوى فكان ذلك العقد صارفا السمع عن تلقي الآيات فقدم لإفادة أنهم كالمختوم على سمعهم، ثم عطف عليه و {قلبه} تكميلا وتذكيرا بذلك العقد الصارف للسمع ثم ذكر ما {عَلَى بَصَرِهِ} من شبه الغشاوة لأن ما عقد عليه قلبه بصره عن النظر في أدلة الكائنات.
وأما آية سورة البقرة فإن المتحدث عنهم هم هؤلاء أنفسهم ولكن الحديث عنهم ابتدئ بتساوي الإنذار وعدمه في جانبهم بقوله {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] فلما أريد تفصيله قدم الختم على قلوبهم لأنه الأصل كما كان اتخاذ

الهوى كالإله أصلا في وصف حالهم في آية سورة الجاثية. فحالة القلوب هي الأصل في الانصراف عن التلقي والنظر في الآيتين ولكن نظم هذه الآية كان على حسب ما يقتضيه الذكر من الترتيب ونظم آية البقرة كان على حسب ما يقتضيه الطبع.
وقرأ الجمهور {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} بتشديد الذال. وقرأه عاصم بتخفيف الذال وأصله عند الجميع {تتذكرون} . فأما الجمهور فقراءتهم بقلب التاء الثانية ذالا لتقارب مخرجيهما قصدا للتخفيف، وأما عاصم فقراءته على حذف إحدى التاءين.
[24] {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24]
هذا عطف على جملة {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] أي بعد أن جادلوا المسلمين بأنه إن كان يبعث بعد الموت فستكون عقباهم خيرا من عقبى المسلمين، يقولون ذلك لقصد التورك وهم لا يوقنون بالبعث والجزاء بل ضربوه جدلا وإنما يقينهم قولهم {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}
وتقدم في سورة الأنعام [29] {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} وضمير {هي} ضمير القصة والشأن، أي قصة الخوض في البعث تنحصر في أن لا حياة بعد الممات، أي القصة هي انتفاء البعث كما أفاده حصر الأمر في الحياة الدنيا، أي الحاضرة القريبة منا، أي فلا تطيلوا الجدال معنا في إثبات البعث، ويجوز أن يكون {هي} ضمير الحياة باعتبار دلالة الاستثناء على تقدير لفظ الحياة فيكون حصرا لجنس الحياة في الحياة الدنيا.
وجملة {نَمُوتُ وَنَحْيَا} مبينة لجملة {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا} أي ليس بعد هذا العالم عالم آخر فالحياة هي حياة هذا العالم لا غير فإذا مات من كان حيا خلفه من يوجد بعده. فمعنى {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يموت بعضنا ويحيا بعض أي يبقى حيا إلى أمد أو يولد بعد من ماتوا. وللدلالة على هذا التطور عبر بالفعل المضارع، أي تتجدد فينا الحياة والموت. فالمعنى: نموت ونحيا في هذه الحياة الدنيا وليس ثمة حياة أخرى. ثم إن كانت هذه الجملة محكية بلفظ كلامهم فلعلها مما جرى مجرى المثل بينهم، وإن كانت حكاية لمعنى كلامهم فهي من إيجاز القرآن وهم إنما قالوا: يموت بعضنا ويحيا بعضنا ثم يموت فصار كالمثل.

ولا يخطر بالبال أن حكاية قولهم {نَمُوتُ وَنَحْيَا} تقتضي إرادة نحيا بعد أن نموت لأن قولهم {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} يصرف عن خطور هذا بالبال. والعطف بالواو لا يقتضي ترتيبا بين المتعاطفين في الحصول.
وإنما قدم {نموت} في الذكر على {ونحيا} في البيان مع أن المبين قولهم ما هي {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} فكان الظاهر أن يبدأ في البيان بذكر اللفظ المبين فيقال: نحيا ونموت، فقيل قدم {نموت} لتتأتى الفاصلة بلفظ {نحيا} مع لفظ {الدنيا} . وعندي أن تقديم فعل {نموت} على {نحيا} للاهتمام بالموت في هذا المقام لأنهم بصدد تقرير أن الموت لا حياة بعده ويتبع ذلك الاهتمام تأتي طباقين بين حياتنا الدنيا ونموت ثم بين نموت ونحيا. وحصلت الفاصلة تبعا، وذلك أدخل في بلاغة الإعجاز ولذلك أعقبه بقوله تعالى {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} فالإشارة ب {ذلك} إلى قولهم {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل.
وأما زيادة {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} فقصدوا تأكيد معنى انحصار الحياة والموت في هذا العالم المعبر عنه عندهم بالدهر. فالحياة بتكوين الخلقة والممات بفعل الدهر. فكيف يرجى لمن أهلكه الدهر أن يعود حيا فالدهر هو الزمان المستمر المتعاقب ليله ونهاره.
والمعنى: أحياؤنا يصيرون إلى الموت بتأثير الزمان، أي حدثانه من طول مدة يعقبها الموت بالشيخوخة، أو من أسباب تفضي إلى الهلاك، وأقوالهم في هذا كثيرة ومن الشعر القديم قول عمرو بن قميئة:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فما بال من يرمى وليس برام
ولعلهم يريدون أنه لو تأثر الزمان لبقي الناس أحياء كما قال أسقف نجران:
منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
فلما كان الموت بفعل الدهر فكيف يرجى أن يعودوا أحياء.
وهذه كلمات كانت تجري على ألسنتهم لقلة التدبر في الأمور وإن كانوا يعلمون أن الله هو الخالق للعوالم، وأما ما يجري في العالم من التصرفات فلم يكن لهم فيه رأي وكيف وحالتهم الأمية لا تساعد على ذلك، وكانوا يخطئون في التفاصيل حتى يأتوا بما يناقض ما يعتقدونه، ولذلك أعقبه بقوله تعالى {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} فإشارة ب {ذلك} إلى قولهم {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل على ذلك فإن الدليل النظري

بين أن الدهر وهو الزمان ليس بمميت مباشرة وهو ظاهر ولا بواسطة في الإماتة إذ الزمان أمر اعتباري لا يفعل ولا يؤثر وإنما هو مقادير يقدر بها الناس الأبعاد بين الحوادث مرجعه إلى تقدير حصة النهار والليل وحصص الفصول الأربعة، وإنما توهم عامة الناس أن الزمان متصرف، وهي توهمات شاعت حتى استقرت في الأذهان الساذجة.
والمراد بالظن في قوله {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ما ليس بعلم فهو هنا التخيل والتوهم. وجملة {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} مبينة بجملة {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أو استئناف بياني كأن سائلا حين سمع قوله {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} سأل عن مستندهم في قولهم ذلك فأجيب بأنه الظن المبني على التخيل.
وجيء بالمضارع في {يظنون} لأنهم يحددون هذا الظن ويتلقاه صغيرهم عن كبيرهم في أجيالهم وما هم بمقلعين عنه.
[25] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية:25]
عطف على {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، أي عقدوا على عقيدة أن لا حياة بعد الممات استنادا للأوهام والأقيسة الخيالية. وإذا تليت عليهم آيات القرآن الواضحة الدلالة على إمكان البعث وعلى لزومه لم يعارضوها بما يبطلها بل يهرعون إلى المباهتة فيقولون إن كان البعث حقا فأتوا بآبائنا إن صدقتم. فالمراد بالآيات آيات القرآن المتعلقة بالبعث بدليل ما قبل الكلام وما بعده.
وفي قوله {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا} تسجيل عليهم بالتلجلج عن الحجة البينة، والمصير إلى سلاح العاجز من المكابرة والخروج عن دائرة البحث.
والخطاب بفعل {ائتوا} موجه للمؤمنين بدخول الرسول صلى الله عليه وسلم. و {إِلَّا أَنْ قَالُوا} استثناء من حجتهم وهو يقتضي تسمية كلامهم هذا حجة وهو ليس بحجة إذ هو بالبهتان أشبه فإما أن يكون إطلاق اسم الحجة عليه على سبيل التهكم بهم كقول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
فسمى القتل قرى، وعلى هذا يكون الاستثناء في قوله {إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا} استثناء متصلا تهكما، وإما أن يكون إطلاق اسم الحجة على كلامهم جرى على اعتقادهم

وتقديرهم دون قصد تهكم بهم، أي أتوا بما توهموه حجة فيكون الإطلاق استعارة صورية والاستثناء على هذا متصل أيضا.
وإما أن يكون الإطلاق استعارة بعلاقة الضدية فيكون مجازا مرسلا بتنزيل التضاد منزلة التناسب على قصد التهكم فيكون المعنى أن لا حجة لهم البتة إذ لا حجة لهم إلا هذه، وهذه ليست بحجة بل هي عناد فيحصل أن لا حجة لهم بطريق التمليح والكناية كقول جران العود:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
أي لا أنس بها البتة.
ويقدر قوله {إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا} في محل رفع بالاستثناء المفرغ على الاعتبارات الثلاثة فهو اسم {كان} و {حجتهم} خبرها أن حجتهم منصوب في قراءة جميع القراءات المشهورة.
وتقديم خبر {كان} على اسمها لأن اسمها محصور ب {إلا} فحقه التأخير عن الخبر.
[26] {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:26]
تلقين لإبطال قولهم {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] يتضمن إبطال قولهم {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24].
والمقصود منه قوله {ثم يميتكم} وإنما قدم عليه {يحييكم} توطئة له، أي كما هو أوجدكم هو يميتكم لا الدهر، فتقديم اسم الله على المسند الفعلي وهو {يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} يفيد تخصيص الإحياء والإماتة به لإبطال قولهم، إن الدهر هو الذي يميتهم.
وقوله { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} إبطال لقولهم {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] وليس هو إبطالا بطريق الاستدلال لأن أدلة هذا تكررت فيما نزل من القرآن فاستغني عن تفصيلها ولكنه إبطال بطريق الإجمال والمعارضة.
وقوله {لا رَيْبَ فِيهِ} حال من {يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي لا ريب في وجوده بما يقتضيه من إحياء الأموات، ومعنى نفي الريب فيه أنه حقيقة الريب وهي التي تتقوم من دلائل تفضي إلى الشك منتفية عن قضية وقوع يوم القيامة بكثرة الدلائل الدالة على إمكانه وعلى أنه بالنسبة لقدرة الله ليس أعجب من بدء الخلق، وأن الله أخبر عن وقوعه فوجب القطع

بوقوعه. فكان الشك فيه جديرا بالاقتلاع فكأنه معدوم. وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان "ليسوا بشيء" مع أنهم موجودون فأراد أنهم ليسوا بشيء حقيق، وقد تقدم عند قوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} في سورة البقرة.[2]
وعطف {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} على قوله {لا رَيْبَ فِيهِ} أي ولكن ارتياب كثير من الناس فيه لأنهم لا يعلمون دلائل وقوعه.
[27-29] { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
اعتراض تذييل لقوله {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الجاثية: 26] أي لله لا لغيره ملك السماوات والارض، أي فهو المتصرف في أحوال ما حوته السماوات والأرض من إحياء وإماتة، وغير ذلك بما أوجد من أصولها وما قدر من أسبابها ووسائلها فليس للدهر تصرف ولا لما سوى الله تعالى. وتقديم المجرور على المسند إليه لإفادة التخصيص لرد معتقدهم من خروج تصرف غيره في بعض ما في السماوات والأرض كقولهم في الدهر.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
لما جرى ذكر يوم القيامة أعقب بإنذار الذين أنكروه من سوء عاقبتهم فيه.
و {المبطلون} : الآتون بالباطل في معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم إذ الباطل ما ضاد الحق. والمقصود منه ابتداء هنا هو الشرك بالله فإنه أعظم الباطل ثم تجيء درجات الباطل متنازلة وما من درجة منها إلا وهي خسارة على فاعلها بقدر فعلته وقد أنذر الله الناس وهو العليم بمقادير تلك الخسارة.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} ظرف متعلق ب {يخسر} ، وقدم عليه للاهتمام به واسترعاء الأسماع لما يرد من وصف أحواله.
و {يومئذ} توكيد ل {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} وتنوينه عوض عن المضاف إليه المحذوف لدلالة ما أضيف إليه يوم عليه، أي يوم إذ تقوم الساعة يخسر المبطلون فالتأكيد بتحقيق

مضمون الخبر ولتهويل ذلك اليوم.
والخطاب في {ترى} لكل من يصلح له الخطاب بالقرآن فلا يقصد مخاطب معين، ويجوز أن يكون خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم. والمضارع في {ترى} مراد به الاستقبال فالمعنى: وترى يومئذ.
والأمة: الجماعة العظيمة من الناس الذين يجمعهم دين جاء به رسول إليهم.
و {جاثية} اسم فاعل من مصدر الجثو بضمتين وهو البروك على الركبتين باستئفاز، أي بغير مباشرة المقعدة للأرض، فالجاثي هو البارك المستوفز وهو هيئة الخضوع.
وظاهر كون {كتابها} مفردا غير معرف باللام أنه كتاب واحد لكل أمة فيقتضي أن يراد كتاب الشريعة مثل القرآن، والتوراة، والإنجيل، وصحف إبراهيم وغير ذلك لا صحائف الأعمال، فمعنى {تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} تدعى لتعرض أعمالها على ما أمرت به في كتابها كما في الحديث القرآن حجة لك أو عليك وقيل: أريد بقوله {كتابها} كتاب تسجيل الأعمال لكل واحد، أو مراد به الجنس وتكون إضافته إلى ضمير الأمة على إرادة التوزيع على الأفراد لأن لكل واحد من كل أمة صحيفة عمله خاصة به كما قال تعالى {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الاسراء:14]
وقال {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49] أي كل مجرم مشفق مما في كتابه، إلا أن هذه الآية الأخيرة وقع فيها الكتاب معرفا باللام فقبل العموم. وأما آية الجاثية فعمومها بدلي بالقرينة. فالمراد: خصوص الأمم التي أرسلت إليها الرسل ولها كتب وشرائع لقوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 14]
ومسألة مؤاخذة الأمم التي لم تجئها الرسل بخصوص جحد الإله أو الإشراك به مقررة في أصول الدين، وتقدمت عند قوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} في سورة الإسراء.[15]
وقرأ الجمهور {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} برفع {كل} على أنه مبتدأ وتدعى خبر عنه والجملة استئناف بياني لأن جثو الأمة يثير سؤال سائل عما بعد ذلك الجثو.
وقرأه يعقوب بنصب {كل} على البدل من قوله {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ} وجملة {تدعى} حال من {كُلَّ أُمَّةٍ} فأعيدت كلمة {كُلَّ أُمَّةٍ} دون اكتفاء بقوله {تدعى} أو يدعون للتهويل والدعاء إلى الكتاب بالأمم تجثو ثم تدعى كل أمة إلى كتابها فتذهب إليه

للحساب، أي يذهب أفرادها للحساب ولو قيل: وترى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها لأوهم أن الجثو والدعاء إلى الكتاب يحصلان معا مع ما في إعادة الخبر مرة ثانية من التهويل.
وجملة {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بدل اشتمال من جملة {تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} بتقدير قول محذوف، أي يقال لهم اليوم تجزون، أي يكون جزاؤكم على وفق أعمالكم وجريها على وفق ما يوافق كتاب دينكم من أفعالكم في الحسنات والسيئات، وهذا البدل وقع اعتراضا بين جملة {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} وجملة {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 30] الآيات.
وجملة {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} من مقول القول المقدر، وهي مستأنفة استئنافا بيانيا لتوقع سؤال من يقول منهم: ما هو طريق ثبوت أعمالها. والإشارة إما إلى كتاب شريعة الأمة المدعوة، وإما إلى كتب أفرادها على تأويل الكتاب بالجنس على الوجهتين المتقدمتين.
وإفراد ضمير {ينطق} على هذا الوجه مراعاة للفظ {كتابنا} فالمعنى هذه كتبنا تنطق عليكم بالحق.
وإضافة "كتاب" إلى ضمير الله تعالى بعد أن أضيف إلى {كُلَّ أُمَّةٍ} لاختلاف الملابسة، فالكتاب يلابس الأمة لأنه جعل لإحصاء أعمالهم أو لأن ما كلفوا به مثبت فيه، وإضافته إلى ضمير الله لأنه الآمر به.
وإسناد النطق إلى الكتاب مجاز عقلي وإنما تنطق بما في الكتاب ملائكة الحساب، أو استعير النطق للدلالة نحو قولهم: نطقت الحال.
والمعنى: أن فيه شهادة عليهم بأن أعمالهم مخالفة لوصايا الكتاب أو بأنها مكتوبة في صحائف أعمالهم على التأويلين في المراد بالكتاب. ولتضمن {ينطق} معنى {يشهد} عدي بحرف "على".
ولما كان المقام للتهديد اقتصر فيه على تعدية {ينطق} بحرف {على} دون زيادة: ولكم، إيثارا لجانب التهديد.
وجملة {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} استئناف بياني لأنهم إذا سمعوا {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} خطر ببالهم السؤال: كيف شهد عليهم الكتاب اليوم وهم قد عملوا الأعمال في الدنيا، فأجيبوا بأن الله كان يأمر بنسخ ما يعملونه في الصحف في وقت عمله.

وإن حمل الكتاب على كتب الشريعة كانت جملة {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليلا للجملة قبلها باعتبار تقييد النطق بأنه الحق، أي لأن أعمالكم كانت محصاة مبين ما هو منها مخالف لما أمر به كتابهم.
والاستنساخ: استفعال من النسخ.
والنسخ: يطلق على كتابه ما يكتب على مثال مكتوب آخر قبله. ويسمى بالمعارضة أيضا. وظاهر الأساس أن هذا حقيقة معنى النسخ وأن قولهم: نسخت الشمس الظل مجاز. وكلام جمهور العلماء بخلافه كما يقوله علماء أصول الفقه في باب النسخ. وكلام الراغب يحتمل الإطلاقين، فإذا درجت على كلام الجمهور فقد جعلت كتابة مكتوب على مثال مكتوب قبله كإزالة للمكتوب الأول لأن ذلك في الغالب يكون لقصد التعويض عن المكتوب الأول لمن ليس عنده أو لخشية ضياع الأصل. وعن ابن عباس أنه كان يقول: ألستم عربا وهل يكون النسخ إلا من كتاب.
وأما إطلاق النسخ على كتابة أنف ليست على مثال كتابة أخرى سبقتها فكلام الزمخشري في الأساس صريح في أنه من معاني النسخ حقيقة، وهو ظاهر كلامه في الكشاف، فيكون لفظ النسخ مشتركا في المعنيين بل ربما كان معنى مطلق الكتابة هو الأصل وكانت تسمية كتابة على مثل كتابة سابقة نسخا لأن ذلك كتابة وكلام صاحب اللسان وصاحب القاموس أن نقل الكتابة لا يسمى نسخا إلا إذا كان على مثال كتابة سابقة. وهذا اختلاف معضل، والأظهر ما ذهب إليه صاحب اللسان وصاحب القاموس فيجوز أن يكون السين والتاء في {نستنسخ} للمبالغة في الفعل مثل استجاب. ويجوز أن يكون السين والتاء للطلب والتكليف، أي نكلف الملائكة نسخ أعمالكم، وعلى هذا المحمل حمل المفسرون السين والتاء هنا أي للطلب، ثم يجوز أن يكون النسخ على معنى نقل كتابة عن كتابة سابقة وبه فسر ابن عباس قال: إن الله وكل ملائكة ينسخون من أم الكتاب في رمضان كل ما سيكون من أعمال بني آدم، ويجوز أن يكون النسخ بمعنى كتابة ما تعلمه الناس دون نقل عن أصل.
والمعنى: إنا كنا نكتب أعمالكم. وعن علي بن أبي طالب أنه قال: إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم ومثله عن الحسن والسدي.
والنسخ هنا: الكتابة، وإسناد فعل الاستنتاج إلى ضمير الله على هذا إسناد مجازي لأن الله أمر الحفظة بكتابة الأعمال.

[30-32] {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}
الفاء لعطف المفصل على المجمل، وهو تفصيل لما أجمل في قوله {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} وما بينهما اعتراض.
فالكلام هنا هو متصل بقوله {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} كما دل عليه قوله {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ}
وابتديء في التفصيل بوصف حال المؤمنين مع أن المقام للحديث عن المبطلين في قوله {يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية: 27] تنويها بالمؤمنين وتعجيلا لمسرتهم وتعجيلا لمساءة المبطلين لأن وصف حال المؤمنين يؤذن بمخالفة حال الآخرين لحالهم.
والتعبير ب"يدخلهم في رحمته" شامل لما تتصوره النفس من أنواع الكرامة والنعيم إذ جعلت رحمة الله بمنزلة المكان يدخلونه.
وافتتح بيان حال الذين كفروا بما يقال لهم من التوبيخ والتقرير من قبل الله تعالى، فقوله {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى} مقول قول محذوف لظهور أن ذلك خطاب صادر من متكلم من جانب الله تعالى فيقدر فيقال لهم على طريقة قوله بعد {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} [الجاثية: 34] والفاء جواب {أما} ، أو فيقال لهم {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} فلما حذف فعل القول قدم حرف الاستفهام على فاء الجواب اعتدادا باستحقاقه التصدير كما يقدم الاستفهام على حروف العطف. ولم يتعد بالمحذوف لأن التقديم لدفع الكراهة اللفظية من تأخر الاستفهام عن الحرف وهي موجودة بعد حذف ما حذف.
والاستفهام توبيخ وتقرير. والمراد بالآيات القرآن، أي فاستكبرتم على الأخذ بها ولم تقتصروا على الاستكبار بل كنتم قوما مجرمين، أي لم تفدكم مواعظ القرآن صلاحا لأنفسكم بما سمعتم منه.
وإقحام {قوما} دون الاقتصار على: وكنتم مجرمين، للدلالة على أن الإجرام صار خلقا لهم وخالط نفوسهم حتى صار من مقومات قوميتهم وقد قدمناه غير مرة.

وجملة {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} إلخ عطف على جملة {فاستكبرتم} . والتقدير: وقلتم ما ندري ما الساعة إذا قيل لكم إن الساعة لا ريب فيها.
وهذان القولان مما تكرر في القرآن بلفظه وبمعناه، فهو تخصيص لبعض آيات القرآن بالذكر بعد التعميم في قوله {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ}
والتعريف في {الساعة} للعهد وهي ساعة البعث، أي زمان البعث كما عبر عنه باليوم.
وقرأ الجمهور {وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا} برفع {والساعة} عطف على جملة {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وقرأه حمزة وحده بنصب {والساعة} عطفا على {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} من العطف على معمولي عامل واحد. ومعنى {مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} ما نعلم حقيقة الساعة ونفي العلم بحقيقتها كناية عن جحد وقوع الساعة، أي علمنا أنها لا وقوع لها، استنادا للتخيلات التي ظنوها أدلة كقولهم {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الاسراء: 49]
وقولهم {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} ظاهر في أنه متصل بما قبله من قولهم {مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} ومبين بما بعده من قوله {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} وموقعه ومعناه مشكل، وفي نظمه إشكال أيضا.
فأما الإشكال من جهة موقعه ومعناه فلأن القائلين موقنون بانتفاء وقوع الساعة لما حكي عنهم آنفا من قولهم {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ} [الجاثية: 24] إلخ فلا يحق عليهم أنهم يظنون وقوع الساعة بوجه من الوجوه ولو احتمالا.
ولا يستقيم أن يطلق الظن هنا على الإيقان بعدم حصوله فيعضل معنى قولهم {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} فتأوله الفخر فقال: إن القوم كانوا فريقين، وأن الذين قالوا {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} فريق كانوا قاطعين بنفي البعث والقيامة وهم الذين ذكرهم الله في الآية المتقدمة بقوله {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] ومنهم من كان شاكا متحيرا فيه وهم الذين أراد الله بهذه الآية اه.
وأقول: هذا لا يستقيم لأنه لو سلم أن فريقا من المشركين كانوا يشكون في وقوع الساعة ولا يجزمون بانتفائه فإن جمهرة المشركين نافون لوقوعها فلا يناسب مقام التوبيخ تخصيصه بالذين كانوا مترددين في ذلك. والوجه عندي في تأويله: إما يكون هذا حكاية لاستهزائهم بخبر البعث فإذا قيل لهم {السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا} قالوا استهزاء {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} ويدل عليه قوله عقبه {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الجاثية: 33].
وتأوله ابن عطية بأن معناه إن نظن بعد قبول خبركم إلا ظنا وليس يعطينا يقينا اهـ،

أي فهو أبطالهم لخصوص قول المسلمين: الساعة لا ريب فيها.
وأما إشكاله من جهة النظم فمرجع الإشكال إلى استثناء الظن من نفسه في قوله {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} فإن الاستثناء المفرغ لا يصح أن يكون مفرغا للمفعول المطلق لانتفاء فائدة التفريع. والخلاص من هذا ما ذهب إليه ابن هشام في مغني اللبيب أن مصحح الاستثناء الظن من نفسه أن المستثنى هو الظن الموصوف بما دل عليه تنكيره من التحقير المشعر به التنوين على حد قول الأعشى:
أحل به الشيب أثقاله ... وما اغتره الشيب إلا اغترارا1
أي، إلا ظنا ضعيفا.
ومفعولا {نظن} محذوفان لدليل الكلام عليهما. والتقدير: إن نظن الساعة واقعة.
وقولهم {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} يفيد تأكيد قولهم {مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} وعطفه عطف مرادف، أي للتشريك في اللفظ. والسين والتاء في {مستيقنين} للمبالغة في حصول الفعل.
[33] {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
عطف على جملة {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الجاثية: 31] باعتبار تقدير: فيقال لهم، أي فيقال لهم ذلك {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} أي جمع لهم بين التوبيخ والإزعاج فوبخوا بقوله {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} إلى آخره، وأزعجوا بظهور سيئات أعمالهم، أي ظهور جزاء سيئاتهم حين رأوا دار العذاب وآلاته رؤية من يوقن بأنها معدة له وذلك بعلم يحصل لهم عند رؤية الأهوال.
وعبر بالسيئات عن جزائها إشارة إلى تمام المعادلة بين العمل وجزائه حتى جعل الجزاء نفس العمل على حد قوله {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35].
ومعنى {حاق} أحاط.
و {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يعم كل ما كان طريق استهزاء بالإسلام من أقوالهم الصادرة عن استهزاء مثل قولهم {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]
ـــــــ
1 روي بالعين المهملة في اللفظين وبالغين المعجمة وهو أظهر ...

وقول العاصي بن وائل الخباب بن الأرث: لأوتين مالا وولدا في الآخرة فأقضي منه دينك. ومن الأشياء التي جعلوها هزؤا مثل عذاب جهنم وشجرة الزقوم وهو ما عبر عنه آنفا ب {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} وإنما عدل عن الإضمار إلى الموصولية لأن في الصلة تغليطا لهم وتنديما على ما فرطوا من أخذ العدة ليوم الجزاء على طريقة قول عبدة بن الطيب:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
والمعنى: أنهم قد أودعوا جهنم فأحاط بهم سرادقها.
والباء في {بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يجوز حملها على السببية وعلى تعدية فعل {يستهزئون} إلى ما لا يتعدى إليه أي العذاب.
[35,34] {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}
لما أودعوا جهنم وأحاطت بهم نودوا {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} إلى آخره تأييسا لهم من العفو عنهم.
وبني فعل {قيل} للنائب حطا لهم عن رتبة أن يصرح باسم الله في حكاية الكلام الذي واجههم به كما أشرنا إليه عند قوله آنفا {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الجاثية: 32] بناء على أن ضمير {ننساكم} ضمير الجلالة وليس من قول الملائكة، فإن كان من قول خزنة جهنم ببناء فعل {وقيل} للنائب للعلم بالفاعل.
وأطلق النسيان على الترك المؤبد على سبيل المجاز المرسل لأن النسيان يستلزم ترك الشيء المنسي في محله أو تركه على حالته، ويجوز أن يكون النسيان مستعارا للإهمال وعدم المبالاة، أي فلا تتعلق الإرادة بالتخفيف عنهم وعلى هذين الاعتبارين يفسر معنى النسيان الثاني.
والكاف في {كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ} للتعليل كما في قوله تعالى أي جزاء نسيانكم هذا اليوم، أي إعراضكم عن الإ {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} يمان به.
واللقاء: وجدان شيء شيئا في مكان، وهو المصادفة يقال: لقي زيد عمرا، ولقي العصفور حبة.
ولقاء اليوم، أطلق اليوم على ما فيه من الأحداث على سبيل المجاز

المرسل لأنه أوجز من تعداد الأهوال الحاصلة منذ البعث إلى قضاء الجزاء على الأعمال.
وإضافة يوم إلى ضمير المخاطبين في {يومكم} باعتبار أن ذلك اليوم ظرف لأحوال تتعلق بهم فإن الإضافة تكون لأدنى ملابسة، إلا ترى أنه أضيف إلى ضمير المؤمنين في قوله تعالى {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الانبياء: 103].
ووصف اليوم باسم الإشارة تمييزه أكمل تمييز تكميلا لتعريفه بالإضافة لئلا يلتبس عليهم بيوم آخر.
وعطف {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} على {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} ليعلموا أن تركهم في النار ترك مؤبد فأن المأوى هو مسكن الشخص الذي يأوي إليه بعد أعماله، فالمعنى أنكم قد أويتم إلى النار فأنتم باقون فيها، وتقدم نظير قوله {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} قريبا، والمقصود تخطئة زعمهم السابق أن الأصنام تنفعهم في الشدائد.
و {ذلكم} إشارة إلى {مأواكم} والباء للسببية، أي ذلكم المأوى بسبب اتخاذكم آيات الله، وهي آيات القرآن هزؤا، أي مستهزأ بها، {هزؤا} مصدر مراد به اسم المفعول مثل خلق.
وتغرير الحياة الدنيا إياهم سبب أيضا لجعل النار مأواهم. والتغرير: الإطماع الباطل. ومعنى تغرير الحياة الدنيا إياهم: أنهم قاسوا أحوال الآخرة على أحوال الدنيا فظنوا أن الله لا يحيي الموتى وتطرقوا من ذلك إلى إنكار الجزاء في الآخرة على ما يعمل في الدنيا وغرهم أيضا ما كانوا عليه من العزة والمنعة فخالوه منتهى الكمال فلم يصيخوا إلى داعي الرشد وعظة النصح وأعرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن القرآن المرشد ولولا ذلك لأقبلوا على التأمل فيما دعوا إليه فاهتدوا فسلموا من عواقب الكفر ولكون هذه المغررات حاصلة في الحياة الدنيا أسند التغرير إلى الحياة على سبيل المجاز العقلي لأن ذلك أجمع لأسباب الغرور.
وفرع على ذلك {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} بالفاء وهذا من تمام الكلام الذي قيل لهم لأن وقوع كلمة {اليوم} في أثنائه يعين أنه من القيل الذي يقال لهم يومئذ. واتفق القراء على قراءة {لا يخرجون} بياء الغيبة. وكان مقتضى الظاهر أن يقال: لا تخرجون، بأسلوب الخطاب مثل سابقه ولكن عدل عن طريقة الخطاب إلى الغيبة على وجه الالتفات. ويحسنه هنا أنه تخييل للإعراض عنهم بعد توبيخهم وتأييسهم وصرف بقية

الإخبار عنهم إلى مخاطب آخر ينبأ ببقية أمرهم تحقيرا لهم.
وقرأ الجمهور {يخرجون} بضم الياء وفتح الراء، فالمعنى: أنهم يسألون من يخرجهم فلا يخرجهم أحد كما في قوله تعالى {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون: 107] وقوله {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11]. وقرأه حمزة والكسائي {يخرجون} بفتح الياء وضم الراء. فالمعنى: أنهم يفزعون إلى الخروج فلا يستطيعون لقوله تعالى {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22].
والاستعتاب بمعنى: الإعتاب، فالسين والتاء للمبالغة كما يقال: أجاب واستجاب. ومعنى الإعتاب: إعطاء العتبى وهي الرضا. وهو هنا مبني للمجهول. أي لا يستعتبهم أحد، أي ولا يرضون بما يسألون، وتقدم نظيره في قوله تعالى {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} في سورة الروم.[57]
وتقديم {هم} على {يستعتبون} وهو مسند فعلي بعد حرف النفي هنا تعريض بأن الله يعتب غيرهم، أي يرضي المؤمنين، أي يغفر لهم.
[37,36] {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
الفاء لتفريع التحميد والثناء على الله تفريعا على ما احتوت عليه السورة من ألطاف الله فيما خلق وأرشد وسخر وأقام من نظم العدالة، والإنعام على المسلمين في الدنيا والآخرة، ومن وعيد للمعرضين واحتجاج عليهم، فلما كان ذلك كله من الله كان دالا على اتصافه بصفات العظمة والجلال وعلى إفضاله على الناس بدين الإسلام كان حقيقا بإنشاء قصر الحمد عليه فيجوز أن يكون هذا الكلام مرادا منه ظاهر الإخبار، ويجوز أن يكون مع ذلك مستعملا في معناه الكنائي وهو أمر الناس بأن يقصروا الحمد عليه. ويجوز أن يكون إنشاء حمد لله تعالى وثناء عليه. وكل ما سبقه من آيات هذه السورة مقتض للوجوه الثلاثة، ونظيره قوله تعالى {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} في سورة الأنعام.[45]
وتقديم "لله" لإفادة الاختصاص، أي الحمد مختص به الله تعالى يعني الحمد الحق الكامل مختص به تعالى كما تقدم في سورة الفاتحة.

وإجراء وصف {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} على اسمه تعالى إيماء إلى علة قصر الحمد على الله إخبارا وإنشاءا تأكيدا لما اقتضته الفاء في قوله {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} وعطف {وَرَبِّ الْأَرْضِ} بتكرير لفظ {رب} للتنويه بشأن الربوبية لأن رب السماوات والأرض يحق حمده على أهل السماء والأرض، فأما أهل السماء فقد حمدوه كما أخبر الله عنهم بقوله {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى: 5]. وأما أهل الأرض فمن حمده منهم فقد أدى حق الربوبية ومن حمد غيره وأعرض عنه فقد سجل على نفسه سمة الإباق، وكان بمأوى النار محل استحقاق.
ثم أتبع بوصف {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهم سكان السماوات والأرض تأكيدا لكونهم محقوقين بأن يحمدوه لأنه خالق العوالم التي هم منتفعون بها وخالق ذواتهم فيها كذلك.
وعقب ذلك بجملة {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} للإشارة إلى أن استدعاءه خلقه لحمده إنما هو لنفعهم وتزكية نفوسهم فإنه غني عنهم كما قال {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} .[الذاريات: 57,56]
وتقديم المجرور في {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} مثله في {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} والكبرياء: الكبر الحق الذي هو كمال الصفات وكمال الوجود. ثم أتبع ذلك بصفتي {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} لأن العزة تشمل معاني القدرة والاختيار، والحكمة تجمع معاني تمام العلم وعمومه.
وبهذه الخاتمة آذن الكلام بانتهاء السورة فهو من براعة خواتم السور.

المجلد السادس والعشرون
سورة الأحقاف...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحقاف
سميت هذه السورة "سورة الأحقاف" في جميع المصاحف وكتب السنة، ووردت تسميتها بهذا الاسم في كلام عبد الله بن عباس. روى أحمد بن حنبل بسند جيد عن ابن عباس قال أقرأني رسول الله سورة من آل حم وهي الأحقاف، وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين. وكذلك وردت تسميتها في كلام عبد الله بن مسعود أخرج الحاكم بسند صححه عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله سورة الأحقاف الحديث. وحديث ابن عباس السابق يقتضي أنها تسمى ثلاثين إلا أن ذلك لا يختص بها فلا يعد من أسمائها. ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
ووجه تسميتها "الأحقاف" ورود لفظ الأحقاف فيها ولم يرد في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية قال القرطبي: باتفاق جميعهم، وفي إطلاق كثير من المفسرين. وبعض المفسرين نسبوا استثناء آيات منها الى بعض القائلين، فحكى ابن عطية استثناء آيتين هما قوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} إلى {الظالمين} فإنها أشارت إلى إسلام عبد الله بن سلام وهو إنما أسلم بعد الهجرة، وقوله {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: 35]. وفي الإتقان ثلاثة أقوال باستثناء آيات ثلاث منها الاثنتان اللتان ذكرهما ابن عطية والثالثة {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} إلى قوله {خاسرين} . [الأحقاف: 15-18] وسيأتي ما يقتضي أنها نزلت بعد مضي عامين من البعثة وأسانيد جميعها متفاوتة. وأقواها ما روي في الآية الأولى منها، وسنبين ذلك عند الكلام عليها في مواضعها.
وهذه السورة معدودة الخامسة والستين في عداد نزول السور، نزلت بعد الجاثية وقبل الذاريات.
وعدت آيها عند جمهور أهل الأمصار أربعا وثلاثين، وعدها أهل الكوفة

خمسا وثلاثين والاختلاف في ذلك مبني على أن {حم} تعتبر آية مستقلة أو لا.
أغراضها
من الأغراض التي اشتملت عليها أنها افتتحت مثل سورة الجاثية بما يشير إلى إعجاز القرآن للاستدلال على أنه منزل من عند الله. والاستدلال بإتقان خلق السماوات والأرض على التفرد بالإلهية، وعلى إثبات جزاء الأعمال. والإشارة إلى وقوع الجزاء بعد البعث وأن هذا العالم صائر إلى فناء. وإبطال الشركاء في الإلهية. والتدليل على خلوهم عن صفات الإلهية. وإبطال أن يكون القرآن من صنع غير الله. وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم واستشهاد الله تعالى على صدق رسالته واستشهاد شاهد بني إسرائيل وهو عبد الله بن سلام. والثناء على الذين آمنوا بالقرآن وذكر بعض خصالهم الحميدة وما يضادها من خصال أهل الكفر وحسدهم الذي بعثهم على تكذيبه. وذكرت معجزة إيمان الجن بالقرآن. وختمت السورة بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأقحم في ذلك معاملة الوالدين والذرية مما هو من خلق المؤمنين، وما هو من خلق أهل الضلالة.
والعبرة بضلالهم مع ما كانوا عليه من القوة، وأن الله أخذهم بكفرهم وأهلك أمما أخرى فجعلهم عظة للمكذبين وأن جميعهم لم تغن عنهم أربابهم المكذوبة. وقد أشبهت كثيرا من أغراض سورة الجاثية مع تفنن.
[1] {حم}
تقدم القول في نظيره في أول سورة غافر.
وهذه جملة مستقلة مثل نظائرها من الحروف المقطعة في أوائل من سور القرآن.
[2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
تقدم القول في نظيره في أول الجاثية.
[3] {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الاحقاف:3]
لما كان من أهم ما جاء به القرآن إثبات وحدانية الله تعالى، وإثبات البعث والجزاء، لتوقف حصول فائدة الإنذار على إثباتهما، جعل قوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ

الْحَكِيمِ} [الاحقاف:2]
تمهيدا للاستدلال على إثبات الوحدانية والبعث والجزاء، فجعل خلق السماوات والأرض محل اتفاق،ورتب عليه أنه ما كان ذلك الخلق إلا ملابسا للحق، وتقتضي ملابسته للحق أنه لا يكون خلقا عبثا بل هو دال على أنه يعقبه جزاء على ما يفعله المخلوقون.
واستثناء {بالحق} من أحوال عامة، أي ما خلقناهما إلا في حالة المصاحبة للحق.
وقوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} في موضع الحال من الضمير المقدر في متعلق الجار والمجرور من قوله {بالحق} ، فيكون المقصود من الحال التعجيب منهم وليس ذلك عطفا لأن الإخبار عن الذين كفروا بالإعراض مستغنى عنه إذ هو معلوم، والتقدير: إلا خلقا كائنا بملابسة الحق في حال إعراض الذين كفروا عما أنذروا به مما دل عليه الخلق بالحق.
وصاحب الحال هو {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} والمعنى: ما خلقناهما إلا في حالة ملابسة الحق لهما وتعيين أجل لهما. وإعراض الذين كفروا عما انذروا به من آيات القرآن التي تذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من ملابسة الحق.
وعطف {وَأَجَلٍ مُسَمّىً} على {بالحق} ، عطف الخاص على العام للاهتمام به كعطف جبريل وميكائيل على ملائكته في قوله تعالى {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} في سورة البقرة [98] لأن دلالة الحدوث على قبول الفناء دلالة عقلية فهي مما يقتضيه الحق، وأن تعرض السماوات والأرض للفناء دليل على وقوع البعث لأن انعدام هذا العالم يقتضي بمقتضى الحكمة أن يخلفه عالم آخر أعظم منه، على سنة تدرج المخلوقات في الكمال، وقد كان ظن الدهريين قدم هذا العالم وبقاءه أكبر شبهة لهم في إنكارهم البعث {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: من الآية24]. فالدهر عندهم متصرف وهو باق غير فان، فلو جوزوا فناء هذا العالم لأمكن نزولهم إلى النظر في الأدلة التي تقتضي حياة ثانية. فجملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} مرتبطة بالاستثناء في قوله {إلا بالحق} ، أي هم معرضون عما أنذروا به من وعيد يوم البعث.
وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير منصوب ب {أنذروا}. والتقدير: عما أنذروه معرضون.
ويجوز أن تكون {ما} مصدرية فلا يقدر بعدها ضمير. والتقدير عن إنذارهم معرضون فشمل كل إنذار أنذروه.

وتقديم {عَمَّا أُنْذِرُوا} على متعلقه وهو {معرضون} للاهتمام بما أنذروا ويتبع ذلك رعاية الفاصلة.
[4] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الاحقاف:4]
انتقل إلى الاستدلال على بطلان صفة الإلهية عن أصنامهم. فجملة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ} أمر بإلقاء الدليل على إبطال الإشراك وهو أصل ضلالهم. وجاء هذا الاستدلال بأسلوب المناظرة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مواجها لهم بالاحتجاج ليكون إلجاء لهم إلى الاعتراف بالعجز عن معارضة حجته، وكذلك جرى الاحتجاج بعده ثلاث مرات بطريقة أمر التعجيز بقوله {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ} الآية و {أرأيتم} استفهام تقريري فهو كناية عن معنى: أخبروني، وقد تقدم في سورة الأنعام قوله {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ}
وقوله {أروني} تصريح بما كنى عنه طريق التقرير لقوله {أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ} وموقع جملة {أروني} في موقع المفعول الثاني لفعل {أرأيتم} .
والأمر في {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} مستعمل في التسخير والتعجيز كناية عن النفي إن لم يخلقوا من الأرض شيئا فلا تستطيعوا أن تروني شيئا خلقوه في الأرض، وهذا من رؤوس مسائل المناظرة، وهو مطالبة المدعي بالدليل على إثبات دعواه.
و {ماذا} بمعنى ما الذي خلقوه، ف "ما" استفهامية و"ذا" بمعنى الذي. وأصله اسم إشارة ناب عن الموصول. وأصل التركيب: ما ذا الذي خلقوا، فاقتصر على اسم الإشارة وحذف اسم الموصول غالبا في الكلام وقد يظهر كما في قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} [البقرة: 255]. ولهذا قال النحاة: إن "ذا" بعد "ما" أو"من" الاستفهاميتين بمنزلة "ما" الموصولة.
والاستفهام في {مَاذَا خَلَقُوا} إنكاري. وجملة {مَاذَا خَلَقُوا} بدل من جملة {أروني} وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود {ما} الاستفهامية بعده، وإذا لم يكن شيء من الأرض مخلوقا لهم بطل أن يكونوا آلهة لخروج المخلوقات عن خلقهم، وإذا بطل أن يكون لها خلق بطل أن يكون لها تصرف في المخلوقات كما قال تعالى {أَيُشْرِكُونَ مَا لا

يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [في سورة الأعراف.192,191]
و {أم} حرف إضراب انتقالي. والاستفهام المقدر بعد {أم} المنقطعة استفهام إنكاري أي ليس لهم شرك مع الله في السماوات. وإنما أوثر انتفاء الشركة بالنسبة للشركة في السماوات دون انتفاء الخلق كما أوثر انتفاء الخلق بالنسبة إلى الأرض لأن مخلوقات الأرض مشاهدة للناس ظاهر تطورها وحدوثها وأن ليس لما يدعونهم دون الله أدنى عمل في إيجادها، وأما الموجودات السماوية فهي محجوبة عن العيون لا عهد للناس بظهور وجودها ولا تطورها فلا يحسن الاستدلال بعدم تأثير الأصنام في إيجاد شيء منها ولكن لما لم يدع المشركون تصرفا للأصنام إلا في أحوال الناس في الأرض من جلب نفع أو دفع ضر اقتصر في نفي تصرفهم في السماوات على الاستدلال بنفي أن يكون للأصنام شركة في أمور السماوات لأن انتفاء ذلك لا ينازعون فيه. وتقدم نظير هذه الآية في سورة فاطر [40] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية فانظر ذلك.
ثم انتقل من الاستدلال بالمشاهدة وبالإقرار إلى الاستدلال بالأخبار الصادقة بقوله {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} الخ.
فجملة {ائْتُونِي بِكِتَابٍ} في موقع مفعول ثان لفعل {أرأيتم} ، كرر كما يتعدد خبر المبتدأ. ومناط الاستدلال أنه استدلال على إبطال دعوى المدعي بانعدام الحجة على دعواه ويسمى الإقحام كما تقدم. والمعنى: نفي أن يكون لهم حجة على إلهية الأصنام لا بتأثيرها في المخلوقات، ولا بأقوال الكتب، فهذا قريب من قوله في سورة فاطر [40] {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ}
والمراد ب"كتاب" أي كتاب من الكتب المقروءة. وهذا قاطع لهم فإنهم لا يستطيعون ادعاء أن لأصنامهم في الكتب السابقة ذكرا غير الإبطال والتحذير من عبادتها، فلا يوجد في الكتب إلا أحد أمرين: إما إبطال عبادة الأصنام كما في الكتب السماوية، وإما عدم ذكرها البتة ويدل على أن المراد ذلك قوله بعده {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}
والإتيان مستعار للإحضار ولو كان في مجلسهم على ما تقدم في قوله تعالى {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} في سورة البقرة. [23]
والإشارة في قوله {مِنْ قَبْلِ هَذَا} إلى القرآن لأنه حاضر في أذهان أصحاب المحاجة فإنه يقرأ عليهم معاودة. ووجه تخصيص الكتاب بوصف أن يكون من قبل القرآن ليسد عليهم باب المعارضة بأن يأتوا بكتاب يصنع لهم، كما قالوا {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ

هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [لأنفال: من الآية31].
و {أثارة} بفتح الهمزة: البقية من الشيء. والمعنى: أو بقية بقيت عندكم تروونها عن أهل العلم السابقين غير مسطورة في الكتب. وهذا توسيع عليهم في أنواع الحجة ليكون عجزهم عن الإتيان بشيء من ذلك أقطع لدعواهم.
وفي قوله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إلهاب وإفحام لهم بأنهم غير آتين بحجة لا من جانب العقل ولا من جانب النقل المسطور أو المأثور، وقد قال تعالى في سورة القصص [50] {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}
[5,6] {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}
اعتراض في أثناء تلقين الاحتجاج، فلما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحاجهم بالدليل وجه الخطاب إليه تعجيبا من حالهم وضلالهم لأن قوله {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} الخ لا يناسب إلا أن يكون من جانب الله.
و {من} استفهامية، والاستفهام إنكار وتعجيب.
والمعنى: لا أحد أشد ضلالا وأعجب حالا ممن يدعون من دون الله من لا يستجيب له دعاءه فهو أقصى حد من الضلالة ووجه ذلك أنهم ضلوا عن دلائل الوحدانية وادعوا لله شركاء بلا دليل واختاروا الشركاء من حجارة وهي أبعد الموجودات عن قبول صفات الخلق والتكوين والتصرف ثم يدعونها في نوائبهم وهم يشاهدون أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تجيب ثم سمعوا آيات القرآن توضح لهم الذكرى بنقائص آلهتهم، فلم يعتبروا بها وزعموا أنها سحر ظاهر فكان ضلالهم أقصى حد في الضلال.
و {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ} الأصنام عبر عن الأصنام باسم الموصول المختص بالعقلاء معاملة للجماد معاملة العقلاء إذ أسند إليها ما يسند إلى أولي العلم من الغفلة، ولأنه شاع في كلام العرب إجراؤها مجرى العقلاء فكثرت في القرآن مجاراة استعمالهم في ذلك، ومثل هذا جعل ضمائر جمع العقلاء في قوله {وهم} وقوله {غافلون} وهي عائدة إلى {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ}
وجعل يوم القيامة غاية لانتفاء الاستجابة. كناية عن استغراق مدة بقاء الدنيا. وعبر عن نهاية الحياة الدنيا ب {يَوْمِ الْقِيَامَةِ} لأن المواجه بالخبر هو الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون كما

علمت وهم يثبتون يوم القيامة.
وضميرا {كانوا} في الموضعين يجوز أن يعودا إلى {مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} فإن المشركين يعادون أصنامهم يوم القيامة إذ يجدونها من أسباب شقائهم. ويجوز أن يعودا إلى {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} فإن الأصنام يجوز أن تعطى حياة يومئذ فتنطق بالتبري من عبادها ومن عبادتهم إياها، قال تعالى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: من الآية14] وقال {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان: 17-19]
ويجوز أن يكون قوله {كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} جاريا على التشبيه البليغ لمشابهتها للأعداء والمنكرين للعبادة في دلالتها على ما يفضي الى شقائهم وكذبهم كقوله تعالى {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: من الآية101].
وعطف جملة {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} الخ على ما قبلها لمناسبة ذكر يوم القيامة. ومن بديع تفنن القرآن توزيع معاد الضمائر في هذه الآية مع تماثلها في اللفظ وهذا يتدرج في محسن الجمع مع التفريق وأدق.
[7] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}
عطف على جملة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الاحقاف:5] وقد علمت أن هذا مسوق مساق العد لوجود فرط ضلالهم فإن آيات القرآن تتلى عليهم صباح مساء تبين لهم دلائل خلو الأصنام عن مقومات الإلهية فلا يتدبرونها وتحدوا بهم إلى الحق فيغالطون أنفسهم بأن ما فهموه منها تأثر سحري، وأنها سحر، ولم يكتفوا بذلك بل زادوا بهتانا فزعموا أنه مبين، أي واضح كونه سحرا.
وهذا انتقال إلى إبطال ضلال آخر من ضلالهم وهو ضلال التكذيب بالقرآن فهو مرتبط بقوله {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الأحقاف: 1,2] الخ.
وقوله {الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالكفر وبأنه سبب قولهم ذلك.

واللام في قوله {للحق} لام العلة وليست لام تعدية فعل القول إلى المقول له أي قال بعض الكافرين لبعض في شأن الذين آمنوا ومن أجل إيمانهم.
والحق: هو الآيات، فعدل عن ضمير الآيات إلى إظهار لفظ الحق للتنبيه على أنها حق وأن رميها بالسحر بهتان عظيم. {ولَمَّا جَاءَهُمْ} توقيت لمقالتهم، أي يقولون ذلك بفور سماع الآيات وكلما جاءتهم، أي دون تدبر ولا إجالة فكر.
[8] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الاحقاف:8]
إضراب انتقال إلى نوع آخر من ضلال أقوالهم.
وسلك في الانتقال مسلك الإضراب دون أن يكون بالعطف بالواو لأن الإضراب يفيد أن الغرض الذي سينتقل إليه له مزيد اتصال بما قبله، وأن المعنى: دع قولهم {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الاحقاف: من الآية7] واستمع لما هو أعجب وهو قولهم {افتراه} ، أي افترى نسبته إلى الله ولم يرد به السحر.
والاستفهام الذي يقدر بعد {أم} للإنكار على مقالتهم والنفي الذي يقتضيه الاستفهام الإنكاري يتسلط على سبب الإنكار، أي كون القرآن مفترى وليس متسلطا على نسبة القول إليهم لأنه صادر منهم وإنما المنفي الافتراء المزعوم.
والضمير المنصوب في {افتراه} عائد إلى الحق في قوله { قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ} [الاحقاف: من الآية7]، أو الى القرآن لعلمه من المقام، أي افترى القرآن فزعم أنه وحي من عند الله.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجواب مقالتهم بما يقلعها من جذرها، فكان قوله تعالى {قل} جملة جارية مجرى جواب المقاولة لوقوعها في مقابلة حكاية قولهم. وقد تقدم ذلك في قوله {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في أوائل سورة البقرة. [30]
وجعل الافتراء مفروضا بحرف {إن} الذي شأنه أن يكون شرطه نادر الوقوع إشارة إلى أنه مفروض في مقام مشتمل على دلائل تقلع الشرط من أصله.
وانتصب {شيئا} على المفعولية لفعل {تملكون} أي شيئا يملك، أي يستطاع، والمراد: شيء من الدفع فلا تقدرون على أن تردوا عني شيئا يرد علي من الله. وتقدم معنى "لا أملك شيئا" عند قوله تعالى {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ

الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} في سورة العقود.[17]
والتقدير: إن افتريته عاقبني الله معاقبة لا تملكون ردها. فقوله {فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} دليل على الجواب المقدر في الكلام بطريق الالتزام، لأن معنى {لا تَمْلِكُونَ لِي} لا تقدرون على دفع ضر الله عني، فاقتضى أن المعنى: إن افتريته عاقبني الله ولا تستطيعون دفع عقابه.
واعلم أن الشائع في استعمال "لا أملك له شيئا" ونحوه أن يسند فعل الملك إلى الذي هو مظنة للدفع عن مدخول اللام المتعلقة بفعل الملك كقوله تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [الأعراف: من الآية188] وقوله {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [الممتحنة: من الآية4] أو أن يسند الى عام نحو {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} فإسناد فعل الملك في هذه الآية إلى المخاطبين وهم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وليسوا بمظنة أن يدفعوا عنه، لأنهم نصبوا أنفسهم في منصب الحكم على النبي صلى الله عليه وسلم فجزموا بأنه افترى القرآن فحالهم حال من يزعم أنه يستطيع أن يرد مراد الله تعالى على طريقة التهكم.
واعلم أن وجه الملازمة بين الشرط وجوابه في قوله {إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أن الله لا يقر أحدا على أن يبلغ إلى الناس شيئا عن الله لم يأمره بتبليغه، وقد دل القرآن على هذا في قوله تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44-47] ولعل حكمة ذلك أن التقول على الله يفضي إلى فساد عظيم يختل به نظام الخلق، والله يغار على مخلوقاته وليس ذلك كغيره من المعاصي التي تجلبها المظالم والعبث في الأرض لأن ذلك إقدام على ما هو معلوم الفساد لا يخفى على الناس فهم يدفعونه بما يستطيعون من حول وقوة، أو حيلة ومصانعة. وأما التقول على الله فيوقع الناس في حيرة بماذا يتلقونه فلذلك لا يقره الله ويزيله.
وجملة {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} بدل اشتمال من جملة {فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} لأن جملة {فَلا تَمْلِكُونَ لِي} تشتمل على معنى أن الله لا يرضى أن يفتري عليه أحد، وذلك يقتضي أنه أعلم منهم بحال من يخبر عن الله بأنه أرسله وما يبلغه عن الله. وذلك هو ما يخوضون فيه من الطعن والقدح والوصف بالسحر أو بالافتراء أو بالجنون، فما صدق "ما" الموصولة القرآن الذي دل عليه الضمير الظاهر في {افتراه} أو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي دل عليه الضمير المستتر في {افتراه} أو مجموع أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي دل عليها

مختلف خوضهم. ومتعلق اسم التفضيل محذوف، أي هو أعلم منكم. والإفاضة في الحديث: الخوض فيه والإكثار منه وهي منقولة من: فاض الماء؛ إذا سال. ومنه حديث مستفيض مشتهر شائع، والمعنى: هو أعلم بحال ما تفيضون فيه.
وجملة {كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} بدل اشتمال من جملة {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} لأن الإخبار بكونه أعلم منهم بكنه ما يفيضون فيه يشتمل على معنى تفويض الحكم بينه وبينهم إلى الله تعالى. وهذا تهديد لهم وتحذير من الخوض في الباطل ووعيد.
والشهيد: الشاهد، أي المخبر بالواقع. والمراد به هنا الحاكم بما يعلمه من حالنا كما دل عليه قوله {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} لأن الحكم يكون بين خصمين ولا تكون الشهادة بينهما بل لأحدهما قال تعالى {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء: من الآية41]
وإجراء وصفي {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} عليه تعالى اقتضاه ما تضمنه قوله {كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} من التهديد والوعيد، وهو تعريض بطلب الإقلاع عما هم فيه من الخوض بالباطل.
[9] {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الاحقاف:9]
أعيد الأمر بأن يقول ما هو حجة عليهم لما علمت آنفا في تفسير قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الاحقاف: من الآية4] الآيات.
وهذا جواب عما تضمنه قولهم {افتراه} [الأحقاف: 8] من إحالتهم صدقه فيما جاء به من الرسالة عن الله إحالة دعتهم إلى نسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء على الله. وإنما لم يعطف على جملة {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} [الاحقاف: من الآية8] لأن المقصود الارتقاء في الرد عليهم من رد إلى أقوى منه فكان هذا كالتعدد والتكرير، وسيأتي بعده قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} [الاحقاف:10]
ونظير ذلك ما في سورة المؤمنين [81-84] {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} إلى {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} [المؤمنون: من الآية86] وقوله {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون: 88] الخ.
والبدع بكسر الباء وسيكون الدال، معناه البديع مثل: الخف يعني الحفيف قال امرؤ القيس:

يزل الغلام الخف عن صواته
ومنه: الخل بمعنى الخليل. فالبدع: صفة مشبهة بمعنى البادع، ومن أسمائه تعالى "البديع" خالق الأشياء ومخترعها. فالمعنى: ما كنت محدثا شيئا لم يكن بين الرسل.
و {من} ابتدائية، أي ما كنت آتيا منهم بديعا غير مماثل لهم فكما سمعتم بالرسل الأولين أخبروا عن رسالة الله إياهم فكذلك أنا فلماذا يعجبون من دعوتي.
وهذه الآية صالحة للرد على نصارى زماننا الذين طعنوا في نبوته بمطاعن لا منشأ لها إلا تضليل وتمويه على عامتهم لأن الطاعنين ليسوا من الغباوة بالذين يخفى عليهم بهتانهم كقولهم إنه تزوج النساء، أو أنه قاتل الذين كفروا، أو أنه أحب زينب بنت جحش.
وقوله {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} تتميم لقوله {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} وهو بمنزلة الاعتراض فإن المشركين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيبات استهزاء فيقول أحدهم إذا ضلت ناقته: أين ناقتي? ويقول أحدهم: من أبي، أو نحو ذلك فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم بأنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم، أي في الدنيا، وهذا معنى قوله تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: من الآية188].
ولذلك كان قوله {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى} استئنافا بيانيا وإتماما لما في قوله {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} بأن قصارى ما يدريه هو اتباع ما يعلمه الله به فهو تخصيص لعمومه، ومثل علمه بأنه رسول من الله وأن المشركين في النار وأن وراء الموت بعثا. ومثل أنه سيهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين، ومثل قوله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1]، ونحو ذلك مما يرجع إلى ما أطلعه الله عليه، فدع ما أطال به بعض المفسرين هنا من المراد بقوله {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} ومن كونها منسوخة أو محكمة ومن حكم نسخ الخبر.
ووجه عطف {وَلا بِكُمْ} على {بي} بإقحام "لا" النافية مع أنهما متعلقان بفعل صلة "ما" الموصولة وليس في الصلة نفي، فلماذا لم يقل: ما يفعل بي وبكم لأن الموصول وصلته لما وقعا مفعولا للمنفي في قوله {وَمَا أَدْرِي} تناول النفي ما هو في حيز ذلك الفعل المنفي فصار النفي شاملا للجميع فحسن إدخال حرف النفي على المعطوف، كما حسن دخول الباء التي شأنها أن تزاد فيجر بها الاسم المنفي المعطوف على اسم "إن" وهو مثبت في قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الاحقاف: من الآية33] لوقوع {أن} العاملة فيه في خبر النفي وهو {أَوَلَمْ يَرَوْا} وكذلك زيادة "من" في قوله تعالى {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: من الآية105] فإن {خير} وقع معمولا لفعل {ينزل} وهو فعل مثبت ولكنه لما انتفت ودادتهم التنزيل صار التنزيل كالمنفي لديهم.
وعطف {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} على جملة {مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} لأنه الغرض المسوق له الكلام بخلاف قوله {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} والمعنى: وما أنا نذير مبين لا مفتر، فالقصر قصر إضافي، وهو قصر قلب لرد قولهم {افتراه} .
[10] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
أعيد الأمر بأن يقول لهم حجة أخرى لعلها تردهم إلى الحق بعد ما تقدم من قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الاحقاف: من الآية4] الآية وقوله {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الاحقاف: من الآية8] وقوله {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: من الآية9] الآية.
وهذا استدراج لهم للوصول إلى الحق في درجات النظر فقد بادأهم بأن ما أحالوه من أن يكون رسولا من عند الله ليس بمحال إذ لم يكن أول الناس جاء برسالة من الله. ثم أعقبه بأن القرآن إذا فرضنا أنه من عند الله وقد كفرتم بذلك كيف يكون حالكم عند الله تعالى.
وأقحم في هذا أنه لو شهد شاهد من أهل الكتاب بوقوع الرسالات ونزول الكتب على الرسل، وآمن برسالتي كيف يكون انحطاطكم عن درجته، وقد جاءكم كتاب فأعرضتم عنه، فهذا كقوله {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: من الآية157] وهذا تحريك للهمم. ونظير هذه الآية آية سورة فصلت [52] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
سوى أن هذه أقحم فيها قوله {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} فإن المشركين كانت له مخالطة مع بعض اليهودي في مكة ولهم صلة بكثير منهم في التجارة بالمدينة وخيبر فلما ظهرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون من لقوه من اليهود عن أمر الأديان والرسل فكان اليهود لا محالة يخبرون المشركين ببعض الأخبار عن رسالة موسى وكتابه وكيف أظهره الله على فرعون. فاليهود وإن كانوا لا يقرون

برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهم يتحدثون عن رسالة موسى عليه السلام بما هو مماثل لحال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه وفيه ما يكفي لدفع إنكارهم رسالته.
فالاستفهام في {أرأيتم} تقريري للتوبيخ ومفعولا {أرأيتم} محذوفان.
والتقدير: أرأيتم أنفسكم ظالمين: والضمير المستتر في {إن كان} عائد إلى القرآن المعلوم من السياق أو إلى ما يوحى إلي في قوله آنفا {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} وجملة و {كَفَرْتُمْ بِهِ} في موضع الحال من ضمير {أرأيتم} . ويجوز أن يكون عطفا على فعل الشرط. وكذلك جملة {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} . لأن مضمون كلتا الجملتين واقع فلا يدخل في حيز الشرط، وجواب الشرط محذوف دل عليه سياق الجدل. والتقدير: أفترون أنفسكم في ضلال.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تذييل لجملة جواب الشرط المقدرة وهي تعليل أيضا. والمعنى: أتظنون إن تبين أن القرآن وحي من الله وقد كفرتم بذلك فشهد شاهد على حقية ذلك توقنوا أن الله لم يهدكم لأنكم ظالمون وأن الله لا يهدي الظالمين.
وضميرا {كان} و {مثله} عائدان إلى القرآن الذي سبق ذكره مرات من قوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الاحقاف: من الآية2] وقوله {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [الاحقاف: من الآية4].
وجملة {واستكبرتم} عطف على جملة {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} الخ وجملة {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} عطف على جملة {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}
والمثل: المماثل والمشابه في صفة أوفعل، وضمير {مثله} للقرآن فلفظ {مثله} هنا يجوز أن يحمل على صريح الوصف، أي على مماثل للقرآن فيما أنكروه مما تضمنه القرآن من نحو توحيد الله وإثبات البعث وذلك المثل هو كتاب التوراة أو الزبور من كتب بني إسرائيل يومئذ.
ويجوز أن يحمل المثل على أنه كناية عما أضيف إليه لفظ "مثل"، فيكون لفظ "مثل" بمنزلة المقحم على طريقة قول العرب: "مثلك لا يبخل" وكما هو أحد محملين في قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. فالمعنى: وشهد شاهد على صدق القرآن فيما حواه.
ويجوز أن يكون ضمير {مثله} عائدا على الكلام المتقدم بتأويل المذكور، أي على مثل ما ذكر في أنه {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وأنه ليس بدعا من كتب الرسل.
فالمراد ب {شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} شاهد غير معين، أي أي شاهد، لأن الكلام

إنباء لهم بما كانوا يتساءلون به مع اليهود. وبهذا فسر الشعبي ومسروق واختاره ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة عبد الله بن سلام فالخطاب في قوله {أرأيتم} وما بعده موجه إلى المشركين من أهل مكة، وقال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وعكرمة: المراد ب {شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} عبد الله بن سلام. وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام أنه قال: في نزلت آيات من كتاب الله {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} الآية.
ومثل قول قتادة ومجاهد وعكرمة روي عن ابن زيد ومالك بن أنس وسفيان الثوري ووقع في صحيح البخاري في باب فضل عبد الله بن سلام حديث عبد الله ابن يوسف عن مالك عن سعد بن أبي وقاص قال: وفيه نزلت هذه الآية {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ} الآية، قال عبد الله بن يوسف: لا أدري قال مالك: الآية أو في الحديث. قال مسروق: ليس هو ابن سلام لأن أسلم بالمدينة والسورة مكية، وقال الشعبي مثله. ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وأمر بوضعها في سورة الأحقاف، وعلى هذا يكون الخطاب في قوله {أرأيتم} وما بعده لأهل الكتاب بالمدينة وما حولها. وعندي أنه يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بما سيقع من إيمان عبد الله بن سلام فيكون هو المراد ب {شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} وإن كانت الآية مكية.
والظاهر أن مثل هذه الآية هو الذي جرأ المشركين على إنكار نزول الوحي على موسى وغيره من الرسل فقالوا [سبأ: 31] وقالوا {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] حين علموا أن قد لزمت {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} هم الحجة بنزول ما سلف من الكتب قبل القرآن.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تعليل للكلام المحذوف الدال عليه ما قبله كما علمته آنفا، أي ضللتم ضلالا لا يرجى له زوال لأنكم ظالمون والله لا يهدي القوم الظالمين. وهذا تسجيل عليهم بظلمهم أنفسهم.
وجيء في الشرط بحرف {إن} الذي شأنه أن يكون في الشرط غير المجزوم بوقوعه مجاراة لحال المخاطبين استنزالا لطائر جماحهم لينزلوا للتأمل والمحاورة.
[11] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}

هذا حكاية خطأ آخر من أخطاء حجج المشركين الباطلة وهو خطأ منشؤه الإعجاب بأنفسهم وغرورهم بدينهم فاستدلوا على أن لا خير في الإسلام بأن الذين ابتدروا الأخذ به ضعفاء القوم وهم يعدونهم منحطين عنهم، فهم الذين قالوا {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} كما تقدم في الأنعام، وهو نظير قول قوم نوح {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]، ومناسبته لما قبله أنه من آثار استكبارهم فناسب قوله {واستكبرتم} .
واللام في قوله {لِلَّذِينَ آمَنُوا} لام التعليل متعلقة بمحذوف، هو حال من الذين كفروا تقديره: مخصصين أو مريدين كاللام في قوله تعالى {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: من الآية156]، وقوله في الآية السابقة {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الاحقاف: 7].
وليست هي لام تعدية فعل القول إلى المخاطب بالقول نحو {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:72] المسماة لام التبليغ.
والضمير المستتر في {كان} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهو القرآن المفهوم من السياق أو ما يوحى إلي. والسبق أطلق على تحصيل شيء قبل أن يحصله آخر، شبه بأسرع الوصول بين المتجارين، والمراد: الأخذ بما جاء به القرآن من العقائد والأعمال.
وضمير الغيبة في قوله {سبقونا} عائد إلى غير مذكور في الآية ولكنه مذكور في كلام الذين كفروا الذي حكته الآية أرادوا به المؤمنين الأولين من المستضعفين مثل بلال، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وسمية، وزنيرة بزاي معجمة مكسورة ونون مكسورة مشددة مشبعة وراء مهملة أمة رومية كانت من السابقات إلى الإسلام وممن عذبهن المشركون ومن أعتقهن أبو بكر الصديق.
وعن عروة بن الزبير قال: عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة، أي من جملة أقوالهم التي جمعها القرآن في ضمير سبقونا.
{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}
عطف على جملة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية، أي فقد استوفوا بمزاعمهم وجوه الطعن في القرآن فقالوا {سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 7]¨ وقالوا {افتراه} [الأحقاف: 8]

وقالوا {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} وبقي أن يقولوا هو {إِفْكٌ قَدِيمٌ}
وقد نبه الله على أن مزاعمهم كلها ناشئة عن كفرهم واستكبارهم بقوله {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقوله {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} وقوله: {واستكبرتم} وقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} الآية.
وإذ قد كانت مقالاتهم رامية إلى غرض واحد وهو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كان توزيع أسبابها على مختلف المقالات مشعرا بأن جميعها أسباب لجميعها.
وضمير {به} عائد إلى القرآن واسم الإشارة راجع إليه. ومعنى الآية: وإذ لم تحصل هدايتهم بالقرآن فيما مضى فسيستمرون على أن يقولوا هو {إِفْكٌ قَدِيمٌ} إذ لا مطمع في إقلاعهم عن ضلالهم في المستقبل. ولما كانت {إذ} ظرفا للزمن الماضي وأضيفت هنا إلى جملة واقعة في الزمن الماضي كما يقتضيه النفي بحرف {لم} تعين أن الإخبار عنه بأنهم سيقولون {هَذَا إِفْكٌ} أنهم يقولونه في المستقبل، وهو مؤذن بأنهم كانوا يقولون ذلك فيما مضى أيضا لأن قولهم ذلك من تصاريف أقوالهم الضالة المحكية عنهم في سور أخرى نزلت قبل هذه السورة، فمعنى {فسيقولون} سيدومون على مقالتهم هذه في المستقبل.
فالاستقبال زمن للدوام على هذه المقالة وتكريرها مثله في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] فإنه قد هداه من قبل وإنما أراد سيديم هدايته إياي.
فليس المقصود إخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم { سَيَقُولُونَ هَذَا} ولم يقولوه في الماضي إذ ليس لهذا الإخبار طائل. وإذ قد حكي أنهم قالوا ما يرادف هذا في آيات كثيرة سابقة على هذه الآية وأنهم لا يقلعون عنه ولا حاجة إلى تقدير فعل محذوف تتعلق به {إذ} .
وحيث قدم الظرف في الكلام على عامله أشرب معنى الشرط وهو إشراب وارد في الكلام، وكثير في {إذ} ، ولذلك دخلت الفاء في جوابه هنا في قوله {فسيقولون} . ويجوز أن تكون {إذ} للتعليل، وتتعلق {إذا} ب"يقولون" ولا تمنع الفاء من عمل ما بعدها فيما قبلها على التحقيق. وإنما انتظمت الجملة هكذا لإفادة هذه الخصوصيات البلاغية، فالواو للعطف والمعطوف في معنى شرط والفاء لجواب الشرط. وأصل الكلام: وسيقولون هذا إفك قديم إذ لم يهتدوا به

وهذا التفسير جار على ما اختاره ابن الحاجب في الأمالي دون ما ذهب إليه صاحب الكشاف، فإنه تكلف له تكلفا غير شاف.
[12] {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الاحقاف:12]
اتبع إبطال ترهاتهم الطاعنة في القرآن بهذا الكلام المفيد زيادة الإبطال لمزاعمهم بالتذكير بنظير القرآن ومثيل له من كتب الله تعالى هو مشهور عندهم وهو التوراة مع التنويه بالقرآن ومزيته والنعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بها، فعطفت هذه الآية على التي قبلها لارتباطها بها في إبطال مزاعمهم وفي أنها ناظرة إلى قوله {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الاحقاف: من الآية10] كما تقدم.
ففي قوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} إبطال لإحالتهم أن يوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأن الوحي سنة إلهية سابقة معلومة أشهره كتاب موسى، أي التوراة وهم قد بلغتهم نبوءته من اليهود.
وضمير {مِنْ قَبْلِهِ} عائد إلى القرآن. وتقديم {مِنْ قَبْلِهِ} للاهتمام بهذا الخبر لأنه محل المقصد من الجملة.
وعبر عن التوراة ب {كِتَابُ مُوسَى} بطريق الإضافة دون الاسم العلم وهو التوراة لما تؤذن به الإضافة إلى اسم موسى من التذكير بأنه كتاب أنزل على بشر كما أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم تلميحا إلى مثار نتيجة قياس القرآن على كتاب موسى بالمشابهة في جميع الأحوال.
و {إِمَاماً وَرَحْمَةً} حالان من {كِتَابُ مُوسَى} ، ويجوز كونهما حالين من {موسى} والمعنيان متلازمان.
والإمام: حقيقته الشيء الذي يجعله العامل مقياسا لعمل شيء آخر ويطلق إطلاقا شائعا على القدوة قال تعالى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74]. وأصل هذا الإطلاق استعارة صارت بمنزلة الحقيقة، واستعير الإمام لكتاب موسى لأنه يرشد إلى ما يجب عمله فهو كمن يرشد ويعظ، وموسى إمام أيضا بمعنى القدوة.
والرحمة: اسم مصدر لصفة الراحم وهي من صفات الإنسان فهي، رقة في النفس تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه. ووصف الكتاب بها استعارة لكونه سببا في نفع

المتبعين لما تضمنه من أسباب الخير في الدنيا والآخرة.
ووصف الكتاب بالمصدر مبالغة في الاستعارة، وموسى أيضا رحمة لرسالته كما وصف محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الانبياء:107]
وقوله {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} الخ هو المقيس على {كِتَابُ مُوسَى}
والإشارة إلى القرآن لأنه حاضر بالذكر فهو كالحاضر بالذات.
والمصدق : المخبر بصدق غيره. وحذف مفعول المصدق ليشمل جميع الكتب السماوية، قال تعالى {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مخبر بأحقية كل المقاصد التي جاءت بها الكتب السماوية السالفة. وهذا ثناء عظيم على القرآن بأنه احتوى على كل ما في الكتب السماوية وجاء مغنيا عنها ومبينا لما فيها.
والتصديق يشعر بأنه حاكم على ما اختلف فيه منها. وما حرف فهمه بها قال تعالى{ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48]
وزاده ثناء بكونه {لِسَاناً عَرَبِيّاً} أي لغة عربية فإنها أفصح اللغات وأنفذها في نفوس السامعين وأحب اللغات للناس، فإنها أشرف وأبلغ وأفصح من اللغة التي جاء بها كتاب موسى، ومن اللغة التي تكلم بها عيسى ودونها أتباعه أصحاب الأناجيل.
وأدمج لفظ {لسانا} للدلالة على أن المراد بعربيته عربية ألفاظه لا عربية أخلاقه وتعاليمه لأن أخلاق العرب يومئذ مختلطة من محاسن ومساو فلما جاء الإسلام نفى عنها المساوي، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
وغلب إطلاق اللسان على اللغة لأن أشرف ما يستعمل فيه اللسان هو الكلام قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وقال {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: من الآية97].
وقوله {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الاحقاف: 12] يجوز أن يتعلق ب {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} لأن ما سبقه مشتمل على الإنذار والبشارة والأحسن أن يتعلق بما في {كتاب} من معنى الإرشاد المشتمل على الإنذار والبشارة. وهذا أحسن ليكون {لتنذر} علة للكتاب باعتبار صفته وحاله.
والذين ظلموا هم المشركون {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: من الآية13] ويلحق بهم الذين ظلموا أنفسهم من المؤمنين ولذلك قوبل بالمحسنين وهم المؤمنون الأتقياء لأن المراد ظلم النفس ويقابله الإحسان. والنذارة مراتب والبشارة مثلها.

و {بشرى} عطف على {مصدق} ، والتقدير: وهو بشرى للمحسنين، أي الكتاب، وهذا النظم يجعل الجملة بمنزلة الاحتراس والتتميم.
وقرأ نافع وابن عامر والبزي عن ابن كثير ويعقوب {لتنذر} بالمثناة الفوقية خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم فيحصل وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه منذر ووصف كتابه بأنه {بشرى} وفيه احتباك. وقرأه الجمهور بالمثناة التحتية على أنه خبر عن الكتاب فإسناد الإنذار إلى كتاب مجاز عقلي.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الاحقاف:14]
استئناف بياني أوثر بصريحه جانب المؤمنين من المستمعين للقرآن لأنهم لما سمعوا البشرى تطلعوا إلى صفة البشرى وتعيين المحسنين ليضعوا أنفسهم في حق مواضعها، فأجيبوا بأن البشرى هي نفي الخوف والحزن عنهم، وأنهم أصحاب الجنة وأن المحسنين هم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا في أعمالهم. وأشير بمفهومه إلى التعريض بالذين ظلموا فإن فيه مفهوم القصر من قوله {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}
وتعريفهم بطريق الموصولية لما تؤذن به الصلة من تعليل كرامتهم عند الله لأنهم جمعوا حسن معاملتهم لربهم بتوحيده وخوفه وعبادته، وهو ما دل عليه {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} إلى حسن معاملتهم أنفسهم وهو معنى {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}
وجيء في صلة الموصول بفعل {قالوا} لإيجاز المقول وغنيته عن أن يقال: اعترفوا بالله وحده وأطاعوه. والمراد: أنهم قالوا ذلك واعتقدوا معناه إذ الشأن في الكلام الصدق وعملوا به لأن الشأن مطابقة العمل للاعتقاد.
{ثم} للتراخي الرتبي: وهو الارتقاء والتدرج، فإن مراعاة الاستقامة أشق من حصول الإيمان لاحتياجها إلى تكرر مراقبة النفس، فأما الإيمان فالنظر يقتضيه واعتقاده يحصل دفعة لا يحتاج إلى تجديد ملاحظة. فهذا وجه التراخي الرتبي من جهة، وإن كان الإيمان أرقى درجة من العمل من حيث إنه شرط في الاعتداد بالعمل ولذلك عطف ب {ثم} التي للتراخي في قوله تعالى {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ} إلى قوله {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 12,17]، فالاعتباران مختلفان باختلاف المقام المسوق فيه الكلام كما يظهر بالتأمل هنا وهناك، وتقدم نظيره في سورة فصلت.

ودخول الفاء على خبر الموصول وهو {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} لمعاملة الموصول معاملة الشرط كأنه قيل: إن قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم، ومثله كثير في القرآن، فأفاد تسبب ذلك في أمنهم من الخوف والحزن. و {عليهم} خبر عن خوف، أي لا خوف يتمكن منهم ويصيبهم ويلحقهم.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} لتخصيص المسند إليه بالخبر نحو: ما أنا قلت هذا، أي أن الحزن منتف عنهم لا عن غيرهم، والمراد بالغير: من لم يتصف بالإيمان والاستقامة في مراتب الكفر والعصيان، فجنس الخوف ثابت لمن عداهم على مراتب توقع العقاب حتى في حالة الوجل من عدم قبول الشفاعة فيهم ومن توقع حرمانهم من نفحات الله تعالى.
واستحضارهم بطريق اسم الإشارة في قوله {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} للتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد من الإخبار عنهم بما بعد الإشارة لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة، كما تقدم في قوله {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في أول سورة البقرة.[5]
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} أدل على الاختصاص بالجنة من أن يقال: أولئك في الجنة وأولئك لهم الجنة لما في {أصحاب} من معنى الاختصاص وما في الإضافة أيضا.
وقوله {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تصريح بما استفيد من تعليل الصلة في الخبر ومن اقتضاء اسم الإشارة جدارتهم بما بعده وما أفاده وصف أصحاب وما أفادته الإضافة، وهذا من تمام العناية بالتنويه بهم.
[15] {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
{ وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}
تطلب بعض المفسرين وجه مناسبة وقوع هذه الآية عقب التي قبلها، وذكر القرطبي عن القشيري أن وجه اتصال الكلام بعضه ببعض أن المقصود بيان أنه لا يبعد أن يستجيب بعض الناس للنبي صلى الله عليه وسلم ويكفر به بعضهم كما اختلف حال الناس مع الوالدين. وقال ابن

عساكر : لما ذكر الله التوحيد والاستقامة عطف الوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما أية من القرآن. وكلا هذين القولين غير مقنع في وجه الاتصال.
ووجه الاتصال عندي أن هذا الانتقال إلى قول آخر من أقوال المشركين وهو كلامهم في إنكار البعث وجدالهم فيه فإن ذلك من أصول كفرهم بمحل القصد من هذه الآيات قوله {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} إلى قوله {خاسرين} . [الأحقاف: 17,18]
وصيغ هذا في أسلوب قصة جدال بين والدين مؤمنين وولد كافر، وقصة جدال بين ولد مؤمن ووالدين كافرين لأن لذلك الأسلوب وقعا في أنفس السامعين مع ما روي إن ذلك إشارة إلى جدال جرى بين عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وبين والديه كما سيأتي. ولذلك تعين أن يكون ما قبله توطئة وتمهيدا لذكر هذا الجدال.
وقد روى الواحدي عن ابن عباس أن قوله {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} إلى قوله {يوعدون} [الأحقاف: 15,16] نزل في أبي بكر الصديق. وقال ابن عطية وغير واحد: نزلت في أبي بكر وأبيه أبي قحافة وأمه أم الخير أسلم أبواه جميعا.
وقد تكررت الوصاية ببر الوالدين في القرآن وحرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عديدة فكان البر بالوالدين أجلى مظهرا في هذه الآمة منه في غيرها وكان من بركات أهلها بحيث لم يبلغ بر الوالدين مبلغا في أمة مبلغه في المسلمين.
وتقدم {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} في سورة العنكبوت.[8]
والمراد بالإنسان الجنس، أي وصينا الناس وهو مراد به خصوص الناس الذين جاءتهم الرسل بوصايا الله والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذلك هو المناسب لقوله في آخرها {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الاحقاف: من الآية16] الآية.
وكذلك هو فيما ورد من الآيات في هذا الغرض كما في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان بصيغة واحدة.
والحسن: مصدر حسن، أي وصيناه بحسن المعاملة. وقرأه الجمهور كذلك. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف {إحسانا} . والنصب على القراءتين إما بنزع الخافض وهو الباء وإما بتضمين {وصينا} معنى: ألزمنا.
والكره: بفتح الكاف وبضمها مصدر أكره، إذا امتعض من شيء، أي كان حمله مكروها له، أي حالة حمله وولادته لذلك. وقرأ الجمهور {كرها} في الموضعين بفتح

الكاف. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب بضم الكاف في الموضعين. وانتصب {كرها} على الحال، أي كارهة أو ذات كره.
والمعنى : أنها حملته في بطنها متعبة من حمله تعبا يجعلها كارهة لأحوال ذلك الحمل.
ووضعته بأوجاع وآلام جعلتها كارهة لوضعه. وفي ذلك الحمل والوضع فائدة له هي فائدة وجوده الذي هو كمال حال الممكن وما ترتب على وجوده من الإيمان والعمل الصالح الذي به حصول النعم الخالدة.
وأشير إلى ما بعد الحمل من إرضاعه الذي به علاج حياته ودفع ألم الجوع عنه وهو عمل شاق لأمه فذكرت مدة الحمل والإرضاع لأنها لطولها تستدعي صبر الأم على تحمل كلفة الجنين والرضيع.
والفصال : الفطام، وذكر الفصال لأنه انتهاء مدة الرضاع فذكر مبدأ مدة الحمل بقوله {وحمله} وانتهاء الرضاع بقوله {وفصاله} . والمعنى: وحمله وفصاله بينهما ثلاثون شهرا. وقرأ يعقوب {وفصله} بسكون الصاد، أي فصله عن الرضاعة بقرينة المقام.
ومن بديع معنى الآية جمع مدة الحمل إلى الفصال في ثلاثين شهرا لتطابق مختلف مدد الحمل إذ قد يكون الحمل ستة أشهر وسبعة أشهر وثمانية أشهر وتسعة وهو الغالب، قيل: كانوا إذا كان حمل المرأة تسعة أشهر وهو الغالب أرضعت المولود أحد وعشرين شهرا، وإذا كان الحمل ثمانية أشهر أرضعت اثنين وعشرين شهرا، وإذا كان الحمل سبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهرا، وإذا كان الحمل ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا، وذلك أقصى أمد الإرضاع فعوضوا عن نقص كل شهر من مدة الحمل شهرا زائدا في الإرضاع لأن نقصان مدة الحمل يؤثر في الطفل هزالا.
ومن بديع هذا الطي في الآية أنها صالحة للدلالة على أن مدة الحمل قد تكون دون تسعة أشهر ولولا أنها تكون دون تسعة أشهر لحددته بتسعة أشهر لأن الغرض إظهار حق الأم في البر بما تحملته من مشقة الحمل فإن مشقة مدة الحمل أشد من مشقة الإرضاع فلولا قصد الإيماء إلى هذه الدلالة لكان التحديد بتسعة أشهر أجدر بالمقام. وقد جعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذه الآية مع آية سورة البقرة {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} دليلا على أن الوضع قد يكون لستة أشهر، ونسب مثله إلى ابن عباس. ورووا عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت

لتمام ستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان ابن عفان فذكر له فبعث إليها عثمان، فلما أتي بها أمر برجمها فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال: أما تقرأ القرآن قال: بلى. أما سمعت قوله {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} ، وقال {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فلم نجده بقي إلا ستة أشهر. فرجع عثمان إلى ذلك وهو استدلال بني على اعتبار أن شمول الصور النادرة التي يحتملها لفظ القرآن هو اللائق بكلام علام الغيوب الذي أنزله تبيانا لكل شيء من مثل هذا. وتقدم الكلام على أحكام الحمل في سورة البقرة.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
{حتى} ابتدائية ومعناها معنى فاء التفريع على الكلام المتقدم، وإذ كانت {حتى} لا يفارقها معنى الغاية كانت مؤذنة هنا بأن الإنسان تدرج في أطواره من وقت فصاله إلى أن بلغ أشده، أي هو موصى بوالديه حسنا في الأطوار الموالية لفصاله، أي يوصيه وليه في أطوار طفولته ثم عليه مراعاة وصية الله في وقت تكليفه.
ووقوع {إذا} بعد {حتى} ليرتب عليها توقيت ما بعد الغاية من الخبر، أي كانت الغاية وقت بلوغه الأشد، وقد تقدمت نظائر قريبا وبعيدا منها قوله تعالى {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} في سورة آل عمران.[152]
ولما كان {إذا} ظرفا لزمن مستقبل كان الفعل الماضي بعدها منقلبا إلى الاستقبال، وإنما صيغ بصيغة الماضي تشبيها للمؤكد تحصيله بالواقع، فهو استعارة.
و {إذا} تجريد للاستعارة، والمعنى: حتى يبلغ أشده، أي يستمر على الإحسان إليهما إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغه {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي طلب العون من الله على زيادة الإحسان إليهما بأن يلهمه الشكر على نعمه عليه وعلى والديه. ومن جملة النعم عليه أن ألهمه الإحسان لوالديه. ومن جملة نعمه على والديه أن سخر لهما هذا الولد ليحسن إليهما، فهاتان النعمتان أول ما يتبادر عن عموم نعمة الله عليه وعلى والديه لأن المقام للحديث عنهما.
وهذا إشارة إلى أن الفعل المؤقت ببلوغ الأشد وهو فعل {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} من جملة ما وصي به الإنسان، أي أن يحسن إلى والديه في وقت بلوغه الأشد. فالمعنى: ووصينا الإنسان حسنا بوالديه حتى في زمن بلوغه الأشد، أي أن لا يفتر عن الإحسان

إليهما بكل وجه حتى بالدعاء لهما. وإنما خص زمان بلوغه الأشد لأنه زمن يكثر فيه الكلف بالسعي للرزق إذ يكون له فيه زوجة وأبناء وتكثر تكاليف المرأة فيكون لها فيه زوج وبيت وأبناء فيكونان مظنة أن تشغلهما التكاليف عن تعهد والديهما والإحسان إليهما فنبها بأن لا يفترا عن الإحسان إلى الوالدين.
ومعنى {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أنه دعا ربه بذلك، ومعناه: أنه مأمور بالدعاء إليهما بأنه لا يشغله الدعاء لنفسه عن الدعاء لهما وبأنه يحسن إليهما بظهر الغيب منهما حين مناجاته ربه، فلا جرم أن إحسانه إليهما في المواجهة حاصل بفحوى الخطاب كما في طريقة الفحوى في النهي عن أذاهما بقوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
وحاصل المعنى: أن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين في المشاهدة والغيبة وبجميع وسائل الإحسان الذي غايته حصول النفع لهما، وهو معنى قوله تعالى {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الاسراء: 24] وأن الله لما أمر بالدعاء للأبوين وعد بإجابته على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له بخير". وما شكر الولد ربه على النعمة التي أنعمها الله على والديه إلا من باب نيابته عنهما في هذا الشكر، وهو من جملة العمل الذي يؤديه الولد عن والديه.
وفي حديث الفضل بن عباس أن المرأة الخثعمية قالت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفيجزئ أن أحج عنه ، قال: "نعم حجي عنه"، وهو حج غير واجب على أبيها لعجزه.
والأشد: حالة اشتداد القوى العقلية والجسدية وهو جمع لم يسمع له بمفرد. وقيل مفرده: شدة بكسر الشين وها التأنيث مثل نعمة جمعها أنعم، وليس الأشد اسما لعدد من سني العمر وإنما سنو العمر مظنة للأشد. ووقته ما بعد الثلاثين سنة وتمامه عند الأربعين سنة ولذلك عطف على {بَلَغَ أَشُدَّهُ} قوله {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} أي بلغ الأشد ووصل إلى أكمله فهو كقوله تعالى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14]، وتقدم في سورة يوسف، وليس قوله {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} تأكيدا لقوله {بَلَغَ أَشُدَّهُ} لأن إعادة فعل بلغ تبعد احتمال التأكيد وحرف العطف أيضا يبعد ذلك الاحتمال.
و {أوزعني} : ألهمني. وأصل فعل أوزع الدلالة على إزالة الوزع، أي الانكفاف عن عمل ما، فالهمزة فيه للإزالة، وتقدم في سورة النمل.

و {نعمتك} اسم مصدر مضاف يعم، أي ألهمني شكر النعم التي أنعمت بها علي وعلى والدي من جميع النعم الدينية كالإيمان والتوفيق ومن النعم الدنيوية كالصحة والجدة.
وما ذكر من الدعاء لذريته بقوله {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} استطراد في أثناء الوصاية بالدعاء للوالدين بأن لا يغفل الإنسان عن التفكر في مستقبله بأن يصرف عنايته إلى ذريته كما صرفها إلى أبويه ليكون له من إحسان ذريته إليه مثل ما كان منه لأبويه وإصلاح الذرية يشمل إلهامهم الدعاء إلى الوالد.
وفي إدماج تلقين الدعاء بإصلاح ذريته مع أن سياق الكلام في الإحسان إلى الوالدين إيماء إلى أن المرء يلقى من إحسان أبنائه إليه مثل ما لقي أبواه من إحسانه إليهما، ولأن دعوة الأب لابنه مرجوة الإجابة. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم" ، وفي رواية لولده وهو حديث حسن متعددة طرقه.
واللام في {وَأَصْلِحْ لِي} لام العلة، أي أصلح في ذريتي لأجلي ومنفعتي كقوله تعالى {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. ونكتة زيادة هذا في الدعاء أنه بعد أن أشار إلى نعم الله عليه وعلى والديه تعرض إلى نفحات الله فسأله إصلاح ذريته وعرض بأن إصلاحهم لفائدته، وهذا تمهيد لبساط الإجابة كأنه يقول: كما ابتدأتني بنعمتك وابتدأت والدي بنعمتك ومتعتهما بتوفيقي إلى برهما، كمل إنعامك بإصلاح ذريتي فإن إصلاحهم لي. وهذه ترقيات بديعة في درجات القرب.
ومعنى ظرفية {في ذريتي} أن ذريته نزلت منزلة الظرف يستقر فيه ما هو به الإصلاح ويحتوي عليه، وهو يفيد تمكن الإصلاح من الذرية وتغلغله فيهم. ونظيره في الظرفية قوله تعالى {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}
وجملة {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} كالتعليل للمطلوب بالدعاء تعليل توسل بصلة الإيمان والإقرار بالنعمة والعبودية. وحرف "إن" للاهتمام بالخبر كما هو ظاهر، وبذلك يستعمل حرف "إن" في مقام التعليل ويغني غناء الفاء.
والمراد بالتوبة: الإيمان لأنه توبة من الشرك، وبكونه من المسلمين أنه تبع شرائع الإسلام وهي الأعمال. وقال {مِنَ الْمُسْلِمِينَ } دون أن يقول: وأسلمت كما قال {تُبْتُ

إِلَيْكَ} لما يؤذن به اسم الفاعل من التلبس بمعنى الفعل في الحال وهو التجدد لأن الأعمال متجددة متكررة، وأما الإيمان فإنما يحصل دفعة فيستقر لأنه اعتقاد، وفيه الرعي على الفاصلة. هذا وجه تفسير الآية بما تعطيه تراكيبها ونظمها دون تكلف ولا تحمل، وهي عامة لكل مسلم أهل لوصاية الله تعالى بوالديه والدعاء لهما إن كانا مؤمنين.
[16] {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}
جيء باسم الإشارة للغرض الذي ذكرناه آنفا عند قوله {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [الاحقاف: من الآية14]. وكونه إشارة جمع ومخبرة عنه بألفاظ الجمع ظاهر في أن المراد بالإنسان من قوله {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ} [الاحقاف: من الآية15] غير معين بل المراد الجنس المستعمل في الاستغراق كما قدمناه والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما قبلها من الوصف والحث يحدث ترقب السامع لمعرفة فائدة ذلك فكان قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} إلى آخره جوابا لترقية.
وعموم {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} يكسب الجملة فائدة التذييل، أي الإحسان بالوالدين والدعاء لهما وللذرية من أفضل الأعمال فهو من أحسن ما عملوا. وقد تقبل منهم كل ما هو أحسن ما عملوا. والتقبل: ترتب آثار العمل من ثواب على العمل واستجابة للدعاء. وفي هذا إيماء إلى أن هذا الدعاء مرجو الإجابة لأن الله تولى تلقينه مثل الدعاء الذي في سورة الفاتحة ودعاء آخر سورة البقرة.
وعدي فعل {يتقبل} بحرف "عن"، وحقه أن يعدى بحرف "من" تغليبا لجانب المدعو لهم وهم الوالدان والذرية، لأن دعاء الولد والوالد لأولئك بمنزلة النيابة عنهم في عبادة الدعاء وإذا كان العمل بالنيابة متقبلا علم أن عمل المرء لنفسه متقبل أيضا ففي الكلام اختصار كأنه قيل: أولئك يتقبل منهم ويتقبل عن والديهم وذريتهم أحسن ما عملوا.
وقرأ الجمهور {يتقبل} و {يتجاوز} بالياء التحتية مضمونة مبنيين للنائب و {أحسن} مرفوع على النيابة عن الفاعل ولم يذكر الفاعل لظهور أن المتقبل هو الله. وقرأهما حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنونين مفتوحتين ونصب { أحسن} .
وقوله {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} في موضع الحال من اسم الإشارة، أي كائنين في أصحاب الجنة حين يتقبل أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم لأن أصحاب الجنة متقبل

أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم، وذكر هذا للتنويه بهم بأنهم من الفريق المشرفين كما يقال: أكرمه في أهل العلم.
وانتصب {وَعْدَ الصِّدْقِ} على الحال من التقبل والتجاوز المفهوم من معاني {يتقبل} و{يتجاوز}، فجاء الحال من المصدر المفهوم من الفعل كما أعيد عليه الضمير في قوله تعالى {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: من الآية8]، أي العدل أقرب للتقوى.
والوعد: مصدر بمعنى المفعول، أي ذلك موعدهم الذي كانوا يوعدونه.
وإضافة {وعد} إلى {الصدق} إضافة على معنى "من"، أي وعد من الصدق إذ لا يتخلف.
و {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} صفة وعد الصدق، أي ذلك هو الذي كانوا يوعدونه في الدنيا بالقرآن في الآيات الحاثة على بر الوالدين وعلى الشكر وعلى إصلاح الذرية.
[17] {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
هذا الفريق المقصود من هذه الآيات المبدوءة بقوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ} [الاحقاف: من الآية15] وهذا الفريق الذي كفر بربه وأساء إلى والديه، وقد علم أن والديه كانا مؤمنين من قوله {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} الآية.
فجملة {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} الأحسن أن تكون معطوفة على جملة {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [الاحقاف: من الآية7] الخ انتقال إلى مقالة أخرى من أصول شركهم وهي مقالة إنكار البعث.
وأما قوله {الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} فالوجه جعله مفعولا لفعل مقدر تقديره: واذكر الذي قال لوالديه، لأن هذا الوجه يلائم كل الوجوه.
ويجوز جعله مبتدأ وجملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} خبرا عنه على أحد الوجهين الاثنين في مرجع اسم الإشارة من قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}
و"الذي" هنا اسم صادق على الفريق المتصف بصلته. وهذا وصف لفئة من أبناء من المشركين أسلم آباؤهم ودعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم وأغلظوا لهم القول فضموا إلى الكفر بشنيع عقوق الوالدين وهو قبيح لمنافاته الفطرة التي فطر الله الناس عليها لأن حال الوالدين مع أبنائهما يقتضي معاملتها بالحسنى، ويدل لعدم اختصاص قوله في آخرها {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} إلى آخره.

والذي عليه جمهور المفسرين: أن الآية لا تعني شخصا معينا وأن المراد منها فريق أسلم آباؤهم ولم يسلموا حينئذ. وعن ابن عباس ومروان بن الحكم ومجاهد والسدي وابن جريج أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق واسمه عبد الكعبة الذي سماء النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمان بعد أن أسلم عبد الرحمان قالوا: كان قبل الهجرة مشركا وكان يدعوه أبوه أبو بكر وأمه أم رومان إلى الإسلام ويذكر انه بالبعث، فيرد عليهما بكلام مثل ما ذكره في هذه الآية. ويقول: فأين عبد الله بن جدعان، وأين عثمان بن عمرو، وأين عامر بن كعب، ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقول محمد. لكن ليست الآية خاصة به حتى تكون نازلة فيه، وبهذا يؤول قول عائشة رضي الله عنها لما قال مروان بن الحكم لعبد الرحمان هو الذي يقول الله فيه {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} وذلك في قصة إشارة عبد الرحمان على مروان أخذه البيعة ليزيد بن معاوية بالعهد له بالخلافة.
ففي صحيح البخاري في كتاب التفسير عن يوسف بن ماهك أنه قال كان مروان بن الحكم على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد ابن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه أي بولاية العهد فقال له عبد الرحمان بن أبي بكر أهرقلية أي اجعلتموها وراثة مثل سلطنة هرقل فقال: خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} ، فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري أي براءتي. وكيف يكون المراد ب {الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} عبد الرحمان بن أبي بكر وآخر الآية يقول {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} إلى {خاسرين} [الأحقاف:18] فذكر اسم الإشارة للجمع، وقضى على المتحدث عنهم بالخسران، ولم أقف على من كان مشركا وكان أبواه مؤمنين. وأياما كان فقد أسلم عبد الرحمان قبل الفتح فلما أسلم جب إسلامه ما قبله وخرج من الوعيد الذي في قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الآية، لأن ذلك وعيد وكل وعيد فإنما هو مقيد تحققه بأن يموت المتوعد به غير مؤمن وهذا معلوم بالضرورة من الشريعة. وتلقب عند الأشاعرة بمسألة الموافاة، على أنه قيل إن الإشارة بقوله {أولئك} عائدة إلى {الأولين} من قوله {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} كما سيأتي.
وأف: اسم فعل بمعنى: أتضجر، وتقدم الكلام عليه في سورة الإسراء وفي سورة الأنبياء، وهو هنا مستعمل كناية عن أقل الأذى فيكون الذين يؤذون والديهم بأكثر من هذا أوغل في العقوق الشنيع وأحرى بالحكم بدلالة فحوى الخطاب على ما تقرر في قوله

تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} في سورة الإسراء. [23] وقرأ نافع وحفص عن عاصم "أف" بكسر الفاء منونا. وقرأه ابن كثير وابن عامر ويعقوب {أف} بفتح الفاء غير منون. وقرأه الباقون أف بكسر الفاء غير منون، وهي لغات ثلاث فيه.
واعلم في قوله {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} محسن الاتزان فإنه بوزن مصراع من الرمل عروضه محذوفة، وضربه محذوف، وفيه الخبن والقبض، ويزاد فيه الكف على قراءة غير نافع وحفص.
والاستفهام في {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} إنكار وتعجب. والإخراج: البعث بعد الموت.
وجعلت جملة الحال وهي {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} قيدا لمنتهى الإنكار، أي كيف يكون ذلك في حال مضي القرون.
والقرون: جمع قرن وهو الأمة التي تقارب زمان حياتها، وفي الحديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم الحديث، وقال تعالى {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} [القصص: 78]
والمعنى: أنه أحال أن يخرج هو من الأرض بعد الموت، وقد مضت أمم كثيرة وطال عليها الزمن فلم يخرج منهم أحد. وهذا من سوء فهمه في معنى البعث أو من المغالطة في الاحتجاج لأن وعد البعث لم يوقت بزمن معين ولا أنه يقع في هذا العالم.
وقرأ الجمهور {أتعدانني} بنونين مفككين وقرأه هشام عن ابن عامر بإدغام النونين.
ومعنى {يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} يطلبان الغوث من الله، أي يطلبان من الله الغوث بأن يهديه، فالمعنى: يستغيثان الله له. وليست جملة {وَيْلَكَ آمِنْ} بيانا لمعنى استغاثتهما ولكنها مقول قول محذوف يدل عليه معنى الجملة. وكلمة {ويلك} كلمة تهديد وتخويف.
والويل: الشر. وأصل ويلك: ويل لك كما في قوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]، فلما كثر استعماله وأرادوا اختصاره حذفوا اللام ووصلوا كاف الخطاب بكلمة "ويل" ونصبوه على نزع الخافض.
وفعل {آمن} منزل منزلة اللازم، أي اتصف بالإيمان وهو دعوة الإسلام، وجملة

{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} تعليل للأمر بالإيمان وتعريض له بالتهديد من أن يحق عليه وعد الله.
والأساطير: جمع أسطورة وهي القصة وغلب إطلاقها على القصة الباطلة أو المكذوبة كما يقال: خرافة، وتقدم في قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} في سورة النحل [24] وفي قوله {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا في سورة الفرقان. [5]
[18] {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الاحقاف:18]
يجوز أن يكون اسم الإشارة مشيرا إلى الذي قال لديه هذه المقالة لما علمت أن المراد به فريق، فجاءت الإشارة إليه باسم إشارة الجماعة بتأويل الفريق.
ويجوز أن يكون {أولئك} إشارة إلى {الأولين} من قوله {فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الاحقاف: 17]، وهم الذين روي أن ابن أبي بكر ذكرهم حين قال: فأين عبد الله بن جدعان، وأين عثمان بن عمرو، ومشائخ قريش كما تقدم آنفا. واستحضار هذا الفريق بطريق اسم الإشارة لزيادة تمييز حالهم العجيبة.
وتعريف {القول} تعريف العهد وهو قول معهود عند المسلمين لما تكرر في القرآن من التعبير عنه بالقول في نحو آية {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 84,85]ونحو قوله {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر: 19] فإن الكلمة قول، ونحو قوله {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7] الآية.
وإطلاقه في هذه الآية رشيق لصلوحية.
وإقحام {كَانُوا خَاسِرِينَ} دون أن يقال: إنهم خاسرون، للإشارة إلى أن خسرانهم محقق فكني عن ذلك بجعلهم كائنين فيه.
وتأكيد الكلام بحرف "إن" لأنهم يظنون أن ما حصل لهم في الدنيا من التمتع بالطيبات فوزا ليس بعده نكد لأنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء، فشبهت حالة ظنهم هذا بحال التاجر الذي قل ربحه من تجارته فكان أمره خسرا، وقد تقدم غير مرة منها قوله تعالى {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} في البقرة.[16]
وإيراد فعل الكون بقوله {كَانُوا خَاسِرِينَ} دون الاقتصار على {خاسرين} لأن

"كان" تدل على أن الخسارة متمكنة منهم.
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الاحقاف:19]
[19] عطف على الكلام السابق من قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} ثم قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الاحقاف: من الآية18] الخ.
وتنوين "كل" تنوين عوض عما تضاف إليه {كل} وهو مقدر يعلم من السياق، أي ولكل الفريقين المؤمن البار بوالديه والكافر الجامع بين الكفر والعقوق درجات، أي مراتب من التفاوت في الخبر بالنسبة لأهل جزاء الخير وهم المؤمنون، ودركات في الشر لأهل الكفر.
والتعبير عن تلك المراتب بالدرجات تغليب لأن الدرجة مرتبة في العلو وهو علو اعتباري إنما يناسب مراتب الخير وأما المرتبة السفلى فهي الدركة قال تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. ووجه التغليظ التنويه بشأن أهل الخير.
و"من" في قوله {مِمَّا عَمِلُوا} تبعيضية. والمراد ب {مَا عَمِلُوا} جزاء ما عملوا فيقدر مضاف. والدرجات: مراتب الأعمال في الخير وضده التي يكون الجزاء على وفقها. ويجوز كون "من" ابتدائية، وما عملوا نفس العمل فلا يقدر مضاف والدرجات هي مراتب الجزاء التي تكون على حسب الأعمال، ومقادير ذلك لا يعلمها إلا الله وهي تتفاوت بالكثرة وبالسبق وبالخصوص، فالذي قال لوالديه أف لكما وأنكر البعث ثم أسلم بعد ذلك قد يكون هو دون درجة الذي بادر بالإسلام وبر والديه وما يعقب إسلامه من العمل الصالح. وكل ذلك على حسب الدرجات.
وأشار إلى أن جزاء تلك الدرجات كلها بقدر يعلمه الله، وقوله بعده {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} هو علة لمحذوف دل عليه الكلام، وتقديره: قدرنا جزاءهم على مقادير درجاتهم لنوفينهم جزاء أعمالهم، أي نجازيهم تاما وافيا لا غبن فيه. وقرأ الجمهور {ولنوفينهم} بنون العظمة، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وهشام عن ابن عامر ويعقوب بالتحتية مرادا به العود الى الله تعالى لأنه معلوم من المقام.
وجملة {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} احتراس منظور فيه إلى توفية أحد الفريقين وهو الفريق المستحق للعقوبة لئلا يحسب أن التوفية بالنسبة إليهم أن يكون الجزاء أشد مما تقتضيه

أعمالهم.
[20] {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}
انتقال إلى وعيد الكافرين على الكفر بحذافره، وذلك زائد على الوعيد المتقدم المتعلق بإنكارهم البعث مع عقوقهم الوالدين المسلمين.
فالجملة معطوفة على جملة {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الاحقاف: من الآية17] الآيات.
والكلام مقول قول محذوف تقديره: ويقال للذين كفروا يوم يعرضون على النار {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} ، ومناسبة ذكره هنا أنه تقرير لمعنى {لا يُظْلَمُونَ} [الاحقاف: من الآية19] أي لا يظلمون في جزاء الآخرة مع أننا أنعمنا عليهم في الدنيا ولو شئنا لعجلنا لهم الجزاء على كفرهم من الحياة الدنيا، ولكن الله لم يحرمهم من النعمة في الحياة الدنيا فإن نعمة الكافر في الدنيا نعمة عند المحققين من المتكلمين. وعن الأشعري: أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا، وتؤول بأنه خلاف لفظي، أي باعتبار أن عاقبتها سيئة. ونعمة الله في الدنيا معاملة بفضل الربوبية وجزاؤهم على أعمالهم في الآخرة معاملة بعدل الإلهية والحكمة.
وانتصب {وَيَوْمَ يُعْرَضُ} على الظرفية لفعل القول المحذوف.
والعرض تقدم في قوله {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} في سورة هود[18] وقوله {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} في سورة غافر وفي قوله {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} في سورة الشورى.[45]
وإذهاب الطيبات مستعار لمفارقتها كما أن إذهاب المرء إبعاد له عن مكانه له. والذهاب: المبارحة.
والمعنى: استوفيتم ما لكم من الطيبات بما حصل لكم من نعيم الدنيا ومتعتها فلم تبق لكم طيبات بعدها لأنكم لم تعملوا لنوال طيبات الآخرة، وهو إعذار لهم وتقرير لكونهم لا يظلمون فرتب عليه قوله {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}
فالفاء فصيحة. والتقدير: إن كان كذلك فاليوم لم يبق لكم إلا جزاء سيء أعمالكم، وليست الفاء للتفريع ولا للتسبب. وليس في الآية ما يقتضي منع المسلم من تناول الطيبات في الدنيا إذا توخى حلالها وعمل بواجبه الديني فيما عدا ذلك وإن كان الزهد في الاعتناء بذلك أرفع درجة وهي درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة من أصحابه.
وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: لأنا أعلم

بخفض العيش ولو شئت لجعلت أكبادا، وصلائق، وصنابا، وكراكر، وأسنمة1 ولكني رأيت الله نعى على قوم فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} وأنما أراد عمر بذلك الخشية من أن يشغله ذلك عن واجبه من تدبير أمور الأمة فيقع في التفريط ويؤاخذ عليه. وذكر ابن عطية: أن عمر حين دخل الشام قدم إليه خالد بن الوليد طعاما طيبا. فقال عمر: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير? فقال خالد: لهم الجنة، فبكى عمر. وقال: لئن كان حظنا في المقام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيدا.
والهون: الهوان وهو الذل وإضافة {عذاب} إلى {الهون} مع إضافة الموصوف إلى الصفة.
والباء في قوله {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} للسببية وهي متعلقة بفعل {تجزون}
والمراد بالاستكبار، الاستكبار على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى قبول التوحيد.
والفسوق: الخروج عن الدين وعن الحق، وقد يأخذ المسلم بحظ من هذين الجرمين فيكون له حظ من جزائهما الذي لقيه الكافرون، وذلك مبين في أحكام الدين. والفسوق: هنا الشرك.
وقرأ الجمهور {أذهبتم} بهمزة واحدة على أنه خبر مستعمل في التوبيخ. وقرأه ابن كثير {أأذهبتم} بهمزتين على الاستفهام التوبيخي.
[21] {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الاحقاف:21]
سيقت قصة هود وقومه مساق الموعظة للمشركين الذين كذبوا بالقرآن كما أخبر الله عنهم من أول هذه السورة في قوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الاحقاف: 3] مع ما أعقبت به من الحجج المتقدمة من قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الاحقاف: 4] الذي يقابله قول هود {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ثم قوله {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: 9] الذي يقابله قوله {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} ذلك كله
1 الصلائق بالصاد جمع صليقة وهي الشاة المصلوقة, أي المشوية, والصناب بكسر الصاد ونون مخففة وموحدة صباغ من خردول وزبيب يؤدم به اللحم.والكراكر جمع كركرة بكافين مكسورين غدة في صدور البعير تلاصق الأرض إذا برك وهي لحم طيب.
??
??
??

بالموعظة بحال هود مع قومه. وسيقت أيضا مساق الحجة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى عناد قومه بذكر مثال لحالهم مع رسولهم بحال عاد مع رسولهم. ولها أيضا موقع التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم على ما تلقاه به قومه من العناد والبهتان لتكون موعظة وتسلية معا يأخذ كل منها ما يليق به.
ولا تجد كلمة أجمع للمعنيين مع كلمة {اذكر} لأنها تصلح لمعنى الذكر اللساني بأن يراد أن يذكر ذلك لقومه، ولمعنى الذكر بالضم بأن يتذكر تلك الحالة في نفسه وإن كانت تقدمت له وأمثالها لأن في التذكر مسلاة وإسوة كقوله تعالى {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} في سورة ص [17] وكلا المعنيين ناظر إلى قوله آنفا { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} فإنه إذا قال لهم ذلك تذكروا ما يعرفون من قصص الرسل مما قصه عليهم القرآن من قبل وتذكر هو لا محالة أحوال رسل كثيرين ثم جاءت قصة هود مثالا لذلك. ومشركو مكة إذا تذكروا في حالهم وحال عاد وجدوا الحالين متماثلين فيجدر بهم أن يخافوا من أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
والاقتصار على ذكر عاد لأنهم أول الأمم العربية الذين جاءهم رسول بعد رسالة نوح العامة وقد كانت رسالة هود ورسالة صالح قبل رسالة إبراهيم عليهم السلام، وتأتي بعد ذكر قصتهم إشارة إجمالية إلى أمم أخرى من العرب كذبوا الرسل في قوله تعالى {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الاحقاف: 27] الآية.
وأخو عاد هو هود وتقدمت ترجمته في سورة الأعراف. وعبر عنه هنا بوصفه دون اسمه العلم لأن المراد بالذكر هنا ذكر التمثيل والموعظة لقريش بأنهم أمثال عاد في الإعراض عن دعوة رسول من أمتهم.
والأخ يراد به المشارك في نسب القبيلة، يقولون: يا أخا بني فلان، ويا أخا العرب، وهو المراد هنا وقد يراد بها الملازم والمصاحب، يقال: أخو الحرب وأخو عزمات. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة "أنت أخونا ومولانا" وهو المراد في قوله تعالى {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:160,161]. ولم يكن لوط من نسب قومه أهل سدوم.
و {إذ أنذر} اسم للزمن الماضي، وهي هنا نصب على البدل من أخا عاد، أي اذكر زمن إنذاره قومه فهي بدل اشتمال. وذكر الإنذار هنا دون الدعوة أو الإرسال لمناسبة تمثيل حال قوم هود بحال قوم محمد صلى الله عليه وسلم فهو ناظر إلى قوله تعالى في أول السورة

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الاحقاف: 3].
والأحقاف: جمع حقف بكسر فسكون، وهو الرمل العظيم المستطيل وكانت هذه البلاد المسماة بالأحقاف منازل عاد وكانت مشرفة على البحر بين عمان وعدن. وفي منتهى الأحقاف أرض حضرموت، وتقدم ذكر عاد عند قوله تعالى {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} في سورة الأعراف.[65]
وجملة {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} معترضة بين جملة {أنذر} وجملة {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} المفسرة بها.
وقد فسرت جملة {أنذر} بجملة {لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} الخ.
و"أن" تفسيرية لأن {أنذر} فيه معنى القول دون حروفه.
ومعنى {خَلَتِ النُّذُرُ} سبقت النذر أي نذر رسل آخرين. والنذر: جمع نذارة بكسر النون.
و {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} بمعنى قريبا من زمانه وبعيدا عنه، ف {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} معناه القرب كما في قوله تعالى {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: من الآية46]، أي قبل العذاب قريبا منه قال تعالى {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان: من الآية38]، وقال {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} وأما الذي من خلفه فنوح فقد قال هود لقومه {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]، وهذا مراعاة للحالة المقصود تمثيلها فهو ناظر إلى قوله تعالى {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: من الآية9] أي قد خلت من قبله رسل مثل ما خلت بتلك.
وجملة {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} تعليل للنهي في قول : {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أي إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم بسبب شرككم. وعذاب اليوم العظيم يحتمل الوعيد بعذاب يوم القيامة وبعذاب يوم الاستئصال في الدنيا، وهو الذي عجل لهم. ووصف اليوم بالعظم باعتبار ما يحدث فيه من الأحداث العظيمة، فالوصف مجاز عقلي.
[22] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
جواب عن قوله {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ولذلك جاء فعل {قالوا} مفصولا على طريق المحاورة.

والاستفهام إنكار. والمجيء مستعار للقصد بطلب أمر عظيم، شبه طرو الدعوة بعد أن لم يكن يدعو بها بمجيء جاء لم يكن في ذلك المكان.
والأفك بفتح الهمزة: الصرف، وأرادوا به معنى الترك، أي لنترك عبادة آلهتنا. وهذا الإنكار تعريض بالتكذيب فلذلك فرع عليه {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فصرحوا بتكذيبه بطريق المفهوم.
والمعنى: ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به، أي عذاب اليوم العظيم، وإنما صرفوا مراد هود بالعذاب إلى خصوص عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث وبهذا يؤذن قوله بعده {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً} [الاحقاف: 24] وقوله {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الاحقاف: 24]. وأرادوا: ائتنا به الآن لأن المقام مقام تكذيب بأن عبادة آلهتهم تجر لهم العذاب.
و {مِنَ الصَّادِقِينَ} أبلغ في الوصف بالصدق من أن يقال: إن كنت صادقا، كما تقرر في قوله تعالى {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} في سورة البقرة،[34] أي إن كنت في قولك هذا من الذين صدقوا، أي فإن لم تأت به فما أنت بصادق فيه.
[23] {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}
لما جعلوا قولهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الاحقاف: من الآية22] فصلا بينهم وبينه فيما أنذرهم من كون عبادة غير الله توجب عذاب يوم عظيم، كان الأمر في قولهم {فأتنا} مقتضيا الفور، أي طلب تعجيله ليدل على صدقه إذ الشأن أن لا يتأخر عن إظهار صدقه لهم.
وإسناد الإتيان بالعذاب إليه مجاز لأنه الواسطة في إتيان العذاب بأن يدعو الله أن يعجله، أو جعلوا العذاب في مكنته يأتي به متى أراد، تهكما به إذ قال لهم إنه مرسل من الله فجعلوا ذلك مقتضيا أن بينه وبين الله تعاونا وتطاوعا، أي فلا تتأخر عن الإتيان به.
وقد دل على هذا الاقتضاء قوله لهم حين نزول العذاب {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الاحقاف: 24]. فلذلك كان جوابه أن قال {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أي علم وقت إتيان العذاب محفوظ عند الله لا يطلع عليه أحد، فالتعريف في {العلم} للاستغراق العرفي، أي علم المغيبات، أو التعريف عوض عن المضاف إليه، أي وقت العذاب. وهذا الجواب يجري

على جميع الاحتمالات في معنى قولهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} لأن جميعها يقتضي أنه عالم بوقته.
والحصر هنا حقيقي كقوله {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] والمقصود من هذا الحصر شموله نفي العلم بوقت العذاب عن المتكلم ردا على قولهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} و {عند} هنا مجاز في الانفراد بالعلم، أي فالله هو العالم بالوقت الذي يرسل فيه العذاب لحكمة في تأخيره.
ومعنى {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} أنه بعث مبلغا أمر الله وإنذاره ولم يبعث للإعلام بوقت حلول العذاب كقوله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 42-45] فقوله {أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} جملة معترضة بين جملة {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} وجملة {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}
وموقع الاستدراك بقوله {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} أنه عن قوله {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} ، أي ولكنكم تجهلون صفات الله وحكمة إرساله الرسل، فتحسبون أن الرسل وسائط لإنهاء اقتراح الخلق على الله أن يريهم العجائب ويساجلهم في الرغائب، فمناط الاستدراك هو معمول خبر "لكن" وهو {قَوْماً تَجْهَلُونَ} والتقدير: ولكنكم قوم يجهلون، فإدخال حرف الاستدراك على ضمير المتكلم عدول عن الظاهر لئلا يبادرهم بالتجهيل استنزالا لطائرهم، فجعل جهلهم مظنونا له لينظروا في صحة ما ظنه من عدمها.
وإنما زيد {قوما} ولم يقتصر على {تجهلون} للدلالة على تمكن الجهالة منهم حتى صارت من مقومات قوميتهم وللدلالة على أنها عمت جميع القبيلة كما قال لوط لقومه {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: من الآية78]
وقرأ الجمهور {وأبلغكم} بتشديد اللام. وقرأه أبو عمرو بتخفيف اللام. يقال: بلغ الخبر بالتضعيف وأبلغه بالهمز، إذا جعله بالغا.
[25,24] {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}

الفاء لتفريع بقية القصة على ما ذكر منها، أي فلما أراد الله إصابتهم بالعذاب ورأوه عارض قالوا {هَذَا عَارِضٌ} إلى آخره، ففي الكلام تقدير يدل عليه السياق، ويسمى التفريع فيه فصيحة، وقد طوي ذكر ما حدث بين تكذيبهم هودا وبين نزول العذاب بهم، وذكر في كتب تاريخ العرب أنهم أصابهم قحط شديد سنين، وأن هودا فارقهم فخرج إلى مكة ومات بها، وقد قيل إنه دفن في الحجر حول الكعبة، وتقدم في سورة الحجر.
وقولهم {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} يشير إلى أنهم كانوا في حاجة إلى المطر. وورد في سورة هود قول هود لهم {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} وقصتهم مبسوطة في تفسيرنا لسورة هود.
وضمير {رأوه} عائد إلى {ما تعدنا} ، وهو العذاب. وأطلق على المرئي ضمير العذاب لأن المرئي سبب العذاب وهو ما حملته الريح. و {عارضا} حال منه، والعارض: السحاب الذي يعترض جو السماء أي رأوه كالعارض. وليس المراد عارض المطر لأنه ليس كذلك وكيف قد أبطل قولهم {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} بقوله {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} و { مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} نعت ل {عارضا}.
والاستقبال: التوجه قبالة الشيء، أي سائرا نحو أوديتهم.
وأودية: جمع واد جمعا نادرا مثل ناد وأندية. ويطلق الواد على محلة القوم ونزلهم إطلاقا أغلبيا لأن غالب منازلهم في السهول ومقار المياه. وفي حديث سعد بن معاذ بمكة بعد الهجرة وما جرى بينه وبين أبي جهل من تحاور ورفع صوته على أبي جهل فقال له أمية: لا ترفع صوتك على أبي الحكم سيد أهل الوادي. وجمع الأودية باعتبار كثرة منازلهم وانتشارها.
والعارض في قولهم {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} السحاب العظيم الذي يعرض في الأفق كالجبل، و {ممطرنا} نعت ل {عارض}.
وقوله {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} مقول لقول محذوف، يجوز أن يكون من قول هود إن كان هود بين ظهرانيهم ولم يكن خرج قبل ذلك الى مكة أو هو من قول بعض رجالهم رأى مخائل الشر في ذلك السحاب. قيل: القائل هو بكر بن معاوية بن قوم عاد. قال لما رآه إني لأرى سحابا مرمدا لا تدع من عاد أحدا لعله تبين له الحق من إنذار هود حين رأى عارضا غير مألوف ولم ينفعه ذلك بعد أن حل العذاب بهم، أو كان قد آمن

من قبل فنجاه الله من العذاب بخارق عادة. وإنما حذف فعل القول لتمثيل قائل القول كالحاضر وقت نزول هذه الآية، وقد سمع كلامهم وعلم غرورهم فنطق بهذا الكلام ترويعا لهم. وهذا من استحضار الحالة العجيبة كقول مالك بن الريب:
دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي
بذي الشيطين فالتفت ورائيا
فتخيل داعيا يدعوه فالتفت، وهذا من التخيل في الكلام البليغ.
وجعل العذاب مظروفا في الريح مبالغة في التسبب لأن الظرفية أشد ملابسة بين الظرف والمظروف من ملابسة السبب والمسبب. والتدمير: الإهلاك، وقد تقدم.
و {كُلِّ شَيْءٍ} مستعمل في كثرة الأشياء فإن "كلا" تأتي كثيرا في كلامهم بمعنى الكثرة. وقد تقدم عند قوله تعالى {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} في سورة يونس.
والمعنى: تدمر ما من شأنه أن تدمره الريح من الإنسان والحيوان والديار.
وقوله {بأمر ربها} حال من ضمير {تدمر} . وفائدة هذه الحال تقريب كيفية تدميرها كل شيء، أي تدميرا عجيبا بسبب أمر ربها، أي تسخيره الأشياء لها فالباء للسببية.
وأضيف الرب إلى ضمير الريح لأنها مسخرة لأمر التكوين الإلهي فالأمر هنا هو أمر التكوين.
{فأصبحوا} أي صاروا، وأصبح هنا من أخوات صار. وليس المراد: أن تدميرهم كان ليلا فإنهم دمروا أياما وليالي، فبعضهم هلك في الصباح وبعضهم هلك مساء وليلا.
والخطاب في قوله {لا ترى} لمن تتأتى منه الرؤية حينئذ إتماما لاستحضار حالة دمارهم العجيبة حتى كأن الآية نازلة في وقت حدوث هذه الحادثة.
والمراد بالمساكن: آثارها وبقاياها وأنقاضها بعد قلع الريح معظمها. والمعنى: أن الريح أتت على جميعهم ولم يبق منهم أحد من ساكني مساكنهم.
وقوله {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أي مثل جزاء عاد نجزي القوم المجرمين، وهو تهديد لمشركي قريش وإنذار لهم وتوطئة لقوله {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الاحقاف: من الآية26].
وقرأ الجمهور {لا ترى} بالمثناة الفوقية مبنيا للفاعل وبنصب {مساكنهم} وقرأه عاصم وحمزة وخلف بياء تحتية مبنيا للمجهول وبرفع {مساكنهم} وأجرى على الجمع

صيغة الغائب المفرد لأن الجمع مستثنى ب {إلا} وهي فاصلة بينه وبين الفعل.
[26] {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
هذا استخلاص لموعظة المشركين بمثل عاد، ليعلموا أن الذي قدر على إهلاك عاد قادر على إهلاك من هم دونهم في القوة والعدد، وليعلموا أن القوم كانوا مثلهم مستجمعين قوى العقل والحس وأنهم أهملوا الانتفاع بقواهم فجحدوا بآيات الله واستهزؤوا بها وبوعيده فحاق بهم ما كانوا يستهزئون به، وقريش يعلمون أن حالهم مثل الحال المحكية عن أولئك فليتهيأوا لما سيحل بهم.
ولإفادة هذا الاستخلاص غير أسلوب الكلام إلى خطاب المشركين من أهل مكة، فالجملة في موضع الحال من واو الجماعة في {قَالُوا أَجِئْتَنَا} [الاحقاف: 22] والخبر مستعمل في التعجيب من عدم انتفاعهم بمواهب عقولهم. وتأكيد هذا الخبر بلام القسم مع أن مفاده لا شك فيه مصروف إلى المبالغة في التعجيب.
والتمكين: إعطاء المكنة بفتح الميم وكسر الكاف وهي القدرة والقوة. يقال: مكن من كذا وتمكن منه، إذا قدر عليه. ويقال: مكنه في كذا، إذا جعل له القدرة على مدخول حرف الظرفية فيفسر بما يليق بذلك الظرف قال تعالى {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} في سورة الأنعام.[6]
فالمعنى: جعلنا لهم القدرة في الذي لم نمكنكم فيه،أي من كل ما يمكن فيه الأقوام والأمم، وتقدم عند قوله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} في أول الأنعام [6] فضم إليه ما هنا.
و"ما" من قوله {فيما} موصولة. و {إن} نافية، أي في الذي ما مكناكم فيه.
ومعنى مكناكم فيه: مكناكم في مثله أو في نوعه فإن الأجناس والأنواع من الذوات حقائق معنوية لا تتغير مواهبها وإنما تختلف بوجودها في الجزئيات، فلذلك حسن تعدية فعل {مكناكم} بحرف الظرفية إلى ضمير اسم الموصول الصادق على الأمور التي مكنت منها عاد. ومن بديع النظم أن جاء النفي هنا بحرف {إن} النافية مع أن النفي بها أقل استعمالا من النفي ب"ما" النافية قصدا هنا لدفع الكراهة من توالي مثلين في النطق، وهما "ما" الموصولة و"ما" النافية وإن كان معناهما مختلفا، ألا ترى أن العرب عوضوا الهاء

عن الألف في "مهما"، فإن أصلها: "ما ما" مركبة من "ما" الظرفية و"ما" الزائدة لإفادة الشرط مثل "أينما". قال في الكشاف: ولقد أغث أبو الطيب في قوله:
لعمرك ما ما بان منك لضارب1
وأقول ولم يتعقب ابن جني ولا غيره ممن شرح الديوان من قبل على المتنبي وقد وقع مثله في ضرورات شعر المتقدمين كقول خطام المجاشعي:
وصاليات ككما يؤثفين ... ولا يغتفر مثله للمولدين
فأما إذا كانت "ما" نافية وأراد المتكلم تأكيدها تأكيدا لفظيا، فالإتيان بحرف "إن" بعد "ما" أحرى كما في قول النابغة:
رماد ككحل العين ما إن أبينه ... ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
وفائدة قوله {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} أنهم لم ينقصهم شيء من شأنه أن يخل بإدراكهم الحق لولا العناد، وهذا تعريض بمشركي قريش، أي أنكم حرمتم أنفسكم الانتفاع بسمعكم وأبصاركم وعقولكم كما حرموه، والحالة متحدة والسبب متحد فيوشك أن يكون الجزاء كذلك.
وإفراد السمع دون الأبصار والأفئدة للوجه الذي تقدم في قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} في سورة الأنعام وقوله {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} في سورة يونس.[31]
و{من} في قوله {من شيء} زائدة للتنصيص على انتفاء الجنس فلذلك يكون {شيء} المجرور ب {من} الزائدة نائبا عن المفعول المطلق لأن المراد بشيء من الإغناء، وحق {شيء} النصب وإنما جر بدخول حرف الجر الزائد.
و {إذ} ظرف، أي مدة جحودهم وهو مستعمل في التعليل لاستواء مؤدى الظر
ـــــــ
1 تمامه: بأقتل مما بان منك لعائب.
ووقع المصراع الأول في "الكشاف" لعمرك ورواية الديوان يرى: أن ما وجعل ابن جني والمعري في شرحيهما على الديون اسم أن ضمير شأن محذوفا ليستقيم اقتران الباء بقوله باقتل الذي هو بحسب الظاهر خبر عن "أن" ولعل التفادي من تكلف جعل اسم "أن" ضمير شأن هو الذي دعا الزمخشري لتغيير الكلمة الأولى من المصراع الأول.

ومؤدى التعليل لأنه لما جعل الشيء من الإغناء معلقا نفيه بزمان جحدهم بآيات الله كما يستفاد من إضافة {إذ} إلى الجملة بعدها، علم أن لذلك الزمان تأثيرا في نفي الإغناء.
وآيات الله دلائل إرادته من معجزات رسولهم ومن البراهين الدالة على صدق ما دعاهم إليه.
وقد انطبق مثالهم على حال المشركين فإنهم جحدوا بآيات الله وهي آيات القرآن لأنها جمعت حقيقة الآيات بالمعنيين. وحاق بهم: أحاط بهم و {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} العذاب، عدل عن اسمه الصريح إلى الموصول للتنبيه على ضلالهم وسوء نظرهم.
[27] {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الاحقاف:27]
أتبع ضرب المثل بحال عاد مع رسولهم بأن ذلك المثل ليس وحيدا في بابه فقد أهلك الله أقواما آخرين من مجاوريهم تماثل أحوالهم أحوال المشركين، وذكرهم بأن قراهم قريبة منهم يعرفها من يعرفونها ويسمع عنها الذين لم يروها، وهي قرى ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وسبأ وقوم تبع، والجملة معطوفة على جملة {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} [الاحقاف: 21] الخ، وكني عن إهلاك الأقوام بإهلاك قراهم مبالغة في استئصالهم لأنه إذا أهلكت القرية لم يبق أحد من أهلها كما كنى عنترة بشك الثياب عن شك الجسد في قوله:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه
ومنه قوله تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4].
وتصريف الآيات تنويعها باعتبار ما تدل عليه من الغرض المقصود منها وهو الإقلاع عن الشرك وتكذيب الرسل، وأصل معنى التصريف التغيير والتبديل لأنه مشتق من الصرف وهو الإبعاد. وكني به هنا عن التبيين والتوضيح لأن تعدد أنواع الأدلة يزيد المقصود وضوحا.
ومعنى تنويع الآيات أنها تارة تكون بالحجة والمجادلة النظرية، وتارة بالتهديد على الفعل، وأخرى بالوعيد، ومرة بالتذكير بالنعم وشكرها. وجملة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} مستأنفة لإنشاء الترجي وموقعها موقع المفعول لأجله، أي رجاء رجوعهم.
والرجوع هنا مجاز عن الإقلاع عما هم فيه من الشرك والعناد، والرجاء من الله تعالى يستعمل مجازا في الطلب، أي توسعة لهم وإمهالا ليتدبروا ويتعظوا. وهذا تعريض بمشركي أهل مكة فهم سواء في تكوين ضروب تصريف الآيات زيادة على ما صرف لهم

من آيات إعجاز القرآن والكلام على "لعل" في كلام الله تقدم في أوائل البقرة.
[28] {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
تفريع على ما تقدم من الموعظة بعذاب عاد المفصل، وبعذاب أهل القرى المجمل، فرع عليه توبيخ موجه إلى آلهتهم إذ قعدوا عن نصرهم وتخليصهم قدرة الله عليهم، والمقصود توجيه التوبيخ إلى الأمم المهلكة على طريقة توجيه النهي ونحوه لغير المنهي ليجتنب المنهي أسباب المنهي عنه كقولهم لا أعرفنك تفعل كذا، ولا أرينك هنا.
والمقصود بهذا التوبيخ تخطئة الأمم الذين اتخذوا الأصنام للنصر والدفع وذلك مستعمل تعريضا بالسامعين المماثلين لهم في عبادة آلهة من دون الله استتماما للموعظة والتوبيخ بطريق التنظير وقياس التمثيل، ولذلك عقب بقوله {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} لأن التوبيخ آل الى معنى نفي النصر.
وحرف {لولا} إذا دخل على جملة فعلية كان أصله الدلالة على التحضيض، أي تحضيض فاعل الفعل الذي بعد {لولا} على تحصيل ذلك الفعل، فإذا كان الفاعل غير المخاطب بالكلام كانت {لولا} دالة على التوبيخ ونحو إذ لا طائل في تحضيض المخاطب على فعل غيره.
والإتيان بالموصول لما في الصلة من التنبيه على الخطأ والغلط في عبادتهم الأصنام فلم تغن عنهم شيئا، كقول عبدة بن الطبيب:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
وعوملت الأصنام معاملة العقلاء بإطلاق جميع العقلاء عليهم جريا على الغالب في استعمال العرب كما تقدم غير مرة.
و {قربانا} مصدر بوزن غفران، منصوب على المفعول لأجله حكاية لزعمهم المعروف المحكي في قوله تعالى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وهذا المصدر معترض بين {اتخذوا} ومفعوله، و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} يتعلق ب {اتخذوا} . و {دون} بمعنى المباعدة، أي متجاوزين الله في اتخاذ الأصنام آلهة وهو حكاية لحالهم لزيادة تشويهها وتشنيعها.

و {بل} بمعنى لكن إضرابا واستدراكا بعد التوبيخ لأنه في معنى النفي، أي ما نصرهم الذين اتخذوهم آلهة ولا قربوهم إلى الله ليدفع عنهم العذاب، بل ضلوا عنهم، أي بل غابوا عنهم وقت حلول العذاب بهم.
والضلال أصله: عدم الاهتداء للطريق واستعير لعدم النفع بالحضور استعارة تهكمية، أي غابوا عنهم ولو حضروا لنصروهم، وهذا نظير التهكم في قوله تعالى {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} في سورة القصص.[64]
وأما قوله {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} فهو فذلكة لجملة {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الخ وقرينة على الاستعارة التهكمية في قوله {ضَلُّوا عَنْهُمْ}
والإشارة ب {ذلك} إلى ما تضمنه قوله {الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً} من زعم الأصنام آلهة وأنها تقربهم إلى الله، والإفك بكسر الهمزة.
والافتراء: نوع من الكذب وهو ابتكار الأخبار الكاذبة ويرادف الاختلاق لأنه مشتق من فري الجلد، فالافتراء الكذب الذي يقوله، فعطف {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} على {إفكهم} عطف الأخص على الأعم، فإن زعمهم الأصنام شركاء لله كذب مروي من قبل فهو إفك. وأما زعمهم أنها تقربهم إلى الله فذلك افتراء اخترعوه.
وإقحام فعل {كانوا} للدلالة على أن افتراءهم راسخ فيهم. ومجيء {يفترون} بصيغة المضارع للدلالة على أن افتراءهم متكرر.
[29-32] {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
هذا تأييد للنبي صلى الله عليه وسلم بأن سخر الله الجن للإيمان به وبالقرآن فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا عند الثقلين ومعظما في العالمين وذلك ما لم يحصل لرسول قبله.
والمقصود من نزول القرآن بخبر الجن توبيخ المشركين بأن الجن وهم من عالم آخر علموا القرآن وأيقنوا بأنه من عند الله والمشركون وهم من عالم الإنس ومن جنس

الرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث بالقرآن وممن يتكلم بلغة القرآن لم يزالوا في ريب منه وتكذيب وإصرار، فهذا موعظة للمشركين بطريق المضادة لأحوالهم بعد أن جرت موعظتهم بحال مماثليهم في الكفر من جنسهم. ومناسبة ذكر إيمان الجن ما تقدم من قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الاحقاف:18]
فالجملة معطوفة على جملة {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} [الأحقاف: 21] عطف القصة على القصة ويتعلق قوله هنا {إذْ صَرَفْنَا} بفعل يدل عليق قوله {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} والتقدير : واذكر إذ صرفنا إليك نفرا من الجن. وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا للمشركين وإن كانوا لا يصدقونه لتسجيل بلوغ ذلك إليهم لينتفع به من يهتدي ولتكتب تبعته على الذين لا يهتدون.
وليس في هذه الآية ما يقتضي أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الجن واختلف المفسرون لهذه الآية في أن الجن حضروا بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أو بدون علمه. ففي جامع الترمذي عن ابن عباس قال ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ فلما كانوا بنخلة اسم موضع وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان نفر من الجن فيه فلما سمعوا القرآن رجعوا إلى قومهم، فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا وفي الصحيح عن ابن مسعود افتقدنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو بمكة فقلنا ما فعل به اغتيل أو واستطير فبتنا بشر ليلة حتى إذا أصبحنا إذا نحن به من قبل حراء فقال "أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن".
وأياما كان فهذا الحادث خارق عادة وهو معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم قوله تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} في سورة الأنعام [130].
والصرف: البعث. والنفر: عدد من الناس دون العشرين. وإطلاقه على الجن لتنزيلهم منزلة الإنس وبيانه بقوله {من الجن} .
وجملة {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} في موضع الحال من الجن وحيث كانت الحال قيدا لعاملها وهو {صرفنا} كان التقدير: يستمعون منك إذا حضروا فصار ذلك مؤديا مؤدى المفعول لأجله. فالمعنى: صرفناهم إليك ليستمعوا القرآن.
وضمير {حضروه} عائد إلى القرآن، وتعدية فعل حضروا إلى ضمير القرآن تعدية

مجازية لأنهم إنما حضروا قارئ القرآن وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
و {أنصتوا} أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماما به لئلا يفوت منه شيء. وفي حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له استنصت الناس ، أي قبل أن يبدأ في خطبته.
وفي الحديث "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" ، أي قالوا كلهم: أنصتوا، كل واحد يقولها للبقية حرصا على الوعي فنطق بها جميعهم.
و {قضي} مبني للنائب. والضمير للقرآن بتقدير مضاف، أي قضيت قراءته، أي انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة حين حضروا وبانتهائه من القراءة تم مراد الله من صرف الجن ليستمعوا القرآن فولوا، أي انصرفوا من مكان الاستماع ورجعوا إلى حيث يكون جنسهم وهو المعبر عنه ب {قومهم} على طريقة المجاز، نزل منزلة الأنس لأجل هذه الحالة الشبيهة بحالة الناس، فإطلاق القوم على أمة الجن نظير إطلاق النفر على الفريق من الجن المصروف إلى سماع القرآن.
والمنذر : المخبر بخبر مخيف.
ومعنى {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} رجعوا إلى بني جنسهم بعد أن كانوا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يتسمعون القرآن فأبلغوهم ما سمعوا من القرآن مما فيه التخويف من بأس الله تعالى لمن لا يؤمن بالقرآن. والتبشير لمن عمل بما جاء به القرآن. ولا شك أن الله يسر لهم حضورهم لقراءة سورة جامعة لما جاء به القرآن كفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص.
وجملة {قَالُوا يَا قَوْمَنَا} إلى آخرها مبينة لقوله {منذرين} . وحكاية تخاطب الجن بهذا الكلام الذي هو من كلام عربي حكاية بالمعنى إذ لا يعرف أن للجن معرفة بكلام الإنس، وكذلك فعل {قالوا} مجاز عن الإفادة، أي أفادوا جنسهم بما فهموا منه بطرق الاستفادة عندهم معاني ما حكي بالقول في هذه الآية كما في قوله تعالى {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: من الآية18].
وابتدأوا إفادتهم بأنهم سمعوا كتابا تمهيدا للغرض من الموعظة بذكر الكتاب ووصفه ليستشرف المخاطبون لما بعد ذلك.
ووصف الكتاب بأنه {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} دون: أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن التوراة آخر كتاب من كتب الشرائع نزل قبل القرآن، وأما ما جاء بعده فكتب مكملة للتوراة ومبينة لها مثل زبور داود وإنجيل عيسى، فكأنه لم ينزل شيء جديد بعد التوراة فلما نزل القرآن جاء بهدي مستقل غير مقصود منه بيان التوراة ولكنه مصدق

للتوراة وهاد إلى أزيد مما هدت إليه التوراة.
و {ما بين يديه} : ما سبقه من الأديان الحق.
ومعنى {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} يهدي إلى الاعتقاد الحق ضد الباطل من التوحيد وما يجب لله تعالى من الصفات وما يستحيل وصفه به.
والمراد بالطريق المستقيم: ما يسلك من الأعمال والمعاملة. وما يترتب على ذلك من الجزاء، شبه ذلك بالطريق المستقيم الذي لا يضل سالكه عن القصد من سيره.
ويجوز أن يراد ب {الحق} ما يشمل الاعتقاد والأعمال الصالحة. ويراد بالطريق المستقيم الدلائل الدالة على الحق وتزييف الباطل فإنها كالصراط المستقيم في إبلاغ متبعها إلى معرفة الحق.
وإعادتهم نداء قومهم للاهتمام بما بعد النداء وهو {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} الى آخره لأنه المقصود من توجيه الخطاب إلى قومهم وليس المقصود إعلام قومهم بما لقوا من عجيب الحوادث وإنما كان ذلك توطئة لهذا، ولأن اختلاف الأغراض وتجدد الغرض مما يقتضي إعادة مثل هذا النداء كما يعيد الخطيب قوله "أيها الناس" كما وقع في خطبة حجة الوداع. واستعير {أجيبوا} لمعنى: اعملوا وتقلدوا تشبيها للعمل بما في كلام المتكلم بإجابة نداء المنادي كما في الآية {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [ابراهيم: من الآية22] أي إلا أن أمرتكم فأطعتموني. لأن قومهم لم يدعهم داع إلى شيء، أي أطيعوا ما طلب منكم أن تعملوه.
وداعي الله يجوز أن يكون القرآن لأنه سبق في قولهم {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} وأطلق على القرآن {دَاعِيَ اللَّهِ} مجازا لأنه يشتمل على طلب الاهتداء بهدي الله، فشبه ذلك بدعاء إلى الله واشتق منه وصف للقرآن بأنه {دَاعِيَ اللَّهِ} على طريقة التبعية وهي تابعة لاستعارة الإجابة لمعنى العمل. ويجوز أن يكون {دَاعِيَ اللَّهِ} محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه يدعو إلى الله بالقرآن.
وعطف {وَآمِنُوا بِهِ} على {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} عطف خاص على عام.
وضمير {به} عائد إلى {الله} أي وآمنوا بالله، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع {يَغْفِرْ لَكُمْ} و {يُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أو عائد إلى داعي الله، أي آمنوا بما فيه أو آمنوا بما جاء به، وعلى الاحتمالين الأخيرين يقتضي أن هؤلاء الجن مأمورون بالإسلام.

و {من} في قوله {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} الأظهر أنها للتعليل فتتعلق بفعل {أجيبوا} باعتبار أنه مجاب بفعل {يغفر} ، ويجوز أن تكون تبعيضية، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم فيكون ذلك احترازا في الوعد لأنهم لم يتحققوا تفصيل ما يغفر من الذنوب وما لا يغفر إذ كانوا قد سمعوا بعض القرآن ولم يحيطوا بما فيه.
يجوز أن تكون زائدة للتوكيد على رأي جماعة ممن يرون زيادة {من} في الإثبات كما تزاد في النفي. وأما {من} التي في قوله و { يُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فهي لتعدية فعل {يجركم} لأنه يقال: أجاره من ظلم فلان، بمعنى منعه وأبعده.
وحكاية الله هذا عن الجن تقرير لما قالوه فيدل على أن للجن إدراكا للمعاني وعلى أن ما تدل عليه أدلة العقل من الإلهيات واجب على الجن اعتقاده لأن مناط التكليف بالإلهيات العقلية هو الإدراك، وأنه يجب اعتقاد المدركات إذا توجهت مداركهم إليها أو إذا نبهوا إليها كما دلت عليه قصة إبليس. وهؤلاء قد نبهوا إليها بصرفهم إلى استماع القرآن وهم قد نبهوا قومهم إليها بإبلاغ ما سمعوه من القرآن وعلى حسب هذا المعنى يترتب الجزاء بالعقاب كما قال تعالى {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: من الآية13] ، وقال في خطاب الشيطان {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [صّ:85]
فأما فروع الشريعة فغير لائقة بجنس الجن. وظاهر الآية أن هؤلاء الذين بلغتهم دعوة القرآن مؤاخذون إذا لم يعملوا بها وأنهم يعذبون. واختلفوا في جزاء الجن على الإحسان فقال أبو حنيفة: ليس للجن ثواب إلا أن يجاروا من عذاب النار ثم يقال لهم كونوا ترابا مثل البهائم، وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والضحاك: كما يجازون على الإساءة يجازون على الإحسان فيدخلون الجنة. وحكى الفخر أن مناظرة جرت في هذه المسألة بين أبي حنيفة ومالك ولم أره لغيره. وهذه مسألة لا جدوى لها ولا يجب على المسلم اعتقاد شيء منها سوى أن العالم إذا مرت بها الآيات يتعين عليه فهمها.
ومعنى {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} أنه لا ينجو من عقاب الله على عدم إجابته داعيه، فمفعول {معجز} مقدر دل عليه المضاف إليه في قوله {دَاعِيَ اللَّهِ} أي فليس بمعجز الله، وقال في سورة الجن[12] {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} وهو نفي لأن يكون يعجز طالبه، أي ناجيا من قدرة الله عليه. والكلام كناية عن المؤاخذة بالعقاب.
والمقصود من قوله {فِي الْأَرْضِ} تعميم الجهات فجرى على أسلوب استعمال الكلام العربي وإلا فإن مكان الجن غير معين. {لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} أي لا نصير

ينصره على الله ويحميه منه، فهو نفي أن يكون له سبيل إلى النجاة بالاستعصام بمكان لا تبلغ إليه قدرة الله، ولا بالاحتماء بمن يستطيع حمايته من عقاب الله. وذكر هذا تعريض للمشركين.
واسم الإشارة في {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} للتنبيه على أن من هذه حالهم جديرون بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم لتسبب ما قبل اسم الإشارة فيه كما في قوله {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان: 5]
والظرفية المستفادة من {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} مجازية لإفادة قوة تلبسهم بالضلال حتى كأنهم في وعاء هو الضلال. والمبين: الواضح، لأنه ضلال قامت الحجج والأدلة على أنه باطل.
[33] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
عود إلى الاستدلال على إمكان البعث فهو متصل بقوله {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} إلى قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الاحقاف:18]فهو انتقال من الموعظة بمصير أمثالهم من الأمم إلى الاستدلال على إبطال ضلالهم في شركهم وهو الضلال الذي جرأهم على إحالة البعث، بعد أن أطيل في إبطال تعدد الآلهة وفي إبطال تكذيبهم بالقرآن وتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا عود على بدء فقد ابتدئت السورة بالاحتجاج على البعث بقوله تعالى {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الاحقاف: 3] الآية ويتصل بقوله {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} إلى قوله {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الاحقاف: 17].
والواو عاطفة جملة الاستفهام، وهو استفهام إنكاري، والرؤية علمية. واختير هذا الفعل من بين أفعال العلم هنا لأن هذا العلم عليه حجة بينة مشاهدة، وهي دلالة خلق السماوات والأرض من عدم، وذلك من شأنه أن يفرض بالعقل إلى أن الله كامل القدرة على ما هو دون ذلك من إحياء الأموات.
ووقعت {أن} مع اسمها وخبرها سادة مسد مفعولي {يروا} . ودخلت الباء الزائدة على خبر {أن} وهو مثبت وموكد، وشأن الباء الزائدة أن تدخل على الخبر المنفي، لأن {أن} وقعت في خبر المنفي وهو{ألم يروا}.

ووقع {بلى} جوابا عن الاستفهام الإنكاري. ولا يريبك في هذا ما شاع على ألسنة المعربين أن الاستفهام الإنكاري في تأويل النفي، وهو هنا اتصل بفعل منفي ب"لم" فيصير نفي النفي إثباتا، فكان الشأن أن يكون جوابه بحرف "نعم" دون {بلى} ، لأن كلام المعربين أرادوا به أنه في قوة منفي عند المستفهم به، ولم يريدوا أنه يعامل معاملة النفي في الأحكام. وكون الشيء بمعنى شيء لا يقتضي أن يعطى جميع أحكامه.
ومحل التعجيب هو خبر {أن} وأما ما قبله فالمشركون لا ينكرونه فلا تعجيب في شأنه.
ووقوع الباء في خبر {أن} وهو{بقادر} باعتبار أنه في حيز النفي لأن العامل فيه وهو حرف {أن} وقع في موضع مفعولي فعل {يروا} الذي هو منفي فسرى النفي للعامل ومعموله، فقرن بالباء لأجل ذلك، وفي الكشاف قال الزجاج لو قلت: ما ظننت أن زيدا بقائم جاز، كأنه قيل: أليس الله بقادر اه.
وقال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء: 79] يريدان أنها زائدة في الإثبات على وجه الندور.
وأما موقع الجواب بحرف {بلى} فهو جواب لمحذوف دل عليه التعجيب من ظنهم أن الله غير قادر على أن يحيي الموتى، فإن ذلك يتضمن حكاية عنهم أن الله لا يحيي الموتى، فأجيب بقوله {بلى} تعليما للمسلمين وتلقينا لما يجيبونهم به.
وحرف {بلى} لما كان جوابا كان قائما مقام جملة تقديرها: هو قادر على أن يحيي الموتى.
وجملة {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} عطف على جملة {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وقوله {وَلَمْ يَعْيَ} مضارع عيي من باب رضي، ومصدره العي بكسر العين وهو العجز عن العمل أو عن الكلام، ومنه العي في الكلام، أي عسر الإبانة. وتعديته بالباء هنا بلاغة ليفيد انتفاء عجزه عن صنعها وانتفاء عجزه في تدبير مقاديرها ومناسباتها، فكانت باء الملابسة صالحة لتعليق الخلق بالعي بمعنييه.
وكثير من أئمة اللغو يرون أن العي يطلق على التعب وعن عجز الرأي وعجز الحيلة. وعن الكسائي والأصمعي: العي خاص بالعجز في الحيلة والرأي. وأما الإعياء فهو التعب من المشي ونحوه، وفعله أعيا، وهذا ما درج عليه الراغب وصاحب القاموس.
وظاهر الأساس: أن أعيا لا يكون إلا متعديا، أي همزته همزة تعدية فهذا قول ثالث.

وزعم أبو حيان أن مثله مقصور على السماع. قلت: وهو راجع إلى تنازع العاملين.
وعلى هذا الرأي يكون قوله تعالى هنا {وَلَمْ يَعْيَ} دالا على سعة علمه تعالى بدقائق ما يقتضيه نظام السماوات والأرض ليوجدهما وافيين به، وتكون دلالته على أنه قدير على إيجادهما بدلالة الفحوى أو يكون إيكال أمر قدرته على خلقهما إلى علم المخاطبين، لأنهم لم ينكروا ذلك، وإنما قصد تنبيههم إلى ما في نظام خلقهما من الدقائق والحكم ومن جملتها لزوم الجزاء على عمل الصالحات والسيئات.
وعليه أيضا تكون تعدية فعل {يعي} بالباء متعينة.
وقرأ الجمهور {بقادر} بالموحدة بصيغة اسم الفاعل. وقرأه يعقوب {يقدر} بتحتية في أوله على أنه مضارع من القدرة، وتكون جملة {يقدر} في محل خبر {أن} .
وجملة {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل لجملة {بلى} لأن هذه تفيد القدرة على خلق السماوات والأرض وإحياء الموتى وغير ذلك من الموجودات الخارجة عن السماوات والأرض.
وتأكيد الكلام بحرف "أن" لرد إنكارهم أن يمكن إحياء الله الموتى، لأنهم لما أحالوا ذلك فقد أنكروا عموم قدرته تعالى على كل شيء.
ولهذه النكتة جيء في القدرة على إحياء الموتى بوصف {قادر }، وفي القدرة على كل شيء بوصف {قدير} الذي هو أكثر دلالة على القدرة من وصف {قادر}.
[34] {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}
موقع هذا الكلام أن عرض المشركين على النار من آثار الجزاء الواقع بعد البعث، فلما ذكر في الآية التي قبلها الاستدلال على إمكان البعث أعقب بما يحصل لهم يوم البعث جمعا بين الاستدلال والإنذار، وذكر من ذلك ما يقال لهم مما لا ممندوحة لهم عن الاعتراف بخطئهم جمعا بين ما رد به في الدنيا من قوله {بلي} 1 [الأحقاف: 33] وما يردون في علم أنفسهم يوم الجزاء بقولهم {بَلَى وَرَبِّنَا}
والجملة عطف على جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الاحقاف: من الآية33] الخ. وأول الجملة المعطوفة قوله {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} لأنه مقول فعل قول محذوف تقديره: ويقال للذين كفروا يوم
ـــــــ
1 في المطبوعة: {فله}.

يعرضون على النار.
وتقديم الظرف على عامله للاهتمام بذكر ذلك اليوم لزيادة تقريره في الأذهان.
وذكر {الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهار في مقام الإضمار للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر، أي يقال لهم ذلك لأنهم كفروا.
والإشارة إلى عذاب النار بدليل قوله بعد {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ}
والحق: الثابت.
والاستفهام تقريري وتنديم على ما كانوا يزعمون أن الجزاء باطل وكذب، وقالوا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات: 59] وإنما أقسموا على كلامهم بقسم {وربنا} قسما مستعملا في الندامة والتغليط لأنفسهم وجعلوا المقسم به بعنوان الرب تحننا وتخضعا. وفرع على إقرارهم {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} والذوق مجاز في الإحساس. والأمر مستعمل في الإهانة.
[35] {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}
تفريع على ما سبق في هذه السورة من تكذيب المشركين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بجعلهم القرآن مفترى واستهزائهم به وبما جاء به من البعث ابتداء من قوله {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الاحقاف:7] وما اتصل به من ضرب المثل لهم بعاد. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما لقيه منهم من أذى، وضرب له المثل بالرسل أولي العزم. ويجوز أن تكون الفاء فصيحة. والتقدير : فإذا علمت ما كان من الأمم السابقة وعلمت كيف انتقمنا منهم وانتصرنا برسلنا فاصبر كما صبروا.
وأولوا العزم: أصحاب العزم، أي المتصفون به. والعزم: نية محققة على عمل أو قول دون تردد. قال تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: من الآية159] وقال {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وقال سعد ابن ناشب من شعراء الحماسة يعني نفسه:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا

والعزم المحمود في الدين: العزم على ما فيه تزكية النفس وصلاح الأمة، وقوامه الصبر على المكروه وباعث التقوى، وقوته شدة المراقبة بأن لا يتهاون المؤمن عن محاسبته نفسه قال تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: من الآية186] وقال {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115] وهذا قبل هبوط آدم إلى عالم التكليف، وعلى هذا تكون {من} في قوله {مِنَ الرُّسُلِ} تبعيضية. وعن ابن عباس أنه قال: كل الرسل أولو عزم، وعليه تكون {من} بيانية.
وهذه الآية اقتضت أن محمدا صلى الله عليه وسلم من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل أمر ربه، فصبره مثيل لصبرهم، ومن صبر صبرهم كان منهم لا محالة.
وأعقب أمره بالصبر بنهيه عن الاستعجال للمشركين، أي الاستعجال لهم بالعذاب، أي لا تطلب منا تعجيله لهم وذلك لأن الاستعجال ينافي العزم ولأن في تأخير العذاب تطويلا لمدة صبر الرسول صلى الله عليه وسلم بكسب عزمه قوة.
ومفعول {تستعجل} محذوف دل عليه المقام، تقديره: العذاب أو الهلاك.
واللام في {لهم} لام تعدية فعل الاستعجال إلى المفعول لأجله، أي لا تستعجل لأجلهم، والكلام على حذف مضاف إذ التقدير: لا تستعجل لهلاكهم. وجملة {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} تعليل للنهي عن الاستعجال لهم بالعذاب بأن العذاب واقع بهم فلا يؤثر في وقوعه تطويل أجله ولا تعجيله، قال مرة بن عداء الفقعسي، ولعله أخذ قوله من هذه الآية:
كأنك لم تسبق من الدهر ليلة
إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
وهم عند حلوله منذ طول المدة يشبه حالهم حال عدم المهلة إلا ساعة قليلة.
و {من نهار} وصف الساعة، وتخصيصها بهذا الوصف لأن ساعة النهار تبدو للناس قصيرة لما للناس في النهار من الشواغل بخلاف ساعة الليل تطول إذ لا يجد الساهر شيئا يشغله. فالتنكير للتقليل كما في حديث الجمعة قوله صلى الله عليه وسلم "وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء" ، وأشار بيده يقللها، والساعة جزء من الزمن.
{بَلاغٌ}
فذلكة لما تقدم بأنه بلاغ للناس مؤمنهم وكافرهم ليعلم كل حظه من ذلك، فقوله

{بلاغ} خبر مبتدإ محذوف تقديره: هذا بلاغ، على طريقة العنوان والطالع نحو ما يكتب في أعلى الظهير ظهير من أمير المؤمنين ، أو ما يكتب في أعلى الصكوك نحو إيداع وصية ، أو ما يكتب في التأليف نحو ما في الموطأ وقوت الصلاة. ومنه ما يكتب في أعالي المنشورات القضائية والتجارية كلمة إعلان.
وقد يظهر اسم الإشارة كما في قوله تعالى {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} [ابراهيم:52]
، وقول سيبويه هذا باب علم ما الكلم من العربية ، وقال تعالى {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الانبياء:106]
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا على طريقة الفذلكة والتحصيل مثل جملة {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} [البقرة: 134].
{فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}
فرع على جملة {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} إلى {من نهار} ، أي فلا يصيب العذاب إلا المشركين أمثالهم.
والاستفهام مستعمل في النفي، ولذلك صح الاستثناء منه كقوله تعالى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130].
ومعنى التفريع أنه قد اتضح مما سمعت أنه لا يهلك إلا القوم الفاسقون، وذلك من قوله {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: من الآية9]، وقوله {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} إلى قوله {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقوله {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف: 27] الآية.
والإهلاك مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي، فإن ما حكي فيما مضى بعضه إهلاك حقيقي مثل ما في قصة عاد، وما في قوله {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} وبعضه مجازي وهو سوء الحال، أي عذاب الآخرة: وذلك فيما حكي من عذاب الفاسقين.
وتعريف {القوم} تعريف الجنس، وهو مفيد العموم، أي كل القوم الفاسقين فيعم مشركي مكة الذين عناهم القرآن فكان لهذا التفريع معنى التذييل.
والتعبير بالمضارع في قوله {فَهَلْ يُهْلَكُ} على هذا الوجه لتغليب إهلاك المشركين الذي لما يقع على أهلاك الأمم الذين قبلهم. ولك أن تجعل تعريف العهد، أي القوم المتحدث عنهم في قوله {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} الآية، فيكون إظهارا في

مقام الإضمار للإيماء إلى سبب إهلاكهم أنه الإشراك.
والمراد بالفسق هنا الفسق عن الإيمان وهو فسق الإشراك.
وأفاد الاستثناء أن غيرهم لا يهلكون هذا الهلاك، أو هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة محمدسميت هذه السورة في كتب السنة سورة محمد. وكذلك ترجمت في صحيح البخاري من رواية أبي ذر عن البخاري، وكذلك في التفاسير قالوا: وتسمى سورة القتال.
ووقع في أكثر روايات صحيح البخاري سورة الذين كفروا. والأشهر الأول، ووجهه أنها ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم في الآية الثانية منها فعرفت به قبل سورة آل عمران [144] التي فيها {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} .
وأما تسميتها سورة القتال فلأنها ذكرت فيها مشروعية القتال، ولأنها ذكر فيها لفظه في قوله تعالى {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} مع ما سيأتي أن قوله تعالى {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} إلى قوله {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} [محمد: 20] أن المعني بها هذه السورة فتكون تسميتها سورة القتال تسمية قرآنية.
وهي مدنية بالاتفاق حكاه ابن عطية وصاحب الإتقان. وعن النسفي: أنها مكية. وحكى القرطبي عن الثعلبي وعن الضحاك وابن جبير: أنها مكية. ولعله وهم ناشئ عما روي عن ابن عباس أن قوله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} [محمد: 13] الآية نزلت في طريق مكة قبل الوصول إلى حراء، أي في الهجرة. قيل نزلت هذه السورة بعد يوم بدر وقيل نزلت في غزوة أحد. وعدت السادسة والتسعين في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الحديد وقبل سورة الرعد.
وآيها عدت في أكثر الأمصار تسعا وثلاثين، وعدها أهل البصرة أربعين، وأهل الكوفة تسعا وثلاثين.

أغراضها
معظم ما في هذه السورة التحريض على قتال المشركين، وترغيب المسلمين في ثواب الجهاد.
افتتحت بما يثير حنق المؤمنين على المشركين لأنهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله، أي دينه.
وأعلم الله المؤمنين بأنه لا يسدد المشركين في أعمالهم وأنه مصلح المؤمنين فكان ذلك كفالة للمؤمنين بالنصر على أعدائهم. وانتقل من ذلك الى الأمر بقتالهم وعدم الإبقاء عليهم. وفيها وعد المجاهدين بالجنة، وأمر المسلمين بمجاهدة الكفار وأن لا يدعوهم إلى السلم، وإنذار المشركين بأن يصيبهم ما أصاب الأمم المكذبين من قبلهم. ووصف الجنة ونعيمها، ووصف جهنم وعذابها. ووصف المنافقين وحال اندهاشهم إذا نزلت سورة فيها الحض على القتال، وقلة تدبرهم القرآن وموالاتهم المشركين.
وتهديد المنافقين بأن الله ينبي رسوله صلى الله عليه وسلم بسيماهم وتحذير المسلمين من أن يروج عليهم نفاق المنافقين. وختمت بالإشارة إلى وعد المسلمين بنوال السلطان وحذرهم إن صار إليهم الأمر من الفساد والقطيعة.
[1] {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}
صدر التحريض على القتال بتوطئة لبيان غضب الله على الكافرين لكفرهم وصدهم الناس عن دين الله وتحقير أمرهم عند الله ليكون ذلك مثيرا في نفوس المسلمين حنقا عليهم وكراهية فتثور فيهم همة الإقدام على قتال الكافرين، وعدم الاكتراث بما هم فيه من قوة، حين يعلمون أن الله يخذل المشركين وينصر المؤمنين، فهذا تمهيد لقوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: من الآية4].
وفي الابتداء بالموصول والصلة المتضمنة كفر الذين كفروا ومناواتهم لدين الله تشويق لما يرد بعده من الحكم المناسب للصلة، وإيماء بالموصول وصلته إلى علة الحكم عليه بالخبر، أي لأجل كفرهم وصدهم، وبراعة استهلال للغرض المقصود.
والكفر: الإشراك بالله كما هو مصطلح القرآن حيثما أطلق الكفر مجردا عن قرينة إرادة غير المشركين. وقد اشتملت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف للمشركين. وهي: الكفر، والصد عن سبيل الله، وضلال الأعمال الناشئ عن إضلال الله إياهم.

والصد عن سبيل: هو صرف الناس عن متابعة دين الإسلام، وصرفهم أنفسهم عن سماع دعوة الإسلام بطريق الأولى. وأضيف "السبيل" إلى {الله} لأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران: من الآية19] واستعير اسم السبيل للدين لأن الدين يوصل إلى رضى الله كما يوصل السبيل السائر فيه إلى بغيته.
ومن الصد عن سبيل الله صدهم المسلمين عن المسجد الحرام قال تعالى {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج: 25]. ومن الصد عن المسجد الحرام: إخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة، وصدهم عن العمرة عام الحديبية.ومن الصد عن سبيل الله: إطعامهم الناس يوم بدر ليثبتوا معهم ويكثروا حولهم، فلذلك قيل: إن الآية نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من سادة المشركين من قريش. وهم: أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبي ابن خلف، وأمية بن خلف، ونبيه بن الحجاج، ومنبه بن الحجاج، وأبو البختري ابن هشام، والحارث بن هشام، وزمعة بن الأسود، والحارث بن عامر بن نوفل، وحكيم بن حزام، وهذا الأخير أسلم من بعد وصار من خيرة الصحابة.
وعد منهم صفوان بن أمية، وسهل بن عمرو، ومقيس الجمحي، والعباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن حرب، وهذان أسلما وحسن إسلامهما وفي الثلاثة الآخرين خلاف.
ومن الصد عن سبيل الله صدهم الناس عن سماع القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]
والإضلال: الإبطال والإضاعة، وهو يرجع إلى الضلال. وأصله الخطأ للطريق المسلوك للوصول إلى مكان يراد وهو يستلزم المعاني الأخر. وهذا اللفظ رشيق الموقع هنا لأن الله أبطل أعمالهم التي تبدو حسنة، فلم يثبهم عليها من صلة رحم، وإطعام جائع، ونحوهما، ولأن من إضلال أعمالهم أن كان غالب أعمالهم عبثا وسيئا ولأن من إضلال أعمالهم أن الله خيب سعيهم فلم يحصلوا منه على طائل فانهزموا يوم بدر وذهب إطعامهم الجيش باطلا، وأفسد تدبيرهم وكيدهم للرسول صلى الله عليه وسلم فلم يشفوا غليلهم يوم أحد، ثم توالت انهزاماتهم في المواقع كلها قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: من الآية36]
[2] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}

هذا مقابل فريق الذين كفروا وهو فريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وإيراد الموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الخبر وعلته، أي لأجل إيمانهم الخ كفر عنهم سيئاتهم.
وقد جاء في مقابلة الأوصاف الثلاثة التي أثبتت للذين كفروا بثلاثة أوصاف ضدها للمسلمين وهي: الإيمان مقابل الكفر، والإيمان بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم مقابل الصد عن سبيل الله، وعمل الصالحات مقابل بعض ما تضمنه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: من الآية1] و {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} مقابل بعض آخر مما تضمنه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} مقابل بقية ما تضمنه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} وزيد في جانب المؤمنين التنويه بشأن القرآن بالجملة المعترضة قوله {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} وهو نظير لوصفه بسبيل الله في قوله {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 1]
وعبر عن الجلالة هنا بوصف الرب زيادة في التنويه بشأن المسلمين على نحو قوله {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: من الآية11] فلذلك لم يقل: وصدوا عن سبيل ربهم.
وتكفير السيئات غفرانها لهم فإنهم لما عملوا الصالحات كفر الله عنهم سيئاتهم التي اقترفوها قبل الإيمان، وكفر لهم الصغائر، وكفر عنهم بعض الكبائر بمقدار يعلمه إذا كانت قليلة في جانب أعمالهم الصالحات كما قال تعالى {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]
والبال: يطلق على القلب، أي العقل وما يخطر للمرء من التفكير وهو أكثر إطلاقه ولعله حقيقة فيه، قال امرؤ القيس:
فعادي عداء بين ثور ونعجة
وكان عداء الوحش مني على بال
وقال:
عليه القتام سيء الظن والبال
ومنه قولهم: ما بالك? أي ماذا ظننت حين فعلت كذا، وقولهم: لا يبالي، كأنه مشتق منه، أي لا يخطر بباله، ومنه بيت العقيلي في الحماسة:
ونبكي حين نقتلكم عليكم
ونقتلكم كأنا لا نبالي
أي لا نفكر.

وحكى الأزهري عن جماعة من العلماء، أي معنى لا أبالي: لا أكره اه. وأحسبهم أرادوا تفسير حاصل المعنى ولم يضبطوا تفسير معنى الكلمة.
ويطلق البال على الحال والقدر. وفي الحديث "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر". قال الوزير البطليوسي في شرح ديوان امرئ القيس: قال أبو سعيد: كنت أقول للمعري: كيف أصبحت? فيقول: بخير أصلح الله بالك. ولم يوفه صاحب الأساس حقه من البيان وأدمجه في مادة بلو
وإصلاح البال يجمع إصلاح الأمور كلها لأن تصرفات الإنسان تأتي على حسب رأيه، فالتوحيد أصل صلاح بال المؤمن، ومنه تنبعث القوى المقاومة للأخطاء والأوهام التي تلبس بها أهل الشرك، وحكاها عنهم القرآن في مواضع كثيرة والمعنى: أقام أنظارهم وعقولهم فلا يفكرون إلا صالحا ولا يتدبرون إلا ناجحا.
{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}
{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ}
هذا تبيين للسبب الأصيل في إضلال أعمال الكافرين وإصلاح بال المؤمنين. والإتيان باسم الإشارة لتمييز المشار إليه أكمل تمييز تنويها به. وقد ذكرت هذه الإشارة أربع مرات في هذه الآيات المتتابعة للغرض الذي ذكرناه.
والإشارة إلى ما تقدم من الخبرين المتقدمين، وهما {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: من الآية1] {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: من الآية2]، مع اعتبار علتي الخبرين المستفادتين من اسمي الموصول والصلتين وما عطف على كلتيهما.
واسم الإشارة مبتدأ، وقوله {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} الخ خبره، والباء للسببية ومجرورها في موضع الخبر عن اسم الإشارة، أي ذلك كائن بسبب اتباع الكافرين الباطل واتباع المؤمنين الحق، ولما كان ذلك جامعا للخبرين المتقدمين كان الخبر عنه متعلقا بالخبرين وسببا لهما.
وفي هذا محسن الجمع بعد التفريق ويسمونه كعكسه التفسير لأن في الجمع تفسيرا للمعنى الذي تشترك فيه الأشياء المتفرقة تقدم أو تأخر. وشاهده قول حسان من أسلوب هذه الآية:
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك فيهم غير محدثة
إن الخلائق فاعلم شرها البدع قال في الكشاف: وهذا الكلام يسميه علماء البيان التفسير، يريد أنه من المحسنات البديعية. ونقل عن الزمخشري أنه أنشد لنفسه لما فسر لطلبته هذه الآية.
فقيد عنه في الحواشي قوله:
به فجع الفرسان فوق خيولهم
كما فجعت تحت الستور العواتق
تساقط من أيديهم البيض حيرة
وزعزع عن أجيادهن المخانق
وفي هذه الآية محسن الطباق مرتين بين {الَّذِينَ كَفَرُوا} و {الَّذِينَ آمَنُوا} وبين {الحق} و {الباطل} . وفي بيتي الزمخشري محسن الطباق مرة واحدة بين فوق وتحت. واتباع الباطل واتباع الحق تمثيليان لهيئتي العمل بما يأمر به أيمة الشرك أولياءهم وما يدعو إليه القرآن، أي عملوا بالباطل وعمل الآخرون بالحق.
ووصف {الحق} بأنه {مِنْ رَبِّهِمْ} تنويه به وتشريف لهم.
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}
تذييل لما قبله، أي مثل ذلك التبيين للحالين يبين الله الأحوال للناس بيانا واضحا.
والمعنى: قد بينا لكل فريق من الكافرين والمؤمنين حاله تفصيلا وإجمالا، وما تفضي إليه من استحقاق المعاملة بحيث لم يبق خفاء في كنه الحالين، ومثل ذلك البيان يمثل الله للناس كيلا تلتبس عليهم الأسباب والمسببات.
ومعنى {يضرب} : يلقي. وهذا إلقاء تبيين بقرينة السياق، وتقدم عند قوله تعالى {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة. [26]
والأمثال: جمع مثل بالتحريك وهو الحال التي تمثل صاحبها، أي تشتهره للناس وتعرفهم به فلا يلتبس بنظائره. واللام للأجل، والمراد بالناس جميع الناس. وضمير {أمثالهم} للناس.
والمعنى: كهذا التبيين يبين الله للناس أحوالهم فلا يبقوا في غفلة عن شؤون أنفسهم محجوبين عن تحقق كنههم بحجاب التعود لئلا يختلط الخبيث بالطيب، ولكي يكونوا على بصيرة في شؤونهم، وفي هذا إيماء إلى وجوب التوسم لتمييز المنافقين عن المسلمين حقا، فإن من مقاصد السورة التحذير من المنافقين.

[4-6] {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}
لا شك أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر لأن فيها قوله {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} وهو الحكم الذي نزل فيه العقاب على ما وقع يوم بدر من فداء الأسرى التي في قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: من الآية67] الآية إذ لم يكن حكم ذلك مقررا يومئذ، وتقدم في سورة الأنفال.
والفاء لتفريع هذا الكلام على ما قبله من إثارة نفوس المسلمين بتشنيع حال المشركين وظهور خيبة أعمالهم وتنويه حال المسلمين وتوفيق آرائهم.
والمقصود: تهوين شأنهم في قلوب المسلمين وإغراؤهم بقطع دابرهم ليكون الدين كله لله، لأن ذلك أعظم من منافع فداء أسراهم بالمال ليعبد المسلمون ربهم آمنين. وذلك ناظر إلى آية سورة الأنفال وإلى ما يفيده التعليل من قوله {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}
و"إذا" ظرف للمستقبل مضمنة معنى الشرط، وذلك غالب استعمالها وجواب الشرط قوله {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}
واللقاء في قوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} المقابلة: وهو إطلاق شهير للقاء. يقال: يوم اللقاء، فلا يفهم منه إلا لقاء الحرب، ويقال: إن لقيت فلانا لقيت منه أسدا، وقال النابغة:
تجنب بني حن فإن لقاءهم
كريه وإن لم تلق إلا بصائر
فليس المعنى: إذا لقيتم الكافرين في الطريق، أو نحو ذلك وبذلك لا يحتاج لذكر مخصص لفعل {لقيتم} . والمعنى: فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضدتم شوكتهم، فأسروا منهم أسرى.
وضرب الرقاب:كناية مشهورة يعبر بها عن القتل سواء كان بالضرب أم بالطعن في

القلوب بالرماح أو بالرمي بالسهام، وأوثرت على كلمة القتل لأن في استعمال الكناية بلاغة ولأن في خصوص هذا اللفظ غلظة وشدة تناسبان مقام التحريض.
والضرب هنا بمعنى: القطع بالسيف، وهو أحد أحوال القتال عندهم لأنه أدل على شجاعة المحارب لكونه مواجه عدوه وجها لوجه. والمعنى: فاقتلوهم سواء كان القتل بضرب السيف، أو طعن الرماح، أو رشق النبال، لأن الغاية من ذلك هو الإثخان.
والذين كفروا: هم المشركون لأن اصطلاح القرآن من تصاريف مادة الكفر، نحو: الكافرين، والكفار، والذين كفروا، هو الشرك. و {حتى} ابتدائية. ومعنى الغاية معها يؤول إلى معنى التفريع.
والإثخان: الغلبة لأنها تترك المغلوب كالشيء المثخن وهو الثقيل الصلب الذي لا يخف للحركة ويوصف به المائع الذي جمد أو قارب الجمود بحيث لا يسيل بسهولة، ووصف به الثوب والحبل إذا كثرت طاقاتهما بحيث يعسر تفككها.
وغلب إطلاقه على التوهين بالقتل، وكلا المعنيين في هذه الآية، فإذا فسر بالغلبة كان المعنى حتى إذا غلبتم منهم من وقعوا في قبضتكم أسرى فشدوا وثاقهم وعليه فجواز المن والفداء غير مقيد.
وإذا فسر الإثخان بكثرة القتل فيهم كان المعنى حتى إذا لم يبق من الجيش إلا القليل فاسروا حينئذ، أي أبقوا الأسرى، وكلا الاحتمالين لا يخلو من تأويل في نظم الآية إلا أن الاحتمال الأول أظهر. وتقدم بيانه في سورة الأنفال في قوله {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}
وانتصب {ضَرْبَ الرِّقَابِ} على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله ثم أضيف إلى مفعوله، والتقدير: فاضربوا الرقاب ضربا، فلما حذف الفعل اختصارا قدم المفعول المطلق على المفعول به وناب مناب الفعل في العمل في ذلك المفعول وأضيف إلى المفعول إضافة الأسماء إلى الأسماء لأن المصدر راجح في الاسمية. والشد: قوة الربط، وقوة الإمساك.
والوثاق بفتح الواو: الشيء الذي يوثق به، ويجوز فيه كسر الواو ولم يقرأ به. وهو هنا كناية عن الأسر لأن الأسر يستلزم الوضع في القيد يشد به الأسير. والمعنى: فاقتلوهم، فإن أثخنتم منهم فأسروا منهم.
وتعريف {الرقاب} و {الوثاق} يجوز أن يكون للعهد الذهني، ويجوز أن يكون

عوضا عن المضاف إليه، أي فضرب رقابهم وشدوا وثاقهم.
والمن: الإنعام. والمراد به: إطلاق الأسير واسترقاقه فإن الاسترقاق من عليه إذ لم يقتل، والفداء: بكسر الفاء ممدودا تخليص الأسير من الأسر بعوض من مال أو مبادلة بأسرى من المسلمين في يدي العدو. وقدم المن على الفداء ترجيحا له لأنه أعون على امتلاك ضمير الممنون عليه ليستعمل بذلك بغضه.
وانتصب {منا} و {فداء} على المفعولية المطلقة بدلا من عامليهما، والتقدير: إما تمنون وإما تفدون.
وقوله {بعد} أي بعد الإثخان، وهذا تقييد لإباحة المن والفداء. وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبيء صلى الله عليه وسلم بعد غزوة هوازن. وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ، وهذا رأي جمهور أئمة الفقه وأهل النظر.
فقوله {الَّذِينَ كَفَرُوا} عام في كل كافر، أي مشرك يشمل الرجال وهم المعروف حربهم ويشمل من حارب معهم من النساء والصبيان والرهبان والأحبار. وهذه الآية لتحديد أحوال القتال وما بعده، لا لبيان وقت القتال ولا لبيان من هم الكافرون، لأن أوقات القتال مبينة في سورة براءة. ومعرفة الكافرين معلومة من اصطلاح القرآن بقوله {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]
ثم يظهر أن هذه الآية نزلت بعد آية {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} في سورة الأنفال.[67] واختلف العلماء في حكم هذه الآية في القتل والمن والفداء والذي ذهب إليه مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وهو أحد قولين عن أبي حنيفة رواه الطحاوي، ومن السلف عبد الله بن عمر، وعطاء، وسعيد بن جبير: أن هذه الآية غير منسوخة، وأنها تقتضي التخيير في أسرى المشركين بين القتل أو المن أو الفداء، وأمير الجيش مخير في ذلك. ويشبه أن يكون أصحاب هذل القول يرون أن مورد الآية الإذن في المن أو الفداء فهي ناسخة أو منهية لحكم قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في سورة الأنفال.[68,67]
وهذا أولى من جعلها ناسخة لقوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} لما علمت من أن مورد تلك هو تعيين أوقات المتاركة، وأوقات المحاربة، فلذلك لم يقل هؤلاء بحظر قتل الأسير في حين أن التخيير هنا وارد بين المن والفداء، ولم يذكر معهما

القتل. وقد ثبت في الصحيح ثبوتا مستفيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل من أسرى بدر النضر بن الحارث وذلك قبل نزول هذه الآية، وعقبة بن أبي معيط وقتل أسرى قريظة الذين نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة يوم فتح مكة، وقتل بعد أحد أبا عزة الجمعي الشاعر وذلك كله لا يعارض هذه الآية لأنها جعلت التخيير لولي الأمر. وأيضا لم يذكر في هذه الآية جواز الاسترقاق، وهو الأصل في الأسرى، وهو يدخل في المن إذا اعتبر المن شاملا لترك القتل، ولأن مقابلة المن بالفداء تقتضي أن الاسترقاق مشروع. وقد روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك: أن المن من العتق.
وقال الحسن وعطاء: التخيير بين المن والفداء فقط دون قتل الأسير، فقتل الأسير يكون محظورا. وظاهر هذه الآية يعضد ما ذهب اليه الحسن وعطاء.
وذهب فريق من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة وأنه لا يجوز في الأسير المشرك إلا القتل بقوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: من الآية5] وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك والسدي وابن جريج، ورواه العوفي عن ابن عباس وهو المشهور عن أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة: لا بأس أن يفادى أسرى المشركين الذين لم يسلموا بأسرى المسلمين الذين بيد المشركين. وروى الجصاص أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى أسيرين من المسلمين بأسير من المشركين في ثقيف.
والغاية المستفادة من {حتى} في قوله {تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} للتعليل لا للتقييد، أي لأجل أن تضع الحرب أوزارها، أي ليكف المشركون عنها فتأمنوا من الحرب عليكم وليست غاية لحكم القتال.
والمعنى يستمر هذا الحكم بهذا ليهن العدو فيتركوا حربكم، فلا مفهوم لهذه الغاية، فالتعليل متصل بقوله { فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وما بينهما اعتراض. والتقدير: فضرب الرقاب، أي لا تتركوا القتل لأجل أن تضع الحرب أوزارها، فيكون واردا مورد التعليم والموعظة، أي فلا تشتغلوا عند اللقاء لا بقتل الذين كفروا لتضع الحرب أوزارها فإذا غلبتموهم فاشتغلوا بالإبقاء على من تغلبونه بالأسر ليكون المن بعد ذلك أو الفداء.
والأوزار: الأثقال، ووضع الأوزار تمثيل لانتهاء العمل فشبهت حالة انتهاء القتال بحالة وضع الحمال أو المسافر أثقاله، وهذا من مبتكرات القرآن. وأخذ منه عبد ربه السلمى، أو سليم الحنفي قوله:

فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عينا بالإياب المسافر
فشبه حالة المنتهي من كلفة بحالة السائر يلقي عصاه التي استصحبها في سيره.
{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}
أعيد اسم الإشارة بعد قوله آنفا {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد: 3] للنكتة التي تقدمت هنالك، وهو خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف. وتقدير المحذوف: الأمر ذلك، والمشار إليه ما تقدم من قوله {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إلى هنا، ويفيد اسم الإشارة تقرير الحكم ورسوخه في النفوس.
والجملة من اسم الإشارة والمحذوف معترضة {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} في موضع الحال من الضمير المرفوع المقدر في المصدر من قوله {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أي أمرتم بضرب رقابهم، والحال أن الله لو يشاء لاستأصلهم ولم يكلفكم بقتالهم، ولكن الله ناط المسببات بأسبابها المعتادة وهي أن يبلو بعضكم ببعض.
وتعدية "انتصر" بحرف "من" مع أن حقه أن يعدى بحرف "على" لتضمينه معنى: انتقم.
والاستدراك راجع إلى ما في معنى المشيئة من احتمال أن يكون الله ترك الانتقام منهم لسبب غير ما بعد الاستدراك.
والبلو حقيقته: الاختبار والتجربة، وهو هنا مجاز في لازمه وهو ظهور ما أراده الله من رفع درجات المؤمنين ووقع بأسهم في قلوب أعدائهم ومن إهانة الكفار، وهو أن شأنهم بمرأى ومسمع من الناس.
{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} هذا من مظاهر بلوى بعضهم ببعض وهو مقابل ما في قوله {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إلى قوله {وَإِمَّا فِدَاءً} فإن ذلك من مظاهر إهانة الذين كفروا فذكر هنا ما هو من رفعة الذين قاتلوا في سبيل الله من المؤمنين بعناية الله بهم.
وجملة {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الخ عطف على جملة {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} الآية فإنه لما أمرهم بقتال المشركين أعقب الأمر بوعد الجزاء على فعله.

وذكر {الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إظهار في مقام الإضمار إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال: فلن يضل الله أعمالكم، وهكذا بأسلوب الخطاب، فعدل عن مقتضى الظاهر من الإضمار إلى الإظهار ليكون في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي إفادة تقوي الخبر، وليكون ذريعة إلى الإتيان بالموصول للتنويه بصلته، وللإيماء إلى وجه بناء الخبر على الصلة بأن تلك الصلة هي علة ما ورد بعدها من الخبر.
فجملة {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} خبر عن الموصول، وقرنت بالفاء لإفادة السببية في ترتب ما بعد الفاء على صلة الموصول لأن الموصول كثيرا ما يشرب معنى الشرط فيقرن خبره بالفاء، وبذلك تكون صيغة الماضي في فعل {قاتلوا} منصرفة إلى الاستقبال لأن ذلك مقتضى الشرط.
وجملة {سيهديهم} وما عطف عليها بيان لجملة {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} وتقدم الكلام آنفا على معنى إضلال الأعمال وإصلاح البال.
ومعنى {عَرَّفَهَا لَهُمْ} أنه وصفها لهم في الدنيا فهم يعرفونها بصفاتها، فالجملة حال من الجنة، أو المعنى هداهم إلى طريقها في الآخرة فلا يترددون في أنهم داخلونها، وذلك من تعجيل الفرح بها. وقيل {عرفها} جعل فيها عرفا، أي ريحا طيبا، والتطييب من تمام حسن الضيافة.
وقرأ الجمهور {قاتلوا} بصيغة المفاعلة، فهو وعد للمجاهدين أحيائهم وأمواتهم. وقرأه أبو عمرو وحفص عن عاصم {قتلوا} بالبناء للنائب، فعلى هذه القراءة يكون مضمون الآية جزاء الشهداء فهدايتهم وإصلاح بالهم كائنان في الآخرة.
[7] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} لما ذكر أنه لو شاء الله لانتصر منهم علم منه أن ما أمر به المسلمين من قتال الكفار إنما أراد منه نصر الدين بخضد شوكة أعدائه الذين يصدون الناس عنه، أتبعه بالترغيب في نصر الله والوعد بتكفل الله لهم بالنصر إن نصروه، وبأنه خاذل الذين كفروا بسبب كراهيتهم ما شرعه من الدين.
فالجملة استئناف ابتدائي لهاته المناسبة. وافتتح الترغيب بندائهم بصلة الإيمان اهتماما بالكلام وإيماء إلى أن الإيماء يقتضي منهم ذلك، والمقصود تحريضهم على الجهاد في المستقبل بعد أن اجتنوا فائدته مشاهدة يوم بدر.
ومعنى نصرهم الله: نصر دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم لأن الله غني عن النصر في تنفيذ إرادته

كما قال {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد: من الآية4]. ولا حاجة إلى تقدير مضاف بين {تنصروا} واسم الجلالة تقديره: دين الله، لأنه يقال: نصر فلان فلانا، إذا نصر ذويه وهو غير حاضر. وجيء في الشرط بحرف {إن} الذي الأصل فيه عدم الجزم بوقوع الشرط للإشارة إلى مشقة الشرط وشدته ليجعل المطلوب به كالذي يشك في وفائه به.
وتثبيت الأقدام: تمثيل لليقين وعدم الوهن بحالة من ثبتت قدمه في الأرض فلم يزل، فإن الزلل وهن يسقط صاحبه، ولذلك يمثل الانهزام والخيبة والخطأ بزلل القدم قال تعالى {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} [النحل: 94].
[8,9] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} هذا مقابل قوله {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4] فإن المقاتلين في سبيل الله هم المؤمنون، فهذا عطف على جملة {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 4] الآية.
والتعس: الشقاء ويطلق على عدة معان: الهلاك، والخيبة، والانحطاط، والسقوط، وهي معان تحوم حول الشقاء، وقد كثر أن يقال: تعسا له، للعاثر البغيض، أي سقوطا وخرورا لا نهوض منه. ويقابله قولهم للعاثر: لعا له، أي ارتفاعا، قال الأعشى:
بذات لوث عفرناة إذا عثرت
فالتعس أولى لها من أن أقول لعا
وفي حديث الإفك فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح لأن العثار تعس.
ومن بدائع القرآن وقوع {فَتَعْساً لَهُمْ} في جانب الكفار في مقابلة قوله للمؤمنين {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: من الآية7].
والفعل من التعس يجيء من باب منع وباب سمع، وفي القاموس إذا خاطبت قلت: تعست كمنع، وإذا حكيت قلت: تعس كسمع.
وانتصب {تعسا} على المفعول المطلق بدلا من فعله. والتقدير: فتعسوا تعسهم، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله مثل تبا له، وويحا له. وقصد من الإضافة اختصاص التعس بهم، ثم أدخلت على الفاعل لام التبيين فصار {تَعْساً لَهُمْ} . والمجرور متعلق

بالمصدر، أو بعامله المحذوف على التحقيق وهو مختار ابن مالك وإن أباه ابن هشام.
ويجوز أن يكون {تَعْساً لَهُمْ} . مستعملا في الدعاء عليهم لقصد التحقير والتفظيع، وذلك من استعمالات هذا المركب مثل سقيا له، ورعيا له، وتبا له، وويحا له، وحينئذ يتعين في الآية فعل قول محذوف تقديره: فقال الله: تعسا لهم، أو فيقال: تعسا لهم.
ودخلت الفاء على {تعسا} وهو خبر الموصول لمعاملة الموصول معاملة الشرط.
وقوله {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} إشارة إلى ما تقدم في أول السورة من قوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8]
، وتقدم القول على {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} هنالك.
والقول في قوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا} الخ في معناه، وفي موقعه من الجملة التي قبله وفي نكتة تكريره كما تقدم في قوله {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد: 3]. والإشارة إلى التعس وإضلال الأعمال المتقدم ذكرهما. والكراهية: البغض والعداوة.
و {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} هو القرآن وما فيه من التوحيد والرسالة والبعث، قال تعالى {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13].
والباء في {بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا} للسببية. وإحباط الأعمال إبطالها: أي جعلها بطلا، أي ضائعة لا نفع لهم منها، والمراد بأعمالهم: الأعمال التي يرجون منها النفع في الدنيا لأنهم لم يكونوا يرجون نفعها في الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث وإنما كانوا يرجون من الأعمال الصالحة رضى الله ورضى الأصنام ليعيشوا في سعة رزق وسلامة وعافية وتسلم أولادهم وأنعامهم، فالأعمال المحبطة بعض الأعمال المضللة، وإحباطها هو عدم تحقق ما رجوه منها فهو أخص من إضلال أعمالهم كما علمته عند قوله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8] أول السورة. والمقصود من ذكر هذا الخاص بعد العام التنبيه على أنهم لم ينتفعوا بها لئلا يظن المؤمنون أنها قد تخفف عنهم من العذاب فقد كانوا يتساءلون عن ذلك، كما في حديث عدي بن حاتم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعمال كان يتحنث بها في الجاهلية من عتاقة ونحوها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسلمت على ما سلف من خير" أي ولو لم يسلم لما كان له فيها خير.

والمعنى: أنهم لو آمنوا بما أنزل الله لانتفعوا بأعمالهم الصالحة في الآخرة وهي المقصود الأهم وفي الدنيا على الجملة. وقد حصل من ذكر هذا الخاص بعد العام تأكيد الخير المذكور.
[10] {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}
تفريع على جملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ} [محمد: من الآية8] الآية، وتقدم القول في نظائر {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} في سورة الروم [9] وفي سورة غافر.[21]
والاستفهام تقريري، والمعنى: أليس تعس الذين كفروا مشهودا عليه بآثاره من سوء عاقبة أمثالهم الذين كانوا قبلهم يدينون بمثل دينهم.
وجملة {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} استئناف بياني، وهذا تعريض بالتهديد. والتدمير: الإهلاك والدمار وهو الهلك.
وفعل {دمر} متعد إلى المدمر بنفسه، فيقال: دمرهم الله، وإنما عدي في الآية بحرف الاستعلاء للمبالغة في قوة التدمير، فحذف مفعول {دمر} لقصد العموم، ثم جعل التدمير واقعا عليهم فأفاد معنى {دمر} كل ما يختص بهم، وهو المفعول المحذوف، وأن التدمير واقع عليهم فهم من مشموله.
وجملة {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} اعتراض بين جملة {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} وبين جملة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 11]. والمراد بالكافرين: كفار مكة والمعنى: ولكفاركم أمثال عاقبة الذين من قبلهم من الدمار وهذا تصريح بما وقع به التعريض للتأكيد بالتعميم ثم الخصوص.
وأمثال: جمع مثل بكسر الميم وسكون الثاء، وجمع الأمثال لأن الله استأصل الكافرين مرات حتى استقر الإسلام فاستأصل صناديدهم يوم بدر بالسيف، ويوم حنين بالسيف أيضا، وسلط عليهم الريح يوم الخندق فهزمهم وسلط عليهم الرعب والمذلة يوم فتح مكة، وكل ذلك مماثل لما سلطه على الأمم في الغاية منه وهو نصر الرسول صلى الله عليه وسلم ودينه، وقد جعل الله ما نصر به رسوله صلى الله عليه وسلم أعلى قيمة بكونه بيده وأيدي المؤمنين مباشرة بسيوفهم وذلك أنكى للعدو. وضمير {أمثالها} عائد إلى {عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} باعتبار أنها حالة سوء.

[11] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}
أعيد اسم الإشارة للوجه الذي تقدم في قوله {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد: من الآية3] وقوله {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد: من الآية4].
واسم الإشارة منصرف إلى مضمون قوله {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: من الآية10] بتأويل: ذلك المذكور، لأنه يتضمن وعيدا للمشركين بالتدمير، وفي تدميرهم انتصار للمؤمنين على ما لقوا منهم من الأضرار، فأفيد أن ما توعدهم الله به مسبب على أن الله نصير الذين آمنوا وهو المقصود من التعليل وما بعده تتميم.
والمولى، هنا: الولي والناصر. والمعنى: أن الله ينصر الذين ينصرون دينه وهم الذين آمنوا ولا ينصر الذين كفروا به، فأشركوا معه في إلهيته وإذا كان لا ينصرهم فلا يجدون نصيرا لأنه لا يستطيع أحد أن ينصرهم على الله، فنفي جنس المولى لهم بهذا المعنى من معاني المولى. فقوله {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} أفاد شيئين: أن الله لا ينصرهم، وأنه إذا لم ينصرهم فلا ناصر لهم، وأما إثبات المولى للمشركين في قوله تعالى {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ} إلى قوله {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [يونس: 28-30] فذلك المولى بمعنى آخر، وهو معنى: المالك والرب، فلا تعارض بينهم.
[12] {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}
استئناف بياني جواب سؤال يخطر ببال سامع قوله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]
عن حال المؤمنين في الآخرة وعن رزق الكافرين في الدنيا، فبين الله أن من ولايته المؤمنين أن يعطيهم النعيم الخالد بعد النصر في الدنيا، وأن ما أعطاه الكافرين في الدنيا لا عبرة به لأنهم مسلوبون من فهم الإيمان فحظهم من الدنيا أكل وتمتع كحظ الأنعام، وعاقبتهم في عالم الخلود العذاب، فقوله {وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} في معنى قوله في سورة آل عمران [197,196] {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}
وهذا الاستئناف وقع اعتراضا بين جملة {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [محمد: من الآية10] وجملة {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [محمد: من الآية13] الآية.

والمجرور من قوله {كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} في محل الحال من ضمير {يأكلون} ، أو في محل الصفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق ل {يأكلون} لبيان نوعه.
والتمتع: الانتفاع القليل بالمتاع، وتقدم في قوله {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} في سورة آل عمران،[197] وقوله {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأعراف. [24]
والمثوى: مكان الثواء، والثواء: الاستقرار، وتقدم في قوله {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} في الأنعام.
وعدل عن الإضافة فقيل {مَثْوىً لَهُمْ} بالتعليق باللام التي شأنها أن تنوى في الإضافة ليفاد بالتنوين معنى التمكن من القرار في النار مثوى، أي مثوى قويا لهم لأن الإخبار عن النار في هذه الآية حصل قبل مشاهدتها، فلذلك أضيفت في قوله {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} لأنه إخبار عنها وهم يشاهدونها في المحشر.
[13] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}
عطف على جملة {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [محمد: من الآية10] وما بينهما استطراد اتصل بعضه ببعض. وكلمة {كأين} تدل على كثرة العدد، وتقدم في سورة آل عمران وفي سورة الحج.
والمراد بالقرية: أهلها، بقرينة قوله {أهلكناهم} ، وإنما أجري الإخبار على القرية وضميرها لإفادة الإحاطة بجميع أهلها وجميع أحوالهم وليكون لإسناد إخراج الرسول إلى القرية كلها وقع من التبعة على جميع أهلها سواء منهم من تولى أسباب الخروج، ومن كان ينظر ولا ينهى قال تعالى {وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} [الممتحنة: من الآية9].
وهذا إطناب في الوعيد لأن مقام التهديد والتوبيخ يقتضي الإطناب، فمفاد هذه الآية مؤكد لمفاد قوله {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: من الآية10] فحصل توكيد ذلك بما هو مقارب له من إهلاك الأمم ذوات القرى والمدن بعد أن شمل قوله {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من كان من أهل القرى، وزاد هنا التصريح بأن الذين من قبلهم كانوا أشد قوة منهم ليفهموا أن إهلاك هؤلاء هين على الله، فإنه لما كان التهديد السابق تهديدا بعذاب السيف من قوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: من الآية4] الآيات، قد يلقى في نفوسهم غرورا فتعذر استئصالهم بالسيف

وهم ما هم من المنعة وأنهم تمنعهم قريتهم مكة يستكينوا لهذا التهديد، فأعلمهم الله أن قرى كثيرة كانت أشد قوة من قريتهم أهلكهم الله فلم يجدوا نصيرا.
وبهذا يظهر الموقع البديع للتفريع في قوله {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} وزاد أيضا إجراء الإضافة في قوله {قريتك} ، ووصفها ب {الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} لما تفيده إضافة القرية إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم من تعبير أهلها بمذمة القطيعة ولما تؤذن به الصلة من تعليل إهلاكهم بسبب إخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قريته قال تعالى {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: من الآية191]
وإطلاق الإخراج على ما عامل به المشركون النبي صلى الله عليه وسلم من الجفاء والأذى ومقاومة نشر الدين إطلاق من قبيل الاستعارة لأن سوء معاملتهم إياه كان سببا في خروجه من مكة وهي قريته، فشبه سبب الخروج بالإخراج ثم أطلق عليه فعل {أخرجتك} ، وليس ذلك بإخراج وإنما هو خروج فإن المشركين لم يلجئوا النبي صلى الله عليه وسلم بالإخراج بل كانوا على العكس يرصدون أن يمنعوه من الخروج خشية اعتصامه بقبائل تنصره فلذلك أخفى على الناس أمر هجرته إلا عن أبي بكر رضي الله عنه، فقوله {أخرجتك} من باب قولك: أقدمني بلدك حق لي على فلان، وهو استعارة على التحقيق، وليس مجازا عقليا إذ ليس ثمة إخراج حتى يدعى أن سببه بمنزلة فاعل الإخراج، ولا هو من الكناية وإن كان قد مثل به الشيخ في دلائل الإعجاز للمجاز العقلي، والمثال يكفي فيه الفرض والاحتمال. وفرع على الإخبار بإهلاك الله إياهم الإخبار بانتفاء جنس الناصر لهم، أي المنقذ لهم من الإهلاك.
والمقصود: التذكير بأن أمثال هؤلاء المشركين لم يجدوا دافعا يدفع عنهم الإهلاك، وذلك تعريض بتأييس المشركين من إلفاء ناصر ينصرهم في حربهم للمسلمين قطعا لما قد يخالج نفوس المشركين أنهم لا يغلبون لتظاهر قبائل العرب معهم، ولذلك حزبوا الأحزاب في وقعة الخندق.
وضمير {لهم} عائد إلى {من قرية} لأن المراد بالقرى أهلها. والمعنى: أهلكناهم إهلاكا لا بقاء معه لشيء منهم لأن بقاء شيء منهم نصر لذلك الباقي بنجاته من الإهلاك.
واسم الفاعل في قوله {فلا ناصر} مراد به الجنس لوقوعه بعد "لا" النافية للجنس فلذلك لا يقصد تضمنه لزمن ما لأنه غير مراد به معنى الفعل بل مجرد الاتصاف بالمصدر

وهم ما هم من المنعة وأنهم تمنعهم قريتهم مكة يستكينوا لهذا التهديد، فأعلمهم الله أن قرى كثيرة كانت أشد قوة من قريتهم أهلكهم الله فلم يجدوا نصيرا.
وبهذا يظهر الموقع البديع للتفريع في قوله {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} وزاد أيضا إجراء الإضافة في قوله {قريتك} ، ووصفها ب {الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} لما تفيده إضافة القرية إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم من تعبير أهلها بمذمة القطيعة ولما تؤذن به الصلة من تعليل إهلاكهم بسبب إخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قريته قال تعالى {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: من الآية191]
وإطلاق الإخراج على ما عامل به المشركون النبي صلى الله عليه وسلم من الجفاء والأذى ومقاومة نشر الدين إطلاق من قبيل الاستعارة لأن سوء معاملتهم إياه كان سببا في خروجه من مكة وهي قريته، فشبه سبب الخروج بالإخراج ثم أطلق عليه فعل {أخرجتك} ، وليس ذلك بإخراج وإنما هو خروج فإن المشركين لم يلجئوا النبي صلى الله عليه وسلم بالإخراج بل كانوا على العكس يرصدون أن يمنعوه من الخروج خشية اعتصامه بقبائل تنصره فلذلك أخفى على الناس أمر هجرته إلا عن أبي بكر رضي الله عنه، فقوله {أخرجتك} من باب قولك: أقدمني بلدك حق لي على فلان، وهو استعارة على التحقيق، وليس مجازا عقليا إذ ليس ثمة إخراج حتى يدعى أن سببه بمنزلة فاعل الإخراج، ولا هو من الكناية وإن كان قد مثل به الشيخ في دلائل الإعجاز للمجاز العقلي، والمثال يكفي فيه الفرض والاحتمال. وفرع على الإخبار بإهلاك الله إياهم الإخبار بانتفاء جنس الناصر لهم، أي المنقذ لهم من الإهلاك.
والمقصود: التذكير بأن أمثال هؤلاء المشركين لم يجدوا دافعا يدفع عنهم الإهلاك، وذلك تعريض بتأييس المشركين من إلفاء ناصر ينصرهم في حربهم للمسلمين قطعا لما قد يخالج نفوس المشركين أنهم لا يغلبون لتظاهر قبائل العرب معهم، ولذلك حزبوا الأحزاب في وقعة الخندق.
وضمير {لهم} عائد إلى {من قرية} لأن المراد بالقرى أهلها. والمعنى: أهلكناهم إهلاكا لا بقاء معه لشيء منهم لأن بقاء شيء منهم نصر لذلك الباقي بنجاته من الإهلاك.
واسم الفاعل في قوله {فلا ناصر} مراد به الجنس لوقوعه بعد "لا" النافية للجنس فلذلك لا يقصد تضمنه لزمن ما لأنه غير مراد به معنى الفعل بل مجرد الاتصاف بالمصدر

وهذا الفريق هم المؤمنون وهم ثابتون على الدين واثقون بأنهم على الحق. فلا جرم يكون لهم الفوز في الدنيا لأن الله يسر لهم أسبابه فإن قاتلوا كانوا على ثقة بأنهم على الحق وأنهم صائرون إلى إحدى الحسنيين فقويت شجاعتهم، وإن سالموا عنوا بتدبير شأنه وما فيه نفع الآمة والدين فلم يألوا جهدا في حسن أعمالهم،وذلك من آثار أن الله أصلح بالهم وهداهم. والفريق الذي زين له سوء عمله هم المشركون، فإنهم كانوا في أحوال السوأى من عبادة الأصنام والظلم والعدوان وارتكاب الفواحش، فلما نبههم الله لفساد أعمالهم بأن أرسل إليهم رسولا بين لهم صالح الأعمال وسيئاتها لم يدركوا ذلك ورأوا فسادهم صلاحا فتزينت أعمالهم في أنظارهم ولم يستطيعوا الإقلاع عنها وغلب الفهم وهواهم على رأيهم فلم يعبأوا باتباع ما هو صلاح لهم في العاجل والآجل، فلذلك معنى قوله {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} بإيجاز.
وبني فعل {زين} للمجهول ليشمل المزينين لهم من أئمة كفرهم، وما سولته لهم أيضا عقولهم الآفنة من أفعالهم السيئة اغترارا بالإلف أو اتباعا للذات العاجلة أو لجلب الرئاسة، أي زين له مزين سوء عمله، وفي هذا البناء إلى المجهول تنبيه لهم أيضا ليرجعوا إلى أنفسهم فيتأملوا فيمن زين لهم سوء أعمالهم. ولما كان تزيين أعمالهم لهم يبعثهم على الدأب عليها كان يتولد من ذلك إلفهم بها وولعهم بها فتصير لهم أهواء لا يستطيعون مفارقتها أعقب بقوله {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}
والفرق بين الفريقين بين للعاقل المتأمل بحيث يحق أن يسأل عن مماثلة الفريقين سؤال من يعلم انتفاء المماثلة وينكر على من عسى أن يزعمها.
والمراد بانتفاء المماثلة الكناية عن التفاضل، والمقصود بالفضل ظاهر وهو الفريق الذي وقع الثناء عليه.
[15] {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}
استئناف بياني لأن ما جرى من ذكر الجنة في قوله {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [محمد:12] مما يستشرف السامع إلى تفصيل بعض صفاتها، وإذ قد ذكر أنها تجري من تحتها الأنهار موهم السامع أنها أنهار المياه لأن جري الأنهار أكمل محاسن الجنات المرغوب فيها، فلما فرغ من توصيف حال

فريقي الإيمان والكفر، ومما أعد لكليهما، ومن إعلان تباين حاليهما ثني العنان إلى بيان ما في الحنة التي وعد المتقون، وخص من ذلك بيان أنواع الأنهار، ولما كان ذلك موقع الجملة كان قوله {مَثَلُ الْجَنَّةِ} مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير: ما سيوصف أو ما سيتلى عليكم، أو مما يتلى عليكم.
وقوله {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} كلام مستأنف مقدر فيه استفهام إنكاري دل عليه ما سبق من قوله {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد: من الآية14]. والتقدير: أكمن هو خالد في النار. والإنكار متسلط على التشبيه الذي هو بمعنى التسوية.
ويجوز أن تكون جملة {مَثَلُ الْجَنَّةِ} بدلا من جملة {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} فهي داخلة في حيز الاستفهام الإنكاري. والخبر قوله {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} ، أي كحال من هو خالد في النار وذلك يستلزم اختلاف حال النار عن حال الجنة، فحصل نحو الاحتباك إذ دل {مَثَلُ الْجَنَّةِ} على مثل أصحابها ودل مثل من هو خالد في النار على مثل النار.
والمقصود: بيان البون بين حالي المسلمين والمشركين بذكر التفاوت بين حالي مصيرهما المقرر في قوله {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} إلى آخره، ولذلك لم يترك ذكر أصحاب الجنة وأصحاب النار في خلال ذكر الجنة والنار فقال {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} وقال بعده {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} ولقصد زيادة تصوير مكابرة من يسوي بين المتمسك ببينة ربه وبين التابع لهواه، أي هو أيضا كالذي يسوي بين الجنة ذات تلك الصفات وبين النار ذات صفات ضدها.
وفيه اطراد أساليب السورة إذ افتتحت بالمقابلة بين الذين كفروا والذين آمنوا، وأعقب باتباع الكافرين الباطل واتباع المؤمنين الحق، وثلث بقوله {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} إلخ.
والمثل: الحال العجيب.
وجملة {فِيهَا أَنْهَارٌ} وما عطف عليها تفصيل للإجمال الذي في جملة {مَثَلُ الْجَنَّةِ} فهو استئناف، أو بدل مفصل من مجمل على رأي من يثبته في أنواع البدل.
والأنهار: جمع نهر، وهو الماء المستبحر الجاري في أخدود عظيم من الأرض، وتقدم في قوله تعالى {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} في سورة البقرة. [249]
فأما إطلاق الأنهار على أنهار الماء فهو حقيقة، وأما إطلاق الأنهار على ما هو من

لبن وخمر وعسل فذلك على طريقة التشبيه البليغ، أي مماثلة للأنهار، فيجوز أن تكون المماثلة تامة في أنها كالأنهار مستبحرة في أخاديد من أرض الجنة فإن أحوال الآخرة خارقة للعادة المعروفة في الدنيا، فإن مرأى أنهار من هذه الأصناف مرأى مبهج. ويجوز أن تكون مماثلة هذه الأصناف للأنهار في بعض صفات الأنهار وهي الاستبحار. وهذه الأصناف الخمسة المذكورة في الآية كانت من أفضل ما يتنافسون فيه ومن أعز ما يتيسر الحصول عليه، فكيف الكثير منها، فكيف إذا كان منها أنهار في الجنة. وتناول هذه الأصناف من التفكه الذي هو تنعم أهل اليسار والرفاهية.
وقد ذكر هنا أربعة أشربة هي أجناس أشربتهم، فكانوا يستجيدون الماء الصافي لأن غالب مياههم من الغدران والأحواض بالبادية تمتلئ من ماء المطر أو من مرور السيول فإذا استقرت أياما أخذت تتغير بالطحلب وبما يدخل فيها من الأيدي والدلاء، وشرب الوحوش وقليل البلاد التي تكون مجاورة الأنهار الجارية. وكذلك اللبن كانوا إذا حلبوا وشربوا أبقوا ما استفضلوه إلى وقت آخر لأنهم لا يحلبون إلا حلبة واحدة أو حلبتين في اليوم فيقع في طعم اللبن تغيير. فأما الخمر فكانت قليلة عزيزة عندهم لقلة الأعناب في الحجاز إلا قليلا في الطائف، فكانت الخمر تجتلب من بلاد الشام ومن بلاد اليمن، وكانت غالية الثمن وقد ينقطع جلبها زمانا في فصل الشتاء لعسر السير بها في الطرق وفي أوقات الحروب أيضا خوف انتهابها.
والعسل هو أيضا من أشربتهم، قال تعالى في النحل[69] {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} والعرب يقولون: سقاه عسلا، ويقولون: أطعمه عسلا. وكان العسل مرغوبا فيه يجتلب من بلاد الجبال ذات النبات المستمر. فأما الثمرات فبعضها كثير عندهم كالتمر وبعضها قليل كالرمان.
والآسن: وصف من أسن الماء من باب ضرب ونصر وفرح، إذا تغير لونه. وقرأه ابن كثير {أسن} بدون ألف بعد الهمزة على وزن فعل للمبالغة.
والخمر: عصير العنب الذي يترك حتى يصيبه التخمر وهو الحموضة مثل خمير العجين.
و {لذة} وصف وليس باسم، وهو تأنيث اللذ، أي اللذيذ قال بشار:
ذكرت شبابي اللذ غير قريب ... ومجلس لهو طاب بين شروب
واللذاذة: انفعال نفساني فيه مسرة، وهي ضد الألم وأكثر حصوله من الطعوم

والأشربة والملامس البدنية، فوصف خمر هنا بأنها {لذة} معناه يجد شاربها لذاذة في طعمها، أي بخلاف خمر الدنيا فإنها حريقة الطعم فلولا ترقب ما تفعله في الشارب من نشوة وطرب لما شربها لحموضة طعمها.
والعسل المصفى: الذي خلص مما يخالط العسل من بقايا الشمع وبقايا أعضاء النحل التي قد تموت فيه، وتقدم الكلام على العسل وتربيته في سورة النحل.
ومعنى {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أصناف من جميع أجناس الثمرات، فالتعريف في {الثمرات} للجنس، و {كل} مستعملة في حقيقتها وهو الإحاطة، أي جميع ما خلق الله من الثمرات مما علموه في الدنيا وما لم يعلموه مما خلقه الله للجنة. و {من} تبعيضية، وهذا كقوله تعالى {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52].
و {مغفرة} عطف على {أنهار} وما بعده، أي وفيها مغفرة لهم، أي تجاوز عنهم، أي إطلاق في أعمالهم لا تكليف عليهم كمغفرته لأهل بدر إذ بينت بأن يعملوا ما شاؤوا في الحديث لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وقد تكون المغفرة كناية عن الرضوان عليهم كما قال تعالى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: من الآية72].
وتقدير المضاف في {مثله} ظاهر للقرينة.
وقوله {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً} جيء به لمقابلة ما وصف من حال أهل الجنة الذي في قوله {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} إلى قوله {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي أن أهل النار محرومون من جميع ما ذكر من المشروبات. وليسوا بذائقين إلا الماء الحميم الذي يقطع أمعاءهم بفور سقيه. ولذلك لم يعرج هنا على طعام أهل النار إلى ذكر في قوله تعالى {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} وقوله {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62] إلى قوله {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:66-67]
وضمير {سقوا} راجع إلى {مَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} باعتبار معنى "من" وهو الفريق من الكافرين بعد أن أعيد عليه ضمير المفرد في قوله {هو خالد} .
والأمعاء: جمع معى مقصورا وبفتح الميم وكسرها، وهو ما ينتقل الطعام إليه بعد نزوله من المعدة. ويسمى عفج بوزن كتف.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً}
ضمير {ومنهم} عائد إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد:12] الذين جرى ذكرهم غير مرة من أول السورة، أي ومن الكافرين قوم يستمعون إليك، وأراد بمن يستمع معهم المنافقين بقرينة قوله {قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً} وقوله {خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ}
وليس المراد مجرد المستمعين مثل ما في قوله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} [يونس: من الآية42] وقوله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام: من الآية25] للفرق الواضح بين الأسلوبين، وهذا صنف آخر من الكافرين الذين أسروا الكفر وتظاهروا بالإيمان، وقد كان المنافقون بعد الهجرة مقصودين من لفظ الكفار. وهذه السورة نازلة بقرب عهد من الهجرة فلذلك ذكر فيها الفريقان من الكفار.
ومعنى {َسْتَمِعُ إِلَيْك} َ يحضرون مجلسك ويسمعون كلامك وما تقرأ عليهم من القرآن. وهذه صفة من يتظاهر بالإسلام فلا يعرضون عن سماع القرآن إعراض المشركين بمكة. روي عن الكلبي ومقاتل: أنها نزلت في عبد الله ابن أبي بن سلول ورفاعة بن الثابوت، والحارث بن عمرو، وزيد بن الصلت، ومالك بن الدخشم.1
والاستماع: أشد السمع وأقواه، أي يستمعون باهتمام يظهرون أنهم حريصون علي وعي ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم يلقون إليه بالهم، وهذا من استعمال الفعل في معنى إظهاره لا في معنى حصوله. وحق فعل استمع أن يعدى إلى المفعول بنفسه كما في قوله {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الاحقاف: من الآية29] فإذا أريد تعلقه بالشخص المسموع منه يقال: استمع إلى فلان كما قال هنا {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وكذا جاء في مواقعه كلها من القرآن.
و {حتى} في قوله {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} ابتدائية و {إذا} اسم زمان متعلق ب {قالوا} .
والمعنى: فإذا خرجوا من عندك قالوا الخ.
ـــــــ
1 أي في أول المدة من الهجرة ثم حسن إسلام مالك بن الدخشم وشهد بدرا وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص إسلامه كما في حديث عتاب بن مالك في "صحيح البخاري".

والخروج: مغادرة مكان معين محصورا وغير محصور، فمنه {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: من الآية100] ومنه {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الأعراف: من الآية110]
والخروج من عند النبي صلى الله عليه وسلم مغادرة مجلسه الذي في المسجد وهو الذي عبر عنه هنا بلفظ {عندك} .
و{من} لتعدية فعل {خرجوا} وليست التي تزاد مع الظروف في نحو قوله تعالى {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية89]
والذين أوتوا العلم: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الملازمون لمجلسه. وسمي منهم عبد الله بن مسعود وأبو الدرداء وابن عباس. وروي عنه أنه قال: أنا منهم وسئلت فيمن سئل.
والمعنى: أنهم يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وما يقوله من الإرشاد وحذف مفعول {يستمعون} ليشمل ذلك.
ومعنى {آنفا} : وقتا قريبا من زمن التكلم ، ولم ترد هذه الكلمة إلا منصوبة على الظرفية. قال الزجاج: هو من استأنف الشيء إذا ابتدأه ا ه يريد أنه مشتق من فعل مزيد ولم يسمع له فعل مجرد، وظاهر كلامهم أن اشتقاقه من الاسم الجامد وهو الأنف، أي جارحة الشم وكأنهم عنوا به أنف البعير لأن الأنف أول ما يبدو لراكبه فيأخذ بخطامه، فلوحظ في اسم الأنف معنى الوصف بالظهور، وكني بذلك عن القرب، وقال غيره: هو مشتق من أنف بضم الهمزة وضم النون يوصف به الكأس التي لم يشرب منها من قبل، وتوصف به الروضة التي لم ترع قبل، كأنهم لاحظوا فيها لازم وصف عدم الاستعمال وهو أنه جديد، أي زمن قريب، ف {آنفا} زمانا لم يبعد العهد به. قال ابن عطية: والمفسرون يقولون: آنفا معناه: الساعة القريبة منا وهذا تفسير المعنى اه. وفي كلامه نظر لأن أهل اللغة فسروه بوقت يقرب منا. وصيغ على زنة اسم الفاعل وليس فيه معنى اسم الفاعل، فهذا اسم غريب التصريف ولا يحفظ شيء من شعر العرب وقع فيه هذا اللفظ.
واتفق القراء على قراءته بصيغة فاعل وشذت رواية عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ {أنفا} بوزن كتف. وقد أنكر بعض علماء القراءات نسبتها إلى ابن كثير ولكن الشاطبي أثبتها في حرز الأماني وقد ذكرها أبو علي في الحجة. فإذا صحت هذه الرواية عن البزي عنه كان {أنفا} حالا من ضمير {مَنْ يَسْتَمِعُ} أجري على الإفراد رعيا للفظ {من} . ومعناه: أنه يقول ذلك في حال أنه شديد الأنفة، أي التكبر إظهارا لترفعه عن وعي ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وينتهي الكلام عند ماذا. وزعم أبو علي في الحجة: أن البزي توهمه مثل: حاذر وحذر. ولا يظن مثل هذا بالبزي لو صحت الرواية عنه عن ابن كثير.

وسياق الكلام يدل على ذم هذا السؤال لقوله عقبه {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فهو سؤال ينبئ عن مذمة سائليه، فإن كان سؤالهم حقيقة أنبأ عن قلة وعيهم لما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم فهم يستعيدونه من الذين علموه فلعل استعادتهم إياه لقصد أن يتدارسوه إذا خلوا مع إخوانهم ليختلقوا مغامر يهيئونها بينهم، أو أن يجيبوا من يسألهم من إخوانهم عما سمعوه في المجلس الذي كانوا فيه. ويجوز أن يكون السؤال على غير حقيقته ناوين به الاستهزاء يظهرون للمؤمنين اهتمامهم باستعادة ما سمعوه ويقولون لإخوانهم: إنما نحن مستهزؤون، أو أن يكون سؤالهم تعريضا بأنهم سمعوا كلاما لا يستبين المراد منه لإدخال الشك في نفوس من يحسون منهم الرغبة في حضور مجالس النبي صلى الله عليه وسلم تعريضا لقلة جدوى حضورها. ويجوز أن تكون الآية أشارت إلى حادثة خاصة ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين وأحوالهم وعلم الذين كانوا حاضرين منهم أنهم المعنيون بذلك، فأرادوا أن يسألوا سؤال استطلاع هل شعر أهل العلم بأن أولئك هم المعنيون، فيكون مفعول {يستمعون} محذوفا للعلم به عند النبي صلى الله عليه وسلم.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}
استئناف بياني لأن قولهم {مَاذَا قَالَ آنِفاً} سؤال غريب من شأنه إثارة سؤال من يسأل عن سبب حصوله على جميع التقادير السابقة في مرادهم منه.
وجيء باسم الإشارة بعد ذكر صفاتهم تشهيرا بهم، وجيء بالموصول وصلته خبرا عن اسم الإشارة لإفادة أن هؤلاء المتميزين بهذه الصفات هم أشخاص الفريق المتقرر بين الناس أنهم فريق مطبوع على قلوبهم لأنه قد تقرر عند المسلمين أن الذين صمموا على الكفر هم قد طبع الله على قلوبهم وأنهم متبعون لأهوائهم، فأفادت أن هؤلاء المستمعين زمرة من ذلك الفريق، فهذا التركيب على أسلوب قوله تعالى {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة البقرة. [5]
والطبع على القلب: تمثيل لعدم مخالطة الهدى والرشد لعقولهم بحال الكتاب المطبوع عليه، أو الإناء المختوم بحيث لا يصل إليه من يحاول الوصول إلى داخله، فمعناه أن الله خلق قلوبهم، أي عقولهم غير مدركة ومصدقة للحقائق والهدى. وهذا الطبع متفاوت يزول بعضه عن بعض أهله في مدد متفاوتة ويدوم مع بعض إلى الموت كما وقع، وزواله بانتهاء ما في العقل من غشاوة الضلالة وبتوجه لطف الله بمن شاء بحكمته اللطف به المسمى بالتوفيق الذي فسره الأشعرية بخلق القدرة والداعية إلى الطاعة، وبأنه ما يقع عنده صلاح العبد آخرة. وفسر المعتزلة اللطف بإيصال المنافع إلى العبد من وجه يدق

إدراكه وتمكينه بالقدرة والآلات.
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} جملة معترضة بين جملة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: من الآية25] وما فيهم عنها من قوله {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} [محمد: من الآية18] والواو اعتراضية. والمقصود من هذا الاعتراض: مقابلة فريق الضلالة بفريق الهداية على الأسلوب الذي أقيمت عليه هذه السورة كما تقدم في أولها. فهذا أسلوب مستمر وإن اختلفت مواقع جمله.
والمعنى: والذين شرح الله صدرهم للإيمان فاهتدوا لطف الله بهم فزادهم هدى وأرسخ الإيمان في قلوبهم ووفقهم للتقوى، فاتقوا وغالبوا أهواءهم. وإيتاء التقوى مستعار لتيسير أسبابها إذ التقوى معنى نفساني، والإيتاء يتعدى حقيقة للذوات. وإضافة التقوى إلى ضمير {الَّذِينَ اهْتَدَوْا} إيماء إلى أنهم عرفوا بها واختصت بهم.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}
تفريع على ما مضى من وصف أحوال الكافرين من قوله {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} الشاملة لأحوال الفريقين ففرع عليها أن كلا الفريقين ينتظرون حلول الساعة لينالوا جزاءهم على سوء كفرهم فضمير ينظرون مراد به الكافرون لأن الكلام تهديد ووعيد، ولأن المؤمنين ينتظرون أمورا أخر مثل النصر والشهادة، قال تعالى {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: من الآية52] الآية. والنظر هنا بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158] الآية.
والاستفهام إنكار مشوب بتهكم، وهو إنكار وتهكم على غائبين، موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أي لا تحسب تأخير مؤاخذتهم إفلاتا من العقاب، فإنهم مرجون إلى الساعة.
وهذا الاستفهام الإنكاري ناظر إلى قوله آنفا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد: من الآية12].
والقصر الذي أفاده الاستثناء قصر ادعائي، نزل انتظارهم ما يأملونه من المرغوبات

في الدنيا منزلة العدم لضآلة أمره بعد أن نزلوا منزلة من ينتظرون فيما ينتظرون الساعة لأنهم لتحقق حلوله عليهم جديرون بأن يكونوا من منتظريها. و {أَنْ تَأْتِيَهُمْ} بدل اشتمال من الساعة.
و {بغتة} حال من الساعة قال تعالى {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} والبغتة: الفجأة، وهو مصدر بمعنى: المرة، والمراد به هنا الوصف، أي مباغتة لهم.
ومعنى الكلام: أن الساعة موعدهم وأن الساعة قريبة منهم، فحالهم كحال من ينتظر شيئا فإنما يكون الانتظار إذا اقترب موعد الشيء، هذه الاستعارة تهكمية.
والفاء من قوله {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} فاء الفصيحة كالتي في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
وهذه الفصيحة تفيد معنى تعليل قرب مؤاخذتهم.
والأشراط: جمع شرط بفتحتين، وهو: العلامة والأمارة على وجود شيء أو على وصفه.
وعلامات الساعة هي علامات كونها قريبة. وهذا القرب يتصور بصورتين:
إحداهما أن وقت الساعة قريب قربا نسبيا بالنسبة إلى طول مدة هذا العالم ومن عليه من الخلق.
والثانية: أن ابتداء مشاهدة أحوال الساعة يحصل لكل أحد بموته فإن روحه إذا خلصت عن جسده شاهدت مصيرها مشاهدة إجمالية. وبه فسر حديث أبي هريرة مرفوعا القبر روضة من رياض الجنة أو حفر من حفر النار رواه الترمذي. وهو ضعيف ويفسره حديث ابن عمر مرفوعا إذا مات الميت عرض عليه مقعده بالغداة والعشي فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ثم يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ونهاية حياء المرء قريبة وإن طال العمر.
والأشراط بالنسبة للصورة الأولى: الحوادث التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تقع بين يدي الساعة، وأولها بعثته لأنه آخر الرسل وشريعته آخر الشرائع ثم ما يكون بعد ذلك، وبالنسبة للصورة الثانية أشراطها الأمراض والشيخوخة.
{فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}

تفريع على {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} و{أنى} اسم يدل على الحالة، ويضمن معنى الاستفهام كثيرا وهو هنا استفهام إنكاري، أي كيف يحصل لهم الذكرى إذا جاءتهم الساعة، والمقصود: إنكار الانتفاع بالذكرى حينئذ.
و {أنى} مبتدأ ثان مقدم لأن الاستفهام له الصدارة. و {ذكراهم} مبتدأ أول و {لهم} خبر عن {أنى} ، وهذا التركيب مثل قوله تعالى {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} في سورة الدخان[13]، وضمير {جاءتهم} عائد إلى {الساعة} .
[19] {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}
فرع على جميع ما ذكر من حال المؤمنين وحال الكافرين ومن عواقب ذلك ووعده أو وعيده أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالثبات على ما له من العلم بوحدانية الله وعلى ما هو دأبه من التواضع لله بالاستغفار لذنبه ومن الحرص على نجاة المؤمنين بالاستغفار لهم لأن في ذلك العلم وذلك الدأب استمطار الخيرات له ولأمته والتفريع هذا مزيد مناسبة لقوله آنفا {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] الآية.
فالأمر في قوله {فاعلم} كناية عن طلب العلم وهو العمل بالمعلوم، وذلك مستعمل في طلب الدوام عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك وعلمه المؤمنون، وإذا حصل العلم بذلك مرة واحدة تقرر في النفس لأن العلم لا يحتمل النقيض فليس الأمر به بعد حصوله لطلب تحصيله بل لطلب الثبات فهو على نحو قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: من الآية136] وأما الأمر في قوله {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فهو لطلب تجديد ذلك إن كان قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وعمله أو هو لطلب تحصيله أن لم يكن فعله من قبل.
وذكر {المؤمنات} بعد {المؤمنين} اهتمام بهن في هذا المقام وإلا فإن الغالب اكتفاء القرآن بذكر المؤمنين وشموله للمؤمنات على طريقة التغليب للعلم بعموم تكاليف الشريعة للرجال والنساء إلا ما استثني من التكاليف.
ومن اللطائف القرآنية أن أمر هنا بالعلم قبل الأمر بالعمل في قوله {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} قال ابن عيينة لما سئل عن فضل العلم: ألم تسمع قوله حين بدأ به {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وترجم البخاري في كتاب العلم من صحيحه باب العلم

قبل القول والعمل لقول الله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فبدأ بالعلم.
وما يستغفر منه النبي صلى الله عليه وسلم ليس من السيئات لعصمته منها، وإنما هو استغفار من الغفلات ونحوها، وتسميته بالذنب في الآية إما محاكاة لما كان يكثر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله اللهم اغفر لي خطيئتي وإنما كان يقوله في مقام التواضع، وإما إطلاق لاسم الذنب على ما يفوت من الازدياد في العبادة مثل أوقات النوم والأكل، وإطلاقه على ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "أنه 1 على قلبي وإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة"2.
واللام في قوله {لذنبك} لام التعيين بينت مفعولا ثانيا لفعل {استغفر}، واللام في قوله {وللمؤمنين} لام العلة، أو بمعنى "عن" والمفعول محذوف، أي استغفر الذنوب لأجل المؤمنين، وفي الكلام حذف، تقديره: وللمؤمنين لذنوبهم.
وجملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} تذييل جامع لأحوال ما تقدم. فالمتقلب: مصدر بمعنى التقلب، أوثر جلبه هنا لمزاوجة قوله {ومثواكم} . والتقلب: العمل المختلف ظاهرا كان كالصلاة، أو باطنا كالإيمان والنصح.
والمثوى: المرجع والمئال، أي يعلم الله أحوالكم جميعا من مؤمنين وكافرين، وقدر لها جزاءها على حسب علمه بمراتبها ويعلم مصائركم وإنما أمركم ونهاكم وأمركم بالاستغفار خاصة لإجراء أحكام الأسباب على مسبباتها فلا تيأسوا ولا تهملوا.
[21,20] {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21]
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}
قد ذكرنا أن هذه السورة أنزلت بالمدينة وقد بدت قرون نفاق المنافقين، فلما جرى
ـــــــ
1 يغان, أي يغام ويغشى. وفسروا ذلك بالغفلات عن الذكر.
2 رواه مسلم وأبو داود.

في هذه السورة وصف حال المنافقين أعقب ذلك بوصف أجلى مظاهر نفاقهم، وذلك حين يدعى المسلمون إلى الجهاد فقد يضيق الأمر بالمنافقين إذ كان تظاهرهم بالإسلام سيلجئهم إلى الخروج للقتال مع المسلمين، وذلك أمر ليس بالهين لأنه تعرض لإتلافهم النفوس دون أن يرجوا منه نفعا في الحياة الأبدية إذ هم لا يصدقون بها فيصبحوا في حيرة. وكان حالهم هذا مخالفا لحال الذين آمنوا الذي تمنوا أن ينزل القرآن بالدعوة إلى القتال ليلاقوا المشركين فيشفوا منهم غليلهم، فبهذه المناسبة حكي تمني المؤمنين نزول حكم القتال لأنه يلوح به تمييز حال المنافقين، ويبدو منه الفرق بين حال الفريقين وقد بين كره القتال لديهم في سورة براءة.
فالمقصود من هذه الآية هو قوله {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآية، وما قبله توطئة له بذكر سببه، وأفاد تقديمه أيضا تنويها بشأن الذين آمنوا، وأفاد ذكره مقابلة بين حالي الفريقين جريا على سنن هذه السورة. ومقال الذين آمنوا هذا كان سببا في نزول قوله تعالى {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، ولذلك فالمقصود من السورة التي ذكر فيها القتال هذه السورة التي نحن بصددها.
ومعلوم أن قول المؤمنين هذا واقع قبل نزول هذه الآية فالتعبير عنه بالفعل المضارع: إما لقصد استحضار الحالة مثل {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: من الآية38]، وإما للدلالة على أنهم مستمرون على هذا القول.
وتبعا لذلك تكون {إذا} في قوله {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} ظرفا مستعملا في الزمن الماضي لأن نزول السورة قد وقع، ونظر المنافقين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النظر قد وقع إذ لا يكون ذمهم وزجرهم قبل حصول ما يوجبه فالمقام دال والقرينة واضحة.
و{لولا} حرف مستعمل هنا في التمني، وأصل معناه التخصيص فأطلق وأريد به التمني لأن التمني يستلزم الحرص والحرص يدعو إلى التحضيض.
وحذف وصف {سورة} في حكاية قولهم {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} لدلالة ما بعده عليه من قوله {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} لأن قوله {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} أي كما تمنوا اقتضى أن المسؤول سورة يشرع فيها قتال المشركين. فالمعنى: لولا نزلت سورة يذكر فيها القتال وفرضه، فحذف الوصف إيجازا.
ووصف السورة ب {محكمة} باعتبار وصف آياتها بالإحكام، أي عدم التشابه وانتفاء الاحتمال كما دلت عليه مقابلة المحكمات بالمتشابهات

في قوله {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} في سورة آل عمران،[7] أي لا تحتمل آيات تلك السورة المتعلقة بالقتال إلا وجوب القتال وعدم الهوادة فيه مثل قوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: من الآية4] الآيات، فلا جرم أن هذه السورة هي التي نزلت إجابة عن تمني الذين آمنوا.
وإنما قال {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} لأن السورة ليست كلها متمحضة لذكر القتال فإن سور القرآن ذوات أغراض شتى.
والخطاب في {رأيت} للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لاحق لقوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: من الآية25].
و {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هم المبطنون للكفر فجعل الكفر الخفي كالمرض الذي مقره القلب لا يبدو منه شيء على ظاهر الجسد، أي رأيت المنافقين على طريق الاستعارة. وقد غلب إطلاق هذه الصلة على المنافقين، وأن النفاق مرض نفساني معضل لأنه تتفرع منه فروع بيناها في قوله تعالى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} في سورة البقرة. [10]
وانتصب {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} على المفعولية المطلقة لبيان صفة النظر من قوله {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} فهو على معنى التشبيه البليغ.
ووجه الشبه ثبات الحدقة وعدم التحريك، أي ينظرون إليك نظر المتحير بحيث يتجه إلى صوب واحد ولا يشتغل بالمرئيات لأنه في شاغل عن النظر، وإنما يوجهون أنظارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا بمجلسه حين نزول السورة، وكانوا يتظاهرون بالإقبال على تلقي ما ينطق به من الوحي فلما سمعوا ذكر القتال بهتوا، فالمقصود المشابهة في هذه الصورة. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} في سورة الأحزاب. [19]
و {من} هنا تعليلية، أي المغشي عليه لأجل الموت، أي حضور الموت.
وفرع على هذا قوله {فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}
وهذا التفريع اعتراض بين جملة {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وبين جملة {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ}
ولفظ {أولى} هنا يجوز أن يكون مستعملا في ظاهره استعمال التفضيل على شيء غير مذكور يدل عليه ما قبله، أي أولى لهم من ذلك الخوف الذي دل عليه نظرهم كالمغشي عليه من الموت، أن يطيعوا أمر الله ويقولوا قولا معروفا وهو قول {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: من الآية285]، فذلك القول المعروف بين المؤمنين إذا دعوا أو أمروا كما قال

تعالى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} في سورة النور. [51]
وعلى هذا الوجه فتعدية {أولى} باللام دون الباء للدلالة على أن ذلك أولى وأنفع، فكان اجتلاب اللام للدلالة على معنى النفع. فهو مثل قوله تعالى {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: من الآية30] وقوله {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]
وهو يرتبط بقوله بعده {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}
ويجوز أن يكون {فَأَوْلَى لَهُمْ} مستعملا في التهديد والوعيد كما في قوله تعالى {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} في سورة القيامة،[35,34] وهو الذي اقتصر الزمخشري عليه. ومعناه: أن الله أخبر عن توعده إياهم. ثم قيل على هذا الوجه إن {أولى} مرتبة حروفه على حالها من الولي وهو القرب، وأن وزنه أفعل. وقال الجرجاني: هو في هذا الاستعمال مشتق من الويل. فأصل أولى: أويل، أي أشد ويلا، فوقع فيه قلب، ووزنه أفلع. وفي الصحاح عن الأصمعي ما يقتضي: أنه يجعل "أولى له" مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير: أقرب ما يهلكه، قال ثعلب: ولم يقل أحد في "أولى له" أحسن مما قال الأصمعي.
واللام على هذا الوجه إما مزيدة، أي أولاهم الله ما يكرهون فيكون مثل اللام في قول النابغة:
سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري
وإما متعلقة ب{أولى} على أنه فعل مضي، وعلى هذا الاستعمال يكون قوله {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} كلاما مستأنفا وهو مبتدأ خبره محذوف، أي طاعة وقول معروف خير لهم، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الأمر طاعة، وقول معروف، أي أمر الله أن يطيعوا.
{فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}
تفريع على وصف حال المنافقين من الهلع عند سماع ذكر القتال فإنه إذا جد أمر القتال، أي حان أن يندب المسلمون إلى القتال سيضطرب أمر المنافقين ويتسللون لواذا من حضور الجهاد، وأن الأولى لهم حينئذ أن يخلصوا الإيمان ويجاهدوا كما يجاهد المسلمون الخلص وإلا فإنهم لا محيص لهم من أحد أمرين: إما حضور القتال بدون نية

فتكون عليهم الهزيمة ويخسروا أنفسهم باطلا، وإما أن ينخزلوا عن القتال كما فعل ابن أبي وأتباعه يوم أحد.
و {إذا} ظرف للزمان المستقبل وهو الغالب فيها فيكون ما بعدها مقدرا وجوده، أي فإذا جد أمر القتال وحدث.
وجملة {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} دليل جواب {إذا} لأن {إذا} ضمنت هنا معنى الشرط، أي كذبوا الله وأخلفوا فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم، واقتران جملة الجواب بالفاء للدلالة على تضمين {إذا} معنى الشرط، وذلك أحسن من تجريده عن الفاء إذا كانت جملة الجواب شرطية أيضا.
والتعريف في {الأمر} تعريف العهد، أو اللام عن المضاف إليه، أي أمر القتال المتقدم آنفا في قوله {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ}
والعزم: القطع وتحقق الأمر، أي كونه لا محيص منه. واستعير العزم للتعيين واللزوم على طريقة المكنية بتشبيه ما عبر عنه بالأمر، أي القتال برجل عزم على عمل ما وإثبات العزم له تخييله كإثبات الأظفار للمنية، وهذه طريقة السكاكي في جميع أمثلة المجاز العقلي، وهي طريقة دقيقة لكن بدون اطراد ولكن عندما يسمح بها المقام. وجعل في الكشاف إسناد العزم إلى الأمر مجازا عقليا، وحقيقته أن يسند لأصحاب العزم على طريق الجمهور في مثله وهو هنا بعيد إذ ليس المعنى على حصول الجد من أصحاب الأمر، ونظيره قوله تعالى {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: من الآية17] فالكلام فيها سواء.
ومعنى {صَدَقُوا اللَّهَ} قالوا له الصدق، وهو مطابقة الكلام لما في نفس الأمر، أي لو صدقوا في قولهم: نحن مؤمنون، وهم إنما كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أظهروا له خلاف ما في نفوسهم، فجعل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا على الله تفظيعا له وتهويلا لمغبته، أي لو أخلصوا الإيمان وقاتلوا بنية الجهاد لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا خير العزة والحرمة وفي الآخرة خير الجنة.
فهذه الآية إنباء مما سيكون منهم حين يجد الجد ويجيء أوان القتال وهي من معجزات القرآن في الإخبار بالغيب فقد عزم أمر القتال يوم أحد وخرج المنافقون مع جيش المسلمين في صورة المجاهدين فلما بلغ الجيش إلى الشوط بين المدينة وأحد قال عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين: ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس?

ورجع هو وأتباعه وكانوا ثلث الجيش وذلك سنة ثلاث من الهجرة، أي بعد نزول هذه الآية بنحو ثلاث سنين.
وقوله {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} جواب كما تقدم، وفي الكلام إيجاز لأن قوله {لَكَانَ خَيْراً} يؤذن بأنه إذا عزم الأمر حصل لهم ما لا خير فيه. ولفظ {خيرا} ضد الشر بوزن فعل، وليس هو هنا بوزن أفعل.
[22] {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
مقتضى تناسق النظم أن هذا مفرع على قوله {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد: من الآية21] لأنه يفهم منه أنه إذا عزم الأمر تولوا عن القتال وانكشف نفاقهم فتكون إتماما لما في الآية السابقة من الإنباء بما سيكون من المنافقين يوم أحد. وقد قال عبد الله بن أبي: علام نقتل أنفسنا هاهنا? وربما قال في كلامه: وكيف نقاتل قريشا وهم من قومنا، وكان لا يرى على أهل يثرب أن يقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ويرى الاقتصار على أنهم آووه. والخطاب موجه إلى الذين في قلوبهم مرض على الالتفات.
والاستفهام مستعمل في التكذيب لما سيعتذرون به لانخزالهم ولذلك جيء فيه ب {هل} الدالة على التحقيق لأنها في الاستفهام بمنزلة "قد" في الخبر، فالمعنى: أفيتحقق إن توليتم أنكم تفسدون في الأرض وتقطعون أرحامكم وأنتم تزعمون أنكم توليتم إبقاء على أنفسكم وعلى ذوي قرابة أنسابكم على نحو قوله تعالى {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة: من الآية246] وهذا توبيخ كقوله تعالى {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: من الآية85] والمعنى: أنكم تقعون فيما زعمتم التفادي منه وذلك بتأييد الكفر وإحداث العداوة بينكم وبين قومكم من الأنصار. فالتولي هنا هو الرجوع عن الوجهة التي خرجوا لها كما في قوله تعالى {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة: من الآية246] وقوله {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} [النجم:33] وقوله {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60]. وبمثله فسر ابن جريج وقتادة على تفاوت بين التفاسير. ومن المفسرين من حمل التولي على أنه مطاوع ولاه إذا أعطاه ولاية، أي ولاية الحكم والإمارة على الناس وبه فسر أبو العالية والكلبي وكعب الأحبار. وهذا بعيد من اللفظ ومن النظم وفيه تفكيك لاتصال نظم الكلام وانتقال بدون مناسبة، وتجاوز بعضهم ذلك فأخذ يدعي أنها نزلت في الحرورية ومنهم من جعلها فيما يحدث بين بني أمية وبني

هاشم على عادة أهل الشيع والأهواء من تحميل كتاب الله ما لا يتحمله ومن قصر عموماته على بعض ما يراد منها.
وقرأ نافع وحده {عسيتم} بكسر السين. وقرأه بقية العشرة بفتح السين وهما لغتان في فعل عسى إذا اتصل به ضمير. قال أبو علي الفارسي: وجه الكسر أن فعله: عسي مثل رضي، ولم ينطقوا به إلا إذا أسند هذا الفعل إلى ضمير، وإسناده إلى الضمير لغة أهل الحجاز، أما بنو تميم فلا يسندونه إلى الضمير البتة، يقولون: عسى أن تفعلوا.
[23] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}
الإشارة إلى الذين في قلوبهم مرض على أسلوب قوله آنفا {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: من الآية16] ولا يصح أن تكون الإشارة إلى ما يؤخذ من قوله {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: من الآية22] لأن ذلك لا يستوجب اللعنة ولا أن مرتكبيه بمنزلة الصم، على أن في صيغة المضي في أفعال: لعنهم، وأصمهم، وأعمى، ما لا يلاقي قوله {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: من الآية22] ولا ما في حرف "إن" من زمان الاستقبال.
واستعير الصمم لعدم الانتفاع بالمسموعات من آيات القرآن ومواعظ النبي صلى الله عليه وسلم، كما استعير العمى هنا لعدم الفهم على طريقة التمثيل لأن حال الأعمى أن يكون مضطربا فيما يحيط به لا يدري نافعه من ضاره إلا بمعونة من يرشده، وكثر أن يقال: أعمى الله بصره، مرادا به أنه لم يهده، وهذه هي النكتة في مجيء تركيب {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} مخالفا لتركيب {فأصمهم} إذ لم يقل: وأعمالهم.
وفي الآية إشعار بأن الفساد في الأرض وقطيعة الأرحام من شعار أهل الكفر، فهما جرمان كبيران يجب على المؤمنين اجتنابهما.
[24] {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} تفريع على قوله {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: من الآية23]، أي هلا تدبروا القرآن عوض شغل بالهم في مجلسك بتتبع أحوال المؤمنين، أو تفريع على قوله {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} والمعنى: أن الله خلقهم بعقول غير منفعلة بمعاني الخير والصلاح فلا يتدبرون القرآن مع فهمه أو لا يفهمونه عند تلقيه وكلا الأمرين عجيب.
والاستفهام تعجيب من سوء علمهم بالقرآن ومن إعراضهم عن سماعه. وحرف

{أم} للإضراب الانتقالي. والمعنى: بل على قلوبهم أقفال وهذا الذي سلكه جمهور المفسرين وهو الجاري على كلام سيبويه في قوله تعالى {أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} في سورة الزخرف[52,51] ، خلافا لما يوهمه أو توهمه ابن هشام في مغني اللبيب.
والتدبر: التفهم في دبر الأمر، أي ما يخفى منه وهو مشتق من دبر الشيء، أي خلفه.
والأقفال: جمع قفل، وهو استعارة مكنية إذ شبهت القلوب، أي العقول في عدم إدراكها المعاني بالأبواب أو الصناديق المغلقة، والأقفال تخييل كالأظفار للمنية في قول أبي ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتنكير {قلوب} للتنويع أو التبعيض، أي على نوع من القلوب أقفال.
والمعنى: بل بعض القلوب عليها أقفال. وهذا من التعريض بأن قلوبهم من هذا النوع لأن إثبات هذا النوع من القلوب في أثناء التعجيب من عدم تدبر هؤلاء القرآن يدل بدلالة الالتزام أن قلوب هؤلاء من هذا النوع من القلوب ذوات الأقفال. فكون قلوبهم من هذا النوع مستفاد من الإضراب الانتقالي في حكاية أحوالهم.
ويدنو من هذا قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها
يريد نفسه لأنه وقع بعد قوله: تراك أمكنة البيت، أي أنا تراك أمكنة.
وإضافة "أقفال" إلى ضمير {قلوب} نظم بديع أشار إلى اختصاص الأقفال بتلك القلوب، أي ملازمتها لها فدل على أنها قاسية.
[25] {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} لم يزل الكلام على المنافقين فالذين ارتدوا على أدبارهم منافقون، فيجوز أن يكون مرادا به قوم من أهل النفاق كانوا قد آمنوا حقا ثم رجعوا إلى الكفر لأنهم كانوا ضعفاء الإيمان قليلي الاطمئنان وهم الذين مثلهم الله في سورة البقرة بقوله {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} الآية.

والارتداد على الأدبار على هذا الوجه: تمثيل للراجع إلى الكفر بعد الإيمان بحال من سار ليصل إلى مكان ثم ارتد في طريقه. ولما كان الارتداد سيرا إلى الجهة التي كانت وراء السائر جعل الارتداد إلى الأدبار، أي إلى جهة الأدبار. وجيء بحرف {على} للدلالة على أن الارتداد متمكن من جهة الأدبار كما يقال: على صراط مستقيم.
والهدى: الإيمان، وتبين الهدى لهم على هذا الوجه تبين حقيقي لأنهم ما آمنوا إلا بعد أن تبين لهم هدى الإيمان.
وعلى هذا الوجه فالإتيان بالموصول والصلة ليس إظهارا في مقام الإضمار لأن أصحاب هذه الصلة بعض الذين كان الحديث عنهم فيما تقدم.
ويجوز أن يكون مرادا به جميع المنافقين، عبر عن تصميمهم على الكفر بعد مشاركتهم المسلمين في أحوالهم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة معه وسماع القرآن والمواعظ بالارتداد لأنه مفارقة لتلك الأحوال الطيبة، أي رجعوا إلى أقوال الكفر وأعماله وذلك إذا خلوا إلى شياطينهم، وتبين الهدى على هذا الوجه كونه بينا في نفسه، وهو بين لهم لوضوح أدلته ولا غبار عليه، فهذا التبين من قبيل قوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: من الآية2]، أي ليس معه ما يوجب ريب المرتابين.
ويجوز أن يكون المراد به قوما من المنافقين لم يقاتلوا مع المسلمين بعد أن علموا أن القتال حق. وهذا قول ابن عباس والضحاك والسدي، وعليه فلعل المراد: الجماعة الذين انخزلوا يوم أحد مع عبد الله بن أبي بن سلول، والارتداد على الأدبار على هذا الوجه حقيقة لأنهم رجعوا عن موقع القتال بعد أن نزلوا به فرجعوا إلى المدينة وكانت المدينة خلفهم. وهذا عندي أظهر الوجهين وأليق بقوله بعد {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} إلى قوله {وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 27,26]. والهدى على هذا الوجه هو الحق، أي من بعد ما علموا أن الحق قتال المشركين.
وأوثر أن يكون خبر "إن" جملة ليتأتى بالجملة اشتمالها على خصائص الابتداء باسم الشيطان للاهتمام به في غرض ذمهم، وأن يسند إلى اسمه مسند فعلي ليفيد تقوي الحكم نحو: هو يعطي الجزيل.
والتسويل: تسهيل الأمر الذي يستشعر منه صعوبة أو ضر وتزيين ما ليس بحسن.
والإملاء: المد والتمديد في الزمان، ويطلق على الإبقاء على الشيء كثيرا، أي أراهم الارتداد حسنا دائما كما حكى عنه في قوله تعالى {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120]، أي أن ارتدادهم من عمل الشيطان.

وقرأ الجمهور {وَأَمْلَى لَهُمْ} بفتح الهمزة على صيغة المبني للفاعل. وقرأه أبو عمرو بضم الهمزة وكسر اللام وفتح التحتية على صيغة المبني إلى المجهول. وقرأه يعقوب بضم الهمزة وكسر اللام وسكون التحتية على أنه مسند إلى المتكلم فالضمير عائد إلى الله تعالى، أي الشيطان سول لهم وأنا أملي لهم فيكون الكلام وعيدا، أي أنا أؤخرهم قليلا ثم أعاقبهم.
[26] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} استئناف بياني إذ التقدير أن يسأل سائل عن مظهر تسويل الشيطان لهم الارتداد بعد أن تبين لهم الهدى، فأجيب بأن الشيطان استدرجهم إلى الضلال عندما تبين لهم الهدى فسول لهم أن يوافقوا أهل الشرك والكفر في بعض الأمور مسولا إن تلك الموافقة في بعض الأمر لا تنقض اهتداءهم فلما وافقوهم وجدوا حلاوة ما ألفوه من الكفر فيما وافقوا فيه أهل الكفر فأخذوا يعودون إلى الكفر المألوف حتى ارتدوا على أدبارهم. وهذا شأن النفس في معاودة ما تحبه بعد الانقطاع عنه إن كان الانقطاع قريب العهد.
فمعنى {قالوا} : قالوا قولا عن اعتقاد ورأي، وإنما قالوا {فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} احترازا لأنفسهم إذا لم يطيعوا في بعض.
و {لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} هم الذين كرهوا القرآن وكفروا، وهم: إما المشركون من أهل مكة قال تعالى فيهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]
وقد كانت لهم صلة بأهل يثرب فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اشتد تعهد أهل مكة لأصحابهم من أهل يثرب ليتطلعوا أحوال المسلمين، ولعلهم بعد يوم بدر كانوا يكيدون للمسلمين ويتأهبون للثأر منهم الذي أنجزوه يوم أحد.
وإما اليهود من قريظة والنضير فقد حكى الله عنهم في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 11]
فالمراد ب {بَعْضِ الْأَمْرِ} على الوجه الأول في محمل قوله {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد: 25] إفشاء بعض أحوال المسلمين إليهم وإشعارهم بوفرة عدد المنافقين وإن كانوا لا يقاتلون لكراهتهم القتال. والمراد ب{بَعْضِ الْأَمْرِ} على الوجه الثاني بعض أمر القتال، يعنون تلك المكيدة التي دبروها للانخزال عن جيش المسلمين.

والأمر هو: شأن الشرك وما يلائم أهله، أي نطيعكم في بعض الكفر ولا نطيعكم في جميع الشؤون لأن ذلك يفضح نفاقهم، أو المراد في بعض ما تأمروننا به من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول كالخلق على المخلوق.
وأيا ما كان فهم قالوا ذلك للمشركين سرا فأطلع الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم ولذلك قال تعالى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}
وقرأ الجمهور {أسرارهم} بفتح الهمزة جمع سر. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بكسر الهمزة مصدر أسر.
[27] {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}
الفاء يجوز أن تكون للتفريع على جملة {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد: من الآية25] الآية وما بينهما متصل بقوله {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} [محمد: 25] بناء على المحمل الأول للارتداد فيكون التفريع لبيان ما سيلحقهم من العذاب عند الموت وهو استهلال لما يتواصل من عذابهم عن مبدأ الموت إلى استقرارهم في العذاب الخالد. ويجوز على المحمل الثاني وهو أن المراد الارتداد عن القتال وتكون الفاء فصيحة فيفيد: إذا كانوا فروا من القتال هلعا وخوفا فكيف إذا توفتهم الملائكة، أي كيف هلعهم ووجلهم الذي ارتدوا بهما عن القتال. وهذا يقتضي شيئين: أولهما أنهم ميتون لا محالة، وثانيهما أن موتتهم يصحبها تعذيب.
فالأول مأخوذ بدلالة الالتزام وهو في معنى قوله تعالى {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168]
وقوله {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: من الآية81]
والثاني هو صريح الكلام وهو وعيد لتعذيب في الدنيا عند الموت.
والمقصود: وعيدهم بأنهم سيعجل لهم العذاب من أول منازل الآخرة وهو حالة الموت. ولما جعل هذا العذاب محققا وقوعه رتب عليه الاستفهام عن حالهم استفهاما مستعملا في معنى تعجيب المخاطب من حالهم عند الوفاة، وهذا التعجيب مؤذن بأنها حالة فظيعة غير معتادة إذ لا يتعجب إلا من أمر غير معهود، والسياق يدل على الفظاعة.
و {إذا} متعلق بمحذوف دل عليه اسم الاستفهام، تقديره: كيف حالهم أو عملهم حين تتوفاهم الملائكة.

وكثر حذف متعلق {كيف} في أمثال هذا مقدرا مؤخرا عن {كيف} وعن {إذا} كقوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41]. والتقدير: كيف يصنعون ويحتالون.
وجعل سيبوية {كيف} في مثله ظرفا وتبعه ابن الحاجب في الكافية. ولعله أراد الفرار من الحذف.
وجملة {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} حال من {الملائكة} . والمقصود من هذه الحال: وعيدهم بهذه الميتة الفظيعة التي قدرها الله لهم وجعل الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم، أي يضربون وجوههم التي وقوها من ضرب السيف حين فروا من الجهاد فإن الوجوه مما يقصد بالضرب بالسيوف عند القتال قال الحريش القريعي، أو العباس بن مرداس:
نعرض للسيوف إذا التقينا ... وجوها لا تعرض للنظام
ويضربون أدبارهم التي كانت محل الضرب لو قاتلوا، وهذا تعريض بأنهم لو قاتلوا لفروا فلا يقع الضرب إلا في أدبارهم.
[28] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
الإشارة بذلك إلى الموت الفظيع الذي دل عليه قوله {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ} [محمد: من الآية27] كما تقدم آنفا. واتباعهم ما أسخط الله: هو اتباعهم الشرك. والسخط مستعار لعدم الرضى بالفعل. وكراهتهم رضوان الله: كراهتهم أسباب رضوانه وهو الإسلام.
وفي ذكر اتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه محسن الطباق مرتين للمضادة بين السخط والرضوان، والاتباع والكراهية. والجمع بين الإخبار عنهم باتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه مع إمكان الاجتزاء بأحدهما عن الآخر للإيماء إلى أن ضرب الملائكة وجوه هؤلاء مناسب لإقبالهم على ما أسخط الله، وأن ضربهم أدبارهم مناسب لكراهتهم رضوانه لأن الكراهة تستلزم الإعراض والإدبار، ففي الكلام أيضا محسن اللف والنشر المرتب. فكان ذلك التعذيب مناسبا لحالي توقيهم في الفرار من القتال وللسببين الباعثين على ذلك التوقي.

وفرع على اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه قال {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} فكان اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه سببا في الأمرين: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند الوفاة، وإحباط أعمالهم.
والإحباط: إبطال العمل، أي أبطل انتفاعهم بأعمالهم التي عملوها مع المؤمنين من قول كلمة التوحيد ومن الصلاة والزكاة وغير ذلك. وتقدم ما هو بمعناه في أول السورة.
[29] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}
انتقال من التهديد والوعيد إلى الإنذار بأن الله مطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يضمره المنافقون من الكفر والمكر والكيد ليعلموا أن أسرارهم غير خافية فيوقنوا أنهم يكدون عقولهم في ترتيب المكائد بلا طائل وذلك خيبة لآمالهم.
و {أم} منقطعة في معنى "بل" للإضراب الانتقالي، والاستفهام المقدر بعد {أم} للإنكار.
وحرف "لن" لتأييد النفي، أي لا يحسبون انتفاء إظهار أضغانهم في المستقبل، كما انتفى ذلك فيما مضى، فلعل الله أن يفضح نفاقهم.
واستعير المرض إلى الكفر بجامع الإضرار بصاحبه، ولكون الكفر مقره العقل المعبر عنه بالقلب كان ذكر القلوب مع المرض ترشيحا للاستعارة لأن القلب مما يناسب المرض الخفي إذ هو عضو باطن فناسب المرض الخفي.
والإخراج أطلق على الإظهار والإبراز على وجه الاستعارة لأن الإخراج استلال شيء من مكمنه، فاستعير بخبر خفي.
والأضغان: جمع ضغن بكسر الضاد المعجمة وسكون الغين المعجمة وهو الحقد والعداوة.
والمعنى أنه يخرجها من قلوبهم وكان العرب يجعلون القلوب مقر الأضغان قال الشاعر، وهو من شواهد المفتاح للسكاكي ولا يعرف قائله:
الضاربين بكل أبيض مخذم ... والطاعنين مجامع الأضغان
{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}
{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ}

كان مرض قلوبهم خفيا لأنهم يبالغون في كتمانه وتمويهه بالتظاهر بالإيمان، فذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه لو شاء لأطلعه عليهم واحدا واحدا فيعرف ذواتهم بعلاماتهم.
والسيمى بالقصر: العلامة الملازمة، أصله: وسمى بوزن فعلى من الوسم وهو جعل سمة للشيء، وهو بكسر أوله. فهو من المثال الواوي الفاء حولت الواو من موضع فاء الكلمة فوضعت في مكان عين الكلمة وحولت عين الكلمة إلى موضع الفاء فصارت سومى فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وتقدم عند قوله تعالى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: من الآية273] في سورة البقرة.
والمعنى: لأريناك أشخاصهم فعرفتهم، أو لذكرنا لك أوصافهم فعرفتهم بها ثم يحتمل أن الله شاء ذلك وأراهم للرسول صلى الله عليه وسلم. فعن أنس ما خفي على النبي بعد هذه الآية سيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم ذكره البغوي والثعلبي بدون سند. ومما يروى عن حذيفة ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بالمنافقين أو ببعضهم، ولكن إذا صح هذا فإن الله لم يأمر بإجرائهم على غير حالة الإسلام، ويحتمل أن الله قال هذا إكراما لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يطلعه عليهم.
واللام في {لأريناكهم} لام جواب {لو} التي تزاد فيه غالبا.
واللام في {فلعرفتهم} تأكيد للام {لأريناكهم} لزيادة تحقيق تفرع المعرفة على الإرادة.
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}
هذا في معنى الاحتراس مما يقتضيه مفهوم {لَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} من عدم وقوع المشيئة لإرادته إياهم بنعوتهم.
والمعنى: فان لم نرك إياهم بسيماهم فلتقعن معرفتك بهم من لحن كلامهم بإلهام يجعله الله في علم رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يخفى عليه شيء من لحن كلامهم فيحصل له العلم بكل واحد منهم إذا لحن في قوله، وهم لا يخلو واحد منهم من اللحن في قوله، فمعرفة الرسول بكل واحد منهم حاصلة وإنما ترك الله تعريفه إياهم بسيماهم ووكله إلى معرفتهم بلحن قولهم إبقاء على سنة الله تعالى في نظام الخلق بقدر الإمكان لأنها سنة ناشئة عن الحكمة فلما أريد تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاعه على دخائل المنافقين سلك الله في ذلك مسلك الرمز.
واللام في {ولتعرفنهم} لام القسم المحذوف.
ولحن القول: الكلام المحال به إلى غير ظاهره ليفطن له من يراد أن يفهمه دون أن

يفهمه غيره بأن يكون في الكلام تعريض أو تورية أو ألفاظ مصطلح عليها بين شخصين أو فرقة كالألفاظ العلمية قال القتال الكلائي:
ولقد وحيت لكم لكيما تفهموا ... ولحنت لحنا ليس بالمرتاب
كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذهم بظاهر كلامهم فنبهه الله إليه فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}
تذييل، فهو لعمومه خطاب لجميع الأمة المقصود منه التعليم وهو مع ذلك كناية عن لازمه وهو الوعيد لأهل الأعمال السيئة على أعمالهم، والوعد لأهل الأعمال الصالحة على أعمالهم، وتنبيه لأهل النفاق بأن الله يوشك أن يفضح نفاقهم كما قال آنفا {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29]
واجتلاب المضارع في قوله {يعلم} للدلالة على أن علمه بذلك مستمر.
[31] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}
عطف على قوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30]. ومعناه معنى الاحتراس مما قد يتوهم السامعون من قوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} من الاستغناء عن التكليف.
ووجه هذا الاحتراس أن علم الله يتعلق بأعمال الناس بعد أن تقع ويتعلق بها قبل وقوعها فإنها ستقع ويتعلق بعزم الناس على الاستجابة لدعوة التكاليف قوة وضعفا، ومن عدم الاستجابة كفرا وعنادا، فبين بهذه الآية أن من حكمة التكاليف أن يظهر أثر علم الله بأحوال الناس وتقدم الحجة عليهم.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب لكل عبد مقعده من الجنة أو من النار". فقالوا: أفلا نتكل على ما كتب لنا? قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ، وقرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5-10]
والبلو: الاختبار وتعرف حال الشيء. والمراد بالابتلاء الأمر والنهي في التكليف، فإنه يظهر به المطيع والعاصي والكافر، وسمي ذلك ابتلاء على وجه المجاز المرسل لأنه يلزمه الابتلاء وإن كان المقصود منه إقامة مصالح الناس ودفع الفساد عنهم لتنظيم أحوال

حياتهم ثم ليترتب عليه مئال الحياة الأبدية في الآخرة. ولكن لما كان التكليف مبينا لأحوال نفوس الناس في الامتثال وممحصا لدعاويهم وكاشفا عن دخائلهم كان مشتملا على ما يشبه الابتلاء، وإلا فإن الله تعالى يعلم تفاصيل أحوالهم، ولكنها لا تظهر للعيان للناس إلا عند تلقي التكاليف فأشبهت الاختبار، فإطلاق اسم الابتلاء على التكليف مجاز مرسل وتسمية ما يلزم التكليف من إظهار أحوال النفوس ابتلاء استعارة، ففي قوله {ولنبلوكم} مجاز مرسل واستعارة.
و {حتى} حرف انتهاء فما بعدها غاية للفعل الذي قبلها وهي هنا مستعملة في معنى لام التعليل تشبيها لعلة الفعل بغايته فإن غاية الفعل باعث لفاعل الفعل في الغالب، فلذلك كثر استعمال {حتى} بمعنى لام التعليل كقوله تعالى { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: من الآية7].
فالمعنى: ولنبلوكم لنعلم المجاهدين منكم والصابرين، وليس المراد انتهاء البلوى عند ظهور المجاهدين منهم والصابرين.
وعلة الفعل لا يلزم انعكاسها، أي لا يلزم أن لا يكون للفعل علة غيرها فللتكليف علل وأغراض عديدة منها أن تظهر حال الناس في قبول التكليف ظهورا في الدنيا تترتب عليه معاملات دنيوية.
وعلم الله الذي جعل علة للبلو هو العلم بالأشياء بعد وقوعها المسمى علم الشهادة لأن الله يعلم من سيجاهد ومن يصبر من قبل أن يبلوهم ولكن ذلك علم غيب لأنه قبل حصول المعلوم في عالم الشهادة.
والأحسن أن يكون {حَتَّى نَعْلَمَ} مستعملا في معنى حتى نظهر للناس الدعاوي الحق من الباطلة، فالعلم كناية عن إظهار الشيء المعلوم بقطع النظر عن كون إظهاره للغير كما هنا أو للمتكلم كقول اياس بن قبيصة الطائي:
وأقبلت والخطي يخطر بيننا ... لا علم من جبانها من شجاعها
أراد ليظهر للناس أنه شجاع ويظهر من هو من القوم جبان، فالله شرع الجهاد لنصر الدين ومن شرعه يتبين من يجاهد ومن يقعد عن الجهاد، ويتبين من يصبر على لأواء الحرب ومن ينخزل ويفر، فلا تروج على الناس دعوى المنافقين صدق الإيمان ويعلم الناس المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

وبلو الإخبار: ظهور الأحدوثة من حسن السمعة وضده. وهذا في معنى قول الأصوليين ترتب المدح والذم عاجلا، وهو كناية أيضا عن أحوال أعمالهم من خير وشر لأن الأخبار إنما هي أخبار عن أعمالهم، وهذه علة ثانية عطفت على قوله {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} وإنما أعيد عطف فعل {نبلو} على فعل {نعلم} وكان مقتضى الظاهر أن يعطف {أخباركم} بالواو على ضمير المخاطبين في {لنبلونكم} ولا يعاد {نبلو} ، فالعدول عن مقتضى ظاهر النظم إلى هذا التركيب للمبالغة في بلو الأخبار لأنه كناية عن بلو أعمالهم وهي المقصود من بلو ذواتهم، فذكره كذكر العام بعد الخاص إذ تعلق البلو الأول بالجهاد والصبر، وتعلق البلو الثاني بالأعمال كلها، وحصل مع ذلك تأكيد البلو تأكيدا لفظيا. وقرأ الجمهور {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} {ونبلو} بالنون في الأفعال الثلاثة. وقرأ أبو بكر عن عاصم تلك الأفعال الثلاثة بياء الغيبة والضمائر عائدة إلى اسم الجلالة في قوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} وقرأ الجمهور {ونبلو} بفتح الواو عطفا على {نعلم} . وقرأه رويس عن يعقوب بسكون الواو عطفا على {ولنبلونكم}.
[32] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}
الظاهر أن المعني بالذين كفروا هنا الذين كفروا المذكورون في أول هذه السورة وفيما بعد من الآيات التي جرى فيها ذكر الكافرين، أي الكفار الصرحاء عاد الكلام إليهم بعد الفراغ من ذكر المنافقين الذين يخفون الكفر، عودا على بدء لتهوين حالهم في نفوس المسلمين، فبعد أن أخبر الله أنه أضل أعمالهم وأنهم اتبعوا الباطل وأمر بضرب رقابهم وأن التعس لهم وحقرهم بأنهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وأن الله أهلك قرى هي أشد منهم قوة، ثم جرى ذكر المنافقين، بعد ذلك ثني عنان الكلام إلى الذين كفروا أيضا ليعرف الله المسلمين بأنهم في هذه المآزق التي بينهم وبين المشركين لا يلحقهم منهم أدنى ضر، وليزيد وصف الذين كفروا بأنهم شاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالجملة استئناف ابتدائي وهي توطئة لقوله {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: من الآية35]. وفعل {شاقوا} مشتق من كلمة شق بكسر الشين وهو الجانب، والمشاقة المخالفة، كني بالمشاقة عن المخالفة لأن المستقر بشق مخالف للمستقر بشق آخر فكلاهما مخالف، فلذلك صيغت منه صيغة المفاعلة.

وتبين الهدى لهم: ظهور ما في دعوة الإسلام من الحق الذي تدركه العقول إذا نبهت إليه، وظهور أن أمر الإسلام في ازدياد ونماء، وأن أمور الآخرين في إدبار، فلم يردعهم ذلك عن محاولة الإضرار بالرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]. فحصل من مجموع ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول الله، وأن الإسلام دين الله.
وقيل المراد بالذين كفروا في هذه الآية يهود قريظة والنضير، وعليه فمشاقتهم الرسول صلى الله عليه وسلم مشاقة خفية مشاقة كيد ومكر، وتبين الهدى لهم ظهور أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الموعود به في التوراة وكتب الأنبياء، فتكون الآية تمهيدا لغزو قريظة والنضير.
وانتصب {شيئا} على المفعول المطلق ل {يضروا} والتنوين للتقليل، أي لا يضرون في المستقبل الله أقل ضر. وإضرار الله أريد به إضرار دينه لقصد التنويه والتشريف لهذا الدين بقرينة قوله {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى}
والإحباط: الإبطال كما تقدم آنفا. ومعنى إبطال أعمالهم بالنسبة لأعمالهم في معاملة المسلمين أن الله يلطف برسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بتيسير أسباب نصرهم وانتشار دينه، فلا يحصل الذين كفروا من أعمالهم للصد والمشاقة على طائل. وهذا كما تقدم في تفسير قوله {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1].
وحرف الاستقبال هنا لتحقيق حصول الإحباط في المستقبل وهو يدل على أن الله محبط أعمالهم من الآن إذ لا يعجزه ذلك حتى يترصد به المستقبل، وهذا التحقيق مثل ما في قوله في سورة يوسف {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: من الآية98]
[33] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}
اعتراض بين جملة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} [محمد: من الآية32] وبين جملة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [محمد: 34] وجه به الخطاب إلى المؤمنين بالأمر بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتجنب ما يبطل الأعمال الصالحة اعتبارا بما حكي من حال المشركين في الصد عن سبيل الله ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فوصف الإيمان في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مقابل وصف الكفر في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: 32] وطاعة الله مقابل الصد عن سبيل الله، وطاعة الرسول ضد مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والنهي عن إبطال الأعمال ضد بطلان أعمال الذين كفروا. فطاعة

الرسول صلى الله عليه وسلم التي أمروا بها هي امتثال ما أمر به ونهى عنه من أحكام الدين. وأما ما ليس داخلا تحت التشريع فطاعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه طاعة انتصاح وأدب، ألا ترى أن بريرة لم تطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مراجعة زوجها مغيث لما علمت أن أمره إياها ليس بعزم.
والإبطال: جعل الشيء باطلا، أي لا فائدة منه، فالإبطال تتصف به الأشياء الموجودة.
ومعنى النهي عن إبطالهم الأعمال: النهي عن أسباب إبطالها، فهذا مهيع قوله {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . وتسمح محامله بأن يشمل النهي والتحذير عن كل ما بين الدين أنه مبطل للعمل كلا أو بعضا مثل الردة ومثل الرياء في العمل الصالح فإنه يبطل ثوابه. وهو عن ابن عباس قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264] وكان بعض السلف يخشى أن يكون ارتكاب الفواحش مبطلا لثواب الأعمال الصالحة ويحمل هذه الآية على ذلك، وقد قالت عائشة لما بلغها أن زيد بن أرقم عقد عقدا تراه عائشة حراما أخبروا زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يترك فعله هذا ولعلها أرادت بذلك التحذير وإلا فما وجه تخصيص الإحباط بجهاده وإنما علمت أنه كان أنفس عمل عنده.
وعن الحسن البصري والزهري لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي الكبائر. ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب: أن زيد بن أرقم قال غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة وغزوت منها معه سبع عشرة غزوة. وهذه كلها من مختلف الأفهام في المعني بإبطال الأعمال وما يبطلها وأحسن أقوال السلف في ذلك ما روي عن ابن عمر قال كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولا حتى نزل {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا? فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش حتى نزل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فكففنا عن القول في ذلك وكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها ا ه. فأبان أن ذلك محامل محتملة لا جزم فيها.
وعن مقاتل {لا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . بالمن وقال: هذا خطاب لقوم من بني أسد أسلموا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا، يمنون عليه بذلك فنزلت فيهم هذه الآية ونزل فيهم أيضا قوله تعالى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} [الحجرات: من الآية17]
وهذه محامل ناشئة عن الرأي والتوقع، والذي جاء به القرآن وبينته السنة الصحيحة

أن الحسنات يذهبن السيئات ولم يجيء: أن السيئات يذهبن الحسنات، وقال {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40]
وتمسك المعتزلة بهاته الآية فزعموا أن الكبائر تحبط الطاعات.
ومن العجب أنهم ينفون عن الله الظلم ولا يسلمون ظاهر قوله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الانبياء: من الآية23] ومع ذلك يجعلون الله يبطل الحسنات إذا ارتكب صاحبها سيئة. ونحن نرى أن كل ذلك مسطور في صحف الحسنات والسيئات وأن الحسنة مضاعفة والسيئة بمقدارها. وهذا أصل تواتر معناه في الكتاب وصحيح الآثار، فكيف ينبذ بالقيل والقال من أهل الأخبار.
وحمل بعض علمائنا قوله تعالى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} على معنى النهي عن قطع العمل المتقرب به إلى الله تعالى. وإطلاق الإبطال على القطع وعدم الإتمام يشبه أنه مجاز، أي لا تتركوا العمل الصالح بعد الشروع فيه، فأخذوا منه أن النفل يجب بالشروع لأنه من الأعمال، وهو قول أبي حنيفة في النوافل مطلقا. ونسب ابن العربي في الأحكام مثله إلى مالك. ومثله القرطبي وابن الفرس. ونقل الشيخ الجد في حاشيته على المحلي عن القرافي في شرح المحصول ونقل حلولو في شرح جمع الجوامع عن القرافي في الذخيرة: أن مالكا قال بوجوب سبع نوافل بالشروع، وهي: الصلاة والصيام والحج والعمرة والاعتكاف والائتمام وطواف التطوع دون غيرها نحو الوضوء والصدقة والوقف والسفر للجهاد، وزاد حلولو إلحاق الضحية بالنوافل التي تجب بالشروع ولم أقف على مأخذ القرافي ذلك ولا على مأخذ حلولو في الأخير. ولم ير الشافعي وجوبا بالشروع في شيء من النوافل وهو الظاهر.
[34] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}
هذه الآية تكملة لآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} [محمد: من الآية32] الخ لأن تلك مسوقة لعدم الاكتراث بمشاقهم ولبيان أن الله مبطل صنائعهم وهذه مسوقة لبيان عدم انتفاعهم لمغفرة الله إذ ماتوا على ما هم عليه من الكفر فهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
واقتران خبر الموصول بالفاء إيماء إلى أنه أشرف معنى الشرط فلا يراد به ذو صلة معين بل المراد كل من تحققت فيه ماهية الصلة وهي الكفر والموت على الكفر.

[35] {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}
الفاء للتفريع على ما تقرر في نفوس المؤمنين من خذل الله تعالى المشركين بما أخبر به من أنه أضل أعمالهم وقدر لهم التعس، وبما ضرب لهم من مصائر أمثالهم من الذين من قبلهم دمرهم الله وأهلكم ولم يجدوا ناصرا، وما وعد به المؤمنين من النصر عليهم وما أمرهم به من قتالهم وبتكلفه للمؤمنين بالولاية وما وعدهم من الجزاء في دار الخلد وبما أتبع ذلك من وصف كيد فريق المنافقين للمؤمنين وتعهدهم بإعانة المشركين، وذلك مما يوجس منه المؤمنون خيفة إذ يعلمون أن أعداء لهم منبثون بين ظهرانيهم.
فعلى ذلك كله فرع نهيهم عن الوهن وعن الميل الى الدعة ووعدهم بأنهم المنتصرون وأن الله مؤيدهم.
ويجوز أن يجعل التفريع على أقرب الأخبار المتقدمة وهو قوله {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31].
وهذا النهي عن الوهن وعن الدعاء إلى السلم تحذير من أمر توفرت أسباب حصوله متهيئة للإقدام على الحرب عند الأمر بها وليس نهيا عن وهن حصل لهم ولا عن دعائهم إلى السلم لأن هذه السورة نزلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة أحد في مدة لم يكن فيها قتال بين المسلمين والمشركين ولكن التحذير من أن يستوهنهم المنافقون عند توجه أمر القتال فيقولوا: لو سالمنا القوم مدة حتى نستعيد عدتنا ونسترجع قوتنا بعد يوم بدر، وقد كان أبو سفيان ومن معه من المشركين لما رجعوا إلى مكة مفلولين بعد وقعة بدر، يتربصون بالمسلمين فرصة يقاتلونهم فيها لما ضايقهم من تعرض المسلمين لهم في طريق تجارتهم إلى الشام مثل ما وقع في غزوة السويق، وغزوة ذي قرد، فلما كان في المدينة منافقون وكان عند أهل مكة رجال من أهل يثرب خرجوا منها مع أبي عامر الضبغي الملقب في الجاهلية بالراهب والذي غير النبي صلى الله عليه وسلم لقبه فلقبه الفاسق.
كان من المتوقع أن يكيد للمسلمين أعداؤهم من أهل يثرب فيظاهروا عليهم المشركين متسترين بعلة طلب السلم فحذرهم الله من أن يقعوا في هذه الحبالة.
والوهن: الضعف والعجز، وهو هنا مجاز في طلب الدعة. ومعناه: النهي عن إسلام أنفسهم لخواطر الضعف، والعمل بهذا النهي يكون باستحضار مساوي تلك الخواطر فإن الخواطر الشريرة إذا لم تقاومها همة الإنسان دبت في نفسه رويدا رويدا حتى تتمكن

منها فتصبح ملكة وسجية. فالمعنى: ادفعوا عن أنفسكم خواطر الوهن واجتنبوا مظاهره، وأولها الدعاء إلى السلم وهو المقصود بالنهي. والنهي عن الوهن يقتضي أنهم لم يكونوا يومئذ في حال وهن.
وعطف {وتدعوا} على {تهنوا} فهو معمول لحرف النهي، والمعنى: ولا تدعوا إلى السلم وهو عطف خاص على عام من وجه لأن الدعاء إلى المسلم مع المقدرة من طلب الدعة لغير مصلحة. وإنما خص بالذكر لئلا يظن أن فيه مصلحة استبقاء النفوس والعدة بالاستراحة من عدول العدو على المسلمين، فإن المشركين يومئذ كانوا متكالبين على المسلمين، فربما ظن المسلمون أنهم إن تداعوا معهم للسلم أمنوا منهم، وجعلوا ذلك فرصة لينشوا الدعوة فعرفهم الله أن ذلك يعود عليهم بالمضرة لأنه يحط من شوكتهم في نظر المشركين فيحسبونهم طلبوا السلم عن ضعف فيزيدهم ذلك ضراوة عليهم وتستخف بهم قبائل العرب بعد أن أخذوا من قلوبهم مكان الحرمة وتوقع البأس.
ولهذا المقصد الدقيق جمع بين النهي عن الوهن والدعاء إلى السلم وأتبع بقوله {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}
فتحصل مما تقرر أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه هو طلب المسألة من العدو في حال قدرة المسلمين وخوف العدو منهم، فهو سلم مقيد بكون المسلمين داعين له وبكونه عن وهن في حال قوة. قال قتادة: أي لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها. فهذا لا ينافي السلم المأذون فيه بقوله {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} في سورة الأنفال،[61] فأنه سلم طلبه العدو، فليست هذه الآية ناسخة لآية الأنفال ولا العكس ولكل حالة خاصة، ومقيد بكون المسلمين في حالة قوة ومنعة وعدة بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدعة. فإذا كان للمسلمين مصلحة في السلم أو كان أخف ضرا عليهم فلهم أن يبتدئوا إذا احتاجوا إليه وأن يجيبوا إليه إذا دعوا إليه.
وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية لمصلحة ظهرت فيما بعد، وصالح المسلمون في غزوهم أفريقية أهلها وانكفأوا راجعين إلى مصر. وقال عمر ابن الخطاب في كلام له مع بعض أمراء الجيش فقد آثرت سلامة المسلمين. وأما الصلح على بعض الأرض مع فتحها فذلك لا ينافي قوة الفاتحين كما صالح أمراء أبي بكر نصف أهل دمشق وكما صالح أمراء عمر أهل سود العراق وكانوا أعلم بما فيه صلاحهم.
وقرأ الجمهور {إلى السلم} بفتح السين. وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة بكسر

السين وهما لغتان. وجملة {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} عطف على النهي عطف الخبر على الإنشاء، والخبر مستعمل في الوعد.
والأعلون: مبالغة في العلو. وهو هنا بمعنى الغلبة والنصر كقوله تعالى لموسى {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} أي والله جاعلكم غالبين.
{وَاللَّهُ مَعَكُمْ} عطف على الوعد. والمعية معية الرعاية والكلاءة، أي والله حافظكم وراعيكم فلا يجعل الكافرين عليكم سبيلا. والمعنى: وأنتم الغالبون بعناية الله ونصره.
وصيغ كل من جملتي {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} جملة اسمية للدلالة على ثبات الغلب لهم وثبات عناية الله بهم.
وقوله {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} وعد بتسديد الأعمال ونجاحها عكس قوله في أول السورة {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] فكني عن توفيق الأعمال ونجاحها بعدم وترها، أي نقصها للعلم بأنه إذا كان لا ينقصها فبالحري أن لا يبطلها، أي لا يخيبها، وهو ما تقدم من قوله {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 5,4]
يقال: وتره يتره وترا وترة كوعد، إذا نقصه، وفي حديث الموطأ من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله. ويجوز أيضا أن يراد منه صريحه، أي ينقصكم ثوابكم على أعمالكم، أي الجهاد المستفاد من قوله {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} فيفيد التحريض على الجهاد بالوعد بأجره كاملا.
{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ}
{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}
تعليل لمضمون قوله {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35] الآية، وافتتاحها ب"إن" مغن عن افتتاحها بفاء التسبب على ما بينه في دلائل الإعجاز، وليس اتصال "إن" ب"ما" الزائدة الكافة بمغير موقعها بدون "ما" لأن اتصالها بها زادها معنى الحصر.
والمراد ب {الحياة} أحوال مدة الحياة فهو على حذف مضافين.
واللعب: الفعل الذي يريد به فاعله الهزل دون اجتناء فائدة كأفعال الصبيان في

مرحهم.
واللهو: العمل الذي يعمل لصرف العقل عن تعب الجد في الأمور فيلهو عن ما يهتم له ويكد عقله.
والإخبار عن الحياة بأنها لعب ولهو على معنى التشبيه البليغ، شبهت أحوال الحياة الدنيا باللعب واللهو في عدم ترتب الفائدة عليها لأنها فانية منقضية والآخرة هي دار القرار.
وهذا تحذير من أن يحملهم حب لذائذ العيش على الزهادة في مقابلة العدو ويتلو إلى مسالمته فإن ذلك يغري العدو بهم.
وحب الفتى طول الحياة يذله ... وإن كان فيه نخوة وعزام
{وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ}
الأشبه أن هذا عطف على قوله {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35] تذكيرا بأن امتثال هذا النهي هو التقوى المحمودة، ولأن الدعاء إلى السلم قد يكون الباعث عليه حب إبقاء المال الذي ينفق في الغزو، فذكروا هنا بالإيمان والتقوى ليخلعوا عن أنفسهم الوهن لأنهم نهوا عنه وعن الدعاء إلى السلم فكان الكف عن ذلك من التقوى، وعطف عليه أن الله لا يسألهم أموالهم إلا لفائدتهم وإصلاح أمورهم، ولذلك وقع بعده قوله {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله {عَنْ نَفْسِهِ} على أن موقع هذه الجملة تعليل النهي المتقدم بقوله {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} مشيرا إلى أن الحياة الدنيا إذا عمرت بالإيمان والتقوى كانت سببا في الخير الدائم.
والأجور هنا: أجور الآخرة وهي ثواب الإيمان والتقوى.
فالخطاب للمسلمين المخاطبين بقوله {فَلا تَهِنُوا} الآية.
والمقصود من الجملة قوله {وتتقوا} وأما ذكر {تؤمنوا} فللاهتمام بأمر الإيمان. ووقوع {تؤمنوا} في حيز الشرط مع كون إيمانهم حاصلا يعين صرف معنى التعليق بالشرط فيه إلى إرادة الدوام على الإيمان إذ لا تتقوم حقيقة التقوى إلا مع سبق الإيمان كما قال تعالى {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ} إلى قوله {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] الآية.

والظاهر أن جملة {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} إدماج، وأن المقصود من جواب الشرط هو جملة {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}
وعطف {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} لمناسبة قوله {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي أن الله يتفضل عليكم بالخيرات ولا يحتاج إلى أموالكم، وكانت هذه المناسبات أحسن روابط لنظم المقصود من هذه المواعظ لأن البخل بالمال من بواعث الدعاء إلى السلم كما علمت آنفا.
ومعنى الآية: وإن تؤمنوا وتتقوا باتباع ما نهيتهم عنه يرض الله منكم بذلك ويكتف به ولا يسألكم زيادة عليه من أموالكم. فيعلم أن ما يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم من الإنفاق في سبيل الله إنما هو بقدر طاقتهم.
وهذه الآية في الإنفاق نظيرها قوله تعالى لجماعة من المسلمين في شأن الخروج إلى الجهاد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} في سورة براءة.[38]
فقوله {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} يفيد بعمومه وسياقه معنى لا يسألكم جميع أموالكم، أي إنما يسألكم ما لا يجحف بكم، فإضافة أموال وهو جمع إلى ضمير المخاطبين تفيد العموم، فالمنفي سؤال إنفاق جميع الأموال، فالكلام من نفي العموم لا من عموم النفي بقرينة السياق، وما يأتي بعده من قوله {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.
ويجوز أن يفيد أيضا معنى: أنه لا يطالبكم بإعطاء مال لذاته فإنه غني عنكم وإنما يأمركم بإنفاق المال لصالحكم كما قال {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: من الآية38]
وهذا توطئة لقوله بعده {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: من الآية38] أي ما يكون طلب بذل المال إلا لمصلحة الأمة، وأية مصلحة أعظم من دمغها العدو عن نفسها لئلا يفسد فيها ويستعبدها.
وأما تفسير سؤال الأموال المنفي بطلب زكاة الأموال فصرف للآية عن مهيعها فإن الزكاة مفروضة قبل نزول هذه السورة لأن الزكاة فرضت سنة اثنتين من الهجرة على الأصح.
وجملة {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا} الخ تعليل لنفي سؤاله إياهم أموالهم، أي لأنه إن سألكم إعطاء جميع أموالكم وقد علم أن فيكم من يسمح بالمال لا تبخلوا بالبذل وتجعلوا تكليفكم بذلك سببا لإظهار ضغنكم على الذين لا يعطون فيكثر الارتداد والنفاق وذلك

يخالف مراد الله من تزكية نفوس الداخلين في الإيمان.
وهذا مراعاة لحال كثير يومئذ بالمدينة كانوا حديثي عهد بالإسلام وكانوا قد بذلوا من أموالهم للمهاجرين فيسر الله عليهم بأن لم يسألهم زيادة على ذلك، وكان بينهم كثير من أهل النفاق يترصدون الفرص لفتنتهم، قال تعالى {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} وهذا يشير إليه عطف قوله {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} أي تحدث فيكم أضغان فيكون سؤاله أموالكم سببا في ظهورها فكأنه أظهرها. وهذه الآية أصل في سد ذريعة الفساد.
والإحفاء: الإكثار وبلوغ النهاية في الفعل، يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح. وعن عبد الرحمان بن زيد: الإحفاء أن تأخذ كل شيء بيديك، وهو تفسير غريب. وعبر به هنا عن الجزم في الطلب وهو الإيجاب، أي فيوجب عليكم بذل المال ويجعل على منعه عقوبة.
والبخل: منع بذل المال.
والضغن: العداوة، وتقدم آنفا عند قوله {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: من الآية29]
والمعنى: يمنعوا المال ويظهروا العصيان والكراهية، فلطف الله بالكثير منهم اقتضى أن لا يسألهم مالا على وجه الإلزام ثم زال ذلك شيئا فشيئا لما تمكن الإيمان من قلوبهم فأوجب الله عليهم الإنفاق في الجهاد.
والضمير المستتر في {ويخرج} عائد إلى اسم الجلالة، وجوز أن يعود الى البخل المأخوذ من قوله {تبخلوا} أي من قبيل {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: من الآية8].
وقرأ الجمهور {يخرج} بياء تحتية في أوله. وقرأه يعقوب بنون في أوله.
[38] {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}
{هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}
كلام المفسرين من قوله {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} إلى قوله {عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 36-38]

يعرب عن حيرة في مراد الله بهذا الكلام. وقد فسرناه آنفا بما يشفي وبقي علينا قوله {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا} الخ كيف موقعه بعد قوله {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} فإن الدعوة للإنفاق عين سؤال الأموال فكيف يجمع بين ما هنا وبين قوله آنفا {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}
فيجوز أن يكون المعنى: تدعون لتنفقوا في سبيل الله لتدفعوا أعداءكم عنكم وليس ذلك لينتفع به الله كما قال {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}
ونظم الكلام يقتضي: أن هذه دعوة للإنفاق في الحال وليس إعلاما لهم بأنهم سيدعون للإنفاق فهو طلب حاصل. ويحمل {تدعون} على معنى تؤمرون أي أمر إيجاب.
ويجوز أن يحمل {تدعون} على دعوة الترغيب، فتكون الآية تمهيدا للآيات المقتضية إيجاب الإنفاق في المستقبل مثل آية {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] ونحوها، ويجوز أن يكون إعلاما بأنهم سيدعون الى الإنفاق في سبيل الله فيما بعد هذا الوقت فيكون المضارع مستعملا في زمن الاستقبال والمضارع يحتمله في أصل وضعه.
وعلى الاحتمالين فقوله {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} إما مسوق مساق التوبيخ أو مساق التنبيه على الخطإ في الشح ببذل المال في الجهاد الذي هو محل السياق لأن المرء قد يبخل بخلا ليس عائدا بخله عن نفسه.
ومعنى قوله {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} على الاحتمال الأول فإنما يبخل عن نفسه إذ يتمكن عدوه من التسلط عليه فعاد بخله بالضر عليه، وعلى الاحتمال الثاني فإنما يبخل عن نفسه بحرمانها من ثواب الإنفاق.
والقصر المستفاد من {إنما} قصر قلب باعتبار لازم بخله لأن الباخل اعتقد أنه منع من دعاه إلى الإنفاق ولكن لازم بخله عاد عليه بحرمان نفسه من منافع ذلك الإنفاق، فالقصر مجاز مرسل مركب. وفعل "بخل" يتعدى ب {عن} لما فيه من معنى الإمساك ويتعدى ب"على" لما فيه من معنى التضييق على المبخول عليه. وقد عدي هنا بحرف {عن} .
و {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} مركب من كلمة "ها" تنبيه في ابتداء الجملة، ومن ضمير الخطاب ثم من "ها" التنبيه الداخلة على اسم الإشارة المفيدة تأكيد مدلول الضمير ونظيره.

قوله {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في سورة النساء. والأكثر أن يكون اسم الإشارة في مثله مجردا عن "ها" اكتفاء ب هاء التنبيه التي في أول التركيب كقوله تعالى {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} في سورة آل عمران.[119]
وجملة {تدعون} في موضع الحال من اسم الإشارة، ومجموع ذلك يفيد حصول مدلول جملة الحال لصاحبها حصولا واضحا وزعم كثير من النحاة أن عدم ذكر اسم الإشارة بعد ها أنا ونحوه لحن، لأنه لم يسمع دخول "ها" التنيبه على اسم غير اسم الإشارة كما ذكره صاحب مغني اللبيب، بناء على أن "ها" التنبيه المذكورة في أول الكلام هي التي تدخل على أسماء الإشارة في نحو: هذا وهؤلاء، وأن الضمير الذي يذكر بعدها فصل بينها وبين اسم الإشارة. ولكن قد وقع ذلك في كلام صاحب المغني في ديباجة كتابه إذ قال: وها أنا بائح بما أسررته ، وفي موضعين آخرين منه نبه عليهما بدر الدين الدماميني في شرحه المزج على المغني، وذكر في شرحه الذي بالقول المشتهر ب الحواشي الهندية أن تمثيل الزمخشري في المفصل بقوله ها إن زيدا منطلق يقتضي جواز: ها أنا أفعل، لكن الرضي قال: لم أعثر بشاهد على وقوع ذلك.
وجملة {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} تذييل للشيء قبلها فالله الغني المطلق، والغني المطلق لا يسأل الناس مالا في شيء، والمخاطبون فقراء فلا يطمع منهم البذل فتعين أن دعاءهم لينفقوا في سبيل الله دعاء بصرف أموالهم في منافعهم كما أشار إلى ذلك قوله {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}
والتعريف باللام في {الغني} وفي {الفقراء} تعريف الجنس، وهو فيهما مؤذن بكمال الجنس في المخبر عنه، ولما وقعا خبرين وهما معرفتان أفادا الحصر، أي قصر الصفة على الموصوف، أي قصر جنس الغني على الله وقصر جنس الفقراء على المخاطبين ب {أنتم} وهو قصر ادعائي فيهما مرتب على دلالة ال على معنى كمال الجنس، فإن كمال الغنى لله لا محالة لعمومه ودوامه، وإن كان يثبت بعض جنس الغنى لغيره. وأما كمال الفقر للناس فبالنسبة إلى غنى الله تعالى وإن كانوا قد يغنون في بعض الأحوال لكن ذلك غنى قليل وغير دائم.
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}
عطف على قوله {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} [محمد: 36]. والتولي: الرجوع، واستعير هنا لاستبدال الإيمان بالكفر، ولذلك جعل جزاؤه استبدال قوم غيرهم

كما استبدلوا دين الله بدين الشرك.
والاستبدال: التبديل، فالسين والتاء للمبالغة، ومفعوله {قوما} . والمستبدل به محذوف دل على تقديره قوله {غيركم} ، فعلم أن المستبدل به هو ما أضيف إليه "غير" لتعين انحصار الاستبدال في شيئين، فإذا ذكر أحدهما علم الآخر. والتقدير: يستبدل قوما بكم لأن المستعمل في فعل الاستبدال والتبديل أن يكون المفعول هو المعوض ومجرور الباء هو العوض كقوله {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} تقدم في سورة البقرة [61]. وإن كان كلا المتعلقين هو في المعنى معوض وعوض باختلاف الاعتبار، ولذلك عدل في هذه الآية عن ذكر المجرور بالباء مع المفعول للإيجاز.
والمعنى: يتخذ قوما غيركم للإيمان والتقوى، وهذا لا يقتضي أن الله لا يوجد قوما آخرين إلا عند ارتداد المخاطبين، بل المراد: أنكم إن ارتددتم عن الدين كان لله قوم من المؤمنين لا يرتدون وكان لله قوم يدخلون في الإيمان ولا يرتدون.
روى الترمذي عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله هذه الآية {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} قالوا: ومن يستبدل بنا? قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان الفارسي ثم قال: "هذا وقومه، هذا وقومه" قال الترمذي حديث غريب. وفي إسناده مقال.
وروى الطبراني في الأوسط: هذا الحديث على شرط مسلم وزاد فيه "والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس".
وأقول هو يدل على أن فارس إذا آمنوا لا يرتدون وهو من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فإن العرب ارتد منهم بعض القبائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتد البربر بعد فتح بلادهم وإيمانهم اثنتي عشرة مرة فيما حكاه الشيخ أبو محمد ابن أبي زيد، ولم يرتد أهل فارس بعد إيمانهم.
و {ثم} للترتيب الرتبي لإفادة الاهتمام بصفة الثبات على الإيمان وعلوها على مجرد الإيمان، أي ولا يكونوا أمثالكم في التولي.
والجملة معطوفة ب"ثم" على جملة {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} فهي في حيز جواب الشرط والمعطوف على جواب الشرط بحرف من حروف التشريك يجوز جزمه على العطف، ويجوز رفعه على الاستئناف. وقد جاء في هذه الآية على الجزم وجاء في قوله تعالى {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] على الرفع. وأبدى الفخر وجها لإيثار الجزم هنا وإيثار الاستئناف هنالك فقال: وهو مع الجواز فيه تدقيق وهو أن هاهنا لا يكون متعلقا بالتولي لأنهم إن لم يتولوا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68